ابن عبد الله الحسيني الإيجي عن المؤلف.
412 - (مؤلفات عبد الرحمن بن أحمد الجامي (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن أحمد الشناوي عن السيد غظنفر بن جعفر الحسيني النهرواني عن محمد أمين ابن المؤلف عن المؤلف.
413 - (مؤلفات عصام الدين إبراهيم بن عربشاه الإسفرايني (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن زين العابدين بن عبد القادر الطبري عن أبيه عن محمد بن إسماعيل بن عصام إبراهيم الإسفرايني عن السيد محمد أمين عن المؤلف ..
414 - (مؤلفات فخر الدين محمد بن عمر الصديق الرازي (3)):
أرويها بالإسناد المتقدم في مؤلفات أكمل الدين إلى التقي محمد بن فهد عن محمد بن محمد بن سعيد الصغاني مسعود بن محمد بن يعقوب الكرماني عن محمد بن محمود الزوزني عن المؤلف ..
415 - (مؤلفات قطب الدين محمود بن محمد الرازي):
_________
(1) انظر: معجم المؤلفين (6/ 13) وهدية العارفين (5/ 534)
(2) هو إبراهيم بن محمد بن عرب شاه الإسفرايني (عصام الدين) من علماء خراسان وما وراء النهر. توفي في حدود (951 هـ).
من مؤلفاته: "حاشية على تفسير البيضاوي"، "شرح الرسالة الترشيحية في أقسام الاستعارات"، "شرح الشمائل للترمذي"، "وشرح طوالع الأنوار" للبيضاوي، "شرح الكافية في النحو"، "ميزان الأدب في الصرف والنحو والبيان"، "حاشية على الفوائد الضيائية في النحو والصرف"، "رسالة في علم الوضع"، و"شرح الوقاية".
انظر "شذرات الذهب" (8/ 291) "معجم المؤلفين" (1/ 67)
(3) انظر معجم المؤلفين (11/ 79).(3/1568)
أرويها بالإسناد المتقدم في مؤلفات الشريف الجرجاني إلى عبد الحق السنباطي عن محمود بن محمد الحنفي عن المؤلف ..
416 - (مؤلفات عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي):
ارويها بالإسناد المتقدم إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن محمد شريف عن علي بن محمد الحكمي عن ابن حجر الهيتمي عن السيوطي عن محمد بن أحمد المخزومي عن التقط يحي بن محمد بن يوسف بن على الكرماني عن أبيه عن المؤلف.
417 - (مؤلفات محمد بن يوسف الكرماني (1) شارح البخاري):
أرويها بالإسناد المذكور قبل هذا المتصل بالمؤلف.
418 - (مؤلفات إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويفي (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم في بمستدرك الحاكم إلى إبراهيم الكردي عن أحمد بن محمد المدني عن الشمس الرملي عن الزين زكريا عن محمد بن أبي بكر العثماني المراغي عن أبي
_________
(1) هو محمد بن يوسف بن على بن سعيد الكرماني، ثم البغدادي (شمس الدين) فقيه، أصولي، محدث، مفسر، متكلم، نحوي.
ولد سنة (717هـ) وتوفي بطريق الحج سنة (786 هـ).
من تصانيفه: "شرح الفوائد الغياثية في المعاني والبيان"، "الدراري شرح صحيح البخاري"، "حاشية على تفسير البيضاوي"، "شرح المواقف للإيجي في علم الكلام".
انظر: "الدرر الكامنة" (4/ 310 - 311) "البدر الطالع" (2/ 292)
(2) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، النيسابوري، الشافعي، الأشقري، المعروف بإمام الحرمين (ضياء الدين، أبو المعالي) فقيه، أصولي، متكلم، مفسر، أديب.
ولد سنة (419 هـ). وجاور. بمكة، وتوفي بالمحفة من قرى نيسابور سنة (478 هـ).
من تصانيفه: "نهاية المطلب في دراية المذهب"، "الشامل في أصول الدين"، "البرهان في أصول الفقه"، "تفسير القرآن"، "لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة".
انظر: "وفيات الأعيان" (1/ 361 - 362) "طبقات السبكي" (3/ 249 - 283)(3/1569)
الفرج عبد الرحمن بن أحمد الغربي عن أحمد بن عبد الدائم المقدسي عن محمد بن علي الحراني عن محمد بن الفضل الغراوي عن المؤلف.
419 - (مؤلفات الإمام أبي صامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى الزين زكريا عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن إبراهيم ابن أحمد التنوخي عن سليمان بن حمزة عن عمر بن كرم الدينوري عن عبد الخالق بن عبد القادر البغدادي عن المؤلف.
420 - (مؤلفات ابن دقيق العيد (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإبانة له.
421 - (مؤلفات ابن عبد السلام (3)):
أرويها بالإسناد المذكور إلى ابن دقيق العيد عنه.
_________
(1) انظر "مؤلفات الغزالي" للدكتور عبد الرحمن بدوي وتعرض فيها لمؤلفات الغزالي المتحقق من نسبتها إليه ومؤلفاته المشكوك قي نسبتها.
وذكر أماكن وجودها إن كانت مخطوطة أو إن كانت مطبوعة كما بين أين طبعت ومن طبعها
(2) انظر "مقدمة "الاقتراح في بيان الاصطلاح" تحقيق: الدكتور: عامر حسن صبري (ص 110 - 121) فقد ذكر مؤلفاته رحمه الله
(3) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب السلمي، الدمشقي الشافعي، المعروف بابن عبد السلام (عز الدين، أبو محمد)، فقيه، مشارك في الأصول والعربية والتفسير.
ولد بدمشق سنة (577 هـ) أو (578 هـ) وتفقه على فخر الدين بن عساكر، وقرأ الأصول والعربية والتفسير، وجمع الكثير، ودرس وأفتى، وبرع في المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وولي الخطابة بجامع دمشق، وتوفي بدمشق سنة (660 هـ).
من مصنفاته: "القواعد الكبرى في أصول الفقه"، "الغاية في اختصار النهاية"، "تفسير القرآن"، "فوائد في علوم القران"، "ترغيب أهل الإسلام في سكني الشام"، "الفتاوى".
انظر: "البداية والنهاية" (13/ 235) "النجوم الزاهرة" (7/ 208) "شذرات الذهب" (5/ 301 - 302)(3/1570)
422 - (مؤلفات النووي (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم في الأذكار له.
423 - (مؤلفات محي الدين محمد بن علي بن عربي الحاقي الصوفي (2)):
أرويها بالإسناد السابق إلى إبراهيم الكردي عن شيخه أحمد بن محمد المدني عن زين
العابدين بن عبد القادر بن محمد بن يحي الطبري عن أبيه عن جده عن عبد العزيز بن عمر بن فهد عن أبيه عن محمد بن إبراهيم المرشدي عن عبد الله بن محمد بن محمد النشاوري عن إبراهيم بن محمد الطبري عن المؤلف.
424 - (مؤلفات الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (3)):
أرويها بالإسناد المتقدم في الحلية له.
425 - (مؤلفات الحافظ محمد بن الحسين الأجري (4)):
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن إسحاق بن أبي بكر الطبري
_________
(1) انظر تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيى الدين، لابن العطار- تحقيق- مشهور حسن (ص 75 - 95)
(2) انظر: العقد الثمين (2/ 160 - 199)
(3) انظر: كتاب (أبو نعيم ومنهجه في الحلية)
(4) هو محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري (نسبة لآجر من قرى بغداد) البغدادي (أبو بكر) فقيه، محدث، حافظ، إخباري، حدث ببغداد، ثم انتقل إلى مكة، فسكنها حتى توفي بها سنة (360 هـ) وهو من أبناء الثمانين.
من تصانيفه الكثيرة: "التهجد"، "تحريم النرد والشطرنج والملاهي"، "أخبار عمر بن عبد العزيز"، "آداب العلماء"، و"الشريعة"، و"النصيحة"، "أخلاق حملة القرآن"، "التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة"، "آداب حملة القرآن".
انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (2/ 243) "وفيات الأعيان" (1/ 617 - 618) "تذكرة الحفاظ" (3/ 139) "شذرات الذهب" (3/ 35). وانظر: مقدمة كتاب "الشريعة" (1/ 135 - 148) تحقيق الدكتور عبد الله بن عمر الدميجي(3/1571)
عن يحي بن محمود بن سعد الثقفي عن الحسن بن أحمد الحداد عن الحافظ أبي نعيم عن المؤلف.
426 - (مؤلفات (1) أحمد بن الحسين البيهقي منها المقصود في الفقه "عشرون مجلدا":
ارويها بالإسناد المتقدم في الأسماء والصفات له وكذلك في شعب الإيمان والسنن.
427 - (مؤلفات (2) أبي إسحاق الشيرازي):
أرويها بالإسناد المتقدم في التنبيه له.
428 - (مؤلفات (3) أبي بكر الخطيب):
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى نفيس الدين العلوي عن أبيه عن محمد بن أحمد المطري عن عبد الرحمن بن محمد بن علي الطبري عن أبي الحسن بن المقير عن الإمام أبي المعالي الفضل بن سهل بن بشر الإسفرايني عن المؤلف.
429 - (مؤلفات أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي (4))
_________
(1) أنظرها: سير أعلام النبلاء (18/ 163).
(2) أنظرها: في هدية العارفين (1/ 132)
(3) أنظرها في "كتاب (الخطيب البغدادي وأثره في علوم الحديث) لمحمود الطحان
(4) هو عبد الرحمن بن على بن محمد بن على بن عبيد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر القرشي، التيمي، البكري، البغدادي، الحنبلي، المعروف بابن الجوزي (جمال الدين، أبو الفرج) محدث، حافظ، مفسر، فقيه، واعظ، أديب، مؤرخ، مشارك في أنواع من العلوم.
ولد ببغداد سنة (510 هـ)، وتوفي بها سنة (597 هـ) ودفن بباب حرب.
من مؤلفاته: "المغني في علوم القرآن"، "تذكرة الأريب في اللغة"، "جامع المسانيد" في سبع مجلدات، "المنتظم في تاريخ الأمم"، و"بستان الواعظين ورياض السامعين"، "مثير الغرام الساكن في فضل البقاع والأماكن"، "مختصر قرة العيون النواظر في الوجوه والنظائر"، "كتاب الموضوعات"، "زاد المسير في علوم التفسير"، "تلبيس إبليس"، "جامع المسانيد والألقاب"، "البر والصلة"، "مناقب الكرخي"، "ذم الهوى".
انظر: "تذكرة الحفاظ" (4/ 131) "النجوم الزاهرة" (6/ 174 - 176) "البداية والنهاية" (13/ 28 - 30) "شذرات الذهب" (4/ 329 - 331) "الكامل في التاريخ" (11/ 67)(3/1572)
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشجي عن محمد بن محمد بن محمد الجزري عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الخبار عن على بن أحمد المقدسي عن المؤلف.
430 - (مؤلفات منصور بن الحسن الكازروني (1)): أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الديبع عن حمزة بن عبد الله الناشري عن المؤلف.
431 - (مؤلفات محمد بن محمد بن محمد الجزري (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى الشرجي عن المؤلف.
432 - (مؤلفات إسماعيل بن أب بكر المقري (3)
_________
(1) هو منصور بن الحسن بن علي القرشي، العدوي، الكازروني، الشافعي، المفسر، المحدث، المتكلم. وهو مشارك في بعض العلوم، توفي. بمكة في ذي الحجة سنة (860 هـ).
من تصانيفه: "لطائف الألطاف في تحقيق التفسير ونقد الكشاف" لم يكمل، "تبيان أعيان الخلف في بيان إيمان السلف"، "شرح الجامع الصحيح للبخاري لم يكمل، "حجرة السفرة البررة على المبتدعة الفجرة الكفرة في نقد الفصوص لابن عربي".
انظر: "الضوء اللامع" (10/ 170) "شذرات الذهب" (7/ 297) "معجم المؤلفين " (3/ 913)
(2) تقدمت ترجمته
(3) هو إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله بن على بن عطية الشندري، الشاوري، الشرجي، اليماني، الحسيني، ويعرف بابن المقري (شرف الدين، أبو محمد) فقيه، أديب، شاعر، مشارك في كثير من العلوم، ولد بأبيات حسين سنة (754 هـ) ونشأ بها، ثم انتقل إلى زبيد وتوفي بها سنة (837 هـ).
من مصنفاته: "عنوان الشرف الوافي في الفقه والنحو والتاريخ والعروض والقوافي"، "مختصر الحاوي الصغير للقزويني وشرحه في فروع الفقه الشافعي"، و"مختصر الروضة للنووي" وحماه "الروض"، "القصيدة التائية في التذكير"، "الإرشاد مختصر الحاوي في الفقه الشافعي"، وديوان شعر.
انظر: "الضوء اللامع" (2/ 292 - 293) "شذرات الذهب" (7/ 220 - 222) "البدر الطالع" (1/ 142 - 145)(3/1573)
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن ابن عبد الكريم بن زياد عن أبي العباس الطنبداوي عن موسى بن زين العابدين الرداد عن عمر بن محمد الفتي عن المؤلف.
433 - (مؤلفات إسماعيل بن محمد الحضرمي اليماني الصوفي (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن المؤلف.
434 - (مؤلفات أحمد بن أبي بكر الرداد اليماني (2)):
أرويها بالإسناد المشار إليه الطاهر بن حسين الأهدل عن عبد الرحمن بن إبراهيم العلوي عن إسماعيل بن الصديق الجبرتي عن المؤلف.
435 - (مؤلفات عبد الله بن أسعد .... .... .... .... .... .... ..
_________
(1) إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحضرمي نسبة إلى حضرموت.
قال المناوي: قطب الدين الإمام الكبير العارف الشهير قدوة الفريقين وعمدة الطريقين شيخ الشافعية
ومربي الصوفية كان إماما من الأئمة مذكورا وعلما من أعلام الولاية مشهورا وهو من بيت مشهور بالصلاح مقصود لليمن والنجاح أعلامه للإرشاد منصوبة وبركات أهله كالأهلة مرقومة مرقوبة ...
وله عدة مؤلفات قي عدة فنون منها: "شرح المهذب"، و"مختصر مسلم"، و"مختصر بهجة المجالس" ["شذرات الذهب" (5/ 361) و"هجر العلم ومعاقله في اليمن" (3/ 1191 - 1192)]
(2) هو أحمد بن أبي بكر بن السراج القرشي، البكري، التيمي، المكي، ثم الزبيدي، الشافعي ويعرف بابن الرداد (أبو العباس، شهاب الدين) فقيه، عالم، متصوف، تولى القضاء.
ولد سنة (748 هـ) وتوفي سنة (821 هـ).
من مصنفاته: "وسيلة الملهوف إلى الله تعالى ثم إلى أهل المعروف"، "موجبات الرحمة وعزائم المغفرة"، وغيرها.
انظر "الضوء اللامع" (1/ 260 - 262) و"معجم المؤلفين" (1/ 112)(3/1574)
اليافعي (1)): أرويها بالإسناد إلى الرداد المذكور عن محمد بن يعقوب الشميرازي مؤلف القاموس عن الشيخ أبي بكر الصوفي عن ابن سلامة الموزعي عن المؤلف.
436 - (مؤلفات عبد الرحمن بن أبي بكر الأسيوطي (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الديبع عن المؤلف.
437 - (مؤلفات محمد بن عبد الرحمن العسقلاني (3)):
أرويها بالإسناد المذكور إلى الديبع عن المؤلف ..
438 - (مؤلفات أحمد بن حجر العسقلاني (4)):
أرويها بالإسناد المذكور إلى السخاوي عن المؤلف ..
439 - (مؤلفات عبد الرحمن بن علي الديبع (5)):
_________
(1) هو عبد الله بن أسعد بن على بن سليمان بن فلا اليافعي، اليمني، ثم المكي، الشافعي، (عفيف الدين) صوفي، شاعر، مشارك في الفقه والعربية والأصلين واللغة والفرائض والحساب.
ولد قبل السبعمائة بسنتين أو ثلاث، ورحل إلى عدن، وجاور. بمكة، وتوفي بها في 20 جمادي الآخرة سنة (768 هـ). ودفن. بمقبرة باب المعلى.
من تصانيفه: "مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الرهان"، "روض الرياحين في حكايات الصالحين"، "الإرشاد التطريز في فضل ذكر الله وتلاوة كتابة العزيز"، "بهجة البدور في مدح الحور والتنقل من دار الغرور إلى دار السرور".
انظر: "الدرر الكامنة" (2/ 247 - 249) "طبقات السبكي" (6/ 103) "النجوم الزاهرة" (11/ 93 - 94) "البدر الطالع" (1/ 378) "معجم المؤلفين"
(2/ 229 - 230)
(2) أنظرها في "مؤلفات السيوطي" لـ (محمد بن إبراهيم الشيباني وآخر)
(3) أنظرها في "مؤلفات السخاوي" مشهور حسن وأحمد الشقيرات
(4) أنظرها في "ابن حجر مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة" (1/ 157 - 356)
(5) انظر: "الضوء اللامع" (4/ 104)، "مصادر الفكر" (ص 54 - 55)، "الروض الأغن" (2/ 20رقم 407)(3/1575)
أرويها بالإسناد المتقدم قريبا المتصل به.
440 - (مؤلفات عبد الرحيم الزين العراقي (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى الحافظ ابن حجر عن المؤلف.
441 - (مؤلفات الشبراملسي علي المصري (2)):
أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عن شيخه محمد حياة السندي عن سالم ابن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن المؤلف.
442 - (مؤلفات الزين. زكريا بن محمد الأنصاري (3)
_________
(1) انظر: "الضوء اللامع" (4/ 104)، "مصادر الفكر" (ص 54 - 55)، "الروض الأغن" (2/ 20رقم 407)
(2) انظر: "الضوء اللامع" (4/ 104)، "مصادر الفكر" (ص 54 - 55)، "الروض الأغن" (2/ 20رقم 407)
(3) هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، السنيكى، القاهري، الأزهري، الشافعي (زين الدين، أبو يحي) عالم مشارك في الفقه والفرائض والتفسير والقراعات والتجويد والنحو والصرف والحديث والتصوف والمنطق والجدل.
ولد بسنيكة سنة (826 هـ) وبها نشأ، ثم تحول إلى القاهرة، وتولى القضاء وتوفي بها في 4 ذي الحجة سنة (926 هـ).
من تصانيفه الكثيرة: "شرح مختصر المزني في فروع الفقه الشافعي"، "حاشية على تفسير البيضاوي"، "حاشية على شرح بدر الدين لألفية ابن مالك في النحو" سماها "الدرر السنية"، "شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول" للبيضاوي، و"شرح صحيح مسلم"، "المطلع شرح إيساغوجي للأبهري في المنطق"، "شرح المنهج"، "فتح الباقي بشرح ألفية العراقي"، "شرح التبصرة والتذكرة في أصول الحديث"، "شرح التحرير"، "فتح المبدع في شرح المقنع في الجبر والمقابلة"، "تحفة الباري بشرح صحيح البخاري"، "أحكام الدلالة على تحرير الرسالة للقشيري في التصوف"، "البهجة الوردية في فروع الفقه"، "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب في الفقه"، "شرح البسملة"، "بلوغ الإرب بشرح شذور الذهب"، "ثبت"، "شرح الورقات لإمام الحرمين"، "تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب"، "رسالة في كرامات الأولياء".
انظر "شذرات الذهب" (8/ 134 - 136) "البدر الطالع" (2/ 252 - 253) "معجم المؤلفين" (1/ 733)(3/1576)
أرويها عن الشبراملسي المذكور عن الشهاب أحمد السبكي عن النجم الغيطي عن المؤلف.
443 - (مؤلفات الجلال المحلي (1)):
أرويها بالإسناد إلى الزين زكريا المذكور عن المؤلف.
444 - (مؤلفات أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (2)):
أرويها بالإسناد السابق إلى السخاوي عن عبد الرحيم بن محمد بن الفرات عن ابن الجزري عن عائشة بنت محمد المقدسية عن المؤلف.
445 - (مؤلفات الإمام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (3)):
أرويها بالإسناد إلى المزي المذكور عن المؤلف.
446 - (مؤلفات ابن القيم (4)):
أرويها بالإسناد إلى عائشة المذكورة عن المؤلف.
447 - (مؤلفات الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني (5)):
_________
(1) أنظرها في هدية العارفين (2/ 221)
(2) أنظرها في هدية العارفين (2/ 221)
(3) أنظرها في هدية العارفين (2/ 221)
(4) انظر: هدية العارفين (1/ 35)
(5) انظر: هدية العارفين (2/ 290)(3/1577)
أرويها بالإسناد المتقدم في مستدرك الحاكم إلى المؤلف ومن جملة مؤلفاته أسانيده المسماة بالأمم لإيقاظ الهمم وقد ذكرته في حرف الهمزة وذكرت في إسناد مستدرك الحاكم شيئا من ذلك.
448 - (وأروي أسانيد مؤلفات مسند العصر الأخير محمد بن علاء الدين البابلي ومن جملتها المجموع في أسانيده (1)):
أروي ذلك من طرف منها عن شيخنا السيد العلامة عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر عن شيخه محمد حياة السندي عن شيخه سالم بن عبد الله بن سالم البصري عن أبيه عن المؤلف
449 - ومنها عن شيخنا المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد بن مقبل الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد النخلي عن المؤلف.
450 - ومنها عن شيخه المذكور عن شيخه السيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي عن شيخه السيد حسين بن أحمد زبارة عن شيخه القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال عن المؤلف.
451 - ومنها عن شيخنا السيد العلامة علي بن إبراهيم بن عامر عن شيخه أبي الحسن السندي عن شيخه محمد حياة السندي بإسناده المذكور إلى المؤلف.
452 - ومنها عن شيخنا السيد علي المذكور عن شيخه حامد بن حسن شاكر عن شيخه أحمد بن عبد الرحمن الشامي بإسناده المذكور إلى المؤلف.
_________
(1) قال الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 208):
محمد بن علاء الدين البابلي القاهري، الشافعي، أبو عبد الله، الإمام الكبير مسند الدنيا، أخذ عنه الناس طبقة بعد طبقة من جميع الطوائف وكان ضريرا يملي دواوين الإسلام جميعا من حفظه، وطال عمره وجاور بالحرم مرتين، وأراد سلطان الروم أشخاصه إليه فامتنع، ولعله جاوز المائة أو ناهزها.
مات في عشر الثمانين بعد الألف، وله مجموع ذكر فيه أسانيده ورواياته، وهو موجود بأيدي المشتغلين هذا الشأن) ا هـ(3/1578)
453 - ومنها عن شيخنا السيد علي المذكور عن شيخه السيد أحمد بن يوسف بن الحسين بن الحسن بن القاسم عن شيخه السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد محمد بن القاسم عن شيخه الحسن بن أحمد زبارة بإسناده المذكور إلى المؤلف.
454 - ومنها عن شيخنا صديق بن على المزجاجي عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل بإسناده المذكور إلى المؤلف.
455 - وعن شيخنا صديق المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل عن شيخه أحمد بن محمد بن مقبل عن شيخه يحي بن عمر الأهدل عن أحمد بن محمد النخلي عن المؤلف.
456 - ومنها عن شيخنا يوسف بن محمد بن علاء الدين عن أبيه عن يحي بن عمر الأهدل بإسناده المذكور.
وقد اشتملت هذه الطرق على أسانيد متصلة. بمجموعات مؤلفه في أسانيد الطرق منها (1).
457 - (أسانيد (2) سالم بن عبد الله بن سالم البصري (3) المسماة بالإمداد بمعرفة علو الإسناد):
ارويها بالإسناد المذكور هاهنا المتصل به.
458 - ومنها (أسانيد أحمد بن يحي النخلي المكي (4)
_________
(1) في حاشية المخطوط ما نصه (قد اشتمل هذا البحث على ذكر أسانيد المجموعات في الأسانيد)
(2) قد طبعت بالهند ضمن مجموع عام (سنة 328 1 هـ)
(3) هو سالم بن عبد الله بن سالم بن محمد البدري، البصري، الشافعي، فقيه، محدث.
توفي. بمكة في 2 محرم سنة (1160 هـ). له "الإمداد في علو الإسناد".
انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 382) "معجم المؤلفين" (1/ 749)
(4) هو احمد بن محمد بن احمد بن علي المكي، الشافعي الشهر بالنخلي (أبو العباس) محدث. ولد، بمكة سنة (1044 هـ)، وتوفي بها في المحرم سنة (1130 هـ) من تصانيفه: "بغية الطالبين لبيان المشايخ المحققين المعتمدين".
انظر: "معجم المؤلفين"
(1/ 246). ملحوظة: ربما يكون الشوكاني رحمه الله وهم فقال: (أحمد بن يحي النخلي) في حين أنه (أحمد ابن محمد) بدليل أنه عندما أحال إلى السند المتصل به وجدناه باسم (أحمد بن محمد).
انظر السند رقم (449) قال فيه: (ومنها عن شيخنا المذكور عن شيخه السيد سليمان بن يحي الأهدل عن شيخه احمد بن محمد بن مقبول الأهدل عن شيخه (احمد بن محمد النخلي) عن المؤلف) 1 هـ. والسند رقم (464) قال فيه "إلى أحمد بن محمد النخلي ... )
ومثله ذكر ذلك في السند رقم (455). والله أعلم(3/1579)
أرويها بالإسناد المذكور هاهنا المتصل به.
459 - ومنها (أسانيد يحي بن عمر الأهدل المشهورة (1)): أرويها بالإسناد المتصل به المذكور هاهنا.
460 - ومنها (أسانيد عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي (2)): أرويها عن السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد المذكور عن عبد العزيز.
461 - ومنها (أسانيد (3) القاضي أحمد بن سعد الدين .... .... .... ......
_________
(1) هو يحي بن عمر مقبول الزبيدي اليمني الشهير بالأهدل. محدث، فقيه، مفسر، مقري، أفتى بزبيد وتوفي بها سنة (147 1 هـ).
من مصنفاته: "القول السديد فيما أحدث من العمارة بجامع زبيد"، "فضائل ذوي القربى" وفهرسه.
انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 534) "معجم المؤلفين" (4/ 108)
(2) عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الحبيشي: عالم متفقه. رحل إلى الإمام المؤيد محمد بن المتوكل إسماعيل حينما كان مقيما في مغتر.
مولده سنة (1042هـ) ووفاته في بلده في ارحب سنة (1116هـ).
["طبقات الزيدية الكبرى" و"هجر العلم ومعاقله في اليمن" (1/ 475)]
(3) واسم ثبته "الإجازات في تصحيح الأسانيد والروايات" منه نسخة سنة 1185هـ في رقم (486) ورقم (64) جامع صنعاء، وأخرى بالأمبروزيانا رقم (17) وأخرى بدار الكتب المصرية - طلعت - رقم (584).حكام اليمن (ص234)(3/1580)
المسوري (1)): أرويها بالإسناد إلى القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال المذكور هاهنا عنه.
462 - ومنها (أسانيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد (2)):
أرويها بالإسناد المتصل به والمذكور هاهنا.
463 - ومنها (أسانيد الإمام القاسم بن محمد (3) وأولاده محمد والحسين وإسماعيل):
_________
(1) هو أحمد بن سعيد الدين بن الحسين بن محمد المسوري الزيدي، القاضي الفاضل، المترسل البليغ المنشئ العارف.
شارك في الفنون وتميز في كثير منها وحرر رسائل وفتاوى واتصل في أول عمره بالإمام القاسم بن محمد. وأخذ عنه وكتب لديه، وكان يؤثره، ثم اتصل بعد ذلك بولده الإمام المريد بالله فارتفعت درجته لديه. وهكذا حتى مات سنة (1079هـ)، وقبر بجوار قبر الإمام القاسم بن محمد وولده المؤيد.
انظر "البدر الطالع" (1/ 58 - 59)، "الروض الأغن" (2/ 38)
(2) هو إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله محمد بن الإمام القاسم بن محمد العلامة الحافظ المؤرخ مصنف "طبقات الزيدية" وهو كتاب لم يؤلف مثله في بابه جعله ثلاثة أقسام:
(القسم الأول): في من روى عن أئمة الأول من الصحابة. و (القسم الثاني): فيمن بعدهم إلى رأس خمسمائة. و (القسم الثالث): في أهل الخمسمائة ومن بعدهم إلى أيامه. وذكر جماعة من أعيان القرن الثاني عشر.
انظر "البدر الطالع" (1/ 22 - 23)
(3) قد طبع ثبته بالهند عام 1328هـ.
انظر فهرس الفهارس (1/ 494)(3/1581)
أرويه بالإسناد المذكور إلى القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري عنهم.
464 - ومنها (أسانيد الشيخ إبراهيم بن الحسن الكردي الكوراني):
أرويها بالإسناد المذكور هاهنا إلى أحمد بن محمد النخلي عنه، وأرويها من طرق أخره تقدم ذكرها وهذه الأسانيد هي المسماة بالأمم.
465 - وبالإسناد المذكور إلى النخلي أروي أسانيد الشيخ منصور بن عبد الرزاق ابن صاع الطوخي المصري فإنه شيخ النخلي.
466 - وهذا الإسناد إلى النخلي أروي أسانيد زين العابدين بن عبد القادر الطبري الحسيني المكي الشافعي.
467 - وأروي أسانيد محمد بن الطيب المغربي (1) عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عنه.
وبالجملة فهذه الأسانيد إلى أشرنا إليها قد اشتملت على أسانيد كتب الإسلام في جميع الفنون وقد جمعنا ما فيها في هذا المختصر على هذا الترتيب الذي لم يسبق إليه مع المبالغة في الاختصار من دون إخلال فالإحالة على بعض الأسانيد المذكور فيه إلى ما هو مذكور فيه في محل آخر غير محتاجه إلى طول بحث لكون الكتاب مرتبا على حروف المعجم وهي واضحة لكل أحد ولو جمعت الأسانيد التي هي أصول هذا الكتاب وهي ما أشرنا إليه في هذا الموضع لكانت في مجلدات مع أنه لا ينتفع بها كما ينتفع هذا المختصر لعدم ترتيب ما فيها من الكتب المسندة كترتيبه.
468 - (مؤلفات الإمام يحي بن حمزة (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الانتصار له.
469 - (مؤلفات الإمام المهدي أحمد بن يحي .... .... .... .... ....
_________
(1) انظر: فهرس الفهارس (2/ 1067 رقم 598)
(2) انظر: الروض الأغن (3/ 163 رقم 913)(3/1582)
المرتضى (1)): ارويها بالأسانيد المتقدمة في كتبه المذكورة في هذا المختصر كالأزهار والبحر ونحوها ..
470 - (مؤلفات السيد محمد بن إبراهيم الوزير (2)):
ارويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإيثار له ..
471 - (مؤلفات الإمام عز الدين بن الحسين (3)):
أرويها بالإسناد المتقدم في شرح البحر له.
472 - (مؤلفات الإمام شرف الدين (4)):
أرويها بالإسناد المتقدم في الأثمار له وهو المذكور في الإبانة.
473 - (مؤلفات الإمام القاسم بن محمد (5)):
أرويها بالإسناد المتقدم في كتاب الإرشاد والأساس والاعتصام له.
474 - (مؤلفات الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (6)):
_________
(1) انظر: حكام اليمن (ص 54 - 58)
(2) انظر: الروض الأغن (3/ 5 رقم 672)
(3) انظر: حكام اليمن (ص 206 - 213)
(4) انظر المصدر السابق (ص 209 - 223)
(5) انظر حكام اليمن (ص 229 - 245)
(6) هو الإمام المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام القاسم بن محمد.
ولد في سنة (1019 هـ) في شهارة، ونشأ بها، وكان كامل الخلق معتدل القامة أعر اللون، عظيم اللحية، أشعر الذراعين، قوي الحركة، كثر التبسم، حسن الخلق، قرأ على جماعة من أعيان علماء عصره في الفقه وسائر الفنون فبرع في الفقه وفاق على علماء عصره في ذلك، وأقر له الكبير منهم والصغير، ورجعوا إليه في المعضلات وشارك في بقيه الفنون مشاركة قوية وكان يقرئ فيها أعيان علماء عصره وصنف المصنفات منها "العقيدة الصحيحة" وشرحها "المسائل المرتضاة إلى جميع القضاة" وغير ذلك. توفي سنة (1087 هـ)
انظر "البدر الطالع" (1/ 146)، حكام اليمن (ص 249 - 257)(3/1583)
أرويها بالإسناد المتقدم في الإبانة إلى القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال عنه وهو المذكور أيضًا قريبا ..
475 - (مؤلفات الحسين بن القاسم (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم في الغاية له ..
476 - (مؤلفات (2) الحسن بن أحمد الجلال):
أرويها بالإسناد المتقدم في ضوء النهار له ..
477 - (مؤلفات (3) صاع بن مهدي المقبلي):
أرويها بالإسناد في العلم الشامخ له ..
_________
(1) هو الحسين بن الإمام القاسم بن محمد.
ولد يوم الأحد رابع شهر ربيع الآخر سنة (999 هـ) قرأ على الشيخ لطف الله بن محمد الغياث، وكان يتعجب من فهمه وحسن إدراكه وقرأ على جماعة من علماء عصره، وبرع في كل الفنون وفاق في الدقائق الأصولية والبيانية والنطقية والنحوية، وله مع ذلك شغلة بالحديث والتفسير والفقه وألف الغاية وشرحها، الكتاب المشهور الذي صار الآن مدرس الطلبة وعليه المعول في صنعاء وجهاتها.
وهو كتاب نفيس يدل على طول باع مصنفه وقد ساعده وتبحره في الفن اعتصره من مختصر المنتهى وشروحه وحواشيه ومن مؤلفات آبائه من الأئمة في الأصول، وساق الأدلة سوقا حسنا، وجود المباحث، واستوفى ما تدعو إليه الحاجة، ولم يكن الآن في كتب الأصول من مؤلفات أهل اليمن مثله.
توفاه الله تعالى في أخر ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة (1050 هـ). بمدينة ذمار ودفن بها.
انظر "البدر الطالع" (1/ 226 - 227)
(2) أنظرها في الروض الأغن (1/ 134)
(3) أنظرها في الروض الأغن (1/ 209)(3/1584)
478 - (مؤلفات (1) السيد محمد بن إسماعيل الأمر):
أرويها عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد عنه ..
479 - (مؤلفات السيد هاشم بن يحي (2)):
أرويها عن شيخنا المذكور عنه.
480 - (مؤلفات السيد زيد بن محمد بن الحسن (3)):
_________
(1) أنظرها في الروض الأغن (3/ 29 رقم 709) ومصادر الفكر (ص 68)
(2) هو هاشم بن يحي بن أحمد بن على بن الحسن بن محمد الشامي ثم الصنعاني، أحد العلماء المشاهير والأدباء المجيدين.
ولد تقريبا سنة (1104هـ) وأخذ العلم عن أكابر علماء صنعاء كالسيد العلامة زيد بن محمد بن الحسن ابن الإمام القاسم، والعلامة الحسين بن محمد المغربي وطبقتهما، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران، ودرس للطلبة، وانتفع به أهل صنعاء وتخرج به جماعة عن العلماء كالعلامة عبد القادر بن أحمد، وكثير من العلماء النبلاء.
وتولى القضاء بصنعاء أياما، وله شعر فائق وفصاحة زائدة، وشرع في جمع حاشية على البحر الزخار سماها: "نجوم الأنظار" فكتب منها مجلدا في غاية الإتقان والتحقيق ولم تكمل. وكان موته سنة (1158هـ).
انظر "البدر الطالع" (2/ 321 - 324)، الروض الأغن (3/ 144 رقم 894)
(3) قال الشوكاني في "البدر الطالع" (1/ 253 - 256):
(السيد زيد بن محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد، المحقق الكبير، شيخ مشايخ صنعاء في عصره في العلوم الآلية بأسرها أخذها عنه جماعة من أكابرهم كالسيد هاشم بن يحي الشامي والسيد محمد الأمير والسيد أحمد بن عبد الرحمن الشامي، وغيرهم.
ولد في سنة (1075هـ)، وأخذ العلم عن جماعة من أعيان العلماء كالقاضي العلامة بن يحي البرطي، والقاضي العلامة الحسين بن محمد المغربي، والسيد العلامة الحسن بن الحسين بن القاسم، وكان صدرا مبجلا معظما مفخما، يهابه ولاة صنعاء، وقد برع في جميع المعارف لا سيما علم المعاني والبيان، فإنه فنه الذي لا يدانيه فيه مدان، ولا يختلف في تفرده هذا الشأن اثنان. توفي سنة (1123هـ) 1 هـ ملخصا.
وانظر: "الروض الأغن" (1/ 191 رقم 338)(3/1585)
ارويها عن شيخنا المذكور عن السيد هاشم بن يحي عنه، وأرويها من طرق آخره.
وإنما ذكرنا إسناد بعض المؤلفات هاهنا على الجملة لتتميم الفائدة فإنه ربما خرج بعض الكتب المؤلفة عن الحروف المذكورة إما لعدم اشتهار اسمه أو لنسيان ذكره عند تحرير هذا المختصر فيدخل تحت إسناد المؤلفات جملة ولا سيما من كان من العلماء مكثرا من التأليف كالإمام يحي بن حمزة والإمام المهدي احمد بن يحي وغيرها من أهل البيت وكذلك ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر والحميوطي وغيرهم من غير أصل البيت.(3/1586)
حرف النون
481 - (ناسخ القران ومنسوخه لهبة الله بن سلامة المقدسي (1)) (2):
أرويه بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن محمد بن علي المؤذن عن الفقه عماد الدين أبي يحي عن ربيعة بن الحسن الشامي الصنعاني عن القاسم بن الفضل بين عبد الواحد الصيدلاني عن رزق الله بن عبد الله التميمي عن المؤلف ..
482 - (الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي (3)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى الشماخي عن شيخه الشراجي عن محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف عن المؤلف ..
483 - (النخبة للحافظ ابن حجر):
ارويها بالإسناد المتقدم في بلوغ المرام له وبالإسناد المتقدم أيضًا في مؤلفاته من حرف الميم.
484 - (النزهة ليحي حميد):
أرويها بالإسناد المتقدم في شرح الفتح له.
485 - (نظام الفوائد لقاضي القضاة):
أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى القاضي جعفر بن احمد بن عبد السلام عن
_________
(1) كذا في "المخطوط" والصواب "المقري"
(2) "كتاب "الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل" مطوع. ط. المكتب الإسلامي.
أما المؤلف فهو هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي، أبو القاسم: مفسر، ضرير، من أهل بغداد، وبها وفاته، كانت له حلقة في "جامع المنصور".
له كتب منها: "الناسخ والمنسوخ قي القرآن" وله "الناسخ والمنسوخ من الحديث"مخطوط وغيرهما.
["الأعلام" للزركلي (8/ 72) و"غاية النهاية" للجزري (2/ 351)]
(3) طبع عن دار ابن حزم سنة 1413هـ بتحقيقي(3/1587)
الكني عن عبد المجيد بن أبي سعيد الاستراباذي عن إبراهيم بن إسماعيل المعروف ببارستان عن أحمد بن الحسن بن أبي طالب عن المؤلف.
486 - (نظام الغريب (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم في تفسير الثعلبي إلى الشماخي عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن محمد الحضرمي عن محمد بن أبي القاسم الجبائي عن أحمد بن عبد الله القريظي عن السيد عثمان بن محمد عن السيد عليان بن محمد الحاشدي عن زيد بن الحسن الفايشي عن المؤلف.
487 - (نخبة الضمان من فوائد أبي حيان):
أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب وفي موضع منه إلى البابلي عن الشيخ منصور الطبلاوي عن أبي النصر الطبلاوي عن والده ناصر الدين الطبلاوي عن السيوطي عن محمد بن محمد السمنودي عن الشيخ سراج الدين البلقيني عن المؤلف.
488 - (النكت للقاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم في أول هذا الكتاب المتصل بالمؤلف.
489 - (نهج (3) البلاغة من كلام أمر المؤمنين إنه للشريف .... ....
_________
.. (1):. (2):. (3): قال ابن تيمية " ... فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب "نهج البلاغة" منسوبة لعلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تصح. كما أنه على صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك، ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق ولا هي مدح.
وأيضا، فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام على موجودة في كلام غيره، لكن صاحب "نهج البلاغة" وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي، ومنه ما يحكى عن على أنه تكلم به، ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به، ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره،=
(1) طبع بالهند سنة 1912 هـ. تحقيق بولس الألماني. معجم سركيس (1/ 927) مؤلفه عيسى بن إبراهيم الربعي (ت 480 هـ)
(2) طبع انظر مصادر الفكر (ص 194)(3/1588)
الرضي
(1)). أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الفقيه أحمد بن محمد الأكوع المعروف
_________
= ولهذا يوجد في كلام "البيان والتبين" للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير على، وصاحب "نهج البلاغة" يجعله عن على.
وهذه الخطب المنقولة في كتاب "نهج البلاغة" لو كانت من كلام على، لكانت موجودة قبل هذا المصنف، منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثير منها (بل أكثرها) لا يعرف قبل هذا، علم أن هذا كذب، وإلا، فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي، وما إسناده؟ وإلا، فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد.
ومن كان له خبرة. بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها، علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن على من أبعد الناس عن المنقولات، والتمييز بين صدقها وكذبها ...
" منهاج السنة النبوية" لابن تيمية (8/ 55 - 56). وانظر. "البيان لأخطاء بعض الكتاب" (ص 69 - 85). قال الذهبي في "الميزان" (3/ 124) عند ترجمة على بن الحسين العلوي الحسيني الشريف المرتضى:
" هو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم ومن طالع كتاب نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي كله، ففيه السب الصراح والحط على السيدين: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم فمن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل 1هـ.
(1): في النسخة (أ) [المرتضى] والصواب من (ب) وهو محمد بن الحسين بن موسى الموسوي (أبو الحسن) الشريف الرضي، عالم، أديب، شاعر.
ولد سنة (359 هـ) ببغداد وتوفي بها سنة (406 هـ) ودفن في داره. بمسجد الأنباريين.
من آثاره: "ديوان شعر كبير"، "طيف الخيال"، "خصائص الأئمة"، "الآثار النبوية"، "تلخيص البيان في مجازات القرآن"، "حقائق التأويل في متشابه التنزيل".
انظر: "تاريخ بغداد" (2/ 246 - 247) "وفيات الأعيان" (2/ 2 - 5) "البداية والنهاية" (12/ 30) "معجم المؤلفين" (3/ 263).(3/1589)
بشعلة عن السيد المرتضى بن شراهيك الوافد إلى اليمن عن أحمد بن زيد الحاجي عن الشريف يحي بن إسماعيل عن عمه الحسن بن علي الجويني عن المؤلف.
490 - (نهج الرشاد للسيد علي بن الحسين الشام) (1)):
أرويه بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى السيد إبراهيم بن قاسم المؤيد عن أحمد بن ناصر بن عبد الحق عن المؤلف ..
491 - (نوادر الأصول للحكيم الترمذي (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن عبد الله بن محمد النحريري عن يوسف بن زكريا عن أبيه عن الحافظ بن حجر عن على بن أبي المجد عن سليمان بن حمزة عن عيسى ابن عبد العزيز عن عبد الكريم بن محمد السمعاني عن محمد بن علي بن سعيد بن المطهر عن إسحاق بن إبراهيم البوقي عن محمد بن عبد الرحمن المقري عن أحمد البيكندي عن المؤلف.
492 - (نور السراج للسيد الهادي بن أحمد الجلال (3) هو السيد الهادي بن احمد الجلال، أخو السيد الحسن بن احمد.
_________
أخذ العلم عن جماعة منهم على بن محمد العقيني، رحل إليه إلى مدينة تعز وسمع عليه الصحيحين وغيرهما، ورحل إلى عبد القادر بن زياد الجعاشني في سنة (1061 هـ)، فسمع منه صحيح البخاري
وجمع سنن أبي داود على إسحاق بن إبراهيم بن جعمان، وكان صاحب الترجمة عالما محققا مائلا إلى الخمول.
له مصنفات منها: "شرح الأسماء الحسني" وله مصنف حماه "نور السراج" جعله على أبواب الفقر واستكمل فيه البخاري، ولعل موته كان في أول القرن الثاني عشر.
انظر "البدر الطالع" (2/ 318 - 319)، الروض الأغن (2/ 141 رقم 890)):
(1) انظر: الروض الأغن (2/ 117)
(2) هو محمد بن علي بن الحسن بن بشير الحكيم الترمذي (أبو عبد الله) محدث، حافظ، صوفي.- الكثير بخراسان والعراق، وقدم نيسابور وحدث ها.
من تصانيفه: "الأكياس والمغترين"، "رياضة النفوس"، "الكسب" وكلها في التصوف، "نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، و"علل العبودية" جواب. كتاب من الري"، "ختم الأولياء"، "الصلاة ومقاصدها".
انظر: "طبقات السبكي" (2/ 0 2) "تذكرة الحفاظ" (12/ 97) "لسان الميزان" (5/ 308 - 310) "هدية العارفين" (2/ 15 - 16) "معجم المؤلفين"
(3/ 502)
(3) هو السيد الهادي بن احمد الجلال، أخو السيد الحسن بن احمد.
أخذ العلم عن جماعة منهم على بن محمد العقيني، رحل إليه إلى مدينة تعز وسمع عليه الصحيحين وغيرهما، ورحل إلى عبد القادر بن زياد الجعاشني في سنة (1061 هـ)، فسمع منه صحيح البخاري
وجمع سنن أبي داود على إسحاق بن إبراهيم بن جعمان، وكان صاحب الترجمة عالما محققا مائلا إلى الخمول.
له مصنفات منها: "شرح الأسماء الحسني" وله مصنف حماه "نور السراج" جعله على أبواب الفقر واستكمل فيه البخاري، ولعل موته كان في أول القرن الثاني عشر.
انظر "البدر الطالع" (2/ 318 - 319)، الروض الأغن (2/ 141 رقم 890)(3/1590)
أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى السيد إبراهيم بن القاسم بن المؤيد عن السيد محمد بن يحي الحبشي وعن أحمد بن ناصر المخلافي عن المؤلف.(3/1591)
حرف الهاء
493 - (الهداية (1) للبرهان المرغيناني (2)):
أرويها بالإسناد المتقدم إلى البابلي عن أحمد بن محمد الشلبي عن السيد يوسف بن عبد الله الأرميوني عن إبراهيم بن أحمد القلقشندي عن الحافظ ابن حجر عن محمد بن علي المقري عن محمد بن حجاج الكاشغري عن حسين بن علي السغناقي عن محمد بن محمد ابن نصر النسفي عن محمد بن عبد الله الكردي عن المؤلف ..
494 - (هداية الأفكار للسيد صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير (3)):
أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن المؤلف.
495 - (الهداية (4) شرح الغاية للحسين بن القاسم):
أرويها بالإسناد المتقدم إليه في الغاية له.
_________
(1) "الهداية شرح بداية المبتدي" من أشهر كتب الأحناف المتوسطة على الإطلاق ويعتبر عندهم من أهم المراجع في الفقه مذهبا، ولذلك فقد اعتنى به العلماء شرحا وتفسيرا، ولعل من أشهر شروحه "فتح القدير" لابن الهمام، ولعل من الذين خدموه خدمة جليلة الزيلعي في كتابه (نصب الراية) خرج به أحاديث الهداية بصورة موسوعية جعلته في الصف الأول بين كتب التخريج
(2) هو علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني، المرغيناني، الحنفي، (برهان الدين، أبو الحسن) فقيه، فرضي، محدث، حافظ، مفسر، مشارك في أنواع من العلوم.
توفي سنة (593 هـ).
من تصانيفه: "شرح الجامع الكبير" للشيباني، "بداية المبتدي"، "الهداية"، "كفاية المنتهى"، "التجنيس والمزيد"، "ومختار الفتاوى"، "وكلها في فروع الفقه الحنفي.
انظر: "هدية العارفين" (1/ 702) "معجم المؤلفين" (2/ 411).
ملحوظة: في المخطوطة (المرغناني) والصحيح ما أثبتناه ... والله أعلم
(3) هداية الأفكار إلى مذهب الأئمة الأطهار: شرح مختصر على "الأزهار" مع زيادات على ما فيه.
له مخطوط سنة 1062هـ بجامع صنعاء، وأخرى سنة 1008هـ رقم 1058 - 1062) مصادر الفكر (ص 231)
(4) انظر: الروض الأغن (1/ 176 رقم 312)(3/1592)
496 - (الهدي (1) لابن القيم):
أرويه بالإسناد المتقدم إليه في حادي الأرواح له.
_________
(1) هو كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" وهو كتاب قيم. مطبوع بتحقيق الشيخ (شعيب ا لإرناؤوط) والشيخ (عبد القادر الإرناؤوط)(3/1593)
حرف الواو
497 - (الوابل المغزار ليحي حميد):
أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب الفتح له.
498 - (الوافي (1) في الفرائض للحسن بن أبي البقاء):
أرويه بالإسناد المتقدم في التقرير إلى الأمير الحسين بن محمد عن الإمام أحمد بن الحسين عن المؤلف.
499 - (الوافي لعلي بلال (2)):
أرويه بالإسناد المتقدم أول الكتاب إلى القاضي جعفر عن الكني عن ابن أبي الفوارس عن أبي على بن أموج عن الشيخ علي خليل عن القاضي يوسف عن السيد بن المؤيد بالله وأبي طالب عن المؤلف.
500 - (الوسيط تفسير الواحدي):
أرويه بالإسناد المتقدم له في حرف التاء.
501 - (الوسيط للغزالي):
أرويه بالإسناد المتقدم إليه في كتاب الإحياء له.
502 - (الوسيط في الفرائض للعصيفري (3)):
_________
(1) انظر: الروض الأغن (1/ 144 رقم 257)
(2) هو علي بن بلال الأملي، الزيدي مولى السيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، وكان هذا الشيخ من المتبحرين المبرزين في فنون عديدة حافظا للسنة مجتهدا، وهو الذي يعرف بصاحب "الوافي".
وله مصنفات نفيسة منها "الوافي في الفقه" وقد أكثر الرواية عنه في شرح "الأزهار" ومنها شرح "الأحكام" و"تتمة المصابيح" ولم يررخوا له تاريخ وفاة.
انظر: "تراجم الرجال" (ص 23 - 24)
(3) هو الفضل بن أبي السعد العصيفري، فرضي، توفي حدود سنة (750 هـ).
من تصانيفه: "مفتاح الفائض في علم الفرائض"، و"عقد الأحاديث في علم المواريث" انظر: "هدية العارفين" (1/ 820) "معجم المؤلفين" (2/ 623)(3/1594)
أرويه بالإسناد المتقدم في أول هذا المختصر إلى الإمام القاسم بن محمد عن عبد العزيز ابن محمد بهران عن يحي بن محمد حميد عن إسماعيل بن شيبة عن محمد بن الحسن بن حميد عن أبيه عن السيد عبد الله بن يحي بن المهدي الزيدي عن أبيه عن إبراهيم بن أحمد الكينعي عن محمد بن عبد الله الرقيمي عن محمد بن عبد الله بن أبي النجم عن القاسم بن أحمد الضاكري عن أحمد بن نسى العنسي عن على بن مسعود النويرة عن المؤلف ..(3/1595)
حرف الياء
503 - (أبي قوتة للسيد يحي بن الحسين (1)):
أرويها بالإسناد المتقدم في أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن أبيه عن جده عن السيد صلاح بن الجلال عن الهادي بن يحي بن الحسين عن أبيه المؤلف ..
504 - (الياقوت المعظم للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (2)):
ارويه بالإسناد المتقدم أول الكتاب إلى الإمام شرف الدين عن السيد صارم الدين عن السيد أبي العطايا عن أبيه عن الواثق المطهر بن محمد بن المطهر عن أبيه عن جده عن محمد ابن احمد بن أبي الرجال عن المهدي أحمد بن الحسين عن أحمد بن محمد الأكوع المعروف بشعلة عن المؤلف.
505 - (اليقين لابن أبي الدنيا (3)):
أرويه بالإسناد المتقدم في كتاب قصر الأمل له ..
506 - (اليواقيت ليحيى بن أحمد حنش (4)):
_________
(1) انظر: مؤلفات الزيدية (3/ 168) وأحكام اليمن (ص 97)
(2) انظر: حكام اليمن (ص 202)
(3) طبع تحقيق مجدي السيد إبراهيم/ مكتبة القرآن/ القاهرة
(4) هو يحي بن حنش الزيدي الظفاري كان فقيها محققا من المذاكرين.
له مصنفات منها: "أسرار الفكر في الرد على الكني وأبي مضر"، وله "الجامع في الفقه" بلغ فيه إلى الجنائز وأتمه ولده محمد مولده سنة (640 هـ). وتوفي في (697 هـ) وقبره بالطفة من ظفار رحمه الله.
انظر "تراجم الرجال" (ص40)، مصادر الفكر (ص 204).
ولكن كتاب "اليواقيت" محمد بن يحي بن أحمد حنش- تقدمت ترجمته- وقد وهم الشوكاني في نسبته إلى الأب يحي واسم هذا الكتاب "يواقيت السير في شرح سيرة سيد البشر وأصحابه العشرة الغرر والأئمة المنتجين الزهر" وهو الجزء الخامس من موسوعة المؤلف" غايات الأفكار ونهايات الأنظار" يشتمل على سيرة أئمة الزيدية من الإمام علي إلى أئمة عصره، مرتب عل ثمانية أبواب.
مؤلفات الزيدية (3/ 172رقم 3344)(3/1596)
أرويه بالإسناد المتقدم إلى الإمام المهدي أحمد بن يحي في الأزهار والبحر له عن القاسم ابن أحمد حميد عن أبيه عن المؤلف ...
وإلى هنا انتهى ما قصدت جمعه من الأسانيد على هذا الترتيب العجيب والتقريب الغريب وكان الفراغ من تحريره في وسط ليلة الخميس لعله خامس عشر شهر جمادي الآخرة سنة 1214هـ. بقلم مؤلفه محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهم.
[وفرغت من تحريره نقلا عن خط سيدي العلامة أحمد بن يوسف زبارة رحمه الله، عن خط المؤلف جزاه الله خيرا. يوم الجمعة 2 / شهر الحجة الحرام 1289هـ / كتبه الحقير أحمد بن رزق السياني وفقه الله تعالى وكفر له ولوالديه والمؤمنين. آمين] (1)
_________
(1) زيادة من "ب".(3/1597)
بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات "
تأليف العلامة
محمد بن علي الشوكاني
ويليه: مناقشة للجواب السابق من القاضي محمد بن أحمد مشحم
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(4/1600)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: " بحث في قول أهل الحديث: رجال إسناده ثقات ".
2 - موضوع الرسالة: يبحث في جانب من جوانب علم مصطلح الحديث.
3 - الرسالة ضمن المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
4 - أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ... ".
5 - آخر الرسالة: " ... وإن الفرق ما بين الجودة والقوة وما بين الصحة هو الفرق بين الحديث الصحيح والحسن، والإسناد الصحيح والحسن والكلام في ذلك معروف ". انتهى تحرير الجواب في ليلة الأحد، لعله خامس وعشرون شهر جمادى الآخرة سنة 1217. بقلم المجيب: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 - عدد الأوراق: (21).
8 - المسطرة: 22 - 26 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.(4/1601)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدُك لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن أصحابه الراشدين.
قلتم: - كثر الله فوائدكم، ونفع بعلومكم - تحرير السؤال. إن جماعة من المتأخرين يصححون الحديث لكون رجاله ثقات، فتراهم إذا وقفوا على قول أحد من الحفاظ. إن رجال هذا السند ثقات أو بحثوا في التقريب (1) أو نحوه (2).
فوجدوا توثيق رجال سند حكموا على الحديث بالصحة، وهذا كثيرًا ما يقع في شرح المناوي (3) حتى أنه اعترض على السيوطي (4) لما رمز لحسن حديث "أمروا النساء في أنفسهن" (5) فقال:
_________
(1) وهو تقريب التهذيب لـ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني) طبع عدة مرات.
(2) "الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" للإمام الذهبي ت 748 هـ ط. أولى سنة 1403هـ - 1983م دار الكتب العلمية.
"وتهذيب التهذيب" لـ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني). ط أولى 1416 هـ - 1996 م مؤسسة الرسالة.
(3) في فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 56 رقم: 18).
(4) في الجامع الصغير رقم: (18).
(5) أخرجه أبو داود رقم: (2095) وعنه البيهقي (7/ 115) من طريق إسماعيل بن أمية: ثني الثقة: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمروا النساء في بناتهن" وهو حديث ضعيف.
وقال الألباني في الضعيفة (3/ 677): وهذا إسناد ضعيف لجهالة "الثقة" فإن مثل هذا التوثيق لشخص مجهول العين عند غير الموثق غير مقبول كما هو مقرر في "الأصول" ولذلك رمز السيوطي لحسنه غير حسن إن صح ذلك عنه، فإن المناوي قد نص في مقدمة "فيض القدير" على ما يجعل الواقف على الرمز لا يثق به، ومع ذلك فكثيرًا ما يقول: كما قال في هذا الحديث "ورمز المؤلف لحسنه" ويقره وهو غير مستحق له، كما ترى، بل قلده في الكتاب الآخر، فقال في التيسير: " ... بإسناد حسن".(4/1605)
إنه لا يبلغ درجة الصحة، وليس كذلك، فقد قال الهيثمي (1) بعد عزوه للطبراني (2) رجاله ثقات، هكذا جزم به وقال في حديث "ابن السبيل أول شارب" (3) قال الهيثمي (4): رجاله ثقات، فرمز المؤلف (5) تقصير، وحقه الرمز لصحته، ونحو هذا كثير في كلامه.
_________
(1) في المجمع (4/ 279).
(2) في المعجم الكبير (17/ 138).
(3) أي: "من ماء زمزم" من حديث أبي هريرة. وهو حديث منكر.
(4) في مجمع الزوائد (3/ 286) وقال: رواه الطبراني في الصغير (رقم 252 - الروض الداني) ورجاله ثقات.
(5) في فيض القدير (1/ 88). وقال المناوي في التيسير لشرح الجامع الصغير (1/ 18) بعد أن عزاه للطبراني في الصغير: "رجاله ثقات لكنه فيه نكارة.".
تنبيه: - اشتهر بين كثير من العلماء الاعتماد على رموز السيوطي للحديث بالصحة والحسن أو الضعف، ونرى أنه غير سائغ للأسباب الآتية:
1\ أن الرموز قد طرأ عليها التحريف والتغيير من الناسخ أو الطباع كما يعلم ذلك أهل المعرفة والعلم بالكتاب، وإليك شاهدًا على ما أقول، قول أعرف الناس به، ألا وهو العلامة عبد الرءوف المناوي، قال في شرحه عليه فيض القدير (1/ 41): "وأما ما يوجد في بعض النسخ من الرمز إلى "الصحيح" و"الحسن" و"الضعيف" بصورة رأس صاد، وحاء، وضاد، فلا ينبغي الوثوق به، لغلبة تحريف النساخ،. . . ".
2 - \ أن بعض رموز أحاديث الكتاب، قد أصابها السقط من الناسخ فلم تذكر أصلا خلافا لنسخته ... ".
3 - \ أن السيوطي معروف بتساهله في التصحيح والتضعيف، فالأحاديث التي صححها أو حسنها فيها قسم كبير منها ردها عليه الشارح المناوي، وهي تبلغ المئات إن لم نقل أكثر من ذلك، وأما الأحاديث التي سكت عليها وهي ضعيفة، فحدث عن البحر ولا حرج!!! بل إن بعضها قد ضعفها مخرجها الذي عزاه السيوطي إليه، ولم يحك هو كلامه أصلًا، وأنقل إليك ما قاله العلامة المناوي في فيض القدير تأييدًا لذلك: "وكثيرًا ما يقع للمصنف عزو الحديث لمخرجه، ويكون مخرجه قد عقبه بما يقدح في سنده، فيحذف المصنف ذلك، ويقتصر على عزوه له، وذلك من سوء التصرف اهـ.
4 - \ أن ما وقع في الجامع الصغير من الأحاديث الواهية والموضوعة لم يكن من أجل أن السيوطي متساهل فقط، بل الظاهر أنه جرى في تأليفه على القاعدة المعروفة عند المحدثين، وهي قولهم "قمش ثم فتش" فقمش وجمع ما استطاع أن يجمع، ثم لم يتيسر له التفتيش والتحقيق في كل أحاديث الكتاب، ويشهد لهذا أن قسمًا كبيرًا منها قد حكم هو نفسه عليها بالوضع في "اللآلئ المصنوعة" و"ذيل الأحاديث الموضوعة" وغيرها. انظر مقدمة ضعيف الجامع (1/ 12 - 20) للمحدث الألباني.(4/1606)
انتهى كلام السائل - عافاه الله - أقول: وينبغي هاهنا أن نقدم بيان ماهية الصحيح عند أهل الاصطلاح فنقول: قال الخطابي (1) فالحديث الصحيح عند أهل الحديث ما اتصل سنده وعدلت نقلته. وكذا قال في معالم السنن حاكيًا لذلك عن أهل الحديث، ولم يشترط الضبط ولا السلامة من شذوذ ولا علة. قال ابن دقيق العيد في الاقتراح (2) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء. فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء (3) انتهى. قلت: هذه مناقشة لاصطلاح قوم باصطلاح قوم
_________
(1) في معالم السنن (1/ 11).
(2) (ص186).
(3) ومثال: ما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئًا فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عددًا أو أكثر ملازمة منه، فإن الفقيه والأصولي يقولون: المثبت مقدم على النافي فيقبل.
والمحدثون يسمونه شاذًا لأنهم فسروا الشذوذ بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين.
ومن ذلك أيضًا ما إذا روى العدل الضابط عن تابعي عن صاحبي حديثًا، فيرويه ثقة آخر عن هذا التابعي بعينه عن صحابي آخر غير الأول، فإن الفقهاء وأكثر المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معًا.
وبعض المحدثين يعلون بهذا متمسكين بأن الاضطراب في الحديث دليل على عدم الضبط في الجملة. انظر: فتح المغيث (1/ 19 - 20).
ويوضح هذا الكلام الحافظ زين الدين العراقي في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص 20 - 21): حيث يقول والجواب أن من يصنف في علم الحديث إنما يذكر الحد عند أهله لا من عند غيرهم من أهل علم آخر.
وفي مقدمة مسلم: "1/ 30 - 31" أن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار، وليس بحجة، وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما على أن المصنف قد احترز عن خلافهم وقال بعد أن فرغ من الحد وما يحترز به عنه، فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث.
وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل. وقد احترز المصنف عما اعترض به عليه؛ فلم يبق للاعتراض وجه، والله أعلم.
وقوله: بلا خلاف بين أهل الحديث إنما قد نفى الخلاف بين أهل الحديث، لأن غير أهل الحديث قد يشترطون في الصحيح شروطًا زائدة على هذه كاشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة. فقد حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخري المعتزلة على أنه قد حكى أيضًا عن بعض أصحاب الحديث.
قال البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني - رحمهما الله - رأيت في الفصول التي أملاها الشيخ - رحمه الله - حكاية عن بعض أصحاب الحديث أنه يشترط في قبول الأخبار أن يروي عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يذكر قائله إلى آخر كلامه، وكان البيهقي رآه من كلام أبي محمد الجويني فنبهه على أنه لا يعرف من أهل الحديث والله أعلم.(4/1607)
آخرين وقد تقرر أن الاصطلاحات لا مشاحنة فيها، ولا سيما وأهل الفن هم المقدمون في تحقيق شروطه وما يعتبر فيه، والفقهاء هم أقعد بمعرفة فن الفقه لا بمعرفة فن الحديث.
فأكثرهم لا خبرة لهم به. ولا يفرقون بين صحيحه وحسنه وضعيفه [1] بل قد لا يفرقون بين ما كان منه ثابتًا، وما كان موضوعًا كما نشاهد ذلك في مصنفاتهم، فابن دقيق العيد (1) قد روى عن المحدثين زيادة على ما روى عنهم الخطابي. والزيادة مقبولة، ولا مفاد لما تعقب به ذلك من المناقشة، ولكنه قد قال ابن الصلاح (2) في بعض مؤلفاته: إن
_________
(1) في الاقتراح (ص 186).
(2) في مقدمته (ص 10) والتقييد والإيضاح (ص 20).(4/1608)
الحديث الذي جمع بين اتصال السند، وعدالة النقلة والضبط، والسلامة من الشذوذ والعطلة القادحة هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف، فأفاد هذا أن ما جمع هذه الأمور صحيح بالإجماع. وذلك لا يستلزم أن الصحيح لا يكون إلا ما جمع ذلك عندهم، بل فيهم من يقول: إن الصحيح قد يكون موجودًا بوجود بعض هذه الأمور.
وأما زين الدين العراقي في شرح المنظومة (1) فقال بعد نقله لكلام بن الصلاح ما لفظه: وإنما قيد نفي الخلاف بأهل الحديث، لأن بعض متأخري المعتزلة (2) يشترط العدد في الرواية كالشهادة، حكاه الحازمي في شروط الأئمة (3) انتهى. ولا يخفاك أن إخراج بعض متأخري المعتزلة هو من قيد قوله: أهل الحديث، لأنهم ليسوا من أهل الحديث لا من قيد قوله بإجماع أهل الحديث، فإن المفهوم من إجماعهم أن بعضهم يقول بأن الصحة تثبت بدون ذلك. وقد تعقب الزين (4) كلامه السابق بنقل كلام ابن دقيق العيد (5) فقال: ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته: هو كذا وكذا إلى آخره؛ لكان حسنًا، لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعًا مانعًا. انتهى.
وهذا الكلام هو الصواب لا ما قاله العراقي (6) كما عرفت. ويؤيد ذلك ما تقدم نقله عن الخطابي (7) [2].
قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح (8) بعد نقله لكلام زين الدين السابق في التقيد بنفي الخلاف ما لفظه: قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر.
_________
(1) أي ألفية الحديث (ص 8).
(2) تقدم التعريف بها.
(3) (ص 113 - 114).
(4) في ألفية الحديث (ص 7 - 8).
(5) في الاقتراح (ص 187).
(6) في ألفية الحديث (ص 7 - 8).
(7) في معالم السنن (1/ 11).
(8) (ص 28) بتحقيقنا.(4/1609)
وعندي أنه لو لم يقيد نفي الخلاف بذلك كما فعل الشيخ تقي الدين (1) لكان صحيحًا.
ويحمل على إجماع الصحابة ومن بعدهم حتى حدث هذا الخلاف. انتهى.
قلت: هو مبني على أن المراد بالتقييد ما أشار إليه زين الدين العراقي، وقد عرفت أن خلافه الصواب، وإذا تقرر أن هذا حد للصحيح المجمع عليه لا لكل صحيح فما ذكره المتأخرون كزين الدين العراقي حيث يقول في منظومته (2):
فالأول المتصل الإسناد ... بنقل عدلٍ ضابط الفؤاد
عن مثله من غير ما شذوذ ... وعلة قادحة فتو ذي
وكذلك ما قال ابن حجر في النخبة (3) إنه خبر الآحاد بنقل عدل (4) تام الضبط (5)، متصل السند، غير معلل، ولا شاذ هو الصحيح لذاته. انتهى. هو الصحيح المجمع عليه لا كل صحيح، مع ما بين الكلامين من الاختلاف. فإن زين الدين (6) اشترط مجرد الضبط لا تمامه، ولم يذكر في شرح المنظومة ما يفيد أن المعتبر تمام الضبط، بل قال: ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه، لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش؛ استحق الترك، وإن كان عدلًا انتهى. وقال في موضع آخر من الشرح المذكور ما لفظه: وقولي: ضابط احتراز عما في سنده راو مغفل، كثير الخطأ، وإن عرف بالصدق والعدالة.
_________
(1) في كتابه "الاقتراح" (ص 187).
(2) (ص 5) أي في ألفية الحديث.
(3) (ص 54).
(4) العدل: قال ابن حجر في "النخبة" (ص 55): العدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة.
(5) والضبط: ملكة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه.
ضبط صدر: وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
وضبط كتاب: وهو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه وقيد بالتام إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك.
(6) (ص 5) أي في ألفية الحديث(4/1610)
ولا يخفى أن كثرة الخطأ وفحشه يخرجان من قيد مجرد الضبط، لأن من كان كثير الخطأ فاحشًا فيه لا يكون ممن حصلت له ملكة الضبط.
وأما من كان تام الضبط فينافيه وقوع الخطأ نادرًا، لأن قيد التمام يفيد ذلك. لا يقال: إن ضرورة النظم هي الملجية إلى إهمال قيد التمام، لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك؛ لذكر التمام في الشرح، متقرر بذلك أنه لا يعتبر تمام الضبط، بل مجرد الضبط بخلاف ابن حجر، فقد اعتبر في الحد المذكور تمام الضبط، وكذلك اعتبر زين الدين في نظمه السابق أن تكون العلة قادحة، ولم يعتبر ذلك ابن حجر في الحد المذكور، وإن كان قد ذكره في الشرح فقال: والمعلل لغة: ما فيه علة، واصطلاحًا: [3] ما فيه علة (1) خفية قادحة. انتهى. ولا يخفى أن إهماله لقيد قادحة في الحد يوجب الخلل فيه ولا ضرورة توجب ترك هذا القيد. فإن العلل منقسمة إلى قسمين: قادحة وغير قادحة كما هو معروف. فإن قيل: إنه اعتبر في الحد المعنى اللغوي كما يفيده كلامه المذكور.
فالكتاب إنما هو مدون لبيان الأمور الاصطلاحية، لا لبيان المعاني اللغوية. وأيضًا مما اختلف فيه حد زين الدين (2)، وحد ابن حجر أن ابن
_________
(1) العلة عبارة عن سبب غامض خفي قادح مع أن الظاهر السلامة منه، ويتطرق إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرًا، وتدرك بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنبه العارف على وهم بإرسال أو وقف أو دخول حديث في حديث أو غير ذلك، بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف، والطريق إلى معرفته جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، وكثر التعليل بالإرسال بأن يكون راويه أقوى ممن وصل، تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر، وقد تقع في المتن، وما وقع في الإسناد قد يقدح فيه وفي المتن. كالإرسال والوقف، وقد يقدح في الإسناد خاصة، ويكون المتن معروفًا صحيحًا ...
وقد تطلق العلة على غير مقتضاها الذي قدمناه، ككذب الراوي وغفلته وسوء حفظه، ونحوها من أسباب ضعف الحديث، وسمى الترمذي النسخ علة، وأطلق بعضهم العلة على مخالفة لا تقدح كإرسال ما وصله الثقة الضابط حتى قال: من الصحيح صحيح معلل كما قيل منه صحيح شاذ.
(2) انظر ألفية الحديث (ص 8).(4/1611)
حجر (1) صرح بأن ذلك حد الصحيح لذاته كما عرفت.
وقال في الشرح (2) لأنه "إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أولًا".
الأول: الصحيح لذاته.
والثاني: إن وجد ما يجبر ذلك القصور ككثرة الطرق فهو الصحيح أيضًا، لكن لا لذاته" انتهى. بخلاف زين الدين (3). فإنه جعل ذلك حدًا لمطلق الصحيح من غير تقييد بالصحيح لذاته، وكان بين الحدين المذكورين اختلافات ثلاثة. وقد وافق زين الدين السيد محمد بن إبراهيم في التنقيح (4) فذكر في حد الصحيح مجرد الضبط لا تمامه، وذكر العلة ولم يقيدها بالقادحة، وإنما نقل تقييد العلة ... بالقادحة عن ابن الصلاح (5) فإن قلت: وأي فائدة لما تعرضت له من ذكر الاختلاف بين الحد الذي ذكره العراقي، وبين الحد الذي ذكره ابن حجر؟ قلت فائدة ذلك أن تقف على اضطراب كلامهم في حد الصحيح، وعلى أن ما جمع تلك القيود هو المجمع عليه منه، وأنه قد يكون الحديث صحيحًا عند البعض مع عدم واحد منها أو اثنين. وقد صرح ابن حجر في النخبة (6) وشرحها بما يفيد ما ذكرناه فقال: "وتتفاوت رتبته أي الصحيح بحسب تفاوت هذه الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة، فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض، بحسب الأمور المقوية. وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة. والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه فمن الرتبة. [4] العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض
_________
(1) "شرح النخبة" (ص 54 - 55).
(2) أي شرح النخبة (ص 54 - 55).
(3) انظر ألفية الحديث (ص 8).
(4) (ص 27) بتحقيقنا
(5) في التقييد والإيضاح (ص 20).
(6) (ص 56).(4/1612)
الأئمة: أنه أصح الأسانيد:
كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.
ومحمد بن سيرين عن عبيدة السليماني عن علي.
وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود.
ودونها في الرتبة:
كرواية بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده، عن أبيه أبي موسى.
وكحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس.
ودونها في الرتبة:
كسهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.
وكالعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة؛ فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط إلا أن المرتبة الأولى فيهم من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها، وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة، وهي مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسنًا:
كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر.
وعمرو بن سعيد عن أبيه عن جده. وقس على هذه المراتب ما يشبهها. انتهى كلامه (1). وهو يفيد أن الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط وتمام العدالة إنما هو تعريف للأصح لا للصحيح. فقد يكون الحديث صحيحًا بدون قيد التمامية في الأمرين المذكورين، وهكذا السلامة من كل علة، فإنها رتبة للصحيح فوق رتبة ما هو سالم من العلة القادحة، لا من مطلق العلة، مع كونه صحيحًا. ومما يؤيد هذا أنه قد اتفق المصنفون في اصطلاح الحديث أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في البخاري، ثم ما في مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري،
_________
(1) أي كلام ابن حجر في شرح النخبة (ص 58).(4/1613)
ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة. فهذه سبع رتب للصحيح بعضها أعلى من بعض، فأفاد ذلك أن الصحيح أنواع لا نوع واحد، وقد وقع الاختلاف من علماء الحديث في شرط البخاري ومسلم ما هو؟ فقال محمد بن طاهر في كتابه في شروط الأئمة (1): شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور. قال العراقي (2) وليس ما قاله بجيد، لأن النسائي [5] ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما (3) وقال الحازمي في شروط الأئمة (4) ما حاصله: إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين من الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة، وإنه قد يخرج أحيانًا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة. وإن شرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية.
وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوايل الجرح، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة في ثابت البناني وأيوب. وقال النووي (5) "إن المراد بقولهم على
_________
(1) (ص 86): وتمامه "من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلًا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن إلا راوٍ واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه ... ".
(2) في ألفيته (ص 21 - 22).
(3) قال السيوطي في "تدريب الراوي" (1/ 125): وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما، ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين ونقل عن ابن حجر جوابًا آخر حيث قال: قال شيخ الإسلام: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك، وإن نقله عن متقدم فلا. قال: ويمكن أن يجاب بأنه ما قاله ابن طاهر - في شروط الأئمة (ص 8) - هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجع يقوم مقامه.
(4) (ص 151).
(5) في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/ 3):(4/1614)
شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما، لأن ليس لهما شرط في كتابيهما، ولا في غيرهما" قال العراقي (1) وقد أخذ النووي هذا من كلام ابن الصلاح (2). قال وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلًا، ثم يعترض عليه بأن فيه فلانًا ولم يخرج له البخاري. وكذلك فعل الذهبي في مختصر (3) المستدرك. قال: وليس ذلك بجيد منهم. فإن الحاكم صرح في خطبة كتاب (4) المستدرك بخلاف ما فهموه عنه. فقال: وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما. فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم, ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث. وإنما يكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها وفيه نظر انتهى.
أقول: وعلى كل تقدير فليس التصحيح لما في الصحيحين إلا لكون الرواة من الثقات. وقد عرفت أنهما أعلى مراتب الصحيح مع ما تقدم من أن في رجالهما من قد تكلم فيه بجرح، وهكذا تصحيح من صحح من الأئمة لوجود شرطهما أو أحدهما لا مستند له إلا كون رجال إسناد الحديث الذي صححه موجودين في الصحيحين، أو في أحدهما، أو مماثلين لمن فيهما [6].
فهذا التصحيح بأمرين من تلك الأمور السابقة: أحدهما اتصال السند. والثاني ثقة الراوي، وهذا هو عين ما قاله الخطابي في معالم السن (5) حسبما نقلناه عنه سابقًا ولا يخفى عليك أن قد قدمنا أن قد اتفق أهل الاصطلاح على أن مراتب الصحيح سبع، وقد دار الصحيح في ست منها على مجرد اتصال السند، وكون الرواة ثقات، ولم يبق من
_________
(1) في ألفيته (ص 22).
(2) وتمام العبارة. فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال: إنه أودعه ما رآه على شرط الشيخين، فقد أخرجا عن رواته كتابيهما إلى آخر كلامه ..
(3) مع المستدرك (1/ 3).
(4) في المستدرك (1/ 3).
(5) (1/ 11).(4/1615)
رتب الصحيح إلا رتبة واحدة، وهي السابعة، وذلك ما صرح بصحته إمام من أئمة الحديث وإذا كانت جميع مراتب الصحيح إلا واحدة منها دائرة على مجرد اتصال السند، وثقة الراوي، فكيف يستنكر من إمام من أئمة الحديث أن يصحح حديثًا بهذين الأمرين فقط إذا تتبع السند فوجدهم ثقات اتصلت أسانيدهم! وإن لم يكونوا من رجال الصحيحين، ولا مماثلين لهم، ويكون هذا النوع السابع ملحقًا بالأنواع الستة المتقدمة.
فإن قلت: ما كان في الصحيحين أو على شرطهما أو أحدهما فيبعد كل البعد أن يكون فيه شذوذ أو علة. قلت: وهكذا يبعد كل البعد أن يصرح إمام من أئمة الحديث المعتبرين بأن الحديث صحيح لاتصال سنده، وثقة رجاله، ويخفى عليه أن فيه شذوذًا أو علة.
هذا على فرض أن السلامة من الشذوذ والعلة لا يكون الحديث صحيحًا إلا بها.
وقد عرفت بما أسلفنا أن ذلك إنما هو شرط الصحيح المجمع عليه، لا شرط كل صحيح ومع هذا ففي كون المجمع على صحته هو المستجمع لجميع الأمور المذكورة في حد العراقي، وابن حجر، وغيرهما من المتأخرين، لا ما لم يكن جامعًا لها إشكال، وبيانه أنه قد صرح زين الدين العراقي في شرح الألفية (1) أن ما في [7] الصحيحين مقطوع بصحته، وروي ذلك عن ابن الصلاح قال: قال ابن الصلاح (2) والعلم اليقيني النظري واقع به، بالقطع بالصحة، خلافًا لمن نفى ذلك محتجًا بأنه لا يفيد إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ.
قال ابن الصلاح (3): وقد كنت أميل إلى هذا، وأحسبه قويًا، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولًا هو الصحيح، لأن ظن المعصوم لا يخطئ. وقد سبقه إلى ذلك محمد بن طاهر المقدسي، وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف، ورجحه النووي وعزاه إلى المحققين والأكثرين. ورجح ذلك الحافظ ابن الوزير (4) وقال: إن جميع ما فيها
_________
(1) (ص 24).
(2) في "علوم الحديث" (ص 28).
(3) في "علوم الحديث" (ص 28).
(4) تنقيح الأنظار (ص45).(4/1616)
صحيح متلقى بالقبول. انتهى.
فعلى هذا قد وقع الإجماع على حجة ما في الصحيحين، فهما من الصحيح المجمع عليه، مع أنه لا طريق إلى التصحيح إلا مجرد اتصال السند، وثقة الرواة.
قال السائل كثر الله فوائده: وفيه إشكال يعني فيما قدم ذكره من أن بعض الحفاظ يصحح الحديث بمجرد كون رجاله ثقات قال: لأن رسم الصحيح مشتمل على خمسة أمور: عدالة ناقليه، وتمام ضبطهم، واتصال سندهم، وأن لا يكون الحديث شاذًا، ولا له علة قادحة وقد وقع الخلاف في وصف العلة بكونها قادحة، والظاهر أنه لا بد منها وتكلموا على العلل القادحة، وعلى أن العلل لا يدركها إلا الأفراد من الحفاظ الجامعين للطرق، وحفظ المتون، وعلى أن علم العلل من أغمض أنواع علوم الحديث (1) وأدقها وأشرفها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهمًا ثابتًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، وأنه قد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة (2)
_________
(1) قال السيوطي في تدريب الراوي (ص 224): (وهذا النوع من أجلها) أي أجل أنواع علوم الحديث وأشرفها وأدقها، وإنما (يتمكن من أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب) ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل كابن المديني، وأحمد، والبخاري، ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني.
وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث (112): وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، والحجة في التعليل عندنا بالحفظ والفهم والمعرفة لا غير.
(2) قال ابن مهدي: في معرفة علم الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك وقيل له أيضًا: إنك تقول للشيء: هذا صحيح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد وهذا بهرج، أكنت تسأل عن من ذلك أو نسلم له الأمر؟ قال: بل أسلم له الأمر قال: فهذا كذلك، لطول المجالسة والمناظرة، والخبرة.
وسئل أبو زرعة: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة. فأذكر علته ثم تقصد ابن وارة يعني محمد بن مسلم، وتسأله عنه؛ فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا؛ فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة؛ فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم، فقال أشهد أن هذا العلم إلهام. وانظر: معرفة علوم الحديث (ص 113).(4/1617)
على دعواه كالصيرفي، إلى غير ذلك مما يفيد أن العلل أمر لا يدركه إلا الأفراد. انتهى أقول: قد تقررنا فيما سبق أن الحديث المشتمل على الأمور الخمسة هو الصحيح المجمع عليه، لا أنه يعتبر ذلك في كل صحيح، وأيدنا ذلك بنقل كلام الخطابي، [8] وابن دقيق العيد، وبنقل كلام الحافظ ابن حجر. إن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره. وبنقل كلامه أيضًا أن الصحيح أنواع: بعضها أعلى من بعض، وبما ذكرناه من أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في أحدهما ثم ما هو على شرطهما، ثم شرط أحدهما، وبينا أنه لا شرط لهما إلا مجرد كون الرجال ثقات، والسند متصل، ولمجموع هذا يعرف أنها لم تتفق كلمة أهل الحديث على اشتراط الأمور الخمسة التي ذكرها السائل -أدام الله فوائده- حتى يرد الأشكال على تصحيح من صحح بمجرد كون الرجال ثقات والسند متصل، بل ذلك هو مذهب جماعة منهم، بل مذهب القدماء منهم، بل لم يعتبر في الرتب التي للصحيح إلا ذلك لما قدمنا أنها سبع، وأن ستًا منها دائرة على شرط الشيخين ورجالهما، وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما، أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا مجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات كما سبق تقريره غير مرة. بل قد أسلفنا عن أئمة الحديث أن في رجال الصحيحين من لم يسلم من غوائل الجرح، وأن البخاري يخرج حديث الطبقة العالية (1).
وقد يخرج حديث الطبقة التي تليها. ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث الطبقة الثالثة، مع أن في هؤلاء جماعة ضعفاء مشهورين، بل جزم جماعة من الحفاظ بأن معلقات البخاري (2) إذا أوردها بصيغة الجزم كقوله: قال فلان. أو روى فلان من جملة
_________
(1) انظر: شروط الأئمة (ص 151) تدريب الراوي (1/ 75).
(2) عرف ابن حجر التعليق في الجامع الصحيح، فقال: "هو أن يحذف من أول الإسناد رجلًا، فصاعدا معبرًا بصيغة لا تقتضي التصريح بالسماع. مثل قال، وروى، وزاد، وذكر، أو يروى ويذكر، ويقال، وما أشبه ذلك من صيغ الجزم والتمريض" اهـ.
فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين:
- أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولًا.
وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقًا.
فالأول: يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج، واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار، خشية التطويل.
والثاني: وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فإنه على صورتين:
- إما أن يورده بصيغة الجزم.
- وإما إن يورده بصيغة التمريض.
فالصيغة الأولى: يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لأنه لا يستجيز أن يجزم عنه بذلك، إلا وقد صح عنده عنه.
فإذا جزم به عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عن الصحابي عنه فهو الصحيح، أما إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابي؛ فلا يحكم بصحة الحديث مطلقًا، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق.
1 - \ إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراد هذا مستوفي السياق، ولم يهمله، بل نبه عليه فأورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار.
مثال ذلك: ما علقه في كتاب الجزية (58) في باب إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا رقم: (11) فإنه ترجم ببعض ما ورد في الحديث وهو قوله "صبأنا" ولم يورده موصولًا في الباب، واكتفى بطرق الحديث التي وقعت هذه اللفظة فيه.
2 - \ وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه، وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه عن شيخه مذاكرة، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه.
فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة وقال عثمان بن الهيثم أبو عمر، ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام الحديث بطوله
وأوردها في موضع أخرى منها في فضائل القرآن، وفي ذكر إبليس ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه.
الصيغة الثانية: وهي صيغة التمريض فما علق بها لا تغير الصحة عن المضاف إليه لأن مثل تلك العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضًا، قال ابن الصلاح: "لكن لا تحكم على ذلك بأنه ساقط جدًا لإدخاله إياه في الكتاب الموسوم بالصحة قال ابن الصلاح: فإيراده في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه.
- والتعاليق التي أوردها بهذه الصيغة، فمنها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما أورده في موضع آخر من جامعه، ومنها ما لم يورده.
- فما أورده في جامعه فهو صحيح على شروطه، لكنه قليل، وإنما علقه بصيغة التمريض، لكونه رواه بالمعنى أو اختصره.
- مثاله قوله في كتاب مواقيت الصلاة، ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند صلاة العشاء، فأعتم بها، وقد وصله في باب فضل العشاء، من نفس الكتاب، ولفظه فيه، فكان يتناوب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عند صلاة العشاء، كل ليلة نفر منهم .. الحديث.
قال الحافظ: وإنما علقه بصيغة التعريض لإيراده بالمعنى، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل، وأجاب به على من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين، وحاصل الجواب أن صيغة الجزم تدل على القوة، وصيغة التمريض لا تدل، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض، بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى وكذا الاقتصار على بعضه، لوجود الاختلاف بجوازه، وإن كان المصنف - ابن حجر في فتح الباري (2/ 46) - يرى الجواز.
انظر تعليق التعليق (1/ 295 - 297).
فائدة: المعلق في صحيح البخاري كثير جدًا، ففيه من التعاليق ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون، وأكثرها مخرج في أصول متونه، والذي لم يخرجه مائة وستون حديثًا قد وصلها الحافظ ابن حجر في تأليف مستقل سماه "التوفيق" وفيه من التنبيه على اختلاف الروايات ثلاثمائة وأربعة وثمانون.
وله في جميع التعاليق والمتابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سماه "تعليق التعليق" واختصوه بحذف أسانيده، وسماه التشويق إلى وصل المهم من التعليق.(4/1618)
المحكوم بصحته كما صرح بذلك زين الدين العراقي في منظومته (1) وشرحها. قال في تعليل ذلك: لأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك عنه إلا وقد صح عنده عنه. انتهى وهذا لم
_________
(1) (ص 26).(4/1620)
يتصل سنده من البخاري إلى الصحابي، بل من موضع التعليق فقط، وهو يدل على أنه يسوغ التصحيح وإن لم يتصل السند، كما في معلقات البخاري المجزومة [9] لا المروية بصيغة التمريض نحو أن يقول: يذكر، أو يروى، أو نحو ذلك مع أن ابن الصلاح (1) قد قال في مثل ذلك: إن إيراد البخاري له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه. انتهى.
وهذا من أعجب ما يحكى حيث يورد المعلق بصيغة ممرضة كأن يقول مثلًا: ويروى عن ابن عباس، أو يذكر عن ابن عباس لم يحكم بصحة ذلك مع أنه لم يكن بينه وبين
_________
(1) في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح لزين الدين العراقي (ص 34).
قال زين الدين العراقي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح (ص40 - 41) قوله مثل قول البخاري باب ما يذكر في الفخذ، ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. "الفخذ عورة" ا هـ.
اعترض عليه بأن حديث جرهد صحيح، وعلى تقدير صحة حديث جرهد ليس على المصنف رده لأنه لم ينف صحته مطلقًا، لكن نفى كونه من شرط البخاري فإنه لما مثل به - يعني ابن الصلاح - قال: فهذا قطعًا ليس من شرطه على أنا لا نسلم أيضًا صحته لما فيه من الاضطراب في إسناده، فقيل عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه عن جده وقيل عن زرعة عن جده ولم يذكر أباه، وقيل عن أبيه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يذكر جده، وقيل عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن أبيه عن جده، وقيل عن زرعة بن مسلم عن جده ولم يذكر أباه، وقيل عن ابن جرهد عن أبيه ولم يسمه، وقيل عن عبد الله بن جرهد عن أبيه.
وقد أخرجه أبو داود وسكت عليه - رقم: (4014) والترمذي من طرق وحسنه - رقم: (2798) وقال في بعض طرقه: وما أرى إسناده بمتصل.
وقال البخاري في صحيحه: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط.
وقال الحافظ في الفتح (1/ 479): وقد وصل المصنف - البخاري - حديث أنس في الباب - رقم: 371 - وقوله "حديث أنس أسند" أي أصح إسنادًا، كأنه يقوله حديث جرهد ولو قلنا بصحته فهو مرجوح بالنسبة إلى حديث أنس، وقوله (حديث جرهد) أي وما معه (أحوط) أي للدين، وهو يحتمل أن يريد بالاحتياط الوجوب أو الورع وهو أظهر ..(4/1621)
الصحابي رجال ثقات من الأصل، فضلًا عن اتصال وضبط وسلامة من شذوذ وعلة، وهذا كثير في صحيح البخاري كقوله: ويروى عن ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الفخذ عورة" فكيف يستنكر على حافظ من حفاظ الحديث الحكم بصحة حديث باتصال سنده، وثقة رجاله مع أنه قد تقدمه من يقول بصحة حديث بلا إسناد كما ذكرناه في بعض معلقات البخاري! بل صرح جماعة من المحدثين أن المرسل إذا أرسله آخر من طريق أخرى كان من جملة الصحيح، مع كون في سنده من لا يعرف حاله، ولا صفته. وقد روى ذلك ابن الصلاح عن الشافعي، واختاره، وتابعه العراقي واستدرك عليه استدراكًا يرجع إلى تصحيح العبارة لا إلى المخالفة وما ذكره السائل - كثر الله فوائده - في تعظيم علم العلل ناقلًا لذلك عن الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (1) فأقول: الحافظ ابن حجر قال قبل هذا الكلام الذي نقله السائل - عافاه الله - في قسم المعلل في النخبة وشرحها ما لفظه: ثم الوهم وهو القسم السادس، وإنما أفصح به لطول الفصل إن اطلع عليه، أي على الوهم بالقرائن الدالة على وهم راويه من وصل مرسل، أو منقطع، أو إدخال حديث في حديث، أو نحو ذلك من الأشياء القادحة، وتحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع، وجمع الطرق، وهذا هو المعلل، وهو من [أغمض] (2) أنواع علوم الحديث ثم ذكر ما ذكره السائل - عافاه الله - ولا يخفى عليك أن ما ذكره من وصل المرسل والمنقطع وما بعده هو لا يقع من الثقة إلا نادرًا، والأصل عدم هذا النادر.
فإذا وجدنا الحديث قد اتصل إسناده برجال ثقات كان الواجب عليها حمل الاتصال على الوجه الذي أخبر به الثقة، [10] وصدور الوهم منه مع كونه ثقة خلاف الأصل والظاهر، لأن تلك العلل بأسرها أعم من أن تكون قادحة أو غير قادحة هي صادرة عن مجرد الوهم من غير تعهد، والثقة لا يهم إلا نادرًا، والنادر لا اعتبار به كما سلف.
_________
(1) (ص 89).
(2) في المخطوط "أعظم" وما أثبتناه من النخبة.(4/1622)
لا يقال: إن الوهم قد يكثر لأنا نقول المفروض أنه ثقة أي حافظ عدل، ومن كان كثير الوهم ليس بثقة، فإن قيل: قد دخل الاحتمال في حديث الثقة بتجويز وقوع الوهم منه في النادر فلا يؤخذ بحديثه إلا بعد العلم بأنه لا وهم فيه. قلنا: هذا يسري إلى كل حديث صحيح، سواء كان في الصحيحين أو في غيرهما، لأن هذا التجويز لا يرتفع لمجرد قول بعض الحفاظ أنه لا وهم من رجال إسناده لين غير هذا الحافظ، ممن هو أحفظ منه أو أكثر ممارسة لرجال هذا الحديث بخصوصه قد يطلع على ما لا يطلع عليه ذلك الحافظ، لا سيما مع ما تقدم من كون هذا النوع في غاية الغموض والدقة. وحينئذ لا يجوز الجزم بصحة حديث حتى يتفق الحفاظ على أنه لا وهم فيه بوجه من الوجوه، وهم لم يتفقوا على ما في الصحيحين فضلًا عن غيرهما كما اشتهر من كلام أبي زرعة المعاصر للبخاري ومسلم، وكما اشتهر من كلام ابن حزم أن في الصحيحين حديثين موضوعين، وكما قدمنا نقله من أن في رجالهما من هو ضعيف.
وقد تعرض بعض الحفاظ لتعداد الضعفاء فيهما فبلغوا في البخاري (1) عددًا،. . . .
_________
(1) "يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل تعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة عنها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة؛ يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.
قلت ابن حجر - فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح.
وقد سرد ابن حجر أسماء من طعن فيه من رجال البخاري مع حكاية ذلك الطعن والتنقيب عن سببه والقيام بجوابه والتنبيه عن وجه رده على النعت. . . ".
انظر ذلك كله في هدي الساري مقدمة فتح الباري (384 - وما بعدها).(4/1623)
وفي مسلم (1) أكثر من ذلك العدد على اختلاف في مقدار العدد بين الحفاظ.
وقد
_________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (1/ 25): عاب عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله - في صيانة مسلم (94 - 95):
أحدهما: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عنده ولا يقال الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب.
الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلًا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو الزيادة؛ فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح؛ منهم مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين.
الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.
الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن في ذلك.
وقال ابن القيم في زاد المعاد (4/ 278) مجيبًا من عيب على مسلم من إخراجه حديث من تكلم فيه ما نصه: "ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به، ولم يكن منكرًا، ولا شاذًا".
انظر: الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح وأثره في علوم الحديث (2/ 430 - 433) وصيانة صحيح مسلم (ص 94 - 96) لابن الصلاح.(4/1624)
استدرك الدارقطني، وهو الحافظ الذي لم يكن له نظير على الشيخين في مواضع كثيرة حكى ذلك الشارحون لها، وبهذا يتقرر أن نوع المعلل الذي منشؤه الوهم لا يرتفع عن الحديث الذي قد صححه إمام من أئمة الحديث، أو إمامان، أو ثلاثة أو أكثر، لجواز أن يكون فيه علة لا يعرفها إلا من هو أحفظ منهم، وأتقن. ولا يمتنع أن يبعث الله في زمن متأخر من هو أحفظ من أهل الأزمنة المتقدمة، فإن ابن خزيمة المعروف بإمام الأئمة قد شهد له [11] جماعة بأنه أحفظ ممن تقدمه، وكذلك الدارقطني مع تأخر زمنه قد شهد له جماعة بأنه أحفظ ممن تقدمه، وكذلك ابن عساكر، وابن السمعاني، والسلفي قد شهد لهم جماعة بأنهم أحفظ ممن تقدمهم، مع أنهم من أهل القرن السادس. فليس تقدم العصر دليلًا على أن أهله أحفظ ممن بعده وأعرف بالعلل. ولا يزال هذا التجويز كائنًا إلى انقطاع الدنيا وحضور القيامة، فلا يتم تصحيح حديث حتى ينقرض العالم لجواز أن يوجد الله من هو أرفع طبقة ممن تقدمه فيطلع على علل لم يعرفها من هو دونه ممن صححه.
وإذا تقرر هذا فلا بد من المصير إلى أحد أمرين: إما الرجوع إلى أنه لا اعتبار بما يندر من وهم الثقات، وأنه يسوغ التصحيح بوجود مستنده، وهو اتصال السند، وثقة رجاله، مع اعتبار الأصل والظاهر القاضيين بعدم وجود شذوذ وعلة قادحة، أو الرجوع إلى أمر آخر، وهو أن الإمام الذي جزم بصحة الحديث مستندًا إلى كون رجاله ثقات وسنده متصل يبعد كل البعد أن يطلق التصحيح مع وجود علة قادحة أو شذوذ، وأنه لا يطلق ذلك إلا بعد البحث الكامل. قال السائل - كثر الله فوائده: فإذا وقف الإنسان(4/1625)
على توثيق رجال سند في كتاب من كتب الرجال، أو منقولًا عن بعض أئمة الحديث، فغاية ما حصل بيده عدالة الراوي، فأين بقية القيود المعتبرة في الصحيح؟ وإن سلم أن الثقة لا يطلقونه إلا على من جمع بين العدالة وتمام الضبط كما أفدتم، فأين بقية القيود على الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة؟ فإن فرض أن في السند ما يدل على الاتصال، أو في كتب الرجال بقي الكلام في السلامة من الشذوذ والعلة وما قيل إن الشذوذ والعلة نادران فندورهما لا يصح معه الحكم بالصحة كما لا يخفى، لا سيما ومعرفة الشاذ (1) لا يكون إلا بحفظ تام، وكذلك معرفة العلة وأما الحكم بالصحة لمجرد
_________
(1) الشاذ هو عند الشافعي وجماعة من علماء الحجاز: ما روى الثقة مخالفًا لرواية الناس إلا أن يروي ما لا يروي غيره، قال الخليلي: والذي عليه حفاظ الحديث، أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غيره، فما كان من غير ثقة فمتروك، وما كان من ثقة توقف فيه، ولا يحتج به، وقال الحاكم: هو ما انفرد به ثقة، وليس له أصل بمتابع.
وما ذكراه مشكل بأفراد العدل الضابط كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" والنهي عن بيع الولاء وغير ذلك مما في الصحيح، فالصحيح التفصيل: فإن كان بتفرده مخالفًا أحفظ منه وأضبط، كان شاذًا مردودًا وإن لم يخالف الراوي، فإن كان عدلًا حافظًا موثوقًا بضبطه؛ كان تفرده صحيحًا، وإن لم يوثق بضبطه، ولم يبعد عن درجة الضابط كان حسنًا، وإن بعد؛ كان شاذًا منكرًا مردودًا، والحاصل أن الشاذ المردود: هو الفرد المخالف والفرد الذي ليس في رواته من الثقة، والضبط ما يجبر به تفرده.
تدريب الراوي في شرح تقريب النووي (1/ 204 - 205).
انظر: معرفة علوم الحديث (ص 119).
والشاذ أدق من المعلل بكثير؛ فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب، ورسوخ القدم في الصناعة، ولعسره لم يفرده أحد بالتصنيف، ومن أوضح أمثلته ما أخرجه في المستدرك - (2/ 493) - من طريق عبيد بن غنام النخعي عن علي بن حكيم عن شريك، عن عطاء بن السائب عن أبي الصخر عن ابن عباس قال: في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، "وقال: صحيح الإسناد، ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي قال: إسناد صحيح، ولكنه شاذ بمرة.
ذكره السيوطي في تدريب الراوي (1/ 207).(4/1626)
توثيق رجاله فلا يخلو عن وصمة، ولو كان مجرد نقل رجاله موجبًا لصحة السند لم يعرف أهل الحديث، فإنهم يقولون تارة: وسنده صحيح، بإسناد صحيح؛ وتارة يقولون: رجاله ثقات، ما ذاك إلا أن قولهم بسند صحيح ورجاله ثقات فرقًا، وقد وقفت على كلام للحافظ ابن حجر في حديث (1) العينة لما صحح ابن القطان حديثها قلت (2): وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا إلى آخر ما قاله (3). وهذا عين ما ندعيه، ولم أقف عليه والله إلا بعد شهور من الاستشكال، وفي التنقيح (4) في بحث إمكان التصحيح ذكر الضرب الأول، ثم الثاني، وهو أن لا ينص على صحة الحديث أحد من المتقدمين، ولكن يبين لنا رجال إسناده وعرفناهم من كتب الجرح والتعديل الصحيحة بنقل الثقات سماعًا أو غيره من طرق النقل (5)، فهذا وقع فيه خلاف لابن الصلاح، فهذا فيه أن يكفي في التصحيح
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم: (3462) والطبراني في "الكبير" (12/ 432 رقم: 13583) والبيهقي (5/ 316) وقد صححه الألباني في "الصحيحة" رقم: (11) بمجموع طرقه.
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".
رواه أبو داود من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال، ولأحمد (7/ 27 رقم: 4825 شاكر) نحوه من رواية عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان كما ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 19 رقم: 1181).
(2) أي ابن حجر في التلخيص (3/ 19 رقم: 1181)
(3) وتمامه: "لأن الأعمش مدلس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني فيكون من تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فيرجع إلى الحديث الأول وهو المشهور - يعني أن الإسناد الذي صححه ابن القطان هو: الأعمش عن عطاء عن ابن عمر، والإسناد الأول الذي يعنيه الحافظ هو: عطاء الخراساني عن نافع ابن عمر.
والحديث له طرق كثيرة عقد لها البيهقي في السنن الكبرى (5/ 316) بابًا وبين عللها.
(4) (ص 48).
(5) انظر تفصيل ذلك في تدريب الراوي (2/ 5 - 40).(4/1627)
معرفة رجال الإسناد، أي أنهم عدول تامو الضبط، متصل سندهم عمن رووا عنه إذا سلم تكفل كتب الجرح والتعديل بمعرفة الاتصال لكن تبقى السلامة من الشذوذ والعلة القادحة، فيحمل أنه مقيد بما ذكر في رسم الصحيح، وإلا كان مخالفًا لما تقدم. وقد يقال: إن السلامة من الشذوذ والعلة والاتصال ليس مجمعًا عليهما؛ فلا يرد الإيراد إلا على من اعتبر القيود جميعًا. أما من لم يعتبر إلا لبعض كالعدالة والضبط فلا يرد، فيصبح على قوله التصحيح مجرد كون رجاله ثقات، وهذا صحيح لو كان من يعتمد التصحيح بهذه الطريقة مخالفًا في هذه الشروط المعتبرة في الصحيح. نعم وكون الثقة هو العدل الضابط كما أفدتم وقفت على ما يؤيده من كلام ابن حجر (1) لما اعترض على الخطابي بأنه لم يشترط الضبط في الصحيح، إنما قال: الصحيح عندهم ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، فقال ابن حجر: قول الخطابي (2) عدلت نقلته مغن عن التصريح باشتراط الضبط، لأن المعدل من عدله النقاد، أي وثقوه. وإنما يوثقون من اجتمع فيه الضبط والعدالة معًا.
قلت: وفيه أنه ليس فيه إلا الضبط. والمعتبر في الصحيح تمام الضبط؛ فإن خف كان الحديث حسنًا، ووقفت على كلام للمولى الأمير - رضي الله عنه- (3) في ثمرات [13] النظر (4) بعد أن ساق كلامًا كثيرًا. قال: هاهنا فوائد كالنتائج والفروع.
الأولى: أن التوثيق ليس عبارة عن التعديل، بل إن الموثق اسم مفعول صادق لا يكذب، مقبول الرواية كما سمعت من توثيقهم من ليس بعدل، فالعدالة في اصطلاحهم أخص من التوثيق، انتهى.
وهذا مناقض لما ذكره ..................................
_________
(1) انظر "النكت على كتاب ابن الصلاح" (1/ 324).
(2) في معالم السنن (1/ 11).
(3) تقدم التعليق على استخدام هذا اللفظ.
(4) (ص 116 - 117). وهو ضمن (عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير) القسم الثالث: الحديث وعلومه. بتحقيقنا.(4/1628)
الحافظ (1) ابن حجر، فإنه يقتضي أنه التوثيق أخص من التعديل، فالمرجو من مولاي تحقيق هذا البحث، وكذلك هل ثم فرق بين قولهم: وسنده جيد، وبين قولهم: وسنده صحيح؟ وكذلك قولهم: وسنده قوي؟ وما المراد بالقوي والجيد؟ انتهى كلام السائل - كثر الله فوائده - وأقول: ما ذكره هاهنا من الكلام على اعتبار الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة قد عرف جوابه مما سلف، وما نقله عن ابن حجر (2) من أنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا فقد خالفه غيره ممن قدمنا ذكره. وما ذكره - كثر الله فوائده - من أنه لو صح التصحيح بمجرد كون الرجال ثقات لكان متوقفًا على كون من يصحح بذلك مخالفًا في الشروط المعتبرة في الصحيح.
ونقول: هو أيضًا مخالف كما أفاده ما قدمنا ذكره. ولنذكر هاهنا ما يدفع ما أشكل على السائل - عافاه الله - فإن محل إشكاله هو تصحيح من صحح بمجرد كون الإسناد صحيحًا، أو رجاله ثقات، فنقول: قال زين الدين العراقي في منظومته (3) الألفية:
والحكم للإسناد بالصحة أو ... بالحسن دون الحكم للمتن رأوا
واقبله إن أطلق من يعتمد ... ولم يعقبه بضعف ينتقد
قال في الشرح ما لفظه: أي ورأوا الحكم للإسناد بالصحة كقولهم: هذا حديث إسناده صحيح، دون قولهم: هذا حديث صحيح. وكذلك حكمهم على الإسناد بالحسن كقولهم: إسناد حسن دون قولهم حديث حسن لأن قد يصح الإسناد لثقة رجاله ولا يصح الحديث لشذوذ أو علة.
قال ابن (4) الصلاح: غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: [14] إنه صحيح الإسناد، ولم يذكر له علة، ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في
_________
(1) لم أعثر على هذا اللفظ. وانظر "النكت" (1/ 274).
(2) في النكت (1/ 274).
(3) (ص 46).
(4) في التقييد والإيضاح (ص 58).(4/1629)
نفسه، لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر. قلت: وكذلك إن اقتصر على قوله: حسن الإسناد ولم يعقبه بضعف فهو أيضًا محكوم له بالحسن. انتهى كلام زين الدين العراقي في شرحه لألفيته، حاكيًا عن ابن الصلاح، ومقررًا له. فهذان إمامان معتبران وتابعهما على ذلك السيد محمد بن إبراهيم في التنقيح (1) فقال بعد أن نقل كلامهما المذكور هاهنا: قلت: هذا الكلام متجه؛ لأن الحفاظ قد يذكرون ذلك لعدم العلم ببراءة الحديث من العلة لا لعلمهم بوجود العلة، ولهذا يصرحون بهذا كثيرًا فيقول أحدهم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم له علة، على أن الأصوليين والفقهاء أو كثيرًا منهم يقبلون الحديث المعلول كما سيأتي - إن شاء الله [تعالى]- انتهى. فهؤلاء ثلاثة من أئمة الحديث، ومعهم الأصوليون والفقهاء قد صرحوا بما هو موافق لما حررته وقررته سابقًا من تحكيم الأصل، والظاهر في أني لم أقف عليه إلا بعد أن فرغت من تحرير ما سلف. وقد ذكر زين الدين العراقي في شرح منظومته (2) الألفية في بحث حد الصحيح بعد أن نقل كلام الخطابي في حد الصحيح أنه ما اتصل سنده وعدلت نقلته. إن الخطابي (3) لم يشترط في الحد ضبط الراوي، ولا سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه، لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك، وإن كان عدلًا. وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في الاقتراح (4) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح.
قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء. انتهى ما نقله زين الدين العراقي في شرح ألفيته ولا يخفاك أن اعتراضه على الخطابي بأنه لم يشترط الضبط غير صحيح لما عرفت سابقًا، وقد خالفه هو
_________
(1) (ص 26).
(2) (ص 7).
(3) في معالم السنن (1/ 11).
(4) (ص 186).(4/1630)
في شرحه المذكور، وفي نظمه في الألفية المذكورة كما نقلناه قريبًا عنه، وانظر كيف استدرك بالشذوذ ثم لم يصرح بأنه لا بد من اعتبار ذلك، والعلة بل قال: وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال الشيخ تقي الدين (1) إلخ. وقد قدمنا نقل كلام الشيخ تقي الدين، واعترضناه بما سلف، فارجع إليه.
وأيضًا قد نقل السائل - عافاه الله - عن الحافظ ابن حجر (2) ما اعترض به على من اعترض كلام الخطابي، والمعترض هو زين الدين في كلامه هذا الذي نقلناه هاهنا. [15].
واعلم أن الثقة عند كثير من الحفاظ هو وصف لا يصدق إلا على أكابر الحفاظ المشهورين، ولا يصدق على كل رجال الصحيح، كما يفيد ذلك ما ذكره زين الدين العراقي في منظومته (3) وشرحها فقال في المنظومة:
وإن معين قال من أقول لا ... بأس به فثقة ونقلا
إن ابن مهدي أجاب من سأل ... أثقة كان أبو خلدة بل
كان صدوقًا خيرًا مأمونًا ... الثقة الثوري لو تعونا
قال في الشرح إن كلام ابن معين يقتضي التسوية بينهما، يعني ثقة ولا بأس به، لأن ابن أبي خيثمة قال: قلت ليحيى بن معين إنك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف، قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه.
قال ابن الصلاح: ليس في هذا حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث فإنه نسبه إلى نفسه خاصة بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم. قلت: ولم يقل ابن معين: إن قول ليس به بأس كقول ثقة حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين، إنما قال: إن من قال فيه هذا فهو ثقة، وللثقة مراتب، فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به وإن اشتركا في مطلق الثقة، والله أعلم.
ثم قال: إن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا أبو
_________
(1) (ص 186).
(2) النكت (1/ 274).
(3) (173 - 174).(4/1631)
خلدة فقيل له. أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقًا، وكان مأمونًا، وكان خيرًا، وفي رواية وكان خيارًا، الثقة شعبة وسفيان، فانظر كيف وصف أبا خلدة بما يقتضي القبول، ثم ذكر أن هذا اللفظ يقال لمثل شعبة وسفيان، ونحوه ما حكاه المروزي قال: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: تدري ما الثقة؟ إنما الثقة يحيى بن سعيد القطان، انتهى ما نقله العراقي. فتأمل كيف صرح هذان الإمامان الجليلان عبد الرحمن بن مهدي [16] وأحمد بن حنبل كيف جعلا الثقة اصطلاحًا لا يصدق إلا على من هو عندهما أرفع الناس رتبة في الدين والورع، وجودة الحفظ والمعرفة بالعلل، والإحاطة بجميع أنواع الحديث مع الإمامة المجمع عليها. ولعل عبد الرحمن بن مهدي (1) ذكر شعبة (2) وسفيان (3) لكونهما أعظم أئمة الحديث عنده. والأمر كذلك، فإن شعبة كان يقال إنه حفظ من مائتين، وكان يقال: إنه أمير المؤمنين في الحديث، وأما سفيان الثوري فهو الإمام الذي فاق من قبله، وأتعب من بعده واتفقت على إمامته كلمة الطوائف الإسلامية من أهل عصره ومن بعدهم، وهكذا أحمد بن حنبل؛ فإنه لما سئل عن الثقة أطلقه على يحيى بن سعيد القطان (4)، وهو إمام الجرح
_________
(1) هو الإمام الكبير والحافظ عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد العنبري مولاهم ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه.
من التاسعة مات سنة 198هـ.
تذكرة الحافظ (1/ 329) والتقريب "1/ 499).
(2) شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان عابدًا، من السابعة مات سنة 160.
التقريب (1/ 351).
(3) سفيان بن سعيد بن مروت الثوري - أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عالم إمام حجة من رءوس الطبقة السابعة، مات سنة 161 هـ.
التقريب (1/ 311).
(4) يحيى بن سعيد القطان التيمي أبو سعيد البصري ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار الطبقة التاسعة مات سنة 198هـ.
التقريب (2/ 348).(4/1632)
والتعديل، وحافظ الحفاظ، وإمام الأئمة، فهذا اصطلاح بينه إمامان من أئمة الحديث وحفاظه، وأئمة الجرح والتعديل، فإن عبد الرحمن بن مهدي كان الفرد الذي لا يلحق به في زمنه أحد من أهله، وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو الإمام الذي تتقاصر أقلام البلغاء عن التعبير بوصف يليق به، فإذا كان الثقة بشهادة هذين الإمامين الجليلين مع كون كل واحد منهما هو الرأس في زمنه، المرجوع إليه في جميع فنون الحديث لا يطلق إلا على مثل أولئك الأئمة الذين لو تفرق علم أحدهم وحفظه ومعرفته على ألف رجل لكانوا معدلين مقبولين، فكيف لا يكون الحكم من إمام من الأئمة المعتبرين بكون رجال الإسناد ثقات، وإسناده متصلًا كافيًا في كون ذلك الحديث صحيحًا، فإنه لا شك ولا ريب [17] أن الثقة بهذا الاصطلاح يكون حديثه أصح الصحيح لا صحيحًا فقط، وإنما أوردنا ما قاله هذان [الإمامان] (1) ليعلم المستفيد بمقدار هذه اللفظة، أعني ثقة عند أكابر الأئمة.
واعلم أنه لا بد أن يكون المخبر بكون رجال السند ثقات إمامًا من الأئمة المتبحرين في هذا الفن، المتمكنين من الإحاطة بما قيل في كل واحد من رجال الإسناد، القادرين على الترجيح عند تعارض التعديل والترجيح، العارفين بعلل الحديث على اختلاف أنواعها.
وهذه الأوصاف إنما يرزقها الله أفرادًا من عباده قد يوجد في كل طبقة منهم رجل، أو رجلان، أو ثلاثة، وقد لا يوجد في الطبقة أحد كما يعرف هذا من له إكباب على مطالعة تراجم أهل العصور المنقرضة، وأما من لم يرزق هذه الأوصاف فليس له أن يتقول بما لا يعلم، فيكذب على نفسه وعلى من يأخذ عنه، ويتلاعب بسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيصحح الباطل، ويبطل الصحيح، فإن هذا يدخل تحت الحديث (2) المتواتر: "من كذب
_________
(1) في المخطوط: الإمام والصواب ما أثبتناه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم: (108) ومسلم رقم: (2) من حديث أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم: (109) من حديث سلمة.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم: (110) ومسلم رقم: (3) من حديث أبي هريرة.(4/1633)
علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار" وتحت حديث: "من روى عني حديثًا يظن أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين" وهو في الصحيح (1)، ويغنيه عن هذا أن يرجع إلى المؤلفات الموضوعة في تراجم الرجال، وفي ما نقل عن أئمة الجرح والتعديل المعتبرين، فإن لذلك مؤلفات معروفة قد صنفها جماعة من الحفاظ، ونقلوا عن الأئمة الكبار ... ما يستغني به الباحث عن الحديث، فإنهم ألفوا مؤلفات في رجال الصحيحين، ثم في رجال جميع [18] الأمهات الست، وفي رجال غيرها مما يلتحق بها من المسانيد وغيرها، فذكروا ما قيل في كل رجل منهم من جرح وتعديل، ورجحوا بحسب الإمكان، ثم تكلموا على نفس الأسانيد التي رويت بها الأحاديث في جميع هذه الكتب المتقدمة وغيرها، وأبانوا حال كل إسناد ورجاله وما فيه من شذوذ وعلة، وأبانوا حال كل متن وطرقه، واختلاف ألفاظه، وزيادته ممن له فهم ومعرفة، وكتب يمكنه البحث عن حال كل حديث، والوقوف على كلام الأئمة المعتبرين فيه أمكنه أن يعرف حال الحديث الذي يريد معرفته، وقد صنفوا هذا الفن على كل مسلك يظن فيه أنه أقرب إلى تناول من يتناوله، فتارة يصنفون على أبواب الفقه، وتارة يجمعون حديث كل صحابي حتى يفرغون منه، ثم يتبعونه بحديث صحابي آخر. وتارة يجمعون متون الأحاديث على ترتيب حروف المعجم، فالحمد لله الذي قرب مسافات الاجتهاد للمتأخرين بما لم يكن مثله للمتقدمين. فإن الإمام من الأئمة المتقدمين كان يرحل للحديث الواحد أو لتفسيره، وفي الأزمنة المتأخرة صارت السنة جميعها مجموعة في الدفاتر مع تفسيرها وما يستفاد منها، والكلام على رجالها، وقد يضم إلى ذلك اختلاف الأئمة في المسائل المستفادة من
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 9 - مقدمة) عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حدث عني بحديث، يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".(4/1634)
الحديث، وذكر الراجح والمرجوح، كما يقع في كثير من شروح الحديث المبسوطة، فإن المطلع على شيء منها يستفيد جميع هذه الفوائد المذكورة بالوقوف على الحديث وشرحه في مصنف من المصنفات، حتى لا يحتاج بعده إلى غيره [19] وهذا معلوم لكل من له علم لا من لا علم له، فإنه لا يدري بشيء من هذا، وهو الجاني على نفسه بما أحرمها من العلم، كما تجده في غالب طلبة العلم في هذه الأزمنة. وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من أن العلامة الأخير محمد بن إسماعيل الأمير ذكر في مؤلفه المسمى بورقات (1) النظر إن التوثيق ليس عبارة عن التعديل، بل الموثق هو الصادق الذي لا يكذب، وإن كان غير عدل وإن العدالة في اصطلاحهم أخص من التوثيق، فأقول قد علم مما سبق من اصطلاح أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل أن الثقة لا يطلق إلا على مثل أولئك الأئمة، وعلم أيضًا من اصطلاح من بعدهم ما يخالف ما ذكره السيد - رحمه الله - وهذا ابن حجر وهو من حفاظ القرن التاسع يقول: إن الثقة هو العدل الضابط كما تقدم نقل ذلك عنه، ولا يصح أن يقال: إن السيد محمد أراد بيان المعنى اللغوي للثقة، لأنه قال في اصطلاحهم أي اصطلاح أهل الحديث: ولو كان ذلك بيانًا للمعنى اللغوي؛ لكان غير صحيح، فإن الثقة في اللغة (2) المؤتمن، والعدل (3) هو المستقيم في أموره المتوسط فيها، وهما مختلفان صدقًا ومفهومًا.
وأما في الاصطلاح فقد عرفت معنى الثقة (4). وأما العدل فهو اصطلاحا من حصلت له العدالة (5)، وهي ملكة في النفس يمنعها عن اقتراف الكبائر والرذائل، فالثقة أخص؛ لأن العدل مع زيادة الضبط، أو مع زيادة أنه إمام مقتدى به، متفرد في العلم والعمل.
_________
(1) أي كتابه " ثمرات النظر في علم الأثر" (116 - 117).
(2) لسان العرب (15/ 212).
(3) انظر لسان العرب (9/ 86).
(4) تقدم وانظر النخبة (ص55).
(5) تقدم وانظر النخبة (ص55 - 56).(4/1635)
فالحاصل أن العدل والثقة في اللغة يطلقان على الكافر كما يطلقان على المسلم إذا كانا متصفين [20] بذلك المعنى اللغوي.
وأما في الشرع فلا يصدقان إلا على ثقات المسلمين وعدولهم. فلا أدري ما وجه ما حكم به الأمير - رحمه الله - من أن العدل أخص من الثقة، وأن الثقة قد لا يكون عدلًا. ثم قال السائل - كثر الله فوائده -: هل ثم فرق بين قولهم: سنده جيد، وبين قولهم: سنده صحيح، وسنده قوي؟
أقول: قد صرحوا بما يفيد جواب هذا السؤال، فإنهم قالوا: إن قولهم جيد الحديث، أو حسن الحديث هو من المرتبة الرابعة من مراتب التعديل (1)، كما ذكر ذلك زين الدين العراقي (2)، فيكون على هذا جيد الحديث بمنزلة قولهم: حسن الحديث، وكذلك قولهم: إسناد جيد بمنزلة إسناد حسن، ولهذا قرن زين الدين العراقي بين جيد الحديث، وحسن الحديث، وجعلهما جميعًا من الألفاظ المستعملة في أهل المرتبة الرابعة.
ولعل قوي الحديث هو كجيد الحديث، لأن اللفظين جميعًا يستعملان في رجال الحسن، فهكذا يكون وصف الإسناد بالجودة كوصفه بالقوة، فظهر بهذا أن قولهم: جيد
_________
(1) مراتب التعديل:
المرتبة الأولى: وهي أعلاها شرفًا. مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
المرتبة الثانية: وهي أعلى المراتب في دلالة العلماء على التزكية، وهي ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة، أو عبر بأفعل التفضيل، كقولهم أوثق الناس وأثبت الناس، وأضبط الناس. وإليه المنتهى.
المرتبة الثالثة: إذا كرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت ... أو إعادة اللفظ الأول كقولهم، ثقة ثقة، ونحوها، وأكثر ما وجدوا قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار، وكان ثقة ثقة ثقة
إلى أن قاله سبع مرات.
المرتبة الرابعة: ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق: كثقة، أو ثبت أو ثبت أو متقن.
المرتبة السادسة: ما أشعر بالقرب من التجريح، وهي أدنى المراتب كقولهم ليس ببعيد من الصواب. أو شيخ أو يروى حديثه، أو يعتبر به، أو شيخ وسط، أو صالح الحديث.
انظر: مقدمة لسان الميزان (ص 215 - 216).
(2) في ألفيته (ص 171 - 172).(4/1636)
الحديث، وقوي الحديث، وإسناد جيد، وإسناد قوي هما دون قولهم: صحيح الحديث وإسناد صحيح، وإن الفرق ما بين الجودة والقوة، وما بين الصحة هو الفرق بين الحديث الصحيح والحسن، والإسناد الصحيح والحسن، والكلام في ذلك معروف.
انتهى تحرير الجواب في ليلة الأحد لعله خامس وعشرون شهر جمادى الآخرة سنة 1217. بقلم المجيب: محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -[21].(4/1637)
مناقشة للجواب - في البحث - السابق من القاضي العلامة:
محمد بن أحمد مشحم رحمه الله.
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(4/1639)
وصف المخطوط:
1 - العنوان: مناقشة للجواب السابق.
2 - موضوع المناقشة: في مصطلح الحديث.
3 - أول المناقشة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وآله الميامين، وقفت على ما حرره المولى العلامة الإمام المجمع على جلالته بين علماء الإسلام. . .
4 - آخر المناقشة: إذا شاهد المولى من العبد زلة فعادته عنها التغافل والصفح، نفع الله بعلومه المسلمين، ونصر بها سنة سيد المرسلين - اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وآله آمين. حرره في رجب سنة 1217 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (14) صفحة.
7 - المسطرة: (21 - 23) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.(4/1641)
ترجمة صاحب المناقشة: القاضي محمد بن أحمد مشحم.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جار الله مشحم الصعدي الأصل الصنعاني المولد والمنشأ.
ولد سنة 1186 هـ، وقرأ الفقه على السيد العلامة الحسين بن يحيى الديلمي والفقيه العلامة سعيد بن إسماعيل الرشيدي، وشيخنا العلامة أحمد بن محمد الحرازي، وولاه الإمام المنصور بالله القضاء الصنعاني بصنعاء.
قال الشوكاني في ترجمته في "البدر الطالع" رقم: (415) وكان قبل ارتحاله من صنعاء إلى تلك الجهة يكثر الاتصال بيننا، ويجري من المباحث العلمية في أنواع العلم أشياء كثيرة، وبيني وبينه مودة أكيدة. ومحبة زائدة وما زالت كتبه تصل من هنالك تارة بمسائل علمية وتارة بمطارحة أدبية.
ثم قال الشوكاني وأخذ عني فنون الحديث، ثم مرض مرضًا طويلًا وانتقل إلى رحمة الله في شهر رجب سنة 1223 هـ.
البدر الطالع رقم: (415) والضوء اللامع (7/ 39 رقم: 82) نيل الوطر (2/ 235).(4/1645)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وآله الميامين.
وقفت على ما حرر المولى العلامة الإمام المجمع على جلالته بين علماء الإسلام - حفظ الله معاليه، وأحمد مساعيه، وأسعد لياليه وأيامه، وأمضى في البسيطة أحكامه - فسرحت النظر في رياضه، وكرعت من معين حياضه، وبقيت في النفس أشياء أوردتها على سبيل الاستفسار، وتطفلت بها على هذه الحضرة السامية المقدار، سائلًا العفو عن الزلل، والصفح عن الخطأ والوجل الخطل، مع أني - والله - أوردت ما رددت الكلام فيه على شدة وجل من تكثير الكلام، وتكدير الخاطر الشريف، بما شملته هذه الأرقام، ولكني راجعت نفسي بأنها إن بقيت على ما جهلته، ولم يتبين الصواب؛ بقيت على جهل عظيم، لا يرتضيه أولو الألباب، فتجاسرت بإرجاع المذاكرة واتكلت على سعة الخاطر الكريم، ومحبته لإيضاح الحق بأي طرق التعليم، وتمثلت ما قيل:
في انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الحياء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فأقول: حاصل ما استشكله السائل أولًا:
التصحيح للحديث لمجرد وجدان ثقة رجال إسناده في كتاب من كتب الجرح والتعديل، أو النص من إمام على ثقتهم، مع أنهم اعتبروا في رسم الصحيح أمورا خمسة تضمنها قول النخبة (1) وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته. وكان يتصور لي في جواب هذا الإشكال أمران، الاتصال فالأصل عدم الشذوذ والعلة لندورهما، فيصح مع ذلك التصحيح لوجدان كون الرواة ثقات أو [1] النص من إمام على ثقتهم، لأن
_________
(1) انظر ألفية الحديث للحافظ العراقي (ص 7 - 8)، والاقتراح (ص 186)، التقييد والإيضاح (ص 20).(4/1647)
الحافظ إذا أطلق على هذا السند، كون رجاله ثقات، وكان له علة فيبعد أن لا يذكرها بأن يقول: رجاله ثقات وله علة مثلًا، وهذا قد يسلم فيما نص على ثقة رجاله حافظ.
إنما الشأن فيمن وقف في هذه الأزمان على ثقة رواة حديث في كتاب من كتب الجرح والتعديل، ولم يكن من أهل الحفظ والإتقان، حتى يعلم مخالفة راوي الحديث لمن هو أوثق منه، أو يعلم بعلة قادحة. أما من رزقه الله حفظًا واسعًا، وتمكنًا فلا فرق بينه وبين الأوائل إلا بتقدم العصور (1)
ولسنا - بحمد الله تعالى - ممن يفضل بتقدم العصر، ولكن
_________
(1) قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 16 - 17): إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثًا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصًا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان. فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها - لشهرتها - من التغيير والتحريف. . .
وخالفه النووي في التقريب (1/ 78 - 83) فقال: والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته.
وقال العراقي في ألفيته (22 - 23): وما رجحه النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحًا كأبي الحسن بن القطان والضياء المقدسي والزكي عبد العظيم ومن بعدهم.
وقال الحافظ ابن حجر "ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك التقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان".
وقد كتب السيوطي في هذه المسألة بحثًا خاصًا سماه:
"التنقيح لمسألة التصحيح" جنح فيه إلى التوفيق بين رأي ابن الصلاح ورأي من خالفه، وخرج مذهب ابن الصلاح تخريجًا حسنًا فقال: والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده.
وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان:
صحيح لذاته، وصحيح لغيره، كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح وغيره. والذي منعه ابن الصلاح، إنما هو القسم الأول دون الثاني كما تعطيه عبارته.
وذلك أن يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد لم تعد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة؛ لاتصاله وثقة رجاله، فيريد الإنسان أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعًا؛ لأن مجرد ذلك لا يكتفى به في الحكم بالصحة، بل لا بد من فقد الشذوذ، ونفي العلة، والوقوف على ذلك؛ لأنه متعسر بل متعذر؛ لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان الواحد منهم من تكون شيوخه التابعين أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة؛ فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرًا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة، فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثًا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته، لاحتمال أن يكون له علة خفية لم نطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان.
وأما القسم الثاني: فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنع من كان في عصره، ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته
وقال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82) والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله صحيح إن شاء الله.(4/1648)
الشأن في وجدان هذا الحافظ المتقن، مع أن معي وقفة فيما أطلق الحافظ على حديث ثقة رواته، ولم يذكر له علة، فإنه يحتمل أنه لم يجد له علة، ويحتمل أنه لم يبحث حتى يعلم أن له علة، أو لا علة له. وهذا هو ما أشرت إليه في السؤال بقولي: بقي الكلام في السلامة من الشذوذ والعلة، وما قيل إن الشذوذ والعلة نادران، يعني فيصبح مع ندورهما التصحيح، فندورهما لا يصح معه الحكم بالصحة انتهى.
وذلك لأن السلامة من الأمرين إذا كانت معتبرة فلا بد من التصريح بها، لأن عدم الأمرين معتبر، وأما إذا لم يحصل(4/1649)
التصريح بعد هذا فهو باقٍ على التجويز.
وذلك مناف لاعتبار السلامة في الحد. لا يقال أنه يجوز وجدان حافظ آخر لعلة لهذا الحديث، فلا يكون صحيحًا، لأنا نقول: فتح باب هذا التجويز يغلق باب التصحيح بالمرة. وإنما الواجب أن يبحث الحافظ فيصرح بأني لا أعلم له علة، وليس بشاذ، أو يصرح بالصحة، لأن تصريحه بصحة الحديث في قوة الإخبار بخمس جمل، وهو عدالة الناقلين، وتمام ضبطهم، واتصال سندهم، والسلامة من الشذوذ [2] والعلة.
ثم أيد ما كنت أفهمه من أن العلة والشذوذ وإن كانا نادرين؛ فلا يصح الحكم بالصحة، هذا ما قاله إمام الفن ابن حجر (1) أنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحًا.
والحاصل أن من وقف على توثيق بعض الحفاظ لرواة حديث. فقال: الحديث صحيح، فإما أن ينسب تصحيح إلى ثقة أو إلى ذلك الحافظ الذي نص على ثقة رواته.
إن نسبته إلى الحافظ، فقد نقول عليه ما لم يقله، وحمله ما لم يتحمله، فإنه إنما أخبر بعدالة الرواة وضبطهم لا غير. فيتحمل شذوذ الحديث أو وجود علة له. ويحتمل أن ذلك الحافظ قد بحث فلم يجده شاذًا ولا علة له، ويحتمل أنه لم يبحث. وإما أن ينسب تصحيحه إلى نفسه، فإن كان مع أهليته وقوة معرفته قد بحث حتى كان الحديث لديه تصحيحه إلى نفسه، فإن كان مع أهليته وقوة معرفته قد بحث حتى كان الحديث لديه سالمًا من العلة والشذوذ؛ فلا مانع له من التصحيح، وإن كان لم يقف إلا على مجرد توثيق الحافظ للرواة كما هي مسألة السؤال لم يجز له التصحيح، لأن من أجاز التصحيح (2) اشترط أهلية المصحح بأن يكون متمكنًا قوي المعرفة، وهذا الاشتراط إنما هو ليتمكن من معرفة علة الحديث، وسلامته من الشذوذ، وإلا فلا فائدة لهذا الاشتراط أصلًا، بل كل من وقف على توثيق رجال سند صحيح الحديث، سواء كان متمكنًا قوي المعرفة أولًا. وهذا شيء لم يقله أحد من أهل العلم إن شاء الله تعالى. فهذا الأمر الذي كان
_________
(1) تقدم قريبًا.
(2) انظر: منهج النقد في علوم الحديث (280).(4/1650)
يتصور لي في جواب هذا الإشكال.
الأمر الثاني: أن الحد المذكور ليس مجمعًا عليه من أهل العلم، وهذا أشرت إليه في السؤال بقولي: وقد يقال إن السلامة من الشذوذ والعلة ليس مجمعًا عليهما، فلا يرد الإيراد إلا على من اعتبر القيود جميعًا، أما من لم يعتبر إلا البعض كالعدالة والضبط فلا يرد، فيصح على قوله التصحيح لمجرد كون رجاله ثقات، وهذا صحيح لو كان من يعتمد التصحيح لهذه الطريقة مخالفًا في هذه الشروط المعبرة في الصحيح انتهى. وأنا إلى الآن لم أجد أحدًا من أهل الاصطلاح خالف في اشتراط الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. أما الضبط فإن الخطابي (1) وإن لم يشترطه فيما نقله [3] عن أهل الحديث. فقد رد عليه المحققون بأن لا بد من اشترط عندهم، بل وعند الأصوليين أيضًا. وتأول آخرون كلامه بدخول الضبط تحت عبارته، وقال بعضهم فيما وقفت عليه الآن: أن السلامة من الشذوذ داخلة تحت الضبط؛ لأن مخالفة الثقات منافية للضبط. قلت: وعلى هذا فيدخل تحت الضبط السلامة من العلل القادحة، لأن وجدانها في الحديث مناف لضبط راويه، ولكن في هذا كله نوع تكلف كما لا يخفى. وأما السلامة من الشذوذ والعلة فهما وإن لم يذكرا في الصحيح عند بعض المحدثين فذكر المعلل (2) والشاذ (3) من جملة الأقسام المنافية للصحيح مشعر بأنه يعتبر سلامته عنهما، لا سيما والعلل مقيدة بالقادحة.
وقد ذكر ابن دقيق العيد أن السلامة من الشذوذ والعلة زادها المحدثون في الحد، وهذه رواية عنهم مقبولة، وأيدها قول الزين في الألفية (4)، وأهل هذا الشأن قسموا السنن إلى صحيح، وسقيم، وحسن، ثم حد الصحيح بما نقله في الجواب - كثر الله فوائده - فإن ظاهره أن هذا الحد هو المعتبر عند أهل الحديث قاطبة، أو عند المعتبرين منهم، بحيث لو كان أحد المشاهير منهم مخالفًا في اعتبار - أي هذه الشروط - لم يصح للزين نسبته هذا
_________
(1) انظر معالم السنن (1/ 11).
(2) تقدم توضيح ذلك.
(3) تقدم توضيح ذلك
(4) (ص 7).(4/1651)
الحد إليهم، وكذلك الكتب المؤلفة في هذا الشأن، فإنها مصرحة باعتبار هذه القيود، وما منهم أحد صرح بأنه لا يعتبر في التصحيح إلا ثقة الرواة والاتصال فقط غير الخطابي.
وقد علم رده. فهذا تحقيق ما استشكله الخاطر السقيم في التصحيح، وإنما أعدته لأرتب عليه ما استشكلته في الجواب عنه، فإنه مع سعة فجاجه وتلاطم أمواجه بهرني مبدؤه، وحيرني منتهاه فأوجب تكرار المقال، وإنما "شفاء العي السؤال (1) ". ولا ريب أن ما كان رجاله ثقات معمول به، لأنه خبر أحادي يجب قبوله كما تقرر في الأصول.
إنما الكلام في كونه صحيحًا على مقتضى الاصطلاح الحديثي، ولا ملازمة بين [4] وجوب العمل بالحديث وصحته بالمعنى الاصطلاحي، وهذا ما استشكله السائل من الجواب. قوله - كثر الله فوائده - يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. لعل هنا سبق فلم، فإن كلام ابن دقيق العيد (2) إنما هو في السلامة من الشذوذ والعلة فقط. قوله كثر الله فوائده: ولكنه قد قال ابن الصلاح (3) - رحمه الله - في بعض كتبه إلى قوله بل فيهم من يقول: إن الصحيح قد يكون موجود بعض هذه الأمور لما خفي أن ظاهر كلام ابن الصلاح هو ما ذكره - كثر الله فوائده - ولكنه محتاج إلى تبين هذه الأمور التي يوجد الصحيح بدونها من هذه الأمور الخمسة، وتعيين من قال به من أئمة الحديث،
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم: (336) والبيهقي (1/ 228) والدارقطني (1/ 189 - 190) من حديث جابر بن عبد الله وله شاهدان:
الأول: عن ابن عباس أخرجه أبو داود رقم: (337) وابن ماجه رقم: (572) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 93 رقم: 464) بدون بلاغ عطاء.
أخرجه الحاكم (1/ 165) وقال حديث صحيح ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم: (201 - موارد) والدارمي (1/ 192).
الثاني: أخرجه الحاكم (1/ 178) والدارقطني (1/ 190).
والخلاصة أن حديث جابر حسن بشواهده
(2) في الاقتراح (ص 178).
(3) انظر التقييد والإيضاح (ص 20 - 21).(4/1652)
فإن هذا الكلام المنقول عنه لا يؤخذ منه مذهب لقائل فيسند إليه، ولا يعرف منه الشروط التي اعتبرها بعض المحدثين فيكون اصطلاحًا يمشى عليه؛ حتى يجاب السائل أن هذا التصحيح على رأي فلان وفلان. فإنهم لا يعتبرون في التصحيح الاتصال ولا السلامة من الشذوذ والعلة القادحة: وأما فهمه لزين (1) الدين والسيد الوزير - رحمهما الله - (2) في كلام ابن الصلاح فهو مجمل، لكن الظاهر في عبارته ما ذكره مولاي - حفظه الله - وأما ما نقله زين الدين (3) عن ابن دقيق العيد (4) - رحمه الله - من قوله: ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته: هو كذا وكذا؛ لكان حسنًا؛ لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعًا انتهى. فقد كان يظهر لي فيه أن ابن دقيق العيد أراد المجمع عليه بين الفقهاء، وأهل الحديث، فإنه قال أولًا: إن السلامة من الشذوذ والعلة زادها أصحاب الحديث، وفيهما نظر على مقتضى نظر الفقهاء. وقال آخر: إذ لو قيل في هذا إلخ لمعناه حينئذ إن هذا الحد للمجمع عليه بين المحدثين والفقهاء.
أما المحدثون فلاشتراطهم السلامة من الأمرين، وأما الفقهاء فإنهم لا يشترطونها لكن الحديث السالم عن الشذوذ [5] والعلة صحيح عندهم بالطريق الأولى، وهكذا عبارة الزين (5) مشعرة بهذا. فإن عقب مناقشة ابن دقيق العيد (6) باصطلاح الفقهاء بقوله: قلت قد احترزت بقولي قادحة عن العلل التي لا تقدح في صحة الحديث، فظاهر هذا أنه إنما زاد قادحة في الحد لتخرج العلل التي تعلل بها المحدثون غير جارية على أصول الفقهاء، فصار الحد بهذه الزيادة جامعًا بين اصطلاح المحدثين والفقهاء فإن العلل القادحة وإن كانت مجهولة في الحد لا يتصور من الفقهاء أن لا يعتبروا عدها في صحة الحديث كما لا يخفى.
_________
(1) في ألفيته (ص 7 - 8).
(2) في التنقيح (ص 25 - 26).
(3) في ألفيته (ص 8).
(4) في الاقتراح (ص 187).
(5) في ألفيته (ص 8).
(6) في الاقتراح (ص 187).(4/1653)
وأما ابن الصلاح فإنه وإن لم يذكر القادحة في الحد لكنه ذكر القادحة بعد سطر منه، فدل على اعتبارها عنده في الحد، فعرف بهذا أن هذا الحد للمجمع عليه بين الفقهاء والمحدثين. ثم كلام ابن دقيق العيد (1)، الذي ناقش به الحد مناقشة، وهو أنه نظر على اشتراط الشرطين على مقتضى نظر الفقهاء، ولم يذكر في مستند النظر إلا أمرًا واحدًا وهو قوله: فإن كثيرًا من العلل، وأما الشذوذ فلم يتعرض له. هل يجري التعليل به على أصول الفقهاء أو لا؟ إلا أن يقال: إنه قد يجعل الشذوذ من جملة العلل.
