ـ[الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني]ـ
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
حققه ورتبه: أبو مصعب «محمد صبحي» بن حسن حلاق
الناشر: مكتبة الجيل الجديد، صنعاء - اليمن
عدد الأجزاء: 12
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
- أ -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة بقلم فضيلة العلامة القاضي
محمد بن إسماعيل العمراني
الأستاذ في قسم الدراسات العليا
بالمعهد العالي للقضاء
والأستاذ بجامعة الإيمان بصنعاء
وعضو هيئة الإفتاء
بدار الإفتاء في الجمهورية اليمنية
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(وبعد):
فهذا كتاب (الفتح الرباني) قد جمع ما تفرق من رسائل وأبحاث وفتاوى شيخ الإسلام القاضي العلامة المجتهد المطلق (محمد بن علي الشوكاني) قدس الله روحه ونور ضريحه، وكان الذي تولى جمعها واهتم بالبحث عنها هو صاحب الفضيلة الشيخ العلامة أبو مصعب (محمد صبحي حسن حلاق) الذي أخرج هذه الرسائل والأبحاث والفتاوى من عالم المخطوطات المخزونة في بعض المكاتب اليمنية والهندية إلى عالم المطبوعات، حيث بقي زمنا طويلا ينقب عنها حتى استطاع بهمته ونشاطه أن يجمع مائتين وأربعة عشر رسالة من تراث الإمام الشوكاني رحمه الله، ثم يخرجها في اثني عشر مجلدا محققة مخرجة، مطبوعة طبعا جيدا، قد حوت أبحاثا لم يقف الكثير من الباحثين على أسمائها فضلا عن أن يقفوا على بعض(المقدمة/1)
- ب -
نسخها بل كان بعض ممن ألف عن الشوكاني يصرح بعدم وجود بعض أجزائها لا في اليمن ولا في غيرها من الأقطار، ولكن فضيلة الشيخ (أبو مصعب) حفظه الله بهمته القعساء استطاع العثور على ما لم يستطع أحد العثور عليه من كنوز علوم الشوكاني رحمه الله، ومن ذخائر هذا الإمام العظيم الذي اشتهرت مؤلفاته القيمة في مشارق الديار الإسلامية ومغاربها، ولا سيما بعد طبع ما تأخر من مؤلفاته التي لم تر النور إلا في آخر القرن العشرين حينما اهتم بعض علماء العصر بطبعها ونشرها وعلى رأسهم فضيلة الشيخ (أبو مصعب) حفظه الله ووفقه وكتب أجره وضاعف حسناته وزاده همة وعلما ونشاطا فوق همته وعلمه ونشاطه، وزاد في العلماء العاملين من أمثاله ولا زال رمزا للعلماء العاملين ومثلا عاليا من أمثلة الحب للعلم والعشق العظيم لنشر كنوز العلماء المجددين، وذخائر الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم.
فدونك أيها القارئ الكريم هذه المجلدات العظيمة التي لم تر النور إلا في هذا العام من هذا القرن والفضل في نشرها إلى الله عز وجل أولا، ثم إلى علامتنا (أبو مصعب) ثانيا فرضي الله عنه وجزاه الله خيرا.
والله سبحانه وتعالى ولي الهداية والتوفيق وسبحانه وبحمده سبحان الله العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
كتبه
محمد بن إسماعيل العمراني
وحرر بتاريخ 17 صفر سنة 1422هـ
الموافق 10 مايو سنة 2001 م(المقدمة/2)
- ج -
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة بقلم فضيلة الدكتور:
عبد الوهاب بن لطف الديلمي
عضو هيئة التدريس في جامعة صنعاء
ومدير جامعة الإيمان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فعلم من أعلام الإسلام -في اليمن- هو الإمام محمد بن علي الشوكاني، الذي كان بمنهجه، وسيرته، وجهوده في خدمة الإسلام، ومؤلفاته القيمة، وأفكاره التي عادت بصاحبها إلى ما كان عليه السلف الصالح، وتحرره من ربقة التقليد ودعوته الصادقة إلى العودة إلى منابع الإسلام: الكتاب والسنة كان حقا هذه وغيرها من مزاياه التي عرفها مجددا، خاصة في جو كان مليئا بالجهل والعصبية المذهبية.
وقد ترك من ورائه ثروة علمية عظيمة في فنون كثيرة، ظهر بعضها منذ فترة من الزمن، وتبنت كثير من الجامعات الإسلامية تدريس بعض مؤلفاته لما وجدت فيها من الفوائد الجمة.
ولعل الله سبحانه علم من إخلاص الرجل ودفاعه عن الإسلام، وصفاء فكره، ما كان سببا في أن هيأ سبحانه من عباده الذين جاؤوا من بعده، فاعتنوا بإخراج كتبه ونشرها لتعم بها الفائدة.
وكنت قد سمعت منذ فترة من الزمن، أن بعض فتاوى الشوكاني فقدت حين(المقدمة/3)
- د -
وقعت في بعض أيدي الذين لا يروقهم فكر الشوكاني ولا منهجه ولا أسلوبه ولا عقيدته، وهم الذين يكثرون من التحامل عليه لا لشيء، إلا لأنه أراد لنفسه أن يخرج من طوق التقليد الخانق، الذي يئد الفكر والعقل معا، ودعا غيره كذلك إلى الخلاص من أغلال التبعية العمياء، ليدركوا بالفهم الصحيح حلاوة التعلق بنصوص الوحيين.
ولكن الله عز وجل الذي أبى إلا أن ينتشر علم الشوكاني، وهو سبحانه الغالب على أمره، شاءت إرادته أن يقيض من ينقب عن مواطن هذه الرسائل التي فقدت، ويهيئ له أسباب العثور على نسخ أخرى منها، كما يهيئ له التمكن من تحقيقها وطبعها ونشرها، لتعم ها الفائدة وتقوم بما فيها من الخير الحجة، وقد كان أخونا الشيخ محمد صبحي حسن حلاق وقد عشت شيئا من الوقت في مطالعة بعض هذا الجهد المشكور والذي دل على عناء كبير وجهد غير يسير بذله أخونا في إخراج النص بتحقيق يشمل:
1 - العناية بإخراج النص الأصلي للرسائل.
2 - تحقيق الأحاديث قدر الإمكان.
3 - شرح الألفاظ الغريبة.
4 - ترجمة الأعلام والفرق والطوائف. . .
5 - إيضاح بعض الأمور المهمة في الرسائل بالرجوع إلى كلام أهل العلم إلى غير ذلك مما برز جليا في الجهد المبذول.
ولم يسلم هذا الجهد من بعض الملاحظات التي لا يسلم منها بشر، وقد نبهت عليها أخانا المحقق لعله يستدرك ذلك بعناية تامة، تجنب الرسائل أي خلل قد يحدث مما هو غير متعمد، والكمال المطلق لله وحده.(المقدمة/4)
- هـ -
وكم كنت مسرورا بإخراج هذه الرسائل ونشرها, لما فيها من فوائد جمة يستفيد منها العلماء والباحثون والطلاب على حد ساء أسأل الله عز وجل أن يبارك في جهود أخينا المحقق وأن يجزل له المثوبة وأن ينفع بهذه الرسائل عامة المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
كتبه
د/ عبد الوهاب لطف الديلمي
27/ 2/1422 هـ
20/ 5/2001م(المقدمة/5)
كتاب
الفتح الرباني
من
فتاوى الإمام الشوكاني
المتوفى سنة 1250هـ
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
وضبط نصه ورتبه وصنع فهارسه
أبو مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق
القسم الأول
المقدمة: (ص1 - 116)
العقيدة: (ص117 - 1102)
المجلد الأول(1/3)
الإهداء
إلى المصابيح المتألقة في سماء اليمن الذين ذللوا الصعاب، وصححوا الانحراف، ونفوا عنها زغل الجهل بالقوة والصمود والمقاومة.
إلى كل عالم وإمام، ومجتهد قدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال الرجال.
إلى عدول هذه الأمة على مر الأجيال ..
إلى المتمثلين بقول القائل:
دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وآله ... فالرأي ليل والحديث نهار
1 - الإمام نشوان بن سعيد الحمري المتوفى سنة (573 هـ/ 1177م).
فقد حورب وأوذي من قبل النفوس الضعيفة، والعصبية الممقوتة، ومن أنصاف الآلهة، ولكنه لشدة شكيمته وقوة إيمانه بترهم بمقوله وسيفه البتار ودفنهم تحت الثرى وبقط العلم المنشور.
2 - الإمام المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير المتوفى سنة (840 هـ/ 1436م). وهو صاحب "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" (1 - 9).
فقد تحداه بأذى شديد شيخه (علي بن محمد) المتوفى سنة (827هـ) وحزبه فقهره وأنزل به وبحزبه الأذى الشديد، وظل الإمام محمد نجما متألقا، وصوتا مدويا، لم يأفل نجمه ولا غاب بدره كلما تجدد الزمن تجدد ذكره في حين اختفى ذلك الصوت اللاغب المعارض، اللاهث.
3 - الإمام المجتهد صالح بن المهدي المقبلي المتوفى سنة (1085هـ/ 1674م). وهو صاحب "المنار في المختار من جواهر البحر الزخار" و "العلم الشامخ" فقد نال شئبوبا من الآلام والمصائب وطورد فنجا بجلده، فجاور بمكة المكرمة ومات فيها.(1/5)
4 - الإمام المجتهد الحسن بن أحمد الجلال المتوفى سنة (1082هـ/ 1674م).
وهو صاحب "ضوء النهار" (1 - 4). الذي تسلم راية الحق برتابة ووثاقة.
5 - الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل الأمير المتوفى سنة (1182هـ/ 1768 م).
مؤلف "سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام" (1 - 8) وغيره.
فقد صارع بقلمه ولسانه ومؤلفاته واجتهاداته التقليد الأعمى بل جهر بصوته المدوي عاليا وبكل جرأة وإيمان بالعمل بالدليل. وخاض معركة سياسية بجسارة وشكيمة فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ونشر القصائد الرنانة، والرسائل الحماسية، والخطب النارية التي ألهبت جلود الطغاة الطغام، ورقى المنابر مرشدا ومنددا وواعظا وهاديا حتى حبس وشرد شأن كل مصلح يستعذب العذاب في سبيل الحق وفي ذات الله.
6 - الإمام المجتهد محمد بن علي الشوكاني (1173هـ - 1250هـ).
صاحب فتح القدير، ونيل الأوطار، ونيل الغمام، والدراري والفتح الرباني وغيرها. فقد أفرغ آلامه، وصب أوجاعه وشخص أحواله، وشرح ما عاناه وقاساه في مستهل شبيبته ومبدأ دراسته، وما جيء به من أعداء العلم والفضيلة وأسرى التقليد وخصوم السنة والقرآن، وأعان هؤلاء الزعانف قوم آخرون من ذوي السلطان والشيطان في كتابه "أدب الطلب ومنتهى الأرب".
أقدم إنتاجي
أبو مصعب
محمد صبحي بن حسن حلاق(1/6)
ترجمة مؤلف "الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني"
وتحتوي على:
الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف.
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الدينية.
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية.
الفصل الثاني: حياة المؤلف.
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: نسبه وموطنه.
المبحث الثاني: مولده ونشأته.
المبحث الثالث: حياته العلمية.
المبحث الرابع: توليه القضاء.
المبحث الخامس: شيوخه وتلامذته.
المبحث السادس: مؤلفاته.(1/7)
الفصل الأول: اليمن في عصر المؤلف.
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: الحالة السياسية
المبحث الثاني: الحالة الدينية
المبحث الثالث: الحالة الاجتماعية(1/9)
المبحث الأول:
الحالة السياسية:
كانت الدولة الإسلامية الكبرى تعاني من ضعف شديد، بلغت الصراعات المذهبية فيها درجة أشعلت الحرب بين الدولتين: العثمانية السنية، والدولة الصفوية الشيعية. وكان المغرب العربي يعاني من صراعات عرقية وقبلية سهلت اجتياح الحملات الإسبانية والبرتغالية لأجزاء من تلك البلاد.
ولعبت الأسرية والقبلية والقوة الدور الحاسم في تولي الحكم والسلطة، ومن ثم تحديد طبيعة النظام الحاكم، وهو أمر مخالف لمبدأ الشورى الإسلامي.
وقد أدى وجود الدويلات الإسلامية المستقلة إلى ضعف دولة الخلافة العثمانية، مما أضعف شوكتها أمام أعدائها -أعداء الإسلام-.
وفي ظروف التفكك والضعف هذه، برزت إلى الوجود قوات الغزو الصليبي العسكري- الاقتصادي بشقيه: الروسي والأوروبي، مستهدفة اقتسام بلاد المسلمين، بعد الإجهاز على دولة الخلافة الإسلامية- العثمانية التي أطلق عليها يومئذ: الرجل المريض.
وكانت الظروف مهيأة أمام الغزو الصليبي، فثغور المسلمين غير محصنة، وخاصة في سواحل البحر الأحمر، وبشكل أخص في بوابتيه الشمالية والجنوبية، والخليج العربي والبحر العربي (المحيط الهندي)، بالإضافة إلى تراخي المسلمين عن الجهاد.
وخالفت الدول الإسلامية مبدأ أساسيا في القرآن الكريم، وهو مبدأ (الولاء) ويعني المناصرة، فكانت الدولة العثمانية توالي الإنجليز ضد الفرنسيين، وكان (محمد علي باشا) يوالي الفرنسيين ضد (الإنجليز)، وحلت العقوبة الإلهية بكل من القوتين المسلمتين، قوة العثمانيين، وقوة (محمد علي باشا)، حيث تآمرت كل من (فرنسا) و (إنجلترا) مع أربع دول أخرى على كل منهما، ومهما قيل من تحليل حول أصداء الحملة الفرنسية، فقد كانت صدمة عسكرية -صليبية- لمصر وللعالم الإسلامي، حيث اكتشف المسلمون(1/11)
أنهم لم يواكبوا التطور العلمى - التقني الذي سارت في ركابه الدول الأوروبية مما أوجد فجوة كبيرة بين الطرفين ساعدت على هزائم المسلمين أمام الغزو الأوروبي المتعاضد حينا والمتنافس حينا آخر، ولو لم تكن القوى الإسلامية - مهما بلغت من التفكك - قد بعثرت ما لديها من أسباب القوة في صراعاتها العديدة لاستطاعت مواكبة الركب الأوروبي، وإليك بعض الأشكال المختلفة لتلك الصراعات: صراعا عثمانيا- صوفيا، وصراعا عثمانيا- وهابيا، وصراعا عثمانيا- مصريا، وصراعا سعوديا- مصريا، وصراعا إنجليزيا- مصريا، وصراعا عثمانيا- فرنسيا، وصراعا يمنيا- سعوديا، والصراع الأخير كان صراع مهادنة وحذر وتربص.
وكانت هناك أربع قوى يمكن أن تمثل أمل التقدم والتطور لبلاد المسلمين، ويمكن أن تنتصر لو اجتمعت على الزحف الأوروبي الواسع النطاق، وهذه القوى هي: قوة (محمد بن عبد الوهاب) وأتباعه التي تركزت حول التغيير العقدي كأساس للتغيير الشامل والتقدم في كل جوانب الحياة بعد ذلك، ويمكن أن يطلق عليها: (ثورة العقيدة)، وكانت هناك قوة الحركة الإصلاحية المعاصرة للحركة الوهابية وهى حركة (محمد بن علي الشوكاني) التي تركزت في دفع المسلمين نحو التحرر من التقليد والجمود، وتحريك عجلة الاجتهاد بعيدا عن العصبيات المذهبية والسلالية فهي: (ثورة العقل) وكانت هناك حركة فتية تولى قيادها (محمد علي باشا) تركزت حول الاستفادة الجادة والسريعة من التطور العلمي- التقني الذي وصل إليه الأوروبيون، فكانت حركة (ثورة العلم والتكنولوجيا)، وكانت القوة الرابعة هي: قوة العثمانيين العسكرية التي صمدت إلى حين أمام الغزو الأوروبي- الصليبي، لولا معاناتها من الحروب الداخلية، ومن تآمر الحركة الماسونية المتمثلة يومئذ بجمعية (الاتحاد والترقي) التركية- العلمانية الاتجاه، بالإضافة إلى تآمر كل من: روسيا وإنجلترا وفرنسا واليونان والنمسا عليها وعلى (محمد علي باشا)، في نهاية مطاف (الولاء) والصداقة الكاذبة، ولو قدر لهذه القوى الأربع أن تجتمع في معسكر واحد مكللة بالإيمان لاستطاعت امتلاك المسيرة الحضارية المعاصرة،(1/12)
بعيدا عن أمراضها المادية والخلقية ولتمكنت مشيئة الله من إنماء حياة المسلمين والإنسانية في كل أرجاء العالم.
ولم تخل اليمن من أمراض القوى الإسلامية الكبرى، فقد وجدت صراعات داخلية في ظل نظام الحكم الزيدي الإمامي هي: صراعات أسرية على الإمامة، وصراعات فيما بين القبائل ذات الشوكة من ناحية، وفيما بينها وبين دولة الإمامة من ناحية أخرى، وصراعات بين دولة الأئمة وبين قوة الحركة الإسماعيلية الباطنية- القرمطية، المتمركزة في منطقتي (حراز) و (نجران).
وكان حكم الإمامة يتسم تارة بالعدل وتارة أخرى بالجور، وأحيانا بالقوة وأحيانا بالضعف، ولأخلاقيات وزراء الإمام ودعاة الإمامة وطبيعة سلوك الإمام تأثير كبير بالإيجاب أو السلب على طبيعة النظام الحاكم.
وكانت سيادة اليمن غير كاملة على كل أجزائها، فهناك الصراع ضد سلطة أشراف أبي عريش والمخلاف السليماني، وهناك سلطنات مستقلة كسلطنه (لحج) في الجنوب، وهناك سلطنة الأتراك في (زبيد)، وقد احتل الإنجليز عدن عام 1255هـ (بعد موت الشوكاني بخمس سنوات)، واحتل أنصار الدعوة الوهابية (السلفية) بلاد أبي عريش والمخلاف السليماني، وتمكنوا من الاستيلاء على الحديدة (أيام الإمام المتوكل على الله أحمد) وكانت دولة الأئمة تهادن حركة (محمد بن عبد الوهاب)، فتبادل أنصارها المكاتبات والرسل، وقاموا بتطبيق ما قام به سيدنا (علي رضي الله عنه) من تحطيم للقباب وتسوية للقبور بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سلوك أثلج صدور علماء الحركة الوهابية (السلفية) وقد قام الشوكاني بدور بارز في تلك المكاتبات والمقابلات لأولئك العلماء (الرسل) وكان له دور بارز أيضا في إقامة العلاقات الدبلوماسية الناجحة مع أشراف مكة والحجاز، وأشراف أبي عريش والمخلاف السليماني، وقوات (محمد علي باشا) عبر مكاتباته التي يسندها الأئمة إليه، وغير الرسل التي يوكل الأئمة له صلاحية اختيارهم.(1/13)
وقد أبدى النظام الإمامي استعدادا طيبا لمشاركة المسلمين في صد الغزو الصليبي -الاقتصادي- العسكري, كاستعداده لمجابهة الحملة الفرنسية, وحملات البرتغاليين, ورفض إقامة قاعدة إنجليزية في باب المندب, وتولي الشوكاني بمكاتباته إعلان المواقف السياسية المتصلة بهذا الاستعداد, وكان لهذه الأوضاع آثارها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والفكرية (1)
_________
(1) انظر كتاب "الإمام الشوكاني. حياته وفكره" للدكتور: عبد الغني قاسم غالب الشرجبي (ص39 - 76). و (ص137 - 140).
وانظر "الإمام الشوكاني مفسرا" للدكتور محمد حسن بن أحمد الغماري (ص31 - 39)(1/14)
المبحث الثاني
الحالة الاجتماعية
عاصر الشوكاني المذاهب والفرق والطوائف الدينية المختلفة، والتي كان له معها مواقفه الخاصة، فكان ناقدا لجوانب الخطأ في مقولاتها، ومزكيا لجوانب الحق والصواب من آرائها ومناهجها.
وفي ظل الحكم الإمامي الزيدي عاصر الشوكاني عصبية مذهبية وسلالية وجمودا على أقوال العلماء والأئمة، دونما بحث عن الدليل من قبل أرباب التعصب والمقلدين، فكانت للشوكاني أدواره الإيجابية في تشخيص ظاهرة التعصب، ومحاربتها بقلمه، وتدريسه، وفتاواه، وكان له رأيه السياسي في حل الفتنة العصبية التي أطلق عليها (فتنة العاصمة- صنعاء) عام 1823 م. فاستجاب إمام زمانه لمقترحاته التي طالبت بنفي رؤساء تلك الفتنة إلى سجون متعددة، بعيدة عن العاصمة.
ويعد الاجتهاد- وهو شرط من شروط الإمامة في المذهب الزيدي- ميزة استطاع الشوكاني في ظله أن يصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وبذلك تمكن من الانخلاع عن المذهبية، فانتقد المتعصبين في كل مذاهب المسلمين، وقام بالدعوة إلى التمسك بالإسلام جملة، وإلى عدم التعصب لأقوال العلماء أو الأئمة بل الالتزام بالكتاب والسنة، اللذين أمرنا الله باتباعهما (1).
وكان اليمنيون قبل دخول المذهب الزيدي متمذهبين بالمذهبين المالكي والشافعي، وقد انقرض المذهب المالكي، وبقي المذهب الشافعي سائدا في المناطق الوسطى والجنوبية والساحلية من اليمن، وكان الشوكاني من الأعلام الذين دعوا إلى اتباع السنة ومذهب السلف الصالح، بدون تعصب لمذهب ما من مذاهب المسلمين، وإنما هو الاقتفاء للحق والدليل فهما رائداه في كل ما يقرأ ويرجح من آراء.
_________
(1) انظر كتاب "القول المفيد في حكم التقليد" بتحقيقنا. الطبعة الثانية(1/15)
وشهد الشوكاني صراع الأئمة الزيديين ضد الطائفة الإسماعيلية (الباطنية- القرمطية)، وأفتى بكفرها.
وأما المعتزلة فقد كان عام 544 هـ أول عام دخل فيه تراثهم إلى اليمن على يد القاضي (جعفر بن أحمد بن عبد السلام- ت 573 هـ) شيخ الزيدية والمعتزلة، وقضية الاتفاق والاختلاف بين الزيدية والمعتزلة مسألة جدلية ويمكن تمثيلها بمتصل في طرفه الأول طائفة تمثل قمة الاتفاق، وفي الطرف المقابل طائفة أخرى تمثل قمة الاختلاف، وفي الوسط مواقف تتأرجح نحو هذا الطرف أو ذاك، وموقف الشوكاني من علم الكلام موقف له سمته الخاصة، فهو ينصح طالبه في كتابه: "أدب الطلب" (1) بدراسة هذا العلم لكي يستطيع دراسة تفسير " الكشاف " للزمخشري، ودراسة تراث المعتزلة والأشاعرة والفرق الأخرى، ويتمكن بذلك من الخروج من دائرة التقوقع على علوم المذهب ومخاصمة أهل الكلام دونما علم بمقولاتهم ومصطلحاتهم ومنطلقاتهم، ولكنه يصف تجربته الشخصية مع هذا العلم بالمرارة، وأنها تجربة جلبت له الحيرة، وأنه قد وجد أن مقولاته في نهاية الأمر مجموعة من الخزعبلات، وبناء على ذلك دعا طلابه إلى نهج السلف الصالح الذي يقوم على هجر المصطلحات الكلامية والتمسك بالكتاب والسنة.
وأما الصوفية فقد اشتهر أصحابها بالتواكل وهجر الأسباب واشتهر أتباعها بتقديس زعمائها، والخضوع لأقوالهم، والاهتمام الشديد بتشييد وتزيين قبورهم، والتعلق ببعض الخرافات التي علقت بمحبتهم، فكان للشوكاني معهم جولة طويلة، خاصة في كتبه الثلاثة:
(1): شرح الصدور في تحريم رفع القبور.
(2): والدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد.
(3): وقطر الولي على حديث الولي أو ولاية الله والطريق إليها.
_________
(1) (ص128 - 130) بتحقيقنا(1/16)
بالإضافة إلى رسالته: " الصوارم الحداد القاطعة لعلائق أرباب الاتحاد ".
وأما الرافضة فقد كشف الشوكاني النقاب عنهم، وفضح حقيقتهم فيما يتظهرون به من التشيع قائلا:
"ولا غرو فأصل هذا المظهر الرافضي مظهر إلحاد وزندقة، جعله من أراد كيدا للإسلام سترا له فأظهر التشيع والمحبة لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم استجذابا لقلوب الناس، لأن هذا أمر يرغب فيه كل مسلم، وقصدا للتعزير عليهم، ثم أظهر للناس أنه لا يتم القيام بحق القرابة إلا بترك حق الصحابة، ثم جاوز ذلك إلى إخراجهم- صانهم الله- عن سبيل المؤمنين " (1).
وهكذا بدت لنا الحالة الدينية في عصر الشوكاني رحمه الله مما دفعت به إلى حمل لواء الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.
_________
(1) أدب الطلب ومنتهى الأرب (95) بتحقيقنا(1/17)
المبحث الثالث
الحالة الاجتماعية
لقد أصيبت الحالة الاجتماعية بالتدهور فكانت هناك أنماط متعددة من الصراع بين القوى الإسلامية المختلفة: بين الأتراك واليمنيين، وبين الأتراك والمصريين، وبين الأتراك والوهابيين (السلفيين) إلخ، كل هذا أدى إلى توهين قوة المجتمع الإسلامي وتضاؤل مكانته في العلم.
وعلى المستوى المحلي كان هناك صراع مرير بين المتعصبين وبين المنصفين من العلماء وبين أدعياء العلم والعامة من جهة، وبين علماء الإنصاف والاجتهاد من جهة أخرى.
وتعرض المجتمع الصنعاني كثيرا لحملات القبائل التي نشرت في أحيان كثيرة المجاعة حتى الموت، من جراء مطالبها في رفع مقرراتها المالية السنوية، وإن علقت ذلك بالدفاع عن المذهب السائد للدولة.
وكان (الجمود) سمة بارزة في مجتمع الشوكاني، وأما العلماء فقد قعدوا عن أداء أدوارهم الإيجابية في محو الأمية الدينية والثقافية فكانوا يدارون العامة في معتقداتهم الخاطئة، وسلوكياتهم المناقضة لتعاليم الإسلام مما أدى بالعامة وجهلة المتفقهة إلى إلحاق الأذى بالمنصفين ومعهم الإمام الشوكاني بسبب محاربتهم للعصبية والجمود.
وقد تهافت الظلمة الجهلة على مناصب القضاء فأكلوا أموال الناس بالباطل وهم يعلمون.
وأما الظلم الاجتماعي فقد كان سمة غالبة في المجتمع اليمني تبدت مظاهره في سلوكيات القضاة والعمال (المحافظين) والحكام بمساعدة علماء السوء ووزراء الجور. . .
ومما يؤخذ على الإمام الشوكاني تأثره بالعرف الصنعاني الفاسد الذي كان ينظر من خلاله إلى أصحاب بعض الحرف نظرة متدنية، ولعل هذا ما يبرر موقفه بعد أن(1/18)
ذاق مرارة حرب المتعصبين من جهلة العلماء الذين كان ينتمي بعضهم إلى تلك الحرف (1). . .
وكانت الحرف الاقتصادية الراقية: " صناعة السيوف " " فن العمارة " " صياغة الذهب والفضة " بيد الجالية اليهودية في اليمن.
ولاحظ الشوكاني سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في اليمن فحاول أن يشخص أسباب تلك الأحوال في كتابه " الدواء العاجل في دفع العدو الصائل " وقد عزا تدهورها إلى الابتعاد عن حقيقة الإسلام، وهجر ما يدعو إليه من عدالة اجتماعية. وحاول رسم سياسة اقتصادية عادلة للنظام الإمامي يحقق من خلالها العدل، ويرفع بها الظلم الاجتماعي. وما أن بدأ تطبيقها بعد اعتمادها من قبل الدولة (الإمام) حتى تكالب عليه وزراء الظلم، وعلماء السوء، وقضاة الرشوة والحيف، وأقنعوا الإمام بالعدول عنها، حتى لا تؤدي إلى تقويض الملك على حد زعمهم.
وأما الأحوال الإدارية فقد كانت هي الأخرى تعكس ضعف السلطة المركزية. . . ودعا الشوكاني في كتابه المذكور سابقا إلى الإدارة المركزية بحيث تصل سلطة الدولة إلى كل قرية. ومن خلال هذه الإدارة تقوم الحكومة بتقديم خدماتها التربوية، والاقتصادية والتعليمية. . . (2)
_________
(1) انظر " أدب الطلب" (ص143 - 145) بتحقيقنا
(2) انظر كتاب " الإمام الشوكاني. حياته وفكره " للدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي (105 - 129) و (143 - 145)(1/19)
الفصل الثاني
حياة المؤلف
ويحتوي على المباحث التالية:
المبحث الأول: نسبه وموطنه
المبحث الثاني: مولده ونشأته
المبحث الثالث: حياته العلمية
المبحث الرابع: توليه القضاء
المبحث الخامس: شيوخه وتلامذته
المبحث السادس: مؤلفاته(1/21)
المبحث الأول
نسبه وموطنه
ترجم الشوكاني لنفسه فقال: " محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ثم الصنعاني " (1).
أما الشوكاني: فهو نسبة إلى هجرة شوكان، وهي قرية من قرى السحامية، إحدى قبائل خولان بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم (2).
وأما الصنعاني فنسبه إلى مدينة صنعاء التي استوطنها والده ونشأ فيها بعد ولادته في الهجرة (3).
_________
(1) البدر الطالع (2/ 214)
(2) البدر الطالع (1/ 480)
(3) البدر الطالع (2/ 215)(1/23)
المبحث الثاني
مولده ونشأته
يذكر الشوكاني في ترجمته لنفسه تاريخ مولده، نقلا عن خط والده فيقول: " ولد حسبما وجد بخط والده في وسط نهار يوم الاثنين، الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة سنة (1173 هـ)، ثلاث وسبعين ومائة وألف " (1) ولا مجال للاختلاف في تاريخ مولده بعد هذا النص منه ومن والده (2).
حفظ القرآن وجوده، وحفظ عددا كبيرا من المتون قبل أن يبدأ عهد الطلب، ولم تتعد سنه العاشرة من عمره، ثم اتصل بالمشايخ الكبار، وكان كثير الاشتغال بمطالعة التاريخ ومجامع الأدب (3).
وإذا عرفنا أنه تصدر للإفتاء وهو في سن العشرين عرفنا كيف كانت حياة هذا التلميذ الجاد الذي لم يسمح له أبوه بالاشتغال بغير العلم كما لم يسمح له أبوه بالانتقال من صنعاء (4)؛ رغبة منه في تفرغه لطلب العلم.
وكانت دروسه تبلغ في اليوم والليلة نحو ثلاثة عشر درسا (منها) ما يأخذه عن مشايخه (ومنها) ما يأخذه عنه تلامذته، واستمر على ذلك مدة. . . (5).
وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع (6) الكتب التي قرأها على العلماء الأفاضل قراءة تمحيص وتحقيق، وهي كثيرة في فنون متعددة: من الفقه وأصوله والحديث، واللغة، والتفسير والأدب، والمنطق. . .
_________
(1) البدر الطالع (2/ 214 - 215)
(2) مقدمة كتاب قطر الولي للدكتور إبراهيم إبراهيم هلال (ص15)
(3) البدر الطالع (2/ 215)
(4) البدر الطالع (2/ 218 و219)
(5) البدر الطالع (2/ 218)
(6) (2/ 215 - 219)(1/24)
المبحث الثالث
حياته العلمية
بدأ الشوكاني حياته العلمية بالقراءة والمثابرة والدرس، وقد ساعدته الثقافة الواسعة وذكاؤه الخارق، إلى جانب إتقانه للحديث وعلومه، والقرآن وعلومه، والفقه وأصوله، على الاتجاه نحو الاجتهاد وخلع ربقة التقليد، وهو دون الثلاثين، وكان قبل ذلك على المذهب الزيدي، فصار علما من أعلام المجتهدين، وأكبر داعية إلى ترك التقليد، وأخذ الأحكام اجتهادا من الكتاب والسنة، فهو بذلك يعد في طليعة المجددين في العصر الحديث، ومن الذين شاركوا في إيقاظ الأمة الإسلامية في عصره.
وقد أحس بوطأة الجمود، وجناية التقليد الذي ران على الأمة الإسلامية من بعد القرن الرابع الهجري وأثره في زعزعة العقيدة، وشيوع البدع، والتعلق بالخرافات وانصراف الناس عن التعاليم الدينية وانكبابهم على الموبقات والمنكرات، مما جعله يشرع قلمه ولسانه في وجه الجمود والتقليد ويقف حياته على محاولة تغيير هذه الأوضاع الفاسدة، وتطهير تلك العقائد الباطلة. . . (1).
ويمكن أن نبين أبعاد هذه الحياة العلمية في ثلاثة أهداف:
1 - دعوته إلى الاجتهاد ونبذ التقليد.
2 - دعوته إلى العقيدة السلفية في بساطتها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
3 - دعوته إلى محاربة كل ما يخل بالعقيدة الإسلامية.
قلت: وعلى رأس أهدافه تحكيم شرع الله في جميع مجالات الحياة (2).
_________
(1) الإمام الشوكاني مفسرا. للغماري (ص62 - 63). مع شيء من التصرف.
(2) انظر " الدواء العاجل لدفع العدو الصائل " رقم (188) من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني(1/25)
المبحث الرابع
توليه القضاء
في عام 1209 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم توفي كبير قضاة اليمن القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي، وكان مرجع العامة والخاصة وعليه المعول في الرأي والأحكام ومستشار الإمام والوزارة (1).
قال الشوكاني (2) " وكنت إذ ذاك مشتغلا بالتدريس في علوم الاجتهاد، والإفتاء والتصنيف منجمعا عن الناس لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائنا من كان ولم يكن لي رغبة في سوى العلوم. . . فلم أشعر إلا بطلاب لي من الخليفة بعد موت القاضي المذكور بنحو أسبوع، فذهبت إلى مقامه العالي فذكر لي أنه قد رجح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرت له، بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكن وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالي في يومي اجتماع الحكام فيه، فقلت سيقع مني الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير، فلما فارقته ما زلت مترددا نحو أسبوع، ولكنه وفد إلي غالب من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه وعلمه،. . فقبلت مستعينا بالله ومتكلا عليه. . . وأسأل الله بحوله وطوله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين معاصيه وييسر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر، ويقيمني في مقام العدل ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا " ا هـ.
قلت: وربما أن الشوكاني رأى في منصب القضاء فرصة لنشر السنة وإماتة البدعة، والدعوة إلى طريق السلف الصالح. . . .
_________
(1) البدر الطالع (2/ 334)
(2) في البدر الطالع (1/ 464 - 466)(1/26)
كما أن منصب القضاء سيصد عنه كثيرا من التيارات المعادية له، ويسمح لأتباعه بنشر آرائه السديدة، وطريقته المستقيمة.
" والأئمة الثلاث الذين تولى الشوكاني القضاء الأكبر لهم ولم يعزل حتى وافته المنية هم:
1 - المنصور علي بن المهدي عباس ولد سنة 1151 هـ وتوفي سنة 1224هـ ومدة خلافته (25) سنة.
2 - ابنه المتوكل علي بن أحمد بن المنصور علي، ولد سنة 1170هـ وتوفي سنة 1231 هـ ومدة خلافته نحو (7) سنوات.
3 - المهدي عبد الله ولد سنة 1208هـ وتوفي سنة 1251هـ ومدة خلافته (20) سنة " (1).
قلت: كان تولي الشوكاني القضاء كسبا كبيرا للحق والعدل، فقد أقام سوق العدالة بينا، وأنصف المظلوم من الظالم، وأبعد الرشوة وخفف من غلواء التعصب ودعا الناس إلى اتباع القرآن والسنة.
إلا أن هذا المنصب قد منعه من التحقيق العلمي، يظهر ذلك إذا ما تتبع المرء مؤلفاته قبل توليه القضاء وبعده، تجد الفرق واضحا.
_________
(1) الإمام الشوكاني مفسرا. للغماري (ص 71) باختصار(1/27)
المبحث الخامس
شيوخه وتلامذته
أولا شيوخه:
1 - العلامة أحمد بن عامر الحدائي (1127 - 1197هـ = 1715 - 1783م).
2 - السيد العلامة إسماعيل بن الحسن المهدي بن أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد (1120 - 1206هـ).
3 - السيد الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكباني (1135 - 1207هـ = 1723 - 1772 م).
4 - القاضي عبد الرحمن بن حسن الأكوع (1135 - 1207هـ = 1724 - 1772 م).
5 - العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي (1140 - 1208 هـ).
6 - السيد العلامة علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر (1141 - 1208هـ = 1728 - 1793 م).
7 - العلامة القاسم بن يحيى الخولاني (1162 - 1209 هـ = 1714 - 1794م).
8 - والده علي بن محمد الشوكاني (ت 1211 هـ).
9 - السيد عبد الرحمن بن قاسم المداني (1121 - 1211هـ = 1709 - 1796م).
10 - العلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي (1150 - 1228 هـ).
11 - السيد العارف يحيى بن محمد الحوثي (1160 - 1247 هـ= 1747 - 1831 م) (1).
12 - أحمد بن محمد الحرازي.
_________
(1) ذكرهم الدكتور إبراهيم إبراهيم هلال. محقق كتاب " قطر الولي" (ص41 - 42) وانظر البدر الطالع (2/ 215 - 218).(1/28)
13 - علي بن هادي عرهب (1164 - 1236هـ).
14 - هادي بن حسن القارني (1).
15 - يوسف بن محمد بن علاء المزجاجي (1140 - 1213هـ) (2).
16 - أحمد بن أحمد بن مطهر القابلي (1158 - 1227هـ) (3).
17 - عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1165 - 1210هـ) (4).
وبذلك بلغ عدد أساتذته الذين تمكن الباحث (5) من حصرهم - حتى الآن- سبعة عشر شيخا. وقد أخذ عنهم مختلف علوم عصره (6).
ثانيا تلاميذه:
1 - أحمد بن عبد الله العمري الضمدي (1170 - 1212هـ).
2 - السيد أحمد بن علي بن محسن بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1150 - 1222 هـ).
3 - القاضي أحمد بن محمد الشوكاني (1229 - 1281 هـ) وهو ابن الإمام الشوكاني.
4 - أحمد بن ناصر الكبسي (1209 - 1271هـ).
5 - أحمد بن حسين الوزان الصنعاني (1186 - 1238هـ).
6 - أحمد بن زيد الكبسي الصنعاني (1209 - 1271هـ).
_________
(1) البدر الطالع (2/ 215 - 217)
(2) البدر الطالع (2/ 356 - 357)
(3) البدر الطالع (1/ 96 - 97)
(4) البدر الطالع (1/ 380 - 381)
(5) وهو الدكتور عبد الغني قاسم غالب الشرجبي في كتابه: " الإمام الشوكاني حياته وفكره " ص 172.
(6) انظر المرجع السابق ص 172 - 177، لتعلم العلوم التي قرأها الشوكاني عليهم رحمهم الله جميعا.(1/29)
7 - المتوكل على الله رب العالمين أحمد ابن الإمام المنصور علي ابن الإمام المهدي لدين الله العباس ابن الإمام المنصور بالله حسين ابن الإمام المتوكل على الله القاسم ابن الحسين بن أحمد بن حسين ابن الإمام القاسم (1170 - 1221 هـ).
8 - أحمد بن لطف الباري بن أحمد بن عبد القادر الورد (1191 - 1282هـ).
9 - أحمد بن علي محسن بن أحمد الطشي الصعدي أصلا، والرداعي مولدا (1190 - 1279 هـ).
10 - أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي الحرازي نسبة والده، الزماري مولدا، ولد في 1158هـ.
11 - السيد العلامة أحمد بن محمد بن حسين بن علي بن حسن ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل ابن الإمام القاسم عليهم السلام. ولد في عام 1210 هـ.
12 - أحمد بن يوسف الرباعي، ولد في صنعاء عام 1150هـ.
13 - القاضي العلامة أحمد بن علي العودي.
14 - السيد العلامة إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن يوسف ابن الإمام المهدي محمد بن الحسن ابن الإمام القاسم (1165 - 1237 هـ).
15 - القاضي العلامة إبراهيم بن أحمد بن يوسف الرباعي، ولد عام 1199 هـ.
16 - السيد العلامة الورع إسماعيل بن أحمد الكبسي الملقب " المفلس ".
17 - أحمد بن علي بن محمد بن أحمد الطشي المعدي (1190 - 1279 هـ).
18 - أحمد بن يوسف الرباعي، ولد عام 1155هـ.
19 - السيد إسماعيل بن إبراهيم (1165 - 1237 هـ).
20 - القاضي العلامة الحسين بن قاسم المجاهد (1190 - 1276هـ).
21 - حسن بن أحمد بن يوسف الرباعي الصنعاني. ولد تقريبا على رأس القرن الثاني عشر وتوفي عام 1276هـ.
22 - القاضي العلامة الحسن محمد بن صالح السحولي (1190 - 1234هـ).(1/30)
23 - الحسن بن علي الغماري الصنعاني (1170 - 1225هـ) ولد ونشأ في صنعاء.
24 - القاضي العلامة الحسن بن محمد بن عبد الله العنسي الصنعاني الكوكباني ولد في 1188هـ.
25 - القاضي العلامة الحسين بن يحيى السلفي الصنعاني، ولد بعد سنة 1160 هـ.
26 - سيف بن موسى بن جعفر البحراني، وفد إلى صنعاء عام 1234هـ، وتركها عام 1234هـ.
27 - السيد شرف الدين بن أحمد (1159 - 1241هـ).
28 - الشيخ صديق المزجاجي الزبيدي (1150 - 1209هـ).
29 - القاضي العلامة صالح بن أحمد العنسي الصنعاني، ولد عام (1200 هـ).
30 - علي بن أحمد هاجر الصنعاني (1180 - 1235هـ).
31 - عبد الله بن شرف الدين المهلل (1170 - 1226هـ).
32 - عبد الله بن محسن الحيمي ثم الصنعاني (1170 - 1240هـ).
33 - السيد عبد الله بن عيسى الكوكباني (1175 - 1224 هـ).
34 - السيد عبد الوهاب بن حسين بن يحيى الديلمي الماري (1201 - 1235هـ).
35 - السيد علي بن يحيى أبو طالب (1157 - 1236هـ).
36 - العلامة عبد الرحمن بن يحيى الآنسي ثم الصنعاني (1168 - 1250هـ).
37 - الشيخ المعمر عبد الحق الهندي المتوفى في سفره للحج سنة (1286هـ).
38 - القاضي علي بن أحمد بن عطية، ولد في خبان (اليمن الأوسط) عام (1180هـ).
39 - عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الله العنسي الصنعاني (1190 - 1231هـ).
40 - عبد الله بن محسن الحيمي الصنعاني، ولد عام (1170هـ).
41 - عبد الرحمن بن حسين الريمي الذماري ولد عام (1170هـ) أو بعدها بقليل.
42 - عبد الرحمن بن أحمد البهكلي الضمدي (1180 - 1227هـ).(1/31)
43 - السيد علي بن إسماعيل بن القاسم بن أحمد ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد (1151 - 1229 أو 1230هـ).
44 - علي بن محمد بن علي الشوكاني ابن الإمام الشوكاني (1217 - 1250هـ).
45 - السيد العلامة عبد الله بن عامر الحوثي ثم الصنعاني، ولد في صنعاء عام (1196هـ).
46 - العلامة الأديب عبد الله بن علي الجلال، ولد في أوائل القرن الثالث عشر.
47 - القاضي العلامة عبد الله بن علي سهيل (1180 - 1251 هـ).
48 - القاضي العلامة عبد الحميد بن أحمد بن محمد قاطن، ولد في جمادى الأولى (1175هـ).
49 - عبد الله بن شرف الدين الجبلي، ولد في (1170هـ).
50 - السيد العلامة عبد الله بن عباس بن الحسن بن يوسف ابن الإمام المهدي محمد بن أحمد بن حسن ابن الإمام القاسم، ولد عام (1196هـ).
51 - السيد العلامة علي بن أحمد بن الحسن بن عبد الله الظفري، ولد في أوائل القرن الثالث عشر، وتوفي في صنعاء عام (1270هـ).
52 - القاضي العلامة علي عبد الله الحيمي، ولد على رأس المائة الثانية عشرة أو قبلها أو بعدها بقليل. ومات عام (1256هـ).
53 - القاضي العلامة علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني (1130 - 1211هـ).
54 - الإمام العباس بن عبد الرحمن الشهاري توفي عام (1298 هـ).
55 - عبد الرحمن بن محمد العمراني الصنعاني.
56 - السيد عبد الله بن حسين بلفقيه الحضرمي.
57 - السيد القاسم بن إبراهيم بن الحسن بن يوسف بن المهدي محمد ابن الإمام المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم ولد بعد سنة (1165هـ أو في 1167هـ) تقريبا. وتوفي عام (1237 هـ).(1/32)
58 - السيد العلامة القاسم بن أحمد نعمان بن أحمد شمس الدين ابن الإمام المهدي أحمد بن يحيى (1166 - 1223هـ).
59 - القاسم ابن أمير المؤمنين المتوكل على الله أحمد ابن أمير المؤمنين رحمه الله المنصور بالله علي بن المهدي العباس (1221 - 1239هـ).
60 - الفقيه العلامة قاسم بن لطف الجبلي ولد عام (1180هـ) تقريبا.
61 - الفقيه لطف الله بن أحمد بن لطف الله جحاف (1189 - 1243هـ).
62 - السيد محسن بن عبد الكريم بن أحمد بن إسحاق الصنعاني (1191 - 1266 هـ).
63 - محمد بن أحمد سعد السودي (1178 - 1236هـ).
64 - القاضي العلامة محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد مشحم الصنعاني (1186 - 1223 هـ).
65 - القاضي العلامة محمد بن أحمد الحرازي (1194 - 1245هـ).
66 - القاضي العلامة محسن بن الحسين بن علي بن حسن المغربي (1191 - 1252 هـ).
67 - القاضي محمد بن أحمد الشاطبي الصنعاني (1210 - 1255هـ).
68 - محمد بن إسماعيل بن الحسين الشامي (1194 - 1224هـ).
69 - القاضي العلامة محمد بن حسين السماوي ولد عام (1170هـ).
70 - القاض محمد بن حسن الشجني الذماري. صاحب (التقصار في جيد زمن علامة الأقاليم والأمصار) وقد ذكر فيه مشايخه (1200 - 1286 هـ).
71 - الفقيه العلامة محمد بن صالح العصامي الصنعاني (1188 - 1263 هـ).
72 - السيد العلامة محمد بن عز الدين النعمي التهامي (1180 - 1232هـ).
73 - السيد العلامة محمد بن الحسن المحتسب (1170 - 1257هـ).
74 - الفقيه العلامة محمد بن علي بن حسن العمراني الصنعاني (1194 - 1264هـ).(1/33)
75 - الشيخ محمد الكردي, أصله من أكراد قرية مجاورة لبغداد, قدم إلى صنعاء في أوائل القرن الثالث عشر.
76 - الشيخ محمد عابد بن علي بن أحمد بن محمد بن مراد الأيوبي الأنصاري السندي المكي، تردد إلى صنعاء وأقام بها مدة طويلة. توفي عام (1257 هـ).
77 - السيد محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي (1178 - 1251هـ).
78 - السيد العلامة محمد بن يحيى إسماعيل الأخفش الحسني الصنعاني، ولد في صنعاء عام (1210هـ) توفي في القرن الثالث عشر.
79 - القاضي العلامة محمد بن يحيى سعيد بن حسين العنسي الذماري (1200 - 1266 هـ).
80 - القاضي محمد بن علي الأرياني (1198 - 1245هـ).
81 - القاضي محمد بن لطف الورد الصنعاني. وتوفي عام (1272 هـ).
82 - القاضي محمد بن الحرازي الصنعاني.
83 - السيد محمد بن الكبسي الصنعاني. وتوفي في القرن الثالث عشر.
84 - القاضي محمد بن مهدي الضمدي الخماطي التهامي الصنعاني (1193 - تقريبا 1269 هـ).
85 - محمد بن محمد زبارة الحسيني اليمني الصنعاني، وهو من الجيل الثاني للشوكاني. وقد توفي عام (1381هـ- 1962 م).
86 - السيد محمد صديق حسن خان (1248 - 1357هـ).
87 - الفقيه العلامة هادي حسين القارني الصنعاني (1164 - 1238 هـ).
88 - السيد يحيى بن أحمد أبي أحمد الديلمي الحسني الذماري، ولد عام (1185 هـ) أو عام (1190هـ).
89 - القاضي العلامة يحيى بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني (1190 - 1262 أو 1267هـ).(1/34)
90 - العلامة يحيى بن علي الودمي (1203 - 1279هـ).
91 - السيد العلامة يحيى بن محمد الأخفش (1206 أو 1204 أو 1205 - 1262 هـ أو 1263).
92 - السيد العلامة يحيى بن المطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين ابن الإمام القاسم بن محمد الحسيني الصنعاني (1190 - 1268هـ).
ونكتفي بذكر ما سبق من تلاميذ الشوكاني وعددهم اثنان وتسعون تلميذا وإلا فهم مئات بل ألوف (1).
_________
(1) ذكر الدكتور إبراهيم إبراهيم هلال في مقدمة " قطر الولي " (ص 42 - 45) تلاميذ الشوكاني وعددهم ثلاثة عشر تلميذا.
وذكر الدكتور محمد حسن الغماري صاحب كتاب " الشوكاني مفسرا " ص 74 - 81، ثلاثة وثلاثين تلميذا.
وذكر الدكتور عبد الغني قاسم الشرجبي صاحب كتاب " الشوكاني حياته وفكره " (ص 238 - 266)، تلاميذ الشوكاني وعددهم اثنان وتسعون تلميذا. كما أورد عقب ترجمة كل تلميذ العلوم التي استفادها التلميذ من الشوكاني(1/35)
المبحث السادس
مؤلفاته وآثاره
1 - الدراري المضية شرح الدرر البهية في المسائل الفقهية. مجلدان.
2 - وبل الغمام على شفاء الأوام. مجلدان.
3 - أدب الطلب، ومنتهى الأرب.
4 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. عشرة مجلدات.
5 - نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار. ستة عشر مجلدا.
6 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار. ثلاثة مجلدات.
7 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. مجلد.
8 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. مجلد.
9 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. مجلد.
10 - تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين. مجلد.
11 - قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها. مجلد.
12 - در السحابة في مناقب القرابة والصحابة. مجلدان.
13 - ديوان الشوكاني. إسلاك الجوهر والحياة الفكرية والسياسة في عصره.
تحقيق ودراسة: د. حسين بن عبد الله العمري.
14 - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني.
اثنا عشر مجلدا.
وهو كتابنا هذا.
هذا وقد أكرمني الله تعالى بتحقيق هذه الكتب والآثار القيمة والتعليق عليها(1/36)
وتخريج أحاديثها ولله الحمد والمنة خدمة للعلم، وطمعا في ثواب الله ووفاء للإمام الشوكاني فريد عصره رحمه الله تعالى.
المحقق
أبو مصعب
محمد صبحي بن حسن حلاق(1/37)
ترتيب الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني كما رغبه وتمناه الإمام في مقدمة المجلد الثاني(1/39)
قال الإمام محمد بن علي الشوكاني في مقدمة المجلد الثاني من " الفتح الرباني ":
(الحمد لله.
هذا أحد المجلدات التي سميتها " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " والمجلد الآخر مثله جمعت فيهما الرسائل والجوابات التي حررتها وهذا المجلد فيما يختص بما هو على أبواب الفقه وفيه بعض تقديم وتأخر على ما يقتضيه الترتيب على الأبواب لعل ذلك من خلط المجلد، والمجلد الآخر فيما لا يختص بذلك وقد كنت بيضت مجلدا كبيرا قدمت فيه مسائل الفقه على أبوابه ثم غيرها بعدها، وحدث بعد جمعه مسائل كثيرة ورسائل جمة قد اشتمل عليها هذا المجلد والذي بعده وثم مسائل ورسائل تفرقت وذهبت بها أيدي الضياع وقد يعود بعضها إن شاء الله، وقد يحدث بعد هذه غيرها إذا بقي في العمر سعة وفي الأجل مهلة وربما يعين الله على ترتيب هذه الفتاوى بالجمع بين هذا المجلد والمجلد الذي بعده والمجلد الذي قد بيضته، وقد أعان الله على جمع مجلد رابع مما حدث بعد هذا التاريخ، ثم أعان سبحانه على مجلد خامس.
وتقدم مسائل الفقه على أبوابه، ثم مسائل التفسير، ثم الحديث، ثم الأصول، ثم علم العربية وما يلتحق به.
كتبه المؤلف محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
في شهر جمادى الأولى سنة 1224حامدًا لله ومصليًا على رسوله وآله ومسلمًا) ا هـ.(1/42)
المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (1)، ويحتوي على الرسائل التالية:
1 - القول المحرر في حكم لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر.
2 - تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا.
3 - بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم.
4 - سؤال عن عدالة جميع الصحابة، هل هي مسلمة أم لا؟
5 - سؤال في النفث المذكور في حديث الأذكار عند النوم.
6 - بحث في تعداد الشهداء الواردة بذكرهم الأدلة.
7 - سؤال عن حديث الأنبياء أحياء في قبورهم.
8 - بحث في حكم المولد.
9 - إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
10 - سؤال في هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع العوام الذين لا فطنة لهم وجواب الشوكاني.
11 - سؤال عن الفرق بين الجنس واسم الجنس وبينهما وبين علم الجنس وبين اسم الجنس واسم الجمع وبين اسم الجمع مع الجواب للشوكاني.
12 - القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
13 - رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم؟
14 - رسالة تتضمن الرد على من استبعد قول العلامة أبو القاسم البلخي وهو " الكعبي "
_________
(1) أخي القارئ الكريم لقد توفر لنا المجلد الثاني والثالث والرابع والخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني مع تأكدنا من نسبتها إليه ولله الحمد والمنة.
أما المجلد الأول لم نحصل عليه كاملا بل جمعناها من بطون المخطوطات المتناثرة فنسأل الله أن يثيبنا على ذلك. ونعتقد أنه لم يفتنا منه إلا النادر اليسر والكمال لله وحده.(1/44)
من أن المباح مأمور به (1).
15 - بحث في مسألة الرؤية وهو المسمى: " البغية في مسألة الرؤية ".
16 - عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد.
17 - التشكيك على التفكيك لعقود التشكيك.
18 - زهرة النسرين الفائح بفضائل المعمرين.
19 - إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع.
20 - رسالة في حكم القيام لمجرد التعظيم.
21 - قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة: اعلم أن القول في الصحابة.
22 - جواب في حكم احتلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
23 - جواب سؤال في قوله تعالى {إلا من ظلم}.
24 - بحث في من أجبر على الطلاق.
25 - هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم؟
26 - جواب سؤال ورد من أبي عريش حول الوصية بالثلث.
27 - رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم.
28 - بحث في الكسوف.
29 - بحث في الماء الكائن في المحلات المملوكة.
30 - سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات.
31 - سؤال وجواب عن أرض مشتراة من جماعة لها مسقى في أرض مستوية. . .
32 - بحث في الإضرار بالجار.
33 - رفع الجناح عن نافي المباح.
34 - رسالة في حكم المخابرة.
_________
(1) مضمون هذه الرسالة مكرر تمامًا في الرسالة رقم (33) فلذا تم حذفها.(1/45)
35 - سؤال وجواب عن أذكار النوم.
36 - بحث في " لا يبيع حاضر لباد ".
37 - سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
38 - الجواب المنير على قاضي بلاد عسير.
39 - إتحاف المهرة بالكلام على حديث: " لا عدوى ولا طيرة ".
40 - جواب سؤال عن نكتة التكرار في قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله}. . . {المسلمين}.
41 - جواب عن سؤال كيف أن الفاء في قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك} ... واقعة موقع الدليل.
41 - جواب السائل عن تفسير تقدير القمر منازل ويليه إشكال السائل في الجواب عن تفسير تقدير القمر.
42 - حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
43 - توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
45 - الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
46 - إرسال المقال على إزالة الإشكال.
47 - تفويق النبال إلى إرسال المقال.
48 - الدراية في مسألة الوصاية.
49 - أسئلة من محروس كوكبان. وقعت فيها مراجعة بين العلامة الحسين بن عبد الله الكبسي وبين حكام كوكبان. وجواب الإمام الشوكاني عليها.
50 - بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار.
51 - سؤال في الوقف على الذرية والجواب.
52 - بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟!
52 - نثر الجوهر على حديث أبي ذر.(1/46)
* المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى:
1 - بلوغ المنى في حكم الاستمنى.
2 - رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس.
3 - تحرير إيضاح الدلائل على ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الحائل.
4 - إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة.
5 - اللمعة في الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة.
6 - ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة.
7 - الدفعة في وجه ضرب القرعة.
8 - كشف الرين في حديث ذي اليدين.
9 - بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي.
10 - بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمي لها المهر.
11 - بحث في المحاريب.
12 - بحث في الاستبراء.
13 - بحث في العمل بالرقومات.
14 - إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات.
15 - دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات.
16 - بحث في نفقة الزوجة.
17 - بحث في الطلاق المشروط.
18 - بحث في " الصوم لي وأنا أجزي به ".
19 - بحث في اختلاف النقد المتعامل به.
20 - الأبحاث الحسان المتعلقة بالعارية والشركة والتأجير والرهان.
21 - بحث في بيع المشاع من غير تعيين.(1/48)
22 - بحث فيمن وقف على أولاده دون زوجته.
23 - بحث في إنشاءات النساء.
24 - إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث.
25 - بحث في حديث فدين الله أحق أن يقضى.
26 - بدر شعبان الطالع في سماء العرفان.
27 - المباحث الوفية في الشركة العرفية.
28 - عقد الجمان في بيان حدود البلدان.
29 - سمط الجمان فيما أشكل من مسائل عقد الجمان.
30 - إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقد الجمان.
31 - القول المقبول في فيضان الغيول والسيول.
32 - الوشي المرقوم قي تحريم التحلي بالذهب على العموم.
33 - القول الجلي في حل لبس النساء للحلي.
34 - بحث في التصوير.
35 - بحث في المخابرة.
36 - رفع منار حق الجار بالإجبار على البيع مع الضرار.
37 - كشف الأستار في حكم شفعة الجار.
38 - هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي.
39 - إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين.
40 - رفع الخصام قي الحكم بعلم الحكام.
41 - بحث في نقض الحكم إذا لم يوافق الحق.
42 - بحث في قبول العدلة في عورات النساء.
43 - الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة.