قوله حفظه الله: إذا تقرر أن هذا حد للصحيح المجمع عليه لا لكل صحيح.
أقول: لا سند لهذا الكلام فيما مر إلا كلام ابن الصلاح، وهو مع كونه محتملًا لما فهمه زيد الدين، والسيد من أن ذلك التقييد إنما هو لإخراج بعض المعتزلة، ولا استدلال بالمحتمل فيه ما ذكرته أولًا. وأما ما أيده به من كلام الخطابي (2) فقد قرر - كثر الله فوائده - أن رواية ابن دقيق العيد عن المحدثين زيادة مقبولة [6] وأما ما قاله ابن دقيق العيد (3)، من أن هذا حد للمجمع عليه فالظاهر أنه أراد بين الفقهاء والمحدثين كما يشعر به كلامه السابق.
قوله حفظه الله: مع ما بين الكلامين من الاختلاف، فإن زين الدين اشترط الضبط وابن حجر (4) اعتبر تمامه. أقول: كان يظهر لي أولا أن اعتبار ابن حجر لتمام الضبط زيادة رواها عن أهل الاصطلاح، والزيادة مقبولة كما قاله مولانا - دامت فوائده - فيما قاله ابن دقيق العيد (5)
ولكني راجعت كلامه فوجدته موافقًا للزين، فإنهما معًا متفقان على أنه يعتبر في الحسن الضبط، ولكنه دون رتبة ما يعتبر أنه في رواة الصحيح،
_________
(1) انظر الاقتراح (ص 187).
(2) في معالم السنن (1/ 11) ,
(3) في الاقتراح (ص 187).
(4) انظر النكت (1/ 235)، والنخبة (ص 62).
(5) في الاقتراح (ص 187).(4/1654)
فقد اتفقا على حصول أصل الضبط في الحسن، فالصحيح لا بد أن يكون المعتبر فيه من الضبط رتبة فوق أصله، فعبر عنها ابن حجر بتمام الضبط.
وقال في الحسن. فإن خف - الضبط أي قل فقد قابل بين تمام الضبط وقلته، فالمراد بالتام كثير الضبط، وكثير الضبط تتفاوت رتبه، ولهذا عقبه بقوله: وتتفاوت رتبه (1). وأما الزين (2) فإنه اعتبر في الصحيح الضبط، واعتبر في الحسن ما رجحه ابن الصلاح (3) من أنه قسمان:
الأول: الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلًا كثير الخطأ إلخ.
الثاني: أن يكون من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لا يبلغ درجة رواة الصحيح.
ولا يخفى أن القسمين المذكورين قد اعتبر فيهما من الضبط حصول أصله. فالمعتبر في الصحيح إذن رتبة فوق أصله، فغاية ما صنعه ابن حجر بيان المراد، وتهذيب الحد.
وعلى هذا لا مخالفة بين زين الدين وابن حجر من هذا الوجه، وهو الأول.
الوجه الثاني: وحق المخالفة التي أبداها - حفظه الله - قوله: وكذلك اعتبر زين الدين في نظمه السابق أن تكون العلة قادحة، ولم يعتبره ابن حجر، إن كان قد ذكره في الشرح فقال: والمعلل لغة ما فيه علة، واصطلاحًا ما فيه علة خفية [7] قادحة انتهى.
ولا يخفى أن إهماله لقيد قادحة في الحد يوجب الخلل فيه إلى قوله: لا بيان المعاني اللغوية. أقول: حد ابن (4) حجر، هو قوله: وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته، ولم يذكر فيه لفظ علة حتى يحتاج إلى وصفها بالقادحة، بل ذكر المعلل. والمعلل عندهم ما حرره في شرحه كما نقله - حفظه الله -،
_________
(1) في هامش المخطوط ما نصه: "ولو كان المراد بتام الضبط أعلى رتبة منه لما صح قوله. وتتفاوت رتبه كما لا يخفى."
(2) في ألفيته (ص 34 - 35).
(3) في التقييد والإيضاح (43 - 44).
(4) في النخبة (ص 55 - 56).(4/1655)
فلا يرد عليه أنه أهمل ذكر القادحة، لأنه اكتفى بلفظ المعلل اصطلاحًا كما اكتفى بالعدل، وتام الضبط والشاذ، وإلا لوجب ذكر حدود هذه جميعًا في حد الصحيح. وعلى هذا ففي حد ابن حجر زيادة على حد الزين - رحمهما الله -، وهي قوله: خفية. فإن الزين لم يذكر إلا قادحة، فلعل الزين اكتفى بالإطلاق لأنه لا بد في الصحيح من سلامته من الخفية والجلية. ومن اعتبر سلامته من الخفية فالجلية عنده من باب أولى.
قوله - كثر الله فوائده - وإنه مما اختلف فيه حد زين الدين وابن حجر أن ابن حجر صرح بأن ذلك حد الصحيح لذاته بخلاف زين الدين (1) فإنه جعل ذلك حدا لمطلق الصحيح من غير تقييد بالصحيح لذاته. فكان بين الحدين المذكورين اختلافات ثلاثة. أقول: لا خفاء أن حد الزين إنما هو للصحيح لذاته لا لأمر خارج، أما أولًا فإنه الذي ينصرف إليه لفظ الصحيح عند الإطلاق، وأما ثانيًا: فالصحيح لغيره قد ذكره فيما بعد بقوله:
والحسن المشهور بالعدالة ... والصدق راويه إذا أتى له
طرق أخرى نحوها من الطرق ... صححته كمتن لولا أن أشق
وهذا معنى قول ابن (2) حجر في الحسن، وبكثرة طرقه يصحح، فلا مخالفة من هذا الوجه. قوله كثر الله فوائده: وقد صرح ابن حجر بما يفيد ما ذكرناه فقال: وتتفاوت رتبه إلخ.
أقول إن كان المراد ما ذكره - حفظه الله -[8] من كون ما جمع القيود الخمسة هو الصحيح المجمع عليه بين المحدثين، وإنه قد يكون الحديث صحيحًا عند البعض مع عدم واحد منها أو اثنين، فلم يظهر لي أن هذا الكلام المنقول من النخبة يفيده، وقد عقب - حفظه الله تعالى - بكلام ابن حجر هذا بقوله: وهو أي كلام ابن حجر يفيد أن
_________
(1) في ألفيته (ص 7 - 8).
(2) في النخبة (ص62).(4/1656)
الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط وتمام العدالة إنما هو تعريف للأصح لا للصحيح، فقد يكون الحديث صحيحًا بدون قيد التمامية في الأمرين المذكورين، وهكذا السلامة من كل علة، فإنها رتبة للصحيح فوق رتبة ما هو سالم من العلة القادحة، لا من مطلق العلة مع كونه صحيحًا.
أقول الذي أفاد كلامه: أن الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط معتبر في الصحيح. ولكن التمام قابله بالعلة في حد الحسن، فالمراد به الكثرة ولا يخفى أن الكثرة متفاوتة فقال: إن ما كان في الدرجة العليا من العدالة والضبط كان أصح مما دونه، ثم قال: ودونها في الرتبة كرواية بريد بن عبد الله. ودونها كسهيل بن أبي صالح عن أبيه، ثم قال (1) فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط، وهذا قد يشعر بأن المعتبر إنما هو الضبط في حد الصحيح لا كثرته المعبر عنها بتام الضبط، لكن ما بعده بسطرين يبين أن المعتبر عنده الضبط، فإنه قال (2) وفي التي تليها يعني الرتبة الثانية من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة، وهي أي الثالثة مقدمة على رواية من بعد ما ينفرد به حسنًا انتهى.
ولا يخفى أن الذي يعد ما ينفرد به حسنًا لا بد فيه من اعتبار الضبط، وإنما هو أقل رتبة من رجال الصحيح، فقد تبين أن كلام ابن حجر يفيد أن المعتبر من الضبط في الصحيح فوق حصوله أصله. وهو التمامية التي عبر بها في متنه، وإلا لكان المعتبر في الحسن والصحيح نوعًا واحدًا من الضبط، وذلك باطل. ويبين من كلامه أيضًا أن الضبط أربع مراتب: الثانية والثالثة والرابعة في الصحيح [9] بأنواعه. والأولى منها في الحسن. قوله نفع الله بعلومه: مما يؤيد هذا أنه قد اتفق المصنفون أن الصحيح مراتب إلى قوله حفظه الله: وعلى كل تقدير فليس التصحيح لما في الصحيحين إلا لكون الرواة من الثقات وقد عرفت أيهما أعلى (3) مراتب الصحيح.
أقول قد تضمن هذا الكلام الجزم بأن تصحيح أحاديث الصحيحين ليس إلا لثقة
_________
(1) أي ابن حجر في النخبة (ص 58).
(2) أي ابن حجر في النخبة (58).
(3) تقدم ذكرها.(4/1657)
الرواة، واتصال السند من غير اعتبار السلامة من الشذوذ والعلة، وهكذا تصحيح من صحح من الأئمة لوجود شرطهما أو أحدهما لا مستند له إلا ثقة الرجال، واتصال السند فقط. قال حفظه الله: وهذا عين ما قاله الخطابي (1). أقول على هذا الكلام مؤاخذات.
الأول: أنه مخالف لجميع الكتب المصنفة في الاصطلاح، فإنهم حدوا الصحيح بأنه ما جمع القيود الخمسة ثم قالوا: وهو مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم كذا، ثم كذا، وهذا تصريح منهم أن الصحيحين جمعت أحاديثها هذه القيود الخمسة.
الثاني: أن المعترضين اعترضوا على البخاري ومسلم بأحاديث ذكروها معلة وشاذة.
فلو كان السلامة من الشذوذ والعلة ليس من شرطهما، لكان دفع تلك الأحاديث بأسهل دفع، وهو أن يقال: هذه الأحاديث لا ترد. لأن السلامة من المعل ليس من شرطهما.
الثالث: أنه قال الحافظ ابن (2) حجر في بيان تفضيل صحيح البخاري على صحيح مسلم: وأما من حيث التفضيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال، وإتقان الرواة، وعدم العلل.
وعند التأمل يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالًا، وأشد اتصالًا، ثم ما يتعلق بالاتصال والإتقان. وقال: وأما [ما] يتعلق بعدم العلة وهو الوجه السادس. فإن الأحاديث التي انتقدت عليهما إلخ. وقال [10] في الفصل الثامن (3) في سياق الأحاديث المنتقدة في الجواب على سبيل الإجمال بعد نقل ما قاله مسلم: عرضت كتابي على أبي زرعة، فكلما أشار أن له علة تركته، فإذا عرف ذلك وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو فيه علة (4)، إلا أنها غير مؤثرةٍ
_________
(1) معالم السنن (1/ 11).
(2) النكت (1/ 286).
(3) في هدى الساري مقدمة فتح الباري (ص 347).
(4) منهج النقد في علوم الحديث (ص 12).(4/1658)
عندهما إلخ انتهى، وهذا معنى اشتراط السلامة من العلة القادحة.
الرابع: أنه قال ابن الصلاح في شرط مسلم: شرط مسلم في صحيحه أن يكون متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، غير شاذ ولا معلل انتهى. فهذا التصريح من أئمة الحديث شرط البخاري ومسلم السلامة من الشذوذ والعلة.
وقد تبين بهذا أن المراتب الست التي لا بد فيها من السلامة من العلة والشذوذ وأما ما نص على صحته إمام فالعبرة بما اشترطه؛ فيبقى الكلام فيما إذا وقف في هذه الأزمان على حديث صحيح الإسناد لثقة رجاله بالنص على ذلك من إمام، أو لوجدانهم في كتب الجرح والتعديل ثقات.
فأما على رأي ابن الصلاح فقد سد باب التصحيح والتحسين (1) لضعف أهله المتأخرين. والذي رآه النووي (2) وتبعه المحققون أنه لا بأس بالتصحيح، لكن لمن قويت معرفته، وتمكن، وهذان الشرطان ليس إلا ليأمن من أن يكون الحديث سالمًا أو معللًا، وإلا فلا فرق بين المتمكن وغيره. ومع هذا فقد قال بعض المحققين (3): الأحوط أن يقال: صحيح الإسناد لاحتمال علة خفيت عليه، وهذا ما يرشد أن السلامة من العلل أمر معتبر في الباب.
وقال ابن حجر (4) في مسألة ما لو اقتصر حافظ معتمد على قوله: صحيح الإسناد الذي لا أشك فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله: صحيح إلى قوله: صحيح الإسناد إلا لأمر ما قلت: وقوله: رجاله ثقات بالأولى. قوله حفظه الله: وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا بمجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات إلخ.
أقول: تقدم أن الظاهر أن شرط البخاري ومسلم السلامة من [11] الشذوذ والعلة
_________
(1) في علوم الحديث (ص 16) وقد تقدم مناقشة ذلك.
(2) في التقريب (1/ 121 - مع التدريب).
(3) قاله السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82).
(4) انظر النكت (1/ 272).(4/1659)
القادحة، فما كان على شرطهما لا بد فيه من السلامة من ذينك الأمرين. قوله حفظه الله: وبهذا يتقرر أن نوع المعلل الذي منشؤه الوهم لا يرتفع عن الحديث الذي قد صححه إمام من الأئمة.
أقول: لا ريب أن فتح هذا الباب يغلق باب التصحيح بالمرة. ولكن ليس المعتبر في ذلك إلا البحث من ذلك الحافظ، فإذا حكم بصحة فقد تضمن إخباره عن نفسه بأنه ليس الحديث شاذًا ولا معلًا. فيكون الحديث صحيحًا، فإن وجدت له علة فذاك أمر آخر. والتصحيح والتحسين إنما هو باعتبار الظاهر. فقوله حفظه الله تعالى: فلا بد من المصير إلى أمرين إلخ ما أفاده - كثر الله فوائده - مشعر أن السلامة من العلة والشذوذ معتبرة. ولا كلام لنا فيما صححه إمام من الأئمة، إنما كلامنا في تصحيح الحديث لمجرد ثقة ناقليه، أما معنى يجب مع تمكنه وقوة معرفته فلا كلام في صحة التصحيح. منه قوله - نفع الله بعلومه - ولنذكر هاهنا ما يدفع إشكال السائل، فإن محل استشكاله هو تصحيح من صحح لمجرد كون الإسناد صحيحًا، أو رجاله ثقات، فتقول ما قاله الزين (1) - رحمه الله - إلخ. أقول هذا الكلام مما يشعر أيضًا باعتبار السلامة من الشذوذ والعلة عند المحدثين، لكن هل يجري كلامهم فيما لو وقف في هذه الأزمان على ثقة رجال إسناد في كتب الجرح والتعديل، فإن كلامهم إنما هو فيما أطلقه حافظ معتمد، ثم لا يخفى أن في هذا الكلام شيء، وهو أن قولهم إن صحيح الإسناد دون صحيح المتن يشعر بعدم الصحة، وإن كان بمعنى يقاربها، فظاهر لفظه دون يقضي بانتفاء الصحة، وقول ابن الصلاح الظاهر فيما أطلق المصنف المعتمد أنه صحيح الإسناد صحته في نفسه؛ لأن الظاهر عدم الشذوذ والعلة مشعر بتساوي الأمرين، فإن جعل أن المراد قبول الحديث من غير نظر إلى صحته كما يفيده لفظ وأقبله إن كان يعود إلى الحديث. فصريح عبارة ابن الصلاح أنه صحيح في نفسه عملًا بالظاهر، فهل يصح
_________
(1) في ألفيته (ص 8).(4/1660)
أن يقال: فيه أن التصحيح كله باعتبار الظاهر، ولكن الظهور مراتب، فما صرح بين الصحة مطلقًا فهو أظهر مما صرح فيه بصحة إسناده، وهل قول الحافظ ابن حجر في هذا المقام الذي لا أشك فيه [12] إن الإمام منهم لا يعدل عن قوله: صحيح إلى قوله: صحيح الإسناد إلا لأمر ما. انتهى. توقف في صحة ما هذا شأنه أم لا؟ ثم هل قولهم: صحيح الإسناد، ورجاله ثقات سواء؟ فإن الحسن لا بد أن يكون راويه عدلًا ضابطًا، وإطلاق الثقات محتمل أن يكونوا بلغوا من الضبط إلى ما يعتبر في الصحيح، فيكون الحديث صحيحًا أو لا فيكون حسنًا. قوله حفظه الله: ولا يخفاك أن اعتراضه أي الزين على الخطابي (1) بأنه لم يشترط الضبط غير صحيح، هذا ولم أفهم مراده وقوله: وانظر كيف استدرك عليه بالشذوذ والعلة، ولم يصرح بأنه لا بد من اعتبار ذلك! هلا قيل ذكرهما في الألفية (2) تصريح باعتبارهما. وقد وقف العبد حال بحثه في هذه المذاكرة على كلام للحافظ ابن (3) حجر - رحمه الله - في اعتبار السلامة من الشذوذ في حد الصحيح. فرأيت نقله هنا، وإن كان غير لائق بي، لكن رأيته موافقًا لما يلمح إليه نظر المجيب نفع الله بعلومه: قال (4) - رحمه الله - بعد تفسيره الشاذ بأن مخالفة الثقة لأرجح منه وهو مشكل، لأن الإسناد إذا كان متصلًا، ورواته كلهم عدولًا ضابطين فقد انتفت عنه العلل الظاهرة. ثم إذا انتفى كونه معلولًا فما المانع من الحكم بصحته لمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه، أو أكثر عددًا لا يستلزم الضعف بل يكون من باب صحيح وأصح؟ قال: ولم أر مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة، وإنما الموجود في تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة،
_________
(1) تقدم انظر معالم السنن (1/ 11).
(2) في ألفيته (ص 7).
(3) تقدم.
(4) في النكت (2/ 653).(4/1661)
وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرها. فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل (1) جابر من طرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط ركوبه. وقد رجح (2) البخاري الطرق التي فيها الاشتراط على غيرها مع تخريجه للأمرين، ورجح أيضًا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما يخالف ذلك. ومن ذلك أن مسلمًا (3) أخرج فيه حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وقد خالفه عامة أصحاب الزهري كمعمر، ويونس (4)، وعمرو بن الحارث (5)، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وسعيد وغيرهم عن الزهري، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ورجح جمع منهم من الحفاظ روايتهم على رواية مالك ومع ذلك فلم يتأخر أصحاب [13] الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم. وأمثلة ذلك كثيرة، ثم قال: فإن قيل: يلزم أن يسمى الحديث صحيحًا ولا يعمل به، قلنا: لا مانع من ذلك فليس كل صحيح
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم: (2115)، (2610) (2611) ومسلم رقم: (109/ 715) وأبو داود رقم: (3505) والنسائي رقم: (4637) وأحمد (3/ 299).
(2) انظر فتح الباري (4/ 335 - 336).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (121/ 736) حدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة. يوتر منها بواحدة. فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (000/ 736) وحدثنيه حرملة أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن يونس عن ابن شهاب. بهذا الإسناد.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (122/ 736): وحدثني حرملة بن يحيى. حدثنا ابن وهب. أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير. عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء "وهي التي يدعو الناس العتمة" إلى الفجر، إحدى عشرة ركعة. يسلم بين كل ركعتين. ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين. ثم اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن للإقامة.(4/1662)
يعمل به بدليل المنسوخ. قال: وعلى تقدير التسليم إن المخالف المرجوح لا يسمى صحيحًا، ففي جعل انتفائه شرطًا في الحكم للحديث بالصحة كون ذلك نظر، بل إذا وجدت الشروط المذكورة أولا حكم للحديث بالصحة، ما لم يظهر بعد ذلك أن فيه شذوذا؛ لأن الأصل عدم الشذوذ، وكون ذلك أصلًا بلا خور، ففي عدالة الراوي وضبطه، فإذا أثبت عدالته وضبطه كان الأصل أنه حفظ ما روى حتى يتبين خلافه انتهى.
وقوله حفظه الله: لا أدري ما وجه ما حكم به الأمير (1) - رحمه الله - من أن العدل أخص من الثقة، وأن الثقة قد لا يكون عدلًا. وجهه ما صرح به في هذه الرسالة من توثيقهم غير العدول، وذلك أنهم وثقوا أهل البدع والأهواء مع كون البدعة منافية للعدالة عندهم. فمن جملة من وثقوه كما قاله أبو معاوية الضرير. قال الحاكم احتجابه، وقد اشتهر عنه الغلو قال الذهبي (2) غلو التشيع، وقد وثقه العجلي، وأخرج الشيخان (3) لأيوب بن عائذ بن مدلج وثقه ابن معين (4) وأبو حاتم (5) والنسائي (6)، والعجلي (7) .... .... .... ....
_________
(1) الأمير الصنعاني في "ثمرات النظر في علم الأثر " (ص117).
(2) في ميزان الاعتدال (1/ 459 رقم: 1085/ 2388).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4346) حدثني عباس بن الوليد: حدثنا عبد الواحد عن أيوب بن عائذ: حدثنا قيس بن مسلم قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: حدثني أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أرض قومي، فجئت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منيخ بالأبطح فقال: "أحججت يا عبد الله بن قيس؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ "قال: قلت: لبيك إهلالًا كإهلالك". قال: "فهل سقت معك هديا؟ " قلت: لم أسق، قال: "فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة ثم حل" ففعلت حتى مشطت لي امرأة من نساء بني قيس ومكثنا بذلك حتى استخلف عمر.
(4) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 459).
(5) ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 459).
(6) ذكره المزي في تهذيب الكمال (1/ 478 - 479).
(7) ذكره المزي في تهذيب الكمال (1/ 478 - 479).(4/1663)
وزاد أبو داود (1) وكان (2) مرجئا، وساق جماعة انتهى. فعلى هذا لكلامه وجه (3)،
_________
(1) ذكره الكلاباذي في رجال صحيح البخاري (1/ 82).
(2) المرجئة من الإرجاء وهو التأخير والإمهال. قال تعالى: [قالوا أرجه وأخاه] [الشعراء: 36] القاموس المحيط (ص 1660).
وفي الاصطلاح كانت المرجئة في آخر القرن الأول تطلق على فئتين كما قال الإمام ابن عيينة:
1 - \ قوم أرجئوا أمر عثمان وعلي فقد مضى أولئك.
2 - \ فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل واستقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة عند السلف على المعنى الثاني "إرجاء الفقهاء" وهو القول بأن: الإيمان التصدق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل. (أي أخرج الأعمال من مسمى الإيمان) وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ.
قال ابن تيمية في منهاج السنة (7/ 231): حدثت بدعة المرجئة في أواخر عصر الصحابة، في عهد عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك توفي سنة 86 هـ وابن الزبير قتل سنة 73 هـ.
انظر مزيدًا من التفاصيل عن ذلك.
الإبانة (2/ 903)، الملل والنحل (1/ 139)، منهاج السنة (1/ 309).
(3) قال ابن حجر في هدي الساري (ص 392): له في صحيح البخاري حديث واحد في المغازي في قصة أبي موسى الأشعري أخرجه له بمتابعة شعبة - رقم: (1565، 1724، 1795، 4397) - وسفيان رقم: (1559) - وروى له مسلم - في صحيحه رقم: (6/ 686) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، جميعًا عن القاسم بن مالك قال عمرو: حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس. عن مجاهد عن ابن عباس قال: "إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، وفي الخوف ركعة" - والترمذي - في السنن رقم: (614) وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى.
حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني الكوفي حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا غالب أبو بشر عن أيوب بن عائذ الطائي عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش؛ فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو مني، وأنا منه وسيرد علي الحوض.
يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به".
وهو حديث صحيح.(4/1664)
وهو يناقض ما صرح به أئمة الفن من أن الثقة العدل الضابط فيحتاج إلى الجمع بينهما.
إذا شاهد المولى من العبد زلة ... فعادته عنها التغافل والصفح
نفع الله بعلومه المسلمين، ونصر بها سنة سيد المرسلين. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله آمين.
حرره في رجب سنة (1217 هـ) [14].(4/1665)
القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(4/1667)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (القول المقبول في رد خبر المجهول).
2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث.
3 - أول الرسالة: بحث في رد خبر المجهول. قال رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، وبعد فإنه وقف الحقير أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما على ما دار من المذاكرة. .
4 - آخر الرسالة:. . . . والامتثال منهم في البعض الآخر وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة وفيه كفاية لمن له هداية والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (21) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (18 - 25) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1669)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول) وهو الذي اعتمدناه.
2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين وبعد: وقف الحقير أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما على ما دار من المذاكرة
4 - آخر الرسالة: ... لمن له هداية، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام. فرغ من تحريره جامعه في نهار يوم الأحد لثلاث خلت من شهر ربيع الأول سنة (1206) وكان فراغي من نقله من نسخة المصنف ليلة الخميس ليلة رابع شهر شعبان سنة (1208) هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي واضح.
6 - عدد الصفحات: (16) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (24 - 29) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.
9 - تاريخ النسخ: يوم الخميس لعله رابع شهر شعبان سنة (1208).
10 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1672)
بسم الله الرحمن الرحيم
[القول المقبول في رد خبر المجهول بحث في رد خبر المجهول
قال -رضي الله عنه-] (1): بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين وبعد، [فإنه] (2) وقف الحقير أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما على ما دار من المذاكرة بين مولاي العلامة صارم الإسلام إبراهيم بن محمد بن إسحاق (3) حفظه الله وبين سيدي العلامة شرف الإسلام الحسين بن يحيى الديلمي (4) عافاه الله في قبول [خبر] (5) مجهول الحال في الشهادة على رؤية
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (أ).
(3) السيد إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد. ولد سنة 1140 هـ ونشأ بصنعاء وأخذ العلم عن والده، قال الشوكاني في ترجمته في البدر الطالع رقم: (14) وكم تصل إلى عندي منه رسائل ونصائح فيما يتعلق بشأن الدولة، ويأخذ علي أنه لا يحل السكوت، وله رغبة في المباحثات العلمية شديدة، بحيث إنه لا يعرض البحث في مسألة من المسائل إلا وفحص عنه، وسأل وراجع. وكثيرًا ما تغد علي منه سؤالات أجيب عنها برسائل، كما يحكي ذلك مجموع رسائلي، مع أنه نفع الله به إذ ذاك عالي السن قد قارب السبعين، وأنا في نحو الثلاثين، وهذا أعظم دليل على تواضعه.
مات سنة 1241 هـ.
انظر: البدر الطالع رقم: (14) ونيل الوطر (1/ 253).
(4) السيد الحسين بن يحيي بن إبراهيم الديلمي الذماري، ولد سنة 1149 هـ ونشأ بذمار، وأخذ عن علمائها كالفقيه عبد الله بن حسين دلامة، والفقيه حسن بن أحمد الشبيبي. ثم ارتحل إلى صنعاء، وقرأ العربية، وله قراءة في الحديث عن السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير.
وقال الشوكاني في البدر الطالع رقم: (155): وقد جرى بيننا مباحثة علمية مدونة في رسائل هي في مجموع ما لي من الفتاوى والرسائل، ولا يزال يعاهدني بعد رجوعه من ذمار، ويتشوق إلى اللقاء وأنا كذلك، والمكاتبة بيننا مستمرة إلى الآن، وهو من جملة من رغبني في شرح المنتقى.
من مصنفاته: "العروة الوثقى في أدلة مذهب ذوي القربى" وله "الإقناع في الرد على من أحل السماع ".
انظر: "نيل الوطر" (1/ 402) و"البدر الطالع" رقم: (155).
(5) زيادة من (أ).(4/1677)
هلال رمضان (1) فمولانا صارم الإسلام جزم بعدم قبوله واعتذر عن حديث قبوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأعرابي قبل اختباره والعلم بعدالته بإبراز الفرق بين مجهول الصحابة وغيرهم.
وسيدي شرف الدين جنح إلى القبول ميلًا منه إلى ما ذكره العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في عواصمه (2) وتنقيحه (3) وسيأتي الكلام عليه، والذي لاح للخاطر الفاتر والنظر القاصر عدم قبول المجهول مطلقًا إلا أن يكون صحابيًا كما جزم به مولانا الصارم حفظه الله.
ولما كانت هذه المسألة أعني قبول المجهول بأقسامه، وعدم قبوله مطلقًا أو مقيدا ببعض الأقسام، والفرق بين مجهول الصحابة وغيرهم وعدمه من أهم المسائل التي يقبح جهل ما هو الحق فيها من القاصر والكامل لانبناء قناطر من قواعد الدين عليها واحتياج كل ناظر وباحث في غالب الحالات إليها، ولذلك وصى العلامة ابن الإمام في شرح الغاية بالمبالغة في البحث وإمعان النظر في قبول مجهول الصحابة وعدمه مع أن ذلك ليس من عاداته في ذلك الكتاب، فقال: وهذه المسألة تنبني عليها أكثر الأحكام الشرعية فلا ينبغي [1 أ] لمجتهد أن يقتصر على أول نظر بل يبالغ في [1] البحث والطلب حتى يدرك ما هو الحق من هذه الأقوال فإنه من سلم من داء التقليد والعصبية إذا حقق نظره في هذه المسألة علم حقها من باطلها علمًا يقينيا. انتهى.
وأنت تعلم أن الكلام هنا فيما هو أعم من مجهول الصحابة فالحاجة إلى تحقيق ما هو الحق فيه أشد وأشد، لا سيما وقد اشتهر على ألسن العامة وبعض الخاصة في هذه الأعصار أن من ظاهره الإسلام فظاهره الإيمان حتى سرى داء هذه الكلمة إلى كثير من
_________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) (1/ 371).
(3) (ص 197 - 202).(4/1678)
أرباب القضاء والفتيا لما تلقوها وقبلوها وجعلوا عليها مدار إصدار المقبول وإيراده، ولم يفرقوا بين مجهول ومجهول، ولا بين حقوق الله وحقوق العباد، مع مخالفة ذلك لصرائح نصوص أئمتهم في مختصرات كتبهم ومطولاتها بل [مع] (1) مخالفة ذلك لإجماعهم، بل لإجماع الأمة في بعض الأقسام كما سيأتيك بيانه، فكأنهم تلقنوا هذه الكلمة المخالفة لدليل العقل والنقل من أم الكتاب، ولهذا ترى كثيرًا منهم يظنها من الضروريات التي لا ينكرها إلا المكابرون، وحال بينهم وبين معرفة ما هو الحق فيها أولا ومذاهب الأئمة ثانيًا القصور عن مدارك الاجتهاد التي لا يجوز إحرازها إلا الأفراد، والتقصير عن مراجعة أقول الأئمة التي تتجلى لمن وقف عليه كل ظلمة وغمة، فقد صار العالم بهذا الشأن المحدود من فرسان ذلك الميدان عند وقوفه على ما يصدر من أرباب الولايات في هذه القضية من الخبط والخلط كما قيل [شعرًا] (2):
كأنني بينهم ضفدع ... يصيح وسط الماء في اليم
إن نطقت أشرقها ماؤها [2] ... أو سكتت ماتت من الغم
فلنتكلم في هذه المسألة بقدر ما تبلغ [إليه] (3) الطاقة، ولعله لا يخفى بعده الصواب إن شاء الله مبتدئين بنقل [كلام] (4) أئمة الأصول، فإن عليهم في مثل هذه [1 ب] المسألة تدور رحا القبول، ولنجعل البحث الأول في رد رواية المجهول مطلقًا وهو أعم من مسألة السؤال، وإبطال الأعم يستلزم إبطال الأخص تكثيرًا للفائدة إن فرضنا أن الإخبار برؤية الهلال (5) من قبيل الرواية، وإن فرضنا أنه من قبيل الشهادة كما يشهد بذلك صريح الأحاديث فلا شك أن الشروط المعتبرة ......................
_________
(1) زيادة من [ب].
(2) زيادة من [أ].
(3) زيادة من [ب].
(4) في [ب]: أقوال.
(5) سيأتي قريبًا.(4/1679)
في (1) الرواية معتبرة في الشهادة بل الأمر في الشهادة أشد وسنتكلم بعد ذلك في خصوص مسألة السؤال فنقول: قال ابن الحاجب في مختصر (2) المنتهى ما لفظه: مسألة: مجهول (3) الحال لا يقبل (4) وعند أبي حنيفة (5) قبوله، وقال المحقق ابن الإمام في الغاية وشرحها ما لفظه
_________
(1) الرواية في اصطلاح العلماء (إخبار) يحترز به عن الإنشاء (عن) أمر عام من قول أو فعل لا يختص واحد منهما بشخص معين من الأمة، ومن صفة هذا الإخبار أنه لا ترافع فيه ممكن عند الحكام.
الشهادة: فإنها إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام.
ومن شروط الراوي عند الأداء:
1 - العقل: إجماعًا إذ لا وازع لغير عاقل يمنعه من الكذب ولا عبادة أيضًا كالطفل.
وقال الشافعي في الرسالة: ص 372 - 375: أقبل في الحديث الواحد والمرأة ولا أقبل واحدًا منهما وحده في الشهادة.
وأقبل في الحديث: "حدثني فلان عن فلان" إذا لم يكن مدلسًا، ولا أقبل في الشهادة إلا "سمعت" أو "رأيت" أو "أشهدني" ... ثم يكون بشر كلهم تجوز شهادته، ولا أقبل حديثه، من قبل ما يدخل في الحديث من كثرة الإحالة وإزالة بعض ألفاظ المعاني، وتختلف الأحاديث، فآخذ ببعضها، استدلالًا بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذا لا يؤخذ به في الشهادات هكذا، ولا يؤخذ فيها بحال.
وانظر الكوكب المنير (2/ 378).
2 - الإسلام: إجماعًا؛ لتهمة عداوة الكافر للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولشرعه.
3 - البلوغ: عند الأئمة الأربعة وغيرهم. وروي عن أحمد أن رواية المميز تقبل.
4 - الضبط: لئلا يغير اللفظ والمعنى فلا يوثق به.
5 - العدالة: إجماعًا لما سبق من الأدلة (ظاهرًا وباطنًا).
(2) (2/ 64).
(3) انظر توضيح الأفكار للأمير الصنعاني (1/ 173 - 185).
(4) قال الشافعي في الرسالة (ص 374) رواية المجهول غير مقبولة بل لا بد فيه من خبرة ظاهرة، والبحث عن سيرته وسريرته.
وانظر الكفاية (ص 149)، تدريب الراوي (1/ 316).
(5) وظاهر مما أورده البزدوي والبخاري أن الإمام أبا حنيفة يقبل رواية المجهول - من الصحابة - لأن الأصل فيهم العدالة. كشف الأسرار (2/ 704).
وقال البزدوي في كشف الأسرار (2/ 708، 720): ولذلك جوز أبو حنيفة - رحمه الله - القضاء بظاهر العدالة من غير تعديل، حين إن رواية مثل هذا المجهول في زماننا لا يحل العمل به لظهور الفسق.
ثم قال: " ... ولهذا - أي ولاشتراط العدالة: لم يجعل خبر الفاسق والمستور حجة لفوات أصل العدالة في حق الفاسق، وفوات كمالها في حق المستور".
ثم قال: "إلا أن خبر المجهول في القرون الثلاثة مقبول لغلبة العدالة فيهم، وخبر المجهول بعد القرون الثلاثة مردود لغلبة الفسق".
وانظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت (2/ 146 - 147).(4/1680)
: فمن لا تعرف عدالته ولا مقابلها بأن يكون مجهول الحال، لا تقبل روايته على المختار، وهو قول الجمهور من العلماء، ثم قال بعد أن ذكر الدليل على عدم القبول خلافًا لأبي حنيفة.
وقال صاحب الفصول: وهو قول محمد بن منصور وابن زيد والقاضي في العمدة وابن فورك (1)، وقال الإمام المهدي (2) في المعيار (3) وشرحه ما لفظه: مسألة: الأكثر من الأصوليين - العدلية (4) والأشعرية (5) - لا يجوز أن يقبل خبر مسلم مجهول العدالة أي لم
_________
(1) وانظر المحصول (4/ 402)، جمع الجوامع للسبكي (2/ 150).
(2) المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى، ولد بمدينة ذمار سنة 764 هـ قرأ في علم العربية، فلبث في قراءة النحو والتصريف والمعاني والبيان قدر سبع سنين وبرع في العلوم الثلاثة.
من مصنفاته: دافع الأوهام، رياضة الأفهام في لطف الكلام، إكليل التاج وجوهرة الوهاج.
البدر الطالع رقم: (77).
(3) "المعيار" واسمه" معيار العقول، وشرحه منهاج الوصول "وهو الكتاب السابع من موسوعته" "البحر الزخار" وهو مرتب على مقدمة وأحد عشر بابًا.
مؤلفات الزيدية (2/ 38).
(4) العدلية: سموا بالعدلية لقولهم: الله أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله، وهو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم وهو أساس مذهبهم وشعارهم.
منهاج السنة لابن تيمية (3/ 141).
(5) تقدم التعريف بها (ص 151).(4/1681)
يعرف حال عدالته، وقالت الحنفية (1): بل يجب أن تقبل، وحكاه الحاكم عن الشافعي (2)، وحكى الفخر [3] الرازي في المحصول (3) عن الشافعي أنه لا يقبل، وهذه الحكاية هي الأظهر، ثم قال: والصحيح عندنا ما عليه الأكثر، ومن ثم قلنا: المجهول لا يؤمن من فسقه فلا يظن صدقه، وحصول الظن معتبر، ثم احتج على ذلك وطول.
وقال السبكي في جمع الجوامع (4): فلا يقبل المجهول باطنًا وهو [المستور] (5) خلافًا لأبي حنيفة وابن فورك وسليم الرازي، ثم قال (6): أما المجهول باطنًا أو ظاهرًا فمردود إجماعًا وكذا مجهول العين، ولا [ينافي] (7) ما قاله ابن [أبي] (8) شريف في حاشيته حاكيًا عن المصنف في شرح المختصر من أن حكاية ابن الصلاح (9) ثم النووي (10) ثم العراقي في ألفيته (11) رد المجهول باطنًا وظاهرًا عن الجماهير [2أ] يتضمن إثبات خلاف فيعارض حكاية الإجماع؛ لأن غاية ذلك عدم العلم منهم بالإجماع، ومن علم حجة على من لم يعلم، وناقل الإجماع ناقل للزيادة التي لم تقع منافية للأصل فقبولها واجب وإجماعًا ودعوى أن الاقتصار على الرواية عن الجمهور تتضمن إثبات خلاف ممنوعة، والسند أن عدم العلم بالإجماع ليس علمًا بالعدم، على أنه قد سبق صاحب الجمع إلى حكاية ذلك الإجماع على رد [خبر] (12) المجهول باطنًا وظاهرًا: الأبياري بالباء الموحدة ثم التحتانية حكاه عن
_________
(1) انظر: مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت (2/ 146 - 147).
(2) انظر الرسالة (ص 374 - 378).
(3) (4/ 402).
(4) (2/ 150).
(5) في [أ] المشهور.
(6) (2/ 150).
(7) في [ب] ينافيه.
(8) زيادة من [أ].
(9) في مقدمته (ص 144 - 145).
(10) في التقريب (1/ 316).
(11) (ص 158).
(12) زيادة من [أ].(4/1682)
السبكي في شرحه على المختصر (1) وأيضًا جزم السبكي بحكاية الإجماع مطلقًا من غير تردد كما فعل في "جمع الجوامع" (2) مشعر بعدم صحة ذلك التضمن الذي ظنه في شرحه للمختصر (3) إذا عرفت هذا علمت أن "جمع الجوامع" (4) مقيد لإطلاق خلاف أبي حنيفة ومن معه في مجهول الحال مطلقًا كما وقع في مختصر المنتهى، وغاية السول، والمعيار وغيرها بمجهول الحال في الباطن وهو المستور فيكون هو محل الخلاف، فاتضح بهذا أنه لم يقل بقبول مجهول الحال مطلقًا أحد، وأيضًا قد قيد بعضهم قول أبي حنيفة ومن معه بقبول المجهول بمجهول الصحابة، فإن صح ذلك ارتفع الخلاف من البين وكان المجهول مطلقا سواء كان مجهول حال أو عين غير مقبول من غير الصحابة بالإجماع، إلا أنه يعكر على هذا ما وقع من السيد العلامة للإمام محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم والقواصم (5) والتنقيح (6) [عن] (7) حكاية الخلاف في المجهول مطلقًا، فإنه قال في التنقيح (8) في مجهول العين وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد وفيه أقوال، الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا [4] يقبل.
والثاني: أنه يقبل مطلقًا وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام.
والثالث: إن كان المتفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومالك ومن ذكر بذلك معهم وإلا لم يقبل.
والرابع: إن كان مشهورًا في غير العلم بالزهد أو النجدة قبل وإلا فلا. وهو قول ابن عبد البر كما سيأتي [2 ب] إن شاء الله تعالى.
والخامس: إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل وإلا فلا، وهو اختيار أبي الحسن بن القطان في بيان
_________
(1) (2/ 64).
(2) (2/ 150 - 151).
(3) (2/ 64).
(4) (2/ 150 - 151).
(5) (1/ 371).
(6) ص 198.
(7) في [ب] من.
(8) ص 198.(4/1683)
"الوهم" (1) "والإيهام".
قلت: [والسادس] (2) إن كان صحابيًا قبل وهو مذهب الفقهاء وبعض المحدثين وشيوخ الاعتزال، ثم قال (3) في مجهول الحال ظاهرًا وباطنًا وفيه أقوال: الأول أنه لا يقبل حكاه ابن الصلاح (4) وزين الدين (5) عن الجماهير. والثاني يقبل مطلقًا، والثالث إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل قبل، وإلا فلا.
ثم قال في مجهول الحال باطنًا فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي (6) إلخ .. كلامه وفيه مخالفة لإطلاق أرباب الأصول وغيرهم والذي رأيناه في كتب الاصطلاح التي اعتمدها السيد رحمه الله واختصر التنقيح منها أن تلك الأقوال التي ذكرها في مجهول العين وجعلها باعتبار القبول إنما هي باعتبار رفع اسم الجهالة لا باعتبار القبول كما صنع إلا في مجهول الصحابة ولا ملازمة بين ارتفاع جهالة العين وبين القبول فإنه لا بد بعد ارتفاع جهالة العين من معرفة العدالة ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا فقط كان ذلك الارتفاع مستلزمًا للقبول لما كان [الحكاية] (7) الخلاف في المجهول بالمعنيين الآخرين فائدة ألا ترى أن القائلين برد مجهول الحال ظاهرًا وباطنًا وهم جميع الأمة كما حكاه صاحب الجمع (8) أو الجماهير كما حكاه ابن الصلاح (9) وزين الدين (10)
_________
(1) في (ب) من.
(2) في (ب) والخامس.
(3) ابن الوزير في التنقيح (ص 200).
(4) وانظر مقدمة ابن الصلاح (ص 144).
(5) "فتح المغيث" (ص 160).
(6) ذكره العراقي في "فتح المغيث".
(7) في (ب) الحكاية.
(8) في "جمع الجوامع" للسبكي (2/ 150).
(9) في مقدمته (ص 144).
(10) في "فتح المغيث" (ص 160).(4/1684)
والقائلين برد مجهول الحال ظاهرًا وهم من عدا [أبو] حنيفة (1) ومن معه [3 أ] يجعلون عدالة الظاهر والباطن، أو الظاهر فقط شرطًا في قبول الرواية وذلك أمر وراء ارتفاع جهالة العين، فتلك الأقوال التي ذكرها صاحب التنقيح (2) وجعلها [موجبة] (3) إلى القبول لا تتم إلا أن تكون باعتبار من يقول إن جهالة الحال مطلقًا لا تقدح في قبول الرواية، وقد عرفت من الكلام السالف الإجماع على أنه غير مقبول وأن خلاف أبي حنيفة (4) ومن معه إنما هو باعتبار مجهول الحال في الباطن، وكذلك حكايته لتلك الأقوال الثلاثة في مجهول [5] الحال ظاهرًا وباطنًا، فإن ابن الصلاح (5) والزين (6) في منظومته وعليهما عول السيد -رحمه الله- في جمع ذلك الكتاب (7) لم يذكرا إلا أن الرد مذهب الجماهير، وقد عرفت فيما سبق أن هذه العبارة لا تستلزم إثبات خلاف وأن غايتها عدم العلم بالإجماع فيقبل ناقله.
ولا شك أن السيد (8) -رحمه الله تعالى- من بحور العلم وأوعيته فربما وقف على ما لم نقف عليه، ولكنه إذا عارض حكايته للخلاف حكاية الإجماع من مثل السبكي ومن معه؛ كان المقام من مجالات النظر ومحارات الفكر على أن المسألة من أصلها باعتبار اضطراب الأقوال والأدلة فيها من معارك الأبطال.
ثم إن السيد (9) رحمه الله قال إن ظاهر المذهب يعني مذهب الزيدية قبول هذا المسمى
_________
(1) في (ب) أبا.
(2) ابن الوزير (ص 200 - 201).
(3) في (ب) موجهة.
(4) تقدم توضيح ذلك آنفًا.
(5) في مقدمته (144).
(6) في ألفيته (ص 158 - 159).
(7) ابن الوزير في "التنقيح" (ص 200).
(8) أي ابن الوزير.
(9) في "التنقيح" (ص 201).(4/1685)
عندهم بالمستور قال بل [قد] (1) نص على قبوله وسماه هذه التسمية الشيخ أحمد في الجوهرة [ولا] (2) أعلم أن أحدًا من الشارحين اعترضه والأدلة تناوله سواء رجعنا إلى العقل وهو الحكم بالراجح لأن [3 ب] صدقه راجح، أو إلى السمع وهو قبول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن هو كذلك كالأعرابيين في الشهادة بالفطر من رمضان (3) والأعرابي (4) بالشهادة بالصوم في أوله إلخ. كلامه.
[وأقول] (5) لا نسلم أن المستور عند أصحابنا هو المستور باصطلاح المحدثين أعني مجهول الحال باطنًا بل هو بمعنى المستور من موجبات الجرح. . .
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) في (ب) ولم.
(3) أخرجه أحمد (9/ 249 رقم: 39 - الفتح الرباني) وأبو داود رقم: (2339) من حديث ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقام أعرابيان فشهدا عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالله لأهلا الهلال أمس عشية، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس أن يفطروا.
وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه أبو داود رقم: (2340) والنسائي رقم: (2113) والترمذي رقم: (691) وابن ماجه رقم: (1652) وابن خزيمة في صحيحه رقم: (1924 - 1923)، وابن حبان في صحيحه رقم: (3446).
عن ابن عباس قال: "أن أعرابيًا جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم، قال: "فأذن في الناس يا بلال: أن يصوموا غدًا ".
وهو حديث ضعيف، وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو داود رقم: (2342) وابن حبان رقم: (3447) والحاكم (1/ 423) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والدارمي (2/ 4) والبيهقي (4/ 212) والدارقطني (2/ 156 رقم: 1) وقال: تفرد به مراون بن محمد، عن ابن وهب وهو ثقة فيه نظر، فقد تابعه هارون بن سعد الأيلي عن ابن وهب، عند الحاكم (1/ 423) والبيهقي (4/ 212) عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه".
وهو حديث صحيح.
(5) زيادة من (أ).(4/1686)
[وأقول] (1) ولو سلم أن المستور عندهم هو المستور باصطلاح المحدثين لم يستلزم نص صاحب الجوهرة على قبوله نص جميعهم عليه، ولا ترك الاعتراض عليه الرضي بقوله وعدم النص على خلافه، وكتب أهل البيت طافحة بعدم قبول مجهول الحال ومجهول العدالة وهو أعم من مجهول الظاهر والباطن فقط، فكيف يكون نص صاحب الجوهرة على قبوله دليلًا على أنه المذهب.
وأما تلك الحجة العقلية فممنوعة لأن مناط الرجحان انتفاء المانع، ولم ينتف، وأما الحجة السمعية فهي أخص من الدعوى لأن غايتها قبول مجهول الصحابة، ونحن نقول بموجبها، وقد ذكر السيد رحمه الله في آخر التنقيح (2) أن الزيدية يقبلون المجهول سواء عندهم في ذلك الصحابي وغيره. قال ذكر ذلك [السيد] (3) عبد الله بن زيد (4) في "الدرر المنظومة" وهو أحد قولي المنصور بالله ذكره في (هداية [المسترشد] (5) وهو أرجح احتمالي أبي طالب (6) في (جوامع الأدلة) وأحد احتمالية في "المجزئ" وهذا المذهب مشهور عن الحنفية، والزيدية مطبقون [4أ] على قبول مراسيل (7) الحنفية فقد دخل عليهم حديث
_________
(1) زيادة من (ب)
(2) (ص 202).
(3) في (ب) الفقيه.
(4) تقدمت ترجمته.
(5) في (ب) المسترشدين.
(6) تقدمت ترجمته.
(7) المرسل في اللغة: مشتق من الإرسال بمعنى الإطلاق تقول: أرسلت الغنم، أي أطلقتها، وقال تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) [مريم: 83]، فكأن المرسل أطلق الإسناد، ولم يقيده بجميع رواته.
والمرسل في الاصطلاح: فقد اختلفت فيه العبارات، وذهب كل فريق مذهبًا إلا في صورة واحدة، فقد اتفق الجميع عليها وهي "أن قول التابعي الكبير، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، وقيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، قال رسول الله كذا، أو فعل كذا، أو أقر كذا يسمى مرسلًا ".
قال ابن الصلاح "في علوم الحديث" (ص51): "والمشهور التسوية بين التابعين أجمعين" أي لا فرق بين صغير وكبير.
وقيل: المرسل: هو قول غير الصحابي. قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا المشهور عند الفقهاء ويندرج فيه: المنقطع وهو الذي سقط من إسناده رجل غير الصحابي.
والمعضل: وهو الذي سقط منه اثنان.
وقيل: المرسل: هو ما رواه الرجل عمن لم يستمع منه.
حكم العمل بالحديث المرسل: لا يعمل بالحديث المرسل المطلق، لأنه نوع من الضعيف الذي لا تقام به حجة، ولا يبنى عليه برهان.
انظر: "الكفاية في علم الرواية" ص 384.(4/1687)
المجهول على كل حال وإن كان المختار عند متأخريهم رده فذلك لا يغني مع قبولهم لمراسيل من يقبله. انتهى.
وأقول إن كان الدليل على أن مذهب الزيدية قول الفقيه عبد الله [6] بن زيد مقبول فهو من ذلك الجنس الذي عرفناك، وإن كان الواقع في كتابه (1) حكاية ذلك عن الزيدية فقد خالفه في ذلك سائر أئمة الزيدية بل روى عنهم السيد نفسه في هذا الكتاب (2) بعينه ما يخالف ذلك في بحث معرفة من تقبل روايته ومن ترد فقال: الذي في كتب أئمة الزيدية أنه يشترط في الراوي أربعة شروط:
الأول: أن يكون بالغًا، الثاني: أن يكون عاقلًا، الثالث: أن يكون مسلمًا، الرابع: أن يكون عدلًا مستورًا، فكيف يجوز نسبة القول بقبول المجهول مطلقًا إليهم بمجرد نص واحد منهم أو بمجرد الإلزام من جهة قبول مراسيل الحنفية؟ وكيف يحل التمسك بذلك مع تصريحهم بما يخالفه من جعلهم [العدالة] (3) والستر من شوائب القوادح في العدالة شرط من شروط القبول! وأما مجرد احتمال كلام أبي طالب وأحد قولي المنصور بالله فذلك لا يسوغ جعل ذلك مذهبًا لهما فكيف يجعل مذهبًا لجميع الزيدية؟ ثم إن السيد
_________
(1) "التنقيح" (ص 187) لابن الوزير.
(2) "التنقيح" (ص 187) لابن الوزير.
(3) في (ب) للعدالة.(4/1688)
رحمه الله تعالى ذكر تشكيكًا على القول بأنه لا بد من معرفة العدالة [الباطنة] (1) فقال: (2) وقول المحدثين إنه لا بد من معرفة العدالة [الباطنة] (3) مشكل إما لفظًا فقط أو لفظًا ومعنى وطول الكلام في ذلك في التنقيح وحاصل الإشكال باعتبار [4ب] اللفظ أنهم إما أن يريدوا بقولهم عدل في الباطن من رجع في عدالته إلى قول المزكين أو الخبرة وأورد على الطرفين إشكالات. باختيار الشق الثاني من شقي الترديد يلوح اندفاع ما أورده، وحاصل الإشكال باعتبار اللفظ، والمعنى أنه يلزم المعتبرين لذلك أمران ذكرهما هنالك فلا نطول بذكرهما والكلام عليهما فراجعهما.
[فائدة] (4)
قال العضد في "شرح المختصر" (5) ما معناه أن الأصل الفسق، والعدالة طارئة، قلت: وهو الحق لأن العدالة (6) حصول ملكة أعني كيفية راسخة في النفس، والأصل عدم الحصول والرسوخ بلا نزاع، وفي هذا المقدار من نقل أقوال الرجال كفاية. ولنعد إلى ذكر الدليل على عدم قبول المجهول ورد ما ظنه القائلون بالقبول دليلًا، ثم نتكلم بعد ذلك في مجهول الصحابة فنقول استدل على عدم القبول بدليلين.
الأول: إن الأدلة القرآنية نحو قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (7) وقوله: {إن يتبعون إلا الظن} (8) وقوله [7]: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا} (9)
_________
(1) في (أ) الباطنية.
(2) ابن الوزير في "التنقيح" (ص 202).
(3) في (أ) الباطنية.
(4) زيادة من (ب).
(5) (2/ 64).
(6) العدالة: ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة والمراد بالتقوى، اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. "النخبة" لابن حجر (ص 55).
(7) [الإسراء: 36].
(8) [النجم: 23].
(9) [النجم: 28](4/1689)
دلت على منع العمل بالظن في المعلوم عدالته وفسقه والمجهول فخولف [ذلك] (1) في المعلوم عدالته. قال العضد بدليل هو الإجماع.
الثاني: أن الفسق مانع من القبول قال العضد وابن الإمام في شرح الغاية بالاتفاق فوجب تحقق ظن عدمه كالصبا والكفر وهذان الدليلان المربوطان بالنصوص القرآنية وإجماع الأمة مغنيان عن غيرهما وغاية الكلام أن البراءة الأصلية كافية في سقوط [التعبد] (2) بأحكام الشرع فلا [5 أ] ينقل عنها شيء من الشكوك التي لا يستفاد من إخبار المجاهيل سواها لا سيما مع أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بترك ما يريب إلى ما لا يريب (3) وقبول خبر المجهول دخول في أعظم ريب واحتج من قال بالقبول (4) وهو أبو حنيفة ومن تبعه بثلاث حجج:
الأولى: أن الفسق سبب التثبت فإذا انتفى انتفى، وهو مندفع من طريقين.
الأولى: ذكرها العلامة [العضد] (5) في شرح المختصر وهي أن انتفاء السبب المعين لا يوجب انتفاء المسبب لجواز تعدد السبب وقد ناقشه السعد بأن المراد إلزام القائلين بمفهوم الشرط وهي مناقشة واهية، ولذلك اعترف بصحة ما ذكره العلامة، فقال بعد ذلك إلا أنه يمكن تمشيته بما ذكره من أن تعدد السبب هنا معلوم؛ لأن الجهل بالعدالة والفسق أيضًا سبب التثبت يعني أن انتفاء السبب المعين لا يوجب انتفاء المسبب؛ لأن السبب هاهنا متعدد
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (ب).
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي (2/ 234) والترمذي رقم: (2518) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (4/ 99)، وأحمد (1/ 200) وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 264).
عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة".
وهو حديث صحيح.
(4) انظر "مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت" (2/ 146 - 147).
(5) زيادة من (أ).(4/1690)
وهو الجهل بالعدالة والفسق، فلا يلزم من انتفاء الفسق انتفاء التثبت.
الطريقة الثانية ذكرها المحقق العضد (1) وهي عدم تسليم أن المنتفي هنا هو الفسق، بل العلم به، ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه، والمطلوب العلم بانتفائه، ولا يحصل إلا بالخير أو التركيبة.
الحجة الثانية: أن ظاهره الصدق كإخباره، فيقبل كإخباره بأن اللحم مذكاة، وبكون الماء طاهرًا أو نجسًا، ورد أولًا بأن ذلك ليس محل النزاع، إذ محله فيما يشترط فيه عدم الفسق، وذلك مما يقبله فيه الفاسق [5 ب]. قال العضد وابن الإمام اتفاقًا، وثانيًا أن الرواية أعلى مرتبة من هذه الأمور لأنها تثبت شرعًا عامًا فلا يلزم من القبول [8] في ذلك القبول في الرواية.
الحجة الثالثة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحن نحكم (2) بالظاهر، وهذا ظاهر، إذ يوجب ظنًا، ولذلك
_________
(1) في شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 64 - 66).
(2) قال العراقي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي رقم (78): "لا أصل له، وسئل عنه المزي فأنكره ".
وكذلك قال ابن كثير والسخاوي كما في "المقاصد الحسنة" رقم (178) وأيضًا السيوطي كما في "كشف الخفاء" للعجلوني رقم (585) وانظر: "موافقة الخبر الخبر" لابن حجر (1/ 181 - 183).
قلت: وقد ورد في السنة ما يؤدي معناه:
منها: ما أخرجه البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ... ". وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه النسائي (8/ 233) وترجم له في باب الحكم بالظاهر. ومسلم في صحيحه رقم (144/ 1064) من حديث أبي سعيد: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم".
وهو حديث صحيح.
وما أخرجه مسلم رقم (12/ 1497) من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة: " لو كنت راجمًا أحدًا من غير بينة رجمتها". وهو حديث صحيح.(4/1691)
أسلم أعرابي (1) فشهد بالهلال فقبل وأجيب أولًا بمنع الظاهر، قال العضد: بل يستوي فيه صدقه وكذبه ما لم تعلم عدالته، وأما قصة الأعرابي (2) فقال أيضًا: لعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف عدالته لأن الإسلام يجب ما قبله، ولم يحدث بعده ما ينقض العدالة، وثانيًا بالمعارضة بنحو قوله: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (3)، {إن يتبعون إلا الظن} (4) وأقول الحديث (5) لا أصل له كما قال المزي والذهبي.
قال الحافظ ابن كثير: هذا الحديث كثيرًا ما يلهج به أهل الأصول ولم أقف [له] (6) على سند، وسألت عنه الحافظ أبا الحجاج المزي فلم يعرفه، ولكن له شواهد كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنما أقضي بنحو ما أسمع» وهو في الصحيح (7).
وقال البخاري (8) في كتاب الشهادات قال عمر [رضي الله عنه] (9) إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن ظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، يحاسبه الله على سريرته، ومن أظهر سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة.
ورواه أحمد في .... .....................
_________
(1) تقدم آنفا.
(2) تقدم تخريجه
(3) [الإسراء: 36].
(4) [النجم: 23].
(5) تقدم تخريجه.
(6) زيادة من (أ).
(7) في البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة. وقد تقدم أنفًا.
(8) في صحيحه رقم (2641).
(9) زيادة من (أ).(4/1692)
مسنده (1) مطولًا وأبو داود (2) مختصرًا وهو من رواية أبي فراس عن عمر، قال أبو زرعة [لا أعرفه] (3). ومن الشواهد أيضًا حديث أن العباس (4) قال يا رسول الله كنت مكرهًا [6 أ] يعني يوم بدر، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله». على أنه لا حجة في هذا الحديث لمن قال بقول المجهول سواء قلنا بصحته أو لا.
قال العلامة محمد بن إبراهيم في العواصم (5) إن الظاهر المذكور في الحديث هو ما بدى للإنسان من الأحوال وسائر الأمور المعلومة دون البواطن الخفية كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس (6) كان ظاهرك علينا، يريد ما علمنا بما أضمرت إنما عرفنا ما أظهرت، وكون الراوي صادقًا أو كاذبًا في نفس الأمر ليس مما يسمى ظاهرًا في اللغة العربية والعرف المتقدم، وإنما هذا اصطلاح الأصوليين يسمونه المظنون ظاهرًا، ولم يثبت هذا في اللغة، ولا يجوز أن يفسر كلام
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 352) وفي رواية أي فراس عن عمر عند الحاكم "إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا الوحي ينزل، وإذ يأتينا من أخباركم، وأراد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد انطلق ورفع الوحي.
قوله: (فمن أظهر لنا خيرا أمناه بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أمينًا)، وفي رواية أبي فراس "ألا ومن يظهر منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه".
قوله: (الله يحاسب) كذا لأبي ذر عن الحموي بحذف المفعول، وللباقين "الله محاسبه" بميم أوله وهاء آخره.
قوله: (سويًا) في رواية الكشميهني "شرًا" وفي رواية أبي فراس "ومن يظهر لنا شرًا ظننا به شرًا، وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم، قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه الريبة وهو قول أحمد وإسحاق كذا قال: وهذا إنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلًا".
(2) قال الحافظ في "الفتح" (5/ 352) وفي رواية أي فراس عن عمر عند الحاكم "إنا كنا نعرفكم إذ كان فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا الوحي ينزل، وإذ يأتينا من أخباركم، وأراد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد انطلق ورفع الوحي.
قوله: (فمن أظهر لنا خيرا أمناه بهمزة بغير مد وميم مكسورة ونون مشددة من الأمن أي صيرناه عندنا أمينًا)، وفي رواية أبي فراس "ألا ومن يظهر منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه".
قوله: (الله يحاسب) كذا لأبي ذر عن الحموي بحذف المفعول، وللباقين "الله محاسبه" بميم أوله وهاء آخره.
قوله: (سويًا) في رواية الكشميهني "شرًا" وفي رواية أبي فراس "ومن يظهر لنا شرًا ظننا به شرًا، وأبغضناه عليه، سرائركم فيما بينكم وبين ربكم، قال المهلب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه الريبة وهو قول أحمد وإسحاق كذا قال: وهذا إنما هو في حق المعروفين لا من لا يعرف حاله أصلًا".
(3) زيادة من (ب).
(4) تقدم في المجلد الأول -العقيدة-.
(5) (1/ 376 - 378).
(6) تقدم في المجلد الأول -العقيدة-.(4/1693)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باصطلاح الأصوليين، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [9] لم يجعل صدق عمه العباس في دعواه للإكراه ظاهرًا، وإن كان صدقه بعد إسلامه مظنونًا راجحًا، بل الظاهر أن صدقه قبل إسلامه كان مظنونًا راجحًا لأنه كان من أهل السيادة والأنفة من الكذب [في الأخبار التي لا يعلم صدقها ولا كذبها؛ لأنه ليس مسمى في اللغة ظاهرًا، فلا يكون في الحديث حجة] (1).
إذا تبين لك هذا فاعلم أن مسألة السؤال أعني الإخبار برؤية الهلال إن كان من قبيل الرواية دون الشهادة [6 ب] كما يدل على ذلك قبوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للواحد في هلال رمضان كما ثبت عند أبي داود [والنسائي والترمذي] (2) من حديث (3) ابن عباس أن أعرابيًا شهد أنه رأى هلال رمضان، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» قال نعم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدًا»، وأصرح منه ما ثبت عند أبي داود (4) من حديث ابن عمر بلفظ أخبرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه، فالكلام الذي سلف في إبطال [مطلق] (5) رواية المجهول كاف في إبطال المقيد بهذه الصورة؛ لأن إبطال الأعم [يستلزم إبطال] (6) الأخص وإن كانت مسألة النزاع من قبيل الشهادة كما يدل على ذلك حديث، «عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما»، أخرجه أبو داود (7) من حديث الحسين بن الحارث الجدلي، وأخرجه. . . . . . .
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) في (ب) والترمذي والنسائي.
(3) تقدم تخريجه، وهو حديث ضعيف.
(4) في "السنن" رقم (2342)، وهو حديث صحيح، وقد تقدم.
(5) زيادة من (ب).
(6) في (ب) مستلزم لإبطال.
(7) في "السنن" رقم (2338). وهو حديث صحيح.(4/1694)
النسائي (1). من حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بلفظ فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا.
وفي رواية (2) قدم أعرابيان، فشهدا وفي أخرى عند أبي داود (3) [7] والنسائي (4) «أن ركبا جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهدون أنهم رأو الهلال» وفي حديث الأعرابي بلفظ شهد، فلا شك أن جميع شروط قبول الرواية شروط للشهادة، بل الشهادة أخص باعتبار أن من شروط قبولها الاختبار وانتفاء كفر التأويل وفسقه مع عدم اشتراط ذلك في الرواية.
أما الاختبار فظاهر، وأما فسق التأويل فقد ذكر العلامة ابن الوزير في .... ......
_________
(1) في "السنن" (4/ 132 رقم 2116) وهو حديث صحيح.
(2) عند أبي داود في "السنن" رقم (2339).
(3) في "السنن" رقم (1157).
(4) في "السنن" رقم (1507)
قلت: وأخرجه أحمد (5/ 58) وابن ماجه رقم (1653) وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم كما في "تلخيص الخبير" (2/ 87 رقم 696).
قال الخطابي في "معالم السنن": لا أعلم اختلافًا أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رؤية هلال شوال، وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء: لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين.
وقد روي عن عمر بن الخطاب من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى (أنه أجاز شهادة رجل واحد في أضحى أو فطر) ومال إلى هذا القول بعض أهل الحديث وزعم أن باب رؤية الهلال باب الإخبار، فلا يجري مجرى الشهادات، ألا ترى أن شهادة الواحد مقبولة في رؤية هلال شهر رمضان، فكذلك يجب أن تكون مقبولة في هلال شهر شوال.
قال: لو كان ذلك من باب الإخبار لجاز فيه أن يقول: أخبرني فلان أنه رأى الهلال، فلما لم يجز ذلك على الحكاية من غيره علم أنه ليس من باب الإخبار، والدليل على صحة ذلك أنه يقول أشهد أني رأيت الهلال كما يقول ذلك في سائر الشهادات، ولكن بعض الفقهاء ذهب إلى أن رؤية هلال رمضان خصوصًا من باب الإخبار، وذلك لأن الواحد العدل فيه كاف عند جماعة من العلماء، واحتج بخبر ابن عمر أنه قال: (أخبرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيت الهلال فأمر الناس بالصيام).(4/1695)
العواصم (1) أنه غير مانع من قبول الرواية، ونقل الإجماع على ذلك من طرق عشر مع القطع بأن [أكثر] (2) منهم قائلون بعدم قبول شهادة فاسق التأويل، وقريب منه كفر التأويل، وإن قال جماعة من أهل مذهبنا [بقبولها] (3) في الشهادة.
إذا عرفت هذا فما دل على عدم قبول رواية المجهول دل على عدم قبول شهادته مع ما يدل على خصوص الشهادة من قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (4) وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (5) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وشهد شاهد عدل» وقد نهانا رسول الله [10] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصيام المفروض إلى غاية للنهي هي رؤية الهلال كما يدل على ذلك: «لا تصوموا حتى تروا الهلال» (6) أو شهادة شاهدي عدل كما يدل على ذلك: "وشهد شاهدا عدل" أو كمال العدة كما يدل على ذلك: «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» (7) فقبل حصول واحد من هذه الثلاثة الصوم بنية الفرض منهي عنه، فالتعبدية منتف فأي ضرورة تلجئ المتدين [7 ب] إلى قبول رواية المجاهيل مع انتفاء الأسباب التي يتوقف تعلق حكم وجوب الصوم بناء عليها مع ما في ذلك من الوقوع في النهي! وهل هذا إلا من المخالفة للشريعة السمحة السهلة والوقوع في المضائق التي لم يتعبدنا الله بها؟.
_________
(1) (1/ 373 - 374).
(2) في (ب) كثيرًا.
(3) زيادة من (ب)
(4) [البقرة: 282].
(5) [الطلاق: 2].
(6) تقدم تخريجه.
(7) أخرجه البخاري رقم (1906) ومسلم رقم (3/ 100) وأحمد (2/ 63) والدرامي (2/ 3) والنسائي (4/ 134) والدارقطني (2/ 161 رقم 21) والبيهقي (4/ 204 - 205) من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له".(4/1696)
فإن قلت: من الأسباب التي يجب عندها الصوم شهادة الواحد كما ثبت ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند شهادة الأعرابي [وهو مجهول] (1)، قلت: أما أولًا: فقد قدمنا لك أنه شهد بعد إسلامه والإسلام يجب ما قبله، فهو في تلك الحال لا يتصف بجهالة العين ولا الحال.
وأما ثانيًا فهو متوقف على إمكان الجمع بينه وبين حديث وشهد شاهدًا عدل وحديث فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا (2) بأن في قبول الواحد زيادة يجب قبولها، وإنه يدل على قبول الواحد بالمنطوق (3) ومقابله بالمفهوم (4) والمنطوق [أرجح] (5) أو عدم إمكانه بهذا الوجه والمصير إلى التعارض وترجيح قبول الواحد في كل واحد من الطرفين نزاع طويل.
وأما ثالثًا فسيأتيك الفرق بين مجهول الصحابة وغيرهم وقبول الواحد العدل لو سلمنا أنه من الأسباب لم يكن مضرًا بمحل النزاع؛ لأن كلامنا في قبول المجهول أو المجاهيل كما سلف وإذا [قد] (6) تبين لك الكلام في مطلق المجهول فلنتكلم على مجهول الصحابة، وبيانه متوقف على ذكر الخلاف في عدالة الصحابة، وفيه أربعة مذاهب:
أنهم عدول (7) مطلقًا ونسبه ابن الحاجب في ......................
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم التعريف بها.
(4) تقدم التعريف بها.
(5) زيادة من (ب).
(6) زيادة من (ب).
(7) قال الشيخ تقي الدين وغيره "الذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عدول بتعديل الله تعالى لهم"، المسودة (ص 292).
وقال ابن الصلاح في مقدمته ص 146 - 147: الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ولا يعتد بخلاف من خالفهم.
قال الإمام الجويني في البرهان (1/ 632) ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة، ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما استرسلت على سائر الأعصار. قال إلكيا الطبري: وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل مأجور، وكما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا- أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 934 رقم 1778) وابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز ص 165 بسند لا بأس به.
قلت: وهذا القول هو الراجح والله أعلم.(4/1697)
مختصر (1) المنتهى وشارحه العضد والسبكي في "جمع الجوامع" (2) إلى الأكثر [وكذلك] (3) الإمام المهدي في المعيار.
_________
(1) (2/ 67).
(2) (2/ 166).
أما القول الثاني: أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها. "البحر المحيط" (4/ 229).
القول الثالث: أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها، فيجب البحث عنهم، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقًا، أي من الطرفين؛ لأن الفاسق من الفريقين غير معين، وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة.
وهذا القول غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها، وفيه أيضًا أن الباغي غير معين من الفريقين، وهو معين بالدليل الصحيح، وأيضًا التمسك بما تمسكت به كل طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تقدير تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين.
القول الرابع: أنهم كلهم عدول إلا من قاتل عليًا، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة.
وقال ابن قاضي الجبل: "وهذه الأقوال باطلة بعضها منسوب إلى عمرو بن عبيد وأحزابه، وما وقع بينهم محمول على الاجتهاد ولا قدح على مجتهد عند المصوبة وغيرهم".
"الكوكب المنير" (2/ 476 - 477)، "مقدمة ابن الصلاح" (ص 301).
القول الخامس: أن من كان مشتهرًا منهم بالصحة والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته دون من قلت صحبته ولم يلازم وإن كانت له رواية، كذا قال الماوردي.
وهو قول ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قليلًا ثم انصرفوا كوائل بن جحدر، ومالك بن الحويرث وعثمان بن العاص.
انظر "الكوكب المنير" (2/ 477).
(3) في (ب) وكذا.(4/1698)
قال مسألة، الأكثر والصحابة عدول. الأشعرية مطلقًا. المعتزلة إلا من ظهر فسقه ولم يتب، وكذلك ابن الإمام في شرح الغاية قال وهو قول جمهور الفقهاء وجماعة من المحدثين. قلت إلا أن أهل هذا القول لا يجعلون (1) الصحبة بمنزلة العصمة من موجبات القدح كما يظنه كثير من الناس؛ ولهذا قال المحلي في شرح الجوامع عند قول السبكي: والأكثر على عدالة الصحابة ما لفظه، ومن طرأ له منهم قادح كسرقة أو زنا عمل بمقتضاه [11] انتهى.
قال ابن أبي شريف في حاشية الجمع ما لفظه قوله: ومن طرأ له قادح منهم ... إلخ أشار به إلى أنه ليس المراد بكونهم عدولًا ثبوت (2) العصمة [لهم واستحالة المعصية عليهم، إنما المراد ما صرح به من أنه لا يبحث عن عدالتهم ومن فوائد القول] (3) بعدالتهم مطلقًا أنه إذا قيل عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول كذا كان حجة (4) كتعيينه باسمه انتهى بلفظه.
قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح (5) بعد أن ذكر القول بعدالة
_________
(1) انظر "اللمع" ص 43.
(2) انظر "اللمع" ص43.
(3) زيادة من (ب).
(4) قال الأنباري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم، إنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك لله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير فإنه لا يصح، وما صح فله تأويل صحيح.
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 263 - بتحقيقي): وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا تضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم.
وانظر: المسودة (ص 292)، مقدمة ابن الصلاح (ص 301).
(5) (ص 259).(4/1699)
الصحابة (1) كلهم ما لفظه إلا ما قام الدليل على أنه فاسق تصريح، ولا بد من هذا إلا الاستثناء على جميع المذاهب وأهل الحديث، وإن أطلقوا القول بعدالة الصحابة كلهم [فإنه] (2) يستثنون من هذه صفته، وإنما لم يذكروه لندره (3) ولأنهم قد بينوا ذلك في معرفة كتب الصحابة وقد فعلوا [8ب] مثل هذا في قولهم أن المراسيل لا تقبل على الإطلاق من غير استثناء مع أنهم يقبلون مراسيل الصحابة، وبعضهم يقبل ما علقه البخاري، وما حكم بعض الحفاظ بصحة إسناده [وإن لم] (4) يبين إسناده، ونحو ذلك من المسائل قال: وأنا أنقل نصوصهم على ذلك لتعرف صحة ما ذكرته من الإجماع على صحة هذا الاستثناء، ثم نقل في التنقيح (5) مادة من ذلك نفيسة، فراجعها وبهذا تعلم أن القائلين بعدالة الصحابة مطلقًا قاتلون بقبول مجاهيلهم، بل ذلك هو فائدة هذه المقالة كما [قال] (6) ابن أبي شريف، وأهل هذه المقالة هم أكثر الأمة، فمجهول الصحابة مقبول عند أكثر الأمة.
المذهب الثاني أن الصحابة كلهم عدول إلا من ظهر فسقه ولم يتب، وقد رواه الإمام المهدي في المعيار وشرحه عن المعتزلة واحتج له واختاره. فقال والحجة لنا على عدالة من لم يظهر فسقه منهم ... إلخ.
_________
(1) قال ابن الصلاح في مقدمته (ص 301): للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
وانظر "الإرشاد" للنووي (2/ 591).
(2) في (ب) فإنهم.
(3) والنادر لا حكم له، ثم إنه لم يثبت عن واحد من الصحابة كذب بصورة من الصور.
ذكره السخاوي، انظر "فتح المغيث" (3/ 106).
(4) في (أ) وإن.
(5) (ص 261).
(6) في (ب) قاله.(4/1700)
وهكذا قال ابن بهران في الكافل بلفظ: والصحابة كلهم عدول إلا من أبا. قال ابن لقمان في شرحه أنه المختار عند الأكثر، وقال إلا من أبا العدالة منهم بأن ظهر فسقه ولم يتب. وأهل هذا القول يقبلون مجهول الصحابة، وفي عده مذهبًا مستقلًا كما وقع في بعض كتب الأصول كالغاية والمعيار نظر. لأنه عين المذهب الأول، فلا يتم جعله مخالفًا له إلا مع الإغماض عما ذكره المحلي [9 أ] وابن شريف وابن الوزير (1) كما سبق، وقد تركه ابن الحاجب (2) وصاحب جمع الجوامع (3) فأصابا، ونسب ابن الحاجب إلى المعتزلة (4) القول بأن الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل عليًا لا كما فعله الإمام المهدي في المعيار [12].
المذهب الثالث: أنهم كغيرهم، وهذا قول القاضي أبو بكر الباقلاني.
المذهب الرابع: أنهم كلهم عدول إلى حين ظهور الفتن، وهذا قول عمرو بن عبيد (5).
إذا عرفت هذا تبين لك أن قبول مجهولهم مذهب جميع الأمة، ولم يخالف في ذلك إلا عمرو بن عبيد وأبو بكر الباقلاني على أن عمر بن عبيد من القائلين بعدالة مجهولهم قبل ذلك الوقت وبعده إذا لم يلابس الفتن فلا مخالف في ذلك على الحقيقة إلا أبو بكر الباقلاني. قال العلامة ابن الوزير في التنقيح (6) وأما القول بعدالة المجهول منهم فهو إجماع
_________
(1) في "التنقيح" (ص 259).
(2) في "مختصر المنتهى" (2/ 67).
(3) (2/ 166).
(4) تقدم آنفًا
(5) هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أو عثمان البصري، شيخ المعتزلة في عصره، ومفتيها، وأحد الزهاد المشهورين، كان جده من سبي فارس، وفيه قال المنصور: "كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد" له رسائل وخطب وكتب، منها "التفسير" و"الرد على القدرية".
انظر "الأعلام للزركلي" (5/ 81).
(6) (ص 267).(4/1701)
أهل السنة والمعتزلة والزيدية. وقال ابن عبد البر في التمهيد (1) إنه مما لا خلاف فيه انتهى.
وأما الدليل على ذلك فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد تولى تعديل الصحابة بنفسه، وكذلك رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقل، الأحوال أن يجعل [حكم] (2) ذلك التعديل حكم تعديل العبيد بعضهم بعضًا، فإذا لم تثبت لهم هذه المزية أعني قبول مجهولهم، ولا يقبل من عرفناه عينًا وحالًا، فأي طائل وأي ثمرة لقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (3) وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} (4)، قال العضد (5) أي عدولًا، قال ابن أبي شريف وأكثر المفسرين على أن الصحابة المرادون من هاتين الآيتين، ومن ذلك قوله تعالى: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (6) الآية.
ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير أمتي قرني»، أخرجه الشيخان (7) وحديث: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» أخرجه الشيخان (8). وحديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (9) على مقال فيه. وحديث: «أوصيكم [بأصحابي] (10) ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشوا الكذب».
_________
(1) (22/ 47) لابن عبد البر.
(2) زيادة من (ب).
(3) [آل عمران: 110].
(4) [البقرة: 143].
(5) في "مختصر المنتهى" (2/ 67).
(6) [الفتح: 29].
(7) البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله ابن مسعود.
(8) أخرجه البخاري في صحيحه (3673) ومسلم في صحيحه (221/ 2540) من حديث أبي سعيد الخدري.
(9) تقدم تخريجه مطولًا -وهو حديث موضوع- انظره في المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني -العقيدة-.
(10) في (ب) أصحابي.(4/1702)
ورواه أحمد (1) والترمذي (2) وأبو داود الطيالسي (3) وفي المتفق (4) عليه: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».
ومن الأدلة [الدالة] (5) على المطلوب قبوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمجهولهم كما في حديث عقبة بن الحارث عند البخاري (6) ومسلم (7) وفيه أنه تزوج أم يحيى بنت [13] أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعرض عني، قال فتنحيت فذكرت ذلك له قال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما. وفي لفظ (8) "كيف وقد قيل" وفي أخرى فنهاه عنها، وفي أخرى "دعها عنك"، [وكذلك] (9) قبوله للأعرابي (10) في الصيام إن سلمت جهالته، وقد سبق الكلام عليه، وكذلك حديث: «إن الناس [10أ] اختلفوا في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) في "المسند" (1/ 18 - 26).
(2) في "السنن" رقم (2165) وقال: حديث صحيح.
(3) في "المسند" (34) وصححه الحاكم (1/ 113 - 114) ووافقه الذهبي، وهو من حديث جابر بن سمرة عن عمر، وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود.
(5) زيادة من (ب).
(6) في صحيحيه رقم (88) و (2052) و (2640) و (2659) و (5104).
(7) لم يخرجه مسلم.
(8) انظر التعليقة السابقة.
وانظر "فتح الباري" (9/ 153).
(9) زيادة من (ب).
(10) تقدم تخريجه.(4/1703)
بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [الناس] (1) أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم» رواه أحمد (2) وأبو داود (3) وابن ماجه (4). قال الشيخ أبو الحسين في "المعتمد" (5) ما لفظه أعلم أنه إذا ثبت اعتبار العدالة وجب إن كان لها ظاهرًا أن يعتمد عليه، وإلا لزم اختبارها ولا شبهة في أن بعض الأزمان كزمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كانت العدالة منوطة بالإسلام، وكان الظاهر من المسلم كونه عدلًا؛ ولهذا اقتصر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال على ظاهر إسلامه، واقتصر الصحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من العرب، وأما الأزمان التي كثرت فيها الخيانات ممن يعتقد الإسلام فليس الظاهر من إسلام الإنسان كونه عدلًا، فلا بد من اختباره. وقد ذكر الفقهاء هاذ التفصيل. انتهى كلامه.
وأما [ما ذكره] (6) الجلال في كتابه عصام المتورعين عن مزالق المتشرعين من الجواب عن ذلك بأن خاصة للنوع، ثم قال [وتحققه] (7) أن حكم المجموع ليس حكمًا للأفراد، فإن الجماعة تحمل الحجر وتغلب الجيش دون الواحد ... إلخ [كلامه] (8)
فأقول: لا شك أن لفظ أصحابي جنس مضاف، وهو من صيغ العموم على ما هو الحق وإن منعه هو وجماعة من أهل [10 ب] الأصول، ومدلول العموم من باب الكلية [أعني الحكم] (9) .... .... .... .... ..
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) في "المسند" (9/ 349 رقم 39 - الفتح الرباني).
(3) في "السنن" رقم (2339).
(4) في "السنن" رقم (1653) وهو حديث صحيح. وقد تقدم.
(5) (2/ 136).
(6) في (ب) ما حكاه.
(7) في (ب) وتحقيقه.
(8) زيادة من (أ).
(9) في (أ) (أي محكوم).(4/1704)
[فيه] (1) على كل فرد فرد، قال في جمع الجوامع (2) في بحث العموم ما لفظه ومدلوله كلية أي محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتًا أو سلبا لا كلي، ولم يحك الخلاف في ذلك عن أحد، فلا يخرج فرد من أفراد الصحابة عن ذلك إلا بدليل أو ظهور قادح، وكذلك الخطابات القرآنية نحو [14] كنتم خير أمة، وكذلك جعلناكم [أمة وسطًا] (3)، ونحوهما ظاهرة في تناول كل مخاطب إلا لمخرج، والمجهول الذي هو محل باقٍ غير مخرج. وهو المطلوب.
وأما المعارضة بنحو قوله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} (4)
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) (2/ 167).
(3) زيادة من (ب).
(4) [البقرة: 187].
فوائد:
من هو الصحابي: قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 7، 8) بتصرف، وأصح ما وقف عليه من ذلك أن الصحابي، من لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنًا به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى.
ولذلك يدخل في التعريف:
كل مكلف من الجن والإنس.
وكل من لقيه مؤمنًا ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، ومات مسلمًا سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلام مرة أخرى أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد كالأشعث بن قيس، فإنه ارتد ثم عاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومات مسلمًا، فقد اتفق أهل الحديث على عده من الصحابة.
ويخرج من التعريف:
من لقيه كافرًا، ولو أسلم بعد ذلك، إذا لم يجتمع به مرة أخرى.
من لقيه مؤمنًا بغيره، كما لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.
من لقيه مؤمنًا به، ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله.
ثم قال: "وهذا التعريف مبني علي الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل ومن تبعهما ".
العدالة: تطلق العدالة على معان كثيرة منها: التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها. وهذا المعنى هو مراد المحدثين من قولهم: الصحابة كلهم عدول.
فقد قال السخاوي في "فتح المغيث" (3/ 106): قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا إن ثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد.
وقيل أن المقصود من عدالة الصحابة بالدرجة الأولى هو تنزههم عن الكذب، فهم عدول لا يكذبون ولم تعرف عنهم هذه الرذيلة، أما الصحابي فيمكن أن يصدر منه الذنب لأنه ليس معصومًا، إلا أن هذا الذنب لا يسقط عدالته لأن كل ابن آدم خطاء.
ومما تقدم نجد أن الجهالة أقسام ثلاثة:
(الأول): مجهول العين: وهو من لم يرو عنه إلا راو واحد وفيه أقوال:
1 - ): الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يقبل.
2 - ): أنه يقبل مطلقًا، وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام.
3 - ): أنه كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومالك ومن ذكر بذلك معهم وإلا لم يقبل.
4 - ): إن كان مشهورًا في غير العلم بالزهد والنجدة قبل، وإلا فلا.
5 - ): إن زكاه أحد أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد من قبل وإلا فلا، وهو اختيار أبي الحسن ابن القطان في (بيان الوهم والإيهام).
6 - ): إن كان صحابيًا قبل، وهو مذهب الفقهاء.
انظر: "التنقيح" (ص 198).
(الثاني) مجهول الحال: في العدالة في الظاهر والباطن مع كونه معروف العين، وفيه أقوال:
1 - ): لا يقبل، حكاه ابن الصلاح وزين الدين عن الجماهير.
2 - ): يقبل مطلقًا وإن لم تقبل رواية مجهول العين.
3 - ): إن كان الراويان عنه لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا.
"مقدمة ابن الصلاح" (ص 145)، "فتح المغيث" للعراقي (ص 160).
(الثالث) مجهول العدالة الباطنة وهو عدل في الظاهر، فهذا لا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين، وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي قال: لأن الأخبار مبنية على حسن الظن بالراوي.
ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن، وتفارق الشهادة، فإنها تكون عند الحكام، ولا ينظر عليهم ذلك فاعتبرت فيها العدالة في الباطن والظاهر.
وانظر: تفصيل ذلك: "فتح المغيث" (ص160) للزين العراقي.(4/1705)
ونحوها فغير منتهضة للتصريح بالتوبة عنهم في البعض والامتثال منهم في البعض الآخر، وإلى هنا انتهى الكلام على هذه المسألة وفيه كفاية [لمن له هداية، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام] (1).
[فرغ من تحريره جامعه في نهار يوم الأحد لثلاث خلت من شهر ربيع الأول سنة 1206 وكان فراغي من نقله من نسخة المصنف ليلة الخميس ليلة رابع شهر شعبان سنة 1208] (2)
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (ب).(4/1707)
بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(4/1709)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة).
2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث.
3 - أول الرسالة: بحمد الله. ورد سؤال معناه أن أهل الحديث جزموا بعدالة جميع الصحابة ...
4 - آخر الرسالة: لما أنكر عليه التفرد ببعض الأحاديث: إن أصحابي كان شغلهم الصفق بالأسواق ونحو ذلك كثير.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
7 - الرسالة صفحة واحدة فقط، تحتوي على (23) سطرًا، وكل سطر يحتوي على (8 - 9) كلمة.
8 - الرسالة من المجلد الخامس من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1711)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحمد الله:
ورد سؤال معناه أن أهل الحديث جزموا بعدالة جميع الصحابة بالأدلة الدالة على المزايا كتابًا وسنة، ولكنه قد نسب إلى بعضهم ضعف الحفظ والنسيان، والصحبة لا تعصم عن مثل ذلك، فما بال المحدثين لم يتعرضوا لذلك؟ وأجبت بأن هذا السؤال أخذه السائل من كونه لم يقع الكلام في ذلك في كتب الجرح والتعديل، ونحن نقول أن الصحابة -رضي الله عنه- ما كانوا يقبلون حديث من تعرض له منهم سهو، أو نسيان، أو ضعف حفظ، أو نحو ذلك.
وقد وقع بينهم ذلك في أحاديث معروفة، وقصص مذكورة كحديث قليب بدر (1) وحديث: «إن الميت يعذب ببكاء أهله ....................
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (3976) ومسلم رقم (2875) من حديث أنس بن مالك. وفيه " ... فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا"، قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقيمة وحسرة وندما.
روت عائشة رضي الله عنها هذه الرواية بعد موت عمر وتمسكت بقوله الله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} [فاطر: 22].
وفي المسألة قولان:
1 - ): أنهم لا يسمعون وهو مذهب الحنفية.
ومن أدلتهم على ذلك:
1 - ): قوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور}، [فاطر: 22].
2 - ): قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [النمل: 80].
وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز، وأنه ليس المقصود بـ (الموتى) وبـ (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم، وإنما المراد بهم الكفار الأحياء، شبهوا بالموتى، والمعنى من هم حال الموتى أو في حال من سكن القبر".
3 - ): وقوله تعالى: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما ااستجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 13 - 14].
فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلون في تماثيل وأصنام لهم، يعبدونها فيها، وليس لذاتها.
4 - ): حديث قليب بدر - تقدم تخريجه.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث:
1 - ): ما في إحدى الروايات - عند البخاري رقم (3980، 3981) والنسائي (1/ 693) من حديث ابن عمر - من تقييده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماع موتى القليب بقوله: "الآن" فإن مفهومه أنهم لا يسمعون من غير هذا الوقت، وهو المطلوب.
وقد نبه على ذلك العلامة الألوسي في كتابه "روح المعاني" (6/ 455) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبإسماع الله تعالى إياهم خرقًا للعادة ومعجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2 - ): أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرًا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون.
وأقرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب، وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلقًا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك، ولكن بين لهم ما كان خافيًا عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقًا، وأن ذلك أمر خاص مستثنى من الآية، معجزة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5 - ): قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" وهو حديث صحيح.
ووجه الاستدلال به: أنه صرح في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع سلام المسلمين عليه إذا لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع غير السلام من الكلام. وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى.
أدلة المخالفين وهم القائلين بأن الموتى يسمعون:
1 - ): الدليل الأول وهو حديث قليب بدر وقد تقدم.
وقد عرفت مما سبق أنه خاص بأهل قليب بدر من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقًا للعادة.
2 - ): قوله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (1338) ومسلم رقم (2870) من حديث أنس رضي الله عنه. وهذا خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله فلا عموم فيه.
والخلاصة:
أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم - على أن الموتى لا يسمعون.
وأن هذا هو الأصل: فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال. كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلًا، فيقال: إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم كلا فإنها قضايا جزئية، لا تشكل قاعدة كلية، يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
وقال الحافظ في "الفتح" (7/ 307): لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لم تمتنع كقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} الآية، {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا} الآية - وقد جاء في المغازي - قول قتادة إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخًا وحسرة وندمًا.
انظر: "روح المعاني" للألوسي (6/ 454 - 456)، "الدر المنثور" (5/ 191).(4/1713)
عليه» (1)، وحديث ........................................
_________
(1) قالت عائشة رضي الله عنها لما بلغها رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فقالت: يرحم الله عمر، ما حدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الميت ليعذب ببكاء أهله، ولكن قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله" ثم قالت حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164].
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1288) ومسلم رقم (929).
وفي رواية أنه ذكر لها أن عمر يقول: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على يهودية يبكى عليها، فقال: "إنها ليبكى عليها وإنها لتعذب في قبرها".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1289) ومسلم رقم (27/ 932).
وقد ثبت الحديث - "إن الميت ليعذب ببكاء أهله"- في صحيح البخاري أيضًا رقم (1281) ومسلم رقم (28/ 933) من طريق المغيرة بلفظ: "من ينح عليه يعذب بما نيح عليه".
فهذا الحديث قد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ثلاثة من الصحابة، ثم إن عائشة رضي الله عنها ردت ذلك متمسكة بما تحفظه، وبعموم القرآن، وأنت تعلم أن الزيادة مقبولة بالإجماع إن وقعت غير منافية، والزيادة هاهنا في رواية عمر وابنه، والمغيرة غير منافية لأنها متناولة بعمومها للميت من المسلمين، ولم تجعل عائشة روايتها مخصصة للعموم أو مقيدة الإطلاق حتى يكون قولها مقبولًا من وجه، بل صرحت بخطأ الراوي أو نسيانه، وجزمت بأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل ذلك، وأما تمسكها بقول الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]. فهو لا يعارض الحديث لأنه عام والحديث خاص.(4/1715)
فاطمة (1) بنت قيس في السكنى والنفقة، وحديث .....................................
_________
(1) عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (في المطلقة ثلاثًا): "ليس لها سكنى ولا نفقة". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (44/ 1480).
قالوا: وحديث فاطمة بنت قيس فيه مطاعن بضعف الاحتجاج به وحاصلًا أربعة مطاعن:
1 - كون الراوي امرأة ولم تقترن بشاهدين عدلين يتابعانها على حديثها.
2 - أن الرواية تخالف ظاهر القرآن.
3 - أن خروجها من المنزل لم يكن لأجل أنه لا حق لها في السكن بل لإيذائها أهل زوجها بلسانها.
4 - معارضة روايتها برواية عمر.
وأجب بأن كون الراوي امرأة غير قادح، فكم من سنن ثبتت عن النساء يعلم ذلك من عرف السير وأسانيد الصحابة.
وأما قول عمر: "لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت" - أخرجه مسلم رقم (46/ 1480) - فهذا تردد منه في حفظها، وإلا فإنه قد قيل عن عائشة وحفصة عدة أخبار، وتردده في حفظها عذر له في عدم العمل بالحديث، ولا يكون شكه حجة على غيره.
وأما قوله: إنه مخالف للقرآن وهو قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق: 1]، فإن الجمع ممكن بحمل الحديث على التخصيص لبعض أفراد العام، وأما رواية عمر فأرادوا بها قوله: وسنة نبينا وقد عرف من علوم الحديث أن قول الصحابي من السنة كذا يكون مرفوعًا.
فالجواب: أنه أنكر أحمد بن حنبل هذه الزيادة من قول عمر، وجعل يقسم ويقول: وأين كتاب الله إيجاب النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا، وقال: هذا لا يصح عن عمر سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لها السكنى والنفقة"، فإنه من رواية إبراهيم النخعي عن عمر، وإبراهيم لم يسمعه من عمر، فإنه لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين.
وأما القول بأن خروج فاطمة من بيت زوجها كان لإيذائها لأهل بيته بلسانها، فكلام أجنبي عما يفيده الحديث الذي روت، ولو كانت تستحق السكنى لما أسقطه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبذاءة لسانها، ولوعظها وكفها عن إيذائة أهل زوجها. ولا يخفى ضعف هذا المطاعن في رد الحديث.
فالحق: ما أفاده الحديث أن المطلقة ثلاثًا ليس لها سكنى ولا نفقة. وانظر: "زاد المعاد" (5/ 675).(4/1716)
مس (1) الذكر، وحديث ............................
_________
(1) عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من مس ذكره فليتوضأ".
أخرجه أحمد (6/ 406 - 407) وأبو داود رقم (181) والترمذي رقم (82) والنسائي (1/ 100) وابن ماجه رقم (479) وهو حديث صحيح.
عن طلق بن علي رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا نبي الله أيتوضأ أحدنا إذا مس ذكره؟، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل هو إلا بضعة منك أو من جسدك" وهو حديث صحيح.
أخرجه أبو داود رقم (182) والترمذي رقم (85) والنسائي (1/ 101) وابن ماجه رقم (483) والطيالسي رقم (1096) وأحمد (4/ 23).
وقد ادعى قوم نسخ حديث طلق بهذا، وعللوا بأن طلقًا قدم على رسول الله وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة أسلم متأخرًا وهو قول محتمل النسخ.
قلت: لكن المحققين من أئمة الأصول لا يرون هذا دليلًا على النسخ.
مذاهب أهل العلم في ذلك:
1 - ذهب بعضهم إلى ترك الوضوء من مس الذكر، وهم علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، وأبي الدرداء، ... ".
2 - وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر، وهم: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وجابر وعائشة.
الخلاصة:
قال المحدث الألباني في "تمام المنة" (ص 103): قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما هو بضعة منك"، فيه إشارة لطيفة إلى أن المس الذي لا يوجب الوضوء، إنما هو الذي لا يقترن معه شهوة، لأنه في هذه الحالة يمكن تشبيه مس العضو بمس عضو آخر من الجسم، بخلاف ما إذا مسه بشهوة، فحينئذ لا يشبه مسه مس العضو الآخر، لأنه لا يقترن عادة بشهوة، وهذا أمر بين كما ترى.
وعليه فالحديث ليس دليلًا للحنفية -ومن وافقهم- الذين يقولون بأن المس مطلقًا لا ينقض الوضوء، بل هو دليل يقول بأن المس بغير شهوة لا ينقض، وأما المس بالشهوة فينقض بدليل حديث بسرة. وبهذا يجمع بين الحديثين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه على ما أذكر. والله أعلم" اهـ.(4/1717)
الإصباح جنبا للمجامع في ليل رمضان (1). وكذلك أحاديث .........................
_________
(1) روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أدركه الصبح وهو جنب فلا صوم له".
وهو حديث صحيح: أخرجه ابن ماجه رقم (1702) وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 303 رقم 622): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه النسائي في الكبرى عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة به".
ورواه الإمام أحمد في مسنده - (2/ 314) - عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إذا نوى للصلاة -صلاة الصبح- وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ .. " وذكره البخاري تعليقًا.
وفي الصحيحين - البخاري رقم (1925، 1926) ومسلم رقم (75/ 1109) - أن أبا هريرة سمعه من الفضل زاد مسلم ولم أسمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما بلغ هذا عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبح جنبًا فيقوم فيغتسل ويخرج والماء يتحدر على جلده فيصوم ذلك اليوم"
وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (1926) ومسلم رقم (75/ 1109).
وأجاب الجمهور: بأنه منسوخ وأن أبا هريرة رجع عنه لما روي له حديث عائشة وأم سلمة، وأفتى بقولهما.
عن أبي بكر، قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقص يقول: في قصصه: من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم. فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث (لأبيه) فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه، حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال فكلتاهما قالت: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم" قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول، قال فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال فذكر له عبد الرحمن فقال أبو هريرة: أهما قالتاه؟ قال نعم. قال: هما أعلم.
ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس. فقال أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك.
قلت لعبد الملك: أقالت: في رمضان؟ قال كذلك، "كان يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم". ورد البخاري حديث أبي هريرة: بأن حديث عائشة أقوى سندًا.
انظر "صحيح البخاري" (4/ 143) في آخر حديث رقم (1926).
وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 418 - 427): إنه صح وتواتر، وأما حديث أبي هريرة فأكثر الروايات أنه كان يفتي به. ورواية الرفع أقل. ومع التعارض يرجح لقوة الطريق.(4/1718)
من جامع ولم ينزل (1)، ونحو هذه الواقعات.
_________
(1) روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الماء من الماء".
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (81/ 343) وأبو داود رقم (217) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 54).
هذا الحديث كان معمولًا في أول الإسلام ثم نسخ بأحاديث صحيحة.
(منها): ما أخرجه البخاري رقم (291) ومسلم رقم (348) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل".
(ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (88/ 349) والترمذي رقم (108، 109) وأحمد (6/ 47) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 56).
عن أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي.
فقلت لها: يا أماه (أو يا أم المؤمنين) إن أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك. فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل".(4/1719)
وقد نقل ما وقع بينهم من ذلك علماء الإسلام، وتعرضوا للترجيح في كثير من المواطن لحديث قوي الحفظ على ضعيفه، وحديث من كثرت منه الملازمة على من لم تكثر منه كما في قول أبي هريرة (1) -رضي الله عنه- في بعض المواطن لما أنكر عليه التفرد ببعض الأحاديث: إن أصحابي كان شغلهم الصفق بالأسواق، ونحو ذلك كثير.
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7354) ومسلم في صحيحه رقم (2492) من حديث أبي هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله الموعد، إني كنت امرءًا مسكينًا، ألزم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وقال: "من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه، فلن ينسى شيئًا سمعه مني"، فبسطت بردة كانت علي، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئًا سمعته منه.(4/1720)
سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟!
تأليف: محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(4/1721)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن عدالة جميع الصحابة، هل هي مسلمة أم لا؟!).
2 - موضوع الرسالة: في مصطلح الحديث.
3 - أول الرسالة: قال رضي الله عنه: الجواب: أن لأهل العلم في هذه المسألة أقوالًا:
(الأول): ذهب إليه الجمهور أنهم كلهم عدول- رضي الله عنهم وأرضاهم -
4 - آخر الرسالة: سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب بحسب ما ظهر لي وقوي لدي والله سبحانه أعلم. والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام آمين آمين
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - المسطرة: الأولى: (5) سطرًا.
الثانية: (19) سطرًا.
الثالثة: (19) سطرًا.
الرابعة: (20) سطرًا.
الخامسة: (18) سطرًا.
7 - عدد الكلمات في السطر: (8 - 10) كلمة.
8 - الرسالة ضمن المجلد الأول من "الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني".(4/1723)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
سؤال عن عدالة (1) جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟
قال (2) رضي الله عنه: الجواب: إن لأهل العلم في هذه المسألة أقوالًا.
الأول: ذهب إليه الجمهور (3) أنهم كلهم عدول رضي الله عنهم وأرضاهم.
الثاني: أنهم كغيرهم وبه قال الباقلاني (4).
الثالث: أنهم عدول [1أ] إلى حين ظهور الفتن بينهم وهو قول عمرو بن عبيد (5).
الرابع: أنهم عدول إلا من ظهر فسقه (6)، وهو قول المعتزلة وجماعة من الزيدية، والحق ما ذهب إليه الأولون لمخصصات يتعسر حصرها، منها: أن الله سبحانه قد تولى تعديلهم بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (7) وبقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} (8) أي عدولًا. وبقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} (9)
_________
(1) انظر الرسالة رقم (42).
(2) أي الإمام محمد بن علي الشوكاني.
(3) انظر: "مقدمة ابن الصلاح" (ص142) و"التنقيح" (ص 197).
(4) أي حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها، وهو قول باطل كما تقدم.
انظر: "اللمع" (ص 42)، "المستصفى" (2/ 259).
وقد نسبه الشوكاني في "الإرشاد" (ص 261 بتحقيقنا" إلى الحسين بن القطان. وانظر: "البحر المحيط" (4/ 299).
(5) تقدمت ترجمته.
(6) وقد نسب هذا القول إلى واصل بن عطاء وأصحابه الواصلية، وكذلك نسب إلى ضرار وأبو الهذيل ومعمر والنظام وأكثر القدرية.
انظر "الإحكام" للآمدي (2/ 90) "تيسير التحرير" (3/ 64)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 290) "مقالات الإسلاميين" (2/ 145).
(7) [آل عمران: 110].
(8) [البقرة: 143].
(9) [الفتح: 18].(4/1727)
ونحو ذلك.
وكذلك تولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعديلهم بقوله: «خير القرون قرني» الحديث وهو في الصحيح (1) ومثل حديث: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وهو في الصحيح (2) أيضًا. وقوله: «أصحابي كالنجوم» (3) وقوله: «لا تمس النار رجلًا رآني» (4) على ما فيهما من المقال.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وورد في البعض منهم خصائص تخصه كما ورد في أهل بدر: «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (5).
على أن المطلوب من الحكم بعدالة الجميع هنا ليس هو إلا قبول الرواية من غير بحث عن حال الصحابي، ومرجع القبول على ما هو الحق عندي هو صدق اللهجة والتحرز عن الكذب، ولم يفش في خير القرون الكذب، بل ولا في القرن الذي يليهم ولا في الذي يليه كما ثبت في حديث: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب» (6).
وبالجملة فالقول بعدالة الجميع [1ب] أقل ما يستحقون من المزايا التي وردت بها الأدلة الصحيحة، ويقال في جواب القوال الثاني، بأن جعلهم كغيرهم إهمال لمزاياهم وإهدار لخصائصهم (7) وطرح لكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة، ويقال في جواب القول
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم.
(2) أخرجه البخاري رقم (3673) ومسلم رقم (221/ 2540) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) تقدم وهو حديث موضوع.
(4) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3858) من حديث جابر بن عبد الله وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصاري. وهو حديث ضعيف.
(5) أخرجه البخاري رقم (3007) ومسلم رقم (161/ 2494) من حديث علي رضي الله عنه.
(6) أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم.
(7) قال ابن الصلاح في مقدمته (ص 301): للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
وقال ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" ص154: "والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوا من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل.
وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع عن غير قصد، كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد، كيوم صفين. والمجتهد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران اثنان، وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
وقول المعتزلة: الصحابة عدول إلا من قاتل عليًا - قول باطل مرذول ومردود ا هـ.
وانظر: "البرهان" (1/ 407) "فتح المغيث" للعراقي (ص350).(4/1728)
الثالث بأن تقييد ثبوت العدالة إلى وقت ظهور الفتن لا يتم بعد تسليم أنهم دخلوا فيها صانهم الله جراءة لا على بصيرة ولا تأويل. وذلك مما لا ينبغي إطلاقه على آحاد الناس مع الاحتمال. فكيف بالواحد من الصحابة؟ فكيف بجميعهم؟ ثم ليت شعري ما يقول صاحب هذا القول أعني عمرو بن عبيد (1) في البدريين الداخلين في تلك الحروب، فإن الله قد غفر لهم ما قارفوه من الذنوب، ولعله لا يجد عن هذا جوابًا، وهو مع هذه من رءوس أهل البدع ومن المتهمين في الدين، ومما يحقق تصميمه على هذه المقالة في الصحابة أنه كان يقول لو شهد عندي علي وطلحة والزبير على تافه ثفلٍ ما قبلت شهادتهم (2).
فانظر هذه الجرأة العظيمة من هذا المبتدع الجاهل للشرع وأهله، ويقال لأهل القول الرابع أن ما ذكرتم من ظهور الفسق لا نسلم وجوده على الحقيقة، وإنما هو بحسب الأهواء
_________
(1) انظر الرسالة رقم (42).
(2) ذكره صاحب الفرق بين الفرق (ص 101).
وكذلك ذكره الغزالي في " المستصفى " (2/ 259).(4/1729)
والدعاوي الفارغة والقيام في مراكز المذاهب، فذلك لا يضرنا ولا ينفعكم، وأيضًا أن ذلك الموجب للفسق إن كان لا يعود إلى ما يتعلق بالرواية والحفظ فلا اعتداد به [2 أ] لما قدمنا لك من الاعتبار بصدق اللهجة وحفظ المروي وعدم الدخول في بدعة من البدع توجب التهمة لذلك الراوي بالدعاء إلى مذهبه. وجميع الصحابة رضي الله عنهم منزهون عن جميع ذلك لا يخالف إلا من قد غلت في صدره مراجل الرفض.
قال السائل: كذلك إذا أخرج أصحاب السنن عن شخص ورووا عنه كفعل البخاري (1) عن ..........................
_________
(1) أخرج له البخاري في صحيحه - مقرونًا مع المسور بن مخرمة.
انظر الحديث رقم (2307 - 2308) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال. . . ".
وانظر الأحاديث رقم (1711، 2712، 2731، 2732).
روى البخاري في صحيحه عن مروان غير مقرون بغيره، وذلك كما في حديث رقم (4592) عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست على جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى عليه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله: (غير أولي الضرر).
قال الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" ص 384: " ... ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إذا خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم. وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنًا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح، ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا هو جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.(4/1730)
مروان (1) هل هو تعديل أم لا (2)؟.
_________
(1) مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي. أبو عبد الملك. ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل بأربع مات سنة 65 هـ وكانت ولايته على دمشق تسعة أشهر.
قال البخاري: لم ير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 444 رقم 2399): ولد يوم الخندق، وعن مالك أنه ولد يوم أحد. وانظر: "تهذيب التهذيب" (4/ 50).
قال الحافظ ابن حجر: "وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وعد من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل وهما جميعًا مع عائشة فقتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف، واعتذرت عنه في مقدمة "شرح البخاري" هدي الساري (ص443) فقلت:
"وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادًا على صدقه، وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولًا فيه كما قرره الإسماعيلي وغيره، وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرًا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم."
(2) إن رواية الثقة عن شخص لا تكون تعديلًا له مطلقًا، وهو قول أكثر الشافعية وابن حزم الظاهري والخطيب، وقال ابن الصلاح عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم ... وهو الصحيح.
انظر: "مقدمة ابن الصلاح" (ص53) "تدريب الراوي" (1/ 314) "الكفاية" (ص89)، "تيسير التحرير" (3/ 50 - 55) "اللمع" ص44.
وقيل: إنها تعديل له مطلقًا، اختاره القاضي وأبو الخطاب والحنفية وبعض الشافعية، عملًا بظاهر الحال. "المسودة" (ص 253، 271)، "تيسير التحرير" (3/ 50 - 55).
وقال أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي: ولا يقبل تعديل مبهم، كحدثني ثقة، أو عدل، أو من لا أتهمه لاحتمال كونه مجروحًا عند غيره.
"المسودة" (ص 256)، "كشف الأسرار" (3/ 71).
وقبله المجد من أصحابنا، وإن لم يقبل المرسل والمجهول، فقال: إذا قال العدل: حدثني الثقة، أو من لا أتهمه، أو رجل عدل ونحو ذلك فإنه يقبل، وإن رددنا المرسل والمجهول؛ لأن ذلك تعديل صريح عندنا"(4/1731)
والجواب أنه إذا كان لذلك الراوي شرط معروف فيمن يروي عنه، وكان من أهل التحري والإتقان والخبرة الكاملة في الفن، وصرح بأنه لا يروي إلا عمن حصل فيه ذلك الشرط كان الظاهر وجود الشرط المذكور في جميع رواته، فإن كان المجتهد يرى أن ما جعله ذلك الراوي شرطًا تحصل به مفهوم العدالة عنده وفي اجتهاده فلا بأس، فذلك وإن لم يكن للراوي شرط معروف، أو كان ولكن لا يراه المجتهد المطلع على ذلك محصلًا لمفهوم العدالة فلا يكون ذلك تعديلًا، فلا بد من هذا التفصيل وتقييد أحوال المختلفين في هذه المسألة به فاعرفه، قال السائل: وهل مسألة الجرح والتعديل يجوز فيها التقليد أم لا (1)؟
أقول: ينبغي أن يعلم السائل أن التقليد هو قبول رأي الغير دون روايته من دون مطالبة بالحجة، وتعديل المعدل للراوي ليس من الرأي في ورد ولا صدر، بل هو من الرواية [2ب] بحال من يعدله أو يجرحه؛ لأنه ينقل إلينا ما كان معلومًا لديه من حال الراوي، وهذا بلا شك من الرواية لا من الرأي، فلا مدخل لهذه المسألة في التقليد، وقد أوردها بعض المتأخرين لقصد التشكيك على المدعين للاجتهاد زاعمًا أنهم لم يخرجوا عن التقليد من هذه الحيثية، وأنت خبير بأن هذا التشكيك باطل نشأ من عدم الفرق بين الرواية والرأي، ومن هاهنا يعرف السائل بأن الاجتهاد متيسر لا متعذر ولا متعسر، والهداية بيد الله عز وجل، وقد أوضحت هذه المسألة في مؤلفاتي بمباحث مطولة (2) لا يتسع المقام لبسطها، وأطال وأطاب الكلام في شأنها الإمام محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى
_________
(1) انظر: الرسالة رقم (1).
(2) منها "القول المفيد في حكم التقليد" بتحقيقنا.(4/1732)
في كتابه العواصم والقواصم (1) في الذب عن سنة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليرجع إليه فإنه كتاب يكتب بماء الأحداق في صفحات الخدود الرقاق، وقد أوضحت ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم في الكتاب الذي سميته "أدب الطلب ومنتقى الأرب" (2) بحسب ما ظهر لي وقوي لدي، والله سبحانه أعلم، والصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الأعلام آمين آمين آمين آمين.
_________
(1) (2/ 8 - 20).
(2) (28 - 40) بتحقيقنا.(4/1733)
رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(4/1735)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس) ,
2 - موضوع الرسالة: في الحديث.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه، وبعد: فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن محمد بن عبد الوهاب -كثر الله فوائده- وهذا لفظه:
4 - آخر الرسالة: ... والبحث في هذا يطول جدًا. وقد جمعت فيه مصنفين مطولًا ومختصرًا- ولله الحمد.
حرره مؤلفه في يوم الأربعاء الثالث من شهر القعدة من شهور سنة (1228 هـ) حامدًا لله شاكرًا له مصليًا مسلمًا على رسوله.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الأوراق: (8).
7 - المسطرة: (28 - 32) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 13) كلمة.
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 - تاريخ النسخ: الأربعاء \3 \ ذي القعدة \1228 هـ.
11 - الرسالة من المجلد الرابع من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1737)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
أحمدك: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه، وبعد:
فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن عبد الوهاب (1) -كثر الله فوائده- وهذا لفظه:
عرض لي إشكال في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنسفها (2) ما لم
_________
(1) هو أكبر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنًا رحمه الله، فقد كان الشيخ يكني به.
ولد علي بن محمد بن عبد الوهاب في مدينة الدرعية. ونشأ بها وأخذ العلم عن والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
قال عنه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "الشيخ علي الإمام العلامة الثقة الزاهد الورع. كان شهمًا همامًا، فقيهًا، صدوقًا" وكان يحضر المغازي مع الغازي من أئمة آل سعود. توفي سنة 1245 هـ. "علماء نجد خلال ستة قرون (3/ 735 - 736" عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام.
(2) قال ابن منظور في "لسان العرب" (14/ 233): النفس: الروح، قال ابن سيده.
قال أبو إسحاق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما قولك خرجت نفس فلان أي روحه. وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه، والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسه وأهلك نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، والجمع من كل ذلك أنفس ونفوس.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 147 - 148): ضبط العلماء أنفسها بالنصب والرفع وهما ظاهران إلا أن النصب أظهر وأشهر.
قال ابن رشد: روي الحديث بالوجهين، فمعنى الرفع: ما وقع من الخطرات دون قصد.
ومعنى النصب: ما حدثت به أنفسها أن تفعله ولم تفعله. قال: ويؤيد هذا لفظ التجاوز، لأنه إنما يكون عما اكتسب.
وقال الأبي في إكمال إكمال المعلم (1/ 395): أن في النفس ثلاث خطرات: خطرات لا تقصد ولا تندفع ولا تستقر، وهم وعزم. فالخطرات خاف الصحابة أن يكونوا كلفوا بالتحفظ منها، ثم رفع ذلك الخوف، وأما الهم وهو حديث النفس اختيارًا أن تفعل ما يوافقها فغير مؤاخذ به.(4/1741)
تتكلم أو تعمل به" (1): ما هو هذا المغفور؟ هل هو شيء يستقر في القلب (2)، ويريده الإنسان أم هو خاطر يمر على القلب لا يستقر (3)، ولا يريده الإنسان؟ فإن كان الأول: فكيف من نوى الردة مثلًا -والعياذ بالله- ولم يرتكب موجبها من قول أو فعل؟ وكذلك من عزم على فعل ذنب من الذنوب في حينه أم معلقًا على وصول شيء ونحو ذلك؟ وكذلك من دخل في عبادة من صلاة أو صيام أو طهارة (4) ثم نوى إبطالها والخروج منها من غير فعل يوجب البطلان؟
فإن قلتم إنه يكفر ويأثم وتبطل عبادته، فما قولكم في من نوى الطلاق أو العتاق
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2528، 5269) ومسلم رقم (127) وأبو داود رقم (2209) والنسائي رقم (3434) والترمذي رقم (1183) وابن ماجه رقم (2041، 2044) وابن حبان في صحيحه رقم (4319) وأحمد في مسنده (2/ 393، 425، 474، 481) والطيالسي في مسنده (ص 322 رقم 2459).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم به".
(2) قال الرازي في تفسيره (7/ 125): أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك، بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به، والثاني لا يكون مؤاخذًا به. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}.
وقال في آخر هذه السورة: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وقال: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا}.
(3) قال الرازي في تفسيره (7/ 125): أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به، والثاني لا يكون مؤاخذًا به. ألا ترى إلى قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}.
وقال في آخر هذه السورة: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وقال: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا}.
(4) قال ابن الجوزي: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس وهو من عمل القلب. قال: والدليل على التفريق بين الهم والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمم على قطعها بطلت.
انظر: "فتح الباري" (11/ 327).(4/1742)
بقلبه، لكن لم يتكلم بموجبه -إن فرقتم في الحكم بين هذه المسائل- فما وجه الفرق مع أن ظاهر الحديث لا يقتضي التفرقة؟، وإن كان المراد من الحديث الخاطر الذي يمر على القلب لا يستقر فيه، ولا يريده الإنسان، فما هو الحرج المرفوع المعفو لهذه الأمة دون غيرها؟
وما معنى قول من قال من السلف في قوله: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (1) الآية. حيث قال: إنها أرجى آية في القرآن (2)؟
_________
(1) [البقرة: 260].
ذكر ذلك صاحب "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 296): ثم قال: "اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكًا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به.
وقال القرطبي في تفسيره (3/ 300): {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانًا والمعلوم عيانًا والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد، والفكر في صورة الإحياء غير محظور كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، إذ هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء.
وقال الرازي في تفسيره (7/ 40): أما قوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فاعلم أن اللام في (ليطمئن) متعلق بمحذوف. والتقدير: سألك ذلك إرادة طمأنينة القلب. قالوا، والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل، وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين.
(2) يشير إلى موقف عمر بن الخطاب من صلح الحديبية، فذهب عمر رضي الله عنه إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!! فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرره -طريقته- فإني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
وكأن الفارق لما يزل في نفسه بعض الحرج في قبول هذا الشرط، فرأى أن يستبين من الرسول وجه الحق وأن يسمع منه، فأتى رسول الله وقال له: ألست برسول الله؟ قال: "بلى"، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: "بلى"، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى"، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال الرسول: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني".
"السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة" (2/ 334) للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.(4/1743)
وكذلك ما وقع في نفوس بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الحديبية (1) كعمر، وغيره.
وقد طالعت كلام كثير من أهل العلم من شراح الحديث، وغيرهم في معنى هذا الحديث، فما وجدت في كلامهم ما يدفع الإشكال.
فالمسئول منكم -أدام الله النفع بكم- تحرير الجواب، وتبين ما هو الصواب؟ وكذلك ما يقول في رجل معه علة السلس، فإن بكر بالخروج إلى صلاة الجمعة اعتراه الحدث لطول المدة، وإن تأخر إلى حين دخول الإمام أو إلى قريب من الخطبة فاتته الفضيلة، ولكنه إذا تأخر هذا التأخر صلى بطهارة؟ وهل شهود الخطبة واجب أم لا؟. انتهى السؤال.
وأقول -مستعينا بالله ومتكلًا عليه، مصليًا مسلمًا على رسوله وآله وصحبه- إن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به» كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح (2) يدل على مغفرة كل ما وقع من حديث النفس؛ فإن لفظ "ما" من صيغ العموم (3)، كما صرح به أهل اللغة، وأهل المعاني والبيان. فهذا اللفظ في قوله: «إن الله غفر لأمتي كل ما حدثت به أنفسها». وهكذا ما ثبت في لفظ آخر في الصحيح (4) وغيره من حديث أبي هريرة: «إن الله تجاوز لأمتي ما
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) تقدم آنفًا.
(3) انظر: "الكوكب المنير" (3/ 120) و"تيسير التحرير" (1/ 224).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5269).(4/1744)
حدثت به أنفسها» فإنه في قوة: "كل ما حدثت به أنفسها". وهكذا بقية الألفاظ في الصحيح وغيره؛ فإنها دالة على العموم؛ مفيدة لعدم اختصاص التجاوز والمعرفة: [1 أ] ببعض حديث النفس دون بعض.
ويؤيد ذلك ما في الحديث الثابت في "الصحيح": أنها لما أنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} (1) فإن هذه الآية لما نزلت اشتد على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سمعنا وعصينا} بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}» فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. فلما فعلوا ذلك، نسخها الله تعالى، فأنزل عز وجل: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} -قال نعم- {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} -قال: نعم- {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} -قال نعم- {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين} (2)
_________
(1) [البقرة: 284].
(2) [البقرة: 286].(4/1745)
قال نعم- هذا لفظ حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح" (1)
وفي حديث ابن عباس الثابت في الصحيح (2) أيضًا بلفظ: "قد فعلت" مكان: "قال: نعم" في هذه المواضع، ولا يخفاك أن الحرج الذي رفعه الله في الآية الأولى ونسخه وغفره لأمته، هو التسوية بين إبداء ما في النفس أو إخفائه، ولفظ الآية يقتضي العموم، لأن قوله: {أو تخفوه} الضمير يرفع إلى قوله: {ما في أنفسكم} ولفظ "ما" من صيغ العموم -كما قدمنا- لأنها الموصولة، ثم رفع الله عنهم هذا التكليف، ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به. ولفظ: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} يقتضي العموم؛ لأن "ما" في: {ما لا طاقة لنا به} هي الموصولة أو الموصوفة أي: لا تحملنا الشيء الذي لا طاقة لنا به أو شيئًا لا طاقة لنا به، فقال: نعم أو قال: قد فعلت.
وهكذا يصح أن تكون "ما" في "ما حدثت به أنفسها" موصوفة، كما يصح أن تكون موصولة، أي: الشيء الذي حدثت به أنفسها أو شيئًا حدثت به أنفسها. وهكذا في: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} كما صح أن تكون "ما" موصولة يصح أن تكون موصوفة؛ أي: إن تبدوا الشيء الذي في أنفسكم أو شيئًا في أنفسكم أو تخفوا الشيء الذي في أنفسكم أو شيئًا في أنفسكم (3).
فتقرر لك بهذا أن الشيء الذي تجاوز الله لهذه الأمة من حديث النفس هو كل ما
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (125) وأحمد (2/ 412). والبيهقي في "الشعب" رقم (327) وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (126) والنسائي في تفسيره (1/ 293 رقم 79). والترمذي رقم (2992) وقال: هذا حديث حسن. وهو كما قال.
(3) انظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه (1/ 446 - 448). محيي الدين الدرويش.(4/1746)
يصدق عليه أنه حديث نفس، كائنًا ما كان سواء استقر في النفس وطال الحديث لهابه أو قصر، وسواء بقي زمنًا كثيرًا أو قليلًا، وسواء مر على النفس مرورًا سريعًا أو تراخى فيها، فالكل [1 ب] مما غفره الله لهذه الأمة وشرفها به وخصها برفع الحرج فيه، دون سائر الأمم، فإنها كانت مخاطبة بذلك مأخوذة به، ولا يقال: كيف خوطبت الأمم المتقدمة بمجرد الخواطر التي تمر بأنفسهم من حديث النفس مع كون ذلك من تكليف ما لا يطاق، ولا تقدر على دفعه الطبائع البشرية؟ لأنا نقول: {ويفعل الله ما يشاء} (1)، و {يحكم ما يريد} (2)، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (3).
فظهر لك بهذا أن كل ما يصدق عليه حديث النفس، فهو مغفور، عفو، متجاوز عنه، كائنًا ما كان على أي صفة كان، فلا يقع به ردة، ولا يكتب به ذنب، ولا تبطل به عبادة، ولا يصح به طلاق، ولا عتاق (4) ولا شيء من العقوبة، كائنا من كان، فإن
_________
(1) [إبراهيم: 27].
(2) [المائدة: 1].
(3) [الأنبياء: 23].
(4) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 184 - 185): أنا ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق، أو يمين، أو نذر ونحو ذلك، عفو غير لازم بالنية والقصد، وهذا قول الجمهور.
وفي المسألة قولان:
أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق عن معمر. سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه، فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئًا.
الثاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك، وروي عن الزهري. وحجة هذا القول قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات"، وأن من كفر في نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به} [البقرة: 284]، وأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض، والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضى، والعزم على الطاعة، ويعاقب على الكبر والحسد، والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء.
قال ابن القيم: ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ، أما حديث: "الأعمال بالنيات" فهو حجة عليهم، لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها، وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك، فهو كافر بزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم، كان نفس زواله كفرًا، فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب، فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الآخر.
وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه، ثم هو مغفور له أو معذب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية، وأما أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية، ثم أصر عليها، فهنا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، وأما من عزم على المعصية ولم يعملها، فهو بين أمرين إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل، وإما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق، والقرآن والسنة مملوآن به.
ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن من يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاصي قلبية يستحق العقوبة عليها، كما يستحقه على المعاصي البدنية، إذ هي منافية لعبودية القلب، فإن الكبر والعجب والرياء وظن السوء محرمات على القلب.
وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها، وهي أسماء لمعان مسمياتها قائمة بالقلب.(4/1747)
الرجل الذي حدث نفسه ولم يعمل ولا تكلم قد غفر الله له ذلك الحديث الذي حدث به نفسه بالردة إلى غاية هي العمل أو التكلم، فإن حصل منه العمل وذلك بأن يفعل فعلًا يقتضي الردة أو تكلم بما يقتضي الردة صار مرتدًا أو لزمته أحكام المرتدين. وهكذا بقية ما سأل عنه السائل.
وما يؤيد هذا ويدل عليه الحديث الثابت ...........................(4/1748)
في "الصحيح" (1) من حديث ابن عباس، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يروي عن ربه: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
وفي حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح" (2) عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله عز وجل: "إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة".»
وفي لفظ من حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح" (3) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله عز وجل: "إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها بعشر، فإذا تحدث بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له مثلها».
وفي لفظ من حديثه الثابت في "الصحيح" (4) أيضًا: قال: "قالت
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6491) ومسلم رقم (131) وأحمد (1/ 227، 310، 361) والبيهقي في "الشعب" (1/ 299 رقم 333). وأبو عوانة في صحيحه (1/ 84). وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7501) ومسلم رقم (128 إلى رقم 130) والترمذي رقم (3073) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأحمد في "المسند" (2/ 234، 315، 11؛ 498) وابن حبان في صحيحه رقم (382). وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (205/ 129).
(4) انظر التعليقة السابقة.(4/1749)
الملائكة (1) رب! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه: فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي (2) -أي من أجلي- وألفاظ الأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، فإن قوله: «لا وإن هم بسيئة فلم يعملها» يدل على أن كل ما هم به الإنسان -أي هم كان- سواء كان حديث نفس أو عزم أو إرادة أو نية لا يؤاخذ به حتى يعمله، كما يدل على ذلك إطلاق السيئة وعدم تقييدها. وكما يفيده جعل العمل مقابلًا للهم، فإنه يدل على أنه إذا لم يعمل بالسيئة، فهو من قسم الهم (3).
_________
(1) قال الحافظ: في "الفتح" (11/ 325): "فيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما باطلاع الله إياه أو يخلق له علمًا يدرك به ذلك، وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة.
وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (4/ 253): أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان.
ثم قال: وقد قيل في قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} أن المراد به الملائكة: والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله بن مسعود: "إن للملك لمة وللشيطان لمة، فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر". وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير".
(2) جراي: بتشديد الراء وفتح الياء، وفيه لغة أخر بالمد أي "جرائي" من "أجلي".
انظر: "تاج العروس" (1/ 72) القاموس المحيط (ص1749 - 1650).
(3) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 325): قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المازري: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ونقل ذلك نص الشافعي. ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ "فأنا أغفرها له ما لم يعملها".
فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به. وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب. لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها، فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية ... وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} ويؤيد أن الإصرار معصية اتفاقًا، فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية.
قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} وقوله: {اجتنبوا كثيرًا من الظن} وغير ذلك.(4/1750)
وأيضًا: يدل أعظم دلالة ذكر حرف الشرط في قوله: "فإن عملها" فإن هذه الصيغة تفيد أنه لا مؤاخذة بالسيئة (1) حتى يعملها، وبهذا يرد على من جعل القصد، والعزم (2)، وعقد القلب أمورًا زائدة على مجرد الهم [2أ].
وأما ما روي (3) عن بعض أهل العلم من الفرق بين ما استقر من أفعال القلوب، وما لم يستقر، وأنه يؤاخذ بما استقر منها، لا بما لم يستقر، وأن حديث: «إن الله تجاوز
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) اختلف أهل العلم في أحوال القلب مما يرد عليه من الوساوس قبل عمل الجوارح، وأكثرهم على أن ذلك على ثلاث مراحل:
أولها: الخاطر والهاجس وحديث النفس الذي لا يستقر وسرعان ما يزول، فهذا لا يؤاخذ عليه العبد، وقد سماه بعضهم همًا كما فعل الباقلاني ومن وافقه.
الثانية: هي قصد الفعل مع التردد، وهو الهم، والأكثرون على عدم المؤاخذة بهذا القسم أيضًا.
الثالث: هي قوة ذلك القصد والتصميم على الفعل ورفع التردد، وهذا هو العزم والتحقيق أن صاحبه يؤاخذ عليه وهو مذهب الأكثرين.
انظر: "تأويل مختلف الحديث" (ص 149)، "فتح الباري" (11/ 323 - 329)، "إكمال إكمال المعلم" (1/ 236).
(3) انظر: "فتح الباري" (11/ 327).(4/1751)
لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل» محمول على ما لم يستقر فلا يخفاك (1): إنه لا وجه لهذا التأويل المتعسف، والتفرقة بين ما يشمله الحديث ويدل عليه، بإدخال بعضه تحت حكم العفو والتجاوز، وإخراج بعضه عن ذلك الحكم وجعله مما لم يتناوله التجاوز عن حديث النفس، مع كونه منه! وفي هذا التعسف ما لم تلج إليه ضرورة، ولا قام عليه دليل.
وقد استدل بعض القائلين بالتفرقة المذكورة بقوله سبحانه: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها} (2) وجعل هذه الآية دليلًا على تأويل حديث التجاوز عن حديث النفس، وتخصيصه بما لم يستقر في الحديث! ولا يخفاك أنه لا دلالة في الآية على ما استدل به لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام! وبيان ذلك: أن قوله: {فأقم وجهك للدين} (3) إن أريد به معناه الحقيقي، فليس فيه الأمر بمجرد الإقامة للوجه، وذلك عمل جارحة لا عمل قلب، وإن كان المراد بإقامة الوجه: الكناية عن الإتيان بأمور الدين التي شرعها الله لعباده، فهي: أقوال وأفعال، لا حديث نفس! وإن كان محل الاستدلال الذي زعمه هذا المستدل هو قوله في الآية: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} (4): فليس في ذلك إلا أن كل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة (5) هي الخلقة التي خلقها الله عليها، والطبع الذي طبعه عليه، وليست من حديث النفس في ورد ولا صدر!.
ولهذا إنها توجد مقارنة للولادة والمولود، لا حديث نفس له، ولا اعتقاد، ولا قصد، ولا نية! وكذلك بعد الولادة بأيام طويلة حتى يبلغ حد التمييز.
_________
(1) تقدم التعليق على ذلك.
(2) [الروم: 30].
(3) [الروم: 30].
(4) [الروم: 30].
(5) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 27).(4/1752)
ومثل هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثابت في "الصحيح" (1) «كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه». فإن هذه هي الفطرة التي ذكرها الله في تلك الآية.
وإذا تقرر لك أن هذا معنى الآية، علمت أنه لا يصح الاستدلال بها على هذا المدلول الذي لا تدل عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام! وكيف تجعل هذه الدلالة التي هي أخفى من السها (2) مرجحة على دلالة الحديث التي هي أوضح من شمس النهار، وموجبة لتأويله وقصره على بعض مدلوله، وإخراج بعضه، مع ما فيه من العموم الشامل المفيد لتلك الغاية التي هي العمل أو التكلم، فإن هذه الغاية بمجردها دلت على أنه حديث النفس هو شيء مغاير للقول والعمل، فكل ما لم يخر من الخواطر القلبية إلى التكلم أو العمل به، فهو حديث نفس من غير فرق بين المستقر منها [2ب] وغير المستقر على ما بيناه.
وأوضح من هذا الحديث دلالة على المطلوب حديث (3): "من هم بسيئة، فإن عملها كتبت عليه سيئة، وإن لم يعملها لم تكتب عليه". وفي رواية صحيحة (4):
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4775) ورقم (1385) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري رقم (6599) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تنتج الإبل فهل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ... ".
(2) هو كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم. "لسان العرب" (6/ 416).
(3) أخرج مسلم في صحيحه رقم (203/ 128) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة .... ".
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم 205/ 129) من حديث أبي هريرة ورقم (207/ 131) من حديث ابن عباس.(4/1753)
"كتبت له حسنة" (1) فإن هذا الحديث يدل على أكمل دلالة، وينادي بأعلى صوت أن الهم مغفور بجميع أقسامه. ما لم يعمل به ولا أصرح، وأوضح من قوله: "ما لم يعملها"، فإن عملها كتبت عليه سيئة" (2).
فإن التقييدين "ما لم يعملها" ثم المجيء بالشرطية، وجعل الكتب لها عليه جزاء لعملها في غاية الوضوح. فهل أوضح من هذا وأنطق من دلالته؟! فكيف يقال: إن هذا محمول على ما لم يستقر (3) دون ما استقر من حديث النفس؟ وما الذي يفيد أن هذا الاستقرار قد خرج من الخواطر القلبية والأحاديث النفسية إلى حيز الأفعال الجوارحية؟ وما الموجب لهذا التأويل المتعسف والتخصيص المتعنت؟ وما المقتضي لتخصيص هذا الكلام النبوي، والعبارة المحمدية؟! فإن هذا من التقول على الله بما لم يقل، ومن إثبات الإثم على العباد،
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 326): يحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر، والكف عن الشر خير، ويحتمل أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة. فإن تركها من مخافة الله سبحانه كتبت حسنة مضاعفة.
وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركاً إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلاً فيجد الباب مغلقاً ويتعسر فتحه.
ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب - من هم ... ".
وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علماً فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء".
فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هماً مجرداً من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم في بداية الرسالة وانظر "الفتح" (11/ 327 - 328).(4/1754)
والمؤاخذة لهم بما صرحت الشريعة المطهرة بأنه عفو.
وقال بعض هؤلاء العالمين بالفرق بين ما استقر من حديث النفس وما لم يستقر بأنه يمكن إدخال الحديث المستقر تحت قوله: "ما لم تعمل"! وما أبعد هذا! وأن العمل والتكلم هما قسيم حديث النفس ومقابلاه، كما في حديث: "الهم بالسيئة" وهما أيضًا الغاية التي ينتهي عندها التجاوز! وكل عربي أو فاهم للغة العرب يفهم من هذا التركيب المذكور في الحديث، وهو أنه لو قال قائل: قد تجاوزت عن كل من حدث نفسه بشتمي ما لم يتكلم بالشتم أو يعمل عملًا يدل عليه.
فإن كل من يفهم لغة العرب يفهم أن كل ما لم يتكلم به من الشتم ولا عمل عملًا يدل عليه، داخل تحت عموم ذلك التجاوز دخولًا ظاهرًا وواضحًا. فإن قال قائل: إذا حدث نفسه حديثًا كثيرًا بالشتم، ولم يتكلم به ولا عمل عملًا يدل عليه فقد صار ذلك من جملة العمل الذي يدل على الشتم! فإن بطلان هذا ما يفهمه الصبيان.
وهكذا لو قال قائل: من هم بشتمي ولم يشتمني لم أؤاخذه، فإن شتمني وأخذته فإن كل من يفهم لغة العرب يعلم أن المؤاخذة ليست إلا على الشتم الصراح الذي تسمعه الآذان أو تراه الأعين، وأن كل ما لم يبرز إلى الخارج منه عفو مغفور، غير مؤاخذ به.
فإن قال قائل: إنه إذا استقر ذلك الهم في نفسه كان بمنزلة الشتم الصراح باللسان! كان بطلان هذا الكلام مما يفهمه الصبيان. ومما يزيدك بصيرة، ويطلعك على بطلان هذا الاستدلال، أن جعل حديث النفس أو الهم من العمل سيلزم منه الدور أو التسلسل في مثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما الأعمال بالنيات» (1) فإن النية: هي القصد، وعقد القلب.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1) ومسلم رقم (1907).
وأبو داود رقم (2201) والترمذي رقم (1647) وأحمد (1/ 302 رقم 300 - شاكر) وله ألفاظ.
وهو حديث صحيح.
وسيأتي تخريج الحديث بطرقه في رسالة خاصة ضمن هذا المجلد رقم (54).(4/1755)
وقد جعلت في الحديث من محصلات الأعمال، فلو جعلت من جملة الأعمال، لكانت محصلة لنفسها، ومحصلة، وهذا ظاهر لا يلتبس على من له فهم.
فعرفت بهذا بطلان ما قاله المخصصون للمستقر من حديث النفس بالمؤاخذة، وأنه ليس في أيديهم أثارة من علم، بل مجرد رأى بحت لا وجه له، ولا دليل عليه، ولا ملجئ إليه، ولا مسوغ له.
ثم يقال لهذا القائل: ماذا تريد بكون الخواطر المستقرة من حديث النفس مخالفة لغير ما هو مستقر منها، وزائدة عليها؟ [3أ] فإنه إن قال: إن كونها زائدة على الهم يقتضي المؤاخذة بها!.
فكلامه باطل؛ فإن الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حكى لنا عن ربه: أنه لا يؤاخذ إلا إذا عملها.
ولا شك ولا ريب أن القصد (1)، والعزم، وعقد القلب، والنية -لو فرضنا- أنها أمور زائدة على مجرد الهم لم تكن بها مؤاخذة، لأنها ليست بعمل.
والمؤاخذة إنما هي العمل، ولا يخالف في ذلك مخالف من أهل اللسان، ولا من أهل الشرع.
وإن قال: إن كونها زائدة لا يقتضي المؤاخذة بها، ولكنها تتميز عن الهم بكونها زائدة عليه!
فيقال له: لا فائدة في هذا أصلًا، فإنها إذا كانت مغفورة لا يؤاخذ الله العبد بها، فذلك هو المطلوب، والتفرقة ضائعة باعتبار ما نحن بصدده، وقد دلت الأحاديث أن المؤاخذة (2) ليست إلا بالعمل كما دلت الأحاديث المصرحة بأن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها، وبأن المؤاخذة ليست إلا بالعمل أو التكلم.
_________
(1) تقدم ذكر ذلك.
(2) انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/ 425).(4/1756)
ومن أعظم الأدلة وأوضحها ما في حديث ابن عباس هنا: «وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة» (1) وفي اللفظ الآخر: من حديث أبي هريرة: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة» (2).
فإن هذا يدل على أن الله يكتب لمن هم بالسيئة، ولم يعملها، حسنة. ومعلوم أن القاصد، والعازم، والناوي، والمريد للسيئة لم يعملوها، فهم في عداد من يكتب له بتلك السيئة التي قصدها، أو عزم عليها، أو نواها، أو أرادها حسنة، لأنه لم يعملها، ولأنه تركها بلا شك ولا شبهة.
فاندفع ما جاء به الفارقون بين الهم، وبين تلك الأمور، ولم يشتمل كلامهم على فائدة يعتد بها فيما نحن بصدده.
واعلم أنه قد زعم قوم من علماء الكلام أن العزم (3) إن شارك الفعل للمعزوم عليه، كان مؤاخذًا به ومعاقبا عليه!
قالوا: فمن عزم على أن يستخف بنبي من الأنبياء، أو بكتاب من الكتب المنزلة، كفر بمجرد هذا العزم، وإن لم يفعل فعلًا، ولا قال قولًا! هذا معنى كلامهم، وهو كلام ساقط، وتفرقة باطلة، ليس عليها أثارة من علم نقل ولا عقل!
وبيان ذلك أن الغاية التي أثبتت الأدلة المؤاخذة بها هي العمل أو التكلم. وهذا العازم لم يعمل، ولا تكلم.