44 - الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة.(1/49)
45 - الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة.
46 - منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان.
47 - البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر.
48 - بحث في قاذف الرجل وما عليه من المناقشات.
49 - بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك.
50 - بحث في مسائل الوصايا.
51 - إيضاح القول في إثبات العول.
52 - الدرر البهية في المسائل الفقهية.
***(1/50)
المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى:
1 - تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام.
2 - بحث في أطفال الكفار.
3 - بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك. وعليه بحث وعلى البحث بحث.
4 - أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك وغيرها.
5 - العذب النمير في جواب مسائل عالم بلاد عسير.
6 - فائق الكسا في جواب عالم الحسا.
7 - الأبحاث الوضية في الكلام على حديث حب الدنيا رأس كل خطية.
8 - الدر النضيد في إخلاص التوحيد.
9 - بحث في القرائن.
10 - الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد.
11 - بحث في حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها.
12 - بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديت الغدير.
13 - بحث عن معنى حديث " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم. . . الخ ".
14 - إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر.
15 - إرشاد السائل إلى دلائل المسائل.
16 - القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق.
17 - بحت عن تفسير قوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة}.
18 - العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي. ثم مناقشة عليه.
19 - ثم جواب على المناقشة (ذيل العرف الندي في جواز إطلاق لفظ سيدي).
20 - المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة.(1/54)
21 - الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف.
(من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم}.
22 - القول المفيد في حكم التقليد.
23 - بحث في قول أهل الحديث: رجال إسناده ثقات.
ثم مناقشة على الرسالة.
24 - مقتطفات من الكتب المقدسة: الإنجيل، والزبور، والتوراة.
25 - كلمات نقلتها عن الحكماء المتقدمين.
26 - بحث في حديث أن الله خلق آدم على صورته.
27 - بحث في حديث " لعن الله اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ".
28 - بحث في حديث اجعل لك صلاتي كلها وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن هم.
29 - بحث في من قال امرأته طالق ليقضين غريمه غدا إن شاء الله.
30 - جيد النقد لعبارة الكشاف والسعد.
31 - وبل الغمامة في تفسير: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}.
32 - بحث في كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده.
33 - بحث في الصلاة على من مات وعليه دين.
***(1/55)
* المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى:
1 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات.
2 - فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير.
3 - كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار.
4 - شرح الصدور في تحريم رفع القبور.
5 - جواب سؤالات من الفقيه قاسم لطف الله.
6 - جواب سؤالات وصلت من كوكبان.
7 - الإيضاح لمعنى التوبة والإصلاح.
8 - جواب سؤالات وردت من تهامة.
9 - جواب سؤالات وردت من بعض العلماء.
10 - رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة.
11 - بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية.
12 - التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف.
13 - المباحث الدرية في المسألة الحمارية.
14 - جواب سؤال في نجاسة الميتة.
15 - تشنيف السمع بجواب المسائل السبع.
16 - بحث في الكلام على أمناء الشريعة.
17 - الدواء العاجل لدفع العدو الصائل.
18 - بحث في الكلام على قوله سبحانه: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل}.
19 - تنبيه الأمثال على عدم جواز الاستعانة من خالص المال.
20 - القول الواضح في صلاة المستحاضة ونحوها من أهل العلل والجرائح.(1/57)
21 - بحث في جواب سؤال عن الصبر والحلم هل هما متلازمان أم لا؟
22 - جواب عن الذكر في المسجد.
23 - بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء.
24 - بحث في الأذكار الواردة في التسبيح.
25 - بحث في وجوب محبة الرب سبحانه.
26 - بحث في العمل بقول المفتي صح عندي.
27 - بحث في النهي عن إخوان السوء.
28 - بحث في الرد على الزمخشري في استحسان بيت +المربه.
29 - بحث في كون أعظم أسباب التفرق في الدين هو علم الرأي.
30 - بحث في مستقر أرواح الأموات.
31 - بحث في وجود الجن.
32 - بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء.
33 - القول الحسن في فضائل أهل اليمن.
34 - بحث في كون الولد يلحق بأمه.
35 - بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
36 - جواب سؤال يتعلق بما ورد فيما أظهر الخضر.
37 - جواب الشوكاني على الدماميني.
38 - إفادة السائل في العشر المسائل.
39 - بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة.
40 - بحث في مؤاخاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الصحابة.
41 - جواب سؤالات وصلت من كوكبان.
42 - المسك الفايح في حط الجوايح.
43 - تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل.(1/58)
44 - رفع الباس عن حديث النفس والهم والوسواس.(1/59)
المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، ويحتوي على الرسائل التالية كما رتبها مؤلفها رحمه الله تعالى:
1 - نزهة الأحداق في علم الاشتقاق.
2 - فوائد في أحاديث فضائل القرآن.
3 - بغية المستفيد في الرد على من أنكر العمل بالاجتهاد من أهل التقليد.
4 - طيب الكلام في تحقيق الصلاة على خير من حملته الأقدام.
5 - رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين.
6 - بحث في الرد على من قال إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة.
7 - بحث في أن السجود بمجرده من غير انضمامه إلى صلاة عبادة مستقلة يأجر عبده عليها.
8 - الحد التام والحد الناقص. (بحث في المنطق).
9 - سؤال وجواب في فقراء الغرباء الواصلين إلى مكة من سائر الجهات ومكثهم في المسجد الحرام.
10 - كلام في " فن المعاني والبيان " (تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية).
11 - شرح لحديث " بني الإسلام على خمسة أركان " وما يترتب عليه.
12 - الاجتماع على الذكر والجهر به.
13 - جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه.
14 - الأذكار. (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها).
15 - بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة.
16 - بحث في دفع من قال أنه يستحب الرفع في السجود.(1/61)
17 - النشر لفوائد سورة العصر.
18 - بحث فيما زدته من الأبيات الصالحة للاستشهاد على مجموع ابن سناء الملك.
19 - بحث في الكلام على حديث: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ".
20 - يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون.
21 - بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد.
22 - الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع.
23 - بحث في الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
24 - نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار.
25 - بحث في دم الخيل ودم بني آدم هل هو طاهر أم نجس.
26 - بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية.
27 - بحث في التصوف.
28 - بحث مشتمل على الكلام فيما يدور بين الناس هل الامتثال خير من الأدب أو الأدب خير من الامتثال. وكذلك على ما يدور بينهم من قولهم لا خير في الشرف ولا شرف في الخير.
29 - الربا والنسيئة.
30 - فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي.
31 - بحث في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنما الأعمال بالنيات ".
32 - بحث في تفسير قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}.
33 - بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق.
34 - بحث في المتحابين في الله.
35 - ترجمة علي بن موسى الرضا.(1/62)
36 - الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات(1/63)
أقسام العلوم التي يتضمنها الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني
بترتيب المحقق
أولاً: العقيدة
ثانيًا: القرآن وعلومه
ثالثًا: الحديث وعلومه
رابعًا: الفقه وأصوله
خامسًا: اللغة العربية وعلومها وعلوم أخرى(1/65)
بسم الله الرحمن الرحيم
منهجي في تحقيق الفتح الرباني وتخريجه
1 - قسمت الفتح الرباني إلى خمسة أقسام:
أولاً: العقيدة.
ثانيًا: القرآن وعلومه.
ثالثًا: الحديث وعلومه.
رابعًا: الفقه وأصوله.
خامسًا: اللغة العربية وعلومها. وعلوم أخرى.
2 - كتبت الفتح الرباني بمجلداته الخمس كما هي من المخطوط.
3 - قابلت بعض الرسائل والموضوعات على أكثر من مخطوط إن وجد.
4 - وصفت مخطوط كل رسالة أو موضوع.
5 - أثبتت صورة لعنوان الرسالة والصفحة الأولى والأخيرة منها.
6 - وضعت مقدمة حول عقيدة الإمام الشوكاني من خلال كتبه ورسائله.
7 - ترجمت للمؤلف ترجمة مفيدة.
8 - أثبت صورا لعناوين الرسائل في المجلدات الخمس من الفتح الرباني.
9 - عزوت الآيات القرآنية إلى سورها مع الضبط.
10 - خرجت الأحاديث من مصادرها المختلفة وذكرت رقم الجزء والصفحة ورقم الحديث.
11 - ضبط الكلمات الغريبة والصعبة والمشكلة على القارئ في المجلدات الخمس.
12 - بينت مرتبة الأحاديث من حيث الصحة أو الحسن أو الضعف أو الوضع.
13 - أضفت تعليقات هامة، لتوضيح المعاني والغايات التي يتوخاها المؤلف.
14 - شرحت الكلمات الغريبة والعبارات الغامضة.(1/67)
15 - عزوت الأقوال إلى مظانها إن وجدت، أو إلى من أوردها من العلماء في كتبهم الموجودة.
16 - ترجمت للعَلَم مرة واحدة على مدار الكتاب بمجلداته الخمس.
17 - عرفت بالفرقة أو الطائفة مرة واحدة على مدار الكتاب بمجلداته الخمس.
18 - عزوت الأشعار إلى قائليها ما أمكن.
19 - ضبطت أسماء الأماكن وذلك بالرجوع إلى كتب البلدان.
20 - أوردت الآيات التي أشار إليها المؤلف ولم يذكرها.
21 - أوردت الأحاديث التي أشار إليها المؤلف ولم يذكرها.
22 - وضعت عناوين جانبية لبعض موضوعات الكتاب.
23 - فهارس الرسائل حسب ورودها في الكتاب.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة. .
ولوجهك خالصة.
ولا تجعل فيها شركا لأحد.
صنعاء مساء ليلة الجمعة: 29 شوال 1420 هـ
4/ 2/2000 م(1/68)
أولاً: العقيدة(1/69)
رسائل المجلد الأول: العقيدة
1 - أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك وغيرها 4/ 3 (1).
2 - العذب النمير في جواب مسائل بلاد عسير 5/ 3
3 - التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف 12/ 4
4 - الدر النضيد في إخلاص التوحيد 8/ 3
5 - بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء 23/ 4
6 - بحث في وجوب محبة الرب سبحانه 25/ 4
7 - بحث في حديث أن الله خلق آدم على صورته 26/ 3
8 - بحث في وجود الجن 31/ 4
9 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات 1/ 4
10 - المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة 20/ 3
11 - مقتطفات من الكتب المقدسة: 24/ 3
12 - الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات 36/ 5
13 - بحث في مستقر أرواح الأموات 30/ 4
14 - سؤال عن حديث " الأنبياء أحياء في قبورهم " 7/ 1
15 - بحث في الرد على من قال: إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة 6/ 5
16 - بحث في أطفال الكفار 2/ 3
17 - بحث في مسألة الرؤية وهو المسمى: (البغية في مسألة الرؤية) 15/ 1
18 - كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار 3/ 4
19 - إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي 9/ 1
_________
(1) الرقم إلى يمين الخط يشير إلى رقم الرسالة في المجلد.
والرقم إلى شمال الخط يشير إلى رقم المجلد من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(1/71)
20 - قال المؤيد بالله يحيى بن حمزة: اعلم أن القول في الصحابة. . 21/ 1
21 - هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم. . . 25/ 1
22 - بحث في حديث " أنا مدينة العلم وعلي بابها " 11/ 3
23 - الدراية في مسألة الوصاية 48/ 1
24 - الصوارم الحداد المقاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد 10/ 3.
25 - بحث في التصوف 27/ 5.
26 - بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء 32/ 4.
27 - بحث في حكم المولد 8/ 1 (1).
_________
(1) لقد حققت الباحثة: أم الحسن، محفوظة بنت علي شرف الدين. من هذا المجلد الرسائل التي تحمل الأرقام التالية: (3) و (4) و (6) و (16) و (22) و (24) و (26) حسب تسلسلها في هذا المجلد.(1/72)
مقدمة المحقق حول عقيدة الشوكاني من خلال كتبه (1).
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن مذهب الإمام الشوكاني في الاعتقاد هو مذهب أهل السنة والجماعة إلا في مسائل معدودة كما سنوضحه في هذه المقدمة السريعة.
وقد نهج الشوكاني منهج السلف الصالح في فهم الكتاب والسنة، وصرح بأنه:
_________
(1) معظم هذه المقدمة مستفادة من كتاب " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " تأليف: د. عبد الله نومسوك.(1/73)
"لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة، وإبراز الصفات كما جاءت، ورد علم المتشابه (1) إلى الله سبحانه، وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم - أي علم الكلام- المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل بما يطابق الهوى، لا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في القرآن والسنة، فإنها حينئذ حديث خرافة (2) ولعبة لاعب، فلا سبيل للعباد يتوصلون به إلى معرفة ما يتعلق بالرب سبحانه، وبالوعد والوعيد، والجنة والنار، والمبدأ والمعاد، إلا ما جاءت به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وليس للعقول وصول إلى تلك الأمور. . . " (3).
كما أن الإمام الشوكاني سلك في الاستدلال على وجود الله مسلك القرآن الكريم، وهو إثبات وجود الله عن طريق بيان عظمته وتدبيره المحكم، وقدرته على كل ما في العالم، وعنايته التامة بكل صغيرة وكبيرة.
وقد اشتمل القرآن الكريم على الحجج والبراهين القاطعة التي تقمع شبهة كل ملحد أو منحرف، في كل زمان ومكان. قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام:38] أي ما تركنا في القرآن من أمر الدين، إما تفصيلا أو إجمالاً (4).
ويمكن حصر الطرق التي سلكها الشوكاني في الاستدلال على وجود الله في طريقين:
(الطريق الأول): الفطرة والميثاق المعقود بينها وبين بارئها:
_________
(1) علم المتشابه في القرآن هو العلم الذي يوكل بفهمه لعلم الله تعالى، ولا يجب الخوض فيه، وبخلافه المحكم فهو مفهوم لسائر الأمة.
(2) من الأمثال النبوية، وخرافة رجل من خزاعة، كان قد غاب عن قبيلته ثم عاد، وزعم أن الجن اختطفته، وكان يحدث بأحاديث كذبا حتى ضرب به المثل: فقيل: أكذب من خرافة.
(3) " أدب الطلب ومنتهى الأرب " للشوكاني ص 128 - 129 بتحقيقي.
(4) فتح القدير. للشوكاني (2/ 114).(1/74)
قال الشوكاني في " فتح القدير " (1) " كل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول جماعة من المفسرين، وهو الحق، والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف" ا هـ.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]
استدل الشوكاني بهذه الآية الكريمة على أن التوحيد أمر فطري في الإنسان، ورجح القول بحمل الناس في الآية على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعا مفطورون على ذلك، لولا عوارض تعرض لهم، فيبقون بسببها على الكفر، ثم قال رحمه الله: " وهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه {ذلك الدين القيم}: أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو لزوم الفطرة، هو الدين القيم " (2).
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]. قال الشوكاني: " أي الإسلام (3). فالإسلام هو صبغة الله في كل مخلوق مدرك. وروي عن مجاهد في قوله تعالى: صبغة الله. قال: فطرة الله التي فطر الله الناس عليها (4).
ومما يدل على أن النفس تدرك وجود الله بفطرتها، وترجع إليه في الشدائد والمحن تستمد منه العون، وتطلب منه النجاة.
_________
(1) (4/ 224).
(2) فتح القدير. للشوكاني (4/ 224)
(3) فتح القدير. للشوكاني (1/ 148)
(4) فتح القدير. للشوكاني (1/ 149)(1/75)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22].
فسر الشوكاني هذه الآية وقال: " وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه، وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد " (1).
ويربط الشوكاني في تناسق بين هذه المعرفة الفطرية، وبين الميثاق الذي أخذه الله على الإنسان، وهو في عالم الذر قبل أن يخلق كما أشار سبحانه في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173].
يقول الشوكاني في تفسير الآية: " إن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره، لثبوته مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموقوفا على غيره من الصحابة " (2).
وأيد تفسيره هذا بأحاديث كثيرة:
(منها): حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر
_________
(1) فتح القدير. للشوكاني (2/ 435)
(2) فتح القدير. للشوكاني (2/ 263)(1/76)
آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فتلا قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}: إلى آخر الآية (1).
وهناك ميثاق آخر يرتبط بالميثاق الأول: وهو ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، تجديدا للميثاق الأول، وتذكيرا له، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
قال الشوكاني في " فتح القدير " (2) " وسميت المعذرة حجة، مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة، تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة ".
فلا منافاة بين هذا الميثاق والميثاق الأول، لأن كليهما ثابت في الكتاب والسنة.
قال الحافظ الحكمي في " معارج القبول " (3) " فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول فإنه يقبل ذلك من أول مرة، ولا يتوقف، لأنه جاء موافقا لما في فطرته، وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد.
ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول، بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوده أبواه، أو نصراه، أو مجساه، فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب هذا الميثاق كان مكذبا بالأول، فلم ينفعه
_________
(1) وهو حديث صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (1/ 272) والنسائي في تفسيره رقم (211) وابن أبي عاصم في السنة رقم (202) والحاكم قي المستدرك (1/ 27) و (2/ 544) وصححه وأقره الذهبي. وانظر " الصحيحة " رقم (1623) وتحقيقي لمعارج القبول (1/ 104).
(2) (1/ 538)
(3) (1/ 114) بتحقيقي.(1/77)
إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال: {بلى} جوابا لقوله تعالى: {ألست بربكم} وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب: {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ا هـ.
(الطريق الثاني): النظر والاستدلال بالآيات:
إن القرآن الكريم مملوء بذكر الآيات التي تدعو الإنسان بأن يوجه نظره إلى خلق هذا الكون من سمائه وأرضه، وما فيهما من عجائب مخلوقات الله، وتدعوه إلى التفكر في أسراره ليدعم إيمانه بالخالق سبحانه، ويطرد الشك من نفسه.
يقول الله تعالى: {قُلِ انْظُروا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
قال الشوكاني في " فتح القدير " " والمراد بالنظر: التفكر والاعتبار، أي تفكروا واعتبروا بما في السماوات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع، ووحدته، وكمال قدرته، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتفكرين، سواء كانت من جلائل مصنوعاته، كملكوت السماوات والأرض، أو من دقائقها من سائر مخلوقاته " (1).
وهذه الآيات القرآنية تتعلق إما بالكون وما فيه من مخلوقات، أو ما يسمى: بدلائل الآفاق، وإما بالإنسان نفسه، أو ما يسمى بدلائل النفس.
وقد جمعها الله تعالى في كتابه العزيز في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21] وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
...
_________
(1) (2/ 271, 276)(1/78)
أما منهج الإمام الشوكاني في الإيمان بالقدر، فلا بد من استعراض آرائه في مسائل القدر، ليتبين لنا منهجه الذي سلكه:
1 - أفعال الله تعالى وأفعال العباد:
يذهب الإمام الشوكاني كأهل السنة والجماعة إلى أن الله سبحانه وتعالى فاعل مختار، يتصرف في ملكه كيف يشاء بمقتضى مشيئته وحكمته، (لأنه خالق الخلق وموجده من العدم، فهو حقه وملكه، يتصرف به كيف يشاء، كما يتصرف العباد في أملاكهم من غير حرج عليهم، فإن مالك العبد أو الأمة إذا أراد أن يتصرف بهما ويخرجهما عن ملكه لم تنكر العقول ذلك، ولا تأباه العادات الجارية بين العباد، فكيف تصرف الرب بمخلوقاته، فإنه المالك للعبد وسيده، ولما في الأرضين والسماوات من العالم الذي خلقه، وشق سمعه وبصره، ورزقه، ومن عليه بالنعم إلى لا يقدر على شيء منها إلا هو، تعالت قدرته وتقدس اسمه)) (1).
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
وقال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
قال الشوكاني: ((أي أنه سبحانه لقوة سلطانه، وعظيم جلاله، لا يسأله أحد من خلقه عن شيء من قضائه وقدره (وهم) أي: العباد (يُسألون) عما يفعلون، أي يسألهم الله عن ذلك لأنهم عبيده)) (2).
أما ما يتعلق بأفعال العباد، فقد ذهب الشوكاني مقررا لمذهب السلف إلى أن جميع أفعال العباد، خيرها وشرها، مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها، ((لأن الله خالق كل شيء من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة، كائنا ما كان من غير فرق بين
_________
(1) قطر الولي على حديث الولي. للشوكاني. (ص 413 - 414)
(2) فتح القدير. للشوكاني (3/ 402)(1/79)
شيء وشيء)) (1).
ومما يستدل به الشوكاني على هذا قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات:96]
قال الشوكاني في فتح القدير (2) عند تفسيره لهذه الآية: و" ما " في {وما تعملون} موصولة أي: وخلق الذي تصنعونه على العموم، ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولا أوليا، ويجوز أن تكون مصدرية، أي خلقكم وخلق عملكم ... وجعلها موصولة أولى بالمقام، وأوفق بسياق الكلام)).
وقد قرر الإمام الشوكاني أن أفعال العباد التي صاروا بها مطيعين وعصاة هي مخلوقة لله تعالى (3)؛ وأن الله هو المنفرد بالخلق، وأن سائر الشركاء لا يخلقون شيئا {قل الله خالق كل شيء} [الرعد:16] كائنا ما كان، ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه (4).
2 - الهدي والإضلال:
لقد قرر الشوكاني: ((أن الله- سبحانه وتعالى- يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأن الأمر بيده ما شاء يفعل، من شاء تعالى أن يضله أضله، ومن شاء أن يهديه جعله على صراط مستقيم لا يذهب به إلى غير الحق، ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة)) (5).
قال تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}
_________
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 474).
(2) (4/ 402)
(3) انظر" العذب النمير في جواب عالم بلاد عسير " المسألة الثانية في خلق أفعال العباد. وكذلك " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " وهما ضمن هذا القسم- العقيدة-.
(4) فتح القدير (3/ 74)
(5) فتح القدير (2/ 114)(1/80)
[الأنعام: 39].
كما أخبر- سبحانه- أنه لو شاء ما أشرك الناس، وأنه لو شاء لهداهم أجمعين.
قال تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام:107]
وقال تعالى: {ولو شاء لهداكم أجمعين} [النحل:9]
قال الشوكاني- رحمه الله- في " فتح القدير" (1) ((أي ولو شاء أن يهديكم جميعا إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته - سبحانه - إراءة الطريق والدلالة عليها، {وهديناه النجدين} وأما الإيصال إليها بالفعل فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أن يكون البعض مؤمنا، والبعض كافرا، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع)).
كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الإنسان: 3].
كما قرر الشوكاني- رحمه الله- أن الله تعالى قد وهب لعباده حرية الاختيار في أن يفعلوا وأن لا يفعلوا، لأنه ((خلقهم، وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية)) (2).
وبين أن ((هداية الله - سبحانه - لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل، وإنزاله للكتب، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام والأسماع والأبصار)) (3)
_________
(1) (3/ 149 - 150)
(2) فتح القدير (2/ 448)
(3) فتح القدبر (2/ 444)(1/81)
قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 - 10]
((أي قد فاز من زكَّى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب، وخسر من أضلها وأغواها، ومعنى (دساها) في الآية: أي أخفاها وأخملها، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح)) (1)
((فعدم اهتداء الناس لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم، من السمع، والعقل، والبصر، والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل، والإصرار على الكفر)) (2).
كما بينه الله تعالى بقوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء: 155] وقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين} [الصف:5] ((أي لما أصروا على الزيغ، واستمروا عليه، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وصرفها عن قبول الحق)) (3)
وعلى هذا فإن إسناد الهداية والإضلال إلى الله تعالى إسناد من حيث إنه خلق أفعال العباد، ووضع نظام الأسباب والمسببات، لا أنه جبر الإنسان على الضلالة أو الهداية.
3 - مبدأ السببية في القدر:
لقد أثبت الشوكاني- رحمه الله- مبدأ السببية في الإيمان بالقدر، وأنكر إنكارا شديدا على المنكرين لها، ففي كتابه " قطر الولي على حديث الولي " تحدث عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل، فبين أن الله- عز وجل- لما قدر مقادير العباد، قدرها مع موجباتها وأسبابها، فقدر للخير موجباته وأسبابه، وقدر للشر كذلك، ومن أسباب
_________
(1) فتح القدير: (5/ 449)
(2) قتح القدير: (2/ 448)
(3) فتح القدير (5/ 220)(1/82)
الخير الدعاء والعمل الصالح، قال: ((فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح، فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها، وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله - عز وجل- ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على حصول أسبابها، وذلك كثير جدا)).
ومن ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7]، {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة:282].
وكم يعد العاد من هذا الجنس في الكتاب العزيز، وما ورد في معناه من السنة المطهرة، فهل ينكر هؤلاء الغلاة (1) مثل هذا، ويجعلونه مخالفا لسبق العلم مباينا لأزليته؟ فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله- سبحانه- من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها. بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعها، لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلقة بشروطها)) (2).
كما جمع الشوكاني- رحمه الله- بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه قد فرغ من تقدير الأجل والرزق، والسعادة، والشقاوة، وبين الأحاديث في طلب الدعاء من العبد، وأن الله يجيب دعاءه، ويعطيه ما سأل مثله، وأنه يغضب إذا لم يسأل، وأن الدعاء يرد القضاء، ونحو ذلك كصلة الرحم، وأعمال الخير.
فحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير أو الشر،
_________
(1) يقصد الشوكاني بالغلاة: أهل الكلام الذين أبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء ونحوه؛ وجعلوه مخالفا لسبق العلم.
انظر "قطر الولي على حد حديث الولي" للشوكاني (ص 496)؛ و" تنبيه الفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصه من الدلائل " للشوكاني. وهو ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" هذا.
(2) انظر " قطر الولي " (ص 510 - 511). وتنبيه الأفاضل.(1/83)
وحمل الأحاديث الأخرى على وقوع التسبب من العبد بأسباب الخير، أو التسبب بأسباب الضر، وقال: ((إن هذا الجمع لا بد منه، لأن الذي جاءنا بالأدلة الدالة على أحد الجانبين هو الذي جاءنا بالأدلة الدالة على الجانب الآخر، وليس في ذلك خلف لما وقع في الأزل، ولا مخالفة لما تقدم العلم به، بل هو من تقييد المسببات بأسبابها ... )) (1).
وفصل الشوكاني- رحمه الله- تفصيلا دقيقا عن الدعاء، وفائدته، وكونه سببا لرد القضاء، وأطال الكلام في رده على المخالفين له، الذين أبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة، من الإرشاد إلى الدعاء، وأنه يرد القضاء، وما ورد من الاستعاذة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفا لسبق العلم، ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلاً (2).
4 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى:
ذهب الشوكاني- رحمه الله- في هذه المسألة مذهب جمهور أهل السنة، وهو إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، أي أن أفعال الله تعالى وأوامره معللة بعلل غائية، وحكم بالغة يحبها ويرضاها، ويفعل لأجلها، وأنه مما ينافي كماله وجلاله وحكمته ورحمته أن تكون أفعاله وأحكامه صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة.
وقد دل على ذلك القرآن الكريم في مواطن عدة.
كقوله تعالى وهو يثني على عباده المؤمنين: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} [آل عمران: 191]
_________
(1) انظر "قطر الولي" ص 509 - 510، وتنبيه الأفاضل
(2) انظر "قطر الولي" ص511 - 512. وتنبيه الأفاضل. وقد أفرد الشوكاني رحمه الله رسالة بعنوان " بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء" وهي ضمن هذا القسم الأول- العقيدة- برقم (5).(1/84)
قال الشوكاني في "فتح القدير" (1) ((أي يقولون: ما خلقت هذا عبثا ولهوا بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك؛ سبحانك: أي تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً)).
_________
(1) (1/ 411)(1/85)
أما عناية الإمام الشوكاني- رحمه الله- بتوحيد الألوهية فقد اعتنى به عناية بالغة، وأولاه اهتماما كبيرا، ويكفي ما يدل على اهتمامه وعنايته به أنه ألف عدة رسائل (1) يبين فيها معنى هذا التوحيد، وما يناقضه من الشركيات، أسبابها وفتنها، وخاصة شركيات القبوريين ... كما أشار الشوكاني- رحمه الله- في مواضع متعددة من مؤلفاته إلى أن هذا التوحيد حقيقة دين الإسلام وأساسه:
1 - أنه الغاية العظمى، والمقصد الأسمى الذي من أجله خلق الله الخلق وأوجدهم في هذه الأرض. كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
قال الشوكاني في " فتح القدير" (2) ((عبادة الله: إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه)). ((ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجن خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته، منقاد لما قدره عليه، خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا وضرا. ووجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم)) (3).
2 - أنه الغاية العظمى، والمقصد الأساسي الذي من أجله أرسلت الرسل، وبه أنزلت الكتب. يقول الشوكاني- رحمه الله- (( ... ولم يبعث الله رسله، ولا أنزل عليهم كتبه إلا لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة، واستدل بآيات كثيرة: (منها): {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59، المؤمنون: 23، الأعراف: 65، هود: 50، الأعراف: 73، هود: 61،
_________
(1) أهمها: " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4) و" شرح الصدور في تحريم رفع القبور" وهو ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " و" العذب النمير " في السؤال الأول. وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2) (1/ 107)
(3) فتح القدير. للشوكانى (5/ 92).(1/86)
الأعراف: 85، هود: 84] {أن اعبدوا الله واتقوه} [نوح:3]، {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14].
وبالجملة: فرسل الله- صلوات الله عليهم-، وكذلك جميع كتبه المنزلة متفقة على هذه الدعوة، وقد تكفل القرآن الكريم بحكاية جميع ذلك لمن تتبعه)) (1).
3 - أنه معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
قال الشوكاني- رحمه الله- في " فتح القدير" (2) في تفسير قوله تعالى: {لا إله إلا هو} [البقرة:255] (أي: لا معبود بحق إلا هو). وفي قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو} [آل عمران:2] قال: ((أي هو المستحق للعبودية)) (3) وقال أيضا عند شرحه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء استفتاحه: (لا إله إلا أنت)) (4) أي ليس لنا معبود نتذلل له، ونتضرع إليه، في غفران ذنوبنا إلا أنت)) (5).
وأنواع العبادة كثرة جدا، قال الشوكاني: ((إنه يصعب حصرها، وتتعسر الإحاطة بها)) (6) منها:
(1) الدعاء:
قال الشوكاني- رحمه الله-: " فاعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، المطلوبة من العباد، ولو لم يكن في الكتاب العزيز إلا مجرد طلبه منهم لكان ذلك مفيدا للمطلوب، أعني كونه من العبادة.
واستدل- رحمه الله- بكثير من الآيات القرآنية:
_________
(1) انظر " العذب النمير " في السؤال الأول وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2) (1/ 271).
(3) فتح القدير للشوكاني (1/ 312).
(4) وهو حديث صحيح. أحرجه مسلم (1/ 535) رقم 771).
(5) نيل الأوطار للشوكاني (3/ 28).
(6) قطر الولي للشوكاني (ص 455).(1/87)
(منها): قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء:110]. وقال سبحانه: {ادعوني أستجب لكم} [غافر:60].
قال: ((فهذه الآيات البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله- عز وجل- من عباده، وهذا القدر يكفى في إثبات كونه عبادة، فكيف إذا انضم إليه النهي عن دعاء غير الله، قال تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن:18] (1).
(2) المحبة:
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((اعلم أن محبة الله- عز وجل- هي من أعظم الفرائض المفترضة على العباد، كما يدل على ذلك آيات الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، وإجماع المسلمين أجمعين، فمن ذلك قول الله- عز وجل-: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وقد علم أن اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض واجب لا خلاف فيه 000)) (2).
(3) الخوف والرجاء:
قال تعالى في سورة [آل عمران: 175] {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}.
قال الشوكاني في " فتح القدير" (3) في تفسير الآية: ((أي فافعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري ونهيي، لكون الخير والشر بيدي)).
ومنها قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44].
_________
(1) انظر " العذب النمير " المسألة الأولى. وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2) بحث في وجوب محبة الرب. للشوكاني، وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (6).
(3) (1/ 400).(1/88)
أما الرجاء فهو نوع من أنواع العبادة، قال الله- عز وجل-: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110].
قال الشوكاني في " فتح القدير" (1) ((الرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل، أي: من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين {فليعمل عملا صالحا} وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله. {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} من خلقه، سواء كان صالحا أو طالحا، حيوانا أو جمادا)).
وقد جمع الله- سبحانه- بين العبادتين الخوف والرجاء قي قوله {وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56].
قال الشوكاني: ((وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظفر بمطلوبه، والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها. والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة)) (2).
(4) الاستعانة والاستغاثة:
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((الاستعانة بالنون: هي طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابته، أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله - فلا يستعان فيه إلا به)) (3).
ومنه قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] قال - رحمه
_________
(1) (3/ 318)
(2) فتح القدير للشوكاني (2/ 213) وانظر (4/ 192).
(3) الدر النضيد في إخلاص التوحيد. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).(1/89)
الله -: ((المعنى تحصل بالعبادة، وتحصل بالاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعين)) (1).
أما الاستغاثة: فهي طلب الغوث منه تعالى من جلب خير، أو دفع شر، وهي نوع من أنواع العبادة التي لا تصح إلا لله- سبحانه وتعالى-.
قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال:9]
يقول الشوكاني- رحمه الله-: ((فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار وهو طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال، فهو غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه اختلاف، ومنه: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص: 15] وكما قال تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} [الأنفال: 72] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به، كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق ونحو ذلك، كما قال تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران:135])) (2)
(5) الذبح:
ومن أنواع العبادة الذبح نسكا لله تعالى: من هدي، وأضحية، وعقيقة، وغير ذلك.
قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت} [الأنعام: 162 - 163] (3)
_________
(1) فتح القدير للشوكاني (1/ 22).
(2) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(3) انظر " فتح القدير " للشوكاني (2/ 185).(1/90)
(6) التوكل:
ومن أنواع العبادة التوكل على الله- عز وجل- وهو اعتماد القلب عليه، وثقته به، وأنه كافيه، وهو عبادة عظيمة تعبد الله به عباده، وأمرهم بأن يعتمدوا عليه وحده دون سواه، ولا يوفق للقيام به على وجه الكمال إلا أولياء الله وحزبه المؤمنون.
وقد فرضه الله- عز وجل- على عباده، حيث أمر به في مواضع عديدة من كتابه العزيز:
قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 122]
قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة:123] (1).
_________
(1) انظر "فتح القدير" للشوكاني (3/ 98).(1/91)
أما ما ذهب إليه الشوكاني في التوسل والتشفع بدعاء الصالحين، فهو رأي صائب، واستدلال صحيح، غير أنه لم يفرق - رحمه الله - بين هذا النوع من التوسل، وبين التوسل بالذوات والأشخاص، فاختلط الأمر عليه، فخلط بينهما وجعلهما نوعا واحدا، كما اختلط عليه الأمر أيضا بين التوسل بالذوات والأشخاص، وبين التوسل بالأعمال الصالحة، فجعل الأول كالثاني في الجواز، فوقع بذلك في أخطاء.
وإليك بيانها:
أ- التوسل بذات المتوسل به إلى الله تعالى، أو بجاهه، أو منزلته، أو نحو ذلك، عمل غير شرعي، سواء كان المتوسل به نبيا من الأنبياء، أو عالما من العلماء، لأنه لم يأمر به الله، ولا بلغه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أو من بعدهم من القرون الخيرة أنه يعمل به، إذ لو كان مشروعا لفعلوه، ولسبقونا إليه، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعيته.
وقد تقرر في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة أن الإسلام مبني على أصلين عظيمين:
(أحدهما): أن لا نعبد إلا الله.
و (الثاني): أن لا نعبده إلا بما شرع، كما تقرر أن الدعاء نوع من أنواع العبادة، بل هو أجلها وأعظمها.
فمن دعا المخلوقين من دون الله، واستغاث بهم، كان مشركا به- سبحانه-، ومن توسل في دعائه إلى الله بالمخلوقين، أو أقسم عليه بهم كان مبتدعا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، لأنه عمل غير مشروع. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف (1) أي لا بد فيها من ثبوت النص الشرعي المستلزم مشروعيتها واستحبابها.
_________
(1) انظر "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 20 تحقيق د. ربيع بن هادي المدخلي.(1/92)
2 - إن التوسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ورد في حديث الأعمى هو في التحقيق توسل بدعائه وشفاعته لا بذاته، لأن الأعمى طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو له، ليرد الله عليه بصره (1) فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو هو أيضا، ويسأل أن يقبل الله شفاعة نبيه فيه، فقوله في دعائه: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي شفاعة نبيك بدعائه، فكان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا شافعا له بالدعاء، وهو سائل قبول شفاعة الرسول، ولهذا قال في دعائه أيضا: اللهم فشفعه في.
وهكذا كان توسل الصحابة به - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، فلما مات توسلوا بدعاء غيره، ولم ينقل عن أحد منهم أنه التجأ إلى قبره، وطلب منه الدعاء لقضاء حاجته، ولو كان ذلك مشروعا لفعلوه، وأكبر دليل على ذلك وأوضحه استسقاء عمر بالعباس (2).
_________
(1) انظر " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(2) " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " تأليف\ د. عبد الله نومسوك. (1/ 332 - 333).(1/93)
أما عناية الشوكاني- رحمه الله- بتوحيد الأسماء والصفات، فقد اعتنى به عناية فائقة، وأولاه اهتماما بالغا. وفيما يلي نسوق بعضا من كلامه.
قال رحمه الله: ((اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتناسبت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت فيه النحل، وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقا، وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا، وكانوا في البداية ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب:
فطائفة: وهي أخف هذه الطوائف- المتكلفة علم ما لم يكلفها الله بعلمه إثما وأقلها عقوبة وجرما، وهى التي أرادت الوصول إلى الحق، والوقوف على الصواب، لكن سلكت فيه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود لا يرجع من سلكها فضلا عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح، ومع هذا أصلوا أصولا ظنوها حقا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث نبوية صحيحة، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية، وخيالات مختلة)) (1).
وقسم الشوكاني هؤلاء إلى طائفتين، ويقصد بهما: المعتزلة القدرية، والجبرية الجهمية، قال:
((الطائفة الأولى: هي الطائفة التي غلت في التنزيه، فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، ومن تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق، مطابقا لما يريده الله - سبحانه - فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها.
والطائفة الأخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلي حد أنه لا تأثير
_________
(1) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- لرقم (3).(1/94)
لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص، فلم يبق لبعث الرسل، وإنزال الكتب كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاءوا بتأويلات للآيات البينات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال)) (1).
وذكر طائفة ثالثة ويقصد بها الأشاعرة ((توسطت، ورامت الجمع بين الضب والنون، وظنت أنها وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به مما يوافق ما ذهبت إليه و {كل حزب بما لديهم فرحون} [الروم:32] وعند الله تلتقي الخصوم)). (2)
ثم بين- رحمه الله- مذهب الحق الذي يجب الأخذ به في هذه المسألة بقوله: ((وإن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا- رحمهم الله، وأرشدنا إلى الإقتداء بهم، والاهتداء بهديهم- يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يتأولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، ولا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل)) (3).
وقال- رحمه الله-: ((إن مذهب السلف من الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعين وتابعيهم، هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل، وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات، تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكلف، ولا نتكلم بما لم نعلمه، ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع
_________
(1) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(2) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(3) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).(1/95)
في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه، وما حفظوه عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين)) (1)
وقال- رحمه الله- مقررا لمنهج السلف في الإثبات مع التنزيه: ((إن الآية: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] يستفاد بها نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، وتعرف به الكلام عند وصفه - سبحانه- بالسميع البصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة، فتقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات، لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيدفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات المفضية إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين أحقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته- الله- لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو)) (2).
وقال في قطع الأطماع عن إدراك الكيفية المستنبط من قوله تعالى: {ولا يحيطون به علما} [طه: 110] إنه لم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات، والتعسفات، والتأويلات، والتحريفات، وهم السلف الصالح كما عرفت، فهم الذين اعترفوا- بعدم- الإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته، وماهية صفاته، بل العلم كله له (3).
وقد اشتد إنكار الشوكاني - رحمه الله - على المتكلمين ومناهجهم، وقرر أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل، ولا تخريف، ولا تكلف، ولا تعسف، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل (4). وأن هذا المسلك القويم هو
_________
(1) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(2) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(3) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).
(4) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3).(1/96)
مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلم يكلف الله أحدا من عباده أن يعتقد أنه - جل جلاله- متصف بغير ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن زعم أن الله- سبحانه- تعبد عباده بأن يعتقدوا أن صفاته الشريفة كائنة على الصفة التي يختارها طائفة من طوائف المتكلمين، فقد أعظم على الله الفرية، بل كلف عباده أن يعتقدوا أنه ليس كمثله شيء، وأنهم لا يحيطون به علما (1).
أما موقف الشوكاني- رحمه الله- من صفات الله تعالى فقد أول بعضها في تفسيره "فتح القدير" تأويلا أشعريا.
والصفات التي أولها هي: " الوجه" (2)، و" العين" (3) و" اليد" (4) و" العلو" (5)، و"المجيء" (6) و" الإتيان" (7) و" المحبة" (8)، و"الغضب" (9) وهذا التأويل مناقض لمنهجه في رسالته " التحف " في إثبات الصفات على ظاهرها، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهو مذهب السلف الصالح- رضوان الله عليهم-.
قلت: إن الشوكاني- رحمه الله- على مذهب السلف، وكان يحبه، ويدعو إليه، كما هو ظاهر لكل من قرأ رسالته " التحف " غير أنه- كما يظهر لي- لم يستوعب مذهب السلف في مسألة الصفات استيعابا جيدا.
_________
(1) " تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام " للشوكاني. وهى ضمن " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".
(2) " فتح القدير": (4/ 189).
(3) "فتح القدير ": (3/ 481) و (5/ 2 0 1) و (5/ 123) و (3/ 365) و (2/ 497).
(4) " فتح القدير ": (5/ 48) و (2/ 57) و (5/ 258) و (4/ 445).
(5) "فتح القدير ": (2/ 104) و (2/ 124) و (3/ 67) و (5/ 288).
(6) " فتح القدير ": (5/ 440).
(7) " فتح القدير ": (1/ 210، 211) و (2/ 181).
(8) " فتح القدير": (1/ 333).
(9) " فتح القدير": (3/ 380).(1/97)
لقد قال في " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" (1) وقد فرغ من تأليفه سنة (1231هـ) كما نص عليه في ختامه (2)، أي بعد: فتح القدير بسنتين (3) قال ما نصه: ((الفصل الثاني فيما يدخل في التأويل، وهو قسمان:
(أحدهما): أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك.
(والثاني): الأصول: كالعقائد، وأصول الديانات، وصفات الباري عز وجل-. وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب:
(الأول): أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل يجري على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وهذا قول المشبهة.
و (الثاني): أن لها تأويلا، ولكن نمسك عنه، مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران:7]. قال ابن برهان: وهذا قول السلف.
قلت (أي الشوكاني): وهذا هو الطريقة الواضحة، والمنهج المصحوب بالسلامة عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله، وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الإقتداء، وأسوة لمن أحب التأسي، على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك، فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة.
(والمذهب الثالث): أنها مؤَولة: قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل، والآخران منقولان عن الصحابة، ونقل هذا المذهب الثالث عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة)) اهـ.
_________
(1) ص 583 بتحقيقنا.
(2) ص930.
(3) فرغ الشوكاني رحمه الله من تأليف " فتح القدير سنة (1229هـ) انظر "فتح القدير" (5/ 524).(1/98)
((قلت: هذا وهم من الشوكاني، والظاهر أن الأول هو قول السلف وليس المشبهة كما زعم، فإن مذهب السلف إثبات الصفات وإجراؤها على ظواهرها من غير تأويل ولا تشبيه، وتفويض كنهها وكيفيتها إلى الله تعالى، كما قرره- رحمه الله- قي رسالته "التحف".
أما الثاني: فهو قول المفوضة أو القريب منه، وليس قول السلف كما زعم، لأن السلف لا يقولون أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه، بل يثبتون معناها من غير تصور المشابهة ولا تمثيل، وأما ما نقله عن ابن برهان فهو باطل، لأنه لم يرد حرف واحد في التأويل المعروف عندهم عن السلف، وكل ما نقل فهو كذب واختراع (1).
والشوكاني- رحمه الله- نقل هذا الكلام ولم يعقب عليه، وكأنه مقبول عنده، وهو مردود. وهكذا لكل عالم زلة ولكل جواد كبوة، والعصمة لله- سبحانه- ولمن عصمه من الأنبياء والمرسلين)) (2) اهـ.
أما موقف الإمام الشوكاني- رحمه الله- من مسألة خلق القرآن، فقد ذهب مذهب الواقفية، فلم يجزم برأي هل هو مخلوق أم غير مخلوق:
قال الشوكاني في "فتح القدير" (3) ((وهذه المسألة: أي قدم القرآن وحدوثه قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية، والمعتصمية، والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد؛ والحبس الطويل، وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي (4) وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده، والقصة
_________
(1) انظر " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " (5/ 90) و
(6/ 394). وذم التأويل لابن قدامة ص 40 تحقيق الأخ بدر البدر.
(2) " منهج الإمام الشوكاني في العقيدة " (1/ 471 - 473).
(3) (3/ 397)
(4) هكذا في الأصل: ولعل الصواب: أحمد بن نصر الخزاعي، أبو عبد الله. انظر " تاريخ بغداد " (5/ 137).(1/99)
أشهر من أن تذكر ... ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه، وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولكنهم- رحمهم الله- جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف، وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة، وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة، والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله - سبحانه-)) اهـ.
وهذا موقف غير سديد من الإمام الشوكاني- رحمه الله- لأن السلف في صدر الإسلام كانوا في غنى عن الزيادة على القول: القرآن كلام الله، لأنهم لم يكونوا يفقهون من هذه الإضافة إلا أنها صفة من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة، حتى ظهرت الجهمية، وظهرت بدعة القول بخلق القرآن، فعقل أئمة السلف خطرها، وقابلوهم برفضها وإنكارها، والتشديد عليهم في ذلك، لأن حقيقة كلامهم الكفر، لما تضمن من تكذيب القرآن، وإثبات النقص لله، ولا سبيل لهم لإبطال هذه البدعة إلا أن قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق (1).
كما أن الشوكاني- رحمه الله- جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات الله (2)، وهذا رأي باطل قال به المعتزلة وأتباعهم. والصحيح أن القرآن كلام الله تكلم
_________
(1) انظر " الرد على الجهمية للدارمي ص 259 ضمن عقائد السلف. و" منهج الإمام الشوكاني في العقيدة" (1/ 417 - 424).
(2) كما يتضح هذا من صيغة السؤال السادس في رسالة " إرشاد السائل إلى دلائل المسائل " وهي ضمن الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني- الفقه-.(1/100)
الله به حقيقة بلفظه ومعناه؛ وهو- سبحانه- موصوف بالكلام؛ فعلى هذا يكون الحلف بالقرآن حلفا بصفة من صفاته- سبحانه-؛ وصفات الله - سبحانه غير مخلوقة؛ فالقرآن غير مخلوق؛ والحلف به جائز؛ لأنه حلف بكلام الله؛ ويعقد به اليمين؛ وهذا ما اجمع عليه السلف أهل السنة (1).
_________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 336) وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 191.(1/101)
كما اهتم الإمام الشوكاني- رحمه الله- بتعريف الشرك، وبيان أقسامه، وذكر نماذج من الأعمال الشركية:
أما معنى الشرك فقد قال: ((إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله لغير الله، زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به- سبحانه- سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلق عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط)) (1)
وقد نهى الله- سبحانه وتعالى- عن الشرك به في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء:36].
قال الشوكاني في تفسير الآية: ((أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء من غير فرق بين حي وميت، وجماد وحيوان، ولا تشركوا به شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي)) (2).
أما أقسام الشرك فهي ثلاثة:
1 - الشرك في توحيد الربوبية:
وهو إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى، كشرك من يجعل الإنسان مستقلا بإحداث فعله، وشرك من يجعل الأجسام الطبيعية من الشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها كما يقوله الطبيعيون، أو العقول كما تقوله الفلاسفة، أو الأرواح والنفوس كما يقوله
_________
(1) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(2) " فتح القدير " للشوكاني (1/ 464).(1/102)
عباد القبور، أو الملائكة، أو غير ذلك من المخلوقات.
ومن هذا القسم شرك فرعون، إذ قال منكرا الرب الخالق: {وما رب العالمين} [الشعراء:23] وقال مدعيا لنفسه الربوبية {أنا ربكم الأعلى} [النازعات:24] وأمثاله ممن يدعي لنفسه الربوبية.
وقد رد الله- سبحانه- على أصحاب هذا الشرك في آيات كثيرة من القرآن:
(منها): قال تعالى في سورة الأعراف (191 - 192): {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون} (1).
(ومنها): قوله- سبحانه- في وصف آلهتهم: {واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: 3] (2).
2 - الشرك في توحيد الأسماء والصفات:
وهو نوعان:
(أحدهما): تشبيه الخالق بالمخلوق. كمن يقول: يد الله كيدي و ..... وهو شرك المشبهة الذين رد الله عليهم بقوله: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وقوله: {ولا يحيطون به علما} [طه:110] 0 (3)
(والثاني): اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}
_________
(1) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير " (2/ 274).
(2) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير " (4/ 61).
(3) " التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف " للشوكاني. وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (3)(1/103)
[الأعراف:180] (1).
3 - الشرك في توحيد الألوهية والعبادة:
وهو نوعان:
(أحدهما): شرك أكبر: وهو أن يتخذ العبد ندا لله تعالى في العبادة، يدعوه، أو ينذر له، أو يذبح له، أو يخافه، أو يصرف له أي نوع من أنواع العبادة، كشرك مشركي مكة أيام بعثة النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد قالوا في آلهتهم: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس:18] وقالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] والمراد بهذا القول: الشفاعة لهم في الدنيا (2) ومن هذا النوع شرك عباد القبور الذين جعلوا بعض خلق الله شريكا له، مثلا، وندا، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله، مع القصد والإرادة (3).
وهذا النوع من الشرك هو الذي قال الله تعالى فيه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} [النساء:36]؛ {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36]، {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} [المائدة: 72].
والآيات في النهي عن هذا الشرك، وبيان بطلانه كثيرة جدا، والكتب السماوية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا الشرك، وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى. وما أهلك الله تعالى من الأمم السابقة إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله (4). وأن هذا الشرك خطره عظيم لما يأتي:
_________
(1) انظر تفسير ذلك في "فتح القدير" (2/ 268، 270).
(2) انظر تفسير ذلك في " فتح القدير " (4/ 449).
(3) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(4) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).(1/104)
1 - إنه يحبط العمل. قال تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام:88].
والحبوط: هو البطلان (1) أي بطلت أعمالهم، لأن الشرك يخرجهم من الملة الإسلامية.
2 - إن صاحبه خالد مخلد في النار إذا مات مصرا عليه، وإن الله لا يغفر له إلا إذا تاب في وقت التوبة.
قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [النساء:116]
قال الشوكاني: ((أي ضل عن الحق ضلالا بعيدا، لأن الشرك أعظم أنواع الضلال، وأبعدها من الصواب)) (2).
3 - إنه أفظع ظلم، وأعظم جريمة:
قال تعالى: {الذين آمنوا ولو يلبسوا إيمانهم بظلم} [الأنعام: 82] أي لم يخالطوه بظلم، والمراد بالظلم الشرك، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود (3) - رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] (4).
(والثاني): شرك أصغر:
_________
(1) فتح القدير. (2/ 137).
(2) فتح القدير. (1/ 516) وانظر أيضا (1/ 475).
(3) أخرجه البخاري رقم (32) ومسلم رقم (124)
(4) فتح القدير (2/ 135) و (4/ 238).(1/105)
وهذا النوع من الشرك مما ينافي كمال التوحيد في عبادة الله- عز وجل- ويناقضه، وهو وإن كان لا يخرج من الملة فإن صاحبه على خطر عظيم، ينقص من أجره شيء كثير، وقد يحبط منه العمل الذي وقع فيه هذا الشرك. وفي هذا ذكر الشوكاني- رحمه الله- أحاديث كثيرة (1).
. ذكر نماذج من الأعمال الشركية، وكلام الشوكاني عنها:
تناول الشوكاني- رحمه الله- نماذج من الأعمال الشركية التي يجب على كل مسلم معرفتها ليسلم منها، وليكون على بينة من أمرها حتى لا يقع فيها:
1 - الاستغاثة بغير الله:
كالاستغاثة بالأموات، والاستعانة بهم، ومناجاتهم عند الحاجة، وتعظيم قبورهم، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السائلين (2)
2 - النذر لغير الله:
وهي نذر في معصية، وهي من النذر الذي لا يبتغى به وجه الله (3).
3 - الذبح لغير الله (4)
4 - الحلف بغير الله:
كالحلف بالنبي، أو الكعبة، أو الأمانة، أو الحياة، أو بولي من الأولياء، أو بالشرف أو بغير ذلك من المخلوقات، كل ذلك من الشرك الأصغر.
_________
(1) انظر قطر الولي ص 457 - 459، وفتح القدير (3/ 319). و" الدر النضيد في إخلاص التوحيد " وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4).
(2) انظر " الدر النضيد في إخلاص التوحيد" وهو ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (4) و"فتح القدير" (2/ 450).
(3) انظر " شرح الصدور في تحريم رفع القبور " وهي ضمن كتاب " الفتح الرباني" - الفقه- و" أدب الطلب ومنتهى الأرب " ص 179 بتحقيقي.
(4) انظر " فتح القدير " (1/ 170) و" نيل الأوطار " (10/ 68) و"شرح الصدور".(1/106)
قال الشوكاني: ((قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته، وعلى ذلك اتفق الفقهاء)) (1).
5 - السحر وأنواعه:
ذهب الشوكاني- رحمه الله- مذهب أهل السنة في أن السحر له حقيقة، وله تأثير بإذن الله، واستدل بقوله تعالى:. {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة:102] (2).
وذكر الشوكاني- رحمه الله- أنواعا كثيرة من أعمال السحر التي هي شرك بالله منها:
أ- الكهانة والتنجيم وما في معناهما:
وقد ورد في النهي عن إتيان الكهان وتصديقهم أحاديث كثيرة أوردها الشوكاني رحمه الله في مؤلفاته (3).
ب- التطير:
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((وأما التطير فهو الطيرة بكسر الطاء المهملة، وفتح المثناة التحتية، وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيء، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونهى عنه)) (4)
ج- تعليق التمائم ونحوها:
_________
(1) انظر ما أورده الشوكاني من هذه الأحاديث في " نيل الأوطار " (10/ 21) و (158 - 160) و" العذب النمير " و" الدر النضيد " ..
(2) فتح القدير (1/ 121) ونيل الأوطار (9/ 43).
(3) فتح القدير (1/ 123 - 124) ونيل الأوطار (9/ 45 - 46) " الدر النضيد في إخلاص التوحيد
(4) "نيل الأوطار" (10/ 133).(1/107)
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((فمن ذلك ما ورد في تعليق التمائم، إنه من الشرك، وتعليق الخيط في اليد للحمى)) (1)
. ذكر نماذج من البدع التي تكلم عليها الشوكاني:
1 - بدعة الرافضة:
أ- معاداتهم للصحابة- رضوان الله عليهم-.
قال الشوكاني- رحمه الله- ((وانظر إلى أي مبلغ بلغ الشيطان الرجيم بهؤلاء المغرورين المجترئين على هذه الأعراض المصونة المحترمة المكرمة، فيا لله العجب من هذه العقول الرقيقة، والأفهام الشنيعة، والأذهان المختلة، والإدراكات المعتلة! فإن هذا التلاعب الذي تلاعب الشيطان، يفهمه أقصر الناس عقلا، وأبعدهم فطانة، وأجمدهم فهما، وأقصرهم قي العلم باعا، وأقلهم اطلاعا، فإن الشيطان- لعنه الله- سول لهم بأن هؤلاء الصحابة- رضي الله عنهم- الذين لهم المزايا التي لا يحيط بها حصر، ولا يحصيها حد، ولا عد، أحفاء بما يهتكون من أعراضهم الشريفة، ويجحدون من مناقبهم المنيفة، حتى كأنهم لم يكونوا هم الذين أقاموا أعمدة الإسلام بسيوفهم، وأوصلوا دين الإسلام إلى أطراف المعمورة، من شرق الأرض وغربها، ويمينها وشمالها، فاتسعت رقعة الإسلام، وطبقت الأرض شرائع الإيمان، وانقطعت علائق الكفر، وانقصمت حباله.
يا لله العجب، يعادون خير عباد الله، وأنفعهم للدين الذي بعث به رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهم لم يعاصروهم، ولا عاصروا من أدركهم، ولا أذنبوا إليهم بذنب، ولا ظلموهم في مال، ولا دم، ولا عرض، بل قد صاروا تحت أطباق الثرى، وفي رحمة واسع الرحمة منذ مئات من السنين)) (2).
هذا وقد اعتنى الإمام الشوكاني- رحمه الله- اعتناء كبيرا بالرد على هذه الطائفة
_________
(1) " العذب النمير " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (2).
(2) قطر الولي (ص 294).(1/108)
الضالة في هذا الموضوع، فقد ألف كتابين:
(أحدهما): " در السحابة في مناقب القرابة والصحابة" (1) بين فيه مناقب وفضائل كل من الصحابة والقرابة- رضوان الله عليهم-.
(والثاني): " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2). نقل فيه إجماع أهل البيت من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه
ب- اعتقادهم بعصمة علي- رضي الله عنه-:
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((عصمة علي وحجية قوله ذهب إلى القول بهما جماعة من أهل البيت، وذهب جماعة منهم وسائر المسلمين أجمعين إلى أن المعصوم إنما هو رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخصوص، والحجة إنما هي ما جاء عن الله وعنه)) (3).
2 - بدعة المتصوفة:
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((فقد كان أول هذا الأمر يطلق هذا الاسم على من بلغ في الزهد والعبادة إلى أعلى مبلغ، ومشى على هدي الشريعة المطهرة، وأعرض عن الدنيا، وصد عن زينتها، ولم يغتر ببهجتها، ثم حدث أقوام جعلوا هذا الأمر طريقا إلى الدنيا، ومدرجا إلى التلاعب بأحكام الشرع، ومسلكا إلى أبواب اللهو والخلاعة، ثم جعلوا لهم شيخا يعلمهم كيفية السلوك، فمنهم من يكون مقصده صالحا، وطريقته حسنة، فيلقن أتباعه كلمات تباعدهم من الدنيا، وتقربهم من الآخرة، وينقلهم من رتبة إلى رتبة على أعراف يتعارفونها، ولكنه لا يخلو غالب ذلك من مخالفة للشرع، وخروج عن كثير من آدابه)) (4).
_________
(1) أكرمني الله بتحقيقه على ثلاث مخطوطات ولله الحمد والمنة.
(2) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (19)
(3) " عقود الزبرجد في جيد مسائل علامة ضمد " وهي ضمن كتاب "الفتح الرباني"- الفقه-.
(4) أدب الطلب ومنتهى الأرب " (ص 199) بتحقيقي(1/109)
وقد ابتدعت المتصوفة أمورا كثيرة، ودعوا إليها، ولم تكن عند الزهاد السابقين، منها ترك الزواج، وإدامة الجوع، ومواصلة الصوم، والعزلة، والخلوة، والغناء، والوجد، وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة، وتقديس الأولياء، وتفضيلهم على الأنبياء، ومنها القول بالحلول، ووحدة الوجود، والاتحاد بين المخلوق والخالق. وهكذا تدرج المتصوفة إلى أن شرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله.
ولقد تصدى لهذه الأمور البدعية، وكشف عن حقائقها كثير من العلماء ومنهم الإمام الشوكاني رحمه الله. وخاصة في كتابه: " قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها ". ورسالته: " الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد" (1) حيث نقل فيها أقوال العلماء أهل السنة في الحكم على ما تضمنته الكتب الصوفية من الضلال والإضلال، كما جمع في هذه الرسالة ما صدر عن هؤلاء المتصوفين المخذولين من المقالات التي كل واحدة منها أكفر الكفر ...
وأكد- رحمه الله- أن القيام على هؤلاء المتصوفة من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء (2).
. وإليك بعض البدع التي وقع فيها الصوفية:
أ- الزهد الصوفي:
وقد أنكر الشوكاني- رحمه الله- (الزهد الصوفي المخالف للإسلام) لأنه هو الذي يضعف جسم المؤمن، ويحول دون قيامه بواجباته نحو نفسه وأسرته ومجتمعه (3).
ب- الولاية الصوفية:
وهى من أكثر الأشياء التي يدندن حولها المتصوفة في الماضي والحاضر، وقد فصل الشوكاني- رحمه الله تعالى- موضوع الولاية تفصيلا دقيقا، وأفرد لها تأليفا في كتابه
_________
(1) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (24).
(2) انظر "الصوارم الحداد" وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (24)
(3) " فتح القدير " (2/ 69) و (2/ 200) و (2/ 530).(1/110)
" قطر الولي على حديث الولي، أو ولاية الله والطريق إليها" (1).
ج- عقيدة الاتحاد بين المخلوق والخالق:
وهى عقيدة اكتسبوها من الديانات والفلسفات الأجنبية، كالهندية وغيرها (2).
د- رفع التكاليف الشرعية (3)
3 - بدعة القبوريين:
وهى من البدع السيئة على هذه الأمة كتشييد القبور، وبنائها، وتسريجها، وتزيينها، واتخاذها مساجد وما إلى ذلك، وما يترتب عليها من الاعتقادات الفاسدة في أصحاب القبور (4).
...
أما الإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فهو من الإيمان بالغيب الذي وصف الله به المؤمنين، وهو ركن من أركان الإيمان التي يجب الإيمان بها، كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة من كتاب وسنة.
كقوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
قال الشوكاني (5) ((قوله: {لا نفرق بين أحد من رسله} أي لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرق بين أحد منهم، ولا نكذب به)).
_________
(1) أكرمني الله بتحقيقه على مخطوطتين ولله الحمد والمنة.
(2) " الصوارم الحداد " وهى ضمن هذا القسم- العقيدة برقم (24).
(3) "قطر الولي" (ص 487).
(4) " أدب الطلب ومنتهى الأرب" (ص 194 - 195) بتحقيقي.
(5) "فتح القدير" (1/ 309)(1/111)
وفي حديث جبريل وسؤاله للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (1).
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- متفاضلون، وأن بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة:253] (2).
وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء، والرسل بعد ذلك متفاضلون فيما بينهم، وأفضل الرسل والأنبياء خمسة وهم: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى- عليهم الصلاة والسلام-. وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وقد خصهم الله- سبحانه- بالذكر قي آيتين من كتابه:
قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} [الأحزاب:7]
قال الشوكاني- رحمه الله-: ((ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل، لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة، ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى)) (3).
كما أن الشوكاني- رحمه الله- اهتم اهتماما بالغا ببيان المهمة الكبرى التي بعث الله من أجلها الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- حيت ألف رسالتين الأولى بعنوان:
_________
(1) أخرجه مسلم رقم (1/ 8) وغيره.
(2) فتح القدير (1/ 268) وانظر أيضًا (3/ 235).
(3) فتح القدير (4/ 264).(1/112)
" المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة" (1) والثانية بعنوان: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات" (2) وأورد فيهما النصوص من القرآن والسنة، ومن الكتب السابقة: كالتوراة، والزبور، والإنجيل، مما يدل على اتفاق أنبياء الله وكتبه على إثبات كل مقصد من هذه المقاصد، أي التوحيد، والمعاد، والنبوات، وتصديق بعضهم بعضًا.
...
أما الإيمان بوجود الجن والشياطين جزء من عقيدة المؤمن، لما ثبت في ذلك من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
وقد اعتنى الشوكاني- رحمه الله- بهذا الموضوع، وأفرد له بحثا صغيرا بعنوان " بحث في وجود الجن" (3) أورد فيها الأدلة الدالة على وجود الجن والشياطين، ورد على المنكرين على وجودهما من بعض المعتزلة وأمثالهم.
وقد ذهب- رحمه الله- مذهب القائلين بأن جميع الجن ولد إبليس، كما أن جميع الإنس هم ولد آدم. وأن الشياطين هم مردة الإنس والجن (4) وهذا مذهب الجمهور، الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (5).
والجن أجناس مختلفة، منهم المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، قال تعالى، إخبارا عنهم: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} [الجن:11] أي جماعات متفرقة، وأصنافا مختلفة (6).
_________
(1) وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (10).
(2) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (9).
(3) وهى ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (8).
(4) انظر بحث في وجود الجن. وفتح القدير (5/ 303).
(5) انظر مجموع فتاوى شيح الإسلام (15/ 7) وانظر أيضًا (4/ 235).
(6) فتح القدير (5/ 306).(1/113)
وهل أرسل الله إليهم رسلا منهم؟
اختلف العلماء في هذا على قولين: قيل: فيهم رسل، لقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] وقيل: الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر. وهذا قول الجمهور من العلماء سلفا وخلفا وهو الراجح (1).
ورجح الشوكاني- رحمه الله- هذا القول في تفسيره (2).
...
أما رؤية الله- سبحانه وتعالى- في الجنة، أعظم نعيم يناله المؤمنون، وهي ثابتة بالكتاب والسنة المتواترة، واتفق على القول بها جميع الصحابة والتابعين، وجميع أئمة الإسلام المعروفين بالإمامة والدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى أهل السنة والجماعة.
وقد قرر الشوكاني- رحمه الله- هذه المسألة في مؤلف مستقل سماه: " البغية في مسألة الرؤية " (3).
وأورد فيها الأدلة الدالة على ثبوت الرؤية ورد على المنكرين للرؤية من أهل البدع والأهواء من الجهمية، ومن تابعهم من المعتزلة والرافضة، وغيرهم.
...
أما خلود الجنة والنار، وبقاؤهما، وأنهما لا يفنيان أبدا، ولا يفنى من فيهما، ثابت بالكتاب والسنة. وقد وافق الشوكاني- رحمه الله- أهل السنة في هذا الموضوع في عدة مواضع من تفسيره (4)، بل أفرده بالتأليف في رسالة بعنوان " كشف الأستار في إبطال
_________
(1) انظر مجموع فتاوى شيح الإسلام (4/ 234) و (11/ 307).
(2) فتح القدير (5/ 303).
(3) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (17).
(4) فتح القدير (1/ 55، 56، 166) و (3/ 335) و (3/ 475).(1/114)
قول من قال بفناء النار" (1) ردا على سؤال ورد إليه في هذا الموضوع. ويقصد بمن قال بفناء النار الجهمية ومن تابعهم؛ كما صرح في أول الرسالة.
كما أورد- رحمه الله- أدلة المخالفين لأهل السنة التي استدلوا بها على فناء النار وانقطاع عذاب أهلها. وفندها تفنيدا رائعا؛ وأجاب عن هذه الاستدلالات كلها (2).
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، ولا تجعل فيها شركا لأحد.
وكتبه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب
_________
(1) وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (18).
(2) انظر " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار " وهي ضمن هذا القسم- العقيدة- برقم (18).(1/115)
أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب(1/117)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: أسئلة وأجوبة عن قضايا التوحيد والشرك (1).
2 - موضوع الرسالة: في قضية الشرك والتوحيد، وخلق أفعال العباد، والخلاف في الفروع (2).
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الراشدين أجمعين .. أما بعد:
فهذه سؤالات لها أطراف وغصون وفروع وشجون
4 - آخر الرسالة: صدر الجواب وهو غير منقول، فقابلوه بالعذر والقبول، وما كان فيه خطأ فأصلِحوه، وما كان فيه من قصور فتمموه، والسلام عليكم ورحمة الله.
5 - نوع الخط: خط الأسئلة نسخي معتاد. وخط الأجوبة نسخي دقيق.
6 - عدد الأوراق: (9) ورقات.
7 - عدد السطور في الصفحة: 22 سطرا في الأسئلة و (14) سطرا في الأجوبة تقريبا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات في الأسئلة و (16) كلمة في الأجوبة تقريبا.
9 - الناسخ: نسخ الأسئلة بخط محمد بن أحمد الحفظي وهو السائل.
_________
(1) العنوان من وضعي لأنني لم أعثر لها على عنوان في صور العناوين.
(2) وضعت هذه الرسالة في قسم "العقيدة" ولو كان فيها سؤال يتعلق بالفقه لأن أغلب الرسالة تتحدث عن العقيدة. وهكذا أصنع على مدار الكتاب وهو " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " حيث أضع الرسالة في القسم الذي يغلب عليها والله الهادي إلى الصواب.(1/119)
ونسخ الأجوبة بخط عبد العزيز بن أحمد النجدي.
ملحوظة:
في أول صفحة من الجواب ما نصه: "هذا الجواب حرره عبد العزيز بن أحمد النجدي عند قدومه إلى صنعاء، وأجبت أنا عن السؤال كما سيأتي". والظاهر أن هذه العبارة بخط الإمام الشوكاني.
* في خط الجواب كلمات غير مقروءة، وكلمات مطموسة.(1/120)
بسم الله الرحمن الرحيم
[نص الأسئلة]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الراشدين أجمعين ... أما بعد:
فهذه سؤالات لها أطراف، وغصون، وفروع، وشجون في جملة من الفنون تزُفها ركائب القدرة في المقدرات بين الكاف والنون، وتحسنُها عجائب الفكرة في المقررات في الشروح والمتون إلى علامة اليمن الميمون، المجتهد الرباني محمد بن علي بن محمد الشوكاني أعانه من يقول للشيء كن فيكون، على الإثابة بالإجابة، والإصابة فيما هم فيه يختلفون ..(1/125)
السؤال الأول
قد نطقت الآيات القرآنية، وشهدت الأخبار النبوية، وأجمعت الأمة المحمدية على وجوب توحيد الله- سبحانه وتعالى- بالعبادة، وقال عز من قائل عليم: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (1) {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (2)، وكذلك تواترت الأحاديث الواردات، وتتابعت الآيات البينات على تحريم الشرك بالله- سبحانه- في العبادات، سواء كان ذلك جليا أو خفيا {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} (3)، وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (4).
وفي هذا مباحث يتضح ها المعنى، ويستقيم عليها المبنى:
الأول: أن الدعوة لغير الله شرك، وفي التفاسير أن المراد بها العبادة في كثير منها، فالمراد بالعبادة التوحيد كما ذكره ابن عباس (5) - رضي الله عنهما-.
_________
(1) الذاريات (56).
(2) البينة (5).
(3) المائدة (72).
(4) النساء (48، 116).
(5) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 195): عن ابن عباس قال: قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} للفريقين جميعا من الكفار المنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ".
وقال ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 47 - 48): اختلف العلماء فيمن عني بهذا الخطاب على أربعة أقوال:
1 - أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس.
2 - أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد.
3 - أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي.
4 - أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل. والناس اسم للحيوان الآدمي؛ وسموا بذلك لتحركهم في مرادتهم. والنوس: الحركة. وقيل: سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان.
والمراد هاهنا بالعبادة قولان:
أحدهما: التوحيد.
والثاني: الطاعة، رويا عن ابن عباس.
وانظر: " جامع البيان " للطبري
(1/ 125).(1/126)
وفي الحديث أن ((الدعاء هو العبادة)) (1)، وهذا الفصل (2) للحصر، أو التخصيص للاهتمام. وعلى كل تقدير فهو دليل على هذا التقرير.
والدعاء له معنيان (3): أحدهما دعاء الطلب، بل قد سمى الله ذلك دينا في قوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (4).
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 267،271، 276) والبخاري في الأدب المفرد رقم (714) والطيالسي كما في المنحة رقم (1252) وابن ماجه رقم (3828) والطبراني في الصغير (2/ 97) والحاكم (1/ 490 - 491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) والبغوي في شرح السنة (5/ 184 - 185 رقم 1384) والنسائي في الكبرى (9/ 30) كما في تحفة الأشراف، وابن حبان رقم (2396 - موارد) من طرق من حديث النعمان بن بشير وهو حديث صحيح.
(2) انظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 140).
(3) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (1/ 69):- الدعاء في القرآن والسنة:
1 - \ دعاء عبادة وهذا النوع ورد كثيرا في القرآن كقوله تعالى: {فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين} [الشعراء: 213].
2 - \ دعاء مسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ومن أدلته قوله تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41].
فمتى كان الدعاء مقرونا بالطلب مذكورا في صياغة الاستجابة فهو دعاء المسألة وإلا فهو دعاء العبادة.
وانظر: " مجموع فتاوى ابن تيمية " (10/ 237).
(4) العنكبوت (65).(1/127)
وصرف هذه العبادة لغير الله شرك وكفر بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (1).
فهل هذا الكلام في سبل السلام إلى بلوغ المرام عند جميع الأعلام، أم فيه تفصيل واحتمال على قول بعض الرجال؟، وشأن الكفر المجمع عليه حل الدم والمال بلا إشكال، سواء قبل الدعوة أو بعدها على التفصيل في من بلغته، ومن لم تبلغه.
-[فهل] (2) يعذر الجاهل لقولهم: إن العمل متوقف على العلم، وكذا الوجوب؟
وفي قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (3). هل هذه الجملة حالية أو خبرية؟ (4).
_________
(1) الأحقاف (5 - 6).
(2) في الأصل (وفهل) والصواب ما أثبتناه.
(3) البقرة (22).
(4) " وأنتم تعلمون " مبتدأ وخبر في محل النصب على الحال من الضمير في (فلا تجعلوا) أي فلا تجعلوا لله أمثالا وأكفاء. وهذه حالكم وصفتكم ومفعول (تعلمون) فمحذوف أي تعلمون أنه واحد لا ضد له.
وقيل: تعلمون أنه المحسن إليكم المنعم عليكم.
(الواو): واو الحال. أنتم: مبتدأ، تعلمون: جملة فعلية في محل رفع الخبر.
انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد (1/ 245).
وقال في الدر المصون (1/ 196): (وأنتم تعلمون) جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال.
ومفعول العلم متروك لأن المعنى وأنتم من (أهل العلم أو حذف اختصارا أي: وأنتم تعلمون بطلان ذلك.
وقال الزمخشري في الكشاف (1/ 217): (وأنتم تعلمون) ومالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه، وهكذا العرب، خصوصا ساكنو الحرم من قريش وكنانة يصطلي بنارهم في استكمال المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها، ومفعول: (تعلمون) متروك كأنه قيل: وأنتم من أهل العلم والمعرفة، والتوبيخ فيه آكد، أي أنتم العرافون المميزون ثم إن ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا، وهو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل، ويجوز أن يقدر: وأنتم تعلمون أن لا يماثل.(1/128)
وهل الاحتمال يصح دليلا للعذر أم لا، لوضوح المحجة وبلوغ الحجة، وعدم فهم الحجة ليس بعذر؟
وكيف شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية إلى توحيد الإلهية ممن يوجد في كلامه أو أفعاله ما هو شرك جلي، بل وقع بعض ذلك للمصنفين، اللهم إلا أن يقال: إن الدعاء [الذي] (1) ينازع فيه أنه ليس من الشرك الأكبر، وأنه لا إنكار في المختلف فيه، فالاعتقادات العلميات خلاف الظنيات فالمراد من شيخ الأكابر بإسناد الدفاتر، بسط الكلام على الأول من السؤالات، والآخر مع النظر فيما يتفرع على كل جملة، والإفادة بما عليه الجلة في الجملة.
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.(1/129)
السؤال الثاني
عن الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال حسنها (1) وقبيحها، وخيرها وشرها، هل يكون ذلك لله تعالى اختراعا وإبداعا، ووقوعا وارتفاعا؟، لعموم الآيات في ذلك، وشمول الأحاديث فيما هنالك، خصوصا ما في صحيح مسلم (2) في ذلك مما يطول سرده، بل في جواب سؤال جبريل أعظم دليل.
_________
(1) الحسن والقبح يطلق بثلاثة، اعتبارات:
1 - \ بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته كقولنا: إنقاذ الغريق حسن واتهام البريء قبيح.
2 - \ ما أشير إليه بقوله أو بمعنى (صفة كمال ونقص، كقولنا: العلم حسن والجهل قبيح).
وكل منهما عقلي أي أن العقل يستقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع.
3 - \ إطلاق الحسن والقبح بمعنى المدح والثواب وبمعنى (الذم والعقاب: شرعي. فلا حاكم إلا الله تعالى، والعقل لا يحسِّن ولا يقبِّح. ولا يوجب ولا يحرم.
وقال ابن حجر في الفتح (13/ 274) نقلا عن السمعاني: " إن العقل لا يوجب شيئا، ولا يحرم شيئا، ولاحظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء.
إن فعل غير المكلف ليس حسنا ولا قبيحا بمعنى أن الحسن ما أمر الله به، والقبيح ما نهى الله عنه. والصغير أو المجنون غير مكلف، كما أن فعله لا يوصف بحسن ولا قبح بمعنى أن ما لفاعله فعله مع كونه متمكنا منه، عالما بحاله، والقبيح عكسه. لأن غير المكلف ليس عالما بحاله. ولا متمكنا من فعله. فلا يوصف فعله بحسن ولا قبح. كما لا يوصف فعل الصغير أو المجنون بالحسن والقبح بمعنى الثواب والعقاب، لأن هؤلاء لا يكتب لهم ثواب، ولا ينزل بهم عقاب.
انظر: المسودة (ص 473، 477)، إرشاد الفحول (ص 7)، تيسير التحرير (2/ 152) والعواصم والقواصم (7/ 7 - 8).
(2) أخرجه مسلم (1/ 36 - 38) رقم (1/ 8) من حديث عمر بن الخطاب وهو حديث جامع لأصول الدين وشرائعه ومراتبه وشعبه القولية والعملية، وهو حديث عظيم الشأن، جليل كبير جامع نافع، سمى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما احتوى عليه (الدين) فقال: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " وهو حديث مشهور في كتب السنة عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو هريرة وأبو ذر، وعبد الله بن عباس، وأبو عامر الأشعري، وغيرهم رضي الله عنهم.(1/130)
وفي صحيح البخاري (1) في تفسير سورة {والليل إذا يغشى} عن علي- رضي الله عنه - حديث قد أحطتم به علما، أم يكون ذلك الفعل من العبد خلقا (2) وصنعة،، لا كسبا وصورة، لإضافته إليه في كثير من الآيات، ولجواز تخصيص تلك العموميات بغير القبيح السيئ، مع أن دلالة العموم ظنية،، وإن كانت كلية، ولقيام الحجة على المكلف باستقلاله، وعدم بطلان المحجة في [إلجائه] (3) وأعماله.
وهاهنا نكتة يحصل للقاصر عندها البهتة، وهي: أن القائلين بالأول يقولون: إن خلافه فيه إثبات شركاء لله، يتصرفون بغير إذن الله، وأن الإنكار والخلاف (4) إنما هو
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (45، 49، 4946، 4947، 4948، 4949) من حديث علي قال: " كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ... } إلى قوله {للعسرى} ".
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2647) وأبو داود رقم (4694) والترمذي رقم (3344) وابن ماجه رقم (78) وأحمد (1/ 82، 119، 132، 140).
(2) وهو قول المعتزلة حيث يقول القاضي عبد الجبار: وهو يتكلم عن خلق الأفعال: " ... والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة، وأنهم المحدثون لها".
ويقول في موضع آخر: " اتفق كل أهل العدل عن أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه وتعالى خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين ".
انظر: شرح الأصول الخمسة ص 323.
وقولهم هذا مخالف لأهل السنة.
فقد قال ابن حزم في الفصل (3/ 41): وذهب أهل السنة كلهم .... إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ".
(3) كلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من رسالة " العذب النمير ".
(4) ذلك أن المعتزلة ترى أن قبح الأشياء وحسنها والعقاب عليها والثواب ثابت عقلا، فهم يرون أن هناك تلازم بين إدراك قبحها، وبين العقاب عليها - شرح الأصول الخمسة ص 484.
فيقال لهم: إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة.
لكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل: فمثلا: الكذب والزنا: كلها قبيحة في ذاتها والعقاب عليها مشروط بالحكم الشرعي
وقد دل القرآن على أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن أو قبيح، قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} " [الإسراء:15].
ففي هذه الآية إشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسل، وذلك دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالحكم الشرعي، وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} [الملك:8 - 9].
وهي دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع بدليل أن الخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذر، وبذلك دخلوا النار، وهذا مما يبطل قول المعتزلة أن العقاب على القبائح ثابت بالعقل قبل ورود الشرع.
وانظر: مدارج السالكين (1/ 231 - 235).
وقال ابن القيم قي مدارج السالكين (1/ 231 - 232): والحق الذي لا يجد التناقض إليه سبيلا ... أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه قي نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والكذب
والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع .. إلى أن قال وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل والعقاب متوقف على ورود الشرع ..(1/131)
من جهة التحسين والتقبيح العقليين في الثواب والعقاب، ولا دخل له في هذا الباب، فأين المخصص من السنة أو الكتاب؟! والقائلين بالثاني يقولون: إن خلافه فيه الإجبار (1)،
_________
(1) وهو قول الجبرية: الذين ينفون قدرة العبد ومشيته وأوضح فرقة تمثل هذا الاتجاه الجهمية الذين يردون كل شيء إلى الله، والعبد عندهم أشبه ما يكون بريشة قي مهب الريح. حتى توصل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي، والوعد والوعيد وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من الأسباب حتى خرجوا عن الشرع، والعقل وقالوا أن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما وكذلك يحدث النبات عند نزول المطر لا به. وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقته لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} [الأعراف:57].
انظر: "بغية المرتاد " لابن تيمية ص 261 - 262. " فرق معاصرة " غالب بن علي عواجي (2/ 793 - 820).(1/132)
وإبطال الشرائع، وإلزام الحجة على الشارع.
فإن تخلص الفريق الأول من هذا بالكسب، وهو العزم المصمم كما قاله بعض أهل التحقيق، أو صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل على قول بعضهم- وإن حكى ابن السبكي عن أبيه أن الناس غير مكلفين بمعرفة الكسب لصعوبته- عارضهم الفريق الثاني وقالوا: هل الكسب (1) خلق الله أم لا؟.
إن قلتم لله فهو المذهب الأول، أو للعبد وافقتم قولنا.
فليتفضل غني الزمان وإنسان الأعيان بالبيان، وقد ورد النهي عن الخوض في القدر (2)،
_________
(1) سيأتي في جواب السؤال.
(2) منها: ما أخرجه أحمد في " المسند " (2/ 108) والترمذي رقم (2152، 2153) وأبو داود رقم (4613) وابن ماجه رقم (4061) والحاكم (1/ 84).
من حديث ابن عمر قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية " واللفظ لأحمد وهو حديث حسن.
ومنها: ما أخرجه أحمد (1/ 133) والحاكم في المستدرك (1/ 32 - 33) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وابن أبي عاصم في " السنة " (1/ 59 رقم 130) وابن ماجه رقم (81) وابن حبان في صحيحه (1/ 404 رقم 178) والبغوي في " شرح السنة " رقم (66). من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر".
وهو حديث صحيح.
ومنها: ما أخرجه ابن ماجه رقم (85) وأحمد (2/ 181، 185، 195). وعبد الرزاق رقم (20367) بسند حسن.
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: " بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم ". قال عبد الله بن عمرو: " فما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما غبطت نفسي بذلك المجلس (تخلفي عنه) ".
القدرية: هم نفاة القدر، ظهرت تلك الفرقة في البصرة وأول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيا ثم أسلم ثم تنصر وأخذ عنه معبد الجهمي ثم غيلان الدمشقي والقدرية أربعة أصناف:
1 - \ القدرية النافية.
2 - \ القدرية المشركية.
3 - \ القدرية الإبليسية.
4 - \ القدرية المجبرة.
انظر: مجموع فتاوى لابن تيمية (8/ 63 - 65) تاريخ المذاهب الإسلامية أبو زهرة ص 162 - 163.(1/133)
والأمر بالإمساك عن ذلك، لكن كان الأمر قبل ذلك عند المبتدئ أنه واجب عليه، كما أن الكلام (1) مذموم، والشافعي- رحمه الله تعالى- حذر منه جدا (2).
_________
(1) علم الكلام هو: علم العقائد القائم عن الأدلة العقلية فقط ويتضمن الرد والمحاجة عن تلك العقائد بتلك الأدلة.
وهو من المصائب التي ابتلي ها المسلمون ولا يزالون حتى هذه الساعة يكتوون بنارها، ويجنون الحنظل من ثمارها ويتجرعون العلقم منها تلك المصيبة الداهية- وهو علم الكلام.
ويسمى زورا وبهتانا ومخادعة، بعلم التوحيد، وبعلم أصول الدين.
انظر: " الرد على المنطقيين " (ص 374 - 375) " مقدمة ابن خلدون " (ص 821).
(2) قال الشافعي رحمه الله: " لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك، خير له من الكلام، ولقد أطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك " أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص 182) بسند صحيح وقال: " من أظهر العصبية والكلام، ودعا إليها، فهو مردود الشهادة ولأن يلقى العبد ربه عز وجل بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء ".
أخرجه إسماعيل بن الفضل في " الحجة " (ق 7\ ب) بسند صحيح.
وقال مالك بن أنس- رحمه الله-: " أهل الأهواء بئس القوم لا يسلم عليهم واعتزالهم أحب إلي".
الانتقاء (ص 34).
، وقال أحمد بن حنبل للمعتصم أيام المحنة: " ولست صاحب مراء ولا كلام وإنما أنا صاحب آثار وأخبار ". "المحنة" (ص 54).
وقال البغوي في " شرح السنة " (1/ 216): " واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهى عن الجدال والخصومات في الصفات وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه ".(1/134)
ونقل ابن عبد البر الإجماع أنه ليس من العلم، وأن أهله ليسوا من العلماء، وكان الإنسان يرى أنه أول الواجبات إلا من عصمه الله.
نعم- دمتم في جزيل النعم- حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة الذي رواه أبو داود (1)، وسكت عليه. عن معاوية بن أبي سفيان، هل يدل على هذا الافتراق قديما
_________
(1) في السنن رقم (4597).
قلت: وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 128) واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " (1/ 103) والمروزي في السنة (ص 14، 15) وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (65) وأحمد في المسند (4/ 102) بإسناد حسن.
قال الحاكم في المستدرك- عن هذا الإسناد- وإسنادي حديثي أبي هريرة السابقين له-: " هذه أسانيد تقام بها الحجة قي تصحيح هذا الحديث " ووافقه الذهبي.
وقال الألباني: " صحيح بما قبله وما بعده ".
وفي الباب من حديث أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأنس.
وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد في المسند (2/ 332) وأبو داود في السنن رقم (4596) والترمذي في السنن رقم (2640) وقال: حسن صحيح.
وابن ماجه رقم (3991) وابن حبان في صحيحه رقم (1834 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 128) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة " رقم (61، 67) بسند حسن.
وصحح الألباني الحديث لطرقه. انظر: الصحيحة رقم (203).
وأما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخرجه الترمذي في السنن رقم (2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه والحاكم (1/ 128 - 129) وهو حديث صحيح بشواهده السابقة واللاحقة.
وأما حديث أنس فقد أخرجه أحمد (3/ 120) ومن طريق أخرى عن أنس (3/ 145) وفيه ابن لهيعة لكن لا بأس به في الشواهد والمتابعات.
وذكر المحدث الألباني سبع طرق عن أنس كلها ضعيفة إلا واحدة عند ابن ماجه رقم (3993) انظر الصحيحة رقم (204).
وخلاصة القول: أن الحديث صحيح بطرقه وشواهده والله أعلم.(1/135)
وحديثا أم على زمان مخصوص؟
وقد ثبتت النجاة للصحابة- رضي الله عنه -.
- فهل يدل [ذلك] (1) على أنهم لم يختلفوا في الأصول أصلاً؟
- إن كان كذلك فليت شعري من وافقهم من الطائفتين؟ أم [كل منهما] (2) وافق بعضا؟ فيكون اختلافهم حقا، وهذا يرده ظاهر الحديث.
- وهنا مسألة مستطردة من الغصون المتعددة عن الراوي هنا، الذي هو معاوية وحروبُهُ مع علي- رضي الله عنه - وما جرى في تلك الوقائع. ما تقولون في ذلك؟
- وهل عدالة جميع الصحابة مسلمة؟
- وكذا إذا خرج أحد أصحاب السنن عن شخص، وروى عنه، كقول البخاري عن مروان، هل هو تعديل أم لا؟
- وهل مسألة الجرح والتعديل يصح فيها التقليد لبعد الزمان؟ أم تجب المعرفة على كل إنسان لكل إنسان، وإلا لم يجز الاحتجاج له؟ وهذا يثبت وجوب الاجتهاد
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) في الأصل: " كل منهم " والصواب ما أثبتناه.(1/136)
عن كل [فرد] (1) من العباد، وبعضهم يقول: هذا متعسر أو متعذر، ومنهم من يقول: إنه واجب متيسر، فما الراجح عندكم في هذا بخصوصه؟ وما دليله بمنصوصه؟ وجزاكم الله خيرا.
_________
(1) في الأصل (فرد) مكررة.(1/137)
السؤال الثالث
فيما يتعلق بالفروع من الاختلاف المتباين الأطراف:
- هل الشريعة الحكيمة قابلة لهذا التناقض؟ وأنها كالبحر يغترف كل من جهته من الماء الفائض؟ أم لا تقبل إلا قولا واحدا، وليس لورادها إلا موردا، ولا لروادها إلا رائدا لحديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" (1)؟.
- فمن أين لنا العلم بالمصيب؟ وما علامته على التقريب؟؛ فإن أكثر الخلافات معتضدة بالدليل من المخالف.
- وإذا ثبت عذر المخطئ، فهل يعذر مقلده أم لا؟
- وهل حصل للصحابة- رضي الله عنهم- في الأحكام خلاف متناقض في غير الاجتهاديات؟.
- وهل رجع أحدهم إذا علم الدليل؟
- وإذا رجع هل يكون مقلدا أو مقتديا؟
- وما حكم ما سلف من الأحكام قبل العلم بالدليل؟ وفي رجوع الصحابة إلى كتاب
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وابن ماجه رقم (2314) وأبو داود رقم (3574) كلهم من حديث عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ".
وأخرج الترمذي في السنن رقم (1326) والنسائي (8/ 223 رقم 5381) من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد ".
وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقد صحح الألباني الحديث في الإرواء رقم (2598).(1/138)
عمرو بن حزم (1) في دية الأصابع، وترك ما قضى به عمر (2) - رضي الله عنه- بارقة من ذلك؟.
- وهنا خطر في البال سؤال لاح في الخيال: هل يجوز العمل بالخطوط (3) مطلقا؟
أم لا سانحة متيمِّنة، لا لميسرة ولا ميمنة؟.
_________
(1) أخرجه أبو داود في المراسيل رقم (92) ورجاله ثقات، رجال الشيخين غير محمد بن عمارة- وهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري الحزمي المدني- فإنه لم يخرجا له ولا لأحدهما، وهو صدوق، وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في " الثقات " (5/ 380) وقال أبو حاتم: صالح، ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي.
وأخرجه النسائي في السنن (8/ 57 - 58 رقم 4853) مختصرا. وابن خزيمة رقم (2269) وابن الجارود في " المنتقى " رقم (784) وابن حبان في صحيحه رقم (793 - موارد)، والحاكم (1/ 395 - 397 - ) ومن طريقة البيهقي (8/ 73).
ولمعظم فقراته شواهد انظر: " نصب الراية " (1/ 196 - 197) (2/ 340 - 341) وتلخيص الحبير (4/ 17 - 18).
والخلاصة: أن الحديث صحيح.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (9/ 194 رقم 7050) عن سعيد بن المسيب " أن عمر قضى في الإبهام والتي تليها نصف الكف، وفي الوسطى بعشر فرائض والتي تليها بتسع فرائض وفي الخنصر بست فرائض".
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 93) بلفظ: " وقضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر وفي الوسطى بعشر وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنصر بست " وهذا اللفظ أخرجه الشافعي في الرسالة (ص 422 رقم 1160).
وعبد الرزاق في مصنفه رقم (17698) وزاد: " حتى وجدنا كتابا عند آل حزم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن الأصابع كلها سواء فأخذ- عمر- به ".
وأخرجه عبد الرزاق أيضا برقم (17706) بلفظ: قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء ثم أخبر بكتاب كتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لآل حزم في كل أصبع مما هناك عشر من الإبل ". فأخذ به وترك أمره الأول وذكر رجوع عمر رضي الله عنه إلى حديث عمرو بن حزم، الشافعي في الرسالة (ص 422 رقم 1162).
(3) وللإمام الشوكاني رحمه الله رسالة بعنوان " بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية " سيأتي تخريجها في كتابنا هذا الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(1/139)
فيما ورد في الحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .... " (1) إلخ.
هل المراد سنتهم في اتباعهم لهديه وسنته، أم المراد فيما سنوه فيما لم يكن فيه نص (2)؟.
- فكيف إذا تعارضت عند الناظر كحديث (3): " كان الطلاق على عهد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .... إلخ.
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) وقال حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (43 و44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه (1/ 104 رقم 5) والحاكم (1/ 95 - 97) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي وابن أبي عاصم في السنة (1/ 17، 19، 29، 30) والآجري في الشريعة (ص 46 - 47) من حديث العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا. فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وهو حديث صحيح.
(2) مفاد الحديث السنة العملية، أي إذا عمل الصحابة عملا لم ينقل لنا فيه سنة عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا موافقة ولا مخالفة فإنا نعد هذا كسنة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفتدي بهم فيه وعلى هذا يكون " قولهم معتبر وعملهم مقتدى به " المراد بالقول القول التكليفي لا التعريفي، وذلك كما إذا رأينا الصحابي في الحج مثلا يكبر أو يلبي في مكان مخصوص، وليس المراد القول. بمعنى الرأي والاجتهاد وإلا فمجرد المدح بالعدالة والأمر باتباع سنتهم لا يفيدان ذلك في الاجتهاد والآراء.
وقد أوضح ابن قيم الجوزية هذا المقام وحرره تحريرا شافيا وأقام ستة وأربعين دليلا على وجوب الأخذ بآرائهم ومذاهبهم وأنها تكون كالسنة وكذلك الاقتداء بهم في أعمالهم.
أعلام الموقعين (4/ 128 - 153).
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1472) وأبو داود رقم (2199 و2200) والنسائي (6/ 145) من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟.(1/140)
ما المعتمد في ذلك؟ وما عذر عمر (1) رضي الله عنه فيما هنالك.
_________
(1) وقد ذكر الصنعاني في سبل السلام (6/ 207 - 210) بتحقيقي. ط 1
الأول: أنه كان الحكم كذلك ثم نسخ في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أخرج أبو داود- في السنن رقم (2195) بإسناد حسن- من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: " كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك " اهـ إلا أنه لم يشتهر النسخ فبقي الحكم المنسوخ معمولا به إلى أن أنكره عمر (قلت) إن ثبتت رواية النسخ فذاك وإلا فإنه يضعف هذا قول عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة إلخ فإنه واضح في أنه رأي محض لا سنة فيه وما في بعض ألفاظه عند مسلم- رقم (17/ 1472) - أنه قال ابن عباس لأبي الصهباء " لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم ".
الثاني: أن حديث ابن عباس هذا مضطرب قال القرطبي: في شرح مسلم وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه فظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر والعادة تقتضي أن يظهر ذلك وينتشر ولا ينفرد به ابن عباس فهذا يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إذا لم يقتض القطع ببطلانه أهـ.
(قلت) وهذا مجرد استبعاد فإنه كم من سنة وحادثة انفرد بها راو ولا يضر سيما مثل ابن عباس بحر الأمة ويؤيد ما قاله ابن عباس من أنها كانت الثلاث واحدة ما يأتي من حديت أبي ركانة- أخرجه أبو داود رقم (2196) وهو حديث حسن ولفظه: عن ابن عباس قال طلَّق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " راجع امرأتك " فقال: إني طلقتها ثلاثا، قال: " قد علمت، راجعها "-.
الثالث: أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة هي قول المطلق أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق وذلك أنه كان في عصر النبوة وما بعده وكان حال الناس محمولا على السلامة والصدق فيقبل قول من ادعى أن اللفظ الثاني تأكيد الأول لا تأسيس طلاق آخر ويصدق في دعواه فلما رأى عمر تغير أحوال الناس وغلبة الدعاوي الباطلة رأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر كلامه ولا يصدق في دعوى ضميره وهذا الجواب ارتضاه القرطبي.
قال النووي: هو أصح الأجوبة.
(قلت) ولا يخفى أنه تقرير لكون نهي عمر رأيا محضا ومع ذلك فالناس مختلفون في كل عصر فيهم الصادق والكاذب وما يعرف ما في ضمير الإنسان إلا من كلامه فيقبل قوله وإن كان مبطلا في نفس الأمر فيحكم بالظاهر والله يتولى السرائر مع أن ظاهر قول ابن عباس طلاق الثلاث واحدة انه كان ذلك بأي عبارة وقعت.
الرابع: أن معنى قوله كان الطلاق الثلاث واحدة أن الطلاق الذي كان يوقع في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر إنما كان يوقع في الغالب واحدة لا يوقع ثلاثا فمراده أن هذا الطلاق الذي يوقعون ثلاثا كان يوقع في ذلك العهد واحدة ويكون قوله فلو أمضيناه عليهم بمعنى لو أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث وهذا الجواب يتنزل على قوله استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة تنزلا قريبا من غير تكلف ويكون معناه الإخبار عن اختلاف عادات الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه فالحكم متقرر وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة وكذا البيهقي في السنن الكبرى (7/ 338) أخرجه عنه قال معناه أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة.
(قلت): وهذا يتم إن اتفق على أنه لم يقع في عصر النبوة إرسال ثلاث تطليقات دفعة واحدة وحديث أبى ركانة وغيره يدفعه وينبو عنه قول عمر فلو أمضيناه فإنه ظاهر في أنه لم يكن معنى ذلك العصر حتى رأى إمضاءه وهو دليل وقوعه في عصر النبوة لكنه لم يمض فليس فيه أنه كان وقوع الثلاث دفعة نادرا في ذلك العصر.
الخامس: أن قول ابن عباس كان طلاق الثلاث ليس له حكم الرفع فهو موقوف عليه وهذا الجواب ضعيف لما تقرر في أصول الحديث وأصول الفقه أن كنا نفعل- وكانوا يفعلون له حكم الرفع.
السادس: أنه أريد بقوله طلاق الثلاث واحدة هو لفظ البته إذا قال أنتِ طالق البتة- وكما سيأتي
في حديث ركانة- وهو حديث ضعيف- فكان إذا قال القائل ذلك قبل تفسيره بالواحدة وبالثلاث فلما كان في عصر عمر لم يقبل منه التفسير بالواحدة قيل وأشار إلى هذا البخاري فإنه أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل، فروى بعض الرواة البتة بلفظ الثلاث يريد أن أصل حديث ابن عباس- رضي الله عنه- كان طلاق البتة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر إلى آخره.
(قلت) ولا يخفى بُعْدُ هذا التأويل وتوهيم الراوي في التبديل ويبعده أن الطلاق بلفظ البتة قي غاية الندور فلا يحمل عليه ما وقع كيف وقول عمر قد استعجلوه في أمر كان لهم فيه أناة يدل أن ذلك واقع أيضا في عصر النبوة والأقرب أن هذا رأي من عمر رجع له كما منع من متعة الحج وغيرها وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكونه خالف ما كان على عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عهد النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم إذا أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.(1/141)
.
....
....
...(1/142)
جزاكم الله خيرا .. آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
راقمُهُ السائل المستفيد محمد بن أحمد الحفظي (1) العجيلي- فتح الله عليه- آمين
_________
(1) هو محمد بن أحمد الحفظي ذكره صاحب- نيل الوطر- من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر: الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن عبد القادر الحفظي العجيلي العسيري الرجالي أخذ عن أبيه وعن السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل الزبيدي وغيرهما. برع في فنون عدة وكان سريع البادرة حسن المحاضرة مع تواضع ودماثة أخلاق ولد سنة 1178 هـ.
ولصاحب الترجمة مؤلفات في النحو وغيره مات بقرية رجال من عسير سنة 1237 هـ.
وله كتب لا تزال مخطوطة لم تنشر بعد منها:
- " تكملة الظل الممدود في الحوادث والوقائع في عهد آل سعود ".
- " النفحات العنبرية في الخطب المنبرية".
-" درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين ".
انظر: الأعلام للزركلي (6/ 18)، نيل الوطر (2/ 225).(1/143)
بسم الله الرحمن الرحيم
[نص الأجوبة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحابته أجمعين {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (1).
_________
(1) البقرة: 32.(1/144)
إجابة السؤال الأول
[دعاء غير الله شرك ولا يعذر الجاهل]
- أما السؤال الأول: فقد أجاب عنه السائل. بما شفى وكفى، وهو سؤال وجواب، وقد أقام الأدلة على ما أجاب به من الكتاب والسنة، فمن قال بغيره فلا يلتفت إليه، ولا يعول عليه.
- ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمن جهل فقد أُتي من قبل نفسه، بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة، وإلا ففيهما البيان الواضح كما قال سبحانه في القرآن: {تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة} (1)، وكذلك السنة قال أبو ذر- رضي الله عنه-: " توفي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما ترك طائرا يقلب جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علما" (2) أو كما قال- رضي الله عنه-.
فمن جهل فبسبب (3) إعراضه، ولا يعذر أحد بالإعراض.
_________
(1) النحل: 89.
(2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 154، 162) بإسناد ضعيف لجهالة الراوي عن أبي ذر.
والطبراني في الكبير رقم (1647) وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 263، 264) وقال: رواه أحمد والطبراني وزاد فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد عن النار إلا وقد بين لكم ". ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة وفي إسناد أحمد من لم يسم.
(3) قال ابن تيمية في " مجموع فتاوى " (12/ 493): " فإن الكتاب والسنة قد دل على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية ".
مثل قوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165].
وقال ابن تيمية في مجموع فتاوى (23/ 345 - 346): " وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ولقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق- لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن يلحقه الوعيد بفوات شرط، أو ثبوت مانع فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع.
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية هذا الذي عليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجماهير أئمة الإسلام " أهـ.
مثال: ما أخرجه أحمد (4/ 381) وابن ماجه رقم (1853) من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال:
لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن أفعل ذلك لك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فلا تفعلوا فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ".
فقال الشوكاني في النيل (4/ 323): ولما هذا الحديث دليل: على أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر.
مثال: الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3481) ومسلم رقم (2756) من حديث أبي هريرة مرفوعا: " كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فاحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله على ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض قال: اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يارب خشيتك، فغفر له ".
قال: ابن تيمية تعليقا على هذا الحديث في " مجموع فتاوى " (3/ 231):- فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرى، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاتبه، فغفر له بذلك.(1/145)
- وأما شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية، فكما قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} (1).
ولم نكلف معرفة اعتقادهم، فما وجدنا في كلامهم من الشرك فهو شرك، قال به من قال به، ولا نقول في قائله إنه مشرك، بل نحسن به الظن 000. (2) أو رجع عنه، ولا نرجع إلى التعسف والتأويل، والنظر إلى من قال ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الأكبر كما أقام السائل الدليل عليه في 0000. (3) الأول. وقال في الإقناع: اتفق العلماء على أن من جعل بينه وبين الله وسائط (4) يدعوهم، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعا، لأن هذا هو كفر عابدي الأصنام القائلين: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال تعالى عنهم: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} (5)، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر فقال: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} (6).
_________
(1) [البقرة: 134].
(2) كلمات سبع لم نستطع قراءتها فهي مطموسة.
(3) كلمات سبع لم نستطع قراءتها فهي مطموسة.
(4) قال تعالى: {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}، [آل عمران:80].
قال ابن تيمية تعليقا على هذه الآية: " فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين ".
انظر: مجموع فتاوى (1/ 124) و (1/ 175 - 179).
(5) [الزمر:3].
(6) [الزمر:3].(1/147)
إجابة السؤال الثاني
[مسألة خلق أفعال العباد]
السؤال الثاني:
- ما الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال، حسنها وقبيحها .... إلخ، فهذه مسألة قد تكلم العلماء، وكثر الخلاف فيها قديما وحديثا، وكثر الحجاج بين الطرفين، والواجب الرجوع إلى ما عليه الصالحون من سلف الأمة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الرد على الرافضة (1): " وأما قوله أنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا [لزم] (2) الجهل والحاجة- تعالى
_________
(1) في " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " وهو رد على ابن المطهر الرافضي.
الرافضة: يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية الذين رفضوا خلافة الشيخين وأكثر الصحابة، وزعموا أن الخلافة في علي وذريته من بعده بنص من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن أهم المسائل الاعتقادية والتي كان لها أثر هام في تباعدهم عن هدي الكتاب والسنة وطريقة أهل الحق.
ا\ قصر الخلافة في آل البيت، علي وذريته: الحسن، الحسين.
2 - \ دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء.
3 - \ تدينهم بالتقية.
4 - \ دعواهم في المهدي: أنه علي بن حسن العسكري، وأنه حي.
5 - \ دعواهم بالرجعة.
6 - \ موقفهم من القرآن.
7 - \ موقفهم من الصحابة.
8 - \ القول بالبداء على الله تعالى.
وتوجد لهم آراء أخرى منحرفة.
انظر: " فرق معاصرة تنسب إلى الإسلام " غالب بن على عواجي (1/ 163 - 167).
ونجد الشيخ ابن تيمية يرد عليهم في كتابه " منهاج السنة".
(2) في المخطوط يلزم وما أثبتناه من منهاج السنة (2/ 294).(1/148)
الله (1) عنهما-، فيقال له: هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا، ولا يظلم أحدا، ولكن النزاع في تفسير ذلك، فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد، هل يقال إنه ما هو قبيح [منه] (2) وظلم، أم لا؟ فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون: ليس [هو بذلك] (3) ظالما ولا فاعلا قبيحا، والقدرية يقولون: لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا ما هو قبيح [منه] (4)، وأما كون الفعل قبيحا من فاعله لا يقتضي أن يكون [كذلك لخالقه] (5)، لأن الخالق خلقه في غيره، لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل، لا من خلقه في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا، وريحا، وحركة، وقدرة، وعلما كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون، والريح، والحركة، والقدرة، والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما، أو صلاة، أو صياما، أو طوافا، كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام، وهو المصلي، وهو الصائم، وهو الطائف، ولكن من قال إن الفعل هو المفعول يقول: إن أفعال العباد هي فعل الله، فإن قال: وهو أيضا فعل لهم لزم أن يكون الفعل الواحد لفاعلين (6)، كما يحكى عن أبي إسحاق الاسفراييني- (7)، وإن لم يقل هو فعل لهم لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله الأشعري (8)، ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم
_________
(1) زيادة من منهاج السنة (2/ 294).
(2) زيادة من منهاج السنة (2/ 294).
(3) زيادة من منهاج السنة (2/ 294).
(4) كذا في المخطوط وصوابه [قبيحا من خالقه] كما في منهاج السنة (2/ 294).
(5) كذا في المخطوط وصوابه [قبيحا من خالقه] كما في منهاج السنة (2/ 294).
(6) معنى أن أفعال العباد تكون بفاعلين: أي أن أفعال العباد ليست بفعل لله وحده، كما يقول به جهم والأشعري وغيرهما، ولا بفعل للعبد وحده كما يقول المعتزلة ومن يحذو حذوهم، بل هي فعل لله تعالى وللعبد معا فكأنهم هربوا عن الجبر وعن كون العبد خالقا لأفعاله، إلا أنهم وقعوا في هجنة أخرى.
(7) أبو إسحاق الإسفراييني هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، فقيه شافعي أصولي متكلم توفي سنة 418 هـ.
طبقات الشافعية (3/ 111 - 114) شذرات الذهب (3/ 209 - 210) الأعلام للزركلي (1/ 59).
(8) سيأتي قريبا (ص 151).(1/149)
الذين يقولون: إن الخلق هو المخلوق، وإن أفعال العباد خلق الله، فتكون هي فعل الله، وهي مفعول الله، فكما أنها خلقُهُ فهي مخلوقة، وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، ولكنهم مكتسبون لها، وإذا طولبوا بالفرق بين الكسب (1) والفعل لم يذكروا فرقا معقولا، ولهذا كان يقال عجائب الكلام [ثلاثة] (2): أحوال أبي هاشم (3)، وطفرة النظام (4)،
_________
(1) الكسب: وهو قول الأشاعرة.
وقد ذكره ابن تيمية في مجموع فتاوى (8/ 388): أن أفعال العباد خلق لله عز وجل وكسب للعبد.
وقال في منهاج السنة (1/ 458 - 459):-" ... فجعل أفعال العباد فعلا لله، ولم يقل: هي فعلهم - في المشهور عنه- الأشعري. إلا على وجه المجاز بل قال: هي كسبهم، فسر الكسب بأنه ما يحصل في محل القدرة المحدثة مقرونا بها ".
وأكثر الناس طعنوا في هذا الكلام وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وأنشد في ذلك:
مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عنـ ... ـد البهشمي وطفرة النظام
(2) زيادة من منهاج السنة (2/ 297).
(3) عبد السلام بن محمد الجبائي وهو ابن أبي على الجبائي من رؤوس المعتزلة وتنسب إلى أبي هاشم الطائفة البهشمية من المعتزلة توفي سنة 321 هـ وهو من معتزلة البصرة. وأكثر المعتزلة اليوم على مذهبه لأن ابن عباد كان يدعو إلى مذهبه ولهم ضلالات وجهالات كثيرة.
منها قوله بالأحوال: أن العالم له حال يفارق به من ليس بعالم وللقادر حال به يفارق حال العالم ثم كان يقول: إن الحال ليست بموجودة ولا معدومة ولا مجهولة ....
.. ".
وكذلك أن الباري عز وجل هو عالم لذاته. بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتا موجودا. وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها فأثبت أحوالا هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة أي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات.
الملل والنحل (1/ 92) والتبصير في الدين ص 87.
(4) النظام: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هائي النظام وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف وعنه أخذ الاعتزال وهو شيخ أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
توفي سنة 221 هـ وقالت المعتزلة إنما سمي نظاما لأنه كان حسن الكلام في النظم والشعر وليس كذلك وإنما سمي- النظام- لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها وكان في حداثة سنه يصحب الوثنية والسمنية الذين يقولون بتكافئ الأدلة وفي كهولته كان يصحب الملاحدة من الفلاسفة.
الطفرة: لغة: الوثبة مختار الصحاح (ص 394).
وقوله- النظام- بالطفرة ذلك بانقسام كل جزء لا إلى نهاية أي أن أجزاء الجزء لا تتناهى.
وكلمه أبو الهذيل في هذه المسألة فقال: لو كان كل جزء من الجسم لا نهاية له لكانت النملة إذا دبت على البقلة لا تنتهي إلى طرفها، فقال: إنها تطفر بعضا، وتقطع بعضا، وهذا كلام منه لا يقبله عقول العقلاء لأن مالا يتناهى كيف يمكن قطعه بالطفرة. فصار قوله هذا مثلا سائرا يضرب لكل من تكلم بكلام لا تحقيق له ولا يتقرر في العقل معناه.
التبصير في الدين (ص 71) الملل والنحل (67 - 70).(1/150)
وكسب الأشعري (1).
وهذا الذي ينكره جمهور العقلاء، ويقولون: إنه مكابرة للحس، ومخالفة للشرع والعقل.
_________
(1) الأشعري: هو أبو الحسن على بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري اليماني البصري المتوفى سنة 324 هـ وكانت له ثلاثة أطوار:
أولها: انتماؤه إلى المعتزلة، يقول بقولهم، ويأخذ بأصولهم، حتى صار إماما لهم.
ثانيها: خروجه عليهم، ومعارضته لهم بأساليب متوسطة بين أساليبهم ومذهب السلف، وقد سلك في هذا الطور طريقة عبد الله بن سعيد بن كلَّاب.
ثالثها: انتقاله إلى مذهب السلف، وتأليفه في ذلك كتابه " الإبانة في أصول الديانة " وأمثاله، وقد أراد أن يلقى الله على ذلك.
وبناء على هذا فإن اللقب (الأشاعرة) ينصرف عند الإطلاق إلى أولئك الذين اتبعوه في الطور الثاني، أما قبل ذلك فهو معتزلي، وبعد توبته مر عقيدة الاعتزال وملازمته لابن كلاب فترة من الزمن رجع في آخر أيامه إلى مذهب السلف.
والأشاعرة: هم في الجملة لا يثبتون من صفات الباري عز وجل إلا سبعا. لأن العقل دل على إثباتا، ويؤولون بقية الصفات بتأويلات عقلية" اهـ.
انظر: " منهاج الاعتدال " للذهبي (ص 44)، " البرهان " للسكسكي (ص 37 - 38).(1/151)
وأما [جمهور] (1) أهل السنة فيقولون: إن فعل العبد له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. انتهى كلامه (2).
وأهل القول الثاني من السؤال لا يلزم ما يقولون في خلاف قولهم أنه إجبار وإبطال للشرائع، وإلزام الحجة على الشارع بل -سبحانه- {يخلق ما يشاء ويختار} (3)، و {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} (4)، وكل ما فعله فهو فضل أو عدل، فلا يعترض على فضله وعدله، ومن جعل العقل ميزانا للشرائع فقد ضل وأضل، والله يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا.
[ما المراد من حديث افتراق الأمة]
- وأما حديث افتراق الأمة على ثلاث (5) وسبعين فرقة، فالمراد به -والله أعلم- الاختلاف في أصول الدين، وليس مخصوصا في وقت من الأوقات.
- والصحابة لم يختلفوا في الأصول إلا ما كان من اختلافهم (6) في أهل الردة، ثم رجعوا
_________
(1) زيادة من منهاج السنة (2/ 298).
(2) كلام ابن تيمية من " منهاج السنة " (2/ 298).
(3) [القصص:68].
(4) [الأنبياء: 23].
(5) تقدم تخريجه (ص 135 - 136) من هذا القسم- العقيدة-.
(6) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1399، 1400، 1456، 1457، 6924، 6925، 7284، 7285) ومسلم في صحيحه رقم (0 2) وأبو داود رقم (1556) والترمذي رقم (2606 و2607) والنسائي (5/ 14) و (6/ 5) و (7/ 77) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: " لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق ".(1/152)
إلى قول أبي بكر- رضي الله عنه-، وأجمعوا عليه، ولم يقع بينهم الاختلاف إلا في الفروع.
- وأما [ما ذكره] (1) السائل [من الحروب بين] (2) علي رضي الله عنه [ومعاوية لم تكن من] (3) التفرق في الدين المشار إليه في الحديث، وإنما اختلفوا على الدنيا والملك خصوصا معاوية- رضي الله عنهم أجمعين- وقد ثبت أنهم كلهم على الحق كما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتل الخوارج (4) فقال: " تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق" (5) فتبين هذا أنهم على الحق، وإن كان أصحاب علي أقرب إليه من أصحاب معاوية.
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق. وهي مطموسة في المخطوط.
(2) زيادة يستلزمها السياق. وهي مطموسة في المخطوط.
(3) زيادة يستلزمها السياق. وهي مطموسة في المخطوط.
(4) الخوارج: في اللغة جمع خارج وخارجي اسم مشتق من الخروج وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة " خرج " على هذه الطائفة من الناس معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي أو لخروجهم على الناس.
تهذيب اللغة (7/ 50) تاج العروس (2/ 30).
والخوارج جمع خارجة وهم الذين نزعوا أيديهم عن طاعة ذي السلطان من أئمة المسلمين، بدعوى ضلاله وعدم انتصاره للحق ولهم في ذلك مذاهب ابتدعوها وآراء فاسدة اتبعوها.
والخوارج لا يقلون عن عشرين فرقة منها: الأزارقة، النجدات، والصفرية الخازمية، والشعبية، والمعلومية والمجهولية، الحمزية، والشمرافية، والإبراهيمية، الواقفة والإباضية.
ويقال لهم: الشراة والحرورية، والنواصب، المارقة.
وأول من خرج على أمير المؤمنين على بن أبي طالب جماعة ممن كان معه في حرب صفين، وأشدهم خروجا عليه، ومروقا من الدين: الأشعث بن قيس الكندي ومسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي.
الملل والنحل (1/ 131 - 135).
(5) أخرجه مسلم رقم (1065) وأبو داود رقم (4667) وأحمد (3/ 5، 25، 32) من حديث أبى سعيد الخدري وهو حديث صحيح.(1/153)
[الصحابة- رضي الله عنهم- كلهم عدول]
- وأما عدالتهم- رضي الله عنهم- فمسلمة عند جميع أهل السنة (1) الذين رأينا كلامهم، ولا نعلم أحدا من الصحابة طعن فيه من قبل عدالته، وأما الرافضة، والخوارج، وأهل البدع فلا عبرة بكلامهم، ولا يعد خلافهم خلافا، وإنما هو شذوذ وميل عن الصراط المستقيم.
- وأما تخريج البخاري ومسلم عن الشخص فهو تعديل إن لم يكن ثم مقصد آخر، مثل كون الحديث قد صح عندهم من طريق آخر.