فالقول بالمؤاخذة له: قول بلا دليل، بل قول مخالف للدليل مخالفةً واضحةً ظاهرةً.
والذي حملهم على هذا خيال مختل وشبهة داحضة، وهو أنهم ظنوا أن هذا العازم على ما ذكروه، وقد
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (207/ 131) وقد تقدم.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (205/ 129) وقد تقدم.
(3) انظر: "الفتح" (11/ 328).(4/1757)
عزم على ما لا يجوز (1)، وأن ذلك موجب للمؤاخذة! وهذا غلط ظاهر، فإنه لا شك أنه قد عزم على ما لا يجوز، لكن الذي لا يجوز هو ما عزم عليه، والنزغة الشيطانية، فإن الشرع قد جاءنا بأنها عفو مغفورة، ما لم يعمل أو يتكلم.
وهذا لم يعمل، ولا تكلم. وليس عزمه بعمل، ولا كلام باتفاق أهل اللغة والشرع، وهذا هو المعنى الذي فهمه السلف الصالح من هذه الأحاديث.
ورحم الله الأمام الشافعي، فإنه قال في "الأم" (2) كل ما لم يحرك به لسانه فهو حديث النفس الموضوع عن بني آدم. انتهى.
ولم يصب من تأوله، كما لم يصب من تأول الأحاديث [3ب].
فقد تبين بجميع ما ذكرناه جواب ما سأل عنه السائل -كثر الله فوائده- وأن الحرج المغفور لهذه الأمة هو ما كان من تكليف غيرهم من العقوبة على حديث النفس وما تخفيه الضمائر، وما تهتم به القلوب من غير فرق بين ما استقر وطال أمد لبثه وتردد في النفس، وتكرر حديثهما به، وبين ما مر بها وعرض عرضًا يسيرًا، فإنه مغفور لنا، ومعاقب به من قبلنا كما قدمنا ذكره.
ولا يشكل هذا التقرير الذي قررناه، بما ورد في مواضع مخصوصة مما يدل على المؤاخذة بشيء من الأفعال القلبية من دون عمل ولا تكلم، فإن ذلك يقصر على موضعه، ويخص بسببه، ويكون ما ورد منها مخصصًا لهذه العمومات التي ذكرناها،
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 552): وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ (ما لم يعمل) يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن، ... ثم قال: وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تجاوز لي) وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم، وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة لما نزلت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على الصحابة فذكر الحديث في شكواهم - تقدم في بداية الرسالة.
(2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (11/ 328).(4/1758)
وذلك كقوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} (1) الآية.
فإنها تدل على المؤاخذة بمجرد الإرادة في الحرم أو في البيت الحرام لشيء من المعاني التي تصدق عليها أنها ظلم للنفس أو ظلم للغير إذا كانت تلك الإرادة متعلقة بما هو إلحادٌ من ذلك.
فهذه الآية لو حملناها على ظاهرها (2)، ولم نتأولها بوجه من وجوه التأويل، لورودها مخالفة للأدلة القطعية الدالة على عدم المؤاخذة بما تخفيه القلوب، وتضمره السرائر حتى يعمل أو يتكلم به. لكان الواجب على قصرها على المورد الذي وردت فيه، وتخصيصها بالمكان الذي خصها به الدليل، فيقال: إن المؤاخذة. بمجرد الإرادة لما هو إلحاد بظلم خاص بالحرم أو البيت الحرام، فتقصر على محلها، وموردها، ومكانها، وليس فيها ما يقتضي كل الأحوال، أو الأزمنة، أو الأمكنة.
فإن قلت: فهل نجعل من هذا القبيل الوارد مخالفًا لتلك الأدلة العامة ما ثبت في "الصحيح" من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل .............................
_________
(1) [الحج: 25]. وتمام الآية: {نذقه من عذاب أليم}.
(2) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 328): " ... ويؤيد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه، فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا البحث بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم ومع ذلك فمن هم بمعصية لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذ بما دونه؟ ويمكن أن يجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه من هم بالمعصية ذاهلاً عن قصد الاستخفاف.
وانظر "زاد المعاد" (5/ 184 - 185).(4/1759)
صاحبه» (1)؟.
قلت: لا أجعله من هذا القبيل؛ لأن هذا المقتول لم يكن منه مجرد الحرص فقط، بل قد فعل في الخارج فعلًا هو عمل ظاهر، وهو أخذه لسيفه وملاقاته لصاحبه قاصدًا لقتله عازما على سفك دمه، فهو داخل تحت قوله: "ما لم يعمل أو يتكلم" وهذا قد عمل، وداخل تحت قوله: «ومن هم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها». وهذا قد أردف القصد بالعمل.
وعلى تسليم أن هذا العمل الذي عمله، وهو حمله للسيف وملاقاته لصاحبه ليقتله لا يكون عملًا؛ لأنه لم يعمل العمل المقصود، وهو القتل ولا سيما بعد قوله فيه: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جعل السبب الموجب للنار هو مجرد الحرص فقط، فيكون هذا الحديث مما خصصت به تلك العمومات، ولا معارضة بين عام وخاص، بل الواجب بناء العام على الخاص بالاتفاق (2).
والوجه ظاهر في تخصيص الحرص على قتل المسلم بالمؤاخذة به، وإخراجه من تلك
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (31 و6875 و7083) ومسلم رقم (2888) وأبو داود رقم (4368) والنسائي (7/ 124 رقم 4118) من حديث أبي بكرة.
(2) قال الحافظ في "الفتح" (11/ 327): ... وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها كما يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور، لا بالمعصية ومما يدل على ذلك حديث "إذا التقى المسلمان " قال: والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا يعاقب عقاب من باشر القتل حسًا.
وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 34): واستدل بقوله "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل وأجاب من لم يقل بذلك أن في هذا فعلاً وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكون في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط، فلم يقع التعذيب على العزم المجرد.(4/1760)
العمومات لما في إراقة دم المسلم من عظم الذنب الذي لا يماثله فيه غيره من الذنوب التي يرتكبها المسلمون بعد الإسلام مما ليس بشرك.
ولأجل هذا اختلف السلف في قبول توبة القاتل [4أ] اختلافًا طويلًا (1) على ما هو
_________
(1) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 536) قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93]، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا، وقال الإمام البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. رواه البخاري رقم (4590) ومسلم رقم (18/ 160) كلاهما من طريق سعيد بن جبير.
وقال ابن جرير في تفسيره (5/ 219) عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله -عز وجل- فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحًا يبدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا} إلى قوله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا} [الفرقان: 70].
وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر:53]. وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب تاب الله عليه.
قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وثبت في الصحيحين -أخرجه البخاري رقم (3470) ومسلم في صحيحة رقم (2786) عن أبي سعيد الخدري -خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالمًا: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيها فهاجر إليها فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة.(4/1761)
معروف في كتب التفسير، وفي كتب شروح الحديث.
وكما أن تخصيص المؤاخذة بالحرص على القتل وإخراجه من تلك العمومات لما ذكرنا؛ فكذلك أيضًا تخصيص المؤاخذة (1) بالإرادة بإلحاد بظلم في البيت الحرام أو في الحرم له وجه ظاهر واضح، وهو كون ذلك المريد في ذلك المكان المقدس المطهر الذي هو محل للطاعات، لا للمعاصي.
ولهذا ورد في الترغيب في الطاعات فيه، ومضاعفة ثوابها (2) ما ورد. وورد أيضًا- في الترهيب عن المعاصي (3) فيه، وكثرة إثمها ما ورد، مما هو معروف.
فإن قلت: هل يكون من هذا القبيل المخصص لتلك العمومات ما ورد في شأن أهل القرية التي أصبحت كالصريم، فإن الله عاقبهم بمجرد قولهم: {أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (4).
قلت: ليس من هذا القبيل؛ فإنهم قد تكلموا بما عزموا عليه، كما حكى الله عنهم في قوله: {فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (5).
_________
(1) انظر "فتح الباري" (11/ 328).
(2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 332 - 335).
(3) انظر تفسير ابن كثير (5/ 408).
(4) [القلم: 24]
(5) [القلم: 23 - 24].
قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (18/ 241): في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}.
وقال الطبري في "جامع البيان" (14\ ج 29/ 34): صح أن الذي هو أولى بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله {وغدوا على حرد قادرين} وغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه واستسروه بينهم، قادرين عليه في أنفسهم.(4/1762)
وقد سبق تقييد تلك المعلومات بعدم العمل أو التكلم كما أسلفنا، وهؤلاء قد تكلموا بما عزموا فعوقبوا لأجل تكلمهم لا لأجل عزمهم.
قال السائل -كثر الله فوائده- وما معنى قول من قال من السلف في قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (1) الآية. حيث قال إنها أرجى آية (2) في القرآن؟.
وكذلك ما وقع في نفوس بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يوم الحديبية (3) كعمر وغيره؟.
وقد طالعت كلام كثير من أهل العلم من شراح الحديث، وغيرهم في معنى الحديث، فما وجدت في كلامهم ما يدفع الإشكال؟.
أقول: وجه قول بعض السلف: إنها أرجى آيةٍ؛ أن الله سبحانه لم يؤاخذ نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بطلب الطمأنينة؛ فإذا طلبها الواحد منا أو اختلج في خاطره شيء من الوسوسة الشيطانية؛ لم يكن مؤاخذا بذلك بالأولى.
ولهذا قال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ثبت عنه في "الصحيح" (4) «نحن أحق بالشك .........................
_________
(1) [البقرة: 260].
(2) تقدم ذكر ذلك.
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3372) ورقم (4537 و4694) ومسلم في صحيحه رقم (151، 2370) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي".(4/1763)
من (1) إبراهيم ". فإذا كان نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أحق بطلب الطمأنينة من إبراهيم الخليل، فنحن أيضًا -أيتها الأمة- أحق بذلك منه.
وليس في هذا -والعياذ بالله- ما يقدح في دين طالب الطمأنينة أو يثلم في إيمانه؛ لأنه طلب شيئا طلبه أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فأين نحن منهم؟ وملائكة الله -سبحانه- تتنزل عليهم في الوقت بعد الوقت، والحين بعد الحين، ويرون من براهين الله سبحانه ما لا يمكننا الوقوف عليه، ولا الوصول إلى بعضه.
وقد ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة في الوسوسة، ما هو معروف، فلنذكر بعضه هاهنا:
فأخرج أحمد (2) ومسلم (3) من حديث أنس مرفوعا:» إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله [4 ب]؛ فإن ذلك يذهب عنه «.
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 412): ثم اختلفوا في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن أحق بالشك" فقال بعضهم: معناه نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم، وقيل معناه إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم. وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعا منه، أو من قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، وهو كقوله في حديث أنس عند مسلم: "أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خير البرية قال ذاك إبراهيم، وقيل أن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا فبلغه ذلك فقال: نحن أحق بالشك من إبراهيم.
وقال ابن الجوزي: إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث فقال: أنا أحق أن أسأل إبراهيم، لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك.
(2) في "المسند" (3/ 102).
(3) في صحيحه رقم (136).(4/1764)
وأخرج نحوه أحمد (1)، من حديث عائشة.
وأخرج البخاري (2) من حديث أنس مرفوعا:» لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء؛ فمن خلق الله؟ «.
وأخرج نحوه البخاري (3)، ومسلم (4)، من حديث أبي هريرة مرفوعا، وزاد،» فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينتبه «.
وأخرج نحوه الطبراني في "الكبير" (5) من حديث ابن عمر مرفوعا.
وأخرج نحوه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان" (6) عن عائشة مرفوعًا.
وأخرج أيضًا نحوه: مسلم (7)، وأبو داود (8) من حديث أبي هريرة مرفوعا.
وأخرج البخاري (9)، ومسلم (10)، وغيرهما من حديث عائشة:» أن النبي - صلى
_________
(1) في "المسند" (6/ 257) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 33) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى- في مسنده (8/ 160 - 161 رقم 4704) والبزار- (1/ 34 رقم 50 - كشف) - ورجاله ثقات.
(2) في صحيحه رقم (7396).
(3) في صحيحه رقم (3276).
(4) في صحيحه رقم (134، 135).
(5) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 34) وقال: رواه الطبراني في الأوسط - رقم 1917 - والكبير ورجاله رجال الصحيح خلا أحمد بن محمد بن نافع الطحان شيخ الطبراني والله أعلم.
وأحمد بن محمد بن نافع هذا ترجم له الذهبي في "تاريخه" حوادث (291 هـ- 300 هـ) (ص72) وسكت عنه.
(6) (ص 49 رقم 28) بسند صحيح.
(7) في صحيحه رقم (134، 135).
(8) في "السنن" رقم (4721).
قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3276).
(9) في "الأدب المفرد" رقم (1285) فيه "ليث" و"شهر" ضعيفان.
(10) لم يخرجه مسلم في صحيحه.
قلت: وأخرجه أحمد (6/ 106) وأبو يعلى في مسنده (8/ 109 رقم 4649). وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 33) وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى بنحوه ... وفي إسناده شهر ابن حوشب. قلت: وليث وهما ضعيفان.
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.(4/1765)
الله عليه وآله وسلم - سئل عن الوسوسة؟ فكبر ثلاثًا، وقال: ذاك صريح الإيمان ".
وأخرج مسلم (1)، وغيره (2) من حديث أبي هريرة قال: "جاء أناس من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى رسول الله، فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان".
وأخرج مسلم (3) وغيره (4) عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان".
وأخرج أحمد (5) من حديث عائشة: "أن الناس سألوا رسول الله، عن الوسوسة التي يجدها أحدهم، لأن يسقط من عند الثريا أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال؟ ذاك محض الإيمان".
وأخرج نحوه: الجماعة (6) من حديث ابن مسعود، وفيه: "ذاك صريح الإيمان".
وأخرج نحوه مسلم (7)، وأبو داود (8) من حديث أبي هريرة، والطبراني في "الأوسط" (9) من حديث ابن عباس.
_________
(1) في صحيحه رقم (132).
(2) كأبي داود رقم (5111) وابن حبان رقم (145، 148). وهو حديث صحيح.
(3) في صحيحه رقم (133).
(4) كابن حبان في صحيحه رقم (149). وهو حديث صحيح.
(5) في "المسند" (6/ 106) بإسناد ضعيف.
(6) تقدم.
(7) في صحيحه رقم (132).
(8) في "السنن" (5111) وقد تقدم.
(9) لم أجده في "الأوسط" من حديث ابن عباس. وهو في "الصغير" (2/ 237 - الروض الداني) من حديث ابن عباس بسند ضعيف.
وذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 34) وقال: رواه الطبراني في "الصغير" ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني منتصر بن محمد أبو منصور البغدادي. ترجم له الخطيب في "تاريخه" (13/ 269) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً.
للعلماء أقول في تفسير قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سئل عن الوسوسة: "ذلك محض الإيمان" منها:
ما ذكره المازري في "المعلم بفوائد مسلم" (1/ 210 - 211): أما قوله: "ذلك محض الإيمان" فلا يصح أن يراد به أن الوسوسة هي الإيمان؛ لأن الإيمان هو اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوا من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم فكأنه يقول: جزعكم من هذا هو محض الإيمان، إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه، فإذا تقرر هذا تبين أن هذا التبويب المذكور- في بعض نسخ مسلم "باب الوسوسة محض الإيمان"- غلط على مقتضى ظاهره.
وأما أمره عليه السلام لهم عند وجود ذلك أن يقول: "آمنت بالله" فإن ظاهره أنه أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين:
فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا على غير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه.
وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال، ونظر في إبطالها، ومن هذا المعنى حديث "لا عددي"- سيأتي قريبًا-.
وقيل سبب الوسوسة علامة الإيمان لأن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغرائه من أهل الإيمان القوي.
وقيل: الوقوف عن الاسترسال مع وساوس الشيطان ودفعها وإثبات خالق لا خالق له هو محض الإيمان.(4/1766)
وأخرج -أيضًا- الطبراني في "الأوسط" (1) من حديث أم سلمة مرفوعا- بلفظ:
_________
(1) في "الأوسط" (3/ 371 رقم 3430). وفي "الصغير" (1/ 129) وذكره الهيثمي في (المجمع) (1/ 34). وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" وفي إسناده سيف بن عميرة. قال الأزدي يتكلمون فيه". اهـ.
قلت: وسيف هذا صدوق له أوهام كما في "التقريب".(4/1767)
» لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن «.
وأخرج من حديثها (1) - أيضا-: "أن رجلا قال: يا رسول الله! إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لحبطت أجري؟ فقال: الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".
وأخرج أحمد (2)، وأبو داود الطيالسي (3) والطبراني في الكبير (4)، والبيهقي في "الشعب" (5) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سئل عن الوسوسة-: "الحمد لله، إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضي هذه ولكن قد رضي منكم بالمحقرات من أعمالكم".
وأخرج الطبراني في "الكبير" (6) من حديث معاذ قال: "قلت يا رسول الله! إنه ليعرض في نفسي الشيء، لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به ... " فذكر نحو ما تقدم.
وأخرج .......................................................................
_________
(1) لم يخرجه الطبراني في الكبير ولا في الأوسط ولا في الصغير انظر "مجمع الزوائد" (1/ 32 - 35) و"مجمع البحرين" (1/ 110 - 113) من حديث أم سلمة. بل أخرجه أبو داود في سننه رقم (5112) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (658) وأحمد (1/ 235) من حديث ابن عباس.
(2) في "المسند" (1/ 340)
(3) في مسنده (ص 352 رقم 2704).
(4) رقم (10838).
(5) رقم (340).
قلت وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (669) وابن منده في "الإيمان" رقم (345).
(6) في "الكبير" رقم (367). بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 34) وقال: رواه الطبراني في الكبير وهو من رواية ذر بن عبد الله عن معاذ ولم يدركه.(4/1768)
الديلمي (1) عن معاذ مرفوعا:» إن إبليس له خرطوم كخرطوم الكلب واضعه على قلب ابن آدم، يذكره الشهوات واللذات، ويأتيه بالأماني، ويأتيه بالوسوسة على قلبه ليشككه في ربه، فإذا قال العبد: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله أن يحضرون، إن الله هو السميع العليم، خنس الخرطوم عن القلب «.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، بالغة حد التواتر.
وقد دلت على أمور: منها أن للشيطان قدرة على تشكيك الإنسان حتى يشككه في خالقه، ويخطر بباله -بوسوسته- أن يقول في نفسه: من خلق الله؟ فانظر إلى أي مرتبة بلغ اللعين في الوسوسة؟ خيل إلى الإنسان أن خالقه مخلوق؟ وتشعب في ذهنه من وسوسته أن خالق هذا الرب الذي خلق الخلق [5 أ] من ذا هو؟ وناهيك بهذا المبلغ الذي بلغه اللعين، والمكان الذي وصل إليه.
ثم أرشد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هذا الذي وسوس له الشيطان، وأدخله في هذا الشك العظيم، والممارة- الكبيرة أن يقول: آمنت بالله (2) ورسوله، وأن يستعيذ (3) بالله
_________
(1) لم أجده في "الفردوس بمأثور الخطاب".
وقد أخرج أبو يعلى في "المسند" رقم (1546/ 4301) عن أنس مرفوعًا بلفظ "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس".
وأورده الهيثمي في "المجمع" (7/ 149) وقال: رواه أبو يعلى وفيه عدي ابن أبي عمارة وهو ضعيف.
قلت: وزياد النميري: ضعيف. والخلاصة أن الحديث ضعيف.
(2) قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "قل آمنت بالله" أمر بتذكر الإيمان الشرعي واشتغال القلب به لتمحى تلك الشبهات، وتضمحل تلك الترهات لها، وهذه كلها أدوية للقلوب السليمة الصحيحة المستقيمة التي تعرض الترهات لها، ولا تمكث فيها، فإذا استعملت هذه الأدوية على نحو ما أمر به بقيت القلوب على صحتها وانخفضت سلامتها، فأما القلوب التي تمكنت أمراض الشبه فيها، ولم تقدر على دفع ما حل بها بتلك الأدوية المذكورة فلا بد من مشافهتها بالدليل الفعلي والبرهان القطعي.
انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (1/ 345 - 346).
(3) قوله: "فليستعذ بالله ولينته" لما كانت هذه الوساوس من إلقاء الشيطان ولا قوة لأحد بدفعه إلا بمعونة الله وكفايته أمر بالالتجاء إليه والتعويل في دفع ضرره عليه، وذلك معنى الاستعاذة على ما يأتي. ثم عقب ذلك بالأمر بالانتهاء عن تلك الوساوس والخواطر. أي عن الالتفات إليها والإصغاء نحوها، بل يعرض عنها، ولا يبالي بها، وليس ذلك نهيا عن إيقاع ما وقع منها ولا عن ألا يقع منه لأن ذلك ليس داخلاً تحت الاختيار ولا الكسب، فلا يكلف بها.
"المفهم" للقرطبي (1/ 345) "فتح الباري" (6/ 341).(4/1769)
من الشيطان، ويكف نفسه عن الانقياد لوسوسته.
ومن الأمور التي دلت عليها هذه الأحاديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سمى هذه الوسوسة: "صريح (1) الإيمان" وفي لفظ أنها: "محض (2) الإيمان".
وإنما سماها "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" لأن الشيطان لم يقدر من المؤمن إلا على ذلك، وهو شيء مغفور، متجاوز عنه، ولم يطمع فيه بأن يقبل ما يوسوس به إليه، أو يتأثر له، أو يقدح به في دينه.
كلا، ومن لم يكن ثابت الإيمان؛ فإن الشيطان اللعين ينقله من رتبة إلى رتبة، ومن درجة إلى درجة، حتى يزيغ عن الدين، ويدخل في سبيل الملحدين، ويؤيد هذا قوله في الحديث السالف لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن، فكان عدم التأثر لها: "محض الإيمان" و"صريح الإيمان".
ويمكن أن يقال: إنما كان ذلك: "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" لوقوع المدافعة من المؤمن عن أن يتكلم بشيء مما وسوس به إليه الشيطان، وسوله له،
_________
(1) الصريح والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى هذا الحديث: أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، ويعظم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها ولم تعظم عندهم، ولا سموها وسوسة، ولما كان ذلك التعاظم وتلك النفرة عن ذلك الإيمان. عبر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب.
"المفهم" (1/ 344) "المنهاج شرح صحيح مسلم" (2/ 155).
(2) الصريح والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى هذا الحديث: أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، ويعظم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها ولم تعظم عندهم، ولا سموها وسوسة، ولما كان ذلك التعاظم وتلك النفرة عن ذلك الإيمان. عبر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب.
"المفهم" (1/ 344) "المنهاج شرح صحيح مسلم" (2/ 155).(4/1770)
وأخطره على قلبه.
ولهذا قال قائل الصحابة: لأن يسقط من عند الثريا أحب إليه من أن يتكلم بما وسوس به إليه الشيطان، كما في حديث عائشة، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في جواب ذلك:» ذاك محض الإيمان «(1).
وقال قائلهم: إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به: لأحبطت أجري (2): كما في الحديث الآخر.
وكما قال معاذ: قلت: يا رسول الله! إنه ليعرض في نفسي الشيء؛ لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به.
فالمؤمن إذا بلغ من تحفظه إلى هذا الحد، حتى يكون سقوطه من الثريا إلى الثرى، أخف عنده من التكلم به، وصار احتراقه بالنار التي يكون حممة أيسر عنده من ذلك، فلا رتبة أعلى من هذه الرتبة من الإيمان، ولا صلابة في الدين أقوى من هذه الصلابة؛ فيستحق إيمان من كان كذلك أن يكون "محض الإيمان" و"صريح الإيمان".
ويؤيد ما ذكرناه أولاً ما تقدم في حديث (3) ابن عباس: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما سئل عن الوسوسة؟ قال: «الحمد لله، إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضي هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات».
فإن هذا يدل على أن مجرد عدم تأثير الشيطان في المؤمنين بشيء من الإغواء والتسويل، إلا مجرد الوسوسة التي خاطر من خواطر القلب المغفورة، من النعم التي أنعم الله بها على عباده.
ولهذا حمد الله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على ذلك؛ فإن الشيطان الرجيم هو القائل: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (4)
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) [ص: 82 - 83].(4/1771)
[5 ب].
فإذا لم يكن له سبيل على المؤمنين، إلا بأن يوسوس لهم وسوسة لا وجود لسمع من معناها في الخارج، ولا تبرز في قول، ولا فعل، فذلك من أعظم النعم التي ينبغي شكر الله عليها، ومن أعظم الأدلة الدالة على قوة إيمان العبد، وصلابته في الدين؛ فإنه قد نجا بإيمانه الذي تفضل الله به عليه من جميع مكائد الشيطان، وسلم من كل نزغاته، التي توجب الإثم، ويطلق عليها اسم الذنب، ولم يقدر على شيء منه، إلا مجرد الوسوسة المغفورة، المعفو عن صاحبها.
ومثل هذا قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الحديث السابق لما سمع قول القائل: إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لأحبطت عملي. فقال:- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
فإن هذا الحديث يدل أبلغ دلالة على أن الشيطان لا يقدر على المؤمن إلا مجرد الوسوسة، وذلك من النعم العظيمة؛ لأن كيد اللعين كيد عظيم وتسلطه على بني آدم تسلط شديد، فإذا رد الله كيده إلى محض الوسوسة، فقد سلم المؤمن منه، ونجا. ولا يكون من هذا القبيل، إلا خلص المؤمنين، فمن بلغ إلى هذه الرتبة العلية، وهي أنه قد سلم من كيد الشيطان العظيم، ورد اله كيد اللعين إلى الوسوسة؛ فذاك "صريح الإيمان" و"محض الإيمان".
فقد اتضح لك بهذا ما يرفع عنك الإشكال، ويدفع الاضطراب. وقد كررنا في هذا الجواب بعض التكرير؛ بقصد الإيضاح؛ لأن المقام من أعظم المقامات التي تشكل على أهل العلم، ويسألون عنها.
ولا أظن أنه بقي في صدر من تأمل ما حررناه هاهنا خرج، ولله الحمد.
وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الواقع من عمر -رضي الله عنه- في الحديبية، ليس إلا مجرد استشكال وقوع الصلح على تلك الكيفية، وقال: لم نعط الدنية في ديننا مع كوننا على الحق، وعدونا على ......................................(4/1772)
الباطل (1)؟.
ويتم إلى ذلك السؤال عما وعدهم به رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من فتح مكة، فلما تبين له وجه المصلحة في ذلك الصلح، ثم تبين له أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يعين لهم وقت فتح مكة في ذلك العام، قنع وارتفع ما حصل له من الإشكال.
فليس الواقع معه إلا مثل ما يقع لمن يستشكل بحثا من الأبحاث العلمية، ويسأل عنه من يرجو عنده الفائدة.
وإذا كان قد وقع مع الصحابة ما ذكرنا من الوسوسة التي يحب أحدهم أن يسقط من الثريا إلى الثرا، ولا يتكلم بها، ويحب الآخر أن يحترق حتى يصير حممة، ولا يتكلم بها، وجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ذلك "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" فكيف يستبعد من عمر أن يشكل (2) عليه مثل ذلك الأمر، ويسأل عنه؟ وبهذا يتضح للسائل -كثر الله فوائده- جواب ما سأل عنه من قول الخليل عليه السلام: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (3).
ويظهر وجه قول بعض السلف: "إن هذه الآية أرجى آية في القرآن [6 أ] ويتضح ما استشكله (4) من قول عمر رضي الله عنه.
قال السائل -كثر الله فوائده- وكذلك ما يقول في رجل معه علة السلس، فإن بكر بالخروج إلى صلاة الجمعة اعتراه الحدث لطول المدة، وإن تأخر إلى حين دخول الإمام، أو إلى فراغه من الخطبة فاتته الفضيلة، ولكنه إذا تأخر هذا التأخر صلى بطهارة كاملة؟.
وهل شهود الخطبة واجب أم لا؟ انتهى.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2731، 2732) و (3182، 4844) ومسلم في صحيحه رقم (1785) وقد تقدم.
(2) تقدم.
(3) [البقرة: 260]
(4) تقدم.(4/1773)
أقول: قد تقدم في العام الأول من السائل -كثر الله فوائده- سؤال في أحكام السلس، وما يتعلق بها، ويتفرع عليها.
وأجبنا على ذلك جوابا، ربما يستفاد منه جواب هذا، فليراجعه إن شاء.
ولا شك أن مجرد التبكير إلى صلاة الجمعة فضيلة، وسنة حافظ عليها السلف، وأرشد إليها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى فضل أجر المبكرين وثوابهم على حسب اختلافهم في التبكير، فقال: فيما ثبت عنه في "الصحيح" (1)» من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة؛ فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».
فهذا المبتلى بعلة السلس؛ إذا كانت العلة مطبقة مستمرة، لا يمكن تأدية الفرض إلا مع خروج شيء من ذلك، كان حكمه حكم الصحيح الذي لا علة معه في طهارته، وثيابه، وبدنه، وصلاته في أول الوقت.
وذلك الخارج عفو لا يبطل به وضوءه، ولا يتنجس به ثوبه الذي سيصلي فيه تلك الفريضة، ولا بدنه، ولا غير ذلك.
وقد أوضحنا هذا في الجواب الذي حررناه العام الأول على السائل -كثر الله فوائده- وأما هذه المسألة التي وقع السؤال عنها؛ فإن كان يثق من نفسه أنه إذا ترك التبكير وحضر مع حضور الإمام، لم يخرج شيء من الخارج، فترك التبكير أولى له.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (881) ومسلم رقم (850) وأبو داود رقم (351) والنسائي (3/ 99 رقم 1388) والترمذي رقم (499) وابن ماجه في "السنن" رقم (1092) وابن حبان في صحيحه رقم (2764) وأحمد رقم (2/ 460) والبغوي في "شرح السنة" (4/ 234 رقم 1063) ومالك في "الموطأ" (1/ 101) والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 297). كلهم من حديث أبي هريرة. وهو حديث صحيح.(4/1774)
وإن كان معذورًا -في الواقع- لكن إذا قدر على تأدية الصلاة بطهارة كاملة مع انقطاع الخارج منه، فذلك متحتم لازم، لأن الطهارة فريضة من فرائض الصلاة المتعينة على كل مصل، إذا كان متمكنا من ذلك غير معذور عنه.
وأما ما سأل عنه -عافاه الله- من كون شهود الخطبة واجبًا أم لا؟
فلم يتقرر لهذا بدليل صحيح معتبر ما يدل على وجوب الخطبة في الجمعة حتى يكون شهودها واجبًا.
والفعل الذي وقعت المداومة عليه لا يستفاد منه الوجوب، بل يستفاد منه أن ذلك المفعول على الاستمرار سنة من السنن المؤكدة.
فالخطبة في الجمعة سنة من السنن المؤكدة، وشعار من شعائر الإسلام [6 ب] لم تترك منذ شرعت إلى موته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا أقيمت صلاة جمعة بغير خطبة.
وهكذا ما بعد عصره، في جميع الأقطار إلى هذا العصر لم تترك في قطر من أقطار المسلمين، ولا أهملت في عصر من العصور الإسلامية.
وأما كونها واجبة مفترضة، فلم يأت في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما يدل على ذلك، ولا بلغ إلينا ما يفيد الوجوب.
وقد استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (1) وأن السعي إذا كان مأمورًا به، كان المسعو إليه أولى بالوجوب؟
ويجاب عن هذا: بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو صلاة الجمعة، كما في أول الآية: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}. فالمسعو إليه هو الصلاة، والصلاة هي ذكر الله.
واستدل بعض القائلين بوجوب الخطبة بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: (صلوا كما رأيتموني
_________
(1) [الجمعة: 9].(4/1775)
أصلي» (1).
وهذا استدلال غير صحيح؛ فإن النزاع في الخطبة، وليست بصلاة فكيف يستدل عليها بهذا الحديث؟
ولعل هذا المستدل قد علق بذهنه ما يقوله بعض الفقهاء من أن خطبة الصلاة كركعتين، فحقق هذا التشبيه، وجزم بأنها ركعتان، ثم استدل عليها فغلط غلطا متكررًا، وخبط خبطا شديدًا، وغفل عن كون القائل من الفقهاء إنما قال: إنها كركعتين، ولم يقل: إنها ركعتان والذي حمل هذا القائل على أنها كركعتين شيء لا يقع في ذهن متيقظ، ولا ينفق على محقق.
وذلك أنه لما استقر في ذهنه أن صلاة الجمعة بدل عن الظهر، وأن الظهر أربع ركعات، ظن أن البدل لا بد أن يكون كالمبدل في العدد؛ فجعل الخطبة منزلة منزلة ركعتين، فجاء بجهل مرتب على جهل.
وتكلم بباطل متفرع على باطل! وهكذا من توغل في الرأي، وجعله مرجعا للمسائل الشرعية؛ فإنه يأتي بمثل هذه الخرافات المخزية!.
وبالجملة، فلا شيء من كتاب، ولا سنة يدل على أن الخطبة واجبة من واجبات الشريعة، وفريضة من فرائضها!.
ولو كان طول الملازمة يستفاد منه الوجوب، لكانت نوافله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأذكاره التي داوم عليها، ولم يخل بها واجبة! واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزم مثله.
وبيان الملازمة: اتصاف الخطبة، وهذه النوافل، والأذكار بكون كل واحدة منه وقعت الملازمة له، والمداومة عليه، والمواظبة على فعله، وبيان بطلان اللازم: إجماع المسلمين أجمعين -إلا من لا يعتد بخلافه- أن تلك النوافل التي واظب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والأذكار التي كان يحافظ عليها، غير واجبة [7 أ]!.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (631) وأبو داود رقم (589) والترمذي رقم (205) والنسائي (2/ 77) وابن ماجه رقم (979) من حديث مالك بن الحويرث.(4/1776)
واعلم أن من تأمل فيما وقع لأهل العلم في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله عليهم في الأسبوع، وجعلها شعارا من شعائر الإسلام -وهي صلاة الجمعة- من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائفة، والاجتهادات الداحضة قضى من ذلك العجب!.
فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وأن من فاتته لم تصح جمعته! وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها من عضد بعض "أن من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته" (1).
_________
(1) أخرجه النسائي (3/ 112 رقم 1425) بإسناد صحيح من طريق قتيبة عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك".
وأخرجه الحاكم (1/ 291) من طريق الوليد بن مسلم، عنه بلفظ النسائي إلا أنه زاد في آخره "الصلاة".
وأخرجه الحاكم (1/ 291) والبيهقي (3/ 203) والدارقطني (2/ 11 رقم 4) بإسناد حسن من طريق أسامة بن زيد الليثي، عنه بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى".
ثم أخرجه الحاكم (1/ 291) والبيهقي (3/ 203) والدارقطني (2/ 11 رقم 6) من طريق صالح ابن أبي الأخضر، عنه بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا" ولم يذكر الحاكم الجملة الأخيرة.
وأخرجه ابن ماجه (1/ 356 رقم 1121) من طريق عمر بن حبيب، عنه: بلفظ أسامة بن زيد الليثي.
ولحديث أبي هريرة شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا. بلفظ: "من أدرك ركعة يوم الجمعة فقد أدركها وليضف إليها أخرى".
وأخرجه الدارقطني (2/ 13 رقم 14) من طريق عيسى بن إبراهيم عنه.
وأخرجه الطبراني في "الصغير" (1/ 339 رقم 562) من طريق إبراهيم بن سليمان الدباس. عنه.
وأخرجه النسائي (1/ 274 رقم 557) وابن ماجه رقم (1123) والدارقطني (2/ 12 رقم 12) من طريق سالم. عنه.
والخلاصة أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة. وانظر الكلام بتوسع على هذا الحديث في كتاب "إرواء الغليل" (3/ 84 - 90 رقم 622). للمحدث الألباني.(4/1777)
ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة!
وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام!
وقائل يقول: بأربعة معه!
وقائل يقول: بستة!
وقائل يقول: بتسعة!
وقائل يقول: باثني عشر!
وقائل يقول: بعشرين!
وقائل يقول: بثلاثين!
وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين!
وقائل يقول: بخمسين!
وقائل يقول: لا تنعقد إلا بستين!
وقائل يقول: بثمانين!
وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد!
وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع وحدده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه: كذا وكذا من آلاف!
وآخر قال: أن يكون فيه جامع، وحمام!
وآخر قال: أن يكون فيه كذا!
وآخر قال: أن يكون فيه كذا!
وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم؛ فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه، لم تجب الجمعة، ولم تشرع!(4/1778)
ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة صلاة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا من أركانها!
فيا لله العجب! ما يفعل الرأي بأهله! وما يخرج من رءوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم، وما يجرونه في أسمارهم من القصص، والأحاديث الملفقة، وهي من الشريعة المطهرة بمعزل! يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الإنصاف، وكل من ثبت قدمه، ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال.
ومن جاء بالغلط، فغلطه رد عليه، مضروب به في وجهه. والحكم بين العباد هو كتاب الله، وسنة رسوله، كما قال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (1).
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (2).
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (3).
فهذه الآيات، ونحوها، تدل أبلغ دلالة، وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله [7 ب].
وحكم الله هو كتابه. وحكم رسوله -بعد أن قبضه الله إليه- هو: سنته ليس غير
_________
(1) [النساء: 59].
(2) [النور: 51].
(3) [النساء: 65].(4/1779)
ذلك.
ولم يجعل الله لأحد من العباد -وإن بلغ في العلم إلى أعلى مبلغ، وجمع منه ما لم يجمعه غيره- أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة.
والمجتهد -وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل- فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان. والبحث في هذا يطول جدا. وقد جمعت فيه مصنفين مطولا ومختصرا -ولله الحمد-.
حرره مؤلفه في يوم الأربعاء الثالث من شهر ذي القعدة من شهور سنة 1228 حامدًا لله شاكرا له مصليا مسلما على رسوله [8 أ].(4/1780)
الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(4/1781)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (الأبحاث الوضية في الكلام على الحديث: "حب الدنيا رأس كل خطية").
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وصحبه الراشدين. وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من عالم مفضال هو لطف الله بن أحمد جحاف ..
4 - آخر الرسالة: " .... وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق، حرر في أوائل ليلة الخميس لعله في شهر جمادى الآخرة سنة (1217 هـ) بقلم مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني. غفر الله ذنوبه وستر عيوبه".
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: 16 صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (21 - 24) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1783)
الأبحاث الوضية في الكلام على حديث حب الدنيا رأس كل خطية
[صورة عنوان الرسالة من المخطوط (أ)](4/1784)
[صورة الصفحة الأولى من المخطوط (أ)].(4/1785)
[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (أ)].(4/1786)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن حديث حب الدنيا رأس كل خطية).
2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ".
3 - أول الرسالة: قال رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من بعض الأعلام ولفظه. . .
4 - آخر الرسالة: لكن الخطر فيه دون الخطر في حب ما هو من الدنيا كالمال والبنين والشهوات والشرف، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (14) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (18 - 23) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".(4/1787)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، و [على] (1) آله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد:
فإنه ورد إلي سؤال من [عالم مفضال هو لطف الله بن أحمد حجاف (2) - لا برح من الله في خفي الألطاف (3) -]، ولفظه:
ورد [في (4)] حديث أخرجه البيهقي (5) وغيره مرفوعا، وبعضهم صحح رفعه قال:
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) هو لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد حجاف، الصنعاني المولد والدار والمنشأ، ولد سنة 1189 هـ، وأخذ العلم عن جماعة من علماء العصر.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " (2/ 60 - 71): وقد كتب إلي. . . بحيث لو جمع هو وما أكتبه عليه من الجوابات لكان مجلدًا، أو لعل غالب ذلك محفوظ لديه وعندي منه القليل، وهو قوي الإدراك، جيد الفهم، حسن الحفظ، مليح العبارة، فصيح اللفظ، بليغ النظم والنشر.
(3) في (ب): بعض الأعلام.
(4) زيادة من (أ).
(5) في " الشعب " (7/ 338 رقم 10501) من مراسيل الحسن مرفوعا.
قلت: وأخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (249) من كلام عيسى ابن مريم عليه السلام.
وأخرجه أحمد بن حنبل في " الزهد " رقم (472، 473) من طريقين عن عيسى عليه السلام من قوله، وهو الأشبه على إعضال الطريقين.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (6/ 388) من قول عيسى عليه السلام أيضا.
وأورده الزركشي في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة " (ص 122\ رقم 1)، وعزاه لابن لأبي الدنيا في كتاب " مكائد الشيطان " من كلام ابن دينار.
قلت: لم أجده في " مكائد الشيطان " المطبوع بتحقيق مجدي السيد إبراهيم.
عزاه العراقي في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (4/ 1854) إلى ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا.
وعزاه الألباني في " الضعيفة " رقم (1226) إلى ابن عساكر (7/ 98 رقم 1) من قول: " سعد بن مسعود الصيرفي "، وذكر أنه تابعي، وأنه كان رجلا صالحا.
وأورده السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (3662)، وعزاه للبيهقي فقط عن الحسن البصري مرسلا، ورمز السيوطي لضعفه، وقال المناوي في " فيض القدير " (3/ 369) متعقبا على السيوطي: " ثم قال - أعني البيهقي -: ولا أصل له من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، قال الحافظ الزين العراقي: ومراسيل الحسن عندهم شبه الريح.
وقال المناوي في " التيسير بشرح الجامع الصغير " (1/ 492): " وقال المؤلف - يعني في فتاويه -: رفعه وهم، بل عده الحفاظ موضوعا ".
وقال السيوطي في " الدرر المنتثرة " (ص 191 رقم 184): " قد عد الحديث في الموضوعات "، وذكره ابن تيمية في " أحاديث القصاص " (ص 58 رقم 7)، وقال: " هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له إسناد معروف ".
وأورده القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " - " الموضوعات الكبرى " - (ص 88 رقم 63) وقال: " القائل بأنه موضوع لم يصرح بإسناده، والأسانيد مختلفة، والمرسل حجة عند الجمهور إذا صح إسناده، قلت: المرسل ضعيف عند جماهير المحدثين والشافعي وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول، ولهذا قال ابن المديني: مرسلات إذا رواها عنه الثقات صحاح، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعف، فالاعتماد على عماد الإسناد " اهـ.
وقد حكم المحدث الألباني على حديث الحسن البصري في " ضعيف الجامع " (3/ 90 رقم 2681) بالضعف، وعندما تكلم على طرقه في " الضعيفة " رقم (1226) حكم عليه بالوضع.
وخلاصة الأمر أن الحديث موضوع، والله أعلم.(4/1791)
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "، فأشكل علينا استدلالهم به من وجوه:
الأول: أنهم جعلوا محبة الدنيا أصلا في الخطايا مع أن حبها أمر جبلي، فكيف يمكن أن يزيل الإنسان ما ركزه الله في طبيعته من حبها؟ وهل هي إلا فتنة جعلها الله؟
الثاني: نسألكم: ما المراد بالدنيا؟ إن قال: المراد بها متاعها من منقول وغيره، فهذا غير مسلم لأن الدنيا غير متاعها، وإن قال: هو من تسمية الحالية والمحلية [أو (1)] المظروف والظرف فهو مجاز، فنقول: الأصل الحقيقة، وأيضا لا بد من قرينة ترد من الشارع تدل
_________
(1) زيادة من (ب).(4/1792)
على أن المراد بذلك المجاز، والآيات [القرآنية] (1) تشهد بأن المراد بالدنيا هي الحياة الأولى كما دل على ذلك: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} [1 أ] {نوف إليهم أعمالهم فيها} (2)، {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (3)، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (4)، والآيات (5) في ذلك كثيرة.
الثالث: إن قام الدليل على أن المراد هنا المعنى المجازي - وما أظنه يقوم - فنقول بعد ذلك كله: [قد] (6) سلمنا أنه المراد، لكن نحكم بأنها سبب لوقوع المفاسد والطغيان كثيرًا، فتكون محرمة وجمعها قبيح، لكن لا يخفى أن تحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب في أمثلة كثيرة، كما لو تسبب عن السمر خروج وقت [صلاة] (7) الضحى، فإنه لا يقضى بتحريم ذلك السبب، فما بقي إلا أن المراد تحريم حب الحياة وقبحها لئلا يرد علينا شيء، وذلك مجرى [1] على التساهل بالآخرة، وليس ذلك من قبيل المسبب المحرم اللازم منه تحريم سببه، بل ذلك السبب نفسه قد صح عن الشارع تقبيحه، فكان [بالدليل] (8)، والمقصود إظهار الفائدة. انتهى السؤال.
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) [هود: 15].
(3) [الأنفال: 67].
(4) [آل عمران: 185].
(5) منها قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا) [الأنعام: 70].
وقوله تعالى: (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) [الرعد: 26].
وقوله تعالى: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) [يونس: 23].
وقوله تعالى: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. . .) [إبراهيم: 3].
(6) زيادة من (ب).
(7) زيادة من (ب).
(8) زيادة من (ب).(4/1793)
[الجواب]
والجواب - بمعونة الوهاب - ينحصر في أبحاث خمسة:
الأول: الكلام على الحديث المسئول عنه فنقول: قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة " (1): أخرجه البيهقي (2) في الحادي والسبعين من الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري [رفعه] (3) مرسلا، وأورده في الفردوس (4) بلا إسناد عن علي [رضي الله عنه] (5) [رفعه] (6)، وهو عند البيهقي أيضًا في الزهد (7)، وأبي نعيم في ترجمة البلوي من الحلية (8) من قول عيسى ابن مريم عليه السلام، وعند ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان له من قول مالك بن دينار [1 ب]، وعند [ابن يونس (9)] في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له من قول سعد هذا، وجزم ابن تيمية (10) بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه.
قال السخاوي: وبالأول يرد عليه وعلى غيره ممن صرح بالحكم [عليه] (11) بالوضع؛ لقول ابن المديني: مرسلات الحسن البصري إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما
_________
(1) (ص 296 - 297 رقم 384).
(2) تقدم آنفا.
(3) في (ب): يكون.
(4) (2/ 231 رقم 3112، 3113).
(5) زيادة من (ب).
(6) في (ب): يرفعه.
(7) (ص 249).
(8) (6/ 388).
(9) في (ب): أبو نواس.
(10) في أحاديث القصاص (ص 58 رقم 7).
(11) زيادة من (ب).(4/1794)
يسقط منها! وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث، وليته ذكرها، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعيف، وللديلمي عن أبي هريرة [رفعه] (1): (الآفات تصيب أمتي حبهم الدنيا وجمعهم الدنانير والدراهم، لا خير في كثير ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق).
قلت: فعلى هذا يكون الحديث مرسلا قويا؛ لأنه قد تقوى بما تقدم ذكره، ولا ينافي رفعه وقف من وقفه على بعض الصحابة، أو على من بعدهم، فقد يتكلم الصحابي أو التابعي بالحديث [2] النبوي من دون أن يرفعه، إما لإخراجه مخرج الأمثال المرسلة، أو [لكون] (2) المقام ليس مقام [الرواية] (3)، أو [لكون] (4) الحديث مشتهرا شهرة تغني عن رفعه، وعلى كل حال فمعناه صحيح، وقد ورد ما يشهد له ويقويه كحديث: (الدنيا ملعونة وملعون ما فيها، إلا ذكر الله [وما والاه] (5) أو عالم أو متعلم)، وهو في السنن (6).
_________
(1) في (ب): يرفعه.
(2) في (ب): يكون.
(3) في (ب): للرواية.
(4) في (ب): يكون.
(5) زيادة من (ب).
(6) أخرجه الترمذي رقم (2322)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه رقم (4112) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البغوي في " شرح السنة " (14/ 229 رقم 4028) عن عبد الله بن ضمرة.
وأخرجه أبو داود في " المراسيل " رقم (502)، وأحمد في الزهد رقم (154) عن محمد بن المنكدر، ورجاله ثقات، رجال الشيخين.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3/ 157) و (7/ 90)، والبيهقي في " الزهد " رقم (246) من حديث جابر بن عبد الله.
وأخرجه البزار في " المسند " (4/ 108 رقم 3310 - كشف) من حديث عبد الله بن مسعود.
والخلاصة أن الحديث حسن، وقد حسنه المحدث الألباني في " صحيح الجامع " رقم (3414).(4/1795)
وحديث: (الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؟) أخرجه مسلم (1)، والنسائي (2)، وغيرهما (3) من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه العسكري (4) من حديث [2 أ] أبي هريرة بلفظ: " الدنيا حلوة خضرة، من أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة "، وأصله في البخاري (5) بلفظ: " إن رجالا يتخوضون في مال الله. . . ".
وفي البخاري (6) أيضًا من حديث حكيم بن حزام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال له: " يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذ بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ".
وقد روي من حديث ميمونة عند أبي يعلى (7) والطبراني (8)،
_________
(1) في صحيحه رقم (99/ 2742).
(2) في " عشرة النساء " رقم (387).
(3) كابن ماجه رقم (4000)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (1/ 91) وفي " الآداب " رقم (744)، وأحمد في " المسند " (3/ 7، 19، 22)، والبغوي في " شرح السنة " (9/ 12 رقم 2243)، والترمذي رقم (2191) وقال: حديث حسن صحيح.
(4) لم أعثر عليه.
(5) في صحيحه (3118) عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: " سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة ".
يتخوضون: أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل. " الفتح " (6/ 219).
(6) في صحيحه رقم (1472، 2750، 3143، 6441).
خضرة: أي مشتهاة، والنفوس تميل إلى ذلك. " الفتح " (6/ 219).
(7) في مسنده (13/ 15 رقم 22/ 7099) من حديث ميمونة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الدنيا خضرة حلوة، فمن اتقى فيها وأصلح وإلا فهو كالآكل ولا يشبع ".
(8) في " الكبير " (24/ 24 رقم 58) مختصرًا.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 246 - 247)، وقال: رواه أبو يعلى والطبراني باختصار كثير عنه، وفيه " المثنى بن الصباح " وهو ضعيف.
قلت: والمثنى بن الصباح ضعفه الأئمة المتقدمون، والضعف على حديثه بين، انظر: " الكامل " لابن عدي (6/ 2418) والمجروحين لابن حبان (3/ 20).(4/1796)
والرامهرمزي (1) في الأمثال، وعن عبد الله بن عمرو عند الطبراني (2).
وأخرج أحمد (3) من حديث عائشة بلفظ: " الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له "، قال السخاوي (4): ورجاله ثقات.
وأخرج مسلم (5) من حديث أبي هريرة: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر "، وقد روي من حديث ابن عمرو عند البزار (6).
ومن حديث ابن [عمرو (7)] عند الطبراني (8)، وأبي نعيم (9)، وأخرجه أيضًا من حديثه
_________
(1) نسبه صاحب " كنز العمال " (3/ 212 - 213 رقم 6200) إلى الرامهرمزي في الأسندة، ونقل عنه قوله: " وسنده حسن عن ميمونة ".
(2) عزاه الهيثمي في " المجمع " (10/ 246)، وقال: رجاله ثقات.
(3) في " المسند " (6/ 71).
(4) في " المقاصد الحسنة " رقم (494).
(5) في صحيحه رقم (1/ 2956).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2324)، وقال: حديث حسن صحيح.
وابن ماجه رقم (4113)، وأحمد في " المسند " (2/ 323، 389، 485)، وابن حبان في صحيحه رقم (2488 - موارد).
(6) في " المسند " (4/ 247 رقم 3645 - كشف) بسندين.
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 289)، وقال: " رواه البزار بسندين، أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم ".
(7) في المخطوط: [عمر]، والصواب ما أثبتناه من " المجمع " (10/ 289).
(8) كما في " المجمع " (10/ 289).
(9) في " الحلية " (8/ 185)، وقال أبو نعيم: " غريب من حديث عبد الله بن عمرو، بهذا اللفظ لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن أيوب " اهـ.(4/1797)
أحمد (1) وأبي نعيم (2).
_________
(1) في " المسند " (2/ 197).
(2) في " الحلية " (8/ 177)، وفيها " عبد الرحمن بن عمرو " وهو خطأ، والصواب " عبد الله بن عمرو "، وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 288 - 289)، وقال: " رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن جنادة، وهو ثقة ".
قلت: وأخرجه البغوي في " شرح السنة " (14/ 297 رقم 4106)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 315)، وسكت هو والذهبي عن الكلام عليه.
فائدة:
قال القرطبي في " المفهم " (7/ 109 - 110) قوله: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " إنما كانت الدنيا كذلك لأن المؤمن فيها مقيد بقيود التكاليف، فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسح له الشرع، فيفك قيده ويمكنه من الفعل أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم والغموم والأسقام والآلام، ومكابدة الأنداد والأضداد والعيال والأولاد، وعلى الجملة: " وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل بحسب دينه " كما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأي سجن أعظم من هذا؟ ثم هو في هذا السجن بحسب على غاية الخوف والوجل؛ إذ لا يدري بماذا يختم له من عمل؟ كيف وهو يتوقع أمرا لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكا لا هلاك فوقه؟ فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه، لكنه لطف به فهون عليه ذلك كله بما وعد على صبره، وبما كشف له من حميد عاقبة أمره.
والكافر منفك عن تلك الحالات بالتكاليف، آمن من تلك المخاويف
، مقبل على لذاته، منهمك في شهواته، معتز بمساعدة الأيام، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة.
وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (18/ 93).
وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 511): قوله: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها وعلمه بما أعد له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر، أنه عند موته وعرضه عليه فحبسه عنه في الحياة الدنيا وتكليفه ما ألزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا ما فارقها استراح من نصبها وأنكادها خرج إلى ما أعد له، واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته، والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب وتنكيده بالعوائق، حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم وعذاب النار وشقاء الأبد.(4/1798)
وأخرجه مسلم (1)، والنسائي (2)، وابن ماجه (3) من حديث عبد الله بن عمرو: " الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ".
وأخرج في مسند الفردوس (4) عن ابن عمر مرفوعا: " الدنيا منظرة الآخرة، فاعبروها ولا تعمروها ".
وأخرج العقيلي في " الضعفاء " (5) من حديث طارق بن أشيم: " نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته "، وهو عند الحاكم في مستدركه (6)، وصححه وتعقبه الذهبي بأنه منكر.
والأحاديث في هذا الباب [3] كثيرة جدا، ولا يخفى ما في هذه الأحاديث التي سقناها من الدلالة على صحة معنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (7)، فإن ما كان
_________
(1) في صحيحه رقم (1467).
(2) في " السنن " (6/ 69).
(3) في " السنن " رقم (1855)، وهو حديث صحيح.
(4) أورده الديلمي في " الفردوس بمأثور الخطاب " (2/ 228 رقم 3102).
(5) في " الضعفاء الكبير " (3/ 89)، وتتمة الحديث: " ما يرضي به ربه، وبئست الدار الدنيا لمن صرعته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه، فإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: أقبح الله أعصانا للرب ".
وقال العقيلي: هذا يروى عن علي من قوله.
(6) (4/ 312 - 313)، وفي سنده عبد الجبار بن وهب: مجهول وحديثه منكر.
انظر: " الميزان " (2/ 534)، و" الضعفاء " للعقيلي (3/ 89 رقم 1060).
والخلاصة أن حديث طارق بن أشيم ضعيف، والله أعلم.
(7) تقدم تخريجه.(4/1799)
من هذه الأحاديث وغيرها متضمنا لذم الدنيا والتنفير منها ففيه دليل على أنها لا تكون محلا للمحبة، وأن حبها وهي بهذه المثابة وسيلة للخطيئة، وما كان منها متضمنا لمدحها أو إباحة الانتفاع بها فهو مقيد يفيد مسوغ للتناول، وليس فيه ما يفيد أنها محل للمحبة.
وبالجملة فالأدلة الواردة في ذم البخل كتابا (1) وسنة (2) تدل على صحة معنى هذا
_________
(1) منها: قول الله عز وجل: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء) [محمد: 38].
ومنها قول الله عز وجل: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) [آل عمران: 180].
ومنها قول الله عز وجل: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) [الحديد: 24].
(2) منها ما أخرجه أبو داود رقم (1698)، وأحمد (2/ 160، 195)، والحاكم (1/ 415)، وصححه ووافقه الذهبي، عن عبد الله بن عمرو قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا "، وهو حديث صحيح.
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (6638)، ومسلم رقم (30/ 990) من حديث أبي ذر قال: انتهيت إليه وهو يقول في ظل الكعبة: " هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، قلت: ما شأني؟ أيرى في شيء؟ ما شأني؟ فجلست إليه وهو يقول فما استطعت أن أسكت، وتغشاني ما شاء الله، فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ".
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1407)، ومسلم رقم (992): حدثنا أبو العلاء بن الشخير أن الأحنف بن قيس حدثهم قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة، حتى قام عليهم فسلم ثم قال: " بشر الكانزين برصف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفه، ويوضع على نفض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو؟ فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا، قال لي خليلي، قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ " قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير "، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله، لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله.
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (3/ 2958)، والترمذي رقم (3354)، والنسائي (6/ 238)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ: " ألهاكم التكاثر " قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، (قال:) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ "
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (5/ 2959) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما هو سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".
قوله: (ألهاكم التكاثر) [التكاثر: 1] يعني: شغلكم الإكثار من الدنيا ومن الالتفات إليها عما هو الأولى بكم من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور؛ إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) [القيامة: 20 - 21]، وكما قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين. . . .) [آل عمران: 14].
وقوله: " يقول ابن آدم: مالي مالي ": أي يغتر بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر به، ولعله ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها، وافتتح الكلام بـ (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال: " إنما له من ماله ثلاث ".
وقوله: " أو أعطى فاقتنى " أي أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه كما قال في الرواية الأخرى: " أو تصدقت فأمضيت "، وقد رواه ابن ماهان: " فأقنى " بمعنى: أكسب غيره كما قال تعالى (أغنى وأقنى) [النجم: 48] " المفهم " (7/ 110 - 112).(4/1800)
الحديث المسئول عنه؛ لأن البخل بمتاع الحياة الدنيا لا تكون إلا من محب لها، متهالك عليها، وهكذا الأدلة الدالة على ذم التكاثر والجمع والكنز والمنع لما يجب [2 ب] في المال، فإنها تفيد صحة معنى الحديث المسئول عنه؛ لأن كل ذلك لا يصدر إلا من محب للدنيا، وهكذا الأدلة الواردة في الترغيب في الزهد (1)، والترهيب من مقابله هي تفيد هذا
_________
(1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (125/ 1054) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ".
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (6460)، ومسلم رقم (126/ 1055) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ارزق آل محمد قوتا ".
قوتا: ما يقوت الأبدان ويكف عن الحاجة والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف - كما جاء في رواية أخرى - أفضل من الغنى والفقر، ووجه التمسك بهذا الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضا فإن الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، فإن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير؛ إذ لا يترفه في طيبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكفي مرارته وآفاته.
انظر: " المفهم " (7/ 130 - 132).
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (55/ 2858) عن المستورد أخي بني فهر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بالسبابة - في اليم، فلينظر بم يرجع؟ ".
قال القرطبي في " المفهم " (7/ 125 - 126): وهذا مثل لحقارة الدنيا وقلتها، وهو نحو قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) [النساء: 77]، أي: كل شيء يتمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل؛ إذ لا بقاء ولا صفو فيه، وهذا بالنسبة إلى نفسها، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا خطر ولا قدر للدنيا، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث حيث قال: " فلينظر بماذا يرجع؟ "، ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر، وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة.
ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2/ 2957) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي، أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: " أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ".
جدي أسك: أصل السك: ضيق الصماخ، وقال الهروي في غريب الحديث (4/ 160): الاستكاك: الصم، استكت أسماعهم: صموا، وقال ثابت: السك: صغر الأذن مع لصوقها وقلة إشرافها.
قال القرطبي في " المفهم " (7/ 108): وقوله: " والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " الدنيا: وزنها (فعلى) وألفها للتأنيث، وهي الدنو بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: 185]، غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء، فاستغني عن موصوفها كما جاء في هذا الحديث.
والمراد: الدار الدنيا أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء والأولياء. . .
وقد أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى فقال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " - أخرجه ابن ماجه رقم 4110 - ، وحسبك بها هوانا أن الله قد صغرها وحقرها وذمها وأبغضها وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها والتأهب للارتحال عنها.
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1465)، ومسلم في صحيحه رقم (123/ 1052) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: " إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ".
من دلائل الزهد ومعناه:
1 - أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، وقال الفضيل بن عياض: " أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل "، أخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (78).
2 - أن يكون العبد إذا أصيب في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له.
وقد روي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه: " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ".
أخرجه الترمذي رقم (3502)، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (446)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (401)، والحاكم في " المستدرك " (1/ 528)، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن.
3 - أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق، وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، قال إبراهيم بن أدهم: " الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات ".(4/1802)
المفاد.(4/1803)
وهكذا إذا تدبر الإنسان المعاصي الشرعية التي ثبت النهي عنها فإنه يجدها لا محالة ناشئة عن حب الدنيا؛ إذ المعاصي بأسرها لا تكون إلا لمحبة المال، أو لمحبة الشرف، أو لقضاء شهوة جسمانية أو نفسانية، والمحبة لكل هذه أو لبعضها هي من محبة الدنيا بلا شك ولا شبهة.
ومن أعظم ما يشهد لمعنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (1) الأحاديث الواردة في ذم حب الشرف والمال كحديث: " ما ذئبان ضاريان " (2)، وهو حديث
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ورد من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين.
- أما حديث ابن عمر فقد أخرجه البزار (4/ 234 رقم 3608 - كشف) عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ذئبان ضاريان في حظيرة يأكلان ويفسدان بأضر فيها من حب الشرف وحب المال في دين المرء المسلم ".
قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 250)، وقال: " رواه البزار، وفيه قطبة بن العلاء وقد وثق، وبقية رجاله ثقات ".
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7/ 89)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (2/ 26 رقم 812)، والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 487)، وابن حجر في " اللسان " (4/ 473 - 474).
- وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط " (1/ 470 رقم 855)، وفي " الكبير " (10/ 388 رقم 10779) عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ذئبان ضاريان باتا في غنم بأفسد لها من حب ابن آدم الشرف والمال ".
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 250)، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عيسى بن ميمون، وهو ضعيف، وقد وثق "، ولم ينسبه الهيثمي للطبراني في " الكبير " كما هو شرطه.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (3/ 220)، وقال: " هذا حديث غريب من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، لم نكتبه إلا من هذا الوجه ".
- وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أبو يعلى في " المسند " (11/ 331 رقم 609/ 6449) عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما ذئبان ضاريان جائعان في غنم افترقت، أحدهما في أولها، والآخر في آخرها، بأسرع فسادا من امرئ في دينه يحب شرف الدنيا ومالها ".
وأورده الهيثمي في " المجمع " (10/ 250)، وقال: " رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الملك بن زنجويه، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وثقا ".
وأورده ابن حجر في " المطالب العالية " (3/ 207 رقم 3372)، وعزاه إلى أبي يعلى، وقال البوصيري: " رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد ".
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7/ 89)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (2/ 25 رقم 811) و (2/ 26 رقم 813)، والطبراني في " الأوسط " (1/ 432 رقم 776) من طريق آخر.
- وأما حديث أسامة بن زيد فقد أخرجه الطبراني في " الصغير " (2/ 149 رقم 943 - الروض الداني)، وفي " الأوسط " والضياء في " المختارة "، كما في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (4/ 1886) عنه بلفظ: " ما ذئبان ضاريان باتا في حظيرة فيها غنم يفترسان ويأكلان بأسرع فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم ".
- وأما حديث أبي سعيد الخدري فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " (10/ 250) عنه بلفظ: " ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم فيها فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم "، وفيه خالد بن يزيد العمري، وهو كذاب.
والخلاصة أن الحديث صحيح بمجموع طرقه.(4/1804)
صحيح، وإذا قد ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذم حب الشرف والمال، والتنفير عنه، والتنويه بأنه مرجع المعاصي وأصل الخطايا، فهو مفيد لصحة معنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (1)، والاختلاف في العموم [4] والخصوص لا يقدح في هذه [الإفادة] (2).
وبالجملة فيغني عن هذا كله ما في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في ذم الدنيا، والتنفير منها، وإيضاح أنها ظل زائل، وأنها وإن كانت موجودة فهي بالعدم أشبه، وإن ظن ظان أن في متاعها نفعا فهو إلى الضر أقرب، فمن ذلك قوله عز وجل: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (3)، وقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (4).
وقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد} (5).
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) في (ب): الأحاديث.
(3) [آل عمران: 185].
(4) [الأنفال: 67].
(5) [الحديد: 20].(4/1806)
وقوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير} [3أ] {المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} (1).
وقوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا} (2).
وقوله تعالى: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون} {أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} (3).
وقوله [تعالى (4)]: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (5).
وقوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} (6).
وقوله [تعالى (7)]: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (8).
وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين}
_________
(1) [آل عمران: 14].
(2) [البقرة: 212].
(3) [القصص: 60 - 61].
(4) زيادة من (ب).
(5) [الأعلى: 16 - 17].
(6) [الكهف: 45].
(7) زيادة من (ب).
(8) [الكهف: 46].(4/1807)
{يتقون أفلا تعقلون} (1).
وقوله [تعالى (2)]: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (3).
وقوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (4)، والآيات القرآنية [5] في هذا الباب كثيرة جدا، فالاستكثار منها تحصيل للحاصل، وليس المراد إلا الإشارة لما فيه تصحيح لمعنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ".
البحث الثاني: في بيان ماهية الدنيا لغة وشرعا.
فأما في اللغة فقد فسرها أئمة اللغة (5) في مؤلفاتها بأنها ضد الآخرة، وأنها صفة للدنو، وهو القرب، وضدها أيضًا القصوى، وهي البعيدة، ومنه: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} (6)، أي: بالعدوة الدانية إليكم، وهم بالعدوة [3 ب] القاصية عنكم، فلما كانت الدنيا قريبة من أهلها بمعنى أنهم متلبسون بزمنها ومكانها ومتاعها قبل تلبسهم بالآخرة سميت دنيا، وأصلها دنوي بالواو كما صرح به أهل اللغة (7) والصرف،
_________
(1) [الأنعام: 32].
(2) زيادة من (ب).
(3) [الرعد: 26].
(4) [غافر: 39].
(5) الدنو غير مهموز: مصدر دنا يدنو فهو دان، وسميت الدنيا لدنوها، ولأنها دنت وتأخرت الآخرة، وكذلك السماء الدنيا هي القربى إلينا، والنسبة إلى الدنيا دنياوي، " لسان العرب " (4/ 419).
(6) [الأنفال: 42].
(7) " القاموس المحيط " (ص 1656).(4/1808)
ولهذا يقال في النسبة: دنياوي ودنيوي.
وأما في الشرع فالآيات القرآنية تفيد تارة أنها مقابل الآخرة كما في قوله تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} (1)، وقوله [تعالى (2)]: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (3)، وقوله [تعالى (4)]: {يا قوم إنما الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (5)، وقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} (6)، وقوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} (7).
وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (8) [6]، وقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (9).
وقوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا}
_________
(1) [إبراهيم: 3].
(2) زيادة من (أ).
(3) [الرعد: 26].
(4) زيادة من (أ).
(5) [غافر: 39].
(6) [الأحزاب: 28 - 29].
(7) [الشورى: 20].
(8) [الأنعام: 32].
(9) [إبراهيم: 27].(4/1809)
{حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} (1)، وقوله تعالى: {وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (2)، وقوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (3)، وقوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (4)، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات القرآنية ما يفيد [4 أ] أن الحياة الدنيا هي المتاع العاجل، والأفعال الصادرة من أهلها كقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (5)، وقوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (6)، وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (7)، وقوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} (8).
ومن الآيات القرآنية ما يفيد أن المتاع العاجل والأفعال الصادرة هي غير الدنيا؛ وذلك لأنها تارة تضاف إلى الدنيا، وتارة تضاف إلى الحياة الدنيا، والمضاف غير المضاف إليه، فمن ذلك قوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (9).
_________
(1) [النحل: 41].
(2) [النحل: 122].
(3) [الأعلى: 16 - 17].
(4) [الأنفال: 67].
(5) [آل عمران: 185].
(6) [الحديد: 20].
(7) [الأنعام: 32].
(8) [غافر: 39].
(9) [الأنفال: 67].(4/1810)
وقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} (1)، فجعل هذه الأمور متاعا، وأضافه إلى الحياة الدنيا، فأفادت الإضافة أنه غيرها، وكذلك إضافة العرض إلى الدنيا، وكذلك قوله تعالى: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه} [7] {متاع الحياة الدنيا} (2).
وقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (3)، وقوله تعالى: [و] (4) {قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا} (5).
وقوله تعالى: [قل] (6) {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم} (7).
وقوله تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} (8).
وقوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} [4 ب] {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} (9)، وقوله تعالى: {ليس له دعوة في ...............
_________
(1) [آل عمران: 14].
(2) [القصص: 60 - 61].
(3) [الكهف: 46].
(4) زيادة من (أ).
(5) [يونس: 88].
(6) زيادة من (أ).
(7) [يونس: 69 - 70].
(8) [يونس: 23].
(9) [التوبة: 55].(4/1811)
{الدنيا} (1)، وقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} (2)، وقوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} (3)، ومن الآيات القرآنية ما يفيد أن متاع الدنيا منها لا أنه هي، ولا هو غيرها، كقوله تعالى: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} (4).
وبالجملة فالآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة جدا يطول الاستقصاء لها، وكذلك الأحاديث النبوية فإنها واردة مورد هذه الآيات، وهكذا الأشعار العربية والتراكيب اللغوية.
وهاهنا تحقيق يستفيد منه اللبيب ما لا ينكره فهمه، ولا يخالفه علمه، وبه يحصل الجمع بين جميع ما أشرنا إليه وذكرنا بعضه، وهو أنا نقول: إن هذا [الموجود (5)] الخارجي (6) المتشخص إما جسم أو هو جوهر أو عرض، والجسم إما أن يكون ناميا أو غير نام، [والنامي (7)] أن يكون حيوانا أو غير حيوان، وكل نوع من هذه الأنواع يختص باسم يتميز به عن الآخر كالتراب والماء والنار والهواء، ثم منها [8] ما هو بسيط، ومنها ما هو مركب مع غيره، والمراد من هذا التقسيم أن هذه الموجودات
_________
(1) [غافر: 43].
(2) [الأعراف: 169].
(3) [الشورى: 20].
(4) [القصص: 77].
(5) في (ب): الوجود.
(6) انظر: " منهاج السنة " لابن تيمية (202، 205)، و" شرح الأصول الخمسة " ص 217، و" تلبيس الجهمية " (1/ 47).
(7) في (ب): والثاني.(4/1812)
المشاهدة قد سميت بأسماء، ثم ما كان منها في جهة السفل [فهي] (1) الأرض، وما كان منها في جهة العلو فهو السماء، ولكل نوع من الأجسام والأعراض الكائنة في الحيزين اسم يخصه ويتميز به عن غيره، فهذه الموجودات الخارجية هي بالنسبة إلى الموجودات التي ستكون في الآخرة دنيا؛ لأنها دنت منا، أي: قربت، وتلك أخرى [5 أ] لأنها تأخرت عنا، أي: بعدت، وهكذا ما يوجد من المأكولات والمشروبات والملبوسات وسائر ما يستمتع [به] (2) في هذه الدار يقال له: دنيا؛ لأنها دنت ودنا الانتفاع بها بالنسبة إلى المأكولات والمشروبات [والملبوسات] (3) ونحوها التي ستكون في الدار الآخرة؛ لأن هذه لما كانت قريبة وتلك بعيدة كانت هذه دنيا وتلك أخرى، وهكذا الحياة الكائنة في هذه الدار فإنها دنيا لدنوها بالنسبة إلى الحياة الكائنة في الآخرة، ولهذا وصفها الله سبحانه بالحياة الدنيا أي: القريبة، وهكذا الأزمان والأكوان الكائنة في هذه الدار، فإنها دنيا لأنها دنت [بالنسبة] (4) إلى الأكوان [والأزمان] (5) الكائنة في الآخرة.
إذا عرفت هذا فقد تطلق هذه الصفة - أعني الدنيا - على جميع هذه الأشياء، وذلك إذا قوبلت بالآخرة كما قدمنا تحقيقه [9]، وقد تطلق هذه الصفة على بعض هذه المذكورات كالحياة الدنيا، وقد يضاف بعض هذه المذكورات إلى الدنيا كمتاع الدنيا من باب إضافة الشيء إلى أصله أو إلى جنسه كخاتم حديد ورطل زيت ورجل القوم، ومن ذلك: " الدنيا ملعونة، وملعون ما فيها " (6)، فإنه أطلقها على بعض ما تطلق عليه، وجعل البعض الآخر كالمغاير لها من جهة كونه مظروفا لها، والظرف غير المظروف،
_________
(1) في (ب): فهو.
(2) زيادة من (ب).
(3) زيادة من (ب).
(4) زيادة من (أ).
(5) في (ب): الأزمنة.
(6) تقدم تخريجه، وهو حديث حسن.(4/1813)
مع أنه يصدق على الأشياء المظروفة أنها دنيا كما تقدم، فمعنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (1) أن حب هذه الأشياء التي هي دانية إلينا رأس كل خطيئة؛ إذ لا يوجد ذنب من الذنوب ولا خطيئة من الخطايا إلا وهي راجعة إلى حب هذه الأشياء [5 ب].
فإن من جملة الدنيا الشهوات الجسمية والنفسية، فإنها بالنسبة إلى شهوات الآخرة دنيا، فكل مستلذ للحواس والأعضاء فهو دنيا لقربه منا وبعد مستلذات الحواس والأعضاء الكائنة في الآخرة عنا.
ومن جملة الدنيا الأفعال والأقوال الكائنة في هذه الدار، فإنها بالنسبة إلى الأفعال والأقوال الكائنة في الآخرة دنيا، وليس من حق الدنيا أن تكون جميعها شرا محضا، بل فيها ما هو خير كالأفعال والأقوال التي هي طاعات وعبادات، وإليها يتوجه ما ورد في مدح الدنيا كحديث: " لا تسبوا الدنيا، فإنها مطية الآخرة " (2)، وفي لفظ: " مزرعة الآخرة " (3) [10]، وحديث ....................
_________
(1) تقدم تخريجه، وهو حديث موضوع.
(2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 304) من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي: ثنا السري بن إسماعيل، عن عامر، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ".
وفيه إسماعيل بن أبان الغنوي الكوفي، قال عنه يحيى بن معين: كذاب، وقال عنه ابن عدي: عامتها - أي: رواياته - مما لا يتابع عليه إما إسنادا وإما متنا، فهو حديث ضعيف جدا.
وأورده صاحب " الكنز " (3/ 239 رقم 6343)، وعزاه للديلمي وابن النجار عن ابن مسعود، ولفظه: " لا تسبوا الدنيا، فلنعم المطية للمؤمن، عليها يبلغ الخير، وعليها ينجو من الشر ".
وأورده الديلمي في " الفردوس " (5/ 10 رقم 7288) من حديث ابن مسعود، ولفظه: " لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية المؤمن هي، عليها تبلغه الجنة، وبها ينجو من النار ".
(3) قال العجلوني في " كشف الخفاء " رقم (1320): لم أقف عليه مع إيراد الغزالي له في " الإحياء "، وفي " الفردوس " رقم (3102) بلا سند عن ابن عمر مرفوعا: " الدنيا قنطرة الآخرة، فاعبروها ولا تعمروها ".
والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 89)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 312)، وصححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي بأنه منكر، قال: وعبد الجبار لا يعرف.
وانظر: " الأسرار المرفوعة " (205)، و" المقاصد " (497)، " الشذرة في الأحاديث المشتهرة " (1/ 298 رقم 437).(4/1814)
" الدنيا ملعونة [و (1)] ملعون ما فيها إلا ذكر الله أو عالم أو متعلم " (2)، وبهذا التقرير يتضح الصواب، وينكشف عن وجه السؤال كل جلباب.
البحث الثالث: في جواب ما أورده السائل [كثر الله فوائده] (3) من الوجوه فقال:
الوجه الأول: كيف تكون الدنيا أصل الخطايا مع أن حبها أمر جبلي؟
فنقول: [إن] (4) الأمر الجبلي هو محبة الحياة، وما لا يمكن حفظها إلا به، وأما محبة التكاثر المفضي إلى التكالب على الدنيا، وكذلك محبة الشرف والرياسة والعلو والظفر من كل شيء بأحسنه، فهذا إنما هو [في] (5) جبلة الطبائع الشيطانية لا الطبائع الإنسانية، فإذا كان الشخص مفتونا بحب شيء من ذلك فهو الذي أرخى عنان نفسه حتى تفلتت
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) تقدم، وهو حديث حسن.
قال القرطبي في " المفهم " (7/ 109): ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعدا عن الله وشاغلا عنه، كما قال بعض السلف: كل ما شغلك عن الله تعالى من مال وولد فهو عليك مشئوم، وهو الذي نبه الله على ذمه بقوله تعالى: (أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد) [الحديد: 20]، وأما ما كان من الدنيا يقرب إلى الله تعالى ويعين على عبادة الله تعالى فهو المحمود بكل لسان، والمحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه ويحب، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال: " إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلم "، وهو المصرح به في قوله: " فإنها نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ".
(3) زيادة من (أ).
(4) زيادة من (أ).
(5) زيادة من (أ).(4/1815)
عليه في شعاب الأماني وهضاب التسويف؛ فصار مقهورًا بتفريطه، مستعبدا بترخيصه، ولو زجرها بزواجر التقوى، وربطها برباط القنوع، وضربها بعصا الزهد، لكان قاهرا لها لا مقهورا بها، وحاكما عليها لا محكوما عليه منها.
وفي هذا العالم الإنساني من صلحاء العباد من هو لما ذكرناه شاهد صدق، وهذا يجده كل عاقل من نفسه، فإنه إذا استرسل في شهوة من الشهوات، أو خلى بين نفسه وبين لذة من اللذات، وجد من نفسه ميلا إليها ورغوبا فيها لم يكن قد وجده قبل ذلك.
على أنه لو قال قائل: إن حب ما لا تتم الحياة إلا به في هذه الدنيا [6 أ] ليس هو أمرا [11] جبليا، بل هو أمر دعت إليه الضرورة، فإن الحياة ما دامت لا بد لصاحبها من تناول ما يسد به رمقه، ويدفع به جوعته، ويزيل به ضرورته، وهذا أمر دعت إليه الضرورة؛ لأنه محبوب حبا جبليا، فإنه لو كان كذلك لم يعف الإنسان شيئا من ذلك، مع أنه إذا تناول ما يكفيه من طعام أو شراب أو نكاح لم يكن ذلك محبوبا إليه في تلك الحال، فتناول ما دعت إليه الضرورة من الدنيا مما هو سائغ، وليس بقبيح عقلا، ولا شرعا، لو فرضنا أنه من حب الدنيا لا من ضرورة الحاجة إليه لكان مأذونا فيه بالأدلة الثابتة في الكتاب (1) والسنة (2) القاضية بأن ذلك مأذون فيه، فيكون الحب الذي هو رأس كل خطيئة ما زاد على ذلك.
فحاصل هذا الجواب هو أنا نمنع أن يكون الإنسان مجبولا على محبة شيء من الدنيا،
_________
(1) منها قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص: 77].
(2) منها ما أخرجه النسائي (7/ 61 رقم 3939)، وأحمد (3/ 128، 199، 285)، والحاكم في " المستدرك " (2/ 160)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 78) من طرق: عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة "، وهو حديث صحيح.(4/1816)
وما توجبه الضرورة من سد الجوعة ونقع الغلة ليس من المحبة في شيء، بل ذلك أمر أوجبته الضرورة، ولو سلمنا أن هذا القدر الذي تدعو إليه الضرورة متلازم هو والمحبة لم يرد الاعتراض بذلك، فإن الشارع قد أذن فيه، وإنما الممنوع المذموم ما تتسبب عنه الخطايا، وهو ما زاد على ذلك.
البحث الرابع: في جواب ما أورده السائل [عافاه الله] (1) من قوله: ما المراد بالدنيا؟ إن قال: المراد بها متاعها. . . إلى آخر ما ذكره.
ونقول: الجواب على هذا قد أسلفناه في البحث الثاني مستكملا مطولا [12] على وجه لا يبقى بعده إشكال، فلا نطول بإعادته، بل يرجع السائل إليه ليندفع ما أورده.
البحث الخامس: في الجواب عن قول السائل [كثر الله فوائده] (2) أن تحريم المسبب لا يستلزم (3) تحريم السبب، إلى آخر كلامه.
لعله يريد [6 ب] أن الخطايا المتسببة عن حب الدنيا وإن كانت محرمة فإن ذلك لا يستلزم تحريم حب الدنيا الذي هو السبب، وهذا الكلام إنما [يرد] (4) لو قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: حب الدنيا حرام لأنه رأس كل خطيئة، ولم يقل هكذا، بل قال: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (5)، ولم يذكر حكم الحب، فكان الأنسب بسياق السؤال أن يسأل السائل [عافاه الله] (6): هل الحب حلال أم حرام؟
إن قيل: إنه حرام لكونه سببا للخطايا فتحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب، وهذا البحث يعود إلى الكلام على وسائل الحرام، هل هي حرام أم لا؟ والخلاف في ذلك مشهور معروف.
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (أ).
(3) انظر: " الكوكب المنير " (1/ 450 - 451)، " المدخل إلى مذهب أحمد " (ص 67).
(4) في (ب): يراد.
(5) تقدم، وهو حديث موضوع.
(6) زيادة من (أ).(4/1817)
وأما قوله: [كما] (1) لو تسبب عن السمر خروج وقت صلاة الضحى فإنه لا يقضي بتحريم ذلك السبب.
فهذا التمثيل غير مطابق لما هو مثال له، فإن كلامه في [أن] (2) تحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب، وهذا المسبب - أعني خروج وقت الضحى - ليس من المسببات المحرمة حتى يقال: لا يستلزم تحريمه تحريم سببه، فإن فوات صلاة الضحى ليس من المحرمات، والأولى التمثيل بسبب يفضي إلى [مسبب] (3) محرم كالاستمتاع [13] بمكان من بدن الحائض، هو حول فرجها، وكان المستمتع لا يملك إربه، بل يتدرج من الحلال إلى الحرام، ولولا التلبس بهذا السبب وهو الاستمتاع بما هو حول الحمى لم يقع في الحمى، فهذا يصلح للتمثيل به للوسائل إلى الحرام.
وقد صح حديث: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، فمن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " (4)، والأمثلة للوسائل إلى الحرام كثيرة جدا يمكن إيراد صور منها في كل باب من أبواب العبادات والديانات والمعاملات.
وأما قوله [كثر الله فوائده] (5): فما بقي إلا تحريم حب الحياة وقبحها.
فيقال: وأي دليل دل على تحريم حب الحياة؟ إن كان [7 أ] لكونه وسيلة إلى الخطايا فهذا محل الخلاف في الوسائل، وإن كان من حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (أ).
(3) في (ب): سبب.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52)، ومسلم رقم (2051)، والترمذي رقم (1205)، وقال: حديث حسن صحيح.
والنسائي (7/ 241، 4453)، وابن ماجه رقم (3984)، وغيرهم من طرق وبألفاظ متقاربة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(5) زيادة من (أ).(4/1818)
فليس ما يفيد تحريم الحب، اللهم إلا أن يقال: إن الحب للدنيا لما كان رأسا للخطايا، والرأس جزء من الذات، بل هو أعظم أجزائها، كان هذا الحب جزءا من الخطيئة التي هي المعصية، والخطيئة حرام، فجزؤها حرام.
ثم حمل الدنيا في قوله: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " (1) على حب الحياة هو تخصيص بلا مخصص، أو تقييد بلا مقيد، فإنك قد عرفت مسمى الدنيا لغة وشرعا بما حررناه سابقا، ثم حب الحياة وطول العمر قد كان من مقاصد جماعة من الأنبياء، وجمهور من الصلحاء والعلماء، وهو كما يكون وسيلة للشر لأهل العصيان يكون وسيلة للخير لأهل الطاعات، وهو إن كان [14] من الدنيا كما قررناه سابقا لكن الخطر فيه دون الخطر في حب ما هو من الدنيا كالمال والبنين والشهوات والشرف.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية ... والله ولي التوفيق.
[حرر في أوائل ليلة الخميس، لعله ثاني شهر جمادى الآخرة سنة 1217 هـ، بقلم مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه] (2).
[والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم، بلغ مقابلته على الأم] (3).
_________
(1) تقدم تخريجه، وهو حديث موضوع.
(2) زيادة من (أ).
(3) زيادة من (ب).(4/1819)
(47) 11/ 5
سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1821)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (سؤال عن معنى " بني الإسلام على خمسة أركان " وما يترتب عليه).
2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، هذا سؤال من الحقير عبد الله بن محمد الكبسي إلى مولانا المالك الندي العلامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، حفظه الله، وبارك لنا في إمامته. . .
4 - آخر الرسالة:. . . فهؤلاء فرطوا فيما أوجب الله عليهم من التعليم، كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم، وفي هذا المقدار كفاية والحمد لله أولا وآخرا.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: (6) صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (25 - 28) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(4/1823)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه.
2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ".
3 - أول الرسالة: سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه، وما المراد في بناء الإسلام على خمسة أركان؟ هل يصير له حكم البناء القائم؟
4 - آخر الرسالة: كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (4) صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (22 - 28) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 13) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(4/1826)
[سؤال: عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه، وما المراد في بني الإسلام على خمسة أركان؟ هل يصير له حكم البناء القائم على أركان إذا اختل البعض منها اختل الأصل؟ فإذا كان هذا المراد فأصل الإسلام كلمة التوحيد المحتوية على النفي والإثبات، فهل لا بد لكل مكلف من معرفة قول لا إله إلا الله واستحضار هذا المعنى والموجب لهذا الاستشكال إنما ينبعث أشياء: منها ما صار خلقا وعادة عند تشييع الجنازة، فتنطلق طائفة بالنفي وتقتصر عليه، وطائفة بالاستثناء فقط، ثم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فهل يكون ذلك في سائر الأركان كالصلاة والزكاة والحج؟ فما حكم من تركها؟ وهل يثبت حكم الإسلام لمن أتى بالبعض منها؟ هذا حاصل السؤال] (1).
_________
(1) هذا نص السؤال من (ب).(4/1829)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
الحمد لله رب العالمين، هذا سؤال من الحقير عبد الله بن محمد الكبسي إلى مولانا المالك البدر العلامة شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني حفظه الله وبارك لنا في إمامته، والسؤال هو عن معنى حديث بني (1) الإسلام على خمسة أركان (2) وما يترتب عليه، وما المراد من بناء الإسلام على خمسة؟ هل يصير له حكم البناء القائم على أركان إذا اختل (3) البعض منها اختل أصل البناء، فإذا كان هذا هو المراد فأصل الإسلام وأساسه كلمة التوحيد المحتوية على النفي والإثبات، فالمنفي كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا جل وعلا، ولا ثبت في تلك الحقيقة فرد واحد وهو مولانا جل وعلا، فلا توجد تلك الحقيقة
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (8)، ومسلم رقم (16)، والنسائي (8/ 107 رقم 5001)، والترمذي (5/ 5 رقم 2736).
(2) الأركان في اللغة: جمع ركن، وهو: أحد الجوانب التي يستند إليها الشيء ويقوم بها، وهو جزء من أجزاء حقيقة الشيء، يقال: ركن الصلاة وركن الوضوء، " المعجم الوسيط " (1/ 372).
والركن في الاصطلاح: " ما يقوم به ذلك الشيء، من التقوم؛ إذ قوام الشيء بركنه، لا من القيام "، " التعريفات للجرجاني " (ص 117).
وقيل: الركن - بضم أوله وسكون ثانيه -: ج أركان وأركن، الجانب القوي من الشيء، والركن: ما لا يقوم الشيء إلا به، ومنه أركان الصلاة، " معجم لغة الفقهاء " (ص 226).
(3) قال القاضي عياض في " الإيمان من إكمال العلم ": فهي دعائم الإسلام، فمن جحد واحدة منها كفر، ومن ترك واحدة منها لغير عذر وامتنع من فعلها مع إقراره بوجوبها قتل عندنا وعند الكافة، وأخذت الزكاة من الممتنع كرها، وقوتل إن امتنع، إلا الحج لكونه على التراخي.
وقيل: قتل من ترك الفرائض مع الإقرار بوجوبها إنما يكون بعد الاستتابة، قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي: " لا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلي "، انظر: " مجموع الفتاوى " (7/ 259، 610)، " المنهاج " (1/ 212، 2/ 70).(4/1830)
لغيره، فهذا التركيب الشريف في قولنا: لا إله إلا الله هو نفي الإلهية عن كل شيء، وأنها نهايته، فهل لا بد لكل مكلف من معرفة قولنا لا إله إلا الله، واستحضار هذا المعنى عند التلفظ بها أصلاً والموجب لهذا الاستشكال أني تتبعت أشياء، منها ما صار خلقا وعادة عند تشييع الجنائز من التهليل، فتنطق طائفة بالنفي وتقتصر عليه، والطائفة الأخرى تنطق بالاستثناء فقط، وأنكرت ذلك أنا وغيري مرارا، ولا أحد فهم وجه الإنكار، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " (1).
ومن حقها فيهم اشتملت عليه [1 ب]، وإذا كان الأمر في هذا الركن المشتمل على التوحيد على هذه الصفة فهل يكون ذلك في سائر الأركان (2)، فالصلاة الواجبة أو ما لا تصح إلا به قطعا لا يتم الإسلام إلا بها، فما حكم من تركها مستمرا، أو في بعض الأحيان، أو ترك ما لا يتم إلا به قطعا، وكذلك الزكاة والصوم والحج؟ فهل يثبت حكم الإسلام لمن
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (1399، 6924 و7284 و7285)، ومسلم في صحيحه رقم (32/ 20)، وأبو داود رقم (1556)، والنسائي (5/ 14 - 15)، والترمذي رقم (2607)، وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (2/ 423، 528) من حديث أبي هريرة.
(2) فرق بعض أهل العلم بين الفرائض في مسألة القتل حدا أو كفرًا لمن أقر بوجوبها ولم يأت بها:
1 - إنه يقتل كفرًا لا حدًا بترك واحدة من الأربع حتى الحج إذا عزم على تركه بالكلية، وهو قول طائفة من السلف، وإحدى الروايات عن أحمد، ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية.
2 - إنه يقتل حدا لا كفرًا، وهو المشهور عند كثير من السلف، وكثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد، وصححه النووي وغيره.
3 - إنه يقتل كفرًا لا حدا بترك الصلاة دون غيرها، هو رواية عن أحمد، وقال به كثير من السلف وبعض المالكية والشافعية.
4 - إنه يقتل كفرًا لا حدا بترك الصلاة والزكاة دون غيرهما.
5 - إنه يقتل كفرًا لا حدا بترك الصلاة، وبترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها، دون ترك الصوم والحج، وانظر: " مجموع الفتاوى " (7/ 258، 259، 302)، المجموع (3/ 13 - 17).(4/1831)
أتى بالبعض وترك البعض الآخر؟ فمن تفضلاتكم وعميم إحسانكم الإفادة على كل واحد من الخمسة الأركان، وفيمن أتى بالأكثر منها وترك الأقل، مثل أن يأتي بالصلاة والصوم والحج ويقول الشهادة ويترك الزكاة مثل ثعلبة (1) بن حاطب، أو تساهل بالصلاة وأتى بالأركان الأخرى، وهل يستوي التارك لركن واحد هو والتارك للجميع أصلا؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (2).
[ويتلو ذلك جواب مولانا العلامة البدر شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده، وبارك للكافة في أوقاته آمين، بما لفظه:] (3)
_________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره " جامع البيان " (6 ج 10/ 189)، والبغوي في تفسيره (3/ 124)، والسيوطي في " الدر المنثور " (3/ 261)، وابن كثير في تفسيره (4/ 184 - 185).
وفي القصة: " أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه "، وذكر الحديث بطوله في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له وكثرة ماله ومنعه الصدقة، ونزول قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله. . . .) [التوبة: 75].
تنبيه:
قال ابن حزم في " المحلى " (11/ 207 - 208): " على أنه قد روينا أثرًا لا يصح، وأنها نزلت في ثعلبة بن حاطب، وهذا باطل لأن ثعلبة بدري معروف، ثم ساق الحديث بإسناده من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، وقال: " وهذا باطل لا شك لأن الله أمر بقبض زكوات أموال المسلمين، وأمر عليه السلام عند موته ألا يبقى في جزيرة العرب دينان، فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلمًا ففرض على أبي بكر وعمر قبض زكاته، ولا بد، ولا فسحة في ذلك، وإن كان كافرًا ففرض ألا يبقى في جزيرة العرب، فسقط هذا الأثر بلا شك.
وفي رواته معان بن رفاعة، والقاسم بن عبد الرحمن، وعلي بن يزيد - هو ابن عبد الملك -، وكلهم ضعفاء، وللشيخ " عذاب الحمش " رسالة في نقد هذه القصة جمع فيها أقوال أهل العلم سماها " ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه "، وانظر: " الإصابة " (1/ 516 - 517 رقم 931)، " الثقات " (3/ 46).
(2) هذا نص السؤال في (أ).
(3) زيادة من (أ).(4/1832)
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: بني الإسلام على خمسة أركان أن هذه الخمسة هو التي عليها عمدة الإسلام، لا يتم إلا باجتماعها، فهو من باب الاستعارة تشبيها للأمر المعنوي وهو الإسلام بالأمر الحقيقي الموجود في الخارج وهو الشيء المبني، فكما أن الأبنية الموجودة في الخارج لا تتم إلا بما لا بد منه [2 أ] كذلك الإسلام لا يتم إلا بهذه الأمور الخمسة، وقد أشار إلى هذا المعنى الحقيقي الشاعر بقوله:
والبيت لا ينبني إلا بأعمدة ... ولا عمود إذا لم ترس أوتاد
وقد أشار إلى معنى هذا الحديث ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين (1) وغيرهما من طرق أنه لما سئل عن الإسلام فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم [1] رمضان، وتحج البيت "، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أن ماهية الإسلام هي هذه الخمسة، ومما يؤيد أنه لا يتم الإسلام إلا بالقيام بهذه الأركان ما ثبت عنه [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (2) من الحكم بكفر من ترك أحدهما كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " (3)، ومثل قوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (4)، ومثل ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين (5)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (50)، ومسلم في صحيحه رقم (5/ 9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (1/ 8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) زيادة من (ب).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (82)، وأحمد (3/ 389)، وأبو داود رقم (4678)، والترمذي رقم (2620)، وابن ماجه رقم (1078) من حديث جابر، وهو حديث صحيح.
(4) [آل عمران: 97].
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (25)، ومسلم في صحيحه رقم (36/ 22) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(4/1833)
وغيرهما من طرق أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويحجوا البيت "، ثم عقب (1)، ذلك بأن من جاء بهذه فقد عصم ماله ودمه، فأفاد ذلك أن دم من لم يقم بهذه غير معصوم، وكذلك ماله، ولا يكون ذلك إلا لعدم خروجه من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام [إلا بها] (2) [2 ب]، وكذلك أجمع الصحابة [رضي الله عنهم] (3) على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) (4)، فقاتل هو والصحابة رضي الله عنهم المانعين من الزكاة وحدها، وحكموا عليهم بالردة، وسموا قتالهم قتال أهل الردة وأما ما [ذكر] (5) السائل عافاه الله من أنه [هل] (6) يجب تصور معنى لا إله إلا الله؟ فهذا التركيب يفهمه كل عربي لا يخفى على أحد كما يفهم معنى قول القائل: ما في الدار إلا زيد، وما جاءني إلا عمرو، وهذا يكفي في القيام بكلمة الشهادة التي هي مفتاح باب دار الإسلام وأعظم ركن من أركانه، وإذا قالها الكافر وجب الكف عنه حتى يشرح الله صدره للإسلام، فيقوم ببقية الأركان، ولهذا ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه قال لأسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل كافرا بعد أن قال: لا إله إلا الله، واعتذر بأنه قالها تعوذا من القتل، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ "، ثم كرر عليه ذلك حتى تمنى أسامة [رضي الله عنه] (7) ما تمناه، وفي قصة أخرى أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " ما أمرت أن أفتش عن قلوب الناس " (8) أو
_________
(1) أي: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث:. . . فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ".
(2) زيادة من (أ).
(3) زيادة من (ب).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1399) و (1400)، ومسلم في صحيحه رقم (32/ 20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في (ب): ذكره.
(6) زيادة من (أ).
(7) زيادة من (أ).
(8) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (158/ 96) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.(4/1834)
كما قال.
وأما ما ذكره السائل [عافاه الله] (1) من أنه قد يقول بعض من يحمل الجنازة بالنفي فقط ثم يجيبه الآخر بالإثبات، فلا يخفى [2] أن هؤلاء لهم عذر واضح، وهو أنهم قد جعلوا أنفسهم بمنزلة الشخص الواحد، فكأن مجموع النفي والإثبات [قائم] (2) بكل واحد منهم، وهم لا يريدون غير هذا، ولو قيل للنافي: كيف قلت: لا إله فقط، فإن ذلك يستلزم نفي إلهية الرب سبحانه؟ لقال: لم أرد هذا [3 أ]، بل أردت أنه الإله وحده اكتفاء بالاستثناء الواقع من الآخرين، فهذا اللفظ وإن كان مستنكرا (3) وبدعة، ولكنه لا يستلزم ما فهمه السائل، والعمدة على ضمائر القلوب ومقاصد النفوس، ومثل هذا في الابتداع ما يلهج به كثير من المتصوفين (4) في أنه يهمل اللفظ الدال على النفي، ويقتصر على اللفظ الدال على الاستثناء تحرجا منه عن مدلول [بلفظ] (5) النفي الشامل، وهو جهل منه، فإن الكلام بتمامه
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) في (أ): قام.
(3) قال النووي في " الأذكار " (ص 203): واعلم أن الصواب والمختار وما كان عليه السلف رضي الله عنهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق، ولا تغتر بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما معناه: " الزم طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين ".
وقد صدر عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال الرابع من " الفتوى " رقم (7582):
سؤال: هل يصح تشييع الجنازة مع التهليل والأذان بعد وضعه في اللحد؟ جواب: لم يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه شيع جنازة مع التهليل ولا الأذان بعد وضع الميت في لحده، ولا ثبت ذلك عن أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، فكان بدعة محدثة، وهي مردودة لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718).
(4) انظر: البدع والمحدثات وما لا أصل له (ص 359 - 360)، " أحكام الجنائز وبدعها " للألباني (ص 92).
(5) زيادة من (ب).(4/1835)
[و] (1) لا يتم إلا بمجموع النفي والإثبات، وهو شأن كل استثناء (2) متصل، ومع هذا فتعليم الشارع لأمته أن يقولوا: لا إله إلا الله، يدحض كل شبهة، ويرفع كل جهل، وقد جاء بذلك القرآن الكريم في غير موضع، فهذا المتصوف الجاهل تحرج عن تعليم الله [عز وجل] (3) ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وظن بجهله أنه قد جاء بما هو أولى من ذلك، مع أنه جاء بكلام غير مفيد وتركيب ناقص، وليس بمعذور كما عذر الجماعة الذي يقول أحدهم بالنفي والآخر بالإثبات؛ لأن أولئك قد نزلوا أنفسهم منزلة الشخص الواحد وأما قول السائل: فهل يكون ذلك في سائر الأركان ... إلخ؟ فنقول: نعم لا بد أن يأتي بكل واحد منها على الصفة المجزية التي لا اختلال فيها، باعتبار ما هو الواجب الذي لا تتم الصورة الشرعية إلا به، فإن انتقض من ذلك ما يخرج [ما] (4) جاء به عن الصورة الشرعية [3 ب] فهو بمنزلة من ترك ذلك من الأصل، لكنه إذا كان ذلك لجهله بالوجوب عليه وترك التعلم لما يلزمه فهو من هذه الحيثية [أثم بترك] (5) واجب التعلم [3] معذور بالجهل، فلا يكون كمن ترك عالما عامدا؛ لأن جهله بوجوب التعلم مع ظنه بأن الذي افترضه الله عليه هو ما فعله على تلك الصورة الناقصة يدفع عنه معرة الكفر، ولا يدفع عنه معرة الإثم، وقد ثبت أن بعض أهل الكفر تكلم بكلمة (6) الشهادة،
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) وانظر: " الكوكب المنير " (3/ 331)، " نهاية السول " (2/ 124).
(3) زيادة من (أ).
(4) في (ب): عما.
(5) في (أ): أنه ترك.
(6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2808) من حديث البراء رضي الله عنه يقول: " أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عمل قليلا وأجر كثيرًا ".
وقال الحافظ في " الفتح " (6/ 25): " أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول: أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت، قال ابن إسحاق: قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود بن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى وقع جريحًا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قاتلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه من أهل الجنة ".(4/1836)
ثم عرض الجهاد فجاهد وقتل، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بأن الله [تعالى] (1) أدخله الجنة ولم يصل ركعة، فجعل اشتغال هذا بواجب الجهاد عذرا، والجاهل لو علم أن صلاته الواجبة لا تتم بالصلاة التي جاء بها على الصورة الناقصة لجاء بالصورة التامة، وبادر إلى تعلمها، لكن اجتمع تفريط أهل الجهل [عن] (2) التعلم، وتفريط أهل العلم عن التعليم، فاشتركت الطائفتان في الإثم؛ لأن الله سبحانه أوجب على العلماء أن يعلموا، وأخذ [الله] (3) عليهم الميثاق، فذلك كما في قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (4)، وفي الآية الأخرى: {إن الذين يكتمون} (5) إلى آخر الآية (6) المصرحة باستحقاقهم للعنة الله عز وجل ولعنة اللاعنين.
فهؤلاء فرطوا فيما أوجب الله عليهم من التعليم، كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم، وفي هذا المقدار كفاية [لمن له هداية] (7)، والحمد لله أولا وآخرا [4 أ]، [وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه] (8).
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) في (ب): من.
(3) زيادة من (أ).
(4) [آل عمران: 187].
(5) [البقرة: 159].
(6) (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).
(7) زيادة من (ب).
(8) زيادة من (ب).(4/1837)
(48) 14/ 5
الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1839)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (الأذكار: جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها).
2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: من قال حين يصبح. . .
4 - آخر الرسالة:. . . وفي هذا كفاية، والله ولي التوفيق، كتب من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له، حرر في النصف من شهر شعبان الكريم سنة 1243، تمت بحمد الله.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: (2) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (29 - 32) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (17 - 20) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(4/1841)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه " رواه مسلم (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا (5) من الشيطان الرجيم يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك " رواه الجماعة (6) إلا أبا داود، كثر الله فوائدكم، ونفع المسلمين والإسلام بعلومكم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أشكل على محبكم تعارض هذين الحديثين في الأفضلية، فأفشوا الغليل بما سنح من الجواب الشافي - كتب الله ثوابكم -، وإذا بسطتم الجواب لتتم الفائدة ويزول الإشكال فالأجر مضاعف - كتب الله ثوابكم -.
_________
(1) في صحيحه رقم (28/ 2691).
(2) في " السنن " رقم (5091).
(3) في " السنن " رقم (3469).
(4) في " عمل اليوم والليلة " رقم (568)، كلهم من حديث أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
(5) يعني: أن الله تعالى يحفظه من الشيطان في ذلك اليوم، فلا يقدر منه على زلة ولا وسوسة ببركة تلك الكلمات.
(6) أخرجه البخاري رقم (3293)، ومسلم رقم (29/ 2692)، والترمذي رقم (3468)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (826)، وابن ماجه رقم (3789).(4/1845)
الجواب من سيدنا العلامة شيخ الإسلام وشفاء الأوام العالم الرباني محمد بن علي الشوكاني - مد الله مدته، وأكثر إفادته -:
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب - وبالله الاستعانة، وعليه التوكل -: إن الحديثين صحيحان، وقد دل كل واحد منهما على أن فاعل أحدهما قد جاء بما يعظم أجره ويكثر ثوابه، حتى أنه لا يؤجر أحد من العباد فيما جاء به من الأذكار أو سائر القربات التي شرعها الله سبحانه لعباده بمثل أجره إلا من جاء بما جاء به، وهو أن يقول كما قال، فالذي ذكر الله سبحانه فقال: لا إله (1) إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء
_________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 17 - 18): هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نهى عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وإن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة.
ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة، سواء كانت من التهليل أو من غيره أو منه ومن غيره، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم.
وظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه، سواء قاله متوالية أو متفرقة، في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره، لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزًا له في جميع نهاره.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث التهليل: ومحيت عنه مائة سيئة، وفي حديث التسبيح: حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، ظاهره أن التسبيح أفضل، وقد قال في حديث التهليل: ولم يأت أحد أفضل مما جاء به.
قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم " (8/ 192): ويحتمل الجمع بينهما أن حديث التهليل أفضل، وأنه إنما زيد في الحسنات ومحي من السيئات المحصورة، ثم جعل له من فضل عتق الرقاب ما قد زاد على فضل التسبيح وتكفيره جميع الخطايا؛ لأنه قد جاء أنه " من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار "، أخرجه البخاري رقم (2517)، ومسلم رقم (1509) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فهنا قد حصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عمومًا بعد حصر ما عد منها خصوصًا مع زيادة مائة درجة، وما زاده عتق الرقاب الزائدة عن الواحدة.
وقد جاء في الحديث (أ) (يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم رقم (32/ 2695) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، خير مما طلعت عليه الشمس ".) هنا أيضًا: أفضل الذكر التهليل، وأنه أفضل ما قاله عليه السلام والنبيون من قبله، وقد قيل إنه اسم الله الأعظم، وهي كلمة الإخلاص.(4/1846)
قدير، مائة مرة لا يؤجر أحد من العباد بمثل أجره، إلا من قال كما قال، والذي ذكر الله سبحانه (1) فقال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لا يؤجر أحد من العباد بمثل أجره إلا من قال كما قال، ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى من لم يذكر الله تعالى بأحد الذكرين؛ لأنه لم يأت بما وقع النص عليه في الحديثين أن الذاكر بأحدهما لا يؤجر أحد من العباد بمثل أجره؛ لأنه خارج عن الأحد الذي ذكر الله سبحانه بأحد الذكرين، فلم يقل كما قال الذاكر بأحد الذكرين، فلا يستحق مثل أجره، وأما باعتبار الشخصين الذاكر كل واحد منهما بأحد الذكرين دون الآخر، فقد جاء كل واحد منهما بما يستحق به من الأجر أن لا يعطى أحد مثلما أعطي من الثواب إلا من قال مثل قوله، فالذاكر بقوله: سبحان الله وبحمده حين يصبح وحين يمسي مائة مرة، لم يذكر بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
_________
(1) التسبيح بمعنى التنزيه عما لا يليق به جل جلاله من الشريك والصاحبة والولد والنقائص مطلقًا، وسمات الحدوث مطلقًا.
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (1/ 276): عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تفسير سبحان الله فقال: " هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء "، وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب، قال تعالى: (إن لك في النهار سبحًا طويلا)، فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء.
وقال الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن (ص 392): والتسبيح: تنزيه الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية.(4/1847)
والذاكر بقوله: لا إله إلا الله إلخ، لم يذكر بقوله: سبحان الله وبحمده إلخ، مع استحقاق كل واحد منهما لأجر لا يظفر به إلا من قال مثل قوله، ولم يقل أحدهما بما قاله الآخر، بل قال بما يساويه في المبالغة في الثواب إلى حد لا يماثله أحد، ولا يحصل لغيره إلا من قال مثل قوله، فلا بد من الجمع بين الحديثين بأن يقال: الذاكر بأحد الذكرين مخصص من عموم الحديث الآخر، فالذاكر بأحدهما قد حصل له من الأجر بالنسبة إلى جميع الذاكرين من العباد ما لا يحصل لواحد منهم إلا من قال مثل قوله، فيدخل كل فرد من أفراد العباد تحت هذا العموم الشمولي إلا من قال بالذكر المذكور، أو بما يساويه، وهو الذكر الآخر.
فعرفت أن كل واحد من الذاكرين شامل لجميع الذاكرين مخصص تخصيصا متصلا بمن قال مثل قوله، ومخصص تخصيصا منفصلا بمن قال بالذكر الآخر المساوي له، وهو أن يعطى أجرًا [1 أ] لا يناله إلا من قال مثل قوله، وإيضاح هذا التخصيص أن يقال بأحد الذكرين قد تساوى القائل بالذكر الآخر في حصول المزية له، وهي أنه لا ينال مثل أجره إلا من قال مثل قوله، فيكون كل واحد منهما مستثنى من العموم الآخر، فالذاكر بالتسبيح خارج عن العموم المذكور في التوحيد، والذاكر بالتوحيد خارج عن العموم المذكور في التسبيح، وعموم حديث كل واحد منهما إنما هو بالنسبة إلى غيرهما، وهما مخصصان بخروج كل واحد منهما عن عموم الحديث الآخر، فيقال: الذاكر هذا التسبيح قد فضل على كل ذاكر إلا على الذاكر هذا التوحيد، والذاكر بهذا التوحيد قد فضل على كل ذاكر إلا على الذاكر بهذا التسبيح، فلم يبق حينئذ بين الحديثين (1) تعارض بالنسبة إلى
_________
(1) قال القرطبي في " المفهم " (7/ 20): ثم لما كان الذاكران في إدراكاتهم وفهومهم مختلفين كانت أجورهم على ذلك بحسب ما أدركوا، وعلى هذا ينزل اختلاف مقادير الأجور والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابًا عظيمًا مضاعفًا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر أو أقل كما اتفق هنا في حديث أبي هريرة المتقدم، فإن فيه ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها، وقد علق عليها من ثواب عتق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: " من قال ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب "، وفي حديث أبي أيوب عند مسلم رقم (29/ 2692): من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب "، وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة "، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث الباب.
فائدة:
وهذه الأجور العظيمة والعوائد الجمة إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأملها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإن لم يكن فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر، فإنه من أعظم العبادات لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
أخرجه مسلم رقم (8)، وأبو داود رقم (4695)، والترمذي رقم (2613)، والنسائي (8/ 97) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.(4/1848)
كل ذاكر بهما لخروجه من عمومه بالتخصيص المنفصل الواقع في الحديث الآخر.
هذا على تقدير أن المبالغة في كل واحد منهما إلى حد لا يأتي بمثل أجره لا من قال مثل قوله يوجب الاشتراك بينهما في أن أجر كل واحد منهما بمنزلة عظيمة، ومزية جليلة محدودة هذا الحد، وقد فعل كل واحد منهما ما يقتضي ذلك، فالمصير إلى التخصيص لا بد منه، أما لو فرضنا أن اتحادهما في تلك المزية لا توجب تساويهما، بل أجر كل واحد منهما مختص بالذكر الذي جاء به، فتكون مزية المسبح بالنسبة إلى المسبحين، ومزية الموحد بالنسبة إلى الموحدين، فلا تعارض بين الحديثين، بل أجر ذلك المسبح بذلك التسبيح قد فضل كل متعرب، ويدخل في ذلك الموحد؛ لأنه لم يأت بذكر التسبيح، وأجر الموحد قد فضل كل متعرب، ويدخل في ذلك المسبح بذلك التسبيح؛ لأنه لم يأت بذكر التوحيد، فعرفت بهذا أن لك في الكلام على الجمع بين الحديثين وجهين يزول الإشكال بكل واحد منهما.
ونوضح هذا من الوجهين بمثال يرتفع عنده الإشكال، فنقول مثلا: لو خرج على السلطان خارجان، كل واحد منهما في جيش، فبعث لحربه أميرين، مع كل واحد منهما(4/1849)
جيش، فقال السلطان لكل طائفة من طائفتي الجيشين المبعوثين مع الأميرين: من جاء منكم برأس أحد الخارجين علينا أعطيه من الجائزة ما لا أعطيه أحدًا، فهذا الكلام يحتمل أن يريد السلطان أن من جاء برأس واحد من الخارجين أعطاه من الجائزة ما لا يعطيه أحدا من الناس الخارجين مع الأميرين، ويحتمل أن يريد ما لا يعطيه أحدا من الناس الخارجين مع كل أمير من الأميرين خطابا لكل واحد من الرجلين المرغبين في العطية.
وعلى المثال الأول يحصل التعارض بين الرجلين، ويجمع بين الكلامين بأن المراد في ترغيب كل واحد منهما بالنسبة إلى من عدا الآخر الذي رغب بمثل ترغيبه، وعلى المثال الثاني لا تعارض؛ لأن كل واحد من الرجلين وعد بأن يعطى من الجائزة ما لا يعطى أحد من القوم الذي هو منهم مع أميره وجيشه، وفي هذا كفاية، والله ولي التوفيق.
كتب من خط المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله له -، حرر النصف من شهر شعبان الكريم سنة 1243، تمت بحمد الله [ا ب].(4/1850)
(49) 19/ 5
بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد "
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1851)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ").
2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ".
3 - أول الرسالة: اعلم أن حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " قد ظن بعض أهل العلم أنه لا يصح الاستدلال به على رفع الإثم عن المجتهد المخطئ، وثبوت الأجر له. . .
4 - آخر الرسالة:. . . والمداهاة له ولم نتعبد بذلك، فكيف يحمل عليه قول الشارع؟ وفي هذا المقدار كفاية، والحمد لله أولا وآخرًا، حرره محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (5) صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (17 - 22).
8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 11).
9 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني
10 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(4/1853)
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " (1) قد ظن بعض أهل العلم أنه لا يصح الاستدلال به على رفع الإثم عن المجتهد المخطئ، وثبوت الأجر له، زاعما أن المراد بالاجتهاد هنا هو بذل الجهد في البحث عن الخصومة الواردة عليه كالبحث مثلا عن عدالة الشهود، وعن حال المدعي والمدعى عليه، ونحو ذلك مما يتعلق بالخصومة، وروي نحو هذا عن العلامة المقبلي (2).
وأقول: قد تقرر في علم المعاني والبيان (3) - وهو العلم الباحث عن دقائق العربية وأسرارها - أن حذف المتعلق مشعر بالتعميم، وهنا قد حذف المتعلق، فيكون معناه البحث عن كل ما يتعلق بالخصومة من الأمور التي ينبغي البحث عنها، وإن أهم هذه الأمور وأولاها بالبحث هو حكم الله (4) في تلك الحادثة التي وردت فيها الخصومة؛ لأن الحاكم
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352)، ومسلم رقم (1716)، وأحمد (4/ 198، 204)، والدارقطني (4/ 211)، والبيهقي (10/ 118 - 119) من حديث عمرو بن العاص.
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (1716)، وأبو داود رقم (3574)، والدارقطني (4/ 210 - 211)، والبغوي رقم (2509) من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي به.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (7353)، ومسلم رقم (1716)، وأبو داود رقم (3574)، وابن ماجه رقم (2314)، والدارقطني (4/ 210 - 211، 221)، والبيهقي (10/ 119)، والبغوي رقم (2509)، وأحمد (4/ 198، 204، 205)، والشافعي في ترتيب المسند (2/ 176 - 177) من طريق يزيد بن الهاد عن أبي بكر بن محمد بن حزم عن أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي رقم (1326)، والنسائي (8/ 223 - 224)، والبيهقي (10/ 119) من طرق عن عبد الرزاق به.
(2) في " العلم الشامخ " (ص 488 - 489).
(3) انظر: " معترك الأقران في إعجاز القرآن " (1/ 240 - 244).
(4) قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/ 87 - 88): ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.
ثانيهما: فهو الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.
وقال عمر بن الخطاب في رسالة القضاء إلى أبي موسى الأشعري:. . . " ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة أو الخصوم، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر. . . ".(4/1857)
مأمور بأن يحكم فيها بحكم الله (1) عز وجل، فلا يحكم بإقرار ولا شهادة ولا يمين ولا بقول حتى يعلم أن هذه الأمور يصح جعلها حجة للحكم، ولا يكون ذلك إلا بانتهاض دليلها، وخلوصه عن شوائب القدح والنقض والمعارضة، فإذا ثبت له ذلك بالبرهان الذي تقوم به الحجة فالبحث عما عداه يسير؛ لأنه يعرف مثلا عدالة الشهود (2) بمجرد التزكية وعدم المعارضة لها بالجرح، ويعرف حال الخصمين في الورع والوقوف على رسوم الشرع، وعدم التهور في الدعاوى الباطلة، أو إنكار ما يجب التخلص عنه بالبحث عن حالهما، وذلك إنما هو بعد ثبوت حكم الاستجابة بذلك المستند [1 ب].
فلو قدرنا أنه أجهد نفسه في البحث عن أحوال الشهود، أو عن حال الخصمين قبل
_________
(1) قال ابن القيم في " أعلام الموقعين " (1/ 86): قوله - عمر بن الخطاب -: " القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة " يريد به أن ما يحكم به الحاكم نوعان:
أحدهما: فرض محكم غير منسوخ كالأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه.
الثاني: أحكام سنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذان النوعان هما المذكوران في حديث عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة ".
(2) كما في رسالة عمر لأبي موسى الأشعري: " والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجربًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، ثم الفهم الفهم فيما أولي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة. . . ".(4/1858)
أن يعلم أن حكم الله في تلك الخصومة كذا، وأنه لا يصلح مستندا للحكم إلا بشرط كذا، كان إجهاد نفسه في البحث عن حال الشهود أو الخصومة مع جهله لحكم الله سبحانه في تلك الحادثة ضائعًا لا يستحق المصيب فيها أجرين، ولا المخطئ أجرًا، بل هذا القاضي هو أحد قضاة النار كما ورد بذلك الدليل الصحيح (1)؛ لأنه لا يخلو عن أحد أمرين: إما الحكم بالحق وهو لا يعلم بأنه الحق، أو الحكم بالباطل وهو يعلم بخلافه، فكان من قضاء النار في كلا حالتيه.
فإن قلت: أريد إيضاح الكلام في المقام بما يحصل به الانفهام، قلت: افرض هذه الحادثة في رجل ادعى على آخر مالا، ثم جاء بشاهد، وأعوزه أن يأتي بشاهد آخر، وطلب من الحاكم أن يحلفه حتى يقوم يمينه مقام الشاهد الآخر، فهاهنا يجب على الحاكم أن يقدم البحث، ويجهد نفسه في الفحص عن حكم الله سبحانه في الحادثة، حتى يعلم قيام الحجة التي تصلح مستندا للحكم بالشاهد الواحد واليمين (2)، وذلك هو يحق له البحث وإجهاد النفس بإمعان النظر فيه، وإشباع الفحص عنه والبحث عما عداه من عدالة الشاهد وحال الخصمين، فهو شيء تفرع عن كون ذلك المستند صالحًا للحكم به، فلو ذهب يجهد نفسه في البحث عن حال الشاهد، أو نحو ذلك قبل أن
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2315)، وأبو داود رقم (3573)، والنسائي في " السنن الكبرى " (3/ 461 رقم 5922/ 1)، والترمذي رقم (1322)، والحاكم في " المستدرك " (4/ 90) عن بريدة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار "، وهو حديث صحيح.
(2) أخرج مسلم في صحيحه رقم (3/ 1712) عن ابن عباس: " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بيمين وشاهد "، وأخرج أحمد (3/ 305)، وابن ماجه رقم (2369)، والترمذي رقم (1344)، والبيهقي (10/ 170) من حديث جابر: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى باليمين مع الشاهد "، وهو حديث صحيح.(4/1859)
يعلم جواز الحكم بالشاهد الواحد واليمين أو عدم جوازه، لكان سعيه ضائعًا وبحثه ذاهبًا، واجتهاده في ذلك لا يعود عليه بفائدة؛ لأنه اشتغل بالنظر [2 أ] في شيء تفرع عن أصل، وهو لا يدري بالأصل.
فانظر أصلحك الله ما هو الأمر الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا اجتهد الحاكم " (1)، وعلى كل حال فالمقام مقام البحث عن حكم الله سبحانه في الحادثة، والحاكم المذكور في الحديث هو الحاكم المأمور بأن يحكم بما شرعه الله لعباده فيها، فأي معنى لحمل اجتهاده على البحث عن أمور لا تعلق لها بالحكم إلا من جهة كونها راجعة إليه، ومتفرعة عنه.
ثم انظر ما وقع في حديث معاذ لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قاضيًا، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال له: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله سبحانه، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قال: فإن لم تجد؟ فقال: أجتهد رأيي " (2).
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أبو داود (9/ 509 مع العون)، والترمذي (4/ 556 - مع التحفة)، والدارمي (1/ 60)، وأحمد في " المسند " (5/ 230، 242)، والبيهقي (10/ 114)، والطيالسي (1/ 286 - منحة المعبود)، وابن سعد في الطبقات (2/ 347 - 348)، وابن عبد البر في " الجامع " (2/ 55 - 56)، وابن حزم في " الإحكام " (6/ 26)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 154 - 155، 188 - 189) من طرق عن شعبة عن أبي العون عن الحارث بن عمرو - أخي المغيرة بن شعبة - عن أصحاب معاذ بن جبل.
قال الإمام البخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 277): " الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ روى عنه أبو العون، ولا يصح، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل " اهـ.
وقال الترمذي: " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل " اهـ.
قلت: وأخرجه الحافظ العراقي في " تخريج أحاديث مختصر المنهاج في الإحكام " (6/ 35): " وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو، وهو مجهول لا يدري أحد من هو " اهـ.
وقال ابن الجوزي في " العلل المتناهية ": (2/ 758 رقم 1264): " هذا حديث لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه، ولعمري إن كان معناه صحيحًا إنما ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفونه، وما هذا طريقه فلا وجه لثبوته ".
قلت: والحديث أعل بعلل ثلاث:
1 - ): الإرسال. 2): جهالة أصحاب معاذ. 3) جهالة الحارث بن عمرو.
وأما قول الجوزي: " إن كان معناه صحيحًا " فأوضحه الألباني في " الضعيفة " (2/ 286) فقال: " هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن، وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما، وقد ذكر الشيخ حمدي بن عبد المجيد السلفي في تحقيق كتاب " المعتبر " للزركشي (ص 68) العلماء الذين ضعفوا هذا الحديث وهم:
1 - ) البخاري. 2)
الترمذي. 3)
العقيلي. 4)
الدارقطني. 5)
ابن حزم. 6)
ابن طاهر المقدسي. 7)
الجوزقاني. 8)
ابن الجوزي. 9)
الذهبي. 10)
السبكي. 11)
العراقي. 12)
ابن الملقن. 13)
ابن حجر.
قلت: وضعفه المحدث الألباني في " الضعيفة " (2/ 273 رقم 881).(4/1860)
فانظر كيف كان الأمر المهم عند بعث هذا الصحابي للقضاء؟ هو السؤال له للإرشاد لا للاسترشاد عن مستند ما يحكم به لا عن غيره، وهكذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يأمر من يبعثه من القضاة والولاة، وكذلك كان يرشد إلى ذلك معظم الخلفاء الراشدون (1) من يبعثونه، ثم انظر قول هذا الصحابي العظيم: أجتهد رأيي، فإن المراد بلا
_________
(1) ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر رضي الله عنه الذي كتبه إلى أبي موسى الذي رواه الدارقطني (4/ 206، 207 رقم 15)، وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد، وهو ضعيف.
والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 115)، وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/ 86) بعد أن أورده: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه، ولفظه: أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فعليك بالفعل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة، فاقض إذا فهمت، وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حراما أو حرم حلالا، ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمرًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينته أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى.
ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة، والتفكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنك بثواب من الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام " اهـ.(4/1861)
شك ولا شبهة أن يجتهد رأيه في مستند الحكم، فيستخرجه من قياس أو نحوه على ما في الكتاب والسنة، فهذا هو الاجتهاد الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب " (1) إلى آخر الحديث.
فالحاصل أن هذا الحديث إن كان عاما كما ذكرناه سابقا، فالاجتهاد في مستند الحكم داخل فيه دخولا أوليا؛ لأنه الفرد الكامل الذي لا ينبغي أن يراد سواه إلا طريق التبع كالبحث عن حال الشهود والخصوم، مع أنه لا يبحث عن ذلك لذاته [2 ب]، بل ليعلم الحاكم وجود المستند الذي ثبت عن الشارع، فإن النظر في الشهادة ليس إلا لمعرفة
_________
(1) تقدم تخريجه.(4/1862)
حصول الأهلية وقدر وجود المانع، فيثبت عند ذلك أن مستند الحكم هو الشهادة التي قد علم الحاكم باجتهاده أنها مستند للحكم تقوم بها الحجة الشرعية.
وإن كان الحديث غير عام بل يطلق فما شأن دلالة الأفعال؟ فالمقتضى حمله على الاجتهاد في مستند الحكم على حسب ما قررناه سابقا، والنظر في حال الشهود والخصوم ليس بمقصد مستقل، بل هو متفرع عن المستند ومكمل له، ولا يحمل الحديث على غير ذلك مما لا مدخل له في مستند الحكم، وما هو فرع عنه؛ لأنه على فرض أن له نفعًا في الجملة كالبحث مع المدعى عليه من الحاكم بما يتأثر عنه الإقرار هو سياسة عرفية لا شرعية؛ لأنه لا يتم ذلك إلا بنوع من المحادثة له، والفتل في الذروة والغارب منه (1)، والمداهاة له، ولم نتعبد بذلك، فكيف يحمل عليه قول الشارع!.
وفي هذا المقدار كفاية، والحمد لله أولا وآخرًا.
حرره محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما [3 أ].
_________
(1) قال الجوهري في " الصحاح " (5/ 1788): " الفتيلة: الذبالة، وذبال مفتل: شدد لكثرة، وفتله عن وجه فانفتل: أي: صرفه فانصرف، وفتلت الحبل وغيره، و" ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب " أي: يدور من وراء خديعته "، وقال ابن منظور في " لسان العرب " (10/ 178): وهو مثل في المخادعة.(4/1863)
(50) 13/ 5
جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه؟
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1865)
وصف المخطوط:
1 - عنوان المخطوط: (جواب عن سؤال خاص بالحديث: " لا عهد لظالم "، وهل هو موجود فعلا من عدمه؟)
2 - موضوع الرسالة: في " الحديث ".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين وصحبه الأفضلين، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة حسنة الآل. . .
4 - آخر الرسالة:. . . قال الله عز وجل: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}، وفي هذا كفاية. انتهى ما أفاده شيخنا القاضي العلامة البدر الشوكاني عافاه الله وكثر فوائده، آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: (5) صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (23 - 26) سطرًا
8 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 14) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(4/1867)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الأكرمين، وصحبه الأفضلين.
وبعد:
فإنه وصل من سيدي العلامة، حسنة الآل وفرد الكمال يحيى بن مطهر (1) - كثر الله فوائده - سؤال، هو أنه بحث عن الذي يزعم كثير من الناس أنه حديث، وهو قولهم: " لا عهد لظالم (2) " (3) فلم يجده، ثم قال: فهل عندكم علم بوجوده ولو على ضعفٍ؟ وإلا أفدتم بما يستفيد به من يخشى اغتراره بذلك من أهل العلم أو غيرهم، فإن الأمر عظيمٌ، وقد كرر الله سبحانه الأمر بالوفاء في مواضع من كتابه العزيز، منها قوله عز من قائل: {وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} (4)، وقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا .....................
_________
(1) يحيى بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن القاسم، ولد في شهر جمادى الأولى سنة 1190 هـ، وطلب العلم على جماعة من مشايخ صنعاء كالقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم، وله سماعات كثيرة.
وقال الشوكاني في " البدر " رقم (585): " وهو حال تحرير هذه الترجمة يقرأ علي في العضد وحواشيه، وفي شرح التجريد للمؤيد بالله، وفي شرحي للمنتقى، وفي مؤلفي المسمى " إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر "، وفي مؤلفي المسمى بـ " الدرر " وشرحه المسمى بالدراري. . . ".
وقد سألني بسؤالات وأجبت عليها برسائل هي مجموعات الفتاوى، وله جدول مفيد جدا، وأشعار فائقة، ومعاني رائعة، ومكاتباته إلي موجودة في مجموع الأشعار المكتوبة إلي.
وانظر: " التقصار " (438 - 439)، " نيل الوطر " (2/ 411 - 414).
(2) لم يثبت كما قال الشوكاني في الجواب.
(3) في هامش المخطوط ما نصه: في الأصل: وقال: إنه بحث عن ذلك، ولعله هو بحث عنه فما قبله ".
(4) [الأنعام: 152].(4/1871)
عاهدتم} (1)، وقوله: {ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا} (2)، وقوله: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (3)، والأحاديث في ذلك لا تخفى.
وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود (4) والنسائي (5): " ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون "، قال بعض الشراح: قوله: وأنتم صادقون يدل على تحريم الحلف على الشيء وهو يعتقد كذبه، فإن هذه هي اليمين الغموس (6) المحرمة، انتهى.
فإذا كان هذا فيما يعتقد كذبه فكيف ما يعتقد صدقه ويحلف عليه ثم ينكث؟ فأحسنوا بالإفادة - أحسن الله إليكم - وبينوا معنى " لا عهد " هل المراد نفي الذات؟ فقد وقع كما وقع الفخر في حديث " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " (7)، قيل: المعنى: ولا فخر أكمل ......................
_________
(1) [النحل: 91].
(2) [النحل: 95].
(3) [الإسراء: 34].
(4) في " السنن " رقم (3248).
(5) في " السنن " (7/ 5 رقم 3769)، قلت: وأخرجه ابن حبان (ص 286 رقم 1176 - موارد)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (10/ 29)، وهو حديث صحيح.
(6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (6675، 6870، 6920) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب ".
(7) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (3615)، وقال: وفي الحديث قصة، وهذا حديث حسن صحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ".(4/1872)
منه (1)، أو ما يلازمها نحو يجب الوفاء به، أو يوجب الحنث فما المخصص، فالأدلة الصحيحة على أن كل عهد يجب الوفاء به أو التكفير عنه، وذلك كما يكون إتيانه عملا (2) من أعمال البر، وهو معنى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} (3) في وجه، وعلى فرض صحة هذا الحديث فهو لا يقوى لمعارضة غيره، ثم هل المراد بالظالم الحالف بمعنى أن حلفه وفجوره من جملة الظلم أو المراد المحلوف له؟ قال الله سبحانه: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} (4) والركون الميل
_________
(1) قاله الزركشي.
(2) في المخطوط (غير)، ولعل الصواب (عملا).
(3) [البقرة: 224]، قال ابن كثير في تفسيره (1/ 600): أي لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها.
(4) [هود: 113]، قال ابن كثير في تفسيره (4/ 354) عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا، وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم.
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " (9/ 108): قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: (ولا تركنوا): الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم. . . وقال ابن زيد: الركون هنا الادهان، وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.
الثانية: قرأ الجمهور: (ولا تركنوا) يفتح الكاف، قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز، وقرأ طلحة بن مصدف وغيرهما: (تركنوا) بضم الكاف، قال الفراء: وهي لغة تميم.
الثالثة: قوله تعالى (إلى الذين ظلموا): قيل: أهل الشرك، وقيل: عامة فيهم وفي العصاة. . .
وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة. . .
الرابع: قوله تعالى: (فتمسكم النار) أي: تحرقكم بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم.(4/1873)
اليسير، وهو يشمل الأحوال حتى المجالسة والزيارة، فضلا عن المداهنة والرضى بالأعمال، فكيف يقبل عهده فضلا أن يتعهد له؟ وثلاث من كن فيه [1 أ] كن عليه: الثالثة: النكث، قال تعالى: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (1)، وقد ورد أن خلف الوعد ثالث النفاق إشارة إلى حديث: " آية المنافق (2) ثلاث "، فكيف بنكث العهد؟ وفي الكشاف (3) حديث رواه لا أدري صحته: " أسرع الخير ثوابًا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابًا البغي واليمين الفاجرة " (4) انتهى، فأحسنوا بالإفادة لا برحتم، انتهى السؤال.
وأقول - حامدًا لله، مصليًا مسلمًا على رسوله وآله -: إن الجواب عن هذا السؤال
_________
(1) [الفتح: 10].
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (33)، ومسلم رقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ".
(3) (3/ 127 - 128).
(4) أخرجه ابن ماجه رقم (4212)، وأبو يعلى في مسنده (8/ 10 - 11 رقم 4512)، كلاهما من طريق معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنها، وهو حديث ضعيف جدا، انظر: " الضعيفة " رقم (2787)، وعوضًا عنه حديث أبي بكرة أخرجه أبو داود رقم (4902)، والترمذي رقم (2511)، وابن ماجه رقم (4211)، والحاكم رقم (2/ 356) و (4/ 162 - 163).
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ولفظه: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم "، وهو حديث صحيح.(4/1874)
النفيس يتحصل في أبحاث:
البحث الأول: إن هذا اللفظ - أعني: " لا عهد لظالم " - لم يكن من كلام النبوة، ولا من كلام أحد من الصحابة، ولا من كلام أحد من أهل العلم الذين هم أهله، وإنما هو جرى في هذه الديار على ألسن كثير من العوام، فاستروح إليه من يريد الغدر في عهده، والنكث في عقده، والحنث في يمينه، وهو استرواح إلى الباطل البحت، وركون على السراب، وتشبث بالهباء، وكل من لديه أدنى علم وأحقر عرفان يعلم أن هذه العهود والعقود التي شدد الله سبحانه في كتابه العزيز في الوفاء بها، ويهدد ويوعد من نكث عهده وغدر في عقده في مواضع كثيرة، منها ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - هي واردة في معاهدة المشركين ومعاقدة الكافرين، لا خلاف في ذلك، كما تدل عليه أسباب النزول، وأهل الشرك هم أهل الظلم الكامل البالغ إلى أعلى المبالغ، ولهذا يقول الله سبحانه: {إن الشرك لظلم عظيم} (1) ولا شك أن الاعتبار بعموم اللفظ (2) لا بخصوص السبب، فتشمل الآيات والأحاديث المعاهدة للمسلمين، والمعاقدة لأهل الظلم منهم، بل تناولها للمعاهدة للمسلمين هو من باب فحوى الخطاب وقياس الأولى؛ لأن المسلم أولى أن يحفظ عهده والوفاء بعقده من المشرك، وإذا لم يسوغ شرك المشرك وظلمه النقض لعهده، والغدر بعقده وعدم الوفاء له، فكيف يجوز ذلك في عهد المسلم وعقده؟ وبالجملة فهذا معلوم بأدلة الكتاب (3) والسنة وبإجماع المسلمين
_________
(1) [لقمان: 13].
(2) انظر: " الكوكب المنير " (3/ 177)، " اللمع " ص 22.
(3) قال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) [النحل: 91].
قال تعالى: (إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) [الرعد: 19 - 20]، قال تعالى: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) [الرعد: 25].(4/1875)
أجمعين، لا يعرف عن أحد منهم في ذلك خلاف، وكما اتفقوا على تحريم الغدر وترك الوفاء بالعهد فقد اتفقوا على أن الأحاديث الصحيحة الواردة [1 ب] في أن الغدر في العهد من خصال المنافقين، وأنه يدخل عهد المسلم للمسلم تحت ذلك دخولا أوليا، وكذلك اتفقوا على أن ما ورد في الأحاديث الصحيحة أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (1)، ويقال: هذه غدرة فلان، يتناول عهد المسلم للمسلم تناولا أوليا لا شك في هذا ولا ريب، والحاصل أن الوفاء بالعهود، وعدم جواز نكثها، والمخالفة لمضمونها، هو قطعي من قطعيات الشريعة.
ولو نتبع ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك لجاء في مؤلف مستقل، يعلم ذلك كل من له علم بالكتاب والسنة، فكيف يتمسك من يؤمن بالله واليوم الآخر بهذه الفرية التي ليس فيها مرية، وتعارض بها قطعيات الشريعة التي هي فيها كالجبال الرواسي؟ فلو قدرنا أن لهذا اللفظ المكذوب والكلام الموضوع وجهًا يعرف به لم يحل لمؤمن أن يتمسك به، أو يعارض به ما هو قطعي من قطعيات الشريعة، بل لو قدرنا أنه قد خرج من مخرج صحيح أو حسن لم يحل نصبه في مقابلة آيات القرآن الكثيرة العدد، الوافرة المدد، والأحاديث المتواترة تواترًا، لا يخفى هذا إلا على من لا يدري بما في الكتاب والسنة، فكيف وهذا اللفظ باطل باطل قد تبرمت عنه المؤلفات في الأحاديث الموضوعة المكذوبة، فضلا عن مجاميع السنة ومسانيدها؟ وفي هذا المقدار من هذا البحث كفاية، فإن
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (3186 و3187)، ومسلم رقم (13/ 1736) من حديث عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (9/ 1735) من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان ".(4/1876)
الكلام إنما نحتاج إليه على شيء له وجود ونسبة إلى الصحة أو الحسن أو الضعف، فكيف نحتاج إليه على شيء لا وجود له إلا على ألسن العوام الذين يجري على ألسنهم كل زور وفحشٍ وخطلٍ من القول وباطل من الكلام!.
البحث الثاني: اعلم أن العهد قد يظن كثير من الناس أن المراد به اليمين لا غير، وهو ظن فاسد وتخيل مختل، فالعهد يطلق في الغالب على الأمان، وأكثر الآيات والأحاديث واردة في العهد بهذا المعنى، وورد بمعنى [2 أ] الوصية، ومنه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إنه لعهد النبي الأمي أن لا يجني إلا مؤمن " (1) الحديث.
وحديث عبد بن زمعة حيث قال: " في ابن وليدة زمعة، وهو ابن أخي عهد إلي فيه " (2)، ومن ذلك حديث: " تمسكوا بعهد ابن أم عبد " (3)، أي: ما يوصيكم به، ويطلق أيضًا على الذمة.
_________
(1) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (6/ 2340)، وفيه موسى بن طريف من غلاة الشيعة، وانظر: " الذخيرة " رقم (4460).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2053 و2218 و2421 و2533 و2745 و4303 و6765 و6817، 7182).
ومسلم في صحيحه رقم (36/ 1457) من حديث عائشة قالت: " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة ".
(3) وهو جزء من حديث أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (5840)، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (9/ 295)، وقال: وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف.
وأخرجه الفسوي في " المعرفة والتاريخ " (1/ 480)، والحاكم (3/ 75) من طرق، وصححه وأقره الذهبي، وأخرجه ابن حبان رقم (2193 - موارد).
وتكلم عليه الألباني في " الصحيحة " رقم (1233)، فانظره.
وخلاصة القول أن الحديث صحيح لغيره، والله أعلم.(4/1877)
ومنه حديث: " لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده (1) بكافر " (2)، وكذلك حديث: " من قتل معاهدًا " (3)، وورد بمعنى اليمين، ومنه حديث: " وأنا على عهدك ووعدك " (4)، أي: على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك، وفي كونه معنى اليمين وردت آيات وأحاديث.
قال في الصحاح (5): العهد: الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية، وقد عهدت إليه: أي: أوصيته، ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة، ويقول: علي عهد الله لأفعلن كذا، ثم قال: وعهدته مكان كذا: أي: لقيته، وعهدي به قريب، وقول الشاعر (6):
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 119)، والنسائي (8/ 19 - 20)، وأبو داود في " السنن " رقم (4530)، والحاكم في " المستدرك " (2/ 141) من حديث قيس بن عباد، وفيه: ". . . المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثًا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
(2) من هامش المخطوط ما نصه: ليست هذه اللفظة - أعني بكافر - في الحديث، وإنما ذكرها من حمل الحديث في العطف على النسق الأول على وجه التقدير لتصحيح الكلام، فالعجب من الكاتب حيث أدرجها في الحديث على وهمه.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3166)، وطرفه (6914) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا ".
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6306)، وطرفه (6323) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: ومن قالها من النهار مؤمنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو مؤمن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة ".
(5) (2/ 515).
(6) قيل: هو أبو خراش الهذلي.(4/1878)
وليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
أي: ليس الأمر كما عهدت، ولكن جاء الإسلام فهدم ذلك، وفي الحديث: " إن كرم العهد من الإيمان " (1)، أي: رعاية المودة، انتهى.
قال في النهاية (2): ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفاظ والرعاية والحرمة والوصية، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أبي أحد هذه المعاني، انتهى.
وذكر في القاموس (3) هذه المعاني، وزاد منها التقدم إلى المرء في الشيء والتوحيد، قال: ومنه: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} (4).
والحاصل أنه ورد استعمال العهد في جميع هذه المعاني، في بعضها بكثرة، وفي بعضها بقلة، والسياقات والأسباب ترشد إلى ما هو المراد، وما ورد في الكتاب والسنة من الأمر بالوفاء بالعقود فالمراد بها العهود، قال في الصحاح (5): والمعاقدة المعاهدة، وكذا سائر كتب (6) اللغة.
البحث الثالث: الجواب عن قوله - عافاه الله -: وبينوا معنى لا عهد، فيقال: قد قدمنا أن هذا الكلام لم يصح بوجه من الوجوه، بل هو باطل مكذوب موضوع، فالتعرض لبيان معناه شغلة بلا فائدة، وإن كان ولا بد من بيان ما يريد به من يتكلم به من العوام [2 ب] فهم يريدون (7) أنه إذا وقع من الحلف لمن يزعم أنه ظالم فإن هذا العهد كلا عهد، ووقوعه في الخارج لا حكم له، بل كأن لم يكن.
_________
(1) فلينظر من أخرجه؟
(2) (3/ 325) لابن الأثير.
(3) (ص 387).
(4) [مريم: 87].
(5) (2/ 510)
(6) " كلسان العرب " (9/ 449).
(7) في هامش المخطوط: يريدون نفي الذات وما يلازمها، السؤال بما له.(4/1879)
البحث الرابع: الجواب عن قوله - كثر الله فوائده - حاكيًا عن غيره أن معنى: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " أن المعنى لا فخر أكمل منه، فيقال: هذا المعنى لم يكن المقصود من هذا الحديث الصحيح، بل المقصود منه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أخبر الناس عن هذه المزية التي جعلها الله له، وهي السيادة العامة (1) الثابتة على جميع ولد آدم، وإنه لم يقصد بذلك إلا إخبارهم بما من الله به عليه وشرفه به، لا أنه مقدر بذلك الفخر، فإنه منهي عنه بالكتاب والسنة، فكيف يصدر عنه؟ (2)
البحث الخامس: الجواب عن قوله - كثر الله فوائده -: هل المراد بالظالم الحالف، بمعنى أن حلفه وفجوره من جملة الظلم، أو المراد المحلوف له إلخ؟ فيقال: مرادهم بهذا الكلام المكذوب الباطل أنهم إذا حلفوا لمن يعتقدون أنه ظالم فإن هذه اليمين لا تلزمهم، ولا تثبت عليهم حكمًا، ولا يتعلق لهم إرادة للمعنى الأول؛ لأنهم إنما يريدون تخليص أنفسهم عما أخذ عليهم من اليمين أو الأمان أو البيعة أو نحو ذلك.
البحث السادس: الجواب عن قوله: " ثلاث من كن فيه كن عليه " إلخ، فيقال: لم يكن هذا اللفظ حديثًا ولا مرويًا عن صحابي، ولكن قال بعض العلماء: ثلاث يعود
_________
(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (3/ 66): إنما قال هذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثًا بنعمة الله تعالى، وقد أمره الله تعالى بهذا، ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال القاضي عياض: قيل: السيد: الذي يفوق قومه والذي يفزع إليه في الشدائد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدهم في الدنيا والآخرة.
وقال القرطبي في " المفهم " (1/ 426): أي: المقدم عليهم، والسيد هو الذي يسود قومه، أي: يفوقهم بما جمع من الخصال الحميدة بحيث يلجئون إليه، ويعولون عليه في مهماتهم، وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون، ويشهد له بذلك النبيون والمرسلون، وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء، فكلهم تبرأ منها ودلى على غيره إلى أن بلغت محلها، واستقرت في نصابها.
(2) في هامش المخطوط في المقدر الذي يقتضيه المقام مصححًا لهذا المعنى؛ لأنه وقع ما يقدر الافتخار، ومن هو في مقام النبوة أبعد عن القصد إلى ما لا يليق، وأحرص على كل حسن.(4/1880)
وبالها على فاعلها: النكث فإن الله تعالى يقول: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} (1)، والمكر فإن الله تعالى يقول: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} (2)، والخدع فإن الله تعالى يقول: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم} (3)، وها هنا رابعة وهي البغي، قال الله عز وجل: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} (4)، وفي هذا كفاية.
انتهى ما أفاده شيخنا القاضي العلامة البدر الشوكاني عافاه الله، وكثر فوائده، آمين [3 أ].
_________
(1) [الفتح: 10].
(2) [فاطر: 43].
(3) [البقرة: 9].
(4) [يونس: 23].(4/1881)
فوائد في أحاديث فضائل القرآن
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1883)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (فوائد في أحاديث فضائل القرآن).
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وصل من الصنو العلامة عماد الإسلام محمد بن إسماعيل بن عبد الكريم بن علي من ذرية الإمام شرف الدين الساكنين في حصن كوكبان.
4 - آخر الرسالة: غفر الله له ولآبائه ولمشايخه في الدين ولجميع إخوانه المؤمنين وصلى الله وسلم على سيد البشر، وآله الغرر وصحبه الدرر آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: محمد بن محمد بن أحسن الأخفش.
7 - عدد الصفحات: (8) صفحات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: (23) سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: (12) كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الخامس من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1885)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وصل من الصنو العلامة عماد الإسلام محمد بن إسماعيل بن عبد الكريم بن علي من ذرية الإمام شرف الدين الساكنين في حصن كوكبان، المحروس إلى المولى العلامة الشهير المحقق الخطير الحافظ الكبير، شيخ الإسلام وبدره المشرق التام المستمد من بحر علومه القاصي والداني شمس الدين محمد بن علي الشوكاني، لا زالت بحار علومه زاخرة ولا برحت سماء تحقيقه ماطرة ولفظ السؤال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وزين بهم الأرض كما زين بالنجوم السماء، وجعلهم قدوة يقتدى بهم ويعمل بقولهم وأمر تعالى في محكم التنزيل بسؤالهم فقال وقوله الحق المبين: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (1).
نعم. أتم الله عليكم النعم. المرفوع إلى جناب سيدي عز الإسلام والقدوة لمن اقتدى من الخاص والعام، العالم العلامة، والحجة الفهامة، محمد بن علي الشوكاني نوره الله بنور المعاني وجزاه عن المسلمين خيرًا والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وصلى الله وسلم على محمد وآله.
والمسؤول عنه حكم الأحاديث الواردة في فضائل القرآن العظيم وسوره وآيات منه، هل أحاديث ما ورد صحيحة واردة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأن السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى ذكر في كتاب التنقيح (2) في باب الموضوع من الأحاديث عن زين الدين العراقي (3) تعداد الكذابين حسبة وتقربًا إلى الله تعالى فمن
_________
(1) [النحل: 43].
(2) (ص 172) بتحقيقنا.
(3) في "فتح المغيث" (ص 120).
شر الضعيف الخبر الموضوع ... الكذب المختلق المصنوع
وكيف كان لم يجيزوا ذكره ... لمن علم ما لم يبين أمره
وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عنى أبا الفرج(4/1889)
أولئك أبو عصمة نوح بن مريم المروزي (1) قيل لأبي عصمة [1 أ]: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة وليس عن أصحاب عكرمة هذا؟ فقال رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومحمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة، وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع (2).
قال أبو حاتم ابن حبان "جمع كل شيء إلا الصدق" (3). قال الحاكم (4) وضع حديث فضائل القرآن. وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء عن ابن مهدي (5) قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا قال وضعتها أرغب الناس فيها، وهكذا حديث أبي (6) الطويل في فضائل سور القرآن سورة
_________
(1) نوح بن أبي مريم، واسمه حابنة، وقيل حافنة، وقيل: يزيد من جعونة المروزي أبو عصمة القرشي قاضي مرو، ويعرف بنوح الجامع.
قال البخاري منكر الحديث. وقال في موضع آخر: نوح بن أبي مريم ذاهب الحديث جدًا قال أبو حاتم، ومسلم بن الحجاج، وأبو بشر الدولابي، والدارقطني: متروك الحديث، وذكر الحاكم أبو عبد الله النيسابوري الحافظ: أنه وضع حديث فضائل القرآن.
انظر: "تهذيب الكمال" (30/ 56 - 65 رقم 7095)، "الكاشف" رقم (5992)، "شذرات الذهب" (1/ 283).
(2) قال ابن قطلوبغافي تاج التراجم (ص 76): لقب بذلك لأنه أول من جمع فقه أبي حنيفة.
وقيل: لأنه كان جامعًا بين العلوم، له أربعة مجالس، مجلس للشعر، مجلس للأثر، ومجلس لأقاويل أبي حنيفة، ومجلس للنحو.
(3) انظر: "تدريب الراوي" (1/ 253).
(4) في "المدخل" (ص 54).
(5) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 40) من طريق ابن حبان.
(6) أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 239) من طريق يزيغ بن حبان عن علي بن زيد ابن جدعان، وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي وقال: الآفة فيه من يزيغ، ثم أوده من طريق مخلد بن عبد الواحد عن علي وعطاء وقال: (الآفة فيه من مخلد).(4/1890)
سورة فروينا عن المؤمل بن إسماعيل: حدثني به شيخ بكذا، فسرت إليه فقلت من حدثك قال حدثني شيخ بالبصرة وهو حي فسرت إليه فقال حدثني شيخ ببغداد فسرت إليه فأخذ بيدي وأدخلني بيتًا فإذا فيه قوم من المتصوفة فيهم شيخ فقال هذا حدثني. فقلت يا شيخ من حدثك؟ قال لم يحدثني به أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث فيصرفون قلوبهم إلى القرآن.
قال زين الدين (1): وكل من أودع حديث أبي المذكور تفسيره كالثعلبي والواحدي والزمخشري مخطٍ انتهى.
قال وذكر عن بعض الثقات أنه قال: لم أعجب من فلان وفلان - يعدد المفسرين - ولا الزمخشري إذ لم يكونوا من أهل الحديث، إنما عجبت من أبي بكر بن داود (2) حيث أودع كتابه حديث فضائل القرآن وهو يعلم أنه حديث محال لكن شره المحدثين حملهم على تنفيق أحاديثهم ولو بالأباطيل انتهى.
فتحققوا نوركم الله هل هذا يقدر مع ما هم عليه من المعرفة لما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولما جاء في الكذب وسيما للزمخشري فهل يقدر هذا مع أن ابن خلكان قد ذكر من مصنفاته ما عدده ومن جملتهن كتاب الغريب في الحديث (3) فهل يقدر كذبهم في هذه المواضع [1 ب] فهذا مشكل وبتنويركم إن شاء الله تعالى ينجلي وهل يلتفت إلى هذا مع نسبة زين الدين لأن ذلك يقتضي القدح في جناب بعضهم البعض من جهة أن الآخر لم يصح عنده ما قال الآخر، لا من جهة كونه كذب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نعم نوركم الله وكيف يكون حكم الحديث المورد في كتاب إرشاد الغبي الذي لفظه وسمعت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) في "فتح المغيث" (ص 125).
(3) وهو "الفائق في غريب الحديث" أربع مجلدات.(4/1891)
أنه قال من بلغه عن الله تبارك وتعالى ما فيه ثواب فعمل به أعطاه الله تعالى. ولكن هذا الحديث لم يسند إلى أحد الرجال الثقات، ولا إلى أحد الكتب المصححة فهل هذا من الأحاديث الصحاح أو يكون من جملة المكذوب فيهن؟ نعم.
وإذا كان صحيحًا فهل يقدر ما أورد محمولا عليه؟ وإذا قد صح فما يكون حكم الراوي هل يروي ما كان محمولا على هذا الحديث إذا قد صح وجائز له أن يسنده إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم لا يسنده بل يطلق. ومما يلحق بهذا سؤال عن الأحاديث الواردة في طلب العلم الشريف، وفي العلم هل هي صحيحة لا ريب في صحتها أم هي من جملة المكذوب فيهن، وعن الأحاديث الواردة فيمن قرأ سورة البقرة أو آية الكرسي (1) في بيت لا يدخله شيطان ثلاثة أيام إذا صحت على ما صحت على ما يحمل الشيطان يراد به كل شيطان أو مخصوصين لأن الأحاديث التي وردت أنه حال قيام العبد إلى الوضوء يقوم ملك وشيطان وكذا حال الصلاة لأنه إذا الوضوء في البيت أو الصلاة يقدر امتناعهم، وكذا الأحاديث الواردة في التفكر هل هي صحيحة؟ وأن تفكر ساعة خير من عبادة ألف سنة، وإذا هي صحيحة فعلام تحمل هل يراد بها الساعة الفلكية أم ساعة عرفية التي تطلق على اللحظة نعم حماكم الله تعالى كيف يكون تقدير الحديث الذي ذكر في عدة الحصن الحصين الذي هو: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر الله لهم" (2) على ما [2 أ] يحمل لأن ظاهره الإغراء من الله تعالى بالذنوب أو كيف يحمل حماكم الله تعالى وكيف يكون حكم العوام والنساء الذين يقرؤن القرآن من غير معرفة حله وحرامه ولا معانيه ولا تأمل، بل قد لا تحصل معهم لذة لتلاوته، فهل لهم الأجر الوارد في جميعه من غير نقص شيء مما قد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أم لا يكون لهم شيء فهل يكون لهم أجر على مجرد درسه أم لا، وهل يأثم من كان هكذا
_________
(1) سيأتي في الجواب.
(2) انظره في الرسالة رقم (55) من مجلدنا هذا "القرآن - الحديث".(4/1892)
وهجره عن الدرس من غير أنه ينساه بل يقلل في درسه أم لا لأنه لا يخفاكم ما قاله في النهاية لفظه وفي الحديث: "لا يعذب الله سبحانه قلبًا وعى القرآن" إيمانًا به وعملاً، وأما من حفظ ألفاظه وضيع حدوده فهو غير واع له.
وعن الحسن قال قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، وإنما حفظوا حروفه وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كله ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو إلا يحفظ حروفه وأضاع حدوده لا كثر الله تعالى في الناس من هؤلاء هذا لفظه فأحسنوا بجواب حاوٍ لكل مسألة إلى رأسها لتكمل الفائدة، وحاو لجميع المسئولين عنه جزاكم الله تعالى خير الدارين ويكون من غير عجل ليحصل جواب شافٍ يعمل به ويعتمد عليه، ويكون حجة على من أراد فعل ما جزمتم بعدم صحته من غير عجل، ومن غير إهمال ولا أن يحتاج السائل إلى معاودتكم للجواب بل ميعاد لا اختلاف فيه فالمؤمن إذا قال صدق، وليكمل لكم الأجر إن شاء الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والله الهادي إلى الصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى السؤال بلفظه وحروفه [2 ب].
ويتلوه الجواب النافع الحاسم القاطع مع المولى البدر الطالع المشرق الصادع الجدل البارع الموجز الجامع كثر الله علومه ووسع منطوقه ومفهومه، وأعاد على العالمين من بركات أياديه ما ينتفع به الأولون، ويكشف به أعاديه، ولفظ الجواب منقول بحروفه من خط يده الكريمة:(4/1893)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين وصحبه المكرمين.
وبعد:
فإنها وصلت هذه الأسئلة من السائل - كثر الله فوائده -، فأقول: أما أحاديث فضائل القرآن سورة سورة فلا خلاف بين من يعرف الحديث أنها موضوعة مكذوبة وقد أقر واضعها أخزاه الله بأنه الواضع لها، وليس بعد الإقرار شيء. ولا اغترار لمثل ذكر الزمخشري (1) رحمه الله لها في آخر كل سورة فإنه - وإن كان إمام اللغة والآلات على اختلاف أنواعها - فلا يفرق في الحديث بين أصح الصحيح، وأكذب الكذب، ولا يقدح ذلك في علمه الذي بلغ فيه غاية التحقيق، ولكل علم رجال وقد وزع الله سبحانه الفضائل بين عباده، والزمخشري (2) نقل هذه الأحاديث من تفسير الثعلبي (3) وهو مثله في عدم المعرفة بعلم السنة وقد أوضحت الكلام على هذا في مؤلفي الذي سميته الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (4)، وما ذكره السائل من أن للزمخشري مؤلفًا في غريب (5) الحديث فليس ذلك بمناف لما ذكرناه من عدم علمه بفن الحديث لأن المعرفة بفن الحديث هي تمييز الحديث الصحيح من الحسن من الضعيف من الموضوع، وقد صنف في علم غريب الحديث جماعة من أهل العلم [3 أ] من أولهم الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو إمام كبير في علم السنة من أقران ابن معين وابن مهدي وعلي بن المديني، وهكذا صنف جماعة ممن بعده في ذلك، والزمخشري رحمه الله هو إمام اللغة الذي لا
_________
(1) في "الكشاف". انظر فهو يذكر فضل السورة في نهايتها.
(2) في "الكشاف". انظر فهو يذكر فضل السورة في نهايتها.
(3) انظر تفسيره.
(4) (ص 296).
(5) "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري.(4/1894)
يجارى ولا يبارى، فتصنيفه في غريب الحديث (1) واقع من الخبير به فقد يشتمل تصنيفه في هذا على ما لا يشتمل عليه تصانيف من تقدمه ولا سيما وهو ممن تكلم في تمييز حقائق اللغة من مجازاتها، وجعل في ذلك مصنفًا (2) لا يقدر عليه غيره، والحديث الذي ذكره العنسي في إرشاده بلفظ من بلغه عن الله سبحانه ما فيه ثواب إلخ. في إسناده متروك وقد رواه ابن عبد البر وصرح بضعفه، وكذلك رواه البغوي، وأقول ليس هذا الحديث ضعيفًا فقط بل موضوع مكذوب لا يحل لمسلم أن يرويه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا لبيان أنه موضوع فقد أخطأ من قال إنه يجوز التساهل في الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال، وذلك لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام لا فرق بين واجبها ومحرمها ومسنونها ومكروهها ومندوبها فلا يحل إثبات شيء منها إلا بما تقوم به الحجة وإلا فهو من التقول على الله بما لم يقل، ومن التجري على الشريعة المطهرة بإدخال ما لم يكن فيها، وقد صح تواترًا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (3).
فهذا الكذاب الذي كذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - محتسبًا للناس بحصول الثواب لم يربح إلا كونه من أهل النار، فإن أبا معمر عباد .......................
_________
(1) الفائق في غريب الحديث للزمخشري.
(2) "أساس البلاغة" من مجلدين ط 3 الهيئة العامة للكتاب\ مصر 1985 م. كما طبع عدم طبعات.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (3/ 3) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (108) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 2) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من تعمد علي كذبًا فليتبوأ مقعده من النار".
* وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (106) ومسلم في صحيحه رقم (1/ 1) من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تكذبوا علي، فإنه من يكذب علي يلج النار".
وأخرجه البخاري رقم (1291) ومسلم في صحيحه رقم (4/ 4) من حديث المغيرة سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".(4/1895)
ابن عبد الله (1) المذكور في إسناد هذا الحديث متروك لا تحل الرواية عنه بحال.
وأما سؤال السائل عافاه الله تعالى عن الأحاديث الواردة في طلب العلم فمنها الصحيح (2) ومنها الحسن (3) ومنها الضعيف (4) مرة، وأشمل كتاب في ذلك كتاب العلم لابن عبد البر، وقد ذكرت في كتابي (5) المشار إليه جميع ما فيه ضعف منها، وما ليس
_________
(1) انظر: "الميزان" (4/ 31). ط: دار الكتب العلمية.
(2) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2699) وأبو داود رقم (4946) والترمذي رقم (1930) وابن ماجه رقم (225).
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " .... ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة .... ". وهو حديث صحيح.
(3) منها ما أخرجه ابن ماجه رقم (226) والحاكم (1/ 100) وابن حبان في صحيحه رقم (85، 1322) وأحمد (4/ 239) وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 131) رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح.
من حديث صفوان بن عسّال المرادي رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: "مرحبًا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب". وهو حديث حسن.
(4) منها ما أخرجه ابن ماجه رقم (224) وفيه حفص بن سليمان البزار ضعيف وقال البخاري: تركوه، انظر: "ميزان الاعتدال" (1/ 558).
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب". وهو حديث ضعيف.
وانظر شواهد ومتابعات هذا الحديث في "جامع بيان العلم" (1/ 23 - 68).
ومنها ما أخرجه الترمذي رقم (2648) وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 123) وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو داود الأعمى وهو كذاب.
من حديث سخبرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من عبد يطلب العلم إلا كان كفارة ما تقدم". وهو حديث ضعيف جدًا.
(5) في "الفوائد المجموعة" (ص 272 - 295).(4/1896)
بصحيح فمن [3 ب] أراد استيفاء ذلك نظر فيه.
وأما سؤال السائل عافاه الله عن الأحاديث الواردة فيمن قرأ سورة البقرة إلخ. فأقول قد ورد في بعض السور وبعض الآيات ما هو صحيح (1) وما هو حسن (2) وما هو ضعيف (3) واستوفيت ذلك في ..............................................
_________
(1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (780) والترمذي رقم (2877) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي رقم (965) في "عمل اليوم والليلة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة".
وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (806) والنسائي (2/ 138) والحاكم (1/ 558) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه، فقال: "هذا باب من السماء فتح لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته". وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (804) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا تسطيعها البطلة". وهو حديث صحيح.
(2) ما أخرجه الحاكم موقوفًا (2/ 260) ومرفوعًا (1/ 561).
من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل بيتًا يقرأ فيه سورة البقرة.
وهو حديث حسن بشواهده.
(3) (منها) ما أخرجه الترمذي (2878) والحاكم (2/ 259) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن". وهو حديث ضعيف.(4/1897)
تفسيري (1) في أوائل السور التي ورد فيها ذلك.
وأما التي لم يرد فيها شيء فلم أذكر في أوائلها شيئًا، فمن أحب معرفة ذلك راجعه فإن استيفاءه يحتاج إلى مؤلف.
وكذلك استيفاء ما ورد في طلب العلم وما ذكره السائل عافاه الله من السؤال الوارد في آية الكرسي (2) وأنه لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه شيطان فهو حديث صحيح من دون تقييد بقوله ثلاثًا، وهو من أحاديث عدة الحصن (3) وقد تكلمت عليه في شرحها وظاهره العموم فلا يدخل البيت شيطان لا من الموسوسين في صدور الناس ولا من الموسوسين في الطهارات ولا من غيرهم.
وأما سؤال السائل عافاه الله عن أحاديث التفكر فحديث: "فكر ساعة خير من
_________
(1) (1/ 79 - 81)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2311) وطرفاه (3275 و5010) عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل: " ....
فقال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب ... ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (258/ 810) من حديث أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم". قال قلت: الله ورسوله أعلم قال: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم" قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك الله أبا المنذر".
(3) وهو: "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين" (ص 370 - 371).(4/1898)
عبادة ستين سنة". رواه أبو الشيخ (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا وفي إسناده عثمان بن عبد الله (2) القرشي وإسحاق بن نجيح (3) الملطي وهما كذابان والمتهم به أحدهما وقد رواه الديلمي (4) من حديث أنس من وجه آخر ولا يصح ويغني عن هذا الكذب ما في الكتاب العزيز (5) من الإرشاد إلى التفكر.
وما سأل عنه السائل عافاه الله عن المراد بالساعة في الحديث فالمراد بها في اللغة (6) والشرع اللحظة لا الساعات التي اصطلح غير أهل الشرع المقدرة لليوم والليلة بأربع
_________
(1) في "العظمة" (ص 48 رقم 44).
(2) قال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار. انظر: "المجروحين" (2/ 102)، "ميزان الاعتدال" (3/ 41).
(3) قال ابن حجر في "التقريب" (1/ 62 رقم 440) إسحاق بن نجيح الملطي، أبو صالح، أو أبو زيد، نزيل بغداد كذبوه، من التاسعة. وانظر: "المجروحين" (2/ 134). وفي سنده عطاء الخراساني، وهو صدوق يهم كثيرًا ويرسل، ويدلس وقد رواه هاهنا بالعنعنة. انظر: "التقريب" (2/ 23). و"التهذيب" (7/ 212). والخلاصة أن الحديث ضعيف جدًا.
(4) في "الفردوس بمأثور الخطاب" (2/ 70 رقم 2397).
وقال الفتني في "تذكرة الموضوعات" (ص 188): فيه كذابان وضعه أحدهما.
(5) منها قوله تعالى: { ... ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 191].
وقوله تعالى: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} [النحل: 11].
وقوله تعالى: {ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} [النحل: 69].
(6) انظر: "لسان العرب" (6/ 431).(4/1899)
وعشرين ساعة.
وأما سؤال السائل عافاه الله عن حديث لو لم تذنبوا إلخ. فهو حديث صحيح (1) ووجه تفسيره صبيح فإن المراد [4 أ] أن هذا النوع الإنساني ليس بمعصوم عن (2) مقارفة الذنوب ولهذا جعل الله سبحانه في الآخرة دار نعيم وهي الجنة ودار عذاب وهي النار، فلو فرضنا أن هذا النوع لا يذنب منهم أحد لكانوا غير بني آدم، ولجاء الله سبحانه بقوم يطيعون ويعصون كما سبق به قدر الله عز وجل، وخلق لهم الجنة والنار لكن هؤلاء بنو آدم هم الذين يطيعون ويعصون فلم يخلق الله سبحانه خلقًا يكونون في الدنيا غيرهم وفاءً بما جرى به قلم القضاء الرباني.
وأما سؤاله عافاه الله عن الذي يقرأ القرآن ولا يعرف معناه كالعوام فنقول: الأجر على تلاوة القرآن ثابت، لكنه إذا كان يتدبر معانيه ويمكنه فهمه فأجر مضاعف، وأما أصل الثواب لمجرد التلاوة (3) فلا شك فيه والله سبحانه لا يضيع عمل عامل (4) وتلاوة كتابه سبحانه من أشرف الأعمال لفاهمٍ وغير فاهمٍ، وإذا أضاع أحدٌ ما اشتمل عليه القرآن من الأحكام أثم من جهة الإضاعة لا من جهة التلاوة.
_________
(1) انظر الرسالة رقم (55) من مجلدنا هذا.
(2) انظر "المرجع السابق".
(3) منها: ما أخرجه الترمذي رقم (2910) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف".
وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (804). عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه".
وهو حديث صحيح.
(4) يشير إلى قوله تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض .... } [آل عمران: 195].(4/1900)
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له صبح يوم الثلاثاء خاتمة شهر جمادى الآخرة من شهور سنة 1244 انتهى لفظ الجواب بحروفه المنقولة من خط اليد الطولى التي لم تشب بقصر، ولكنها صاغت الدرر ونظمتها في سلك من الذهب الأحمر، وقلدها سوالف الجيد الأنور، والعنق الأزهر، فتزينت بهذه الحلية فرائد المعاني وتساجلن الثناء شكرًا للحافظ الشوكاني برغم أنف كل حاسد وشاني، بقلم الناقل الحقير أخي القصور والتقصير محمد بن محمد بن أحسن الأخفش غفر الله له ولآبائه ولمشائخه في الدين، ولجميع إخوانه المؤمنين وصلى الله وسلم على سيد البشر وآله الغرر وصحبه الدرر آمين.(4/1901)
بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد" (1)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
_________
(1) عنوان الرسالة في (أ): "بحث في الصلاة في مكان أو مسجد فيه قبر".(4/1903)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (بحث في الصلاة في مكان أو مسجد فيه قبر).
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك وعلى آله الأطهار الأخيار وبعد: فإنه: ... ).
4 - آخر الرسالة: ... إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية. حرره الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار يوم السبت لعله سادس شهر جمادى الأولى سنة 1209.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: (22 - 30) سطرًا
9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1905)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث لعن الله اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد). وهو العنوان الذي اعتمدته.
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك، وعلى آله الأطهار الأخيار، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة
4 - آخر الرسالة: في تحويل الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين، إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية، انتهى من تحريره القاضي النحرير عمدة الإسلام، وعمادهم محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، وحفظه الله في نهار السبت لعله 4\ شهر جمادى أولى سنة 1209.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (14 - 26) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (14) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1908)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك، وعلى آله الأطهار الأخيار، وبعد:
فإنه وصل من سيدي العلامة جمال الكمال، كمال الجمال علي بن محمد بن (1) شمس الدين - لا برح على بقاء تردي الليالي في نعم تفوت عد العادين - سؤال عن حديث: لعن اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ولفظه: والمطلوب منكم والمعول عليكم أولا النظر في صحة الحديث، ثم بعد الصحة النظر في الهيئة التي لعنوا على فعلها، هل كانت السجود إلى القبر، أو كانوا يعتقدون الصلاة عند قبورهم قربة إلى الله - عز جل -، أو كان الواقع كالموجود في قبور الأئمة أن يكون القبر في مؤخر القبة أو في جانب منها، ويستدبره المصلي، أو يجعله في جانب منه. ثم بعد ذلك هل يقتضي الحديث الحظرية أو التنزيه فقط؟ فالباعث على ذلك أنها وقعت مذاكرة عن الصلاة في قبة سيدي محمد بن الحسن في الروضة، وقبره في مؤخر القبة في الجانب الأيمن. انتهى المقصود من السؤال.
_________
(1) العلامة الأديب علي بن محمد بن علي بن أحمد بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين الحسني الكوكباني.
مولده في المحرم سنة 1149 هـ بكوكبان وبه نشأ وأخذ النحو والصرف والبيان.
وقال الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (339): برع في النحو والصرف والمعاني والبيان والأصول، وله نظم جيد، فمنه ما كتبه إلي، وقد اطلع على بعض رسائلي. توفي سنة 1212 هـ.
"البدر الطالع" رقم (339) و"نيل الوطر" (2/ 161 - 162).(4/1911)
وأقول: الجواب بعون الله الملك الوهاب ينحصر في أبحاث أربعة:
الأول: في الكلام على طرق الحديث المسئول عنه.
الثاني: في الكلام على متنه.
الثالث: في العلة التي لأجلها ورد ذلك الحديث.
الرابع: في حكم الصلاة في المكان الذي فيه قبر.
أما الكلام عن الأول فاعلم أن هذا الحديث مما وقع الاتفاق بين جميع علماء الحديث على صحته، ولم يتكلم أحد منهم عليه بما يقتضي تضعيفه، ويغلب في ظني أنه متواتر (1) المعنى، وذلك لأنه رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، أخرج حديثه الشيخان (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4)، وعائشة
_________
(1) المتواتر: هو ما رواه جمع كثير، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم من غير قصد التواطؤ، عن جمع مثلهم، حتى يصل المنقول إلى منتهى السند، ويكون مستند علمهم بالأمر المنقول عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشاهدة أو السماع.
وقد تكون السنة المتواترة قولية، أو فعلية، والأولى قليلة، والثانية كثيرة، وهي نوعان: لفظي، ومعنوي.
اللفظي هو: ما اتفق رواته في لفظه - ولو حكمًا - وفي معناه وذلك كحديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
والمعنوي: هو ما اختلفوا في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعنى كلي، وذلك بأن يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك في أمر واحد، فالأمر المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر، فمنه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع.
"إرشاد الفحول" (ص 188) بتحقيقنا، "الكوكب المنير" (2/ 324)، "المحصول" (4/ 83، 227).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (437). ومسلم رقم (530 و532).
(3) في "السنن" رقم (3227).
(4) في "السنن" رقم (4/ 95، 96 رقم 2047). وله عندهم ألفاظ، منها: من حديث أبي هريرة قال: قال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".(4/1912)
أخرج حديثها أيضًا الشيخان (1)، والنسائي (2)، وابن عباس أخرجه أيضًا الشيخان (3)، والنسائي (4).
وله حديث آخر من طريق أخرى عند أبي داود (5) والترمذي (6)، وحسنه، وجندب بن عبد الله البجلي عند مسلم (7) والنسائي (8)، وأسامة بن زيد عند أحمد (9)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1330). ومسلم رقم (19/ 529).
(2) في "السنن" (4/ 95 رقم 2046). عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 436). ومسلم رقم (22/ 531)
(4) في "السنن" (2/ 40 - 41 رقم 703). ولفظه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(5) في "السنن" رقم (3236).
(6) في "السنن" رقم (320) وقال: حديث حسن.
قلت: وأخرجه النسائي (4/ 94 رقم 2043) وابن ماجه رقم (1575). وهو حديث حسن دون قوله: "متخذين عيها السرج".
عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
(7) في صحيحه رقم (23/ 532).
(8) في "التفسير" (1/ 406 رقم 143).
عن جندب قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" وهو حديث صحيح.
(9) في "المسند" (5/ 204).(4/1913)
والطبراني (1) بإسناد جيد.
وعن أمير المؤمنين عند البزار (2)، وعن زيد بن ثابت عن الطبراني (3) بإسناد جيد، وعن ابن مسعود عند الطبراني (4) أيضًا بإسناد جيد، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار (5)، وعن أبي سعيد عند البزار (6) أيضًا، وفي إسناده عمر بن صهباء، وهو ضعيف.
_________
(1) في "المعجم الكبير" (1/ 164 رقم 393).
قلت: وأخرجه الطيالسي (2/ 113).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 27) وقال: رجاله موثقون. وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 114) سنده جيد. من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "أدخلوا علي أصحابي، فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافري فكشف القناع فقال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(2) في "مسنده" (1/ 219 رقم 438 - كشف) عن علي بن أبي طالب قال: قال لي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه الذي مات فيه، قال: "ائذن للناس علي، فأذنت، فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال: يا علي! ائذن للناس علي، فأذنت للناس عليه فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال: ائذن للناس، فأذنت لهم، فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثلاثًا في مرض موته" وإسناده ضعيف.
(3) في "المعجم الكبير" (5/ 150 رقم 4907).
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 27). وقال: "رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون. قلت: وأخرجه أحمد (5/ 184).
(4) في "المعجم الكبير" (10/ 332 رقم 10413) عن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد".
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 27) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وإسناده حسن.
وأخرجه أحمد رقم (3844، 4143 - شاكر) وابن خزيمة رقم (789). وإسناده حسن.
(5) في مسنده (1/ 220 رقم 439 - كشف). وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 28) رجاله ثقات.
(6) في مسنده (1/ 220 رقم 440 - كشف).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (2/ 28) وقال: رواه البزار وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه.(4/1914)
وعن جابر (1) عن ابن عدي؛ فهؤلاء أحد عشر صحابيًا. وقد رواه جماعة كثيرون من التابعين يزيدون على عدد الصحابة بأضعاف مضاعفة، ثم رواه من التابعين [1] عالم، ورواه بعد ذلك من لا يمكن حصره، إذا انفرد هذا فقد رواه من أهل كل عصر من لا سبيل إلى تجويز تواطئهم على الكذب، وما كان كذلك فهو المتواتر (2) على ما هو المذهب المختار في الأصول.
وأما الكلام الثاني، وهو ما يتعلق بمتن الحديث فاعلم أن له ألفاظًا منها: "لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
ومنها: "أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".
واللفظ الأول أخرجه الشيخان (3)، وأهل السنن (4) من حديث أبي هريرة، واللفظ الثاني أخرجه أيضًا أبو داود (5) وغيره من حديثه، واللفظ الثالث أخرجه مالك في الموطأ (6) من حديث عطاء بن يسار، واللفظ الرابع (7) أخرجه مسلم والنسائي من
_________
(1) لم أعثر عليه الآن في الكامل.
(2) تقدم تعريف ذلك.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه.
(6) (1/ 172 رقم 85) مرسلاً.
(7) تقدم تخريجه.(4/1915)
حديث جندب. وللحديث ألفاظ أخرى. ولا يخفى على من له علم بمدلولات الألفاظ أن اللعن والدعاء عليهم بالمقاتلة من الله، واشتداد غضبه عليهم من أعظم الأدلة على التحريم.
وقد تقرر في الأصول (1) أن النهي بمجرده حقيقة في التحريم؛ فلفظ: أنهاكم كاف في استفادة التحريم مع عدم وجود الموجب للصرف إلى الكراهة. ولم يوجد هاهنا، إنما وجد ما لو انفرد عن النهي لكان قاضيًا بالتحريم، وهو اللعن والدعاء بالغضب ونحوهما.
وقوله: اتخذوا جملة مستأنفة على سبيل البيان الموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى - عليه السلام - وبين نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نبي غيره، وليس له قبر. وأجيب أيضًا بأن الجمع في قوله أنبيائهم باعتبار المجموع من اليهود والنصارى، لا باعتبار طائفة اليهود وحدها وطائفة النصارى وحدها، وقيل الأنبياء وكبار (2) أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء تغليبًا.
_________
(1) فإن تجردت صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن فهي للتحريم.
انظر: "الرسالة" (ص 217، 343)، "اللمع" (ص 14)، "التبصرة" (ص 99)، "المسودة" (ص 81).
(2) عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
أخرجه البخاري رقم (427) ومسلم رقم (16/ 528) وأحمد (6/ 51).
قال القرطبي في "المفهم" (2/ 127 - 128): قوله أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا تلك الصور، قال الشيخ: إنما فعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصورة، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم. فمضت لهم بذلك أزمان ثم إنهم خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان: أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فعبدوها فحذر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك".(4/1916)
ويؤيد هذا حديث جندب (1) السابق بلفظ: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. والمراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا واتباعًا؛ فاليهود ابتدعت، النصارى اتبعت. ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، والمساجد جمع مسجد، قال في القاموس (2) والمسجد معروف، ويفتح جيمه، والمفعل من باب نصر بفتح العين اسمًا كان أو مصدرًا إلا أحرفا كمسجد، ومطلع، ومشرق، ومسقط، ومفرق، ومجزر، ومسكن، ومرفق، ومنبت، ومنسك، ألزموها كسر العين، والفتح جائز وإن لم نسمعه. وما كان من باب جلس فالموضع بالكسر والمصدر بالفتح نزل منزلا أي نزولاً، وهذا [2] منزله بالكسر؛ لأنه بمعنى الدار. انتهى.
وكلام أهل الصرف مثل هذا الكلام، كما وقع في شافية ابن الحاجب (3) أن ما كان مضارعه مفتوح العين أو مضمومها فهو على مفعل، بفتح العين ومن مكسورها. والمثال على مفعل بكسرها إلا مواضع جاءت على خلاف القياس. إذا تقرر هذا فمعنى اتخاذهم (4) لقبور أنبيائهم مساجد أن يعمروا عليها أو حولها مكانًا يصلى فيه، وإن لم
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) (ص: 366).
(3) شرح شافية ابن الحاجب (1/ 117 - 120).
(4) الذي يفهم من هذا الاتخاذ إنما هو ثلاث معان:
الأول: الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
الثالث: بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
* قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" (1/ 121): "واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه".
* قال الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 214): "واتخاذ القبر مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها".
وجملة القول أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة فهو من جوامع كلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الشافعي في "الأم" (1/ 246): وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى (يعني أنه ظاهر معروف) أو يصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجدًا ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده".
* قال المحدث الألباني تعليقًا على قول الشافعي "وأكره": هي كراهة التحريم.
وقال الشيخ علي القارئ في "مشكاة المصابيح" (1/ 456) نقلا عن بعض أئمة الحنفية: "سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له فنهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمنه الشرك الخفي".
حكم هذا الاتخاذ:
اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة. قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر " (1/ 120): "الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها والصلاة إليها".(4/1917)
يكن السجود على نفس القبر لأن المسجد يطلق على المكان الذي يصلى في بعضه، مثلا تقول: المسجد الفلاني مسجد فلان، إذا كان يصلي فيه، وإن لم يقع السجود في جميع أجزائه. وعلى هذا يقال لمن بنى حول القبر مسجدًا، وجعل القبر في موضع منه أن جعل القبر مسجدًا، هذا باعتبار عدم الفرق بين مسجد بفتح الجيم وبكسرها.
وأما على ما روي عن سيبويه (1) أن المسجد بفتح الجيم لمكان السجود، وبكسرها للمكان المعروف؛ فإن كان لفظ مساجد في الحديث جمعًا لمسجد بكسر الجيم فالكلام كما تقدم، وإن كان جمعًا لمسجد بفتح الجيم فالمحرم إنما هو اتخاذ القبر نفسه مكانًا يسجد عليه، فيكون عمارة المساجد في القبور من ذلك القبيل، من غير فرق بين كون القبر في جهة القبلة أو في غيرها، هذا ما يتعلق بمتن الحديث من الكلام.
_________
(1) ذكره ابن منظور في "لسان العرب" (6/ 175).(4/1918)
وأما الكلام على البحث الثالث؛ وهو بيان العلة التي لأجلها ورد النهي فقال العلماء: إنما نهى (1) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين وفيها حجرة عائشة التي دفن فيها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر، وعمر بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مسندين حوله لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر (2) الشماليين حرفوهما حتى التقيا، بحيث لا يتمكن أحد من استقبال (3) القبر.
وقد حمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وهو تقييد بلا دليل، لأن التعظيم والافتتان لا يختصان بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، فعليه البرهان. وقد قيل إنه يؤخذ من قوله: كانوا يتخذون [3] قبور أنبيائهم مساجد كما في بعض أحاديث الباب، ومن قوله: والمتخذين عليها المساجد كما في بعض آخر أن محل الذم على ذلك أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن لا لو بني
_________
(1) قال القرطبي في "المفهم" (2/ 128): "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقة بقبره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين - فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره".
(2) ذكره القرطبي في "المفهم" (2/ 128).
(3) هذا في العصر الذي عاش فيه القرطبي ولكن قد طرأ تعديل في العصر المملوكي ثم العثماني بحيث أصبح القبر ضمن حجرة مربعة تعلوه القبة الخضراء. فمن صلى خلف الحجرة لم يكن مستقبلا القبر لوجود الساتر.(4/1919)
المسجد أولاً، وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه، واقف المسجد أو غيره، فليس بداخل في ذلك.
قال العراقي (1) والظاهر أنه لا فرق، فإنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا انتهى.
إذا تقرر ما حكيناه عن العلماء من أن العلة في زجره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره مسجدًا هي خشية الافتتان (2) لاح من ذلك المنع من عمارة المساجد في مكان فيه قبر، والمنع من القبر في جانب من جوانب المسجد من غير فرق بين القبلة وغيرها، لأن ذلك كله مما يدعو إلى المبالغة في التعظيم التي هي ذريعة (3) الافتتان.
_________
(1) انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" (4/ 298).
(2) تقدم توضيح ذلك.
(3) قال ابن تيمية في "التوسل والوسيلة" (ص 25): ولهذا كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية: أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له. فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84]. فنهى عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهي الكفر دل ذلك على انتفاء هذا النهي عن انتفاء هذه العلة ... ".
ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على موتى المسلمين، وشرع ذلك لأمته وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" - أخرجه أبو داود رقم (3221) من حديث عثمان - وغيره. وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم". - أخرجه مسلم رقم (975) من حديث بريدة رضي الله عنه.
وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء.
فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عند غيره. وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته ... ". وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 283 - 284).(4/1920)
ولهذا ترى كثيرًا من العامة إذا رأى قبرًا في مسجد، أو في شهدٍ مرغ فيه خده والتمسه مرة بعد مرة، ولا سيما إذا كان فيه زخرفة، أو عليه أعواد منقوشة، أو ثياب ملونة؛ فإن العامي الغليظ إذا أراد على تلك الصفة ظن أنه النافع الضار، كما وقع مثل ذلك في كثير من الأقطار.
ومن ههنا يظهر سر مبالغته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، وتكرير ذلك مرة بعد أخرى، بل ما زال ينهى عن ذلك إلى أيام مرضه.
وقد أخرج مسلم (1) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد". الحديث، بل وقع منه النهي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن مجرد رفع القبور لتلك العلة، كما في حديث أبي الهياج (2) عن علي - عليه السلام - قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سويته" رواه الجماعة (3) إلا البخاري.
وعن جابر قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أحمد (1/ 89) ومسلم في صحيحه رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031). وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه أحمد (1/ 89) ومسلم في صحيحه رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031). وهو حديث صحيح.(4/1921)
يقعد عليه، وأن يبنى عليه". رواه أحمد (1)، ومسلم (2)، والنسائي (3)، وأبو داود (4)، والترمذي (5)، وصححه (6) ولفظه: "نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها وأن توطأ". وفي لفظ النسائي (7) نهى أن يبنى أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه".
وكل هذا إنما هو لسد ذرائع (8) ما نشأ عن ذلك من المفاسد التي يبكي لها الإسلام.
من ذلك ما يسمع به كل أحد من جماعة كثيرة من سكان تهامة، فإنه لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله [4] بالأصنام إلا فعلوه، بل زادوا على ذلك؛ فإن الجاهلية قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وهؤلاء القبوريون (9) قالوا: نعبدهم ليضروا وينفعوا،
_________
(1) في "المسند" (3/ 399).
(2) في صحيحه رقم (970).
(3) في "السنن" (4/ 86 رقم 2027).
(4) في "السنن" رقم (3225).
(5) في "السنن" رقم (1052).
(6) في "السنن" (3/ 368). وهو حديث صحيح.
(7) في "السنن" (4/ 86 رقم 2026).
(8) الذرائع جمع ذريعة وهي - أي الذريعة (ما) أي شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرم). ومعنى سدها: المنع من فعلها لكي لا تؤدي إلى حرام.
انظر: "الكوكب المنير" (4/ 234) "الموافقات" (2/ 285).
(9) قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 284): " ... لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوها بها تحت أمر غيرهم".
قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركًا وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها. وإلقاء الخرق على الشجر. ومن جمع بين سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا.
فنهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة أمره ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره ونهى أن يزاد عليها غير ترابها وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص.(4/1922)
ويحيوا ويميتوا، وغير ذلك. ولا شك أن دخول القبب والمشاهد والمساجد المعمورة على القبور تحت الأحاديث القاضية بالمنع من رفع القبور وزخرفتها ثابت بفحوى الخطاب.
لا يقال أن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" (1)
_________
(1) وهو حديث صحيح.
- أخرجه مالك (1/ 185 - 186) مع تنوير الحوالك مرسلاً.
- وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 240 - 241) من طريق عطاء بن يسار مرسلا بسند صحيح.
- وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/ 406 رقم 1587)، عن زيد بن أسلم مرسلاً.
- وأخرجه ابن أبي شيبة (34513) عن زيد بن أسلم مرسلا بسند صحيح.
- وأخرجه أحمد موصولا (2/ 246) والحميدي (2/ 445 رقم 1025) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 283) و (7/ 317) عن أبي هريرة بسند حسن بلفظ: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
- وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 577 رقم 6726) وابن أبي شيبة (3/ 345) عن ابن عجلان، عن سهيل، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال - ورأى رجلا وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو له ويصلي عليه - فقال حسن للرجل: لا تفعل فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا ... ". والحديث مرسل، وسهيل ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً.
* وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2/ 534 رقم 2042) مرفوعًا "لا تتخذوا قبري عيدًا ... " وهو حديث حسن. حسنه ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (321 - 323).
* وله شاهد آخر أخرجه إسماعيل الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي" رقم 20 بتحقيق الألباني. وأبو يعلى في "المسند" (1/ 361 رقم 209/ 469)، والحديث بهذه الطرق صحيح، والله أعلم.(4/1923)
يدل على أن النهي لذلك، فمهما لم تحصل العبادة لم يحصل تحريم جعل المساجد على القبور؛ لأنا نقول: هذا الحديث مع كونه مرسلا كما سلف ليس فيه إلا وقوع الدعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وذلك لا يستلزم أن يكون هو العلة في الزجر عن اتخاذ القبور مساجد. ولو سلم ذلك لم يكن دليلا على جواز جعل المساجد على القبور؛ لأن جعلها كذلك وسيلة للعبادة، أو ما في حكمها، وذريعة إلى تلك العلة المدعاة. وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، وكل محرم يجب تركه. فتلك الوسيلة يجب تركها وهو المطلوب.
وأما الكلام على البحث الرابع، وهو في حكم الصلاة في الموضع الذي فيه قبر فاعلم أن حديث: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (1) حديث صحيح يدل على جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما خصصه حديث صحيح، والمخصص من ذلك مواضع. واختلف في عددها، منها المقبرة والمراد بها المكان الذي يقبر فيه.
وقد أخرج أحمد (2)، وأبو داود (3)، والترمذي (4) ..................
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (335) ومسلم رقم (3/ 521) من حديث جابر.
(2) في "المسند" (3/ 83، 96).
(3) في "السنن" رقم (492).
(4) في "السنن" رقم (317).(4/1924)
وابن ماجه (1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، وأخرجه أيضًا الشافعي (2)، وابن خزيمة (3)، وابن حبان (4)، والحاكم (5).
قال الترمذي (6): وهذا حديث فيه اضطراب. رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، قال: وكان عامة روايته عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مرسلة، ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن أبي سعيد ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، وكأن رواية الثوري أصح وأثبت.
وقال الدارقطني في العلل (7): المرسل المحفوظ، ورجح البيهقي (8) المرسل، وقال النووي (9): هو ضعيف، وقال صاحب الإمام (10): حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول. قال الحافظ (11) وأفحش ابن دحية (12) فقال في كتاب
_________
(1) في "السنن" رقم (745).
(2) في "ترتيب المسند" (3/ 83 - 96).
(3) في صحيحه رقم (792).
(4) في صحيحه رقم (1699).
(5) في المستدرك (1/ 251)
(6) في "السنن" رقم (2/ 131).
(7) (11/ 319 - 320 رقم 2310)
(8) في "السنن الكبرى" (2/ 434 - 435).
(9) في "خلاصة الأحكام" (1/ 321 - 322 رقم 938).
(10) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 501) ط قرطبة.
(11) في "التلخيص" (1/ 501).
(12) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 501). وقال الألباني في "الإرواء" (1/ 320): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد صححه كذلك الحاكم والذهبي، وأعله بعضهم بما لا يقدح، وقد أجبنا عن ذلك في صحيح أبي داود رقم (507) وذكرت له هناك طريقًا آخر صحيحًا هو في منجاة من العلة المزعومة، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أسانيد جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه. وقد أشار إلى صحته الإمام البخاري في "جزء القراءة" (ص 4). وخلاصة القول: أن الحديث صحيح.(4/1925)
التنوير له: لا يصح من طريق من الطرق، كذا قال، ولم يصب. انتهى.
والحديث صححه الحاكم في المستدرك، وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد [5] في الإمام (1) إلى صحته.
وفي الباب عن علي - عليه السلام - عند أبي داود (2)، وعن عمر عند الترمذي (3) وابن ماجه (4)، وعن عمر عند ابن ماجه (5)، وعن أبي مرثد الغنوي عند مسلم (6)، وأبي داود (7)، والترمذي (8)، والنسائي (9)، ولفظه: "لا تصلوا ولا تجلسوا عليها"، وعن جابر وعبد الله بن عمرو، وعمران بن الحصين، ومعقل بن يسار، وأنس بن مالك، جميعهم عند ابن عدي في الكامل (10)، وفي إسناد حديثهم عباد بن (11) كثير، وهو
_________
(1) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 501) ط قرطبة.
(2) في "السنن" رقم (490) وهو حديث ضعيف.
(3) في "السنن" رقم (346).
(4) في "السنن" رقم (746) وهو حديث ضعيف.
(5) في "السنن" رقم (747) وهو حديث ضعيف.
(6) في صحيحه رقم (98/ 972).
(7) في "السنن" رقم (3229).
(8) في "السنن" رقم (1050).
(9) في "السنن" رقم (2/ 67 رقم 760) وهو حديث صحيح.
(10) (4/ 1640 - 1641).
(11) وهو عباد بن كثير الثقفي البصري. قال البخاري: تركوه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال العجلي: ضعيف. انظر: "تهذيب التهذيب" (5/ 87 - 89 رقم 169).(4/1926)
ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين.
قال ابن حزم (1): أحاديث النهي عن الصلاة إلى القبور والصلاة في المقبرة أحاديث متواترة، ولا يسع أحدًا تركها، قال العراقي (2) إن أراد بالتواتر ما يذكره الأصوليون من أنه رواه عن كل واحد من رواته جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في الطرفين والواسطة، فليس كذلك؛ فإنها أخبار آحاد، وإن أراد بذلك وصفها بالشهرة فهو قريب. وأهل الحديث غالبًا إنما يريدون بالمتواتر المشهور انتهى.
وفيه أن المعتبر في التواتر (3) هو أن يروي الحديث جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب لا أن يرويه جمع كذلك عن كل واحد من رواته؛ فإنه بما لم يعتبره أهل الأصول إلا أن يريد لكل واحد من رواته كل رتبة من رتب رواته.
فهذه الأحاديث تدل على المنع من الصلاة في المقبرة، وإلى القبور. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل (4)، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء يقيه من النجاسة أم لا؟ ولا بين أن يكون في القبور، أو في مكان متفرد عنها كالبيت. وإلى ذلك ذهبت الظاهرية.
قال ابن حزم (5): وبه يقول طوائف من السلف، فحكي عن خمسة صحابة النهي عن ذلك؟ وهم علي، وعمر، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس، وقال: ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة، وحكاه (6) عن جماعة من التابعين: إبراهيم النخعي، ونافع بن جبير بن مطعم، وطاووس، وعمرو بن دينار، وخيثمة، وغيرهم.
_________
(1) في "المحلى" (4/ 30 - 32).
(2) في "التقييد والإيضاح" (ص 265).
(3) تقدم توضيح ذلك.
(4) ذكره ابن حزم في "المحلى" (4/ 31 - 32).
(5) في "المحلى" (4/ 30 - 31).
(6) أي ابن حزم في "المحلى" (4/ 30 - 31).(4/1927)
وقوله: لا نعلم لهم مخالفًا في الصحابة إخبار عن علمه، وإلا فقد حكى الخطابي في معالم (1) السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة. وحكي أيضًا عن الحسن أنه صلى في المقبرة. وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت - عليهم السلام - المنصور بالله، والهادوية (2). وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها، وإن وقعت بينها فمكروهة فقط. وذهب الشافعي (3) إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة (4)؛
_________
(1) (1/ 330).
(2) في "البحر الزخار" (1/ 216 - 217).
(3) في "الأم" (2/ 95 - 96).
(4) قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 274): أن النهي عن الصلاة في المقبرة لأجل النجاسة قول باطل من عدة أوجه:
1 - أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقول المعللون بالنجاسة.
2 - أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء؛ ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون.
3 - أنه نهى عن الصلاة إليها.
4 - أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
5 - أن موضع مسجده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (428) ومسلم رقم (524) -.
6 - أنه لعن المتخذين عليها المساجد، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد مع تطينها بطين طاهر. فتزول اللعنة وهو باطل قطعًا.
7 - أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان، وفي ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبًا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليه. ولهذا قرن بينهما، فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها، وتعريض للفتنة بها.
ثم قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 275): فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إني أنهاكم" ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه".
وقال الأشرم: إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
"إغاثة اللهفان" (1/ 276).(4/1928)
فإن صلى رجل في مكان ظاهر منها أجزته. وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب، وأبو العباس، والإمام يحيى، وقال الرافعي: أما المقبرة فالصلاة مكروهة فيها بكل حال.
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي (1) ومن معه بين المنبوشة وغيرها. وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة. والأحاديث ترد عليه.
وقد احتج له بعض أصحابه بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر المسكينة (2) السوداء، وهذا من أعجب ما يتفق لمن لا عناية له بعلم الرواية. والحاصل أن اسم المقبرة يصدق على المكان الذي هو موضع للقبر وإن اتسع من غير فرق بين ما فيه قبر واحد أو قبور متعددة، قال في القاموس (3): القبر مدفن الإنسان، الجمع قبور، والمقبرة مثلثة الباء، وكمكنسة موضعها. انتهى.
والمراد بالمكان الذي يصدق عليه اسم المقبرة هو ما كان له حائط، أو حدود معلومة، أو نحو ذلك مما يمتاز به عن غيره، فإذا جعلت مثلا قطعة من الأرض للقبر فيها، ثم دفن
_________
(1) في "الأم" (2/ 95 - 96).
(2) أخرجه البخاري رقم (1337) ومسلم رقم (956) وأبو داود رقم (3203) وابن ماجه رقم (1527) وأحمد (2/ 353) والبيهقي (4/ 47) من حديث أبي هريرة.
(3) (ص 590).(4/1929)
فيها ميت واحد قيل لها مقبرة لغة وعرفا. والمسجد الذي فيه قبر من هذا القبيل، وغلب اسم المسجد عليه لا يرفع صدق اسم المقبرة عليه، وإلا لزم أن المقبرة إن سميت باسم خاص غير اسم المقبرة مثل خزيمة مثلا التي هي مقبرة صنعاء أن لا يثبت لها حكم المقبرة، واللازم باطل فالملزوم مثله.
أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فلأن الأسماء لا تأثير لها في تحويل الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين. إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية.
[حرره الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار يوم السبت لعله سادس شهر جمادى الأولى سنة 1209] (1).
[انتهى من تحريره القاضي النحرير عمدة الإسلام وعمادهم محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، وحفظه الله في نهار السبت لعله 6 شهر جمادى أول سنة 1209] (2).
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) زيادة من (ب).(4/1930)
إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة"
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1931)
وصف المخطوط: (أ):
1 - عنوان الرسالة: (إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة").
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، ما قولكم - رضي الله عنكم - وبارك للمسلمين في أوقاتكم وشكر سعيكم فيمن ابتلي بنحو الجمرة من الأمراض التي تعتقد العامة أنها معدية وأريد بيع ملبوسه هل يجب.
4 - آخر الرسالة: أمام محراب قبة المهدي عباس، محمد بن قاسم بن أحمد أبو طالب غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين عدد ما خلق من شيء.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: محمد بن قاسم بن أحمد أبو طالب.
7 - تاريخ النسخ: 22 شهر الحجة الحرام سنة 1349.
8 - عدد الصفحات: 12 صفحة.
9 - عدد الأسطر في الصفحة: (17 - 21) سطرًا.
10 - عدد الكلمات في السطر: (12 - 14) كلمة.
11 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1933)
[عنوان الرسالة من المخطوط (أ)](4/1934)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة").
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: ما قولكم رضي الله عنكم وشكر سعيكم فيمن ابتلي بنحو الجمرة من الأمراض التي تعتقد العامة أنها معدية وأريد بيع ملبوسه ...
4 - آخر الرسالة: للأحاديث الصحيحة فالحق ما أسلفناه من الجمع بين العام والخاص والله أعلم. انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في صبح يوم الخميس لعله سادس عشر شهر جمادى الآخرة سنة 1209 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - المسطرة: الأولى: (7) سطرًا.
الثانية: (21) سطرًا.
الثالثة - العاشرة: (26) سطرًا.
الرابعة: (3) سطرًا.
7 - عدد الكلمات في السطر: (16) كلمة.
8 - الرسالة من المجلد الأول من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1937)
[صورة الصفحة الأولى من المخطوط (ب)(4/1938)
[صورة الصفحة الثانية من المخطوط (ب)(4/1939)
[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (ب)(4/1940)
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم رضي الله عنكم [وبارك للمسلمين في أوقاتكم] (1) وشكر سعيكم فيمن ابتلي بنحو الجمرة من الأمراض التي تعتقد العامة أنها معدية وأريد بيع ملبوسه هل يجب على المتولي لذلك البيان.
وهل يجوز له بيعه إلى من يعلم أو يظن أنه يبيعه غير مبين لجهل أو جرأة. وهل عموم أدلة (لا عدوى) (2) وحديث: "فر من المجذوم (3) كما تفر من الأسد" (4) وما حكم إنكار أبي هريرة لحديث لا عدوى وبناه على (لا يورد) وما رطانته بالحبشية؟ جزيتم خيرًا، وما حال الحديثين فإن البخاري علق حديث المجذوم وقال في حديث لا يورد وعن أبي سلمة ولم يذكر له سندًا [1] إلا أن يكون سنده لحديث لا عدوى لكون أبي سلمة فيه [كل السؤال إلى هنا يتلوه الجواب] (5).
_________
(1) زيادة من (أ).
(2) سيأتي تخريجه
(3) الجذام: علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها، وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتآكل الأعضاء وتسقط ويسمى داء الأسد.
وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء: أحدها: أنها لكثرة ما تعتدي الأسد، والثاني: لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد.
"زاد المعاد" (4/ 136).
قال الدكتور الأزهري: هذا المرض سمي بداء الأسد، لأنه يحول وجه المريض بما يجعله يشبه الأسد، لكثرة وجود أورام صغيرة وتجعدات في الوجه، وخطورة هذا المرض في إتلاف الأعصاب المتطرفة فيفقد المريض حساسية الأطراف أولاً، ثم تتساقط الأصابع تدريجيًا.
وهو من الأمراض المعدية التي تجيء عدواها من التنفس مع المخالطة الطويلة ويعزل الآن جميع مرضى الجذام في مستعمرات خاصة بهم لمنع انتشار المرض. حاشية: "زاد المعاد" (4/ 136).
(4) سيأتي تخريجه.
(5) زيادة من (ب).(4/1941)
إتحاف المهرة بالكلام على حديث لا عدوى ولا طيرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. تحقيق ما هو الحق في جواب هذا السؤال يتوقف على تنقيح الكلام في الأحاديث الواردة في نفي العدوى والطيرة على العموم والجمع بينها وبين ما ورد مخالفًا لها.
فأقول وبالله أستعين: حديث "لا عدوى ولا طيرة" أخرجه الشيخان (1) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة"، فقال أعرابي: ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها قال: "فمن أعدى الأول؟ ".
قال معمر: قال الزهري (2) فحدثني رجل عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يوردن ممرض على مصح"، قال: فراجعه الرجل فقال: أليس قد حدثتنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" قال: لم أحدثكموه.
قال الزهري: قال أبو سلمة قد حدثت به وما سمعت، أبو هريرة نسي حدثنا قط غيره، هذا لفظ أبي داود (3) ولهذا يتبين ما وقع في رواية أخرى (4) أن أبا هريرة لما قيل له قد حدثتنا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى" .. الحديث. رطن بالحبشية فإن هذه الرطانة (5) هي إنكار التحديث كما وقع مبينًا في هذه الرواية وقد روى
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5770) ومسلم رقم (101/ 2220).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5774) ومسلم رقم (104/ 2221).
(3) في "السنن" رقم (4/ 232).
(4) تقدم آنفًا.
(5) وفي الحديث: "فقال للحارث: أتدري ماذا قلت؟ قال: لا. قال أبو هريرة: قلت أبيت".(4/1942)
حديث لا عدوى، مسلم (1)، وأبو داود (2) ومن طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وأخرجه أيضًا أبو داود (3) من طريق أبي صالح عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضًا مسلم (4) من طريق جابر بلفظ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طيرة ولا غول". وأخرجه البخاري (5) ومسلم (6) وأبو داود (7) والترمذي (8) وابن ماجه (9) من حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، والفأل الصالح الكلمة الحسنة".
وأخرجه أبو داود (10) من حديث سعد بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -
_________
(1) في صحيحه رقم (106/ 2220).
(2) في "السنن" رقم (3912).
(3) في "السنن" رقم (3913).
(4) في صحيحه رقم (107/ 2222). قال جمهور العلماء (ولا غول): كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين فتتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلونًا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، فأبطل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذاك.
وقال آخرون: ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها. وقالوا: ومعنى لا غول أي لا تستطيع أن تضل أحدًا.
(5) في صحيحه رقم (5776).
(6) في صحيحه رقم (2224).
(7) في "السنن" رقم (3916).
(8) في السنن (1615).
(9) في "السنن" رقم (3537).
(10) في "السنن" رقم (3921) وهو حديث صحيح.
* قال ابن الأثير في "النهاية" (5/ 283): الهامة: الرأس، واسم طائر. وهو المراد في الحديث. وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها. وهي من طير الليل.
وقيل هي البومة، وقيل كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة، فتقول: اسقوني. فإذا أدرك بثأره طارت.
وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه، تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى فنفاه الإسلام ونهاهم عنه.
* العدوى: اسم من الإعداء، كالرعوى والبقوى، من الإرعاء والإبقاء. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. "النهاية" (3/ 192).
* الطيرة: بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء. وهو مصدر تطير. يقال: تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما. وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضر. "النهاية" (3/ 152).(4/1943)
يقول: "لا هامة ولا عدوى ولا طيرة" فهذا الحديث قد رواه [2] عن أبي هريرة غير أبي سلمة، ورواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير أبي هريرة كما بيناه. وأيضًا الإنكار إذا وقع من راوي الحديث بعد أن رواه عنه الثقة لا يكون قادحًا كما تقرر في علوم الحديث (1) لاحتمال النسيان فكيف إذا رواه عنه الثقات، فكيف إذا شاركه فيما رواه غيره، وإذا تقرر فالعدوى والطيرة المذكورتان في هذه الأحاديث نكرتان في سياق النفي، والنكرة الواقعة كذلك من صيغ العموم كما تقرر في الأصول (2) فكأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: ليس شيء من أفراد العدوى والطيرة ثابتًا.
ومما يقوي هذا العموم ما أخرجه أبو داود (3) والترمذي (4) وصححه وابن ماجه (5) من حديث ابن مسعود عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطيرة شرك
_________
(1) مقدمة ابن الصلاح (ص 37)، "تدريب الراوي" (1/ 232).
(2) انظر "الكوكب المنير" (3/ 136) و"تيسير التحرير" (1/ 219)، "المسودة" (ص 101).
(3) في "السنن" رقم (3910).
(4) في "السنن" رقم (1614) وقال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل ..
(5) في "السنن" رقم (3538) وهو حديث صحيح.(4/1944)
ثلاث مرات وما منا إلا .. ولكن الله يذهبه بالتوكل".
قال الخطابي (1) قال محمد بن إسماعيل يعني البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول: هذا الحرف ليس قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وكأنه قول ابن مسعود.
وحكى الترمذي (2) عن البخاري عن سليمان بن حرب نحو هذا وأن الذي أنكره هو "وما منا إلا". قال المنذري (3) أما الصواب ما قاله البخاري وغيره أن قوله: وما منا إلا إلخ من كلام ابن مسعود مدرج.
قال الحافظ أبو القاسم الأصبهاني (4) والمنذري (5) وغيرهما في الحديث إضمار أي وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك يعني قلوب أمته وقيل: معناه ما منا إلا من يعتريه التطير وسبق إلى قلبه الكراهة فحذف اختصارًا واعتمادًا على فهم السامع. ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه أحمد (6) ومسلم (7) من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: "قلت يا رسول الله إني حديث عهد بالجاهلية وقد جاء الله بالإسلام فإن منا رجالا يأتون الكهان (8)، قال: فلا تأتهم، قال: ومنا رجال يطيرون، قال: ذلك شيء يجدونه في
_________
(1) في "معالم السنن" (4/ 230 - مع السنن).
(2) في "السنن" رقم (4/ 161).
(3) في "مختصر السنن" (5/ 374).
(4) في "الترغيب والترهيب" (1/ 418).
(5) في "الترغيب والترهيب" (3/ 647).
(6) في "المسند" (5/ 447، 448).
(7) في صحيحه رقم (121/ 537).
(8) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 153): الكهانة كانت في العرب على ثلاثة ضروب:
أحدهما: أن يكون له إنسان أي من الخير، فيخبره بما يسترق من السمع من السماء وهذا القسم قد بطل منذ بعث الله محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثاني: أن يخبر بما يطرأ في أقطار الأرض وما خفي عنه بما قرب أو بعد.
الثالث: التخمين والخرز، وهذا يخلق الله منه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب في هذا الباب أغلب، ومن هذا الفن العرافة، وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة وهذا الفن هي العيافة بالياء. وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة عندهم.(4/1945)
صدورهم فلا يصدنكم" الحديث.
قال النووي في شرح مسلم (1) معناه أن كراهة ذلك يقع في نفوسكم في العادة، ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا. انتهى.
وإنما جعل الطيرة في هذا الحديث من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعًا أو يدفع عنهم ضررًا إذا عملوا بموجبه فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، ومعنى إذهابه بالتوكل أن ابن آدم إذا تطير وعرض له خاطر من التطير أذهبه الله بالتوكل والتفويض إليه وعدم العمل بما خطر من ذلك، فمن توكل سلم من ذلك ولم يؤاخذه الله بما عرض له من التطير.
وأخرج أبو داود (2) عن عروة بن عامر القرشي قال: ذكرت الطيرة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقال [3]: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا، فإن رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك".
قال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة (3) لعروة القرشي تصح. وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس فعلى هذا يكون حديثه مرسلاً.
وقال النووي في
_________
(1) (14/ 223 - 224).
(2) في "السنن" رقم (3919). وهو حديث ضعيف.
(3) انظر "الإصابة" (4/ 404 - 405 رقم 5536). "تهذيب التهيب" (3/ 95).(4/1946)
شرح (1) مسلم: وقد صح عن عروة بن عامر الصحابي رضي الله عنه ثم ذكر الحديث وقال في آخره: رواه أبو داود بإسناد صحيح انتهى.
وأخرج أبو داود (2) من حديث قطن بن قبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت".
العيافة (3) هي زجر الطير والتفاؤل بها كما كانت العرب تفعل ذلك والطرق الضرب بالحصى، وقيل: هو الخط في الرمل. وفي كتاب أبي داود (4) أن الطرق الزجر والعيافة الخط، والجبت كل ما عبد من دون الله، وقيل: هو الكاهن والشيطان.
وقوله: لا صفر ولا هامة في الأحاديث السابقة قيل: أن الصفر حية (5) في البطن تصيب الإنسان إذا جاع فتؤذيه وكانت العرب تزعم أنها تعدي. وقيل هو تأخير المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانت تفعله الجاهلية فأبطلهما الإسلام.
وقيل: إنه شهر صفر لأنهم كانوا ينتكبون فيه من الشروع في الأعمال كالنكاح والبناء والسفر. والهامة كانت الجاهلية تزعم أنه إذا قتل قتيل وقف على قبره طائر لا يزال يصيح يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتلوا قاتله.
_________
(1) (14/ 224)
(2) في "السنن" رقم (3907) وهو حديث ضعيف.
(3) العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها. وهو من عادة العرب كثيرًا، وهو كثير في أشعارهم يقال: عاف يعيف عيفًا، إذا زجر وحدس وظن.
وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها. قيل عنهم: إن قومًا من الجن تذاكروا عيافتهم فأتوهم، فقالوا: ضلت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف. فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام، وبكى فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحًا ورفعت جناحًا، وحلفت بالله صراحًا ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحًا. "النهاية" (3/ 330).
(4) في "السنن" رقم (4/ 229).
(5) "النهاية" (3/ 35).(4/1947)
ومن الأحاديث الدالة على عدم جواز التطير، ما أخرج أبو داود (1)، والنسائي (2) من حديث بريدة أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث غلامًا سأل عن اسمه فإذا أعجبه (3) اسمه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه.
وظاهر ما أسلفنا من الأحاديث أنه لا يجوز اعتقاد ثبوت العدوى في شيء ولا التطير من أمر من الأمور، ولكنه قد ورد ما يعارض ذلك في الظاهر كحديث الشريد بن مؤيد الثقفي عند مسلم (4) والنسائي (5) وابن ماجه (6) قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أنا قد بايعناك فارجع.
وأخرجه البخاري في صحيحه (7) تعلقًا من حديث سعيد بن مثنى قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى ولا طيرة ولا هام ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد". ومن ذلك حديث: "لا يورد ممرض على مصح" المتقدم (8).
_________
(1) في "السنن" رقم (3920).
(2) في "السنن الكبرى" رقم (5/ 354 رقم 8822) وهو حديث صحيح.
(3) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2731، 2732) وفيه: "لما جاءهم سهيل بن عمرو يوم الحديبية قال: قد سهل لكم من أمركم". وذكر الحافظ له شاهدين في "الفتح" (5/ 320).
(ومنها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6190، 6193) عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما اسمك؟ قال: حزن. قال: أنت سهل. قال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي، قال ابن المسيب فما زالت الحزونة فينا بعد".
(4) في صحيحه رقم (2231).
(5) في "السنن" (7/ 105).
(6) في "السنن" رقم (3544).
(7) في صحيحه رقم (5707).
(8) البخاري في صحيحه رقم (5774) وقد تقدم.(4/1948)
قال القاضي (1) عياض: قد اختلفت الآثار عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [ص:4] أكل مع مجذوم، وقال له: كل ثقة بالله تبارك وتعالى وتوكلا عليه (2).
وعن عائشة قالت: كان لنا مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي (3). قال: وقد ذهب عمر (4) وغيره من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ، والصحيح الذي قاله الأكثرون.
ويتعين المصير أنه لا نسخ بل بحث الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز وأنه أعلم. كذا في شرح مسلم (5) للنووي. والحديث الذي أشار إليه بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أكل مع المجذوم أخرجه أبو داود (6) والترمذي (7) وابن ماجه (8).
_________
(1) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 163).
(2) أخرجه الترمذي رقم (1817) وابن ماجه رقم (3542). قال الترمذي: هذا حديث غريب.
وأخرجه الحاكم (4/ 136 - 137) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وتعقبه الألباني في "الضعيفة" (3/ 282).
لا يخفى بعده عن الصواب ونحوه قول المناوي في "التيسير" إسناده حسن مغترًا بما نقل في الفيض عن ابن حجر أنه قال: حديث حسن. وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.
(3) انظر "فتح الباري" (10/ 159).
(4) ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم (14/ 228).
(5) (14/ 228).
(6) في "السنن" رقم (3925).
(7) في "السنن" رقم (1818).
(8) في "السنن" رقم (3542).(4/1949)
قال الترمذي (1) غريب لا نعرفه إلا من حديث يوسف بن محمد عن المفضل بن فضالة وهذا شيخ بصري والمفضل بن فضالة شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن عمر أخذ بيد مجذوم.
وحديث شعبة أشبه عندي وأصح انتهى. قال الدارقطني (2) تفرد به مفضل بن فضالة البصري أخو مبارك عن حبيب بن الشهيد عنه يعني عن ابن المنكدر.
وقال ابن عدي الجرجاني: لا أعلم [أحدًا] (3) يرويه عن حبيب بن الشهيد غير مفضل بن فضالة وقالوا تفرد بالرواية عنه يونس بن محمد انتهى والمفضل بن فضالة (4) البصري كنيته أبو مالك. قال يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال النسائي: ليس بالقوي وقال أبو حاتم (5) يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات (6).
قال القاضي (7) عياض: قال بعض العلماء (8) في هذا الحديث وما في معناه - يعني حديث الفرار من المجذوم - دليل على أنه يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا وجدت زوجها مجذومًا أو وجدت به جذامًا. قال أيضًا، قالوا: ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس. قال: وكذلك اختلفوا (9) في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم موضعًا منفردًا خارجًا عن الناس ولا يمنعون من التصرف في منافعهم وعليه أكثر الناس، أم لا يلزمهم التنحي.
_________
(1) في "السنن" (4/ 226). وهو حديث ضعيف وقد تقدم.
(2) ذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 159).
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 140).
(5) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (4/ 140).
(6) ذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (4/ 140).
(7) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (7/ 164).
(8) منهم الخطابي في "أعلام الحديث" (3/ 2119) والباجي في "المنتقى" (7/ 265).
(9) انظر تفصيل الأقوال في "فتح الباري" (10/ 159 - 160).(4/1950)
قال (1) ولم يختلفوا في القليل منهم يعني في أنهم لا يمنعون قال: ولا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها. قال: ولو استضر أهل قرية بمن جذم لمخالطتهم في الماء فإن قووا على استنباط ماء آخر من غير حرج ولا ضرر أمروا به وإلا استنبطه لهم آخرون، أو قاموا من يستقي لهم وإلا فلا يمنعون.
قال النووي في شرح مسلم (2) في الكلام على حديث لا يورد ممرض على مصح قال العلماء: الممرض صاحب الإبل المراض والمصح صاحب الإبل الصحاح.
فمعنى الحديث لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعالى وقدره [5] الذي أجرى به العادة فيجعل لصاحبها ضررًا بمرضها، وربما حصل له ضررًا أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بطبعها فيكفر. والله أعلم. انتهى.
وأشار إلى نحو هذا الكلام ابن بطال (3) وقال: النهي ليس للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة ونحوها حكاه ابن رسلان في شرح السنن.
وقال ابن الصلاح (4) وجه الجمع أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها لكن الله سبحانه جعل مخالطة المريض للصحيح سببًا لعداية مرضه ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب.
قال الحافظ ابن حجر في شرح (5) النخبة: والأولى في الجمع أن يقال إن نفيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للعدوى باق على عمومه، وقد صح قوله: لا يعدي شيء شيئًا.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون بين الإبل
_________
(1) القاضي عياض في "إكمال المعلم" (7/ 164).
(2) (14/ 214 - 215).
(3) ذكره ابن حجر في "فتح الباري (10/ 159). "
(4) ذكره ابن حجر في "فتح الباري (10/ 161). وانظر "شرح النخبة" (ص 97 - 98).
(5) (ص 98 - 99).(4/1951)
الصحيحة فيخالطها فتجرب، حيث رد عليه بقوله: "فمن أعدى الأول" يعني أن الله سبحانه ابتدأ في الثاني كما ابتدأه في الأول. قال: وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفية فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ويعتقد تأثير العدوى فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسما للمادة انتهى. وقد ذكر مثل هذا في فتح الباري (1) في كتاب الجهاد منه.
والمناسب للعمل الأصولي أن تجعل الأحاديث الواردة بثبوت العدوى في بعض الأمور أو الأمر بالتجنب أو الفرار مخصصة لعموم حديث (لا عدوى) ما ورد في معناه كما هو شأن العام والخاص فيكون الوارد في الأحاديث في قوة لا عدوى إلا في هذه الأمور، وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ. وادعى بعضهم أنه إجماع.
والتاريخ في هذه الأحاديث مجهول ولا مانع من أن يجعل الله سبحانه في بعض الأمراض خاصية يحصل بها العدوى عند المخالطة دون بعض (2)، وقد ذهب إلى نحو هذا
_________
(1) (6/ 61).
(2) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (4/ 140 - 143): والعدوى جنسان:
أحدهما: عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأة تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد، فيوصل إليها الأذى وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه، وكذلك من كان به سل ودق ونقب، والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم. ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به معنى تغيير الرائحة، وأنها قد تسقم من أطال اشتمالها والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيمن وشؤم، وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل أو حاكها، وأوى في مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وبالنطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يورد ذو عاهة على مصح" كره أن يخالط المعيوه الصحيح، لئلا يناله من نطفه وحكته نحو ما به.
قال: وأما الجنس الآخر من العدوى، فهو الطاعون ينزل ببلد، فيخرج منه خوف العدوى وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا وقع ببلد وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كان ببلد فلا تدخلوها" - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5729) ومسلم رقم (2219) من حديث عبد الله بن عباس.
يريد بقوله، لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله، ويريد إذا كان ببلد، فلا تدخلوه. أي: مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم، وأطيب لعيشكم، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار، فينال الرجل مكروه أو جائحة، فيقول: أعدتني بشؤمها، فهذا هو العدوى لذي قال في رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى".
- وقالت طائفة: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار، والإرشاد، وأما الأكل معه، ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام.
- وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي، فكل واحد خاطبه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يليق بحاله فبعض الناس يكون قوي الإيمان قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها وبعض الناس لا يقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الحالتين معًا، لتقتدي به الأمة فيهما فيأخذ من قوي أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط وهما طريقان صحيحان:
أحدهما: للمؤمن القوي، والآخر للمؤمن الضعيف فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدرة بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كوى، وأثنى على تارك الكي، وقرن تركه بالتوكل، وترك الطيرة ولهذا نظائر كثيرة، وهذه طريقة لطيفة حسنة جدًا من أعطاها حقها، ورزق فقه نفسه، أزالت عنه تعارضًا كثيرًا يظنه بالسنة الصحيحة.
وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه، ومجانبته لأمر طبيعي وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكله معه مقدارًا يسيرًا من الزمان لمصلحة راجحة، فلا باس به، ولا تحصل العدوى من مرة ولحظة واحدة، فنهى سدًا للذريعة، وحماية للصحة، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارض بين الأمرين.
- وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله، وليس الجذمى كلهم سواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم من لا تضر مخالطته، ولا تعدي، وهو من أصابه من ذلك شيء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يعد بقية جسمه فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى.
- وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشيء بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئًا، وإن أبقى عليها قواها فأثرت.
- وقالت فرقة أخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فينظر في تاريخها، فإن علم المتأخر منها، حكم بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها.
- وقالت فرقة أخرى: بل بعضها محفوظ، وبعضها غير محفوظ، وتكلمت في حديث "لا عدوى" وقال: قد كان أبو هريرة يرويه أولاً، ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يحدث به.
قال أبو سلمة: فلا أدري، أنسي أبو هريرة، أم نسخ أحد الحديثين الآخر؟
وأما حديث جابر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيد مخذوم، فأدخلها معه في القصعة فحديث لا يثبت ولا يصح، وغاية ما قال فيه الترمذي: إنه غريب لم يصححه ولم يحسنه. وقد قال شعبة وغيره: اتقوا هذه الغرائب. قال الترمذي: ويروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي.
أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره.
والثاني: لا يصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم - تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
وانظر: "مفتاح دار السعادة" (3/ 364 - 379). "فتح الباري" (10/ 158 - 161).(4/1952)
مالك وغيره كما سيأتي في الكلام على الطيرة، وإذا تقرر هذا فالمتوجه على من علم بأن هذا الثوب ونحوه كان لمجذوم أو من مرضه يشبه مرضه في العدوى - أنه لا يبيعه إلا بعد البيان للمشتري أو بعد أن يغسله غسلا يزول به الأثر الذي يخشى تعديه إلى الغير أو التأذي برائحته، ولا شك أن البيع بدون بيان نوع من الغرر الذي ثبت النهي عنه في الأحاديث (1) الصحيحة للقطع بأن الغالب من الناس ينفر من السلعة التي يقال أنها لمجذوم أو نحوه أشد النفور ويمتنع من أخذها ولو بأدون الأثمان، وهذا معلوم مشاهد موجود في الطباع، وخلاف ذلك لا يوجد إلا في أندر الأحوال ولا اعتبار [6] بالنادر فأي غرر أعظم من هذا، وأي خدع أشد منه؟.
_________
(1) منها: ما أخرجه مسلم رقم (4/ 1513) والترمذي رقم (1230) والنسائي (7/ 262 رقم 4518) وابن ماجه رقم (2194) وأبو داود رقم (3376) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر".(4/1954)
وقد تقدم ما حكاه القاضي عياض (1) عن أكثر الناس أن المجذومين يتخذون لأنفسهم موضعًا منفردًا عن الناس، ولا شك أن التضرر بذلك أخف من التضرر بلبس ثيابهم والأكل والشرب في أوانيهم، ومن حاول الجمع بين الأحاديث بغير ما ذكرناه كلامه أيضًا غير مخالف لهذا فإنه إذا كان الأمر بالفرار من المجذوم لأجل التأذي برائحته فالتأذي شابه كذلك، وهكذا إذا كان الأمر بالفرار منه لأجل سد الذريعة فربما كان عدم البيان ذريعة إلى الاعتقاد نحو أن يصاب من اشترى ثوب المجذوم ونحوه بمثل عاهته ثم يعلم بعد ذلك أن الثوب الذي لبسه كان لمجذوم، فإنه ربما كان سببًا لحصول الاعتقاد.
وكما ورد ما يعارض عموم الأحاديث القاضية بنفي العدوى ورد أيضًا ما يعارض الأحاديث القاضية بنفي الطيرة على العموم، فأخرج البخاري (2) ومسلم (3) وأبو داود (4) والترمذي (5) والنسائي (6) عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الشؤم في الدار والمرأة والفرس". وفي رواية لمسلم (7) "إنما الشؤم في ثلاث: المرأة والفرس والدار". وفي رواية (8) له: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة". وفي رواية (9) له أيضًا: "إن كان الشؤم في شيء ففي الرتع والخادم والفرس".
_________
(1) في "إكمال المعلم" (7/ 164).
(2) في صحيحه رقم (5753).
(3) في صحيحه رقم (115/ 2225).
(4) في "السنن" رقم (3922).
(5) في "السنن" (2825).
(6) في "السنن" رقم (3598). وهو حديث صحيح.
(7) في صحيحه رقم (118/ 2225) من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه.
(8) مسلم في صحيحه رقم (119/ 2227) من حديث سهل بن سعد.
(9) عند مسلم في صحيحه رقم (120/ 2227) من حديث جابر.(4/1955)
قال في الفتح (1) وفي رواية عثمان بن عمر: لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاثة، قال مسلم (2) لم يذكر أحد في حديث ابن عمر: لا عدوى ولا طيرة، إلا عثمان ابن عمر.
قال الحافظ (3) ومثله في حديث [سعيد بن أبي وقاص] (4) الذي أخرجه أبو داود (5) ولكن قال فيه: وإن يكن الطيرة في شيء الحديث.
وأخرج أبو داود (6) والحاكم (7) وصححه من حديث أنس قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا، وقلت فيها أموالنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ذروها ذميمة".
وأخرج مالك في الموطأ (8) عن يحيى بن سعيد: جاءت امرأة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فقالت: دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال: "دعوها فإنها ذميمة". وله شاهد من حديث عبد الله بن شداد بن الهاد أحد كبار التابعين أخرجه عبد الرزاق (9) بإسناد صحيح.
قال النووي (10) اختلف العلماء في حديث: الشؤم في ثلاث، فقال مالك - رحمه الله - هو على ظاهره وإن الدار قد يجعل الله تبارك وتعالى سكناها سببًا للضرر أو الهلاك، وكذا
_________
(1) (6/ 61).
(2) في صحيحه رقم (4/ 1747).
(3) في "الفتح" (6/ 61).
(4) كذا في المخطوط. وفي السنن سعد بن مالك
(5) في "السنن" رقم (3921) وهو حديث صحيح.
(6) في "السنن" رقم (3924) وهو حديث حسن.
(7) لم أقف عليه في المستدرك قلت: وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (918).
(8) (2/ 972).
(9) في "المصنف" (10/ 411 رقم 19526) بإسناد صحيح.
(10) في "شرحه لصحيح مسلم" (14/ 220 - 221).(4/1956)
اتخاذه المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى.
وقال الخطابي (1) قال كثيرون هو في معنى [7] الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكون صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجمع بالبيع ونحوه. وطلاق المرأة. وقال آخرون شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانهم وأذاهم وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن يغزى عليها، وقيل: حرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه، وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة.
قال القاضي عياض (2) قال بعض العلماء: لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يقع الضرر به ولا اطردت به عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر الشارع الالتفات إليه، وهو الطيرة. والثاني: ما يقع عنده الضرر عمومًا لا يخصه ونادرًا لا يتكرر كالوباء فلا يقدم عليه ولا مخرج منه.
والثالث يخص ولا يعم كالدار والفرس والمرأة فهذا يباح الفرار منه انتهى.
وقال ابن قتيبة (3) وجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون فنهاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأعلمهم أنه لا طيرة فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة.
قال الحافظ (4) فمشى ابن قتيبة على ظاهره ويلزم على قوله: أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره. قال القرطبي (5) ولا يظن به أن يحمله على ما كانت عليه الجاهلية تعتمده بناء على أن ذلك يضر وينفع بذاته، فإن ذلك خطأ وإنما عنى به أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير الناس به فمن وقع في نفسه منها شيء أبيح له أن يتركه ويستبدل به
_________
(1) في "معالم السنن" (4/ 236 - 237).
(2) في "إكمال المعلم" (7/ 149).
(3) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(4) في "الفتح" (6/ 61).
(5) في "إكمال المعلم" (7/ 151).(4/1957)
غيره انتهى.
وقد ورد في رواية البخاري (1) في النكاح بلفظ: ذكروا الشؤم فقال: إن كان في شيء (2) ففي .. ولمسلم (3) إن يك من الشؤم شيء حق وفي رواية (4) أخرى: "إن كان الشؤم في شيء"، وكذا في حديث جابر عند مسلم (5) وكذا في حديث سهل بن سعد عند البخاري (6) في كتاب الجهاد وذلك يقتضي عدم الجزم بذلك بخلاف ما في حديث ابن عمر (7) بلفظ: "الشؤم في ثلاث" وبلفظ آخر: "إنما الشؤم في ثلاث" ونحو ذلك مما تقدم.
قال ابن العربي (8) معناه إن كان خلق الله الشؤم في شيء فيما جرى من بعض العادة فإنما يخلقه في هذه الأشياء.
قال المازري (9) محل هذه الرواية إن يكن الشؤم حقًا فهذه الثلاث أحق به بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها. وروى أبو داود (10) في الطب عن ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن حديث الشؤم في ثلاث فقال: كم من دار سكنها أناس فهلكوا، قال المازري (11) فيحمله مالك على ظاهره، والمعنى أن قدر الله ربما اتفق به ما
_________
(1) في صحيحه رقم (5094).
(2) وتمامه "ففي الدار والمرأة والفرس".
(3) في صحيحه رقم (117/ 2225).
(4) في صحيحه رقم (119/ 2226).
(5) في صحيحه رقم (120/ 2227).
(6) في صحيحه رقم (5095).
(7) عند البخاري في صحيحه رقم (5093).
(8) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(9) في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 104).
(10) في "السنن" (4/ 237) وهو حديث صحيح مقطوع قاله الألباني في صحيح أبي داود (3922).
(11) في "المعلم بفوائد مسلم" (3/ 104).(4/1958)
يكره عند سكنى الدار فيضر ذلك [8] كالسبب فيتسامح في إضافة الشيء إليه اتساعًا.
وقال ابن العربي (1) لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها فأشار إلى أنه ينبغي للمرء الخروج عنها صيانة لاعتقاده عن التعلق بالباطل.
وقيل: معنى الحديث أن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهة أمرها وملازمة السكنى والصحبة ولو لم يعتقد الشؤم فيها فأشار الحديث إلى الأمر بفراقها ليزول التعذيب.
قال الحافظ (2) وما أشار إليه ابن العربي في تأويل كلام مالك أولى، وهو نظير الأمر بالفرار من المجذوم مع صحة نفي العدوى، والمراد بذلك حسم المادة وسد الذريعة؛ لئلا يوافق شيء من ذلك القدر فيعتقد من وقع له أن ذلك من العدوى أو من الطيرة فيقع في اعتقاد ما نهي عن اعتقاده فأشير إلى اجتناب مثل ذلك، والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلا أن يبادر إلى التحول منها لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة الطيرة والتشاؤم.
قال ابن العربي (3) وصف الدار بأنها ذميمة يدل على جواز ذكرها بقبح ما وقع فيها مرضه أن يعتقد أن ذلك كان منها، ولا يمنع ذم المحل المكروه وإن كان ليس منه شرعًا.
وقال الخطابي (4) معناه إبطال مذهب الجاهلية في التطير فكأنه قال: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس يكره سيره فليفارقه.
وقيل: إن المعنى في ذلك ما رواه الدمياطي (5) بإسناد ضعيف في "الخيل" إذا كان الفرس ضروبًا فهو مشؤوم، وإذا حنت المرأة إلى زوجها الأول فهي مشؤومة وإذا كانت
_________
(1) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(2) في "فتح الباري" (6/ 61).
(3) ذكره الحافظ في "فتح الباري" (6/ 62).
(4) في "معالم السنن" (4/ 236).
(5) ذكره الحافظ في "فتح الباري" (6/ 62).(4/1959)
الدار بعيدة من المسجد فلا يسمع فيها الآذان فهي مشؤومة. وقيل: كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (1)، حكاه ابن عبد البر (2).
قال الحافظ (3) والنسخ لا يثبت بالاحتمال لا سيما مع إمكان بجمع، وقد ورد في نفس هذا الخبر نفي التطير ثم إثباته في الأشياء المذكورة، وقيل: يحمل الشؤم على معنى قلة الموافقة وسوء الطبائع، وهو كحديث سعد بن أبي وقاص رفعه "من سعادة المرء المرأة الصالحة والمسكن الصالح والمركب الهنيء، ومن شقاوة المرء المرأة السوء والمسكن السوء والمركب السوء". أخرجه أحمد (4) وهذا تخصيص معنى الأجناس المذكورة دون بعض، وبه صرح بن عبد البر (5) فقال: يكون لقوم دون قوم وذلك بقدر الله.
وقال المهلب (6) ما حاصله: أن المخاطب بقوله: الشؤم في ثلاثة من التزم التطير ولم يستطع صرفه عن نفسه فقال لهم: إنما يقع ذلك في الأشياء التي تلازم في غالب الأحوال، فإذا كان كذلك فاتركوها عنكم ولا تعذبوا [9] أنفسكم بها، ويدل على ذلك تصديره الحديث بنفي الطيرة، واستدل بما أخرجه ابن حبان (7) عن أنس رفعه: "لا طيرة والطيرة على من تطير وإن يكن في شيء ففي المرأة" الحديث، وفي إسناده عقبة بن (8)
_________
(1) [الحديد: 22].
(2) في "التمهيد" (16/ 206).
(3) في "فتح الباري" (6/ 62 - 63).
(4) لم أقف عليه عند أحمد.
(5) في "التمهيد" (16/ 206).
(6) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63).
(7) في صحيحه رقم (6123).
(8) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 51). قال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال أحمد بن حنبل: ضعيف ليس بالقوي. انظر: "تهذيب الكمال" (19/ 305 - 306 رقم 4373). "الثقات" لابن حبان (7/ 272).(4/1960)
حميد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس وعقبة مختلف فيه، والأرجح ما قدمناه من بناء العام على الخاص فيكون الحديث في قوة ليست الطيرة في شيء إلا في الأمور المذكورة وهذا هو الذي ذهب إليه جماعة ممن قدمنا النقل عنهم وقد زاد الدارقطني (1) من طريق أم سلمة و"السيف" وإسناده صحيح إلى الزهري، وهو رواه عن بعض أهل أم سلمة عنها.
قال الدارقطني (2) والمبهم هو أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة سماه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري في روايته، وأخرجه ابن ماجه (3) من هذا الوجه موصولا فقال عن الزهري عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن زينب بنت أم سلمة أنها حدثت لهذا الحديث وزادت فيه و"السيف". وأبو عبيدة (4) المذكور هو ابن بنت أم سلمة، أمه زينب بنت أم سلمة.
وقد روى النسائي (5) الحديث المتقدم في ذكر الأمور المشؤومة فأدرج فيه "السيف"، وخالف فيه الإسناد أيضًا.
وجاء عن عائشة (6) أنها أنكرت الحديث المذكور في شؤم تلك الأمور فروى أبو داود الطيالسي عنها في مسنده (7) عن محمد بن راشد عن مكحول قال: قيل لعائشة إن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "الشؤم في ثلاثة، فقالت: لم يحفظ أنه دخل وهو يقول: قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة فسمع آخر الحديث
_________
(1) في "غرائب مالك" كما ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63).
(2) في "غرائب مالك" كما ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63).
(3) في "السنن" رقم (1995). وهو حديث شاذ
(4) ذكره الحافظ في "الفتح" (6/ 63).
(5) في "الكبرى" (5/ 403 رقم 9280/ 5). عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن سالم بن عبد الله: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "إن كان في شيء ففي: المسكن، والمرأة والفرس، والسيف".
(6) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(7) رقم (1776 - منحة المعبود).(4/1961)
ولم يسمع أوله. ومكحول لم يسمع من عائشة فهو منقطع لكن روى أحمد (1) وابن خزيمة (2) والحاكم (3) من طريق قتادة عن أبي حيان أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الطيرة في الفرس والمرأة والدار" فغضبت غضبًا شديدًا وقالت: ما قاله، وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك انتهى.
قال في الفتح (4) ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقة غيره من الصحابة له في ذلك، وقد تأوله غيرها على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، لا لأنه إخبار من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بثبوت ذلك، وسياق الأحاديث الصحيحة المقدم ذكرها يبعد هذا التأويل.
قال ابن العربي (5) هذا جواب ساقط لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية أو الحاصلة، وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوا انتهى.
وأما ما أخرجه الترمذي (6) من حديث حكيم بن معاوية قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا شؤم" وقد يكون [10] اليمن في المرأة والدار والفرس، ففي إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة فالحق ما أسلفناه من الجمع بين [العام والخاص] (7) والله أعلم.
_________
(1) في "المسند" (6/ 240) وأورده الهيثمي في "المجمع" (5/ 104) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(2) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(3) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(4) في "الفتح" (6/ 61).
(5) ذكر الحافظ في "الفتح" (6/ 61).
(6) في "السنن" رقم (5/ 127) عقب الحديث رقم (2824). وهو حديث صحيح.
(7) في (أ): [العام على الخاص].(4/1962)
[انتهى من تحرير المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في صبح يوم الخميس لعله السادس عشر شهر جمادى الآخرة سنة 1209] (1).
[حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما صبح يوم الخميس لعله سادس عشر شهر جمادى الآخرة سنة 1209انتهى. وكان الفراغ من نقله في هذا صبح يوم الجمعة لعله ثالث شهر الحجة الحرام. ختام عام أربعة وثمانين ومائتين ونيف. حرره لنفسه ولمن شاء الله بعده حسب الإمكان خادم العلم الشريف عبد الملك بن حسين غفر الله لهما آمين. انتهى.
كان الفراغ من رقمه من خط القاضي العلامة الوجيه وذلك في 22 شهر الحجة الحرام سنة 1349 حرره الفقير إلى رحمة الله تعالى أمام محراب قبة المهدي عباس، محمد بن قاسم بن أحمد أبو طالب غفر الله له ولوالديه ولجميع المؤمنين آمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين عدد ما خلق من شيء] (2).]
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (أ).(4/1963)
بحث في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات"
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1965)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إنما الأعمال بالنيات").
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. كثر الله فوائدكم صيغة إنما حاصره لا يخالف في ذلك من يعتد به، واستعمالات أهل اللغة في نظمهم
4 - آخر الرسالة: ... فهو فاسد بعدم النية، وفي هذا كفاية وإن كان البحث محتملا للتطويل انتهى نقله في خط المجيب شيخ الإسلام البدر رحمه الله وغفر له وجزاه خيرًا. آمين.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (4) صفحة.
7 - المسطرة: الأولى: 21 سطرًا.
الثانية: 20 سطرًا.
الثالثة: 19 سطرا.
الرابعة: 11 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (8 - 10) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الخامس من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(4/1967)
بسم الله الرحمن الرحيم
- كثر الله فوائدكم - صيغة إنما (1) حاصره لا يخالف في ذلك من يعتد به، واستعمالات أهل اللغة في نظمهم ونثرهم قاضية بذلك قضاء لا يدفع، فأفاد ذلك حصر أن يكون المقدر بحيث ينطبق على هذا التركيب انطباقًا يناسب المدلول بالقصر مع ما يقتضيه من هذه الجمعية ومصيرها للجنس، وكأنه قال: إنما كل .............................
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1) ومسلم في صحيحه رقم (155/ 1907) والترمذي رقم (1647) وأبو داود رقم (2201) والنسائي رقم (1/ 58) وابن ماجه رقم (4227) وأحمد في "المسند" (1/ 25 - 43) والدارقطني رقم (1/ 50 رقم 1) ومالك في "الموطأ" (ص 341 رقم 983) برواية محمد بن الحسن الشيباني.
وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 342) كلهم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
منزلة الحديث:
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 11): قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم هذا الحديث قال أبو عبيد: "ليس في أخبار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء أجمع ولا أغنى ولا أكثر فائدة من هذا الحديث، اتفق الشافعي فيما نقله البويطي عنه، وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكتاني على أنه "ثلث الإسلام" ومنهم من قال ربعه، وقال عبد الرحمن بن مهدي" يدخل في ثلاثين بابًا من العلم" وقال: "ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب وقال ينبغي لمن صنف كتابًا أن يبدأ فيه بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على "تصحيح النية" وقد فعل هذا البخاري في صحيحه، والنووي في الأربعين النووية، والعراقي في كتابه "التقريب" الذي شرحه ابنه أبو زرعة في كتاب "طرح التثريب" وقال الشافعي: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من العلم وقال ابن رجب: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها".
وعن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه "إنما الأعمال في النيات" وحديث عائشة رضي الله عنها "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه "الحلال بين والحرام بين".(4/1971)
عمل بنية (1)، وهذه الصيغة لا خلاف في كونها مفيدة للقصر، وأنها أقوى صيغه المذكورة في علم البيان والأصول. إذا تقرر لك أن ههنا ثلاثة (2) تراكيب تفيد حصر الأعمال في النية، وقصرها عليها إنما والتعريف المنضم إليه، ونفي النكرة، والاستثناء بإلا علمت أنها قد تعاضدت الدلالات على حصر الأعمال في النيات (3)، وقصرها عليها، وبعد هذا
_________
(1) قال جماهير العلماء من أهل العربية والأصول وغيرهم لفظة إنما موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفي ما سواه فتقدير هذا الحديث أن الأعمال تحسب بنية، ولا تحسب إذا كانت بلا نية، قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (13/ 255) "والأعمال أعم أن تكون أقوالا أو أفعالا فرضًا أو نفلا قليلة أو كثيرة صادرة من المكلفين المؤمنين" بالنيات جمع نية قال الحافظ: وهو من مقابلة الجمع بالجمع وورد بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.
انظر: "فتح الباري" (1/ 14) و"عمدة القاري" (1/ 24).
وقال القرطبي في "المفهم" (3/ 744): أنه عموم مؤكد بـ (إنما) الحاصرة، فصار في القوة كقوله: لا عمل إلا بنية. فصار ظاهرًا في نفي الإجزاء والاعتداد بعمل لا نية له.
(2) هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية، فلا عمل إلا بنية، وقيل "إنما" وحدها أفادت الحصر واختلفوا هل إفادتها للحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أو بأصل الوضع أو بالعرف، أو إفادتها له بالحقيقة أو بالمجاز؟
والظاهر أنها تفيده بالمنطوق وضعًا حقيقيًا وهذا هو المشهور عند جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة.
انظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 297، 298)، "عمدة القاري" (1/ 23).
(3) قال ابن تيمية في بيان هذا الحديث من وجوه:
أحدها: أن النية المجردة من العمل يثاب عليها والعمل المجرد من النية لا يثاب عليه فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأئمة أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة".
ثانيها: أن من نوى الخير وعمل فيه مقدوره وعجز عن إكماله كان له أجر كامل كما في الصحيح - عن البخاري رقم (4423) - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر".
ثالثها: أن القلب ملك البدن والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود.
رابعها: أن توبة العاجز عن المعصية تصح عند أهل السنة كتوبة المحبوب عن الزنا، وكتوبة المقطوع اللسان عن القذف وغيره، وأصل التوبة عزم القلب وهذا حاصل عند العجز.
خامسها: أن النية لا يدخلها فساد بخلاف الأعمال الظاهرة فإن النية أصلها حب الله ورسوله وإرادة وجهه، وهذا هو بنفسه محبوب الله ورسوله، مرضي لله ورسوله، والأعمال الظاهرة تدخلها آفات كثيرة، وما لم تسلم منها لم تكن مقبولة ولهذا كانت أعمال القلب المجردة كما قال بعض السلف: "قوة المؤمن في قلبه وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه وضعفه في قلبه".
"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 11).(4/1972)
يتوجه النظر إلى المقتضى المقدر، وهو في المقام لا يكون إلا عامًا كالثبوت والحصول والوجود ونحوها، وكل واحد منهما يفيد انتفاء تلك الذات بانتفاء النية، فتكون غير موجودة شرعًا، وإذا وجد عمل بلا نية فليس هو الموجود الشرعي، بل الموجود المخالف له، فلا يأتيه لوجودها.
ولو سلمنا لوجودها، وأن لها إنسيابًا إلى الشرعية بوجه ما كان بقدر ما رفع الاعتداد بها متحتمًا، كتعذر الصحة، والأخرى ونحوهما، لأن هذا المقدار وإن لم ترفع الذات كانتقادية الأدلة فإنه قريب منها باعتبار أن تلك الذات [1 أ] لاغية لا يترتب عليها شيء من الأحكام الشرعية، بخلاف ما لو قدر الكمال أو التمام أو نحوها، فإنه يفيد بقاء الذات شرعية، وهو خلاف ما في عبارة الشارع من النفي الصراح الذي يندفع عنده كل احتمال، ويرتفع لديه كل تأويل.
قال السائل - عافاه الله -: ولعمري إن ذلك مشكل لوجهين .. إلخ.
أقول: هذا القصد اللازم الضروري يمنع أولا كونه لازمًا غير منفك بالضرورة، فإن(4/1973)
عروض (1) الذهول للفاعلين، والغفلة والدخول في فكر ما مشوشة للذهن معلوم بالوجه أن يخبره كل عاقل من نفسه، ويعرفه من غيره، ومن كان كذلك قد يصدر منه أفعال وهو ذاهل عنها، غافل عما يريده منها، وهذا يكفي في دفع دعوى التلازم العقلي، ويدفع أيضًا دعوى الضرورة، ثم يقول السائل - كثر الله فوائده -: ما ذكرت من ملازمة القصد لكل فعل، وإن ذلك ضروري ما تريد؟ هل من الأفعال على العموم أم الأفعال الشرعية؟ إن أردت الأفعال على العموم فغير مسلم، لأن منها الأفعال الشرعية، ولا بد من قصدها، ولا ملازمة هنا لذلك، ولا ضرورة أبدًا معلوم لكل عاقل أنه لا بد من النيات إليها، واستحضار لها بجواز أن يكون الفعل الذي أوقعه غير شرعي، وإن أردت الأفعال التي ليست شرعية فتسليم دليله لا يفيد، لأنه خارج عن محل النزاع على أن في الأفعال التي ليست شرعية ما لا يقصد كالأفعال الجبلية، وأفعال الذاهل والساهي، وإن أردت الشرعية فحسب [1 ب]، فالأمر أوضح من ذاك، لأنه لا يقول أحد بالتلازم ما بين الفعل الشرعي وبين قصده شرعًا، لأن كونه شرعيًا أمر زائد على مجرد الفعل، بل هو وصف له فلا بد من قصد له من حيث كونه فعلا شرعيًا (2)، لا من حيث كونه فعلاً
_________
(1) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 18) واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأنه فيه أن العمل يكون منتفيًا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة حكمه، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد.
(2) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 13): "والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذا التقدير: لا عمل إلا بالنية فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة، وقال شيخ الإسلام: الأحسن تقدير أن الأعمال تتبع النية لقوله في الحديث: "فمن كانت هجرته".(4/1974)
فقط، وهذا واضح. قوله: وأما الثاني إلخ.
أقول: قد عرف جوابه مما قدمنا، وأما الكلام في عموم المقتضى وعدمه فالحق أنه يقدر بحسب الحاجة، وبما يفيده الكلام الذي اقتضاه إما عمومًا، وإما خصوصًا. قوله: وتلك الحجة هي الجملة الشرطية.
أقول: ليست بشرطية، بل خبرية، لم يدخلها شيء من أدوات إنما المذكورة في الحديث، هي سور لحصر الجملة الخبرية، والجملة الشرطية (1) في الحديث هي قوله: فمن كانت (2) هجرته .. إلخ.
_________
(1) قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله .... ".
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 16): قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء فلا يقال مثلا من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين - فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتهه - فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلة قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}. [الفرقان: 71]، وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس كقولهم أنت أنت أي الصديق، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب، وقال بعض أهل العلم إن الشرط محذوف وتقديره: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا فهجرته إلى الله حكمًا وشرعًا.
وقيل: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم، وإما في التحقير.
(2) لما ذكر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أن الأعمال بالنيات وأن حظ العامل من عمله بنيته من خير أو شر وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء "ذكر بعد ذلك مثلا من الأمثال والأعمال التي صورتهما واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال.
ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك.
فالأول تاجر والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر شرعًا، وفي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلى ما هاجر إليه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يذكره باسمه الظاهر الصريح.
وأيضًا لما كانت الهجرة إلى الله ورسوله واحدة لا تعدد فيها اتحد الجواب فيها بلفظ الشرط - فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته ... ".
ولما كانت الهجرة من الأمور الدنيا لا تنحصر فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر لذلك قال: فهجرته إلى ما هاجر إليه يعني كائنًا ما كان. انظر: "فتح الباري" (1/ 14).(4/1975)
قوله: سوى التصريح بكون العمل تابعًا للقصد.
أقول: التابع غير المتبوع ذاتًا وزمانًا، وإلا لم يكن التابع تابعًا ولا المتبوع متبوعًا وهذا يفيد عدم ما ذكره من التلازم العقلي الضروري، فإنه لو كان كذلك لم يفارقه قط، بل يوجد بوجوده، ويعدم بعدمه.
وأما قوله: من دون تعرض لطلبه فهو يخالف ما جزاه به من التابعية والمتبوعية، فإنه لا بد من طلب كل واحد منهما، وإلا لم يكن من جنس أفعال العقلاء.
قوله: إنما صلاح الأعمال (1) بصلاح النية.
_________
(1) قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 123): "والنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح".
وكون النية أساس العمل وقاعدته هو ما دل عليه الكتاب والسنة فأما الكتاب فقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. فحصر أمر المكلفين كله في عبادته وجعل شرط ذلك الإخلاص، ولا يميز العمل الخالص من غيره إلا النية، وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أمر لجميع الأمة وإخلاص الدين والعبادة لله شرط لصحة العمل. ولهذا إذا دخل الشرك العبادة أفسدها وصار العمل مردودًا على صاحبه قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وإن كان فيه مراءاة للغير وطلب لمدحهم وثناءهم فإن الله يبرأ من هذا العمل ويترك العامل وعمله.
* فائدة: الإنسان في هذه الحياة مجبول على العمل والتحرك بدوافع وغايات متعددة، والأعمال التي يقوم بها قولية وفعلية كفًا وفعلا وهذه الأعمال إما من أعمال القلوب، أو أعمال الجوارح أو منهما جميعًا. والأعمال باعتبار آخر إما فطرية جبلية وإما تكليفية عبادية بأمر الله تعالى وتكليف منه. وما أمر الله به وكلف عباده قد يتشابه بما يقوم به الإنسان من العادات استجابة للغريزة والفطرة والحاجة ولا يميز بين الأمرين ويفرق بين المتشابهين إلا النية، لذلك فإن من أبرز حكمة مشروعية النية:
1 - ) تمييز العبادات عن العادات: ومثاله: دفع الأحوال مردد بين أن يفعل هبة أو هدية أو وديعة وبين أن يفعل قربة إلى الله كالزكاة والصدقات والكفارات فلما تردد بين هذه الأغراض وجب تمييز النية ما يفعل لله عما يفعل لغير الله.
2 - ) تمييز مراتب العبادات بعضها من بعض، فالنية تحدد رتب العبادات من نوافل ومفروضات فإنها كذلك تحدد رتبة العبودية ومدى قيام القلب بها.
وبالنية تتفاوت درجات الإيمان والتقوى وبها يتميز المؤمن من المنافق والمخلص من المرائي ومدى ارتباط القلب بالجوارح وارتباطها به، وإن لله عبوديتين باطنية وعبودية ظاهرة فله على قلبه عبودية وعلى لسانه وجوارحه عبودية فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنية مما لا يقربه إلى ربه، ولا يوجب له الثواب وقبول عمله، فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح.(4/1976)
أقول: إن كان المراد هنا الصلاح [2 أ] المقابل لضده، وهو الفساد استلزم ذلك فساد العلم بعدم النية، وهو المطلوب. وإن كان المراد معنى آخر فهو غير ظاهر من لفظ الصلاح.
قوله: اختلفا قبولا وأداء.
أقول: هذا يستلزم رد العمل لعدم النية، وهو مطلوب من قال بتلك التقديرات، فهو يناسب بقدر الصحة المستلزمة للفساد المرادف للبطلان، لأن العمل إذا كان مردوًدا فهو غير صحيح، وكذلك إذا كان غير صالح فهو فاسد بعدم النية. وفي هذا كفاية.
وإن كان البحث ..................................................(4/1977)
محتملا (1) للتطويل. انتهى نقله من خط المجيب شيخ الإسلام البدر - رحمه الله، وجزاه خيرا - آمين.
_________
(1) انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" لـ (زين الدين العراقي) (2/ 7 - 20).(4/1978)
بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ"
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1979)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. ").
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: الحمد لله تعالى، سأل الحقير حاكم الحضرة عهدة المسلمين حافظ الدين عليه السلام كثر الله تعالى فوائده، وأطال مدته عن معنى حديث شريف
4 - آخر الرسالة: ... ما يظهر لي في معنى هذا الحديث الصحيح ومن رام الوقف على جميع ما قيل في ذلك فليبحث مطولات شروح الحديث، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق، وذكر اسمه هنا.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - المسطرة: الأولى: (24) سطرا.
الثانية: (24) سطرا.
الثالثة: (10) أسطر.
7 - عدد الكلمات في السطر: (13) كلمة.
8 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1981)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث في حديث: "لو لم تذنبوا"
الحمد لله تعالى
سأل الحقير حاكم الحضرة، عهدة المسلمين، حافظ الدين، عليه السلام، كثر الله تعالى فوائده، وأطال مدته، عن معنى حديث شريف، وعرضت ما لاح للذهن القاصر عليه فأمرني -عافاه الله- بتحرير أصل ذلك وفرعه، فأجبته لوجوب جوابه، مقتنصا بذلك من نفحاته، متوسلا إلى استخراج ثمراته من ينابيع إفاداته عن قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" رواه البخاري (1) ومسلم (2). وله شواهد (3).
قال القاضي أحمد (4) المسوري - عفا الله عنه - في رسالته .............
_________
(1) لم يخرجه البخاري بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري رقم (7507) ومسلم رقم (2758) من حديث أبي هريرة بلفظ آخر.
(2) في صحيحه رقم (11/ 2749) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
(3) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (10/ 2748) من حديث أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لو أنكم لم تكن لكم ذنوب، يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب، يغفرها لهم".
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (9/ 2748) عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم".
ومنها: ما أخرجه أحمد (4/ 346) ومسلم في صحيحه رقم (2750) من حديث حنظلة الأسيدي في حديث طويل: " ... والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.
(4) أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري اليمني ولد سنة 1007 هـ بناحية الشرف، كان عظيم الشأن جليل القدر.
من مصنفاته: "الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية" مجموع الأسانيد. توفي سنة 1079 هـ. انظر: "الروض الأغن" (1/ 42 - 43 رقم 70)، "البدر الطالع" (1/ 58).(4/1985)
المعروفة (1) مشككا في شأن ما لاح له في تناقض الأدلة، حرس الله ذلك عنه، ومن ذلك قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "والذي نفسي بيده .. إلخ". مع قول الله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} (2) هذا تناقض.
قال في صوارم اليقين لقطع شكوك أحمد بن سعد الدين: "إن الآية الكريمة لها محمل صحيح، وذكره، ولعل معناه أن الآية مسوقة لعدم الإتيان بالواجب من الزكاة ونحوها، وأنه متعذر المجيء بآخرين، لأنه إن كان من الملائكة فهم معصومون، وإن كان من الجنس غير في الصفات فهم غير معصومين، ويحضرني أنه قال في الكشاف (3):
_________
(1) "الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية".
(2) [محمد: 38]. قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان" (13 جـ 26/ 66): وقوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) أي وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فترتدوا راجعين عنه: (يستبدل قوما غيركم) أي يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدقون به، ويعملون بشرائعه (ثم لا يكونوا أمثالكم) يقول: ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به.
(3) أي الزمخشري في "الكشاف" (5/ 532).
قال ابن كثير في تفسيره (7/ 324): قوله: (وإن تتولوا) أي: عن طاعته واتباع شرعه يستبدل قوما غيركم (ثم لا يكونوا أمثالكم) أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلا هذه الآية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس".
أخرجه الترمذي رقم (3260) وقال: هذا حديث غريب، في إسناده مقال، وابن حبان رقم (7123) والحاكم (3/ 458) والبيهقي في "الدلائل" (6/ 333 - 334) كلهم من طرق مختلفة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.(4/1986)
{وإن تتولوا} معطوف على: {وإن تؤمنوا وتتقوا} فيكون المراد بالتولي الكفر، وهو غير ما أراده صاحب الرسالة من أن المراد عدم الذنب، بل أعم من ذلك.
وقال فيها أيضا: إن (لو) في الحديث المذكور في اللغة لامتناع الشيء (1) لامتناع غيره، ثم بين الامتناع بما معناه، فلم يكن عندي ليؤخذ بلفظه: إن الذنب متعذر عدم كونه من المتكلفين، فالمجيء بآخرين ممتنع كذلك، وذكر مما أجيب به عن معنى الحديث قولا ونقلا، ولم يكن منه ما لاح لي هو أن الذي ينبغي أن يكون (لو) في هذا المقام من قبيل لو لم يخف الله لم يعصه، فيكون معنى الحديث: فأولى أن يذهب لكم، وأنتم تذنبون ويكون المراد بالذهاب الموت.
قال في الأفعال: ذهب (2) الإنسان ذهابا وذهوبا مات. وهي لأمر مضى، ويكون المراد بالمجيء بآخرين من الجنس غايته تحصيل ما اشتمل عليه التكوين من الأسلاف والأخلاق.
_________
(1) وهو المشهور على ألسنة النحاة، ومشى عليه المعربون أنها حرف امتناع لامتناع، أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فقولك: لو جئت لأكرمتك؛ دال على امتناع.
وقيل: هي مجرد ربط الجواب بالشرط دالة على التعليق في الماضي كما دلت (إن) على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت.
واعترض عليه ابن هشام وقال: هذا القول كإنكار الضروريات إذ فهم الامتناع منها كالبديهي.
وهناك أقوال أخرى انظرها في "معترك الأقران في إعجاز القرآن" (2/ 294 - 298).
(2) انظر لسان العرب (5/ 66) و"الصحاح" (1/ 130).(4/1987)
وإن ذلك لازم حكمه. وأبان الحديث وجه أولوية [1] لزوم ذلك من تبيين أن لله في ذلك حكمة، ولا بد منه، لا كما ظنه من فهم أن الذنب مقصود للشارع، وأنه يلزم أن يكون الذنب منهي عنه، مأمور به، فذلك باطل فيجب المصير إلى أي جمع. وإن يكاد أبعد تأويل وارتكاب أبعد تأويل، كيف وهذه وجوه صحيحة صريحة يجب المصير إليها أولى من نسبة التناقض إلى الشريعة المطهرة، صانها الله عن ذلك: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (1). هذا ما لاح لي، وفوق كل ذي علم عليم. انتهى السؤال بلفظه. الجواب نقل من خط المولى العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني، كثر الله فوائده.
_________
(1) [النجم: 3 - 4].(4/1988)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد:
فإنه وصل هذا البحث من سيدي العلامة عماد الدين محمد بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم - رضوان الله عليهم جميعا - وأقول: إن وجه وقوع الإشكال في هذا الحديث لجماعة من أهل العلم أنهم ظنوا أنه يدل على أن وقوع الذنوب من العصاة مطلوب للشارع، وهذا تخيل مختل، وفهم فاسد معتل، فإن الحديث لا يدل على ذلك لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. فإن قوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم ... إلخ". لا يدل إلا على أن هذا النوع الإنساني (1) باعتبار مجموعة لا
_________
(1) قال ابن الجوزي: "هفوات الطبائع البشرية لا يسلم منها أحد". انظر: "فتح الباري" (11/ 101).
قال ابن تيمية في "منهاج السنة" (2/ 431): إذا ابتلي العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه، ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات.
وذلك يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان، وهو أيضًا يوجب الرحمة لخلق الله، ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة.
وهو أيضًا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما قال: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو لم تذنبوا .. ".
وهو أيضًا يبين قوة حاجة العبد إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجء إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له، فإن من ذاق مرارة الابتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته، كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك، ولهذا قال بعضهم: كان داود - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة. وقال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.
ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بالذنب.
وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب. فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله.
وانظر: "فتح الباري" (11/ 104 - 108).(4/1989)
يخلو عنه الذنب قط. ولو فرضنا أنه يخلو عنه لم يكن إنسانا بل غير إنسان، لأن العصمة لجملة النوع باطلة، وما استلزم الباطل باطل.
وقد قضى الله في سابق علمه كما أخبرنا بذلك في كتابه (1) على لسان رسله أن فريقا من هذا النوع في الجنة، وفريقا في السعير. وأن منهم الشقي والسعيد، والبر والفاجر، والمسلم والكافر. وأخبرنا أيضًا على لسان (2) رسله أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا، وأخبرنا أيضًا أنه الغفور الرحيم، المنتقم الجبار، شديد العقاب ونحو
_________
(1) منها قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير) [الشورى: 7].
(2) منها ما أخرجه أحمد (1/ 44 - 45) وأبو داود رقم (4703) والنسائي في "تفسيره" رقم (210) والترمذي (5/ 226 رقم 3075) وقال: هذا حديث حسن. وابن حبان (1804 - موارد) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عنها (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى). [الأعراف: 172]، فقال: "إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار".
وهو حديث صحيح لغيره.(4/1990)
ذلك من الأسماء والصفات (1). فلو فرضنا أن مجموع هذا النوع الإنساني لا يصدر من ذنب أصلا كانت هذه الإخبارات الإلهية باطلة، وما استلزم الباطل باطل. وبيان الملازمة أنه إذا لم يوجد المذنب لم يوجد الشقي منهم. ولا الكافر ولا الفاجر، ولا من هو من أهل النار. وأيضا لم يوجد من يستحق العفو عنه، والرحمة له، والانتقام منه، والعقوبة له.
وأما بطلان اللازم فظاهر، فتقرر بهذا أن الحديث مسوق لبيان أن العصمة عن مجموع هذا النوع الإنساني (2) منتفية، وأنهم على [2] ما حكاه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم المطيع، ومنهم العاصي، ومنهم من جمع بين الطاعة والمعصية، وأنهم مظاهر الأسماء الحسنى والصفات المتضمنة للغضب والرضا، والرحمة والعقوبة، والنعيم
_________
(1) قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/ 261): أنه سبحانه له من الأسماء الحسنى، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر، لا بد من ترتبه عليه كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الرحيم، وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير ...
فلو لم يكن في عباده من يخطئ ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه لن يظهر أثر أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب، وما جرى مجراها، وظهور أثر هذه الأسماء ومتعلقاتها في الخليقة كظهور آثار الأسماء الحسنى ومتعلقاتها، فكما أن اسمه الخالق يقتضي مخلوقا، والباري يقتضي مبروءا، والمصور يقتضي مصورا ولا بد، فأسماؤه الغفار التواب تقتضي مغفورا له وما يغفره له كذلك من يتوب عليه، وأمورا يتوب عليه من أجلها، ومن يحلم عنه ويعفو عنه، وما يكون متعلق الحلم والعفو، فإن هذه الأمور متعلقة بالغير ومعانيها مستلزمة لمتعلقاتها.
(2) قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (2/ 292): إن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوتان فيه منزلة صفاته الذاتية، لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، عرض لنيل الدرجات العلى، واللحاق بالرفيق الأعلى، والهبوط أسفل سافلين ... والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره، فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، ولا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانا، بل كان ملكا، فالترتب من موجبات الإنسانية، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".(4/1991)
والعذاب والعفو والعقاب، وأن منهم فريق الجنة (1)، ومنهم فريق النار.
فمن رام أن يكونوا جميعا معصومين عن الذنوب فقد رام شططا، وخالف الشرائع بأسرها، كما خالف الواقع ونفس الأمر. ولم يبق على ما زعمه ثمرة لإنزال الكتب، وبعثة الرسل. هذا حاصل ما يظهر لي في معنى هذا الحديث الصحيح. ومن رام الوقف على جميع ما قيل في ذلك فليبحث مطولات شروح الحديث.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. (وذكر اسمه هنا) [3].
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذي رقم (2501) وابن ماجه رقم (4251) والدارمي (2/ 303) والحاكم (4/ 244) عن أنس. وهو حديث حسن.(4/1992)
بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/1993)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير).
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: الحمد لله وحده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد، فإنه ورد السؤال عن تفسير ما وقع في حديث الغدير.
4 - آخر الرسالة: ... من بين من تقدمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الأنبياء والصالحين بخلاف الحمزة وجعفر، فإن المخصص لهما واضح لو لم يكن إلا مجرد القرابة القربى فهذا ما ظهر، والله سبحانه أعلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - المسطرة: الأولى: (18) سطرا.
الثانية: (15) سطرا.
7 - عدد الكلمات في السطر: (8) كلمة.
8 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/1995)
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله.
وبعد: فإنه ورد في السؤال عن تفسير ما وقع في حديث الغدير عند الطبراني عن (1) عن جرير
_________
(1) في "المعجم الكبير" (2/ 357 رقم 2505) وأورده الهيثمي في "المجمع" (9/ 106) وفيه بشر بن حرب وهو لين، ومن لم أعرفه أيضا.
عن بشر بن حرب عن جرير قال: شهدنا الموسم في حجة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي حجة الوداع، فبلغنا مكانا يقال له غدير خم، فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعنا المهاجرون والأنصار، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسطنا فقال: "أيها الناس بم تشهدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله. قال: "ثم مه؟ " قالوا: وأن محمدا عبده ورسوله، قال: "فمن وليكم؟ " قالوا: الله ورسوله مولانا، قال: "من وليكم؟ " ثم ضرب بيده على عضد علي رضي الله عنه فأقامه فنزع عضده فأخذ بذراعيه فقال: "من يكن الله ورسوله مولياه فإن هذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، اللهم من أحبه من الناس فكن له حبيبا، ومن أبغضه فكن له مبغضا، اللهم إني لا أجد أحدا أستودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين غيرك فاقض فيه بالحسنى". قال بشر: قلت: من هذين العبدين الصالحين؟ قال: لا أدري.
وذكره السيوطي في "الموضوعات" رقم (261) وعزاه للطبراني عن جرير وقال: قال ابن كثير: غريب جدا بل منكر.
غدير خم: الغدير فعيل من الغدر، غدير: بفتح أوله، وكسر ثانيه وأصله غادرت الشيء إذا تركته وهو فعيل بمعنى مفعول كأن السيل غادره في موضعه فصار كل ماء غودر من ماء المطر في مستنقع صغيرا كان أو كبيرا غير أنه لا يبقى إلى القيظ سمي غديرا.
خم: اسم موضع غدير خم، وهو بين مكة والمدينة وبينه وبين الجحفة ميلان.
خم في اللغة: قفص الدجاج، فإن كان منقولا من الفعل فيجوز أن يكون مما لم يسم فاعله من قولهم: خم الشيء، إذا ترك في الخم، وهو حبس الدجاج.
وقيل: خم اسم رجل صباغ أضيف إليه الغدير الذي هو بين مكة والمدينة بالجحفة.
وقال الحازمي: خم واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير، عنده خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة.
"معجم البلدان" (2/ 389) (4/ 188).
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/ 182 - 183): في إيراد الحديث الدال على أنه - عليه السلام - خطب بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة - يقال غدير خم - فبين فيها فضل علي بن أبي طالب وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والصواب كان معه في ذلك، ولهذا لما تفرغ - عليه السلام - من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بين ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد بغدير خم شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر من فضل علي وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه.
أخرج النسائي في "فضائل الصحابة" (ص 15): عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن ثم قال: "كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردوا علي الحوض، ثم قال: إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت وليه، فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه".
وأخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3713) من حديث زيد بن أرقم. وهو حديث صحيح. وفيه "من كنت مولاه فعلي مولاه". ولم يذكر العبدين الصالحين.(4/1999)
بلفظ: "من يكن الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه - يعني عليا عليه السلام - اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، اللهم من أحبه من الناس فكن له حبيبا، ومن أبغضه من الناس فكن له بغيضا، اللهم إني لا أجد أحدا أستودعه في الأرض بعد العبدين الصالحين غيرك فاقض عني فيه بالحسنى" انتهى.
ومحل السؤال: من هما العبدان الصالحان المذكوران في الحديث؟ وأقول: قد اختلف في تفسيرهما، فقيل: هما الخضر (1) ..................
_________
(1) قال ابن حجر في "الإصابة" (2/ 246 رقم 2275): اختلف في نسبه وفي كونه نبيا وفي طول عمره وبقاء حياته.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3402) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهز من خلفه خضراء".
وانظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (35) من مجلدنا هذا، ولتعلم أن اسم الخضر لم يذكر في القرآن، إنما ذكرت فيه قصته مع نبي الله موسى عليه السلام، وصرحت السنة باسمه، كما في حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذكر القصة وقد أخرجه البخاري في صحيحه رقم (74، 78، 2267، 2728، 3278، 3400، 3401، 4725، 4726، 4727، 6672، 7478).(4/2000)
وإلياس (1)، وقيل: هما الحمزة بن عبد المطلب (2) وجعفر بن أبي طالب بن عبد .........
_________
(1) قال تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين) [الصافات: 123 - 125].
ذكر اسم (إلياس) عليه السلام في القرآن الكريم في ثلاث مواطن من سورة الأنعام، وفي آيتين من الصافات، أولاهما ذكر فيها لفظ (إلياس) والثانية ذكر فيها لفظ (إلياسين) قال تعالى: (سلام على إل ياسين).
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 314): أي إلياس، والعرب تلحق النون في أسماء كثيرة، وتبدلها من غيرها، كما تقول: إسماعيل وإسماعين، وإسرائيل وإسرائين، وإلياس وإلياسين.
قال علماء النسب: هو إلياس التشبي. وقيل: ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقيل: إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران.
وقالوا: كان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا.
(2) حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقال له: أسد الله وأسد رسوله، يكنى أبا عمارة، وأبا يعلى أيضًا بابنيه عمارة ويعلى.
أسلم في الثانية من المبعث، وكان حمزة أخا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة.
شهد حمزة بدرا، وأبلى بلاء حسنا، وشهد أحدا وقتل يومئذ شهيدا، قتله وحشي بن حرب الحبشي، مولى جبير بن عدي. ومثل بحمزة، فقطعت هند كبده، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، وبقرت بطنه، فلما رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما صنع بحمزة فقال: "لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم، وقيل بسبعين منهم" فأنزل الله عز وجل: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) [النحل: 126 - 127].
انظر: "سيرة ابن هشام" (3/ 148). "الاستيعاب" (1/ 425 - 427) "الإصابة" رقم (1831).(4/2001)
المطلب (1). وقيل هما أبو بكر (2) وعمر (3). وقيل هما: الحسنان السبطان (4). والأقرب
_________
(1) جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أبو عبد الله، ابن عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد السابقين إلى الإسلام، وأخو علي شقيقه. قال ابن إسحاق: أسلم بعد خمس وعشرين رجلا، وقيل بعد واحد وثلاثين، وآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين معاذ بن جبل. وقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أشبهت خلقي وخلقي" من حديث البراء. انظر: "فتح الباري" (7/ 75).
وهاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، ثم هاجر إلى المدينة فقدم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر.
انظر: "الإصابة" رقم (1169) شذرات الذهب (1/ 12، 48) "تهذيب التهذيب" (2/ 98).
(2) أبو بكر الصديق هو: عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي التيمي. وهو الخليفة الأول، توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3655) عن ابن عمر قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، رضي الله عنهم.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3656) من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي".
انظر: "فتح الباري" (7/ 23 - 27). "الاستيعاب" (4/ 177 رقم (2906). "الإصابة" رقم (9636).
(3) عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي رضي الله عنه. ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان إليه السفارة في الجاهلية. وكان عند المبعث شديدا على المسلمين، ثم أسلم، فكان إسلامه فتحا على المسلمين وفرجا لهم من الضيق. لقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفاروق، وكنيته أبو حفص.
انظر: "الفتح" (7/ 45 - 50). "الإصابة" (4/ 484). "الكاشف" رقم (309) "الاستيعاب" رقم (1899).
(4) الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي حفيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابن ابنته فاطمة رضي الله عنها. وابن ابن عمه علي بن أبي طالب، يكنى أبا محمد، ولدته فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وعق عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعه بكبش، وحلق رأسه، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة. ومات الحسن بن علي - رضي الله عنهما - بالمدينة.
وانظر: "الاستيعاب" (1/ 439 - 442). "تهذيب التهذيب" (2/ 195).
والحسين بن علي بن أبي طالب أمه فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يكنى أبا عبد الله، ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع وقيل: سنة ثلاث، عق عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما عق عن أخيه، وكان الحسين فاضلا دينا كثير الصيام والصلاة والحج. قتل رضي الله عنه يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة 61 هـ بموضع يقال له: كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة.
انظر: "الاستيعاب" (1/ 442 - 445). "شذرات الذهب" (1/ 66). "جمهرة أنساب العرب" (ص 52).(4/2002)
أنهما الحمزة وجعفر كما نقل ذلك السمهودي، لأن ظاهر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العبدين الصالحين أنهما عند هذه المقالة غير موجودين، والأمر في الحمزة وجعفر. كذلك فإن الحمزة استشهد في يوم أحد (1)، وجعفر في يوم مؤتة (2).
وهذه المقالة من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت في يوم غدير خم (3) بعد رجوعه من حجة الوداع. وحجة الوداع متأخرة عن يوم أحد بسنين متعددة، ومتأخرة أيضًا عن يوم مؤتة فعرفت
_________
(1) قال الحافظ في الفتح (7/ 346): كانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور.
وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة. وقيل كانت بعد الهجرة بأحد وثلاثين شهرا.
(2) قال الحافظ في الفتح (7/ 511): " ... عن عروة بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجيش إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان. مؤتة: بالقرب من البلقاء، وقيل: هي على مرحلتين من بيت المقدس.
(3) كان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ وكان يوم الأحد. "البداية والنهاية" (5/ 182).(4/2003)
بهذا أنه لا يصح تفسيرها في الحديث بأبي بكر وعمر، لأنهما كانا حيين عند هذه المقالة بلا ريب. ولا بالحسنين لذلك. وأما الخضر وإلياس فإنهما وإن كانا متقدمين ولكن لا وجه لتخصيصهما من بين من تقدمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنبياء والصالحين بخلاف الحمزة وجعفر، فإن المخصص لهما واضح لو لم يكن إلا مجرد القرابة القربى، فهذا ما ظهر. والله سبحانه أعلم.(4/2004)
بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(4/2005)
وصف المخطوط (أ):
1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث "أجعل لك صلاتي كلها" وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم).
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين، آمين، وبعد: فإنه وصل إلى أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني.
4 - آخر الرسالة: ... وقد عرفت أن الأولى أن يُصلى على الآل في كل موضع يُصلى فيه على رسول الله لما سلف. انتهى تحرير هذا البحث في نهاية يوم السبت من غرة شهر جمادى الآخرة سنة 1208 هـ كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: (7) صفحات.
8 - المسطرة: الأولى: (27) سطرا.
الثانية: (26) سطرا.
الثالثة والرابعة: (27) سطرا.
الخامسة: (26) سطرا.
السادسة: (27) سطرا.
السابعة: (4) أسطر.
9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/2007)
وصف المخطوط (ب):
1 - عنوان الرسالة: (بحث في حديث "أجعل لك صلاتي كلها" وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم).
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
سيدنا العلامة المحقق بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده وجعل سوابغ نعمه ...
4 - آخر الرسالة: ... وأشدها ما سلف. انتهى من تحرير المجيب جامعه قرة عين المسلمين عز الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. وأقام به الدين إنه حليم كريم. حرره حفظه الله في شهر القعدة سنة 1208 هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات: (12) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (29 - 30) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (16 - 18) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/2010)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
سيدنا العلامة المحقق بدر الإسلام محمد بن علي الشوكاني كثر الله فوائده، وجعل سوابغ نعمه وآلائه عليه عائدة، وأتحفه بشريف سلامه، وجزيل إلمامه، دار في ذلك الموقف المبارك بيوم الجمعة مع الاجتماع بكم وبأولئك الأعيان الذين هم أشبه بالملأ الأعلى، كثر الله أعداد أمثالهم من العلماء في الملأ.
ذكر الحديث الشريف، وهو قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تُكفى همك، ويغفر ذنبك" (1) جوابا على القائل له: جعلت لك صلاتي كلها. فحصلت المراجعة في لفظ الصلاة (2)، إلام ينصرف؟ هل إلى ذات الأذكار والأركان؟ أم إلى الدعاء؟.
_________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا. وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويغترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلى في سبق الخيل؛ لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت الصلاة منه إما لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلى من الخيل، وإما لأن الراكع تثنى صلواه.
والصلا: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان.
والمصلى: تالي السابق؛ لأن رأسه عند صلاه.
وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد محدود، فإن فتحت الصاد قصرت فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع.
والصلاة: الدعاء، والصلاة: الرحمة، ومنه: "اللهم صل على محمد".
والصلاة العبادة، ومنه قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت) أي عبادتهم. والصلاة النافلة، ومنه قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة) والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين) أي من المصلين، ومنه سبحة الضحى، وقد قيل في تأويل: (نسبح بحمدك): نصلي، والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك).
انظر: "الصحاح" (6/ 2402). و"الجامع لأحكام القرآن" (1/ 168 - 169).(4/2015)
وذكرتم في غضون جوابكم ذكرها بمعنى الدعاء في بعض السنن، وبمعنى ذات الأركان قد ذكرت كذلك، ولم يتبين الصحيح من القولين فيعلم، أو صحتهما [1].
ويحصل ترجيح، أو وقف، وكل من المحاضرين عنده فيما أظن ما يشفي غلته في ذلك، محيط به علمه ما عداني، فأين أنا من أولئك الرجال أهل التدين والكمال.
وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب النجاة لنفسه إلا أنا
فلكم الفضل بتحقيق ما لديكم في ذلك، وإن شققت عليكم بكثرة السؤالات فويل الشجي من الخلي.
وقد سمعت من جوابكم ما تقدم ذكره من ورود الأمرين، لكن المراد من الصحيح ما يسفر به الصبح من فوائدكم، أبقاكم الله لذي عينين.
مع أن جمعان ذكر في ذلك في شرح العدة ما لفظه: ومعنى: جعلت لك صلاتي كلها، أي دعائي كله لمن يذكر غير هذا. وأي الوجهين صح فقد عم فضل الله به، كثر خير ربنا وطاب، إنما حيث الصحيح أو الأصح أحد القولين أراد الحقير التطلع له ومعرفته إن شاء الله، وأسأل الله أن يجعل العمل خالصا لوجهه، ويعلمنا ما جهلناه، ويرزقنا العمل بما علمناه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
نعم، وكذلك حصلت المذاكرة هنالك، هل يكون السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقرونا بكل صلاة يلفظ بها؛ فإذا صلى المصلي مثلا عشرا سلم عشرا، مقترنة بها كل سلام مع كل صلاة، أو يكون السلام بعد إكمال الصلاة، فإذا صلى مثلا ألفا قال بعدها، إما بلا فصل، أو مع تراخ: السلام عليك أيها النبي الكريم .. إلخ، فقد أجزأه، وفعل ما كفاه.