فيخرجونه من طريق ذلك الشخص، لأجل قرب الإسناد، أو مقصد آخر، وكذلك أهل السنن الذين ينبهون على الضعيف إذا أخرجوا عن شخص، وسكتوا عليه، فهو تعديل (2) إذا لم يكن ثَمَّ غرض، فمن له خبرة بالحديث يعلم ذلك، [أما] (3) الجاهل فلا يشهد بمجرد التخريج على عدالة الشخص، وأما تخريج البخارى عن
_________
(1) سيأتي الكلام على عدالة جميع الصحابة في رسالة الإمام الشوكاني بعنوان: " سؤال عن عدالة الصحابة هل هي مسلمة أم لا؟ ". كما تم الكلام عليها أيضا في رسالة الإمام الشوكاني بعنوان: " إرشاد الغبي " رقم (19).
(2) قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري " مقدمة فتح الباري " ص 384: " .. ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما إنضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إذا خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم.
وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيح أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه.
(3) زيادة يستلزمها السياق.(1/154)
مروان (1) فإن معه المسور بن مخرمة.
_________
(1) (منها) مقرونا مع المسور بن مخرمة. انظر الأحاديث رقم (2307، 2308) من حديث مروان بين الحكم والمسور بن مخرمة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال ..... ".
وانظر الأحاديث رقم (1711، 2712، 2731، 2732).
(ومنهما): ما روى البخاري في صحيحه عن مروان غير مقرون بغيره وذلك كما في حديت رقم (4592) عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد فأقبلت حتى جلست على جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى عليه: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول الله والله لو أستطع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله: {غير أولي الضرر}.
مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي. أبو عبد الملك ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل: بأربع. مات سنة 65 هـ وكانت ولايته على دمشق تسعة أشهر.
قال البخاري: لم ير النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 444 رقم 2399): ولد يوم الخندق، وعى مالك أنه ولد يوم أحد. وقال الحافظ ابن حجر: ((وعاب الإسماعيلي على البخاري تخريج حديثه، وَعَدَّ من موبقاته أنه رمى طلحة أحد العشرة يوم الجمل وهما جميعا مع عائشة، فقُتل، ثم وثب على الخلافة بالسيف واعتذرت عنه في مقدمة "شرح البخاري ")) (ص 443).
فقلت: " مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان يقال له رؤية فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادا على صدقه. وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولا فيه كما قرره الإسماعيلي وغيره. وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج لهم البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرا عندهم بالمدينة قبل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا والله أعلم.
وقد اعتمد مالك على حديثه، ورأيه والباقون سوى مسلم.
وانظر تهذيب التهذيب (4/ 50).(1/155)
[التقليد في الجرح والتعديل جائز]
- وأما مسألة [هل] (1) يجوز التقليد للتعديل؟، فيجوز التقليد فيه، لأنه لا سبيل إلى معرفة الشخص [عن طريق] (2) أهل الجرح والتعديل، فلا بد من التقليد على [. . . .] (3) أخذ بمجرد لفظ الجرح أو التعديل، أو عرف حال الشخص بنقل هذا الجارح والمعدل.
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) طمس في الأصل. بمقدار كلمتين في الموضعين. أما في الموضع الأول لعلها (عن طريق).
(3) طمس في الأصل. بمقدار كلمتين في الموضعين. أما في الموضع الأول لعلها (عن طريق).(1/156)
إجابة السؤال الثالث
[حكم الاختلاف في الفروع]
السؤال الثالث:
فيما يتعلق بالفروع من الاختلاف المتباين الأطراف: هل الشريعة الحكيمة قابلة لهذا التناقض، وأنها كالبحر يغترف كل من جهته من الماء الفائض. . .؟. إلى آخره، فالجواب:-
- أن الشريعة منزهة عن التناقض، فالمصيب واحد في المختلفين.
- وإن أدلى كل بدليل فلابد في الدليلين من موافقة تخفى على [. . . .] (1)، فإن لم يكن ثم موافقة فأحدهما ناسخ للآخر، فإن بان ما يوجب الترجيح وجب العمل بالترجيح، وإن لم يكن تعين الاجتهاد مع اعتقاد أن الحق واحد.
- وإذا اجتهد فأخطأ فهو معذور، ولا يجوز لأحد أن يقره على خطئه، ولا يعذر أحد بتقليده كائنا من كان.
- وأما الاختلاف بين الصحابة في غير الاجتهادات فلا نعلم [. . . .] (2) - والله أعلم-.
- وقوله: هل رجع أحد؟ نعم، إن علم الدليل؛ فقد رجع عمر وغيره من الصحابة إلى قول أبي بكر في أهل (3) الردة، ورجع ابن عباس عن المتعة (4).
_________
(1) كلمة مطموسة في الأصل.
(2) كلمة مطموسة في الأصل.
(3) تقدم تخريجه (ص 152).
(4) روى البخاري في صحيحه رقم (5116) عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء فرفض، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه فقال ابن عباس: نعم.
وقال المحدث الألباني في "الإرواء" (6/ 319): وجملة القول أن ابن عباس رضي الله عنه روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال:
الأول: الإباحة مطلقا.
الثاني: الإباحة عند الضرورة.
الثالث: التحريم مطلقا، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة بخلاف القولين الأولين فهما ثابتان عنه والله أعلم. ا هـ(1/157)
- وقوله: إذا رجع هل يكون مقلدا أو مقتديا؟ فإن كان رجع إلى الدليل فهو مقتد، وإن رجع إلى رأي فهو مقلد.
- وأما سؤاله عن جواز العمل بالخطوط [. . . . . . . . . . .] (1) بكتاب القاضي إلى القاضي إذا أشهد عليه شاهدين عدلين، وقرأه عليهم، والعمل عندنا على قبوله، سواء كان كتاب قضاء أو كتاب شهادة (2).
- والسؤال عما ورد في الحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " (3) فالمراد - والله أعلم- سنتهم فيما سنوه إذا لم يخالف سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأما سنتهم في أتباعهم سنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو من سنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[حكم الطلاق بلفظ الثلاث]
- وأما ما خالف فيه (4) عمر -رضي الله عنه- في مسألة الطلاق، فإنه لم يثبت (5) بلفظ مقيد
_________
(1) هنا كلمات مطموسة في الأصل.
(2) وقد بوب البخاري في صحيحه (13/ 140 مع الفتح) باب رقم (15) الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك وما يضيف عليه وكتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى القاضي.
وقال ابن حجر في فتح الباري: مراده هل تصح الشهادة على الخط أي بأنه خط فلان، وقيد بالمختوم لأنه أقرب إلى عدم التزوير على الخط وقوله: وما يجوز من ذلك وما يضيف عليه، يريد أن القول بذلك لا يكون على التعميم إثباتا ونفيا، بل لا يمنع ذلك مطلقا فتضيع الحقوق، ولا يعمل بذلك مطلقا فلا يؤمن فيه التزوير فيكون جائزا بشروط.
وقوله: (كتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي) يشير إلى الرد على من أجاز الشهادة على الخط ولم يجزها في "كتاب القاضي" و"كتاب الحاكم. . . . .".
(3) تقدم تخريجه والتعليق عليه.
(4) تقدم تخريجه والتعليق عليه.
(5) بل ثبت من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: طلق أبو ركانة أم ركانة. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "راجع امرأتك" فقال: إني طلقتها ثلاثا. قال: " قد علمت، راجعها ".
أخرجه أبو داود في السنن رقم (2196) وهو حديث حسن.(1/158)
أن أحدا طلق امرأتة ثلاثا على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى فيها واحدة. وقد اتفق الجمهور على فتيا عمر - رضي الله عنه-، فمن أفتى بضدها لم ينكر عليه، ولم ينقض حكمه، بل هو مذهب كثير من أهل العلم، منهم ابن تيمية (1)، وابن القيم (2).
وقد أفرد فيه ابن تيمية تأليفا (3) - والله أعلم-.
حماكم الله وتولاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، صدر الجواب وهو غير منقول، فقابلوه بالعذر والقبول، وما كان فيه من خطأ فأصلحوه، وما كان فيه من قصور فتمموه، والسلام عليكم ورحمة الله.
_________
(1) قال ابن تيمية في كتاب الطلاق ضمن مجموع فتاوى (33/ 98):- فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها وفيه قول رابع محدث مبتدع.
(الأول): أنه طلاق مباح لازم وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية القديمة.
(الثاني): أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه اختارها أكثر أصحابه وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين.
(الثالث): أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف
من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ويروى عن ابن عباس وعلي وابن مسعود القولان وهو قول كثير من التابعين.
(الرابع): قاله بعض المعتزلة والشيعة. فلا يعرف عن أحد من السلف وهو أنه لا يلزمه شيء.
ثم قال ابن تيمية: والقول " الثالث " هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة: فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعى، لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعا. . . . ".
(2) انظر زاد المعاد (5/ 226 - 236).
(3) - بيان الطلاق المباح والحرام.
- في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثا.
- الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة.
انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 319).(1/159)
العذاب النمير
في
جواب مسائل عالم بلاد عسير
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
[الحمد لله وحده
صار هذا الكتاب المسمى الفتح الرباني - ما قبل هذا وذلك ثمان وسبعون صفحة وما بعدها - من جملة خزانة المولى سيف الإسلام والدي أحمد بن قاسم حميد الدين حفظه الله تعالى في سنة 1352 هـ
عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم] (1)
_________
(1) ما بين الخاصرتين وجد على غلاف الرسالة. والله أعلم.(1/161)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: " العذب النمير في جواب مسائل عالم بلاد عسير ".
2 - موضوع الرسالة: في قضايا الشرك والتوحيد، وخلق أفعال العباد، والاختلاف في الفروع (1).
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه أجمعين وبعد: فإنه وصل إلينا من الأخ العلامة الزكي الفهامة الفطن اللوذعي محمد بن أحمد حمد الله مساعيه. . .
4 - آخر الرسالة:. . . عن عدم وقوع الطلاق البدعي بحث طالت فيه الأقوال واضطربت فيه آراء الرجال، وقد أفرده جماعة بالتصنيف، ومن آخر من أفرده بالتصنيف أيضا راقم الأحرف غفر الله له.
وإلى هنا انتهى جواب السائل كثر الله فوائده في شهر شوال سنة 1222هـ بقلم المجيب محمد الشوكاني. غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف رحمه الله: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الأوراق ( ... ) ورقة + ورقة العنوان.
8 - عدد الأسطر في الورقة: (25 - 27) سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 - تاريخ النسخ: شوال سنة 1222 هـ.
_________
(1) وضعت هذه الرسالة في قسم " العقيدة " ولو كان فيها سؤال يتعلق بالفقه لأن أغلب الرسالة تتحدث عن العقيدة. وهكذا أصنع على مدار الكتاب وهو " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " حيث أضع الرسالة في القسم الذي يغلب عليها والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/163)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه أجمعين. وبعد:
فإنه وصل إلينا من الأخ العلامة الذكي الفهامة الفطن اللوذعي محمد بن أحمد (1)، حمد الله مساعيه ونفع بعلمه وكثر فوائده، سؤالات نافعات ومباحث شافيات، فأجبت عليها. بما عندي امتثالا لرسمه، وتصديقا لظنه، كونه وجهها إلي وعنونها باسمي وها أنا أكتب الأسئلة وأعقبها بما فتح الله به من الأجوبة مستعينا بالله عز وجل ومتكلا عليه.
[نص الأسئلة]
قال عافاه الله بعد الخطبة:
(السؤال الأول): قد نطقت الآيات القرآنية وشهدت الأحاديث النبوية، وأجمعت الأمة المحمدية على وجوب توحيد الله سبحانه بالعبادة وقال عز من قائل عليم: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (2)، {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (3)، وكذلك تواترت الأحاديث الواردات وتتابعت الآيات البينات على تحريم الشرك بالله سبحانه في العبادات سواء كان ذلك جليا أو خفيا {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} (4). وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (5)، وفي هذا مباحث يتضح بها المعنى ويستقيم عليها
_________
(1) تقدمت ترجمته في رسالة " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " رقم (1).
(2) [الذاريات: 56].
(3) [البينة: 5].
(4) [المائدة: 72].
(5) [النساء: 48].(1/169)
المبنى الأول أن الدعوة لغير الله شرك، وفي التفاسير أن المراد بها العبادة في كثير منها، والمراد بالعبادة التوحيد كما ذكره ابن عباس رضي الله عنه وفي الحديث: إن " الدعاء هو العبادة " (1) وهذا الوصل للحصر أو للتخصيص للاهتمام، وعلى كل تقدير فهو دليل على هذا التقدير. والدعاء له معنيان أحدهما دعاء الطلب (2) بل قد سمى الله ذلك دينا في قوله تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (3)، وصرف هذه العبادة لغير الله شرك وكفر بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} - إلى قوله- {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (4) فهل هذا [1] الكلام في سبل السلام إلى بلوغ المرام عند جميع الأعلام أم فيه تفصيل واحتمال على قول بعض الرجال، وشأن الكفر المجمع عليه حل الدم والمال بلا إشكال سرا قبل الدعوة أو بعدها على التفصيل فيمن بلغته ومن لم تبلغه، وهل يعذر الجاهل لقولهم إن العمل متوقف على العلم وكذا الوجوب؟ وفي قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (5) هل هذه الجملة حالية أو خبرية وهل الاحتمال يصح دليلا للعذر أم لا لوضوح المحجة، وعدم فهم الحجة ليس بعذر، وكيف شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية إلى توحيد الإلهية ممن يوجد في كلامه أو في أفعاله ما هو شرك جلي بل وقع ذلك للمصنفين، اللهم إلا أن يقال إن الدعاء ينازع فيه أنه ليس من الشرك الأكبر وأنه لا إنكار في المختلف فيه فاعتقاديات العلميات خلاف الظنيات العمليات فالمراد شيخ الأكابر بإسناد الدفاتر بسط الكلام على الأول من السؤالات والآخر مع النظر فيما يتفرع على كل جملة، والإفادة بما
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم ذكر أنواع الدعاء في رسالة " أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد وغيرها " رقم (1).
(3) [العنكبوت: 65].
(4) [الأحقاف: 5 - 6].
(5) [البقرة: 22].(1/170)
عليه الجُلَّة في الجملة.
أقول هذا السؤال قد اشتمل على أبحاث:
الأول: ما ذكره السائل عافاه الله، من كون الدعاء عبادة ليترتب عليه ما رتبه.
فاعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة المطلوبة من العباد ولو لم يكن في الكتاب العزيز إلا مجرد طلبه منهم لكان ذلك مفيدا للمطلوب، أعني كونه من العبادة قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2)، وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} (3) فهذه الآيات البينات دلت على أن الدعاء مطلوب لله عز وجل من عباده، ثم توعد على عدم الدعاء فقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (4) وهذا القدر [2] يكفي في إثبات كونه عبادة فكيف إذا انضم إلى ذلك النهي عن دعاء غير الله سبحانه، قال الله عز وجل: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5)، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} (6) وقال سبحانه ناعيا على من يدعو غيره ضاربا له الأمثال: {إن الذين تدعون من دون الله عباد}
_________
(1) [الأعراف: 55 - 56].
(2) [الإسراء: 110].
(3) [غافر: 60].
(4) [غافر: 60].
(5) [الجن: 18].
(6) [الرعد: 14].(1/171)
{أمثالكم} (1)، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (2)، فكيف إذا صرح القرآن الكريم بأن الدعاء عبادة تصريحا لا يبقى عنده ريب لمرتاب، قال الله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} -الآية- (3)، فقد طلب الله سبحانه من عباده في هذه الآية أن يدعوه، وجعل جزاء الدعاء له منهم الإجابة منه فقال: {أستجب لكم} ولهذا جزمه لكونه جوابا للأمر، ثم توعدهم على الاستكبار عن هذه العبادة -أعني الدعاء-. بما صرح به في آخر الآية، وجعل العبادة مكان الدعاء تفسيرا له وإيضاحا لمعناه وبيانا لعباده بأن هذا الأمر الذي طلبه منهم وأرشدهم إليه هو نوع من عبادته التي خص بها نفسه وخلق لها عباده كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (4).
ومع هذا كله قد جاءت السنة المطهرة بما يدل أبلغ دلالة على أن الدعاء من أكمل أنواع العبادة فأخرج أحمد (5) وأبو داود (6) والترمذي (7) وصححه النسائي (8) وابن ماجه (9) وابن أبي شيبة (10)
_________
(1) [الأعراف: 194].
(2) [سبأ: 22].
(3) [غافر: 60].
(4) [الذاريات: 56].
(5) في المسند (4/ 271).
(6) في السنن رقم (1479).
(7) في السنن رقم (2969) و (3247 و3372) وقال: حسن صحيح.
(8) في تفسيره رقم (484).
(9) في السنن رقم (3828).
(10) في "المصنف" (10/ 200).(1/172)
والحاكم (1) من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن الدعاء هو العبادة " وفي رواية: " مخ العبادة " ثم قرأ رسول الله الآية المذكورة، فهذه الصيغة الشريفة النبوية المصطفوية [3] قد اشتملت على ثلاثة أشياء (2)، كل واحد منها يقتضي الحصر.
الأول: تعريف المسند إليه.
الثاني: تعريف المسند.
الثالث: ضمير الفصل.
وقد صرح أرباب علم المعاني والبيان والأصول بأن كل واحد آلة من آلاته وأداة من أدواته، وأن وجود أحدها يقتضي الحصر، فكيف إذا اجتمعت جميعا وانضم إليها حرف التأكيد المشعر بأن ما دخل عليه كلام مؤكد، فانظر هذه المبالغة البليغة والعبارة المنادية بأبلغ نداء، المفيدة أكمل إفادة، المشعرة أتم إشعار.
فإن قلت: علام كل هذا الحصر. هل على الحقيقي أم على الادعائي؟
قلت: احمله على الادعائي لأنه قد علم من هذه الشريعة أن من أنواع العبادة أمورا كثيرة لو لم يكن من ذلك إلا أركان الإسلام الخمسة: الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج فضلا عن غيرها، فأقل ما يفيده الحديث أن الدعاء عبادة كاملة مؤكدة، فمن دعا غير الله عز وجل طالبا منه أمرا من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه فقد عبد غير الله، ولم يبعث الله سبحانه رسله ولا أنزل عليهم كتبه إلا لإخلاص توحيده
_________
(1) في المستدرك (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(2) يشير إلى أن الحصر هنا اجتمع فيه ثلاثة عناصر كلها تفيد الحصر:-
* تعريف الجزأين [المسند والمسند إليه] وهذا يفيد الحصر حقيقة أو مبالغة. ومثاله: الحمد لله.
* وكذلك وجود ضمير الفصل وهو يفيد الحصر.
انظر معترك الأقران (1/ 140 - 142).(1/173)
وإفراده بالعبادة: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1)، {أن لا تعبدوا إلا الله} (2)، {أن اعبدوا الله واتقوه} (3) {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} (4)، {فإياي فاعبدون} (5)، {إياك نعبد} (6)، {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} (7)، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (8) [4] {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} (9)، {يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (10)، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (11)، {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}
_________
(1) [الأعراف (59, 65, 73, 85) هود (50, 61, 84) والمؤمنون (23)].
(2) [هود: 26].
(3) [نوح: 3].
(4) [الأعراف: 70].
(5) [العنكبوت: 56].
(6) [الفاتحة: 5].
(7) [طه: 14].
(8) [النحل: 36].
(9) [البقرة: 21].
(10) [يس: (60 - 61)].
(11) [نوح: (1 - 3)].(1/174)
{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1)، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (2)، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (3)، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (4)، وقد حكى الله سبحانه في سورة الأعراف عن نوح وهود وصالح أن كل واحد قال لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (5). وبالجملة فرسل الله صلوات الله عليهم، وكذلك جميع كتبه المنزلة متفقة على هذه الدعوة، وقد تكفل القرآن الكريم بحكاية جميع ذلك لمن تتبعه، وإذا تقرر هذا فاعلم أن من دعا غير الله طالبا منه أمرا لا يقدر عليه إلا الله سبحانه فقد عبد غيره وشرَّكه معه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (6)، {يعبدونني لا يشركون بي شيئا} (7)، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا}
_________
(1) [العنكبوت (16 - 17)].
(2) [الشعراء (69 - 77)].
(3) [الممتحنة: 4].
(4) [الزخرف: (26 - 27)].
(5) [الأعراف: (59 - 65 - 73)].
(6) [الكهف: (110)].
(7) [النور: (55)].(1/175)
{إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1)، {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [5] {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2)، {إذ أوى الفتية إلى الكهف} - إلى آخر الآيات- (3)، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4).
البحث الثاني: من مباحث السؤال الأول ما أشار إليه السائل عافاه الله بقوله: وهل يعذر الجاهل. . . إلخ. والجواب أن ما سأل عنه من قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (5) هل الجملة حالية أو خبرية؟ الظاهر فيه أن الجملة حالية (6)، والمراد أنكم لا تجعلوا لله أندادا في حال علمكم بأنه لا أنداد لله عز وجل، وأنه المتفرد بالإلهية والمستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهذا يعلمه كل من بلغته الدعوة الإسلامية وصار من جملة المنتمين إلى الإسلام، فلله الحجة البالغة، ولم يكن للعباد على الله حجة
_________
(1) [التوبة: (31)].
(2) [آل عمران: (64)].
(3) [الكهف: (10 - 14)].
(4) [النحل: (73)]
(5) [البقرة: (22)].
(6) قال الشوكاني في فتح القدير (1/ 71 - 72): جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيت قال: " ولكن لا يعلمون، ولكن لا يشعرون، وما كانوا مهتدين، صم بكم عمي " فيقال: إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية، وقد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم.(1/176)
بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (1)، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (2)، وقد فسرها ابن مسعود (3) بأن المراد لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله وروي ذلك عن ابن عباس (4)، وقال الله عز وجل في موضع آخر: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} (5).
فإن قلت: قد يجهل بعض المسلمين بعض أسباب الردة الموجبة لوقوعه في الكفر، ويجهل بعض أنواع الشرك، بل قد يجهل ذلك كثير من أهل العلم حتى ينبه عليه فينتبه، كما يعرف ذلك من عرف أحوال الناس. ويدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في المسند (6) من حديث أبي موسى قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فقال: "يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل " فقيل له: فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله، قال: " قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ".
_________
(1) [النساء: (165)].
(2) [الإسراء: (15)].
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 87).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 87).
(5) [البقرة: (165)].
(6) (4/ 403).
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير في " الكني " ص 58 وابن أبي شيبة في كتاب الدعاء (10/ 337 - 338 رقم 9596) والطبراني في الأوسط (4/ 10 رقم 3479).
وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 226 - 227): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي وثقه ابن حبان. وهو حديث حسن.(1/177)
وقد روي من وجه آخر من حديث أبي بكر الصديق عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "الشرك أخفى فيكم من ديب النمل"فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [6] " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل، ثم قال: ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك وكبيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ". رواه من هذا الوجه أبو بكر الموصلي (1) ورواه أيضا الحافظ أبو القاسم البغوي (2) من حديث أبي بكر الصديق بلفظ: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا " فقال أبو بكر: يا رسول الله فكيف النجاة والمخرج من ذلك؟ قال: ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: " قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك ما أعلم وأستغفرك لما لا أعلم.
قلت: إذا كان من جملة أنواعه ما هو أخفى من دبيب النمل كما نطق به الصادق المصدوق فمعلوم أن يجهله غالب الخاصة فضلا عن العامة، ولهذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع ذلك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر فأجاب عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل " مؤكدا لقوله السابق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير (3) قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} أنه قال: " الأنداد أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول وحياتك يا فلان وحياتي وتقول لولاك ما كلمته وما كان هذه المنزلة
_________
(1) في المسند (1/ 60 - 61 رقم 58) بإسناد ضعيف.
وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 244) وقال: رواه أبو يعلى من رواية ليث بن أبى سليم، عن أبى محمد، عن حذيفة، وليس مدلس، وأبو محمد إن كان هو الذي روى عن ابن مسعود، أو الذي روى عن عثمان بن عفان، فقد وثقه ابن حبان، وإذ كان غيرهما فلم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) لم أجده في الجعديات.
(3) (1/ 62 رقم 229).(1/178)
من الخفاء وعدم الظهور فلا يطلع على كثير منه إلا من تدبر الكتاب العزيز كلية التدبر وتفكر في آياته أكمل التفكر، ونظر في السنة المطهرة أبلغ النظر، وتتبع ما ورد عن المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتم التتبع. وكثيرا ما نرى من له في العلم نصيب وفي الفهم حظ يقع في نوع من الأنواع التي جاءنا النص النبوي بأنها من الشرك، ويستعمله ذاهلا عن كونه كذلك بعد العلم به بوجه من الوجوه أو جاهلا له مع علمه بكثير من المعارف العلمية، وها نحن نقص عليك بعضا من تلك الأمور التي ورد بها النص حتى يتبين لك صحة ما ذكرناه ويتقرر لك ما سنقرره في هذا المقام، ونحرره من الكلام إن شاء الله [7].
فمن ذلك ما ورد في تعليق التمائم أنه من الشرك كما أخرجه أحمد في المسند (1) من حديث عقبة بن عامر مرفوعا وكذلك تعليق الخيط في اليد للحمى كما أخرجه ابن أبي حاتم (2) عن حذيفة وأخرج أحمد (3) وأبو داود (4) من حديث ابن مسعود: سمعت رسول
_________
(1) (4/ 156).
قلت: والحاكم في المستدرك (4/ 219) من حديث عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا؟! قال: " إن عليه تميمة " فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال: " من علق تميمة فقد أشرك ".
وهو حديث صحيح انظر الصحيحة رقم (492).
(2) في تفسيره (7/ 2208 رقم 12040).
(3) في المسند (1/ 381).
(4) في السنن رقم (3883) مختصرا.
وأخرجه ابن ماجه رقم (3530) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3240) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 350).
من طريقين عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود، وقد وقع عند ابن ماجه (ابن أخت زينب) بدل (ابن أخي زينب) وأشار الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " (4/ 205) إلى أنه وقع في بعض نسح ابن ماجه (ابن أخي) وقال: وهو على كلا التقديرين مجهول.
وقال الحافظ في " التقريب " رقم (8496) كأنه صحابي، ولم أره مسمى.
ولكن تابعه عبد الله بن عتبة بن مسعود عند الحاكم (4/ 417 - 418) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
كما أن للحديث طريقين آخرين يتقوى بهما، فقد أخرجه الحاكم (4/ 217) من طريق إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن الأسدي، قال: دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على امرأة ... فذكره.
وأخرجه الحاكم أيضًا (4/ 216 - 217) من طريق أبي الضحى، عن أم ناجية، قالت: دخلت على زينب امرأة عبد الله أعوذها وخلاصة القول أن الحديث صحيح بطرقه، والله أعلم.(1/179)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " وكذلك ما ورد في ذات أنواط، حيث قال بعض الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط- وهي سدرة كان المشركون يعلقون بها أسلحتهم-، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الله أكبر، قلتم- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} " أخرجه الترمذي (1) وصححه من حديث أبي واقد الليثي، وكذلك الحلف بغير الله، أخرجه الترمذي (2) وحسنه والحاكم (3) وصححه من حديث
_________
(1) في السنن رقم (2180) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وأخرجه أحمد (5/ 218) والحميدي رقم (848) والطيالسي رقم (1346) وأبو يعلى رقم
(1441) والطبراني في " الكبير " رقم (3290 و3291 و3292 و3293) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (76) وعبد الرزاق في "المصنف" رقم (20763) وابن أبي شيبة في المصنف (15/ 101) من طرق.
وهو حديث صحيح.
(2) في السنن رقم (1535).
(3) في المستدرك (1/ 52) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقد أعل بالانقطاع فقد قال البيهقي (10/ 29)، " وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر".
قلت: وأخرجه أحمد (2/ 125) وأبو داود رقم (3251) والطيالسي رقم (1896).
وهو حديث صحيح بشواهده.(1/180)
[ابن] (1) عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك " وكذلك أخرج مالك في الموطأ (2) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ومن ذلك ما أخرجه أحمد (3) من حديث قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن العيافة والطَّرْق والطيرة من الجبت " وأخرجه أيضًا أبو داود (4) والنسائي (5) وابن حبان (6)، وأخرج النسائي (7) من
_________
(1) زيادة من مصادر الحديث.
(2) تقدم تخريجه في " الرسالة السابقة " رقم (1) وهو حديت صحيح.
(3) في المسند (3/ 477) و (5/ 60).
قلت: وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف " رقم (19502) وابن سعد في " الطبقات " (7/ 35) والنسائي في "التفسير"رقم (128) والدولابي في "الكنى" (1/ 86) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 312 - 313) والطبراني في " الكبير " (18 رقم 941، 942، 943، 945) والبيهقي في " السنن الكبرى " (8/ 139)، والبغوي في " شرح السنة " رقم (3256) وأبو نعيم في " تاريخ أصبهان " (2/ 158) والخطيب في " التاريخ " (10/ 425) والمزي في "تهذيب الكمال" (7/ 475 - 476) وابن حبان في "صحيحه" رقم (6131) من طرق ..
وقد اختلف الرواة في إسناده عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، فقال بعضهم: حيان، لم ينسبه.
وقال بعضهم: حيان أبي العلاء. وقال بعضهم: حيان بن عمير، وقال آخر: حيان بن مخارق.
قلت: فالاضطراب في اسمه مشعر بعدم الضبط الموجب لضعف الحديث.
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف.
العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرِّها.
. الطِيَرة: بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: هي التشاؤم بالشيء، وأصله فيما يقال: التطير بالطير والظباء وغيرهما.
الطرق: الضرب بالحصى وهو ضرب من التكهف.
الجبت: كل ما عبد من دون الله.
(4) انظر التعليقة السابقة.
(5) انظر التعليقة السابقة.
(6) انظر التعليقة السابقة.
(7) في السنن (7/ 112رقم 4079) بسند ضعيف فيه عباد بن ميسرة المنقري وهو ضعيف، وعنعنه الحسن.
وخلاصة القول أن الحديث " ضعيف " لكن جملة: " ومن تعلق شيئا وكل إليه " ثبتت في حديث الترمذي (4/ 403 رقم 2072) والحاكم (4/ 216) وأحمد (4/ 301، 311) عن عبد الله بن عكيم.
قال الترمذي: وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كتب إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الألباني في " غاية المرام " (ص182): قلت: وابن أبي ليلى سيئ الحفظ وكأنه لذلك سكت عليه الحاكم والذهبي، وأشار المنذري في "الترغيب" (4/ 157) إلى إعلاله بابن أبي ليلى.
لكن الحديث حسن عندي، فإن له شاهدا عن الحسن البصري مرسلا أخرجه ابن وهب في "
الجامع " (ص 113): أخبرني جرير بن حازم أنه سمع الحسن يقول: فذكره مرفوعا وهذا إسناد مرسل صحيح، وقد رواه بعض الضعفاء عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا.
وخلاصة القول أن حديث عبد الله بن عكيم حسن والله أعلم.(1/181)
حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك ". وأخرج أهل السنن (1) والحاكم (2) وصححه من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال النبي
_________
(1) أبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) وابن ماجه رقم (639) والنسائي في " عشرة النساء " رقم (131).
(2) في المستدرك (1/ 8) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه الدارمي (1/ 259)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 198) وأحمد في المسند (2/ 408، 476) وابن الجارود رقم (107) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة به.
قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبى تميمة.
وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 17) عقب الحديث: " هذا حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة في البصريين ".
وقال ابن عدي في " الكامل " (2/ 637): " وحكيم الأثرم يعرف بهذا الحديث وليس له غيره إلا
اليسير" اهـ.
قلت: عللوا الحديث بأمرين:
الأول: ضعف حكيم بن الأثرم.
والثاني: الانقطاع بين أبي تميمة وأبي هريرة.
فالجواب عن الأول: أن حكيم وثقه ابن المديني، وأبو داود، وابن حبان وقال النسائي: " لا بأس به" وقال الذهبي: "صدوق".
انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 475 - 476)، و" الكاشف " (1/ 186).
أما الجواب عن الثاني: فأبو تميمة اسمه طريف بن مجالد، قد توفي سنة 97هـ وأبو هريرة توفي سنة 58 - 59 هـ، والمعاصرة تكفي كما عليه الجمهور، إن كان ثقة غير مدلس، وأبو تميمة كذلك وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وشواهد انظر: الإرواء (7/ 69 - 70).
وخلاصة القول أن الحديث صحيح.(1/182)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ".
وثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح على إثر سماء، فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: [8] أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ". وأخرج مسلم (3) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول الله عز وجل: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ". وأخرج أحمد (4) عن أبي
_________
(1) البخاري في صحيحه رقم (846) ومسلم في صحيحه رقم (25/ 71).
(2) كأبي داود رقم (3906).
(3) في صحيحه رقم (46).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) وأحمد (2/ 301، 435).
وهو حديث حسن.
(4) في المسند (3/ 30).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) والبيهقي في " الشعب " رقم (6832) وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (3/ 296 رقم 1498/ 4204): " هذا إسناد حسن، كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما ... ".
والخلاصة: أن الحديث حسن والله أعلم.(1/183)
سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ". وأخرج النسائي (1) من حديث ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن رجلا قال ما شاء الله وشئت" فقال: " أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده "، وأخرج أحمد (2) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك " قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال: " أن يقول أحدكم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك".
وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة وقد أوردت منها شطرا صالحا في رسالتي المسماة " الدر النضيد في إخلاص التوحيد" (3) وتكلمت على أطرافها وما يستفاد منها بما فيه كفاية، وليس المراد هنا إلا بيان ما قصدنا بيانه من أن في بعض أنواع ما يطلق عليه اسم الشرك خفاء ودقة من غير نظر إلى كونه شركا أكبر أو أصغر، فمن وقع في شيء من هذه الأنواع أو ما يشابهها جاهلا فلا شك أن أتي من تقصيره في طلب علم الشرع وسؤال أهله ولكنه يجب على من أتاه الله من علمه وارتضاه لحمل دينه أن يبين لهذا الجاهل ما شرعه الله لعباده مما جهله وخفي عليه علمه وفاء بما أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب من البيان للناس وأن لا يكتموه (4) عنهم، فإن نزع ذلك الجاهل بعد البيان عن
_________
(1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1).
(2) في المسند (2/ 220).
وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 105) وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات".
وهو حديث صحيح.
(3) تم تحقيق هذه الرسالة ضمن هذا القسم " الفتح الرباني " العقيدة رقم (4).
(4) يشير إلى قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187].(1/184)
الغواية ورجع من طريق [9] الضلالة إلى طريق الهداية فقد وفى العالم بما أوجبه الله عليه من البيان والتعليم، ووفى الجاهل بما أوجبه الله عليه من التعلم، وإن أبى إلا اللجاج والمشي على جادة الاعوجاج انتقل معه ذلك العالم من طريقة التليين إلى طريقة التخشين، فإن أصر واستكبر وصمم على غيه وضلاله، واختار العمى على الهدى، وكان ما وقع فيه وجادل عنه من الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه به من فريق المسلمين إلى زمرة المشركين فالسيف هو الحكم العدل.
فإن قلت قد جعل بعض أهل العلم كفر هؤلاء القبوريي ن الذين يعكفون على قبور من يعتقدونه من الأموات عكوف أهل الجاهلية على أصنامهم فيدعونهم مع الله عز وجل أو من دونه ويستغيثون بهم ويطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله -عز وجل- من الكفر العملي لا الكفر الجحودي، واستدل على ذلك مما ورد في الأحاديث الصحيحة من كفر تارك الصلاة كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" (1) وكما ورد فيمن ترك الحج من قوله سبحانه: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} وكقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (2) ونحو ذلك من الأحاديث الواردة
_________
(1) أخرجه مسلم رقم (134/ 82) وأبو عوانة (1/ 61، 62) والترمذي رقم (2618) و (2619) و (2620) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي رقم (465) وأحمد (3/ 389) وابن ماجه رقم (1078) والبيهقي (3/ 366) والبغوي في شرح السنة (2/ 179) من طرق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " والسياق لمسلم.
وأخرجه أبو داود رقم (4678) والدارقطني (2/ 53) والطبراني في " الصغير " (1/ 134) وصححه الحاكم (4/ 296، 297) ووافقه الذهبي وهو كما قالا. والدارمي (1/ 280) وأبو يعلى (3/ 318 - 319 رقم 16/ 1783) من طريق حماد عن عمرو بن دينار عن جابر مرفوعا، به.
وخلاصة القول أن الحديث صحيح.
(2) [المائدة: (44)].(1/185)
في كفر من أتى امرأة حائضا أو كاهنا أو عرافا أو قال لأخيه يا كافر، ومن ذلك ما عقده البخاري في صحيحه (1) من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وجعل هذا من الكفر الذي لا يضاد الإيمان من كل وجه.
وروي عن ابن القيم نحوا مما قاله وجعل ما نقله عنه مؤيدا لكلامه- قلت: ... ليس هذا بصحيح ولا مستقيم فإن من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل [10] لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان تطلبه الجاهلية من أصنامهم من تقريبهم إلى الله فلا فرق بين الأمرين؛ وإن أراد استغلال من يدعوه من الأموات بأن يعطيه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية فإنهم قالوا ما حكاه الله عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (2) ولم يدَّعوا لأصنامهم أنهم يستقلون بإيصالهم إلى ما يطلبونه دون الله عز وجل فهذا هو شرك الجاهلية الذي بعث الله لأجله رسله وأنزل فيه كتبه وقاتلتهم الأنبياء عليه.
وأما الخلق والرزق والموت والحياة ونحو ذلك فالجاهلية يقرون في جاهليتهم وقبل بعثة الرسل التفهم بأن الله سبحانه هو المستقل بذلك: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (3)، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن}
_________
(1) باب: كفران العشير، وكفر دون كفر. (1/ 83 رقم الباب 21 رقم 29). من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن. قيل: أيكفرن بالله؟ قال:- يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط ".
(2) [الزمر: (3)].
(3) [الزخرف: (87)].(1/186)
{العزيز العليم} (1)، {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (2)، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (3)، {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} (4)، {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (5)، وكانوا يقولون في تلبيتهم: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك" (6) وأما ما نقله ذلك القائل عن ابن القيم فغير صحيح فإن كلامه في كتبه مصرح بخلاف ذلك فإنه صرح في شرح المنازل (7) بأن هذا [11] الذي يفعله أهل القبور هو من الشرك الأكبر بل قال بعد تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر ما لفظه: " ومن أنواعه -أي الشرك الأكبر- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم -إلى آخر كلامه- ". وقد أطلنا الكلام في " الدر النضيد" (8) على قول هذا القائل فحكينا كلامه أولا ثم ذكرنا تناقضه في
_________
(1) [الزخرف: (9)].
(2) [يونس: (31)].
(3) [المؤمنون: (84 - 89)].
(4) [الشعراء: (97 - 98)].
(5) [يونس: (18)].
(6) تقدم تخريجه.
(7) " مدارج السالكين " (1/ 379 - 382).
(8) تم تحقيق الرسالة ضمن هذا القسم من " الفتح الرباني" رقم (4).(1/187)
نفسه ومخالفته للصواب، وعدم صحة ما نقله عن غيره ونقلنا كلام ابن القيم من مؤلفاته، وذكرنا ما قاله أهل العلم في هذه المسألة في مؤلفاتهم المشهورة، وإطباقهم على ما قدمنا ذكره وليس هذا مقام بسطه فلسنا بصدد تقدير المسألة على الوجه الذي ينبغي تحريره بل بصدد جواب ما سأل عنه السائل عافاه ألله مما اشتمل عليه سؤاله.
وبالجملة فإخلاص التوحيد لله عز وجل وقطع علائق الشرك كائنة ما كانت لا تحتاج إلى أن تنتقل فيه أقوال الرجال أو يُستَدل عليه بالأدلة فإنه الأمر الذي بعث الله لأجله رسله وأنزل فيه كتبه، وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل ومن شك في هذا فعليه بالتفكر في القرآن الكريم فإنه سيجده من أعظم مقاصده وأكثر موارده، فإن عجز عن ذلك فلينظر في سورة من سوره، فإن قال أريد منك مثالا أقتدي به وأمشي على طريقته وأهتدي إلى التفكر الذي أرشدتني إليه بتقديم النظر فيه فنقول ها نحن نقرب لك المسافة ونسهل عليك ما استصعبته. هذه فاتحة الكتاب العزيز التي يكررها [12] كل مصل في كل صلاة ويفتتح بها التالي لكتاب الله والمتعلم له فإن فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في ثلاثين موضعًا:
الأول: قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإن علماء المعاني والبيان ذكروا أنه يقدر المتعلق متأخرا ليفيد اختصاص البداية (1) باسم الله تعالى لا باسم غيره، وفي هذا المعنى ما لا يخفى من إخلاص التوحيد.
الثاني والثالث: وفي الاسم الشريف أعني لفظ (الله) عز وجل، فإن مفهومه كما حققه علماء هذا الشأن الواجب الوجود المختصر بجميع المحامد فكان في هذا المفهوم إشارتان إلى إخلاص التوحيد: أحدهما تفرده بوجوب الوجود، وثانيهما اختصاصه بجميع المحامد ما يستفيد من الاسم الشريف الذي أضيف إليه لفظ اسم هذان الأمران (2).
_________
(1) انظر الكشاف للزمخشري (1/ 101 - 102).
(2) انظر: روح المعاني للألوسي (1/ 75).(1/188)
الرابع: تحلية الرحمن باللام فإنها من أدوات الاختصاص سواء كانت موصولة كما هو شأن آلة التعريف إذا دخلت على المشتقات، أو لمجرد التعريف كما تكون إذا دخلت على غيرها من الأسماء والصفات وقد أوضح هذا المعنى أهل البيان. مما لا مزيد عليه.
الخامس: اللام الداخلة على قوله الرحيم، والكلام فيها كالكلام في الرحمن.
السادس: اللام الداخلة على قوله {الحمد لله} فإنها تفيد أن كل حمد له لا يشاركه فيه غيره، وفي هذا أعظم دلالة على إخلاص توحيده (1).
السابع: لام الاختصاص الداخلة على [13] الاسم الشريف، وقد تقرر أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري لقصد التعظيم فلا ثناء إلا عليه ولا جميل إلا منه ولا تعظيم إلا له، وفي هذا من أدلة إخلاص التوحيد ما لا يقادر قدره.
الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر: قوله {رب العالمين} فإن لفظ الرب باعتبار معناه اللغوي مشعر أتم إشعار بإخلاص توحيده هذا باعتبار معناه الإفرادي دون الإضافي ثم في معناه الإضافي دلالة أخرى؛ فإن كونه رب العالمين يدل على ذلك أبلغ دلالة.
ثم في لفظ العالمين معنى ثالث فإن العالم هو اسم لمن عدا الله عز وجل، فيدخل في هذا كل شيء غير الله سبحانه فلا رب غيره وكل من عداه مربوب.
ثم في تعريفه باللام معنى رابع لمثل ما قدمنا، فإذا تفيد زيادة الاختصاص. وتقرير ذلك المفهوم في هذا الموضع، ثم في صيغة الجمع معنى خامس بزيادة تأكيد وتقرير، فإن العالم إن كان اسما لمن عدى الله لمن يكن جمعه إلا بمثل هذا المعنى، وعلى فرض انهدامه باللام فهو لا يقتضي ذهاب هذا المعنى المستفاد من أصل الجمع.
الثالث عشر والرابع عشر: قوله: {الرحمن الرحيم} وتقرير الكلام فيهما كما سلف.
_________
(1) انظر: الكشاف (1/ 109 - 112) وفتح القدير (1/ 19).(1/189)
الخامس عشر والسادس عشر قوله: {مالك يوم الدين}، فإن لفظ مالك، ومعناه الإفرادي من غير نظر إلى معناه الإضافي يفيد استحقاقه بإخلاص توحيده، ثم في معناه الإضافي إلى يوم الدين معنى ثان، فإن من كان له الملك [14] في مثل هذا اليوم الذي هو يوم الجزاء لكل العباد، وفيه يجتمع العالم أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، جنهم وإنسهم وملائكتهم، فيه إشارة إلى استحقاقه إخلاص توحيده.
السابع عشر: ما يُستفاد من نفس لفظ (الدين) من غير نظر إلى كونه مضافًا إليه.
الثامن عشر: ما يستفاد من تعريفه، فإن في ذلك زيادة إحاطة وشمول فإن ذلك الملك إذا كان في يوم هو يوم الدين الذي يشتمل على كل دين كان من له هذا الملك حقيقا بأن يخلص العباد توحيده، ويفردوه بالعبادة كما تفرد بملك يوم له هذا الشأن.
فإن قلت: هذان المعنيان الكائنان في لفظ الدين باعتبار أصله وباعتبار تعريفه قد أخذا في المعنى الإضافي حسبما ذكرته سابقا. قلت: لا تزاحم بين المقتضيات، ولا يستنكر النظر إلى الشيء باعتبار معناه الإفرادي تارة، وباعتبار معناه الإضافي أخرى، وليس ذلك بممنوع ولا بمحجور عند من يعرف العلم الذي يستفاد منه دقائق العربية وأسرارها وهو علم المعاني والبيان.
التاسع عشر والموفي عشرين والحادي والعشرين: قوله {إياك نعبد} (1)، فإن تقديم الضمير معمولا للفعل الذي بعده يفيد اختصاص العبادة به، ومن اختص بالعبادة
_________
(1) قال ابن القيم في " مدارج السالكين " (1/ 102): أما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين، ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم، وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص، المسمى بالحصر فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك.
وفي ضمير "إياك" من الإشارة إلى نفس الذات، والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة، على معنى: حقيقتك وذاتك قصدي، ما ليس في قولك: قصدتك وأحببتك.
وانظر: روح المعاني للألوسي (1/ 87).(1/190)
فهو الحقيق بإخلاص توحيده، ثم مادة الفعل أعني لفظ (نعبد) يفيد معنى آخر: ثم المجيء بنون الجماعة الموجبة لكون هذا الكلام صادرا عن كل من تقوم به العبادة من العابدين كذلك فكانت الدلالات في هذه الجملة ثلاثا.
الأولى: في إياك مع النظر إلى الفعل الواقع بعده.
الثانية: ما يفيده مادة (نعبد) مع ملاحظة كونها واقعة لمن [15] ذلك الضمير عبارة عنه وإشارة إليه.
الثالثة: ما تفيده النون مع ملاحظة الأمرين المذكورين، ولا تزاحم بين المقتضيات.
الثاني والعشرون والثالث والعشرون والرابع والعشرون: قوله: {وإياك نستعين} (1) فإن تقديم الضمير معمولا لهذا الفعل له معنى، ثم مادة هذا الفعل لها معنى آخر، فإن من كان لا يستعان بغيره لا ينبغي أن يكون له شريك، بل يجب إفراده بالعبادة وإخلاص توحيده؛ إذ وجود من لا يستعان به كعدمه. وتقرير الكلام في الثلاث الدلالات كتقريره في إياك نعبد فلا نعيده.
الخامس والعشرون والسادس والعشرون والسابع والعشرون: قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فإن طلب الهداية منه وحده باعتبار كون هذا الفعل واقعا بعد الفعلين (2) اللذين تقدم معمولهما فكان له حكمهما، وإن كان قد تغير أسلوب الكلام في الجملة حيث لم يقل نستهدي أو نطلب الهداية حتى يصح أن يكون ذلك الضمير المتقدم المنصوب معمولا له تقديرا، لكن مع بقاء المخاطبة وعدم الخروج عما تقتضيه لم يقطع النظر عن ذلك الضمير الواقع على تلك الصورة لتوسطه بين هذا الفعل، أعني (اهدنا)
_________
(1) وفي إعادة " إياك " مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين. ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه. مدارج السالكين (1/ 103).
وانظر معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 140).
(2) أي " نعبد ونستعين ".(1/191)
بين من أسند إليه. ثم في ضمير الجماعة معنى يشير إلى استحقاقه سبحانه إخلاص التوحيد على الوجه الذي قدمناه في الفعلين السابقين، ثم في كون هذه الهداية هي هداية الصراط (1) المستقيم- التي هي الهداية بالحقيقة ولا اعتبار بهداية إلى صراط لا استقامة (2) فيه- معنى ثالث يشير إلى ذلك المدلول.
الثامن والعشرون: قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} فإن من يهدي إلى هذا الصراط الذي هو صراط [16] من أنعم الله عليهم يستحق أن لا يشتغل بغيره ولا ينظر إلى سواه، لأن الإيصال إلى طرائق النعم هو المقصود من المشي، والمراد بحركات السائرين وذلك كناية عن الوصول إلى النعم أنفسها؛ إذ لا اعتبار إلى طرائقها من دون وصول إليها فكان وقوع الهداية على الصراط المستقيم نعمة بمجردها؛ لأن الاستقامة إذا تصورت عند تصور الاعوجاج كان فيها راحة بهذا الاعتبار، فكيف إذا كان ذلك كناية عن طريق الحق؟ فكيف إذا كان حقا موصلا إلى الفوز بنعم الله سبحانه!
التاسع والعشرون: قوله: {غير المغضوب عليهم} (3) ووجه ذلك أن الوصول إلى النعم قد يكون منغصا مكدرا بشيء من غضب المنعم سبحانه، فإذا صفا ذلك عن هذا الكدر وانضم إلى الظفر بالنعمة الظفر بما هو أحسن منها موقعا عند العارفين، وأعظم قدرا في صدور المتقين، وهو رضا رب العالمين كان في ذلك البهجة والسرور ما لا يمكن
_________
(1) قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 33): لا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهده الأمور الخمسة.
وذكر " الصراط المستقيم " مفردا معرفا تعريفين باللام، وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه. وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
وانظر الكشاف (1/ 121).
(2) قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 33): لا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهده الأمور الخمسة.
وذكر " الصراط المستقيم " مفردا معرفا تعريفين باللام، وتعريفا بالإضافة وذلك يفيد تعينه واختصاصه. وأنه صراط واحد وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
وانظر الكشاف (1/ 121).
(3) انظر روح المعاني للألوسي (1/ 95 - 96)، الكشاف (1/ 122) بدائع التفسير (1/ 227 - 232).(1/192)
التعبير عنه ولا الوقوف على حقيقته ولا تصور معناه، وإذا كان المولي لهذه النعمة والمتفضل بها هو الله سبحانه، ولا يقدر على ذلك غيره ولا يمكن منه سواه، فهو المستحق لإخلاص توحيده وإفراده بالعبادة.
الموفي ثلاثين: قوله: {ولا الضالين} ووجهه أن الوصول إلى النعم مع الرضا قد يكون مشوبا بشيء من الغواية، مكدرا بنوع من أنواع المخالفة وعدم الهداية، وهذا باعتبار أصل الوصول إلى نعمة من النعم مع رضى المنعم بها، فإنه لا يستلزم (سلبها كون المنعم عليه على ضلالة) (1) لا باعتبار هذه النعمة الحاصلة [17] من هذا المنعم عز وجل.
ولما كان الأمر في الأصل هكذا كان في وصول النعم إلى المنعم عليه من المنعم بها- مع كونه راضيا عليه غير غاضب منه إذا كان ذلك الوصول مصحوبا بكون صاحبه على ضلاله في نفسه- (2) قصورا عن وصولها إلى من كان جامعا بين كونه واصلا إلى النعم فائزا برضا المنعم خالصا من كدر كونه في نفسه على ضلالة وتقرير الدلالة من هذا الوجه على إخلاص التوحيد كتقريرها في الوجه الذي قبله.
فهذه ثلاثون دليلا مستفادة من سورة الفاتحة باعتبار ما يستفاد من تراكيبها العربية مع ملاحظة ما يفيده ما اشتملت عليه من تلك الدقائق والأسرار التي هي راجعة إلى العلوم الآلية وداخلة فيما تقضيه تلك الألفاظ بحسب المادة والهيئة والصورة مع قطع النظر عن التفسير بمعنى خاص كما قاله بعض السلف، أو وقف عنده من بعدهم من الخلف.
فإن قلت هذه الأدلة التي استخرجتها من هذه الصورة المباركة وبلغت بها إلى هذا العدد وجعلتها ثلاثين دليلا على مدلول واحد، لم نجد لك فيها سلفا ولا سبقك بها غيرك.
قلت: هذه شكاة ظاهر عنك عارها، واعتراض غير واقع موقعه ولا مصادف محله فإن
_________
(1) في المخطوط: سلب كون المنعم عليه على ضلاله، وصوابه ما اعتمدناه.
(2) ظاهر العبارة أنه بالرفع قصور على أنه اسم كان مؤخر: كان في وصول النعم.(1/193)
القرآن عربي، وهذا الاستخراج لما ذكرناه من الأدلة هو على مقتضى اللغة العربية [18] وبحسب ما يقتضيه علومها التي دونها الثقات ورواها العدول الأثبات وليس هذا من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه والزجر لفاعله، بل من الفهم الذي يعطاه الرجل في كتاب الله كما أشار إليه علي بن أبي طالب (1) رضي الله عنه في كلامه المشهور، وما كان من هذا القبيل فلا يحتاج فيه إلى سلف. وكفى بلغة العرب وعلومها المدونة بين ظهراني الناس وعلى ظهر البسيطة سلفًا.
البحث الثالث من مباحث السؤال الأول:
قوله: وكيف شأن المتقدمين على هذه الدعوة النجدية إلى توحيد الألوهية ممن يوجد في كلامه أو في أفعاله شرك ... إلخ؟
والجواب أنه ينبغي أن يعلم السائل عافاه الله أولا بأن أهل العلم ما زالوا في كل زمان ومكان يرشدون الناس إلى إخلاص التوحيد وينفرونهم عن الوقوع في نوع من أنواع الشرك، ويذكرون ذلك في مصنفاتهم المشتهرة بأيدي الناس، ولكن لما كان الشرك أخفى من دبيب النمل كما قاله الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفي ذلك على كثير من أهل العلم ووقعوا في أمور منه جاهلين عن ذلك، وسرى ذلك الذهول إلى تحرير شيء مما فيه ذلك في المصنفات وفي أشعار كثير من الأدباء، خصوصا المتصدين لمدح الجناب النبوي ثم المشتغلين بممادح بعض الخلفاء الراشدين، ثم سائر الملوك والسلاطين، فإنه يقع لهم في بعض الأحوال ما يقشعر منه الجلد ويجف له القلب، ويخاف من حلول غضب الله على قارئه فضلا عن قائله، ولا سبب لذلك إلا ما عرفناك من الذهول في بعض الأوقات، والغفلة تارة والجهل أخرى مع ما قد انضم إلى ذلك مما هو أوكد الأسباب في قبح هذه الأبواب، وهو ما زينه الوسواس الخناس لكثير من الناس: من تشييد [19] القبور ورفع سمكها واتخاذ القباب عليها وتزيين بعضها بالستور الفائقة وإيقاد الشموع عليها
_________
(1) سيأتي تخريجه في رسالة رقم (21) " هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم " في القسم الأول - العقيدة-.(1/194)
واجتماع الناس عندها، وإظهار الخضوع والاستكانة وسؤال الحوائج، والدعاء من صميم القلب ثم ورث الأخر الأول، وتبع الخلف السلف، واقتدى اللاحق بالسابق، فتفاقم الأمر وتزايد الشر وعظمت المحنة، واشتدت البلية، وصار في كل قطر من الأقطار بل في كل مدينه من المدائن بل في كل قرية من القرى جماعة من الأموات يعتقدهم الأحياء ويعكفون على قبورهم وينتسبون إليهم، وصار ذلك عندهم أمرا مأنوسا مألوفا تنبسط إليه نفوسهم وتقبله عقولهم وتستحسنه أذهانهم، فيولد المولود ويكون أول ما يقرع سمعه عند فهم الخطاب هو النداء لأهل تلك القبور من أبويه وغيرهما، وإذا عثر صرخ من يراه باسم واحد من المعتقَدين في ذلك المكان، وإذا مرض نذر من يحب شفاءه بجزء من ماله لذلك الميت، وإذا أراد حاجة توسل إلى صاحب ذلك القبر برشوة يبذلها للعاكفين على قبره المحتالين على الناس به، ثم يكبر ذلك المولود وقد ارتسم في فكره وتقرر عنده ما يسمعه من أبويه لما في ذلك من التأثير في طبع الصغير، ولهذا قال الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" (1).
فاعرف هذا وافهم هذا السر المصطفوي، فإن الصبي ينطبع بطبع من يتولى تربيته ويسري إلى أخلاقه ما هو من أخلاق أبويه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم ينفصل هذا الصغير عن أبويه ويفارق عشه الذي دب فيه ودرج منه، فيجد الناس على ذلك الأمر الذي سمع أبويه عليه وقد يكون أول ممشى يمشيه ومكان يعرفه [20] بعد مكانه الذي ولد فيه هو قبر من تلك القبور المعتقَدَة، ومشهد من هذه المشاهد التي ابتلي الناس بها فيجد عنده الزحام والضجيج والصراخ والنداء من أبيه ومن هو من أمثاله وأكبر منه فينضم إلى ذلك الاعتقاد الذي قد تلقنه من أبويه ما يوجب تأكيده وتأييده وتشديده،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1385) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/195)
ولا سيما إذا وجد ذلك القبر قد بنيت عليه المباني النفيسة وصبغت جدرانه بالأصبغة الفائقة، ونصبت عليه الستور الرفيعة، وفاحت بجوانبه روائح العود والند والعنبر، وسطعت بنواحيه أشعة السرج والقناديل والشموع، وسمع سدنته العاكفين عليه المحتالين على الناس به يعظمون الأمر ويهولونه ويمسكون بيد زائريه والوافدين إليه ويدفعون في أقفيتهم فإنه عند هذا يتعاظم اعتقاده ويضيق ذهنه عن تصور ما يستحقه ذلك الميت من عظم المنزلة ورفيع الدرجة فيقع حينئذ في بلية لا ينزعها من قلبه إلا توفيق الله وهدايته ولطفه وعنايته أو السيف الذي هو آخر الأدوية وأنفع العقاقير.
وإذا اشتعل هذا الذي نشأ على هذه الصفة بطلب العلم وجد غالب أهله قد اتفقوا على اعتقاد ذلك الميت وتعظيم شأنه وجعلوا محبته من أعظم الذخائر عند الله، وطعنوا على من خالفهم في شيء من باطلهم بأنه لا يعتقد الأولياء ولا يحب الصلحاء، ورموه بكل حجر ومدر وألصقوا به كل عيب، فيزداد لذلك الميت محبة وفيه اعتقادا، وعلى فرض وجود فرد من أفرادهم يلهمه الله الصواب ويهديه إلى الحق ويرشده إلى فهم ما جاء عن الشارع من النهي عن رفع القبور (1) وتجصيصها والكتب عليها والتسريج لها والأمر بتسوية ما هو مشرف منها والزجر عن جعلها مساجد وأوثانا [21] ثم فهم كون الدعاء عبادة والعبادة مختصة بالله عز وجل، والمنع من دعاء غير الله في السراء والضراء وتعظيم من سواه والالتجاء إليه في الخير والشر كائنا من كان من غير فرق بين الأنبياء والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم من طوائف المسلمين.