وأما في قوله تعالى: {وسلموا تسليما} فقد أجبتم في السؤال السابق في حديث النفث بعد الإخلاص والمعوذتين عند النوم أنها لا تقتضي الترتيب، فهاهنا كذلك(4/2016)
تكون أولا.
وسؤال آخر لم يحصل مذاكرة به: من جملة الألفاظ الواردة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة عليه.
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد.
كما حرره في مجموعة سيدنا حامد شاكر - رحمه الله - بغير زيادة مع أني ما قد وجدته مفردا هكذا إلا في مجموعه رحمه الله.
نعم فإذا وسط المصلي التسليم بينه، فقال: اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آل محمد، هل قد أجزأه عن التسليم المعروف عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو السلام عليك .. إلخ. فهو أعني: وسلم قد ورد في لفظه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بفتح اللام، فهل يكون كذلك هنا بكسرها في دعاء الصباح والمساء ونحوه كما عرفتم؟ وعلى دين نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الفائدة مستمدة، والشيء بالشيء يذكر: حذف الآل في الصلاة المذكورة في الصباح والمساء، هل هي كذلك بغير ذكر الآل في كل الروايات، أو في بعض؟ فإن كانت في البعض فما يحمل في البعض الآخر إلا على غفلة، أو سهو، أو تحامل، كما فعله أكثر المحدثين السابقين [2]، وحذا حذوهم جماعة من اللاحقين والنقال اعتباطا، فلم يسمع في كل ما رووه من أحاديث الصلاة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صلاة واحدة كما علمتم، ولم يذكر فيها الآل، وهم الذين حققوها لنا، ورووها، ودونوها، وتحروا النقص ولو بالحرف الواحد والزيادة في روايتهم، فما بالهم وهنوها. يا لله العجب، والله خير مستعان.
عرفت قدري ثم أنكرته ... فما عدا الله مما بدا
والأعداء قد عرفت باردة، والحجة واردة، والله سبحانه حسبي وكفى. وإن كانت لم تسمع، أعني: الصلاة المذكورة في الصباح والمساء، ومثلها إلا كذلك بغير الآل، فهل الأولى ترك ذكرهم فيها للاتباع. أما الأولى زيادة ذكرهم، وما عسى أن يسألهم الله عن هذه الزيادة إن لم يثبت عليها، ولا يعاتبهم الرسول من أجلها، وهو الحادي إليها(4/2017)
بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "لا تصلوا علي الصلاة البتراء" أو معناه، كنا نحب اتباع الحق، فإن كان في البناء على ما سمع من إفراد الأصل عن الفروع لزمناه وإن شق، والله يلهم إلى ما علمه صلاحا، ويجعل يوم دنيانا وآخرتنا أوله صلاحا، وأوسطه فلاحا، وآخره نجاحا. آمين اللهم آمين. وشريف سلامه عليكم، ورحمة الله وبركاته، وصليت على سيدنا محمد وآله وسلمت] (1).
_________
(1) زيادة من (ب) وهو نص السؤال.(4/2018)
[الجواب، قال - حفظه الله تعالى - ما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم] (1)
الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الراشدين آمين، وبعد:
فإنه وصل إلى أسير التقصير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - من مولانا العلامة عين الآل الكرام علي بن إسماعيل (2) بن الإمام - لا برحت نعم الله الجليلة الجزيلة واصلة إليه على الدوام - سؤالات نفيسة، وطلب - حفظه الله - من الحقير الجواب عليها.
السؤال الأول: عن حديث أبي بن كعب (3) لما قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أجعل لك صلاتي كلها؟ " فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك" هل تنصرف الصلاة المذكورة إلى ذات الأركان؟ أم إلى
_________
(1) زيادة من (ب).
(2) علي بن إسماعيل بن علي بن القاسم بن أحمد بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد. ولد سنة 1151هـ بشهارة، ونشأ بها، برع في الأدب وسهل له كتابة الشعر بشكل مدهش، كان يتردد على صنعاء ويتصل برجالها وعلمائها ومنهم الإمام الشوكاني الذي سمع منه بعض مؤلفاته.
قال الشوكاني في "البدر الطالع" (1/ 433 - 437): وهو حسن المحاضرة لا يمل جليسه لما يورده من الأخبار والأشعار والظرائف واللطائف والمباحثات العلمية والاستفادة فيما لم يكن لديه منها وتحرير الأسئلة الحسنة، وقد كتب إلي من ذلك شيئا كثيرا، وأجبت عليه برسائل هي في مجموع رسائلي. توفي سنة 1230 هـ.
انظر: "نيل الوطر" (2/ 125 - 126 رقم 331). "البدر الطالع" (1/ 433).
(3) أخرجه أحمد (5/ 136) والترمذي رقم (2457) والحاكم (2/ 421 و513) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو حديث حسن.(4/2019)
الدعاء؟ هذا حاصل السؤال.
وأقول: الصلاة في اللغة (1) الدعاء كما حقق ذلك جماعة من الأئمة المعتبرين، وفي الشرع ذات الأركان والأذكار، وقد ذكر العلامة جار الله في كشافه (2) ما يشعر بملاحظة المعنى الشرعي عند أهل اللغة، فقال [3]: إنها تعني الصلاة مأخوذة من تحريك الصلوين وهي الشهادتان.
قال النووي في شرح مسلم (3): اختلف العلماء في أصل الصلاة، فقيل: هي الدعاء؛ لاشتمالها عليه، وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم، وقيل: لأنها تالية لشهادة التوحيد كالمصلي من السابق في خيل الحلية. وقيل: هي من الصلوين، وهما عرقان مع الردف. وقيل: هما عظمان [ينحنيان في الركوع والسجود، قالوا: ولهذا كتبت الصلوة بالواو في المصحف] (4). وقيل: هي من الرحمة. وقيل: أصلها الإقبال على الشيء. وقيل غير ذلك. انتهى.
وقد تقرر في الأصول (5) أنها تقدم الحقيقة (6) الشرعية (7) فالعرفية (8) ....................
_________
(1) انظر "الصحاح" (6/ 2402). و"لسان العرب" (7/ 397).
(2) (1/ 155).
(3) (4/ 75).
(4) زيادة من "شرح مسلم للنووي" (4/ 75).
(5) انظر "الكوكب المنير" (1/ 149) "الإبهاج" (1/ 275).
(6) قيل من الحق في اللغة: وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي اصطلاح أهل المعاني هو الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل.
وقيل: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له. وقيل من حق الشيء بمعنى ثبت. والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية.
انظر: "التعريفات" (ص94) "الإبهاج" (1/ 271).
(7) هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع.
(8) هي اللفظة المنتقلة عن معناها إلى غيره بعرف الاستعمال العام أو الخاص، فالعامة: هي أن يختص تخصيصها بطائفة دون أخرى (كدابة) فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر وغيره، ثم هجر الوضع الأول وصارت في العرف حقيقة (للفرس) ولكل ذات حافر. وكذا شاع استعماله في غير موضوعه اللغوي، كالغائط والعذرة والراوية، فإن حقيقة الغائط: المطمئن من الأرض، والعذرة: فناء الدار، والراوية: الجمل الذي يستقى عليه بالماء.
والخاصة: هي ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم، كمبتدأ وخبر وفاعل ومفعول ونعت وتوكيد. في اصطلاح النحاة. ونقض وكسر وقلب في اصطلاح الأصوليين، وغير ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن.
انظر: "الكوكب المنير" (1/ 150) و"التحصيل" (1/ 224).(4/2020)
فاللغوية، فلو فرضنا تجرد الصلاة المذكورة في الحديث عن القرائن كان المتعين حملها على الصلاة الشرعية التي هي ذات الأذكار والأركان، ولكنها قد اقترنت في الحديث بما يوجب صرف معناها إلى المدلول اللغوي، وبيانه أن لفظ الحديث على ما ساقه العامري في آخر البهجة عن الترمذي (1) وغيره، من طريق أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إذا ذهب ربع الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه"، فقال أبي بن كعب: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: "ما شئت"، قال: الربع، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك"، قال: يا رسول الله، الثلث؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك" قال: النصف، قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير لك" قال: يا رسول الله، فأجعل صلاتي كلها لك؟ قال: "إذن تكفى همك، ويغفر ذنبك" انتهى.
ففي الحديث قرينتان [مشعرتان بأن المراد بالصلاة المذكورة الصلاة اللغوية أعني الدعاء لا الشرعية] (2).
_________
(1) في "السنن" (4/ 636 - 637 رقم 2457).
(2) زيادة من (أ).(4/2021)
القرينة الأولى: أن أول الحديث في الترغيب، والإكثار من الذكر، فينبغي أن يكون مراد أبي بالصلاة المذكورة بعد ذلك الصلاة الذكرية اللغوية، ليكون سؤاله مطابقا لما سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بصدده، ويبعد كل البعد أن يريد بسؤاله الصلاة الشرعية، التي هي ذات الأركان، وهو عربي اللسان، عارف بمخالفة ما جاء به سياق الكلام. ومن تتبع كلام العرب، وعرف كيفية محاوراتهم، علم أنهم يراعون في أكاليمهم السياق، ويحرصون على مطابقته، ولا يخرجون عنه إلى غيره.
القرينة الثانية: قوله: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك. فإن المجيء بلفظ: على، بعد الصلاة من أعظم المشعرات بأن مراده بالصلاة الصلاة الذكرية، لا الشرعية؛ لأنه لو أراد الشرعية التي هي ذات الأركان لقال: إني أكثر الصلاة لك؛ فهاتان قرينتان من نفس الحديث.
القرينة الثالثة: ما أخرجه الحافظ أحمد بن معد التجيبي في الأربعين له، في فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنه قال: وإن جعلت الصلاة على نبيك معظم عبادتك، فقد كفاك الله دنياك وآخرتك، ثم أتى بالحديث [4]، فإن قوله: وإن جعلت الصلاة إلخ ... مشعر بأنها الصلاة الذكرية، ولو أراد الركنية لقال: وإن جعلت الصلاة لنبيك .. إلخ.
القرينة الرابعة: أن الصلوات الخمس المفترضة أوجبها الله تعالى على كل فرد من أفراد العباد، فمن جعلها لغيره لم يؤد ما افترض الله عليه، فلا يجوز جعلها للخير، فتقرر من هذا أن المراد بالصلاة المذكورة في الحديث هي الذكرية، أعني: الدعاء.
والظاهر أن المراد كل الأدعية؛ لأن لفظ صلاتي مصدر (1) مضاف، وهو من صيغ العموم، فكأنه قال: أجعل كل دعاء أردت أن أدعو به لنفسي لك، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إذن تكفى همك .. إلخ".
_________
(1) انظر "اللمع" (ص 15)، "الكوكب المنير" (3/ 136).(4/2022)
أي إذا جعلت مكان الدعاء لنفسك الدعاء لي حصلت لك المغفرة، وكفاية المهمات. وقد ورد في الحديث القدسي: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" (1) ولا شك أن الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مشتملة على ذكر الله، وذكر رسوله؛ فهي أفضل الأذكار.
_________
(1) أخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (572) من حديث عمر بن الخطاب ورقم (573) من حديث جابر بن عبد الله ورقم (574) من حديث مالك بن الحارث.
وأخرجه الترمذي رقم (2926) وقال: هذا حديث حسن غريب. من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه".
وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (1335).(4/2023)
السؤال الثاني: قال - حفظه الله -: هل يكون السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقرونا بكل صلاة تلفظ بها، فإذا صلى المصلي عشرا سلم عشرا، مقترنا بها كل سلام مع كل صلاة، ويكون السلام بعد كمال الصلاة، فإذا صلى مثلا ألفا ثم قال بعدها: إما بلا فصل، أو مع تراخ: السلام عليك أيها النبي الكريم .. إلخ، فقد أجزأه، وفعل ما كفاه. انتهى.
أقول: ينبغي للمصلي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل السلام مقترنا بالصلاة كما علمنا الله تعالى بقوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (1) فلا يحسن إفراد الصلاة عن السلام، كما لا يحسن العكس.
ومن الإفراد أن تأتي بلفظ الصلاة، وتكررها مرات، ثم تأتي بعد ذلك بلفظ السلام مرة، أو مرات، أو بالعكس. وأما تقديم الصلاة على السلام، أو العكس، فليس في القرآن ما يقتضي ذلك، لما تقرر عند أئمة النحو وغيرهم من أن الواو لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا معية، ولكنه يستفاد تقديم الصلاة على السلام من غير الآية؛ فإن من تتبع ما ورد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من ذلك وجده في جميع المواطن بتقديم الصلاة على السلام، إلا في صلاة الصلاة، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - اقتصر في ذلك على تعليمهم كيفية الصلاة ثم قال: والسلام كما علمتم؛ لأنهم قد كانوا عرفوا كيفية السلام عليه قبل أن يعرفوا كيفية الصلاة عليه، كما يشعر بذلك ما أخرجه أحمد (2)، والبخاري (3)، ومسلم (4)، وأبو داود (5) ............................
_________
(1) [الأحزاب: 56].
(2) في "المسند" رقم (4/ 241).
(3) في صحيحه رقم (6357).
(4) في صحيحه رقم (66/ 406).
(5) في "السنن" رقم (976 و977).(4/2024)
والنسائي (1)، وابن ماجه (2) عن [كعب بن عجرة] (3) قال: قلنا: يا رسول الله، قد علمنا، أو عرفنا كيف السلام عليك، فكيف الصلاة ... الحديث.
وأما لفظ الصلاة والسلام فينبغي أن يكون [5] في المواطن الواردة عنه (4) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، على صفة من الصفات على تلك الصفة بلا زيادة ولا نقصان، لأن تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأمته أن تكون الصلاة بلفظ، كذا حكمه حكم البيان، لما في القرآن، ولكنه إذا كان البيان مختصا بموضع خاص كانت تلك الصفة مختصة بذلك الموضع، وما لم ترد فيه صفة خاصة فتأدية المشروع تحصل بامتثال ما في القرآن من نحو: اللهم صل وسلم على محمد، أو صلى الله على محمد وسلم، أو نحو ذلك.
_________
(1) في "السنن" رقم (3/ 48) وفي "عمل اليوم والليلة". رقم (54).
(2) في "السنن" رقم (904).
(3) في المخطوط (ب) أبي بن كعب، والصواب ما أثبتناه من (أ).
(4) في حاشية المخطوط (أ) ما نصه: تحقيق ما ظهر، وكلام المجيب - أحسن الله جزاءه - في قوله أن تكون في المواطن إلخ، مثل الصلاة المشروعة ذات الأذكار والأركان، ومثل الصلاة في دعاء الصباح والمساء. وفي مثل الخطب، وصلاة الجنازة، ونحو ذلك؛ فهذا تكون الصلاة بلفظ أحد ما ورد عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مقترنا بها.
وقوله: - دامت إفادته - وما لم ترد فيه صفة خاصة إلخ مثل الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في غير المواطن التي ذكرت كفي سائر اليوم مثلا، وسائر الأوقات إذا قال العبد: اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آل محمد، فقد أتى بمشروع، وامتثل لما ورد في الذكر الحكيم، والحمد لله رب العالمين على الوقوف ما كان. حاكا في النفس من عين صافية.
أفادها هذا الجواب كما أفاد في غضونه جميع ما أراده السائل - وفقه الله - بتبيين شاف كاف مبين بالأدلة، والمآخذ الصحيحة الواضحة الحقيقة كما تظهر لمن تأمل، وما اشتمل لفظ الجواب ومفهوماته على ما يغني عن هذا، لكني رقمته لينطبع في خاطري إن شاء الله، وزيادة إيضاح لمثلي، وإلا فقد كفا جواب المجيب - أثابه الله -، وزاد في فوائده، ورزق السائل والمسئول خلوص النية، وصلاح الطوية، والتوفيق، وحسن الختام. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله الأعلام. من رقم السائل.(4/2025)
وينبغي أن يضم إلى ذلك الآل لورود الصلاة عليهم في السنة متصلة بالصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في أحاديث كثيرة، منها ما هو مقيد بالصلاة، ومنها ما هو مطلق، وإذا ثبت في موضع من المواضع إفراد الصلاة عن السلام، أو العكس، أو حذف الصلاة على الآل، فالأحسن أن لا تفرد الصلاة على السلام، ولا يفردهما عن الآل، لأن الموضع الخاص الذي ورد فيه ذكر الصلاة فقط، أو السلام فقط، أو ذكرهما بدون الآل ليس فيه ما يدل على كراهة الزيادة، لأن مجرد الاقتصار على بعض ما ورد لا ينافي الإتيان بجميع الوارد. لأن الإتيان بجميع الوارد إتيان بالبعض منه وزيادة، ولا سيما إذا كانت الأحاديث خارجة من مخرج واحد، فإنه ينبغي ملاحظة الزيادة المقبولة التي لا تنافي الأصل، وضمها إليه كما تقرر في علم الأصول، ولا يكون ذكر الأصل بدونها مستلزما لعدم اعتبارها، وأيضا قد تقرر في الأصول (1) أن بعض الأحاديث إذا ورد مطلقا، وورد البعض الآخر مقيدا توجب العمل بالمقيد بشروط معروفة.
ولا شك أن الأحاديث المقيدة بالسلام، أو بذكر الآل بالنسبة إلى الأحاديث الخالية عنهما، أو عن أحدها، حكم المقيد بالنسبة إلى المطلق، ولكن بشرط أن لا تكون تلك الزيادة وذلك القيد مختصين بموضع مخصوص لا ينبغي مجاوزته إلى غيره، وبشرط أن يتحد المطلق والمقيد حكما وسببا، أو حكما (2) فقط، أو سببا فقط على حسب الخلاف المبسوط في الأصول (3)، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال الثالث، أعني: قول السائل - حفظه الله - أن من جملة الألفاظ الواردة عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، فهل تجزئ المصلي إذا وسط التسليم؟ فقال:
_________
(1) انظر "الكوكب المنير" (4/ 675) "تيسير التحرير" (3/ 158).
(2) في هذه الحالة يحمل المطلق على المقيد إذا اتحد الحكم والسبب وكان الحكم مثبتا. انظر "كشف الأسرار" (2/ 287) "الكوكب المنير" (3/ 397).
(3) انظر "اللمع" (ص 24)، "التبصرة" (ص 216). "نهاية السول" (2/ 141).(4/2026)
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد .. إلخ.
فإن قلت: الأحاديث الواردة بذكر الآل مقيدة بالصلاة كما في حديث أبي مسعود؛ فإنه ثبت عنه من طريق ابن حبان (1)، والحاكم (2)، والبيهقي (3)، وابن خزيمة (4)، وصححوه بزيادة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ وفي رواية: كيف نصلي عليك في صلاتنا؟ وهذه الزيادة تدل على أن التعبد بالصلاة على الآل إنما ورد [6] في الصلاة فقط، فلا يصح تقييد الأحاديث المطلقة بذلك لما قدمنا من أن المقيد وما فيه الزيادة إذا كانا مقيدين بموضع خاص لم يعمل بالقيد والزيادة في غير ذلك الموضع.
قلت: تقييد حديث ابن مسعود بالصلاة لا يدل على تقييد الأحاديث الواردة بمشروعية الصلاة على الآل مطلقا؛ وذلك كحديث أبي هريرة عند أبي داود (5) عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بلفظ: "من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
وأخرجه النسائي (6) عن علي - عليه السلام - بهذا اللفظ، ولا شك أن تقييد هذين
_________
(1) في صحيحه رقم (515 - موارد).
(2) في المستدرك (1/ 268).
(3) في "السنن الكبرى" رقم (2/ 146 - 147، 338).
(4) في صحيحه رقم (711). وهو حديث حسن.
(5) في "السنن" رقم (982). قلت: وأخرجه البخاري في "تاريخه" (3/ 87) والبيهقي في "السنن" رقم (2/ 151). وهو حديث ضعيف.
(6) عزاه إليه المزي في "تهذيب الكمال" (5/ 348): وقال قبله: روى له النسائي في "مسند علي" حديثا واحدا معللا.(4/2027)
الحديثين، وأمثالهما بالصلاة في الصلاة لأجل تلك الزيادة الواردة في حديث أبي مسعود في غاية البعد، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد جعل هذه الصلاة سببا للاكتيال بالمكيال الأوفى، وذلك مطلوب في جميع الأوقات، وتقييده بوقت الصلاة غير مناسب لذلك، ومخالف لما تقرر في الأصول (1) من الشروط المعتبرة في حمل المطلق على المقيد.
فإن قلت: ألفاظ الصلاة الواردة في الأحاديث الصحيحة مطلقا في الصلاة وغيرها، إذا أراد المصلي أن يأتي بجميع الألفاظ الواردة، هل يمكنه ذلك؟.
قلت: نعم يمكن ذلك، قال النووي في شرح المهذب (2) ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه، وذريته كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
قال العراقي: بقي عليه مما في الأحاديث الصحيحة ألفاظ أخر، وهي خمسة، يجمعها قولك: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. انتهى.
وقد وردت زيادات غير هذه في أحاديث أخر عن علي - عليه السلام - وابن مسعود وغيرهما، ولكن فيها مقال، فلا ترد عليهما، لأنها إنما قصد جمع ألفاظ الأحاديث الصحيحة كما سلف.
_________
(1) انظر "الكوكب المنير" (3/ 401) "اللمع" (ص 24).
(2) في "المجموع" (3/ 448 - 452).(4/2028)
[السؤال الثالث] (1)
قال السائل - حفظه الله - حكم في الآل (2) في الصلاة المذكورة، في الصباح والمساء، هل هي كذلك بغير ذكر الآل في كل الروايات، أو في بعض؟ فإن كانت في البعض فما تحمل في البعض الآخر إلا على غفلة، أو سهو، أو تحامل، كما فعله أكثر المحدثين السابقين، وحذا حذوهم جماعة من اللاحقين إلى آخر كلامه، كثر الله فوائده [7].
أقول: الذي وقفت عليه من الألفاظ الصلاة على رسول الله في أدعية الصباح والمساء ليس فيه ذكر الصلاة على الآل في الكتب الحديثية، وقد عرفت مما سبق أن لفظ الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ورد في بعض الأحاديث غير مقيد بالسلام، وفي بعضها مقيدا به وورد بعض آخر غير معطوف عليه الصلاة على آل رسول الله. وفي بعض بعطف الصلاة على الآل على الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وقد قررناه فيما سبق أن العمل بالزيادة متوجه إذا كملت شروط قبولها، وهو مجمع على ذلك كما في الكتب الأصولية، فينبغي للمصلي في كل موضع أن يجمع بين (3) الصلاة والسلام، ويضم الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ليكون مؤديا لذلك على وجه أكمل، وفاعلا لهذه القربة
_________
(1) في المخطوط (أ، ب) الرابع والصواب ما أثبتناه.
(2) واختلف في آل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أربعة أقوال:
1 - فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة.
2 - أنهم ذريته، وأزواجه خاصة.
3 - أن آل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته وأتباعه إلى يوم القيامة.
4 - آله الأتقياء من أمته.
وقدم ابن القيم أدلة هذه الأقوال ثم قال: والصحيح القول الأول ويليه الثاني.
انظر: "جلاء الأفهام" (ص 316 - 335). "المجموع" (3/ 448).
(3) انظر "المجموع" (3/ 448).(4/2029)
العظيمة على طريق أتم. أما ذكر السلام فلتصريح القرآن به، وكذلك التصريح به في كثير من الأحاديث، وأما ذكر الآل فلوروده في عدة أحاديث. ولا شك، ولا ريب أن المصلي الصلاة الكاملة أكمل أجرا من المقتصر على البعض، لكونه ممتثلا بيقين، ومؤديا للبعض في ضمن الكل.
وحديث: "لا تصلوا علي الصلاة البتراء" (1) إن صح كان من الأدلة القاضية بمنع ترك الصلاة على آل رسول الله عند الصلاة عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد ثبوت تفسير الصلاة البتراء بالصلاة التي ترك فيها ذكر الآل.
ومن الأدلة على ذلك ما رواه الأمير الحسين في الشفا (2) عن علي - عليه السلام - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا صليتم علي فصلوا على آلي معي؛ فإن الله لا يقبل الصلاة علي إلا مع آلي".
وفي أمالي (3) أبي طالب قال: أخبرنا أبي - رحمه الله - قال: أخبرنا أبو القاسم حمزة العلوي العباسي قال: حدثني علي بن عبد الله بن سنان عن جعفر بن محمد، عن آبائه - عليهم السلام - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "ارفعوا (4) أصواتكم بالصلاة علي، وعلى أهل بيتي؛ فإنها تذهب النفاق".
وروى السهمودي في جواهر العقدين في فضل الشرفين من حديث علي عليه
_________
(1) وقد جزم الحفاظ بأنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انظر الكلام عليه وعلى ما ورد في معناه في تحقيقي "لنيل الأوطار" خلال شرح الحديث رقم (780).
(2) (1/ 281) بدون زمام ولا خطام.
(3) تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب (ص 281).
(4) في حاشية المخطوط (أ) ما نصه: سل مع صحة رواية رفع الأصوات بالصلاة، هل تكون عامة؛ فيدخل فيها الصلاة في الصلاة؟ إذا كان كذلك لم يحك عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الرفع بها في الصلاة، وقد حكوا كل حالاته حتى اضطراب لحيته، وجزئيات حركاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فيها قولا وفعلا عند تحرج السائل عافاه الله.(4/2030)
السلام، قال: الدعاء محجوب حتى يصلى على محمد وأهل بيته، قال: أخرجه الديلمي (1)، وفيه أيضًا عن أبي مسعود الأنصاري البدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى علي صلاة لم يصل فيها علي، وعلى أهل بيتي لم يقبل منه"، قال أخرجه الدارقطني (2)، والبيهقي (3) وغيرهما.
وقد اعتذر لأئمة الحديث في تركهم للصلاة على الآل عند الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأعذار أحسنها أنهم يجعلون الأحاديث المقيدة بالصلاة على الآل خاصة بالمواضع التي وردت فيها ويجعلون التقييد في غير تلك المواضع بمطلق الصلاة التي أمر الله بها في كتابه، ولكن قد عرفت أن الأولى أن يصلي على الآل في كل موضع يصلي فيه على رسول الله لما سلف (4). [انتهى من تحرير هذا البحث في نهاية يوم السبت من غرة شهر جمادى الآخرة سنة 1208 هـ كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما] (5).
[انتهى من تحرير مباحث المجيب حفظه الله، ومتع بحياته، وأدام للمسلمين والآل فائدته بحق محمد وآله وصحبه. وكان تحرير الإجابة في نهار السبت من غرة شهر جمادى الآخرة سنة 1208] (6).
_________
(1) في "الفردوس بمأثور الخطاب" (3/ 255 رقم 4754).
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (721) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 160) وقال: رجاله ثقات.
قلت: عبد الكريم الخزاز واهي الحديث ولم يوثقه أحد، وعد هذا الحديث من مناكيره. انظر: "لسان الميزان" (4/ 53). وخلاصة القول أن الحديث ضعيف.
(2) في "السنن" (1/ 355 رقم 6).
(3) في "السنن الكبرى" (2/ 379) وقال: تفرد به جابر الجعفي وهو ضعيف.
(4) انظر "شرح المنتقى" (2/ 72).
(5) زيادة من (أ).
(6) زيادة من (ب).(4/2031)
[هذه الأبيات كتبها (1) السائل لما اطلع على الجواب المذكور سابقا] (2):
هذا الجواب عن المسائل قد شفى ... قلبا من الإشكال كان على شفا
لا زلتُ بالإرشاد منك لكل ما ... أعيا ذوي الأنظار تأتي بالشفا
وجزيت عن تنقيحك المختار والتصحيح ... خيرا من حديث المصطفى
صلى عليه مسلما رب الورى ... والآل أرباب المعارف والوفا
[ثم ذكر حفظه الله تعالى:
فائدة: ذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين (3) ما لفظه: "وإذا كان الله تعالى لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب. وقد نص الله تعالى سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم، مع عظم ذنبهم؛ وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى، وقد روينا في سنن النسائي (4) من حديث سماك عن علقمة بن وائل، عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح، وهي تعمل بمكره على نفسها، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذو عدد، فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به، فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر. قال: فأتوا به نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأخبر أنه وقع عليها، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال
_________
(1) علي بن إسماعيل بن علي بن القاسم بن أحمد بن الإمام المتوكل على الله.
(2) زيادة من (ب).
(3) (3/ 8).
(4) في "السنن" رقم (4/ 56 رقم 1454). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (4379) وأحمد في المسند (6/ 399) والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 284، 285) من حديث علقمة بن وائل عن أبيه، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 75 رقم 1175) حسن دون قوله: "ارجموه" والأرجح أنه لم يرجم.(4/2032)
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: انطلقوا به فارجموه، فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة.
فقال: أما أنت فقد غفر لك، وقال للذي أغاثها قولا حسنا. فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لأنه قد تاب إلى الله تعالى. قال ابن القيم (1) وليس بحمد الله فيه إشكال؛ فإن قيل: كيف أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار؟ قيل: هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن، والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهو يشبه الحدود بالرائحة والقي كما اتفق عليه الصحابة، وإقامة حد الزنا، كما نص عليه عمر، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك أنه يقام الحد على المتهم إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربا، وقالت المرأة: هذا هو [الرجل] (2) الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنا منها، وأتى إليها، وادعى أنه كان مغيثا لا مريبا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة. واحتمال الغلط أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة المرأة هنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد، فنهاية الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعا، كما تقبل القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة، والأقارير، وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة أمرا لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا لأحكام، فالبينة لم تكن موجهة بذاتها للحد، وإنما
_________
(1) في أعلام الموقعين (3/ 9).
(2) زيادة من المخطوط (أ).(4/2033)
ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها، أو أقوى منها لم يلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونها دليلا كالبينة والإقرار.
وأما سقوط الحد عن المعترف، فإذا لم يتسع له نطاق عمر بن الخطاب فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم فقال: لأنه قد تاب إلى الله تعالى، وأبى أن يحده. ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله، وحده وإنقاذ الرجل المسلم من الهلاك، وتقويم حياة أخيه، واستسلامه للقتل أكثر من السيئة التي فعلها مقاومة هذا الدواء لذلك الداء.
وكانت القوة صالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة [لنا] (1) بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك. فأي حكم أحسن من هذا وأرشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق انتهى (2).
ولا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة في غاية البعد؛ فإن وجد أن الرائحة متنوعة من فم الشارب، مما لا يبقى معه شك ولا ارتياب أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما نحن فيه تلك المنزلة ويلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها، والجماعة الممسكون له لم يخبروا بغير وجدانهم له يشتد، ولم يكن هناك إلا مجرد الدعوى من المرأة مع أنها مقرة بأنها قد استغاثت برجل مر عليها قبل استغاثتها بالجماعة. وأبعد من ذلك جعل هذه القرينة مساوية لقرينة الحبل. وكل عاقل يعلم أن بين الواقعتين ما بين السماء والأرض؛ فإن من المقطوع به أن المرأة التي لا زوج لها لا تحبل إلا بعد زنا، هذا مما لا يشك فيه أحد.
وأما تنزيله للظن الحاصل بهذه القرينة منزلة الظن الحاصل من الشهادة، فمن الغرائب [10] التي يتعجب منها؛ فإن الله - جل جلاله - قد تعبدنا بالعمل بالظن
_________
(1) في المخطوط "إنا" وما أثبتناه من إعلام الموقعين (3/ 10).
(2) كلام ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 9 - 10).(4/2034)
الحاصل عن البينة، لأنه مستفاد من طريق شرعها الله لعباده، ولم يتعبدنا بالظن الحاصل من القرينة، ولو كان الأمر كذلك لكانت الطرق المثمرة للعمل غير منحصرة، بل كلما أفاد الظن كان معمولا به، وهذا خرق لإجماع المسلمين. وقد أرشد الله عباده إلى ترك العمل بالظنون، ونهاهم عن اتباعه كما في كتابه العزيز، وما عمل به من الظنون كأخبار الآحاد، والحكم بالشهادة واليمين، فلكون دليل العمل به مخصصا لذلك العموم، لأنا نقول: قد عارضه ما هو أرجح منه، وهو استثباته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحدود استثباتا زائدا على استثباته في غيرها، حتى إنه كان يعرض عن الرجل بعد أن يسمع منه الإقرار بالزنا مرة بعد مرة، ثم يقول له بعد ذلك: صنعت كذا وكذا، ويأتي بألفاظ تدل على الوقائع بدون كناية، كقوله لماعز (1): "أفنكتها؟ " قال: نعم، وكقوله: "حتى غاب ذاك منك في ذاك منها كما يغيب المرود في المكحلة، والرشا في البئر؟ " قال: نعم. وربما استثبت فسأله عن عقله، أو سأل قومه عن ذلك، كما في حديث ماعز (2) أنه قال له: "أبك جنون؟ " وقوله للسارق (3) "ما أخالك سرقت".
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (4428) والنسائي في "الكبرى" (4/ 276 - 277 رقم 7164/ 1) والدارقطني (3/ 196 رقم 339) من حديث أبي هريرة. وهو حديث ضعيف. انظر: "الضعيفة" رقم (2957).
قلت: ويغني عنه الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6824) من حديث ابن عباس وفيه: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت. فقال: لا يا رسول الله. قال: أفنكتها؟ لا يكني قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه". وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه البخاري رقم (6815 و6825) ومسلم رقم (16/ 1691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه أبو داود رقم (4380) وأحمد (5/ 293) والنسائي (8/ 67 رقم 4877) وابن ماجه رقم (2597) والدارمي (2/ 173) والبيهقي (8/ 276) من حديث أبي أمية المخزومي. وهو حديث ضعيف. انظر: "الإرواء" رقم (2426).(4/2035)
وقوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" (1) فإذا كانت الحدود بعد ثبوتها ثبوتا لا يرتاب فيه تدرأ بالشبهات، فكيف يجوز الحكم بها بمجرد الشبهة الواهية!.
وقد أجاب بعض المتأخرين، وهو السيد العلامة أحمد بن محمد بن إسحاق بن المهدي عن ذلك بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نزل سكوت الرجل الذي ادعت المرأة وقوعه عليها منزلة الإقرار، ويجاب عنه بأن الرجل مصرح في مقام الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بالإنكار، ومدع للإغاثة، كما وقع في حديث النسائي الذي تقدم ذكره.
وأما إشكال إسقاطه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للحد عن الرجل الذي اعترف بالزنا، وجواب ابن القيم عنه بما سلف.
فنقول: إذا كانت رواية النسائي كما ساقها في كلامه من أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أبى أن يقيم على الرجل الحد، فلا شك أنه مشكل وإن لم يقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بعد قول عمر إلا قوله: "لقد تاب توبة" .. إلخ، فليس فيه دلالة على أنه أسقط الحد، ولا يلزم من هذه العبارة عدم إقامة الحد، فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد قال مثلها لماعز (2)، وفي .................................
_________
(1) أخرجه ابن ماجه في "السنن" رقم (2545) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا". وهو حديث ضعيف.
وأخرجه الترمذي رقم (1424) والحاكم (4/ 384 - 385) والدارقطني (3/ 84 رقم 8) والبيهقي (8/ 238). من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". وهو حديث ضعيف.
وأخرجه البيهقي في "السنن" رقم (8/ 238) عن علي رضي الله عنه ولفظه: "ادرءوا الحدود بالشبهات". وهو حديث ضعيف.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (22/ 1695).(4/2036)
رواية (1) أنه قالها للمرأة الجهنية، وفي رواية (2) أنه قال لماعز: "والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" على أنه يعارض ما وقع في هذا الحديث على فرض أنه وقع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - التصريح بترك الرجم في سنن الترمذي (3) وصححه من حديث [11] علقمة بن وائل عن أبيه بلفظ: وقال للرجل الذي وقع عليها ارجموه، وقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم". فهذا صريح أنه أمر برجمه.
وعزا في جامع الأصول (4) هذه الرواية إلى أبي داود (5)، والترمذي (6)، ثم قال: وفي رواية للترمذي (7) قال: استكرهت امرأة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فدرأ عنها الحد، وأقامه على الذي أصابها .. انتهى.
وفي سنن أبي داود (8) أنهم قالوا للرجل الذي وقع عليها: "ارجمه"، وقال: "لقد تاب توبة" إلخ. وليس فيه أنه امتنع من رجمه، وذلك لا ينافي الأمر بالرجم كما عرفت، ومما يؤيد ما رواه الترمذي من الأمر بالرجم ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من التشديد في أمر الحد، والزجر عن إسقاطه، والشفاعة فيه، حتى قال لأسامة لما شفع في
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (23/ 1695).
(2) أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (4428) من حديث أبي هريرة. وهو حديث ضعيف. انظر "الإرواء" رقم (2354).
(3) (4/ 56 رقم 1454). وقال الألباني في "صحيح الترمذي" (2/ 75 رقم 1175) حسن دون قوله: "ارجموه" والأرجح أنه لم يرجم.
(4) (3/ 504 - 505 رقم 1832).
(5) في "السنن" رقم (4379) وقد تقدم وهو حديث حسن دون قوله: "ارجموه".
(6) (4/ 56 رقم 1454). وقال الألباني في "صحيح الترمذي" (2/ 75 رقم 1175) حسن دون قوله: "ارجموه" والأرجح أنه لم يرجم.
(7) في "السنن" رقم (4/ 55 رقم 1453) وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل. وهو من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه. وهو حديث ضعيف.
(8) في "السنن" رقم (4379) وقد تقدم وهو حديث حسن دون قوله "ارجموه".(4/2037)
المرأة المخزومية التي سرقت: "أتشفع في حد من حدود الله! " ثم قام فاختطب فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" أخرجه الجماعة (1) كلهم من حديث عائشة.
وأخرج أبو داود (2) والنسائي (3) من حديث عائشة قالت: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" وفي إسناده عبد الملك بن زيد العدوي، ويشهد له حديث ابن عمر (4) وابن مسعود (5) بنحوه، كما ذكر ذلك الحافظ في التلخيص (6).
فإن قلت: سلمنا أنه ما أمر به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من الحد لذلك الرجل الذي تبينت براءته مرجوح، وكذلك إسقاطه للحد على فرض ثبوت ما يدل عليه، ولكن علام تحمل ما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؟
قلت: قد تقرر في ..................................
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6788) ومسلم رقم (8/ 1688 و10/ 1688) وأبو داود رقم (4373) والترمذي رقم (1430) والنسائي (8/ 73 - 74) وأحمد (6/ 162) وابن ماجه رقم (2547).
(2) في "السنن" رقم (4375).
(3) في "السنن الكبرى" (4/ 310 رقم 7294/ 2). قلت: وأخرجه أحمد (6/ 181) والطحاوي في "مشكل الآثار" (3/ 129). وهو حديث صحيح.
(4) رواه أبو محمد بن حزم في كتاب "الإيصال" من حديث عمر موقوفا عليه بإسناد صحيح. قاله ابن حجر في "التلخيص" (4/ 56).
(5) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 85 - 86) بلفظ: "أقيلوا ذوي الهيئة زلاتهم".
(6) (4/ 56) لابن حجر.(4/2038)
الأصول (1) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد، ولكنه لا يقر عليه، ولا مانع من أن يكون هذا منه ويحمل على أن كان العمل بمجرد القرينة في الحدود، وإسقاطها عن التائب جائزا ثم نسخ بما ورد من التحري فيها، والمبالغة في الاستفصال، وعدم جواز إثباتها إلا بالإقرار أو الشهادة، وبما ورد من الزجر عن إسقاط الحدود بدون سبب يجوز الإسقاط (2).
_________
(1) انظر: "اللمع" (ص 76)، "التبصرة" (ص524)، "تيسير التحرير" (4/ 190).
القول الأول: على جواز الخطأ إلا أنه لا يقر عليه واختار هذا ابن الحاجب والآمدي ونقله عن أكثر أصحاب الشافعي والحنابلة وأصحاب الحديث. انظر: "المسودة" (ص 509) و"اللمع" (ص 76).
القول الثاني: ومنع قوم جواز الخطأ عليه لعصمة منصب النبوة عن الخطأ في الاجتهاد. وهو اختيار ابن السبكي والحليمي والرازي والبيضاوي والشيعة، وانظر أدلة هذا القول ومناقشتها في "المسودة" (ص 510) "الإحكام" للآمدي (4/ 216).
(2) قال ابن قدامة في المغني (12/ 484 - 485): وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين، وأصلح، ففيه روايتان:
إحداهما: يسقط عنه لقوله تعالى: (والذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) [النساء: 16].
وذكر حد السارق، ثم قال: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) [المائدة: 39].
وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". أخرجه ابن ماجه رقم (4250) من حديث أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه وهو حديث حسن.
ومن لا ذنب له لا حد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" أخرجه أبو داود رقم (4420) من حديث جابر وهو حديث حسن. ولأنه حق خالص لله تعالى. فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
والرواية الثانية: لا يسقط وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، لقول الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [النور: 2]. وهذا عام في التائب وغيره، وقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38]. ولأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا والغامدية، وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد، وقد سمى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: "لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم" تقدم تخريجه، وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني سرقت جملا لبني فلان، فطهرني.
وقد أقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحد عليهم، ولأن الحد كفارة، فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولأنه مقدور عليه، فلم يسقط عنه الحد بالتوبة، كالمحارب بعد القدرة عليه، فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة، أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا، لأنها توبة مسقطة للحد، فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه.
والثاني: يعتبر إصلاح العمل، لقول الله تعالى: (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) [النساء: 16].
وقال سبحانه وتعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) [المائدة: 39].
فعلى هذا القول، يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة.(4/2039)
وإذا عرفت هذا استرحت من الإشكالات التي يوردها الناس على حديث وائل المذكور، وهي كثيرة وأشدها ما سلف.
انتهى من تحرير المجيب جامعه قرة عين المسلمين عز الإسلام والدين محمد بن علي الشوكاني، غفر الله لهما، وأقام به الدين، إنه حليم كريم. حرره - حفظه الله - في شهر القعدة سنة 1208 هـ] (1).
_________
(1) زيادة من (ب).(4/2040)
تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام
تأليف العلامة
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن
على صفحة المجلد ما نصه:
(الحمد لله:
هذا المجلد هو أحد المجلدات التي سميتها "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" غفر الله له) وقد كملت خمسة مجلدات، جزى الله مؤلفه عن المسلمين خيرا وأسكنه بحبوحة جنانه وتغشاه بواسع رضوانه.(4/2041)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: "تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام".
2 - موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبعد حمد الله حق حمده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنه وصل سؤال على أحسن منوال من سيدي العلامة صفي الإسلام نبراس الآل الكرام أحمد بن يوسف زبارة ثبت الله إيراده.
4 - آخر الرسالة: قال في "الأم" التي بخط مؤلفها حفظه الله وكثر فوائده، ما لفظه: وكان الفراغ من تحريره في نهار الجمعة، لعله تاسع عشر من محرم الحرام سنة خمس عشرة ومائتين وألف هجرية، انتهى والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وكان الفراغ من فعله صبح يوم الخميس شهر صفر سنة سبع عشرة ومائتين وألف هجرية بقلم إبراهيم بن عبد الله الحوثي ...
بلغ قراءة ومقابلة على نسخة منقولة من خط المؤلف عافاه الله شهر صفر سنة 1343 حرره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (29) صفحة مع صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر: (22) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.
9 - الناسخ: إبراهيم بن عبد الله الحوثي.
10 - الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(4/2043)
[صفحة عنوان المخطوط](4/2044)
[الصفحة الأولى من المخطوط](4/2045)
[الصفحة ما قبل الأخيرة من المخطوط](4/2046)
[الصفحة الأخيرة من المخطوط](4/2047)
[السؤال]
بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد حمد الله حق حمده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنه وصل سؤال على أحسن منوال من سيدي العلامة صفي الإسلام، نبراس الآل الكرام، أحمد بن يوسف زبارة (1) - ثبت الله إيراده وإصداره - إلى الحقير إلى رحمة القدير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله ذنوبه، وستر عن عيون الناس عيوبه - مضمونه الاستفهام عن معنى ما في حديث النعمان بن بشير مرفوعًا بلفظ: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات) (2).
قال - كثر الله فوائده - ما لفظه: هل المراد بالحلال والحرام والشبهة فيما يتعلق
_________
(1) هو أحمد بن يوسف بن الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الحسين بن علي زبارة. نسبة إلى محل يقال له: (زبار) في بلاد خولان، ولد سنة 1166 هـ، أو في التي بعدها، وقرأ على مشايخ صنعاء.
قال الشوكاني في البدر الطالع (1/ 130 - 131): وحضر في قراءة الطلبة علي في شرحي للمنتقى، وطلب مني إجازته له، وقد كنت في أيام الصغر حضرت عنده وهو يقرأ في شرح الفاكهي للملحة. وهو أكبر مني، فإنه كان إذ ذاك في نحو ثلاثين سنة، وهو حسن المحاضرة، جميل المروءة، كثير التواضع. توفي سنة 1252 هـ. وانظر: "نيل الوطر" (1/ 249).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) بلفظ: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
وقد روي الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وجابر الأنصاري، وابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن بن علي، وأبي الدرداء، ووابصة بن معبد، وواثلة، وغيرهم. وحديث النعمان أصح حديث في الباب وأتم.(4/2049)
بأفعال الآدميين وسائر ما يباشرونه من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به [من] الإنشاءات والمعاملات. وما المراد بالاتقاء للشبهة في ذلك؟ وما تمثيله؟ فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام بالقرب من بلده، فترك جميع المأكول من اللحم والحب، وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة؟ وقد مقت عليه كثير من علماء عصره. ذكره ابن القيم أو معناه في الكلم الطيب، ومثلا لو علم أن له في صنعاء محرما، أو رضيعة، فنقول: لا يجوز له الإقدام إلى تزوج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه؟ أو يكون تمثيل اتقاء الشبهة بأنه لا يقدم على الفعل المباح، أو المندوب خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور، كلو ترك التزوج بزايد على الواحدة خوفا من الميل عن أحد الضرتين، لأنه لا يأمن على نفسه تعدي الحمى الوارد في متن الحديث: (ألا وإن حمى الله محارمه). فنقول: على هذا ينبغي عدم التزوج بزايد على الواحدة، لا سيما [2] مع ورود الدليل القرآني بقوله تعالى، قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} الآية (1) أو يكون اتقاء الشبهات عاما في الأفعال والاعتقادات والعبادات، كعدم تفسير المتشابه مثلا، ورده إلى المحكم خوفا من الدخول في شبهة من فسر القرآن برأيه الوارد النهي (2) عنه، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها مما يتعلق بأفعال المكلفين (3) من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق، أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات، وكعدم
_________
(1) [النساء: 129].
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي برقم (5952) وقال: حديث غريب. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ". وهو حديث ضعيف.
(3) انظر الرسالة رقم (1)، (2) من القسم الأول العقيدة.(4/2050)
سجود التلاوة في الصلاة، حيث يقول مثلا الشافعي: "سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للتلاوة في صلاة الفجر" (1). فيقول المخالف له: زيادة على القطعي، وهي لا
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (1078) ومسلم رقم (110/ 578) من حديث أبي رافع، قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: (إذا السماء انشقت) [الانشقاق: 1] فسجد فقلت: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
قال ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 516 وما بعدها) فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب.
وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب، وسبب الخلاف: اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود، والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) [مريم: 58].
هل هي محمولة على الوجوب أم على الندب؟ فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة، فنزل وسجد الناس، فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها، تهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلا أن نشاء، قالوا: وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة.
وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال: "كنت أقرأ القرآن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقرأت سورة الحج، فلم يسجد ولم نسجد".
أخرجه البخاري رقم (1072 و1073) ومسلم رقم (106/ 577) وأبو داود رقم (1404) والترمذي رقم (576) والنسائي (2/ 160) والدارقطني (1/ 410 رقم 15) والبيهقي (2/ 320 - 321).
وكذلك أيضًا يحتج لهؤلاء بما روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لم يسجد في المفصل" أخرجه أبو داود رقم (1403) من حديث ابن عباس، وهو حديث ضعيف.
وبما روي أنه سجد فيها، لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي ألا يكون السجود واجبا، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى، من قال: إنه سجد، ومن قال: إنه لم يسجد.
وأما أبو حنيفة: فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب، والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر، وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة، أعني: قراءة آية السجود.
قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة، لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود.
ولأبي حنيفة أن يقول: قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر، وذلك في أكثر المواضع، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة - أعني: عند التلاوة - وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود، كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخرى، وأيضا فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سجد فيها، فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها - أعني أنه عند التلاوة - فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه" اهـ.(4/2051)
تقبل إلا بدليل قطعي كحكم النقصان مع المقطوع به، فإنه لم ينقص عنه إلا بدليل قطعي، كقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (1).
فهل هذا الذي يقول بعدمه ممن اتقى الشبهة أم لا؟ وهل يدخل في ذلك المقلد بتقليد إمامه، لأنه مثلا قد اتقى الشبهة بسنية السجود أو عدمه؟ أم هو باق فيمن لم يتق هذه الشبهة؟ وهل يجوز مثلا مع تضييق الحادثة كتركة رجل لا تكفي (2) إلا دينه أو تكفينه؟ فماذا يصنع مثلا من لم يرجح تقديم الكفن على الدين، كونه كالمستثنى له من حال حياته؟ أو تقديم قضاء الدين على الكفن بتقديم الدليل العقلي على قول من يقول به، لأنه لا تضرر من الميت في تلك الحال، بخلاف صاحب الدين فالتضرر [3] معه حاصل، فكيف يجوز اتقاء الشبهة مع تضييق الحادثة! والاتقاء يؤدي إلى حرمان الميت وأهل الدين جميعا، وكلو خشي فوت الجماعة، وحصل له مدافعة الأخبثين، أو الريح، وكاستعمال الماء مع
_________
(1) [النساء: 101].
(2) سيأتي توضيح ذلك.(4/2052)
خروج الوقت، أو التيمم وإدراك الصلاة في الوقت؟ فنقول لا يبرأ عن الشبهة إلا من صلى صلاتين: واحدة بالتيمم، والأخرى بعد خروج الوقت بالوضوء، كقول المرتضى أو الناصر: وكامرأة خطبها معيب بما يفسخ به عالم ورع، وصحيح جاهل فاسق، فنقول بترك الكل أم يكون الخروج من الشبهة بتزويج المعيب أو الصحيح الموصوفين، بما ذكر؟ فهذه أطراف ذكرتها لكم على جهة التنبيه، وكيف يكون الحكم فيما هذا حاله؟ وما هو المشتبه فيها وما لا؟ ومثل المسألة التي نحن بصددها في الحدود المحدودة بين القبائل، وشجار الزكوات والحرفة والمعاش. هل يكون الإجمال في ذلك والوصف للواقع من دون جزم بأن هذا الوجه الشرعي اتقاء للحرام أو الشبهة؟ أم يكون الإجمال في ذلك ليس اتقاء (1)؟
فأفضلوا بالإفادة في ذلك، ومن أفضالكم إذا ثم بحث في ذلك غير ما أشكل على المسترشد أفضلتم بإدخاله في الجواب، فليس المراد إلا طلب الفائدة ... انتهى.
_________
(1) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 287 - 290).(4/2053)
[الجواب]
وأقول: الجواب بمعونة الملك الوهاب يشتمل على أبحاث:
الأول: لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما عن النعمان بن بشير أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله تعالى، من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [4] " يواقعه.
وفي لفظ للبخاري (1) "لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (2) "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام". وفي لفظ لابن حبان (3) "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه".
وللحديث ألفاظ كثيرة، ولم يثبت في الصحيح إلا من حديث النعمان بن بشير فقط، وقد ثبت في غير الصحيح من حديث عمار (4)، وابن عمر (5) عند الطبراني في
_________
(1) في صحيحه رقم (52).
(2) في "السنن" رقم (1205).
(3) في صحيحه رقم (5569).
(4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (1756). وأورده الهيثمي في "المجمع" في موضعين (4/ 293) وقال: رواه أبو يعلى - في مسنده رقم (1653) - وفيه موسى بن عبيدة، وهو متروك.
وأورده الهيثمي في "المجمع" (4/ 73) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.
بلفظ: "إن الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات، من توقاهن كن وقاء لدينه، ومن توقع فيهن أوشك أن يواقع الكبائر، كمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى".
(5) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (2889) عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما شبهات، فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالمرتع حول الحمى، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر". ورواه الطبراني عن ابن عمر كذلك في "الصغير" (1/ 19): بلفظ: "الحلال بين، والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك".
وأشار الزيلعي في نصب الراية (2/ 472) إلى ضعفه. وذكر هذا الحديث ابن أبي حاتم في كتابه "العلل" رقم (1887) عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحلال بين والحرام بين".
قال أبي: ثم كتب إلينا أحمد بن شبيب عن سعيد، اجعلوا هذا الحديث عن عبد الله بن عمر.(4/2054)
الأوسط. ومن حديث ابن عباس عنده في الكبير (1)، ومن حديث واثلة عند الأصفهاني في الترغيب (2)، وفي أسانيدها مقال. وقد ادعى أبو عمرو الداني (3) أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - غير النعمان بن بشير، وهو مردود (4) بما
_________
(1) أي للطبراني في "الكبير" رقم (10824). وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 294) وقال: وفيه "سابق الجزري" ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
عن ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهن فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه كمرتع إلى جنب حمى أوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله الحرام".
(2) (2/ 44 رقم 1118) وهو حديث ضعيف جدا. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 294) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني وفيه "عبيد الله بن القاسم". وهو متروك.
(3) هو عثمان بن سعيد بن عثمان، أبو عمرو الداني، يقال له: ابن الصيرفي من موالي بني أمية، أحد حفاظ الحديث، ومن الأئمة في علم القرآن وروايته وتفسيره.
انظر: "الأعلام" للزركلي (4/ 206).
(4) قال الحافظ في "الفتح" (1/ 126): فائدة: ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح، فمسلم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر، وعمار في "الأوسط" للطبراني، ومن حديث ابن عباس في "الكبير" له ومن حديث واثلة في "الترغيب" للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال، وادعى أيضًا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضًا خيثمة بن عبد الرحمن، عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطبراني، لكن مشهور عن الشعبي، رواه عنه جمع جم من الكوفيين ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عوف" اهـ.(4/2055)
تقدم ... ولعله يريد أنه لم يثبت في الصحيح إلا من طريقه كما سلف.
البحث الثاني: في ذكر كلام أهل العلم في تفسير الشبهات (1)، وبيان ما هو الراجح لدى المجيب - غفر الله له -. فقيل: إنها ما تعارضت فيه الأدلة وقيل: إنها ما اختلف فيه العلماء، وقيل: المراد بها قسم المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك، وقيل: هي المباح. ويؤيد الأول والثاني ما وقع في رواية للبخاري (2) بلفظ: "لا يعلمها كثير من الناس". وفي رواية للترمذي (3) "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام". ومفهوم قوله: "كثيرا" أن معرفة حكمها ممكن، لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون؛ فالشبهات على هذا في حق غيرهم.
وقد يقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين. ويؤيد الثالث والرابع ما وقع في رواية لابن حبان (4) بلفظ: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل استبرأ لعرضه ودينه".
فعلى هذين قد تضمن الحديث [5] تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء (5)، وهو تقسيم صحيح، لأن الشيء إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما. فالأول: الحلال البين. والثاني الحرام البين. والثالث: المشتبه لخفائه، فلا يدرى أحلال هو أم حرام؟.
وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه، لأنه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من
_________
(1) انظر "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 287).
(2) رقم (52).
(3) في "السنن" رقم (1205).
(4) في صحيحه رقم (5569).
(5) انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 385).(4/2056)
التبعة، وإن كان حلالا فقد استحق الأجر على الترك بهذا القصد (1).
_________
(1) قد أكثر العلماء من الكلام على تفسير المشتبهات، ونحن ننبهكم على أمثل طريقة، فاعلم أن الاشتباه هو الالتباس، وإنما يطلق في مقتضى هذه التسمية هاهنا على أمر ما أشبه أصلا ما، ولكنه مع هذا يشبه أصلا آخر يناقض الأصل الآخر، فكأنه كثرت أشباهه، وقيل: اشتبه بمعنى اختلط، حتى كأنه شيء واحد من شيئين مختلفين.
وإذا أحطت بهذا علما فيجب أن تطلب هذه الحقيقة، فنقول: قد تكون أصول الشرع المختلفة تتجاذب فرعا واحدا تجاذبا متساويا في حق بعض العلماء، ولا يمكنه تصور ترجيح ورده لبعض الأصول يوجب تحريمه، ورده لبعضها يوجب تحليله، فلا شك أن الأحواط تجنب هذا، ومن تجنبه وصف بالورع والتحفظ في الدين، وما أخذه من المسلمين بعيب فاعل هذا، بل المعلوم انتظار الألسنة بالثناء عليه والشهادة له بالورع إذا عرف بذلك.
وقد سئل مالك عن خنزير الماء فوقف فيه لما تعارضت الآي عنده فنظر إلى عموم قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة: 3]. فخاف أن يدخل في عموم فيحرم، ونظر إلى عموم قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه) [المائدة: 96]. وأمكن عنده أن يدخل في عموم هذه الآية فيحل، ولم تظهر له طرق الترجيح الواضحة في أن يقدم آية على آية، ووقف فيه، ومن هذا المعنى أن يعلم أصل الحكم ولكنه يلتبس وجود شرط الإباحة حتى يتردد بينه وبين شرط التحريم، وذلك أن الإنسان يحل له أن يأكل ملكه أما في معناه مما أبيح له تملكه، ويحرم عليه أكل ملك غيره وما في معناه.
وقد وجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمرة ساقطة فترك أكلها واعتل بأنه لولا أنه يخاف أن تكون صدقة لأكلها، فلما كانت الصدقة محرمة عليه وشك، هل حصل هذا التحريم في هذه التمرة تركها، ولحقت بالمشتبهات، وهذا إذا كان الاشتباه من جهة أصول الشرع بعد نظر صحيح فيها، أو في القسم الأخير الذي ذكرناه مع فقد أصول ترد إليها وعدم أمارات وظنون يعول عليها.
وأما إذا كان الأمر خلاف ذلك، فليس من الورع التوقف بل ربما خرج بعضه على ما يكره، وبيان تلك بالمثال: أن من أتى على ماء لم يجد سواه ليتوضأ منه فقال في نفسه: لعل نجاسة سقطت من قبل أن أرد عليه وامتنع من الطهارة به، فإن ذلك ليس بممدوح، وخارج عما وقع في الحديث، لأن الأصل طهارة الماء وعدم الطوارئ واستصحاب هذا كالعلم الذي يظن أنه لم يسقط منه شيء، مع أن هذه النكرة إذا أمر معها تكررت ولم يقف عند حد وأدى ذلك إلى انقطاع عن العبادات.
انظر مزيد من تفصيل ذلك "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 285 - 286).
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 127): "وحاصل ما فسر العلماء الشبهات أربعة أشياء:
أحدها: تعارض الأدلة.
ثانيها: اختلاف العلماء، وهي منتزعة من الأولى.
ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك.
رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم "خلاف الأولى" بأن يكون متساوي الطرفين، باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك، باعتبار أمر خارج.
قال النووي في "شرح مسلم" (11/ 208): "وأما الشبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلا، وقد يكون غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه". وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع - وفيه أربعة مذاهب:
الأصح: أنه لا يحكم بحل ولا حرمة، ولا إباحة ولا غيرها، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع.
والثاني: أن حكمها التحريم.
والثالث: الإباحة.
والرابع: التوقف. والله أعلم اهـ.(4/2057)
ونقل ابن المنير (1) عن بعض .......................................
_________
(1) هو أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار الجروي الجذامي الإسكندري، أبو العباس ناصر الدين قاضي الإسكندرية وعالمها، كان إماما بارعا في الفقه والأصلين والعربية، له الباع الطويل في علم التفسير والقراءات والنظر والبلاغة والإنشاء خطيبا مصقعا، وله شعر لطيف ولد سنة 620 هـ وتوفي سنة 683 هـ.
قال عز الدين بن عبد السلام: "ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها، ابن المنير بالإسكندرية، وابن دقيق العيد بقوص".
"طبقات المفسرين" للداودي (1/ 86). "معجم المفسرين" لعادل نويهض (1/ 66).(4/2058)
مشايخه (1). أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام. والمباح عقبة بينه و [بين] المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2) "والذي يظهر لي رجحان الأول - يعني أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة - ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه، ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه يصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي عنه بالجملة، أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم، أو يكون ذلك لستر فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب
_________
(1) هو القباري، قال الحافظ في "الفتح" (1/ 127): وقال ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه، أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. وهو منزع حسن، ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها، ولم يسق لفظها، فيها من الزيادة: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه".
(2) (1/ 127 - 128) حيث قال: "والذي لي رجحان الوجه الأول ... ، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه .. ".(4/2059)
لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه، ولهذا قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم" إلى آخر الحديث. انتهى ما ذكره الحافظ في الفتح (1).
ولا يخفى عليك أن تفسير المشتبهات بكل واحد من التفسيرين الأولين صحيح، لأنه يصدق على كل واحد [6] منهما أنه مشتبه، وبيانه: أن ما تعارضت فيه الأدلة، ولم يتميز للناظر فيها الراجح من المرجوح، لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين، لأن الأمر الذي تعارضت أدلته، وخفي راجحه من مرجوحه لم يتبين أمره بلا ريب؛ إذ المتبين هو ما لم يبق فيه إشكال، وما تعارضت أدلته فيه أعظم الإشكال، وهكذا ما اختلف فيه العلماء، لكن بالنسبة إلى المقلد، لأنه لا يعرف الحق والباطل، ويميز بينهما إلا بواسطة أقوال أهل العلم الذين يأخذ عنهم ويقلدهم، وليست له من الملكة العلمية ما يقتدر به على الوصول إلى دلائل المسائل، ومعرفة العالي منها والسافل. فإذا اختلف عالمان في شيء، فقال أحدهما: إنه حلال. وقال الآخر: إنه حرام، وكان كل واحد منهما بمحل من العلم يساوي الآخر في اعتقاد المقلد، فلا شك ولا ريب أن هذا الشيء الذي اختلف فيه هذان العالمان، فقال أحدهما: حلال، وقال الآخر: حرام؛ لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين بالنسبة إلى ذلك المقلد.
وكل شيء لا يصح أن يكون أحد هذين الأمرين لا ريب أنه من المشتبهات. فإن قلت: فماذا يصنع هذا المقلد عند هذا الاختلاف؟ إن قلت يتورع ويقف عند هذه الشبهة استلزم ذلك أن يترك أكثر الأحكام الشرعية، بل جميعها إلا القليل النادر؛ إذ أكثر المسائل الشرعية قد وقع الاختلاف فيها بين أهل العلم، فهذا يثبت هذا الحكم، وهذا ينفيه، وهذا يحلله، وهذا يحرمه؟.
قلت: ليس المراد بالوقوف عند الشبهات أن يترك القولين جميعا، بل المراد الأخذ بما
_________
(1) (1/ 128).(4/2060)
لا يعد حرجا عند القائلين كليهما. مثلا لو قال أحدهما: لحم الخيل (1) أو الضبع (2)
_________
(1) اختلف العلماء في حكم لحم الخيل إلى مجيز وإلى مانع، فالذين ذهبوا إلى جواز أكل لحم الخيل استدلوا بما يلي:
أخرج البخاري برقم (5520) ومسلم رقم (1941) من حديث جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل".
أخرج البخاري رقم (5510) ومسلم رقم (1942) من حديث أسماء - رضي الله عنها - قالت: "ذبحنا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرسا ونحن بالمدينة فأكلها".
قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2/ 518): "وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها محرمة، وذهب الشافعي، وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها".
استدل المحرمون بقوله تعالى في سورة النحل الآية (8): (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة).
قال ابن رشد على هذا الخلاف في "بداية المجتهد" (2/ 519): "وأما سبب اختلافهم في الخيل، فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر، فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب". وانظر: "فتح الباري" (9/ 649).
(2) اختلف العلماء بين مجيز ومحرم، أما المجيزون فقد استدلوا بما يلي:
أخرج أحمد (3/ 318، 322) والدارمي (2/ 74 - 75) والترمذي رقم (1791) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 200) وابن ماجه رقم (3236) والطحاوي في "شرح المعاني" (2/ 164) والبيهقي (9/ 318). وهو حديث صحيح.
عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، آكلها؟ قال: نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم".
وأما المحرمون فقد استدلوا بما أخرج البخاري رقم (5530) ومسلم رقم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكل كل ذي ناب من السباع، إن السباع محرمة".
قال الشافعي: وما زال الناس يأكلونها - أي الضبع - ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير. وحرمها الحنفية عملا بحديث أبي ثعلبة الخشني.
انظر: "سبل السلام" (7/ 291) و"بداية المجتهد" (2/ 514 - 515).(4/2061)
حلال، وقال [7] الآخر: لحم الخيل أو الضبع حرام، أو قال أحدهما: شراب النبيذ أو المثلث (1) حلال، وقال الآخر: حرام، أو قال أحدهما: بيع النساء حلال، وقال الآخر: حرام، ونحو ذلك من الأحكام. فالوقف الذي هو من شأن أهل الإيمان أن يترك المقلد أكل لحم الخيل، ولحم الضبع، وشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، فهذا الوقف مسلك يرضى به كل واحد من العالمين المختلفين (2).
_________
(1) المثلث من الشراب الذي طبخ حتى ذهب ثلثاه. "لسان العرب" (2/ 120).
(2) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (29/ 315 - 331): "الورع من قواعد الدين، ثم ذكر الحديث: "الحلال بين .. " وحديث: "دع ما يريبك .. " وحديث: "التمرة .. ". ثم قال: وهذا يتبين بذكر أصول:
أحدها: أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول، فمن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين، أو استفتى فقيها معينا، أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك وهذا غلط.
الثاني: أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة.
الثالث: أن الحرام نوعان:
حرام لوصفه: كالميتة والدم ولحم الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه أو لونه أو ريحه حرمه، وإن لم يغير ففيه نزاع.
حرام لكسبه: كالمأخوذ غصبا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرم، فلو غصب الرجل دراهم أو دنانير، أو دقيقا، أو حنطة، أو خبزا وخلط ذلك بماله، لم يحرم الجميع، لا على هذا ولا على هذا.
الرابع: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء، كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين.
الخامس: وهو الذي يكشف سر المسألة، وهو أن المجهول في الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه، فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطا بالقدرة عليه، والتمكن من العمل به، فما عجزنا عن معرفته، أو عن العمل به سقط عنا ... ".(4/2062)
أما القائل بالتحريم فظاهر. وأما القائل بالحل فإنه لا يقول يجب على الإنسان أن يأكل لحم الخيل، أو لحم الضبع، أو شرب النبيذ، أو المثلث، أو يعامل ببيع النساء. بل غاية ما يقول به أن ذلك حلال يجوز فعله، ويجوز تركه. فالتارك عند كل من القائلين مصيب، إنما يختلف الحال عندهما أن القائل بالتحريم يقول: يثاب التارك ثواب من ترك الحرام، والقائل بالتحليل لا يقول بالإثابة في الترك، لأنه فعل أحد الجائزين.
وكما أن الوقوف المحمود للمقلد هو ما ذكرناه؛ كذلك الوقوف للعالم المجتهد عند تعارض الأدلة هو أنه يترك ما فيه البأس إلى ما لا بأس به (1). مثلا إذا تعارضت عنده أدلة تحليل لحم الخيل والضبع والتحريم، وأدلة تحليل شرب النبيذ والمثلث وبيع النسا (2)، والتحريم، ولم يهتد إلى الترجيح، ولا إلى الجمع بين الأدلة، فالورع المحمود هو الوقف الذي أرشد إليه المصطفى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن لا يأكل لحم الخيل والضبع، ولا يشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، ولا يفتي بحل شيء من ذلك.
ولا ريب أنه إذا وفد إلى عرصات القيامة، ووقف بين يدي الرب - سبحانه - وجد صحايف سيئاته خالية عن ذكر هذه الأمور؛ لأن تركها ليس بذنب؛ فإن الله - سبحانه - لا يحاسب أحدا من عباده على ترك مثل هذه الأمور، بل ربما وجد ما وقع منه من الكف للنفس عن هذه الأمور [8] المشتبهة في صحايف حسناته، لأنه قد وقف عندما أمر
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2451) وابن ماجه رقم (4215) من حديث عطية السعدي وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس". وهو حديث ضعيف.
(2) سيأتي برسالة كاملة. المراد بيع النسيئة. رقم (114).(4/2063)
بالوقوف عنده، واستبرأ لعرضه ودينه، والله - سبحانه - لا يضيع ترك تارك كما لا يضيع عمل عامل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (1).
وكما أن الورع قد يكون في الترك (2) فقد يكون في الفعل مثلا: لو تعارضت عند
_________
(1) [الزلزلة: 7 - 8].
(2) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (17/ 385): وأما في الواجبات فيقع الغلط في الورع من ثلاث جهات:
أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة. ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم أو معاملة خاسرة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا. ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار، فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج، والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة.
الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها. فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة. فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) [النجم: 23].
وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات - فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم، وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي السلطان، لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة.
وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع، وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا.
وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب، بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب، وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
ومن هذا الباب الذي ذمه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال: "ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم" وفي رواية: "أخشاهم وأعلمهم بحدوده له".
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.
الثالثة: جهة المعارض الراجح، هذا أصعب من الذي قبله، فإن الشيء قد يكون جهة فساده تقتضي تركه.
وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط، وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه، فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب".
وقال ابن تيمية (21/ 310 - 311): "إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام، بخلاف ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور، وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي.
ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين، وله ديون فيها شبهة أيقضيها ولده؟ فقال: أيدع ذمة أبيه مرهونة؟ وهذا جواب سديد، فإن قضاء الدين واجب، وترك الواجب سبب للعقاب، فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب، ويحتمل أن لا يكون .. " اهـ.(4/2064)
العالم الأدلة القاضية بوجوب الغسل يوم الجمعة، والأدلة القاضية بعدم الوجوب، فإن الورع والوقوف عن المشتبهات هو أن يغتسل، لأن ................(4/2065)
الأدلة (1) القاضية بعدم الوجوب ليس فيها المنع من الغسل، بل فيها الترغيب إليه، كحديث: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (2).
وهكذا المقلد إذا سمع أحد العالمين يقول بوجوب الغسل، والآخر يقول لا يجب. فالورع والوقوف عند المشتبه هو أن يغتسل، لأن القائل بعدم الوجوب لا يقول بعدم الجواز، بل يقول بأن الغسل مسنون أو مندوب (3).
_________
(1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (858) ومسلم رقم (846) وأبو داود رقم (341) والنسائي (3/ 93) وابن ماجه رقم (1089) وأحمد (3/ 6) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم".
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (877) ومسلم رقم (844) والترمذي رقم (492) والنسائي (3/ 93) ومالك رقم (5) من حديث ابن عمر قال: قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل".
(2) أخرجه أبو داود رقم (354) والترمذي رقم (497) والنسائي (3/ 94) وأحمد (5/ 8، 11، 16، 22) من حديث سمرة بن جندب. وله شواهد من حديث أنس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة، وابن عباس، انظر: "نصب الراية" (1/ 91 - 93). وهو حديث حسن بمجموع طرقه.
(3) قال النووي في "المجموع" (4/ 405): وغسل الجمعة سنة، وليس بواجب وجوبا يعصي بتركه بلا خلاف عندنا وفيمن يسن له أربعة أوجه:
الصحيح: المنصوص - وبه قطع المصنف والجمهور - يسن لكل من أراد حضور الجمعة، سواء الرجل والمرأة والصبي والمسافر والعبد وغيرهم لظاهر حديث ابن عمر، ولأن المراد النظافة وهم في هذا سواء، ولا يسن لمن لم يرد الحضور، وإن كان من أهل الجمعة لمفهوم الحديث والانتفاء المقصود ولحديث ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء". رواه البيهقي (3/ 190) بهذا اللفظ بإسناد صحيح.
الثاني: يسن لكل من حضرها ولمن هو من أهلها - ومنعه عذر حكاه الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم، لأنه شرع له الجمعة والغسل فعجز عن أحدهما فينبغي أن يفعل الآخر.
الثالث: لا يسن إلا لمن لزمه حضورها، حكاه الشاشي وآخرون.
الرابع: يسن لكل أحد سواء من حضرها وغيره لأنه كيوم العيد وهو مشهود ممن حكاه المتولي وغيره.(4/2066)
والضابط لذلك بالنسبة إلى المجتهد أن الدليلين المتعارضين إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر يدل على الجواز فالورع الترك، وإن كان أحدهما يدل على الوجوب أو الندب، والآخر يدل على الإباحة. فالورع الفعل، وأما إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهية، والآخر يدل على الوجوب أو الندب فهذا هو المقام الضنك، والموطن الصعب. ومثاله ما ورد من النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة (1) وما ورد من الأمر بصلاة التحية (2)، والنهي عن تركها. فإن الظاهر النهي عن الصلاة يعم صلاة التحية وغيرها، وظاهر الأمر بها يعم، والنهي عن تركها عند دخول المسجد يعم الأوقات المكروهة وغيرها. فبين الدليلين عموم وخصوص من وجه، وليس أحدهما [9] بالتخصيص أولى من الآخر في مادة الاجتماع، لأن كل واحد منهما صحيح مشتمل على النهي، ولم يبق إلا الترجيح بدليل خارج عنهما، ولم يوجد فيما أعلم دليل خارج عنهما يستفاد منه ترجيح أحدهما على الآخر.
وقد قال قائل: إن الترك أرجح، لأنه وقع الأمر بالصلاة، والأوامر مقيدة
_________
(1) منها ما أخرجه مسلم رقم (831) وأبو داود رقم (3192) والترمذي رقم (1030) والنسائي (1/ 275) وابن ماجه رقم (1519) من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب". ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (588) ومسلم رقم (825) وأحمد (2/ 462) من حديث أبي هريرة عنه: "أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس".
(2) منها ما أخرجه البخاري رقم (444) ومسلم رقم (69، 70/ 714) وأبو داود رقم (467) والترمذي رقم (316) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه رقم (1013) وأحمد (5/ 295). من حديث أبي قتادة قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين".(4/2067)
بالاستطاعة: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1)، "وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (2)
وأقول: إنما يتم هذا لو كان الوارد في صلاة التحية ليس إلا مجرد الأمر بها عند دخول المسجد فقط، وليس الأمر كذلك، بل قد ورد النهي عن الترك في الصحيح بلفظ: "فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" إذا عرفت هذا فظاهر حديث الأمر بصلاة التحية أنها واجبة، وظاهر حديث النهي عن تركها أن الترك حرام، وظاهر حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة كبعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر أن فعلها حرام، فقد تعارض عند العالم العارف بكيفية الاستدلال دليلان: أحدهما يدل على تحريم الفعل، والآخر يدل على تحريم الترك، فلا يكون الورع والوقوف عند المشتبه إلا بترك دخول المسجد في تلك الأوقات، فإن ألجت الحاجة إلى الدخول فلا يقعد، وهذا على فرض أنه لا يوجد عند العالم ما يدل على عدم وجوب صلاة التحية (3)، وعلى أن الأمر فيها للندب، والنهي عن الترك للكراهة، أما إذا وجد عنده دليل ...................
_________
(1) [التغابن: 16].
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6858) ومسلم رقم (1337) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
(3) قال النووي في "المجموع" (4/ 80 - 81): فإذا دخل المسجد في بعض هذه الأوقات فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أن يصلي تحية المسجد للحديث فيها، والجواب عن أحاديث النهي أنها مخصوصة .. فإن قيل: حديث النهي عام في الصلوات خاص في بعض الأوقات، وحديثه التحية عام في الأوقات خاص في بعض الصلوات فلم رجحتم التخصيص بالأحاديث التي ذكرناها في صلاة العصر وصلاة الصبح، وبالإجماع الذي نقلناه في صلاة الجنازة، وأما حديث تحية المسجد فهو على عمومه لم يأت له مخصص، ولهذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الداخل يوم الجمعة في حال الخطبة بالتحية بعد أن قعد، ولو كانت التحية تترك في وقت لكان هذا الوقت، لأنه يمنع في حال الخطبة من الصلاة إلا التحية، ولأنه تكلم في الخطبة وبعد أن قعد الداخل وكل هذا مبالغة في تعميم التحية.(4/2068)
كحديث ضمام بن ثعلبة (1) حيث قال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لما قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" ونحوه، فلا يصلح ما ذكرناه للمثال. وقد حررت في ذلك رسالة مستقلة، وأبحاثا مطولة في شرحي [10] للمنتقى (2)، وفي "طيب النشر في جوابي على المسائل العشر" (3)، وغير ذلك، وليس المقصود هاهنا إلا مجرد المثال لما نحن بصدده.
وكما أن الورع للعالم في تعارض الأدلة على صفة التي قدمنا هو ما ذكرناه، كذلك الورع للمقلد إذا اختلف عالمان فقال أحدهما: هذا الشيء يحرم تركه، وقال الآخر: يحرم فعله، أو قال أحدهما يكره فعله، وقال الآخر: يكره تركه، فالورع له أن يفعل مثل ما ذكرناه في صلاة التحية.
وإذا قد فرغنا من بيان كون التفسير الأول والثاني - أعني ما تعارضت أدلته، وما اختلف فيه العلماء - كلاهما من المشتبهات، وإن اختلف الحال فإن الأول منهما مشتبه باعتبار المجتهد. والثاني: مشتبه باعتبار المقلد، فلنبين: هل التفسير الثالث والرابع - أعني المباح والمكروه - من المشتبهات أم لا؟.
اعلم أنا قد قررنا أن الحلال البين هو ما وقع النص على تحليله، والحرام البين هو ما
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (46) ومسلم رقم (8 - 11) وأبو داود رقم (391) والنسائي (1/ 226 - 227) وأحمد (1/ 162) من حديث طلحة بن عبيد الله يقول: "جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خمس صلوات في اليوم والليلة". فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وصيام رمضان". فقال: هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال: وذكر له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال: "فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفلح إن صدق".
(2) "نيل الأوطار" (3/ 84 - 85).
(3) سيأتي تحقيق هذه الرسالة ضمن مجلد الفتح الرباني. رقم (97).(4/2069)
وقع النص على تحريمه، ولا ريب أن المباح إن وقع النص من الشارع على كونه مباحا أو حلالا فهو من الحلال البين، وهكذا إن سكت عنه ولم يخالف دليل العقل، ولا شرع (1) من قبلنا فهو أيضًا من الحلال البين، لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرنا أن ما سكت عنه فهو (2) عفو، فمثل ما ذكرناه من المباح إذا لم يكن فعله ذريعة للوقوع في الحرام لا شك أنه لا يصح إدراجه في المشتبهات، ولا تفسيرها به بل من المباح قسم يصح أن يكون من جملة ما تفسر به الشبهات المذكورة في الحديث، وهو ما كانت العادة تقتضي أن الاستكثار منه يكون [11] ذريعة إلى الحرام ولو نادرا، وذلك كالاستمتاع من الزوجة بما عدا القبل والدبر، فإن الشارع قد أباحه، ولكنه ربما تدرج به بعض من لا يملك نفسه إلى الحرام، وهو الوقوع في القبل والدبر. ولهذا تقول أم المؤمنين عائشة: وأيكم (3) يملك إربه كما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يملك إربه! فإن هذا النوع المباح وما شابهه وإن كان حكمه معلوما من الشريعة وأنه من الحلال البين، ولكنه يدخل تحت قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المذكور: "والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" (4)، وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل استبرأ لعرضه ودينه".
_________
(1) انظر "البحر المحيط" (6/ 41 - 48). "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (4/ 145 - 154).
(2) أخرجه الترمذي رقم (1726) عن سلمان، قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه". وهو حديث حسن بمجموع طرقه.
(3) أخرجه البخاري رقم (302) ومسلم رقم (293) وأبو داود رقم (268) والترمذي رقم (132) وابن ماجه رقم (635) وأحمد (6/ 174).
(4) تقدم في بداية الرسالة.(4/2070)
فهذا الدليل يدل على أن ما كان من المباحات ذريعة إلى الحرام ولو نادرا فالورع الوقوف عنده وتركه.
ولهذا قال بعض السلف (1): إن الورع ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس. وقد كان السلف الصالح يأخذون من ذلك بأوفر نصيب حتى كان كثير منهم تمر عليه السنون الكثيرة فلا يرى مبتسما.
ومن هذا الجنس ما حكاه صاحب (2) النبلاء (3) عن محمد بن سيرين - رحمه الله - أنه اشترى زيتا ليتجر بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة فأراق الزيت كله، ولم ينتفع بشيء منه. وروي عنه أيضًا أنه اشترى شيئا فأشرف فيه على ربح ثمانين ألف درهم فعرض في قلبه شيء فتركه. قال هشام ما هو والله بربا.
ومثله ما يروى عن بعض الأئمة من أهل البيت - رضي الله عنهم - أنه كان له دجاج فمر بهن حب لبيت المال فانتشر منه شيء يسير فتسابقت إليه الدجاج فأكلت منه حبات فأخرجها [12]- رضي الله عنه - عن ملكه وجعلها لبيت المال، وهذا الإمام هو المؤيد بالله (4) أحمد بن الحسين بن هارون - رحمه الله تعالى - ويروى عنه أيضًا أنه كان ينظر في بعض الأمور المتعلقة ببيت المال في ضوء الشمعة، فجاءت امرأته في تلك الحال فأطفأ الشمعة فظنت المرأة أنه كره النظر إليها فأخبرها أن الشمعة لبيت المال، وأنه ينظر بضوئها ما كان من الأشغال يختص ببيت المال، ولا يجوز له أن ينظر بها إلى وجه امرأته.
وكذلك روي عنه أنه كان يكتب الأمور المتعلقة ببيت المال في دروج ويغرم لبيت المال ما تبقى من البياض بين السطور يقدره ويسلم قيمته.
_________
(1) انظر "الزهد والورع والعبادة" لابن تيمية (ص 50).
(2) أي الذهبي في "سير أعلام النبلاء".
(3) (4/ 609).
(4) وانظر الأعلام (1/ 116).(4/2071)
ويحكى عن النووي (1) - رحمه الله تعالى - أنه كان لا يأكل من ثمرات دمشق، فقيل له في ذلك فقال: إنها كانت في الأيام القديمة بأيدي جماعة من الظلمة، ولا يدري كيف كان دخولها إليهم وخروجها عنهم، أو نحو هذه العبارة.
وبالجملة فالسلف قد كان لهم في الورع مسالك يعجز عن سلوكها الخلف. وقد أرشد الشارع إلى ذلك فقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". أخرجه الترمذي (2)، والحاكم (3)، وابن حبان (4)، من حديث الحسن السبط - رضي الله عنهم -، وصححوه جميعا.
وحديث: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد (5)، وأبو يعلى (6)، والطبراني (7)، وأبو نعيم (8) من حديث وابصة مرفوعا.
_________
(1) انظر "طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 165).
(2) في "السنن" رقم (2518).
(3) في المستدرك (2/ 13) و (4/ 99) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) في صحيحه رقم (722).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1178) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة".
وأخرج أحمد (3/ 112) والدارمي (2/ 245) والبيهقي (5/ 335) من حديث أنس. وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 152). وقال: رواه أحمد، وأبو عبد الله الأسدي لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. والخلاصة: أن الحديث صحيح بشواهده.
(5) في "المسند" (4/ 227 - 228).
(6) في مسنده رقم (1586، 1587).
(7) في "الكبير" (22 رقم 403).
(8) في "الحلية" (2/ 24) (9/ 44). قلت: وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 145) والدارمي (2/ 245 - 246) من طريق الزبير عن أيوب ولم يسمعه منه قال حدثني جلساؤه وقد رأيته، قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 94 رقم 27): ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعف:
أحدهما: الانقطاع بين أيوب والزبير فإنه رواه عن قوم لم يسمعه منهم.
الثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني "روى أحاديث مناكير"، وضعفه ابن حبان أيضًا لكن سماه أيوب بن عبد السلام، وأخطأ في اسمه". وله شواهد عند أحمد (4/ 194). وله شواهد منها في الصحيح ولذا حسنه النووي. وحسنه الألباني بمجموع طرقه.(4/2072)
وفي الباب عن واثلة (1)، والنواس وغيرهما .. وحديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد عما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه (2)، والحاكم (3) وصححه من حديث سهل بن سعد مرفوعا، وأخرجه أبو (4) نعيم من حديث أنس، ورجاله ثقات. ومن ذلك حديث: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" (5) وهو معروف، ولو لم يرد إلا حديث الشبهات المسئول عنه فإنه قد شمل ما لا يحتاج معه إلى
_________
(1) ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 175 - 176).
(2) في "السنن" رقم (4102).
(3) في المستدرك (4/ 313). وهو حديث ضعيف لأن مداره على خالد بن عمر. وهو ضعيف جدا، ولذلك أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 11) وقال عقبه: وليس له من حديث الثوري أصل وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذ عنه، ودله، لأن المشهور به خالد هذا. وقال الحافظ في "التقريب" (1/ 216): رماه ابن معين بالكذب ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع.
(4) في "الحلية" (8/ 41).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2553) وأحمد (4/ 182) والدارمي (2/ 322) والبخاري في "الأدب المفرد" (1/ 110 - 113) والحاكم (2/ 14). من حديث النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".(4/2073)
غيره في هذا الباب ..
ولهذا عظم العلماء (1) [13] أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود (2) وغيره. وقد جمعها من قال (3) شعرا:
_________
(1) قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (11/ 27 - 30): "أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
وقال أبو داود: يدور على أربعة أحاديث، هذه الثلاثة وحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل: حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس".
وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث، لأن الإنسان إنما يعتبر بطهارة قلبه وجسده، فأكثر الذم والمحظورات إنما تنبعث من القلب، فأشار - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإصلاحه على أن صلاحه هو صلاح الجسد، وأنه الأصل وهذا صحيح، يؤمن به حتى من لا يؤمن بالشرع، وقد نص عليه الفلاسفة والأطباء. والأحكام والعبادات التي ينصرف الإنسان عليها بقلبه وجسمه، تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض أعظم قبولا، فأخبر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الملوك لهم حمية، لا سيما وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية أن العزيز فيهم يحمي مروجا وأبنية، فلا تجاسر عليها، ولا يدنى منها، مهابة من سطوته، وخوفا من الوقوع في حوزته، وهكذا محارم الله - سبحانه - من ترك منها ما قرب فهو من متوسطها أبعد ومن تحامى طرف الشيء أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسط، وهذا كله صحيح.
وانظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 285).
(2) وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (ص 6): "وعن أبي داود قال: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير "الحلال بين والحرام بين" وحديث عمر "إنما الأعمال بالنيات" وحديث أبي هريرة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم".
(3) الحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي، تلميذ أبي عمر بن عبد البر وخصيصه. كما ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم" (1/ 63).(4/2074)
عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية
اترك الشبهات وازهد ودع ... ما ليس يعنيك واعملن بنيه
والإشارة بقوله "ازهد" إلى الحديث المذكور قريبا. وكذلك قوله "ودع ما ليس يعنيك". أراد به الحديث المشهور بلفظ: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (1)، وأشار بقوله: "واعملن بنية" إلى حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (2). والمشهور عن أبي داود أنه عد حديث "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه" (3) مكان حديث "ازهد" المذكور. وعد حديث الشبهات بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني.
وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع من الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه جميع الأحكام. قال القرطبي (4) لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.
فعرفت بما أسلفنا أن الورع الذي يعد الوقوف عنده زهدا واتقاء للشبهة ليس هو ترك جميع المباحات، لأنها من الحلال المطلق، بل ترك ما كان منها مدخلا للحرام،
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 201) والترمذي رقم (2318) وقال: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحو حديث مالك مرسلا ... إلى أن قال: وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب ورواه مالك في الموطأ رقم (1629) والحديث ضعيف لإرساله.
وأخرجه الترمذي رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من هذا الوجه. الخلاصة: أن الحديث حسن بمجموع طرقه.
(2) أخرجه البخاري رقم (1) ومسلم رقم (1907) وأبو داود رقم (2201) والترمذي رقم (1647) والنسائي رقم (75 - 3437، 3794) وابن ماجه رقم (4227)، وأحمد (1/ 25، 43).
(3) تقدم آنفا.
(4) انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 488 - 490).(4/2075)
ومدرجا للآثام كالصور التي قدمناها، وما يشابهها، لا ما كان، ليس كذلك فلا وجه لجعله شبهة، وأما المكروه فجميعه شبهة، لأنه لم يأت عن الشارع أنه الحلال البين، ولا أنه الحرام البين بل هو واسطة بينهما وهو أحق شيء بإجراء اسم الشبهات عليه. والمجتهد يعرفه بالأدلة كالنهي الذي ورد ما يصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، وكذلك ما تركه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وأظهر تركه، ولم يبين أنه حلال ولا حرام.
ويدخل تحت هذا [14] كثير من الأقسام. ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات، ما لم يتبين أنه مباح بل حصل الشك فيه، لا لتعارض الأدلة، ولا لاختلاف أقوال العلماء، بل لمجرد التردد، هل سكت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو بينه؟.
ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات، ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف (1) لم يبلغ إلى درجة الاعتبار، ولا ظهر فيه الوضع (2)، وإنما كان من جملة الشبهات، لأن العلة التي
_________
(1) الحديث الضعيف: هو ما لم يبلغ مرتبة الحسن ولا مرتبة الصحة المفهومة بالأولى. وذلك بفقد شرط من شروط القبول الشامل للصحيح والحسن، وهي: اتصال السند، والعدالة والضبط وفقد الشذوذ وفقد العلة القادحة والعاضد عند الاحتياج إليه.
حكم العمل بالحديث الضعيف:
قال ابن حبان في كتاب المجروحين (1/ 25): ولسنا نستجيز أن نحتج بخبر لا يصح من جهة النقل في شيء من كتبنا، ولأن فيما يصح من الأخبار بحمد الله ومنه يغني عنا عن الاحتجاج في الدين بما لا يصح منها
وانظر: منهاج السنة لابن تيمية (2/ 191)، أعلام الموقعين (1/ 31).
(2) الحديث الموضوع: الخبر الموضوع الكذب المختلق المصنوع. أي الخبر المكذوب على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا ينسب إليه أصلا - والمصنوع - من واصفه. فتح الباقي (ص 215).
حكم العمل به: تحرم روايته مع العلم بوصفه في أي معنى كان، سواء في الأحكام والقصص والترغيب والترهيب وغير ذلك إلا أن يقرنه ببيان وضعه لقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين".
أخرجه أحمد (1/ 178 - الفتح الرباني) ومسلم (1/ 62 - نووي) وابن ماجه رقم (39) من حديث سمرة بن جندب. وأخرجه أحمد (1/ 178 - الفتح الرباني) ومسلم (1/ 62 - نووي) وابن ماجه رقم (41) من حديث المغيرة بن شعبة. وأخرجه ابن ماجه رقم (40) من حديث المغيرة بن شعبة.(4/2076)
ضعف بها لا توجب الحكم عليه أنه ليس من الشريعة، فإن العلة إن كانت مثلا ضعف الحفظ، أو الإرسال، أو الإعضال، أو نحو ذلك من العلل الخفية، فضعيف الحفظ لا يمتنع أن يحفظ في بعض الأحوال (1) ...................................
_________
(1) بل قد ذكر الشوكاني في "وبل الغمام على شفاء الأوام" (1/ 53 - 56): وقد سوغ بعض أهل العلم العمل بالضعيف في ذلك مطلقا، وبعضهم منع من العمل بما لم تقم به الحجة مطلقا وهو الحق، لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام، فلا يحل أن ينسب إلى الشرع ما لم يثبت كونه شرعا، لأن ذلك من التقول على الله بما لم يقل، وما كان في فضائل الأعمال إذا جعل ذلك العمل منسوبا إليه نسبة المدلول إلى الدليل، فلا ريب أن العمل به وإن كان لم يفعل إلا الخير من صلاة أو صيام أو ذكر، لكنه مبتدع في ذلك الفعل، من حديث يجوز اعتقاد مشروعية ما ليس بشرع، وأجر ذلك العمل لا يوازي وزر الابتداع، فلم يكن فعل، ما لم تثبت له مصلحة خالصة، بل معارضة بمفسدة، هي إثم البدعة ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح، ثم مثل هذا مما يندرج تحت عموم حديث "كل بدعة ضلالة".
وقيل: إن كان ذلك العمل الفاضل الذي دل عليه الحديث الضعيف داخلا تحت عموم صحيح يدل على فضله ساغ العمل بالحديث الضعيف في ذلك، وإلا فلا، مثلا: لو ورد حديث ضعيف يدل على فضيلة صلاة ركعتين غير وقت الكراهة، فلا بأس بصلاة تلك الركعتين لأنه قد دل الدليل العام على فضيلة الصلاة مطلقا، إلا ما خص، ويقال: إن كان العمل بذلك العام الصحيح، فلا ثمرة للاعتداد بالخاص الذي لم يثبت إلا مجرد الوقوع في البدعة، وإن كان العمل بالخاص، عاد الكلام الأول، وإن كان العمل بمنهي عنهما، كان فعل الطاعة مشوبا بفعل بدعة، من حيث إثبات عبادة شرعية دون شرع، هذا إذا قيل باستقلال كل واحد من العام والخاص في الاستدلال به على فعل الطاعة، وإن كان كل واحد منهما غير مستقل، بل الدلالة باعتبار المجموع، ولا يصلح أحدهما منفردا، فيقال: فالعام الذي زعم الزاعم أنه يدل على تلك الطاعة، لا دلالة عليها على انفراده، إنما هو جزء دليل، فلا تتم دعوى اندراج الطاعة تحت عام يدل عليها، وعجز الدليل الآخر لا يصلح للدلالة مطلقا، ففاعل الطاعة لم يفعلها بمجرد دلالة العموم عليها، بل بها، ولشيء آخر لم يثبت، فكان مبتدعا في هذا الإثبات فلا خروج عن الإثم الناشئ عن البدعة إلا مع قطع النظر عن الاستدلال بالدليل الذي لم يثبت، ونسبة الدلالة إلى العام استقلالا إن وجد وإن لم يوجد، فلا يحل العمل بما لم يبلغ الحد المعتبر، وتخيل كون مدلوله طاعة باطل. لأن الجزم بأن هذا الفعل معصية لا يثبت إلا بشرع صحيح لوجه من الوجوه ومن زعم أن وصف الفعل يكون طاعة تثبت بما لم يثبت، فليطلب من الدليل على ما زعمه". اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة النبوية" (2/ 191): "وأما نحن فقولنا، إن الحديث الضعيف خير من الرأي: ليس المراد به الضعيف المتروك، لكن المراد به الحسن، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري، وأمثالها ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي: إما صحيحا، وإما ضعيفا، والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة: الحديث الضعيف أحب إلي من القياس، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين، الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه". اهـ.(4/2077)
والمرسل (1) أو المعضل (2) قد يكون صحيحا. وكذلك ما كان فيه التدليس (3) ونحوه،
_________
(1) تقدم تعريفه وبيان الحكم به.
(2) المعضل: هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا، بشرط التوالي، كقول مالك، قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول الشافعي: قال ابن عمر. انظر: شرح منظومة البيقونية (ص 100).
(3) وهو أن يروي الراوي حديثا عمن لم يسمعه منه. وهو أنواع:
1 - تدليس الإسناد: وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، موهما أنه سمعه، وقد يكون بينهما واحد أو أكثر، ومن شأنه أنه لا يقول في ذلك: أخبرنا فلان، ولا: حدثنا. وإنما يقول: قال فلان، أو عن فلان ونحو ذلك.
2 - تدليس الشيوخ: وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.
3 - تدليس التسوية: وهو أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط منه شيخ شيخه لضعفه، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني. بلفظ محتمل، كالعنعنة ونحوها. فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل، ولذلك كان شر أقسام التدليس، ويتلوه الأول ثم الثاني.
"الاقتراح في بيان الاصطلاح" (ص 217 - 220) "تدريب الراوي" (1/ 231).(4/2078)
ومثل ذلك أحاديث أهل البدع، فهذا القسم والذي قبله وإن لم أقف على من يقول أنهما من جملة الشبهات فهما عندي من أعظمها، لأن أقل أحوال الحديث الضعيف لعلة من تلك العلل أن يكون مشكوكا فيه، ومثله الشك في الإباحة.
وقد ثبت في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه أنه قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم، أو شك أن يواقع ما استبان" (1).
فالحاصل أن المشتبهات التي قال فيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" هي أقسام:
الأول: ما تعارضت أدلته ولم يظهر الجمع ولا الترجيح، وهذا بالنسبة إلى المجتهد.
القسم الثاني: ما اختلف فيه العلماء على وجه يوقع الشك في قلب المقلد، لا ما كان قد اتفق عليه جمهور أهل العلم، وشذ فيه المخالف على وجه لا يكون لخلافه تأثير في اعتقاد المقلد، وهذا القسم إنما يكون في المقلد كما سبق.
القسم الثالث: بعض المباح، وهو ما يكون في بعض الأحوال ذريعة إلى الحرام، أو وسيلة إلى [15] ترك الواجب، أو مجاوزا لواحد منهما على وجه يكون الإكثار منه مفضيا إلى فعل الحرام، أو ترك الواجب ولو نادرا. وهذا يكون من الشبهات للمقلد والمجتهد، لكن المجتهد يعرف كونه مباحا، ووسيلة إلى فعل محرم أو ترك واجب بالدليل، والمقلد يعرف ذلك بأقوال العلماء.
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (2051).(4/2079)
القسم الرابع: المكروهات بأسرها؛ فإنها مشتبهات بالنسبة إلى المجتهد، وبالنسبة إلى المقلد بالاعتبارين المذكورين في القسم الثالث.
القسم الخامس: ما حصل الشك في كونه مباحا أم لا.
القسم السادس: ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف.
وهذان القسمان كما يكونان شبهة للمجتهد يكونان أيضًا شبهة للمقلد بتنزيل شك إمامه بمنزلة شكه، وبتنزيل الرواية الضعيفة عن إمامه بمنزلة الرواية الضعيفة في الحديث بالنسبة إلى المجتهد. وقد تقدم الوجه لكل واحد من هذه الصور التي فسرنا بها المشتبهات.
ومن جملة ما يكون بمنزلة الحديث الضعيف باعتبار المجتهد القياس (1) إذا كان بمسلك من المسالك التي لم يقل بها إلا بعض أهل العلم، وكثر النزاع فيها تصحيحا، وإبطالا، واستدلالا، وردا، فإنه إذا اقتضى مثل هذا القياس تحريم شيء مثلا، وكان المجتهد مترددا في وجوب العمل بهذا المسلك فلا ريب أن ذلك التحريم الثابت به من جملة الشبهات وكذلك التحليل الثابت به على التفصيل الذي قدمنا، فإذا كان الاحتياط في الترك فهو الورع، وإن كان الاحتياط في الفعل فكذلك. ومثل ذلك الأحكام المستفادة من التلازم، ومن الاستحسان لضعفهما، والأحكام المستفادة من بعض المفاهيم كاللقب، والأحكام المستفادة من تعميم بعض الصيغ التي وقع النزاع في عمومها، كالمصدر المضاف.
وبالجملة، فالعالم المحقق العارف بعلوم [16] الاجتهاد لا يخفى عليه الفرق بين الأحكام المأخوذة من المدارك القوية، والأحكام المأخوذة من المدارك الضعيفة، فهذا الذي ذكرناه يلحق بالقسم السادس، فكانت الأمور المشتبهة منحصرة في هذه الأقسام التي ذكرناها، ومن أمعن النظر وجد ما عداه لا يخرج عن كونه إما من الحلال البين، أو الحرام البين، فاحرص على هذا التحقيق؛ فإنه بالقبول حقيق، وما أظنك تجده في غير
_________
(1) انظر "إرشاد الفحول" (ص 736). "تيسير التحرير" (4/ 103). "المسودة" (ص 399).(4/2080)
هذا الموضع، واضمم إليه ما قدمنا في الضابط في كيفية الورع، والوقوف عند الشبهة إن كان أحد الدليلين يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر على الجواز، إلى آخر ما تقدم هناك فإنك إذا ضممته إلى هذه الأقسام الستة المذكورة هنا، وتذكرت ما سبق من الاستدلال على كل قسم منها أنه من المشتبه لم يبق معك ريب في معرفة الفرق بين الحلال والحرام والمشتبه.
البحث الثالث: من أبحاث الجواب في الكلام على الصور التي ذكرها السائل - دامت فوائده - في سؤاله.
قال - عافاه الله تعالى -: هل المراد بالحلال والحرام والشبه فيما يتعلق بأفعال الآدميين، وسائر ما يباشرونه من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به [من] (1) الإنشاءات والمعاملات؟.
أقول: نعم الشبه تكون في جميع هذه الأمور التي ذكرها، وقد تقدم التمثيل للمأكولات والمشروبات بلحم الخيل والضبع، وللمشروبات بالنبيذ والمثلث، ومثاله في المنكوحات للمجتهد إذا تعارض عليه الأدلة في تحريم نكاح الرضيعة التي أخبرت بوقوع الرضاع بينها وبين من أراد نكاحها المرضعة نفسها. فلم يترجح لديه أحد الدليلين، أعني: دليل قبول قولها، ووجوب العمل به لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "كيف وقد قيل" (2)، ودليل عدم قبول شهادتها لكونها لتقرير فعلها. وكذلك المقلد إذا اختلف قول من يقلده في العمل بذلك، وعدم العمل به، فلا شك أن الإقدام على النكاح هاهنا
_________
(1) زيادة استلزمها السياق.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (88) و (1947 و2497، 2516، 2517، 4816) وأحمد (4/ 7) وأبو داود رقم (3603) و (3604) والترمذي (1151) والنسائي رقم (3330) عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي أهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة فسأله، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره.(4/2081)
إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف عند الشبهات.
ومثاله في الإنشاءات العقود الفاسدة إذا تعارض على المجتهد أدلة جواز الدخول فيها، وأدلة [17] عدم الجواز، وكذلك المقلد إذا اختلف قول من يقلده فلا شك أن الدخول في العقود الفاسدة من هذه الحيثية إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف. وكذلك المعاملات: كالمعاملة ببيع النساء إذا تعارضت الأدلة في جوازه على المجتهد، واختلفت على المقلد أقوال من يقلده، فالأمر كذلك.
قال - عافاه الله -: وما المراد بالاتقاء للشبهة في ذلك؟ وما تمثيله؟ فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام، بالقرب من بلده، فترك جميع المأكولات من اللحم والحب وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة، وقد مقت عليه كثير من علماء عصره؟ ذكره ابن القيم، أو معناه في الكلم الطيب (1) .. انتهى.
أقول: لا شك أن ما كان مظنة للاختلاط بمثل تلك الأموال المنهوبة فاجتنابه الشبه الذي هو شأن أهل الورع، والإقدام عليه من الإقدام على الأمور المشتبهة، ولكن مع تجويز الاختلاط، وليس مثل ذلك من الغلو، ولا مما يكون ممقوتا على فاعله، لكن عدول هذا المتورع إلى أكل العشب لا شك أنه من الغلو (2) في الدين، .............
_________
(1) (ص 18 - 19).
(2) الغلو في اللغة: "الارتفاع ومجاوزة قدر، يقال: غلا السعر يغلو غلاء وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غلوا إذا جاوز حده". "معجم مقاييس اللغة" مادة (غلوي) (ص 812).
قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/ 289): "الغلو: مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك".
قال الحافظ في "الفتح" (13/ 278) الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/ 496): "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجاني عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد".(4/2082)
والتضييق على النفس (1)، لأنه إذا كان في مدينة من المدائن، أو قرية من القرى فلا ريب أن الحلال موجود غير معدوم، يمكن استخراجه بإخفاء السؤال والمبالغة في البحث، ولا بد أن يوجد من هو بمحل من العدالة فيكون قوله مقبولا إذا قال ليس هذا الطعام الذي عندي أو الذي عند فلان من المال المنهوب، ثم لو فرضنا أنه لم يبق في ذلك المحل من يعمل بقوله، وكان المال المنهوب قد دخل منه على كل أحد نصيب، فلا يعدم الإنسان في غير ذلك المحل ما يسد به رمقه مما لم يختلط بالطعام المنهوب، كما كان يفعل النووي - رحمه الله - فإنه كان يتقوت مما يرسل به إليه والده من بلاده التي هي وطنه ومنشؤه، نعم إذا لم يكن لهذا المتورع قدرة [18] على استخراج ما هو خالص عن شائبة الحرام من أهل بلده، ولا يتمكن من استخراجه من غير بلاده، واختلط المعروف بالإنكار، ولم يبق له إلى الحلال المطلق سبيل، وكان ذلك الاشتباه والاختلاط واقعا في نفس الأمر على مقتضى الشرع، ولم يكن ناشئا عن الوسوسة التي هي من مقدمات الجنون، كما نشاهده في وسوسة من ابتلي بالشك في الطهارة فلا بأس بعدوله إلى أكل العشب، بشرط عدم تجويز الضرر والاقتدار على سد الرمق منه، ولا ريب أن هذا هو ورع الورع، وزهد الزاهد. وأما مع تجويز الضرر أو مع الاقتدار على سد الرمق منه فقد
_________
(1) أخرج البخاري رقم (5063) ومسلم رقم (1401) عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسالون عن عبادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله تعالى وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".(4/2083)
أباح له الشرع أن يتناول من المال الحرام البحت ما يسد به رمقه (1)، فكيف بما لم يكن من الحرام البحت، بل كان حلالا مختلطا بالحرام!.
قال - عافاه الله -: ومثلا لو علم أن له في صنعاء محرما، أو رضيعة فنقول: لا يجوز له الإقدام إلى تزوج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه. انتهى.
أقول: إذا كانت الرضيعة المذكورة في تلك البلدة بيقين، وكذلك المحرم فإن كان من فيها من النساء منحصرات بحيث يضطرب الظن، ويختلج الشك في كون المرأة التي أراد نكاحها قد تكون هي المحرم أو الرضيعة فالتجنب لنكاح نسوة ذلك المحل ليس من اتقاء الشبهة بل من اتقاء الحرام غير المجوز، فلا يجوز الإقدام، وإن كان من في ذلك المحل من النساء غير منحصرات (2) بحيث لا يحصل للناكح ظن أن المنكوحة هي المحرم أو الرضيعة
_________
(1) لقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) [الأنعام: 119]. وقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) [البقرة: 173].
(2) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 286 - 287): " ... وقد يكون هذا الشك له مستند ولكن الشرع عفا عنه لعظم الضرورة، كمن تحقق أن امرأة أرضعت معه والتبست عليه بنساء العالم، فإنا إن قطعنا عليه شهوته وحرمنا عليه نساء العالم جملة كان ذلك إضرارا عظيما وكلهن محلل، فلا يغلب حكم محرمة واحدة على مائتي ألوف محللات، ولو اختلطت هذه الرضيعة بنساء محصورات لنهي عن التزوج منهن، لأن الشك هاهنا له مستند وهو العلم بأن هناك رضيعة وقد شك في عينها وله قدرة على تحصيل غرضه، مع القطع بسلامته من الوقوع في الحرام بأن يتزوج من نساء قوم آخرين، وليس من الحرام في الدين أن يكون له طريقان في تحصيل غرضه:
أحدهما: محلل هو أسهل وأكثر، فإن وقع فيه قطع على عين التحليل.
ثانيهما: أقل وأندر وإن وقع فيه خاف أن يقع في عين الحرام، فيعدل عن المتحلل بما يجوز أن يكون محرما.
وبهذا فارقت هذه المسألة التي قبلها، لأنه متى اختلطت بنساء العالم لم يقدر على تحصيل غرضه بطريق أخرى. فوجب ألا يكون للشك تأثير. وإنما ارتبك بهذه المسألة طريقة تسلكها، وإلا فمسائل هذا النوع لا تحصى كثرة، ولكن أصول جميعها لا تنفك عن الأصول التي مهدت لها، وقد يقل الضرر بالتحريم في بعض المسائل ويعظم في أخرى ويتضح كون الشك له مستند في بعض المسائل وتخفى في أخرى، وقد تكثر أصول بعض المسائل، وقد تتضح مساواة الفرع للأصل وقد تخفى ... ". وانظر: "المفهم" (4/ 490 - 492).(4/2084)
فالاجتناب للنكاح من ذلك المحل هو الورع، وهو نفس اتقاء الشبهة، لأن الحلال البين هو نكاح من عدا الرضيعة أو المحرم من نساء البلد، والحرام البين هو الرضيعة أو المحرم، فمجموع من في البلد من الرضيعة وغيرها والمحرم وغيرها واسطة [19] بين الحلال والحرام، وما كان واسطة فهو المشتبه الذي يقف المؤمنون عنده. فهذا المثال هو من جملتها يصلح للتمثيل به لما نحن بصدده.
قال - عافاه الله -: أو يكون تمثيل اتقاء الشبه بأنه لا يقدم على الفعل المباح أو المندوب خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور لو ترك التزوج بزائد على الواحدة خوفا من الميل عن أحد الضرتين، لأنه لا يأمن على نفسه تعدي الحمى الوارد في متن الحديث: "ألا وإن حمى الله محارمه". فنقول على هذا ينبغي عدم التزوج بزيادة على الواحدة، لا سيما مع ورود الدليل القرآني بقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} الآية (1) انتهى.
أقول: نكاح ما فوق الواحدة من النساء إلى حد الأربع هو من الحلال البين بنص القرآن الكريم (2)، وتجويز عدم العدل في الجملة حاصل لكل فرد من أفراد العباد، ولهذا
_________
(1) [النساء: 129].
(2) قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. ونص الحديث النبوي.
منها: ما أخرجه الترمذي في صحيحه رقم (1128) وابن ماجه رقم (1953) وأحمد (2/ 13) والحاكم (4/ 192 - 193) وابن حبان في صحيحه رقم (1277) قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن". وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم (2241) وابن ماجه رقم (1952) والبيهقي (7/ 183) من حديث الحارث بن قيس، وبعضهم يسميه: قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال: "اختر منهن أربعا". وهو حديث حسن بمجموع طرقه.(4/2085)
يقول الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} (1). ولكن المحرم هو أن يميل كل الميل (2)، وهذا لا يجوزه الإنسان من نفسه قبل الوقوع فيه، لأن أسباب الميل متوقفة على الجمع بين الزوجين فصاعدا، ولو كان مجرد إمكان الميل شبهة من الشبهات التي يتقيها أهل الإيمان لكان نكاح الواحدة أيضًا مما ينبغي اجتنابه لإمكان أن لا يقوم بما يجب لها من حسن العشرة، وكذلك إمكان الافتتان بما يحصل له منها من الأولاد، ولكان أيضًا ملك المال الحلال من هذا القبيل لإمكان أن لا يقوم بما يجب عليه فيه من الزكاة ونحوها، ونحو ذلك من الصور التي لا خلاف في كونها من الحلال الذي لا شبهة فيه.
نعم إذا كان الرجل مثلا قد جمع بين الضرائر، وعرف من نفسه أنه يميل كل الميل (3)، ثم فارقهن جميعا أو بقيت واحدة تحته، ثم أراد بعد ذلك أن يجمع بين اثنتين
_________
(1) [النساء: 129].
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 347) وأبو داود رقم (2133) والترمذي رقم (1141) والنسائي (7/ 63) وابن ماجه رقم (1969) وابن الجارود رقم (722) والحاكم (2/ 186) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل". وهو حديث صحيح.
(3) العدل بين الزوجات واجب للحديث المتقدم ولكن هذا العدل المطلوب هو العدل الظاهر المقدور عليه ... قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" من حديث عائشة رضي الله عنها.
وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (2134) والترمذي رقم (1140) وابن ماجه رقم (1969) والنسائي رقم (8/ 64).(4/2086)
فصاعدا فلا ريب أن ذلك من المباح أو المندوب، الذي يكون ذريعة إلى الحرام، فهو مندرج تحت القسم الثالث من الأقسام الستة التي أسلفنا ذكرها. وهذا على فرض أن الواحدة تعفه وتحصن [20] فرجه، فإن كان لا يعفه إلا أكثر من واحدة مع تجويزه للميل الذي قد عرفه من نفسه فعليه أن يفعل ما هو أقل مفسدة لديه في غالب ظنه باعتبار الشرع. وبعد هذا فلا أحب لمن كان لا يحتاج إلى زيادة على الواحدة أن يضم إليها أخرى، إلا إذا كان واثقا من نفسه بعدم الميل، وعدم الاشتغال عما هو أولى به من أفعال الخير، وعدم طموح نفسه إلى التكثر من الاكتساب، واستغراق الأوقات فيه، أو الاحتياج إلى الناس، فلا ريب أن اتساع دائرة الأهل والولد وكثرة العائلة من أعظم أسباب إجهاد النفس في طلب الدنيا، والاحتياج إلى ما في يد أهلها، ولا سيما في هذه الأزمنة التي هي مقدمات القيامة، بل قد ثبت في الأحاديث (1) الصحيحة ما يفيد أولوية
_________
(1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2965) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2786) ومسلم (1888) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه".
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1889) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو خزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو في بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير".
ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7088) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".(4/2087)
التعزب والاعتزال في آخر الزمان. وقد جمع السيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا (1) نفيسا وذكر فيه نحو خمسين دليلا، ولا بد من تقييد هذه الأولوية بالأمن من الفتنة (2) التي هي أشد من فتنة التعزب كالوقوع في الحرام.
قال - عافاه الله تعالى -: أو يكون اتقاء الشبه عاما في الأفعال والاعتقادات والعبادات لعدم تفسير المتشابه مثلا ورده إلى المحكم خوفا من الدخول في شبه من فسر القرآن برأيه الوارد النهي عنه (3)، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها مما يتعلق بأفعال المكلفين من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات؟ انتهى.
أقول: اتقاء الشبه هو عام في جميع ما ذكره، أو في الأفعال والعبادات فظاهر، وقد سبق مثاله. وأما في الاعتقادات فكذلك؛ فإن الأدلة إذا تعارضت على المجتهد في شيء من مسائل الاعتقاد ولم يترجح له أحد الطرفين، ولا أمكنه الجمع، كان الاعتقاد شبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات. ومن هذا القبيل المسائل المدونة في علم الكلام المسمى بأصول الدين؛ فإن غالبها [21] أدلتها متعارضة، ويكفي المتقي المتحري لدينه أن يؤمن بما جاءت به الشريعة إجمالا من دون تكلف لقائل، ولا تعسف لقال وقيل، وقد كان هذا المسلك القويم هو مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلم يكلف الله أحدا من عباده أن يعتقد أنه - جل جلاله - متصف (4) بغير ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. ومن زعم أن الله - سبحانه - تعبد عباده بأن يعتقدوا أن صفاته الشريفة كائنة على الصفة التي تختارها طائفة من طوائف المتكلمين فقد
_________
(1) بعنوان: "الأمر بالعزلة في آخر الزمان" تحقيق وتخريج محمد صبحي بن حسن حلاق.
(2) قال تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) [الذاريات: 50].
(3) تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
(4) انظر الرسالة رقم (1)، (2) من الفتح الرباني القسم الأول منه.(4/2088)
أعظم على الله الفرية، بلى كلف عباده أن يعتقدوا أنه {ليس كمثله شيء} (1). وأنهم {ولا يحيطون به علما} (2)، ولقد تعجرف (3) بعض علماء الكلام بما ينكره عليه جميع الأعلام، فأقسم بالله أن الله تعالى لا يعلم من نفسه غير ما يعلمه هذا المتعجرف (4). فيا لله هذا الإقدام الفظيع، والتجاري الشنيع! وأنا أقسم بالله أنه قد حنث في قسمه، وباء بإثمه، وخالف قول من أقسم به في محكم كتابه {ولا يحيطون به علما} (5)، بل أقسم بالله أن هذا المتعجرف لا يعلم حقيقة نفسه، وماهية ذاته على التحقيق، فكيف يعلم بحقيقة غيره من المخلوقين! فضلا عن حقيقة الخالق تبارك وتعالى.
وهكذا سائر المسائل الكلامية، فإنها مبنية في الغالب على دلائل عقلية هي عند التحقيق غير عقلية، ولو كانت معقولة على وجه الصحة لما كانت كل طائفة تزعم أن العقل يقضي بما دبت عليه ودرجت، واعتقدته حتى ترى هذا يعتقد كذا، وهذا يعتقد نقيضه، وكل واحد منهما يزعم أن العقل يقتضي ما يعتقده. وحاشا العقل الصحيح السالم عن تغيير ما فطره الله عليه أن يتعقل الشيء ونقيضه، فإن اجتماع النقيضين محال عند جميع العقلاء، فكيف تقتضي عقول بعض العقلاء أحد النقيضين! وعقول البعض الآخر النقيض الآخر بعد ذلك الاجتماع! وهل هذا إلا من الغلط البحت الناشئ عن العصبية ومحبة ما نشأ عليه الإنسان. ومن الافتراء البين على دليل العقل ما هو عنه بريء، وأنت إن كنت تشك في هذا فراجع كتب الكلام وانظر المسائل التي قد صارت
_________
(1) [الشورى: 11].
(2) [طه: 110].
(3) انظر رسالة التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف رقم (3) المتعجرف هو أبو علي الجبائي من أئمة المعتزلة.
(4) انظر رسالة التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف رقم (3) المتعجرف هو أبو علي الجبائي من أئمة المعتزلة.
(5) [طه: 110].(4/2089)
عند أهله معدودة في المراكز كمسألة التحسين والتقبيح [22]، وخلق الأفعال وتكليف ما لا يطاق، ومسألة خلق القرآن، ونحو ذلك؛ فإنك تجد ما حكيته لك بعينه إن لم تقلد طائفة من الطوائف، بل تنظر كلام كل طائفة من كتبها التي دونتها، فاجمع مثلا بين مؤلفات المعتزلة (1) والأشعرية (2) والماتريدية (3)، وانظر ماذا ترى.
ومن أعظم الأدلة الدالة على خطر النظر في كثير من مسائل الكلام أنك لا ترى رجلا أفرغ فيه وسعه، وطول في تحقيقه باعه إلا رأيته عند بلوغ النهاية، والوصول إلى ما هو منه الغاية يقرع على ما أنفق في تحصيله سن الندامة، ويرجع على نفسه في غالب الأحوال بالملامة، ويتمنى دين العجائز، ويفر من تلك الهزاهز كما وقع من الجويني، والرازي، وابن أبي الحديد، والشهرزوري (4)، والغزالي، وأمثالهم ممن لا يأتي عليه الحصر؛ فإن كلماتهم نظما ونثرا في الندامة على ما جنوا به على أنفسهم مدونة في مؤلفات الثقات. هذا وقد خضع لهم في هذا الفن الموالف والمخالف، واعترف لهم بمعرفته القريب والبعيد.
نعم أصول الدين الذي هو عمدة المتقين ما في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل
_________
(1) تقدم التعريف بها.
(2) تقدم التعريف بها (ص 151).
(3) تقدم التعريف بها (ص 722).
(4) كذا في المخطوط ولعله (السهروردي). هو عبد القاهر بن عبد الله بن محمد البكري الصديقي، أبو النجيب السهروردي ففيه شافعي واعظ (490 هـ - 563 هـ). من أئمة المتصوفين ولد بسهرورد، وسكن بغداد توفي ببغداد سنة 563 هـ. له "آداب المريدين"، شرح الأسماء الحسنى، "غريب المصابيح". الأعلام (4/ 48)، بغية الوعاة (310).(4/2090)
من بين يديه ولا من خلفه، وما في السنة المطهرة، فإن وجدت فيهما ما يكون مختلفا في الظاهر فليسعك ما وسع خير القرون (1)، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهو الإيمان بما ورد كما ورد، ورد علم المتشابه إلى علام الغيوب، ومن لم يسعه ما وسعهم فلا وسع الله عليه. ولتعلم - أرشدني الله وإياك - أني لم أقل هذا عن تقليد لبعض من أرشد إلى ترك الاشتغال بدقائق هذا الفن كما وقع لجماعة من محققي العلماء، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في الاشتغال به، وإحفاء السؤال لمن يعرفه، والأخذ عن المشهورين به، والإكباب على مطالعة كثير من مختصراته ومطولاته، حتى قلت (2) عند الوقوف على حقيقته من أبيات منها:
وغاية ما حصلت من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم من لم يلق غير التحير
وأقل أحوال النظر في ذلك أن يكون من المشتبهات التي أمرنا بالوقوف عندها [23]، ومن جملة المشتبهات النظر في المتشابه من كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكلف علمه، والوقوف على حقيقته، على أنه لا يبعد أن يقال: قد بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه مما لا يحل الإقدام عليه، وأنه مما استأثر بعلمه. وقد كان السلف الصالح يتحرجون من ذلك، وينعون على من اشتغل به فعله، وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -. وللصحابة الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم من الكلام المشتمل على التنفير من ذلك ما لو جمع لكان مؤلفا حافلا.
قال - كثر الله فوائده - وكعدم سجود التلاوة في الصلاة حيث يقول مثلا الشافعي: سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للتلاوة في صلاة الفجر (3)، فيقول المخالف له:
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 255، 840).
(2) أي الشوكاني. انظر ديوانه (ص 189).
(3) تقدم في بداية الرسالة.(4/2091)
[هذه] (1) زيادة على القطعي، وهي لا تقبل إلا بدليل قطعي كحكم النقصان من المقطوع به، فإنه لم ينقص عنه إلا بدليل قطعي كقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (2) فهل هذا الذي يقول بعدمه ممن اتقى الشبهات أم لا؟ وهل يدخل في ذلك المقلد بتقليد إمامه أنه مثلا قد اتقى الشبهة بسنية السجود أو عدمه؟ أم هو باق في من لم يتق هذه الشبهة؟ انتهى.
أقول: قدمنا في ذكر الأقسام التي فسرنا بها المتشابه أن اختلاف أقوال أهل العلم لا يكون شبهة إلا في حق المقلد، لا في حق المجتهد. فالشبهة عنده تعارض الأدلة على وجه لا يمكنه الجمع ولا الترجيح، فهذه المسألة المذكورة إن تعارضت أدلتها على المجتهد على وجه لا يمكنه ترجيح أدلة فعل السجود، وأدلة الترك، وتعذر عليه الجمع فلا ريب أنه يقف عند ذلك، ويترك السجود، لأنه لا يكون مسنونا في حقه إلا بعد انتهاض دليله الخالص عن شوب المعارض المساوي، فلا يكون تاركا لمسنون. ولو فعل لم يأمن أن يكون مبتدعا، والمبتدع آثم. فالورع الترك. وأما إذا كان مقلدا فإن كان لاختلاف العلماء [24] تأثير في اشتباه الأمر عليه كما هو شأن أهل التمييز من المقلدين فلا شك أن الورع الترك، لأن ترك سنة مجوزة أحب من ارتكاب بدعة، وإن كان هذا المقلد لا تخالجه الشكوك عند الاختلاف، بل يعتقد صحة قول إمامه، وفساد قول من يخالفه كائنا من كان، كما هو شأن من قل تمييزه من المقلدين، فهذا لا يتأثر معه الاشتباه، بل قول إمامه في معتقده بمنزلة الدليل الخالي عن المعارض في اعتقاد المقلد، فلا يكون الأمر مشتبها في حقه.
قال - عافاه الله -: وهل يجوز مثلا مع تضييق الحادثة كتركة رجل لا تكفي إلا دينه أو تكفينه فماذا يصنع مثلا من يرجح تقديم الكفن على الدين؟ كونه كالمستثنى له من
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) [النساء: 101].(4/2092)
حال حياته، أو يقدم قضاء الدين على الكفن بتقديم الدين على الكفن بتقديم الدليل العقلي على قول من يقول به، لأنه لا تضرر من الميت في تلك الحال بخلاف صاحب الدين، فالتضرر معه حاصل، فكيف يجوز اتقاء الشبهة مع تضيق الحادثة! والاتقاء يؤدي إلى حرمان الميت وأهل الدين جميعا!؟. انتهى.
أقول: إن كان التردد الناشئ عن تعارض الأدلة حاصلا للمجتهد فالمقام شبهة بلا شك، وعليه أن يقف عند ذلك، ولم يكلفه الله أن يفتي بلا علم، إنما تعبد الله بالفتيا والحكم من كان يعلم الحق، وهذا المتردد لا يعلم الحق ولا يظنه لتعارض الأدلة، فلم يحصل له مناط الاجتهاد، وليست هذه الحادثة بمتضيقة عليه، لأنه في الحكم من لا يعلم، هذا إذا كان يرى في اجتهاده عدم جواز التقليد لمثله، وإن كان يرى جواز التقليد إذا عرض مثل ذلك عمل باجتهاده في جواز التقليد له، وقلد من يراه أولى بالتقليد من المختلفين في المسألة من العلماء، فإنه لا يخفى على مثله من هو أولى بالتقليد، وإن كان لا يرى جواز التقليد لمثله فلا يجوز له الإقدام على مثل ذلك الأمر، لأنه إن أقدم أقدم بلا علم، ولم يكلف الله من لا علم عنده [25] أن يقدم على ما لا يعلم بل نهاه عن ذلك في كتابه العزيز (1)، وعلى لسان رسوله - (2) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وليست تلك الحادثة بمتضيقة عليه، إنما تتضيق على من يجد منها فرجا ومخرجا.
وأما من لا فرج له عنده ولا مخرج فوجوده بالنسبة إليها كعدمه. وهذا الكلام لا بد
_________
(1) قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) [الإسراء: 36]. وقال سبحانه تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) [النحل: 116].
(2) منها: ما أخرجه أبو داود رقم (3657) وابن ماجه رقم (53) والدارمي (1/ 57) والحاكم (1/ 126) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أفتى بفتيا من غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه". وهو حديث حسن.(4/2093)
من اعتباره في الحوادث المتضيقة فليحفظ، وأما إذا كان من تضيقت عليه الحادثة مقلدا فإن كان لا يرى الحق إلا ما يقول إمامه ولا يعتد بمن خالفه فعليه أن يفتي أو يقضي بمذهب إمامه، ولا يضره من يخالفه، وإن كان يتبع أقوال العلماء ويحجم عند اختلافهم فالإقدام شبهة، بل من التقول على الشريعة بما ليس منها، ولم يكلفه الله تعالى بذلك، ولا تضيقت عليه الحادثة، فيدع حبل هذه الحادثة على غاربها، ويترك الإقدام على ما ليس من شأنه، ويرفعها إلى من هو أعلم بها منه، إن كان موجودا وإن لم يوجد فلا يجني على نفسه بجهله، وفي الناس بقية يعملون بعقولهم، وهو عن إثمهم بريء. على أن تقديم الكفن على الدين قد صار معلوما من هذه الشريعة في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وبعد موته فلم يسمع سامع أن رجلا مديونا سلب أهل الدين كفنه، وقد مات في زمن النبوة جماعة من المديونين، ولم يأمر (1) النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بأخذ أكفانهم في قضاء الدين. وما زال ذلك معلوما بين المسلمين قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر.
قال - كثر الله فوائده -: وكلو خشي فوت الجماعة، وحصل له مدافعة الأخبثين أو الريح .. انتهى.
أقول: ليس هذا من المشتبهات، فإنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - النهي عن الدخول في الصلاة حال مدافعة ..................
_________
(1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289) و (2295) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتي بجنازة قالوا: صل عليها فقال: "هل عليه دين" قالوا: لا. قال: "فهل ترك شيئا؟ " قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: "هل عليه دين" قيل: نعم. قال: "فهل ترك شيئا؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "فقال بأصابعه ثلاث كيات" فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها. قال: "هل ترك شيئا؟ " قالوا: لا. "هل عليه دين" قالوا: ثلاثة دنانير. قال: "صلوا على صاحبكم" فقال رجل من الأنصار يقال له أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه.(4/2094)
الأخبثين (1)، فدخول المدافع في صلاة الجماعة ليس بمشروع، والجماعة إذا فاتته وهو على تلك الحال فلا نقص عليه في فوتها، لأنه تركها في حال قد نهاه الشارع عن قربانها، فهو بامتثاله النهي أسعد منه بالحرص على طلب فضيلة [26] الجماعة.
قال - كثر الله فوائده - وكاستعمال الماء مع خروج الوقت أو التيمم وإدراك الصلاة في الوقت، فنقول: لا يبرأ عن الشبهة إلا من صلى صلاتين: واحدة بالتيمم، والأخرى بعد خروج الوقت بالوضوء، كقول المرتضى أو الناصر (2) .. انتهى.
أقول: إن كان من اتفق له ذلك مجتهدا فالاعتبار بما يترجح له، فإن كان يرى في اجتهاده وجوب التيمم لخشية خروج الوقت، كان فرضه التيمم، وإن كان يرى وجوب الوضوء وإن خرج الوقت كان فرضه ذلك، وإن تردد لتعارض الأدلة كان المقام بالنسبة إليه من المشتبهات يفعل ما يراه أحوط، لكن لا يفعل الصلاة مرتين، فإنه قد صح النهي عن أن تصلى صلاة في يوم مرتين (3). وإذا كان من اتفق له ذلك مقلدا فغرضه العمل بقول من يقلده، إذا كان لا يحصل معه التردد بسبب خلاف من يخالف إمامه، وإلا كان المقام شبهة في حقه على التفصيل المتقدم.
قال - عافاه الله تعالى - وكامرأة خطبها معيب بما يفسخ به عالم ورع، وصحيح
_________
(1) أخرج مسلم رقم (560) وأحمد (6/ 43، 54، 73) وأبو دواد رقم (89) وابن أبي شيبة (2/ 100) والحاكم (1/ 168) والبيهقي (3/ 71) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين". وهو حديث صحيح.
(2) انظر البحر الزخار (1/ 121 - 122).
(3) أخرج أبو داود رقم (579) والنسائي (2/ 114) والبيهقي (2/ 303) وابن خزيمة (3/ 69) وابن حبان رقم (432) وأحمد (2/ 19) عن سليمان بن يسار - يعني: مولى ميمونة - قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي؟ قال: قد صليت إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين".
وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.(4/2095)
جاهل فاسق، فنقول بترك الكل أم يكون الخروج من الشبهة بتزويج المعيب أو الصحيح الموصوفين بما ذكر ... انتهى.
أقول: الصحيح الفاسق ليس ممن ترضى المرأة دينه وخلقه فلا يجب عليها قبول خطبته، بل لا يجوز لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمرنا بقبول خطبة من نرضى دينه وخلقه (1).
وأما المؤمن المعيب فإجابته متوقفة على اغتفار المخطوبة لعيبه، فإن لم تغتفر ذلك كان لها الامتناع ولا تجب عليها الإجابة فليس المقام من المشتبهات التي ينبغي الوقوف عندها، لأن المانع في الخاطب الأول أعني الفاسق راجع إلى الشرع فلا يحل الإجابة له شرعا، والمانع في الخاطب الثاني [27] أعني المؤمن المعيب راجع إلى المخطوبة فيجوز لها إجابته مع الرضا بعيبه.
قال - كثر الله فوائده -: فهذه أطراف ذكرتها لكم على جهة التنبيه، وكيف يكون الحكم فيما هذا حاله؟ وما هو المشتبه منها؟ وما لا؟.
ومثل المسألة التي نحن بصددها في الحدود المحدودة بين القبائل وشجار الزكوات والحرفة والمعاش هل يكون الإجمال في ذلك والوصف للواقع من دون جزم بأن هذا الوجه الشرعي اتقاء للحرام أو الشبهة؟ أم يكون الإجمال في ذلك ليس اتقاء؟ .. انتهى.
أقول: قد قدمنا في البحث الثاني من أبحاث هذا الجواب في تحقيق الشبهة، وما هو الذي ينبغي لمن اشتبه عليه أمر من الأمور ما لا يحتاج إلى إعادته هنا فليرجع إليه، ومسألة الحدود وما ذكر بعدها إن كان المجتهد يرى عدم ثبوتها وبطلانها. فلينظر لنفسه المخرج
_________
(1) أخرج الترمذي في "السنن" رقم (1085) وقال: حديث حسن غريب من حديث أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه، وخلقه، فأنكحوه ثلاث مرات". وهو حديث حسن. انظر: "الإرواء" (6/ 266).(4/2096)
إذا ابتلي بشيء منها، وألجئ إلى الفتيا فيها، أو الحكم بشيء ولم يجد بدا من ذلك، وأقل الأحوال إذا لم يمكنه الصدع بالحق والقضاء بأمر الشرع أن يتخلص عن ذلك بالإحالة على غيره، فإن لم يتمكن من ذلك كأن يفوت بترك الخوض في مثل هذه الأمور مصالح دينية، أو ينشأ عن هذا الترك مفاسد في أمور أخرى فعليه أن يحكي ما جرت به الأعراف، واستمرت عليه العادات، ويحيل الأمر على ذلك، ولا يحيله على الشرع المطهر فيكون قد أعظم الفرية على الدين الحنيف، وخلط أحكام العادة بأحكام الوضع والتكليف، وإذا كان قد تقدمه من يجوز تقرير ما فعله من الأئمة والحكام الأعلام فليقل في مثل هذه الأمور التي لا تجري على مناهج الشرع، قال [28] بهذا فلان، وفعله فلان، وحكم به فلان، وأفتى به فلان. وينبه على أن مسلك الشرع معروف، ومنار الدين مكشوف، ومنهج الحق مألوف مثلا إذا اضطر إلى فصل بعض الخصومات المتعلقة بالحدود التي بين أهل البوادي، ووجد بأيديهم ما يفيد بأن الواضع لذلك بينهم أحد المرجوع إليهم في العلم والدين، وأنه لا سبيل إلى الحكم بالشركة (1) الذي هو المنهج
_________
(1) أخرج أبو داود رقم (3477) وأحمد (5/ 364) والبيهقي (6/ 150) عن أبي خداش، عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا، أسمعه يقول: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار".
وهو حديث صحيح.
فوائد لا بد من الوقوف عليها في هذا الحديث:
1 - سلامة الدين باتقاء الشبهات:
"فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه": فمن ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده، أو ينقصه، وعرضه مما يشينه، ويعيبه فيسلم من عقاب الله وذمه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه.
2 - من وقع في الشبهات وقع في الحرام، وذلك بوجهين:
أ - أن من لم يتق الله تعالى، وتجرأ على الشبهات، أفضت به إلى المحرمات بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض ولهذا قال بعض المتقين: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، والكبيرة تجر إلى ... قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) [المطففين: 14].
ب - أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم ونور الورع، فيقع في الحرام ولا يشعر به، وإلى هذا النور الإشارة إلى قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) [الزمر: 22]. وإلى ذلك الإظلام والإشارة بقوله: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) [الزمر: 22].
3 - قوله: "كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" هذا مثل ضربه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحارم الله تعالى، وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها، وتحرج بالتوعد بالعقوبة على من قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته من ذلك الحمى، لأنه إن قرب فالغالب الوقوع وإن كثر الحذر، إذ قد تنفرد الفاذة، وتشذ الشاذة ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة، وهكذا محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.
4 - قوله: "ألا وهي القلب" هذا اللفظ في الأصل مصدر: قلبت الشيء أقلبه قلبا: إذا رددته على بدأته. وقلبت الإناء: إذا رددته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه، إذا صرفته عنه، وعن طريقه كذلك. ثم نقل هذا اللفظ، فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه، وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال:
ما سمي القلب إلا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تضخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه، إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم. وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم.
5 - واعلم أن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مقر لتلك الخاصية الإلهية، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعز الأجزاء، إذ ليس ذلك المعنى الموجود في شيء منها، ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها ومجموع ذلك علوم وأعمال وأحوال.
العلوم وهي ثلاثة:
1 - العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاءوا به.
2 - العلم بأحكامه عليهم ومراده منها.
3 - العلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها.
الأعمال:
- وأما أعمال القلوب، فالتحلي بالمحمود من الأوصاف.
- والتخلي عن المذموم منها.
- منازلة المقامات والترقي عن مفضول المنازلات إلى سني الحالات.
الأحوال:
- مراقبة الله تعالى في السر والعلن.
- التمكن من الاستقامة على السنن.
انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (4/ 490 - 497)، و"إكمال المعلم بفوائد مسلم" (5/ 284 - 286).(4/2097)
الشرعي فليقل في مرقومه: قال فلان كذا، ومنهج الشرع الاشتراك في الماء والكلأ، ولكنه قد حكم بما رآه صوابا. ولا سبيل إلى نقض حكمه أو نحو ذلك من المعاريض التي فيها لمن وقع في مثل هذه الأمور مندوحة. وهكذا سائر ما ذكره السائل - دامت فوائده - ... وإلى هنا انتهى الجواب.
قال في الأم التي بخط مؤلفه حفظه الله وكثر فوائده ما لفظه:
وكان الفراغ من تحريره في نهار الجمعة لعله تاسع عشر شهر محرم الحرام سنة 1215 هـ.
انتهى والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، وكان الفراغ من نقله صبح يوم الخميس 8 شهر صفر سنة 1217 بقلم إبراهيم(4/2099)
ابن عبد الله الحوثي لطف الله به.
بلغ قراءة ومقابلة على نسخة منقولة من خط المؤلف عافاه الله شهر صفر سنة 1343 حرره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي [29].
تم القسم الثالث - الحديث وعلومه - من
الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني
ولله الحمد والمنة
ويليه القسم الرابع - الفقه وأصوله -
إن شاء الله
* * *
تم ولله الحمد والمنة
المجلد الثاني من كتاب
الفتح الرباني
ويليه
المجلد الثالث إن شاء الله(4/2100)
رابعاً: الفقه وأصوله(5/2106)
رسائل القسم الرابع: الفقه وأصوله
59 - التشكيك على التفكيك لعقود التشكيك (17/ 1).
60 - القول المفيد في حكم التقليد (22/ 3).
61 - بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد (3/ 5).
62 - بحث في نقض الحكم إذا لم يوافق الحق (41/ 2).
63 - رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام (40/ 2).
64 - بحث في العمل بقول المفتي صح عندي (26/ 4).
65 - بحث في الكلام على أمناء الشريعة (16/ 4).
66 - بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده (32/ 3).
67 - رفع الجناح عن نافي المباح (34/ 1).
68 - جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله (5/ 4).
69 - بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو على الرأي (29/ 4).
70 - الدرر البهية في المسائل الفقهية (52/ 2).
71 - بحث في دم الخيل (25/ 5).
72 - جواب يؤال في نجاسة الميتة (14/ 4).
73 - جواب في حكم احتلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (22/ 1).
74 - القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح (20/ 4).
75 - بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود (16 - 5).
76 - بحث في أن السجود بمجرد من غير انضمامه إلى صلاة عبادة مستقلة بأجر الله (7/ 5) (1).
_________
(1) الرقم إلى يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد.
والرقم إلى شمال الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(5/2107)
77 - كشف الرين في حديث ذي اليدين (8/ 2).
78 - بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (35/ 4).
79 - جواب سؤالات وردت من بعض العلماء (9/ 4).
80 - جواب سؤالات وردت من كوكبان (6/ 4).
81 - بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة (39/ 4)
82 - رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس (2/ 2).
83 - تحريم الدلايل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحايل (3/ 2).
84 - بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد (21/ 5).
85 - جواب عن الذكر في المسجد (22/ 4).
86 - سؤال في هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم وجواب الشوكاني عليه (10/ 1).
87 - إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة (4/ 2).
88 - اللمعة في الاعتداد بإدراك من الجمعة (5/ 2).
89 - ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة (6/ 2).
90 - الدفعة في وجه ضرب القرعة (7/ 2).
91 - بحث في الكسوف (29/ 1).
92 - جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاث أبحاث: (11، 12، 13/ 2).
1 - بحث في المحاريب.
2 - بحث في الاستبراء.
3 - بحث في العمل بالرقمومات.
93 - الصلاة على من عليه دين (33/ 3).(5/2108)
94 - شرح الصدور في تحريم رفع لقبور (4/ 4).
95 - جواب سؤالات وردت من تهامة (8/ 4).
96 - سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات (31/ 1).
97 - إفادة السائل في العشر المسائل (38/ 4).(5/2109)
التشكيك على التفكيك لعقود التفكيك
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه(5/2111)
1 - عنوان الرسالة: (التشكيك على التفكيك لعقود التشكيك).
2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد من أعاننا على تشكيك التفكيك لعقود التشكيك، وأشكر من سهل لنا الطريق إلى رد الاعتساف ..
4 - آخر الرسالة: .. كما من خط محصلة ومؤلفه القاضي بدر الدين وحاكم المسلمين محمد بن علي الشوكاني حفظه الله في ذي الحجة سنة (1203) وجهلع قوة عين المسلمين وأبقى حكمه في جميع الأنام، وسدد إلى ما فيه رضاه آمين آمين آمين.
5 - نوع الخط: نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: (23) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (28) سطرًا ما عدا الصفحة الأولى.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة تقريبًا.
9 - الرسالة من المجلد الأول من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2113)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد من أعاننا على تشكيك التفكيك لعقود التشكيك، وأشكر من سهل لنا الطريق إلى رد الاعتساف، ويسر لنا السبيل إلى سلوك جادة الإنصاف، وأصلي وأسلم على القائل: «تركتكم على الواضحة، [1] ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد» (1) وعلى آله وصحبه والسابقين إلى كل فضيلة، الفائزين بكل المحامد، القارعين بسيوف هديهم ضلال كل زائغ معاند، وبعد:
فإنه سأل الحقير محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- بعض سادتي الأعلام، من آل الإمام النظر في رسالة سيدي العلامة إسحاق بن يوسف بن المتوكل (2)
_________
(1) وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وابن ماجه رقم (43، 44) وأحمد (4/ 126 - 127) والحاكم في: «المستدرك»
(1/ 95 - 96) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووالقه الذهبي وهو كما قالا، عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال::"تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما البيضاء ليها كنهارها، لا يزيغ عنها غلا هالك، ومن يعش فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا عضوا عليها بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الآنف، كلما قيد انقاد».
(2) هو السيد إسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام القاسم بن محمد ولد حسبما وجد بخطه في سنة 1111هـ سكن (سرية) وهي نزهة قرب ذمار وقرأ علم الحديث على السيد محمد بن إسماعيل الأمير.
له مصنفات منها: «تفريج الكروب في مناقب علي رضي الله عنه» وله رسائل منها: وله رسائل منها: رسالة: «الوجه الحسن المذهب للحزن» له أشعار رائقة جمعها السيد الأديب محمد بن هاشم بن يحيى الشامي. مات سنة 1173هـ.
انظر: «البدر الطالع» رقم (84)، و «نشر العرف» (1/ 324 - 341).(5/2117)
المسماة بالتفكيك لعقود التشكيك (1) فوجدتها (2). مع حسنها في بابها قد اشتملت على أطراف خارجة عن الإنصاف، فأشرت إلى ذلك بحسب الإمكان، ومن الله أستمد الإعانة، وعليه التكلان.
قوله (3) رحمه الله: فلا حرج عليه في أي قول أخذ به.
أقول: هذا تصريح من المؤلف- رحمه الله- بجواز التقليد، وعلى ذلك بني رسالته هذه، والمانع باق على قبح التقليد (4) المعلوم الأصلي عقلا وشرعا، ولم يأت المجوز بحجة صالحة
_________
(1) في هامش المخطوط ما نصه: «هذا جواب حررته في أيام الطلب، وقد ألفت بعده رسالة سميتها: القول المفيد في حكم التقليد» نقلت فيها نصوص الأمثلة الأربعة على المنع من التقليد، ونصوص جماعة من أئمة الآل. وألفت أيضًا «أدب الطلب ومنتهى الأرب»، وأطلت المقال والاستدالال، وهذا بالذي ذكرته ها هنا إنما هو مجرد دفع لدعوى صاحب الرسالة التي أجبت عليها، فليعلم ذلك.
(2) قال الإمام الشوكاني في «البدر الطالع» (ص153):» .. وجمع رسالة سماها: التكفيك لعقود التشكيك» فلما وقفت عليها لم أستحسنها، بل كتبت عليها جوابا سميته «التشكيك على التفكيك» ولعل الذي ح مله على ذلك الجواب تعويل جماعة عليه ممن علم أنه السائل والظاهر أنه قصد بالسؤال ترغيب الناس إلى الأدلة، وتنفيرهم عن التقليد كما يدل على ذلك قصيدته التي أوردها القاضي العلامة أحمد بن محمد قاطن في كتابه الذي سماه «تحفة الإخوان بسند سيد ولد عدنان» وأولها:
تأمل وفكر في المقالات وأنصت ... وعد عن ضلالات التعصب وألفت
وقد ذيلت أنا- الشوكاني- هذه القصيدة بقصدية أطول منها وأولها:
مسامع من ناديت يا عمرو سدت ... وصمت لذي صفو من النصح صمت
وهي موجودة في مجموع شعري وقد أوردت كثيرًا منها في الجواب على التفكيك المشار إليه"أهـ
(3) في هامش المخطوط: من رام أن ينتفع بهذا الجواب فليطع على الرسالة التي هي جواب عليها لأبي لم أنقل من ألفاظها هنا إلا حروفا بسيرة كما ستعرف ذلك
(4) التقليد لغة: وضع الشيء في النق حال كونه محيطا به أي بالعنق وذلك الشيء يسمى قلادة، وجمعها قلائد.
انظر: «أساس البلاغة» (ص785)، «مختار الصحاح» (ص548).
وقال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة» (ص829): قلد: القاف واللام والال أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تعليق شيء على شيء وليه به والآخر والآخر على حظ ونصيب التقليد فلي اصطلاح الأصولين: أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله.
وقيل: التقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه
انظر: «الرد على من أخلد إلى الأرض» (ص120)، «الكوكب المنير» (4/ 350). «التعريفات للجرجاني (ص34)، «البحر المحيط» (6/ 270).(5/2118)
للاستدلال بها على هذا الأصل العظيم، وأشف شيء جاء به دعوى الإجماع، وليتها صحت، ولكنها مبنية على شفا جرف هار، فنقول: يا هذا، إن أردت إجماع الصحابة والتابعين فهم أكرم على اله من أن توقعهم في الخسيسة، أو تهين قدورهم الشريفة بالتلبس لهذه النقيصة، ولهذا لم تحدث إلا بعد انقراض عصورهم، ولم يسمع به إلا بعد إظلام الكون بأفول بدورهم، فكيف يدعى على قوم القول بشيء لم يسمعوا بهأو الإجماع على أمر لم يزنوا بهوهذا معلوم لا يشك فيه منصف، ولا متعصب، ولا يحوم حول ادعائه مقصر ولا كاهل.
وإن أدرت إجماع أهل تلك العصور التي حدثت فيها هذه المذاهب، وظهرت في خلالها تلك البدع والمصائب، بالخالف لم يزل موجودا منذ تلك الأعصار، متطهرا على رؤوس الأشهاد بالإنكار، مستمرا وجوده إلى الآن.
وقد صرح بالمنع جمع جم منهم معتزلة بغداد، والجعفران (1)
_________
(1) هما جعفر بن حرب الهمداني أبو الفضل، وجعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد. "
طبقات المعتزلة» (ص71،73،85).(5/2119)
والغزالي، والرازي أنه ليس بإجماع، ولا حجة، وهذا هو المذهب الحق إن أمعنت النظر، لكثرة الاحتمالات الحاملة على السكوت من عدم قول لهم في ذلك، أو كان لهم ولم ينقل، أو عدم تمام النظر، أو الوقف لتعارض الأدلة، أو للتوقير أو التعظيم، أو للهيبة أو للفتنة، أو نحو ذلكك، والقول بأن هذه الاحتمالات خلاف الظاهر.
وذهب أبو هاشم، أبو الحسن الكرخي، والآمدي، وابن الحاجب، ومن الأئمة أحمد بن سليمان، والمؤيد بالله أحمد بن الحسين إلى أنه حجة ظنية، ولم يذهب إلى أنه حجة قطعية إلا أحمد بن حنبل، وبعض الحنفية، والشافعية، وهو مذهب مرجوح، ومع هذا فالظاهر عدم حجية مطلق الإجماع (1) وليس هذا محل إييراد ما يرد على أ دلته مع هذا ضعفها من المنع والنقض والمعارضة، ولا موضع إبراز الأدلة القوية على امتناع نقل الحكم إلى أهل الإجماع، وامتناع العلم به، ونقله إلى من تحتج به.
والعجب من الرواية السابقة على أحمد بن حنبل، وجعله من القائلين بأن الإجماع السكوتي (2) حجة قطعية، وقد صح عنه القول بامتناع العلم (3).بمطلق الإجماع عادة.
_________
(1) انظر: «المنخول» (ص303) تيسير التحرير» (3/ 227ن). «إرشاد الفحول» (ص269).
(2) الإجماع السكوتي: هو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلا به
ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهمعلى السكوت، وكونه من المسائل الاجتهادية.
ولا سيما أن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبدائهم إظهارًا للحق، وإن لقا من جراء ذلك العنت والضيق.
وأما إذا لم نتمكن من معرفة دلالة السكوت على الرضا ولا من انتفاء موانع التصريح فلا يعتبر ما حصل الإجماع والضيق.
وأما إذا لم نتمكن من معرفة دلاالة السكوت على الرضا ولا من انتفاء موانع التصريح فلا يعتبر ما حصل الإجماع المراد.
انظر: «حجية الإجماع» الفرغلي (ص168 - 173)، «إرشاد الفحول» (ص271).
(3) قال ابن تيمية في «المسود» (ص315 - 316): الذي أنكره أحمد دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو من التابعين، ثم هذا نهي عن دعوى الإجماع العام النطقي وهو كالإجماع السكوتي، أو إجماع الجمهور من غير علم بالمخالف، فإنه قال في القراءة خلف الإمام: ادعى الإجماع في نزل الآية وفي عدم الوجوب في صلاة الجهر، وإنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبري حنفية ومالك، ونحوهما، ولا يعملون أقوال الصحابة والتابعين، وقد ادعى الإجماع في مسائل الفقه غير واحد مثل مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وأبي عبيد في مسائل وفيها خلاف لم يطلعوا عليه(5/2120)
وروي عنه أنه قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب (1).
ومن أدلة القائلين بجواز التقليد قول الله تعالى: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (2) والاستدلال بهذه الآية على هذه الدعوى باطل، إذا المراد السؤال (3)
_________
(1) وقد حمل أصحاب أحمد هذه العبارة الموهمة لإنكاره الإجماع على أمور منها:
1 - حمل ما روي عنه من الإنكار على الورع، وممن حمله على الورع القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب. ومن تابعهما من الحنابلة وغيرهم وقد استندوا في حملهم هذا إلى ما ورد في رواية أبي طالب، وقو أحمد فيها: لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله: إجماع.
2 - حمل ما روي عنه من الإنكار على من ليس له معرفة بخلاف السلف وهذا أيضًا من المحامل التي ذكرها القاضي وأبو الخطاب، وحاصل هذا أن من لم يعلم الخلاف لا يجوز له أن يدعي الإجماع لأنه قد يكون هناك خلاف لم يعرفه ووجود الخلاف يناقض الإجماع.
3 - أن الأصوليين من الحنابلة لم ينقل عن أحد منهم إنكار الإجماع وأنه لا يحتج به ولا يصار إليه كما هو موجود في كتبهم.
4 - أن كتب الفروع لدى الحنابلة فيا الاحتجاج على كثير من المسائل بإجماع الأمة وغالبا ما يقال: هذه المسألة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ويبنون ذلك.
انظر: «أصول مذهب الإمام أحمد» (ص360) «البحر المحيط» (4/ 439)، الكوكب المنير»
(2/ 213).
(2) [النحل: 43]، [الأنبياء:7].
(3) قال ابن الجوزي في «زاد المسير» (4/ 449): نزلت الآية في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فهلا بعث إلينا ملكا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وما أرسلنا من قبلك} إلى الأمم الماضية يا محمد {إلا رجالا} آدمين {فسئلوا أهل الذكر}. أي العلماء بالتوراة والإنجيل وأخبار من سلف يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرا {إن كنتم إلا تعلمون} أن الله بعث محمدًا رسولًا من البشر.
قلت: إن الآية ورادة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيد السياق وإن قيل الغيرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قلنا أن المأمور بسؤالهم هم أهل الذكر، والذكر هو القرآن والسنة كما ذكره الله في قوله مخاطبا نساء رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة [الأحزاب: 34]. وآياته: القرآن، والحكمة، والسنة، فالأمر في الآية للجاهل أن يسال أهل القرآن والحديث عنهما ليخبروه فإذا أخبروه به.
فالآية حجة على المقلدة، وليست بحجة لهم، لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر ليخبروهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا، وقال رسوله كذا، فيعمل السائلون بذلك.
انظر::مجموع الفتاوى» (20/ 15،203)، «أعلام الموقعين» (2/ 168).(5/2121)
عن نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عن كون الأنبياء قبل رجالا، وليس هذا من العموم حتى يرد أنه لا يقصر على ذلك، بل من باب الإطلاق، ولو سلم لكان الظاهر المتبادر منالسؤال غير محل النزاع أعني التقليد الذي هو قبول قول الغير دون حجته، بل المراد استرووهم النصوص، واستفسروهم عن معانيها، بدلالة أرخ الآية، على أن الآية متناولة للعمليات كتناولها للعمليات، والختم لا يجيز التقليد في غير العملي فهي حجة عليه من هذه الحيثية.
ومن أدلتهم أيضًا سكوت الصحابة عن المفتين والمستفتين، وهو وهم، لأن سكوتهم عن الرواية (1) بالمعنى لا عن الرأي الذي هو محل النزاع، وكيف يكون سكوتهم تقريرا لشيء لا يعرفونه!.
ومن أدلتهم على ذلك قولهم: العامي إذا وقعت له واقعة كان مأمورا بشيء فيها إجماعا، وليس هو التمسك بالبراءة الأصلية إجماعا، ولا الاستدلال بأدلة سمعية، إذا الصحابة لم .....................
_________
(1) اعلم أن قبول الرواية ليس بتقليد، فإن قبولها هو قبول للحجة والتقليد هو قبول الرأي.(5/2122)
يلزموهم تحصيلها (1)، ولأنه يمنعهم من الاشتغال بمعاشهم مع الاحتياج إلى العلم بعلوم كثيرة، سيما [3] في زماننا يضيق عنها وقت الواقعة، فلم يبق إلا التقليد.
قلنا: الواجب عليه عند حدوث الواقعة الرجوع إلى أهل الذكر، وسؤالهم عن حكم الله فيها على طريق الرواية، من دون تقليد ولا اجتهاد، وهذا هو الهدى القويم الذي درج عليه عوام الصحابة أجمع، ومن بعدهم من التابعين، على أن هذا التقرير منتقض درج عليه عوام الصحابة أجمع، ومن بعدهم من التابعين، على أن هذا التقرير منتقض بإلزامكم لهم معرفة أدلة العقليات (2) وتحريم التقليد عليهم فيها، وهي محتاجة إلى مثل ما احتاجت إليه المسائل العلمية، فالإلزام مشترك، والدفع بأن العقليات تكفي فيها المعرفة الإجمالية (3) ممنوع، هذا جملة ما استدل به من قال بجواز التقليد، وقد عرفت ما فيه.
وعلى الجملة فالتقليد من التقول على الله بغير علم .. وقد نهى الله من ذلك بقوله:
_________
(1) قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص864):» ..... وقد كفى غالب الصحابة الذين لمي بلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الأيمان الجملي، ولم يكلفهم رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته.
(2) قال أبو منصور كما): في «البحر المحيط» (6/ 278): «
. بل مذهب سابقهم ولا حقهم الاكتفاء بالإيمان الجملي، وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم بل حرم كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة. ولم يخف هذا من مذهبهم حتى على أهل الأصول والفقه.
(3) جاء في «فواتح الرحموت» فيما يتسفتي به وهو: المسائل الشرعية والعقلية على المذهب الصحيح لصحة إيمان المقلد عند الأئمة الأربعة ...
وكثير من المتكلمين .. خلافا للأشعري، ,إن كان آثما في ترك النظر والاستدلال.
وهذا ما أيده الشوكاني مبينا صحة إيمان العوام مطلقا.
ققد قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص 864): ومن أمعن النظر في أحوال العوام وجد هذا صحيحا فإن كثير منهم تجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي، نجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقص إيمانه وتنتقص منه عروة عروة فإن أدركته الألطاف الربانية نجا وإلا نجا ,إلا هلك، ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن ويكون على دين العجائز.
انظر: «المسودة» (ص457)، و «تيسير التحرير» (4/ 243) اللمع (ص70).(5/2123)
{ولا تتعبوا خطوت الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون، (1) ثم قال: {وإذا قيل لهم اتعبوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا أولو كان ءابآؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (2) وحرمة تعالى بقوله: {إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} إلى قوله {وأن تقولوا على الله ما لا تعملون} (3) فصرحن- جل جلاله- بحصر التحريم في هذه الأشياء التي من جملتها التقول على الله بغير علم، والقول بأن ذلك مختص بالعقليات كما صرح بذلك المحقق ابن الإمام في شرح الغاية وغيره تقييد لا دليل عليه، وأيضا التقليد يوجب اتباع الخطأ، لأنه جائز الوقوع من المجتهد، وعلى تقدير وقوعه يجب إتباعه، والدفع بأن الخطأ جائز مع إبداء المستند مسلم، ولكنه عفوا بالنسبة إليه، لورود الدليل الصحيح المصرح أن للمخطئ من المجتهدين أجرا.
قوله: ولم يكلفه الله أن يطلب الأحكام إلخ ..
أقول: الأمر بالطلب عام، ولا مخصص لبعض منن تعلق الأمر به بالطب، والقول بأن تحصيل ذلك ليس في وسع المقلد، أو أنه من تكليف مالا يطاق- كما ذكر المؤلف- ممنوع، والسند أن طلب الاجتهاد، وتحصيل شروطه فرض واجب على الأمة بالإجماع، ولكنه من فروض الكفايات التي تسقط بوجود من هو قائم بها، وتصير من فروض الأعيان عند عدم من يقوم بها. وغذ ثبت أنه من فراض الدين ثبت عدم تعسره لقول الله جل جلاله: {وما جعل عليكم في الدين من ....................................
_________
(1) [البقرة: 168 - 169]
(2) [البقرة: 170]
(3) [الأعراف: 33](5/2124)
حرج} (1) وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العشر} (2) وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بعثت بالحنيفية السمحة» (3).
والمؤلف- رحمه الله- لا ينكر أن الله تعالى يريد منا اليسر، ولا يريد منا العسر [4]، ويقر أن الله سبحانه يريد منا الاجتهاد، فإذا كان الاجتهاد ليس في وسع المقلد، ولا مما يطيقه، فهو عسر بلا شك، فاستلزم أن الله سبحانه يريد منا التعسر أو التعذر.
فإن قال: إنما أردت المشقة والمشقة تلازم التكاليف غالبًا.
قلنا: فما بالك خصصت هذه الفريضة بالسقوط عند حصول المشقةمع أن المشقة لا تنفك عن غالب الأمور الواجبة، على أن إرادة المشقة لا يساعد عليها كلامك، لأن الأمور التي تصاحبها المشقة داخلة تحت الوسع والطاقة، وأنت قد جزمت بأن الاجتهاد خارج عنهما، فلزمك خروج ما ساواه في المشقة كالجهاد والحج والهجرة وتحوها، أو زاد عليه فيا كالورع الشحيح، وعبادة الله كأنك (4) تراه ونحوهما.
قال الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير (5) رضوان الله عليه-: فإن قيل: فإذا
_________
(1) [الحج: 168 - 169]
(2) [البقرة: 185]
(3) أحرج أحمد في مسنده (6/ 116، 233) بسند قوي من حديث عائشة معروفًا: .. إني أرسلت بحنيفية سمحة
(4) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 36 - 38) رقم (1/ 8) عن عمر بن الخطاب
(5) انظر: «العواصم والقواصم» (1/ 250 - 253).(5/2125)
كانت الشريعة سهلة، فما معنى: حفت الجنة بالمكاره (1)؟ ولأي شيء مدح الله الصابرين، ووصى عباده بالصبر؟!
قلنا: لأن النفوس الخيبيثة تستعسر السهل من الخير لنفرتها عنه، وعدم رياضتها، لا لصعوبته في نفسه، ولهاذ تجد أهل الصلاح يستسهول كثيرا مما يستعسره غيرهم، فلو كان العسر في نفس الأمر المشروع لكان عسرا على كل أحد، وفي كل حال، وقد نص الله تعالى على هذا المعنى فقال في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (2) فدل على أن العسر والحرج لا يكونان في أفعال الخير، وإنما يكونان في نفوس السوء. قال الله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} (3) فمدار المشقة في الطاعات على الدواعي والصوارف، ولهذا نجد قاطع الصلاة يقوم نشيطا إلى أعمال كثيرة أشق من الصلاة، وقد يكون العسر الموهوم في أعمال الخير من فساد القلب وكثرة الذنوب، وعدم الرياضة، وملازمة البطالة، ألا ترى ما فلي قيام الليل وإحيائه بالعبادة من المشقة على النفوس! وهو تسهل عليها سهره في كثير من الأحوال في العرسات والأسمار والسروات في الأسفار، فإذا عرفت هذا فاعلم أن من الناس من يحصل له من شدة الرغبة في العلم، وسائر الفضائل ما يسهل عليه
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود في «السنن» رقم (4744) والترمذي رقم (2560) والنسائي (7/ 3 - 4) والحاكم (1/ 26 - 27) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن حبان رقم (7394) من حديث أبي هريرة وهو حديث حسن.
(2) [البقرة: 45]
(3) [الأنعام: 125].
قال ابن الويز في «العواصم» (1/ 253): فنص الله تعالى هذا المعنى الذي ذكرت لك هو أن الشيء المعين يكون عسيرًا على هذا سهلاً على هذا، فلو كان عسيرًا في نفسه، لكان عسيرا عليهما، ولكنه يسير في نفسه، وإنما يتعسر بحرج الصدر، والكسل، وقلة الدواعي ويستهل بنقيض ذلك(5/2126)
عزيزها، ويقرب إليه بعيدها، فلا معنى لتعسير الأمر الشرعي في نفسه، لأن ذلك يخالف كلام الله تعالى: وكلام رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[5].
واعلم أن من العقوق لوم الخلي للمشوق في هذا يقول أبي الطيب (1):
لا تعدل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
أما عرفت أن حب المعالي يرخص العالي ويقوي ضعف الصدور على الصبر للعوالي وربما بدلت الأرواح لما هو أنفس منها من الأرباح.
قال ابن الفارض (2):
بذلت له روحي لراحة قربه ... وغير بعيد (3) بذلب الغال للغالي.
وفي المقالات للزمخشري (4): عزة النفس، وبعد الهمة الموت الأحمر، والخطوب المدلهمة، ولكن من عرف منهل الذل فعافه استعذب نقيع العز وزعافه، وقد أجاد وأبدع من قال في هذا المعنى:
صحب الله راكبين إلى العز ... طريقا من المخافة وعسرا
شربوا الموت في الكريهة حلوا ... خوف أن يشربوا من الضيم مرا
انتهى.
هذا وقت وقد عرفت أنا لم نطلب من المتصف التي ذكرت الاجتهاد، ولا كلفناه قطع المهامة الفيح، وصعود تلك العقبة الكؤود، وانحطاط هاتيك الوهاد، بل سهلنا له الطريق، وكفلنا له السلامة من كل تعويق، وقلنا له: سل أئمة القرآن والسنة إذا أصبت
_________
(1) المتنبي: انظر ديوانه (ص 343).
(2) انظر ديوانه (ص 174 - 176).
(3) في الديوان (عجب)
- وفي شعر ابن الفارض مؤاخذات عقدية نبه عليها العلماء الثقات، وقد تقدم ذكر ذلك في القسم الأول- العقيدة- بذلي الغال للغالي
(4) في «أطواق الذهب» (ص22)(5/2127)
من حادثة بمحنة واستروهم نصوص الدين، وارم من عنقك ربقة المقلدين، واستفسرهم عن معاني المشكلات، وخذ عنهم ما صح لديهم من الرواية، ودع عنك الروايات، وأنشدناه تنشطا له قولنا في (1) هذا المعنى:
وبادر (2) بإلقاء القلادة مسرعًا ... فإن الرضى بالأسر أعظم خزية
فما (3) فاض من فضل الإله على الألي ... مضوا فهو فياض عليك بحكمة
فما جاءنا نقل بقصر ولا أتى ... بذلك حكم للعقول الصحيحة (4)
ولا تك مطواعا ذلولا لرائض ... نصير بهذا مشبها للبهيمة
فهذا هو الداء العضال الذي سرى ... بهذا الورى بل أصل كل بلية
ونحن مع مع هذا نقرب له هذه المسافة التي صار عن الظفر بها في أشد الياس، وترغبه في تحصيل هذه المعارف النفسية وفاء بحق النصيحة الواجبة على جميع الناس، ولكن الراغب في هذه البضاعة قليل، والساعي في تحصيلها والتحلي بها كليل كما قلت (5):
لعمرك ما في الركب ذو لوعة ولا ... بذا الحي من [تزجي إليه مطيتي (6)] [6]
فياطال ما قد صحت: هل من مساعد؟ ... ويا طال ما قد درت بينه البرية
فلم أر إلا شارقا ببلاهة ... يطيش بها أو مصمتا بتقية
فهذا يرى طرق الصواب أمامه ... فيدأب في تصحيح ذات سقمة
وهذا (7) عليم بالجلية عارف ... ولكنه لا يشتريا ببيسه (8)
_________
(1) انظر ديوان الشوكاني (ص105)
(2) كذا في المخطوط وفي الديوان (فبادر)
(3) كذا في المخطوط وفي الديوان (وما)
(4) في الديوان هذا البيت متقدم على الذي قبله
(5) أي الشوكاني في ديوانه (ص102)
(6) في المخطوط (من يضيق لمحض النصحية) وما أثبتناه من الديوان
(7) في المخطوط [وهل] وما أثبتناه من الديوان
(8) وحدة نقدية كانت في اليمن. حاشية الديوان(5/2128)
والزهد عن معالي الأمور، القنوع عنها بالهين المنزور، قد صار شعارًا لأهل زمانك، وخاصة لازمة لأبناء أوانك، فمن لك بالتجرد للمعالي، المنفق في تحصيلها كل غالي، كما قلت (1)
فمن لك بالملاك مقود نفسه ... يحل بها حيث الحقيقة حلت
يهاجر في حب الملحة إلفه ... ويقطع فيهات حبل كل وصيلة
ويبد إن رام القريب فراقها ... ويقرب إن ما ألسن العدل لجت
ويلبس للتعنيف درعا حصينة ... وينزع عن أعطافه ثوب شهرة
ويطرح الآمال غير معرج ... على ما به عن رتبة المجد ألهت
يجوس ديار الحي [غير مقصر] (2) ... وينزل في أرجائها بالسوية
يحط بدار الباهلية رحله ... صباحا ويأتي دارها بالعشية
يصمم عزا كالحسام وهمة ... مدى الدهر لا يرضى له بمذلة
إلى أن يرى المبيض من طرق الهدى ... وتجاب من داعي الهوى كل ظلمة
فيبقى عصا الترحال عن كاهل الصبا ... ويحمد ما لاقى به من مشقة
ويلتذ ما قد ناله من أذى الهوى ... ويشكر مسراه على الأبدية
فكل أذى في جانب العز هين ... وكل عنا في شأنه غير حسرة
فلست ابن حر إن تهيبت في العلا ... متالف حالت دون عز ورفعة
ولست من العرب الصميم نجاره ... إذا لم تنل في المجد أربح صفقة
أيرضى بإعطاء الدنية ماجد ... ويجعلها يوما مكان العلية
ويقنع من ورد الصباء بشربة ... [على الضيم] (3) شيبت بالقذى والكدورة
_________
(1) أي الشوكاني في ديوانه (ص103 - 104)
(2) في الديوان [في كل ساعة]
(3) في المخطوط على الرغم(5/2129)
ويرضى بتقليد الرجال مصرحا ... بسد طريق سهلت للبرية
وما سد باب الحق عن طالب الهدى ... ولكن عين الأرمد القدم سدت
رجال كأمثال الخفافيش بضؤها ... يلوح لدى الظلما وتعمى بصحوة
تجول به ما دام في كل وجهة ... فإن طلعت شمس النهار خفت [7]
وهل ينقص الحسناء فقدان (1) رغبة ... إلى حسنها ممن [أضر] بعنة (2)
وهل حط قدر البدر عند طلوعه ... إذا ما كلاب أنكرته فهرت
وما إن يضر البحر إن قام أحمق ... على شطه يرمي إليه بصخرة
وشتان بين من يدعو إلى العمى، ومن يرشد إلى الإبصار، وليس المؤمن إلا من يحب لأخيه ما يحب لنفسه من معالي الأمور، وبلوغ الأوطار، وهذا المفصل الصالح، والمتجر الشريف الرابح، لا يتم للعالم إلا بشطر من التنفير، ولا يؤثر في النفوس بدونه الإعلان بطرف من التكسير كما قلت (3)
فإن كنت سهما نافذا متبصرا ... فدع ما به عين من العمى قرت
تصيخ إلى داعي التعصب رغبة ... وإن تدعها يوما إلى النصف فرت
إذ رجل أنى إليها بربقة ... ألمالت إلى التقليد جيدا ولبت
وإن رمت فك الأسر عنها تمنعت ... وقالت دعوني في الإسار ونسعتي
فعيني عن طرق الصواب عمية ... وأذن عن داعي النصيحة سدت
قلت (4):
_________
(1) في الديوان نقصان
(2) في الديوان أصيب
(3) الشوكاني في ديوانه (ص104) و (ص105).
(4) الشوكاني في ديوانه (ص 104 - 105).(5/2130)
وهات (1) كلام الشيخ لست بسامع ... سواه ودعني من كتاب وسنة
فأشياخنا السباق في كل غاية ... وأسلافنا أرباب كل فضيلة
فلا قول إلا ما تقول غزية ... ولا رأي إلا ما ليلوح لعزة
ودع عنك علما لا تهز قناته ... كما قيل إلا [باغض العلوية] (2)
فهذا جواب البكم يا عمرو وإن دعا ... إلى طرق الإرشاد داعي المبرة
وكما قلت (3) عند أن قطعت عن عنقي رباق التقليد، ويبدأ الحمد على وصبه ونصبه الشديد:
لعمرك ما جانبت في الحق لي رهاطا ... ولا خفت من قومي لجاجد أو لغطا
ولا عطفت عطفي أقاويل حاسد ... ولا جذبت ضعلي (4) أضاليله قطا
إذ ما ثنتني ألسن العذل عن هدى ... فلا حملت كفي رواقمي الرقطا
وثبت على اسم اله وثبة قادر ... سواء لديه ما بدانا وما شطا
وألقيت من عنقي القلادة مسرعا ... إذا ما أمرؤ قد أوثق الشد والربطا
وحررت رقي واجتدت ولم أقل ... بقول فلان إن أصاب وإن أخطا
وما خفت في ذا الصنع لومة لائم ... تلهب غيظا واشتاط له سخطا
ولست أهاب الجمع ما لم يصح لا ... إذا شط عن تلك الطريقة أو شطا [8]
وقد أطلنا البحث ههنا، ولكنا لما أوردنا ذلك الطرف من كلام العلامة (5) ابن الوزير جمح القلم بطرف من هذا الجنس، والحديث ذو شجون.
قوله:- رحمه الله-: فلا بد أن يقلده في ذلك إلخ.
_________
(1) في المخطوط (تأتي) وما أثبتناه من الديوان
(2) في الديوان إلا فرقة الحشوية
(3) قال الشوكاني هذه الأبيات عند الاشتغال بطلب علوم الاجتهاد انظر الديوان (ص226).
(4) في الديوان (طبعي)
(5) في «العواصم والقواصم» (1/ 251 - 256).(5/2131)
أقول: هذا ممنوع، لأن تعليم الطالب ههنا لا يكون بالرأين حتى يندرج في التقليد، بل التعليم المطلوب ههنا هو تفسير الآي القرآنية، وتبيين معاني الأحاديث النبوية، وذكر صحيحها وسقيمها، وليس من التقليد في شيء.
قوله: ذا هم لم يصنعوا هذا الصنع.
أقول: لا يلتبس على عاقل فرضا عن عالم التفرقة بين كتب التفسير وشروح السنة، وبين كتب الفقه التي هي مجاميع الأداء غالبا، فهذه الدعوى متعسفة.
قوله: والذي أراده السائل عين ما وضعه الشافعي ..... الخ.
أقول: إن الذي وضعه الشافعي مشتمل على أحكام، بعضها راجع إلى الدليل، وبعضها راجع إلى الرأي، وبعضها حق، وبعضها باطل، وهو غير ما حررنا سابقا.
قوله: والذي أراده السائل عين ما وضعه الشافعي إلخ.
أولاً: هذا مما لا نزاع فيه، ولا شك أن مطلوب الكل الوصول إلى الحق بأي ممكن، ولهذا استحق المصيب أجرين (1)،
والمخطئ أجرًا، وحسن المقصد لا يستلزم الإصابة، ولو كان الأمر كذلك لما اختلف الناس في المسألة الواحدة على أقوال متعددة، وستسمع لهذا البحث مزيد تحقيق عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله: أنه مراد الله منه.
أولاً: مراد الله من المجتهد إصابة الحق، وليس مراد الله من كل مجتهد ما صح عنده، لاسلتزامه دوران مراد الله بين المرادات، وهو باطل، ولا يستلزم ثبوت الأجر للمخطئ إصابة الحق، ولو كان الأمر كذلك لما فضل عليه المصيب بمثل أجره، لأن اشتراكهما في
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (171) وأحمد (4/ 198، 204) من حديث عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: «:إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ثم أخطأ فله أجر)).
أنظر تخريج الحديث بطرقه في «إرشاد الفحول» (ص 850 - 851) بتحقيقنا.(5/2132)
الإصابة يوجب التساوي في الأجر، والحديث، والحديث الصحيح قد صرح بخلاف هذا، وصرح بالخطأ، فأي دليل على إصابة المخطئ!
وعلى الجملة فإن خطأ المخطئ في باب الاجتهاد عفو، واستحقاق الأجر لإبلاغ الجهد في طلب الحق، وذلك لا ينفك عن مشقة، والله جلال جلاله- لا يضيع عمل عامل، وعلى هذا فالقول بأن كل مجتهد مصيب (1) إن أريد من الصواب الذي لا ينافي الخطا فحسن , وإن أريد من الإصابة المنافية كما هو الظاهر من أرباب هذه المقالة فمردود بنص الحديث، سيأتي الكلام على المسألة، واستثنى الأدلة التصريح بالراجح منها عند تعرض المنصف لذلك، وأعني التصريح منه بأن كل مجتهد مصيب.
قوله: والمقلد لو ذهب كل مذهب إلخ
[9]. أقول: إن أراد بهذا الذهاب ذهاب المقلد من تقليد إلى تقليد، فعدم خروجه عنه مسلم، وهو خارج عن محل النزاع، وإن أراد بهاذ الذهاب أعم من أن يكون ذهابا عن كل تقليد إلى غيره، أو عن بعضه إلى بعضه فهذا باطل للقطع بأن الذهاب عن التقليد إلى الاجتهاد خروج عن التقليد بالمرة.
اللهم إلا أن يكون هذا من المؤلف تشكيكا في عدم تسيير الاجتهاد ومنع من انفكاك كل أحد عن التقليد، فهذا مع كونه عائدا على غرضه من هذا التأليف بالنقض، لأن الحامل له على وضعه جواز التقليد المجتهدين أقل وأحقر من أني يعتني بتزييفه، وكلامه كالصريح بالمراد الأول، فإن المؤلف- رحمه الله- أجل من أن يقع في مثل ذلك.
_________
(1) من قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعددا بتعددا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطا بينا وخلاف الصواب مخالفة ظاهرة فإن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جعل المجتهدين قسمين قسما مصيبا وقسما مخطئا ولو كان كل واحد منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم منى وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفة آثم فإن هذا الحديث الذي تقدم يرد عليه ردات ويدفعه دفعا ظاهرا لأن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سمي من لم يوافق الحق في اجتهاد مخطئا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر، انظر: «المعتمد» (2/ 949)» الفقيه والمتفقه» (2/ 60 وما بعدها).(5/2133)
قوله: فإن قلت: إلخ ... الجواب.
أقول: لا يخفى عليك أن المراد من السؤال إلزام المتأهل من المتسمين بالتقليد النظر في الجواب صحة هذا العمل، وحكى عن الأئمة تحسينه، وصحة الخلوص به عن التقليد، ثم حكى عن البعض القطع بأن هذا اجتهاد، والتردد عن آخرين، ثم استثمر من هذا الكلام الذي لا يكاد يخفى على أحد ما لم يكد يقع في ذهن أحد.
فقال: ولم يبق حينئذ غير العمل على أقوال المجتهدين، ثم عقب ذلك بأن على هذا الذي حكم له سابقا بأهلية النظر أن يتحرى لنفسه فيمن يقلده، وهذا تهافت وموناقضة وخبط، فإن صح أن نسخة المؤلف كهذه النسخة التي وقفنا عليها بايصال قوله: ولم يبق حينئذ لقوله وتردد بعض ن فكأني بمحبة التقليد قد استول على قلبه استيلاء تاما، فلهذا لم يدر ما يقول: وأعجب من هذه قوله: وهذه مسئلة عقلية، ثم تفسيره كونها عقلية باطمئنان المقلد إلى الأعلم، فبينما هو بصدد النظر في الأدلة من المتأهل إذ رج إلى النظر إلى ذوات المجتهدين.
قوله: ثم أعل أن لنا أصلا أصيلا إلخ.
أقول: لهذا البحث بأسره ليس فيه إلا التأييد بكثرة القائلين بجواز التقليد، وليس الكثرة بمجردها موجبة لمصاحبة الحق لها، وإن كانت وجه ترجيح في غير هذا الباب بشروط معروفة مدونة، وأنت خبير بأن الله سبحانه قد ذم الكثرة في مواضع من كتابه العزيز (1) ومدح القلة مرات (2) وصرح في الحديث الصحيح (3) بأن الثابت على الحق
_________
(1) كقوله: تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعملون} [الأنعام: 37] {وأكثرهم للحق كراهون} [المؤمنون: 70]
(2) كقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3641) ومسلم في صحيحه رقم (174/ 1037) من حديث معاوية قال سمت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقولك «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»(5/2134)
طائفة من الناس، لا يضرهم من خالفهم [10]، والرجال تعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، كما صرح بذلك أمير المؤمنين- عليه السلام-.
وأيضا خير (1) القرون قرني، ثم الذين يلونهم، لم يسمع منهم في جواز هذه المسئلة حرفا واحدا، وهذه الطائفة التي رميتها بالقلة لم تدع الناس إلى شيء سوى هدى الصحابة الذين هم المرجع بعد الكتاب والسنة، ولو كانت الكثرة بمجردها موجبة للترجيح لخرج الحق عن يد أهل البيت، المشهود لهم بعدم مفارقة الحق، لقطع بأنهم بالنسبة إلى سائر علماء الإسلام أقل من القليل، وقد وقع الخلاف فيهم وبينهم في مسائل متعددة، وينسحب الخوض في الخطأ في خروجهم على الظلمة، وهذا باطل.
فإن قلت: بين الكلامين فرق لقيام الادلة على حقية ما ذهب إليه أهل البيت.
قلنا: وهذه الطائفة القليلة قد قام الدليل على حقية ما ذهبت إليه كما سمعته في أول هذه الرسالة، ودع عنك الاحتجاج بالرجال، والاعتزاء إلى الآراء والأقوال، وجرد نفسك للحق، واغسل قلبك عن درن العصبية، فنك إذا فعلت ذلك نظرت إلى الحق من وراء ستر رقيق.
قوله: وهذه التشكيكات ليست بدعوى عاطلة عن البرهان إلخ.
أقول: قد رأيت ما حررناه سالفا، فأعجب لإطلاق اسم التشكيك عليه، وهذا اللفظ قد اشتهر إطلاقه لعدم الإنصاف على أدلة الخصوم، حتى صار شفعة حب التعصب بكثرة استعماله كالمرسوم.
قول: من قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «من شذ شذ إلى النار» (2) إلخ.
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2) أخرجه الترمذي في «السنن» رقم (2167) من حديث ابن عمر أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على ضلالة ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار» قال الترمذي: هذا حديث غريب.
قلت: فيه سليمان بن سفيان ضعيف، ولكن له شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة». والخلاصة أن الحديث صحيح دون قوله «ومن شذ شذ إلى النار».
قال الترمذي: هذا الحديث غريب.
قلت: فيه سليمان بن سفيان ضعيف، ولكن له شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة».
والخلاصة أن الحديث صحيح دون قوله «ومن شذ شذ إلى النار».(5/2135)
أقول: المراد بالشاذ هاهنا المنفرد بدين لا يشاركه فيه غيره، وهو المراد بقوله: إن الله يكره الواحداني كما فسره صاحب النهاية (1) بالمتوحد بدينه، المنفرد عن الجماعة، وليس المراد به أئمة الاجتهاد المكثورين بالنسبة إلى المخالفين كما في مسألتنا، فإن هذا مما لا يستجيز إطلاقه عليهم بهذا المعنى متدين.
وإني لعجب منك كيف تعجبت من رمي من مى جمهور هذه الأمة الآية والحخديث والسابقين، ووقعت فلي مثل ذلك قبل جفاف القلم، مع تصريحك بأن المجتهد إنما عمل بما هو مفروض من العلم، بما أدى إليه اجتهادهن حتى قلت: فعمله بذلك هو الواجب عليك قطعا، وصرحت سابقا ولاحقا بن كل مجتهد مصيب، وأنت مسلم أن هؤلاء، لم يخالفوا الإجماع، وهل هذه إلا مناقضة ظاهرة!.
قوله: المقلد دينه وشريعته قول أي عالم إلخ.
أقول: دين المقلد دين الله، وشريعته، شريعة الله، وما شرعه الله [11] من الدين ليس بخاص بالأئمة المجتهدين، بل عام للقاصر والكامل، والمتحلي بمعارف العلوم والعاطل، إلا أن فرض المقصر الذي لا يعقل الحجة إذا جاءته أن يسأل أولي العلم عن المراد بها، لا عن أقوالهم الاجتهادية، وقد صرح- الله جلال جلاله- بهذا فقال: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (2) فأوجب عليه السؤال عن نص الشريعة، لا عن الآراء المخترعة، ويالله العجب من تخصيص العمومات من الكتاب والسنة والقاضية
_________
(1) ابن الأثير (3/ 426).
(2) [النحل: 43]، [الأنبياء: 7](5/2136)
بوجوب طلبهما على كل فرد العباد بهذه التخيلات الفاسدة!.
قوله: وجدت الأمر يدور أخره إلى أوله إلخ.
أفول: قد عرفنا فساد هذه الدعوى غيرة مرة، وأن السائل عن مدلول الكتاب والسنة ليس بمقلد.
قوله: أعني في مسألة اجتناب التقليد، فلم أجد ما يشفى الغليل إلخ.
أقول: لو تأملت- غفر الله لك- أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم لشفيت بذلك غليلك، وبيان ذلك أن هذه الثلاث الطبقات التي خير هذهه الأمة المرحومة قد اشتملت على العالم والعامي، فكان صنع العالم فيها الاجتهاد، وصنع العامي السؤال عن الكتاب والسنة، واستفسار الأئمة، والعمل بما بلغ إليه، وليس هذا من التقليد في شيء، لما تقرر في الأصول من أن التقليد قبول قول الغير من دون حجته (1) هؤلاء لم يقبلوا قول الغير بل قبلوا حجته بواسطة روايته، وقبول الرواية ليس بتقليد، فهؤلاء الأعلام الذين نسبتهم إلى التضييق على الناس بسبب منعهم التقليد لم يطلبوا من العوام إلا التشبه بعوام الصحابة، فمن بعدهم، واطراح التقليد المبتدع، وإذا كان الأمر الذي ندبوا الناس إليه هو الهدى الذي درج عليه خير القرون، فأي وصمة- لله درك- عليهم في هذا! وهاك طريقة ينزاح عنك بها الإشكال.
سنوردها عليك على طريق السؤال فنقول: عوام الصحابة والتابعين لا يخرجون عن الأتصاف بأحد ثلاثة أشياء، أما التقليد، أو الاجتهاد، أو الواسطة، فالأول باطل لما بيناه من أنهم لم يقبلوا القول بل قبلوا حجته، ولهذا لم ينسب أحد منهم إلى أحد من أولئك الأعلام، كما نسب هؤلاء المقلدة إلى أئمتهم، بل اكتفوا بالانتساب إلى مطلق الشريعة، ونعمت النسبة، ولم يسمع عن أحد منهم أنه انتسب في مذهبه مثلا إلى ابن عباس، قبيل له عباسي كما يقال شافعي مثلًا.
_________
(1) أنظر الرسالة الآتية برقم (60)، وعنوانها (القول المفيد في حكم التقليد) من القسم الرابع- الفقه.(5/2137)
والثاني باطل أيضًا لفقدانهم الأهلية التي لا بد منها، فلم يبق إلى الثالث أعني الواسطة كما عرفناك، فإذا عرفت هذا حق معرفته شفيت به غليلك.
قوله: ولم يظهر لي إلى الآن إلا أن ما قالاه فرض المجتهد إلخ [12].
أقول: صرح العلامة المقبلي في أبحاثه (1) في المثال الحادي والعشرين من أواخرها بمامعناه: أن غير المجتهد يجب على جوازه دليل، ثم قال: لأنه يعني أن المقلد مكلف بحسب الاستطاعة، وقد انحصرت حالته في الحالة الراهنة في الرجوع إلى العالم، لأنه أمارة على الحق لم يستطع الجاهل تحصيل غيرها، فلو لم يقلد الجاهل في ذلك الأمر الضروري في كل حادثة حادثة لترك ما علم وجوبه كالصلاة مثلا، ولا يجوز التقليد الكلي انتهى، وها الكلام مع كوننا لا نساعده عله فقد عرفك أن المقبلي بريء مما نسبه إليه المؤلف، من أنه أوجب عليه ما هو فرض على المجتهد لا غير، وضيق على الناس، وهكذا الحقق الجلال شرح في شرح قصيدته المسماة بفيض الشعاع يمنع تقليد الأموات (2) لا الأحياء،
_________
(1) وهي الأبحاث المسددة في فنون متعددة (ص506).
(2) قال في البحر المحيط (297 - 300): فإن قلد ميتا ففيه مذاهب:
أحدها: وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله الريواني الجواز، وقد قال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها، ولا بفقد أصحابها، وربما حكى فيه الإجماع، وأيده الرافعي بموت الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم، وفإن شهادته لا تبطل .....
الثاني المنع المطلق، إما لنه ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته، وأما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال، وإما لنه لو كان حيا لوجب عليه تجديد الاجتهاد وعلى تقدير تجديده، لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناء على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز.
وهذا الوجه نقله ابن حزم عن القاضي، وحكى الغزالي في «المنخول» فيه إجماع الأصوليين.
الثالث: الجواز بشرط فقد الحي، وجزم به إلكيا وابن برهان.
الرابع: التفصيل بين أن يكون الناقل له أهلا للمناظرة، مجتهدا في ذلك المجتهد الذي يحكى عنه، ولم نكلف المقصر تكليف المجتهد كما قاله المؤلف
قوله: فيجوز وإلا فلا.
قاله الآمدي والهندي، وانظر: تفصيل ذلك في «البحر المحيط» (6/ 300).(5/2138)
ولم نكلف المقصر تكليف المجتهد كما قاله المؤلف.
قوله: وهذا متفق عليه بين المسلمين إلخ
أقول: هذه دعوى باطلة، بل كل من قال بالمنع من التقليد كمعتزلة بغداد، كما حكى ذلك عنهم المحقق ابن الإمام في شرح الغاية، وكذا حكاه غيره (1) عنهم، وقد قال به الجعفران كما رواه جماعة عنهما، قائل بوجوب اتباع الدليل على المقلد، لكنه لما كان مسلوب الأهلية وجب عليه أن يستروي من حصلت له، فكيف يتم للمؤلف دعوى الاتفاق! اللهم إلا أن يريد بقوله: وترك أقوال الناس أعم مما نحن بصدده أعني أقوالهم الشاملة للرواية، والرأي، والتفسير، والتصحيح، فمثل هذا لا يستغنى عنه المجتهد في جمعي الأعصار، فما هذه المساهلة في حكاية إجماع المسلمين، الذي هو حجة على العباد! وما هذه الترويج- على المقصرين- الشاط عن سبيل الرشاد والسداد! لا جرم لهوى النفس سريرة لا تعلم.
قوله: لم أجده إلا تحرجا عظيما إلخ.
أقول: إن كان هؤلاء العامة من أهل زماننا لا يسعهم ما وسع عوام الصحابة فمن بعدهم، وكان هدي أولئك الأفاضل تحرجا على هؤلاء، فلا فرج الله عنهم هذا التحريج، ولا وسع لهم هذا المضيق.
وهنا مظنة سؤال لعلك تتفطن له وتقول: فرق بين عوام الصحابة وغيرهم، فإنهم غير محتاجين إلى ما يحتاج إليه هؤلاء، لأن أولئك أهل اللسان العربية والأذهان والسيالة، والفطر القويمة، فنقول: نحن لا نعني بعوام الصحابة من أحاط بالقرآن حفظا، واستكثر من حفظ السنة النبوية، فإنه مجتهد، لأن جميع المعارف حاصلة كما ذكرت، وإنما نعني
_________
(1) ذكره الزركشي في «البحر المحيط» (6/ 284)(5/2139)
من لم يحفظ [13] شيئا من ذلك، أو حفظ مقدار يسيرًا، فإنه- وإن فهم ما وصل إليه، لا يقدر على الاجتهاد لتوقفه على معرفة فقد المعارض، والناسخ، والمخصص والمقيد، ونحو ذلك؛ فلا بد له من السؤال عما جهل، والرجوع إلى من هو أعلم منه، وعلى أن المقصرين من الصحابة والتابعين كانوا لا يجرؤون على تفسير القرآن والسنة بدون الرجوع إلى علمائهم، واستعلامهم عنهما، وهذا متواتر عنهم، وهو عين ما ذكرنا له،
قوله: كالتكليف بما لا يطاق إلخ.
أقول: قد صرح المؤلف- رحمه الله- في أول هذه الرسالة بأنه ذلك من تكلي مالا يطاق، وقارب هاهنا فجعله مشبها به، والكل خبط، وخلط وغفلة عن مفهوم مالا يطاق، وق حررناه فيما سبق ما فيه كفاية، وسنتقصر ها هنا في الجواب على المؤلف (1) على قوله في قصيدته التائية (2).
ومن [قال] أن الأمر ليس بممكن ... وأن ليس إلا اتباع لفرقة
فأحباره أربابه دون ربه ... وقبلته ليست إليه بوجهة
وهاهي ما بني الأنام شهيرة ... جلية معنى اللفظ غير خفية
وسنة خير المرسلين علومها ... مسهلة للأخذ في كل بلدة (3)
وهي أبيات طويلة نحو الثلاثين، وكلها في التنفير عن التقليد ومن جملتها هذه.
ودع عنك تقليد الرجال ولا تقل ... هم فطنا ما لم أنله بفطنة
_________
(1) أي إسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد
(2) أولها:
تأمل وفكر في المقالات وأنصت ... وعد من ضلالات التعصب والفت
انظرها كاملة في (نشر العرف) (1/ 332 - 333)
(3) في «نشر العرف» [العظيم](5/2140)
فقد بلغوا مقدار ما جهدوا له ... وكل عليه جهده في الشريعة
فإن أخطؤوا شيئا فربك عالم ... بما أضمروه من صحيح العقيدة
وأنت فقد أخطأت حين جعلتهم ... سبيل هدى في رخصة أو عزيمة
وليته اقتصر على هذه الأبيات التي صرح فيها بالمذهب الحق وسلم من هذا التهافت الذي جمعه في هذه الورقات، ولقد كنت أستحسن هذه القصيدة لاشتمالها على أطراف من النصح الصحيح، حتى حداني ذلك إلى تذييلها بقريب من مثليها، وقد ذكرت في أول هذه الرسالة جملة من ذلك.
قوله فإن يكن عند أحد من علمائنا نص إلى قوله فليظهره.
أقول: لا يشك من له أدنى تمييز أن النصوص القرآنية والحديثية الدالة على وجوب اتباع الكتاب والسنة على كل فرد من أفراد العباد قد بلغت مبلغا تقصر عنه العبارة، والعلم بها قدر مشترك بين العاصي والعالم، هؤلاء المقلدة الذين تبرعت [14] بالمفاضلة عنهم داخلون تحت تلك العمومات دخولا لا ينكره من له أنسة بمدلولات الألفاظ فإن ادعيت خروجهم عنها، وأو اختصاصها بالمجتهدين، فأبرز لنا دليل التخصيص، أو الاختصاص، وما أراك تجده.
قوله: وليس الاختلاف المذموم هو ما عليه الناس إلخ.
أقول: بل هو هو، لأن الخلاف المنهي عنه منسوب إلى الدين فحصول أي خلاف لفيه داخل تحت عموم الأدلة القاضية بالنهي نحو قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (1) وقوله: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (2) إلى غير ذلك من الأدلة، وسنوردها إن شاء الله في هذه الرسالة، وعلى الجملة أنا نعلم أن الخلاف بين هذه الأمة قد يفضي في كثير من المسائل إلى التفاؤل بين العالمين
_________
(1) الأنعام:159].
(2) الشورى:13.(5/2141)
في تحليل عين وتحريمها، وإيجاب حكم وتحريمه، ونحو ذلك، وهذا من الاختلاف في الدين بلا ريب.
قوله: منها أنه قد علم أن تكليف الله للمجتهدين إلخ.
أقول: لم يكلف الله تعالى المجتهد إلا بطلب الحق لا سواه، فإن ظفر به ضاعف له الأجر، وأن أخطأه فخطؤه عفوا وله أجر كما صرح بذلك الحديث الصحيح.
قوله: وهي الحجة في إصابة المجتهدين.
أقول: قد أشار- رحمه الله- إلى قول الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (1) وسنملي عليك ما إن تأملته حق تأمله عرفت عدم دلالة هذه الآية المطلوب.
أما أولا فقد وقع الاخلاف بين المفسرين في سبب النزول في هذه الآية، فمنهم من يقول: جزم بأن السبب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أمر بالقطع قيل له: كيف نفعل وقد نهينا عن الفساد! فنزلت، وهي على هذا خارجة عن محل النزاع.
ومنهم من (2) قال: إنها نزلت في شأن الصحابيين الذين اختلفا، فأخذهما أفسد بالقطع، والآخر أصلح واجتهد في التقويم، وعلى هذا التفسير قيل: إنها من أدلة التصويب المدعى، وقد ذكر الأئمة في سبب نزول الآية أسبابا منها ما ذكره االواحدي في أسباب النزول (3) قال بعد أن ذكر الآية ما لفظه: ولك أن رسول الله- صلى الله عليه آله وسلم- لما نزل بيني النضير، وتحصنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك، وقالوا: زعمت يا محمد أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجرة المثمرة، وقطع النخيل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في
_________
(1) [الحشر: 5].
(2) أخرجه بن جرير في «جامع البيان» (14/جـ 28/ 34).
(3) (ص: 417).(5/2142)
الأرض؟ فشق ذلك على النبي- صلى الله عليه آله وسلم-، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون ذلك فسادًا، واختلفوا في ذلك [15] فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعها، فأنزل الله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها} الآية تصديقا لمن نهى قطعه، وتحليلا لمن قطعه، وأخبر أن تركه وقطعه بإذن الله.
ومنها ما ذكره الواحدي (1) قال أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا قتيبة، حدثنا الليث بن سعد عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حرق نخل النضير، وقطع البويرة فأنزل الله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قال: رواه البخاري (2) ومسلم (3) عن قتيبة، قلت: وقد عزا ه في جامع الأصول (4) وإلى الترمذي (5) وأبي داود (6).
وقال الترمذي: حسن صحيح، وذكره الواحدي (7) أيضًا من طريق أخرى، فقلل: حدثنا أبو بكر بن الحارث أن عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قطع نخل بني النضير وحرق، وهي البويرة،
_________
(1) في «أسباب النزول» (ص418).
(2) في صحيحه رقم (4884).
(3) في صحيحه رقم (1746).
(4) (2/ 380 رقم 837).
(5) في السنن رقم (3302)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(6) في السنن (2615) وهو حديث صحيح.
(7) في أسباب النزول ص (418). وأخرجه مسلم رقم (30/ 1746).(5/2143)
ولها يقول حسان:
وهان على سرة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وفيها نزلت الآية، ومنها ما أخرج الترمذي (1) عن أبن عباس بلفظ قال: استنزلهم من حصونهم قال: وأمروا بقطع النخل قال قال: فحك ذلك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضا وتركنا بعضا، قلنا، يا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركناه من وز؟ فأنزل الله الآية، وقال: حسن غريب.
ومنها ما ذكره الواحدي (2) أيضا: قال أخبرنا أبو بكر، أخبرنا عبد الله، أخبرناسلم بن عصام حدثنا رستة، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا محمد بن ميمون التمار، ثمنا جرمون عن حاتم النجار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قام يهودي إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: أنا أقوم فأصلي، قال: قدر الله لك أن تصلي قال: أنا أقعد، قال: قدر الله لك أن تقعد، قال: أنا أقوم إلى هذه الشجرة فأقطعها، قال قدر الله لك أن تقعطها، قال: فجاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: لقنت حجتك، كما لقنها إبراهيم على قومه، وأنزل الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (3) يعني اليهود.
وفي الكشاف (4) ما لفظه: وذلك أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حين أمر، تقطع نخلهم، وتحرق، قالوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد [16] في الأرض،
_________
(1) في السنة رقم (3303) بإسناد صحيح وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) في: أسباب النزول (ص 418 - 419).
(3) الحشر:5.
(4) (6/ 76).(5/2144)
فما بال قطع النخل أو تحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء، فنزلت يعني أن الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظا، ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا، ويتصرفون فيها كيف شاؤا، وقد صدر هذا ثم ذكر بعد ذلك ما لفظه (1): وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال هذا: تركتها لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار، وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك. واحتج به (2) م يقول: كل مجتهد مصيب انتهى.
وقد طولنا الكلام في السبب لتعلم أن الأحاديث الصحيحة قاضية بأن السبب غير المدعى، وأن الآية خارجة عن محل النزاع، وعندي أنها خارجة عن ذلك على كل وجه، لن الآية كشفت عن أصل الأمر المشكوك فيه وهو الإباحة، فليست على هذا دليلا على محل النزاع، بل هي بمثابة قولك لرجلين قال: أحدهما نمت، وقال الآخر استيقظت، فقلت: لا حرج على كل واحد منكما رجوعا منك إلى استواء فعل النوم وتركه، وأيضا إباحة أموال الكفار الخارجين عن الطاعة معلومة لكل واحد من المختلفين ولغيرهم من الصاحبة قبل هذه الواقعة، فالقطع ليس بالاجتهاد، ويشهد لصحة هذا قوله
_________
(1) أي الزمخشري في الكشاف (6/ 76 - 77)
(2) قال القرطبي في «الجامع لأحاك القرآن» (18/ 8): قال الماواردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري في وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقرير فقط.
قال ابن العربي: وهذا باطل، لأن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإنما يدل على اجتهاد النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما لم ينزل عليه أخذ بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى {وليخزي الفاسقين}(5/2145)
تعالى {فبإذن اله} أي الإذن السابق قبل هذه الواقعة، وأنت لا تشك لو قال القائل لعبده وقد نازعه منازع في شيء من التصرفات، فعل ذلك بإذن أن ذلك الإذن سابق على الصرف ولو لم ين سابقا لكنا اليد كاذبا في إخباره وهذه الآية التي عرفناك أنها لا تصلح للاستدلال قد اعترف القائل بإصابة كل مجتهد أنها أنهض الأدلة على قوله.
قال الإمام المهدي: إنها أقوى ما يستدل به من السمع على هذه المسألة حكى ذلك عنه صاحب التلخيص على المقدمة.
قوله: مصوب كل واحد منها إلخ.
أقول: التصويب منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- باعتبار أن كل واحد منهما قدانحرف من الحروف التي أنزل القرآن عليها كما ثبت في حديث عمر عند البخاري (1)، ومسلم (2) والموطأ (3) والترمذي (4) والنسائي (5) بلفظ: قال سمعت هشام ابن حزام، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فاستمعت لقرآنه فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلت: كذبت فإن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد أقرأينها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده على رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أرسله،
_________
(1) في صحيحه رقم (2419)
(2) في صحيحه رقم (818).
(3) (1/ 206)
(4) في «السنن» رقم (2943). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
(5) في السنن رقم (1475)(5/2146)
أقرأ يا هشام: فقرأ عليه السورة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف، فأقرؤوا ما تيسر منه".
ومثل هذا ما وقع بين أبي بن كعب ورجل من الصحابة، ثم حسن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شأنهما، ثم قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- معللا لذلك التحسين بمثل ما قاله لعمر، وهو ثابت في صحيح مسلم (1) والترمذي (2) وأبي داود (3) والنسائي (4). بروايات متعددة.
ولا يشك أن الكل صواب لهذا الاعتبار.
قوله: ونهاهما (5) عن الاختلاف
أقول: هذا حجة على المؤلف لأن هذا الاختلاف في فرد من أفراد ا لشرعية، لا فرق بنيه وبين غيره.
قوله: فيعود الكلام على منكري الاختلاف والتمذهب.
أقول: هذ تسليم من المؤلف- رحمه الله-باندراج الخلاف المتنازع فيه في النهي
_________
(1) في صحيحه رقم (273/ 820)
(2) في السننن رقم (2944)
(3) في السنن رقم (1477)
(4) في السنن (2/ 151) وهو حديث صحيح
(5) وقد ذم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الاختلاف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئان وأن تعصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه مسلم رقم (1715) وأحمد (2/ 327، 360)، ومالك في الموطأ (2/ 990) والبخاري في الأدب المفرد رقم (442) وهو حديث صحيح(5/2147)
المذكور، وهو المطلوب وادعاء عودة على منكري الاختلاف ممنوع، والسند أن اختلاف المختلفين في الدين مني عنه، وكل منهي عنه منكر، فاختلاف المختلفين في الدين منكر.
وإذا ثبت أن هذا الاختلاف منكر فكل منكر يجب إنكاره، فهذا الاختلاف يجب إنكاره وهو المطلوب، فما وقع من العلماء من تقبيح الاختلاف من باب المنكر، لا من باب الاختلاف المنهي عنه، ولو كان من باب الاختلاف المنهي عنه لانسد باب إنكاره المنكر وهو باطل.
قوله: ومنها أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن، إلى قوله فيبعد أن يكون المراد.
أقول: أراد المؤلف بهذا ابحث الاحتجاج بالإجماع من الصحابة فمن بعدهم، على تجويز الاختلاف (1) بين الأمة المعلوم بالضرروة، وعلى التصويب المدعى، وهذه الحجة أنهض حجة جاء بها أهل هذه المقالة، وهي دعوى لا تتفق عند من له أدنى تمييز للقطع بصدور الإنكار للخلاف من الصحابة فمن بعدهم إلى عصرنا هذا والتصريح بتخطئة بعضهم بعضا حتى جزم جماعة بأن ذلك أعنى التخطية إجماع الصحابة، وممن جزم بذلك المحقق ابن إمامة في الغاية.
_________
(1) قيل: إن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا وهم أفاضل النسا أفيلحقهم الذم المذكور؟؟.
قال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (5/ 67 - 68): كلا ما ليلحق أولئك شيء من هذا، لأن كل أمرئ منهم تحرى سبيل الله، ووجهه الحق فالمخطئ منهم مأجور أجرا واحدا لنيته والجملية في إدراة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه، ولا استهانوا بطلبه والمصيب منهم مأجور أجرين، وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعد بلوغ النص إليه، وقيام الحجة به عليه، وتعلق بفلان وفلان مقلدا عامدًا للاختلاف داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية قاصد للفرقة متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ بها وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهؤلاء المختلفون المذمومون».(5/2148)
وسنملي عليك طرفا ما وقع بينن الصحابة من التصريح بالتخطية لبعضهم بعضا [18] ولأنفسهم، فأخرج البيهقي (1) عن علي- عليه السلام- أن عمر أرسل إلى أمرة بلغة عنها شيء ففزعت، وكانت حبلى فألقت ولدها، فصاح صيحتين ومات، فاستشار عمر الصحابة، فأشار عليه بضعهم أن ليس عليك شيء، إنما أ، ت وال ومؤدب، فقال عمر: ما يقول علي؟ فقال علي عليه السلام: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطؤوا، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك، لأنك أفزعتها فألقت ولدها من سببك، وأخرج عبد الرزاق (2) عنابن عباس أنه قال: لا يتقي الله يد بن ثابت جعل ابن الابن ابنا، ولم يجعل أب الأب أبا، وهكذا قوله في العول: لو قدم عمر من قدم الله، أخر من أخر الله ما عالت فريضة.
ذكره الأسيوطي في شرح جمع الجوامع.
وروي عن علي- عليه السلام- وزيد بن ثابت وغيرهما تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول.
وروي الأسيوطي عن أبي بكر في الكلالة أنه قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله وحده ولا شريك له، وإن كان خطأ فمن ومن الشيطان، والله عنه بريء.
رواه الدارمي (3) والبيهقي (4) وابن أبي شيبة (5) وغيرهم (6).
وروى المؤيد بالله في التجريد (7) عن ابن مسعود أنه قال امرأة مات زوجها ولم
_________
(1) في «السنن الكبرى» (8/ 115 - 118)
(2) لم أعثر عليه في المصنف ولا في التفسير والله أعلم
(3) في المسند رقم (3015).
(4) في السنن الكبرى (6/ 224)
(5) في المصنف (11/ 415) رقم (11646).
(6) كسعيد بن مصنور في سننه (3/ 1185رقم 591 بسند صحيح منقطع
(7) تقدم التعريف به(5/2149)
يفرض لها صداقا: أقول فيها برأيي: فإن كان صواب فمن الله، وإن ككانخطأ فمن ومن الشيطان.
رووى البيهقي (1) أن كاتبا لعمر بن الخطاب كتب: هذا ما أرى الله عمر، فقال عمر: أمحه، وكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر.
ومن ذلك تخطئتهم لابن عباس في إفتائه بالمتعة (2) وتخطئتهم له أيضًا في جواز بيع الدرهم بالدرهمين استنادا منه إلى إنما الربا في النسيئة (3).
ومنه اختلاف أهل الجمل وصفن، والنهروان، وتخطئة بعضهم بضعًا، ثم الختلاف في قتل عثمان، وكم نملي عليك من هذا القبيل.
وفي نهج (4) البلاغة عن علي- عليه السلام- أنه قال: أترد على أحدكم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب أراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد، وكتابهم واحد! أفأمرهم الله سبحانه بخلاف ما أطاعوه! أم نهاهم عنه فعموه! أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامة! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى!
أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن تبليغه وأدائه، وألله سبحانه يقول: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (5) وقال: {تبينانا لكل شيء} (6)
_________
(1) لم أعثر عليه في السنن الكبرى
(2) سيأتي الكلام على ذلك في الرسالة رقم (103)
(3) سيأتي الكلام على ذلك في الرسالة رقم (114)
(4) (ص62 - 63)
(5) الأنعام: 38
(6) [النحل: 89](5/2150)
وذكر أن الكتاب يصدق بضعه بعضها، وأنه لا ختلاف فيه، فقال سبحانه: {ولو كان [19] من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا} (1) وأن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا بن وقال عليه السلام في بعض خطبه: فواعجباه، ومالي لا أعجب ممن خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، وكفى دليلا على المطلوب تصريحه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالتخطية في عدة أحاديث منها: ما أخرج البخاري (2) ومسلم (3) وأبو داود (4) والنسائي (5) والموطأ (6) عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر».
وأخرج البخاري (7) ومسلم (8) والترمذي (9) والنسائي (10) وأبو داود (11) والموطأ (12) عن أبي هريرة نحوه.
_________
(1) النساء: 82
(2) في صحيحه رقم (7352)
(3) في صحيحه رقم (15/ 1716))
(4) في السنن رقم (3574)
(5) في السنن (8/ 223 - 224)
(6) لم يخرجه مالك
(7) في صحيح رقم (7352)
(8) في صحيحه رقم (000/ 1761)
(9) في السنن رقم (1326)
(10) في السنن (8/ 223 - 224)
(11) في السنن رقم (3574)
(12) لم يخرجه مالك وهو حديث صحيح(5/2151)
قال الترمذي (1) وفي الباب عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر.
وفي رواية للحاكم (2) إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجران، وإن أصاب فله عشرة أجور، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد (3) وعن عقبة بن عامر أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال له في قضاء أمره به: اجتهد، فإن أصبت فلك عشرة حسنات، ون أخطأت فلك حسنةن وروي نحوه أحمد بن حنبل في مسنده (4) فالعجب كل العجب من القائل: كل مجتهد (5) مصيب، مع هذا التصريح النبوي الذي جاءت به الأحاديث المتعددة الصحيحة، بأن مخالف الحق مخطئ (6) ولو صح إصابة كل مجتهد ما وقع من الله العتاب لرسوله، وللمؤمنين في كثير من الاجتهادات، كقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} (7) وقوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى
_________
(1) في السنن (3/ 651)
(2) في المستدرك (4/ 88)
(3) وروده الذهبي بقوله: فرج ضعفوه» قلت: وفي سنده اضطراب
(4) (4/ 427) بإسناد ضعيف
(5) تقدم التعليق على هذا القول
(6) قال الحافظ في الفتح (13/ 318 - 319): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ بشير إلى أنه لا يلزم من رد كمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم محكم أو أفتى بغير علم لقحه الإثم.
قال ابن المنذر: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ، إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد وأما إذا لم يكن عالما فلا.
وقال الخطابي في معالم السنن: إنما يؤجر العامل لن اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر عل الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط كذا قال: وكأنه قال: و: أنه يرى أن قول: وله أجر واحد مجاز عن وضع الإثم.
(7) التوبة: 43(5/2152)
يثخن في الأرض} (1) وقوله {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما آخذتم عذاب أليم} (2) وقوله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} (3).
وهكذا نهيه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن الاستغفار للمشركين (4) وغيره ذلك من الآي، ويدل على ذلك أيضًا حدي أبي سيعد قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيديا طيبا، فوجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة الوضوء ولم يعده الآخر، ثم أتيا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزتك صلاتك، وقال للذي توضأ ,أعاد لك من الأجر مرتين أخرجه أبو داود (5) والنسائي (6) والدارمي (7) والحاكم (8) وابن السكن (9) والدارقطني (10) وهو في كثير من المؤلفات أهل البيت- عليهم السلام- ففي هذا ا لحديث دليل على عدم التصويب للتنصيص على أن المصيب للسنة أحدهما فقط والآخر لم يصبها ولو كانت الشريعة أحدا دائرًا بين مرادات
_________
(1) [الأنفال: 67]
(2) الأنفال: 67
(3) التوبة:84
(4) قال تعالى {استغفر لهم أو لا تستغفر هم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:80]
(5) في السنن رقم (338)
(6) في السنن (1/ 213 رقم 433).
(7) في السنن (1/ 576 رقم 771)
(8) في المستدرك (1/ 178 - 179) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين
(9) ذكره الحافظ في التخليص (1/ 156)
(10) في السنن (1/ 188 - 189 رقم 1، وه حديث حسن(5/2153)
المجتهدين لأصباهم كل واحد منهم، وفيه أيضًا تصريح بالعفون فإن المخالف للسنة [20] لم يأثم مخالفة بل استحق زيادة الأجر بالصلاة والأخرى، لأنها عبارة يستحق عليها ا لثواب، لأنه سبحانه لا يضيع عمل عامل.
ومثله حديث جابر قال: خرج رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عام الفتح إلى مكة في رمضان، وصام حتى بلغ كراع العميم، وصام الناس، ثمدعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض النس قد صام فقال: أولئك العصاة أخرجه مسلم (1) والترمذي (2) وفي هذا تصريح بالخطأ والإثم، ولا يشك منصف أن صوم أولئك إنما كان باجتهاد، فإن قلت: استحقاق الأجر ينافي الخطأ، وقد صرحت الأدلة بأنه مأجور.
قلت: استحقاق الأجر لي في مقابل الخطأ بل في تعب التحصيل، ومشقة البحث، قال ابن لإمام في شرح الغاية ما لفظه: تنبينه: أجر المخطئ على بذل الموسع لا على نفس الخطأ لعدم مناسبته، ولأنه ليس من فعله، والمصب بتعدد الأجر في حقه فله أجر على بذل الوسع كالمخطئ، وأجران أو أجور إما على الإصابة لكونا من آثار صنعه، ,إما لكونه سن سنة حسنة يقتدي بها من يتبعه من المقلد لاهتدائهم به لمصادقتهم الهدى، ومقلد مخطئ لم يحصل على شيء انتهى.
ومن أدلة ما نحن بصدده براءته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من فعل خالد (3) في قتله بني
_________
(1) في صحيحه رقم (90/ 1114)
(2) في السنن رقم (710) وقال حديث حسن صحيح
(3) يشير إلى الحدي الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4339) عن سالم عن بأبيه قال: بعث النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خالد بن الوليد إلى بين جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين(5/2154)
جذيمة وقد بين وجه اجتهاده بالبقاء على الأصل، وكذلك تخطيته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأسامة بن زيد (1) في قتل من قال: لا إله إلا الله، وقد بين وجه اجتهاده بأنه إنما قالهاتقية، وحديث خالد وأسامة (2) في الأمهات وغيرها، فهذه الأدلة قد دلت على مطلق الخطأ، مصحوبا بالإثابة أو الإثم أو العفو بحسب اختلاف الأفعال، وعلى الجملة أن تسمية المخطئ بالمصيب من الإصابة التي هي منافية للخطأ، لا من الصواب الذي لا ينافيه مستلزمه لإبهام الشريعة وبيانها بالاجتهادات، وهذا لعمرك الغلو الظاهر، وأي غلو أبلغ من جعل الشريعة محرمة إن حرم المجتهد محلله إن حلل موجبة، وإن أوجب مسقطه إن أسقط.
نعم وأما استدلال القائل بأن كل مجتهد مصيب بقوله تعالى: {ففهمنها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما} (3) فهي من الدلالة على التصويب بمراحل، وأي فائدة
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه (4269) ومسلم في صحيحه رقم (96) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: بعثنا رسول الله إلى الحرقة، فصحبنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها، حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ".
(2) تقدم تخريجهما في التعليقتين السابقتين.
(3) [الأنبياء: 79].
قال الشاطبي في الموفقات (4/ 1656 - 166) بعد ذكر الآية: تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع، قال: {وكلا ءاتينا حكما وعلما}.
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (11/ 309): قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه وعذر داود اجتهاده(5/2155)
جاء بها التخصيص بالتفهيم مع الاستواء في الإصابة، وتبعية مراد الشارع لمراد يما؟ فالقائل بأنها دالة على التصويب مطرح بمعنى التفهيم الذي من شأنه إصابة المتصف به وخطأ مقابلة.
نعم فيها دالالة على العفو بعدية باعتبار قوله: {وكلا ءاتينا حكما وعلما} وقيل إنماكان كذلك الدفع توم إن داود- عليه السلام- ليس بذي علم وحكم، وكيف [21] يتفقان في الإصابة (1) وقد رجع داود- عليه السلام- إلى حكم سليمان!.
وأما الاستدلال بحديث: خلاف أمتي رحمة» (2) فهو لا يدل على التصويب، وعلى
_________
(1) قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (11/ 311) إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس وقضاء من مضى، لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر يدل على ذلك حديث صلى الله عليه آله وسلم- القضاة ثلاثة».
قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على المخطأ وما يؤيد هذا قوله تعالى {ففهمنها سليمان} قال الحسن أثنى على سليمان ولم يذم داود.
والخلاصة أن الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل بل وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصاب أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور ولم يتعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط.
(2) هذا الحديث لا أصل له.
- نقل المناوي عن السبكي أنه قال: وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 212) وقال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (5/ 64): وهذا من أفسد قوله يكون، لأنه لو أن الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا، وهذا مالا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاقا أو اختلاف، ولي إلا رحمة أو سخط» وانظر كلام المحدث الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 76 رقم 57) كشف الخفاء (1/ 66رقم 153)، تذكرة الموضوعات للفتى (2ص 90)(5/2156)
فرض دلالته عليه بالالتزام، فهو أيضًا مما لا أصل له ما قال المحدثون، وهم الناس في هذا ا لباب، واستشهاد مالك به في محفل من النسا لا يدل على صحته، وعلى فرض صحته له فهو ليس بحجة إن لم يسند، وأيضا فإن القطعيات بدفعه كقول الله تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} (1) وقوله {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (2) وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (3) وقال: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو م تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} (4) وقد استعاذ النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وآله وسلم ن الأولتين، وقال في الأخرتين: هاتان أهون» أخرجه البخاري (5) فجعل اختلاف الأمة عذابا ولم يجعله رحمة.
وقد قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «الجماعة رحمة، الفرقة عذاب. أخرجه.
_________
(1) آل عمران: 105
(2) [آل عمران: 103]
(3) [الأنعام: 159]
(4) الشورى: 13
(5) في صحيحه رقم (4628) عن جابر رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أعوذ بوجهك قال: أو من تحت أرجلكم، قال أعوذ بوجهك، {أو م تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هذا أهون، أو هذا أيسر(5/2157)
الطبراني (1) من حديث النعمان بشير. وعنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لا يقتتل مسلمان، ولا يختلف عالمان.
«إذا عرفت هذا عملت عدم الإجماع الذي ادعاه المؤلف على الاختلاف والتصويب، بل وقوع الإجماع على التخطية، وهذا باعتبار المسائل الظنية ن وأما العقليات والقطعيات فقد حكى أئمة الأصول الإجماع على أن الحق فيها مع واحد، والمخالف في الضروريات منها- إن كانت دينا- كافر، وفي النظريات إثم، والبحث مستوفى في الأصول، فليرجع إليه. وكذلك الخلاف في الظني، وحكم المخالف للحق فيه.
وقد سقنا إليك من الأدله ما يطمئن به خاطم، يرشدك إلى بطلان قول المغترين الجاعلين مراد الله أحدا دائرا بين مرادات المجتهدين، وعلى أن هذه المقالة قريبة الميلاد، أول من قال بها المهدي لدين الله محمد بن الحسن الداعي، كما حكى ذلك عنه الإمام الهدي أحمد رأيت بن يحيي في مقدمة البحر (2) وشرحها، وهكذا قال أبو طالب في الإفادة.
وقد رأيت هذه الرواية في كثير من كتب أصحابنا التاريخية.
والعجب كل العجب ممن يدعي أن ذلك إجماع القدماء من أهل البيت، وعي لم تحدث على هذا إلا بعد إنقراض القدماء اصطلاحا بأكثر من أربعين عاما.
فإذا لم ينفعك في هدم هذه المقالة المحدثة كتاب الله، وسنة رسوله، فقد استحكم في قلبك داء العصبية العضال، وسمها الضار القتال فابك على دينك.
قوله: وبالجملة، فالنهى عن الاختلاف إلخ.
أقول: قد أنصف المؤلف- رحمة الله- بإقراره بقبطعية [22] النهي عن الاختلاف،
_________
(1) عزاه إليه الهيثمي في «مجمع الزوائد «(8/ 182) وقال: رواه عبد الله وأبو عبد الرحمن راويه عن الشعبيي لم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله وشكر وتركها كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب.
(2) (1/ 3 - 6).(5/2158)
ولكنه تعقبه بما يضحك منه فقال: وقع الاختلاف في المذاهب أمر قطعي ظاهر، قد وقع عليه الإجماع، ووجب عليه العمل، وأنت قد عرفت بطلان دعوى الإجماع الذي ادعاه، فإن كانت معارضة ذلك الأمر القطعي بإقراره مستنده إلى هذا الإجماع ففيه ما قد سمعته، وأن كانت المعارضة بمجرد وقوع الخلاف بالضرورة فهذا شيء لا يقول به عالم، لأن الزنا، والربا، وشرب الخمر، وقتل النفس، ونحو ذلك معلوم وقوعه في هذه الأمة بالضرورة، فهل يقول عاقل بأن هذا الوقوع يعارض تلك الأدلة القاضية بتحريمه.
قوله: ولن يصوب الله أمرا نهى عنه.
أقول: لم يتم له هذا التلفيق إلا بالبناء على التصويب قد أبطلناه، فإذا عرفت بطلانه عرفت بطلان هذا الدليل الذي لا يتم إلا به.
قوله: فما بقي إلا تفسير الاختلاف بتخطيه بعض المجتهدين إلخ.
أقول: إذا كانت التخطية داخلة في مسمى الخلاف بأى دليل دل على قصره عليها، على أنك قد عرفت ما سردناه عن الصحابة من ذلك.
نعم لما ألجب المؤلف النصوص القرآنية، ولم يجد طريقا إلى ردها داعيته الحيل في تأويلها، وقع فيما وقع، وهكذا فلتكن التعسفات والتموية على المقصرين، وترويج خواطرهم بما لا طائل تحته.
قوله: وما ذكرتم في شأن التقريرات إلى آخر الرسالة.
أقول: المؤلف لما فرغ من تأصيل هذه المسائل التي مرت له وتقريرها، سلك الآن في تقرير فرعها، وقد عرفت ما هدمنا به الأصل الذي عليه أنبنت، وانهدام الفرع تابع له، والكلام على جميع الرسالة على الاستيفاء يستدعي كتابا حافلا، وقد تبين لك بما أسلفناه بقية الكلام على هذه الرسالة، فإن لم تنتفع بهذا المقدار فلست بمنتفع بالتطويل والإكثار، وطرق مذهب أهل البيت- سلام الله عليهم- مسهلة لا حاجة لطالبها إلى هذه(5/2159)
التعسفات، ولا ضرورة تلجيه إلى تلك التقريرات والتذهيبات، المؤسسة على أس لا أصل له عند من له من الفطنة والتوفيق أدنى نصيب، وغلى الجملة فحثية صولة الرعاع قد أمسكت بعنان القلم، ومنعت عن كثير مما يليق بالمقام إيراده
ولا جرم في فمي ماء وهل ... ينطق من في فيه ماء
كمل من خط ومؤلفه: القاضي بدر الدين، وحاكم المسلمين محمد بن علي الشوكاني- حفظه الله- في ذي الحجة سنة 1203 وجعله قرة عين للمسلمين، وأبقى حكمه في جميع الأنام، وسدده إلى ما فيه رضاه آمين آمين آمين.(5/2160)
القول المفيد في حكم التقليد
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت على شف الدين أم الحسن(5/2161)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: القول المفيد في حكم التقليد.
2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد لله وصلاته وسلامه على رسول وآله. فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشمل على تحقيق الحق في التقليد ....
4 - آخر الرسالة: .... فإن ألجأته الضرورة، لم يتمكن من تصريح بالصواب، فعليه أن يصرح تصريحا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو لاأي فلان الذي سأل عنه السائل عن غيره. انتهى ما أدت تحيره بقلم مؤلف محمد بن علي الشوكاني.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الأوراق: 32 ورقة أي 64 صفحة.
7 - المسطرة: 24 - 26 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني
10 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاى الشوكاني).(5/2163)
[تمهيد]
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد لله وصلاته وسلامه على رسول وآله. فإنه طلب بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثا يشمل على تحقيق الحق في التقليد (1)، أجائز هو أم لا على وجه لا يبقى بعده شك ولا يقبل عنده تشكيل. ولما كان هذا السائل من العلماء المبزين كان جوابه على نمط علم المناظرة.
فنقول وبالله التوفيق: لما كان القائل بعدم جواز التقليد قائما في مقام المنع وكان القائل بالجواز مدعيا كان الدليل على مدعي الجواز وقد جاء المجوزون بأدلة:
_________
(1) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة رقم (59).(5/2167)
[أدلة القائلين بجوار التقليد والرد عليها]
[1]: منها قوله تعالى {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (1) قالوا فأمر الله سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم.
(الجواب) أن هذه الآية الشريفة واردة في سؤال خاص خارج عن محل النزاع كما يفيد ذلك السياق المذكور قبل هذا اللفظ الذي استدلوا به وبعده.
يفيد ابن جرير (2) والبغوي (3) وأكثر المفسرين إنها نزلت ردا على المشركين لما أنكروا كون الرسول بشرا، وقد استوفى ذلك السيوطي في الدر المنثور (4) وهذا هو المعنى الذي يفيده السياق (5). قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا إليهم نوحي فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (6) وقال [تعالى]: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} (7) وقال [تعالى]: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا
_________
(1) [النحل:43]
(2) في «جامع البيان عن تأويل آى القرآن «(8/جـ 14/ 108).
(3) في «معالم التنزيل» (3/ 70)
(4) (5/ 132 - 133)
(5) قال ابن جرير في «جامع البيان «(8/جـ14/ 108): وتقول تعالى ذكره لنبيه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحى إليهم وحينا لملائكة، ويقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قبلهم من الأمم من جنسهم، وعلى منهاجهم {فسئلوا أهل الذكر} يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا يرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من نبي آدم مثل محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقلتم: هم ملائكة: أى ظننتم أن كلمهم قبلا- فأسلوا أهل الذكر، وهو الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والانجيل، وغير ذلك من كتب الله التى أأنزلها على عباده.
(6) [النحل:43].
(7) (يونس: 2)(5/2168)
نوحى إليهم من أهل القرى} (1)
وعلى فلاض أن المراد السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هم أهل الذكر وهو كتاب الله وسنة رسوله لا غيرهما، ولا أظن مخالف في هذا لأن هذه الشريعة المطهرة هى إما من الله عز وجل وذلك هو القرآن الكريم، أو من رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وذلك هو السنة المطهرة ولا ثالث لذلك.
وإذا كان المأمور بسؤالهم هم أهل القرآن والسنة فالآية المذكورة حجة على المقلدة وليست بحجة لهم لهم لأن المراد أنهم يسألون أهل الذكر ليخبروهم به، فالجواب من المسؤولين أن يقولوا قال الله كذا قال رسوله كذا فيعمل السائلون بذلك وهذا هو غير ما يريده المقلد المستدل بالآية الكريمة فإنه إنما استدل بها على جواز ما هو فيه من الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال فإن سؤال عن الدليل فإن هذا هو التقليد، ولهذا رسموه بأنه قبول قول الغير من دون مطالبته بحجة (2).
فحاصل التقليد أن لا يسأل عن كتاب الله لا عن سنو رسوله بل يسأل عن مذهب إمامه، فإذا جاوز ذلك إلى [1] الشؤال عن الكتاب والسنة فليس بمقلد، وهذا يسلمه كل مقلد ولا ينكره. وإذا تقرر بهذا أن المقلد إذا سأل أهل الذكر عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن مقلد علمت أن هذه الآية الشريفة- على تسليم أن السؤال ليس عن الشيء الخاص الذي يليه السياق بل عن كل شيء من الشريعة كما يزعمه المقلد- تدفع في وجهه وترغم أنفه وتكسر ظهره كما قررناه.
[2]: ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في حديث صاحب الشجة (ألا سالوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي ..........
_________
(1) [يوسف: 109]
(2) انظر: «أساس ابلاغة» (ص 785)، «معجم اللغة «(5/ 19).
وانظر: «الكوكب المنير» (4/ 530)(5/2169)
السؤال) (1) وكذلك حديث العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة فقال أبوه أني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وأن على امرأة هذا الرجم، وهو حديث ثبت في الصحيح (2) قالوا فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه.
(الجواب): أنه لم يرشدهم- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حديث صاحب الشحة إلى السؤال عن آراء الرجال بل أرشدهم إلى السؤال عن الحكم الشرعي الثابت عن الله ورسوله، ولهذا دعا عليهم لما أفتوا بغير علم فقال [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]: «قتلوه قتلهم الله» مع أنهم قد أفتوا بآرائهم فكان الحديث حجة عليهم لا لهم، فإنه اشتمل على أمرين. أحدهما: الإرشاد لهم إلى السؤال عن الحكم الثابت بالدليل. والآخر الذم لهم على اعتماد الرأي والإفتاء به، وهذا معلوم لكل عالم فإن المرشد إلى السؤال هو رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو باق بين أظهرهم فالإرشاد منه إلى السؤال وأن كان مطلقا ليس المراد به إلا سؤاله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو سؤال من يسأله أو سؤال من قد علم هذا الحكم منه.
والمقلد كما عرفت سابقا لا يكون مقلدا إلا إذا لم يسأل عن الدليل أما سأل عنه فليس بمقلد فكيبف يتم الاحتجاج بذلك على جواز التقليد [2] وهل يحتج عاقل على ثبوت شيء بما ينفيه وعلى صحة أمر بما يفيد فساده فأنا لا نطلب منكم معشر المقلدة إلا
_________
(1) وهو حديث حسن بشواهده. أخرجه أبو داود رقم (336) والبيهقى (1/ 228) والدارقطنى (1/ 189 - 190) وله شاهدان عن ابن عباس
الأول: أخرجه أبو داود رقم (337) وابن ماجه رقم (572). وهو حديث حسن.
الثاني: أخرجه الحاكم (1/ 178) والدرقظني (1/ 190).
(2) أخرجه البخاري رقم (6859) ومسلم رقم (1697،1698) ومالك في «الموطأ «(2/ 822 رقم 6) والترمذي رقم (1433) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود رقم (4445). والنسائي (8/ 240رقم 5410) والشافعي في (الرسالة «(ص 248 فقرة رقم 691).(5/2170)
ما دل عليه ما جئتم به فنقول لكم اسألوا أهل الذكر وه كتاب الله وسنة رسوله واعملوا عليه وارتكوا آراء الرجال والقيل والقال. ونقول لكم كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ألا تسألون فإنما شفاء العيى السؤال عن كتاب الله وسنة رسوله لا عن رأى فلان ومذهب فلان فإنكم إذا سألتم عن محض الرأي فقد قتلكم من رسوله به كما قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-. في حديث صاحب الشجة (1) «قتلوه قتلهم الله».
وأما السؤال الواقع من والد العسيف (2) فهو إنما سأل علماء الصحابة عن حكم مسألته من كتاب الله وسنه ريوله ولم يسألهم عن آرائهم ومذهبهم، وهذا يعلمه كل عالم، ونحن لا نطلب من المقلد إلا أن يسأل كما سأل والد العسيف ويعمل على ما قام عليه الدليل الذي رواه العالم المسؤول ولكنه قد أقر على نفسه أنهلا يسأل إلا عن رأي إمامه لا عن روايته، فكان استدلاله، بما استدل به هاهنا حجة عليه لا له والله المستعان.
[3]: ومن جملة ما استدلوا به ما ثبت أن أبا بكر قال في الكلالة (3): أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يمكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله أن أخالف أبا بكر وصح عنه أنه قال لأبي بكر رأينا تبع لرأيك. وصح (4) قال كان ستة من أصحاب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبو موسى [رضي الله عنهم] وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 2165)
(2) تقدم تخريجه (ص 2165)
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 304 رقم 19191) والدارمي (2/ 365 - 366) والبيهقي (6/ 224) ورجاله ثقات لكن الشعبي من أبي بكر، فالحديث منقطع.
(4) ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين «(2/ 202)(5/2171)
لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب.
(الجواب): عن قول عمر أنه قد قيل إنه يستحي عمر من مخالفة أبي بكر [3] في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأن كلامه ليس كله صوابا مأمونا عليه الخطأ، وهذا وإن لم يكن ظاهرا لكنه يدل عليه ما وقع من مخالفة عمر لأبي بكر مسألة، كمخالفته له في سبي أهل الردة (1) وفي الأرض المغنومة (2) فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وفي العطاء (3) فقد كان أبو بكر يرى التسوية وعمر يرى المفاضلة. وفي الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر ولم يستخلف عمر (4)، بل جعل الأمر شورى وقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف.
قال ابن عمر فوالله ما هو إلا ان ذكر رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فعلمت أنه لا يعدل برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أحدا وأنه غير مستخلف. مخالفه أيضًا في الجلد والإخوة (5) فلو كان المراد بقوله إن يستحي من مخالفة أبي بكر في مسألة الكلالة (6) وهو ما قالوه لكان منقوضًا عليهم بهذه المخالفات فإن صح خلافة له، ولم يستح منه فما أجابوا به في هذه المخالفات فهو جوابنا عليهم في تلك الموافقة.
_________
(1) انظر «المغني «(12/ 264 - 265)
(2) انظر: «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 79 - 81). و» الأموال «لأبي عبيد (ص59)
(3) انظر (موسوعة فقه عمر بن الخطاب «(ص 697)
(4) قال عمر رضي الله عنه: «قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا، وإني جاعل هذا الأمر الأمر إلى هؤلاء لنفر الستة الذين مات رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو عنهم راض ... »
انظر: «البداية والنهاية» (7/ 137). «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 131).
(5) انظر: «المحلى «(9/ 288) وموسوعة فقه عمر بن الخطاب «(ص 45 - 57).
(6) انظر تفصيل ذلك في «موسوعة فقه عمر بن الخطاب» (ص 747 - 748) و «المغني» (6/ 168).(5/2172)
وبيانه أنهم إذا قالوا خالفه في هذه المسائل لآن اجتهاده، كان على خلاف اجتهاد أبي بكر.
قلنا ووافقه في تلك المسألة لأن اجتهاده كان موافقا لاجتهاده وليس من التقليد في شيء.
وأيضا قد ثبت أن عمر بن الخطاب أقر عند موته (1) بأنه لم يقض في الكلالة بشيء واعترف أنه لم يفهمها فلو كان قد قال بما به أبو بكر تقليدا له لما أقر بأنه لم بقض فيها بشيء ولا قال إنه لم يفهمها. ولو سلمنا «أن عمر أبا بكر في هذه المسألة لم تقم بذلك حجة، لما تقرر من عدم حجة أقوال الصحابة (2) وأيضا غاية ما في ذلك تقليد علماء الصحابة في مسألة من المسائل التي يخفى فيها الصواب على المجتهد مع تسويغ
_________
(1) أخراج أحمد في مسنده (1/ 20) عن عمر بن الخطاب قال: اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا.
(2) وهذا ليبس على إطلاقه بل فيه تفصيل:
1 - قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد حجة عند العلماء، لانه محمول على السماع من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فيكون من قبيل السنة، والسنة مصدر للتشريع.
2 - قول الصحابي الذي حصل عليه الاتفاق يعتبر حجة شرعية، لأنه يكون إجماعا، وكذلك قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف بعد اشتهاره يكون من قبيل الإجماع السكوني، وهو أيضًا حجة شرعية.
3 - قول الصحابي الصادر عن رأي واجتهاد، لا يكون حجة ملزمة على صحابي مثله، ولا على من جاء بعدهم ولكن يستأنس به في حال انعدام الدليل من الكتاب والسنة والإجماع.
4 - قول الصحابي إذا خالف المرفوع الصحيح لا يكون حجة، بل يكون مردودا.
5 - قول الصحابي إذا خالفه الصحابة لا يكون حجة.
انظر «البحر المحيط «(6/ 53 - 56).
وقال الشافعي: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم تخرج عن أقاويلهم كلهم. "
الرسالة» (ص 597 - 598).
انظر «المسودة «(ص (276 - 336)، التبصرة (395) «تيسير التحرير» (3/ 132).(5/2173)
المخالفة فيما عدا تلك المسألة، وأين هذا مما يفعله المقلدون من تقليد العالم في جميع أمور الشريعة من غير التفات إلى دليل ولا تعريج على تصحيح أو تعديل.
وبالجملة فلو سلمنا [4] أن ذلك تقليد من عمر كان دليلا للمجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد في مسألة، وأمكن غيره من المجتهدين فيها إذا أنه يجوز لذلك المجتهد أن يقلد المجتهد الآخر ما دام غير متكمن من الاجتهاد فيها إذا تضيقت عليه الحادثة. وهذه مسألة أخرى غير المسألة التى يريدها المقلد، وهى تقليد عالم من العلماء في جميع المسائل الدين وقبول رأيه دون روايته وعدم مطالبته بدليل، وترك النظر في الكتاب والسنة، والتعويل على ما يراه من هو أحقر الآخذين بهما، فإن هو عين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا كما سيأتيك بيانه.
وأيضا لو فرض ما زعمه من الدلالة لكان ذلك خاصا بتقلي علماء الصحابة في مسألة من المسائل فلا يصح إلحاق غيرهم لهم لما تقرر من المزايا التي للصحابة البالغة إلى حد بقصر عنه الوصف حتى صار مثل جبل أحد من متأهري الصحابة لا يعدل المد من متقدميهم ونصيفه (1) وصح أنهم خير القرون (2) فكيف يلحق بهم غيرهم! وبعد اللتيا والتي (3) فما أوجدتمونا نصا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجة البخاري رقم (3673) وأبو داود رقم (4658) والترمذي رقم (3861).
من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2652) ومسلم رقم) ومسلم رقم (2533) وقد تقدم مرارا.
(3) وتصغير التي واللآتي واللآت اللتيا واللتيا، بالفتح والتشديد قال العجاج:
دافع عني بنقير قوتي.
بعد اللتيا واللتيا والتي.
إذا علتها نفس تردت.
قيل: أراد العجاج باللتيا تصغير التي، وهي الداهية الصغيرة، والتي الداهية الكبيرة، وتصغير اللواتي اللتيات واللويات.
ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.»
لسان العرب «(12/ 234)(5/2174)
وليست الحجة إلا فيها، ومن ليس بمعصوم لاحجة لنا لكم في قوله ولا في فعله فما جعل الله الحجة إلا في كتابه وعلى لسانه نبيه، عرف هذا من عرف وجهله من جهله والسلام.
وأما ما استدلوا به من قول عمر لأبي بكر رآينا لرأيك تبع فما هذه أول قضية جاءوا بها على غير وجهها فإنها لو نظروا في القصة بكمالها لكانت حجة عليهم لا لهم، وسياقها في صحيح البخاري (1) هكذا:
عن طارق بن شهاب قال جاء [بزاخة] (2) وفد من أسد وطفان إلى أبي كر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا هذه عرفناها فما المخزية. قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم [5] وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المحلية والسم المخزية فنغمم ما ذكرت وأما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ذكرى تدون قتلانا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (13/ 206) رقم 7221) مختصرا.
وانظر «فتح الباري» (13/ 210 - 211): قال الحافظ ابن حجر: أخرجه بطوله البرقاني بالإسناد الذي أخرج البخاري ذلك القدر منه- وهو- حدثنا مسدد حدثنا يحيي عن سفيان حدثني قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب.
(2) زيادة من «فتح الباري «(13/ 210)(5/2175)
ويكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقلت على أمر الله، أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر.
ففي هذا الحديث ما يرد عليهم فإنه قرر ما رآه أبو بكر رضي الله عنه ورد بعضه، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع فلا شك أن المتابعة في بعض ما رآه أو في كله ليست من التقليد في شيء، بل من استصواب ما جاء به في الآراء والحروب وليس ذلك بتقليد، وأيضا قد يكون السكوت عن اعتراض بعض ما فيه مخالفة من آراء الأمراء لقصد إخلاص الطاعة للأمراء التي ثبت الأمر بها وكراهة الخلاف الذي أرشد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى تركه. ثم هذه الآراء هي في تدبير الحروب وليست في مسائل الدين وإن تعليق بعضها بشيء من ذلك فإنما هوة على طريق الاستتباع.
وبالجملة فاستدلال من استدل بمثل هذا على جواز التقليد تسلية لهؤلاء المساكين من المقلدة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وعلى كل حال فهذه الحجة التي استدلوا بها عليهم لا لهم لأن عمررضي الله عنه قرر من قول أبي بكر ما وافق اجتهاده ورد ما خالفه.
وأما ما ذكروه من موافقة ابن مسعود لعمر وأخذه بقوله، وذلك رجوع بعض الستة المذكورين من الصحابة إلى بعض فليس هذا إلا من باب موافقة العالم المجتهد للعالم المجتهد، وليس هذا ببدع ولا مستنكر فالعالم يوافق العالم في أكثر مما يخالفه فيه من المسائل، ولا سيما إذا كانا قد بلغا إلى أعلى مراتب الاجتهاد فإن المخالفة قليلة جدا، وأيضا قد ذكر أهل العلم أن ابن مسعود خالف عمر في نحو مائة مسألة، وما وافقه إلا في نحو أربع مسائل فأين التقليد من هذا ويكف صلح مثل ما ذكر [6] للاستدلال به على جواز التقليد؟ وهكذا رجوع الستة المذكورين إلى أقوال بعض فإن هذا موافقة لا تقليد، وقد كانوا جميعا هم وسائر الصحابة إذا ظهرت لهم السنة لم يتركوها لقول أحد كائنا من كان بل كانوا يعضون عليها ...........(5/2176)
بالنواجذ (1) ويرمون بآرائهم وراء الحائط فأين هذا من صنع المقلدين الذين لا يعدلون بقول من قلد كتابا ولا سنة ولا يخالفونه قط، وإن تواتر لهم ما يخلفه من السنة.
ومع هذا فإن الرجوع (2) الذي كان يقع من بعض الصحابة إلى قول بعض إنما هو في الغالب رجوع إلى روايته لا إلى رأيه، لكونه أخص بمعرفة ذلك المروي منه بوجه من الوجوه كما يعرف هذا من عرف أحوال الصحابة.
وأما مجرد الآراء المحضة فقد ثبت عن أكابرهم النهي عنها والتنفير منها كما سيأتي بيان طرف من ذلك إن شاء الله وإنما كانوا يرجعون إلى الرأي إذا أعوزهم الدليل وضاقت عليهم الحادثة، ثم لا يبرمون أمرا إلا بعد التراود والمفاوضة، ومع ذلك فهم على وجل، ولهذا كانوا يكرهون تفرد بعضهم برأي يخالف جماعتهم حتى قال أبو عبيدة السلماني لعلي ابن أبي طالب: لرأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك.
[4]: واحتجوا أيضًا بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي «(3) وهو طرف من حديث العرباض بن سارية وهو حديث صحيح وقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (4)
_________
(1) تقدم تخريجه مرارا.
(2) سيأتي توضيح ذلك.
(3) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه الترمذي رقم (3662) وقال: حديث حسن.
وأحمد (5/ 382، 385،402) واين ماجه رقم (97) والحاكم في «المستدرك) (3/ 75) والطحاوي في «مشكل الآثار «(2/ 83 - 84) والحميدي في مسنده (1/ 214 رقم 449) وابن سعد في «الطبقات «(2/ 334) وأبو نعيم في الحلية (9/ 109) والخطيب في تاريخه (12/ 20) والبغوي في «شرح السنة «(14/ 101) رقم 3894، 3895) كلهم من طرق عن عبد المال بن عمير. وهو حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي رقم (3663) وأحمد (5/ 399) من حديث حذيفة لكن من طريق سالم أبي العلاء ......(5/2177)
وهو حديث معروف مشهور ثابت في السنن وغيرها.
(والجواب): أن ما سنه الخلفاء الراشدون من بعده فالأخذ به ليس إلا لأمره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالأخذ به فالعمل بما سنوه والاقتداء بما فعلوه هو لأمره- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لنا بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين والاقتداء بأبي بكر وعمر ولم بأمرنا بالاستنان بسنة عالم من علماء الأمة ولا أرشدنا إلى الاقتداء بما يراه مجتهد من المجتهدين.
فالحاصل أنا لم نأخذ بسنة الخلفاء ولا اقتدينا بأبي بكر وعمر إلا امتقالا لقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:» عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (1) وبقوله «اقتدوا بالذين من بعد أبي بكر وعمر» (2) فكيف ساغ لكم أن تستدلوا بهذا الذي ورد فيه النص على ما لم يرد فيه! فهل تزعمون أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل [7] حتى يتم لكم ما تريدون.
فإذا قلتم نحن نقيس أئمة المذاهب (3) على هؤلاء الخلفاء الراشدين فيا عجبا لكم كيف ترتقون إلى هذا المرتقى الصعب وتقدمون هذا الإقدام في مقام الإحجام فإن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إنما خص الخلفاء الراشدين وججعل سنتهم كسنته في اتباعها لأمر يختث بهم ويتعداهم إلى غيرهم ولو كان الإلحاق بالخفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم يشاركهم في مزية من المزايا، بل المسبة بينه وبينهم كالنسبة بين الثرى والثريا، فلولا أن هذه المزية خاصة بهم مقصورة عليهم لم يخصهم بها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دون سائر الصحابة فدعونا من هذه التمحلات التي يأباها الإنصاف.
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخرجه.
(3) انظر:» إعلام الموقعين «(2/ 230 - 238).(5/2178)
وليتكم قلدتم الخلفاء الراشدين لهذا الدليل أو قلدتم ما صح عنهم على ما يقوله أئمتكم، ولكنكم لم تفعلوا بل رميتم بما جاء عنهم وراء الخائط إذا خالف ما قاله من أنتم أتباع له، وهذا لا ينكره إلا مكابر معاند بل رميتم بصريح الكتاب ومتواتر السنة إذا جاء بما يخالف من أنتم متبعون لهم، فإن أنكرتم هذا فهذه كتبكم أيها المقلدة على ظهر البسيطة عرفونا من تتبعون من العلماء حتى نعرفكم بما ذكرناه.
[5]: ومن جملة ما استدلوا به حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1).
(الجواب): أن هذا لا حديث قد روي من طريق عن جابر (2) وابن عمر وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لا يصح منها شيء، وأن هذا الحديث لم يثبت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقد تكلم عليه الحفاظ بما يشفي ويكفي، فمن رام البحث عن طرقه وعهن تضعيفها فهو ممكن بالنظر في كتاب من كتب هذا الشأن (3) وبالجملة فالحديث لا تقوم به حجة به قم لو كان مما تقوم به الحجة فما لكم أيها المقلدون وله، فإنه تضمن منقبة للصحابة ومزية لا توجد [8] لغيرهم فماذا تريدون منه؟ فإن كان ما تقلدونه منهم احتجا إلى الكلام معكم، وإن كان من تقلدونه من غيرهم فاتركوا ما ليس لكم لهم ودعوا الكلام على مناقب خير القرون، وهاتوا ما أنتم بصدد الاتسدلال عليه فإن هذا الحديث لو صح لكان الأخذ بأقوال الصحابة ليس إلا لكونه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أرشدنا إلى أن الاقتداء بأحدهم اهتداء فنحن إنما امتثلنا إرشاد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) وهو حديث موضوع. وقد ورد حديث جابر، وأبي هريرة وابن عباس، وعمر ابن الخطاب، وابن عمر.
وقد تقدم تخريج ذلك كله في القيم الأول- العقيدة- من الفتح الرباني.
(2) تقدم تخريجه
(3) انظر "الضعيفة" للألباني رقم (61 - 60 - 58).
"كشف الخلفاء" (1/ 68).(5/2179)
وآله وسلم] وعملنا على قوله وتبعنا سنته، فإن ما جعاه محلا للاقتداء يكون ثبوت ذلك له بالنسبة وهى قول رسول الله الله عليه وآله وسلم فلم نخرج عن العمل بسنة رسول الله [- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] ولا قلدنا غيره بل سمعنا الله يقول: {وما إتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا} (1) [آل عمران:31] وكان هذا القول من جملة ما أتانا به فأخذناه واتبعناه فيه، ولم نتبع غيره ولا عولنا سواه. فإن كنتم تثبتون لأئمتكم هذه المزية قياسافلا أعجب مما افتريتموه وتقولتموه، وقد سبق الجواب عنكم فى البحث الذي قبل هذا.
وبمثل هذا الجواب يجاب عن اتجاجهم بقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- «إن معاذا قد سن لكم سنة» (2) وذلك فى شأن الصلاة حيث أخر قضاء ما فانه مع اٌمام ولا يخفى عليك أن فعل معاذ هذا إنما صار سنة بقول رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا بمجرد فعله، فهو إنما كان السبب لثبوت السنة ولم تكن تلك السنة (3) سنة إلا بقول رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهذا واضح لايخفى. وبمثل هذا الجواب على حديث «أصحابي كالنجوم» (4) يجاب عن قول ابن (5) مسعود في وصف الصحابة فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا يهديهم فإنهم كانوا علي الهدى المستقيم.
_________
(1) [الحشر:7] وسمعناه يقول: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى}.
(2) أخرجه أحمد فى «المسند «(5/ 246).وأبو داود فى «السنن"رقم (506/ 507) وابن خريمة في صحيحه رقم (381/ 383) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى به.
(3) انظر:"إعلام الموقعين» (2/ 202).
(4) وهو حديث موضوع. وقد تقدم.
(5) ذكره ابن القيم في"إعلام الموقعين" (2/ 302 - 303) ......(5/2180)
[خلاصة ما تقدم]
ثم هاهنا جواب يشمل ما تقدم من حديث «عليم بسنتي وسنة الخلفاء» وحديث «اقتدوا بالذين من بعدي» (1) وحديث «أصحابي والنجوم» (2) وقول ابن مسعود وهو أن المراد بالاستنان بهم والاقتداء هو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به [9] ويفعل كما فعلوا، وهم لا يفعلون فعلا ولا يقولون إلا على وفق فعل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وقوله فالاقتداء بهم هواقتداء برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والاستنان بسنتهم هو استنان بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإنما أرشد الناس إلى ذلك لأنهم المبلغون عنه الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته فالفعل وإن كان لهم فهو على طريق الحكاية لفعل رسول الله عليه وآله وسلم، كأفعال الطهارة والصلاة والحج ونحو ذلك فهم رواة له وإنما كان منسوبا اليهم لكونه قائما بهم: وفي التحقيق هو راجع إلى ما سنه رسول بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فالاقتداء بهم اقتداء به، والاستنان بسنتهم استنان بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإذا خفي عليك هذا فانظر ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة في عباداتهم فإنك تجده حكاية لما كان يفعله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وإذغ اختلفوا في شئ من ذلك فهو لاختلافهم في الرواية لا في الرأي، وقل أن جاء فعل من تلك الأفعال صادر عن أحد منهم لمحض رأي رآه، بل قد تجد ذلك لا سيما في أفعال العبادات وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم.
وعلى هذا فمعنى الحديث أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه يفعله من سنته، وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين فإنهم
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وهو حديث موضوع. وقد تقدم.(5/2181)
المبلغون عنه العارفون بسنته المقتدون بها، فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه ولهذا صح عن جماعة من أكابر الصحابة ذم الرأي وأهله وكانوا لا يرشدون أحدا إلا إلى سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا إلى شيء من آرائهم وهذا معلوم لا يخفى على عارف [10] وما نسب إليهم من الاجتهادات وجعله أهل العلم رأيا لهم لا يخرج عن الكتاب والسنة وإما بتصريح أو بتلويح، وقد يظن خروج شيء من ذلك وهو ظن مدفوع لمن تأمل حق التأمل، وإذا وجد نادرا رأيت الصحابي بتحرج أبلغ تحرج ويصرح بأنه رأيه وأن الله بريء من خطئه وينسب الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان، والصواب إلى الله كما تقدم (1) عن الصديق فى تفسير الكلالة وكما روى عنه (2) وعن غيره (3) فى فرائض الجد , وكما كان يقول عمر (4) فى تفسير قوله تعالي {وفكهة وأبا} (5) وهذا البحث
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 304 رقم 19191) والدارمي (2/ 365 - 366) والبيهقي (6/ 224) ورجاله ثقات لكن الشعبي لم يسمع من أبي بكر، فالحديث منقطع.
- أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها برأي يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه وهو دون الولد والوالد ... "وقد تقدم.
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3658) عن عبد الله إبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: أما الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله سلم «لو كنت كتخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته» أنزله أبا- يعنى أبا بكر».
(3) أخرج أبو داود رقم (2897) وابن ماجه رقم (2723) عن الحسن البصري أن عمر قال: أيكم يعلم ما ورث رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الجد؟ فقال معقل بن يسار: أنا، ورثه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- السدس، قال: مع من؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، فما تغني إذا؟ وإسناده منقطع.
(4) أخرجه البخاري فى صحيحه رقم (7293) عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: «نهينا عن التكلف».وأورده ابن ابن كثير فى تفسيره (8/ 325):عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب: {عبس وتولى} فلما أتى على هذه الآية: {وفكهة وأبا} قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف.
(5) [عبس:31] .......(5/2182)
نفيس فتأمله حق التأمل تنتفع به.
[6]: ومن جملة ما استدلوا به قول الله تعالى: {أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (1) قالوا أولي الأمر هم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به.
(الجواب) أن للمفسرين (2) في تفسير أولي الأمر قولين: أحدهما أنهم الأمراء والثاني العلماء. ولا تمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة للعلماء ولا للأمراء إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق شريعته وإلا فقد ثبت عنه صلى الله علية وآله وسلم: «أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (3)، وأيضا العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم عن ذلك كما سيأتي بيان طرف منه عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم.
ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان مرشدا إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- (4) وإنما قلنا إنه مرشد إلى معصية الله لأنه من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك [11] العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة أراء بواسطة أراء العلماء الذين يقلدونهم فما عملوا به عملوا وما لم يعملوا به لم يعملوا به، ولا يلتفتون إلى كتاب ولا سنة، بل من شرط
_________
(1) [النساء:59]
(2) انظر «الجامع لأحكام القرآن «(5/ 259 - 260).
(3) أخرجه البغوي ى «شرح السنة» رقم (2455) من حديث النواس بن سمعان بإسناد ضعيف.
ولكن يشهد له حديث الحكم بن عمرو الغفاري: وعمران بن الحصين رضي الله عند أحمد (5/ 66) والطيالسي (856) بإسناد صحيح. وأخرجه الحاكم (2/ 443) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) يشير إلى الحديث النبوي: «لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق» وقد تقدم .......(5/2183)
التقليد الذين أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعول على روايته، ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لآنه قد صار مطالبا بالحجة.
ومن حملة ما تجب فيه طاعة أولي الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وقي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية، ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة هي المرادة بالأمر بطاعتهم، لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة الرسول، ولا يبعد أيضًا أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيرة وواجبات الكفاية، فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة أو ألزموا بعض الأشخاص بالدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك فهذا أمر شرعي وجبت فيه الطاعة، وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هذه هيالطاعة التي ثبتت في الأحاديث المتواترة (1) في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يرى المأمور كفرا بواحا، فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز وليس ذلك من التقليد في شيء بل هو في طاعة الأمراء الذين غالبهم الجهل والبعد في تدبير الحروب وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد وأما الأمور الشرعية المحضة فقد أغنى عنها كتاب الله وسنة رسوله [12]
_________
(1) منها ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (7142) من حديث أنس مرفوعا: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله».
(ومنها):ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (2957) ومسلم في صحيحه رقم (33/ 1835) من حديث أبي هريرة عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:» من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ... ».
(ومنها):ما أخرج البخاري في صحيحه رقم (7144) ومسلم رقم (38/ 1839) من حديث ابن عمر عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .......(5/2184)
[7]: واعلم أن هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد، وقد أبطلنا ذلك كله كما عرفت. ولهم شبهة غير ما سقناه (1) وهي ما حررناه كقولهم إن الصحابة قلدوا عمر في المنع من بيع (2) أمهات الأولاد، في أن الطلاق يتبع الطلاق، وهذه فرية ليس فيها مرية، فإن الصحابة مختلفون في كلا المسألتين فمنهم من وافق عمر اجتهادا لا تقليدا ومنهم من خالفه (3)، وقد كان الموافقون له يسألونه عن الدليل ويستروونه النصوص، وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل بل يقبل الرأي ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد.
[8]: ومن جملة ما تمسكوا به أن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى بين أظهرهم وهذا تقليد لهم.
ويجاب عن ذلك (4) بأنهم كانوا يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة وذلك رواية
_________
(1) انظر» إعلام الموقعين «(2/ 206 - 230).
(2) بل ورد في ذلك حديث عن أبي أبوب الأنصاري، قال: سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة».وهو حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 413) والترمذي رقم (1283) وقال: حديث حسن غريب. والدارمي (2/ 227 - 228) والدارقطني (3/ 67رقم 256) والحاكم (2/ 55) وصححه على شرط مسلم. والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 280 رقم 456).
(3) انظر تفصيل ذلك في «زاد الميعاد" (5/ 276 - 284)
(4) قال ابن القيم في"إعلام الموقعين» (2/ 251): أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا وفعل كذا ونهى عن كذا هكذا كانت فتواهم، فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم، ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدهما، والله ورسوله وسائر أهل العلم أنهم وأن مستفتيهم لم يعلموا إلا بما عملوه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على من أفتي برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات، وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر إن إثم المستفتى عليه، فإفتاء الصحابة في حياته نوعان:
أحدهما: كان يبلغه ويقرهم عليه، فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم.
الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم، فهم فيه رواة لا مقلدون ولا مقلدون .......(5/2185)
منهم، ولا يشك من يفهم أن قبول الرواية ليس بتقليد فإن قبول الرواية هو قبول للحجة، والتقليد إنما هو قبول للرأي، وفرق بين قبول الرواية وقبول الرأي، فإن قبول الرواية ليس من التقليد في شيء بل هو عكس رسم المقلد فاحفظ هذا فإن مجوزة التقليد يغالطون بمثل ذلك كثير فيقولون مثلا إن المجتهد هو مقلد لمن روى له السنة ويقولون إن من التقليد قبول قول المرأة أنها قد طهرت وقبول قول المؤذن أن الوقت قد دخل، وقبول الأعمى لقول من أخبره بالقبلة. بل وجعلوا من التقليد قبول شهادة الشاهد وتعديل المعدل وحرج الجارح.
ولا يخفى عليك أن هذا ليس من التقليد في شيء (1) بل هو من قبول الرواية لا من قبول الرأي، إذ قبول الرواي للدليل والمخبر بدخول الوقت وبالطهارة وبالقبلة [13] والشاهد والجارح والمزكي هو من قبول الرواية إذا الرواية إذا الراوي إنما أخبر المروي له بالدليل الذي
_________
(1) قال ابن القيم في» إعلام الموقعين» (2/ 254 - 255): قولهم «وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض».
أتعنون بع أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليد لهم فيما يخبرون؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل، وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذى قام الدليل على بطلانه، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا فى الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير إلأى التقليد فى الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور بخير عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك وهلم جرا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد .......(5/2186)
رواه ولم يخبره بما يراه من الرأي، وكذلك المخبر بدخول الوقت ' إنما أخبر بأنه شاهد علامة من علامات الوقت، ولم يخبر لأنه قد دخل الوقت برأيه وكذلك المخبر بالطهارة فإن المرأة مثلا أخبرت أنها شاهدت علامات الطهر من القصة البيضاء ونحوها، ولم تخبر بأن ذلك رأي رأته، وهكذا المخبر بالقلبلة أخبر أن جهتها أو عينها هاهنا حسبما تقتضيه المشاهدة بالحاسة ولم يخبر عن رأيه، وهكذا أوضح من أن يخفى، والفرق بين الرواية وال {أي أبين من الشمس، ومن التبس عليه الفرق بينهما فلا يشغل نفسه بالمعارف العليمة فإنه بهيمي الفهم وإن كان فى مسلاخ إنسان.
قال ابن خويز منداد البصر (1) الملكي: (التقليد): معناه في الشرع الرجوع إلى قوله لا حجة لقائله عليه، وذلك منوع منه في الشريعة، (والاتباع): ما ثبتت عليه الحجة .. إلى أن قال والاتباع في الدين متبوع والتقليد ممنوع، وسيأتي مثل الكلام لابن عبد البر وغيره.
[9]: وقد أورد بعض أسراء التقليد كلاما يؤيد به دعواه الجواز فقال ما معناه- لو كان التقليد غير جائز لكان الاجتهاد واجبا على كل فرد من أفراد العباد، وهو تكليف مالا يطاق، فإن الطباع، وعلى فرض أنها قابلة له جميعها فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تبطيل المعايش التي لا يتم بقاء النوع بدونها، فإنه لا يظفر برتية الاجتهاد إلا من جرد نفسخ للعلم في جميع أوقاته على وجه لا يستغل بغيره، فحينئذ يشتغل الحراث والزراع والنساج والعمار ونحوهم بالعلم، وتبقى هذه الأعمال شاغرة معطلة [14] فتبطل المايش بأسرها ويفضي ذلك إلى انخزام نظام الحياة وذهاب نوع الإنسان، وفي هذا من الضرر والمشقة ومخالفة مقصود الشاعر مالا يخفى على أحد.
_________
(1) ذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله" (2/ 117) .......(5/2187)
ويجاب عن هذا التشكيك الفاسد (1) بأنا لا نطلب من كل فرد من أفراد العباد أن يبلغ رتبة الاجتهاد بل المطلوب هو أمر دون التقليد وذلك بأن يكون القايمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكا وفهما كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم خير القرون (2) ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد علم كل عالم أنهم لم يكونوا مقلدين ولا منتسبين إلى فرد من أفراد العلماء بل كان الجاهل يسأل العالم عن
_________
(1) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 256 - 257): فجوابه من وجوه:
أحدهما: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنا لم نكن ندري من نقد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله.
فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معا وإن كلفنا بتلقيد كل عالم. وإن كلفنا بتلقيد الأعلم فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شريط التقليد. ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى من أمر الله باتباع قوله وتلقي الدين من بين شفتيه وذلك محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد من يخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به.
الثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وهبره ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها وبإهمال ذلك تضييع مصالحها وتفسد أمورها.
الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه أن يعرف مالا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعاشهم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم وعمارة حروثهم.
الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دون مقدرات الأذان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه.
(2) تقدم تخريجه مرارًا ......(5/2188)
الحكم الشرعي الثابت فى كتاب الله أو سنة رسوله فيفتيه به ويرويه له لفظا أو معنى فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد فإن تفهم دقائق علم الرأي أصعب من تفهم الرواية بمراحل كثيرة.
فما طلبنا من هؤلاء العوام إلا ما هو أخف عليهم مما طلبه منهم الملزمون لهم بالتقليد، وهذا هو الهدى الذي درج عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى استدرج الشيطان بذريعة التقليد من استدرج ولم يكتف بذلك حتى سول لهم الاقتصار على تقليد فرد من أفراد العلماء وعدم جواز تقليد غيره ثم توسع في ذلك فخيل لكل طائفة أن الحق مقصور على ما قاله إمامها وما عداه باطل، ثم أوقع في قلوبهم العداوة [15] والبغضاء حتة أنك تجد من العداوة بين أهل المذاهب المختلفة مالا تجده بين أهل الملل المختلفة وهذا يعرفه كل من عرف أحوالهم.
فانظر إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت أهل الملة الشريفة وصيرتهم على ما تراه من التباين والتقاطع والتخالف، فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات والذاهب المبتدعات إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل مله واحدة ونبي [واحد] (1) وكتاب واحد لكان ذلك كافيا كونها غير جائزة فإن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان ينهى عن الفرقة ويرشد إلى الاجتماع ويذم المتفرقين في الدين حتى إنه قال في تلاوة القرآن وهو من أعظم الطاعات أنهم إذا اختلفوا تركوا التلاوة وأنهم يتلون ما دامت قلوبهم مؤتلفة (2).
وثبت ذم التفرق والاختلاف في مواضع من الكتاب .............................
_________
(1) في المخطوط: واحدة ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) يشير المؤلف إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (5060) ومسلم رقم (3/ 2667) عن جندب ابن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا» .......(5/2189)
العزيز (1) معروفة فكيف يحل لعالم أن يقول بجواز التقليد الذي كان سبب فرقة أهل الإسلام وانتشار ما كان عليه من النظام والتقاطع بين أهله وإن كانوا ذوي أرحام.
[10]: وقد احتج بعض أسراء التقليد ومن لم يخرج عن أهله وإن كان عند نفسه قد خرج منه- بالإجماع- على جوازه، وهذه دعوى لا تصدر من عارف بأقوال أهل العلم بل لا تصدر من عارف بأقوال أئمة المذاهب الأربعة فإنه قد صح عنهم المنع من التقليد.
_________
(1) مثل قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103] وقوله تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذالك وصكم به لعلكم تتقون} [الانعام: 153] وقوله تعالى: {ولا تنزاعو فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46] ......(5/2190)
[أقوال العلماء في النهي عن التقليد]
قال ابن (1) عبد البر: إنه لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد وأوراد فصلا طويلا في محاجة من قال بالتقليد وإلزامه بطلان ما يزعمه من جوازه فقال:
يقال لمن قال بالتقليد لما قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا فإن قال قلدت لأن كتاب الله تعالى لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم أحصها والذي [6 1] قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه. فإن قال قلدته لأني علمت أنه صواب قيل له وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال قلدته لأنه أعلم مني قيل له فقلد كا من أعلم منك فإنك من ذلك خلقا كثيرا ولاتخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس قيل له فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا ... انتهى (2) ما أردت نقله من كلامه وهو طويل وقد حكى في أدلة افجماع على فساد التقليد فدخل فيه الأئمة الأربعة دخولا أوليا.
وحكى ابن القيم (3) عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه انتهى. وهذا هو تصريح يمنع التقليد التقليد لأن من علم بالدليل فهو مجتهد مطالب بالحجة لا مقلد والمقلد فإنه الذى يقبل القول ولا يطالب بحجة.
_________
(1) في كتابه «جامع بيان العلم «(2/ 994 - 995)
(2) أى كلام ابن عبد البر.
(3) في إعلام الموقعين (2/ 211) ......(5/2191)
وحكى ابن عبد البر (1) أيضًا عن معين بن عيسى بإسناد متصل به قال سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. انتهى.
ولا يخفى عليك أن هذا تصريح منه بالمنع من تقليده لأن العمل بما وافق الكتاب والسنة من كلامه هو عل بالمكتاب والسنة وليس بنمسوب إليه، وقد أمر أتباعه بترك ما كان من رأيه غير موافق للكتاب والسنة.
وقال سند بن عنان الملكي في شرحه على مدونة سحنون المعورفة بالأم ما لفظة: أما مجرد الاقتصار على محض التقليد فلا يرضى به رجل رشيد وقال أيضا: نفس المقلد ليست على بصيرة ولا يتصف من العلم بحقيقة، إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الآفاق، وإن نوزعنا في ذلك أبدينا برهانه فنقول قال تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق} (2) وقال: {بما أرك الله} (3) وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (4) وقال: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (5) ومعلوم أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، فنقول للمقلد [17] إذا اختلفت الأقوال وتشعبت من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره أو صحة قولة له أخرى، ولا يبدى كلاما في ذلك إلانعكس عليه في نقيضه. سيما إذا عرض له قولة لإمام مذهبه الذي قلده
_________
(1) في «جامع بيان العلم «(1/ 775 رقم 1435) بإسناد حسن.
(2) وتمام الآية:: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [سورة ص:26].
(3) [النساء:105] قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}.
(4) [الإسراء:36].
(5) [الأعراف:33] .......(5/2192)
وقولة تخالفها لبعض أئمة الصحابة إلى أن قال أما التقليد فهو قول الغير من غير خحة فمن أين يحصل به علم وليس له مستند إلى قطع، وهو أيضًا في نفسه بدعة محدثة لأنا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرس ويقلد، وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة أو إلى ما يتخض بينهم من النظر من النظر عند فقد الدليل وكذلك تابعوهم أيضًا يرجعون إلى الكتاب والسنة فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى. ثم كان القرن الثالث وفيه كان أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل فإن مالكا توفي سنة تسع ومائة وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وفي هذه السنة ولد الإمام الشافعي وولدا ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة وكانوا على منهاج من مضى لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه وعلى قريب منهم كان أتباعهم فكم من قولة لمالك ونظرائه خالفه فيها أصحابه، ولو نقلنا ذلك لخرجنا عن مقصود هذا الكتاب، ما ذاك إلا لجمعهم آلات الاجتهاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات، ولقد صدق الله نبيه في قوله: {خير الناس قرني ثم الذين يولنهم ثم الذين يلونهم} ذكر بعد قرنه قرنين والحديث في صحيح البخاري (1).
فالعجب لأهل التقليد كيف يقولون هذا هو الأمر القديم وعليه أدركنا الشيوخ، وهو إنما حدث بعد مائتى سنة من الهجرة (2) وبعد فناء القرون الذين أثنى عليهم الرسول ..... انتهى.
_________
(1) في صحيحه رقم (2652).
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) كلهم من حديث عبد الله ابن مسعود.
(2) انظر الرد على من أخلد إلى الأرض (ص133) ......(5/2193)
[تاريخ التقليد]
وقد عرفت بهذا الإسم أن التنفيذ لم إلا بعد انقراض خير القرون تم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم , وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعةإنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف فى هجر التقليد وعدم الإعتداد به < > وان هذه المذاهب إنما أحذثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين , وقد تواترت الرواية عن الإمام مالك أنه قال له الرشيد (1) أنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه , فنهاه عن ذلك وهذا موجود فى كل كتاب فيه ترجمة ال'مام مالك ولا يخلو ذلك إلا النادر.
وإذا تقرر أن المحدث لهذه المذاهب والمبتدع لهذه التقليدات هم جهلة المقلدة فقط، فقد عرفت مما تقرر في الأصول أنه لا اعتداد بهم في الإجماع وأن المعتبر في الإجماع إنما هم المجتهدون، وحينئذ لم يقل بهذه التقليدات عالم من العلماء المجتهدين أما قبل حدوثها فظاهر، وأما بعد حدوثها فما سمعنا عن مجتهدات أنه يسوغ صنيع هؤلاء المقلدة الذين فرقوا دين الله وخالفوا بين المسلمين بل أكابر العلماء بين منكر لها وساكت عنها سكوت تقية لمخافة ضرر أو لمخافة فوات نفع كما يكون مثل ذلك كثيراً لا سيما من علماء السوء.
وكل عاقل يعلم أنه لو صرخ عالم من علماء الإسلام المجتهدين في مدينة من مدائن الإسلام في أي محل كان بأن التقليد بدعة محدثة لا يجوز الاستمرار عليه ولا الاعتداد به لقام عليه أكثر أهلها إن لم يقم عليه كلهم وأنزلوا به من الإهانة والإضرار بماله وبدنه وعرضه مالا يليق بمن هو دونه، هذا إذا سلم من القتل على يد أول جاهل من هؤلاء المقلدة ومن يعضدهم من جهلة الملوك والأجناد فإن طبائع الجاهلين بعلم الشريعة متقاربة وهم لكلام من يجانسهم في الجههل أقبل من علام من يخالفهم في ذلك من أهل العلم.
_________
(1) أنظر «حلية الأولياء" ......(5/2194)
ولهذا طبقت هذه البدعة جميع البلاد الإسلامية، وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين فالجاهل يعتقد أن الدين ما زال هكذا ولن يزال إلبى المحشر، ولا يعرف معروفا وال ينكر منكراً وهكذا من كان من المشتغلين بعلم التقليد فإنه كالجاهل [19] بل أقبح منه لأنه يضم إلى جهله وإصراره على بدعته وتحسينها في عيون أهل الجهل والازدراء بالعلماء المحققين العارفين بكتاب الله وسنة رسوله ويصول عليهم ويحول وينسبهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة والتنقص بشأنهم فيسمع ذلك منهم الملوك ومن يتصرف بالنيابة عنهم من أعوانهم فيصدقونه ويذعنون لقوله إذ هو مجانس لهم في كونه جاهلاً وإن كان يعرف مسائل قد قلد فيها غيره لا يدري أهي حق أم باطل ولا سيما إذا كان قاضيا ً أو مفتيا فإن العامي لا ينظر إلى أهل العلم بعين مميزة بين من هو عالم على الحقيقة ومن هو جاهل وبين من هو مقصر ومن هو كامل لأنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله.
وأما الجاهل فإنما يستدل على العلم بالمناصب والقرب من الملوك واجتماع المتدرسين من المقلدين وتحرير الفتاوي للمتخاصمين وهذه الأمور إنما يقوم بها رؤوس هؤلاء المقلدة في الغالب كما يعلم ذلك كل عالم بأحوال الناس في قديم الزمن وحديثه، وهذا يعرفه الإنسان بالمشاهدة لأهل عصره وبمطالعة كتب التاريخ الحاكية لما كان عليه من قبله.
وأما العلماء المحققون المجتهدون فالغالب على أكثرهم الخمول لأنه لما كثر التفاوت بينهم وبين أهل الجهل كانوا متباعدين لا يرغب هذا في هذا ولا هذا في هذا.
ومنزلة الفقية من السفيه ... كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في حق هذا ... وهذا فيه أزهد منه فيه
ومما يدعو العامة إلى مهاجرة أكابر العلماء وقاطعتهم أنهم يجدونهم غير راغبين في علم التقليد الذي هو رأس مال فقهائهم وقضاتهم والمفتين منهم بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الاجتهاد وهي عند هؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة عندهم [20] هي التي يتعجلون نفعها بقبض جرابات التدريس وأجرة الفتاوي ومقررات القضاء ومع هذا فمن كان من هؤلاء المقلدة متمكنا من تدريسهم في علم التقليد إذا درسهم في ......(5/2195)
مسجد من المساجد أو في مدرسة من المدارس اجتمع عليه منهم جمع جم يقارب المائة أو يجاوزها من قوم قد ترشحوا للقضاء والفتيا وطمعوا في نيل الرياسة الدنيوية أو أرادوا حفظ ما قد ناله سلفهم من الرياسة وبقاء مناصبهم والمحافظة على التمسك بها كما كان عليه أسلافهم فهم لهذا المقصد يلبسون الثياب الرفيعة ويديرون على رؤوسهم عمائم كالروابي فإذا نظر العامي أو السلطان أو بعض أعوانه إلى تلك الحلقة البهية المشتملة على العدد الكثير والملبوس الشهير والدفاتر الضخمة لم يبق عنده شك أن شيخ تلك الحلقة ومدرسها أعلم الناس فيقبل قوله في كل أمر يتعلق بالدين ويؤهله لكل مشكلة ويرجو منه القيام بالشريعة مالا يرجوه من العالم على الحقيقة المبرز في علم الكتاب والسنة وسائر العلوم التي يتوقف فهم المعلمين عليها ولا سيما وغالب المبرزين من العلماء تحت ذيل الخمول إذا درسوا في علم من علوم الاجتهاد فا يجتمع عليهم في الغالب إلا الرجل والرجلان والثلاثة لن البالغين من الطلبة إلى هذه الرتبة المتعدين لعلم الاجتهاد هم أقل قليل لأنه لا يرغب في علم الاجتهاد إلا من أخلص النية وطلب العلم لله عز وجل ورغب عن المناصب الدنيوية وربط ننسه برباط الزهد وألجم نفسه بلجام القنوع.
فلينظر العاقل أين يكون محل هذا العالم على التحقيق عند أهل الدنيا إذا شاهدوه في زاوية من زوايا المسجد وقد قعد بين يديه رجلٌ أو رجلان من محل ذلك المقلد الذي اجتمع عليه [21] المقلدون فإنهم ربما يعتقدون أنه كواحد من تلاميذه هذا المقلد أو يقصر عنه لما يشاهدونه من الأوصاف التي قدمنا ذكرها.
ومع هذا فإنهم لا يقفون على فتوى من الفتاوى أو سجل من الأسجال إلا وهو بخط أهل التقليد ومنسوب إليهم فيزدادون لهم بذلك تعظيما ويقدمونهم على علماء الاجتهاد في كل إصدار وإيراد، فإذا تكلم عالم من علماء الاجتهاد والحال هذه بشئ من يخالف ما يعتقده المقلده فاموا عليه قومة جاهلية ووافقهم على ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان فإذا قدروا على الإضرار به في بدنه وماله فعلوا ذلك وهم بفعلهم مشكورون عند أبناء ......(5/2196)
جنسهم من العامة والمقلدة لنهم قاموا بنصرة الدين بزعمهم وذبوا عن الأئمة المتبوعين وعن مذاهبهم التي قد اعتقدها أتباعهم فيكون لهم بقذه الأفعال التي هي عين الجهل والضلالة من الجاه والرفعة عند أبناء جنسهم ما لم يكن في حساب.
وأما ذلك العالم الممحق المتكلم بالصواب فبالحري أن ينجو من شرهم ويسلم من ضرهم، وأما عرضه فيصير عرضه للشتم والتبديع والتجهيل والتضليل فمن ذذا تراه ينصب نفسه للإنكار على هذه البدعة ويقوم في الناس بتبطيل هذه الشعنة مع كون الدنيا مؤثرة وحب الشرف والمال يميل بالقلوب على كل حال.
فانظر أيها المنصف بعين الإنصاف هل يعد سكوت علماء الاجتهاد عن إنكار بدعة التقليد مع هذه الأمور موافقة لهلاه على جوازها؟ كلا والله فإنه سكوت تقتتية لا سكوت موافقة مرضية ولكنهم مع سكوتهم عن التظاهر بذلك لا يتركون بيان ما أخذ الله عليهم بيانه (1)، فتارة يصرحون بذلك في مؤلفاتهم وتارة يلوحون به، وكثير منهم يكتم ما يصرح به من تحريم التقليد إلى بعد موته كما روى الأدفوي عن شيخه الإمام ابن دقيق العيد أنه طلب منه ورقا وكتبها ي مرض موته، وجعلها تحت فراشه فلما مات أخرجوها فإذا هي في تحريم التقليد مطلقا. ومنهم من يوضح ذلك لمن يثق به من أهل العلم ولا يزالون متوازثين بينهم طبقة بعد طبقة [22] يوصحه السلف للخلف وويبينه الكامل للمقصر، وإن انحجب ذلك عن أهل التقليد فهو غير منحجب عن غيرهم وقد رأينا في زماننا مشايخنا المشتغلين بعلوم الاجتهاد فلم نجد عند واحد منهم أن التقليد صواب، ومنهم من صرح بإنكار كثير من المسائل التي يعتقدها المقلدون فوقع بينه وبين أهل عصره قلاقل وزلازل ونالهم من الامتحان ما فيه توفير أجورهم وهكذا حال أهل سائر الديار في جميع الأعصار.