فهذا الفرد النادر والغريب الشاذ قد يكتم ما أمره الله به من البيان للناس إما بعذر
_________
(1) قال ابن القيم في " إغاثة اللهفان " (1/ 210): فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت على القبور أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليها فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعله ونهى عنه والله عز وجل يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يصح هذا الوقف ولا يصح إثباته وتنفيذه ".(1/196)
مسوغ أو بالتفريط فيما أوجبه الله، محبة للسلامة وميلا إلى الراحة والدَّعة واستبقاء للجاه بين العامة والسواد الأعظم من الناس، فيكون علمه محنة له ونقمة عليه، ويكون وجوده كعدمه بل يكون الضر بوجوده أكثر لأنه ربما يدخل بداخلهم ونُطق الموافقة لهم فيعتقدون أنه معهم وفي عدادهم فلا يقبلون من أمثاله ويحتجون عليهم بموافقته، وما أقل من يصدع بالحق ويقوم بواجب البيان من أهل العلم، ولهذا ينزع الله البركة من علومهم ويمحقها محقا لا يفلحون بعده.
وهذا الذي يتصدى للصدع بالحق والقيام بواجب البيان لا يوجد في المدينة الكبيرة بلى الأقطار الواسعة إلا الفرد بعد الفرد، وهم مكثورون بالسواد الأعظم مغلوبون بالعامة ومن يلتحق بهم من الخاصة، فقد يتأثر من قيام ذلك الفرد النادر بعض الواقعين في أمر من الأمور لإخلاص التوحيد، وقد لا يتأثر عنه شيء. فمن هذه الحيثية خفي على بعض أهل العلم ما خفي من هذه الأمور ووقع في مؤلفاتهم وأشعارهم ما أشار إليه السائل، وقد صاروا تحت أطباق الثرى وقدموا على ما قدموا من خير أو شر، ولم يبق لنا سبيل إلى الكلام معهم والنصح لهم، ولكن يتحتم علينا بيان بطلان ذلك الذي وقعوا فيه، واشتملت عليه مؤلفاتهم وأشعارهم، والإيضاح للأحياء [22] بأن هذا الذي قاله فلان في كتابه الفلاني أو في قصيدته الفلانية واقع على خلاف ما شرعه الله لعباده، ومخالف لما جاءت به الأدلة، ومستلزم لدخول من عمل به في باب من أبواب الشرك ونوع من أنواع الكفر، والتعريض بذلك في الرسائل التي يكتبها من أوجب الله عليهم البيان والتحذير منه بأبلغ عبارة، والزجر عنه بأوضح بيان حتى يعلم الناس ما فيه، ويتحامَوا الوقوع في شيء منه إن بقي لرجوعهم إلى الحق سبيل.
وعلى فرض عدم الرجوع إلى الحق فقد قامت عليهم حجة الله وخلص العالم عن الفرض الذي أوجبه الله عليه وبرئت ذمته وظهرت معذرته.
واعلم أن هذه البدعة العظيمة والمحنة الكبرى التي طبَّقت المشرق والمغرب ووقع فيها السلف والخلف، أعني الاعتقاد في الأموات إلى حد يخدش في وجه الإيمان ويفت في(1/197)
عضد الإسلام أسها ورأسها تشييد القبور والتأنق في بناء القباب عليها، والمبالغة في التهويل على زوارها بكل ما يوجب الروعة ويحصل المهابة ويؤثر التعظيم من الأمور التي قدمنا الإشارة إليها، ولا ينكر أحد من العقلاء أن هذا الأمر من أعظم محصلات الاعتقادات الفاسدة وموجبات الوقوع في البلايا المخالفة لإخلاص التوحيد، ومن شك في هذا ولم يقبله عقله وكابر الوجدان فعليه بالتتبع والاستقراء، وأقرب من هذا أن يعمد إلى بعض العامة ويسأله عن ذلك ويكشف ما عنده منه فإنه سيجد ما ذكرناه عند كل فرد من أفرادهم.
وعند تحرير هذه الأحرف ذكرت واقعه ذكرها أهل التاريخ مع بعض الخلفاء العباسيين وهي: أنه قدم على أحدهم رسول من بعض أهل الممالك النائية فاحتفل ذلك الخليفة بجمع أعيان مملكته وأكابرها وجعلهم في الأمكنة التي سيمر الرسول بها ثم أوقف خاصته وهم جمع جم بإيوان كبير قد بالغ في تحسين فرشه وستوره [23] وتأنق في كل أموره وجعل نفسه في مكان يشرف على ذلك الإيوان على صفة في غاية التهويل والتعظيم فما زال ذلك الرسول يدخل من مكان إلى مكان ويمر بجماعة جماعة حتى وصل إلى ذلك الإيوان، فوجده فوق ما قد مر به فامتلأ مهابة وروعة وتعاورته أسباب التعظيم والتهويل من كل جهة وطرقته موجبات الجلالة من كل باب وأقيم بذلك الإيوان رجلان من خدمه الخاص يمسكان بعضديه فلم ينفسوا من خناقه ولا أبلعوه ريقه حتى انفتحت طاقات ذلك المنزل الذي فيه الخليفة وقد نصبت فيه الآلات البراقة من الذهب والفضة والأحجار النفيسة من الجواهر المعدنية وسطعت فيه المجامر وفاحت روائح الأطياب الملوكية وظهر وجه الخليفة وعليه من الثياب ونحوها ما هو الغاية في الحسن والنهاية في البهاء، فعند أن وقعت عين هذا الرسول المسكن على ذلك الخليفة قال للممسكين بيده، أهذا الله؟ فقالا له: بلى هذا خليفة الله.
فانظر أرشدك الله إلى أي حالة بلغ بهذا المسكين ما رآه من التهويل والتعظيم وانظر الحكمة البليغة في ما ورد عن الشارع من الزجر عن رفع القبور وتجصيصها وتسريجها(1/198)
ونحو ذلك، وإني لأكثر التعجب من تلقي هذه الأمة المرحومة لما ورد عن نبيها الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النهى عن ذلك والزجر عنه والتحذير منه بعكس ما ينبغي وخلاف ما يجب، مع مبالغته في ذلك كلية المبالغة، حتى كان من آخر ما قاله في مرضه الذي قبضه الله فيه: " لا تتخذوا قبري مسجدا، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (1)، ثم كان أول ما فعلته الأمة من العمل بهذه السنة الصحيحة والقبول لها أن وضعوا [24] على قبره الشريف هذه العمارة، وكان الشروع فيها قبل انقضاء القرن الذي هو خير القرون بعد قرن الصحابة رضي الله عنهم، ثم انفتح باب الشر إلى جميع أقطار الأرض، وطبق مشارقها ومغاربها وبدوها وحضرها. فإن لله وإنا إليه راجعون.
ومن عظيم اهتمامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الأمر أنه بعث بهدم القبة المشرفة أميرا من أهله هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما ثبت في الصحيح (2) أن عليا قال لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته" والأحاديث في هذا الباب وفي منع الكتابة والتجصيص والتسريج كثيرة ثابتة من طريق جماعة من الصحابة قد استوفيتها في كثير من مؤلفاتي. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وبه يعرف جواب ما سأل عنه السائل كثر الله فوائده في البحث الثالث من مباحث السؤال الأول، وعلى الله في جميع الأمور المعول.
وحاصله أن الذي يجب علينا عند الوقوف على شيء مما فيه ما لا يجوز اعتقاده من مؤلفات المتقدمين أو أشعارهم أو خطبهم أو رسائلهم أن يُحكم على ذلك الموجود بما يستحقه ويقتضيه، ونوضح للناس ما فيه، ونحذرهم عن العمل به والركون إليه، ونكل أمر قائله إلى الله مع التأول له بما يمكن، وإبداء المعاذير له بما لا يرده الفهم ويأباه العقل ولم يكلفنا الله سبحانه غير هذا ولا واجب علينا سواه.
_________
(1) سيأتي تخريجه في رسالة " الدر النضيد" ضمن هذا القسم برقم (4).
(2) أخرجه مسلم رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031) وأحمد (1/ 89) والترمذي في السنن رقم (1049). وهو حديث صحيح.(1/199)
قال السائل عافاه الله: السؤال الثاني:
عن الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال حسنها وقبيحها وخيرها وشرها هل يكون ذلك لله تعالى اختراعا وإبداعا وقوعا وإيقاعا لعموم الآيات في ذلك وشمول الأحاديث فيما هنالك، خصوصا ما في صحيح مسلم (1) من ذلك مما يطول سرده بل في جواب سؤال جبريل أعظم دليل، وفي صحيح البخاري (2) في تفسير سورة والليل إذا يغشى [25] عن علي رضي الله عنه حديث: قد أحطتم به علما أم يكون ذلك الفعل من العبد خلقا وحقيقة لا كسبا وصورة لإضافته إليه في كثير من الآيات، وبجواز تخصيص تلك العمومات بغير القبيح السيئ، مع أن دلالة العموم ظنية وإن كانت كلية، ولقيام الحجة على المكلف باستقلاله وعدم بطلان المحجة في إلجائه وأعماله، وهاهنا نكتة تحصل يتقاصر عندها البهتة، وهى أن القائلين بالأول يقولون إن خلافه فيه إثبات شركاء لله يتصرفون بغير إذن الله وأن الإنكار والخلاف (3) إنما هو من جهة التحسين والتقبيح العقليين في الثواب والعقاب، ولا دخل له في هذا الباب.
ثانيا المخصِّص من السنة والكتاب: والقائلين (4) بالثاني يقولون إن خلافه فيه الإجبار (5) وإبطال الشرائع وإلزام الحجة على الشارع، فإن يخلص الفريق الأول من هذا بالكسب وهو العزم المصمم كما قاله بعض أهل التحقيق، أو صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل على قول بعضهم- وإن حكى ابن السبكي عن أبيه أن الناس غير مكلفين. بمعرفة الكسب لصعوبته- عارضهم الفريق الثاني وقالوا (6) هل الكسب خلق الله أم لا؟
_________
(1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1) (ص. 13).
(2) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 131).
(3) انظر الكلام على ذلك في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 130 - 137).
(4) النصب عطفا على اسم إن السابق، أن القائلين.
(5) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).
(6) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).(1/200)
إن قلتم لله فهو المذهب الأول، أو للعبد وافقتم قولنا، فليتفضل عين الزمان وإنسان الأعيان بالبيان.
وقد ورد النهي عن الخوض في القدر والأمر بالإمساك عند ذلك لكن كان الأمر قبل ذلك عند المبتدي أنه واجب عليه كما أن علم الكلام مذموم، والشافعي (1) رحمه الله حذر منه جدا، ونقل ابن عبد البر أنه ليس من العلم، وأن أهله ليسوا من العلماء وكان الإنسان يرى أنه أولى الواجبات إلا من عصمه الله.
نعم- دمتم في النعم- حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (2) الذي رواه أبو داود وسكت عليه [26] عن معاوية بن أبي سفيان، هل يدل على هذا الافتراق قديما وحديثا أم على زمان مخصوص؟ وقد ثبتت النجاة للصحابة رضي الله عنهم فهل يدل على أنهم لم يختلفوا في الأصول أصلا إن كان كذلك فليت شعري من وافقهم من الطائفتين أم كل منهم وافق بعضا فيكون اختلافهم حقا (3)، وهذا يرده ظاهر الحديث، وهنا مسألة مستطردة من الغصون المتعددة عن الراوي هنا الذي هو معاوية وحروبه مع علي رضي الله عنه وما جرى في تلك الوقائع ما يقولون في ذلك؟ وهل عدالة جميع الصحابة مسلمة وكذلك إذا خرج أحد أصحاب السنن عن شخص ورووا عنه كفعل البخاري عن مروان هل هو تعديل أم لا، وهل مسألة الجرح والتعديل يصح فيها التقليد لبعد الزمان أم تجب المعرفة على كل إنسان لكل إنسان، وإلا لم يجز الاحتجاج به، وهذا يثبت وجوب الاجتهاد على كل فرد من العباد، وبعضهم يقول هذا متعسر أو متعذر، ومنهم من يقول إنه واجب متيسر فما الراجح عندكم في هذا بخصوصه، وما دليله بمنصوصه جزاكم الله خيرا.
_________
(1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).
(2) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 135 - 136).
(3) انظر الرسالة السابقة رقم (1).(1/201)
أقول هذا السؤال قد اشتمل على أبحاث:
الأول: السؤال عن مسألة خلق الأفعال وما تشعب عنها من الشعب التي أشار السائل عافاه الله إلى بعض منها في سؤاله. واعلم أن هذه المسألة قد طالت ذيولها وتنوعت مسالكها وتباينت طرائقها وتفرق الناس فيها فرقا وتحزبوا بسببها أحزابا وتكلموا فيها فأنفق كل متكلم مما عنده وأخذ من الأدلة ما قوي له ورجَّح ما ترجح له، وجملة الأقوال فيها (1) أربعة عشر قولا منها لأهل السنة والأشعرية أربعة أقوال وللمعتزلة ثمانية أقوال، وللجبرية الخلص قولان. ولا حاجة بنا إلى ذكر هذه الأقوال وتقرير أدلتها والكلام عليها ودفع ما يستحق الدفع منها، فذلك كله معروف في كتب هذا الشأن، وقد أفرد هذه المسألة جماعة من المحققين بالتصنيف، وراقم الأحرف غفر الله له قد أفردها بمؤلف جمعه [27] في أيام شبابه عند الشغف بالنظر في كل مقال والوقوف على حقيقة كل ما ينسب إلى العلم ويدون في كتب أهله ولما كان سؤال السائل عافاه الله عن الراجع عند المجيب غفر الله في هذه المسألة فأقول:
الراجح عندي فيها السكوت وإمرار الأدلة الواردة فيها الدالة عليها بمطابقة أو تضمن أو التزام كما وردت، وعدم التعرض لشيء من مباحثها ولا التكلف لشيء منها بالتأويل وإخراجه عن معناه الحقيقي.
وهذا السكوت الذي رجحته وإن كان يعده بعض المتكلفين جهلا فأنا به راض، والجهل في كثير من المواطن خير من تكلف العلم بها والدخول في مضايق لم يتعبد الله بها أحدا من عباده. ومن لم يسعه ما وسع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم في هذه المسألة ونظائرها فلا وسع الله عليه.
على أني لم أرجح هذا الترجيح وأقف في هذا الموقف إلا بعد أن قطعت في هذه المسألة وما شابهها من مسائل هذا العلم شطرا من عمري وأضعت فيه بعض أوقاتي، وأفردت
_________
(1) انظر الرسالة السابقة رقم (1). وانظر: الأصول الخمسة (ص 326)، التبصير في الدين (ص 79)، المغني في أبواب العدل والتوحيد (6/ 43).(1/202)
أمهات مسائله بالتأليف ورجحت في كل مسألة منها قولا من الأقوال ونصرت مذهبا من المذاهب بحسب ما بلغت إليه القدرة ودلت عليه الأدلة التي غلب الظن بأنها أرجح من الأدلة المقابلة لها.
ثم لم أبعد من طريقة الإنصاف في شيء منها ولا خرجت عما يوجبه الحق الذي كنت أعتقده حقا بعد أن جردت نفسي عن التعصب لمذهب من المذاهب أو قول من الأقوال أو عالم من العلماء، ثم لما فرغت من تحرير هذه المسائل وتقريرها واستوفيت في كل بحث من المباحث ما كنت أظن أنه قد فاق على كثير من التصانيف المتقدمة قرعت الباب الذي كان يدخل منه خير القرون ثم الذين يلونهم [28] ثم الذين يلونهم بعد أن ألقيت عن كاهلي حملا ثقيلا وأراحني الله من عناء طويل، وقال وقيل، وهذيان ليس له تحصل ففتح الله لي ذلك الباب الذي لازمت قرعه ودخلت منه إلى بيت فيه برد اليقين وطمأنينة الحق فطاحت تلك الدقائق التي كنت فيها وذهبت عني إلى حيث يعوي الذئب. وما أحسن ما قاله القائل:
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتَها بالمدامع
وتلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها خروة للمسامع
ولله در الشاعر الآخر حيث يقول:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المس كافورا وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هندا عشية ... تمشت وجرَّت في جوانبه بُردا
البحث الثاني من مباحث السؤال الثاني:
قوله عافاه الله: نعم -ودمتم في النعم- حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلخ، والجواب عنه أن حديث معاوية هذا الذي سأل عنه السائل وقال إنه أخرجه أبو داود (1)، هو أخرجه في سننه في كتاب السنة منه، وإسناده هكذا: حدثنا أحمد بن
_________
(1) في السنن رقم (4597) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده وقد تقدم (ص 135 - 136).(1/203)
حنبل، ومحمد بن يحيى بن فارس قالا: حدثنا أبو المغيرة: حدثنا صفوان [ح] وحدثنا عمرو بن عثمان: حدثنا بقية: حدثني صفوان: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي قال أحمد: عن أبي عامر الهوزني عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألا إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة "، زاد ابن يحيى وعمرو في حديثيهما وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، وقال عمرو: الكلب بصاحبه لا يبقى من عرق ولا مفصل إلا دخله. انتهى.
فهذا الحديث قد رواه أبو داود (1) من طريقتين إحداهما من طريق أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى عن أبي المغيرة عن صفوان، والثانية من طريق عمرو بن عثمان عن بقية [29] عن صفوان، ثم تفرد به صفوان عن أزهر عن الهوزني.
فأما أحمد بن حنبل فهو الإمام الجليل الحافظ الذي اتفق الموالف والمخالف على توثيقه، وروى عنه أهل الصحيحين وغيرهما وهو أجل قدرا من أن يحتاج إلي تعديل وأرفع محلا من أن يتكلم فيه متكلم بل هو إمام الجرح والتعديل وإمام الحفظ والإتقان، وأما محمد بن يحيى بن فارس فهو الذهلي (2) الإمام الجليل الثقة الثبت الحافظ وأما أبو المغيرة فهو عبد القدوس (3) بن الحجاج الخولاني أبو المغيرة الحمصي الثقة المشهور أخرج حديثه الشيخان وسائر أهل الأمهات، وأما عمرو بن عثمان فهو القرشي مولاهم الحمصي فقد وثقه ابن حبان وقال في التقريب (4) صدوق، وأما بقية فهو ابن الوليد الكلاعي أبو محمد
_________
(1) في السنن رقم (4597).
(2) انظر: تهذيب التهذيب (3/ 728).
(3) انظر: تهذيب التهذيب (2/ 600).
(4) رقم (5073) وقال: صدوق من العاشرة، مات سنة خمسين ومئتين.(1/204)
الحمصي أحد الأعلام قال النسائي (1): " إذا قال حدثنا وأخبرنا فهو ثقة " وقال ابن عدي (2) إذا حدث عن أهل الشام فهو ثبت وقال الجوزجاني (3): إذا حدث عن الثقات فلا بأس به، قلت هو هاهنا قد صرح بالتحديث فقال حدثني صفوان وحدث عن شامي وهو صفوان، وروى عن ثقة وهو أيضًا صفوان فحصل الشرط الذي ذكره هؤلاء الأئمة الثلاثة أعني النسائي وابن عدي والجوزجاني، وقد أخرج له مسلم (4) فرد حديث وقال في التقريب (5): صدوق كثير التدليس عن الضعفاء.
قلت قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة التدليس. وعلى كل حال فهو لم يتفرد بل تابعه أبو المغيرة وهو ثقة كما تقدم، وأما صفوان فهو ابن عمرو السكسكي (6) الحمصي. قال عمرو بن علي: ثبت وقال أبو حاتم: ثقة وقد أخرج له مسلم (7) فرد حديث. وقال في التقريب (8): ثقة، وأما أزهر بن عبد الله الحرازي فكذا وقع في سنن أبي داود (9) وجزم البخاري (10) بأنه ابن سعيد وهو الحرازي الحميري الحمصي قال في التقريب (11) صدوق تكلموا فيه للنصب وقال في الخلاصة (12) صدوق انتهى.
_________
(1) كما في تهذيب التهذيب (1/ 240).
(2) كما في تهذيب التهذيب (1/ 240).
(3) كما في تهذيب التهذيب (1/ 240).
(4) في صحيحه رقم (101/ 1429) باب رقم (16) الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة.
(5) رقم (108).
(6) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (2/ 213).
(7) في صحيحه رقم (44/ 1753) باب رقم (13) "استحقاق القاتل سلب القتيل ".
(8) رقم (109).
(9) (5/ 5 رقم 4597).
(10) انظر التاريخ الكبير (1/ 1\ 456).
(11) رقم (349).
(12) ص (25).(1/205)
وقد روى عنه مع أبي داود الترمذي والنسائي وليس ممن يحتج به لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم. وهذه الصيغة أعنى قولهم إنه صدوق هي من صيغ التليين كما أشار إليه أهل علم اصطلاح الحديث، وأما أبو عامر الهوزني فهو عبد لله بن لُحَي- بضم اللام وفتح المهملة- الحمري الهوزني بفتح الهاء والزاي بينهما واو: أبو عامر الحمصي وثقه العجلي (1) وقال في التقريب (2) ثقة مخضرم.
إذا عرفت هذا فرجال إسناد الحديث كلهم ثقات إلا بقية بن الوليد وأزهر بن عبد الله الحرازي، فأما بقية فلم يتفرد كما عرفت، وأما أزهر فقد [30] تفرد كما عرفت، وهو ضعيف فيكون هذا الحديث ضعيفا، ولكن قد ورد هذا الحديث بدون الزيادة أعني قوله ثنتان وسبعون في النار ... إلخ، من حديث أبي هريرة عند أبي داود (3) قال: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وقد أخرج هذا الحديث (4) الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح. انتهى.
ووهب بن بقية المذكور في الإسناد شيخ أبي داود هو الواسطي، أخرج حديثه مسلم ووثقه أبو زرعة وقال في التقريب (5) ثقة، وأما خالد فهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد المزني مولاهم أبو الهيثم أو أبو محمد الواسطي الطحان. قال أحمد كان ثقة. قلت: وقد اتفق على إخراج حديثه الشيخان وغيرهما من أهل الأمهات. وقال في التقريب (6)
_________
(1) في معرفة الثقات (1/ 215 رقم 56) وقال: شامي ثقة تابعي.
(2) رقم (573).
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) رقم (106).
(6) رقم (46).(1/206)
ثقة ثبت، وأما (محمد بن عمرو (1) فلعله جلجلة)، وقد وثقه أبو حاتم (2) وأخرج حديثه الشيخان وغيرهما من أهل الأمهات، وأما أبو سلمة فهو عبد الله (3) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ثقة إمام، أخرج حديثه الشيخان وغيرهما من أهل الأمهات، فتقرر بهذا أن رجال حديث أبي هريرة رجال الصحيح، فيكون أصل الحديث أعني افتراق الأمة إلى تلك الفرق صحيحا ثابتا.
وأما الزيادة التي في الحديث الأول فضعيفة كما تقدم تقريره فلا يقوم بها حجة في حكم شرعي ولو على بعض المكلفين فكيف في مثل هذا الأمر العظيم الذي هو حكم بالهلاك على هذه الأمة المرحومة التي شرفها الله واختصها بخصائص لم يشاركها فيها أمة من الأمم السابقة وزادها شرفا وتعظيما وتحليلا بأن جعلها شهداء على الناس، وأي خير في أمة تفترق إلى ثلاث وسبعين في قرة وتهلك جميعها فلا ينجو منها [31] إلا فرقة واحدة!
ولقد أحسن بعض الحفاظ حيث يقول: " وأما زيادة: كلها هالكة إلا واحدة فزيادة غير صحيحة القاعدة، وأظنها من دسيس بعض الملاحدة وكذلك أنكر ثبوتها الحافظ ابن حزم (4)، ولقد جاد ظن من ظن أنها من دسيس أهل الإلحاد والزندقة فإن فيها من التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه ما لا يقادر قدره، فيحصل لواضعها ما يطلبه من الطعن على هذه الأمة المرحومة، والتنفير عنها كما هو شأن كثير من المخذولين الواضعين للمطاعن المنافية للشريعة السمحة السهلة كما قال الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بعثت
_________
(1) محمد بن عمرو بن حلحلة. كذا في التقريب رقم (588) وفي تهذيب التهذيب (3/ 661) محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي المدني.
(2) ذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (3/ 661).
(3) انظر ترجمته في رجال صحيح البخاري (1/ 413 رقم 594) والتقريب (2/ 430) والخلاصة (ص 204).
(4) في " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (3/ 291).(1/207)
بالحنيفية السمحة السهلة" (1)، وقال الله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا " (3) وها أنا سأضرب لك مثلا وهو أنك لو رأيت جماعة من الناس قد جمعوا في مكان من الأرض عددهم اثنان وسبعون رجلا وقال لك قائل ادخل مع هؤلاء فإن واحدا منهم سيملك ما طلعت عليه الشمس وستضرب أعناق الباقين أجمعين وربما تفوز أنت من بينهم بالسلامة فتعطى تلك المملكة فهل ترضى أن تكون واحدا منهم داخلا بينهم والحال هكذا؟ أو لا تدري من هذا الواحد الذي سيفوز بالسلامة ولا سيما إذا رأيت كل واحد منهم يدعي لنفسه أنه الفائز بالسلامة والظافر بالغنيمة لمجرد الأمنية والدعوى العاطلة عن البرهان [32].
فإن قلت: إن قوله في هذا الحديث في الفرقة الناجية وهى "الجماعة" وقوله في
_________
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 209) من حديث جابر مرفوعا بلفظ " بعثت بالحنيفية السمحة أو السهلة ومن خالف سنتي فليس مني " الشطر الأول منه حسن لغيره أما الشطر الثاني فهو صحيح من طرق أخرى.
أما شواهد الشطر الأول من حديث أبي قلابة الجرمي مرسلا بلفظ: " يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية. مرتين أو ثلاثة، وأن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة " أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 395).
وله شاهد آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلا أخرجه أحمد في الزهد (ص 289، 310) بسند صحيح.
انظر: تمام المنة (ص 44 - 45) وغاية المرام (ص20 - 21) والصحيحة رقم (881).
وخلاصة القول أن الشطر الأول حسن بشواهده.
ومن شواهد الشطر الثاني:
ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5063) من حديث أنس بن مالك مطول، وفيه: " فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
(2) [الحج 78].
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (6/ 1732) من حديث أبي موسى.(1/208)
حديث آخر: " وهي من أنا عليه اليوم وأصحابي ".
قلت: هذا التعيين وإن قلل شيئا من ذلك التخويف والتنفير لكن قد تعاورت هذه الفرقة المعينة الدعاوي وتناوبتها الأماني، فكل طائفة من الطوائف تدعي لنفسها أنها الجماعة وأنها الظافرة بما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وأنهم الذين لا يزالون على الحق ظاهرين.
فإن قلت إن معرفة الجماعة ومعرفة المتصفين بموافقة ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ممكنة، ومن ادعى من المبتدعة إثبات ذلك الوصف لنفسه فدعواه مردودة عليه مضروب بها في وجهه. قلت: نعم، ولكن ليس ههنا حجة شرعية توجب علينا المصير إلى هذا التعيين وتلجئنا إلى تكلف تعين الفرق الهالكة وتعدادها فرقة فرقة كما فعله كثير من المتكلفين للكلام على هذا الحديث.
وأما ما ذكره السائل- كثَّر الله فوائده- من قوله هل يدل على هذا الافتراق قديما وحديثا أم على زمان مخصوص فالجواب عنه أن الافتراق لما كان منسوبا إلى الأمة، وحيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفترق أمتي على ثلاث وسبعن فرقة كما في حديث أبي هريرة المذكور، وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاوية المذكور وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين - كان ذلك صادقا على هذه الأمة بأسرها وعلى هذه الملة أولها وآخرها من دون تخصيص لبعض منها دون بعض ولا لعصر دون عصر، فأفاد ذلك أن هذا الافتراق المنتهي إلى ثلاث وسبعن فرقة كائن في جميع هذه الأمة من أولها إلى آخرها، ومن زعم اختصاص ذلك [33] بأهل عصر من العصور أو بطائفة من الطوائف فقد خالف الظاهر بلا سبب يقتضى ذلك.
وأما ما ذكره السائل عافاه الله من أنها قد ثبتت نجاة الصحابة، فهل يدل على أنهم لم يختلفوا في الأصول أصلا ... إلخ؟
فالجواب أن السائل إن كان يريد بيان ما عند المسئول غفر الله له فالذي عنده أنه لا ملازمة بين نجاة جميع الصحابة رضي الله عنهم وبين عدم اختلافهم في الأصول بل يجوز الحكم(1/209)
بنجاتهم جميعا مع الحكم باختلافهم في الأصول، وبيان ذلك أن الأحكام الشرعية عندي متساوية الأقدام منتسبة إلى الشرع نسبة واحدة، وكون بعضها راجعا إلى الاعتقاد وبعضها راجعا إلى العمل لا يستلزم تفاوتها على وجه يكون الاختلاف في بعضها موجبا لعدم نجاة بعض المختلفين، وفي بعضها لا يوجب ذلك، فاعرف هذا وافهمه.
واعلم أن ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن المصيب في اجتهاده له أجران وللمخطئ أجر لا يختص بمسائل العمل ولا يخرج عن مسائل الاعتقاد. فما يقوله كثير من الناس من الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وتصويب المجتهدين في الفروع دون الأصول ليس على ما ينبغي بل الشريعة واحدة وأحكامها متحدة وإن تفاوتت باعتبار قطعية بعضها وظنية الآخر، فالحق عند الله عز وجل واحد متعين يستحق موافقة أجرين ويقال له مصيب [34]، من الصواب ومن الإصابة، ويقال لمخالفه إنه مخطئ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ثبت عنه في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث عمرو بن العاص إن اجتهد فأصلب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وفي بعض الروايات الخارجة عن الصحيح من غير حديثه أنه إن أصاب فله عشرة (3)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716).
(2) كأحمد (4/ 198، 204) والدارقطني (4/ 211) والبيهقي (10/ 118 - 119).
(3) أخرجه الدارقطني في السنن (4/ 203 رقم 4) بإسناد ضعيف.
عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا قضى القاضي فاجتهد فأصاب كانت له عشرة أجور ... ".
وأخرج الحاكم (4/ 88) عن عبد الله بن عمرو أن رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لعمرو: " اقض بينهما فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر يا رسول الله؟! قال: نعم على أنك إن أصبت فلك عشر أجور ... "، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: " فرج ضعفوه ".
قلت: " وفي سنده اضطراب ... " وفي الباب من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ". أخرجه البخاري رقم (7352) ومسلم رقم (1716) وأبو داود رقم (3574) وابن ماجه رقم (2314) والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " (8/ 158) والدارقطني (4/ 210 - 211، 212) والبيهقي (10/ 119) والبغوي رقم (2509) وابن عبد البر في " جامع بيان العلوم " رقم (1664) وأحمد (4/ 198، 204، 205).(1/210)
أجور، وهذه زيادة خارج من مخرج حسن كما هو معروف، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمى من خالف الحق مخطئا فمن قال إنه مصيب في الظنيات الفروعيات إن أراد أنه مصيب من الإصابة فقد أخطأ وخالف النص، وإن أراد أنه مصيب من الصواب الذي يصح إطلاقه باعتبار استحقاق الأجر لا باعتبار إصابة الحق فلذلك وجه فاعرف هذا وافهمه حتى يتبين لك اختلاف الناس في أن كل مجتهد (1) مصيب أم لا، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله.
واعلم أنه لا فرق عند التحقيق بين ما يسميه الناس فروعا وبين ما يسمونه أصولا. هذا إن كان مطلوب السائل عافاه الله ما هو عند المجيب وإن كان مطلوبه ما قاله الناس فكلامهم معروف في مؤلفاتهم.
البحث الثالث من مباحث السؤال الثاني:
قوله: " وههنا مسألة مستطردة من الغصون المتعددة عن الراوي ... إلخ.
والجواب أن هذه المسألة الإمساك عن الكلام فيها أولى، وسد هذا الباب الذي لا
_________
(1) اعلم أن الخلاف في هذه المسألة تختص بالمسائل الشرعية لا العقلية فلا مدخل لها في هذا.
والمسائل الشرعية تنقسم إلى قسمين: الأول منها: قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس ... فليس كل مجتهد فيها مصيب بل الحق فيها واحد: فالموافق له مصيب والمخطئ غير معذور بل آثم.
والثاني: المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها، فالكلام فيها طويل فالذي يرفع النزاع حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإن حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ".
انظر " إرشاد الفحول " ص 260 والسيل الجرار (1/ 19 - 21).(1/211)
يستفاد من فتحه إلا ما لم يتعبد الله به عباده [35] أسلم، وكلام الطوائف في ذلك معروف وكل حزب بما لديهم فرحون، والحق بين المقصر والغالي، والصواب في التوسط بين جانبي الإفراط والتفريط، والحديث الثابت في الصحيح (1) أن عمارا تقتله الفئة الباغية قد دل أكمل دلالة على من بيده الحق ومن هو مقابله، وما ورد في قتال الخوارج (2) أنها تقتلهم أولى الطائفتين بالحق واضح الدلالة على المراد، وقد كان بايع عليا من بايع أبا بكر وعمر، وشذ عن بيعته من شذ بلا حجة شرعيه، وطلبوا أن يمكِّنهم من قتلة عثمان رضي الله عنه فقال إن الحكم فيهم إلى الإمام وهو إذ ذاك الإمام.
وقد ثبت في الصحيح (3) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للحسن: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وبالجملة فلا يأتي التطويل في مثل هذا بفائدة، وقد قدموا على ما قدَّموا، ولم يكلفنا الله بشيء من هذا بل أرشدنا إلى ما قصه علينا في كتابه العزيز بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (4) فرحم الله امرأ قال خيرا (5) أو صمت.
البحث الرابع من مباحث السؤال الثاني:
قوله: هل عدالة جميع الصحابة مسلمة؟
والجواب: أن لأهل العلم في هذه المسألة أقوالا:
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (447) ومسلم رقم (2916).
(2) تقدم التعريف بها (ص 153).
(3) أخرجه البخاري رقم (2704) وأطرافه (3629، 3746، 7109).
(4) [الحشر (10)].
(5) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6018) ومسلم في صحيحه رقم (47) من حديث أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ".(1/212)
الأول: ذهب إليه الجمهور (1) أنهم كلهم عدول رضي الله عنهم وأرضاهم.
الثاني: أنهم كغيرهم وبه قال الباقلاني.
والثالث: أنهم عدول إلى حين ظهور (2) الفتن بينهم وهو قول عمرو بن عبيد (3).
والرابع: أنهم عدول إلا من ظهر فسقه وهو قول المعتزله (4) وجماعة من الزيدية، والحق ما ذهب إليه الأولون لمخصصات بينهم يتعسر حصرها، منها أن الله سبحانه قد تولى تعديلهم بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (5) وبقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} (6) أي عدولا، وبقوله تعالى: {لقد رضي الله عن}
_________
(1) انظر إرشاد الفحول (ص 69)، الاستيعاب (1/ 9)، المسودة (ص 249) وقال إمام الحرمين بالإجماع- ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولما استرسلت على سائر الأعصار.
انظر: البحر المحيط (4/ 299).
(2) " أما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل ومأجور، وكما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا ..
البحر المحيط (4/ 299).
(3) هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة ولد سنة80 هـ، توفي سنة 144هـ كان جده من سبي كابل عاش في البصرة، وعاصر واصل بن عطاء وكان تربا له، فلما قام واصل بحركته انضم إليه وآزره. فأعجب واصل به وزوجه أخته وقال: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة. وقد أصبح- عمرو- شيخ المعتزلة بعد واصل. له رسائل وخطب وكتب منها: "
التفسير"، "والرد على القدرية ".
انظر: الأعلام للزركلي (5/ 81) ميزان الاعتدال (2/ 295 - 296).
(4) سيأتي التعريف بها (ص 656).
(5) [آل عمران:110].
(6) [البقرة: 143].(1/213)
{المؤمنين} (1) ونحو ذلك، وكذلك تولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعديلهم بقوله: " خير القرون قرني ... الحديث " [36] وهو في الصحيح (2)، ومثل حديث: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وهو في الصحيح (3) أيضًا وقوله: " أصحاب كالنجوم" (4) وقوله: " لا تمس النار رجلاً
_________
(1) [الفتح: 18].
(2) سيأتي تخريجه في الرسالة رقم (3) (ص 255).
(3) سيأتي تخريجه في الرسالة رقم (19) (ص 839).
(4) أما حديث: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فقد ورد من حديث جابر، وأبي هريرة، وابن عباس، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، ونبيط:
فأما حديث جابر: فقد أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 91) وابن حزم في "الإحكام " (6/ 82) من طريق سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن غضين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعًا به.
وقال ابن عبد البر: هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن: الحارث بن غضين مجهول. وقال ابن حزم: هذه رواية ساقطة ... فيه سلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها، وهذا منها بلا شك.
وقال الألباني في " الضعيفة " (1/ 78 رقم 58) موضوع.
وأما قول الشعراني في " الميزان الكبرى " (1/ 30): " وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين فهو صحيح عند أهل الكشف " فباطل وهراء لا يلتفت إليه وانظر المسألة الثانية عشرة " صحة الأحاديث لا تثبت بالكشف والإلهام والأحلام " ص 101 - 102 من كتابنا " مدخل إرشاد الأمة إلى فقه الكتاب والسنة ".
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى " وهو حديث موضوع.
أخرجه القضاعي في " المسند " (2/ 275 رقم 1346) والذهبي في الميزان (1/ 413) في ترجمة " جعفر بن عبد الواحد " وقال: هذا من بلاياه.
وقال الألباني في الضعيفة (1/ 439) موضوع. وآفته جعفر هذا، قال عنه الدارقطني في الضعفاء رقم (144): يضع الحديث. وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها كما في لسان الميزان
(2/ 117). وقال ابن عدي في الكامل (2/ 576): منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية، فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيهما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحاب لكم رحمة ".
وهو حديث موضوع.
أخرجه الخطيب في " الكفاية في علم الرواية " ص 48. من طريق سليمان بن أبي كريمة- عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا.
قلت: إسناد ضعيف جدا: سليمان بن أبي كريمة، قال ابن أبي حاتم (4/ 138) عن أبيه: " ضعيف الحديث " وجويبر هو ابن سعيد الأزدي متروك كما قال الدارقطني في الضعفاء رقم (148)، والنسائي أيضًا في الضعفاء رقم (106) وقال الذهبي في الكاشف (1/ 132 رقم 835): تركوه وقال ابن حجر في التقريب (1/ 136رقم 131) ضعيف جدا، وقال السخاوي في المقاصد ص 69 وجويبر ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع.
ومن طريق جويبر هذا روى الديلمي في مسند الفردوس الجملة الأخيرة، كما في الموضوعات الكبرى للقاري ص 52 رقم 161، وكشف الخفاء للعجلوني (1/ 68).
وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى" وهو حديث موضوع.
أخرجه الخطيب في الكفاية ص 48، وفي الفقيه والمتفقه (1/ 177) وابن الجوزي في العلل (1/ 283)، وابن عدي في الكامل (3/ 1057) كلهم من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعا.
قال ابن الجوزي: وهذا- أي الحديث- لا يصح، نعيم مجروح- قلت: بل هو صدوق يخطئ كثيرا، فقيه عارف بالفرائض. كما في التقريب (2/ 305) - وعبد الرحيم قال يحيى بن معين: كذاب- قلت: وقال البخاري: تركوه، وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال أبو حاتم: ترك حديثه، وقال أبو زرعة: واه، وقال أبو داود: ضعيف- كما في الميزان (2/ 605).
وقال الألباني في الضعيفة (1/ 80 - 81 رقم60). موضوع.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم*. وهو حديث موضوع.
أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 785) في ترجمة (حمزة بن أبي حمزة الجزري)، وقال فيه: كل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وساق له الذهبي في الميزان (1/ 607) أحاديث من موضوعاته، وهذا منها.
وقال ابن حبان في المجروحين (1/ 270): ينفرد عن الثقات بالموضوعات حتى كأنه المتعمد لها، ولا تحل الرواية عنه، وقال الألباني في الضعيفة (1/ 82 رقم 61): موضوع.
وأما حديث نبيط رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وهو حديث موضوع.
قال الألباني في الضعيفة (1/ 84 رقم 62): " موضوع. وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب ".
وقال الذهبي في الميزان (1/ 82) عن هذه النسخة. فيها بلايا ... وأحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب
وأورد الحديث ابن عرَّاق في تنزيه الشريعة (1/ 419 رقم 33) والشوكاني في الفوائد المجموعة ص 397 رقم 133.(1/214)
رآني " (1) على ما فيهما من المقال. والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة.
وورد في البعض منهم خصائص تخصه كما ورد في أهل بدر: " إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا مما شئتم فقد غفرت لكم " (2) على أن المطلوب من الحكم بعدالة الجميع هنا ليس هو إلا قبول الرواية من غير بحث عن حال الصحابي، ومرجع القبول
_________
(1) أخرجه الترمذي رقم (3858) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصاري.
وروى علي بن المديني وغير واحد من أهل الحديث عن موسى هذا الحديث. وهو حديث ضعيف.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3007) ومسلم في صحيحه رقم (2494) من حديث عبيد الله بن أبي رافع.(1/216)
على ما هو الحق عندي هو صدق اللهجة والتجوز عن الكذب ولم يتفش في خير القرون الكذب، بل ولا في القرن الذي يليهم ولا في الذي يليه كما في حديث: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يغشوا الكذب" (1)، وبالجملة فالقول بعدالة الجميع أقل ما يستحقونه من المزايا التي وردت بها الأدلة الصحيحة.
ويقال في جواب القول الثاني بأن جعلهم كغيرهم إهمال لمزاياهم وإهدار لخصائصهم وطرح لكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة ويقال في جواب القول الثالث بأن تقييد ثبوت العدالة إلى وقت ظهور الفتن لا يتم إلا بعد تسليم أنهم دخلوا فيها- صانهم الله- جرأة لا على بصيرة ولا تأويل، وذلك مما لا ينبغي إطلاقه على آحاد المسلمين مع الاحتمال فكيف بالواحد من الصحابة بل كيف بجميعهم. ثم ليت شعري ما يقول صاحب هذا القول أعني عمرو بن عبيد في البدريين الداخلين في تلك الحروب، فإن الله قد غفر لهم ما قارفوه من الذنوب، ولعله لا يجد عن هنا جوابا، وهو مع زهده من رءوس البدع ومن المتهمين في الدين ومما يحقق تصميمه على هذه المقالة في الصحابة أنه كان يقول: لو شهد عندي علي وطلحة والزبير على باقة بقل ما قبلت شهادتهم، فانظر هذه الجرأة العظيمة من هذا المبتدع الجاهل للشرع وأهله.
ويقال لأهل القول الرابع: إن ما ذكرتم من ظهور الفسق لا نسلم وجوده على الحقيقة، وأما بحسب الأهواء والدعاوي الفارغة والقيام في مراكز المذاهب فذلك لا يضرنا ولا ينفعكم، وأيضا إن ذلك الموجب للفسق إن كان لا يعود إلى ما يتعلق بالرواية والحفظ فلا اعتداد به لما قدمنا لك من أنه الاعتبار بصدق اللهجة وحفظ المروي وعدم الدخول في بدعة من البدع [37] توجب التهمة لذلك الراوي بالدعاء إلى مذهبه، وجميع الصحابة رضي الله عنهم منزهون عن جميع ذلك لا يخالف في هذا إلا من قد غلت في صدره مراجل الرفض.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.(1/217)
البحث الخامس من مباحث السؤال الثاني:
قوله: وكذلك إذا أخرج أصحاب السنن عن شخص ورووا عنه كفعل البخاري (1) عن مروان هو تعديل أم لا؟
والجواب أنه إذا كان لذلك الراوي شرط معروف فيمن يروي عنه وكان من أهل التحري والإتقان والخبرة الكاملة في الفن، وصرح بأنه لا يروي إلا عمن حصل فيه ذلك الشرط كان الظاهر وجود الشرط المذكور في جميع رواته، فإن كان المجتهد يرى أن ما جعله ذلك الراوي شرطا تحصل به مفهوم العدالة عند، وفي اجتهاده فلا بأس بذلك، وإن لم يكن للراوي شرط معروف، أو كان ولكن لا يراه المجتهد المطلع على ذلك محصلا لمفهوم العدالة فلا يكون ذلك تعديلا، فلا بد من هذا التفصيل وتقييد أقوال المختلقين في هذه المسألة به فاعرفه.
البحث السادس من مباحث السؤال الثاني:
قوله: وهل مسألة الجرح والتعديل يصح فيها التقليد ... إلخ؟
أقول: ينبغي أن يعلم السائل عافاه الله أن التقليد (2) هو قبول رأي الغير دون روايته من دون مطالبة بالحجة، وتعديل المعدل للراوي ليس من الرأي في ورد ولا صدر بل هو
_________
(1) تقدم في رسالة" أسئلة وأجوبة عن قضايا الشرك والتوحيد " رقم (1).
(2) التقليد لغة: جعل القلادة في العنق، ومنه تقليد الهدي في الحج، أي جعل القلادة في عنق ما يهدي إلى الحرم من النعم.
وفي اصطلاح الأصوليين: هو أن قول الغير من غير معرفة دليله.
انظر: نزهة الخاطر العاطر (2/ 449 - 450).
قال الشوكاني في " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد- سيأتي تحقيقها ضمن الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني في قسم الفقه وأصوله-: " إن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة، وأنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد وعدم الاعتداد به وأن هذه المذاهب إنما أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين ".(1/218)
من الرواية لحال من يعد له أو يجرحه؛ لأنه ينقل إلينا ما كان معلوما لديه من حال الراوي، وهذا بلا شك من الرواية لا من الرأي فلا مدخل لهذه المسألة في التقليد، وقد أوردها بعض المتأخرين بقصد التشكيك على المدعين للاجتهاد زاعما أنهم لم يخرجوا عن التقليد من هذه الحيثية، وأنت خبير بأن هذا تشكيك باطل نشأ من عدم الفرق بين الرواية والرأي، ومن هاهنا يعرف السائل عافاه الله بأن الاجتهاد متيسر لا متعذر ولا متعسر، والهداية بيد الله عز وجل وقد أوسمت هذه المسألة في مؤلفاتي بمباحث مطولة لا يتسع المقام لبسطها، وأطال وأطاب الكلام في شأنها الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، رحمه الله، في كتابه العواصم من القواصم (1) في الذب عن سنة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليرجع إليه فإنه كتاب يكتب بماء الأحداق في صفحات الخدود والرقاق، وقد أوضحت ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم في الكتاب الذي سميته (أدب الطلب ومنتهى الأرب) (2) بحسب ما ظهر لي وقوي لدي، والله أعلم [38].
قال كثر الله فوائده:
السؤال الثالث: فيما يتعلق بالفروع من الاختلاف المتباين الأطراف هل الشريعة الحكيمة قابلة لهذا التناقض وأنها كالبحر يغترف كل من جهته من الماء الفائض أم لا تقبل إلا قولا واحدا وليس لورادها إلا مورد ولا لروادها إلا رائد، لحديث" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" (3). فمن أين لنا العلم بالمصيب وما علامته على التقريب، فإن أكثر الخلافيات معتضدة بالدليل من المخالف، وإذا ثبت عذر المخطئ فهل يعذر مقلده أم لا؟ وهل حصل بين الصحابة رضي الله عنهم في الأحكام خلاف متناقض في غير الاجتهادات؟ وهل رجع أحدهم إذا علم بالدليل؟ وإذا رجع هل يكون مقلدا أو مقتديا
_________
(1) (2/ 8 - وما بعدها).
(2) (19 - 181) بتحقيقي.
(3) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 138).(1/219)
وما حكم ما سلف من الأحكام قبل العلم بالدليل. وفي رجوع الصحابة إلى كتاب عمرو ابن حزم (1) في دية الأصابع وترك ما قضى به عمر رضي الله عنه بارقة من ذلك. وهنا خطر في البال سؤال لاح في الخيال، هل يجوز العمل بالخطوط مطلقا أم لا، سانحة متمنة لا لميسرة ولا ميمنة فيما ورد في الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... إلخ " (2) هل المراد سنتهم في اتباع هديه وسنته، أم المراد فيما سنوه فيما لم يكن فيه نص؟ فكيف إذا تعارضت عند الناظر كحديث كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ، ما المعتمد في ذلك وما عذر عمر رضي الله عنه فيما هنالك، جزاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله، انتهى.
أقول هذا السؤال قد اشتمل على أبحاث:
الأول: سؤاله هل المصيب في الفروع واحد أم كل مجتهد مصيب. والجواب: إنه قد اختلف الناس في ذلك، فالجمهور قالوا بوحدة الحق وتخطئة من خالفه، وأن الله سبحانه لم يشرع لعباده في كل مسألة من مسائل الشرع إلا شيئا واحدا، فمن وافقه فهو المصيب، ومن خالفه فهو المخطئ، وقال الأشعري (3) والباقلاني وابن سريج وأبو يوسف ومحمد إن كل مجتهد مصيب (4).
واختلف هؤلاء فقال ابن سريج وأبو يوسف ومحمد إنه مصيب مع الأشبه، وهو ما لو حكم الله لم يحكم إلا به فمخطئه مصيب مخالف للأشبه، وربما قال بعضهم: إنه يخطئ في الانتهاء لا في الابتداء. وقال الأشعري والباقلاني: بل كل مجتهد مصيب مع عدمه إلى عدم الأشبه فجعلوا حكم الله تابعا لنظر المجتهد، فكل ما اجتهد فيه فهو حكم الله في
_________
(1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 139).
(2) تقدم تخريجه (ص 140).
(3) انظر هذه الأقوال في مجموع فتاوى (19/ 204) لابن تيمية، الرسالة (ص 489)، جمع الجوامع (2/ 389).
(4) انظر " مسألة تصويب المجتهد " أقوال العلماء وأدلتهم بتوسع " المسودة " (ص 497، 501) تيسير التحرير (4/ 202) التبصرة (ص 496) وما بعدها.(1/220)
حقه. واختلف أيضًا أهل القول الأول أعني القائلين [39] بوحدة الحق، فقال أكثرهم: إنه مخطئ معذور، وقال الأقلون: إنه مخطئ آثم، وحجج هذه الأقوال عقليها ونقليها مدونة في مطولات الأصول.
والحق الذي لا شبهة فيه أن المصيب من المجتهدين من وافق مراد الله عز وجل في ذلك الأمر المختلف فيه، وأن من خالفه فهو مخطئ، كما قاله الجمهور والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة كثيرة جدا، فمنها قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} فلو كان كل واحد منهما أعنى سليمان وداود مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان معنى.
ومنها الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان (1) وغيرهما عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" وأخرجه أيضًا الشيخان (2) وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا.
وفي الباب عن عقبة بن عامر كما أشار إليه الترمذي (3) وهو بلفظ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له في قضاء أمره به:" اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة"، وأخرجه أحمد في المسند، ورواه الحاكم في مستدركه بلفظ:" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور" (4) ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد. فانظر ما اشتملت عليه هذه الأحاديث الصحيحة من الحجة النيرة الدافعة لقول من قال: إن كل مجتهد مصيب دفعا لا يبقى بعده ريب لمرتاب، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى من خالف الحق مخطئا فقال: " وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " وهؤلاء القائلون بأن كل مجتهد مصيب قالوا: إنه لا يكون المجتهد مخطئا، بل هو مصيب في كل ما يقتضيه اجتهاده.
ولما كانت هذه المقالة ظاهرة البطلان خالية عن البرهان قال بعض أهل العلم في تأويلها: إن لفظ مصيب قد يراد به الإصابة للشيء، وقد يراد به كون القول صوابا في نفسه أي لثبوت [40] الأجر لفاعله، وإن كان مخطئا في الواقع، فالمصيب من الإصابة
_________
(1) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211).
(2) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211).
(3) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211).
(4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (1) (ص 138) وفي الرسالة رقم (2) (210 - 211).(1/221)
ينافي الخطأ على كل حال، والمصيب من الصواب لا ينافي الخطأ الذي ثبت عليه الأجر كخطأ المجتهد.
ولا يخفاك أن هذا الكلام وإن كان صحيحا في نفسه لكن لا يصلح لتأويل قول من قال بأن كل مجتهد مصيب، فإن كلامهم لا يحتمل هذا التأويل لتصريحهم بأنه مصيب للحق. ولا ريب أن هذا هو معنى الإصابة لا سيما عند من قال منهم: إن حكم الله تابع لنظر المجتهد، ولقد أحسن من قال إنهم شابهوا هذه المقالة الفرقة التي يقال لها العندية من فرق السوفسطائية (1) فإنهم ثلاث فرق: عندية وعنادية واللادرية وأقوالهم خارجة عن القوانين العقلية؛ لأن القائل يقول لأحدهم: أنت موجود فيقول: لا، فيقول له: فما هذا الشبح الذي أراه، والكلام الذي أسمعه، والحس الذي أدركه؟ فيقول: وجودي ثابت عندك لا عندي، وهذه هي الفرقة العندية. وأما الفرقة العنادية فيقول له القائل: أنت موجود ويستدل على ذلك بنحو ما تقدم فيكابر ويصمم على أنه لا وجود له، وإنما ذلك خيال عرض للمدعي للوجود، فلما كان هذا عنادا قيل لهذه الفرقه: عنادية. وأما الفرقة الثالثة أعني التي يقال لها اللادرية، فإنه يقال له: أنت موجود فيقول: لا أدري، فيقال له: فما هذا الشبح المرئي والصوت المسموع، فيقول: لا أدري، ولقد أحسن من قال من علماء المعقول إن هؤلاء لا يناظرون إلا بالضرب المؤلم، فإذا استغاثوا قيل لهم: ألم تقولوا إنه لا وجود لكم؟ وهذا وإن كان فيه خروجا [41] عما نحن بصدده ففيه أيضًا فائدة اقتضاها ذكر ما قاله ذلك القائل.
_________
(1) السوفسطائية: طائفة من اليونانيين ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، تقوم فلسفتهم على إنكار حقائق الأشياء، ويزعمون أنه ليس هاهنا ماهيات مختلفة وحقائق متمايزة فضلا عن، اتصافها بالوجود، بل كلها أوهام لا أصل لها. وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف، اشتهر منهم بروتاغوراس، وغورغياس.
انظر: قصة الحضارة. ول ديورانت (7/ 212).
تاريخ الفلسفة اليونانية- يوسف كرم- 57(1/222)
ولا ريب أن كل واحد من المصوبة يدعي لنفسه أنه مصيب ويعترف لخصمه بأنه مصيب، فكان هذا شبيها مما تقوله العندية.
ويا عجبا لقوم جعلوا مراد الله عز وجل أحدا دائرا بين المرادات وتابعا لنظر المجتهدين، والتزموا إنصاف العين الواحدة بأنها حلال بتحليل هذا المجتهد لها، وحرام بتحريم هذا المجتهد لها، وأن الله سبحانه شرع لعباده فيها أنها حلال وأنها حرام، وقد يتوقف الحكم من الله عز وجل بالحل أو الحرمة على وجود مجتهد يوجد في آخر الأزمنة، وقد يرتفع ما شرعه الله من الحل أو الحرمة بموت المجتهد وعدم المتابع له.
وبالجملة فهذا تلاعب لا مزيد عليه وهذيان لا يجوز نسبة مثله إلى أعجز العباد فكيف ينسب إلى أحكم الحاكمين، وليس لهم على هذه المقالة الساقطة أثارة من علم ولا ألجأهم إليها دليل عقل ولا نقل، بل مجرد خيالات مختلة ودعاوى (مضلة).
والحاصل أن الأدلة الدالة على هدم هذه المقالة كثيرة جدا وهي محتملة لإفرادها بالتصنيف، وقد كان قرن الصحابة الذي هو خير القرون يصرحون بتخطئة بعضهم بعضا في غير مسألة، ويخشى بعضهم على بعض إذا رآه قد أخطأ في اجتهاده، والواقعات في هذا كثيرة جدا قد اشتملت عليها كتب الأحاديث والسير فارجع إليها، فإن ذلك يغنيك عن التطويل هنا [42].
وأما ما ذكره السائل من قوله: فمن أين لنا العلم بالمصيب وما علامته.
فأقول: إن كان هذا الذي يريد أن يعرف المصيب مجتهدا فلم يتعبده الله بذلك بل تعبده بأن يعرف الصواب، ومعرفة الصواب تحصل له بأن ينظر في أدلة الكتاب والسنة نظرا يحصل له عنده الظن القوي بأنه قد أحاط بما يتعلق بما ينظر فيه من المسائل من الأدلة الدالة عليها، فإذا فعل ذلك جمع بين ما كان ظاهره التخالف منها جمعا مقبولا، فإن تعذر الجمع رجع إلى الترجيح، وقدم الراجح على المرجوح وعمل به.
وطرق الجمع (1)
_________
(1) انظر: تيسير التحرير (3/ 161) مجموع فتاوى (9 1/ 201 - 267) (22/ 368) المستصفى (2/ 392).(1/223)
والترجيح معروفة مدونة لا تلتبس على من ترشح للاجتهاد والنظر في المسائل.
وبهذا يعرف الصواب، ومعرفته تستلزم معرفة المصيب ولكن هذا إنما هو في ظن ذلك المجتهد ولم يتعبده الله بزيادة على هذا.
فإن انكشف أن ذلك الذي ظنه صوابا هو الصواب في الواقع فقد ظفر هذا المجتهد بالأجرين المذكورين في الحديث، وإن انكشف أنه خلاف الصواب في الواقع فقد ظفر بأجر. وأما إذا كان الذي أراد أن يعرف المصيب أو الصواب مقلدا فقد كلف نفسه ما لا تبلغ إليه قدرته وتقصر عن إدراكه ملكته، ومن أين لمن يقر على نفسه بأنه لا يتعقل الحجج بأنه يعرف صوابا أو إصابة، ولكن ينبغي أن يعلم هذا المقلد بأن بين جنبيه نفسا شريفة وهمة عالية تنازعه إلى مكان لا يرتقي إليه إلا من قطع عن عنقه أطواق التقليد، وأقبل على علوم الاجتهاد بساعد شديد وناب حديد، فليقبل على العلوم بكليته، ويستفرغ فيها وسعه، فإن بلغ إلى المنزل ظفر بالمنية وفاز بالأمل، وإن بات [43] دونه فقد أعذر وأورد في المعالي وأصدر.
البحث الثاني من مباحث السؤال الثالث:
قوله- عافاه الله- وإذا ثبت عذر المخطئ فهل يعذر مقلده أم لا؟
والجواب: أنه لم يرد الدليل إلا في خطأ المجتهد، ولم يأت في تسويغ التقليد حرف واحد من كتاب ولا سنة، وما يزعمه من سوغ التقليد من أنه دليل على ما زعمه فهو خارج عن ذلك كما يعرفه من يعرف الدليل، وكيف يستدل به. بل قد ثبت عن الأئمة الأربعة رحمهم الله النهي عن تقليدهم، وقد أوضحت هذا في مؤلف مستقل سميته " القول المفيد في حكم التقليد " (1) ولم أدع شيئا مما قاله الناس في هذه المسألة إلا ذكرته، وتعقبت ما يستحق التعقيب، وبسط الكلام في ذلك لا يتسع له المقام ولكنه قد يشتغل ذهن المطلع على هذا الجواب بسؤال وهو: (أن قول يقول) (2) ليس في وسع كل أحد من
_________
(1) (ص 117 وما بعدها) بتحقيقنا ط 1.
(2) هكذا في المخطوط، ولعله صوابه: (وهو قول من يقول).(1/224)
العباد أن يحيط بعلوم الاجتهاد لاختلاف الأفهام وتباين القرائح، والاشتغال بالكسب على النفس والأهل وتقويم أمر المعاش، ففي المنع من التقليد حرج.
فأقول: لا حرج إن شاء الله بل على المقصر أن يسأل الكامل عن النص الوارد فيها يعرض له من كتاب أو سنة ويسترويه ما في تلك الحادثة فيعمل به في عباداته ومعاملاته كما كان يصنعه المقصرون من الصحابة فمن بعدهم قبل ظهور هذه المذاهب، ومن لا يسعه ما وسع خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فلا وسع الله عليه، فإنه لم يضيق عنهم شيء من الحق قط، وهم المعيار الذي لا يزيغ، والقدوة التي لا يخسر من ائتم بها ومشى خلفها فاعرف هذا [44].
البحث الثالث من مباحث السؤال الثالث:
قوله عافاه الله: وهل حصل بين الصحابة خلاف متناقض في غير الاجتهادات .. إلخ.
أقول: الذي لا مسرح للاجتهاد فيه هو الشاذ النادر كتقرير الحدود وعدد الركعات ونحو ذلك مما مرجعه الرواية، فإن كان السائل يريد أنه هل وقع الخلاف بين الصحابة في نفس الأشياء المروية فنعم، قد اختلفوا في آيات من كتاب الله إثباتا ونفيا واختلفوا في كثير من السنة، وأنكر بعضهم على بعض شيئا مما يرويه ورجعوا لعد الاختلاف إلى الحق، كما في إنكار عمر (1) رضي الله عنه على فاطمة بنت قيس (2) ما روته في العدة
_________
(1) أخرج مسلم رقم (46/ 1480) عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به. فقال: ويلك! تحدث. بمثل هذا، قال عمر: لا ندع كتاب الله وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة، وتلا الآية: قال الله عز وجل: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الطلاق: 1].
(2) أخرج مسلم رقم (44/ 1480) عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المطلقة ثلاثا- " ليس لها سكنى ولا نفقة.
وانظر ما قاله محمد بن إسماعيل الأمير في" سبل السلام" بتحقيقي (6/ 283 - 285) وخلاصته:
"أن الحق ما أفاده الحديث" وقد أطال ابن القيم الجوزية في زاد المعاد (5/ 675) ناصرا للعمل بحديث فاطمة بنت قيس.(1/225)
وإنكاره (1) على أبي موسى ما رواه في الاستئذان، وإنكاره على عمار ما رواه في التيمم (2). والوقائع في هذا كثيرة جدا لا حاجة لنا في الاستكثار منها، وإن كان يريد أنهم هل اختلفوا في شيء من مسائل الصفات فقد كان دأبهم وديدنهم وهجيراهم رضي الله عنهم أن لا يتعرضوا لشيء من التكلف والتأويل، بل يمرونها كما جاءت ويؤمنون بها كما وردت. وأما إنكار بعضهم على بعض إذا خالف الرواية بالرأي فهو كثير جدا قد تضمنته كتب السير والتواريخ، وهكذا إنكارهم على من أخطأ في رأيه ولم يصب في استنباطه فذلك كثير جدا. وأما ما سأل عنه عافاه الله بقوله وهل رجع أحدهم إذا علم الدليل. فجوابه أنهم قد رجعوا كثيرا عن الرأي عند العلم بالدليل ووقع هذا الكثير منهم [45] والوقائع مبسوطة في كتب الرواية، بل لم يخل عن مثل هذا غالب أكابرهم ولا سيما الخلفاء
_________
(1) أخرج البخاري رقم (6245) ومسلم رقم (2153) عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار: فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه. فأتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت. فقال ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك فسلمت على بابك ثلاثا فلم يردوا علي فرجعت، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له، فليرجع" فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال: أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال القوم. قال أبو سعيد: أنا أصغر القوم قال: فاذهب به.
(2) أخرج البخاري رقم (338) ومسلم رقم (112/ 368):
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء. فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر، يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا، فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" فقال عمر: اتق الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به.(1/226)
الراشدين والمقصورين للإفتاء منهم، وقد رجع (1) لما سمع الحجة الشرعية من امرأة، وقال: كل الناس أعلم من عمر حتى المخدرات.
وأما قول السائل عافاه الله: وإذا رجع هل يكون مقلدا ... إلخ.
فأقول: قد صانهم الله عن هذه البدعة ورفع شأنهم عن الوقوع في هذه النقيصة، فلم يسمعوا بها ولا تلوثوا بشيء منها، بل كان من رجع منهم عن رأي رآه إلى رواية سمعها عمل بها مقتديا بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عرفت مما ذكرناه سابقا أن التقليد إنما هو الأخذ بالرأي لا بالرواية.
البحث الرابع من مباحث السؤال الثالث:
قوله: هل يجوز العمل بالخطوط مطلقا أم لا؟
والجواب: أنه قد أمر الله سبحانه بالكتابة فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل}، فلو كان الخط غير معمول به لم يكن للأمر بالكتابة معنى، وقد ثبت في الصحيح (2) أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتبوا لأبي شاة " وذلك لما طلب أن يكتبوا له خطبة الوداع، فأمرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن
_________
(1) قال المحدث الألباني في " الإرواء " (6/ 347 - 348): (تنبيه): أما ما شاع على الألسنة من اعتراض المرأة على عمر وقولها: " نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) [النساء: 20]، فقال عمر رضي الله عنه: كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثا، ثم رجع إلى المنبر، قال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له.
فهو ضعيف منكر يرويه مجالد عن الشعبي عن عمر. أخرجه البيهقي (7/ 233) وقال: هذا منقطع. قلت: ومع انقطاعه ضعيف من أجل مجالد وهو ابن سعيد ليس بالقرب، ثم هو منكر المتن، فإن الآية لا تنافي توجيه عمر إلى ترك المغالاة في مهور النساء ... " ا هـ.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2434) ومسلم في صحيحه رقم (447/ 1355). من حديث أبي هريرة.(1/227)
يكتبوا له.
وثبت في الصحيح (1) أيضًا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعبد الله بن عمرو: "اكتب " لما استأذنه في كتابة الحديث، بل قد نهى القرآن عن يأبى الكاتب أن يكتب فقال: {ولا يأب كاتب ... } الآية (2). وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث بكتبه إلى الملوك (3) في الأقطار النائية ثم يرتب على ذلك غزوهم وسفك دمائهم وسلب أموالهم وسبي ذراريهم، وهذا دليل على أن الحجة قد لزمتهم ببلوغ تلك الكتب، فلو كان الخط غير معمول به لم يرتب على الكتابة مثل هذه الأمور العظيمة، ومع هذا فإنهم لا يعرفون [46] خطوط تلك الكتب ولا يفهمون ما فيها إلا بعد أن تترجم لهم. ومن ذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتب المصالحة بينه وبين قريش (4) يوم الحديبية، ومنها ما كان يأمر بكتبه من كتب الأمانات وكتب الإقطاعات وكتب عقد الذمة وكتب المصالحة لسائر من صالحهم من القبائل، ومنها كتاب عمرو بن حزم (5) الذي كتبه إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ به الصحابة واعتمدوا عليه، وقد روي مسندا ومرسلا، فمن رواه مسندا أحمد والنسائي وأبو داود في كتاب المراسيل، وعبد الله بن عبد
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 162، 192) وأبو داود رقم (3646) والدارمي (1/ 125) والحاكم (1/ 05 1 - 106) وقال عقبه: " رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه (الوليد بن أبي الوليد الشامي) فإنه (الوليد بن عبد الله) وقد غلبت على أبيه الكنية. فإن كان كذلك فقد احتج به مسلم " ووافقه الذهبي.
وعقب الألباني في " الصحيحة " (4/ 46) على كلام الحاكم قائلا: " كذا قال، وإنما هو الوليد
بن عبد الله بن أبي مغيث مولى بني الدار حجازي وهو ثقة، كما قال ابن معين وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (1196).
(2) [البقرة: 282].
(3) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4424) باب رقم (82/ 83) كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كسرى وقيصر.
(4) انظر السيرة النبوية (3/ 440).
(5) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص 139).(1/228)
الرحمن الدارمي وأبو يعلى الموصلي ويعقوب بن سفيان في مسانيدهم، ورواه الحسن بن سفيان النسوي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعبد الله بن عبد العزيز البغوي، وأبو زرعة الدمشقي، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وحامد بن محمد بن سعيد البلخي، والحافظ الطبراني، وأبو حاتم بن حبان في صحيحه وجماعة.
وأما المرسل فرواه النسائي، وأبو داود، والشافعي، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، ولو لم يكن الخط معمولا به لم يأخذ الصحابة كثيرا من الأحكام الشرعية من هذا الكتاب، وكذلك أخذ به من بعدهم وصار ما فيه من التكاليف العامة لجميع الأمة. ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (1) من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " وقد اتفق عليه الشيخان (2) من حديث ابن عمر، فلولا أن الخط معمول به لم يكن للأمر بكتابة الوصية معنى، ومن ذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتابة القرآن.
ومن ذلك ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر بكتاب يكتب وختمه (3)، وأمر سرية تذهب إلى حيث عينه لهم وأنهم لا يقرءون الكتاب إلا في ذلك الموضع وأنهم يعملون بما فيه، ومنها [47] قول (4) على رضي الله عنه وقد سئل هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء فقال: " لا، إلا ما في هذه الصحيفة " وفيها أحكام شرعية.
ومن ذلك عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما جاء من عماله من الكتب، ومنه إجماع الصحابة على العمل
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2738) ومسلم رقم (1627) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) انظر التعليقة السابقة.
(3) أخرج البخاري رقم (65) ومسلم في صحيحه رقم (2092) من حديث أنس بن مالك قال: كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت لقتادة: من قال: نقشه محمد رسول الله؟ قال: أنس.
(4) تم تخريجه في رسالة " هل خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل البيت بشيء من العلم " رقم (21).(1/229)
بالخط كما رواه أبو الحسين البصري في المعتمد وكذلك رواه الدارمي والحافظان يعقوب بن سفيان وإسماعيل بن كثير، ورواه الإمام المنصور عبد الله بن حمزة، كما نقله عنهم العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في تنقيح الأنظار (1) واستدل على ذلك الرازي في المحصول بإجماع الصحابة وبالعقل فقال: " وأما المعقول فلأن الظن هاهنا حاصل والعمل بالظن واجب" انتهى.
ومن ذلك الإجماع الفعلي في جميع الأعصار والأمصار في اعتبارهم بالخطوط الكائنة بين الناس في معاملاتهم وخطوط الأمراء والقضاة، ومن ذلك عمل السلف والخلف بالوجادة التي صرح العلماء بقبولها، وقد صرح ابن رسلان في " شرح سنن أبي داود " أن القاضي عياضا حكى ذلك عن أكثر الصحابة والتابعين، قال: ثم أجمع عليها المسلمون وزال الخلاف. ثم قال: وقد اختلف الناس في الجواب على حديث أبي سعيد أعني الذي رواه مسلم (2) من حديثه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لا تكتبوا شيئا إلا القرآن" فقيل: إن النهي منسوخ بأحاديث الإذن. وكان النهي في أول الأمر لخوف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن فيه، وجع بعضهم بأن النهي في حق من وثق بحفظه، والإذن في حق من لم يثق كأبي شاة، وحمل بعضهم النهي على كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معه فنهوا عن ذلك لئلا يختلط به فيشتبه على القارئ" (3) انتهى.
وعلى كل حال فهذا النهي ورد في كتابة الحديث في ابتداء الأمر، ولم يرد في كل كتابة، وسؤال السائل هو عن العمل بالخط مطلقا. ومن ذلك ما أخرجه أبو داود أنه دخل زيد
_________
(1) (ص246) بتحقيقي
(2) في صحيحه رقم (72/ 3004) من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:"لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي- قال همام: أحسبه قال: متعمدا- فليتبوأ مقعده من النار".
(3) كلام محمد بن إبراهيم الوزير في كتاب " تنقيح الأنظار " (ص 248) بتحقيقي.(1/230)
ابن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنسانا بكتبه فقال له زيد بن ثابت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه، وهذه المسألة محتملة للتطويل وقد أفردتها بمصنف مستقل (1)، وفي هذا المقدار كفاية [48].
البحث الخامس من مباحث السؤال الثالث:
قوله: فيما ورد في الحديث:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... إلخ (2).
والجواب: أن أهل العلم قد أطالوا الكلام في هذا وأخذوا في تأويله بوجوه أكثرها متعسفة، والذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه هو العمل بما يدل عليه هذا التركيب بحسب ما يقتضيه لغة العرب فالسنة هي الطريقة، فكأنه قال: الزموا طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم أشد الناس حرصا عليها وعملا بها في كل شيء وعلى كل حال. وكانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها، وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر. وهذا الرأي عند عدم الدليل هو أيضًا من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بم تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله، أو كما قال " (3).
وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف، فالحق أنه من قسم الحسن لغيره وهو معمول به، وقد أوضحت هذا في بحث مستقل، فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله وسنة الخلفاء الراشدين ثمرة. قلت: ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدرك زمن الخلفاء الراشدين أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه
_________
(1) رسالة بعنوان " بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية " وهي ضمن "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".
(2) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) (ص140).
(3) سيأتي تخريج هذا الحديث في الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، وهو حديث منكر.(1/231)
حدث أمر لم يحدث في زمنه ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك ويختلج فيها من الظنون، وأقل فوائد الحديث أن ما يصدر عنهم من الرأي، وإن كان من سنته كما تقدم، ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل.
وبالجملة فكثيرا ما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينسب الفعل أو الترك إليه وإلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه؛ لأنه محل القدوة ومكان الأسوة، فهذا ما ظهر لي في تفسير هذا الحديث، ولم أقف في تحريره على ما يوافقه من كلام أهل العلم، فإن كان صوابا [49] فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم.
البحث السادس من مباحث السؤال الثالث:
قوله: فكيف إذا تعارضت عند الناظر كحديث كان الطلاق (1) على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... إلخ.
والجواب: أن هذه المسألة طويلة الذيول، كثيرة النقول، واسعة الأطراف، رحبة الأكناف، وقد أفردها جماعة بالتصنيف آخرهم رقم هذه الأحرف غفر الله له ولا بد من الإشارة إلى ما هو الحق بأخصر عبارة، فاعلم أنه قد احتج القائلون بأن الطلاق الثلاث يكون ثلاثا دفعة واحدة، وهم جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة، وطائفة من أهل البيت لقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (2) وظاهرها جواز إرسال الثلاث أو الاثنتين دفعة أو مفرقة، ويجاب عنه بأنه لا دليل في الآية على ما زعموه من وقوع الثلاث دفعة، فلم يكن في الآية إلا المرتان. وأما التسريح فهو إما يكون بعد إيقاع الطلقتين وهو أمر غير الطلقتين، وقد قيل: إن الآية حجة عليهم لا لهم، وإنما تدل على المنع من إيقاع الثلاث دفعة، وهو أظهر وأوضح وعندي أن
_________
(1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).
(2) [البقرة: 230].(1/232)
هذه الآية مطلقة مقيدة بالسنة الصحيحة الصريحة لما في الآية من اجتماع الجمع للطلقتين والتفريق لهما، وأما الثالثة فلا ذكر لها باعتبار ما يزعمونه من انضمامها إلى الاثنتين لا باعتبار صحة إرسالها منفردة ووقوع التسريح بها، فقد استدلوا بأدلة قرآنية، وهي أبعد من هذه الآية التي ذكروها بمراحل فيما قصدوه كقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) وقوله: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (2) ونحو ذلك. وغاية ما في هذه الآيات الإطلاق، ولا تقوم به حجة بعد تقييده بما سيأتي، واستدلوا بأحاديث أقربها إلى الدلالة على ما قصدوه حديث الذي طلق امرأته ألف تطليقة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بانت منك بثلاث على غير السنة" (3) وعارضه بأن في إسناده يحيى بن العلاء (4) وهو ضعيف وعبيد الله بن الوليد (5) وهو هالك، وإبراهيم بن
_________
(1) البقرة: 230
(2) البقرة: 227
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11339) والدارقطني (4/ 20 رقم 53) وقال الدارقطني: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي.
وقال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (5/ 240): " خبر في غاية السقوط؛ لأن في طريقه يحيى بن العلاء، عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف، عن هالك، عن مجهول، ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه أنه لم يعرف في شيء من الآثار صحيحها ولا سقيمها ولا متصلها ولا منقطعها، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام فكيف بجده، فهذا محال بلا شك، وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا.
(4) يحيى بن العلاء البجلي أبو سلمة، ويقال أبو عمرو الرازي.
قال أحمد بن حنبل: كذاب يضع الحديث، وقال أبو زرعة: في حديثه ضعف، وقال أبو حاتم: عن ابن معين: ليس بشيء.
انظر: تهذيب التهذيب (4/ 380).
(5) عبيد الله بن الوليد الوصافي، أبو إسماعيل الكوفي، قال البخاري: هو من ولد الوصاف بن عامر العجلى.(1/233)
عبيد الله وهو مجهول فأي حجة في رواية ضعيف عن هالك عن مجهول؟.
واستدلوا بما وقع في حديث ركانة (1) أنه طلق امرأته البتة فقال: ما أردت إلا واحدة فاستحلفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردها إليه. رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. ويجاب عنه بأن عامة ما فيه أنه يقبل قول الزوج في تفسير ألبتة مع يمينه وعلى كل حال فالحديث في إسناده اضطراب كما قال البخاري (2) وفيه أيضًا الزبير بن سعيد الهاشمي (3) وقد ضعفه غير واحد، وقيل: إنه متروك. وقد روى أحدهم أنه طلقها ثلاثا فجزي عليها، وروى ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله إني طلقتها ثلاثا فقال: قد علمت (4) أرجعها ثم تلا: {إذا طلقتم النساء ... الآية} (5) أخرجه أبو داود [50] وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس فكيف تقوم الحجة بمحتمل مضطرب متناقض في إسناده متروك؟ وهذا غاية ما جاءوا به من الأدلة التي تحتاج إلى دفع وبيان، وأما سائر ما استدلوا به فبطلان دلالته على المطلوب غنية عن البيان غير محتاجة إلى إيضاح.
واعلم أنه قد ذهب إلى القول بأن الثلاث الواقعة دفعة واحدة فقط ولا يقع منها فوق الواحدة جماعة من الصحابة منهم علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير كما
_________
(1) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) وهو حديث ضعيف.
(2) انظر: فتح الباري (9/ 362 - 367).
(3) هو الزبير بن سعيد بن سليمان بن سعيد بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي، أبو القاسم، ويقال: أبو هاشم، المديني: نزل المدائن.
قال ابن المديني: ضعيف. وقال العجلي: روى حديثا منكرا في الطلاق.
انظر: تهذيب التهذيب (1/ 624).
(4) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1) وهو حديث حسن.
(5) [الطلاق: 1].(1/234)
حكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق (1)، وحكاه في البحر (2) عن أبي موسى وابن عباس، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار وحكاه عنهم أيضًا صاحب البحر (3) ونقله ابن مغيث عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام وغيرهما، ونقله في البحر (4) عن القاسم بن إبراهيم، والهادي يحيى بن القاسم، والباقر والناصر، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب ابن تيمية (5) وابن القيم (6) وجماعة من المحققين. واستدل هؤلاء بأدلة منها ما ثبت في صحيح مسلم (7) ومسند أحمد وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم" (8) فقد اعترف عمر رضي الله عنه هاهنا أن السنة الثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الثلاث واحدة، واعترف أنه لم يرجع فيما وقع منه من الإمضاء إلى شيء غير مجرد ما استحسنه وقوي في رأيه من إمضاء ذلك عليهم، وكل من له علم يعترف بأنه لا حجة في (قول) (9) أحد لا سيما إذا خالف المروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الحق الذي لا تفريط به ولا خلاف فيه. وقد أجاب القائلون بوقوع الثلاث (10) عن حديث ابن عباس هذا بأجوبة متكلفة متعسفة قد أوضحت بطلانها في ذلك المؤلف الذي أشرت إليه وسقت فيه من
_________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 363).
(2) (3/ 174 - 175).
(3) (3/ 174 - 175).
(4) (3/ 174 - 175).
(5) انظر: مجموع فتاوى (33/ 82 - 90).
(6) في زاد المعاد (5/ 234).
(7) تقدم تخريجه في الرسالة السابقة رقم (1). وهو حديث صحيح.
(8) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).
(9) زيادة اقتضاها التركيب
(10) تقدم ذكر ذلك في الرسالة السابقة رقم (1).(1/235)
الأدلة الدالة على ما ذهب إليه القائلون بأن الثلاث واحدة ما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة عليه، وقد ذهب قوم إلى أنه لا يقع من الثلاث المرسلة دفعة شيء، لا واحدة ولا أكبر منها وتمسكوا بما ورد من المنع من وقوع الطلاق المخالف للسنة، كما في حديث ابن عمر الثابت في الصحيح (1) الحاكي لطلاقه لزوجته، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنكر عليه ذلك، وثبت في بعض الروايات أنه لم يرها شيئا. ومن القائلين هذا بعض التابعين وبعض أهل الظاهر وبعض الإمامية وابن علية وهشام بن الحكم وأبو عبيدة. وهذا (2) أيضًا عن عدم وقوع الطلاق البدعي بحث طالت فيه الأقوال واضطربت فيه آراء الرجال، وقد أفرده جماعة بالتصنيف، ومن آخر من أفرده بالتصنيف أيضًا راقم الأحرف غفر الله له (3).
وإلى هنا انتهى جواب السائل كثر الله فوائده في شهر شوال سنة 1222هـ بقلم المجيب محمد الشوكاني غفر الله له.
_________
(1) تقدم في الرسالة السابقة رقم (1).
(2) لعل الأصل وهناك
(3) بعنوان: "بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟ وقد حصلت على جزء من المخطوط من " الهند " ولم أجدها كاملة.(1/236)
التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف (1)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن
_________
(1) عنوان الرسالة في (ب): (التحف في مذاهب السلف).(1/237)
وصف المخطوط (أ)
1 - عنوان الرسالة: " التحف في الإرشاد إلى مذهب السلف ".
2 - موضوع الرسالة: في توحيد الله سبحانه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام.
وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام وهذا لفظه: ......
4 - آخر الرسالة: وفي هذه الجملة -وإن كانت قليلة- ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه من تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه الله، ..
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الأوراق: (7) ورقات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 - 27 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 10 - 12 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
10 - تاريخ النسخ: 1228 هـ.(1/239)
وصف المخطوط (ب)
1 - عنوان الرسالة: " التحف في مذاهب السلف ".
2 - موضوع الرسالة: في توحيد الله سبحانه.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام.
وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام وهذا لفظه ...
4 - آخر الرسالة: وفي هذه الجملة، وإن كانت قليلة -ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه عن تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه والله أعلم ...
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الأوراق: (5) ورقات.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 13 كلمة.
9 - تاريخ النسخ: 18 شهر ربيع الأول سنة 1275هـ.(1/242)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنام، وآله الكرام، ورضي الله عن صحبه الأعلام.
وبعد: فإنه وصل سؤال من بعض الأعلام الساكنين ببلد الله الحرام، وهذا لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، ما يقول فقهاء الدين، وعلماء المحدثين، وجماعة الموحدين، في آيات الصفات وأخبارها اللاتي نطق بها الكتاب العظيم، وأفصحت عنها سنة الهادي إلى صراط مستقيم؟
هل إقرارها، وإمرارها (1)، وإجراؤها على الظاهر بغير تكييف (2)، ولا تمثيل (3)، ولا تأويل (4)، ولا تعطيل (5) عقيدة الموحدين وتصديق بالكتاب المبين، واتباع بالسلف الصالحين؟ أو هذا مذهب المجسمين؟
وما حكم من أول الصفات، ونفى ما وصف الله به نفسه، ووصفه به بنيه، وتأيد
_________
(1) قال الحافظ ابن عبد البر كما في المختصر العلو (ص 39): " أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك ".
وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد: عن الأحاديث التي في الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاء بلا تفسير. رفي رواية: بلا كيف.
انظر: الفتوى الحموية (ص 109)، مختصر العلو للذهبي (ص 38) للألباني.
(2) التكيف: تحديد وتعين كنه الصفة وحقيقتها، بمعنى أن يجعل لها كيفية معلومة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل المعنى معلوم من لغة العرب. وهذا هو مذهب السلف، كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول. . .
(3) التمثيل: هو تشبيه الله بخلقه في الصفات الذاتية أو الفعلية.
(4) التأويل: هو صرف الصفة عن معناها الحقيقي إلى معنى مجازي.
(5) التعطل: نفى الصفات الإلهية عن الله، وإنكار قيامها بذاته، أو إنكار بعضها.
وانظر: " الكواشف الجلية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن سلمان (ص52)، القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص 64 - 68).(1/245)
بالنصوص، واتفق عليه الخصوص، من أن الله- سبحانه- في (1) سمائه، مستو على عرشه، بائن (2) من خلقه، وعلمه في كل مكان؟ والدليل: آيات الاستواء (3) والصعود (4) والرفع (5).
_________
(1) (في): بمعنى (على). كما قال تعالى حكاية عن فرعون: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) [طه: 71] أي: على جذوع النخل.
(2) أي: منفصل من خلقه. انظر: " الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة " ص 55 - 57.
(3) (منها): 1)
قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. . .) [الأعراف: 54]. 2)
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس: 3].
3 - ) (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .. ) [الرعد: 2].
4 - ) (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5].
5 - ) (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .. ) [الفرقان: 59].
6 - ) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد: 4].
(4) ومن آيات الصعود:
1 - ) قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)، [فاطر: 10].
2 - ) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) [السجدة: 5].
3 - ) (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران: 55].
(5) من آيات الرفع:
1 - ) قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران: 55].
2 - ) (بل رفعه الله إليه) [النساء: 158].(1/246)
وقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} (1).
ومن السنة: حديث الجارية (2)، والنزول (3) وعمران بن حصين (4) وقوله
_________
(1) [الملك: 16].
قال ابن الجوزي في " زاد المسير " (8/ 322): وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (أأمنتم) بهمزتين (من في السماء) قال ابن عباس: أمنتم عذاب من في السماء وهو الله عز وجل؟؟ اهـ.
(2) يشير إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذي قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بين آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: " ائتني بها " فأتيته بها. فقال لها: " أين الله " قالت: في السماء. قال: " من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال:" أعتقها، فإنها مؤمنة ".
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (33/ 537). وأحمد (5/ 447 - 448 - 449) والطيالسي في المسند (ص150 رقم 1105).
واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " (3/ 391 - 392 رقم 652) وابن أبي عاصم في " كتاب السنة " (1/ 215 رقم 489) والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص421 - 422. وابن خزيمة في كتاب التوحيد ص121 - 122.
(3) يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1145) ومسلم رقم (168/ 758)، وأبو داود رقم (4733) والترمذي رقم (446) وابن ماجه رقم (1366) وأحمد (2/ 264). وابن خزيمة في " كتاب التوحيد " ص 130. وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (492 و493) واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (742 - 745). والطيالسي في المسند (ص 328 رقم 2516) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 2).
(4) يشير إلى الحديث أخرجه الترمذي (5/ 519 رقم 3483).
عن عمران بن حصين قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي: " يا حصين كم تعبد اليوم إلها؟ " قال أبي: سبعة، ستا في الأرض، وواحد في السماء. قال: " فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء. قال: " يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك " قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: " قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي ".
قال الترمذي: هذا حديث غريب وقد روي هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. وأورده الذهبي في " العلو للعلي الغفار " ص 24 وقال شبيب: ضعيف. وقال الألباني: حديث ضعيف.(1/247)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء! " (1).
وغير ذلك من الآيات المتواترة، والأحاديث المتكاثرة (2).
وأول الآيات، وجعل الاستواء استيلاء (3)
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4351) ومسلم في صحيحه رقم (1064) وأحمد (3/ 4) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) كذا في المخطوط وصوابه الآيات المتكاثرة، والأحاديث المتواترة.
(3) قال ابن تيمية في " الأسماء والصفات " (2/ 111) أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى، إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:
ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه. وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاحتاج إلى صحته. فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده؟! وقد طعن فيه أئمة اللغة.
وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه " الإفصاح " قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها.
2 - أنه روي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزا ثم ظهر، والله تعالى لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى استولى.
وقالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلا فيما كان منازعا مغالبا، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل استولى. والله لم ينازعه أحد في العرش.
3 - إن معنى هذه الكلمة مشهور، ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك عن قوله: (الرحمن على العرش استوى) قالا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا يريد أن: الاستواء معلوم في اللغة دون الآية؛ لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس.
4 - إن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين فإنه لم يفسره أحد من الكتب الصحيحة عنهم. بل أول من قال ذلك: بعض الجهمية والمعتزلة.
5 - الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك، هو عام في المخلوقات كالربوبية والعرش، وإن كان أعظم المخلوقات، ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره، كما في قوله تعالى: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم)، [المؤمنون: 86]. وكما في دعاء الكرب.
فلو كان استوى بمعنى استولى - كما هو عام في الموجودات كلها- لجاز من إضافته إلى العرش أن يقال: استوى على السماء، وعلى الهواء، والبحار والأرض، وعليها ودونها ونحوها، إذ هو مستو على العرش.
فلما اتفق المسلمون على أنه يقال: استوى على العرش ولا يقال: استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال: استولى على العرش والأشياء، علم أن معنى استوى خاص بالعرش ليس عاما كعموم الأشياء.
وانظر" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " اللالكائي (3/ 399) و" العلو" للذهبي ص 133 والأسماء والصفات للبيهقي ص 405 - 415.(1/248)
وأول النزول بالرحمة (1)، وهكذا جعل التأويل علة مطردة في سائر نصوص الصفات
_________
(1) قال ابن تيمية في " شرح حديث النزول " (ص 144 - 148): وإن تأول ذلك بنزول رحمته أو غير ذلك. قيل له: الرحمة التي تثبتها: إما أن تكون عينا قائمة بنفسها، وإما أن تكون صفة قائمة في غيرها.
فإن كانت عينا وقد نزلت إلى السماء الدنيا: لم يمكن أن نقول: من يدعوني فأستجب له، كما لا يمكن الملك أن يقول ذلك.
وإن كانت صفة من الصفات: فهي لا تقوم بنفسها بل: لا بد لها من محل، ثم لا يمكن الصفة أن تقول هذا الكلام ولا محلها، ثم إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ولم تنزل إلينا فأي منفعة لنا في ذلك؟.
وإن قال: بل الرحمة ما ينزله على قلوب قوام الليل في تلك الساعة من حلاوة المناجاة والعبادة وطيب الدعاء والمعرفة، وما يحصل في القلوب من مزيد المعرفة بالله والإيمان به. وذكره تجلية لقلوب أوليائه، فإن هذا أمر معروف يعرفه قوام الليل.
قيل له: حصول هذا في القلوب حق، ولكن هذا ينزل إلى الأرض إلى قلوب عباده، لا يزل إلى السماء الدنيا، ولا يصعد بعد نزوله، وهذا الذي يوجد في القلوب يبقى بعد طلوع الفجر، لكن هذا النور والبركة والرحمة التي في القلوب هي من آثار ما وصف به نفسه من نزوله بذاته سبحانه وتعالى.
كما وصف نفسه بالنزول عشية عرفة، في عدة أحاديث صحيحة، وبعضها في " صحيح مسلم " رقم (1348) ورقم (3014) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه عز وجل ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء ".(1/249)
وغاص في ظلام العقل، بسبحه في الجهل والشبهات.
وإذا قيل له: أين الله؟ أجاب بأنه لا يقال: أين الله؟ الله لم يكن له مكان كما هو جواب فريقي المضلين.
فهل هذا جواب الجهميين (1) .... والمريسيين (2) أفيدونا بجواب رجاء الثواب {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (3).
_________
(1) الجهمية: نسبة إلى جهم بن صفوان الضال المبتدع، تلميذ الجعد بن درهم أول من صدر عنه القول بخلق القرآن.
وهو الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أيضًا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المحلوقين على المجاز. انظر: الفرق بين الفرق (ص211).
(2) المريسيون: نسبة إلى بشر المريسي، وهو رأس من رءوس القائلين بخلق القرآن.
وقال الذهبي في الميزان (1/ 322): عن بشر هذا: مبتدع ضال، لا ينبغي أن يروى عنه، ولا كرامة ... ولم يدرك الجهم بن صفوان، إنما أخذ مقالته، واحتج لها، ودعا إليها وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: كان والد بشر المريسي يهوديا قصابا صباغا في سويقة نصر بن مالك ... وقال قتيبة بن سعيد: بشر المريسي كافر. اهـ.
(3) [النحل: 111](1/250)
فإن هذا المقام طال فيه النزاع، وحارت فيه الأفهام، وزلت الأقدام، وكل يدعي الصواب بزخرف الجواب، فأبينوا المدعى بالدليل، وبينوا طريق الحق بالتفصيل والتطويل، ضاعف الله لكم الأجور، ووقاكم الشرور، آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
وأقول: اعلم أن [1أ] الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت فيه النحل.
وسبب هذا: عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه، حتى تفرقوا فرقا، وتشعبوا شعبا، وصاروا أحزابا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة، مختلفي المقاصد، متبايني المطالب.
فطائفة: وهي أخف هذه الطوائف المكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثما، وأقلها عقوبة وجرما- وهي التي أرادت الوصول إلى الحق، والوقوف على الصواب، لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كئود لا يرجع من سلكها سالما، فضلا أن يظفر فيها بمطلوب صحيح.
ومع هذا، أصلوا أصولا ظنوها حقا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبه واهية، وخيالات مختلة.
وهؤلاء هم طائفتان:
الطائفة الأولى: هي الطائفة التي غلت في التنزيه، فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب، من تعطيل (1) الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتا أوضح
_________
(1) وهم نفاة الصفات، قال ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 74 - 75: ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات: (معطلة)؛ لأن حقيقة قولهم: تعطل ذات الله تعالى، وإن كانوا هم قد لا يعلمون أن قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين، فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود حق ليس بحق، خالق ليس بخالق، فينفون عنه النقيضين إما تصريحا بنفيهما، وإما إمساكا عن الإخبار بواحد منهما.
فلا يقولون موجود ولا موجود، ولا حي ولا حي، ولا عالم ولا عالم قالوا؛ لأن وصفه بالإثبات تشبيه له بالموجودات، ووصفه بالنفي فيه تشبيه له بالمعدومات فآل بهم إغراقهم في نفى التشبيه إلى أن وضعوه بغاية التعطل.(1/251)
من شمس النهار، وأظهر من فلق الصبح، وظنوا هذا من صنيعهم موافقا للحق، مطابقا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيم، وأضلوا من رام سلوكها.
والطائفة الأخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوا بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض (1) والقسر الخالص
_________
(1) الجبر: وهو القول بالجبر الذي يقول به الجبرية، وهم الذين ينفون قدرة العبد ومشيئته، وأوضح فرقة تمثل هذا الاتجاه الجهمية الذين يردون كل شيء إلى الله والعبد عندهم أشبه ما يكون بريشة في مهب الريح.
وقد أنكره السلف والأئمة، حيث توسل بذلك قوم إلى إسقاط الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأنكر من أنكر منهم ما جعله الله تعالى من الأسباب حتى خرجوا عن الشرع والعقل، وقالوا: إن الله يحدث الشبع والري عند وجود الأكل والشرب لا بهما، ويحدث النبات عند نزول المطر لا به.
وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57].
وكره السلف أن يقال (جبر) وأن يقال ما جبر.
قال الأوزاعي: "ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلف والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما وصفت هذا مخافة أن يرتاب رجل من أهل الجماعة والتصديق ".
وروي عن الزبيدي عندما سئل عن (الجبر) قال: " أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر، ويخلق ويجبل عبد على ما أحب ". انظر: بغية المرتاد (ص 261 - 263) وشرح حديث النزول (ص 252 - 253).(1/252)
فلم يبق لبعثة الرسل، وإنزال الكتب كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباد لله بعائدة.
وجاءوا بتأويلات للآيات البينات، ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شابه من الغلو القبيح.
وطائفة توسطت، ورامت الجمع بين الضب (1) والنون (2)، وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط.
_________
(1) جمع بين الضب والنون.
الضب: حيوان معروف، جمعه ضباب، وكنيته أبو حسل، والحسل ولده.
والنون: الحوت، وجمعه نينان، وهذا مثل يضرب في الجمع بين أمرين متنافيين، والتأليف بين شيئين متخالفين.
لأن الضب حيوان بري لا يرد الماء ويلازم الصحراء وأكثر ما يكون في الكدى، كما قال خالد بن علقمة:
ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى براثينه الحفر
لأن في طبعه النسيان وعدم الهدية ولذلك يحفر جحره عند صخرة أو في أكمة لئلا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام، لذلك يقال: أحير من ضب، ومن عجيب أمره أنه يعيش سبعمائة سنة ولا تسقط له سن وهو لا يشرب الماء. ويقال: إنه يبول كل أربعين يوما مرة.
ومن كلام العرب: لا أفعل ذلك حتى يرد الضب، كما يقولون: حتى يشيب الغراب.
ومن الكلام الموضوع على ألسنة العجماءات، قالت السمكة: رد يا ضب! فقال:
أصبح قدي صردا ... لا يشتهي أن يردا
(2) والنون حيوان بحري لا يفارق الماء أبدا فلا يجتمعان. قال الصابئ:
الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع المال والأدب
ولما بين الضب والنون من التنافي والتقابل قال حاتم الأصم أو غيره:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيدا وللحوت في البحر
ولوضوح ذلك يقال عند التجهيل: فلان لا يفرق بين الضب والنون. زهر الأكم في الأمثال والحكم، للحسن اليوسي (2/ 50 - 51) و (2/ 148).(1/253)
ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق [1ب] في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت مما يوافق ما ذهبت إليه {كل حزب بما لديهم فرحون} (1)، وعند الله تلتقي الخصوم.
ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم. فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئا للعامة.
فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنئ من ظفر بها لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها، الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به، عاطلا عنه!.
ففي هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلا عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل:
أرى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولاً
وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة، فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته، أو دونه، ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه، بل يكون ذلك لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه.
فيالله العجب من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقدارا بالنسبة إليه! وهل سمع السامعون مثل هذه الغريبة، أو نقل الناقلون ما يماثلها ويشابهها؟!
وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفا، وأقلها تبعة، فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان
_________
(1) [الروم: 32](1/254)
مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها كياد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين، وتنفير أهله عنه؟!.
وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع، وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم [2أ]، ثم الذين يلونهم (1)، وقد كانوا رحمهم الله، وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون ولا يحرفون ولا يؤلون.
وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم. ولا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل. وإن نزغ من بينهم نازغ، أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبينوا لهم أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني (2) وأصحابه.
_________
(1) يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم في صحيحه رقم (2533) والترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2534) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" والله أعلم أذكر الثالث أم لا.
قال: " ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا ".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2651) ومسلم في صحيحه رقم (2535) بلفظ " خيركم ... ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2536) عن عائشة قالت: سأل رجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني، ثم الثالث".
(2) يقال: هو ابن عبد الله بن عكيم ويقال: ابن عبد الله بن عويمر، ويقال ابن خالد. وكان رأسا في القدر، وهو أول من تكلم في القدر بالبصرة، قدم المدينة فأفسد بها أناسا وذكره أبو زرعة في الضعفاء ومن تكلم فيهم.
وقال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء.
قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق، يقال له سوس، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد، وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبيه وعمه: كان الحسن يقول: إياكم ومعبدا فإنه ضال مضل. مات بعد الثمانين وقبل التسعين.
انظر تهذيب التهذيب (10/ 203 - 204 رقم 416).(1/255)
وقالوا: إن الأمر أنف (1) فتبرءوا منه، وبينوا ضلالته، وبطلان مقالته للناس، فحذروه إلا من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة.
وهكذا كان من بعدهم، يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال، ويحذرهم منها، كما فعله التابعون- رحمهم الله- بالجعد بن درهم (2)، ومن قال بقوله، وانتحل نحلته الباطلة
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 36 - 37 رقم 1/ 8) عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر. فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد. فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله. فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي. فقلت: أنا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفزون العلم. وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر. وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
إنما الأمر أنف: أي مستأنف استئنافا من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير، وإنما هو مقصور على اختيارك ودخولك فيه.
النهاية (1/ 75). ولسان العرب (1/ 238).
(2) الجعد بن درهم، عداده في التابعين، مبتدع ضال. زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، والقصة مشهورة.
" وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة ":
منها: أنه جعل قارورة ترابا وماء فاستحال دودا وهوام، فقال: أنا خلقت هذا لأنني كنت سبب كونه فبلغ ذلك جعفر بن محمد، فقال: ليقل كم هو- وكم الذكران منه والإناث- إن كان خلقه، وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره، فبلغه ذلك فرجع " اهـ.
ولما ظهر قول الجعد بخلق القرآن تطلبه بنو أمية فهرب منهم فسكن الكوفة فلقيه فيها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول عنه ولم يكن له كثير أتباع غيره.
ثم يسر الله تعالى قتل الجعد على يد خالد بن عبد الله القسري الأمير، قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة، وذلك لأن خالدا خطب الناس فقال في خطبته تلك: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " رقم (3) و" التاريخ الكبير " (1/ 64) والدارمي في الرد على الجهمية. ص7، 13 وفي " الرد على المريسي " ص 118. والبيهقي في الأسماء والصفات ص 254، وفي "السنن الكبرى" (10/ 205 - 206) والآجري في الشريعة (ص 97، 328).
وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن حبيب.
وقال الألباني في " مختصر العلو ": لكنه يتقوى بالذي بعده، فإن إسناد خبر منه ولعله لذلك جزم العلماء بهذه القصة.
انظر البداية والنهاية لابن كثير (9/ 364 - 365). الميزان (1/ 399 رقم 1482) ولسان الميزان (2/ 105).(1/256)
ثم ما زالوا هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يكتمونها كما تتكتم الزنادقة (1) بكفرهم، وهكذا سائر المبتدعين في الدين، على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة.
ولكنا نقتصر هاهنا على الكلام في هذه المسألة التي ورد السؤال عنها، وهى مسألة
_________
(1) ورد في كتاب " جامع العلوم في اصطلاحات الفنون " (2/ 157) ما يلي: الزندقة ألا يؤمن بالآخرة ووحدانية الخالق ... وعن ثعلب أن الزند معناه: الملحد والدهري، وعن ابن دريد: أنه فارسي معرب، وأصله زنده وهو من يقول بدوام الدهر.
وفي " شرح المقاصد ": وإن كان باعترافه بنبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإظهار شعائر الإسلام يبطن العقائد التي هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق وهو في الأصل منسوب إلى " زند " اسم كتاب أظهره مزدك في أيام " قباذ " وزعم أنه تأويل كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت، يزعمون أنه نبيهم.
انظر كتاب " من تاريخ الإلحاد في الإسلام " عبد الرحمن بدوي ص 35.(1/257)
الصفات، وما كان من المتكلمين فيها بغير الحق، المتكلف علم ما لم يأذن الله بأن يعلموه، وبيان أن إمرار أدلة الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزاع المتكلفين، وشذاذ المحدثين، والمتأولين أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه، وحذروا الناس منه، وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام.
فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوف من أهل الإسلام، وترقب لتزول مكروه بهم من حماة الدين، من العلماء الهادين، والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة (1)، ومن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة، وذلك في الدولة بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد (2).
_________
(1) في عهد الدولة العباسية كانت محنة القول بخلق القرآن، التي ثبت فيها علماء الأمة أمام زخم البدعة فأيد الله بهم هذا الدين.
انظر: " مناقب الإمام أحمد بن حنبل " للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص 387 - 420.
(2) أحمد بن أبي دؤاد بن جرير، أبو عبد الله القاضي الأيادي. يقال إن اسم أبي دؤاد: الفرج ... والصحيح أن اسمه كنيته. ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وكان موصوفا بالجود والسخاء، وحسن الخلق، ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على الامتحان بخلق القرآن.
قال الحسن بن ثواب: قال: سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق؟ قال: كافر. قلت: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم. قلت. بماذا كفر؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءكم بعد الذي جاءك من العلم) فالقرآن من علم الله، فمن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر بالله العظيم.
وقال عبد العزيز بن يحيى المكي: دخلت على أحمد بن دؤاد وهو مفلوج، فقلت: إني لم آتك عائدا، ولكن جئت أحمد الله على أنه سجنك في جلدك.
ولد أحمد بن أبي دؤاد سنة ستين ومائة بالبصرة، ومات في المحرم سنة أربعين ومائتين يوم السبت لسبع بقين منه، ودفن في داره ببغداد وصلى عليه ابنه العباس.
انظر: تاريخ بغداد (4/ 141 - 156 رقم 1825).(1/258)
فعند ذلك أطلع المنكمشون [2ب] في تلك الزوايا رءوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا بمذاهبهم الزائفة، وبدعهم المضلة، ودعوا الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها حتى اختلط المعروف بالمنكر، واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة.
ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه على الدين كله (1)، وبحفظه عن التحريف (2)، والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم- ولله الحمد- المقامات المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين، وهتك المبتدعين.
وبهذا الكلام القليل الذي ذكرنا، وتعرف أن مذهب السلف (3) من الصحابة [رضي الله عنهم]
_________
(1) قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة: 33].
(2) قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9]
(3) يقوم على دعائم أربع:
1 - ) الإثبات المفصل المجمل لكل صفة كما ورد بها النص، فيتحقق بهذا قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: 180] وقوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى) [الإسراء: 110].
وقد تضمنت هذه الدعامة الإيمان بكل صفة لله تعالى كما وردت في الكتاب والسنة.
2 - ) الدعامة الثانية: التنزيه، وعدم التكييف والتشبيه. فيتحقق بهذا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11].
وقوله تعالى: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) [الصافات: 180] ولذلك تضمنت هذه الدعامة تنزيه صفات الرب تعالى عن مشابهة صفات خلقه.
3 - ) الدعامة الثالثة: عدم التأويل المفضي إلى التعطيل. فيتحقق بهذا قوله تعالى: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180].
والتعطيل: إلحاد في أسماء الله وصفاته.
وقد تضمنت هذه الدعامة إثبات كل صفة على الحقيقة كما ورد بها النص من غير صرف له إلى معنى آخر غير ظاهر.
4 - ) الدعامة الرابعة: العلم بالله تعالى والمعرفة به من خلال صفاته فيتحقق بهذا قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
وقد تضمنت هذه الدعامة أن السلف كانوا يعلمون معاني الصفات ويفرقون بينها بحسب ما دلت عليه مما تعرفه العرب من لسانها فالعلم غير الحياة، والإتيان غير الاستواء على العرش، واليد غير الوجه، وهكذا سائر الصفات.
انظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة " ص 3 - 4 و" مجموع الفتاوى " (6/ 518).(1/259)
والتابعين وتابعيهم هو إيراد أدلة الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل يفضي إليه كثير من التأويل. وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تلوا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل، وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك، ولا نتكفف، ولا نتكلم بما لم نعلمه (1)، ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه، وما حفظوه عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحفظه
_________
(1) كان السلف أبعد الناس عن الخوض فيما لم يحيطوا به علما مما أخبر الله تعالى عنه من الغيب، فكما أنهم لم يكونوا يحيطون بذات الله علما، يكونوا يحيطون بصفاته علما؛ إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات إلا أن صفاته كانت دليل المعرفة به، ولا تصلح أن تكون كذلك وهي من المتشابه الذي ليس للعباد أن يعلموا حقيقته، وإنما كانت معلومة المعاني عندهم مجهولة الكيف، كما أن ذاته تعالى معلومة عندهم بصفاته، مجهولة الكيف، وهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت.
انظر: "الرسالة في اعتقاد أهل السنة " ص 4.(1/260)
التابعون عن الصحابة، وحفظه من بعد التابعين عن التابعين. وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحددة، والطريقة لهم جميعا متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به وكلفهم القيام بفرائضه من الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدوة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته.
فكان الدين إذ ذاك صافيا عن كدر البدع، خالصا عن شوب قذر التمذهب، فعلى هذا النمط كان الصحابة-رضي الله عنه- والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[3 أ] اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا.
فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس بمقبول في ذلك، فإن أقوال الأئمة المطلعين على أحوالهم، العارفين بها، الآخذين عن الثقات الأثبات، يرد عليه، ويدفع في وجهه، يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف.
فاشدد يديك على هذا، واعلم أنه مذهب خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (1)، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات
_________
(1) تقدم تخريج الحديث بذكر" القرون الثلاثة" أما زيادة قرن رابع فقد أخرجها أحمد في " المسند " (4/ 267) من طريق شيبان، عن عاصم، عن خيثمة والشعبي عن النعمان بن بشير فذكره.
وأخرجها أحمد (4/ 267) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن النعمان بن بشير، فذكره.
وأخرجها أحمد في المسند (4/ 277 - 278) من طريق أبي بكر عن عاصم، عن خيثمة عن النعمان بن بشير، فذكره.
وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 19) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفي طرقهم عاصم بن بهدلة وهو حسن الحديث، وبقية رجاله رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ.
وأخرجها ابن حبان في الثقات (8/ 1) من طريق حماد بن سلمة، عن الجريري عن أبي نضرة عن عبد الله بن مولة عن بريدة الأسلمي وذكره.
وقال ابن حبان: هذه الفظة: "ثم الذين يلونهم" في الرلبعة تفرد بها حماد بن سلمة وهو ثقة مأمون وزيادة الألفاظ عندنا مقبولة عن الثقات، إذ جائز أن يحضر جماعة شيخا في سماع شيء ثم يخفى على أحدهم بعض الشيء ويحفظه من هو مثله أو دونه في الإتقان كما بيناه في غير موضع من كتبنا. اهـ.
والخلاصة أن الحديث صحيح بهذه الزيادة والله أعلم.(1/261)
وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون، واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلا يرد إليه كتاب الله وسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن وافقها فقد وافقا الأصول المتقررة في زعمهم، وإن خالفا الأصول المتقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالف لها من قسم المردود والمتشابه، ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة، ظاهرة المعنى، أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح لم يبالوا به، ولا رفعوا إليه رءوسهم، ولا عدوه شيئا.
ومن كان منكرا لهذا، فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام، فإنه سيقف على الحقيقة، ويسلم هذه الجملة، ولا يتردد فيها.
ومن العجب العجيب والنبأ الغريب أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام، التي جعلها من بعدهم أصولا- لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها قد تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت عنده إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا الكلام كذا، وهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، ثم يأتي بعدهم من يجعل ذلك الذي يعقله من تقلده ويقتدي به، أصلا يرجع إليه، ومعيارا لكلام الله [تعالى] وكلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقبل منهما ما وافقه(1/262)
ويرد ما خالفه.
فيا لله، ويا للمسلمين، ويا لعلماء الدين من هذه الفواقر [3ب] الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها.
وأعزب من هذا وأعجب، وأشنع وأفظع أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها، على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها، أصولا ترد إليها أدلة الكتاب والسنة، جعلوها أيضًا معيارا لصفات الرب تعالى، فما تعقله هذا من صفات الله قال به جزما، وما تعقله خصمه منها قطع به، فأثبتوا لله- عز وجل- الشيء ونقيضه، استدلالا بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة، وتناقضت في شأنه، ولم يلتفتوا إلى ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، بل إن وجدوا ذلك موافقا لما تعقلوه جعلوه مؤيدا له ومقويا، وقالوا: قد ورد دليل السمع مطابقا لدليل العقل. وإن وجدوه مخالفا لما تعقلوه جعلوه واردا على خلاف الأصل، ومتشابها وغير معقول المعنى، ولا ظاهر الدلالة.
ثم قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلا يرد إليه أدلة الكتاب والسنة، وجعل المتشابه عند أولئك محكما عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقا له عنده، فكان حاصل كلام هؤلاء أنهم يعلمون من صفات الله ما لا يعلمه، وكفاك بهذا، وليس بعده شيء، وعنده يتعثر القلم حياء من الله- عز وجل-.
وربما استبعد هذا مستبعد، واستكثره مستكثر، وقال: إن في كلامي هذا مبالغة وتهويلا وتشنيعا وتطويلا، وإن الأمر أيسر من أن يكون حاصله هذا الحاصل، وثمرته مثل هذه الثمرة التي أشرت إليها.
فأقول: خذ جملة البلوى، ودع تفصيلها، واسمع ما يصك سمعك، ولولا هذا الإلحاح منك ما سمعته، ولا جرى القلم بمثله.(1/263)
هذا أبو علي (1)، وهو رأس من رءوسهم، وركن من أركانهم، وأسطوانة من أساطينهم، قد حكى عنه الكبار، آخر من حكى عنه ذلك صاحب شرح القلائد (2) والله لا يعلم الله من نفسه إلا ما يعلم هو.
فخذ هذا التصريح حيث لم تكتف بذلك التلويح، وانظر هذه الجرأة على الله [سبحانه] (3) التي ليس بعدها جرأة، فيا لأم أبي علي الويل، أينهق مثل هذا النهيق ويدخل نفسه إلى هذا المضيق!؟ وهل سمع السامعون بيمين أفجر من هذه اليمين الملعونة؟ أو نقل الناقلون عن مسلم كلمة تقارب معنى [4أ] هذه الكلمة المفتونة؟ أو بلغ مفتخر إلى ما بلغ إليه هذا المختال الفخور؟ أو وصل من يفجر في أيمانه إلى ما يقارب هذا الفجور؟
وكل عاقل يعلم أن أحدنا لو حلف أن ابنه أو أباه لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو لكان كاذبا في يمينه، فاجرا فيها؛ لأن كل فرد من أفراد الناس ينطوي على صفات وغرائز لا يحب أن يطلع عليها غيره، ويكره أن يقف على شيء منها سواه، ومن ذا الذي يدري بما يجول في خاطر غيره! ويستكن في ضميره، ومن ادعى علم ذلك، وأنه يعلم من غيره من بني آدم ما يعلمه ذلك الغير من نفسه، ولا يعلم ذلك الغير من
_________
(1) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي أبو علي، من أئمة المعتزلة. ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه نسبة الطائفة " الجبائية " له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب. نسبته إلى جبي (من قرى البصرة) اشتهر في البصرة، ودفن بجبي. له " تفسير " حافل مطول، رد عليه الأشعري.
ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين. ومات سنة ثلاث وثلاثمائة.
الأعلام للزركلي (6/ 256) واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير (1/ 255 - 256).
(2) اسم الكتاب" الدرر الفرائد شرح القلائد " للإمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى الذي ولد بمدينة ذمار يوم الاثنين لعله سابع شهر رجب سنة 775هـ قرأ علم العربية حتى برع فيها، ثم أخذ علم الكلام، ونهل من علم الفقه، ودرس الكشاف، وتبحر في العلوم واشتهر فضله، وبعد صيته، وله مؤلفات عديدة. وقد توفي في شهر ذي القعدة سنة 840 هـ وقبره بظفير حجة مشهور.
البدر الطالع (1/ 122 - 126 رقم 77).
(3) زيادة يستلزمها السياق.(1/264)
نفسه إلا ما يعلمه هذا المدعي، فهو إما مصاب العقل، يهذي بما لا يدري، ويتكلم بما لا يفهم، أو كاذب شديد الكذب، عظيم الافتراء، فإن هذا أمر لا يعلمه غير الله - سبحانه-، فهو الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وما يسر عباده وما يعلنون، وما يظهرون وما يكتمون كما أخبرنا بذلك في كتابه (1) العزيز في غير موضع.
فقد خاب وخسر من أثبت لنفسه من العلم ما لا يعلمه إلا الله من عباده، فما ظنك بمن جاوز هذا وتعداه، وأقسم بالله [سبحانه] أن الله لا يعلم من نفسه إلا ما يعلمه هو؟! ولا يصح لنا أن نحمله على اختلال العقل، فلو كان مجنونا لم يكن رأسا يقتدي بقوله جماعات من أهل عصره، وممن جاء بعده وينقلون كلامه في الدفاتر، ويحكون عنه في مقامات الاختلاف.
ولعل أتباع هذا ومن يقتدي بمذهبه لو قال لهم قائل وأورد عليهم مورد قول الله -عز وجل- {ولا يحيطون به علما} (2)، وقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} (3)، وقال لهم: هذا يرد ما قاله صاحبهم، ويدل على أن يمينه هذه فاجرة مفتراة، لقالوا: هذا ونحوه مما يدل دلالته، ويفيد مفاده، هو من المتشابه
_________
(1) (منها): قوله تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق:16].
وقوله تعالى: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [البقرة: 77].
وقوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام: 3].
وقوله تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: 7].
(2) [طه: 110]
(3) [البقرة: 255](1/265)
الوارد على خلاف دليل العقل، المدفوع بالأصول المقررة.
وبالجملة، فإطالة ذيول الكلام في مثل هذا المقام إضاعة للأوقات، واشتغال بحكاية الخرافات المبكيات، لا المضحكات. وليس مقصودنا هاهنا إلا إرشاد السائل إلى أن المذهب الحق في الصفات هو إمرارها على ظاهرها من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تكلف، ولا تعسف، ولا جبر، ولا تشبيه، ولا تعطيل [4ب] وأن ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
فإن قلت: ماذا تريد بالتعطيل في مثل هذه العبارات التي تكررها؟ فإن أهل المذاهب الإسلامية يتنزهون عن ذلك، ويتحاشون عنه، ولا يصدق معناه، ولا يوجد مدلوله إلا في طائفة من طوائف الكفار، وهم المنكرون للصانع؟.
قلت: يا هذا، إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام، فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم، ويذكرونه في مؤلفاتهم، ويحكونه عن أكابرهم، أن الله- سبحانه وتعالى، وتنزه وتقدس- لا هو جسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه (1).