_________
(1) قال تعالى: {وإذا أخذ الله ميثق الذين أوتوا الكتتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنتا قليلا فبئس ما يشترون} [آل عمران: 187] ......(5/2197)
وبالجملة فهذا أمر يشاهده كل واحد في زمنه فإنا لم نسمع بأن أهل مدينة من المدائن الإسلامية أجمعوا أمرهم على ترك التقليد واتباع الكتاب والسنة لا في هذا العصر ولا فيما تقدمه من العصور بعد ظهور المذاهب بل أهل البلاد الإسلامية أجمع أكتع لا مطبقون على التقليد.
ومن كان منهم منتسبا إلى العلم فهو إما أن يكون مبلغ علمه معرفة ما هو مقلد فيه وهذا هو عند التحقيق ليس من أهل العلم، وإما أن يكون قد اشتغل ببعض علوم الاجتهاد ولم يتأهل للنظر فوقف تحت ربقة التقليد ضرورة لا اختياراً وإما أن يكون عالماً مبرزاً جامعاً لعلوم الاجتهاد فهذا هو الذي يجب عليه أن يتكلم بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم إلا لمسوغ شرعي.
وأما من لم يكن منتسبا إلى العلم فهو إما عامي صرف لا يعرف التقليد ولا غيره، وإنما هو ينتمي إلى الإسلام جملةً ويفعل كما يفعله أهل بلده في صلاته وسائر عبادته ومعاملته فهذا قد أراح نفسه من محنة التعصب التي يقع فيه المقلدون وكفى الله أهل العلم شره، فهو لا وازع له من نفسه يحمله على التعصب عليهم بل ربما نفخ فيه بعض شياطين المقلدة وسعى إليه بعلماء الاجتهاد فحمله على أن يجهل عليهم بما يوبقه في حياته وبعد مماته [23] وإما أن يكون مرتفعا عن هذه الطبقة قليلا فيكون غير مشتغل بطلب العلم لكنه يسأل أهل العلم عن أمر عبادته ومعاملته وله بعض تمييز فهذا هو تبع لمن يسأله من أهل العلم إن كان يسأل المقلدين فهو لا يرى الحق إلا في التقليد وإن كان يسأل المجتهدين فهو يعتقد أن الحق ما يرشدونه إليه فهو مع من غلب عليه من الطائفتين، وإما أن يكون ممن له اشتغال بطلب علم المقلدين وإكباب على حفظه وفهمه وال يرفع رأسه إلى سواه ولا يلتفت إلى غيره فالغالب على هؤلاء التعصب المفرط على علماء الاجتهاد ورميهم بكل حجر ومدر وإيهام العامة بأنهم مخالفون لإمام المذهب الذي قد ضاقت أذهانهم عن تصور عظيم قدره، وامتلأت قلوبهم من هيبته حتى تقرر عندهم أنه في درجة لم يبلغها الصحابة فضلا عمن بعدهم، وهذا وإن لم يصرحوا به فهو مما تكنه صدورهم، ولا.(5/2198)
تنطلق به ألسنتهم، فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة كان هذا المخالف قد ارتكب أمراً شنيعاً وخالف عندهم شيئا قطعياً وأخطأ خطأ لا يكفره شئٌ وأن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولا يرفع لما جاء به رأساً كائنا من كان ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة [24] انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج (1) والروافض (2) ويبغضونه بغضا شديداً فوق ما يبغضون أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء.
وبالجملة فهو عندهم ضال ممضل ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل عالم كائنا من كان.
_________
(1) تقدم التعريف بها ص 153
(2) تقدم التعريف بها ص 148(5/2199)
[أقوال الأئمة الأربعة في النهي عن التقليد]
ومن المصرحين بهذا الأئمة الأربعة فإنه قد صح عن كل واحد منهم هذا المعنى من طرق متعددة.
[1 - أبو حنيفة]: قال صاحب الهداية (1): وفي روضة العلماء أنه قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي بكتاب الله فقيل إذذا كان خخبر الرسول يخالفه قال اتركوا قولي بخير الرسول فقيل إذا كان قول الصحابي يخالفه قال اتركوا قولي بقول الصحابي ..... انتهى.
وقد روى عنه هذه المقالة جماعة من أصحابه وغيرهم.
[2 - مالك]: وقد ذكر نور الدين السنهوري (2) نحو ذلك قال، قال ابن مسدي في منسكه: روينا عن معن بن عيسى قال سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. انتهى. قال ابن مسدي فقد علم أن كلما خالف الكتاب والسنة من أراء مالك فليس بمذهب له بل مذهبه ما وافق الكتاب والسنة انتهى.
ونقل الأجهوري والخرشي هذا الكالم وأقراه في شرحيهما على مختصر خليل (3) وقد روي ذلك عن مالك جماعة من أهل مذهبه وغيرهم.
[3 - والشافعي]:وأما الإمام الشافعي [25] فقد تواتر ذلك عنه تواترا لا يخفي على مقصر فضلا عن كامل، فإنه نقل ذلك عنه غالب أتباعه ونقله عنه أيضًا جميع المترجمين له إلا من شذ.
_________
(1) انظر إعلام الموقعين (1/ 282) وانظر البحر المحيط (4/ 54)
(2) انظر: جامع بيان العلم وفضله «(1/ 775) والإحكام «لابن حزم (6/ 149 - 150) و"إعلام الموقعين «(1/ 75).
(3) (1/ 40 - 43)(5/2200)
ومن جملة من روى عنه ذلك البيهقي (1) فإنه ساق إسناداً إلى الربيع لاقال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروي عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال كذا وكذا فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا، فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك وأي سماء تظلني إذا رويت عن الرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- شيئاً ولم أقل به نعم على الرأس والعين نعم على الرأس والعين.
وروي البيهقي (2) أيضًا عن الشافعي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رلسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقولوا بسنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ودعوا ما قلت: وروى البيهقي (3) عنه أيضًا قال: إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا يترك لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حديث أبداً إلى إلا حديث وجد عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حديث يخالفه.
وروى البيهقي: (4) أيضًا عنه أنه قال له رجل وقد روى حديثا أتأخذ بهذا فقال متى رويت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وحكى ابن القيم في إعلام الموقعين (5) أن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: كل مسألة يصح فيه الخبر عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي. وقال حرملة بن يحيى قال الشافعي: ما قلت وكان
_________
(1) في المناقب (1/ 475)
قلت: وابن القيم في إعلام الموقعين «(2/ 286) وأبو نعيم في الحلية (9/ 106)
(2) في المناقب (1/ 4723 - 473)
(3) ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين «(2/ 282) وابو نعيم في «الحلية (9/ 106)
(4) في المناقب (1/ 474)
(5) (2/ 285).(5/2201)
النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد قال بخلاف قولي فما صح من حديث النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أولى ولا تقلدوني.
وقال (1) الحميدي سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفقتاه وقال قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كذا وكذا فقال الرجل أتقول هذا يا أبا عبد الله فقال الشافعي [26] أرأيت في وسطي زناراً؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتقول لي أتقول بهذا. أأروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أقول به. انتهى ونقل إمام الحرمين في نهايته (2) عن الشافعي أنه قال: إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهب. انتهى.
وقد روى نحو ذلك الخطيب وكذلك الذهبي في تاريخه الإسلام والنبلاء (3) وغير هؤلاء ممن لا يأتي عليه الحصر. وقال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس (4) قد اشتهر عن الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهب وحكى عن السبكي أن له مصنفا في هذه المسألة.
[4 - أحمد بن حنبل]: وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو أشد الأئمة الأربعة تنفيراً ن الرأي وأبعدهم عنه وألزمهم للسنة، وقد نقل عنه ابن القيم في مؤلفاته كإعلام الموقعين (5) ما فيه التصريح بأنه لا عمل على الرأي أصلا وهكذا نقل عنه ابن الجوزي وغيره من أصحابه وإذا كان من المانعين للرأي المنفرين عنه فهو قائل بما قاله الأئمة الثلاثة المنقولة
_________
(1) انظر: «إعلام الموقعين «(2/ 285 - 286).
(2) أنظر المصدر السابق.
(3) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 35): قال أبو ثور: سمعت الشافعي يقول: «كل حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني ".
(4) لابن حجر (ص 109). والصواب أن اسم الكتاب (توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس)
انظر كتاب «توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين «تأليف الدكتور موفق بن عبد الله بن عدب القادر (ص108 - 113)
(5) (2/ 31)(5/2202)
نصوصم على أن الحديث مذهبهم ويزيد عليه بأنهم سرغوا الرأي فيما لا يخالف النص وهو منعه من الأصل وسيأتي قريبا النقل علن الإمام أحمد بما فيه التصريح بمنع التقليد.
وقد حكى الشعراني في الميزان (1) أن الأئمة الأربعة كلهم قالوا إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة. انتهى
_________
(1) (1/ 55)(5/2203)
[إجماع الأئمة الاربعة على تقديم النص]
وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب، والمقلد الذي قدم أقواله أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإلمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام.
ولعمري إن القلم جرى بهذه [27] النقور على وجل وحياء من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيا لله العجب أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو قول رسوله على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول يالله العجب، أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل أقوال هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله مقدمة على أقوالهم فإن الترجيح فرع التعارض ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله- حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم ! سبحانك هذا بهتان عظيم. فا حيا الله هؤلاء المقلدة هم الذين ألجأوا الأئمة إلى التصريح بتقديم أقوال الله. ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو اليهود والنصارى في أحبارهم (1) ورهبانهم وهم الذين ألجأونا إلى نقل هذه الكلمات وإلا فالأمر واضح لا يلتبس على أكمه.
ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله لكان كافراً مرتدا فرضا عن أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله.
_________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {أتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباب من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها وحدا لآإله إلا هو سبحنه عما يشركون} [التوبة 31].
وأخرج ابن جرير في «جامع البيان» (6/جـ 10/ 114 - 115): والقرطبي في تفسيره (8/ 120) عن حذيفة أنه سئل عن قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباب من دون الله} كانوا يعبدونهم، قال: لا كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.(5/2204)
فإنا لله وإنا إليه راجعون ما صنعت هذه المذاهب بأهلها وإلى أي موضع أخر أخرجتهم، وليت هؤلاء المقلدة الجفاة الأجلاف نظروا بعين العقل إذا حرموا النظر بعين العلم ووازنوا بين رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهل يخطر [28] ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المفروض بين يدي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم! كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له، فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في كثير من الحوادث هيبة له وتعظيما، وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح (1) وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطجير يرمون بأبصارهم إلى بين أيديهم ولا يرفعونها (2) إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- احتشاماً وتكريما وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله صلى عليه وآله وسلم بآرائهم وكان التابعون يتأديون مع الصحابة بقريب من هذا الأددب، وكذلك تابعو التابعين كانوا يتأدبون مع التابعين بقريب من أدب التابعين مع الصحابة فما ظنك أيها المقلد لو حضر إمامك بين يدي رسول الله- صلى عليه وآله وسلم- فإتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل، فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق. وإذا عرفت ما قدمنا لك أيضًا حكاية الإجماع على منعهم من التقليد وحكينا لك ما قاله الإمام أبو
_________
(1) يسير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحة (10/ 12) عن أنس رضى الله عنه قال: نهينا أن نسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شئ فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع ..... "
(2) انظر الحديث بطوله في صحيحه البخاري رقم (2731، 2732) من حديث المسور بن مخرمة ومروان(5/2205)
حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك ولاح لك ما نقلناه قريبا ما يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد.
وقد قال المزني في أول مختصره (1) ما نصه [29]: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقرأه على من أرداده مع إعلانه بنهيه عن تقيلده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحاط فيه لننفسه انتهى. فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي- رحمه الله- من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره.
وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة قال أبو دواد سمعته- يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه ثم من هو بعده من التابعين خير. انتهى فانظر كيف فرق بين التقليد والابتاع.
وقال أبو دواد (2) قلت لأحمد الأوزاعي هو اتبع أم مالك؟ فقال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء ما جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه فخذ به وقال أبو داود (3) سعمته يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه ثم من هو بعده من التابعين مخير. انتهى فانظر كيف فرق بين التقليد والاتباع. وقال أبو داود (4) قال لي أحمد لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا. وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال.
قال ابن القيم (5): ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك. وقال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس «(6):
_________
(1) المطبوع مع كتاب «الأم «للشافعي (8/ 93) ط. دار الفكر
(2) في «مسائل الإمام أحمد (ص276 - 277)
(3) في «مسائل الإمام أحمد (ص276 - 277)
(4) "مسائل الإمام أحمد «(ص 276 - 277)
وانظر «إعلام الموقعين «(2/ 200) و» إيقاظ الهمم «(ص 113) للفلاني
(5) في «إعلام الموقعين «(2/ 282) "
(6) (ص94 - 95) وتمام قووله:» .... لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح ممن أعطى شمعة يستضئ بها أن ثطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أن عموم أصحاب المذهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر لما قال، وهو عين الضلالة، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل». أهـ(5/2206)
اعلم أن المقلد على غير نقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ثم أطال الكلام في ذلك.
وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا يخفي على عار من أتباعهم وغيرهم.(5/2207)
[أقوال الأئمة المتبوعين من أهل البيت]
وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك كالأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم ومن أحب [30] النظر في ذذلك فليطالع مؤلفاتهم، وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته ما يسفي يكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد (1) فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء الإسلام على تحريم تقليد الأموات وأطال في ذلك وأطاب وناهيك بالإمام الهادي يحي بن (2) الحسين- رحمه الله- فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له متبعين لمذهبه من عنصره وهو آخر المائة الثالثة إلى الآن مع أ، وقد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شهبه بمنع التقليد له وهذه مقاله مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه وإن كان لا يجوز ذلك عملا بما قاله بعض المتأخرين إنه يجوز تقليد الإمام الهادي وإن منع من التقليد، وهذا من أغرب ما يطرق سمعك إن كنت ممن ينصف.
وبهذا تعرف أن مؤلفات الإمام الهادي في الأصول والفروع وإن صرحوا في بعضها بجواز التقليد فهو على غير مذهب إمامهم وهذا كما وقع لغيرهم من أهل المذاهب، وقد كان أتباع هذا الإمام في العصور السابقة وكذلك أتباع الإمام الأعظم زيد ابن على- رحمه الله- فيهم إنصاف لا سيما في فتح باب الاجتهاد وتوسيع دائرة التقليد وعدم
_________
(1)» القواعد في الاجتهاد «- خ- رقم 96 (مجاميع ق 62 - 100) أخرى بمكتبة الحبشي، ثالثة بمكتبة التيمورية، أخرى ضمن مجموع الكبسي (ص 131 - 309) رابعة بدار الكتب المصرية.
أنظر: أعلام المؤلفين الزيدية «(ص 829)
(2) تقدمت ترجمته.
انظر: «أعلام المؤلفين الزيدية «(ص1103)(5/2208)
قصر الجواز على إمام معين كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم بخلاف غيرهم من المقلدة فإنهم أوجبوا على أنفسهم تقليد المعين واستروحوا إلى أن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع التفضل به من الله على عباده ولقنوا العوام الذين هم مشاركون لهم في الجهل بالمعارف العملية ودونهم في معرفة مسائل التقليد بأنه لا اجتهاد بعد استقرار المذاهب وانقراض أئمتها فضموا إلى بدعتهم بدعة وشنعوا شنعتهم وسجلوا على أنفسهم بالجهل فإن من تجارأ على مثل هذه المقالة وحكم على الله سبحانه بمثل هذا الحكم المتضمن لتعجيزه عن التفضل على عباده بما أرشدهم إليه من تعلم العلم وتعليمه لا يعجز عن التجاري على أن يحكم على عباده بالأحكام الباطلة ويجازف في إصداره وإيراده.(5/2209)
[القول بانسداد باب الاجتهاد بدعة شنيعة]
ويا لله العجب فاقنع هؤلاء الجهلة النوكي (1) بما هم فيه من بدعة التقليد التي هي أم البدع ورأس الشنع حتى سدوا على أمة محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله وإنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت والعقول الإنسانية قد ذهبت وكل هذا حرصا منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة وأن لا يرتفع عن طبقتهم السافلة أحد من عباد الله كأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب الله ورسوله قد صارت منسوخة والناسخ لها ا ابتدعوه من التقليد في دين الله فلا يعمل الناس بشئ مما في كتاب الله والسسنة بل لا شريعة لهم إلا ما قد تقرر في المذاهب لا على ما وافقها منهما وإن يخالفها أحدهما أو كلاهما فلا عمل عليه ولا يحل التمسك به [32].
هذا حاصل قولهم ومفاده وبيت قصيدهم ومحل نشيدهم ولكنهم رأوا التصريح بمثل هذا تستنكره قلوب العوام فضلا عن الخواص وتقشعر منه جلودهم وترجف له أفئدتهم فعدلوا عن هذه العبارة الكفرية والمقالة الجاهلية إلى ما يلاقيها في المعنى ويوافقها في المفاد ولكنه ينفق على العوام بعض نفاق فقالوا قد انسد باب الاجتهاد. ومعنى هذا الانسداد المفتري والكذب البحت أنه لم يبق في أهل هذه الملة الإسلامية من يفهم الكتاب والسنة وإذا لم يبق من هو كذلك لم يبق سبيل إليهما، وإذا انقطع السبيل إليهما فكل حخكم فيهما لا عمل عليه ولا التفات إليه سواء وافق اتلمذاهب أو خالفها لأنه لم يبق من يفهمه ويعرف معناه إلى آخر الدهر، فكذبوا على الله وادعوا عليه سبحانه أنه لا يتمكن من أن
_________
(1) نوك نوكا: حمق، وهو أنوك والجمع نوكي. قال سيبوية أجرى مجرى هلكي لأنه شئ أصيبوا به عقولهم.
والنوك عند العرب العجز والجهل، وقال الأصمعي: الأنوك العيي في كلامه. «لسان العرب (14/ 335)(5/2210)
يخلق خلقا يهمون ما شرعه لهم وتعبدهم به حتى كأن ما شرعه لهم في كتابه وعلى لسان رسوله ليس بشرع مطلق بل شرع مقيد مؤقت إلى غاية هي قيام هذه المذاهب، وبعد ظهورها لا كتاب ولا سنة بل قد حدث من يشرع لهذه الأمة شريعة جديدة ويحدث لها دينا آخر وينسخ بما رآه من رأي وما ظنه من الطن ما تقدمه من الكتاب والسنة وهذا وإن أنكروه بألسنتهم فهو لازم لهم لا محيد لهم عنه ولامهرب، وإلا فأي معنى لقولهم قد انسد باب الاجتهاد ولم يبق إلا مجرد التقليد فإنهم إن أقروا بأنهم قائلون بهذا لزمهم الإقرار بما ذكرناه وعند ذلك نتلو عليهم {اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله} [التوبة 31] وإن أنكروا القول بذلك وقالوا باب الاجتهاد مفتوح والتمسك بالتقليد غير حتم فقل لهم فما بالكم يانوكي ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة وأخذ دينه منهما بكل حجر وقدر وتستحلون [33] عرضه وعقوبته وتجلبون عليه بخيلكم ورجلكم! وقد علموا وعلم كل من يعرف ما هب عليه أنهم مصممون على تغليق باب الاجتهاد وانقطاع السبيل إلى معرفة الكتاب والسنة فلزمهم ما ذكرناه بلا تردد فأنظر أيها المنصف ما حدث بسبب بدعة التقليد من البلايا الدينية والرزايا الشيطانية، فإن هذه المقالة بخصوصها- أعني انسداد باب الاجتهاد- لو لم يحدث من مفاسد التقيد إلا هي لكان فيها كفاية ونهاية فإنها حادثة رفعت الشريعة بأسرها واستلزمت نسخ كلام الله ورسوله وتقديم غيرهما عليهما واستبدال غيرهما بهما:
ياناعي الإسلام قم وانعه ... قد زال عرف وبدا منكر
وما ذكرناه فيما سبق من أنه كان في الزيدية والهادوية بالديار اليمنية إنصاف في هذه المسألة بفتح باب الاجتهاد فذك إنما هو في الأزمنة السابقة كما قيدنا فيما سلف. وأما في هذه الأزمنة فقد أدركنا منهم من هو أشد تعصبا من غيرهم فإنهم إذا سمعوا برجل يدعي الاجتهاد ويأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله قاموا عليه قياما تبكي فه عيون(5/2211)
الإسلام واستحلووا منه مالا يستحلونه من أهخل الذذمة بالطعن واللعن والتفسيق والتكفير والهجم عليه إلى دياره ورجمه بالأحجار والاستظهار بهتك حرمته، ونعمل يقينا أنه لولا خبطهم بسوط هيبة الخلافة أعز الله أركانها وشيد سلطانها لا ستحلوا إراقة دماسء العلماء المنتمين إلى الكتاب والسنة وفعلوا بهم مالا يفعلونه بأهل الذمة وقد شاهدنا من هذا مالا يتسع المقام لبسطه.
والسبب في بلوغهم إلى هذا المبلغ الذي يلغه ما غيرهم أن جماعة من شياطين [34] المقلدين الطالبين لفوائد الدنيا بعلوم الدين يوهمون العوام الذين لا يفهمون من الأجناد والسوقة ونحوهم بأن المخالف لما قد تقرر بينهم ن المسائل التي قلدوا فيها هو من المنحرفين عغن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضى الله عنه وأنه من جملة المبغضين له الدافعين لفضله وفضائله المعادين له وللأئمة من أولاده فإذا سمع منهم العامي هذا مع قد ارتكز في ذهنه من كون هؤلاء المقلدة هم العلماء المبرزون لما يبهره من زيهم والاجتماع عليهم وتصدرهم للفتيا والقضاء حسبما ذكرناه سابقا فلا يشك أن هذه المقالة صحيحة وإن ذلك العالم العامل بالكتاب والسنة من أعداء القرابة فيقوم بحمية جاهلية صادرة عن واهمة دينية قد ألقاها إليه من قدمنا ذكرهم ترويجا لبدعتهم وتنفيقا لجهلهم وقصورهم عل من هو أجهل منهم وإنما موهوا على العوام بهذه الدققيقة الإبليسية لما يعلمونه من أن طبائعهم مجبولة على التشيع إلى حد يقصر عنه الوصف حتى إن أحدهم لو سمع التنقص تصريحا بالجناب الإلهي أو الجناب النبوي لم يغضب له عشر معشار ما يغضبه إذا سمع التنقيص بالجناب العلوي بمجرد الوهم والإيهام الذي لا حقيقة له.
فبهذه الذريعة الشيطانية والدسيسة الإبليسية صار علماء الاجتهاد في القطر اليمني في محنة شديدة بالعامة والذنب كل الذنب على شياطين المقلدة فإنهم هم الداء العضال والسم القتال، ولو كان للعامة عقول لم يخف عليهم بطلان تلبيس شياطين المقلدة عليهم فإن من عمل في شئ من عباداته أو معاملاته بنص الكتاب أو السنة لا يخطر ببال من له عقل أن ذلك يستلزم الانحراف عن على رضى الله عنه، وأين هذا من ذاك، ولكن العامة قد [35] ضموا(5/2212)
إلى فقدان العلم فقدان العقل لاسيما في أبواب الدين وعند تلبيس الشياطين، فإنا لله وإنا إليه راجعون ما للعامة الذين قد أظلمت قلوبهم لفقدان نور العلم وللاعتراض على العلماء والتحكم عليهم وما بال هذه الأزمة جاءت بما لم يكن في حساب، فإن المعروف من خلق العامة في جميع الأزمنة أنهم يبلغون في تعظيم العلماء إلى حد يقصر عنه الوص وربما يزدحمون عليهم للتبرك بتقبيل أطرافهم ويستجلبون منهم الدعاء ويقرون بأنهم حجج الله على عباده في بلاده ويطيعونهم في كل ما يأمرونهم به ويبذلون أنفسهم وأموالهم بين أيديهم لا جرم حملهم على هذه الأفاعيل الشيطانية والأخلاق الجاهلية أباليس المقلدة بالذريعة التي أسلفنا بيانها.
فانظر هل هذه الأفعال الصادرة من مقلدة اليمن هي أفعال من يعترف بأن باب الاجتهاد مفتوح إلى قيام الساعة وأن تقليد المجتهدين لا يجوز لم بلغ رتبه الاجتهاد وأن رجوع العالم إلى اجتهاد نفسه بعد إحرازه للاجتهاد ولو ي فن واحد ومسأله واحدة كما صرح له بذلك المؤلفون لفقه الأئمة وحرروه في الكتب الأصولية والفروعية كلا والله بل صنع من يعادي كتاب الله وسنة رسوله الطالب لهما والراغب فيهما ويمنع الاجتهاد ويوجب التقليد ويحول بين المتشرعين والشريعة ويحيلها عليهم فهما وإدراكا كما صنعه غيرهم من مقلدة سائر المذاهب بل زادوا عليهم في الغلو والتعصب بما تقدم ذكره.
ومع هذا فالأئمة قد صرحوا في كتبتهم الفروعية والأصولية بتعداد علم الاجتهاد وأنها خمسة (1) وأنه يكفي المجتهد في كل فن مختصر من المختصرات، وهؤلاء المقلدة يعلمون أن
_________
(1) 1 - أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة، فإذا قصر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام قال الغزالي وابن العثربي: والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الطاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك .... ....
. أنظر: «البحر المحيط «(6/ 199) و» المستصفى «(4/ 6).
2 - أن يكون عارفا بمسائل الإجماع ححتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية ويرى أنه دليل شرعي
3 - أن يكون عالما بسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه وال يشترك أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأثمة المشتغلين بذلك.
4 - أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على ما تمس الحاجة إليه ووعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصارته ومطولاته بما تبلغ إليه طاقته، فإن هذذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه، وعليه أيضًا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط في وخلط.
وقال الغزالي في «المستصفى» (4/ 10): إن أعظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون: الحديث، واللغة، وأصول الفقه.
5 - أن يكن عارفا بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يحفى عليه شئ من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ.
واختلفوا في اشتراط علم الفروع فذهب جماعة منهم الأستاذذذ أبو إسحاق والأستاذذ أبو منصور إلى اشتراطه. وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه
وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة ....
.. وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا: لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه وهو مندرج تحت علم أصول الفقه فإنه باب من أبوابه. «أنظر الإحكام «للآمدي (4/ 171) والبحر المحيط (6/ 205) «المستصفي (4/ 10 - 15)(5/2213)
كثيراً من العلماء [36] العاملين بالكتاب والسنة المعاصرين لهم يعرفون من كل فن من الفنون الخمسة أضعاف أضعاف القدر المعتبر ويعرفون علوما غير هذه العلوم. وهم وإن كانوا جهالا لا يعرفون شيئا من المعارف لكنهم يسألون أهل العلم عن مقادير العلماء فيفدونهم ذلك.(5/2214)
وبهذا تعرف أنه لا حامل لهم على ذلك إلا مجرد التعصب لمن قلدوه وتجاوزوا الحد في تعظيمه وامتثال رأيه على حد لا يوجد عندهم للصحابة بل لا يوجد عندهم لكلام الله ورسوله.(5/2215)
[إبطال التقيد]
أخرج البيهقي (1) وابن عبد البر (2) عن حذيفة بين اليمان أنه قيل له في قوله تعالى: {أتخهذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون الله} [التوبة] أكانو يعبدونهم فقلل: لا ولكن يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه فصاروا بذلك أرباباً.
وقد روى نحو ذلك مرفوعاً من حديث عدي بن حاتم كما قال البيهقي (3) وأخرج نحو هذا التفسير ابن عبد البر (4) عن بعض الصحابة بإسناد متصل به قال: أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامها وحرامه حلالا فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية.
ومن ذلك قوله تعالى: {وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم} فآثرها الاقتداء بآبائهم حتى قالوا: {إنا بما أرسلتم به كفرون} [الزخرف 23 - 24] وقال عز وجل: {إذا تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كمما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعملهم
_________
(1) في السنن الكبرى (10/ 116)
(2) في جامع بيان العلم وفضله (2/ 975) وقد تقدم وهو حديث حسن
(3) في السنن الكبرى (10/ 116)
(4) في جامع بيان العلم وفضله (2/ 976 - 977)(5/2216)
حسرات عليهم} [البقرة 166 - 167] وقال الله عز وجل: {ما هذذه التماثيل التي أنتم لها عكفون قالوا وجدنا ءابانا لها عبدين} فهذه الآيات وغيرها مما ورد في معناه ناعية على المقلدين ما هم فيه وهي وإن كان تنززيلها في الكفار لكنها قد صح تأويلها في المقلدين لا تحاد العلة، وقد تقرر في الأصول [37] أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدما (1) وقد احتج أهل العلم بهذه الآيات على إبطال التقليد ولم يمنعهم من ذلك كونها نازلة في الكفار.
وأخرج ابن عبد البر (2) بإسناد متصل بمعاذ رضى الله عنه قال: إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال وويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أطن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة ....
». وأخرج (3) أيضًا عن ابن عباس أنه قال وويل للأبتاع من عثرات العالم قيل كيف ذلك؟ قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- منه فيترك قوله، ثم يمضي الأتباع.
وأخرج (4) أيضًا عن علي بن أبي طالب .................................
_________
(1) أنظر «إرشاد الفحول ص 699"
(2) في جامع بيان العلم وفضله (12/ 981رق 1871)
(3) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله (2/ 984 رقم 1877)
(4) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله (2/ 984 رقم 1878) بسند ضعيف جداً(5/2217)
رضي الله عنه (1) أنه قال: يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاةٍ وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيؤا بنور العمل ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
وأخرج (2) عنه أيضًا أنه قال: إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار.
وأخرج (3) عن ابن مسعود أنه قال: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلًا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر.
وروى ابن عبد البر (4) بإسناده إلى عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله». وأخرجه البيهقي (5) أيضًا.
قال ابن القيم بعد إخراجه من طرق: وهؤلاء - يعني رجال إسناده - كلهم ثقات حفاظ إلا حريز بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن علي، ومع هذا احتج به البخاري في صحيحه (6). وقد روي عنه أيضًا أنه تبرّأ مما نسب إليه من الانحراف.
_________
(1) زيادة من (ب)
(2) أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 987 رقم 1881) بسند ضعيف
(3) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 988 رقم 1882).
(4) في «جامع بيان العلم» (2/ 1039 رقم 1997).
(5) في «المدخل» (ص188 رقم 207). قلت: وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 430) وصححه على شرط الشيخين والخطيب في «الفقيه والمتفقه» رقم (473) وفي «تاريخ بغداد» (3/ 307 - 311) وهو حديث ضعيف.
(6) في «هدى الساري» (ص 396): قال البخاري: «قال: أبو اليمان كان حريز يتناول من رجل ثم ترك قالت: فهذا أعدل الأقوال فلعله تاب ... »(5/2218)
وروى ابن عبد البر (1) بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:» تعمل هذه الأمة برهة بسنة رسول الله ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا» [38]. وأخرجه (2) أيضًا بإسناد آخر فيه جبارة بن المغلس وفيه مقال.
وروى (3) أيضًا بإسناده إلى عمر بن الخطاب أنه قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مُصيبًا لأن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. وأخرجه أيضًا البيهقي في المدخل (4) وروى ابن عبد البر (5) بإسناده إلى عمر أيضًا أنه قال أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت ممنهم أن يرووها فاشتقوا الرأي».
وروى (6) ابن عبد البر بإسناده إليه أيضًا قال: اتقوا الرأي في دينكم.
وروى (7) عنه أيضًا قال إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألون أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم.
وأخرج ابن عبد البر (8) بإسناده إلى ابن مسعود قال: ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عامٌ أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب.
_________
(1) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1039 رقم 1998)
(2) أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 1040 رقم 1999) وهو حديث ضعيف.
(3) ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 1041 رقم 2000) وهو أثر صحيح.
(4) (ص189 رقم 210). قلت: وأخرجه في «السنن الكبرى» (10/ 117).
(5) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1041 رقم 2002) وهو أثر صحيح.
(6) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1041 رقم 2002).
(7) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1042 رقم 2003).
(8) «في جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1043 رقم 2008).(5/2219)
خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم. وأخرجه البيهقي (1) بإسناده ورجاله ثقات.
وأخرج أيضًا ابن عبد البر (2) عن ابن عباس قال: إنما هو كتاب الله وسنة رسوله فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدري أفي حسناته أم في سيئاته.
وأخرج (3) أيضًا عن ابن عباس أنه قال: تمتع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أرااهم سيهلكون أقول قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويقول قال أبو بكر وعمر.
وأخرج (4) أيضًا عن أبي الدرداء أنه قال: من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ويخبرني برأيه ومثله عن عباده.
وأخرج (5) أيضًا عن عمر رضي الله عنه (6) قال: السنة ما سنة رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.
وأخرج (7) أيضًا عن عروة بن الزبير أنه قال: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى أدركت فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل.
وأخرج (8) أيضًا عن الشعبي أنه قال: إياكم والمقايسة فو الذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم ممن حفظ عن أصحاب رسول
_________
(1) في «المدخل» (ص 186 رقم 205).
(2) «في جامع بيان العلم» (2/ 1046 رقم 2013) بإسناد ضعيف.
(3) في «جامع بيان العلم» (2/ 210 رقم 2381).
(4) في «جامع بيان العلم» (2/ 1210 رقم 2379).
(5) في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2014).
(6) زيادة من (ب).
(7) في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2015) بإسناد صحيح.
(8) في «جامع بيان العلم» (2/ 1047 رقم 2016) بإسناد ضعيف جدًا.(5/2220)
الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فاحفظوه. وروى ابن عبد البر أيضًا ذم الرأي والتبرؤ منه والتنفير عنه بكلمات تقارب هذه الكلمات عن مسروق (1) وابن سيرين (2)، وعبد الله ابن المبارك (3)، وسفيان (4)، وشريح (5)، والحسن البصري (6)، وابن شهاب (7).
وذكر الطبري [39] في كتاب تهذيب الآثار له بإسناد إلى مالك (8) قال: قال مالك: قبض رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا تتبع الرأي فإنه من أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته. أرى هذا لا يتم.
وروى ابن عبد البر (9) عن مالك بن دينارٍ أنه قال لقتادة: اتدري أي علمٍ رفعت،
_________
(1) رقم (2018) بإسناد ضعيف. عن الشعبي عن مسروق قال: لا أقيس شيئًا بشيء، قلت لمه؟ قال: أخاف أن تزل قدميث.
(2) رقم (2019، 2020). كلاهما بإسناد صحيح.
(3) رقم (2021) بإسناد صحيح عن عبد الله بن المبارك قال لرجل:» إن ابتليت بالقضاء فعليك بالأثر»
(4) رقم (2022) بإسناد صحيح، عن سفيان قال: «إنما الدين بالآثار»» إنما الدين بالآثار»
(5) رقم (2022) بإسناد صحيح عن شريح أنه قال: «إن السنة سبقت قياسكم، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر»
(6) رقم (2026) عن الحسن قال: «إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلّوا وأضلّوا».
(7) رقم (2028) بإسناد ضعيف. عن ابن عشاب قال: وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: «إنّ اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استبقوا الرأي وأخذوا فيه».
(8) عزاه إليه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2072).
(9) في «جامع بيان العلم» رقم (2074).(5/2221)
قمت بين الله وبين عباده، فقلت هذا لا يصلح وهذا يصلح.
وروى ابن عبد البر (1) أيضًا عن الأوزاعي أنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول.
وروى (2) أيضًا عن مالك أنه قال: ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء.
وروى (3) أيضًا عن القعنبي أنه دخل على مالك فوجده يبكي فقال: ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب إنا لله على ما فرط مني، ليتني جلدت بكل كلمةٍ تكلمت بها في هذا الأمر سوطًا ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل وقد كانت لي سعة فيما سبقت إليه.
وروى (4) أيضًا عن سحنون أنه قال: ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق.
وروى (5) أيضًا عن أيوب أنه قيل له مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب قيل للحمار مالك لا تجتر؟ قال أكره مضغ الباطل!.
وروى (6) عن الشعبي أيضًا أنه قال: «والله لقد بغّض إلى هؤلاء القومن المسجد حتى لهو أبغض من كناسة داري، قيل له من هم. قال هؤلاء الآرائيون وكان في ذلك المسجد الحكم وحماد وأصحابهم».
_________
(1) في «جامع بيان العلم» رقم (2077) بإسناد حسن.
(2) في «جامع بيان العلم» رقم (2080) بإسناد صحيح.
(3) في «جامع بيان العلم» رقم (2081) وهو أثر صحيح.
(4) في «جامع بيان العلم» رقم (2082) وهو أثر صحيح.
(5) في «جامع بيان العلم» رقم (2085) بإسناد صحيح.
(6) في «جامع بيان العلم» رقم (2089) بإسناد ضعيف.(5/2222)
وذكر ابن (1) وهب أنه سمع مالكًا يقول: «لم يكن من أمر الناس [40] ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدًا أقتدى به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكرة هذا ونرى هذا حسنًا ويبقى هذا ولا نرى هذا». وزاد بعض أصحاب مالك عنه في هذا الكلام أنه قال: «ولا يقولون حلال ولا حرام. أما سمعت قول الله عز وجل: {قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا قل ءالله أذن لكم أم على الله تفترون} (2)».
الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرّمه الله ورسوله.
وروى ابن عبد البر (3) أيضًا عن أحمد بن حنبل أنه قال: رأى الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء إنما الحجة في الآثار.
وروى (4) أيضًا عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: ما أحدث أحد في العلم شيئًا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فهو العطب.
وقال الشافعي في تفسير البدعة المذكورة في الحديث الثابت في الصحيح (5) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعةٍ ضلالة»: إن المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذه الامة وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان نعمت (6) البدعة هذه.
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2091) بإسناد ضعيف.
(2) [يونس: 59].
(3) في «جامع بيان العلم» رقم (2107) بإسناد صحيح.
(4) أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (2116).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (592/ 867).
(6) أخرج الأثر مالك في «الموطأ» (1/ 114) والبخاري في صحيحه رقم (2010).(5/2223)
وأخرج البيهقي في المدخل (1) عن ابن مسعود أنه قال: اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وأخرج (2) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: «يكون بعدي رجالٌ يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله، ولا تعملوا برأيكم».
وأخرج (3) عن عمر أنه قال: اتقوا الرأي في دينكم.
_________
(1) (ص 186 رقم 204) بإسناد صحيح.
قلت: وأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/ 198 رقم 8771) وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 181) وقال رجاله رجال الصحيح.
(2) أي البيهقي في «المدخل» (ص 187 رقم 206).
قلت: ورواه أحمد (5/ 325) بنحوه من طريق الحكم بن نافع، عن أبي اليمان، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن خيثم به وإسناده ضعيف لضعف إسماعيل بن عياش في روايته عن غير أهل بلده، وهذا منها.
وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في «زوائد المسند» (5/ 329) من طريق سويد بن سعيد، عن يحيى بن سليم، عن ابن خيثم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه عبيد، عن عبادة بن الصامت، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 356) من طريق عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عبادة.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: تفرّد به عبد الله بن واقد وهو ضعيف.
وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أحمد (1/ 399 - 400) وابن ماجه (2/ 956 رقم 2865) ولفظه: «يلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: «تسألني يا عبد الله كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله».
قلت: حديث عبادة بن الصامت صحيح وكذلك حديث ابن مسعود أيضًا صحيح.
وانظر: «الصحيحة» رقم (590).
(3) أي البيهقي في «المدخل» (ص 190 رقم 210).(5/2224)
وأخرج (1) عنه أيضًا بسند رجاله ثقات أنه قال: يا أيها الناس أتهموا [41] الرأي على الدين.
وأخرج (2) أيضًا عن عليّ ابن علي بن أبي طالب أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحقَّ بالمسح من ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يمسح على ظاهرهما. وهو أثر مشهور أخرجه غير (3) البيهقي أيضًا.
وأخرج البيهقي أيضًا ما يفيد الإرشاد إلى ا تباع الأثر والتنفيرعن اتباع الرأي عن ابن عمر (4) وابن سيرين (5) والحسن (6) والشعبي (7) وابن عون (8) والأوزاعي (9) وسفيان
_________
(1) أي البيهقي في «المدخل» (ص 192 - 193) رقم (217، 218).
(2) البيهقي في «المدخل» (ص 193 رقم 219).
(3) كأبي داود رقم (162)، والدارقطني (1/ 199 رقم 23) والبيهقي (1/ 292) والدارمي (1/ 181) وابن أبي شيبة (1/ 181). من رواية عبد خير عن علي رضي الله عنه. وهو حديث حسن.
(4) قال ابن عمر: «لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر». أخرجه البيهقي في «المدخل» رقم (220).
(5) وأخرج البيهقي في «المدخل» رقم (223) عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.
(6) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (224) عن الحسن أنه كان يقول: اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم. وانتصحوا: قال شيخنا: أي تقبلوا النصيحة- كما في الهامش.
(7) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (225): عن الشعبي قال: «أما والله لئن اتخذتم بالمقايسة لتحرمن الحلال، ولتحلن الحرام».
(8) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (231) عن ابن عون عن محمد، عن شريح قال: إنما اقتفى الأثر يعني آثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(9) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (233) عن الأوزاعي قال: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت منه على طريق مستقيم.(5/2225)
الثوري (1) والشافعي (2) وابن المبارك (3) وعبد العزيز (4) بن أبي سلمة وأبي حنيفة (5) ويحي بن آدم (6) ومجاهد (7).
وأخرج أبو داود (8) وابن ماجه (9) والحاكم (10) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
_________
(1) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (235): عن سفيان الثوري قال: «إنما العلم كله العلم بالآثار».
(2) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (249). قال الشافعي: «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقولوا بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعوا ما قلت».
(3) أخرج البيهفي في «المدخل» رقم (240): عن ابن المبارك قال: «ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث».
(4) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (242): عن عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: لما جئت العراق، جاءني أهل العراق، فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق! تقولون ربيعة الرأي لا والله، ما رأيت أحدًا أحفظ لسنه منه.
(5) أخرجه البيهقي في «المدخل» رقم (245) عن يحي بن ضريس قال: شهدت سفيان، فأتاه رجل، فقال له: ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم ... ».
(6) أخرج البيهفي في «المدخل» رقم (29) عن يحيى ابن آدم قال: لا يحتاج مع قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قول أحد».
(7) أخرج البيهقي في «المدخل» رقم (30) عن مجاهد قال: ليس أحدٌ إلا يؤخذ من قوله، ويترك من قوله إلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عزا هذه الآثار الحافظ في «الفتح» (3/ 289): للبيهقي في «المدخل» وابن عبد البر وحكم على أسانيدها بأنها جيادٌ.
وانظر: «إعلام الموقعين» (1/ 73 - 79).
(8) في «السنن» رقم (2885).
(9) في «السنن» رقم (54).
(10) في «المستدرك» (4/ 332). وهو حديث ضعيف.(5/2226)
أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «العلم ثلاثة فما سوى ذلك فضلٌ: آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة». وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وعبد الرحمن بن رافع وفيهما مقال.
قال ابن عبد البر (1): السنة القائمة الثابتة الدائمة المحافظ عليها معمولًا بها لقيام إسنادها.
والفريضة العادلة المساوية للقرآن في وجوب العمل بها وفي كونها صدقًا وصوابًا وأخرج الديلمي في مسند الفردوس (2) وأبو نعيم (3) والطبراني في الأوسط (4) والخطيب (5) والدارقطني (6) وابن عبد البر (7) عن ابن عمر بن الخطاب موقوفًا: «العلم ثلاثة أشياء: كتابٌ ناطقٌ، وسنة ماضية، ولا أدري» وإسناده حسن.
وأخرج ابن عبد البر (8) عن ابن عباس أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: «إنما الأمور ثلاثة: أمر تبيّن لك رشده فاتبعه، وأمرٌ تبين لك زيغة فاجتنبه وأمر اختلف فيه فكله إلى عالمه».
والحاصل أن كون الرأي ليس من العلم لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وتابعيهم
_________
(1) انظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 752).
(2) رقم (4197).
(3) عزاه إليه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 204).
(4) (1/ 299 رقم 1001). وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 172) وقال: فيه حصين غير منسوب رواه عن مالك بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن المنذر، ولم أر من ترجمه».
(5) في أسماء من روى عن مالك من رواية عمر بن عصام عن مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفًا عليه» تخريج الإحياء» (1/ 203 رقم 184).
(6) في «السنن» (4/ 68).
(7) في «جامع بيان العلم وفضله» رقم (1387).
(8) في «جامع بيان العلم» رقم (1388) بإسناد ضعيف جدًا.(5/2227)
[42] قال ابن عبد البر (1): ولا أعلم بين متقدَّمي علماء هذه الأمة وسلفها خلافًا أن الرأي ليس بعلم حقيقة، وأما أصول العلم فالكتاب والسنة ... انتهى.
وقال ابن عبد البر (2): حد العلم عند العلماء والمتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبيَّنته، وكل من استيقن شيئًا وتبينَّه فقد علمه. وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدًا فلم يعلم.
والتقليد عند جماعة العلماء غير الأتباع لأن الأتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه، وتأبى من سواه. أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا يحرم القول به في دين الله سبحانه انتهى.
ومما يدل على ما أجمع عليه السلف من أن الرأي بعلم قول الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (3) قال عطاء بن أبي رباح (4) وميمون بن مهران (5) وغيرهما: الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله هو الرد إلى سنته بعد موته.
وعن عطاء (6) في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (7) قال طاعة الله ورسوله اتباع الكتاب والسنة «وأولي الأمر منكم» قال أولي العلم والفقه وكذا قال مجاهدٌ (8).
_________
(1) (2/ 765).
(2) (2/ 765).
(3) [النساء: 59].
(4) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1413).
(5) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم». رقم (1414) بإسناد حسن.
(6) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1417) بإسناد حسن.
(7) [النساء: 59].
(8) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» رقم (1418). بسند ضعيف.(5/2228)
ويدل على ذلك من السنة حديث العرباض بن سارية وهو ثابت (1) ورجاله رجال الصحيح قال وعظنا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا عضّوا عليها [43] بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الآنف كلما قيد انقاد».
وأخرجه أيضًا ابن عبد البر (2) بإسناد صحيح وزاد: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» ... وفي رواية (3): «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا ويكفي في دفع الرأي وأنه ليس من الدين قوله الله عز وجل: {أكملت لكم دينكم وأتتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} (4).
فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (5) فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟ إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم وهذا فيه رد للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين.
_________
(1) تقدم مرارًا وهو حديث صحيح.
(2) في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1164 رقم 2305) بسند صحيح.
(3) انظر: «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 1164).
(4) [المائدة: 3].
(5) زيادة من (ب).(5/2229)
وهذه حجة قاهرة ودليل عظيم لا يمكن صاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدًا فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم، وتدحض به حججهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاءنا بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له الله أصدق منك فاذهب فلا حاجة لنا في رأيك.
وليت المقلدة فهموا هذا الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويُريحوا. ومع هذا فقد أخبرنا في كتابه أنه أحاط بكل شيء فقال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (1) وقال: [تعالى] (2): {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة} (3) ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (4) وقال: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا} (5) وقال: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خيبر الفاصلين} (6) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (7) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (8) وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (9) وأمر
_________
(1) الأنعام: 38
(2) زيادة من (ب)
(3) [النحل: 89]
(4) [المائدة: 49]
(5) [النساء: 105]
(6) [الأنعام: 57]
(7) [المائدة: 44]
(8) [المائدة: 45]
(9) [المائدة: 47](5/2230)
عباده أيضًا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه [44] وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله أن الله شديد العقاب} (1) وقال: {قل إن كنتم تحبونالله فاتبعوني يحببكم الله} (2) وقال: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (3) وقال: {أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} (4) وقال: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا} (5) وقال: {من يطع الرسول فقط أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا} (6) وقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا} (7) وقال: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين} (8) وقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا
_________
(1) [الحشر:7]
(2) [آل عمران: 31]
(3) [آل عمران: 132]
(4) [آل عمران: 32]
(5) [النساء: 69]
(6) [النساء: 80]
(7) [النساء: 59]
(8) [النساء: 13 - 14](5/2231)
الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (1) وقال: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (2). وقال: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (3) وقال: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (4) وقال: {وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (5) وقال: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} (6) وقال: {يأ أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} (7) وقال: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (8) وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (9).
والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله ورسوله لا يأتي بفائدة زائدة فليس أحدٌ من المسلمين يخالف في ذلك، ومن أنكره فهو كافرٌ خارج عن حزب المسلمين. إنما
_________
(1) [المائدة: 92]
(2) [الأنفال: 1]
(3) [الأنفال: 46]
(4) [النور: 54]
(5) [النور: 56]
(6) [الأحزاب: 71]
(7) [سورة محمد: 33]
(8) [النور: 51]
(9) [الأحزاب: 21](5/2232)
أوردنا هذه الآيات الشريفة لقصد تليين قلب المقلد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع [45] مثل هذه الأوامر القرآنية ربما امتثلها وأخذ دينه عن كتاب الله وسنة رسوله طاعة لأوامر الله تعالى. فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومة لكل مسلم كما تقدم لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع القرآنية والزواجر النبوية فإذا ذكر بها ذكر ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين على غير متزحزحين عنه، فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه وما كان مخالفًا له فليس من الإسلام في شيء فإذا راجع نفسه رجع. ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلافًا يخالف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه ونفر عنه طبعه، وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر، ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من أتّبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل، وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن أو السنة أفاده العقل أن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل بل لا جامع بينهما لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة أولها وآخرها وحيِّها وميتها، وأحدهم هذا العالم الذي تمسك المقلد له بمحض رأيه وهذا العالم هو محكوم عليه بالشريعة لا أنه حاكم فيها وهو تابعٌ لها لا متبوعٌ فيها فهو كمن تبعه في أن كل واحدٍ منهما فرضه الأخذ بما جاء عن الشارع لا فرق بينهما إلا في كون المتبوع عالمًا والتابع جاهلاً.
فالعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون [46] أن يرجع إلى غيره لأنه قد استعد لذلك بما اشتغل به من الطلب والوقوف بين يدي أهل العلم والتخرج بهم في معارف الاجتهاد، والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة على طريقة طلب الدليل واسترواء النص وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها فهم رواة وهو مسترو وهذا عاملٌ بالرواية لا بالرأي،(5/2233)
والمقلد عامل بالراي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك هو في سؤاله مطالب بالحجة لا بالرأي فهو قبل رواية الغير لا رأيه وهما من هذه الحيثية متقابلان.
فانظر كم الفرق بين المنزلتين. فإن العالم الذي قلده غيره إذا كان قد أجهد نفسه في طلب الدليل ولم يجده ثم اجتهد رأيه فهو معذور. وهكذا إذا أخطأ في اجتهاده فإنه معذورٌ بل مأجورٌ للحديث المتفق عليه (1): «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر».
فإذا وقف بين يدي الله وتبين خطأه كان بيده هذه الحجة الصحيحة بخلاف المقلد له فإنه لا يجد حجدة يدلي بها عند السؤال في موقف الحساب لأنه قلد في دين الله من هو مخطي، وعدم مؤاخذه المجتهد على خطئه لا يستلزم عدم مؤاخذة من قلده في ذلك الخطأ لا عقلاً ولا شرعًا ولا عادةً، فإن استروح المقلد إلى مسألة تصويب المجتهد فالقائل بها إنما قال إن المجتهد مصيب بمعنى أنه لا يأثم بالخطأ بل يؤجر على الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه ولم يقل [47] أنه مصيبٌ للحق الذي هو حكم الله في المسألة، فإن هذا خلاف ما نطق به رسول الله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] (2) فيه هذا الحديث حيث قال: «إن أجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ» فانظر هذه العبارة النبوية في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه عند أهل الصحيح والمتلقي بالقبول بين جميع الفرق فإنه قال «وإن اجتهد فأخطأ .. » فقسم ما يصدر عن المجتهد في مسائل الدين إلى قسمين: أحدهما هو فيه (3) مصيب والآخر هو فيه مخطئ فكيف يقول قائلٌ إنه مصيبٌ للحق سواءً أصاب أو أخطأ وقد سماه رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مخطئًا فمن زعم أن مراد
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وقد تقدم.
(2) زيادة من (ب).
(3) تقدم توضيح ذلك(5/2234)
القائل بتصويب المجتهدين الإصابة للحق مطبقًا فقد غلط عليهم غلطًا بينًا، ونسب إليهم ما هم عنه براء. ولهذا أوضح جماعة من المحققين مراد القائلين بتصويب المجتهدين بأن مقصودهم أنهم مُصيبون من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي هي مقابلة للخطأ فإن تسمية المخطئ مصيبًا هي باعتبار قيام النص على أنه مأجور في (1) خطئه لا باعتبار أنه لم يخطئ فهذا لا يقول به عالم، ومن لم يفهم هذا المعنى فعليه أن يتهم نفسه ويحيل الذنب على قصوره ويقب ما أوضحه له من هو أعرف منه بفهم كلام العلماء.
وإن استروح المقلد إلى الاستدلال بقوله تعالى: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (2).
فهو يقتصر على سؤال أهل العلم عن الحكم الثابت في كتاب الله وسنة رسوله حتى يبينوه له كما أخذ الله عليهم من بيان أحكامه لعباده فإن معنى هذا السؤال الذي شرعه الله هو السؤال عن الحجة الشرعية وطلبها من العالم [48] فيكون روايًا وهذا السائل مسترويًا، والمقلد يقر على نفسه بأنه يقبل قول العالم ولا يطالبه بالحجة، فالآية هي دليل الأتباع لا دليل التقليد وقد أوضحنا الفرق (3) بينهما فيما سلف هذا على فرض أن المراد
_________
(1) تقدم ذلك في بداية الرسالة.
(2) [الأنبياء: 7]
(3) الفرق بين الأتباع والتقليد:
أن الاتباع هو اتباع الدليل والعمل بالوحي، فقد سمي الله العمل بالوحي اتباعًا في مواضع كثيرة منها: قوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف:3] وقوله تعالى: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} [الأنعام: 106].
فحمل الاتباع إذن هو كل حكم ظهر دليله من الكتاب والسنة والإجماع، أما محل التقليد فهو محل الاجتهاد فلا اجتهاد ولا تقليد في نصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة، السالمة من المعارض.
ولا يشترط في الاتباع والعمل بالوحي سوى العلم بما يعمل، ولا يتوقف ذلك على تحصيل شروط الاجتهاد.
انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 190 - 201)، و «إرشاد الفحول» (ص881).(5/2235)
بها السؤال العام، وقد قدّمنا أن السياق يفيد أن المراد بها السؤال الخاص لأن الله يقول: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (1) وقد قدّمنا طرفًا من تفسير أهل العلم لهذه الآية (2) وبهذا يظهر لك أن هذه الحجة التي احتج بها المقلد هي حجة داحضةٌ على فرض أن المراد المعنى الخاص وهي عليه لا له على فرض أن المراد المعنى العام.
_________
(1) [الأنبياء: 7].
(2) تقدم في بداية الرسالة.(5/2236)
[أسئلة للمقلدين]
ثم نقول للمقلد أيضًا أنت في تقليدك للعالم في مسائل العبادات والمعاملات إما أن تكون في أصل مسألة جواز التقليد مقلدًا أو مجتهدًا: إن كنت مقلدًا فقد قلدت في مسألة لا يجيز إمامك التقليد فيها لأنها مسألة أصوليةٌ والتقليدُ إنما هو في مسائل الفروع فمذا صنعت في نفسك يا مسكين؟.
وكيف وقعت في هذه الهوة المظلمة وأنت تجد عنها فرجًا ومخرجًا.
وإن كنت في أصل هذه المسألة مجتهدًا فلا يجوز لك التقليد لأنك لا تقدر على الاجتهاد في مثل هذه المسألة الأصولية المتشعبة المشكلة إلا وأنت ممن علّمه الله علمًا نافعًا تخرج به من الظلمات إلى النور.
فما بلك توقع نفسك فيما لا يجوز لها وتقلّد الرجال في دين الله بعد أن أراحك الاله منه واقدرك على الخروج منه.
هذا على ما هو الحق من أن الاجتهاد (1) لا يتبعّض، وأنه لا يقدر على الاجتهد في بعض المسائل إلا من قدر على الاجتهاد في جميعها لأن الاجتهاد [49] هو ملكة تحصل لنفس عند الإحاطة بمعارفه المعتبرة ولا ملكة لمن لم يعرف إلا البعض من ذلك.
فإن استروحت إلى أن الاجتهاد يتبعّض أعدنا عليك السؤال فنقول. هل عرفت أن الاجتهاد يتبعض بالاجتهاد أم بالتقليد؟. فإن كنت عرفت ذلك بالتقليد فالمسألة أصولية لا يجوز التقليد فيها باعترافك واعتراف إمامك. وإن كنت عرفت ذلك بالاجتهاد فهذه
_________
(1) أنظر تفصيل ذلك مفصلًا في «الكوكب المنير» (4/ 473 - 475)، «تيسير التحرير» (4/ 183).
* القول بتجزأ الاجتهاد هو لأكثر المتكلمين والمعتزلة وأكثر الفقهاء، وقال به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأيده الآمدي وابن الحاجب وابن دقيق العبد وابن السبكي.
انظر إعلام الموقعين (4/ 275) الإحكام الآمدي (2/ 386).
* وقيل لا يتجزأ وقيل يتجزأ في باب لا في مسألةٍ وقيل في الفرائض لا في غيرها.
انظر: إعلام الموقعين (4/ 275).(5/2237)
أيضًا مسألة أخرى من مسائل الأصول أقدرك الله على الاجتهاد فيها فهلا صنعت هذا الصنع في مسائل الفروع فإنك على الاجتهاد فيها أقدر منك على الاجتهاد في مسائل الأصول.
فاصنع من مسائل الفروع هكذا واستكثر من علوم الاجتهاد حتى تصير من أهله ويفرج الله عنك هذه الغمة ويكشف عنك بما علّمك هذه الظلمة فإنك إذا رفعت نفسك إلى الاجتهاد الأكبر فالمسافة قريبة، ومن قدر على بعض قدر على الكل.
ومن عرف الحق في المعارك الأصولية عرفه في المسائل الفروعية وستعرف بعد أن تعرف علوم الاجتهاد كما ينبغي بطلان ما تظنه الآن من جواز التقليد ومن تبعض الاجتهاد، بل لو طرحت عنك العصبية وجردت نفسك لفهم ما حررته لك في هذه الورقات من أوله إلى آخره لقادك عقلك وفهمك إلى أنه الصواب قبل أن تجمع معارف الاجتهاد، فالفهم قد تفضل الله به على غالب عباده والحق لا يحتجب عن أهل التوفيق والإنصاف شاهد صدق على وجدان الحق، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:» أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس» [50] وهو حديث أخرجه الحاكم في مستدركه (1) وصححه وأخرجه أيضًا (2) غيره.
فإن طال بك اللجاج وسلكت من جهالتك في فجاج، وتوقحت غير محتشم، وأقدمت غير محجم، فقلت إن مسألة جواز التقليد هي وإن كانت مسألة أصولية وقد أطبق الناس على أنه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول وصار هذا معروفًا عند أبناء جنسي من المقلّدين لكني أقول بأن التقليد فيها وفي سائر مسائل الأصول جائز.
فنقول ومن أين عرفت جواز التقليد في مسائل الأصول هل كان هذا منك تقليدًا أم
_________
(1) (2/ 480) من حديث ابن مسعود وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان وثق فإن شيخه منكر الحديث. قاله البخاري.
(2) كالعقيلي في الضعفاء (3/ 408) في ترجمة عقيل الجعدي من طريق الصعق به.(5/2238)
اجتهادًا؟ فإن قلت تقليدًا فنقول ومن ذاك الذي قلدته فإن قد حكينا لك فيما سبق أن أئمة المذاهب يمنعون التقليد كما يمنعه غيرهم في مسائل الفروع فرضًا عن مسائل الأصول، فإن قلت قلدتهم أو قلدت واحدًا منهم وهو الذي التزمت مذهبه في جميع ما قاله من دون أن تطالبه بحجة فقد كذبت عليه وعللت نفسك بالأباطيل، فإن غيرك ممن هو أعلم منك بمذهبه وأعرف بنصوصه قد نقل عنه أنه يمنع التقليد وإن قلت قلدت غيره فمن هو؟ ثم كيف سمحت نفسك في هذه المسألة بخصوصها بالخروج عن مذهبه وتقليد غيره.
وبالجملة فمن تلاعب بنفسه وبدينه إلى هذا الحد فهو بالبهيمة أشبه، وليت أن هؤلاء المقلدة قلّدوا أئمتهم في جميع ما يقولونه، فإنهم لو فعلوا كذلك لزمهم أن يقلدوهم في مسألة التقليد، وهم يقولون بعدم جوازه كما عرفت سابقًا، وحينئذ يقتدون بهم في هذه المسألة ولا يتم لهم ذلك إلا بترك التقليد في جميع المسائل فيريحون أنفسهم [51] ويخلصون من هذه الشبكة بالوقوع في حبل من حبالها.
ثم نقول لهذا المقلد أيضًا من أين عرفت إن إمامك الذي قلدته مجتهد فإن قال عرفت أنه جامع لعلوم الاجتهاد، فنقول له ومن أين لك هذه المعرفة يا مسكين فأنت تقر على نفسك بالجهل وتكذبها في هذه الدعوى ولولا جهلك لم تقلد غيرك، وإن قال عرفتها بإخبار أهل العلم أن إمامي قد جمع علوم الاجتهاد فنقول هذا الذي أخبرك هل هو مقلد أم مجتهد؟ إن قلت هو مقلد فمن أين للمقلد هذه المعرفة وهو مقر على نفسه بما أقررت به على نفسك من الجهل وإن قلت أخبرك بذلك رجل مجتهد فنقول من أين عرفت أنه مجتهدٌ وأنت مقر على نفسك بالجهل ثم نعود عليك بالسؤال الأول إلى ما لا نهاية له.
ثم نقول للمقلد من أين عرفت أن احلق بيد هذا الإمام (1) الذي قلدته وأنت تعلم أن غيره من العلماء قد خالفه في كل مسألة من مسائل الخلاف إن قلت عرفت ذلك تقليدًا
_________
(1) انظر: إعلام الموقعين (2/ 208 - 211)(5/2239)
فمن أين للمقلد معرفة الحق والمحقين وهو مقر على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يعقلها إذا جاءته فمالك يا مسكين وللكذب على نفسك بما يشهد عليك ببطلانه لسانك، بل يشهد عليك كل مجتهدٍ ومقلد بخلاف دعواك، وإن قلت عرفت ذلك بالاجتهاد فلست حينئذ مقلدًا ولا من أهل التقليد بل التقليد عليك حرام فمالك تغمط نعمة الله عليك وتنكرها والله يقول: {وأما بنعمة ربك فحدث} (1) ورسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» (2) وأثر نعمة العلم أن يعمل العالم بعلمه ويأخذ ما تعبده الله به من الجهة التي أمره الله بالأخذ منها في محكم كتابه وعلى لسان رسوله تلك الجهة هي الكتاب والسنة وكما تقدم سرد أدلة ذلك، وهو أمرٌ متفقٌ عليه لا خلاف فيه [52].
وعلى كل حال فإنت بتقليدك مع كونك قاصرًا ممن عمل في دين الله بغير بصيرة وترك ما لا شك فيه إلى ما فيه شك واستبدل بالحق شيئًا لا يدري ما هو، وإن كنت مجتهدًا فأنت مما أضله الله على علم وختم على سمعه وبصره فلم ينفعه علمه وصار ما علمه حجة عليه ورجع من النور إلى الظلمات ومن اليقين إلى الشك ومن الثريا إلى الثرى فلالعًا لك بل لليدين وللفم.
_________
(1) [الضحى: 11].
(2) أخرجه الترمذي رقم (2819) بهذا اللفظ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال: حديث حسن. وهو كما قال.
وأخرجه النسائي (8/ 196 رقم 5294) وأبو داود رقم (4063) والحاكم (4/ 181) وأحمد (3/ 473) وابن سعد (6/ 28) والبيهقي (10/ 10) من طرق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثوب دون، فقال: «ألك مال»؟ قال: نعم، قال: «من أي المال»؟ قال: قد أتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: «فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته».
وهو حديث صحيح.(5/2240)
هذا إن كان ذلك المقلد يدعي إن إمامه على حق في جميع ما قاله وإن كان يقر بأن في قوله الحق والبالط وأنه بشرٌ يخطئ ويصيب لا سيما في محض الرأي الذي هو على شفا جرف هار فنقول له إن كنت قائلًا بهذا فقد أصبت وهو الذي يقوله إمامك لو سأله سائل عن مذهبه وجميع ما دونه من مسائله، ولكن أخبرنا ما حملك أن تجعل ما هو مشتمل على الحق والباطل قلادة في عنقك وتلتزمه وتدين به غير تارك لشيء منه فإن الخطأ من إمامك قد عذره الله فيه بل جعل له أجرًا في مقابلته كما تقدم تقريره لأنه مجتهد وللمجتهد إن أخطأ أجرٌ كما صرح بذلك رسول (1) الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأنت من أخبرك بأنك معذور في اتباع الخطأ؟ وأي حجة قامت لك على ذلك، فإن قلت إنك لو تركت التقليد وسألت أهل العلم عن النصوص لكنت غير قاطع بالصواب بل يجتمل أن الذي أخذت به وسألت عنه هو حق ويحتمل أنه باطل فنقول ليس الأمر كذلك فإن التمسك بالدليل الصحيح كله حق وليس شيء منه بباطل، والمفروض أنك ستسأل عن دينك في عباداتك ومعاملاتك علماء الكتاب والسنة وهم أتقى الله من [53] إن يفتوك بغير ما سألت عنه فإنك إنما سألتهم عن كتاب الله أو سنة رسوله في ذلك الحكم الذي أردت العمل به، وهم بل جميع المسلمين يعلمون أن كتاب الله وسنة رسوله حق لا باطل وهدى لا ضلالة، ولو فرضنا أن المسؤول قصّر في البحث فأفتاك مثلا بحديث ضعيفٍ وترك الصحيح أو بالآية المنسوخة وترك المحكمة لم يكن ع ليك في ذلك بأس فإنك قد فعلت ما هو فرضك واسترويت أهل العلم عن الشريعة المطهرة لا عن آراء الرجال، وليس للمقلد أن يقول كمقالك هذا فيزعم أن إمامة أتقى الله من أن يقول بقول باطل لأنا نقول هو معترف أن بعض رأيه خطأ ولم يأمرك بأن تتبعه في خطئه بل نهاك عن تقليده ومنعك من ذلك كما تقدم تحريره عن أئمة المذاهب وعن سائر المسلمين، بخلاف من سألته عن الكتاب والسنة فأفتاك بذلك فإنه يعلم أن جميع ما في الكتاب والسنة حق
_________
(1) تقدم تخريجه.(5/2241)
وصد وهدى ونور وأنت لم تسأله إلا عن ذلك.
ثم نقول لك أيها المقلد ما بالك تعترف في كل مسألة من مسائل الفروع (1) التي أنت مقلد فيها بأنك لا تدري ما هو احلق فيها ثم لما أرشدناك إلى ما أنت عليه من التقليد غير جائم في دين الله أقمت نفسك مقامًا لا تستحقه ونصبت نفسك في منصب لم تتأهل له فأخذت في المخاصمة والاستدلال لجواز التقليد وجئت بالشبهة الساقطة التي قد قدمنا دفعها في هذا المؤلف فهلا نزلت نفسك في هذه المسألة الأصولية العظيمة المتشعبة [54] تلك المنزلة التي كنت تنزلها في مسائل الفروع فمالك وللنزول في منازل الفحول والسلوك في مسالك أهل الأيدي المتبالغة في الطول، فما هلك امرؤ عرف قدر نفسه فقل هاهنا لا أدري إنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فنقول هكذا سيكون جوابك لنكير ومنكر بعد أن تقبر ويقال لك لا دريت ولا تليت كما ثبت بذلك النص الصحيح (2) وإذا كنت معترفًا بأنك لا تدري فشفاء (3) العي السؤال فاسأل من تثق بدينه وعلمه وإنصافه في
_________
(1) انظر: «المسودة» (458 - 460)، «تنقيح الفصول» (ص442)، «الكواكب المنير» (4/ 539).
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (4751) عن أنس بن مالك، قال: إن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتا ففزع، فقال: «من أصحاب هذه القبور؟» قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية، فقال: «تعوذوا باله من عذاب النار، ومن فتنة الدجال» قالوا ومم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له: ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، فما يسأل عن شيء غيرها، فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له، هذا بيتك كان لك في النار ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتا في الجنة، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشرأهلي، فيقال له: اسكن، وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ فيقول: لا أدري فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيقال له: فما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: كنت أقول ما يقول الناس، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه، فيصبح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين».
وهو حديث صحيح.
(3) تقدم تخريجه.(5/2242)
مسألة التقليد حتى تكون على بصيرة ولو كان إمامك الذي تقلّده حيًا لأرشدناك إليه وأمرناك بالتعويل عليه فإنه أول ناه لك عن التقليد كما عرَّفناك فيما سبق ولكنه قد صار رهين البلى وتحت أطباق الثرى فاسأل غيره من العلماء الموجودين وهم بحمد الله في كل صقع من بلاد الإسلام فالله سبحانه حافظ دينه بهم وحجته قائمة على عباده بوجودهم، وإن كتموا الحق في بعض الأحوال إما لتقيةٍ مسوغة كما قال تعالى: {إلا أن تتقوا منهم تقاه} (1) أو لمداهنة أو طمع في جاه أو مال، ولكنهم على كل حال إذا عرفوا من هو طالب للحق راغب فيه سائل عن دينه سالكٌ مسالك الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكتموا عليه الحق ولا زاغوا عنه فإن كنت لا تثق بأحد من العلماء وثوقك بإمامك الذي نشأت على مذهبه فأرجع إلى نصوصه التي قدّمنا لك الإشارة إلى بعضها وفيها ما ينقع الغلة ويشفي العلة.
_________
(1) [آل عمران: 28].(5/2243)
[نصحية نافعة لمن يتصدر للفتيا والقضاء من المقلّدين]
واعلم أرشدك الله أيها المقلد أنك إن أنصفت من نفسك وخليت بين عقلك وفهمك وبين ما حرَّرناه في هذا المؤلف لم يبق معك شك في أنك على خطر عظيم هذا إن كنت مقتصرًا في التقليد على ما تدعو إليه حاجتك مما يتعلّق به أمر عبادتك ومعاملتك، أما إذا كنت مع كونك في هذه الرتبة [55] الساقطة مرشحًا نفسك لفتيا السائلين وللقضاء على المتخاصمين فاعلم أنك ممتحن وممتحن بك، ومبتلى ومبتلى بك، لأنك تريق الدماء بأحكامك وتنقل الأملاك والحقوق من أهلها وتحلل الحرام لهم وتحرم الحلال وتقول على الله ما لم يقل غير مستد إلى كتاب الله وسنة رسوله بل بشيء لا تدري أحق هو أم باطل باعترافك على نفسك بأنك كذلك، فماذا يكون جوابك بين يدي الله فإن الله إنما أمر حكام العباد أن يحموا بينهم بما أنز الله وأ، ت لا تعرف ما أنزل الله على الوجه الذي يراد به وأمرهم أن يحكموا بالحق وأنت لا تدري بالحق وإنما سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وأمرهم أن يحكموا بينهم بالعدل وأ، ت لا تدري بالعدل من الجور، لأن العدل هو ما وافق ما شرعه الله والجور ما خالفه، فهذه الأوامر لم تتناول مثلك بل المأمور بها غيرك فيكف قمت بشي لم تؤمر به ولا ندبت إليه وكيف أقدمت على الدخول في الحكم بغير ما أنزل الله حتى تكون مما ممن قال فيه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (1)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (3).
_________
(1) [المائدة: 45]
(2) [المائدة: 47]
(3) [المائدة: 44](5/2244)
فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وأنت لا تدّعي أنك حكمت بما أنزل الله. بل تقر أنك حكمت بقول العالم الفلاني ولا تدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف فانظر يا مسكين ما صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصورًا عليك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود وهتكت الحرم بما لا تدري فقبح الله الجهل ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعًا ودينًا له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق [56] وإن ستر من التلبيس بستر رقيق فيا أيها القاضي المقلد أخبرنا أي القضاة الثلاثة أنت الذين قال فيهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- القضاء ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة» (1) والذي في الجنة قاض قضى بالحق وهو يعمل أنه الحق فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق؟ إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم تشهدون بأنك كاذب لأنك معترفٌ بأنك لا تعلم بالحق وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرقٍ بين مجتهدٍ
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315). والنسائي في «السنن الكبرى» (3/ 461 رقم 5922/ 1) والحاكم في «المستدرك» (4/ 90) وقال: «صحيح الإسناد» ورده الذهبي بقوله: «ابن كثير الغنوي منكر الحديث».
قال الألباني في الإرواء (8/ 236): «وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه فقال فيه الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد بخلاف البغوي فقد قال الساجي: «من أهل الصدق، وليس بالقوي وذكر له ابن عدي مناكير وهذا كل ما جرح به، وذكره ابن حبان في الثقات».
فقول الذهبي: منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في «الضعفاء»: «ضعفوه ولم يترك». وهو حديث صحيح.
عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القضاة ثلاثة: أثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار».(5/2245)
ومقلد وإن قتل بل قضيت بما قاله إمامك ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقدل على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين: إما قضيت بالحق ولا تعلم بأنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين: إما أن يكون حقصا وإما أن يكون غير حق وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص المختار، وهذا ما أظن يتردد فيه أحدٌ من أهل الفهم لأمرين: أحدهما: أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل الثاني: أن المقلد لا يدّعي أنه يعلم بما هو حق من لام إمامه ولا بما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة ويقر على نفسه أنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق وهذان هما القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كلا حالتيه يتقلب في نار جهنم فهو كما قال الشاعر:
خذا بطن هرشي (1) أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق (2)
وكما تقول العرب في الشر خيارٌ ولقد خاب وخسر من لا ينجو [57] على كل حال من النار، فيا أيها القاضي المقلد ما الذي أوقعك في هذه الورطة وألجأك إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار؟ إذا دمت على قضائك، ولم تتب فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم هم أرجى لله منك وأخوف له لأنهم يقدمون على المعاصي وهم على عزم التوبة والإقلاع والرجوع وكل واحدٍ منهم يسأله الله المغفرة والتوبة ويلوم نفسه على ما فرط منه ويحب أن لا يأتيه الموت إلا بعد أن يطهر نفسه من
_________
(1) قال الجوهري: في الصحاح (3/ 1027): هرشي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يُرى منها البحر، ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا.
(2) ذكره صاحب اللسان (15/ 76).(5/2246)
أدران كل معصية، ولو دعا بأن الله يبقيه على ما هو متلبس به من البطالة والمعصية إلى الموت ليعلم هو وكل سامع إنه يدعو عليه لا له.
ولو علم أنه يبقى على ما هو عليه إلى الموت ويلقى الله وهو متلبس به لضاقت عليه الأرض بما رحبت لأنه يعلم أن هذا البقاء هو من موجبات النار بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله في خلواته وبعد صلواته أن يديم عليه تلك النعمة ويحرسها عن الزوال ويصرف عنه كيد الكائدين وحسد الحاسدين حتى لا يقدروا على عزله ولا يتمكنوا من فصله وقد يبذل المخذول في استمراره على ذلك نفائس الأموال ويدفع الرشا والبراطيل والرغائب لمن كان له في أمره مدخلا فيجمع بين خسراني الدنيا والآخرة وتسمح نفسه بها جميعًا في حصول ذلك فيشتري بهما النار، والعلة الغائبة والمقصد الأسنى والمطلب الأبعد لهذا المغبون ليس إلا اجتماع العامة عليه وصراخهم بين يديه ولو عقل لعلم أنه لم يكن في رياسة عالية ولا في مكان رفيع ولا في مرتبة جليلة فإنه يشاركه في اجتماع هؤلاء العوام وتطاولهم إليه وتزاحمهم عليه كل من يراد إهانته إما بإقامة حد عليه أو قصاص أو تعزير فإنه يجتمع على واحد من هؤلاء مالا يجتمع على القاضي عشر معشاره بل يجتمع على أهل اللعب والمجون والسخرية وأهل الزمر والرقص والضرب بالطبل أضعاف أضعاف [58] من يجتمع على ذلك القاضي، وهو إذا زهى بركوب دابة أو مشى خادم أو خادمين في ركابه فليعلم أن العبد المملوك والجندي الجاهل والمولد من أبناء اليهود والنصارى يركب دواب أفره من دابته ويمشي معه من الخدم أكثر ممن يمشي معه، وإذا كان وقوعه في هذا العمل الذي هو من أسباب النار على كل حال طلب المعاش واستدرار ما يدفع إليه من الجراية من السحت فليعلم أن أهل المهن الدنيوية كالحائك والحجّام والجّزار والإسكافي أنعم منه فهم يتلذذون بدنياهم ويتمتعون بنفوسهم ويتقلّبون في تنعّمهم هذا باعتبار الحياة الدنيا وأما باعتبار الآخرة
فخواطرهم مطمئنة لأنهم لا يخشون العقوبة بسبب من الأسباب التي هي قوام المعاش ونظام الحياة لأن مكسبهم(5/2247)
حلال وأيديهم مكفوفة عن الظلم فلا يخافون السؤال عن دم أو مال بل قلوبهم متعلقة بالرجاء كل واحد منهم يرجو الانتقال من دار شقوة وكدر إلى دار نعمةٍ وتفضل، وأما ذلك القاضي المقلد فهو منغَّص العيش منكد النعمة مكدَّرة اللذة لانه - لما يرد عليه من خصومة الخصوم ومعارضة المعارضين ومصادرة المتمنّعين من قبول أحكامه وامتثال حله وإبرامه - في هموم وغموم ومكابدة ومناهدة، ومجاهدة ومع هذا فهو متوقعٌ لتحول الحال والاستبدال به وغروب شمسه وركود ربحه وذهاب سعده عن نفسه وشماته أعدائه ومساءة أوليائه فلا تصفو له راحة ولا تخلص له نعمة، بل هو ما دام في الحية في أشد الغم وأعظم النكد كما قال المتنبي (1):
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولا سيما إذا كان محسودًا معارضًا من أمثاله فإنه لا يطرق سمعه إلا ما يكمده، فحينًا يقال له: الناس يتحدثون أنك غلطت وجهلت وحينًا يقال له قد خالفك القاضي الفلاني أو المفتي الفلاني فنقض حكمك وهدم علمك [59] وغض من قدرك وحط من رتبتك وقد يأتيه المحكوم له منه فيقول له جهاراً وكفاحًا فلان قال لا عمل على حكمك ونحو ذلك من العبارات الخشنة فإن قام وناضل عن حكمه ودافع فهي قومة جاهلية ومدافعة شيطانية طاغوتية قد تكون لحراسة المنصب وحفظ المرتبة والفرار من انحطاط القدر وسقوط الجاه ومع ذلك فهو لا يدري هل الحق بيده أم بيد من نقض عليه حكمه لأن المسكين لا يدري بالحق بإقراره وجميع المتخاصمين إليه بين متسرع إلى ذمه والتشكي منه وهو المحكوم عليه يدّعي أنه حكم عليه بالباطل أو ارتشى من خصمه أو داهنه ويتقرر هذا عنده بما يُلقيه إليه من ينافس هذا المقلد من أبناء جنسه من المقلدة الطامعين في منصبه أو
_________
(1) انظر ديوانه (3/ 224) بشرح أبي البقاء العكبري. ط: دار المعرفة.
أشد الغم: هو السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له السرور، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه فهو يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورًا ومكانة لعلمه أنه زائل عنها.(5/2248)
الراجين لرفده أو النيابة عنه في بعض ما يتصرف فيه فإنه يذهب يستفتيهم ويشكو عليهم فيطلبون غرائب الوجوه ونوادر الخلاف ويكتبون له خطوطهم بمخالفة ما حكم به القاضي وقد يعبِّرون في مكاتبهم بعبارات تؤلم القاضي وتوحشه فيزداد لذلك ألمه ويكثر عنده همه وغمه.
هذا يفعله أبناء جنسه من المقلدين، وأما العلماء المجتهدون فهم يعتقدون أنه مبطل في جميع ما يأتي به لأنه من قضاة النار فلا يرفعون لما يصدر عنه من الأحكام رأسًا ولا يعتقدون أنه قاضٍ لأنه قد قام الدليل عندهم على أن القاضي (1) لا يكون إلا مجتهدًا وأن المقلد وإن بلغ في الورع والعفاف والتقوى إلى مبالغ الأولياء فهو عندهم بنفس استمراره على القضاء مصر على المعصية وينزلون جميع ما يصدر عنه منزلة ما يصدر عنه العامة الذين ليسوا بقضاة ولا مفتين فجميع سجلاته التي يكتب عليها اسمه ويحلل فيها الحرام ويحرم الحلال باطلة لا تعد شيئًا بل لو كانت موافقة للصواب لم تعد عندهم شيئًا لأنها صادرة من قاض حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو من أهل النار في الآخرة وممن لا يستحق اسم القضاء في الدنيا ولا يحل تنزيله منزلة القضاة المجتهدين في شيء [60].
وبعد هذا كله فهذا القاضي المشؤوم يحتاج إلى مداهنة السلطان وأعوانه المقبولين لديه ويهين نفسه لهم ويخضع لهم ويتردد إلى أبوابهم ويتمرغ على عتباتهم، وإذا لم يفعل ذلك على الدوام والاستمرار ناكدوه مناكدة تجرح صدره وتوهن قدره، ومع هذا فأعوانه الذين هم مستدرون لفوائده والمقتنصون للأموال على يده وإن عظّموه وفخّموه وقاموا بقيامه وقعدوا بقعوده فهم أضّر عليه من أعدائه، لأنهم يتكالبون على أموال الناس ويتم
_________
(1) قال الشيرازي في «المهذب» (20/ 128 - التكملة الثانية للمجموع): «فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقومه عز وجل: {فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26] والحق ما دل عليه دليل، وذلك لا يتعين في مذهب بعينه، فإن قلد عن هذا الشرط بطلت التولية، لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية».(5/2249)
لهم ذلك بقوة يده ولا سيما إذا كان مغفلاً غير حازم ولا متطلع للأمور فتعظم القالة على الاقضي وينسب ذنبهم إليه ويحمل جورهم عليه فتارة ينسب إلى التقصير في البحث وتارة إلى التغفيل وعدم التيقظ وتارة إلى أن ما أخذه الأعوان فله فيه منفعة تعود إليه لولا ذلك لم يطلق لهم الرشا ولا خلى بينهم وبين الناس وأيضًا أعظم من يذمه ويستحل عرضه هؤلاء الأعوان فإن كل واحد منهم يطمع في أن تكون كل الفوائد له فإذا عرضت فائدة فيها نفع لهم من قسمة تركة أو نظر مكان مشتجر فيه فالقاضي المسكين لابد أن يصيره إلى أحدهم فيوغر بذلك صدور جميعهم ويخرجون وصدورهم قد ملئت غيظًا فينطقون بذمه في المحافل ولا سيما بين أعدائه والمنافسين له وينعون عليه ما قضى فيه من الخصومات الواقعة لديه بمحضرهم ويحرفون الكلام وينسبونه إلى الغلط تارة والجهل أخزى، والتكالبُ على المال حينًا والمداهنة حينًا.
وبالجملة فإنه لا يقدر على إرضاء الجميع بل لابد لهم من ثلبه على كل حالٍ وهو لا يستغنى عنهم فيناله منهم محنٌ وبلايا.
هذا وهم أهل مودته وبطانته والمستفيدون بأمره ونهيه والمنتفعون بقضائه وما أحقهم بما كان يقوله بعض القضاة المتقدمين فإنه كان لا يسمّيهم الأمناء بل يسمّيهم الكمناء، ولا يخرج عن هذه الأوصاف إلا القليل النادر منهم فإن الزمن قد يتنفس في بعض الأحوال بمن لا يتِّصف بهذه الصفة
[61].
فهذا حال القاضي المقلد في دنياه وأما حاله في أخراه فقد عرفت أنه أحد القاضيين اللذين في النار ولا مخرج له عن ذلك بحال من الأحوال كما سبق تحقيقه وتقريره فهو في الدنيا مع ما ذكرناه سابقًا من القلاقل والزلازل في نعمه باعتبار ما يخافه من الآخرة من أحكامه في دماء العباد وأموالهم بلا برهان ولا قرآن ولا سنةٍ بل بمجرد جهل وتقليدٍ وعدم بصيرة في جميع ما يأتي ويذر ويصدر ويورد مع ورود القرآن الصحيح الصريح بالنهي عن العمل بما ليس بعلم كقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به(5/2250)
علم} (1) والآيات في هذا المعنى وفي النهي عن اتباع الظن كثيرة جدًا والمقلد لا علم له ولا ظن صحيح ولو لم يكن من الزواجر عن هذا إلا ما قدّمنا من الآيات القرآنية في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (2)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (3)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (4) مع ما في الآيات الأخرى من الأمر بالحكم بما أنزل الله وبالحق وبالعدل ومع ما ثبت من أن من حكم بغير الحق أو بالحق وهو لا يعلم أنه الحق أنه من قضاة النار.
فإن قلت إذا كان المقلد لا يصلح للقضاء ولا يلح له أن يتولى ذلك ولا لغيره أن يوليه فما تقول في المفتي (5) المقلد؟.
أقول: إن كنت تسأل عن القيل والقال ومذاهب الرجال فالكلام في شروط المفتي وما يُعتبر فيه مبسوط في كتب الأصول (6) والفقه، وإن كنت تسأل عن الذي أعتقده وأراه صوابًا فعندي أن المفتي المقلد لا يحل له أن يفتي من سأله عن حكم الله أو حكم رسوله أو عن الحق أو عن الثابت في الشريعة أو عما يحل له أو يُحرم له أو يُحرم عليه لأن
_________
(1) [الإسراء: 36]
(2) [المائدة: 44]
(3) [المائدة: 47]
(4) [المائدة: 45]
(5) قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 195): لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين الله بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة فيه سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم، وصرح بهم الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما وغيرهما.
وانظر: بقية الآراء في الكوكب المنير (4/ 557)
(6) انظر: «الكوكب المنير» (4/ 550 - 553) «المسودة» (ص545) «إعلام الموقعين» (4/ 254) وما بعدها.(5/2251)
المقّلد لا يدري بواحد من هذه الأمور على التحقيق بل لا يعرفها إلا المجتهد، وهكذا إذا سأله السائل سؤالاً مطلقًا من غير أن يقيِّده [62] بأحد الأمور المتقدّمة فلا يحلّ للمقلد أن يفتيه بشيء من ذلك لأن السؤال المطلق ينصرف إلى الشريعة المطهّرة لا إلى قول قائل أو رأي صاحب رأي. وأما إذا سأله سائل عن قول فلان أو رأي فلان (1) أو ما ذكره فلان فلا بأس بأن ينقل له المقلد ذلك ويرويه له إن كان عارفًا بمذهب (2) العالم الذيب وقع السؤال عن قوله أو رأيه أو مذهبه، لأنه سئل عن أمر يمكنه نقله وليس ذلك من التقول على الله بما لم يقل ولا من التعريف بالكتاب والسنة، وهذا التفصيل هو الصواب الذي لا ينكره منصف.
فإن قلت هل يجوز (3) للمجتهد أن يفتي من سأله عن مذهب رجل معيِّن وينقله له.
قلت يجوز ذلك بشرط أن يقول بعد نقل ذلك الرأي أو المذهب إذا كانا على غير الصواب مقالاً يُصرح به أو يلوح أن الحق خلاف ذلك فإن الله أخذ على العلماء البيان للناس وهذا منه لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي المخالف للصواب وأيضًا في نقل هذا العالم لذلك المذهب المخالف للصواب وسكوته عن اعتراضه إيهام للمقصرين بأنهه حق وفي هذا مفسدة عظيمة فإن كان يخشى على نفسه من بيان فساد ذلك المذهب فليدع الجواب ويحيل على غيره، فإنه لم يسأل عن شيء يجب عليه بيانه فإن ألجأته الضرورة ولم يتمكن من التصريح بالصواب فعليه أن يصرح تصريحًا لا يبقى فيه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو رأي فلان الذي سأل عنه السائل ولم يسأل عن غيره.
انتهى ما أردت تحريره بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له [63].
_________
(1) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 253 - 273)
(2) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 261 - 266).
(3) انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 261 - 266)(5/2252)
بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن(5/2253)
وصف المخطوط:
1 - موضوع الرسالة: أصول فقه.
2 - عنوان الرسالة: «بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد».
3 - المؤلف: الإمام: محمد بن علي الشوكاني.
4 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والتسليم على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين المطهرين، وصحبه الأكرمين. وبعد.
فإن جماعة من المشتغلين بالفروع في عصرنا هذا، صاروا ...
5 - آخر الرسالة: حرر من خط مؤلفه حماه وأبقاه، وفسح له في مدته، وأفاض على العباد من كثير فوائده، ونفع به آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 - عدد الأوراق: /6/ أوراق. ?
الورقة الأولى: عنوان الرسالة، واسم المؤلف، وأبيات من الشعر. ?
الورقة الثانية: (أ): (21) سطرًا. ?
الورقة الثالثة: (ب): (24) سطرًا. ?
الورقة الثالثة: (أ): (25) سطرًا. ?
الورقة الثالثة (ب): (24) سطرًا. ?
الورقة الرابعة (أ): 27) سطرًا. ?
الورقة الرابعة: (ب): (26) سطرًا. ?
الورقة الخامسة: (أ): (26) سطرًا.(5/2255)
الورقة الخامسة: (ب): (23) سطرًا. ?
الورقة السادسة (أ): (20) سطرًا. ?
الورقة السادسة (ب): (21) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 11) كلمة.
9 - تاريخ نسخ الرسالة: في شهر ربيع الآخر سنة /1344هـ/.
ملاحظة:
وجد على صفحة العنوان ما يلي:
[بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الرسالة المسمَّاة: «بغية المستفيد في الرد من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد».
من أنظار شيخنا وإمامنا البدر العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني أطال الله بقاءه وحماه وتولاه، ومن كل سوء وشر وقاه .. آمين اللهم آمين آمين آمين.- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا-.
وله (1) حماه الله:
العلم ما أوصل أربابه ... إلى انكشاف الحق رأيا لعين
وما عدا هذا فمحصوله ... ظنٌّ وكل العلم للمرء زين
فهب لي العلمين ياوا ... هب الجزل ويا كشاف غين وزين (2)] (3)
_________
(1) أي للإمام الشوكاني- رحمه الله-.
(2) انظر ديوان الشوكاني (ص 336 - 337).
(3) ما بين المعقوفتين على صفحة عنوان المخطوط.(5/2256)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والتسليم على الرسول الأمين، وعلى آله الطيبين المطهرين، وصحبه الأكرمين.
وبعد:
فإنّ جماعة من المشتغلين بالفروع في عصرنا هذا صاروا يشتغلون بأمور يزجرهم عنها نفس ما هم مشتغلون به من هذا العلم، فأردت تنبيههم على ذلك من باب المعاونة على البر والتقوى، والإرشاد إلى ما هو الأولى بهم، ليستعملوا من الأئمة، ويصفوا لهم مشرب الطلب، ويعملوا بالعلم الذي عرفوه، وقطعوا فيه أعمارهم. فثمرة العلم العمل، أرشدنا الله وإياهم إلى منهج الحق الذي يرضيه بحوله وجلاله آمين.
فالأمر الأول من تلك الأمور أنَّ أول ما يقرع أسماعهم من المختصر النفيس الذي هو مدرسهم ومحفوظهم، وهو مختصر الأزهار (1) هو قول مؤلفه (2) -رحمه الله-.
_________
(1) الأزهار: الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، تأليف: الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. وهو مختصر من كتاب «التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة» للفقيه الحسن بن محمد المذحجي، ونقل عن ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة، وقد تهافت عليه علماء الزيدية بالدراسة والشرح والحاشية والتعليق.
نقل في مطلع البدور في ترجمة السيدة دهماء (2/ 101) قصة في كيفية تأليفه هذا الكتاب ملخصها: أن المهدي ألفه في السجن لخوفه نسيان ما حفظه من الفقه، وهو العمدة في المذهب «الزيدي الهادوي» لذا قام بشرحه الجلال في كتاب (ضوء النهار) والشوكاني في كتابه «السيل الجرار».
ومن المآخذ على هذا المختصر (الأزهار) أن جماعة من المتعصبة نظروا إليه على أنه المرجع الذي لا تجوز مخالفة ما فيه.
انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 112 - 113)، «البدر الطالع» (1/ 122 - 126).
(2) هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور بن مفضل بن حجاج بن علي بن يحيى بن القاسم ينتهي نسبة إلى علي بن أبي طالب.
ولد بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 764هـ توفي سنة 840هـ له مؤلفات منها: «الأزهار» و «البحر الزخار» و «طبقات المعتزلة» و «منهاج الوصول إلى شرح معيار العقول». انظر: «البدر الطالع» (1/ 122 - 126).(5/2261)
فصل: «التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نصِّ أعلم منه» (1) اهـ وهذا قد دل دلالة أوضح من شمس النهار على أن التقليد لا يجوز لرجل قد بلغ رتبة (2)
_________
(1) انظر: شرح الأزهار لابن مفتاح (1/ 6).
(2) محل النزاع أمور ثلاثة:
أولًا: أنه المجتهد إذا فرغ من الاجتهاد في مسألة معينة، وغلب على ظنه حكم فإنه لا يجوز له أن يقلد غيره من المخالفين له في الرأي، ويترك نظر نفسه، ويعمل بنظر غيره، هذا بالاتفاق.
ثانيًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة، فإن كان عاجزًا عن الاجتهاد فإنه كالعامي يجوز له تقليد غيره، وهذا ليس مجتهدًا.
ثالثًا: إذا لم يجتهد بعد، ولم ينظر في المسألة لكنه ليس بعاجز عن الاجتهاد الجزئي، أي: هو متمكن من الاجتهاد في بعض الأمور، وعاجز عن الاجتهاد في البعض الآخر، ولا يقدر على هذا البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو -مثلًا- في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد.
فهذا من حيث حصوله على بعض العلوم واستقلاله بها يشبه المجتهد. ومن حيث أنه لم يصحل هذا العلم فيشبه العامي. فهل يلحق بالمجتهد أو بالعامي؟ فقد اختلف في ذلك على مذهبين:
أصح المذهبين: أنه يشبه العامي، لأنه كما أن المجتهد يتمكن من تحصيل العلم الذي لم يحصله، كذلك يمكن للعامي أن يحصِّل العلم مع المشقة فلا فرق هنا.
رابعًا: إذا كان هناك مجتهد صارت عند العلوم حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، دون أن يحتاج في تحصيله إلى تعب كثير لو بحث في مسألة معينة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره، فهل يجب على هذا الاجتهاد، أم يجوز له أن يقلد غيره؟ اختلفوا في ذلك على مذاهب.
المذهب الأول: ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به، لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره.
وهو مذهب الأئمة الأربعة وذهب إليه الجمهور العلماء من فقهاء وأصوليين.
المذهب الثاني: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا سواء كان أعلم منه أو مثله، وسواء كان م الصحة أو من غيره، مع ضيق الوقت أو سعته.
حكى هذا المذهب عن سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه وهو رواية عن الإمام أحمد.
المذهب الثالث: يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر أعلم منه إذا تعذر عليه الاجتهاد. ذهب إلى ذلك ابن سريج ونقله القاضي في التقريب عن محمد بن الحسن.
المذهب الرابع: يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة إذا كان قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم.
نقل هذا عن الشافعي في القديم.
المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة والواحد من التابعين دون من عداهم.
المذهب السادس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر فيما يخصه دون ما يفتي به.
المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا إذا خشي أن يفوت الوقت ولو اشتغل بالاجتهاد.
ولكل واحد من تلك المذاهب أدلة وتعليلات ولكن الراجح هو المذهب الاول وهو: أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدًا آخر مطلقًا.
انظر: «البحر المحيط» (6/ 285 - 288)، «المستصفى» (2/ 384) «جمع الجوامع» (2/ 393) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/ 204) «البرهان» للجويني (2/ 1339).(5/2262)
الاجتهاد (1) لمجتهد مثله، وأعلم منه. وقد عرفوا ما وقع في شرح هذا المختصر الذي هو
_________
(1) الاجتهاد لغة: بذل الوسع والطاقة، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد ومشقة.
يقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل النواة.
«المصباح المنير» (1/ 112)، «الكوكب المنير» (4/ 458).
الاجتهاد في الاصطلاح: «بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية» «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/ 264).
ضوابط اشتمل عليها هذا التعريف:
1 - أن الاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة، فهو بذلك أعم من القياس إذ القياس هو إلحاق الفرع بالأصل، أما الاجتهاد فإنه يشمل القياس وغيره.
2 - أن الاجتهاد لا يجوز إلا من فقيه، عالم بالأدلة وكيفية الاستنباط منها إذ النظر في الأدلة لا يتأتى إلا ممن كان أهلًا لذلك.
3 - أن الاجتهاد قد ينتج عنه القطع بالحكم أو الظن به، وذلك ما تضمنه قيد «الاستنباط».
4 - وقد تضمن قيد «لاستنباط» أيضًا بيان أن الاجتهاد إنما هو رأي المجتهد واجتهاده، وذلك محاولة منه لكشف حكم الله، ولا يسمى ذلك تشريعًا، فإن التشريع هو الكتاب والسنة، أما الاجتهاد فهو رأي الفقيه أو حكم الحاكم.
انظر: «الكوكب المنير» (4/ 458) «الفقيه والمتفقه» (1/ 178) «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 214).(5/2263)
مدرسهم، وهو شرح ابن مفتاح (1) - رحمه الله- أن علوم الاجتهاد خمسة، من عرفها على الصفة التي بينها ذلك الشارح (2)، وأوضحها أهل الحواشي عليها صار مجتهدًا،
_________
(1) هو عبد الله بن أبي القاسم بن مفتاح أبو الحسن الزيدي من موالي بني الحجّي. وهو شارح الأزهار الشرح الذي عليه اعتماد الطلبة وله مؤلفات:» شرح الأزهار المسمى بالمنتزع المختار من الغيث المدرار» وهو مختصر من الشرح الكبير للإمام المهدي المسمِّى بالغيث. توفي سنة 877هـ. وقبره يماني صنعاء.» البدر الطالع» رقم (266).
(2) ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 7 - 10): وإنما يتمكن من ذلك من جمع علومًا خمسة:
أولها: علم العربية من نحو وتصريف ولغة ليتمكن من معرفة معاني الكتاب والسنة.
ثانيهما: علم الآيات المتضمنة للأحكام الشرعية وقد قدرت خمسمائة آية. قال عليه السلام: أعني التي هي واردة في محض الأحكام وتؤخذ من ظواهرها وصرائحها.
فأما ما يستنبط من معاني سائر القرآن من الأحكام فإنها كثيرة وسيعة كما فعل الحاكم إلا أنها غير مشروطة في كمال الاجتهاد بالاتفاق، ولا يجب في الخمسمائة أن تحفظ غيبًا بل يكفي أن يكون عارفًا بمواضعها من السور بحيث يتمكن من وجدانها عند الطلب من دون ان يمضي على القرآن جميعًا.
ثالثها: أن يكون عارفًا بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يلزم الإحاطة بل يكفيه كتاب فيه أكثر ما ورد من الحديث في الأحكام.
رابعها: المسائل اليت وقع الإجماع عليها من الصحابة والتابعين وغيرهم التي تواتر إجماع مجتهدي هذه الأمة عليها.
قال عليه السلام: إلا أنها قليلة جدًا: أعني التي نقل الإجماع فيها بالتواتر، قال: وقد تصفحناها فوجدنا أكثرها مستندًا إلى آية صرية أو خبر متواتر صريح فيستغني عن كثير منها أي من الإجماعات بمعرفة ذلك المستند وهو يكون موجودًا في الآيات والأحاديث التي اعتبر معرفتها فلا يخرج عن ذلك إلا القليل فحفظها يسير غير عسير بعد هذا التنبيه الذي أوضحناه لكن ينبغي حفظ ذلك القليل أبلغ مما مرَّ حذرًا من الخطر في مخالفة الإجماع.
خامسها: علم أصول الفقه لأنه يشتمل على معرفة حكم العموم والخصوص والمجمل والمبين، وشروط النسخ، وما يصح نسخه ومالا يصح، وما يقتضيه الأمر والنهي من الوجوب وغيرها وأحكام الإجماع وشروط القياس» اهـ.(5/2264)
فكيف بمن عرفها وعرف زيادة عليها كما نعرفه من جماعة من عملاء العصر! ويعرفه من يعرف هذه العلوم - كما ينبغي! فإن الله - وله الحمد والمنة - قد أود في عصرنا هذا كثيرًا من العلماء القائمين بعلوم [1أ] الاجتهاد على الوجه المعتبر، بل عرفت فيمن أدركته من شيوخي والمعاصرين لهم من لديه من كل علم من العلوم الخمسة التي ذكرها ذلك الشارح أضعاف أضعاف ما اعتبره من كل واحدٍ منها، بل وفيهم من يعرف علومًا آخرة غير تلك العلوم، كثيرة العدد، ثم في أهل عصرنا - أبقاهم الله- من لا يقصر عن أولئك، وكل من له معرفة بهذه العلوم يقر بهذا ولا ينكره، ويعترف به ولا يجحده، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل أولو الفضل. وإذا كان الأمر هكذا فمعلوم أنه لا يجوز (1) لواحد من هؤلاء أن يقلد غيره من المجتهدين (2) كائنًا من كان، سواءً من الأموات
_________
(1) لا يجوز لمجتهد تقليد مجتهدٍ آخر، لا ليعمل ولا ليقضي ولا ليفتي به، سواء خاف الفوت لضيق الوقت أو لا».
أنظر:» مختصر ابن الحاجب والعضد عليه» (2/ 300).» الإحكام» للآمدي (4/ 204 - 222)
(2) ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى أهله إلى اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد، وفي هذين القسمين تجتمع أقسام(5/2265)
(1)
_________
(1) المجتهدين الأربعة التي ذكرها ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 214) وهي:
1 - مجتهد مطلق: وهو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوال الصحابة، يجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت.
فهذا النوع هم الذين يسوغ لهم الإفتاء والاستفتاء، وهم المجددون لهذا الدين القائمون بحجة الله في أرضه.
2 - مجتهد مقيد في مذهب من أئتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، من غير أن يكون مقلدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتِّبه وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا.
3 - مجتهد مقيد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه عالم بها، لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها، وإذا وجد نصَّ إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة.
بل نصوص إمامه عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه إمامه استنباط الأحكام ومئونة استخراجها من النصوص.
وشأن هؤلاء عجيب، إذ كيف أوصلهم اجتهادهم إلى كون إمامهم أعلم من غيره، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائر معه، وقعد بهم اجتهادهم عن النظر في كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستنباط الأحكام منه وترجيح ما يشهد له النص.
4 - مجتهد في مذهب من انتسب إليه، فحفظ فتاوى إمامه، واقَّر على نفسه بالتقليد المحض له، من جميع الوجوه، وذكر الكتاب والسنة عند يكون على وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج به والعمل بل إذا رأى حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسب إليه أخذ بقوله وترك الحديث، فليس هند هؤلاء سوى التقليد المذموم.
وينقسم الاجتهاد بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابه للمسائل أو اقتصاره على بعضها إلى مجتهد مطلق ومجتهد جزئي.
فالمجتهد المطلق: هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل.
والمجتهد الجزئي: هو الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل وإنما بلغ هذه الرتبة في مسالة معينة أو باب معين أو فن معين وهو لم يخط بما عدا ذلك.
وقد اختلف العلماء في جواز تجربة الاجتهاد، والذي عليه المحققون من أهل العلم جوازه وصحته. انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 216) و «مجموع الفتاوى» (20/ 204 - 212) «روضة الناظر» (2/ 406، 407).(5/2266)
أو الأحياء، بل الواجب على كل واحد منهم أن يجتهد في جميع عباداته ومعاملاته، بحسب ما يترجح له بعد إعطاء النظر حقه، فما بال المشتغلين بالفروع -عافاهم الله- إذا سمعوا عن واحد من هؤلاء المجتهدين أنه قال أو فعل خلاف ما في الأزهار ينكرون ذلك عليه أشد إنكار! وهم يعلمون أنه ما فعل إلا ما هو واجبٌ عليه بنص الأزهار، وما ترك إلا ما لا يجوز له بنص الأزهار، فكيف وقعوا في هذه الورطة التي هي من الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف! وما هو الذي حملهم على هذا وأوقعهم في مخالفة ما يدعون الناس إليه، مع إكبابه عليه، ومعرفتهم له، وقطع أعمارهم في درسه وتدريسه؟ فهل سمعت بأعجب من هذا أو أغرب منه!؟ وهو أول درس يدرسه التلميذ عن شيخه، وأول بحث تقع عينه عليه من هذا الكتاب، فكيف غفلوا عنه ولم يعلموا ما يقتضيه! وصاروا ينكرون على من عمل به مع كونهم يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون! وقد عرفوا في هذا الكتاب الذي هو مدرسهم أن التقليد قبول قول الغير من دون حجة، وأن المقلّد هو الذي يقبل قلو الغير ولا يطالبه بحجة، فما بالهم (1) [1ب] لم يقبلوا قول هذا الإمام الذي صرح به في أول كتابه، وخالفوه في أول بحث ذكره في كتابه هذا وما أظنه ينكر هذا فرد من أفرادهم، ولا يأباه من قد عرف أول بحث من أبحاث هذا الكتاب منهم. فما يقول علماء الفروع -كثر الله فوائدهم- هل هذا الذي تعرض للاعتراض على المجتهدين آمر بالمنكر وناه عن المعروف أم لا؟ وهل يستحق العقوبة الشرعية إذا لم يتب أم لا؟ وهل يجوز السكوت عنه. مع استمراره على هذه المعصية أم لا؟ ولا يطلب منهم إلا لجواب مقتضى ما في الأزهار.
الأمر الثاني: أنهم يتعرّضون في مسائل الخلاف، وقد عرفوا أنَّ في الأزهار التصريح
_________
(1) في الأصل مكرر.(5/2267)
بأن كل مجتهد مصيب (1) فإن قالوا هذا الإنكار منهم واقع على ما يقتضيه المذهب فهو باطل، فالمذهب هو المصرح به في الأزهار. وإن قالوا إنه لا على مقتضى المذهب فما هو الذي استندوا إليهن وعلموا أنه مع اعترافهم بانهم مقلدون، وأن غاية علمهم هو ما في هذا المختصر كما يعلمون ذلك، ويعلمه كل من يعرفهم على أنهم يعترفون بأن عهدتهم قبول قو من يقلدونه من دون أن يطالبوا بحجة؟ فما بالهم ها هنا خرجوا عن علمهم، وخالفوا ما قد التزموه! وهل يعترفون بأن وقوع هذا منهم منكر أم لا؟ فإن كانوا يعترفون فكيف يرضون لأنفسهم بفعل المنكر! وهم يعلمون أن فاعل المنكر يحب الإنكار عليه ودفعه عن ذلك ولو بالقلب (2)، وإن كاننوا لا يعترفون بذلك فما هو الذي استندوا إلى غير فما بالهم تركوا مذهبهم الذي التزموه ونشؤوا عليه! ثم يقول لهم: اخبرونا ما هو ا لذي استندتم إليه إن كان على طريق التقليد؟ فكيف جاز لكم ترك مذهبكم وتقليد غيره؟! وهل ها مما يجوز عندكم أم لا؟ وإن قالوا ليس ذلك على طريق التقليد قلنا لهم أنتم تعترفون على أنفسكم بأنكم مقلدون، ولو تنزَّلنا معكم وقلنا إن الله قد فتح عليكم بعلوم الاجتهاد فهو القادر على كل شيء، فأخبروا ما هو الذي دلكم على [2أ] الوقوع في هذا الأمر حتى نتكلم معكم بالأدلة، ونوضح لكم الأمر على حقيقته بعد اعترافكم بأنكم تركتم التقليد بعد وجود المسوغ؟
الأمرالثالث: من تلك الأمور: أنه قد تقرر أن التقليد إنما هو في المسائل الفرعية (3)
_________
(1) تقدم مرارًا.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) وأبو داود رقم (1140، 4340) والترمذي رقم (2173) والنسائي (8/ 111) وابن ماجه رقم (4013) عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:» من رآى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وهو حديث صحيح.
(3) لا خلاف بين أهل العلم في أن المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده- إذا أصاب الحق له أجران، للحديث المتقدم، لكن المسألة التي وقع فيها نزاع بين العلماء هي: هل المجتهد - الذي توفرت الشروط في اجتهاده- المخطئ للحق، المخالف للصواب، معذور أو لا؟ وهل يأثم أولا يأثم؟.
مذهب السلف من الصحابة رضي الله عنه والتابعين لهم بإحسان: أنهم لا يكفرون، ولا يفسقون، ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة فرعية ولا عملية، ولا في الأصول ولا في الفروع ولا في القطعيات ولا في الظنيات. انظر:» مجموع الفتاوى» (19/ 207، 123، 142، 213، 216) وذلك له ضوابط منمها:
1 - أن يكون مع هذا المجتهد المخطئ مقدار ما من الإيمان بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما من لم يؤمن أصلًا فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة. ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي خاص بهذه الأمة.
2 - أن يكون ذا نية صادقة في إرادة الحق والوصول إلى الصواب، أما أهل الجدل والمراء، وأصحاب الأغراض السيئة والمقاصد الخبيثة فلكل منهم ما نوى، والحكم في ذلك للظاهر والله يتولى السرائر.
3 - أن يبذل المجتهد وسعه ويستفرغ طاقته، ويتقى الله ما استطاع ثم إن أخطأ لعدم بلوغ الحجة، أو لوجود شبهة، أو لأجل تأويل سائغ، فهو معذور ما لم يفرط. أما إن فرّط في شيء من ذلك فلم تبلغه الحجة بسبب تقصيره أو بلغته لكنه أعرض عنها لشبهة يعلم فسادها، أو تأوّل الدليل تأويلًا لا يسوغ فإنه والحالة كذلك لا يعذر، وعليه من الإثم بقدر تفريطه.
انظر: «مجموع الفتاوى» (19/ 207 - 212) و (6/ 56 - 61). «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد» (1/ 246 - 249).(5/2268)
العملية، فهل هذا الذي وقعتم فيه من الاعتراض على أن اجتهادات المجتهدين مما يشرع في المذهب أم لا؟ إن قلتم لا يسوغ فما هو الحامل لكم مع كونكم من أهل التقليد على ترك ما أنتم فيه من التقليد في المسائل الفرعية، والرجوع إلى مثل هذا الإنكار الذي هو فرع كون المجتهد قد فعل باجتهاده منكرًا؟ وأنتم تعلمون، ويعلم كل من يعرف العلم أنّ هذا ليس من المسائل الفرعية العلمية، بل يعلمون أن بعض العملي لا يجوز التقليد فيه، وهو المترتب على علمي كما هو مصرّح به في الأزهار (1). فأخبرونا من هو الفاعل
_________
(1) قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 6 - 7): «ثم لما كان في العمليات مالا يجوز التقليد فيه أخرجناه بقولنا: (ولا في عملي يترتب) العمل به في الواجب والجائز (على) أمر (علمي) أي لا يكفي فيه إلا العلم. وهذا الذي يترتب على العلمي هو (كالموالاة) للمؤمن وحقيقتها أن تحسب له كل ما تحب لنفسك، وتكره له كل ما تكره لنفسك ومن ذلك تعظيمه واحترام عرضه وذلك وإن كان عملًا فلا يجوز فيه التقليد ولا العمل بالظن لأن ذلك لا يجوز إلا لمن علم يقينًا أنه من المؤمنين، والأصل فيمن ظاهره الإسلام والإيمان ما لم يعلم بيقين أنه قد خرج عنه. (والمعاداة) وهي نقيض المولاة أيضًا لا يجوز التقليد فيها ولا يكفي في العمل بها إلا العلم لأنها ترتب على الكفر أو الفسق وهما مما لا يجوز التقليد فيه فكذا ما يترتب عليهما» اهـ.(5/2269)
للمنكر الذي لا خلاف فيه، هل المجتهد الذي أنكرتم عليه اجتهاده مع كونه لم يخالف الأزهار، أم الفاعل المنكر هو أنتم مع كونكم مخالفين لما في الأزهار بلا شك ولا شبهة؟ ثم أخبرونا هل إنكاركم هذا هو من فعل المنكر، وانتم مرتكبون للمنكر، وأنه يجب الإنكار عليكم من كل قادر أم لا؟ إن قلتم: نعم نعم فما هو الذي حملكم على الدخول في هذا المنكر العظيم، والمحرم الوخيم؟ وإن قلتم: لا فأخبرونا بما تمسكتم؟ وما هو الذي تستندون إليه مع مخالفته لمذهبكم؟ إن قلتم: قلتم اجتهدتم في تخطئه المجتهدين فأوضحوا لنا ما هو الذي أوجب عليكم الانتقال من التقليد إلى الاجتهاد؟ فإن الأدلة قاضية بان اجتهاد المجتهد متردد بين الخطأ والصواب (1)، وله مع الإصابة أجران كما ثبت في الحديث (2) الذي تلقته الأئمة بالقبول، ولم يختلفوا في صحته، بل له عشرة أجور (3) كما ثبت في أحاديث تنتهض [2ب] بمجموعها. وله مع الخطأ أجرٌ كما أفاده ذلك الحديث الصحيح.
فلو فرضنا أن المجتهد قد أخطأ في اجتهاده (4)، وأنكم تعرفون الخطأ في الاجتهاد، فكيف
_________
(1) تقدم التعليق عليه.
(2) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة.
(3) تقدم تخريجه في ارسالة السابقة
(4) قد بوّب ابن عبد البر لذلك فقال: «باب ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب ... » وبعد أن ذكر آثارا في ذلك قال- رحمه الله-» في جامع بيان العلم وفضله» (2/ 913): هذا كثير في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين ومن بعدهم من المخالفين وما ردّ فيه بعضهم على بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب فضلًا أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا مه دليل على ما عنه سكتنا. وفي رجوع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدي به، فلا علينا شيء من اختلافنا. (قال أبو عمر): والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضًا في اجتهادهم وقضاياهم وفتواهم والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صوابًا كله.
ولقد أحسن القائل:
إثبات ضدين معًا في حالٍ ... أقبح ما يأتي من المحال
«جامع بيان العلم وفضله»(5/2270)
يجوز لكم أن تخالفوا حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فإنه أثبت له أجرًا، وأنتم جعلتم ذلك منكرًا، ومزقتم عرضه، ووقعتم في إنكار المعروف الذي جاءنا به الشرع الصحيح، بل وأجمع عليه المسلمون أجمعون. ولا يخفاكم ما هو الحكم المقرر في الفروع في من خالف الإجماع، وخالف المقطوع به من الشرع، فما بالكم وقعتم في هذا البلاء العظيم، والخطب الجسيم! ومالكم ولهذا! وما حملكم عليه وأنتم في سعة وفي راحة عنه! فإنكم أولًا خالفتم مذهبكم مخالفة أوضح من شمس النهار، ثم خالفتم ما حكم به الشارع- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ثم خالفتم الإجماع، ووقعتم في إثم الغيبة، بل البهت الصراح، والكذب البواح، فاجرعوا عن هذه الغربة، وتوبوا إلى ربكم من هذه الجناية، وواجب على أهل العقول منكم أن يردوا أهل التلبيس إلى ما يحمل بأهل العلم، ويليق بمنصبه، وإلا كنتم كما قال القائل:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه مالا يرى
وكما قال آخر:(5/2271)
ومن رام ما يعجز عنه طوقه ... تقاصرت عنه فسيحات الخطى
الأمر الرابع تلك الأمور: أنكم تعلمون أن في الأزهار أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه، فما بالكم أنكرتم على من اجتهد رأيه وعمل بما هو الصواب لديه ممن اجتهاداته في المسائل (1) الخلافية!.
_________
(1) قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (14/ 159): «والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفض إلبى شرع عظيم م خفاء الحكم، ولهذا صنّف رجل كتابًا سماه كتاب الاختلاف فقال أحمد: سمه كتاب السعة وأن الحق في نفس الأمر الواحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: {لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}» [المائدة: 101].
ومن الأحكام المترتبة على المسائل الاجتهادية:
1 - أنه لا يجوز الإنكار على المخالف، فضلًأ عن تفسيقه أو تأثيمه أو تكفيره.
2 - أن سبيل الإنكار إنما يكون ببيان الحجة وإيضاح المحجة.
3 - أن المجتهد ليس له إلزام الناس باتباع قوله.
4 - أن غير المجتهد يجوز له اتباع أحد القولين إذا تبينت له صحته، ثم يجوز له تركه إلى القول الآخر اتباعًا للدليل.
5 - لا يصح للمجتهد أن يقطع بصواب قوله وخطأ من خالفه فيما إذا كانت المسألة محتملة.
6 - أن الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج المختلفين من دائرة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
7 - أن المجتهد يجب عليه اتباع ما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز له ترك ذلك إلا إذا تبين له خطأ ما ذهب إليه أولًا، فيصح أن يرد عن المجتهد قولهان متناقضان في وقتين مختلفين لا في وقت واحد.
8 - أن المجتهد في مسائل الاجتهاد بين الأجر والأجرين، وذلك إذا اتقى الله في اجتهاده.
9 - أن المسائل الاجتهادية ظنية في الغالب، بمعنى أنه لا يقطع فيها بصحة هذا القول أو خطئة، لكن قد توجد مسائل يسوغ فيها الاجتهاد وهي قطعية يقنية، يجزم فيها بالصواب، وذلك أن المجتهد قد يخالف الصواب دون تعمد إما لتعارض الأدلة أو خفائها، فلا طعن على من خالف في مثل ذلك.
10 - إذا علم أن للمسائل الاجتهادية احكامًا تخصها، لزم التفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية. إذ يجب الإنكار على المخالف في المسائل الخلافية غير الاجتهادية، كمن خالف في قول يخالف سنة ثابتة أو إجماعًا شائعًا.
وكذلك يجب الإنكار على العمل المخالف للسنة أو الإجماع بحسب درجات إنكار المنكر.
انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 207) (30/ 79، 80) (35/ 232، 233)، «إعلام الموقعين» (1/ 49) (3/ 288)، «شرح الكوكب المنير» (4/ 492).(5/2272)
وأمَّا المسائل الإجماعية فقد رفع الإجماع كل اجتهاد يخالفه ولا يقع في مخالفته الإجماع الصحيح الثابت أحدٌ من مجتهدي هذه الأمة، كما ذلك معلوم لكل عارف، فأخبرونا هل صدور هذا الإنكار منكم على المجتهد في مسائل الخلاف موافق لما في الأزهار؟ فأخبرونا ما هو الذي حملكم على القيام مقام من يأمر بالمنكر، وينكر المعروف، مع اعتقاده أن قيامه ذلك خلاف الحق الذي يعتمده، ومباين للصواب الذي لا صواب عنده سواه؟ ولا شك ولا ريب أنّ من قام مقام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وهو يعلم بطلان قوله وفساد ما فعله فهو من أعظم الفاعلين للمنكر، لأنه مبطل [3!]، مع أن ذلك من الغيبة المحرَّمة، والبهت الشديد.
فإن قالوا: إنهم أنكروا اجتهاد ذلك المجتهد لا باعتبار المذهب، بل باعتبار أمر آخر قلنا لهم: كيف تركتم المذهب! وليس بأيديكم سواه، ولا تعرفون غيره، فإن كانت هذه المخالفة ساغئة لكم فكيف أنكرتم على ذلك المجتهد مخالفته للمذهب باجتهاده، وسوغتم بأنفسكم مخالفة المذهب مع كونكم مقلدين ملتزمين لما في ذلك المختصر! فهل يصنع مثل صنيعكم هذا عاقل فضلاً عن عالم؟ فإنكم أنكرتم ما هو جائز، بل واجب بنص الأزهار حسب ما قدمنا من قوله: التقليد جائز لغير المجتهد (1) لا له. ولو وقف على نصِّ أعلم منه، ومن قوله: وكل مجتهد مصيب، وسوغتم ما هو حرام عندكم، وهو انتقال المقلد من مذهبه مع كونه مقلدًا (2)، وأنتم تعلمون أن في الأزهار وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلى ترجيح نفسه (3)، وأنتم تعرفون أنكم مقلدون لا ترجيح لكم،
_________
(1) تقديم في بداية الرسالة.
(2) قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 19): (وبعد الالتزام) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه (يحرم الانتقال) عن ذلك المذهب في عين ذلك الحكم أو الأحكام المعينة قال ابن الحاجب بالاتفاق. فأما في الصورة الثالثة وهي التقليد في جملة المذهب كمن التزم مذهب (الشافعي) مثلًا هل له أن يرجع حنفيًا فيه خلاف، والصحيح التحريم (إلا إلى ترجيح نفسه) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه اهـ.
فائدة مهمة للرد على ما تقدم:
قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 238): «والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلابد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به».
وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 121 - 122).
(3) قال ابن مفتاح في «شرح الأزهار» (1/ 19): (وبعد الالتزام) لقول إمام معين في حكم واحد أو في أحكام أو في جملة المذهب فإنه (يحرم الانتقال) عن ذلك المذهب في عين ذلك الحكم أو الأحكام المعينة قال ابن الحاجب بالاتفاق. فأما في الصورة الثالثة وهي التقليد في جملة المذهب كمن التزم مذهب (الشافعي) مثلًا هل له أن يرجع حنفيًا فيه خلاف، والصحيح التحريم (إلا إلى ترجيح نفسه) أي بعد الالتزام يحرم الانتقال عما التزمه إلا إلى ترجيح نفسه اهـ.
فائدة مهمة للرد على ما تقدم:
قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» (4/ 238): «والصواب أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلابد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح، فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به».
وانظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص 121 - 122).(5/2273)
وأنكم لا تطالبون بحجة فضلًا عن أن تعقلوا الحجج، وتعرفوا الموازنة بينها عند تعارضها. فارجعوا -يرحمكم الله- إلى الصوا فقد وضح الصبح لذي عينين. وإن قلتم لا نرجع بل نستمر على ما نحن فيه من الباطل فحسبكم ما تستلزمه هذه المقالة الشنعاء من غضب الله شعرًا:
لا تنته الأنفس عن غيِّها ... ما لم يكن منها لها زاجر
فإن قلتم: تركنا الأزهار المشتمل على تصويب المجتهدين، وعدم جواز التقليد منهم لغيرهم بما هو راجحٌ منه. قلنا لهم: ومتى كنتم من أهل الطبقة الشريفة، والمنقبة المنيفة! فإنّ هذا إنما هو مقام المجتهدين الذين قمتم على الإنكار عليهم بسبب مخالفة المذهب شعرًا:
يقولون أقوالاً ولا يعرفونها ... ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
وكان عليكم أن تكفوا شركم عن المجتهدين، وتسوغِّوا لهم ما سوغتم لأنفسكم من المخالفة. فالاجتهاد كما فعلتم بمجرد التقليد، ولا أظن أن تدعوا ذلك قط، فإنكم تعرفون أنفسكم ومقدار ما لكم من العلم، ولا يدعون الخروج عن التقليد قيد شبر، ولا
_________
وزن خردلة. وكما قال الشاعر (1):
وما أنا إلا من غزية إلا غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكان [3ب] الأليق لكم، والأجمل لحالكم أن تسألوا المتورعين من علماء الفروع، وتستفتوهم: هل هذا الإنكار على المجتهدين مما يسوغه أهل الفروع الذي أنتم بصدد الاشتغال به درسًا وتدريسًا، وإفتاءً وقضاءً، فإنهم لا محالة ينكرون عليكم، ويعرفونكم بأنكم على جهل عظيم، وإثم وبيل، وحرام دخيل، وهتك يقول:
هذا الليل صبح ... أيعمى المبصرون عن الضياء
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
الأمر الخامس: من تلك الأمور قد عرفتم أن الاجتهاد معتبرٌ في القاضي، وأنه لا يصلح للقضاء (2) إلا من كان مجتهدًا كما صرح في الأزهار في باب القضاء حيث قال: والاجتهاد «في الأصح» فما بالكم تنكرون على القاضي الذي يقضي بالاجتهاد، وهو من اهل الاجتهاد! مع أنكم تعترفون بأنه القاضي على شرط المذهب، وأن من ليس بمجتهد ليس يقاضي على شرط المذهب، ومع أنك لا تنكرون أنه لو قضى المجتهد بغير اجتهاده، ورجع إلى التقليد الذي أنتم عليه لكان فاعلًا لغير ما هو جائزٌ عندكم، فكيف طلبتم منه أن يخالف ما تذهبون إليه وتقررونه وتدرسونه (3)! فأخبروني ما بالكم تخالفون المذهب في إنكاركم على من هو على شرطه، وأن من هو دونه لا يصلح للقضاء إن قلتم أن عليه سائغًا لكم في المذهب! فالمذهب يرد عليكم في مواضع متعددةٍ قد قدمنا ذكرها.
(1) هو دريد بن الصمة عزاه إليه صاحب «اللسان» (10/ 68). وقال غزية: قبيلة من قبائل العرب.
(2) تقدم التعليق على ذلك في الرسالة السابقة. وانظر: «إرشاد السائل إلى دليل المسائل» للإمام الشوكاني (ص 23 - 33).
(3) مكررة في المخطوط.(5/2274)
ومنها هذا الموضع المذكور في القضاء، وإن قلتم إنكم أنكرتم عليه لشيء آخر فما هو؟ فإنكم مقلدون. وإن أبيتم وصممتم على الباطل، ولم ترجعوا إلى الحق وقلتم هذا عندم غير جائز مجازفة وجرأة ومخالفة، فالأمر كما قال الشاعر:
يقولون هذا عندنا غير جائز ... من أنتم حتى يكون لكم عنده
وقد صان الله - سبحانه- الراسخين في علم الفروع عن الوقوع في هذه المنكرات، فهم أتقى لله من أن يجري منهم مثل هذا، ولكن عليهم أن يفكوا عن تكدر هذا المورد العذب من الجهلة والتهور والعصبية على خلاف ما يفيده المذهب، ولا يقتضيه الدليل.
الأمر السادس [4أ] من تلك الأمور أن في الأزهار، وبعد الالتزام بحرمة الانتقال وأنتم ملتزمون لما في الأزهار عاملون به، ثم تهافت كثير منكم على تولي القضاء وهو يعلم أنه مقلَّد، وأنه لابد أن يكون القاضي مجتهدًا على مقتضى المذهب، فما بالهم وقعوا في مخالفة المذهب، وباشروا ما يباشر القضاة من قطع الأقوال بين أهل الخصومات، وسسفك الدماء، وتحليل الفروج! فإن كان الأزهار حقًا فقضاءهم باطل قد عصوا الله بالدخول فيه، ثم عقبوهن بالمباشرة لما يباشره القضاة، وصار ذلك في أعناقهم، يسألهم الله عنه ويعاقبهم عليه، ولم يقعوا في ذلك إلا لتأثير الدنيا، والتهافت على حطامها، ومن ترك مذهبه لمحبة الدنيا فكيف ينكر من هو صحيح القضاء على الكتاب والسنة، وعلى المذهب! وهل هذا الأمر قلب للأمورن ودفع للحقائق، ومن علامات القيامة.
يا ناعي الإسلام قم فانعه ... قد زال عرف وبدا منكر
ومعلوم لكل عارف أن أهل البيت إنما اشترطوا أن يكون القاضي مجتهدًا، لأن المجتهد هو الذي يعرف الحق ويعرف الباطل بالدليل من الكتاب والسنة، فهو الذي يقضي بالحق، وهو يعلم به، وهو القاضي الذي في الجنة، كما في حديث: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فالقاضي الذي في الجنة هو الذي قضى بالحق، وهو يعلم، والقاضيان الذين هما في النار هو القاضي الذي قضى بالباطل، والقاضي الذي يقضي بالحق وهو لا يعلم أنه الحق» (1).
فالمقلد - أصلحه الله- هو الذي لا يعرف الأقوال العامة من دون أن يطالبه بحجة ت دل على قوله، فهو لا يدري هل هو حق أو باطل، فإن قضى بقول إمامه فعلى فرض أنه حق في نفس الأمر فالمقلد لا يدري أنه حق، فقد قضى [4ب] بالحق ولا يدري أنه حق، فهو أحد قاضيي النار. وعلى فرض أن ذلك القول غير حق فقد قضى بالباطل وهو القاضي الآخر من قضاة النار.
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق
أمَّا القاضي المجتهد فهو متردد بين أمرين حسنين، وتجارة رابحة، وفوز معلوم لما صح عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (2) وقد عرفنا فيما سبق أنها وردت أحاديث من طرق فتنتهض بمجموعها أن للمصيب في حكمة عشرة (3). أجور. فيالها من غنيمة باردة، وخير كثير، وأجر جليل! والعجب كل العجب أن ينكر قاضي النار على قاضي الجنة، ويطلب منه أن يرجع من الاجتهاد إلى التقليد فيكون مثله من قضاة النار -نسأل الله الستر والسلامة-.
وإذا تقرر لك ما ذكرناه من كون السبب لاشتراط أهل المذهب الاجتهاد في القاضي هو أن المقلد في قضائه على كلا حالتيه، وفي جميع وصفيّة من قضاة النار بحكم النبي المختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وأيضًا القرآنية مشتملة على الأخذ على القضاة بأن يقضوا بالحق (4)،
_________
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2) تقدم شرحه.
(3) تقدم تخريجه مراراً
(4) قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد. بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26](5/2276)
وبالعدل (1)، وبما أمر الله، وبما أنزل الله (2)، والمقلد لا يعرف إلا أقوال إمامه، ولا يدري هل هو حق [5أ] أو باطل، أو من العدل أو الجور، أو مما أمر الله به، أو مما نهى عنه، أو مما أنزل على عباده أو مما لم ينزل، وهو معلوم لا ينكره من يفهم الخطاب من المقلدين.
والحاصل: إنَّ مقصودنا في هذه الرسالة هو الإرشاد لأهل المذهب بالمذهب، والاقتصار على ما في المختصر الذي هو الآن المعتمد عليه، وهو الازهار. وقد أوضحنا ذلك أبلغ إيضاح بحيث يستوي في فهمه كل من له عقل. والمقصد بذلك كما يعلم ا لله هو إرشاد من يبلغنا عنه أنه مشتغل بما ذكرناه. والله الهادي إلى الصواب، وبيده الخير كله، ولا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
حرر من خط مؤلفه -حرسه الله، وأبقاه، وفسح له في مدته، وأفاض على العباد من كثير فوائده، ونفع به -آمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم كما نقله صبح الثلاثاء لعله 26 شهر ربيع آخر سنة 1244 بقلم الحقير -غفر له- الملك القدير، ووالديه والمسلمين آمين، وجزاه عن مؤلفَّه خيرًا بحق محمد وآله.
_________
(1) قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58].
(2) قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرًا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 49 - 50].(5/2278)
بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2279)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في نقص الحكم إذا لم يوافق الحق).
2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: (وبعد حمد الله حق حمده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنها لما وقعت المذاكرة من جماعة من الحكام الأعلام ..
4 - آخر الرسالة: فأهل المذهب الشريف لا يجعلون حكمه حكمًا، ولا يمنعون من نقضه إذا خالف الحق، ونصوصهم على هذه مدونة في كتبهم المباركة، وفي هذا المقدار كفاية في مسألة السؤال. انتهى.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: (7) صفحة.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: (20 - 21) سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: (9 - 10) كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الثانيب من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2281)
[بسم الله الرحمن الرحيم]
وبعد حمد الله حق حمده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. فإنها لما وقعت المذاكرة من جماعة من الحكام الأعلام، في كلام أهل المذهب الشريف أنه: لا ينقض حكم الحاكم إلا بدليل علمي. فقلت:
إن المراد بهذا الحكم (1) الذي لا يحل نقضه إلا ................................
_________
(1) الحكم في اللغة: القضاء والفصل لمنع العدوان ومنه قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].
وقوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} [ص: 26].
ويطلق الحكم ويراد به العلم والفقه ومنه قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيًا} [مريم: 12].
قال ابن الأثير في «النهاية» (1/ 419): «الحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل».
وقال صاحب «المصباح المنير» (ص56): الحكم: القضاء وأصله المنع يقال حككمت عليه بكذا إذا منعه من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك.
ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.
ومعنى ذلك في الحكم الشرعي: أنه إذا قيل: «حكم الله في المسألة الوجوب» فإن المراد من ذلك أنه سبحانه قضى فيها بالوجوب ومنع المكلف من مخالفته.
- الحكم في اصطلاح الأصوليين: الحكم الشرعي: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير أو الوضع.
أنواع الحكم الشرعي:
1 - الحكم التكليفي: وهو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير. -
وله خمسة أقسام: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، ومحظور.
2 - الحكم الوضعي: هو خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببًا لشيء آخر، أوشرطًا له، أو مانعًا منه، أو كون الفعل صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، أو أداء، أو إعادة، أو قضاءً.
وله أقسام عشرة: السبب، والشرط، والمانع، والصحة، والبطلان، والعزيمة، والرخصة، والاداء، والقضاء والإعادة.
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي:
1 - الحكم الوضعي الخطاب فيه هو: خطاب إخبار وإعلام جعله الشارع علامة على حكمه، وربط فيه بين أمرين بحيث يكون أحدهما سببًا للآخر أو شرطًا أو مانعًا منه.
أما الحكم التكليفي فالخطاب فيه خطاب طلب الفعل، أو طلب الترك: أو التخيير بينهما، فخطاب التكليف هو طلب أداء ما تقرر بالأسباب والشرط والموانع.
2 - الحكم التكليفي يشترط له أن يستطيع المكلف فعله أي: يقدر على فعله، أما الحكم الوضعي فلا يشترط فيه قدرة المكلف عليه: فقد يكون مقدورًا للمكلف، وقد يكون غير مقدور للمكلف.
مثال: ما لا يقدر المكلف عليه: دلوك الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة.
مثال: ما يقدر المكلف عليه: السرقة التي هي سبب في قطع اليد.
1 - أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف وهو من توفرت فيه شروط المكلف وهو كونه عاقلًا يفهم الخطاب.
أما الحكم الوضعي فإنه يتعلق بفعل المكلف وغير المكلف كالصبي والمجنون والنائم والناسي.
1 - أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بالكسب والمباشرة للفعل من الشخص نفسه بمعنى: أن المكلف فيه إذا عمل عملًا موافقًا لأمر فإنه يؤجر عليه، وإذا عمل عملًا مخالفًا لذلك فإنه يعاقب عليه.
أما الحكم الوضعي فلا ينطبق عليه ذلك فقد يعاقب أناسًا بفعل غيرهم ولهذا وجبت الدية على العاقلة.
2 - أن الحكم التكليفي يشترط فيه: أن يكون معلومًا للمكلف، وأن يعلم أن التكليف به صادر من الله عز وجل.
أما الحكم الوضعي فلا يشرط فيه علم المكلف فلذلك يرث الإنسان بدون علمه، وتحل بعقد وليها عليها.
3 - أن خطاب التكليف هو الأصل، وخطاب الوضع على خلافه فالأصل أن يقول الشارع: «أوجبت عغليكم أو حرمت» وأما جعله الزنا والسرقة علماًا على الرجم والطقع فبخلاف الأصل ولذلك يقدم الحكم التكليفي على الحكم الوضعي عند التعارض، لأنه الأصل.
ومن العلماء من يقدم الوضعي، لانه لا يتوقف على فهم وتمكن.
انظر «البحر المحيط» (1/ 128 - 130)، «الكوكب المنير» (1/ 333 - 336).(5/2285)
بدليل علمي (1) هو ما كان حكمًا ناجزًا مستندًا إلى العلم، لا ما كان حكمًا مشروطًا، أو مستندًا إلى الظنِّ؛ فإنه يجوز نقضه بحجة أقوى منه.
فطلب بعض الحكام - أبقاهم الله - النقل عن أهل المذهب الشريف في ذلك. فأقول: قال الإمام المهدي - عليه السلام- في (البحر الزخار) (2) ما لفظه:
«فصل: ولا ينقض حكم إلا أن يخالف قاطعًا؛ إذ لا يبطل العلم بالظن» انتهى فهذا التعليل يدل على أن الحكم مستنده أمرٌ يفيد العلم؛ إذ لا يكون الحكم معلوماً،
_________
(1) إذا كان الحكم معتمدًا على دليل قطعي من نص أو إجماع أو قياس جلي فلا ينقض، لأن نقضه إهمال للدليل القطعي، وهو غير جائز أصلًا.
وإما إذا خالف الحكم دليلًا قطعيًا، فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل القاضي نفسه، أو من قاض آخر، لمخالفته الدليل.
فإن كان الحكم في غير الأمور القطعية، وإنما في مجال الاجتهادات أو الأدلة الظنية فلا ينقض. حتى لا تضطرب الأحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاء وتبقى الخصومات وتبقى الخصومات على حالها بدون فصل زمانًا طويلًا.
قال ابن قدامة في «المغنى» (14/ 34 مسألة رقم 1868): وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه أن بان له خطأ نفسه، نظرت؛ فإن كان الخطأ لمخالفة نصِّ كتاب أو سنةٍ أو إجماع نقض حكمه، وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف قياسًا جليًا نقضه.
وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى - كتااب القضاء المشهور - وقد بين فيه عمر آداب القضاء، وصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس:» .. ولا يمنعك قضاءً قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديمٌ ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل .. ».
أخرجه الدار قطني في «السنن» (4/ 206، 207 رقم 15) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 115).
(2) (5/ 135 - 136)(5/2287)
ومستنده مظنونًا، لأن الظنِّ لا يحصل عنه الإ الظنُّ، ولا يخفى على عارف أنه لا يستفاد من شهادة العدلين، إلا مجرد الظن، وكذلك لا يستفاد من يمين المدِّعّى عليه ونكوله إلا مجرَّد الظنِّ.
فالحكم المستند إلى هذه الأمور ليس بمعلوم، حتى يقال فيه إنه لا يبطل العلم بالظنِّ. وإذ لم يكن معلومًا، بل مظنونًا جاز نقضه [1أ] بما يفيد العلم، بل وبما يفيد ظنًّا أقوى من الظنِّ الذي استند الحكم إليه فهذا حاصل ما يستفاد من كلام (البحر).
ومن زعم أن الحكم المستند إلى الأشياء المظنونة يكون معلومًا، فقد أخطأ؛ لأن الأشياء المستفادة حكمها حكم أسبابها، ولا يمكن أن تكون المسببات معلومة، وأسبابها مظنونة (1). ومما يؤيد هذا أنه قد تقرر لأهل المذهب الشريف أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة الشهود، وإن لم يظن صدقهم، بل يكفي مجرد ألا يظن الكذب، فهذا الحاكم الذي حكم مع عدم حصول ظنِّ الصدق لا يقول عاقل أن يكون حكمه معلومًا، بل لا يقول إنه يكون حكمه مظنونًا ظنًا صحيحًا، ولكنه لما وجد المستند الشرعي وهو الشهادة جاز له الحكم مع أنه لو قال له قائل:
هل صار هذا الحكم الذي صدر عنك بمجرد شهادة لم تظن صدقها مظنونًا لديك؟ لقال: لا؛ لعدم حصول الظن بصدق السبب، فإذا قيل له: فكيف حكمت حكمًا لا تظن صحته؟ قال: وجد السبب الشرعي، وهو الشهادة، ولم يوجد المانع، وهو ظن الكذب ففعلت ما يجوز لي [1ب].