فأنشدك الله، أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي؟! وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة؟!
فكأن هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل:
فكنت كالساعي إلى مثعب ... موائلا من سبل الراعد (2)
أو كالمستجير من الرمضاء (3) بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن
_________
(1) انظر رد ابن تيمية على هؤلاء في منهاج السنة (2/ 130 - وما بعدها). الأسماء والصفات (1/ 38 - 40) لابن تيمية وتلبيس الجهمية (1/ 89).
(2) المثعب: مسيل الماء في الوادي. الموائل: طالب النجاة. وهو مثل يضرب لمن يهرب من الشيء فيقع بما هو أشد منه.
(3) يضرب في الخلتين من الإساءة تجتمعان على الرجل.(1/266)
قرصة النملة إلى قضمة الأسد.
وقد كان يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله عز وجل، وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله وهما: {ولا يحيطون به علما} (1) و {ليس كمثله شيء} (2). فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا بما يغني أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصاعدين في متوعدات هاتيك العقاب، فالكلمة منها دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق، ودعاوى التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم، ومباينة له. فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علما، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة، وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة لا يحيط به فرد من الأفراد علما.
فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيما إذا كان في ذات الله [5أ] وصفاته، فإن ذلك من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم، ويعرفه كل عارف.
ولم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات التأويلات والتحريفات، وهم السلف الصالح-كما عرفت- فهم الذين اعترفوا بالإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته، بل العلم كله له، وقالوا كما قال من
_________
(1) [طه: 110]
(2) [الشورى: 11](1/267)
قال (1) ممن اشتغل بطلب هذا المحال، فلم يظفر بغير القيل والقال:
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
بل اعترف كثير من هؤلاء المتكلفين بأنه لم يستفد من تكلفه وعدم قنوعه بما قنع به السلف الصالح إلا بمجرد الحيرة التي وجد عليها غيره من المتكلفين فقال: (2)
_________
(1) فخر الدين الرازي محمد بن عمر القرشي المتوفى 606 هـ فقد سطر في آخر عمره اعترافه بفساد علم الكلام وبطلانه فقال: " لقد تأملتُ الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات: (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5] و (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) [فاطر: 10] وأقرأ في النفي: (ليس كمثله شيء) [الشورى: 11] (ولا يحيطون به علما) [طه: 110] (هل تعلم له سميا) [مريم: 65].
من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وأنشد:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز.
انظر: درء التعارض (1/ 660)، الحموية (ص 207 - 208) البداية والنهاية (13/ 56)، منهاج السنة (5/ 271).
(2) وهو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ أو 549 هـ فقد ورد عنه أنه قال: " عليكم بدين العجائز فهو من أسنى الجوائز ".
وأخبر عما انتهى إليه أمر هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين من الحيرة، والندم وقد كان منهم ثم أنشد:
لقد طفت في تلك المعاهد ...
وقد رد عليه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى بقوله:
لعلك أهملت الطواف بمعهد ... الرسول ومن والاه من كل عالم
فما حار من يهدي بهدي محمد ... ولست تراه قارعا سن نادم
انظر: ديوان الإمام الصنعاني ص369، وانظر: ترجمة أبو الفتح وكلامه، درء التعارض (1/ 159) منهاج السنة (5/ 270) الفتوى الحموية ص 7.(1/268)
وقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم (1)
وها أنا أخبرك عن نفسي، وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسي، فإني في أيام الطلب، وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورمت الرجوع بفائدة، والعود بعائدة، فلم أظفر من ذلك بغير الخيبة والحيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف، على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد فيه بصيرة، وبه شغفا، وقلت عند النظر في تلك المذاهب:
وغاية ما حصلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة ... فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره ... وما قنعت نفسي بدون التبحر [5ب] (2).
وأما الكلمة الثانية، وهي {ليس كمثله شيء} (3) فبها يستفاد نفي المماثلة في كل شيء، فيدفع بهذه الآية في وجه المجسمة، ويعرف بها الكلام عند وصفه سبحانه بالسميع والبصير، وعند ذكر السمع والبصر واليد والاستواء ونحو ذلك مما اشتمل عليه الكتاب والسنة، فيقرر بذلك الإثبات لتلك الصفات لا على وجه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فيندفع به جانبي الإفراط والتفريط، وهما المبالغة في الإثبات، المفضية إلى التجسيم، والمبالغة في النفي المفضية إلى التعطيل، فيخرج من بين الجانبين وغلو الطرفين
_________
(1) وقد نسب ابن خلكان هذه الأبيات لابن سينا كما في ديوان الصنعاني ص 369. وهى في نهاية الأقدام ص3 للشهرستاني.
(2) للشوكاني في ديوانه ص189.
(3) [الشورى: 11](1/269)
أحقية مذهب السلف الصالح، وهو قولهم بإثبات ما أثبته لنفسه من الصفات على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (1). ومن جملة الصفات التي أمَرَّهَا السلف على ظاهرها، وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكليف ولا تأويل: صفة الاستواء التي ذكرها السائل، فإنهم يقولون: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه من استوائه على عرشه، على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه، ولا نكلف أنفسنا غير هذا، فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا يحيط عباده به علما.
وهكذا يقولون في مسألة الجهة التي ذكرها السائل، وأشار إلى بعض ما فيه دليل عليها، والأدلة في ذلك طويلة كثيرة في الكتاب والسنة. وقد أجمع أهل العلم منها لا سيما أهل الحديث مباحث طولوها بذكر آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة.
وقد وقفت من ذلك على مؤلف (2) بسيط في مجلد جمعه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي (3) رحمه الله استوفى فيه كل ما فيه دلالة على الجهة من كتاب، أو سنة
_________
(1) [الشورى: 11]
(2) وهو كتاب " العلو للعلي الغفار " للذهبي.
وقد اختصره المحدث الألباني مقتصرا على الصحيح منه.
ومثله: كتاب" إثبات صفة العلو" للإمام أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي. كتاب "علو الله على خلقه " للدكتور موسى بن سليمان الدويش.
(3) هو الإمام الحافظ، مؤرخ الإسلام: شمس الدين، أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الشافعي الدمشقي الشهير بالذهبي.
ولد في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ في قرية كفر بطنا في غوطة دمشق، ونشأ الذهبي في أسرة علمية متدينة اعتنت بإرساله إلى مشايخ دمشق المشهورين، وقد توجه اهتمامه إلى علم القراءات والحديث، ووصل إلى مصر والشام وزار أكثر المدن لتلقي العلم حتى ضرب بعلمه المثل.
تولى الذهبي عدة وظائف علمية في دمشق شملت الخطابة والتدريس والمشيخة في كبريات دور الحديث ولم تشغله هذه الوظائف عن البحث والتأليف، بل ترك ثروة علمية عظيمة من أهمها:
تاريخ الإسلام الكبير ويقع في تسعة وأربعين مجلدا، وسير أعلام النبلاء ويقع في (25) مجلدا، وميزان الاعتدال ويقع في (4) مجلدات.
توفي في ليلة الاثنين (3) ذو القعدة سنة 748 هـ ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق.
الأعلام للزركلي
(5/ 326).(1/270)
أو قول صاحب.
والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل، ولكنها لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل الكائنة بين بعض الطوائف الإسلامية كثر الكلام فيها، وفي مسألة الاستواء، وطال خصوصا بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب، فلهم في ذلك تلك الفتن الكبرى والملاحم العظمى، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر.
والحق هو ما عرفناك من مذهب [6أ] السلف الصالح، فالاستواء على العرش والكون في تلك الجهة قد صرح به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها، ويطول نشرها وكذلك صرح به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير حديث (1)، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد المسلمين في نفسه، ويحسه في فطرته، وتجذبه إليه طبيعته كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه وتعالى، والتجأ إليه، ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع، وعزه المنيع، فإنه يشير عند ذلك بكفه، أو يرمي إلى السماء بطرفه، ويستوي في ذلك عند عروض أسباب الدعاء، وحدوث بواعث الاستغاثة، ووجود مقتضيات الإزعاج، وظهور دواعي (2).
_________
(1) تقدم في حديثه الجارية. وحديث أبي سعيد الخدري.
(2) لعله يشير المؤلف رحمه الله إلى الأيدي وظهور دواعي الالتجاء، كما في حديث أنس أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه ...
أخرجه البخاري رقم (1013) ومسلم رقم (897).
وقد ورد في رفع اليدين في الدعاء أكثر من مائة حديث في وقائع متفرقة. انظر الصحيحة رقم (2941).(1/271)
الالتجاء- عالم الناس وجاهلهم، والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل، القائلين بأن الاستواء هو الاستيلاء (1) - كما قاله جمهور المتأولين، أو الإقبال (2). -كما قاله أحمد بن يحيى (3) ثعلب. . .، والزجاج (4) والفراء (5) وغيرهم، أو كناية عن
_________
(1) تقدم التعليق على ذلك.
(2) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 213): (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، أي: قصد إلى السماء والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال.
(3) هو أحمد بن يحيى بن يسار الشيباني مولاهم الإمام البغدادي أبو العباس ثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، ولد سنة 200 هـ، وابتدأ النظر في العربية والشعر واللغة وسنه ستة عشرة، وحفظ كتب الفراء فلم يشذ منها حرف، وعني بالنحو أكثر من غيره، فلما أتقنه أكبّ على الشعر والمعاني والغريب.
من مصنفاته: المصون في النحو، واختلاف النحويين، ومعاني القرآن.
وثقل سمعه بآخره، ثم صم، وتوفي يوم السبت لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 291 هـ.
بغية الوعاة للسيوطي (1/ 396 رقم 787).
(4) هو أبو إسحاق إبراهيم بن السري، عالم بالنحو واللغة، كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، وكان في فتوته يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، معلمه المبرد، واختص بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعلَّم ولده القاسم الأدب، أخذ عنه الزجاجي وغيره.
من مؤلفاته: معاني القرآن وإعرابه، والاشتقاق. توفي سنة 310 هـ.
انظر: بغية الوعاة (1/ 411 - 413 رقم 825).
(5) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منصور الديلمي، أبو زكريا المعروف بالفراء، أعلم الكوفيين بالنحو واللغة وفنون الأدب، فقيه متكلم، عالم بأيام العرب وأخبارها، عارف بالنجوم والطب، ولد في الكوفة سنة 144 هـ، ودرس اللغة والقرآن بها وبالبصرة وبغداد على الرواسي ويونس بن حبيب والكسائي، وانتقل إلى بغداد، واتخذه المأمون العباسي مؤدبا لولديه، فكان أكثر مقامه فيها، فإذا كان آخر السنة أتى الكوفة فأقام أربعين يوما يفرق في أهله ما جمعه. وكان يميل إلى الاعتزال. ومات الفراء بطريق مكة سنة 207 هـ.
معجم المفسرين لعادل نويهض (2/ 729).(1/272)
الملك (1) والسلطان كما قاله آخرون.
فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر، والإذعان بأن الاستواء والكون على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ولا تكلف، ولا قيل ولا قال، ولا فضول في شيء من المقال. فمن جاوز هذا المقدار بإفراط أو تفريط فهو غير مقتد بالسلف، ولا واقف في طريق النجاة، ولا معتصم عن الخطأ، ولا سالك في طريق السلامة والاستقامة (2).
وكما تقول هكذا في الاستواء والكون في تلك الجهة, فكذا تقول في مثل قوله
_________
(1) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/ 107) وانظر رد ابن تيمية على ذلك في الأسماء والصفات (2/ 109).
(2) والخلاصة: إن " علو الله تعالى " ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.
أما الكتاب: فقد تنوعت دلالته على ذلك: فتارة بلفظ "العلو" و"الفوقية" و"الاستواء" على العرش " و" كونه في السماء ":
قال تعالى: (وهو العلي العظيم) [البقرة: 255].
قال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) [الأنعام: 18].
قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5].
وتارة بلفظ صعود الأشياء وعروجها ورفعها إليه:
قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) [فاطر: 10].
قال تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) [المعارج: 4].
قال تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) [آل عمران: 55].
وتارة بلفظ " نزول الأشياء منه " ونحو ذلك ... .
قال تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك) [النحل: 102].
قال تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض) [السجدة: 5].
وأما السنة: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سجوده: "سبحان ربي الأعلى". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (203/ 772) من حديث حذيفة، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه, إن رحمتي سبقت غضي" من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري رقم (7422) ومسلم رقم (2751).
وقوله: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء" وقد تقدم تخريجه.
وثبت عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يده وهو على المنبر يوم الجمعة يقول: "اللهم أغثنا". أخرجه البخاري رقم (1014) ومسلم رقم (8/ 897).
وأما العقل: فقد دل على وجوب صفة الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص والعلو صفة كمال والسفل نقص فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.
وأما الفطرة: فقد دلت على علو الله تعالى دلالة ضرورية فطرية: فما من داع أو خائف فزع إلى ربه تعالى إلا وجد في قلبه ضرورة الاتجاه نحو العلو لا يلتفت عن ذلك يمنة ولا يسرة، واسأل المصلين يقول الواحد منهم في سجوده " سبحان ربي الأعلى ".
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على: أن الله فوق سماواته مستو على عرشه.
قال الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما جاءت به السنة من الصفات ". وهو أثر صحيح. أخرجه الذهبي في العلو (ص 138 - مختصر).
وقال ابن تيمية في " الفتوى الحموية " (ص43) إسناده صحيح. والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 408).(1/273)
سبحانه: {وهو معكم أين ما كنتم} (1) و {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} (2) وفي نحو {إن الله مع الصابرين} (3)، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (4) إلى ما يشابه ذلك ويماثله ويقاربه ويضارعه.
فنقول في مثل هذه الآيات (5) هكذا جاء القرآن أن الله سبحانه مع هؤلاء، ولا
_________
(1) [الحديد: 4]
(2) [المجادلة: 7]
(3) [الأنفال: 46]
(4) [النحل: 128]
(5) قال ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 147: وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو والنجم معنا.
ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) إلى قوله: (وهو معكم أين ما كنتم) [الحديد: 4].
دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية، ومقتضاها أنه مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: أنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فأما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع. أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها- وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها.
ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم) [الحديد:4].
وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع بينهما في قوله سبحانه وتعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد:4]. فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا.
الفتوى الحموية (ص146 - 147).(1/274)
نتكلف بتأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه شعبة من شعب التأويل (1)، تخالف مذاهب السلف، وتباين ما كان
_________
(1) كذا قال رحمه الله، وليس هذا الصواب، بل السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم الذين فسروا هذه المعية بمعية العلم والاطلاع، ولعل الشوكاني لم يقف على أقاويل السلف في هذه الآيات عند تحرير الجواب؛ لأننا نجده في تفسير "فتح القدير" قد فسرها على مذهب السلف.
فقال: (5/ 166): (وهو معكم أين ما كنتم) أي: بقدرته وسلطانه وعلمه، وقال أيضًا (5/ 187): ومعنى (أينما كنتم) إحاطة علمه بكل تناج يكون منهم، في أي مكان من الأمكنة.
قال الآجري في " الشريعة " ص 288: فإن قال القائل: فأيش معنى قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) [المجادلة: 7] التي بها يحتجون؟
قيل له: علمه عز وجل والله على عرشه وعلمه محيط بهم وبكل شيء من خلفه، كذا فسره أهل العلم. والآية تدل أولها وآخرها على أنه العلم.
انظر " مختصر العلو " (ص 138 - 139) رقم (124، 125، 126).
وذكر ابن رجب في شرح "الحديث التاسع والعشرين" من الأربعين النووية: أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة.
قال تعالى: (لا تحزن إن الله معنا) [التوبة: 40].
قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) [النحل: 128]. وأن المعية العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم ".
وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في: سورة المجادلة (8/ 42) ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه ".
قال: " ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضًا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ". ا هـ.
قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص 115): "وليس معنى قوله: (وهو معكم) [الحديد: 4] أنه مختلط بالحق، فإن هذا لا توجبه اللغة، بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان". اهـ.
ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا "الحلولية" من قدماء "الجهمية" وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
خلاصة القضية:
1 - ): معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
2 - ): هذه المعية حق على حقيقتها لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق.
3 - ): هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علما وقدرة وسمعا وبصرا وسلطانا وتدبيرا.
4 - ): هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطا بالخلق أو حالا في أمكنتهم.
5 - ): هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه واستوائه على عرشه.
وقد تقدم توضيح ذلك وشرحه.
وانظر الفتوى الحموية (ص 107 - 120) والعقيدة الواسطية (ص 115) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم في المثال التاسع (ص 409) مختصر العلو (ص 138 - 139).(1/275)
عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم. وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه:
وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني من بنيات الطريق [6 ب]
وقد هلك المتنطعون (1) ولا يهلك على الله إلا هالك، وعلى نفسها (2) براقش تجني.
وفي هذه الجملة- وإن كانت قليلة- ما يغني من شح بدينه، وتحرص عليه عن تطويل المقال، وتكثير ذيوله وتوسيع دائرة فروعه وأصوله، والمهدي من هداه الله.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني في شهر ربيع الآخر بحصن كوكبان حامدا لله سبحانه مصليا مسلما على رسوله وآله سنة 1228 هـ.
[انتهت الرسالة المفيدة يوم الثلاثاء بعد العصر لعله (18) شهر ربيع أول من سنة خمسة وسبعين ومائتين بعد الألف (1275هـ) ختمها الله بحق محمد وآله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3).
_________
(1) يشير إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا. وهو من حديث عبد الله بن مسعود. أخرجه مسلم رقم (7/ 2670) وأبو داود رقم (4608).
هلك المتنطعون، أي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
(2) مثل يضرب لمن يعمل عملا يرجع ضرره إليه.
قال في مجمع الأمثال للميداني (2/ 337 - 338): كانت براقش كلبة لقوم من العرب، فأغير عليهم، فهربوا ومعهم براقش فاتبع القوم آثارهم بنباح براقش، فهجموا عليهما فاصطلموهم، قال حمزة بن بيض:
لم تكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني رمتني
بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني
(3) زيادة من المخطوطة " ب ".(1/277)
الدر النضيد في إخلاص التوحيد
تأليف: محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه:
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(1/279)
وصف مخطوطة الأسئلة
1 - في أعلى الصفحة الأولى مكتوب بخط الإمام الشوكاني رحمه الله العبارة التالية:
"هذا السؤال كتبه إلي القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله، وأجبت بالرسالة الآتية ".
2 - أول الأسئلة: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. وبعد: فإنه خطر بالخاطر الفاتر القاصر تحرير هذا السؤال عما أهمه من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء الأكابر.
3 - آخر الأسئلة: .... ثم نقل كلام ابن الهمام في "الفتح القدير" وسيحيط الجواب منكم- إن شاء الله- بجميع ما فيه، وإثبات ما يثبته البال، ونفي ما ينفيه. والسلام.
4 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
5 - عدد الصفحات:\9\صفحة.
6 - المسطرة: 23 سطرًا.
7 - عدد الكلمات في السطر:
8 - الناسخ: السائل القاضي: محمد بن أحمد مشحم.(1/281)
[السؤال]
هذا السؤال كتبه إلي القاضي العلامة \محمد بن أحمد مشحم (1) - رحمه الله- وأجبت بالرسالة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وبعد.
فإنه خطر بالخاطر الفاتر القاصر تحرير هذا السؤال عما أهمه من مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء الأكابر، مع ما عرف فيها من اقتراف الأقوال، والرمي من كل فئة للأخرى بالداء العضال، وخروج أكثر المتوسلين عن جادة الطريق، وتعصب مخالفيهم ورميهم في بعض أقوالهم بالتكفير والتفسيق، فحراني ما رأيت إلى رقم هذه الكلمات في المسألة، واستفتاح أقفالها المقفلة، موجها للسؤال إلى من ألقت إليه العلوم مقاليدها، وملكته بالوهب والكسب طارفها وتليدها، فاقتصر منها أبكار المعاني التي لم يطمثها أحد قبله، وفتح من مقفلاتها ما كان مضموما لم يحم أحد حوله، فأصبحت عيون المعاني به قريرة، وأسرار البلاغة بوجوده مسرورة، ومعالم التنزيل بأنواره منيرة، وصدور الأمهات الست بأنها منشرحة، كما أن سطورها مشروحة، وأطرافها مزينة، بحلاه،
_________
(1) هو محمد بن أحمد بن جار الله الصعدي، ثم الصنعاني اليماني، المعروف بمشحم الكبير، عالم أديب، ولي الخطابة والقضاء في بعض المدن أيام المنصور الحسن وابنه المهدي العباس، وتوفي بصنعاء (1181 هـ- 1767 م).
من آثاره: تنوير الصحيفة بذكر عوالي الأسانيد الشريفة.
إتحاف أهل الطاعة بفضيلة صلاة الجماعة.
إرشاد السالك إلى أوضح المسالك.
النسيم الساري على صفحات نهر الزلال الجاري في آداب المقرئ والقاري.
نظم نخبة الفكر في علم الأثر.
معجم المؤلفين (3/ 56 رقم 11657) والبدر الطالع (2/ 102) الأعلام للزركلي (6/ 14).(1/285)
التي هي اللآلئ المروجة، شيخ الإسلام، وقاضي الأنام محمد بن علي أعلى الله شأنه، ورزقه المكانة، وأباح له فضله وإحسانه، وإذا تشرفت هذه الكتابة بمثولها بين يديه، فالتوسل في ستر ما فيها به أعزه الله إليه. ولتعلم أولا أن السائل ممن يرى جواز هذه الوسائل لكنه وقف قديما وحديثا على كلام لبعض الأكابر أوجب تحرير هذه الأحرف، وإبراز ما عنده ولا عند القاصر، ولما كان الأمر على هذه الصفة كان التحرير على طراز لعله يوافق الطائفة المنصفة، وسينجاب عن وجه السؤال غبار الأشكال إن شاء الله. إذا لوحظ من مولاي- حفظه الله- بالأفعال، ويحمد السرى عند الصباح، وتظهر أسارير وجهه عليها تباشير الفلاح، والله تعالى يديم ديم فوائدكم، ويعيد علينا بركات عوائدكم بمنه وفضله.
فنقول: التوسل (1) إلى الله- عز وجل- معناه التقرب إليه والاستشفاع إلى جنابه - جل جلاله- بمن له منزلة لديه، وكرامة من عمل أو شخص. ولا يخفى أن لبعض الأعمال مزايا ومنازل لدى الملك المتعال، كما أن لبعض الأشخاص كذلك بلا إشكال، ومنه حديث الثلاثة (2) الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم، ومنه: كلمتان (3) خفيفتان [1] حبيبتان إلى الرحمن، فإن وصفها بكونهما حبيبتين مما يشعر بأن الحبيب إلى الله مما يتوسل به إليه لكرمه عليه.
ومن التوسل بالأشخاص حديث الضرير (4) الذي علمه الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صلاة الحاجة، وهو في (الحصن الحصين)، ورمز له للترمذي والنسائي والحاكم في المستدرك: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في، قال المحقق
_________
(1) سيأتي تعريفه (ص 312).
(2) سيأتي تخريجه (ص 315).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6544 و6548) ومسلم رقم (2850) من حديث أبي هريرة.
(4) سيأتي تخريجه (ص313).(1/286)
الفاسي: أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، والنسائي وابن ماجه والطبراني. وذكر في أوله قصة، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
ولفظ النسائي: أن أعمى أتى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: أو ادعك قال: يا رسول الله إنه قد شق علي، قال: فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين .... ) الحديث. فهذا فيه التوسل بنبينا- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
ومنه الدعاء الوارد إذا تفلت القرآن عزاه السيوطي في أذكاره إلى الديلمي في مسند الفردوس (1)، وابن حبان: (اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك .... ) الحديث.
وفي أدعية الصباح والمساء مما رواه الطبراني في الكبير (2): (أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك).
وفي الأدعية الواردة بعد الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، فإن للسائلين عليك حقا .... ) الحديث. عزاه السيوطي في أذكاره إلى الديلمي (3)
_________
(1) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (4/ 302) من حديث أبي بكر. وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط محقق الكتاب: كذا في الأصل بياض بعد قوله أخرجه، وفي المطبوع: أحرجه رزين ولم أره بهذا اللفظ.
(2) (10/ 315 رقم 10600)
(3) قلت: أخرجه ابن ماجه في السنن رقم (778) وأحمد في مسنده (3/ 21) والطبراني في الدعاء رقم (421) وابن خزيمة في التوحيد كما في تخريج أحاديث الإحياء (2/ 807) وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (85) كلهم من حديث أبي سعيد بسند ضعيف؛ لضعف فضيل بن مرزوق، ولضعف عطية العوفي أيضًا.
وجملة القول إن الحديث ضعيف والله أعلم.(1/287)
ومنه ما ذكره المفسرون (1) في تفسير الكلمات التي تلقاها أبو الخليقة آدم عليه السلام من ربه- جل وعلا- فأخرج ابن المنذر (2) عن محمد بن علي بن الحسن بن علي- رضي الله عنهم - قال: لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه، واشتد ندمه، فجاءه جبريل [عليه السلام] فقال: يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك؟ قال: بلى يا جبريل. قال: قم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجده، وامدح حتى قال في آخر الحديث: "اللهم إني أسألك بجاه محمد عندك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي، فقال الله: يا آدم، من علمك هذا؟ قال: يا رب إنك لما نفخت في الروح فقمت بشرا سويا أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوبا: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال صدقت يا آدم ". وهذا وإن كان منقطعا فإن مثله [2] من مثل الباقر محمد بن علي- رضي الله عنه - لا يقال بالرأي ولا يطلقه شاكا في سنده.
وأخرج الديلمي (3) في مسند الفردوس بسند واه عن علي- رضي الله تعالى عنه- أنه قال آدم: "اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد".
وأخرج ابن النجار (4) عن ابن عباس قال: سألت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكلمات التي تلقاها آدم قال: (سأل بحق محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه).
وأخرج الطبراني في معجمه الصغير (5)، والحاكم (6) وأبو نعيم.
_________
(1) انظر:- فتح القدير للشوكاني (1/ 103 - 105) جامع البيان للطبري (1/ 243).
(2) كما في الدر المنثور (1/ 146 - 147) بسند ضعيف منقطع.
(3) كما في " الدر المنثور " (1/ 147) بسند واه.
(4) كما في " الدر المنثور " (1/ 147) ضعيف جدًا.
(5) (2/ 82 - 83).
(6) (2/ 615): وقال صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع وعبد الرحمن واه، وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من هو.
والفهري هذا أورده الذهبي في "ميزان الاعتدال" بهذا الحديث وقال: " خبر باطل، رواه البيهقي في الدلائل". اهـ.(1/288)
والبيهقي (1) كلاهما في الدلائل، وابن عساكر (2) عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش، وقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي ..... " الحديث. كل هذه الأحاديث في الدر المنثور (3) - رحم الله مؤلفه، وجزاه خيرًا-.
فهذه الأحاديث منادية بجواز التوسل بمن له عند الله منزلة. وقد ساق الحافظ السيوطي في الخصائص (4) الكبرى صلاة الحاجة التي علمها النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الضرير في باب اختصاصه- عليه الصلاة والسلام- بجواز أن يقسم على الله تعالى به. وذكر فيه قصة رواها أبو نعيم، والبيهقي في دلائل النبوة حاصلها عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان- رضي الله عنه - وكان عثمان لا ينظر في حاجته، ولا يلتفت، فلقي عثمان بن حنيف، فشكى عليه، فقال له: ائت الميضاة، وعلمه صلاة الحاجة ففعلها، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأدخله البواب على عثمان، ثم لقي عثمان بن حنيف فقال: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي- يريد عثمان بن عفان- حتى كلمته، قال له: ما كلمته، ولكن رأيت النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جاءه ضرير فشكى إليه .... .. الحديث.
قال السيوطي (5) قال ابن عبد السلام: ينبغي أن يكون هذا مقصورا على رسول الله
_________
(1) في " دلائل النبوة " (5/ 488) وقال: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
(2) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 142). وخلاصة القول أن الحديث موضوع.
(3) (1/ 142 - 152).
(4) (2/ 201 - 202).
(5) في الخصائص (2/ 202).(1/289)
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والأولياء؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تنبيها على علو درجته ومرتبته .... انتهى.
ولعله لأجل كلام ابن عبد السلام ترجم السيوطي (1) هذا الباب بهذه الترجمة، ولا يخفى أنه ليس في كلام ابن عبد السلام ما يشعر بالجزم، فإنه إنما قال ينبغي، وأصل وصفها إنما هو بمعنى الأولوية. وأيضا ليس في هذه الأدلة ما ينفي الجواز، بل كلها صريح في جواز التوسل بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو بمن له [3] منزلة عند الله رفيعة.
ولنتأمل في الأحاديث الواردة في شأن قصة آدم، فإنها منادية بأن كل ذي جاه عند ربه تعالى يجوز التوسل إليه تعالى، وعلى هذا جرى أكثر العلماء في توسلاتهم وأدعيتهم وأشعارهم بلا نكير. فأما ما نقل عن ابن عبد السلام (2)، ومثله عن مالك، فإنه ما أداهما إليه اجتهادهما. وهذه الأحاديث تلقاها الناس خلفا عن سلف بالقبول، وعمل بهذه الأدعية الفاضل منهم والمفضول، وما تحرج أحد من المسلمين عن الدعاء فيما أحسب بهذه الأدعية، ولا عن صلاة الحاجة.
فأما ما توهم من اختصاص صلاة الحاجة والتوسل بالنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حاله حياته فهذا التوهم ما أبعده عن فهم الأحاديث، وعن قوانين أهل العلم! فإنه لو صح التخصيص بهذه التخيلات الفاسدة لجاز في أكثر الأحاديث أن يقال: هذا خاص في حياته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ومن أين لنا أنه عام بعد مماته! ونحو هذا ما توهم أيضًا في التوسل بالعباس (3) بن عبد المطلب- رضي الله عنه- أنه يجوز التوسل بالحي دون الميت،؛ لأن الميت الذي قد صار رهينا في التراب ليس بأهل يتوسل بما له من الجاه والكرامة
_________
(1) أي باب "اختصاصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواز أن يقسم على الله به" في الخصائص (2/ 201).
(2) ذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 202).
(3) سيأتي تخريجه (ص 314).(1/290)
والثواب .... وهذا كما أنه تخصيص بلا دليل بل بحسب الواقعة، بعيد في النظر فإن الحي يجوز منه الغفلة والخطأ، فأما الميت الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو المقطوع بأن لهم عند الله منازل رفيعة، فإنه لا يجوز منه ما ذكر، والتوسل إنما هو بتلك المنزلة التي لذلك الشخص في الحقيقة التي نالها من ربه تعالى.
وحاصل الأمر أن من علمنا بطريق صحيحة منزلته عند ربه تعالى، فأي مانع لنا من التوسل به إلى ربه الذي أعطاه هذه الرتبة لديه! وإذا جازت الشفاعة في يوم القيامة لمن لهم الشفاعة من الأنبياء والصديقين والشهداء والعلماء، فما المانع من أن الله يشفعهم في هذه الدار. وهذه الأدعية الواردة عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أصل لهذه الدعوى، فإنها واقعة منه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في هذه الدار نقلها رواة أخباره لتعليم العباد بالدعاء بها عند الشدائد، ونزول الملمات، واستجلاب الخيرات، ودفع البليات [4].
ومن فروع هذه المسألة الدعاء عند قبور الصالحين. قال العلامة شمس الدين محمد بن محمد الجزري- رحمه الله تعالى- في عدة الحصن الحصين (1): وجرت استجابة الدعاء عند قبور الصالحين انتهى.
وفي كثير من التراجم لكثير من العلماء لا يأتي عليهم الحصر: وقبره مشهور مزور، وقبره مشهور باستجابة الدعاء، وقبر فلان ترياق مجرب، وقبر فلان من دعا عنده قضيت حاجته، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة في التراجم، لا سيما ما في كتب المتصوفة كطبقات الشعراني (2)
_________
(1) (ص135) - مع هداية المستبصرين.
(2) هو عبد الوهاب بن أحمد الحنفي، نسبه إلى محمد ابن الحنفية- من المتصوفين الغلاة، ولد بمصر (898 هـ \1493 م) ونشأ بساقية أبي شعرة (من قرى المنوفية) وإليه نسبته "الشعراني" والشعراوي، مات في القاهرة 973 هـ \1565 م له مؤلفات غالبها في التصوف منها:
لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، القواعد الكشفية. انظر: الأعلام للزركلي (4/ 180 - 181).
والجندي، والشرجي، ونفحة المندل.(1/291)
ولا ريب أن الدعاء عند القبور بغير ما ورد عن الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بدعة، فقد مات في عصر النبوة أجلاء الصحابة، ومنهم حمزة أسد الله وأسد رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وشهداء أحد، وشهداء بدر، ومات عثمان بن مظعون (1) الذي بكى عليه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وعلم على قبره بصخرة ليلحق به من مات من أهله. وسعد بن معاذ (2) الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وغيرهم من أكابر الصحابة ولم يؤثر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه أرشد أحدا من أمته أنه إذا أهمته مهمة، أو نزلت به حاجة أن يأتي إلى قبر فلان من الصحابة ويقصده في قضاء الحاجات، ويتوسل به في المهمات. وعرفهم أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سيموت، ولم يرشدهم أنه إذا نابتهم نائبة أن يأتون إلى قبره الشريف، ويدعون عنده، وقبره سيد القبور، وعصره خير العصور. بل قال: "لا تتخذوا قبري عيدا" (3) وعرفهم بالمحلات والأوقات التي تستجاب فيها الدعوات، ولم يقل إن قبر سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن، أو قبر سيد الشهداء ترياق مجرب لقضاء الحاجات ونيل الطلبات.
فتعمد القبور للأدعية لديها، والتوسل بأهلها لا يخفى على متحل بالإنصاف، متخل عن الاعتساف أنه بدعة لم يأت بها أثر عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولا عن أصحابه- رضي الله عنهم - ولا عن التابعين.
وخير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع [5]
ويكفي المتدين بدين الإسلام قوله- عليه الصلاة والسلام-: " كل عمل ليس عليه
_________
(1) أخرجه الترمذي رقم (989) وأبو داود رقم (3163) وابن ماجه رقم (1456) عن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكى. أو قال عيناه تزرفان. وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3803) ومسلم رقم (2496) من حديث جابر.
(3) سيأتي تخريجه (ص 325).(1/292)
أمرنا فهو رد " (1). فأقل أحوال الممتثل للحديث أن ينظر هل جاء بقصد القبور لقضاء الحاجات أمر من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو فعل، أو تقرير؟ فإن جاء فبها ونعمت، وإن لم يجئ شيء من ذلك عرف أنه مردود.
فإن قيل: زيارة القبور سنة مثاب عليها جاءت بها السنة قولا وفعلا وتقريرا، فإذا دعا الداعي بعد الزيارة، فإن الدعاء بعد عمل الصالحات من مظان الإجابة، وهو إن لم يرد بخصوصه فهو داخل فيما ذكروه من تقديم عمل صالح قبل الدعاء.
قلت: لا ريب أن زيارة القبور من أجل الطاعات، وأن الدعاء بعد العمل الصالح من مظان الإجابة، ولعله- والله أعلم- حمل ابن الجزري وغيره على ما قالوه من استجابة الدعاء عند قبور الصالحين، فإن رحمة الله لا تعزب عن قبورهم، لكن الاعتبار بالمقاصد، فإن كان قصد الزائر إنما هو التوسل بالميت الصالح، فهذا هو الذي نعده بدعة، وإن كان القصد الزيارة للقبور فتلك سنة مثاب فاعلها، والدعاء بعدها مظان الإجابة. وقد أجمع المسلمون إجماعا فعليا على الدعاء بعد زيارة قبر الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فإن الزائر بعد إكمال الزيارة يتوجه إلى القبلة، ويستدبر القبر الشريف، وقد يستقبل بعض الناس القبر الشريف ويدعو، وهذا لا إنكار فيه من أحد، فالمأمون من مولانا
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2697) ومسلم في صحيحه رقم (1718) وأحمد (6/ 73، 270) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) والدارقطني في السنن (4/ 224 - 225، 227) والبيهقي (10/ 119) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 231 رقم 359) وابن عدي في الكامل (1/ 247) والطيالسي في المسند (ص 202 رقم 1422) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ".
وأخرج البخاري في "خلق أفعال العباد" ص 43، وأحمد في المسند (6/ 146، 180، 240، 256، 270) والبغوي في شرح السنة (1/ 211 رقم 103).
وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 397) كلهم بلفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
وأخرج ابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 398) بلفظ: "من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد".(1/293)
العلامة الإمام- نصر الله به شريعة سيد الأنام-.
بيان ما في مسألة التوسل بالأنبياء والأولياء، والدعاء عند القبور واستيفاء الكلام في ذلك، مما يجوز به المسئول أعظم الأجور.
ولقد وقفت حال همي بتحرير السؤال في ترجمة السبكي الكبير- رحمه الله- في طبقات ولده-رحمه الله- على أمر غريب من مثل السبكي. قال التاج في الطبقات (1) في ترجمة والده (2) بعد أن ذكر من علومه وصلاحه، وأثنى عليه.
ومنها ما حكاه الأخ الشيخ العلامة الإمام بهاء الدين أبو حامد، ونقلته من خطه قال: عدت من الحجاز في سنة 756 هـ ووجدته ضعيفا، فاستشارني في نزوله لولده قاضي القضاة تاج الدين عن قضاء الشام، ووجدته كالجازم بأن ذلك سيقع، وقال لي: سبب هذا أني قبل أن أمرض بأيام [6]- أغلب ظني أنه قال: خمسة أيام- رحت إلى قبر الشيخ حماد خارج باب صغير، وجلست عند قبره منفردا ليس عندي أحد، وقلت له: يا سيدي الشيخ، لي ثلاثة أولاد: أحدهم قد راح إلى الله، والآخر في الحجاز، ولا أدري حاله، والثالث هذا، وأشتهي أن موضعي يكون له، قال: فلما كان بعد أيام- أغلب ظني أنه قال: يومين أو ثلاثة- جاءني الخالدي يسير إلى شخص كان فقيرا صالحا يصحب الفقراء فقال لي: فلان يسلم عليك ويقول لك: تقاطع عليه الزورة، تروح للشيخ حماد تطلب حاجتك منه ولا تقول له. قال: فقلت له على سبيل البسط: سلم عليه وقل له: ألست تعلم أني فقيه بائس، وأن كل أحد رآني ذاهبا إلى قبر الشيخ حماد، ولكن الشيطان يقوله له: إيش حاجته؟ قال: فتوجه الخالدي إليه ثم عاد وقال: يقول لك: لا تكن تعترض على الفقراء، الشيخ حماد يقول لك: انقضت حاجتك التي هي كيت وكيت. قال: فقلت
_________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (10/ 216).
(2) وهو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام .... بن سوار بن سليم السبكي. شيخ إمام فقيه محدث أصولي نحوي متكلم.
انظر ترجمته "طبقات الشافعية" (10/ 139 - 328).(1/294)
له: أما الآن فنعم، فإن هذا لم يشعر به أحد. قال: فقلت له: سله هل ذلك كشف أو منام؟ قال: فعاد وقال: ليس ذلك إليك. انتهى المنقول من خط الأخ، انتهى المنقول من (1) الطبقات (2) وهو مما نتعجب منه ونسأل عنه.
نعم يبقى الكلام فيما لو فعل الإنسان هذا الذي قررنا أنه بدعة، يعني أنه أصابته نائبة فقصد قبر إمام من أئمة المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه، وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت لديه من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت؟ ويصدق عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، ويسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين، أو يكون فاعل معصية كبيرة، أو مكروه؟ هذا كله فيمن فعل على هذه الصورة، ثم كذلك من يأتي من العوام إلى قبور الأولياء، فيقول: يا فلان- يخاطب الولي- أنا عليك، أنا مستجير بك، أنا أنا إلى غير ذلك، ولا ريب أن هذا عاص لله تعالى، لكن هل يكون عصيانه مخرجا له من الإيمان؟ وكاسيا له ثوب الكفران [7] مع كونه يعترف بعقله ولسانه أن الله تعالى هو المسبب لجميع الأمور حقيقة لا تحوم حول حماها؟ فإذا سألته عن هذا الفعل الذي يصنعه فيقول: إن للولي كرامات عند الله، وله جاه وشفاعة، ونحو هذا جرى في أشعار كثير من علمائهم في مدح الأولياء، نحو: قم بي بأهلي وبصحبي. ونحو قول بعض الأدباء:
هات لي منك يا ابن موسى إغاثة ... عاجلا في مسيرها حثاثه
وأجرني من الزمان الذي يسر ... لي ذا البلاء بغاثه
[ونحو هذا كثير] (3)، حاصل الأمر أنها أوصاف لا تطلق إلا على الله تعالى، فإذا سألت من يتمسكها قال: لا أقول إن الولي يفعلها استقلالا، وإنما له من
_________
(1) في المخطوط مكرر.
(2) أي: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 216).
(3) في المخطوط مكرر.(1/295)
الكرامات (1) بعد الممات ما ينجو به الداعي لديه، والمستجير به، وهذا لا ريب في خطئه إنما الشأن في كفر فاعله، ومعاملته معاملة المرتد في جميع أحواله، بحيث لو تيسر للإنسان قتله لقتله، أو لو تيسرت أمواله لأخذها، فإن كان الأمر هكذا، فما بال أئمة المسلمين وعلماء الدين لم يناشدوا أهل هذه الجهات التهامية واليمنية والشامية كصعدة وأحوالها بالقتال، ويذيقونهم أشد النكال! وقد أمرهم الله تعالى بالقوة التي لا تنكر، والأمداد الذي هو أشهر من أن يشهر. وإن كان الأمر مفضيا إلى الفسق فالمطلوب تحقيق هذا السؤال بأطرافه، ولا يمنع مولاي-حفظه الله وحماه- سوء أدب السائل لتحرير السؤال على غير قاعدة السؤال، فإنه إنما عرض ما في خلده الملازم للاختلال، ليتبين للمسؤل علة السؤال، فيرشد إلى دواء ذلك الاعتلال، والله تعالى هو المطلع على خفيات السرائر، ونسأله أن يغفر لنا الكبائر من الذنوب والصغائر والسلام ختام.
ومن تمام الفائدة المطلوبة نقل ما تكلم به ابن تيمية (2) وتلميذه (3) في الدعاء عند القبور، والتكلم عليه نفيا أو إثباتا، فقد أطال الكلام في مواضع من كتبه. ومحط الفائدة هل تلك الكلمات الصادرة من العوام أو الخواص عبادة لغير الله أم لا (4)؟ والله الهادي وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله.
الحمد لله، أورد السيوطي- رحمه الله- في الدر المنثور (5) في تفسير قوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب .. (6). أحاديث كثيرة في النهي عن اتخاذ المحلويب (7) في
_________
(1) انظر: رسالة "بحث في التصوف" رقم (25) من القسم الأول. وسيأتي مناقشة ذلك خلال رسالتنا هذه.
(2) انظر اقتضاء الصراط (2/ 569، 776) وسيأتي.
(3) أي ابن القيم انظر: "مدارج السالكين" (1/ 385) وسيأتي، "إغاثة اللهفان" (1/ 288).
(4) وانظر ذلك خلال الجواب وتعليقنا عليه.
(5) (2/ 184 - 191).
(6) [آل عمران: 37].
(7) قال الشيخ الألباني في الضعيفة (1/ 647) وجملة القول: إن المحراب في المسجد بدعة، ولا مسوغ لجعله من المصالح المرسلة، ما دام أن غيره
مما شرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم مقامه مع البساطة، وقلة الكلفة، والبعد عن الزخرفة " اهـ.
قال ابن حزم في "المحلى" (4/ 239) رقم المسألة (497): " وتكره المحاريب في المساجد ... قال علي: أما المحاريب فمحدثه، وإنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف وحده ويصف الصف الأول خلفه اهـ.(1/296)
المساجد فالسؤال:
أولاً: عن رتبة تلك الأحاديث.
ثانيًا: عن صفة المحاريب المنهي عن اتخاذها، هل هي الطاقات كما في بعض الآثار التي سردها، أم هذه المحاريب التي توجد الآن في المساجد؟
ثالث: عن محراب الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الذي كان في عهده كيف صفته، وهل غير الآن عن صفته الذي كان عليها؟
رابعًا: هل يظهر لكم عله للنهي لعلها زالت فحصل الإقدام من الناس على هذه المحاريب على فرض أنها هي المنهي عنها.
وقد ساق السيوطي تلك الأحاديث بعينها في الخصائص (1) الكبرى فنقلتها بلفظه، قال: باب: اختصاصه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بكراهة الصلاة في المحراب. وقد كان لمن قبلنا، كما قال تعالى:} فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب {(2).
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (3) عن موسى الجهني قال: قال رسول الله- صلى الله
_________
(1) (2/ 206)
(2) [آل عمران: 39]
(3) (2/ 59) وهو حديث ضعيف. قال الألباني في " الضعيفة " (1/ 640): وهذا سند ضعيف وله علتان:
الأولى: الإعضال، فإن موسى الجهني، وهو ابن عبد الله- إنما يروي عن الصحابة بواسطة التابعين، أمثال: عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي ومجاهد، ونافع وغيرهم، فهو من أتباع التابعين، وفيهم أورده ابن حبان في ثقاته (7/ 449).
وعليه، فقول السيوطي في "إعلام الأريب بدعة المحاريب" (ص 68) بتحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق: "إنه مرسل" ليس دقيقا،؛ لأن المرسل في عرف المحدثين إنما هو قول التابعي: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ليس كذلك.
الأخرى: قال: الحافظ في "التقريب": "صدوق سيئ الحفظ" وهذا ما وقع في نسختنا المخطوطة من "المصنف" ووقع فيما نقله السيوطي عنه في "الإعلام": (إسرائيل)، يعني: إسرائيل بن أبي يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، وهو من طبقة أبي إسرائيل، وكلاهما من شيوخ وكيع، ولم أستطع البت بالأصح من النسختين، وإن كان يغلب على الظن الأول، فإن نسختنا جيدة مقابلة بالأصل. نسخت سنة 735 هـ، وبناء على ما وقع للسيوطي قال:" هذا مرسل صحيح الإسناد".
وقد عرفت أن الصواب أنه معضل، وهذا إن سلم من أبي إسرائيل وما أظنه بسالم، فقد ترجح عندي أن الحديث من روايته، بعد أن رجعت إلى نسخة أخرى في "المصنف" (1/ 188\ 1) فوجدتها مطابقة للنسخة الأولى فالسند ضعيف مع إعضاله، ثم رأيته كذلك في المطبوعة (2/ 59). اهـ.(1/297)
عليه وآله وسلم-: "لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى". وأخرج ابن أبي شيبة (1) عن عبيد بن الجعد قال: كان أصحاب محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد، يعني الطاقات. وأخرج ابن أبي شيبة (2) عن ابن مسعود قال:" اتقوا هذه المحارب". وأخرج ابن أبي شيبة (3) عن أبي ذر قال: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد.
وأخرج ابن أبي شيبة (4) عن علي أنه كره الصلاة في الطاق. وأخرج مثله (5) عن الحسن وإبراهيم النخعي (6)، وسالم بن أبي
_________
(1) في مصنفه (2/ 59). ولكنه عن سالم بن أبي الجعد، وليس عبد الله بن أبي الجعد كما في المخطوط.
(2) في المصنف (2/ 59 - 60) بسند صحيح.
(3) في مصنفه (2/ 60).
(4) في مصنفه (2/ 59).
(5) في مصنفه (2/ 59).
(6) في مصنفه (2/ 59).(1/298)
الجعد (1)، وأبي خالد الوالي. وأخرج الطبراني (2) والبيهقي في سننه (3) عن أبي عمر مرفوعا: اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب ...... انتهى منه.
بعد تحرير هذا وقفت على شرح المناوي (4) لحديث: اتقوا هذه المذابح، يعني: المحاريب، ففسر المحاريب بصدور المجالس أي تجنبوا صدور المجالس، قال: ووقع للمصنف أنه جعل هذا نهيا عن اتخاذ المحاريب في المساجد والوقوف فيها. وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد بدعة، وظنوا أنه كان في زمن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولم يكن في زمنه ولا في زمن خلفائه، بل حدث في المائة الثانية مع ثبوت النهي عنه، ثم ردة المناوي، وقال: إن ابن الأثير (5) فسر المحاريب بصدور المجالس، وتبعه غيره، ونقل فيه كلمات محتملة ليس فيها صرت الرد لما فهمه السيوطي، ثم نقل كلام ابن الهمام في الفتح القدير (6)، وسيحيط الجواب منكم- إن شاء الله- بجميع ما فيه، وإثبات ما يثبته البال، ونفي ما ينفيه.
والسلام.
_________
(1) في مصنفه (2/ 59) بسند صحيح.
(2) كما في "مجمع الزوائد" (8/ 60) وقال الهيثمي: "وفيه عبد الله بن مغراء، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش، وليس هذا منها.
(3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 439) بسند حسن.
(4) في "فيض القدير شرح الجامع الصغير" (1/ 144).
(5) في النهاية (1/ 359).
(6) في شرح فتح القدير (1/ 425). وللإمام الشوكاني بحث في "المحاريب" سيأتي في القسم الرابع "الفقه وأصوله" من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(1/299)
وصف المخطوط
1 - عنوان المخطوط: الدر النضيد في إخلاص التوحيد.
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
4 - آخر الرسالة: .. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. انتهى تحريره بقلم مؤلفه في ليلة الأحد لسبع مضت من شهر رجب سنة\214 هـ حامدا ومصليا مسلما على رسوله وآله.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - عدد الصفحات:\60\صفحة. الصفحة الأولى هي للعنوان.
7 - المسطرة: 23 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة.
9 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.(1/301)
[الجواب]
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك، وبعد:
فإنه وصل إلى الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني، غفر الله له ذنوبه، وستر عن عيون الناس عيوبه- سؤال من عالم مفضال، عارف بما قد قيل وما يقال في مدارك الحرام والحلال عند اختلاف الأقوال، وتباين آراء الرجال، وهو العلامة الفهامة الأفخم محمد بن أحمد بن محمد (1) مشحم كثر الله فوائده، ومد على أهل العلم موائده.
وحاصل السؤال هو عن التوسل بالأموات المشهورين بالفضل وكذلك الأحياء والاستغاثة هم ومناجاتهم عند الحاجة من نحو: " على الله وعليك يا فلان" و" وأنا بالله وبك " وما يشابه ذلك، وتعظيم قبورهم واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، ونجاح طلبات السائلين، وما حكم من فعل شيئا من ذلك، وهل يجوز قصد قبور الصالحين لتأدية الزيارة ودعاء الله عندها من غير استغاثة بهم، بل للتوسل بهم فقط؟
فأقول مستعينا بالله: اعلم أن الكلام على هذه الأطراف يتوقف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف والالتباس، فمنها الاستغاثة بالغين المعجمة، والمثلثة، ومنها الاستعانة بالعين المهملة والنون، ومنها التشفع ومنها التوسل.
[معنى الاستغاثة] (2)
فأما الاستغاثة بالمعجمة والمثلثة: فهي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار وهو
_________
(1) تقدمت ترجمته (285).
(2) الاستغاثة: فقد اتفقت المصادر على أن معناه طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كما أن الاستنصار طلب النصر، والاستغاثة طلب العون، فيقال: استغاثه استغاثة فأغاثه إغاثة وغوثا وغياثا.
ويرى ابن الأثير: أن الإغاثة والإعانة بمعنى واحد. وعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة، ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته، إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة بخلاف الاستعانة. النهاية (3/ 400) ولسان العرب (10/ 153).(1/305)
طلب النصر، ولا خلاف أنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق، فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال فهو في غاية الوضوح، وما أظنه يوجد فيه خلاف، ومنه:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {(1). وكما قال:} وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر {(2). وكما قال تعالى:} وتعاونوا على البر والتقوى {(3). وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يستغاث فيه إلا به كغفران الذنوب، والهداية، وإنزال المطر والرزق، ونحو ذلك كما قال تعالى:} ومن يغفر الذنوب إلا الله {(4). وقال:} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء {(5)، وقال:} يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض {(6).
وعلى هذا يحمل ما أخرجه الطبراني في معجمه (7) الكبير أنه كان في زمن النبي- صلى
_________
(1) [القصص:15]
(2) [الأنفال:72]
(3) [المائدة:2]
(4) [آل عمران:135]
(5) [القصص: 56]
(6) [فاطر: 3]
(7) أورده الهيثمي في المجمع (10/ 159) وقال: رواه الطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث.
قلت: وأخرجه أحمد في المسند (5/ 317) بإسناد ضعيف من حديث عبادة بن الصامت، قال:" خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا المنافق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يقام لي، إنما يقام لله تبارك وتعالى".
وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 40) وعزاه لأحمد وقال: "وفيه راو لم يسم، وابن لهيفة ".
والخلاصة أن حديث عبادة بن الصامت ضعيف والله أعلم.(1/306)
الله عليه وآله وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر: قوموا بنا نستغيث برسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من هذا المنافق، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ".
فمراده أن- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما ما يقدر عليه المخلوق فلا مانع من ذلك، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل الحجر، أو يحول بينه وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعا صائلا، أو لصا، أو نحو ذلك.
وقد ذكر أهل العلم: أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه، وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه، ولغيره مجاز. ومن أسمائه المغيث والغياث.
قال أبو عبد الله الحليمي (1) الغياث (2) هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم (3).
وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين [2] (4): "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" يقال: أغاثه
_________
(1) هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم، البخاري، الشافعي، فقيه، محدث، أديب، ولد ببخارى سنة 338 هـ ونشأ بها، وولي القضاء، وتوفي في ربيع الأول سنة 403هـ.
من تصانيفه: المنهاج في شعب الإيمان، آيات الساعة وأحوال الساعة. انظر: تذكرة الحفاظ (3/ 219) شذرات الذهب (3/ 167 - 168).
(2) المغيث: اسم من الأسماء الحسنى الزائدة عن الأسماء المعروفة.
انظر: موسوعة له الأسماء الحسنى (ص 15) الدكتور أحمد الشرباصي.
وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 111): " قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة، قالوا واجتمعت الأمة على ذلك.
قلت: وحديث أبي هريرة بسياق الأسماء ضعيف.
(3) ذكره ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 111).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1014) ومسلم في صحيحه رقم (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه(1/307)
إغاثة وغياثة وغوثا، وهو في معنى المجيب والمستجيب. قال تعالى:} إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {(1)، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة بالأقوال. وقد تقع كل منهما موقع الآخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه (2) ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن تطلب من الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر وإما مخطئ ضال.
وأما بالمعنى الذي نفاها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو أيضًا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضًا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها.
ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي (3): استغاثة المخلوق (4) بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي
_________
(1) [الأنفال:9].
فالاستغاثة في هذه الآية دعاء لكنه دعاء خاص، فلو لم تكن دعاء لكانت مقابلتها بالإجابة غير وجيه.
(2) مجموع فتاوى (1/ 112).
(3) هو طيفور بن عيسى البسطامي من الأعلام، كان جده مجوسيا وأسلم، وهم ثلاثة أخوة: آدم وطيفور وعلي، وكلهم زهاد عباد، من الصوفية، وأبو يزيد أجلهم حالا، مات سنة 261 هـ وقيل: سنة 264هـ.
حلية الأولياء (33 - 42) طبقات الأولياء (ص 398).
قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (13/ 257): وقد جمع أبو الفضل الفلكي- علي بن الحسين بن أحمد بن الحسن الهمداني- كتابا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد- رحمة الله عليه- وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(4) ذكره ابن تيمية في الفتاوى (1/ 112، 330).(1/308)
عبد الله (1) القرشي: استغاثة المخلوق (2) بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وأما الاستعانة بالنون فهي طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابته، أو يبلغ رسالته، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله- جل جلاله- فلا يستعان فيه إلا به. ومنه:} إياك نعبد وإياك نستعين {(3)
_________
(1) هو عبد الله بن محمد القرشي التونسي، صوفي كبير الشأن عند المتصوفة، ولد بالإسكندرية سنة 637 هـ ومات بتونس سنة 699 هـ.
"الطبقات الكبرى": (1/ 159) "طبقات الأولياء": (ص 488).
(2) ذكره ابن تيمية في " الفتاوى " (1/ 112و 330).
(3) [الفاتحة: 4].
فائدة: النسبة بين الاستغاثة والدعاء:
من المعلوم أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، كما قال تعالى} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {[القصص: 15] والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب ومن غيره " تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" للشيخ سليمان بن عبد الله (ص 214).
فالاستغاثة دعاء لكنه دعاء خاص فلو لم تكن دعاء لكانت مقابلتها بالإجابة غير وجيه، وقد قال تعالى:} إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم {[الأنفال:9].
ولتوضيح النسبة بين الاستغاثة والدعاء لا بد من بيان أن الدعاء في القرآن والسنة نوعان:
الأول: دعاء عبادة، وهذا النوع ورد كثيرا في القرآن كقوله تعالى:} فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين {[الشعراء: 213].
النوع الثاني: دعاء المسألة، وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ومن أدلته قوله تعالى:} قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ {[الأنعام: 40 - 41].
فائدة: أنواع الاستغاثة:
الأول: طلب إزالة الشدة من المخلوق في الأسباب الظاهرة والأمور الحسية العادية، على أن يكون المستغاث به حيا حاضرا، كالاستنصار بالحاضر القوي على قتال، أو دفع عدو صائل، أو سبع مفترس، ونحو ذلك من كل ما يقدر المخلوق على الغوث فيه، وهذا النوع لا خلاف في جوازه.
والأصل في جوازه قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام:} فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه {[القصص: 15].
وقوله تعالى:} وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر {[الأنفال: 72].
وقوله تعالى:} وتعاونوا على البر والتقوى {[المائدة: 2]. مع ملاحظة أنه لا بد من توفر شرطين وهما:
1 - ) شرط في المستغاث لأجله، بأن يكون مما يقدر المخلوق على الإغاثة في مثله.
2 - ) وشرط في المستغاث به، بأن يكون حيا حاضرا فلو تخلف شرط منهما خرجت الاستغاثة عن حيز الجواز إلى حيز الشرك أو الابتداع.
الثاني: طلب الغوث فيما لا يقدر عليه إلا الله، كإنزال المطر، هداية القلوب وغفران الذنوب.
أو كان فيما يقدر عليه المخلوق عادة لكن المستغاث به إما ميت راقد في قبره، وإما حي لكنه غائب مع اعتقاده أن الاستغاثة تبلغه أينما كان. وهذا النوع لا شك في عدم جوازه فمن اعتقد أن مقدسه المخلوق يقدر عن محو ذنوبه أو هداية قلبه أو على إنزال المطر أو تيسير رزقه بمجرد المشيئة، أو اعتقد أن ذلك المقدس يسمع استغاثاته وهو راقد في قبره، أو غائب عنه فهو مشرك بعقيدته هذه قبل أن يتوجه إلى المقدس بالاستغاثة.