ومثل كلام (البحر الزخار) كلام (شرح الأثمار) (2)؛ فإنه قال فيه (في شرح قول صاحب .................
_________
(1) انظر: «المغني» (14/ 34)، «تبصرة الحكام» (1/ 82 - 85).
(2) وله شروح منها: شرح محمد بن يحيى بهران، ويحيى المقرابي.(5/2288)
الأثمار (1):
فصل: (ولا ينقض حكم إلا بنحو مخالفته لقاطعٍ) ما لفظُه: «أي لا يجوز نقض حكم حاكم لا للذي حكم به، ولا لحاكم (2) غيره، إلا إذا كان مخالفًا لدليل قاطعٍ من قرآن صرحي لا يحتمل التأويل، أو خبر نبوي متواتر صحيح، إن إجماع قطعي، فهذا يجب نقضه على الحاكم الذي حكم به، ويجوز ذلك لغيره، وقد يجب أيضًا. وما لم يكن كذلك لم يجز نقضه، إذا القطعي لا ينقض بالظن» انتهى.
فانظر كيف جعل العلة المانعة من النقض هي كون الحكم قطعيًا، وقطعيته إنما يكون باعتبار قطعية سببه! إذ لا يكون الشيء قطعيًا، وسببه ظنيًا وهذا معلومٌ بالعقل.
وقال في «الغيث» (3) ما لفظه:
«تنبيه» أما إذا عرضت دعوى في شيء قد حكم به حاكمٌ، فأما أن يكون ذلك الحكم مضافًا إلى سببٍ أو لا. إن كان غير مضافٍ بل حكم لزيدٍ بالملك المطلق، ثم
_________
(1) وهو الإمام يحيى شرف الدين بن شمس الدين الحسني اليمني ولد بحصن حضور الشيخ من أعمال كوكبان شبام. سنة 877هـ، توفي سنة 965هـ دفن بحصن الضفير.
من مؤلفاته: «الأحكام في أصول المذهب»، «شرح خطبة الآثار»، «الأثمار في فقه الأئمة الأطهار» (مختصر «الأزهار») للإمام المهدي وهو أشهر كتب فقه الزيدية باليمن.
انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 44)، «أعلام المؤلفين الزيدية» (ص1134).
(2) قال في «شرح فتح القدير» (7/ 282): وإذا رفع القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولًا لا دليل عليه.
(3) الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار». تأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضي الحسني.
وهو شرح على كتاب المؤلف «الأزهار في فقه الأئمة الأطهار» في أربع مجلدات قيل بدأ به المؤف في السجن سنة 796هـ وقد تحدث فيه عن كل مسألة وردت في الأصل مع ذكر الأدلة والأقوال.
انظر: «أعلام المؤلفين الزيدية» (ص 206). «مؤلفات الزيدية» (2/ 297).(5/2289)
أدعى آخر أنه شراءه من مالكه، أو نحو ذلك، فها هنا لا ينقض الحكم، ولو قامت البينة بذلك. ذكره المؤيد بالله في (الزيادات)، لأن الحكم يقابل تلك البينة، إلا أن يدعي الانتقال بعد حكم الحاكم من المحكوم له [2أ]، وأما إن أضاف حكمه إلى سبب نحو أن يحكم لزيدٍ بملك هذه الدار بحق الشراء من عمرو، ثم قامت شهادة بخلاف ذلك نظر في البينتين، فإن كانت لا حكم معها متقدمة على بينة الحكم نقض، ومثاله أن يشهد الشهود أن بائعها زيد أقر بها لآخر قبل بيعه، أو وهبها أو نحو ذلك، فإن كانت بينة الحكم لا تبطل نحو أن يدَّعى أحدهم شراءها من مالكها، وهو زيد، وحكم له، والآخر من مالكها وهو عمرو، ولا تاريخ لأيهما، فإن الحكم لا ينقض، لأن مع كل واحد منهما بينة؛ لكن رجحنا البينة التي معها الحكم. وكذا إذا كانت المسألة خلافية كبينة الداخل والخارج، فإن الحكم لا ينقض ... ». انتهى كلام الغيث للإمام (1) -عليه السلام-.
وقد استفدنا منه أن الحكم الذي لا يجوز نقضه إنما هو المطلق، لأنه ناجزٌ غير مضاف إلى سبب يقتضي أن يكون الحكم مشروطًا بصحة كون ذلك السبب سببًا. وأما إذا كان مضافًا إلى سبب فإنه يجوز نقضه بما يوجب بطلان سببية ذلك السبب من الأصل كما تقدم في شهادة إقرار البائع بخروج المبيع من ملكه قبل صدور البيع منه إلى المشتري الذي أقام البينة على الشراء.
وهكذا يجوز نقض الحكم المضاف [2ب] إلى سبب بمستندٍ أرجح من سند الحكم كما يفيد كلام (الغيث) (2) المذكور.
ومثل الصورة التي مثل بها صاحب الغيث في الشهادة المتقدمة الصورة التي عرضت المذاكرة فيها، وهي استناد الحكم إلى شهادة الإقرار بأن الدين على فلان لفلان، ثم قيام
_________
(1) الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني تقدمت ترجمته.
(2) تقدم ذكره.(5/2290)
شهادة أخرى محققه أن ذلك الإقرار صدر عن تواطؤ بين المقر والمقر له أن الإقرار ليس على حقيقته، بل المال للمقر، وإنما كان الإقرار لغرض. فإن الشهادة على التواطؤ تقضي ببطلان السبب الذي استند إليه الحكم، وهو الإقرار. ولكن هذا إذا صحت الشهادة على التواطؤ، وسلمت عن القادح.
ومن النصوص المقتضية لما ذكرناه في (شرح الأزهار) (1) ولفظه: «وكذا لو قامت بينة أخرى تنقض بينة الحكم فإنه يحكم بها.
نحو أن تقوم بينة بأن هذه الدار لزيد، اشتراها من عمرو، ثم تقوم بينة أن عمرو أقر بها للمبين الآخر قبل ذلك الشراء؛ فإن هذه البينة الأخيرة تقنض الحكم الأول» انتهى.
وقد ذكر صاحب (البيان) (2) كلامًا مفصلًا مفيدًا ولفظه:
«مسألة: الحكم على وجوه ثلاثة:
الأول: ينفذ فيه ظاهرًا لا باطنًا (3) وفاقًا، وهو في صور أربع [3أ].
_________
(1) تقدم ذكره.
(2) انظر: «مؤلفات الزيدية» (1/ 222 - 223)
(3) قال جمهور العلماء: قضاء القاضي ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله يتولى السرائر فلا يحل هذا الحكم حرامًا ولا يحرم حلالاً، فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنًا، سواء في المال وغيره لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته، من بعض، فأقضى له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له م حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار».
أخرجه البخاري رقم (2458) و (7181) ومسلم رقم (5، 6/ 1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا، لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث فهو في قضية لا بينة فيها. وعلى هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي بالنكاح بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حل للرجل وطؤها، وحل لها التمكين عند أبي حنيفة خلافًا للجمهور. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكرًا، ويقاس عليه البيع ونحو.
والخلاصة: إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهرًا حيث كان المحل قابلاً لذلك كالعقود والفسوخ، والقاضي غير عالم بزور الشهود، وهذا القول وإن كان هو الأوجه في مذهب أبي حنيفة، إلا أن المفتي به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الأئمة وهو أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرًا فقط لا باطنًا أي ليس الحلال عند الله هو ما قضى به القاضي، بل ما وافق الحق. انظر: «البدائع» (7/ 15) «المغني» (14/ 34).(5/2291)
الأولى: فيما يحكم به تقريرًا ليد المدعى عليه، حيث حلف عليه، فإذا قامت الشهادة بعد الحكم قبلت.
الثانية: في القصاص إذا حكم بوجوبه، وهو ساقط.
الثالثة: ما كان فيه سببًا للتحريم كالحكم بزوجية امرأة لرجل وهي رضيعةٌ له في الباطن، أو كافرةٌ، ونحو ذلك.
الرابعة: فيمن حكم له بشيء مطلقًا، وهو في الباطن لغيره .. »
والذي يتعلق بمحل السؤال هو ما ذكرناه؛ فإنه صرح في الصورة الأولى أن البينة مقبولة مع أن الحاكم قد حكم بمستند شرعي، وهي يمين المدعي عليه (1).
وكذلك في الصورة الثانية (2)، فإن ظاهره أنه إذا حكم الحاكم بالقصاص بأي مستند كان، ثم ظهر مستندٌ آخر يقتضي سقوط القصاص، أنه يجب الانتقال عن الحكم، ويتوجَّه نقضه؛ لأن شهادة ا لسقوط قد رفعت السبب، الذي كان مستندًا للحكم.
وعلى الجملة: إن كتب المذهب الشريف مشحونة بما قدمنا ذكره من أن الحكم الذي لا يجوز نقضه هو ما كان حكمًا قطعيًا لا ظنيًا، ومعلومًا لا مظنونًا، ومطلقًا لا مقيدًا
_________
(1) الذي أخرج البخاري رقم (4552) و (2514 و2268) ومسلم رقم (1711) من حديث ابن عباس رضي الله عنه ان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه».
(2) انظر تفصيل ذلك في «البحر الزخار» (5/ 137).(5/2292)
بسبب من الأسباب، فإذا جمع الحكم هذه القيود، فهو الحكم الذي لا يجوز نقضه وإن اختل [3ب] شيء منها جاز نقضه، فهذا كلام أهل المذهب الشريف في كتبهم المعتبرة كما سمعت، وما لم يذكر من كتبهم فيه مثلما ذكر الحكم.
قلت: وأرجح الأقوال ما حكاه الإمام المهدي في (البحر الزخار) (1) عن الإمام الأعظم يحيى بن حمزة - سلام الله عليه- أن الحكم إذا كان عن قياس خالف نصًّا صريحًا، ولو آحاديًا جاز نقضه. ووجه ذلك أنه قد صرح أئمة الأصول من أهل البيت - سلام الله عليهم-، ومن غيرهم أن القياس مع النص الصريح فاسد الاعتبار، لا يجوز العمل به، ولا يحل التعويل عليه.
وهكذا إذا كان مستندًا لحكم دون المستند الذي يخالفه كائنًا ما كان. وقد ذكرت الأدلة على ما ذهب إليه الإمام يحيى في غير هذا الموضع، ولا يتسع المقام لبسطها، إذ المطلوب هو تبيين كلام أهل المذهب الشريف.
ومما ينبغي التنبيه له: أن نصوص المذهب قاضية بأن الحاكم الذي لا يجوز نقض حكمه هو حاكم المجمع عليه، الذي كملت له الشروط المعتبرة، وأما من كان فاقدًا لبعض تلك الشروط أو لغالبها، فأهل المذهب الشريف لا يجعلون حكمه حكمًا، ولا يمنعون من نقضه إذا خالف الحق (2).
_________
(1) (5/ 135 - 136).
(2) إذا صدر الحكم القاضي مستوفيًا شروط صحته من حيث صيغته ومن حيث سلامته مما يدعو إلى نقضه كان حكمًا لازمًا واجب التنفيذ، وإذا أعيد النظر فيه، فإن كان مستحقًا للنقص، نقص وإلا أبرم. قواعد وضوابط يسترشد بها القاضي المختص فينقض في ضوئها بعض الأحكام ويبرم البعض الآخر:
القاعدة الأولى: الاجتهاد لا ينقض بمثله، ويترتب على ذلك أمران:
أ- أن ما حكم به القاضي بناء على اجتهاده السائغ المقبول في المسائل الاجتهادية، ليس له نقضه باجتهاده الجديد في المسألة التي حكم فيها.
ب- لا يسوغ لأي قاضٍ أن ينقض باجتهاده حكمًا اجتهاديًا أصدره قاضٍ آخر ما دام هذا الحكم قد صدر عن اجتهاد سائغ مقبول، لأن الاجتهاد السابق لا ينقضه اجتهاد لاحق من قاض آخر، لأنه لا مزية لاجتهاد الثاني على اجتهاد الأول ما دام الأثنان سائغين. وإذا نقض القاضي الثاني باجتهاده حكم القاضي الأول الذي أصدره باجتهاده كان نض الثاني مستحقًا للنقض، لأن القضاء في المسائل الاجتهادية حسب اجتهاد القاضي هو قضاء نافذ بالإجماع فلا يجوز التعرض له بالنقض من قبل قاضٍ آخر يريد نقضه بحجة أنه مخالف لاجتهاده هو.
وفائدة هذه القاعدة: تؤدي إلى استقرار الأحكام ووثوق الناس بها وإنهاء الخصومات، وقطع الطريق على حكام السوء الذي قد يتذرعون بالاجتهاد لنقض أحكامهم أو لنقض أحكام غيرهم وهم في الحقيقة يريدون محاباة من يكون النقض لمصلحتهم لذلك نقل عن بعض فقهاء الزيدية في هذا المعنى: «إذا أخطأ الحاكم فحكم بخلاف اجتهاده هو مما يجوز على قول بعض المجتهدين فإنه لا ينسخه، ويحكم بالمستقبل بما يؤدي إليه اجتهاده والوجه في عدم النقض ما يؤدي إليه من التسلسل بنقض النقض من الآخرين فتفوت مصلحة نصب الحاكم من فصل الخصومات لعدم الوثوق بالحكم». -
القاعدة الثانية: السوابق القضائية لا تفيد القاضي ولا تلزمه إذا قضى القاضي في مسألة اجتهادية بحكم معين، فإنه لا يتقيد به في القضايا المماثلة للقضية الأولى، فله أن يحكم فيها بحكم جديد إذا تغير اجتهاده في هذه القضايا وبالتالي لا يجوز له أن ينقض حكمه الجديد بحجة حكمه القديم، وكذلك لا يجوز لغيره من القضاة نقض حكمه القديم بحجة اجتهاده الجديد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ثم لا يجوز لغيره من القضاء نقض حكمه القديم بحجة اجتهاده الجديد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ثم لا يجوز لغيره من القضاة نقض حكمه الجديد بحجة مخالفته لحكمه القديم لأن السوابق القضائية لا تقيد القاضي.
- القاعدة الثالثة: ينقض الحكم المخالف للنص أو الإجماع، فإذا حكم القاضي بحكم يخالف نص القرآن أو السنة الصحيحة أو الإجماع فإن هذا الحكم يستحق النقض. وقد أضاف القرافي في فروقه (4/ 40): أن من موجبات النقض مخالفة الحكم للقياس الجلي السالم عن المعارضة أو مخالفته لقاعدة من القواعد العامة الشرعية السالمة عن المعارض وبناء على ما تقدم، فإن حكم القاضي إذا رفع القاض آخر لينقضه، فإنَّه ينقضه إذا خالف ما ذكرناه، ويمضيه ويبرمه إذا لم يخالف ذلك.
- القاعدة الرابعة: تنقض أحكام قضاة الجور والسوء إذا كانت جائرة، ذهب جمهور المالكية إلى أن القاضي الجائر في أحكامه، إذا كان معروفًا في ذلك وكان غير عدل في سيرته وحاله، وسواء كان ذا علم أو ذا جهل فإن أحكامه ترد وتنقض سواء كانت في حقيقتها صوابًا أو خطأ لأنه لا يؤمن حيفه إلا ما عرفنا من أحكامه أن حكمه صواب، والبينة التي استند إليها حكمه بينة سليمة مستقيمة عادلة، فإن حكمه صواب والبينة التي استند إليها حكمه بينة سليمة مستقيمة عادلة، فإن حكمه هذا يمضي ولا يرد. وقال بعض فقهاء المالكية، في القاضي الجائر ثلاثة أقوال:
الأول: تنقض أحكامه مطلقًا وهذا قول ابن القاسم.
الثاني: حمل أقضيته على الصحة ما لم يثبت الجور.
الثالث: يمضي من أحكامه ما عدل فيه ولم تحصل فيه ريبة ويفسخ ما ثبت فيه الجور والريبة.
والأولى: أن القاضي الجائر المعروف بالجور والسوء يستحق العزل حالًا لتخليص الناس من جوره .. ».
- القاعدة الخامسة: التهمة تؤثر في حكم القاضي وتعرضه للنقض قال القرافي في «الفروق» (4/ 43): «إن التهمة تقدح في التصرفات إجماعًا مثل: حكم القاضي لنفسه. فإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء؛ وتعليل هذا المسلك الذي نقول به أي نقض الأحكام للتهمة المعتبرة دون حاجة إلى فحصها، هو لضبط الأحكام، وفإن هذا الحكم ينقض بلا خلاف بين الفقهاء؛ وتعليل هذا المسلك الذي نقول به أي نقض الأحكام للتهمة المعتبرة دون حاجة إلى فحصها، هو لضبط الأحكام، وإبعاد الحكام عن مواطن الشكوك، وجعل الناس يثقون بحكامهم ويطمئنون بأحكامهم.
- القاعدة السادسة: تدقق أحكام قليل الفقه ومن لا يشاور فيبرم منها الصحيح وينقض منها ما كان خطأ بينًا.
- القاعدة السابعة: إذا كان الحكم المنقوض صحيحًا فإن الحكم الناقض ينقض ويبرم الحكم المنقوض. أنظر تفصيل ذلك في: «أدب القضاء» لابن أبي الدم (ص125). «تبصرة الحكام» لابن فرحون (ص70 - 75). «الفروق» للقرافي (4/ 40 - 45). «الفتاوى الهندية»
(3/ 356). - الجهة التي لها حق النقض والإبرام:
1 - ينقض الحكم من أصدره - وقد تقدم.
2 - ينقض الحكم غير من أصدره كما أن للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقض حكم نفسه، فإن لغيره من القضاة أن ينقضوا أحكام غيرهم، إذا رفعت إليهم هذه الأحكام، أو نظروها من تلقاء أنفسهم.
3 - هل تنقض الأحكام وتبرم بطلب أو بدونه:
4 - للقاضي الذي أصدر الحكم أن ينقضه بنفسه إذا ظهر له مخالفته لنص الكتاب أو السنة .. ومعنى ذلك أن هذا النقض يتم بدون طلب من أصحاب الشأن ويجوز من باب أولى أن ينقضه إذا طلب ذلك أصحاب الشأن والعلاقة بالحكم.
5 - لا يجب على القاضي الجديد أن ينظر أحكام القاضي السابق الذي حل هو محله في وظيفته، لأن الظاهر جريان أحكام القاضي السابق على وجه الصحة والصواب إلا إذا تظلم محكوم عليه من حكم أصدره عليه القاضي السابق.
6 - إذا لم يطلب القاضي من أحد من أصحاب الشأن النظر في أحكام من سبقه، وأراد القاضي أن يتعقب أحكام من سبقه ويتفحصها، فله ذلك فما رآه من هذه الأحكام موافقًا للشرع أمضاه وأبرمه وما كان مخالفًا للشرع على وجه لا يسوغ قبوله وكان في حق الله تعالى نقضه، لأن له النظر في حقوق الله تعالى، وإن كان الحكم في حق آدمي لم ينقضه.
- ضرورة تنظيم نقض الأحكام وإبرامها إلى جهات متعددة وإلى القاضي الذي أصدر الحكم، وعدم وجود جهة مختصة لها وحده حق نقض الأحكام وإبرامها، أن حالة كهذه تؤدي إلى شيء من المتاعب لأصحاب الحقوق كما تؤدي إلى عدم استقرار الأحكام وإلى اضطراب تنفيذها لذلك نستخلص أنه من الممكن لولي الأمر أن يعين ثلاثة أنواع من القضاة ويجعل اختصاصهم على النحو التالي:
النوع الأول: قضاة يصدرون الأحكام في الدعاوي التي ينظرونها ولا يحق لهم إعادة النظر فيها لأي سبب كان ونسميهم اصطلاحًا «قضاة الدرجة الأولى».
النوع الثاني: قضاة ينظرون في أحكام قضاة الدرجة الأولى، كلها أو بعضها ويكون من صلاحيتهم إبرام وتأييده هذه الأحكام، ونسمى هذا النوع من القضاة «قضاة الدرجة الثانية».
النوع الثالث: قضاة ينظرون في بعض أحكام قضاة الدرجة الأولى وفي جميع أو معظم أحكام قضاة الدرجة الثانية فما رأوه موافقًا للشرع أبرموه وما كان مخالفًا للشرع نقضوه، ونسميهم «قضاة الدرجة الثالثة». انظر: «الفروق» (4/ 41)، «تبصرة الحكام» (1/ 77).(5/2293)
ونصوصهم على هذه مدونة في كتبهم المباركة، وفي هذا المقدار كفاية في مسألة السؤال. انتهى.(5/2296)
رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام
تأليف
الإمام محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2297)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة (رفع الخصام في الحكم بعلم الحكام).
2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك وبعد: فإنه وصل هذا السؤال ...
4 - آخر الرسالة:
. حدس قوي بالمشابهة، وفي هذا كفاية لمن له هداية حرره المجيب محمد الشوكاني في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لعله ثاني وعشرين شهر رمضان سنة (1215هـ).
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف- رحمه الله- محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: صفحة واحدة للسؤال. (14) صفحة للرسالة.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 9 - 24 سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتح الشوكاني).(5/2299)
[السؤال]
الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
سيدنا القاضي العلامة، وبركتنا بقية أهل الفضل والاستقامة، بدر الإسلام: محمد ابن علي الشوكاني- حفظه الله تعالى، وأحله فيما يرضاه أعلا المباني وأتحفه بسلامه، وبجزيل رحمته وبركاته، كل صباح واصيل-.
نعم - أبقاكم الله- حصلت مراجعة بيننا وبين سيدنا العلامة الناسك الحسن بن علي حنش (1) -عافاه الله- في «حكم الحاكم بعلمه» وأعلمناه بما علمناه منكم في ذلك، وأن ذلك وجه لديك راجحٌ، وأجمع الرأي مناقضته استحالة الفائدة وطلب العائدة من إحسانكم بتبيين الدليل على أرجحية ذلك من باب قوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (2) وإلا فما أرى - بل المقطوع به- لا تقررون إلا ما قد تقرر لدينا بالدليل، ولكن أردنا هذا فأحسنوا - أجزل الله مكاناتكم- برقمه بعد هذا- دامت فوائدكم وأمتعنا الله بحياتكم- وسلامه عليكم.
وصلى الله على محمد وآله وسلم، وحسبي الله وكفى، ونعم الوكيل [1أ].
_________
(1) الحسن بن علي بن الحسن ... بن أحمد بن حنش ولد بشهارة سنة 1153هـ ورحل من وطنه لطلب العلم إلى مدينة صنعاء فأخذ عن جماعة من أعيانها كالسيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في الحديث .. توفي سنة 1225هـ بصنعاء.
انظر: «البدر الطالع» رقم (130). «نيل الوطر» (1/ 348 - 352).
(2) [البقرة: 260].(5/2303)
[جواب الإمام الشوكاني]
رفعُ الخصام في الحكم بعلم الحكام
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلَّي وأسلَّم على رسولك، وآل رسولك وبعدُ:
فإنه وصل هذا السؤال من سيدي العلامة المفضال، جمال الكلمات عليِّ بن إسماعيل ابن علي (1) لا برح في مقام من طلب الحق عليَّ وأقول:
ينبغي -أولاً- أن يعلم أن الله - سبحانه- قد صرح في كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالمنع من العمل بالظنِّ واتِّباعه، وذمِّ من يتمسك به -في الدين- بأبلغ ذم.
فمن ذلك قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا} (2).
وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} (3).
وقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرً من الظن إن بعض الظن ............................
_________
(1) السيد علي بن إسماعيل بن علي القام بن محمد ولس سنة 151هـ بشهارة ونشأ بها وقرأ العلوم الأدبية والفقه. وهو حسن المحاضرة لا يمل جليسه لما يورده من الأخبار والأشعار والمباحثات العلمية والاستفادة فيما لم يكن لديه منها وتحرير الأسئلة الحسنة وقد كتب إلي -أي إلى الشوكاني- من ذلك شيئًا كثيرًا، وأجبت عليه برسائل هي في رسائلي- «الفتح الرباني».
«البدر الطالع» ترجمة رقم (312)، «التقصار» (ص390)، «نيل الوطر» (2/ 125).
(2) [النجم: 28]
(3) [النجم: 23].(5/2304)
إثم} (1).
وقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (2).
وقوله تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (3).
وقوله تعالى: {إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين} (4).
وقوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم} (5).
وقوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (6).
فهذه الآيات الكريمة - ونحوها - في الكتاب العزيز قاضية بالمنع من العمل بمجرد الظن، وذم فاعله، والنهي عن أتباعه، وأنه لا يغني من الحق شيئًا. فيجب البقاء على هذه النصوص، ولا يجوز العمل بشيء من الظن في الدين كائنًا ما كان، إلا أن يرد [1ب] دليل يبخصه، ويسوغ العمل به.
وقد ورد في السنة المطهرة ما لا يتسع المقام لبسطه، مما يتضمَّن النهي عن العمل بالظن وأتباعه، وأنه من أكذب الحديث (7).
وبالجملة: فلا يشك عالم من علماء الشريعة أن هذه الأدلة تفيد أن الأصل الأصيل
_________
(1) [الحجرات: 12]
(2) [الإسراء: 36]
(3) [الزخرف: 20]
(4) [الجاثية: 32]
(5) [فصلت: 33]
(6) [الحج: 8]
(7) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»(5/2305)
العمل بالعلم (1)، وأن العمل بالظن لا يجوز إلا بدليل يدل عليه، فإن لم يوجد الدليل الذي يدل عليه كان العمل به غير جائز. الوقوف عند العلم هو الواجب، وهذا مالا يظن بأحد إنكاره، ولا مدافعته.
فإذا تقرر [هذا] (2) فالقاضي أمره الله -سبحانه- في محكم كتابه أن يحكم بين عباده بالحق، والعدل، والقسط. فلو فرضنا عدم ورود ما يدل على جواز الحكم بشيء مما يفيد الظن؛ لكان الواجب عليه أن لا يقضي إلا بالعلم الحاصل له (3) بالأسباب، المفيدة
_________
(1) ما المقصود بعلم القاضي؟
هو علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها.
(2) زيادة يستلزمها السياق.
(3) العلم الحاصل للقاضي له حالتان:
الحالة الأولى: علم القاضي الذي حصل عليه في مجلس القضاء، إذا حصل القاضي على علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها في مجلس القضاء، كما أقر المدعي عليه بالدعوى، أو نكل عن اليمين بعد أن وجهها إليه القاضي، فإن القاضي يحكم بموجب علمه بوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها، ولا يشترط أن يشارك القاضي في علمه وسماعه لوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها في مجلس القضاء شاهدان أو أكثر، هذا ما نص عليه الإمام أحمد وهو ما قال به الشافعية أيضًا محتجين بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كما في الحديث: «فإن اعترفت فارجمها» ولم يفيده بأن يكون اعترافها - أي بالزنا- بحضور الناس أو بحضور شاهدين أو أكثر.
قال ابن قدامة في «المغني» (14/ 33): ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة والإقرار في مجلس حكمه، إذا سمعه معه شاهدان، فإن لم يسمعه معه أحدٌ، أو سمعه شاهد، فنص أحمد على أنه يحكم به، وقال القاضي: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، لأنه حكم بعلمه.
وانظر: «فتح الباري»
(3/ 139). الحالة الثانية: هي علم القاضي المتحصل عنده خارج مجلس القضاء كما لو سمع القاضي شخصًا يطلق أمرأته ثلاثًا خارج مجلس القضاء، أو رأى القضاء شخصًا أتلف مال شخص خارج مجلس القضاء فهل يجوز أن يحكم بما علمه؟؟
قد اختلف أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه، وفي ذلك أقوال منها:
1 - القول الأول: أصحابه وهم الشافعية يفرقون بين حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى فإذا كانت الدعوى تتعلق بحقوق الآدميين فعند هؤلاء قولان: أ- لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحضرمي: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» أخرجه البخاري رقم (2669) و (2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.
لأنه لو جاز له الحكم بعلمه لكان علمه كشهادة اثنين ومن ثم ينعقد النكاح به وحده، ولا قائل به، ولأن الحكم بعلمه يدعو إلى التهمة، وقد يستغله قضاة السوء فيحكمون على البريء.
وانظر تعليق الشوكاني على هذا القول في «نيل الاوطار» (5/ 576) فقد قال: ومن جملة ما استدل به المانعون، حديث: «شاهداك أو يمينه»، وفي لفظ: «وليس لك إلا ذلك» من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه، وأمَّا قوله: «وليس لك إلا ذلك» فلم يقله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد علم بالمحق منهما من المبطل، حتى يكون دليلًا على عدم حكم الحاكم بعلمه، بل المراد: أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرًا حيث لم يكن للمدعي برهان.
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابًا للحكم، كالبينة، واليمين، ونحوهما أمورًا تعبدنا الله بها، لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا: الوقوف عندها، والتقيد بها، وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان، وإن كانت أسباباً يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر، وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظنَّ، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ... ».
ب- وهو القول الأظهر عند الشافعية وهو اختيار المزني أن القاضي يقضي بعلمه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما روي عنه: «لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو سمعه». ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود، وهو غير متيقن من صدقهم وضبطهم فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه ورآه وهو على علم به أولى بالجواز.
- أما إذا كانت الدعوى تتعل بحقوق الله تعالى فعند الشافعية قولان أيضًا:
والذي عليه أكثر الشافعية وهو القول الأظهر أنه لا يجوز للقاضي أن يحمكم بعلمه لقول أبي بكر رضي الله عنه: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده، أي لم أعاقبه بعقوبة الحد، حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات.
القول الثاني: وظاهر مذهب الحنابلة أن القاضي لا يقضي بعلمه في حدّ ولا غيره وسواء ما علمه قبل توليه القضاء أو بعده، والحجة لظاهر مذهب الحنابلة قول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمعه» - تقدم تخريجه- فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قضية الحضرمي والكندي: «شاهداك ويمينه، ليس لك منه إلا ذلك» -وقد تقدم-.
ومعنى الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للمدعي: قدّم شاهداك لتثبت دعواك، فإن لم يكن عندك شاهدان فلك تحليف خصمك اليمين.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تدعى عنده رجلان فقال أحدهما: أنت شاهدي. فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. واحتجوا أيضًا بأن القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته كما قد يؤدي إلى الحكم بما يشتهي.
وردوا على من أجاز للقاضي القضاء بعلمه محتجًا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». بأن هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتيا وليس حكما بدليل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفتى في حق أبي سفيان بدون حضوره ولو كان حكمًا عليه لم يحكم عليه في غيبته.
وقالوا أيضًا أن الاحتجاج بشهادة الشهود مع عدم التيقن بصدقهم يجعل الحك بعدلم القاضي أولى لأنه مبني على اليقين. هذا الاحتجاج غير مقبول عند الحنابلة ويردونه بقولهم أن الحكم بشهادة الشهود العدول لا يفضي إلى التهمة بخلاف حكم القاضي بعلمه.
وأما جواز حكم أهل العلم بعلمهم في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الأحاديث فهذا إنما جاز ليقطع التسلسل لأنه إذا لم يعملوا بعلمهم يلزم من ذلك التسلسل لأن كل مزك يحتاج إلى من يزيكيه.
القول الثالث: قالت الحنفية: يحكم القاضي بعلمه في حقوق العباد إذا استفاد هذا العلم في أثناء ولايته القضاء، أما في الحدود الخالصة لله تعالى مثل حد الزنا وشرب الخمر فلا يقضي بعلمه استحسانًا، إلا في السرقة فيقضي بالمال دون قطع يد السارق، وفي القصاص وحد القذف يحكم القاضي بعلمه.
أما إذا علم القاضي بواقعة قبل تولية القضاء ثم عرضت عليه الواقعة بعد تولية القضاء، فعلى قول أبي حنيفة- رحمه الله- لا يقضي بعلمه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقضي بعلمه، ولو علم بحادثة في بلد ليس هو قاضٍ فيه ثم رجع إلى بلده الذي هو قاضي فيه ثم رفعت إليه تلك الحادثة، وأراد أن يقضي بعلمه فهو على الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه.
قال ابن عابدين: وأصل المذهب الجواز بعمل القاضي بعلمه، والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: الفتوى على عدم العمل بعلم القاضي في زماننا.
القول الرابع: ذهب الإمام مالك وأكثر أصحابه إلى أن القاضي لا يقضي بعلمه في أي مدعي به سواء علمه قبل توليه القضاء أو بعده.
وحجة المالكية قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون إلي .. » - وقد تقدم - فدل ذلك على أن القضاء يكون - كما قال القرافي - بحسب المسموع لا بحسب المعلوم.
واحتجوا أيضًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك». فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم.
واحتجوا أيضًا بأن القاضي إذا قتل أخاه بحجة علمه بأنه قائل: «كالقتل العمد لا يرث منه شيئًا للتهمة في الميراث فنقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة.(5/2306)
لحصوله. لكنه ورد ما يدل على أن الحاكم يحكم بشهادة العدلين (1)، مع شهادتهما لا تفيد إلا مجرد الظن، لأن عقل كل عاقل يجوز أن شهادتهما باطلة لوجه من الوجوه.
وكذلك ورد الشارع بأنه يجوز للحاكم أن يحكم بإقرار من أقر على نفسه بأمر من الأمور، مع تجوزي أن يكون ذلك المقر كاذبًا في الواقع، فإن ذلك ليس هو إلا مجرد خير واحدٍ، وغايته أن يفيد الظن وكذبه مجوز على كل حال. وكذلك [2أ] ورد الشرع بأنه يجوز للقاضي أن يحكم بيمين المنكر مع عدم النية (2) -وكذلك النكول واليمين المردودة (3). وهذه الأمور غايتها أن تكون مفيدة للظن. ولا ينكر عالمٌ بل .. ..
_________
(1) انظر: «فتح الباري» (13/ 175 - 177). و «المغني» (14/ 34 - 36)
(2) للحديث الذي أخرجه مسلم رقم (223/ 139) من حديث وائل بن حجر: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للكندي: ألك بينة قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله الرجل فاجر ولا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء فقال: ليس لك منه إلا ذلك».
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الدارقطني في «السنن» (4/ 213 رقم 24) والحاكم في «المستدرك» (4/ 100) والبيهقي (10/ 184) من حديث ابن عمر: «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد اليمين على طالب الحق» وهو حديث ضعيف.(5/2309)
و [لا] (1) عاقل إن كذبها مجوز.
فلما ورد الشرع بأن هذه الأمور التي لا تفيد إلا مجرد الظن يصح أن تكون أسبابًا لحكم الحاكم سواءًا: كانت مخصصة لعموم تلك الأدلة القاضية بعدم جواز العمل بالظن، فجاز للقاضي أن يقضي على أحد الخصمين بمجرد الظن؛ لوجود السبب الشرعي الذي ورد عن الشارع، وكان حكمه بهذه الامور الظنية معدودًا من الحق، والعدل، والقسط الذي امره الله أن يحكم به، ولولا ورود الأدلة الدالة على أنه يجوز الحكم بها لما جاز للقاضي أن يقضي بشيء منها. بل كان الواجب عليه أن يقضي بعلمه الذي أمره الله بأن يتبعه، ونهاه عن اتباع غيره من الظن وما دونه، لأن كل ظن قد يتخلف.
وقد أرشد الشارع إلى هذا إرشادًا لا يخفى على عارف. فقال -فيما صح عنه-: «إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار» (2).
فانظر إلى هذا الكلام من صاحب الشريعة - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام؛ فإنه أرشد المتخاصمين إلى أنه إنما يقضي بأشياء مسموعة لا معلومة (3)، وأنها قد تتخلف، وأنه لا يحل للمحكوم له [2ب] أن يجعل الحكم بتلك الأسباب المسموعة لا المعلومة موجبًا لتحليل ما حرمه الله عليه من مال أخيه؛ إذا كان يعلم أن ذلك المستند المسموع ليس بمطابق للواقع. فإن الله - سبحانه- إنما جعل ذلك المستند المسموع سببًا لجواز الحكم للقاضي، ولم يجعله سببًا لتحليل المحكوم به، إذا كان ذلك السبب غير مطابق للواقع.
ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(3) انظر: «المغني» (14/ 32)، «فتح الباري» (13/ 139).(5/2310)
قطعة من نار» (1).
ومراده -عليه الصلاة والسلام- أن المحكوم له إذا كان يعلم بطلان السبب المسموع من شهادة، أو يمين، أو إقرار فلا يأخذنه استنادًا إلى الحكم، وهو يعلم بطلان سببه؛ فإنه إذا فعل ذلك فإنما أقطع له قطعة من نار.
إذا عرفت هذا علمت أنه: لا يجوز للقاضي أن يقضي بشيء من الأسباب المظنونة كائنًا ما كان، بل يقتصر على الأسباب التي ورد الشرع بتخصيصها، وهي: الشهادة، واليمين، والإقرار، وما عداها لا يجوز له أن يجعله سببًا للحكم وإن أفاد مفادها من الظن.
بل لا يجوز له أن يحكم إلا بالعلم الذي أمره الله باتباعه، ونهاه عن اتباع ما دونه؛ لعدم ورود دليل يدل على تخصيص الأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم (2)، والمنع من العمل بالظن [3أ].
فتحصل من هذا أن الحاكم لا يحكم إلا بعلمه في كل خصومةٍ تعرض لديه (3)، ولا
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر: الأقوال في بداية الرسالة.
(3) عدم جواز حكم القاضي بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء هو القول الراجح لأسباب منها:
1 - الأحاديث التي أحتج بها المانعون أقوى في الدلالة لقولهم من الأحاديث التي أحتج بها المجيزون لقولهم - تقدم ذكرها-.
انظر: «فتح الباري» (13/ 139).
2 - الآثار الكثيرة المروية عن الصحابة والدالة على منع الحاكم من الحكم بعلمه، والصحابة أعلم من غيرهم بمقاصد الشريعة والمعاني المرادة بأحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقد ثبت عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس المنع من ذلك ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف. وقد ذكرنا الخبر المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قال: لو وجدت رجلًا على حدِّ حتى تقوم البينة عندي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلًا يقتل أو يسرق أو يزني؟ قال: أرى شهادة رجل من المسلمين. قال عمر: أصبت.
وعن علي رضي الله عنه مثله، وهذا كله من فقه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وأحكامه وحكمته. ومن حكمته أن التهمة مؤثرة في الأحكام وهذا هو الدليل الآخر الذي يرجح ما رجّحناه ونذكره فيما يلي.
3 - اعتبار التهمة، فالتهمة ينظر إليها في الشرع ويقام لها وزن واعتبار وتؤثر في ترتيب الأحكام، ولهذا فهي تؤثر في الشهادات والأقضية والأقارير، وفي طلاق المريض، ومن هنا لم تقبل بعض الشهادات مع أن أصحابها عدول لا يقدح في عدالتهم سوى تهمة التأثير بالقرابة أو العداوة بين الشاهد والمشهود. وكذلك لا يقضي القاضي إلى من لا تقبل شهادته له للتهمة، أي خوفًا من إنحيازه في الحكم إلى المفضي له لقرابة بينهما ونحو ذلك، كما لا يقبل حكم القاضي نفسه للتهمة، ولا يصح إقرار المريض مرض الموت للتهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها للتهمة.
ولقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو سيد الحكام، يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم ولا يحكم بينهم بعلمه مع براءته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله ملائكته وعباده من كل تهمة لئلا يقول الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
4 - منع القاضي من الحكم بعلمه، يقطع الطريق على حكام السوء ويمنعهم من الحكم على البريء المستور لعداوة بينهم وبينه أو تنفيذًا لأهوائهم أو طاعة لولي الأمر الظالم فلا يستطيعوا أن يحكموا على بريء بحجة علمهم وما أحسن قول الشافعي- رحمه الله-: لولا قضاة السوء لقلنا أن للحاكم أن يحكم بعلمه».
وقال ابن عابدين: «وأصل المذهب - الحنفي- الجواز بعمل القاضي بعمله والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة».
5 - ما يقدمه الخصوم لإثبات الدعوى أو دفعها يمكن مناقشته والنظر فيه وتقويمه قبل أن يصدر الحكم، أما إذا جوزنا للقاضي الحكم بعلمه فإن معنى ذلك أنه يصدر الحكم بناء على هذا العمل دون أن يتمكن الخصوم من مناقشة ما استند إليه القاضي أو الطعن فيه وبيان ما يرد عليه أو ينقضه مع احتمال ذلك كله، لأن علم القاضي الذي يحصل عليه خارج مجلس القضاء معرض للخطأ لأنه غير معصوم وما يعلمه عن طريق السمع أو الرؤية قد يتطرق إليه الخطأ إحاطته بالقرائن والظروف والأحوال التي صدر فيها المسموع أو المرئي، أو لعدم انتباه القاضي انتباهاً كافيًا لم سمع أو لما رأى مما قد يفوت عليه بعض ما سمع أو ما رأى فيكون علمه ناقصا وبالتالي حكمه غير صحيح، وهذا كله إذا نزهنا القاضي عن الهوى والابتعاد عن مظان الاتهام، ففي تجويز الحكم للقاضي بعلمه مع هذه الاحتمالات الواردة ظلم للمحكوم عليه وإجحاف بحقه في الدفاع عن نفسه وتفويت لحقه في مناقشة ما استدل به القاضي من الحكم بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء.
انظر: «الطرق الحكمية» لابن القيم (ص179 - 180)، «فتح الباري» (3/ 139 - 160)، «الفروق» للقرافي (4/ 44).(5/2311)
يحكم بظنه في شيء من الأشياء إلا في تلك الأمور التي ورد الدليل بتخصيصها من عموم المنع من اتباع الظن؛ لأن الشارع قد جوز له الحكم بها، وإن كان يجوز تخلفها.
وبهذا يظهر لك أن حكم القاضي بعلمه هو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من اتباع العلم وهو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من الحكم بالحق والعدل والقسط، وهو الحكم الذي هو الأصل الأصيل، المطابق لما ورد في التنزيل، وهو الحكم الذي يطابق الواقع، ويطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس.
فمن قال من أهل العلم: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بل يحكم بتلك الأسباب الظنية من الشهادة والإقرار واليمين ويقتصر عليها، ولا يجوز له الحكم بالعلم. فما أظنه تدبر هذه الآيات القرآنية الموجبة للعمل بالعلم، والمانعة من العمل بما دونه. ولا أظنه تأمل ما فيها من العموم المتناول لكل شيء من الأشياء (1) ولا أحسبه أمعن النظر فيما اشتملت
_________
(1) يتضح من سياق «هذه الرسالة» قول الشوكاني أن الأمر بالعلم وإطراح الظن الذي تضمنته الآيات السابقة حكم عام لا مخصص له يمكن أن يستثنى من أحكامها القضاء أو علم القاضي، ومعنى ذلك أن الشارح حينما قرر للقاضي أن يحكم بالإقرار والشهادة واليمين، وجميعها لا توصل لأكثر من الظن الراجح، ولا تفيد اليقين بأي حال لم يكن ذلك تخصيصًا لسابق أمره باتباع العلم على العموم، وأن الأحاديث النبوية في هذا الباب - وهي كثيرة- لا تفيد التخصيص، ولكن الرسالة لا تقل لنا شيئًا عن الأثر المنسوب إلى أبي بكر الصديق القائل: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عليه» وهو أثر واضح الدلالة في أن أبا بكر لم يعتمد على علمه، وإنما يجنح إلى الدليل وإطراح علم القاضي وكان عمر بن الخطاب على نفس المنهج فقد روى أنه تداعى عنده خصمان فقال أحدهما: أنت شاهدي، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد».
- وهذه المرويات لا ينازع فيها الشوكاني على مدلول واحد هو إن طريق القضاء فيالحكم، الدليل وإن علم القاضي لا يصح سندًا للحكم بل إن ما روي عن عمر بالغ الدلالة في التمييز بين منصب القضاء ومنصب الشهادة، وأن القاضي لا يملك أن يشهد بما رأى ثم يحكم بما شهد، فهذا خلط مذموم وأقل ذميمته أنه يضر بالعدالة.
ولكن الشوكاني - في هذه الرسالة- لا يناقش شيئًا من ذلك وإنَّما يؤكد بتكرار أن من يمنع على القاضي أن يحكم بعلمه لم يدرك ولم يتدبر أسرار الآيات التي استشهد بها ولم يفقه مدلولاتها الواضحة وهذا المنهج أغناه عن عناء الجدل مع هذه الآثار، ناهيك عن الآثار والنصوص التي استندت إليها المذاهب والتي تخالف الشوكاني في مذهبه.(5/2313)
عليه من الذم لمن عمل بالظن، وترك العلم.
وإني لأعجب بمن خفي عليه هذا حتى منع الحاكم من الحكم بعلمه، وسوغ له الحكم بظنه، وكأنه لم يتصور أن تلك الأسباب الظنية لم يجز جعلها أسبابًا لكون الظن في نفسه [3ب] حجة شرعية يجب أتباعها، ويجوز العمل بها، بل إنما جاز جعلها كذلك لورود الشرع بكونها أسبابًا للحكم.
والحكمة في ذلك أنه لو كان المعتبر في قطع الخصومات بعلم الحاكم، وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم إلا بالعلم (1) لكان في ذلك أبلغ الحرج، وأعظم المشقة؛ لأن العلم قليل الحصول، بعيد الوصول.
وكان ذلك يفضي إلى ضياع كثير من الحقوق؛ لأن الظالم سيصر على ظلمه، ويدفع في وجه المظلوم، حتى يحصل للقاضي العلم بذلك الظلم، وهو لا يحصل إلا بمشاهدة، أو ما يقوم مقامها، ومن أين للقاضي مشاهدة جميع الحوادث التي يتخاصم فيها المتخاصمون إليه؟ بل من أين له مشاهدة عشر معشارها؟
ثم هب أنه قد يحصل العلم بطريق آخرى غير المشاهدة ونحوها، وذلك الخير المتواتر
_________
(1) انظر: الأقوال وأدلتها في بداية الرسالة.(5/2314)
الذي يخلق الله عنده العلم للحاكم. ومن اين للمظلوم أن يأتي إلى الحاكم بجمع يفيد خبرهم العلم؟ وإني له ذلك؟
وبهذا تعرف أن الله - سبحانه وتعالى- إنما سوغ للقضاة أن يحكموا بتلك الأسباب الظنية لما في أسباب العلم من الصعوبة والقلة والضيق، وأيضًا لو لم يشرع لعباده الحكم بتلك الأسباب الظنية لكان إقرار من عليه الحق - الذي هو أعظم الحجج القائمة عليه- خارجًا عن أسباب الحكم بالعلم، لأنه لا يفيد إلا مجرد الظن.
فلما كان في أسباب العلم ما ذكرناه من الضيق والقلة، وندرة الحصول [4أ] وسع الله على عباده. وحكام بلاده، بتوسيع دائرة سبب الحكم. فجعل من أسبابه مالاً يستفاد منه إلا مجرد الظن. وهي تلك الأسباب الظنية. ثم عذر الحاكم بها إذا كان ما حكم به غير مطابق للواقع. بل أثبت له الأجر كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (1).
فجعل الحاكم بالظن مستحقًا مع الإصابة لأجرين، ومستحقًا مع الخطأ الأجر. بل قد ثبت - خارج الصحيح- أن: «الحاكم إذا أصاب فله عشرة أجور» (2).
وهذا من فضل الله على العباد، ولطفه بحكام البلاد. فإنه لم يجعل على المخطئ شيئًا من الوزر. بل أثبت له الأجر، وجعل العقوبة على المحكوم له إذا كان يعلم أن الحكم خطأ. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من نار» (3).
وإذا كان هذا الترديد الشرعي بين الأجر الكثير والأجر القليل لمن حكم بسبب ظني، فما ظنك بمن حكم بسبب ..........................
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(5/2315)
علميِّ يقينيِّ (1)! فإنه مصيب دائمًا؛ لأن الخطأ لا يتطرَّق إلى حكمه بحال من الأحوال؛
_________
(1) يكرر الإمام الشوكاني التأكيد على أن حكم القاضي بعلمه هو حكم اليقين، وحكمه بالأدلة - غير علمه - كالشهادة والإقرار واليمين هو حكم يغالب الظن، ولأن الشارع قد أكد مرارًا على واجب العمل باليقين واجتناب الظن، فإن معنى ذلك أن الأصل أن يحكم القاضي بعلمه وأن الحكم اعتمادًا على البينات إنما هو رخصة من الشارع.
- ومن يدرس قواعد الإثبات في الشريعة بإمعان سيلاحظ أن الشريعة رسمت بدقة ووضوح المبادئ والقواعد والطرق التي تمكن القاضي من تحصيل الواقع والوقوف على حقيقة الخصام وأن ما تحصل له من هذه الطرق والآليات يجب أن يحكم به ويكون حكمه فيه نافذًا واجب الطاعة طالما كان سليمًا من الخطأ والقصور.
- وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة من أبرزها وما فصل الشارع في بسط أحكامها: الشهادة - الإقرار - اليمين، ولم ينازع أحد من فقهاء الإسلام في أن مؤدى هذه الأدلة هو الظن وأن الظن هو أقصى ما يتحصل منها، ومعنى ذلك أن الحد الأقصى لصلة القاضي بالواقع في فلسفة التشريع الإسلامي هو الظن، وأن هذا كاف للحكم عليه في اعتبار الشارع.
- ومن المعروف أن هناك مستويين من الحقيقة في المستوى الأول تقع الحقيقة الواقعية، أي حقيقة ما حدث بين الخصمين فعلًا. وفي المستوى الثاني تقع الحقيقة القضائية أي ما تحصله القاضي بطرق الإثبات المرسومة له من الشريعة عن الحقيقة.
ومن البديهي ألا تتفق الحقيقتان في بعض الحالات فتنفك الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية ويكون ما تحصل للقاضي من تلك الأدلة غير مطابق للواقع والبداهة هنا ترجع إلى أن القاضي ليس طليق الحرية في بحثه عن الحقيقة فيتحصل على الحقيقة بأي طريق شاء، وإنما هو ملزم أن يتوسل إليها بوسائل حددها لها الشارع وحدد له قيمتها الثبوتية ومن الذي يقدمها إليه، بل حدد له في الغالب الشكل الذي ينبغي أن تصب فيها تلك الطرق. -
ولذلك نجد الشارع في حد الزنا يحدد أن الطرق إلى إثبات جرم الزنا هو الشهادة أو الإقرار، فإذا كان الطريق هو الشهادة فإن للشارع في ذلك قواعد وقيودًا وتفصيلات وليس أي شهادة تصلح طريقًا لإثبات الواقع في هذه الجريمة، فيقرر الشارع أن الشهادة المعتبرة يجب أن تكون من أربعة أشخاص وأن يكون هؤلاء ذكورًا فلا تقبل شهادة المرأة، وأن يكونوا أصولًا فلا يقبل الشارع أن يشهد بالزنا شاهد أخبره بالواقعة شاهد غيره وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي بالإيماء، بل إن الشارع حدد هنا حتى صيغة الشهادة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة بحيث يؤديها الأربعة بتلك الصيغة لا سواها وإلا فلا تقبل وتفصيلات الشارع هنا لا حصر لها.
- وبهذا النهج فإن القاضي لن يتحصل لأكثر من الحقيقة القضائية، وأن لا سبيل له إلى الحقيقة الواقعية وبما أن الشارع هو الذي رسم طريق الاستدلال ووسائل الإثبات، فإن معنى ذلك أن أقصى ما يطلبه من القاضي هو الحقيقة القضائية، وأنه غير مكلف بالبحث عن الحقيقة المطابقة للواقع، ومن ثم فإن الحقيقة الواقعية مستبعدة عند الشارع من عمل القاضي، وإلا لما قبل منه بها بديلًا وحينما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أقضي بما أسمع» إنما كان يشير إلى الأساس الذي تبني عليه الأحكام القضائية في التشريع الإسلامي وهو الحقيقة القضائية المتحصلة من الأدلة التي حددها الشارع وأن هذه قد تختلف عن حقيقة الواقع ولذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه ... » تقدم الحديث. والحديث واضح الدلالة في أن هذا الاختلاف لا أثر له. فلا يمنع من الحكم ولا يعيب فيه بعيب.
- وعلى ذلك فإن تجويز الحكم بعلم القاضي طلبا لليقين والحصول على الحقيقة الواقعية لا يوافق روح التشريع الإسلامي وهو تكلف لم يطلبه الشارع ويأباه التشريع الإسلامي المتسم باليسر والتيسير.
انظر: «المسائل المهمة فيما تعم به البلوى حكام الأمة» وهي ضمن «عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير» رقم (114) بتحقيقي.
«نيل الوطر» (7/ 109)، «الوسيط في شرح القانون المدني» عبد الرزاق أحمد السنهوري (9/ 15).(5/2316)
لعدم تجويز تخلف ما شاهده الحاكم مثلاً بعيني رأسه، أو تواتر له تواترا يخلق الله له عنده العلم.
وبالجملة: فالقائل بأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ليس بيده دليلي شرعي ولا عقلي [4ب].
وأما كونه ليس بيده دليل شرعي؛ فلم يأت في هذه الشريعة أن أحدًا من عباد الله يجب عليه أن يرمي بعمله وراء ظهره، ويعمل بظنه، بل كتاب الله، وسنة رسوله بيده من قال: بأن الحاكم يحكم بعلمه كما سبق تقريره.(5/2317)
فإن من قال: المكانع من حكم الحاكم بعلمه: أنها وردت أسباب شرعية توجب على الحاكم الاقتصار عليها كالبينة، واليمين، والإقرار (1).
قلنا: أخبرنا ما الدليل على أن هذه الأسباب يجب الاقتصار عليها؟ ومن أين علمت ذلك؟ وما الذي أفادك هذا. فإنه لم يرد في شيء من هذه الأسباب أنه يجوز الحكم إلا بها، ولا يجوز الحكم بغيرها مما هو أولى منها. ولم نجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله حرفًا من ذلك، ولا رأينا فيهما صيغة تفيد الحصر، ولا يدعى عالم أنه قد ثبت عن الشارع ما يفيد أن هذه الاسباب الظنية هي طرق الحكم (2) ولا طريق له غيرها؟ بل غاية ما هناك أن الشارع أوجب على عباده اتباع العلم، ومنعهم من اتباع الظن، ومقتهم على اتباعه، ثم وسع على عباده بتخصيص الأدلة الموجبة لاتباع العلم بهذه الأدلة الواردة في جواز الحكم بمجرد الظن.
فالحكم بالعلم موافق للأدلة من أدلة الكتاب والسنة، أعني الأدلة الموجبة لاتباع العلم، والنهي عن اقتفاء ما ليس بعلم، وموافق للأدلة المخصصة لذلك العموم - أعني الأدلة الدالة [5أ] على جواز الحكم بالإقرار، والبينة، واليمين؛ لأن العلم - لا يشك عاقل - أنه قد أفاد ما أفادته هذه الأسباب من حصول الظن للحاكم، وزاد عليها بزيادة خرج بها عن مجرد التجوزي المحتمل، والراجح والمرجوح إلى الجزم والمطابقة.
فكيف يقول من له أدنى فهم، وعنده أيسر علم أنه يجوز للحاكم أن يحكم بمجرد ظنه المحتمل للطبلان، ومخالفة الواقع، ولا يجوز له أن يحكم بعلمه الجازم المطابق الثابت الذي لا يتعقبه بطلان، ولا يتبعه تغير؟!
وأين هذا القائل عن قوله -- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما صح عنه: «دعا ما يريبك إلى ما لا يريبك؟» (3).
_________
(1) تقدم مناقشة ذلك
(2) تقدم الرد على ذلك.
(3) أخرجه الترمذي رقم (2518) والنسائي (8/ 327 - 328) ابن حبان في صحيحه رقم (720) والبيهقي في «شعب الإيمان» رقم (5747) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو حديث حسن.(5/2318)
وأين هو عن قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون» (1)؟
فإنه لا شك ولا ريب: «أن الظن ريبة، والعلم طمأنينة، وأنه لولا ورود الشرع بتلك الأسباب الظنية لكان تركها متحتمًا لكونها محل ريب».
ثم من لم يكن معه إلا مجرد ظن لاحظ له عند قلبه إذا رجع إليه واستفتاه، فإنه لا يفتيه بشيء؛ لأنه لم يكن لديه إلا مجرد ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا.
بل القلب الذي يستفتيه صاحبه فيفتيه هو من كان عنده علم (2). فإنه يكشف له عن الصواب، ولا يتستر دونه من الشك بجلباب [5ب].
ثم يقال لهذا المانع من الحكم بالعلم:
أخبرنا: هل الحاكم بالعلم قد حكم بما أمره الله أن يحكم به من الحق والعدل والقسط أم لا؟
فإن قلت: نعم. فما ذاك المطلوب منه غير هذا. بعد أن فعل ما أمر الله به في محكم كتابه.
وإن قلت: لا. قلنا: كيف يكون من حكم بحكم لا يدري هو في الواقع كمنا حكم به أولًا أ؛ ق بما أمر الله به من الحكم بالعدل والحق والقسط من حاكم حكم بحكم شاهده بعيني رأسه وعلمه علماً جازمًا! وقطع بمطابقته للواقع؟ وهل هذا إلا صنع من لا يعقل الحجج، ولا يهتدي لمدخلها ولا للمخرج؟ وكيف يكون المتردد في الشيء أعلم به من الجازم!؟
والجاهل للأمر أحق بنسبته
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) سيأتي مناقشة قول الشوكاني هذا.(5/2319)
والجاهل للأمر أحق بنسبته إليه من العالم؟
وهل قال عاقل من العقلاء أن الظن أرجح من العلم؟ وهل يوجد مثل هذا في دفتر من دفاتر العلم؟ وهل قد سبق إليه أحد؟
وهل خفي على هذا القائل ما ذكره أئمة الأصول والفروع، والمعقول والمسموع من الترجيح بين أقسام الظن، وتقديم القوي ممنها على الضعيف حتى كان الظن الغالب أقوى من الظن المطلق؟ والظن المقارب للعلم أقوى من الظن الغالب؟ فإذا كان الظن المقارب للعلم أرجح الظنون باعتبار قرية من العلم، فكيف لا يكون العلم أرجح منها!؟ وكيف يسعد [6أ] بمزية الترجيح الظن المقارب له بسبب قربه منه! ويحرم هذه المزية العلم؟ وهل هذا إلا خروج عن العقل، وبعد من إدراك النوع الإنساني!؟
ثم نقول لهذا المانع: اعرض على عقلك - إن بقي لديك منه شيء - مسالك العلة المدونة في الأصول، وأجعل علة الحكم بالبينة والإقرار واليمين (1) في أي مسلك شئت منه.
_________
(1) في هذه الرسالة نجد الشوكاني على عقيدة أن علم القاضي يفضي إلى اليقين القاطع بخلاف ما يتحصل له من الأدلة والبينات الأخرى غير علمه فهي إنما تفيد الظن.
فهل حقا أن علم القاضي مفاده اليقين القاطع في كل الأحوال؟ لا نظن ذلك، فنقول للشوكاني أن القاضي فيما علم كالشاهد فيما يعلم، أي أن الشاهد حين يروي في أقواله ما شاهده أو سمعه فإن مؤدى روايته بالنسبة له وحده اليقين لأنه قال ما وقف عليه بإ؛ دى حواسه، ولكن هذا اليقين مقصور عليه ولا يتعدى لغيره، إذ مؤدى ما قاله بالنسبة للغير الظن ولا أكثر.
وحال علم القاضي لا يخرج عن هذا الإطار فمؤاده القين بالنسبة للقاضي وحده، ولكنه بالنسبة لغيره لا يفيد أكثر من الظن لأنه لا يعد أنه رواية آحاد.
وعلى ذلك لا يمكن موافقة إطلاقات الشوكاني وهو يؤكد بتكرار أن مؤدى علم القاضي بالواقع اليقين القاطع وبصورة مطلقة فالتحليل الصحيح للفكرة أن هذا اليقين ليس كذلك بالنسبة لغير القاضي، وأنه يمكن أن يكون يقينًا بالنسبة للقاضي وحده، وعند هذا المستوى لا يتميز علم القاضي بأي راجحية عن علم الشاهد فإن يقنية علم القاضي كانت لا باعتبار صفته أي ليس باعتباره قاضيًا وإنما باعتباره الشخصي، ولذلك رأيناه سابقًا أنه تساوي في ذلك مع الشاهد. وبما أن القاضي ملزم بقضائه قواعد الشريعة الإسلامية، ولا يملك أن يتجاوز في الإثبات ما رسمته له الشريعة من قواعد وتعاليم، ومعلوم أن تلك القواعد رواية الواحد لا تفيد إلا الظن إذا كان معروفًا بالصدق والضبط. وهذا الظن على حظ الحجية ضئيل جدًا بحيث أن هذه الرواية لا يعمل بها في كل حال، ففي بعض المواطن ينبغي إهمالها كما هو معروف.
وحيث أن القاضي ملزم بهذه القاعدة فليس أمامه إلا أن يطبقها في قضائه. ولا شك أن روايته للواقع أو لما شاهد حين يحكم هي في نظر الشريعة رواية آحاد مفادها الظن في أحسن الأحوال، وليس أمامه إلا أن يعتبر بما اعتبرها الشرع، وأن يزنها بميزانه فتعتبر ظنية كما يعتبرها الشرع ولا بأس أن تبقى يقينية بالنسبة له كشخص ولكن لا يملكن أن يعتبرها كذلك بالنسبة له كقاض.
والقاضي هنا كالشاهد، فلو فرضنا أن شخصا شاهد آخرًا يقتل مسلمًا أمام عينيه، ثم شهد في المحكمة بما رأى ولكن القاضي حكم في المسألة بعلمه، وقضي بقتل شخص آخر غير من شهد به الشاهد استنادًا إلى أنه رأى هذا يقتل المجني عليه.
وعند تنفيذ الحكم بالقتل أمر القاضي بالشاهد - وهو بالمصادفة المختص بذلك - بقتل الآخر والشاهد يقتل يقينا أن المحكوم عليه بريء وأن القاتل آخر، ترى ماذا يصنع هذا السجان؟ هل يطيع أمر القاضي وحكمه؟ أم يرفض اعتمادًا على يقينه الشخصي؟
نجد الشوكاني يوافق المذهب الزيدي في هذه المسألة ويرى أن على هذا الشاهد أن يمتنع عن التنفيذ طاعة لأمر القاضي لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ويقول الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 298): «عليه أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه، فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الادلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط».
ودلالة ذلك أن حكم القاضي بعلمه ليس بدرجة اليقين القاطع بصورة مطلقة، وأن الحجية فيه نسبية، ولذلك أوجب الشوكاني على من علم يقينًا بخلاف علم القاضي أن يرجح علمه على علم القاضي فلا ينفذ ما أمر به.(5/2320)
فإنك تجد العلم (1) أولى بذلك المسلك من تلك الأسباب الظنية. ثم لو فرضنا أنه لم
_________
(1) لنسلم بان القاضي لا يجوز له أن يحكم بعلمه، إنما يحكم بما تحصل له من الأدلة المطروحة عليه، ما هو الحكم لو أن القاضي قد اطلع شخصيًا على حقيقة الواقع، وعند الترافع إليه جاءت الأدلة على خلاف ما يعلمه فماذا يصنع؟ هل يحكم بما علمه؟ أم يحكم بما تثبته الأدلة؟ فمن المؤكد أن على القاضي أن يمتنع عن الحكم بخلاف عقيدته، بل إن المطلوب منه أن يحكم حسب عقيدته فقط وفي المثل السابق ليس للقاضي من سبيل غير أن يتنحى عن نظر الموضوع ليولي به قاض آخر، وعلى القاضي المتنحي أداء شهادته أمام زميله، وهذا المخرج ليس بالجديد فهو يرجع إلى عمر رضي الله عنه وقد تقدم ذلك.(5/2321)
يرد من كتاب الله، وسنة رسوله ما يرشد إلى إتباع العلم والعمل به، وأنه القنطرة التي لا يجوز العدول عنها إلا بدليل. فكيف خفي عليك ما اتفق عليه الناس من العمل بفحوى الخطاب (1) الذي ورد عليه قول الله سبحانه: {فلا تقل لهما أف} (2) وغير ذلك من خطابات الكتاب والسنة، ومحاورة العرب!؟ فهب أنه لم يرد من الحكم بالعلم حرفٌ من الكتاب والسنة.
أما أرشدك عقلك وفهمك إلى أن تقول هاهنا: أنه إذا جاز الحكم بالظن جاز الحكم بالعلم بالأولى؛ لأن العلم ظن وزيادة؟
فإن قلت: إنك تقتصر على النص، وهو الحكم بتلك الأسباب دون غيرها وإن كان أولى منها.
فنقول لك: لا تخص الاقتصار على النصب بهذا المحل، بل أطرده في كل شيء حتى تخرج عن الشرع والعقل.
فقل: لم يرد في هذه الآية إلا تحريم التأفيف. فما كان أولى بذلك منه [6ب] جائز عندك، فيجوز الشتم والضرب!، ولا جرم ثم قل في قول القائل مثلًا: إن الرجل يحمل
_________
(1) المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به: فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيمسى فحوى الخطاب ومثاله: كآية تحريم التأفف على تحريم الضرب، لأنه أشد فتحريم الضرب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف}، من باب التنبيه بالادنى - وهو التأفيف- على الأعلى، وهو الضرب.
انظر: «الكوكب المنير» (3/ 482)، «أدب القاضي» (1/ 617)، «المستصفى» (3/ 411 - 412)، «البحر المحيط» (4/ 12).
(2) [الإسراء: 23].(5/2322)
الصخرة، إن العشرة، بل المائة لا يحملونها، ثم قل في قول القائل: إن الرغيف يشبع الرجلين، إنه لا يشبع الرجل!
وبالجملة: فترك العمل بفحوى الخطاب (1). الذي يقال له: «مفهوم الأولى» وقياس الأولى خروج عن دائرة لغة العرب بأسرها، ومخالفة لجميع العقلاء، وخرق لإجماع المسلمين، فإن النافين للقياس، وللعمل بالمفهوم لم يجسروا على ترك العمل بفحوى الخطاب.
فإن قلت: إذا كان الحكم بالعلم أرجح من الحكم بالظن كما قررته في هذا الكلام، فهل يقدم على الحكم السببه مجرد الظن فقط؟
مثلًا:
إذا شهد شاهدان عدلان على زيدٍ بأنه قتل عمدًا. أو أقرَّ زيدٌ بأنه القاتل لعمرو، والحاكم الذي وقع التخاصم الديه يعلم علمًا يقينًا أن القاتل لعمرو غير زيد. قلت: نعم يجب عليه وجوبًا مضيفًا أن يعمل بعلمه، ويترك العمل بشهادة الشاهدين، وإقرار المقر، لأنه هاهنا قد بطل الظن بالعلم، بل ثبت العلم ببطلان شهادة الشاهدين (2)، وإقرار المقر، و «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» (3).
وليت شعري ما يقول في مثل هذا من يقول: بأن الحاكم لا يحكم بعلمه؟ فإن قال: يحكم الحاكم بالشهادة التي قد علم بطلانها [7أ]، أو الإقرار (4) الذي قد تبين كذبه.
_________
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2) سيأتي التعليق على ذلك.
(3) قالوا: «إذا جاء سيل الله بطل نهر معقل».
نهر معقل: في البصرة، وقد احتفره ابن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب إليه.
يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها، وأعظم نفعًا.
انظر: «الأمثال اليمانية» (1/ 95). «الأمثال» للميداني (1/ 88).
(4) سيأتي التعليق على ذلك.(5/2323)
فيقال له: هذا -والله- الحكم المخالف لما أمر الله به من الحق، والعدل، والقسطن بل الحكم الذي هو شعبة من الطاغوت.
وكيف يجوز لمسلم أن يحكم على مسلم بقتله، وسفك دمه قصاصًا، وهو يعلم أن القاتل غيره؟ وهل هذا يعد من هذه الشريعة؟
يا هذا! قد رجع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن أمور حكم بها باجتهاده، لما علم خلافها؛ فإنه أمر عليًا- عليه السلام - أن يذهب إلى من كان يدخل على بعض أمهات أولاده فيقتله، فلما أراد على رضي الله عنه أن يقتل ذلك الرجل رآه مجبوبًا فرفع السف عنه، وأقره رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وصوبه (1).
وكذلك رجع عن حكمه (2) بحدِّ الرجل الذي ادعته المرأة أنه زنى بها، لما تبين له أن الفاعل غيره. وغير ذلك من القضايا الواقعة في عصر النبوة.
وإن قلت: يعمل الحاكم بعلمه في مثل تلك الصورة، ولا يعمل بالشهادة ولا الإقرار.
فنقول: ألم يكن هاهنا قد قدمت العلم على الظن المستفاد من الأسباب التي شرعها
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (59/ 2771).
والحاكم في «المستدرك» (4/ 39 - 40) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2) أخرجه الترمذي في «السنن» رقم (1454) وهو حديث حسن دون قوله «ارجموه» من حديث علقمه بن وائل عن أبيه وقد تقدم.
قال ابن العربي المالكي في «العارضة» (6/ 237 - 238): «إنما أمر به ليرجم قبل أن يقر بالزنى وأن يثبت عليه ليكون سببًا في إظهار النفسية حين خشى أن يرجم من لم يفعل وهذا من غريب استخراج الحقوق ولا يجوز ذلك لغير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن غيره لا يعلم من البواطن ما علم هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعلام الظاهر الباطن له بذلك». اهـ.
وقيل «لا يخفى أنه بظاهره مشكل إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا يصلح بينة بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فعل المراد فلما قارب أن يأمر به ... ».
«عون المعبود» (12/ 42 - 43).(5/2324)
الشارع؟ وأوجبت على الحاكم أن يعمل بعلمه، ويترك الظن؟ فكيف لا يجوز له الحكم بعلمه مع عدم معارضة الظن مع إيجابك عليه أن يعمل بعلمه مع معارضة الظن!.
فإن قلت: إن العلم قد كشف بطلان السبب الظني الذي شرعه الشارع.
فنقول لك: وكيف كان العلم كاشفًا لبطلانه؟ هل لكونه أرجح من الظن؟ أو مساويًا له أو دونه؟
إن قلت: لكونه مساويًا له أو دونه. فالمساوي والدون لا يكون موجبًا لبطلان ما هو مثله، أو ارجح منه.
وإن قلت: لكون العلم أرجح من الظن أقررت بما هو مطلوبنا، فإن قلت أنا أعترف بأن العلم أرجح من الظن يبطله، ولكن لا أسلم أنه يجوز الحكم بمجرد العلم.
قلنا: الحاكم لما حكم بأن القاتل غير زيد مثلًا قد حكم بالنفي كما اعترفت بذلك [7ب]. وهل يراد بحكم الحاكم - عند اهل الشريعة- إلا مجرد إثبات حكم أو نفيه؟ وأي قائل يقول: إن حكم الحاكم إنما يكون في الإثبات لا في النفي. فإنه لا يكون حكمًا.
وإذا تقرر لك أن الحكم يجب عليه العمل بعلمه (1)، وترك الحكم بالشهادة والإقرار
_________
(1) انظر الأقوال في ذلك وأدلتها.
وليس الشوكاني بدعًا في رأيه بجواز أن يحكم القاضي بعلمه فقد كان ذلك مبدءًا مستقرًا في القضاء اليمني في ظل الدولة الزيدية التي تولى فيها الشوكاني منصب قاضي القضاة، ذلك أن المذهب الزيدي مع الرأي الذي يبيح للقاضي أن يحكم بعلمه في قضايا الأموال والحقوق والقصاص، ويمنعه فقط في الحدود، وحتى في الحدود فإنه يجيز القضاء بعلم القاضي في حد القذف، وفي سائر العقوبات التعزيزية، بل إن المؤيد والناصر وهما من كبار علماء المذهب الزيدي، من القائلين بحق القاضي في الحكم بعلمه مطلقًا، أي في الحدود وفي غيرها دون استثناء.
وفي «شرح الأزهار» (4/ 320): «وله - أي القاضي - القضاء بما علم إلا في حد غير القذف فلا يجوز له أن يحكم فيه بعلمه فأما في حد القذف والقصاص والأموال فيحكم فيها بعمله سواء علم بذلك قبل توليه القضاء أو بعده».
انظر: «البيان الشافي» لابن المظفر (4/ 29)، «ضوء النهار» (4/ 2216)، «المنار» للمقبليل (2/ 369).
ونجد أن محمد بن إسماعيل لا يوافقهم على ذلك ويذهب إلى المنع من القضاء بعلم القاضي، وقد ناقش الموضوع في كتابه «منحة الغفار على ضوء النهار» وهو حاشية من الأمير على كتاب «الجلال» المشهور «ضوء النهار».
«ضوء النهار» (3/ 2214).(5/2325)
واليمين، إذا كان يعلم خلاف ذلك، فهل يجب عليه استدراك حكمه بأحد هذه الأسباب الظنية إذا كان قد أوقع الحكم وأنجزه؟
قلت: نعم إذا كان الاستدراك ممكنًا، وإن لم يكن الاستدراك ممكنًا، وذلك مثلًا: كان يقتل زيد قصاصًا في تلك الصورة بشهادة الشهود، أو بإقراره، فالحاكم معذور عند الله، وقد أخطأ في حكمه وله أجرٌ. وأما الشهود فتجب عليهم الدية كاملة إن كان القتل بالشهادة (1)، وإن كان القتل بالإقرار، فالمقر جنى على نفسه، فهو القاتل لنفسه، والحاكم معذورٌ مأجورٌ.
نعم إذا كان الحكم الواقع عن أحد الأسباب الظنية في حد من الحدود المحضة لله، فيمكن أن يكون وقوع السبب الشرعي مسقطًا للحد كما ثبت عنه -- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في الملاعنة: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» (2).
_________
(1) انظر: «المغني» (3/ 2214».
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4747).
وهو حديث يكاد يكون صريحًا في هذه المسألة وقد قال عمر بن الخطاب لخصمين «إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد» وهذه الرواية صحيحة عند الفقهاء وفيها بيان صريح وقاطع بأن حكم القاضي بعلمه معناه الجمع بين ولايتين، ولاية الشهادة وولاية الحكم والقضاء وهذا مما يأباه الإسلام.
ولا نحسب أحد سيوافق الشوكاني حينما علق على واقعة امتناع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقاع الحد على امرأة العجلاني إلا ببينة، لأن في رواية ابن ماجه لهذا الحديث تكملة لا تؤيد ما ذهب إليه الشوكاني فقد جاء في الحديث: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن دخل عليها».
قال الشوكاني في «السيل الجرار» (4/ 291): «إن هذا ليس من باب العلم» ولكن الرواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال قد ظهر من عدة وقائع ذكرها أنها قارفت جرم الزنا، والرسول حين يقول «ظهر» إنما يعني أنه كان في يقينه وعلمه أيا كانت الوسيلة التي تحصل بها هذا العلم، فهو من باب العلم على عكس ما يرى الشوكاني، لأن العلم ليس ما يتحصل بالمشاهدة وإنما يتحصل بها وبغيرها.
ومن جهة ثانية فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: «بغير بينة» لم يخطر بباله أن علمه بينة، فالبينة عنده كما قال فقهاء الإسلام هي الإقرار والشهادة واليمين وعلى ذلك فإن من الواضح أن قواعد الإثبات في الشريعة الإسلامية تتأسس على قاعدة أن قضاء القاضي إنما يعتمد ما طرح عليه من أدلة في مجلس قضائه. وأنه ليس في وارد الإسلام أن يكون للقاضي سلطة الدليل وسلطة الحكم معًا.(5/2326)
وقد استدل بعض المانعين من حكم الحاكم بعلمه بهذا الحديث فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعمل بعلمه بعد وقوع سبب ظني، وهو الإيمان. وهذا من الفساد بأظهر مكان؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحصل له العلم بكذب الإيمان، بل ظن ذلك ظنًا بمجرد إتيان تلك المراة الحالفة بولد يشبه من رماها زوجها به، وهذا السبب غاية ما يستفاد به الظن. ولست أظن أن المستدل بهذا الحديث يدعي أن مجرد القافة تفيد العلم، ولو قال بهذا الركب مالاً يقول به غيره، ولا يوافقه عليه أحدٌ.
وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أبهم هذا الشأن، ولم يفسره فيحتمل أنه التوقف في درء الحد عنها بأيمانها، لأنه قد وج ما يعارض ذلك، مع وجود سبب للحد آخر، وهو أيمان الزوج، ولكنها، لما كانت قد جاءت بسبب درًا الحد عنها، وهو الأيمان، كان ذلك موجبًا للعمل بأيمانها؛ لأنها قد فعلت سببًا شرعيًا، والحدود تدرأ بالشبهات (1)، ولم يحصل علم يقيني بل مجرد حدس قوي بالمشابهة، وفي هذا كفاية لمن له هدايةٌ.
_________
(1) تقدم تخريجه مرارًا.(5/2327)
حرره المجيب محمد الشوكاني في الثلث الأخير من ليلة الجمعة لعله ثاني وعشرين شهر رمضان سنة 1215هـ[8أ].(5/2328)
بحث في العمل بقول المفتي صحّ عندي
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2329)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في العمل بقول المفتي صح عندي).
2 - الموضوع: في أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: الحمد لله، ورد سؤال من سيدي عبد الكريم بن محمد دولة كوكبان الآن عن العمل بقول المفتي: صح عندي، هل على ذلك دليل أم لا؟. فأجبت بما لفظه ...
4 - آخر الرسالة
وقول المفتي: إخبار عن السبب بواسطة الشهادة، أو كمال العدة، وهي لا تكون إلا عن السبب الحقيقي، وهو انقضاء العدة من عند الرؤية المتقدمة. فاعرف هذا والعلم لله وحده.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الأوراق: ورقة واحدة.
7 - المسطرة: الصفحة الأولى: 25 سطرًا.
الصفحة الثانية: 18 سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 8 - 9 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2331)
الحمد لله، ورد سؤال من سيدي عبد الكريم بن محمد دولة كوكبان الآن (1) عن العمل بقول المفتي (2): صح عندي، هل على ذلك دليل أم لا؟
_________
(1) أي في زمان المؤلف رحمة الله.
(2) الفتوى لغة: «أفتاه في الأمر أبانه له، وأفتى الرّجل في المسألة واستفتيته فيها فأفتانيب إفتاه.
يقال: أفتيت فلانًا رؤيا رآها إذا عبَّرتها له، وأفتيته في مسألة إذ أجبته عنها».
يقال: أفتاه في المسألة إذا أجابه، والفتيا والفتوى والفتوى: ما أفتى به الفقيه، الفتح في الفتوى لأهل المدينة.
قال ابن سيده: وإنَّما قضينا على ألف أفتى بالياء لكثرة ف ت ي وقلة ف ت و ...
«لسان العرب» (15/ 147، 148).
وفي تفسير قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} [النساء: 127]. قال ابن عطية «أي يبَّين لكم حكم ما سألتم».
«المحرر الوجيز»
(4/ 267). وقد عرف العلماء المفتي بتعاريف عدة:
قال الشاطبي في «الموافقات» (4/ 244): المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
«إعلام الموقعين» (4/ 224).
وقيل: «هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعًا بالديلل مع حفظه لأكثر الفقه». «صفة الفتوى» (ص44).
هل هناك فرق بين المجتهد والمفتي؟
تقدم تعريف المفتي.
أما المجتهد: قال في «تاج العروس» (2/ 329، 330): «الجهد بالفتح الطاقة والوسع، ويضم.
قال ابن الأثير في «النهاية» (1/ 320): الجهد والجهد ... بالضم الوسع والطاقة وبالفتح: المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة.
- فالاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم، مع استفراغ الوسع فيه.
«المحصول» (2/ 3).
قال الزركشي في «البحر المحيط» (3/ 281) الاجتهاد: بذل الوسع لنيل حكم شرعي بطريق الاستنباط.
قال ابن الهمام: «إن المفتي هو المجتهد وهو الفقيه».
وقال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص547) إن المفتي هو المجتهد ..
ومثله قول من قال: إن المفتي هو الفقيه لأن المراد به المجتهد في مصطلح الأصول ..
- شروط وصفات المفتي: أن يكون مكلفًا مسلمًا، ثقة مأمونًا متنزهًا ممن أسباب الفسق ومسطقات المرؤة، لان من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التَّصرف والاستنباط مستيقظًا. انظر: «صفة الفتوى» (ص13). «أدب المفتي والمستفتي» (ص 85 - 86).
- ثم ينقسم إلى قسمين:
المفتي المستقل: وشرطه أن يكون مع ما ذكرنا قيَّما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل.
أن يكون عالمًا بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن الكريم، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكّن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالمًا بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائلة وتفاريعه المفروع من تمهيدها.
فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل لذي يتأدى به فرض الكفاية، ولن كيون إلا مجتهدًا مستقلًا.
والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتمسك بمذهب واحد.
أنظر: «المستصفى» (2/ 315)، «البرهان» للجويني (2/ 1320، 1332)، «إعلام الموقعين» (4/ 212). «اللمع» (ص127). «أدب المفتي والمستفتي» (ص 85 - 90).
المفتي الذي ليس بمستقل وله أحوال أربعة:
1 - أن لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب، ولا في دليله لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنَّما ينتسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله.
2 - أن يكون في مذهب إمامه مجتهدًا مقيَّدًا فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ومن شأنه أن يكون عالمًا بالفقه، خبيرًا بأصول الفقه عارفًا بأدلّة الأحكام تفصيلًا بمسالك الأقيسة والمعاني».
يتخذ نصوص إمامه أصولًا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع وربما مر به الحكم وقد ذكره إمامه بدليله، فيكتفي بذلك فيه، ولا يبحث هل لذلك الدليل من معارض؟ ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقل.
3 - أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها وبنصرته يصور ويحرر ويرجح ... ولكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإمَّا لكونه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياضهم، وإمّا لكونه غير متبحر في علوم أصول الفقه على أنه لا يخلو مثله من ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدائه على أطراف من قواعد أصول الفقه، وإمَّا لكونه مقصرًا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد والحاصلف لأصحاب الوجوه والطرق.
4 - أن يقوم بحفظ المذهب ونقله، وفهمه واضحات المسائل ومشكلاتها غير ان عنده ضعفًا في قترير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحاب المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم.
انظر تفصيلات ذلك: «الرد على من أخلد إلى الأرض» (ص97)، «تبصرة الحكام» (ص516) «إعلام الموقعين» (4/ 212 - 213)، «الكوكب المنير» (4/ 551 - 560).(5/2335)
فأجبت بما لفظه:
أقول: وجه ذلك أن صدور مثل هذا القول ممن الحاكم أو المفتي الذي يعقل حجج الله - سبحانه -، ويعرف ما تقوم به الحجة على العباد في الصوم والإفطار يدل على أنه قد صح عنده مستندٌ شرعي من المستندات المعتبرة، فكأنه أخبر بوجود ذلك المستند وصحته وكلامه دليلٌ على نفس السبب الشرعي، وإن لم يكن سببًا في نفسه. وبهذا تعرف أنه لا وجه لما وقع من العلامة الجلال- رحمه الله- في ضوء النهار (1) أن ذلك من تقليد المعين (2)، فليس هذا من التقليد في شيء، لأن القول هو قبول رأي الغير لا قبول روايته،
_________
(1) (2/ 415).
(2) تقدم تعريفه.(5/2337)
وهذا من قبول الرواية الكاشفة عن وجود السبب، وليس للمفتي في هذا رأي (1)، لأه استفراغ الوسع في استنباط حكم شرعي. وأين هذا ممن ذاك!؟ فجعله من باب التقليد للمعين (2) وهم لا شك فيه، وهكذا اعتراضه - رحمه الله- بأنه لم يقم دليل على هذا بأنه سبب شرعي، فإن ذلك غير وارد، لأنه لم يقل صاحب الأزهار (3) بأنه سبب، ولا قال
_________
(1) انظر: «أدب المفتي والمستفتي» (ص23).
(2) قال الأمير الصنعاني في «منحة الغفار على ضوء النهار» (2/ 416): قوله: وإنه تقليد لمعين، أقول: فيه إبانة أن المراد بالمفتي في عبارة المصنف المجتهد، وقد صرح ابن بهران بانهالمراد وهو مقتضى الأصول، ولأنه الذي يصح عنده، وأمَّا المقلد فبمعزل عن أن يصح عغنده إذ لا عند له إذ الذي يصح عنده وله هو التابع للدليل، ولأنه مقتضى قول المصنف في المقدمة ويكفي المغرب انتصابه للفتيا في بلد شوكته لإمام حق فإنه جعل ذلك أي الانتصاب للفتاي كاف في معرفة كونه مجتهدًا فأفاد أنه لا يرد بمقت إلا المجتهد فقوله عرف مذهبه أي ما يذهب إليه في اجتهاده إلا أن ههنا بحثًا وهو أن العامل بقوله صح عندي لا يخلو ما أن يكون مجتهدًا، وهو لا يجوز له التقليد فيتعين أن العامل لا يكون مقلدًا والمقلد لا يلزمه معرفة ما يذهب إليه المجتهد، وهو لا يجوز له التقليد فيتعين أن العامل لا يكون مقلدًا والمقلد لا يلزمه معرفة ما يذهب إليه المجتهد، إنما يكفيه مجتهدًا عدلًا لا غير فالموافقة من طرف المقلد غير ملاحظة لعدم الدليل على اشتراطهما وتمثيل الشارح بخبر الواحد إن أراد أن مذهب المستفتي أي ما يذهب إليه من يقلده من المجتهدين في غير هذه المسألة لا يقبل الواحد في الرؤية والقايل صح عندي يقبل الواحد فذلك لا يصح إلا في حق الملتزم لا المقلد للمجتهدين فقد تقدم في شرح المقدمة أنه لا خلاف في جواز تقليد أئمة مختلفين إلاما استثنى هنالك وإذا عرفت أن اتباع قول المفتي تقليد فإنه يحرم على المجتهد العمل به لما سبق من حرمة التقليد على المجتهد، قال ابن بهران ظاهر المذهب أنه لابد أن يقول المفتي صح لي أو صح عندي فأما لو قال رأيت الهلال فإنه لا يجوز أن يعمل بقوله،
وحده قيل وفيه نظر وهو ظاهر اهـ.
ثم قال الأمير الصنعاني: واعلم أن في هذه الأزمنة التي عرفناها تقاصرت الهمم فولي القضاء والقتيا مقلدون منادون على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل الاجتهاد في ورد ولا صدر وصاروا في مسألة الهلال يقولون صح عندي ويفطر الناس بأقوالهم وينقولن في الشهادة مجاهيل غير معروفي العدالة مع عزة شروطها وكوهم مقررين في أنه لا يقبل المجهول في رواية ولا شهادة لأن الأصل الفسق فلا بد من تحقق خلافه ثم يوجهون سهام الملام إلى من توقف على قاعدة الشريعة فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقياس ما ذكرناه يحرم العمل بقول المقلد صح عندي.
(3) الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني وقد تقدمت ترجمته.
قال الأمير الصنعاني في «منحة الغفار» (2/): قال المؤيد لو قال رجل كبير من العلماء قد صح عندي رؤية الهلال يجوز العمل على قوله، قال وهكذا الحاكم وهو أولى من قول المفتي فقيل يحمل الجواز على ظاهره وقيل أراد به الوجوب قال المصنف: الأولى أن يقال أراد بالجواز الصحة بمعنى أن يصح الأخذ بقوله في هذه الصورة وإذا صح وجب.(5/2338)
بذلك غيره، بل هو خبرٌ يدل على وجود السبب الحقيقي، وهو ظهور الهلال (1)، أو كمال (2) العدة، مع أن شهادة الشهود على الرؤية للهلال منهم أو كمال العدة، وتسمية ذلك شهادة في كلام الشارع وكلام الفقهاء إنما هو باعتبار ما يكثر في لسان أهل اللغة (3) والشرع مر إطلاق الخبر على الشهادة، والشهادة على الخبر، بل لم يرد دليل يدل على أن في الشهادة أمرًا زائدًا على الخبر [1ب]، بل هي الخبر (4) من الشاهدين بكذا، سواء
_________
(1) سيأتي تخريج الحديث.
(2) سيأتي تخريج الحديث.
(3) قال الجوهري في «الصحاح» (2/ 494): الشهادة خير قاطع والشاهد حامل الشهادة ومؤديها لأنه مشاهد لما غاب عن غيره قيل هي مأخوذة من الإعلام من قوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18]. أي: علم. وانظر: «لسان العرب» (7/ 223).
(4) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه.
[أخرجه أبو داود رقم (2342) والحاكم (1/ 423) وابن حبان في صحيحه رقم (3447) وغيرهم وهو حديث صحيح].
قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 418): ولأنه خير عن وقت الفريضة فيما طريقة المشاهدة، فقبل من واحد، كالخبر بدخول وقت الصلاة، ولأنه خبر ديني يشترك في المخبر والمخبر، فقبل من واحد عدل، كالرواية.
وأخرج النسائي في «السنن» (4/ 132 رقم 2116) عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا، إلا أن يشهد شاهدان».
قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 419): وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم اهـ وقيل لأنه خروج من العبادة.(5/2339)
قالا نشهد أو اقتصروا على مجرد الخبر، فإن الشاهد الذي شاهد الهلال إذا قال: رأيت الهلال لم يبق ما يقتضي إتيانه بلفظ الشهادة (1)، لا في هذا الذي ورد السؤال عنه، ولا في غيره. وقد يبعد هذا عن ذهن من لم يشتغل حق الاشتغال بعلوم الاجتهاد.
وإذا عرفت هذا، وتقرَّر لك أن السبب الشرعي هو نفس طلوع الهلال، أو كمال العدة كما في قول الصادق المصدوق - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة» (2) فظهور الهلال هو سبب إيجاب الصيام (3)
_________
(1) قال الأمير الصنعاني في «منحة الغفار على ضوء النهار (2/ 417): «قوله: بناء على أنه خبر لا شهدة، أقول: إن كان تعليلاً لقبول العدلتين فالخبر تقبل فيه العدلة ولذا قبلت أخبار أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام فلا وجه لاشتراط الاثنين. وإن كان تعليلاً لقولهم خبر وأنه لم يشترط لفظ الشهادة فلا حاجة إلى اشتراط العدلين لأن الخبر العدل مقبول.
وبالجملة أنه جعل الإعلام بالشهادة خبرًا فلا وجه لاشتراط العدد في ذكر ولا أنثى، وقد أشار إليه الشارح آخرًا وإن كان شهادة فلابد من لفظها عند المصنف، وعدم قبول خبر الاثنين في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر الواحد ما يدل على أنه خبر، وأ/ا حديث النسائي -تقدم-.
وفيه فإن غمّ عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا. وحديث أبي داود «عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننسك لرؤيته فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما وهما دليل اشتراط العدلين فلا يعارض مفهومها العمل بخبر الواحد فإنه أصرح من المفهوم ... ».
(2) أخرجه البخاري رقم (1907) ومسلم رقم (1080) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
وأخرج البخاري رقم (1900) من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له».
(3) السبب: قال الجوهري في «الصحاح» (1/ 145) السبب: ما توصل به إلى غيره، وقال السبب الحبل، وكل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور».
وقال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (ص61 - 62) السبب: هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطًا لوجود حكم أي يستلزم وجوده وبيانه أن الله سبحانه في الزاني مثلًا حكمين أحدهما تكليفي وهو وجود الحد عليه، والثاني وضعي وهو جعل الزاني سببًا لوجوب الحدِّ لأن الزاني لا يوجب الحد بعينه وذاته بل بجعل الشرع. انظر: «الإحكام للآمدي»
(1/ 127). قال الزركشي في «البحر المحيط» (1/ 306) السبب ينقسم إلى ما يتكرر الحكم بتكرره كالدلوك للصلاة، ورؤية الهلال في رمضان لوجوب الصوم وكالنصاب للزكاة.
وما لا يتكرر بتكرره كوجوب معرفة الله عند تكرر الأدلة الدالة على وجوده ووجوب الحج عند تكرر الاستطاعة عند من يجعلها سببًا. -
ولتعلم أن السبب يوجد الحكم عنده لا به وهو الذي يضاف إليه الحكم قال تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الأسراء: 78]. أي إن السبب لا يكون سببًا إلا بجعل الشارع له سببًا، لأنه وضعه علامة على الحكم التكليفي، والتكليف من الله تعالى الذي يكلف المرء بالحكم ويضع السبب الذي يرتبط به الحكم، وهذه الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في وجود الأحكام، بل هي علامة وأمارة لظهورها ووجودها ومعرفة لها عند جمهور العلماء.
انظر: «الكوكب المنير» (1/ 446) و «الموافقات» (1/ 129)، «الإحكام» للآمدي (1/ 128).(5/2340)
ونفس مشاهدته، أو الشهادة عليه، إنما هي خبرٌ عن وجود السبب لا أنها نفس السبب.
فقوله المفتي: صح عندي هو إخبار عن وجود السبب بواسطة من شهد له به بالرؤية، فالشهادة إخبار عن السبب بلا واسطة.
وقول المفتي: إخبار عن السبب بواسطة الشهادة، أو كمال العدة، وهي لا يكون إلا عن السبب الحقيقي، وهو انقضاء العدة من عند الرؤية المتقدمة. فاعرف هذا. والعلم لله وحده.(5/2341)
بحث في الكلام على أمناء الشريعة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2343)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: (بحث في الكلام على أمناء الشريعة).
2 - موضوع الرسالة: في أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين وبعد فإني رأيت بعض الأعلام كثر الله فوائده ونفع بعلومه قد أنكر أن يكون بعث أمناء الحكام لنظر محل الخصومة.
4 - آخر الرسالة: ... قال الله سبحانه: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فقد يذهل العالم عن مدرك من مدارك الشرع، فيأتي بما يخالفه حتى يتذكر، فيعود إلى الصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: 9 صفحات.
8 - المسطرة: الصفحة الأولى والثانية 26 سطرًا.
الصفحة الثالثة: 25 سطرًا.
الصفحة الرابعة: 11 سطرًا.
الصفحة الخامسة: 23 سطرًا.
الصفحة السادسة: 21 سطرًا.
الصفحة السابعة: 25 سطرًا.
الصفحة الثامنة: 22 سطرًا.
الصفحة التاسعة: 23 سطرًا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2345)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وبعد:
فإني قد رأيت بعض الأعلام (1) - كثر الله فوائده، ونفع بعلومه-، قد أنكر أن يكون بعثُ أمناء الحكام لنظر محل خصومة (2)، أو فصل أمر شجر بين خصوم كائنًا ما كان موافقًا للمنهج الشرعي، مطابقًا للمسلك المرضي. وصرح بأنه خلاف الشرع، وخلاف طريقة العدل.
هذا معنى كلامه - متع الله بحياته-، وأسند هذا الكلام الذي هو في قوة المنع بأن ذلك لم يثبت عن الشارع، ولا روي من فعله.
وأقول: هو - حفظه الله- لا يذكر أن هذه الشريعة المطهرة، ليست بمقصورة (3)
_________
(1) في هامش المخطوطة ما ؤنصه: هو سيدي العلامة عبد الله بن محمد الأمير- رحمه الله- وقد أطلعته على هذا البحث.
(2) سيأتي توضيحه.
(3) لذلك تجد دواوين السنة أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبثوثة بين أحاديثه القولية، ولم يفردها من المسندين أحد بالرواية- فيما نعلم- كما لم يفرد الأقوال أحد عن الأفعال.
وأول من اعتنى بجمع الأفعال وإفرادها عن الأقوال هو- ابن العاقولي ولم يكن هذفه من تجميع الأفعال التهيئة لاستفاد الأحكام الفقهية منها، وإنما كان يريد التعريف بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذلك أدمج أوصاف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلقية ونسبه الشريف ونحو ذلك- كتابه «الرصف لما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفعل والوصف» وجاء بعد ذلك السيوطي، فأفرد الأفعال عن الأقوال، ولم يكن الذي دعاه إلى هذا أمرًا يتعلق بالاحتجاج بها، وإنما كان هدفًا صرفًا.
انظر: «مقدمة السيوطي» الجامع الكبير.
- ترجع أولية فصل الفعال النبوية عن الأقوال إلى القرن الرابع. والله أعلم.
وقيل أن البيان بالفعل أحد أنواع البيان، فيمكن استعماله حيث أفاد المطلوب وواصح عقلًا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان واسطة لتبيلغ الشريعة وبيانها، فإنه يبين بالطريقة التي يختارها، فإما أن يبين المشكل بأقواله أو بأفعاله، فلما صح البيان بالأقوال لكونها دليلًا على المطلوب فكذلك يصح البيان بالأفعال حيث تدل على المطلوب.
فما أفاد فيه البيان بالأقوال والأفعال، أجزأ بكل منهما ويكون ذلك واجبًا مخيرًا، أي الخصلتين فعل فقج أدى ما وجب عليه، وهذا مذهب أكثر العلماء وقد قيده عبد الجبار بأن لا يختص أحدهما في كونه مصلحة بما ليس في الآخر، وهو معنى ما تقدن من اشتراط الفائدة.
انظر: «المغني» (17/ 250).
قال ابن تيمية في «مجموع فتاوى» (8/ 11 - 12): كل ما قاله بعد النبوة واقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع، ثم قال: « ... والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع»
وانظر: «الواضح في أصول الفقه»: في المرتبة الثانية من أدلة الأحكام الشرعية وهي السنة: وهي ثلاث مراتب:
فالأولى منها: القول، وهو منقسم إلى قسمين: مبتدأ، وخارج على سبب.
فالأول: المبتدأ، وهو منقسم قسمين: ص، وظاهر، ومن جملة الظاهر: العموم.
فأما النص: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «في الرقة ربع العشر»، «فيما سقت السماء العشر».
وحكم ذلك: إيجاب تلقيه باعتقاد وحوبه والعمل به، ولا يترك إلا بنص يعارضه، ونسخ يرفع حكمه.
والظاهر: كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسماء في دم الحيض: «حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء»، يحمل على الوجوب، ولا يصرف إلى الاستحباب إلا بدليل.
والعموم: كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس في المال حق سوى الزكاة»، «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامة» فيعم سائر الحقوق إلا ما خصه الدليل من الغرامات والكفارات والديات.
القسم الثاني: وهو الخارج على سبب فمنقسم إلى قسمين:
مستقل دون السبب: كما روي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما قيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي تطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس، قال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه».
فحكم هذا في استقلاله بنفسه المبتدأ، وقد سبق بيانه وانقسامه.
القسم الثاني: من الخارج على السبب: ما لا يستقل دون السبب مثل ما روي عن السائل عن لطم أمته الراعية، حيث اكل الذئب شاة من غنمه، وأنه أخذه ما يأخذ الرجل على تلف ماله: وما روي أن أعرابيًا قال له: جامعت امرأتي في نهار رمضان فقال لكل واحد منها: «اعتق رقبة» فيصير قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع سؤال السائل كالقول الواحد، فتقديره: اعتق رقبة إذا لطمت أمتك، واعتق رقبة إذا جامعت في نهار رمضان زوجتك.
وانظر: «الإحكام» (2/ 347)، «نهاية السول» (2/ 476 - 480).(5/2349)
على مجرد الأفعال، بل هي ثابتة بالأقوال أكثر منها بالأفعال، وبالمعلومات أكثر منها بالخصومات.
وهذا أمر لا ينكره أحد، ولا تتخالج عارفًا فيه شبهة. وقد أمر الله- سبحانه- في كتابه العزيز بالحكم بالعدل (1)، وبما أنزل الله (2)، وبما أراه رسله من الحق (3). ثم خاطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (4) الآية.
ثم كانت الخصومات ترفع إلى الرسول- صلى الله عليه وىله وسلم-، فيقتضي فيها كما قصة المترافعين إليه في المواريث (5) بينهما فدرست (6)، وكما في قصة خصومة الزبير في السقي (7) وكما في كثير من الواقعات في الأموال (8)
_________
(1) قال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعد .. } [النساء: 58].
(2) قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أعواءهم} [المائدة: 49].
(3) قال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله .. } [النساء: 105].
(4) [النساء: 65].
(5) انظر «فتح الباري» (3/ 56).
(6) هكذا في المخطوط ولعلها فورثت.
(7) أخرجه البخاري رقم (2359، 2360، 2361، 2362، 2708، 4585).
ومسلم في صحيحه (129/ 2357).
(8) انظر «كتاب الأموال» لأبي عبيد.(5/2351)
والحدود (1)، واللعان (2)، والطلاق (3)، والعتاق (4)، وما لا يأتي عليه الحصر.
فالحاصل أم ما شرعه الله- سبحانه- في كتابه العزيز، وما ثبت عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مما يبين به للناس ما نزر إليهم إما هو شريعة ثابتة مستمرة (5)
_________
(1) انظر: «المغني» (14/ 308) وما بعدها.
(2) انظر: «فتح الباري» (9/ 361) و (9/ 456).
(3) انظر: «فتح الباري» (8/ 519).
(4) انظر: «فتح الباري» (5/ 146).
(5) إن النصوص في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعًا مطلقًا في كل ما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن من لم يرض بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمنًا، وأنها تدل بعموماتها وإطلاقًا على امرين هامين: أنها تعم كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة، وذلك صريح في قوله تعالى {وأوحى إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19].
أي أوحى الله إلى هذا القرآن الذي تلوته عليكم لأجل أن أنذركم به وأنذر به من بلغ إليه: أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجودًا وقت النزول.
انظر: «فتح القدير» (2/ 105).
وقال تعالى: {وما ارسلنك 'لا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا} [سبأ: 28]. أي أن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلائق من المكلفين، كقوله تعالى: {قل بأيها الناس إني رسول الله إلأيكم جميعًا} [الأعراف: 158].
وأخرج مسلم في «صحيحه» رقم (154) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به غلا كان من أصحاب النار».
وانظر «زاد المسير» (6/ 456).
وقال ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (1/ 69 - 99): إن الله جعل محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم أنبيائه ورسله وجعل شريعته الشريعة الخاتمة وكلف الناس بالإيمان به، واتباع شريعته إلى يوم القيامة ونسخ كل شريعة تخالفها، فمما تقضيه إقامة حجة الله على خلقه، أن يبقى دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحفظ شرعه، إذ من المحال أن يكلف الله عباده بأن يتبعوا معرضة للزوال أو الضياع، ومعلوم أن المرجعين الأساسيين للشريعة الإسلامية هما القرآن والسنة.(5/2352)
لعباده إلى قيام الساعة، أو هو خاص بزمن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والثاني باطل بإجماع المسلمين واولهم وآخرهم، ومستلزم لما هو باطل بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم، إذ الكل متفقون على بقاء هذه الشريعة، وعلى أنها لم ترفع بموت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأن السلف [1 أ] والخلف إلى قيام الساعة متعبدون بأحكامها، مكلفون بتكاليفها، ولم يسمع عن فرد من افراد المسلمين بما يخالف هذا بوجه من الوجوه، هذا هو البحث الول من مباحث كلامنا هنا.
(البحث الثاني): أنه لم يقل أحد من المسلمين أجمعين منذ البعثة إلى الآن أن هذه الشريعة المطهرة، لا تثبت إلا بالأفعال خاصة دون الأقوال. بل الأكام الثابتة بالأفعال المجردة عن الأقوال (1)، هي أقل قليل بالنسبة إلى الأقوال.
(البحث الثالث): أن هذه الشريعة المطهرة أكثرها ثابت بالعمومات الشاملة (2)، فإن أركان الإسلام لم تثبت إلا بمثل قوله- سبحانه-: {وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة} (3)، {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (4)، {ولله على الناس حج البيت} (5)
_________
(1) انظر: «بداية الرسالة».
(2) انظر: تفصيل في «البحر المحيط» (2/ 134)، «المحصول» (2/ 363)، «إرشاد الفحول» (ص 419 - 425).
(3) [المزمل: 20].
وقوله تعالى: {وأقيموا، وآتوا} من صيغ العموم وهو الأمر بصيغة الجمع
(4) [البقرة: 185].
أيضًا من من صيغ العموم وانظر تفصيل ذلك «تيسير التحرير» (1/ 224)، «البحر المحيط» (3/ 64 - 65).
(5) [آل عمران: 97].
فائدة: العموم في اللغة: شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظًا أو غيره، ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم.
«لسان العرب» (9/ 483)، «المصباح المنير» (ص 163).
والعموم في الإصلاح: «هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعه. كقوله الرجال، فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا تدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم، ولا التثنية ولا الجمع لأن لفظ رجل ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفغيدان الاستغراق، وى ألفاظ العدد، كقولنا خمسة لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه، وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك والذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا.
وذهب الجمهور إلى أن العموم له صيغة موضوعة له حقيقة، وهي أسماء الشرط والاستفهام والموصولات والجموع المعرفة الجنس والمضافة واسن الجنس والنكرة المنفية والمفرد المحلى باللام ولفظ كل وجميع .. ».
النظر: «المحصول» (2/ 309)، «المسودة» (89 - 100)، «البحر المحيط» (3/ 7)، «إرشاد الفحول» (ص 391 - 398).(5/2353)
(البحث الرابع): أنه لم يقل قائل من المسلمين أجمعين: أن أقواله وأفعاله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مختصة، بأعيان الأسباب التي وقعت لأجلها (1)، لا تتجاوزها غلى أمثالها، ولا يصح الاحتجاج بها على غيرها. ولو قال قائل بذلك ارتفاع أكثر الشريعة، وعدم التعبد بغالب القرآن والسنة، لأنهما في الغالب، وأردان على أسباب خاصة. فلو قبل بقصر ما ورد فيهما عليها لزم أنه لا يحتج بها إلا في تلك المكنة، والأزمنة، وعلى أولئك الأشخاص الذين لهم تلك الأحوال. وهذا باطل من القول بلا خلاف.
_________
(1) أفعال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث الجملة، حجة على العباد، إذ هي دليل شرعي يدل على أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين.
وقالوا: «لا خلاف بين أهل العلم أنه يرجع غلى أفعاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثبوت الأحخكام للفعال الشرعية، كما يرجع إلى اقواله، وذلك كله عندهم واحد في هذا الباب».
انظر: «المتعمد» (1/ 377)، «الإحكام» للآمدي (1/ 265)، «تيسير التحرير» (3/ 120).(5/2354)
(البحث الخامس): أنه قد ثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعث أصحابه- رضي الله عنهم- إلى الأقطار لتعليم الشرائع (1)، وقبض الزكوات (2). وذلك ظاهر مكشوف، لا يخالف فيه من يعرف الشريعة، بل بعث رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من اصحابه من بعثه للإصلاح بين المسلمين. كما ثبت عنه أنه بعث عليًا رضي الله عنه في قصة خالد مه بني جذيمة (3)، وفي قصته مع مالك بن نويرة (4). بل خرج- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بنفسه الشريفة للإصلاح بين بني عمرو بن عوف (5)، بل بعث خادمة أنيسًا (6) رضي الله عنه في أمر عظيم فقال: واغد يا أنيس على امرأة
_________
(1) انظر: «السيرة النبوية» (2/ 83 - 86) العقبة الأولى ومصعب بن عمير.
قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين ..
(2) أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (1458)، ومسلم رقم (29/ 19) عن ابن عباس أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: إنك تقدم على اقوام أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم الزكاة في اموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم، فإذا اطاعوك فخذ منهم وتروق كرائمم أموال الناس.
وانظر: «القصة كاملة في السير النبوية» (4/ 100 - 104).
(3) أخرجه البخاري في «صحيحه» رقم (4339، 7189) وقد تقدم.
(4) مالك بن نويرة التميمي كان شاعرًا فارسًا معدودًا في فرسان بني يربوع في الجاهلة. أسلم هو وأخروه متمم بن نويرة الشاعر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استعمله على صدقات قومه.
انظر: «الإصابة» (5/ 560) رقم (7711)، «تهذيب الكمال» (3/ 1301)، «الكاشف» (3/ 117).
(5) انظر التعليقة الآتية.
(6) في هامش المخطوط: هذا المرسل هو أنيس بن الضحاك الأسلمي رجل من أسلم، كما جاء كما جاء مصرحًا بذلك في بعض الروايات الصحيحة وليس انس بن مالك خادم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنه لم يكن بعثه ولا غيره بأجرة فما الدليل وإلا فلتكن ... الموضوع للمصالح العامة.
وانظر «الإصابة» رقم (290) و «الاستيعاب» رقم (95).(5/2355)
هذا [1 ب] فإن اعترفت بالزنا فارجمها (1). وكذلك بعث عليًا رضي الله عنه لقتل الرجل الذي كان يدخل على أمهات المؤمنين، فوجده مجبوبًا (2) فتركه. ونحو هذه الوقائع كثير.
فإن قال قائل: إنه لا يجوز بعث أمناء الشريعة إلا في هذه الأمور بخصوصها، قلنا له: إن كان هذا لمزيد خصوصية لها الشريعة، فما هذه الخصوصية؟ وإن كان لكونها ثابتة بالشريعة، فكيف لا يجوز بعث الأمناء لكل أمر من الأمور الثايتة في الشبريعة!؟ فإن الشفعة ثابتة في هذه الشريعة (3)، وكذلك الإجارو (4)، والشركة (5)، وسقي الأعلى، فالأعلى، ومقدار ما يحل من السقي للأول حتى يرسله إلى من بعده (6).
فإن قال: إن هذه الأمور، يمكن للقاضي أن يقضي فيها، وهو في مكان حكمه، وداخل بيته.
قلنا: إن كان الأمر هكذا، فنحن نخالفك، ولكن محل النزاع، إذا كان محل الخصومة في بلاد قوم، لا يعرفون المسالك الشرعية ولا يعقلونها، فإن فوض القاضي
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحيه رقم (2695، 2696)، ومسلم رقم (25/ 1697، 1698).
(2) تقدم في الرسالة السابقة.
(3) منها حديث جابر الذي أخرجه البخاري رقم (2257): أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا ةقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
(4) قال تعالى: {قالت إحداهما يأبت استئجره إن خير من ؤاستئجرت القوي الأمين} [القصص: 26].
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2262) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم فقال أصحابه: وأنت: قال نعم: كنت ارعاها على قراريط لأهل مكة».
(5) منها الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (2497، 2498)، ومسلم رقم (1589) عن أبي المنهال: «أن زيد بن الأرقم والبراء بن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فامرهما أن ما كان يدًا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه».
(6) تقدم من حديث عبد اله بن الزبير(5/2356)
الأمر إليهم حكموا بالطاغوت، وإن شهادتهم وأخبارهم فهم لا يعرفون المسالك الشرعية، وكيف يعرفون أن هذا أحق بالشفعة من هذا، وهذا قد تعدى على خصمه فيما هو مشترك بينهما من دار، أو أرض. وهذا أقدم بالسقي من هذا، وهذا أمسك الماء زيادة على ما جعله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الزبير.
وهذا معلوم، لا ينكره أحد. ومثل هذا إذا حضر بين يدي القاضي ورثة، وقالوا ابعث بيننا من يقسم ما تركه مورثنا على الفرائض الشرعية من دور وأراض، فكيف يصنع القاضي في مثل هذا؟! هل يفوض الأمر إلى عريف من عرفاء القرية، فيكون قد قضى بينهم بالطاغوت البحت؟.
أن يقول لهم هذه أراضيكم ودوركن، احملوها إلي، وآتوني بها حتى أقسمها بينكم، فيكون قد جاء بما يخالف الشرع والعقل [2 أ]، بل بما شعبة من الجنون؟! وهكذا لو قال للمختصين في شفعة أو شركة: احملوا هذا الذي تخاصمتم فيه إلي، فإنه قد أمرهم بما يحكمون عليه به بالجنون.
وإن قال: قد فوضت ذلك إلى العريف الفلاني من عرفاء القرية، كان قد أمرهم بالحكم بالطاغوت المحض.
فكيف يصنع هذا القاضي المسكين؟! أيطردهم من عنده؟ أم يقول لهم قد انسد في مثل حادثتكم هذه باب الشرع، ولا أجد لكم فرجًا، ولا مخرجًا في الشريعة السمحة السهلة، فاذهبوا حتى يبعث الله في قريتكم عالمًا فاضلاً يقسم بينكم، ويقضي في أموركم من شفعة وشركة، وإجارة وغير ذلك؟!!.
وكيف يسوغ مثل هذا في دين الله؟! وهل يقول به قائل من المسلمين [2 ب]؟ فإن قال: إن البعث للأمناء لمثل هذه الأمور التي ذكرناها جائز (1)، وأنها
_________
(1) يجوز للقاضي اتخاذ الأعوان مع الحاجة لما ثبت في البخاري رقم (7155) من حديث أنس: «أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة صاحب الشرطة للأمير». وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم.
وعليه أن يوصي الوكلاء والأعوان على بابه بتقوى الله تعالى، والرفق بالخصوم، وقلة لطمع ويجتهد أن لا يكونوا إلا شيخًا أو كهولاً من أهل الدين والصيانة والعفة.
انظر المغني (14/ 24) وتبصرة الحكام (1/ 25).(5/2357)
أمور شرعية كتلك الأمور (1)، ولكن هؤلاء يطلبون أجرة .................................
_________
(1) يحتاج القاضي في وظيفته القضائية إلى أعان يعينونه على تمشية أعمال القضاء، وهؤلاء هم الموظفون والمستخدمون في دائرة لقاضي كما يحتاج القاضي إلى من يستشيرهم من أهل العلم والفقه في القضايا التي تعرض عليه والأحكام الشرعية المناسبة لها، فمن هؤلاء الأعوان ....
أولاً: جماعة من أهل العلم والفضل. يشاورهم فيما يعرض عليه من قضايا وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة، وهذه المشاورة مطلوبة من القاضي وإن كان عالمًا.
وهذا النهج جرى عليه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من القضاة، فقد كان سعيد بن إبراهيم قاضي المدينة يجلس بين القاسم وسالم، وهما من فقهاء المدينة يشاورهما. ولغرض من المشاورة تنبيه القاضي إلى ما قد عسى أن يكون قد فاته أو نسيه مما له تعلق بالدعوى أو مؤثر في الحكم مع بيان رأيهم في الحكم المناسب، وقد اشترطوا فيهم أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة حتى يمكنهم الدلالة على الحكم الشرعي للقضية.
ثانيًا: أعوان القاضي منهم:
1) الكاتب: وهو الذي يكتب بين يدي القاضي حسب ما يملي عليه القاضي. وقد قال الفقهاء عن هذا الكاتب أن بكون عدلاً على قدر كاف من الفقه والدراية.
2) الحاجب: وهو الذي يقدم الخصوم إلى القاضي ليقضي في خصومتهم بحسب أسبقيتهم في الحضور
. 3) البواب: ومن وظيفته إعلام الناس بوقت جلوس القاضي للحكم وإعلامهم بوقت راحته، ولإخبار القاضي بمن يريد الدخول عليه.
4) المترجم: ويتخذ القاضي مترجمًا عدلاً أو مترجمين اثنين أو أكثر عدولاً على اختلاف بين الفقهاء في العدد المطلوب ...
5) الجلواز: هو الذي يقوم على رأس القاضي ويقيم الخصوم إذا انتهت الخصومة ليخرجوا من مجلس القضاء.
6)
الشهود: وهؤلاء يحضرهم القاضي وجوبًا ليشهدوا على الإقرارات التي تصدر من الخصوم ويحفظونها.
7) الآجرياء: ووظيفتهم إحضار الخصوم إلى مجلس القضاء إذا استعدى عليهم أصحاب الحقوق، وينبغي أن يكونوا من ذوي الدين ولأمانة والبعد عن الطمع.
8) المزكون: وهؤلاء رجال عدول يختارهم القاضي دون علم الناس لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم.
9) المؤدبون: وهؤلاء نفر من الرجال الأكفاء يكونون في مجلس القضاء ليزجروا من ينبغي زجره من المتخاصمين أو من غيرهم إذا أساءوا الأدب في مجلس القضاء، ولهم الحق في إخراجهم من المجلس إذا لم يكفوا عن إساءتهم.
10) أهل الخبرة: وهؤلاء يختارهم القاضي من أهل العدالة والأمانة والخبرة في الأمور التي تدخل في أعمال القضاء وتحتاج إلى خبرة معينة مثل تقويم الأشياء وإجراء قسمة العقار والمنقول.
11) صاحب السجن: من واجباته أن يرفع إلى القاضي كل يوم أحوال المحبوسين وما يجري في السجن، حتى يزيل الظلم ويطلق من لا يستحق البقاء في السجن.
من يختار أعوان القاضي:
الصنف الأول: يختارهم القاضي بنفسه، مثل أهل العلم والفقه الذين يستشيرهم القاضي في أمور الدعوى، والمزكون الذين يزكون الشهود لدى القاضي بعد أن يسألوا عنهم، والشهود الذين يشهدون على أقارير الخصوم في مجلس القضاء. والمترجم الذي يترجم له أقوال الخصوم والشهود الذين لا يعرف القاضي لغتهم.
الصنف الثاني: تعينهم الدولة عن طريق من له حق التعيين كالوزير ولأمير أو من يقوضه الخليفة أمر تعيينهم، وهؤلاء هم الكاتب، والحاجب والبواب، والجلواز، والآجرياء، وصاحب السجن، والمؤدبون.
انظر: «أدب القاضي» للماوردي (1/ 261 - 265)، «تبصرة الحكام» (1/ 37)، «روضة القضاة وطريق النجاة» للسمناني (ص132)، «أدب القاضي» لابن أبي الدم (ص 59 - 65).(5/2358)
عملهم (1)،ويأخذونها من ........................................
_________
(1) ورزق أعوان القاضي الذين تعينهم الدولة يكون من بيت المال، أما ما يختارهم القاضي كأهل العلم الذين يستشيرهم في الدعاوى التي ينظرها، وكالمزكين الذين يختارهم لتزكية الشهود بعد السؤال عنهم، وكالشهود الذين يحضره القاضي لسماع أقارير الخصوم في مجلس القضاء. وأرى تخصيص مكافآت أو مرتبات شهرية لهؤلاء من بيت المال على حسب ما يراه ولي الأمر من وجوه المصلحة ...
انظر: «تبصرة الحكام» (1/ 37)، «روضة القضاة» (ص 132).(5/2359)
الخصومة (1).
منها الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2270) من حديث أبي هريرة قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفي منه ولم يعطه أجره».%، والتأكيد من ذلك، والتحذير من التقصير في شأنه.
وما الفرق بين هؤلاء، وبين من يؤجر نفسه في حرث الأرض، أو في رفع الأبنية أو إصلاح الطرقات، وحفر الأنهار ونحو ذلك مما لا يحصى؟. وكيف ينكر عل هؤلاء الأمناء، ما كسبوه من أجرهم التي عرقت لأجلها جباههم، وفارقوا أوطانهم، وقطعوا المفاوز، ونزلوا في أرض الجفاء بين البدوان أهل الجفاء والغلظة، والفظاظة، واستعفوا بذلك في أمر معاشهم، وقطعوا فيه غال أوقاتهم، فكيف يحسن من متدين أن يثلب أعراضهم، ويهتك أسترهم، ويقول: إنهم كانوا فقراء فصاروا أغنياء، وهو يعلم أن من عمل كعملهم، بل بعض عملهم من المنبثين في الأسواق القاعدين في دكاكينهم، قد نال من كسبه أضعاف أضعاف ما نالوا، مع أنه لم يتعب كتعبهم، ولا أجهد نفسه كما
_________
(1) قال الفقيه السمناني في روضة القضاة (1/ 132) ويتكلم عن بواب القاضي، ورزقه: «ويكون رزقه من بيت مال المسلمين بحسب كفايته، وذلك سائر أعوان القاضي حتى لا يأخذ مالاً يجب أخذه وهم كالقاضي في ذلك لأنهم في مصالح المسلمين، فكما لا يجوز للقاضي أن يأخذ من أحد الخصوم شيئًا فكذلك أعوانه.%.
فأقول: إذا أخذوا ما يستحقون من الأجرة، فأي مانع لهم من ذلك؟ وهل قد ضاقت الشريعة عن أجرة مثل هؤلاء؟ أم أوجب الشارع عليهم أن يقطعوا المفاوز، ويستغرقوا أيامهم، ولياليهم بدون أجرة؟ وحاشا الشريعة المطهرة، أن تقضي بهذا أو توجته على أحد من عباد الله، بل الذي في الشريعة المطهرة الأمر بإعطاء الأجير أجره(5/2360)
أجهدوا أنفسهم.
فما هو الموجب للرسل على هؤلاء الأمناء، مع كون لهم مزية العلم ونشره [3 أ] والاشتغال به، بل غالب من يباشر هذه الأعمال منهم علماء مبرزون قد جمع الله لهم بين علوم الاجتهاد، وصاروا رؤساء في علم الكتاب والسنة بحيث أنه لا يوجد من يقاربهم فلاً عمن يشابههم، في أمناء الشريعة الذين كانوا مع من قبلنا، فإن غالبهم ملتحقون بالعامة. والنادر منهم، يعرف بعض مسائل الخصومة، خبطًا وجزافًا. وقد نالوا من المكاسب أضعاف ما ناله هؤلاء. وكانوا يأخذون على الأعمال، فوق ما يأخذه هؤلاء بكثير.
وهذا يعرفه كل منصف. ومع هذا فما ترسل عليهم أحد من العلماء المعاصرين لهم ولا من العلماء الموجودين الآن الذين أدركوهم.
فياليت شعري ما هو المخصص لهؤلاء المساكين، حتى صار تعلقهم بمثل هذه الأعمال الشرعية منكرًا، ولم بكتف بذلك حتى عيرو بما كانوا عليه من الفقر والحاجة التي خلصهم الله منها بمزيد سعيهم، وكثير تعبهم!!!.
فإن كانت تلك المزية التي امتازوا بها على غيرهم. وهي كونهم من نبلاء العلم وفحول رجاله، قد صارت عليهم مزرية، وانقلبت مطعنة، فالأمر لله العلي الكبير.
فإن قال قائل: إنه لا ينكر جوز دخولهم في مثل هذه المكاسب، ولا مانع لهم عن ذلك من شرع ولا عقل، ولكنهم يأخذون من الأجرة فوق ما يستحقونه [3 ب] فأقول:
قد كان ينبغي ترك هذا التطويل والتهويل، وإنكار كون هذا المكسب مما يسوغ في الشرع، ويقال هؤلاء يأخذون فوق ما يستحقونه من الأجرة وحينئذ نقول: هاتوا من يشكو منهم بمثل هذه الشكاية، ويدعي عليهم مثل المظلمة، حتى نجمع بينه وبينهم في موقف الخصومة، ونأخذ الحق منه ونعاقبه بما يردع من يفعل مثل فعله.
ولست ممن يذهب إلى ما كان يذهب إليه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-، من أنه لا يقيد(5/2361)
من وزعته، ولا يقبل الطعن في أعوانه، مستدلاً على ذلك، بأنه قد لا يتم المضي في الحق، إلا ببعض الشدة في الأمر، وأن غالب الطباع قد ضربت بالنقم على من يلي أمور المسلمين، وسرى النقم عليهم إلى النقم على أعوانهم، وقد يكون غالب ذلك باطلاً.
وبهذا السبب أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه في أيام عثما- رضي الله عنه- (1) تقدم تخريجه مرارًا.%، قد كانوا يعملون لرسول الله على الصدقات ونحوها، ويجعل لهم عمالة يعيشون بها، ويتصدقون بما فضل منها، كما ثبت ذلك في الصحيح. بل ثبت في الأحاديث الصحيحة (2) أخرجه أبو داود في سننه رقم (1588) بسند ضعيف.
من حديث جابر بن عتيك مرفوعًا بلفظ: «سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم».%.
_________
(1) انظر السيرة النبوية (1/ 244 - 149).%. فإن قال قائل: في الناس من يعمل مثل عمل هؤلاء بغير مؤنة، ولا تكليف الخصوم الأجرة. فأقول: جزى الله خير الجزاء من أهدى إلينا مثل هؤلاء الرجال، إن وجدوا في هذا العالم الإنساني. وهيهات؛ فإن الصحابة الذين هم خير القرون
(2) أخرج البخاري في صحيحه رقم (7052) ومسلم رقم (45/ 1843) من حديث ابن مسعود «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: تودون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم».
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1846) والترمذي رقم (2199) من حديث وائل بن حجر قال: «سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجل يسأله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألونا حقهم؟ فقال اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم».%، أن أهل الأموال، كانوا يشكون إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من ظلم المصدقين، فيأمرهم رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بأن يصيروا على ظلمهم. ويقول [4 أ]: أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم. وكان يأمرهم أن لا يرجع المصدقون إلا وهم راضون، وأن يكرموهم، إذا نزلوا عليهم(5/2362)
فإن كان هذا الظلم الذي شكوه إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حقًّا، فكيف يطمع الآن في ناس، لا يشكون ممن ولي شيئًا من أمورهم؟. وإن كان هذا الظلم الذي شكوه باطلاً، فكيف لا يجوز صدور مثله، من مثل أهل زماننا، ونحمل المشكو منهم على السلامة، ونقول للشاكي: أنت لا تقبل على خصمك كما ورد بذلك الشرع، فكيف تقبل على من ولي الحكم بينك وبينه؟. وأقل الأحوال، أن لا نبني علي ما يقوله الخصم في الحكم عليه مشيدات القناطر، ونرتب عليه عظيمات الفواقر، بل نبحث عن الحقيقة ونتبين الأمر كما أمرنا الله- سبحانه- بذلك في كتابه العزيز (1) أخرجه أبو داود في السنن رقم (1641) والترمذي رقم (1218) والنسائي (7/ 259) من حديث أنس. وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري رقم (1470) عن الزبير بن العوام رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأن يأخذ أحدكم أحبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها فيكف بها وجهه، خير من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه».
وأخرجه البخاري رقم (1470) ومسلم رقم (1042) ومالك في الموطأ (2/ 998) والترمذي رقم (680) والنسائي (5/ 93) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه، أو يمنعه».%. بل قد كان الصادق المصدوق- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].%.
ثم اعلم أن الطعن على من سعى في مكسب حلال، يعفه عن الحاجة إلى الناس، ويعود عليه، وعلى من يعول بفائدة لم يقع أحد من سلف هذه الأمة ولا من خلفها، وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- يسعون في المكاسب على اختلاف أنواعها، ما سمع من رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، أنه أنكر على أحد منهم، بل كان يرغبهم في ذلك، حتى أمر من لا كسب له أن يأتي ببعض ملبوسه، واشترى له بذلك فأسًا، وأمره أن يذهب فيحتطب(5/2363)
[4 ب] يذهب قبل البعثة بتجارة خديجة- رضي الله عنها- إلى الأقطار الشامية (1) تقدم ذكر ذلك.%.
وقد كان في النواب، والشهود جماعة من أكابر العلماء المصنفين، ومن رجال الرواية الحفاظ المتقنين. وهذا يعرفه كل من له خبرة بأحوال الناس. ومن شك في هذا، فليطالع كتاب تاريخ الإسلام (2) «سير أعلام النبلاء» للذهبي. مطبوع بـ / 28/ مجلدًا بمؤسسة الرسالة- بيروت.%، بل الكتب التي هو موضوعة لأخص من هؤلاء، كالمصنفات المشتملة على تراجم رواة الأمهات الست (3) [الذاريات: 55].% فقد يذهل العالم عن مدرك من
_________
(1) انظر السيرة النبوية (1/ 244 - 245).%.
ثم الاعتياش بمثل هذا المعاش كائن في جميع الأعصار الإسلامية، مع جميع قضاة الإسلام، فقد كانوا ينتخبون النواب، ويرسلونهم إلى أطراف ولا يتهم، ويستكثرون منهم ويزيدون على اتخاذ النواب أهل منصب آخر يسمونهم الشهود.
(2) للذهبي (49) مجلدًا.%، أو كتاب النبلاء.
(3) كتهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني والكاشف للذهبي.%، وهذا أمر ظاهر مكشوف. وما سمعنا إلى الآن مترسلا من الناس ترسل على أحد من هؤلاء، أو أنكر تكسبهم بمثل هذا المكسب.
فما هو الوجه الذي اقتضى الإنكار على هؤلاء، وتعييرهم بما كانوا عليه من الفقر، واستعظام ما صاروا فيه من ستر الحال، وجعل ذلك مطعنًا بل مدركًا يستفاد منه خيانتهم.
وفي هذا المقدار كفاية، فليس المراد منه إلا مجرد التذكير. قال- سبحانه-: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(5/2364)
مدارك الشرع، فيأتي بما يخافه حتى يتذكره، فيعود إلى الصواب.
وحسبنا الله ونعم الوكيل [5 أ].(5/2365)
بَحْثٌ في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(5/2367)
وصف المخطوط:
1 - عنوان الرسالة: (بحث في كون الأمر بالشيء نهي عن ضده).
2 - موضوع الرسالة: أصول الفقه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن نهى عباده بالأوامر، وأمر بنهيه أن يعمل لضده المتسرع القادر. وشكرًا لمن أبدع إتقان المخلوقات ...
4 - آخر الرسالة:
فإن تقرر هذا علم السائل أدام الله فوائده أنه لا دلالة في الآيتين على المسألة الأصولية التي هي محل النزاع من تدبر لم يخف عليه ذلك والله أعلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد. السؤال بخط السائل، والجواب بخط المؤلف.
6 - عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: (1) - (19) سطرًا.
عدد الأسطر في الصفحة: (2) - (23) سطرًا.
عدد الأسطر في الصفحة: (3) - (25) سطرًا.
عدد الأسطر في الصفحة: (4) - (22) سطرًا.
عدد الأسطر في الصفحة: (5) - (17) سطرًا.
عدد الأسطر في الصفحة: (6) - (18) سطرًا.
عدد الأسطر في الصفحة: (7) - (5) سطرًا.
8 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(5/2369)
[نص السؤال]
بسم الله الرحمن الرحيم. حمدًا لمن نهى عباده بالأوامر، وأمر بنهيه أن يعمل بضده المتسرع القادر. وشكرًا لمن أبدع إتقان المخلوقات ونصبها للعقول أدلة تغني عن التدقيقات، وصلاة وسلامًا على كاسر شوكة الجهالة، القامع بنواهيه محكمي البطالة والضلالة، وعلى آله السالكين طريقه، وصحابته الشاربين من معين الحقيقة:
وإنه دار بيني وأنا الفقير إلى الله لطف الله بن أحمد بن لطف الله (1)، وبين الوارد العلامة نبراس التحقيق، محذم (2) المشكلات والتدقيق، شرف الإسلام، أوحد العلماء الأعلام الحسن بن علي بن نعلي حنش (3) - وحصلت المناظرة لدى بعض الأعلام دامت فوئداه-، ومدت على الطلاب موائده، مذاكرة بديعة، ومناظرة يهتدي بها في مدارج الشريعة. وذلك فيما قرر لبعض الأصوليين مذهبًا وترجح عند أكثر متأخريهم بالحجة التي لم يجد عنها المنازع مهربًا، وهو قولهم: الأمر بالشيء نهى عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده. والكلام مبسوط في المطولات من كتب الفن (4) فيؤخذ منها.
والذي ظهر في حال المراجعة أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، وهذا في إفراد الأوامر (5)، والنواهي، وهي كل ما له ضد جزئي لا الضد العام كما عرف، وسيأتي في
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) حذم والحذم: القطع الوحي وقيل حذمه يحذمه حذمًا: قطعه قطعًا وحيًّا.
«لسان العرب» (3/ 96).
(3) تقدمت ترجمته.
(4) منها: «الإحكام للآمدي» (2/ 130)، «الكوكب المنير» (3/ 8 وما بعدها).
«التبصرة» (ص 17)، «تيسير التحرير» (1/ 333 وما بعدها).
«اللمع» (ص 7)، «المستصفى» (1/ 411).
(5) ولأهمية الأمر والنهي في الشريعة نقول:
1 - فهي من الأبواب المهمة في أصول الفقه لأنها أساس التكليف في توجيه الخطاب إلى المكلفين.
2 - أن معرفتهما تؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية بتفاصيلها وبها يتميز الحلال من الحرام.
ولذلك نجد كثيرًا من الأصوليين جعلهما في مقدمة كتب الأصول واهتموا بهما بالتوضيح والبيان لتمحيص الأحكام الشرعية.
«أصول السرخسي» (1/ 11).(5/2373)
أثناء هذا التحرير ذكر أنه يستلزمه بناء على أحد المذاهب. وقد أحلنا هذا على نظر العلامة المعلق على عاتق التحقيق فوائده وأحكامه. قبلة الطلاب، طراز كم المعارف والآداب، والواسع الصدر، الجليل القدر، مورق الحسب، غض المفاكهة في الآداب:
إمام هدى أعيت محاسنه الوصفا ... حري عليه مشكل البحث لا يخفا
العلم الرباني المترجم عن السر الصمداني محمد بن علي الشوكاني جمل الله الأوقات بأفعاله، وحرس مقام الشريعة بهندواني مقاله.
ولنشرع في أصل م دار فأقول: لما حصلت المذاكرة في ذلك قيل لي أولاً: قد ذاكرت بعض المشايخ فقرر ما إليه استدل القائلون بأن الأمر (1) بالشيء ..........................
_________
(1) الأمر: هنا استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.
صيغ الأمر: وهو مذهب الجمهور من السلف والخلف الصيغ الدالة على الأمر أربع:
1 - فعلا الأمر «إفعل» نحو قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78].
2 - المضارع المجزوم بلام الأمر «ليفعل» نحو قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63].
3 - اسم فعل الأمر مثل قوله تعالى: {عليكم أنفسكم} [المائدة: 105].
4 - المصدر النائب عن فعله: {فضرب الرقاب} [محمد: 4].
وإنما خص العلماء صيغة «إفعل» بالذكر، نظرًا لكثرة دورانه في الكلام.
انظر: «المسودة» (ص 8 - 9)، «التبصرة» (ص 18)، «اللمع» (ص 8).
وترد صيغة أفعل لمعان كثيرة:
أحدها: الوجوب: نحو قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78].
الثاني: الندب: نحو قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [النور: 33].
الثالث: الإباحة: نحو قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2].
الرابع: بمعنى (إرشاد): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
الخامس: كونها بمعنى (إذن): نحو قول من بداخل مكان للمستأذن عليه: ادخل.
السادس: التأديب نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر بن أبي سلمة في حال صغره: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك».
السابع: كونها بمعنى (امتنان) نحو قوله تعالى: {وكلوا مما رزقكم} [المائدة: 88].
الثامن: كونها بمعنى (الإكرام) نحو قوله تعالى: {ادخلوها بسلام آمنين} [الحجر: 46].
التاسع: كونها بمعنى (الجزاء) نحو قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون} [النحل: 32].
العاشر: كونها بمعنى (وعد) نحو قوله تعالى: {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30].
الحادي عشر: كونها بمعنى (تهديد) نحو قوله تعالى: {اعملوا ماشئتم} [فصلت: 40].
الثاني عشر: كونها بمعنى (إنذار) نحو قوله تعالى: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} [إبراهيم: 30].
الثالث عشر: كونها بمعنى (تحسير) نحو قوله تعالى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمران: 119].
الرابع عشر: كونها بمعنى (تسخير) نحو قوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65].
الخامس عشر: كونها بمعنى (تعجيز) نحو قوله تعالى: {فأتوا بسورة مثله} [يونس: 38].
السادس عشر: كونها بمعنى (إهانة) نحو قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49].
السابع عشر: كونها بمعنى (احتقار) نحو قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام، يخاطب السحرة {ألقوا ما أنتم ملقون} [الشعراء: 43].
الثامن عشر: كونها بمعنى (تسوية) نحو قوله تعالى: {فاصبروا أو لا تصبروا} [الطور: 16].
التاسع عشر: كونها بمعنى (الدعاء) نحو قوله تعالى: {ربنا اغفر لي ولوالدي} [إبراهيم: 41].
العشرون: كونها بمعنى (تمن) كقول امرئ القيس: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي».
الحادي والعشرون: كونها بمعنى (كمال القدرة) نحو قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].
الثاني والعشرون: كونها بمعنى (خبر) نحو قوله تعالى: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا} [التوبة: 82].
الثالث والعشرون: كونها بمعنى (تفويض) نحو قوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} [طه: 82].
الرابع والعشرون: كونها بمعنى (تكذيب) نحو قوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93].
الخامس والعشرون: كونها بمعنى (مشورة) نحو قوله تعالى: {فانظر ماذا ترى} [الصافات: 102].
السادس والعشرون: كونها بمعنى (اعتبار) نحو قوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} [الأنعام: 99].
السابع والعشرون: كونها بمعنى (تعجب) نحو قوله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الإسراء: 48].
الثامن والعشرون: كونها بمعنى (إرادة امتثال لأمر آخر) نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل». فإن المقصود الاستسلام والكف عن الفتن.
التاسع والعشرون: كونها بمعنى (التخيير) نحو قوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42].
الثلاثون: (الاختيار) نحو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده».
الحادي والثلاثون: الوعيد نحو قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29].
الثاني والثلاثون: الالتماس كقولك لنظيرك: إفعل.
الثالث والثلاثون: التصبر نحو قوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40].
الرابع والثلاثون: قرب المنزلة نحو قوله تعالى: {ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49].
الخامس والثلاثون: التحذير والإخبار عما يئول الأمر إليه نحو قوله تعالى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود: 65].
انظر: «الكوكب المنير» (3/ 17 - 18)، «تيسير التحرير» (1/ 337 - 338)، «جمع الجوامع» (1/ 374).(5/2374)
نهي (1) عن ضده والعكس (2).
فقلت بعد التأمل: أئمة الأصول قد استدل بعضهم على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بحجج عقلية (3) كقولهم: إن المفهوم أو المتبادر من قولهم: اسكن أنه نهي
_________
(1) النهي: هو استدعاء ترك الفعل بالقول على وجه الاستعلاء وللنهي صيغة موضوعة في اللغة تدل بمجردها عليه هي «لا تفعل».
انظر: «الكوكب المنير» (3/ 77)، «تيسير التحرير» (1/ 274)، «اللمع» (ص 14)، «المسودة» (ص 80).
(2) الأمر بالشيء نهي عن ضده، وكذلك النهي عن شيء يكون أمرًا بضده.
انظر: «الكوكب المنير» (3/ 51)، «البرهان» (1/ 350)، «اللمع» (ص 14).
(3) انظر: «البحر المحيط» (2/ 416 - 430)، «إرشاد الفحول» (ص 363)، «جمع الجوامع» (1/ 386)، «المسودة» (ص 49). -
ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان الأمر به نهيًا عن الشيء المعين الضاد له سواء كان الضد واحدًا، كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيًا عن الكفر، وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيًا عن السكون، أو كان الضد متعددًا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيًا عن القعود الاضطجاع والسجود وغير ذلك.
- وقيل ليس نهيًا عن الضد ولا يقتضيه عقلاً واختاره الجويني في «البرهان» (1/ 250) والغزالي في «المنخول» (ص 109) وابن الحاجب، وقيل: إنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين، وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين، ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم، فقال إنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي، ففي الأول نهي تحريم وفي الثاني نهي كراهة ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي، ومنهم أيضًا من جعل النهي عن الشيء أمرًا بضده، كما جعل الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه.
واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده والنهي عن الشيء ليس أمرًا بضده، وذلك لنفيهم الكلام النفسي ...
وانظر مزيد تفصيل في «البحر المحيط» (2/ 416 وما بعدها)، «تيسير التحرير» (1/ 363 - 364).(5/2377)