وعلى هذا نص جميع العلماء المحققين فقال ابن تيمية: "ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا- كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ". الفتاوى (1/ 112، 332).
وقال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط " (2/ 683): وهذه البدعة الكفرية إنما حدثت في العصور المتأخرة لما شاعت الخرافات وانتشر الجهل وعمت الأقاليم الإسلامية مغالطات المتصوفة وأباطيلهم، وإلا فلم يكن من حال السلف أن يستغيثوا بغير الله أبدا ".(1/309)
[حكم التشفع بالمخلوق]
وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب [3] الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا، وثبت بالسنة المتواترة (1)، واتفاق جميع الأمة
_________
(1) تقدم شرحها (منها): ما أخرجه البخاري رقم (6305) ومسلم رقم (341/ 200) عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".
(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (6304) ومسلم رقم (334/ 198) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ".
(ومنها): حديث الشفاعة وهو حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3340) ومسلم رقم (327/ 194) من حديث أبي هريرة وفيه: " ... يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ".
(ومنها): ما أخرجه البخاري رقم (614) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة".(1/310)
أن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - هو الشافع المشفع، وأنه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه، ولم يقع الخلاف إلا في كونها لمحو ذنوب المذنبين، أو لزيادة ثواب المطيعين. ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط.
وفي سنن أبي داود (1) أن رجلا قال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: "شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"، فأقره على قوله نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك. وسيأتي تمام الكلام في الشفاعة.
_________
(1) في السنن رقم (4726).
قلت: وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (ص 103 - 104) وابن أبي عاصم رقم (575) والطبراني في الكبير رقم (1547) والبغوي في شرح السنة (1/ 175) واللالكائي (3/ 395 - 396) من حديث جبير ابن مطعم. وهو حديث ضعيف.(1/311)
[التوسل]
وأما التوسل (1) إلى الله سبحانه بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه فقد قال
_________
(1) معنى التوسل:
التوسل لغة: مأخوذ من الوسيلة، والوسيلة والوصيلة والتوسل والتوصل معناهما متقارب، لأن السين والصاد دائما يتناوبان يعني أحدهما يستعير مكان الآخر، ولهذا يقرأ قوله تعالى:} اهدنا الصراط المستقيم {[الفاتحة: 6] ويقرأ:} اهدنا السراط {بالسين كلاهما قراءة سبعية فيجوز أن تقرأ:} اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم {[الفاتحة: 6 - 7] أو تقول: {اهدنا السراط المستقيم سراط الذين أنعمت عليهم}.
فالتوسل والتوصل معناهما متقارب جدا. والوسيلة هي: السبب الموصل إلى المقصود.
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (5/ 279).
والتوسل شرعا: عبادة يراد بها التوصل إلى رضوان الله والجنة، ولهذا نقول: جميع العبادات وسيلة إلى النجاة من النار ودخول الجنة، فكل الأعمال الصالحة كلها وسيلة، والغرض من الأعمال الصالحة قوله تعالى:} فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز {[آل عمران: 185].
التوسل إلى الله تعالى هو اتخاذ وسيلة لإجابة الدعاء، والتوسل في دعاء الله أن يقرن الداعي في دعائه ما يكون سببا في قبول دعائه، ولا بد من دليل عن كون هذا الشيء سببا للقبول. ولا يعلم ذلك إلا من طريق الشرع.
أقسام التوسل:
توسل مشروع وهو ما كان بوسيلة جاءت بها الشريعة وهو أنواع:
1 - ): التوسل إلى الله تعالى بأسمائه.
2 - ): التوسل إلى الله تعالى بصفاته.
3 - ): التوسل إلى الله تعالى بأفعاله.
4 - ): التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به.
5 - ): التوسل إلى الله تعالى بحال الداعي.
6 - ): التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح الذي ترجى إجابة دعائه.
7 - ): التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح.
وستجد أمثلة ذلك خلال الرسالة.
ثانيًا: التوسل الممنوع: وهو ما كان بوسيلة لم تثبت في الشرع وهو نوعان:
1 - ): توسل المشركين بأصنامهم وأوثانهم وتوسل الجاهلين بأوليائهم.
2 - ): توسل يكون بوسيلة سكت عنها الشرع.
انظر قاعدة جليلة (ص 17 - 82).(1/312)
الشيخ عز الدين بن عبد السلام (1): إنه لا يجوز (2) التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إن صح الحديث فيه، ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي (3) في سننه، والترمذي (4) وصححه، وابن ماجه (5) وغيرهم (6): أن أعمى أتى إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، إني أصبت في بصري فادع الله لي، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد إني أشفع بك في رد بصري، اللهم شفع نبيي في " وقال: " فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك " (7) فرد الله بصره.
_________
(1) ستأتي ترجمته في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24).
(2) ذكره ابن تيمية في " الفتاوى " (1/ 347).
(3) في عمل اليوم والليلة رقم (658 - 660).
(4) في السنن رقم (3578). وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(5) في السنن رقم (1385).
(6) كأحمد في المسند (4/ 138) والحاكم في المستدرك (1/ 313) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ... كلهم من حديث عثمان بن حنيف. وهو حديث صحيح.
(7) قال ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 151: فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقا حيا وميتا. وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه. ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم. ويظنوا أن التوسل به لا يحتاج إلى أن يدعو لهم ولا أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه، ويظنون أن الله يقضي حاجة هذا الذي توسل به، بزعمهم ولم يدع له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كلاهما متوسل به عندهم ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ما أمر به الأعمى مشروع لهم، وقول هؤلاء باطل شرعا وقدرا، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله.(1/313)
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لما قال: كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسلك إليك بعم نبينا.
وهو في صحيح البخاري (1) وغيره، فقد ذكر عمر -رضي الله عنه- أنهم كانوا يتوسلون بالنبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[4] في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله. والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان مثل هذا شافعا وداعيا لهم.
والقول الثاني: أن التوسل به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يكون في حياته وبعد موته (2)، وفي حضرته ومغيبه. ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حياته، وثبت التوسل بغيره من الأحياء بعد موته بإجماع الصحابة سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر -رضي الله عنه- في توسله بالعباس -رضي الله عنه-.
وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما زعمه الشيخ عز (3) بن عبد السلام لأمرين:
_________
(1) في صحيحه رقم (1010) وطرفه (3710).
(2) قال ابن تيمية في قاعدة التوسل والوسيلة (ص 152): فلو كان التوسل به حيا وميتا سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به -وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة- إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله. وكذلك لو كان أعمى توسل به ولم يدعو له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة أو بعضهم مثل ما فعل الأعمى فعدولهم عن هذا إلى هذا- مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع وما لم يشرع ولا ينفع وما يكون أنفع من غيره. وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن - دليل على أن المشروع ما سألوه دون ما تركوه.
(3) ذكره ابن تيمية في " الفتاوى " (1/ 347).(1/314)
الأول: ما عرفناك به من إجماع الصحابة.
والثاني: أن التوسل إلى الله بأهل الفضل (1) والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة، ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعا لم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم. وقد ثبت في الصحيحين (2) وغيرهما أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله، فارتفعت الصخرة فلو كان التوسل بالأعمال الفاضله غير جائز، أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام، ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم.
وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون من التوسل إلى الله بالأنبياء [5] والصلحاء من نحو قوله تعالى:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {(3)، ونحو قوله تعالى:
_________
(1) والتوسل بأهل الفضل، والرجل الصالح مقيد بأمور منها:
أولاً: أن يكون المتوسل به حيا حاضرا وهو ما يوضحه توسل عمر بالعباس. قال ابن تيمية في قاعدة جليلة (ص80 - 81): وأما التوسل بدعائه وشفاعته -كما قال عمر- فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان والطاعة له فإنه مشروع دائما.
ثانيًا: أن المتوسل لا بد أن يقوم بعمل ما، وهذا ما يؤكد أن التوسل ليس بذاته وإنما هو بدعائه وتضرعه إلى الله تعالى وهو ما يوضحه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عندما توسل الأعرابي بدعائه: " اللهم أغثنا اللهم أغثنا" تقدم تخريجه رافعا يديه.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2272) ومسلم في صحيحه رقم (100/ 2743). من حديث ابن عمر.
(3) [الزمر:3].(1/315)
} فلا تدعوا مع الله أحدا (1) ونحو قوله تعالى: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (2) ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبى عنه؛ فإن قوله: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (3) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك، وكذلك قوله: {فلا تدعوا مع الله أحدا} (4) فإنه نهي عن أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول: بالله ويا فلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم، وكذلك قوله: {والذين يدعون من دونه} (5) الآية، فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه، ولا دعا غيره معه.
وإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ما ذكرناه، كاستدلالهم بقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} (6) [6] فإن هذه الآية الشريفة ليس فيها إلا أنه تعالى المتفرد بالأمر في يوم الدين، وأنه ليس لغيره من الأمر شيء، ولا يملك لغيره من الأمر شيئا، والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله -جل جلاله- في أمر يوم الدين، ومن اعتقد هذا لعبد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو في ضلال مبين.
_________
(1) [الجن:18].
(2) [الرعد:14].
(3) [الزمر: 3].
(4) [الجن:18].
(5) [الرعد:14].
(6) [الانفطار: 17 - 19] وانظر " الفتاوى" لابن تيمية (1/ 114 - 120).(1/316)
وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء (1)،} قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا {(2) فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من أمر الله شيء، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملكه لغيره وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء، أو الأولياء، أو العلماء.
وقد جعل الله لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه، وقاله له: " سل تعطه، واشفع تشفع " (3) وقيد ذلك في كتابه العزيز بأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه (4)، ولا تكون إلا لمن ارتضى. ولعله يأتي تحقيق هذا المقام إن شاء الله.
وهذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لما نزل قوله تعالى:} وأنذر عشيرتك الأقربين {(5)، " يا فلان ابن فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا بني فلان لا أملك لكم [7] من الله شيئا" (6)، فإن هذا ليس فيه إلا أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يستطيع نفع من أراد الله ضره، ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله، وهذا معلوم لكل مسلم، وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو
_________
(1) [آل عمران: 128].
(2) [الأعراف:188].
(3) تقدم تخريجه (ص311).
(4) لقوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 23].
وقوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته وهم مشفقون) [الأنبياء:28].
(5) [الشعراء:214].
(6) أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (351/ 206) والترمذي رقم (3185) والنسائي (6/ 248) من حديث أبي هريرة.(1/317)
طلب الأمر ممن له الأمر والنهي، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبته ما يكون سببا للإجابة ممن هو المتفرد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدين.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الرزية كل الرزية، والبلية كل البلية أمر غير ما ذكرناه من التوسل المجرد، والتشفع ممن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله -جل جلاله- ويفعلون بهم ما لا يفعله إلا الله -عز وجل- حتى نطقت ألسنتهم مما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله تعالى، وتارة استقلالا، ويصرحون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعا زائدا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء.
وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري ما هو الشرك، وإذا لم يكن كفرا فليس في الدنيا كفر [8].
[الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم التمائم]
وها نحن نقص عليك أدلة في كتاب الله -سبحانه-، وفي سنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيها المنع مما هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التصريح بأنه شرك، وهو بالنسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير، وبعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال. فمن ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده (1) بإسناد لا بأس به عن عمران بن حصين أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلا بيده حلقة من صفر، فقال (ما هذه؟) قال: من الواهنة، قال: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، ولو مت وهي عليك ما
_________
(1) (4/ 445).
قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (3531) والحاكم (4/ 216) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وهو حديث ضعيف لأن الحسن لم يسمع من عمران بن الحصين كما في المراسيل (ص 40).(1/318)
أفلحت ".
وأخرج (1) أيضًا عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " وفي رواية (2): " من تعلق تميمة فقد أشرك "، ولابن أبي حاتم (3) عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط للحمى فقطعه، وتلا:} وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون {(4) وفي الصحيح (5) عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: " ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت " ... وأخرج أحمد (6) وأبو داود (7) عن ابن
_________
(1) أي أحمد في مسنده (4/ 154).
وأخرجه الحاكم (4/ 216) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
قلت: وليس كذلك لأن فيه خالد بن عبيد المعافري ليس من رجال الأمهات وهو مجهول روى عنه حيوة بن شريح فقط ولم يوثقه إلا ابن حبان.
وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 103) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات " اهـ. وهو حديث ضعيف.
(2) عند أحمد في المسند (4/ 156).
وأورده الهيثمي في المجمع (5/ 103) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات ". وهو حديث حسن.
(3) في تفسيره (7/ 2208 رقم 12040).
وذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 512) روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه -أو انتزعه- ثم قال: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) [يوسف: 106].
(4) [يوسف: 106].
(5) أخرجه البخاري رقم (3005) ومسلم رقم (2115).
(6) في المسند (1/ 381).
(7) في السنن رقم (3883). وأخرجه ابن ماجه رقم (3530) والحاكم (4/ 317) والبغوي في شرح السنة (12/ 156 - 157) والطبراني في الكبير (10/ 262). وللحديث شواهد. فهو بها حسن. انظر " الصحيحة" (1/ 584 - 585).(1/319)
مسعود: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة (1) شرك ". وأخرج أحمد (2) والترمذي (3) عن عبد الله بن حكيم مرفوعا: " من تعلق شيئا وكل إليه ". وأخرج أحمد (4) عن رويفع قال: قال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة، أو عظم، فإن محمدا بريء منه".
فانظر كيف جعل الرقى والتمائم والتولة شركا وما ذلك إلا لكونها مظنة لأن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثيرا في الشفاء من الداء، وفي المحبة والبغضاء، فكيف. بمن [9] نادى غير الله، وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، واعتقد استقلاله بالتأثير أو اشتراكه مع الله عز وجل.
ومن ذلك ما أخرجه الترمذي (5) وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة
_________
(1) في حاشية المخطوط: هي شيء يضعونه يزعمون أنه يجيب المرأة إلى زوجها والعكس. تمت منه.
(2) في المسند (4/ 310 - 311).
(3) في السنن رقم (2072). وهو حديث حسن لغيره.
(4) في المسند (4/ 108 - 109). وأخرجه أبو داود رقم (36) والنسائي (8/ 135 - 136) وهو حديث صحيح.
(5) في السنن رقم (2180) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 218) وعبد الرزاق (11/ 369) والحميدي في مسنده (2/ 375) والطيالسي (ص 191 رقم 1346) وابن أبي عاصم (1/ 37) والطبراني في الكبير (3/ 243 رقم 3290 - 3294). وهو حديث حسن.(1/320)
فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل:} اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون {(1) لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فهؤلاء إنما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك، ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور، فأخبرهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح، وأنه بمنزلة طلب آلهة غير الله.
ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه (2) عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: حدثني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض ". وأخرج أحمد (3) عن طارق بن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وآله
_________
(1) [الأعراف:138].
(2) رقم (1978). وأخرجه أحمد (1/ 118؛ 252) وعبد الله في زوائد المسند (1/ 108) والنسائي (7/ 232) وأبو يعلى رقم (342/ 602) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 99) والحاكم (4/ 153) والبخاري في الأدب المفرد رقم (17) والبغوي في شرح السنة رقم (2788) من طرق. وهو حديث صحيح.
(3) في كتاب الزهد: (ص 32 - 33 رقم 84) وأبو نعيم في " الحلية " (1/ 203) عن طارق بن شهاب، عن سلمان الفارسي موقوفا بسند صحيح.
في كتاب الزهد حدث (خطأ) وهو سليمان بدل سلمان.
وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمسي، أبو عبد الله، رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو رجل.
قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمع منه شيئا.
قال الحافظ إذا ثبت أنه لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه. فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة 83 هـ. "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (ص 159).(1/321)
وسلم- قال: " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب " قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئا، فقالوا لأحدهم: [10] قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت أقرب لأحد دون الله -عز وجل- فضربوا عنقه فدخل الجنة ".
فانظر لعنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لمن ذبح لغير الله، وإخباره بدخول من قرب لغير الله النار، وليس في ذلك إلا مجرد كون ذلك مظنة للتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، فما ظنك بما كان شركا بحتا!.
قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع لأنه مكسب حلال فهو عبادة ... ويتحصل من ذلك شكل قطعي هو إراقة دماء الأنعام عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلا لله. ودليل الكبرى قوله تعالى:} اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {(1)،} فإياي فاعبدون {(2)،} إياك نعبد {(3)،} وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه {(4)،} وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين {(5).
[الحلف بغير الله شرك]
ومن ذلك أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الحلف بغير الله وقال: " ومن
_________
(1) [الأعراف:59].
(2) [العنكبوت: 56].
(3) [الفاتحة:4].
(4) [الإسراء: 23].
(5) [البينة:5].(1/322)
حلف فليحلف بالله أو ليصمت" (1)، وقال: " من حلف بملة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالما" (2)، أو كما قال: وسمع رجلا يحلف باللات والعزى فأمره أن يقول: لا إله إلا الله (3). وأخرج الترمذي (4) وحسنه، والحاكم (5) وصححه، من حديث عمر أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك ".
وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها أن الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام، وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه، فكيف بما كان شركا محضا يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق في طلب النفع، واستدفاع الضر، وقد يتضمن تعظيم المخلوق زيادة على تعظيم الخالق كما يفعله كثير من المخذولين، فإنهم يعتقدون أن لأهل القبور من جلب النفع، ودفع الضر ما ليس لله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-، فإن أنكرت هذا فانظر أحوال [11] كثير من هؤلاء المخذولين، فإنك تجدهم كما
_________
(1) وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (6646) ومسلم رقم (3/ 1646). من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه أبو داود رقم (3258) والنسائي (7/ 6 رقم 3772) وابن ماجه رقم (2100) من حديث بريدة بن الحصيب. وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1607، 6301) ومسلم رقم (1647) والترمذي رقم (1545) والنسائي (7/ 7) وابن ماجه رقم (2096) والبيهقي (1/ 148 - 149) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح.
(4) في السنن رقم (1535).
(5) في المستدرك (4/ 297) و (1/ 18) وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في الموضعين. مع أن البخاري لم يخرج للحسن بن عبيد الله شيئا. وأخرجه أحمد (2/ 125) وأبو داود رقم (3251) والبيهقي (10/ 29) وأخرجه بنحوه الطيالسي رقم (1896) وعبد الرزاق رقم (15926) وأحمد (2/ 34). وهو حديث صحيح.(1/323)
وصف الله -سبحانه-:} وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون {(1).
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (2) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند موته أنه كان يقول: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا. وأخرج مسلم (3) عن جندب بن عبد الله أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك ". وأخرج أحمد (4) بسند جيد، وأبو حاتم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التصريح بلعن من اتخذ القبور مساجد، مع أنه لا يعبد إلا الله، وذلك لقطع ذريعة التشريك، ودفع وسيلة التعظيم.
وورد ما يدل على أن عبادة الله عند القبور بمنزلة اتخاذها أوثان تعبد. أخرج مالك في الموطأ (5) أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا
_________
(1) [الزمر:45].
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 436) ومسلم في صحيحه رقم (22/ 531).
(3) في صحيحه رقم (23/ 532).
(4) في المسند (1/ 405؛ 435). وأخرجه ابن خزيمة رقم (789) والطبراني في الكبير رقم (10413) والبزار رقم (3420 - كشف) وعلقه البخاري في صحيحه رقم (7067) وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2/ 27) وقال: رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن وأورده أيضًا (8/ 13) وقال رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة. وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. وهو حديث حسن.
(5) (1/ 172 رقم 85) مرسلا. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 240 - 241) من طريق عطاء بن يسار مرسلا بسند صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (1/ 406 رقم 1587) عن زيد بن أسلم مرسلا. وأخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (3/ 345) عن زيد بن أسلم مرسلا بسند صحيح.
وأخرجه أحمد موصولا (2/ 246) والحميدي (2/ 445 رقم 1025) وأبو نعيم في " الحلية " (6/ 283) و (7/ 317) عن أبي هريرة بسند حسن بلفظ -المصنف-.
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف" (3/ 577 رقم 6726) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 345) عن ابن عجلان، عن سهل، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: ورأى رجلا وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو له ويصلي عليه فقال حسن للرجل: لا تفعل فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تتخذوا بيتي عيدا ... " وهو مرسل، وسهل ذكره ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود رقم (2042) مرفوعًا " لا تتخذوا قبري عيدا ... " وهو حديث حسن.
وله شاهد آخر أخرجه إسماعيل الجهضمي في " فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رقم (20) وأبو يعلى في " المسند " (1/ 361 رقم 209/ 469) والحديث بهذه الطرق صحيح والله أعلم.(1/324)
يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وبالغ في ذلك حتى لعن زائرات القبور كما أخرجه أهل السنن (1) من حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. ولعل وجه تخصيص النساء بذلك ما في طبائعهن من النقص المفضي إلى الاعتقاد والتعظيم بأدنى شبهة.
ولا شك أن علة النهي [12] عن جعل القبور مساجد، وعن تسريجها، وتجصيصها، ورفعها، وزخرفتها هي ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة، كما ثبت في
_________
(1) أخرجه أبو داود رقم (3236) والترمذي رقم (320) وقال: حديث حسن. والنسائي (4/ 94 رقم 2043) وابن ماجه رقم (1575).
وهو حديث حسن بشواهده ما عدا لفظ " السرج". انظر: الإرواء (3/ 213) والضعيفة رقم (225).(1/325)
الصحيح (1) عن عائشة: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". ولابن خزيمة عن مجاهد (2):} أفرأيتم اللات والعزى {(3) قال كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره.
وكل عاقل يعلم أن لزيادة الزخرفة للقبور، وإسبال الستور الرائعة عليها، وتسريجها والتأنق في تحسينها تأثيرا في طبائع غالب العوام، ينشأ عنه التعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئا مما يتعلق بالأحياء وبهذا السبب اعتقدت كثيرا من الطوائف الألوهية في أشخاص كثيرة.
ورأيت في بعض كتب التاريخ أنه قدم رسول لبعض الملوك على بعض خلفاء بني العباس، فبالغ الخليفة في التهويل على ذلك الرسول، وما زال أعوانه ينقلونه من رتبة إلى رتبة حتى وصل إلى المجلس الذي يقعد الخليفة في برج من أبراجه، وقد جمل ذلك المنزل بأبهى الآلات، وقعد فيه أبناء الخلفاء، وأعيان الكبراء، وأشرف الخليفة من ذلك البرج وقد انخلع قلب ذلك الرسول مما رأى، فلما وقعت عينه على الخليفة قال لمن هو [13] قابض على يده من الأمراء: أهذا الله؟ فقال: ذلك الأمر، بل هذا خليفة الله. فانظر ما صنع ذلك التحسين بقلب هذا المسكين!.
وروي لنا أن بعض أهل جهة القبلة وصل إلى القبة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين صاحب ذيبين -رحمه الله- فرآها وهي مسرجة بالشمع، والبخور ينفخ في
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (427) ومسلم في صحيحه رقم (16/ 528) وأخرجه النسائي (2/ 41 رقم 704) وأبو عوانة (1/ 400 - 401) وابن سعد في الطبقات (2/ 239 - 240).
(2) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (28/ 58) وسنده صحيح. وأخرجه البخاري عن ابن عباس موقوفا (8/ 611).
(3) [النجم 19].(1/326)
جوانبها، وعلى القبر الستور الفائقة فقال عند وصوله إلى باب: أمسيت بالخير يا أرحم الراحمين.
وفي الصحيح (1) عن ابن عباس في قوله تعالى:} لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا {(2)، قال: هذه أسماء رجال من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم يعبدوا، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. وقال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم (3).
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 667) عن ابن عباس موقوفا.
(2) [نوح: 23].
(3) لذلك يجب مراعاة جانب المقاصد والنوايا عند زيارة القبور:
1 - ) أن يكون مقصده الأساسي طاعة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي استحب للمسلمين زيارة القبور.
2 - ) أن يقصد الدعاء للميت والاستغفار له والسلام عليه، ولا يقصد دعاءه والاستغاثة به وطلب الحاجات منه فإنه في حاجة إلى من يدعو له لا إلى من يدعوه.
3 - ) أن يقصد تذكر الآخرة والألفاظ فيكون قيامه على مقابر الموتى حافزا له على الطاعات والإقلاع عن المعاصي.
4 - ) إذا شد رحله إلى مكة أو إلى المدينة أو إلى المسجد الأقصى وجب أن يكون مقصده الصلاة في هذه المساجد ثم إذا أراد أن يزور الموتى بمكة، أو قبور المدينة وفي مقدمتها قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه أو قبور الأنبياء بالقدس فله ذلك كله شريطة أن يلتزم الاتباع لا الابتداع.
- وعليه مراعاة جانب الممارسات والتطبيقات العملية:
1 - ) فلا يشد رحلا لزيارة القبور بل تكفيه زيارة القبور القريبة من محلة إقامته وكذلك القبور البعيدة التي يجتازها من غير قصد.
انظر: " مجموع الفتاوى " (26/ 150).
2 - ) لا يدعو الموتى ولا يدعو بهم ولا يستغيث ولا يستعين بهم ولا يتحرى الصلاة عند قبورهم معتقدا أن ذلك أدعى للقبول.
3 - ) ولا يقول هجرا ولا ينطق بأي كلمة شركية أو موهمة للشرك مثل نداء الميت وطلب جواره وشفاعته منه ونحو ذلك مما يسخط الرب سبحانه وتعالى.
4 - ) ولا يتمسح بتراب القبر ولا بجدران الضريح إذا كان حوله جدران ولا يتبرك بشيء مما له صلة بالميت معتقدا أن ذلك ينفعه في دنياه أو في أخراه وليعلم أنه لا بركة ترجى إلا باتباع سيد المرسلين.
5 - ) وليحرص على الدعوات الواردة التي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بها عند زيارة القبور ولا يشغل نفسه بتلاوة القرآن عند الزيارة لأن ذلك مما لا أصل له في السنة، ولو كانت مشروعة لفعلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعلمها لأصحابه.
انظر " مجموع الفتاوى " (26/ 150) و" أحكام الجنائز " (ص 191).(1/327)
[العيافة والطرق والطيرة من الجبت]
ومن ذلك ما أخرجه أحمد (1) بإسناد جيد عن قبيصة عن أبيه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت "، وأخرجه أبو داود (2)، والنسائي (3)، وابن حبان (4) أيضا.
وأخرج أبو داود (5) بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ".
_________
(1) في المسند (3/ 477) و (5/ 60).
قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3907) وعبد الرزاق (10/ 403 رقم 19502) والطحاوي في شرح المعاني (4/ 312 - 313) والبيهقي (8/ 139) والطبراني في الكبير (18\ رقم 941، 942، 943، 945) والدولابي في الكنى (1/ 86). وهو حديث ضعيف.
(2) في السنن رقم (3907).
(3) في السنن كما في تحفة الأشراف (8/ 275).
(4) في صحيحه رقم (1426 - موارد). وهو حديث ضعيف.
(5) في السنن رقم (3905). وأخرجه أحمد (1/ 227، 311) وابن ماجه رقم (3726) والطبراني في الكبير (11/ 135) والبيهقي (8/ 138) وقال الألباني في الصحيحة (2/ 435): وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات. وهو حديث حسن.(1/328)
[تحريم إتيان الكاهن والعراف وتصديقه]
وأخرج النسائي (1) من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه ".
وهذه الأمور إنما كانت من الجبت والشرك، لأنها مظنة للتعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد.
ومن ذلك ما أخرجه أهل السنن (2). . .
_________
(1) في السنن (7/ 112 رقم 4079) وهو حديث ضعيف.
(2) أبو داود رقم (3904) والترمذي رقم (135) وابن ماجه رقم (639) والنسائي في " عشرة النساء " رقم (131). وأخرجه الدارمي (1/ 259) والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 198) وأحمد في المسند (2/ 408،476) وابن الجارود رقم (107) من طرق عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة به.
قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة.
وقال البخاري في " التاريخ " (13/ 17) عقب الحديث: " هذا حديث لا يتابع عليه ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة في البصريين " اهـ.
وقال ابن عدي في " الكامل " (2/ 637): " وحكيم الأثرم يعرف بهذا الحديث وليس له غيره إلا اليسير " اهـ.
قلت: عللوا الحديث بأمرين:
الأول: ضعف حكيم بن الأثرم.
الثاني: الانقطاع بين أبي تميمة وأبي هريرة.
فالجواب عن الأول: أن حكيم وثقه ابن المدني، وأبو داود، وابن حبان، وقال النسائي: " لا بأس به " وقال الذهبي: " صدوق ".
انظر: " تهذيب التهذيب " (1/ 475 - 476)، و" الكاشف " (1/ 186).
أما الجواب عن الثاني: فأبو تميمة اسمه طريف بن مجالد، قد توفي سنة 97 هـ، وأبو هريرة توفي سنة 58 أو 59 هـ والمعاصرة تكفي كما عليه الجمهور إن كان ثقة غير مدلس، وأبو تميمة كذلك. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وشواهد انظر: " الإرواء " (7/ 69 - 70). وخلاصة القول أن الحديث صحيح.(1/329)
والحاكم (1) وقال: صحيح على شرط الشيخين، عن أبي هريرة قال: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج أبو يعلى (2) [14] بسند جيد مرفوعا: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وأخرج نحوه الطبراني من حديث ابن عباس بسند حسن.
والعلة الموجبة للحكم بالكفر ليست إلا اعتقاد أنه مشارك لله -عز وجل- في علم الغيب، مع أنه في الغالب يقع غير مصحوب بهذا الاعتقاد، ولكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
ومن ذلك ما في الصحيحين (3) وغيرهما (4) عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله
_________
(1) في المستدرك (1/ 8). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
(2) في مسنده (9/ 280 رقم 442/ 5408) ورجاله ثقات، غير أن إبراهيم بن طهمان لم يذكر فيمن سمع من أبي إسحاق قديما، وهو موقوف على عبد الله بن مسعود. قاله الشيخ حسين سليم أسد. وأخرجه البزار (2/ 443 رقم 2067 - كشف).
وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 118) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن يريم وهو ثقة " وفاته أن ينسبه إلى أبي يعلى. وعزاه إلى أبي يعلى. ونقل الشيخ حبيب الرحمن عن البوصيري قوله: رواه الطيالسي بإسناد حسن.
وله شاهد من حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " عند أحمد (4/ 68) و (5/ 380) ومسلم رقم (2230).
وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 429). والخلاصة أن الحديث صحيح والله أعلم.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (846) و (1038) و (4147) و (7503) ومسلم رقم (71).
(4) كأبي داود رقم (3906) والنسائي (3/ 165) ومالك في الموطأ (1/ 192) وأحمد (4/ 117) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1169) وأبو عوانة (1/ 26) و (1/ 27) وابن منده رقم (503 و504 و505 و506) وعبد الرزاق (21003) والحميدي رقم (813) والطبراني في الكبير رقم (5213 و5214 و5215 و5216) من طرق.(1/330)
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس بوجهه فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب ".
ولا يخفى على عارف أن العلة في الحكم بالكفر هي ما في ذلك من إيهام المشاركة، وأين هذا ممن يصرح في دعائه عند أن يمسه الضر بقوله: يا الله، ويا فلان، وعلى الله، وعلى فلان فإن هذا يعبد ربين، ويدعو اثنين، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو لم يقل أمطره ذلك النوء بل قال: أمطر به، وبين الأمرين فرق ظاهر.
ومن ذلك ما أخرجه مسلم (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " يقول الله -عز وجل-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " وأخرج أحمد (2) عن أبي سعيد مرفوعا: "ألا
_________
(1) في صحيحه رقم (46/ 2985).
(2) في المسند (3/ 30). وأخرجه ابن ماجه رقم (4204) والحاكم (4/ 329) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
قلت: وفي سنده " ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد " قال عنه البخاري: منكر الحديث- كما في العلل الكبير للترمذي رقم (18). وفيه دراج. قال الحافظ في "التقريب" رقم (1824): " صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف ". وفيه كثير بن زيد الأسلمي: قال الحافظ في " التقريب " رقم (5611): " صدوق يخطئ " فالحديث حقه الضعف، مع أن المحدث الألباني حسنه في صحيح الترغيب والترهيب رقم (30).(1/331)
أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟ " قالوا: بلى، قال: " الشرك الخفي، يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ".
ومن ذلك [15] قوله تعالى:} فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا {(1). فإذا كان مجرد الرياء الذي هو فعل الطاعة لله -عز وجل- مع محبة أن يطلع عليها غيره، أو يثني بها، أو يستحسنها فيه شركا، فكيف بما هو محض الشرك؟.
ومن ذلك ما أخرجه النسائي (2) أن يهوديا أتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: إنكم تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يقولوا: " ورب الكعبة " وأن يقولوا: " ما شاء الله، ثم شئت " وأخرج النسائي (3) أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا أن رجلا قال: "ما شاء الله وشئت، قال:
_________
(1) [الكهف: 110].
(2) في السنن (7/ 6 رقم 3773) من حديث قتيلة. وأخرجه أحمد (6/ 371 - 372) والحاكم (4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي (3/ 216). وقال الحافظ في " الإصابة " (8/ 284 رقم 11643) عقبه: " أخرجه النسائي وسنده صحيح، وأخرجه ابن منده من طريق المسعودي، عن سعيد، عن ابن يسار عن قتيلة بن صيفي الجهنية " اهـ. والخلاصة أن الحديث صحيح والله أعلم.
(3) في " عمل اليوم والليلة " رقم (988). وأخرجه ابن ماجه رقم (2217) والبخاري في الأدب المفرد رقم (783) وأحمد (1/ 214) وابن السني في " اليوم والليلة " رقم (672) والطبراني في الكبير (12/ 244 رقم 13005 و13006) وأبو نعيم في " الحلية " (4/ 99) والبيهقي (3/ 217) و (8/ 105) والخطيب في "التاريخ " (8/ 105) عن ابن عباس.
قلت: مدار الحديث على أجلح بن عبد الله الكندي وثقه بعضهم وضعفه آخرون وقال الحافظ في " التقريب " رقم (285): صدوق شيعي. والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.(1/332)
أجعلتني لله ندا!؟ ما شاء الله وحده ".
وأخرج ابن ماجه (1) عن الطفيل قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته، قال: فهل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم
_________
(1) في السنن رقم (2118).
قلت: وأخرجه أحمد (5/ 393) كليهما من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان.
وقد اختلف فيه على ابن عمير، فرواه سفيان عنه هكذا.
وقال معمر عنه عن جابر بن سمرة قال: " رأى رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم ... " الحديث نحوه. أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " رقم (237).
وقال شعبة عنه عن ربعي عن الطفيل أخي عائشة؛ قال: قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين: نعم القوم ... " الحديث. أخرجه الدارمي (2/ 295).
وتابعه أبو عوانة عن عبد الملك به. أخرجه ابن ماجه (2118/ 2).
وتابعه حماد بن سلمة عنه به عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها: بلفظ " إن طفيلا رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها؟ قال: لا تقولوا: ما شاء الله وما شاء محمد ". أخرجه أحمد (5/ 72).
وهذا هو الصواب عن ربعي عن الطفيل، ليس عن حذيفة، لاتفاق هؤلاء الثلاثة:- حماد بن سلمة، وأبو عوانة، وشعبة- عليه. فهو شاهد صحيح لحديث حذيفة. والخلاصة فحديث حذيفة صحيح لغيره -وحديث الطفيل صحيح لذاته والله أعلم.(1/333)
كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ".
والوارد في هذا الباب كثير، وفيه أن التشريك في المشيئة بين الله ورسوله، أو غيره من عبيده فيه نوع من الشرك. ولهذا جعل ذلك في هذا المقام الصالح كشرك اليهود والنصارى بإثبات ابن لله -عز وجل-[16]، وفي تلك الرواية السابقة أنه إثبات ند لله -عز وجل-، ومن ذلك قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، " بئس خطيب القوم أنت "، وهو في الصحيح (1).
وأخرج ابن أبي حاتم (2) عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى:} فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون {(3) أنه قال: الأنداد أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. هذا كله شرك. انتهى.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وأرض ربك، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ". ووجه هذا النهي ما يفهم من مخاطبة السيد بمخاطبة العبد لربه، والرب لعبده، وإن لم يكن ذلك مقصودا مرادا ...
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (48/ 870) من حديث عدي بن حاتم.
(2) في تفسيره (1/ 62 رقم 229).
(3) [البقرة:22].
(4) أخرجه البخاري رقم (2552) ومسلم رقم (2249).(1/334)
[النهي عن التصوير]
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة شعير " ... ولهما (2) عن عائشة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله ". ولهما (3) عن ابن عباس: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: " كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسا يعذب بها [17] في جهنم ".
ولهما (4) عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " ... وأخرج مسلم (5) عن أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته.
فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشديد للمصورين، لكونهم فعلوا فعلا يشبه فعل الخالق، وإن لم يكن ذلك مقصودا لهم، وهؤلاء القبوريون قد جعلوا بعض خلق الله شريكا له ومثلا وندا، فاستغاثوا به فيما لا يستغاث فيه إلا بالله، وطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله مع القصد والإرادة.
ومن ذلك ما أخرجه النسائي (6) بسند جيد عن عبد الله بن الشخير قال: انطلقت في
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7559) ومسلم في صحيحه رقم (101/ 2111).
(2) أي للبخاري في صحيحه رقم (5954) ومسلم في صحيحه رقم (92/ 2107).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2225) ومسلم في صحيحه رقم (99/ 2110).
(4) أخرجه البخاري رقم (5963) ومسلم رقم (100/ 2110).
(5) في صحيحه رقم (93/ 969).
(6) في عمل اليوم والليلة رقم (245 و247) قلت: وأخرجه أحمد (4/ 24 - 25) والبخاري في الأدب المفرد رقم (211) وأبو داود رقم (4806) وابن السني رقم (389) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 22). وهو حديث صحيح.(1/335)
وفد بني عامر إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقلنا: أنت سيدنا فقال: " السيد الله -تبارك وتعالى- "، قلنا: وأفضلنا وأعظمنا طولا قال: " قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان ". وفي رواية: " ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلي الله -عز وجل- ... ".
وبالجملة فالوارد عن الشارع من الأدلة الدالة على قطع ذرائع الشرك، وهدم كل شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمت حصر ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، فلنقتصر على هذا المقدار، ونتكلم على حكم ما يفعله القبوريون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها.
[بعث الله الرسل لإخلاص توحيده]
فنقول: اعلم أن الله لم يبعث [18] رسله، وينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق، ونحو ذلك، فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل،} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {(1)،} ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {(2)،} قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون {(3)،
_________
(1) [الزخرف: 87].
(2) [الزخرف:9].
(3) [يونس:31].(1/336)
} قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون {(1).
ولهذا تجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه في مخاطبة الكفار معنونا باستفهام التقرير:} هل من خالق غير الله {(2)،} أفي الله شك فاطر السماوات والأرض {(3)،} أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض {(4)،} فأروني ماذا خلق الذين من دونه {(5).
بل بعث الله رسله، وأنزل كتبه لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة} يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره {(6)،} ألا تعبدوا إلا الله {(7)،} أن اعبدوا الله واتقوه {(8)} قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبآؤنا {(9)،} اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (10)، {فإياي فاعبدون} (11).
_________
(1) [المؤمنون:84 - 89].
(2) [فاطر: 3].
(3) [إبراهيم: 10].
(4) [الأنعام:14].
(5) [لقمان:11].
(6) [الأعراف:59].
(7) [فصلت:14].
(8) [نوح: 3].
(9) [الأعراف].
(10) [المؤمنون:32].
(11) [العنكبوت:56].(1/337)
وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء، والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره {فلا تدعوا مع الله أحدا} (1)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (2)، {وعلى الله [19] فليتوكل المؤمنون} (3)، {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (4).
وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله إليهم خاتم رسله لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم وتضرهم وتقربهم إلى الله، وتشفع لهم عنده، مع اعترافهم بأن الله -سبحانه وتعالى- هو خالقها وخالقهم، ورازقها ورازقهم، ومحييها ومحييهم، ومميتها ومميتهم، {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (5)، {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (6)، {إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} (7)، {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} (8)، {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (9). وكانوا يقولون (10) في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا
_________
(1) [الجن:18].
(2) [الرعد:14].
(3) [التوبة:51].
(4) [المائدة:23].
(5) [الزمر:3].
(6) [البقرة:22].
(7) [الشعراء:97 - 98].
(8) [يوسف:106].
(9) [يونس:8].
(10) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1185) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ويلكم قد، قد) فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت " وانظر " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (1/ 156).(1/338)
هو لك، تملكه وما ملك.
[شرك القبوريين والوثنيين واحد]
وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه، إما استقلالا أو مع الله تعالى، وناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق، فلم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة؛ إذ الدعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضر عنه هو نوع من أنواع العبادة. ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله، أو معه حجرا، أو شجرا، أو ملكا، أو شيطانا كما كانت تفعل ذلك الجاهلية، وبين أن يكون إنسانا من الأحياء، أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين. وكل عالم يعلم هذا ويقر به فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله وتشريك غيره معه تكون للحيوان كما تكون للجماد وللحي كما تكون للميت ... فمن زعم أن ثم فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان أنه يضر وينفع، [20] وبين من اعتقد من ميت من بني آدم، أو حي منهم أنه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله فقد غلط غلطا بينا، وأقر على نفسه بجهل كبير؛ فإن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه.
ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن والإله، ليس فيه زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن؛ إذ ليس الشرك هو بمجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به -سبحانه [وتعالى]،- سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه(1/339)
الجاهلية، أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط. ومن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم (1).
وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار (2) للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع الاستغاثة بها عند الحاجة، والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله -سبحانه-، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريبا منه، مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله [21]، أو في مسجد من المساجد، أو قريبا من ذلك. وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا، ولم يحلف بالميت الذي يعتقده، وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتا أو حيا عند استجلابه لنفع، أو استدفاعه لضر قائلا: يا فلان افعل لي كذا أو كذا، وعلى الله وعليك، وأنا بالله وبك، وأما التقريب للأموات (3) فانظر ما يجعلونه من النذور لهم، وعلى قبورهم في كثير من
_________
(1) انظر " مجموع فتاوى " (1/ 125 - 130) لابن تيمية.
(2) انظر " مجموع فتاوى " (1/ 156 - 158) لابن تيمية.
(3) اعلم أن هذه النذور التي يقدمها المتصوفة والقبوريون لأوليائهم تتضمن من العقائد ما هو أخطر من مجرد الذبح لغير الله، وهو اعتقادهم أن الحياة والموت بيد المنذور له وهو شرك في الربوبية.
أن المسائل العقدية ليست مجالا للمجاملات -فالأمر بالمعروف وفي مقدمته الأمر بإخلاص العبادة لله- والنهي عن المنكر، وفي مقدمته النهي عن الشرك بالله- يقتضيان من المسلم الواعي أن يقدم النصح الخالص لكل متلبس بالشرك، خصوصا الأقارب وليعد ذلك أكبر مظهر من مظاهر صلة الرحم.
أن عقيدتهم في تقديم النذور لأهل القبور -رغم ما فيها من مخاطر على دين المرء- تتضمن أيضًا المنع من الأخذ بالأسباب الشرعية في معالجة الأمراض البدنية- ليس عن طريق إساءة فهم التوكل كما قد يقع للبعض- ولكن عن طريق المعالجة بمن لم يجعل الله الشفاء في يده، بل نهى عن قصدهم فتراهم يذبحون للضريح الفلاني وينذرون لقبر الولي الفلاني، كما يتقربون إلى شياطين الجن والأنس، وآخر ما يفكرون فيه هو الابتهال إلى الله واللجوء إلى الطب الشرعي وفي هذا خطر كبير على صحة الإنسان.
أن القبوريين الذين صرفوا أنواع النذور من القرابين والأموال والستور والشموع والسرج للأضرحة داخلون تحت لعن الله وأفعالهم مشابهة لأفعال عباد الكنائس وبيوت الأصنام.
أكل تلك الأموال حرام على سدنة القبور.
النذر للأضرحة إضاعة للمال ووضع له في غير موضعه وهو وجه من أوجه التحريم.
أن قبول سدنة القبور لنذور الناذرين يتضمن تدليسا قبيحا وقلبا لموازين الحق، لأن فيه تقريرا للناذر على شركة، ورضي بذلك الشرك وفيه إيهام له بأن المنذور له ينفعه أو يضره، خاصة إذا كان السادن من المتظاهرين بالزهد والورع.
انظر: عقيدة المسلم (ص 77) و" مصرع الشرك والخرافة " (ص 219 - 221).(1/340)
المحلات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله -عز وجل- لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء.
[اعتقاد القبوريين في الأموات]
فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدا لإنجاز ما يطلبونه من الله -سبحانه [وتعالى]-.
قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم يعلمون أن الله هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز.
نعم إذا لم يحصل من المسلمين إلا مجرد التوسل الذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه سابقا، ولكن من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة، فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من [22] ذلك، إذ المتوسل به(1/341)
لا يحتاج إلى رشوة بنذر، أو ذبح، ولا تعظيم، ولا اعتقاد، لأن المدعو هو الله -سبحانه-، وهو أيضًا المجيب. ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط، بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح، فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك! وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكا أو استقلالا ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوى الباطلة العاطلة، بل من زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل وهو يقول بلسانه: يا فلان، مناديا لمن يعتقده من الأموات فهو كاذب على نفسه (1).
ومن أنكر حصول النداء (2) للأموات والاستغاثة بهم استقلالا فليخبرنا ما معنى ما يسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل، يازيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان، وهل ينكر هذا منكر، أو يشك فيه شاك، وما عدى ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم؛ ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى إنهم في حرم الله ينادونه يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك! فلقد تلطف إبليس وجنوده -أخزاهم الله- لغالب أهل الملة الإسلامية بلطيفة تزلزل الأقدام عن الإسلام. فإنا لله وإنا إليه راجعون (3).
_________
(1) يقول الغزالي: " أليس من المضحك أن نستنجد بقوم يطلبون لأنفسهم النجدة وأن نتوسل بمن يطلب هو كل وسيلة ليستفيد خيرا أو ليدفع شرا؟ " {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 157]. عقيدة المسلم (ص 77).
(2) انظر: " مصرع الشرك والخرافة " (ص 217 - 225). رسالة " كنت قبوريا " (ص 15 - 28).
(3) وليس الأقطار اليمنية فقط وليس ضريح السيد البدوي هو وحده يستقبل الملايين سنويا في مصر، فهناك ضريح الشبلي يستقبل جمهورا غفيرا من الحجاج، وهذا ما سجله الكاتب السيد محمد فريد حيث كتب يقول: " قصة واقعية من قلب مملكه الدراويش ومن الواقع الأليم الذي تعيشه أمة المجانين حيث تقع قرية الشيخ شبل مركز المراغة محافظة سوهاج، ماذا حدث في هذه القرية؟ هناك من يعبد من دون الله وتقدم إليه القرابين كل عام وله سادن يقوم على خدمته وهو المدعو " أبو النعمان الشبلي " وذات يوم ترك السادن الشمعة على جسم الوثن الخشبي فتسللت النيران إلى الخشب وأصبح الإله كتلة فحم وراح الناس يشكون ويبكون ويقولون: من فعل هذه بآلهتنا؟ ونقول لهم اسألوهم إن كانوا ينطقون .. وماذا يصنع القوم؟ قاموا على الفور وأحضروا نجارا مازقا وصنعوا على الفور صنما " بدل تالف " وانطبق على أهالي قرية الشيخ شبل قول المولى عز وجل: {أتعبدون ما تنحتون} [الصافات: 95]." مجلة التوحيد " العدد (12) ذو الحجة (1411هـ) (ص 47).(1/342)
أين من يعقل معنى: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} (1) {فلا تدعوا مع الله أحدا} (2)، {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} (3). وقد أخبرنا الله -سبحانه- أن الدعاء عبادة في محكم كتابه بقوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم [23] إن الذين يستكبرون عن عبادتي} (4).
وأخرج أبو داود (5)، والترمذي (6) وقال: حسن صحيح من حديث النعمان بن بشير
_________
(1) [الأعراف:194].
(2) [الجن:18].
(3) [الرعد:14].
(4) [غافر:60].
(5) في السنن رقم (1479).
(6) في السنن (3247) و (3372).
وأخرجه أحمد (4/ 267) والبخاري في الأدب المفرد (714) والطيالسي كما في منحة المعبود رقم (1252) وابن ماجه رقم (3828) والطبراني في الصغير (2/ 97) والحاكم (1/ 490 - 491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) والبغوي في شرح السنة (5/ 184 - 185 رقم 1384) والنسائي في السنن الكبرى (3519) كما في تحفة الأشراف وابن حبان رقم (2396 - موارد) من طرق. وهو حديث صحيح.(1/343)
قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " إن الدعاء هو العبادة "، وفي رواية (1): " مخ العبادة ". ثم قرأ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الآية المذكورة.
وأخرجه أيضًا النسائي (2)، وابن ماجه (3)، والحاكم (4)، وأحمد (5)، وابن أبي شيبة (6) باللفظ المذكور.
وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم.
كما أن النحر للنسك، وإخراج صدقة المال، والخضوع، والاستكانة عبادة لله عز وجل - بلا خلاف. ومن زعم أن ثم فرقا بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم، والنذر عليهم عبادتهم فقل له: فلأي مقتض صنعت هذا الصنع؟ فإن دعائك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله فلأي معنى جعلت ذلك
_________
(1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3371) من حديث أنس وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة " اهـ. وهو حديث ضعيف.
(2) لم أجده؟.
(3) في السنن رقم (3829).
(4) في المستدرك (1/ 490).
(5) في المسند (2/ 362).
(6) لم أعثر عليه في المصنف. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (712) وابن حبان في صحيحه رقم (870) والطيالسي رقم (2585) والترمذي رقم (3370). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث حسن.(1/344)
للميت، وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنها عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، وأمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم، ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين، فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه، فرارا عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} (1)، وبقوله: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون} (2) [24].
[كلمة التوحيد لا تكفي مجردة عن العمل]
فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها.
قلت: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم، وخالفوها بأفعالهم، فإن من استغاث بالأموات، أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله - سبحانه-، أو عظمهم، أو نذر عليهم بجزء من ماله، أو نحر لهم فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو يعتقد معنى لا إله إلا الله، ولا عمل بها، بل خالفها اعتقادا وعملا، فهو في قوله: لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل لها إلها غير الله يعتقد أنه يضر وينفع، وعبده بدعائه عند الشدائد، والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إياه، ونحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال. وليس مجرد قول لا إله إلا الله من دون عمل بمعناها مثبتا للإسلام، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية، وعكف على صنمه يعبده لم يكن
_________
(1) [الأنعام: 136].
(2) [النحل:56].(1/345)
ذلك إسلاما.
فإن قلت: قد أخرج أحمد بن حنبل (1)، والشافعي (2) في مسنديهما من حديث عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو في مجلسه فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له. قال: " أليس يشهد أن محمدا رسول الله "؟ قال: بلى ولكن لا شهادة له، قل: " أليس يصلي؟ " قال بلى، ولا صلاة له قال: " أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ".
وفي الصحيحين (3) من حديث أبي سعيد في قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله، اتق الله. وفيه قال [25] خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: " لا لعله أن يكون يصلي "، فقال خالد: كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق قلوبهم ". ومنه قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأسامة بن زيد لما قتل رجلا من الكفار بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " فما تصنع بلا إله إلا الله؟ " فقال: يا رسول الله، إنما قالها تقية، فقال: " هل شققت عن قلبه؟ " هذا معنى الحديث، وهو في الصحيح (4).
_________
(1) في المسند (5/ 432).
(2) في المسند (1/ 63 - 64). قلت: عبيد الله بن عدي بن الخيار يعد من الصحابة، ولكن لم يثبت له سماع. ولكن للحديث طريق موصولة أخرجها أحمد في المسند (5/ 433) عن عبد الله بن عدي الأنصاري بسند صحيح. وانظر: الإصابة (4/ 152 رقم 4841).
(3) أخرجه البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (144/ 1064).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (160/ 97).(1/346)
قلت لا شك أن من قال لا إله إلا الله، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد فهو مسلم محقون الدم، والمال إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان" (1)
_________
(1) وهو حديث متواتر له طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ".
1 - ) سعيد بن المسيب عنه:
أخرجه مسلم رقم (33/ 21) والنسائي (6/ 4 - 5،6،7) وابن حبان رقم (218) والطبراني في الأوسط (2/ 158 رقم 1294) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 213)، وابن منده في الإيمان (1/ 162 رقم 23) و (1/ 359 رقم 199) و (1/ 360 رقم 200) من طريق الزهري به.
2 - ) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه.
أخرجه البخاري رقم (1399) ورقم (6924) ورقم (7282 و7285) ومسلم رقم (32/ 20) وأبو داود رقم (1556) والنسائي (5/ 14 - 15) و (5/ 6) والترمذي رقم (2607) وقال حديث حسن صحيح.
وأحمد (2/ 423، 528) وأبو عبيد في الأموال (ص 23 رقم 4644) والطبراني في الأوسط (1/ 512 رقم 954) وابن منده في الإيمان (1/ 64 رقم 24) و (1/ 380 رقم 215) و (382 رقم 216). من طريق الزهري، عنه قال ابن منده (1/ 165): " هذا إسناد مجمع على صحته، من حديث الزهري، وعنه مشهور ".
3 - ) أبو صالح، عنه:
أخرجه مسلم رقم (35/ 21) وأبو داود رقم (2640) والترمذي رقم (2606) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3927) وأحمد (2/ 377) والطحاوي في شرح المعاني (3/ 213) وابن منده (1/ 166 رقم 26) و (1/ 168 رقم 28).
4 - ) أبو صالح مولى التوأمة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 475) من طريق سفيان عنه، وسنده حسن في المتابعات.
5 - ) الأعرج، عنه: أخرجه الطحاوي (3/ 213) عن أبي الزناد، عنه.
6 - ) أبو سلمة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 502) والشافعي في السنن المأثورة (ص 432 رقم 643) وأبو عبيد في الأحوال (ص 23 رقم 43) والطحاوي (3/ 213) والبغوي (1/ 65 - 66) من طريق محمد بن عمرو، عنه: وسنده حسن.
7 - ) عبد الرحمن بن يعقوب، عنه:
أخرجه مسلم رقم (34/ 21) وابن حبان رقم (174) ورقم (220) وابن منده (1/ 358 رقم 196، 197، 198) والدارقطني (2/ 89 رقم 4).
8 - ) أبو حازم، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 527) من طريق يزيد بن كيسان، عنه، وسنده صحيح.
9 - ) همام بن منبه، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 314) وابن منده في الإيمان (1/ 167 رقم 27) والبغوي (1/ 65).
10 - ) عبد الرحمن بن أبي عمرة، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 482) من طريق هلال بن علي، عنه:
11 - ) مجاهد بن جبر، عنه:
أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 306) من طريق ليث بن أبي سليم عنه وقال: " هذا حديث صحيح غريب ثابت من طرق كثيرة. وحديث مجاهد عن أبي هريرة غريب من حديث ليث لم نكتبه إلا من هذا الوجه" اهـ.
قلت: وليث بن أبي سليم ضعيف، الميزان (3/ 420) والمجروحين (2/ 231 - 234) والجرح والتعديل (7/ 177 - 179).
12 - ) كثير بن عبيد، عنه:
أخرجه أحمد (2/ 345) وابن خزيمة (4/ 8 رقم 2248). والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 36) والدارقطني (1/ 231 رقم 1) و (2/ 89 رقم 3) والحاكم (1/ 387) من طريق سعيد بن كثير، عن أبيه. وسنده حسن في المتابعات، وسعيد بن كثير متكلم فيه، ولكن تابعه عبد الله بن دكين، عن كثير بن عبيد.
أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 1542) وعبد الله بن دكين، وثقه أحمد وقال ابن معين: " لا بأس به " وضعفه في رواية، وكذا أبو زرعة الرازي في الميزان (2/ 417 رقم 4296) فالسند صحيح بمجموع الطريقين.
13 - ) ابن الحنفية، عنه:
أخرجه الخطيب في التاريخ (12/ 201) من طريق منذر الثوري، عنه وسنده تالف. وفيه: عمرو بن عبد الغفار الفقيمي، قال أبو حاتم: متروك الحديث وقال ابن عدي، اتهم بوضع الحديث " الميزان " (3/ 272 رقم 6403).
14 - ) الحسن البصري، عنه:
أخرجه الدارقطني (2/ 89 رقم 20) وأبو نعيم في الحلية (2/ 159) و (3/ 25) وسنده ضعيف.
15 - ) زياد بن الحارث، عنه:
أخرجه البخاري التاريخ (3/ 367) من طريق ليث بن أبي سليم وهو ضعيف - عنه. وقد اختلف في زياد هذا.
16 - ) عجلان المدني، عنه:
أخرجه الطحاوي (3/ 213) من طريق محمد بن عحلان، عنه، وسنده صحيح.
قلت: وللحديث شواهد كثيرة -فهو متواتر- عن جماعة من الصحابة كأنس وابن عمر، وجابر، وأوس بن أبي أوس، وجرير بن عبد الله، وأبي بكرة، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وأبي مالك الأشجعي، وسهل بن سعد.
وانظر: " قطف الأزهار المتناثرة " للسيوطي ص 34 - 35، و" نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني ص 29 رقم 9.(1/347)
وهكذا من قال لا إله إلا الله متشهدا بها شهادة الإسلام، ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام، فالواجب حمله على الإسلام، عملا بما أقر به بلسانه، وأخبر به من أراد قتاله؛ ولهذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأسامة بن زيد ما قال.
وأما من تكلم بكلمة التوحيد، وفعل أفعالا تخالف التوحيد، كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم(1/349)
بالتوحيد، ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجبا للدخول في الإسلام، والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو يخالفه لكانت نافعة لليهود، مع أنهم [26] يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد، بل لم تنفع الخوارج (1) فإنهم من أكمل الناس توحيدا، وأكثرهم عبادة، وهم كلاب النار.
وقد أمرنا (2) رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بقتلهم مع أنهم لم يشركوا بالله، ولا خالفوا معنى لا إله إلا الله، بل وحدوا الله حق توحيده، وكذلك المانعون للزكاة هم موحدون لم يشركوا، ولكنهم تركوا ركنا من أركان الإسلام، ولهذا أجمعت الصحابة على قتالهم، بل دل الدليل الصحيح المتواتر (3) على ذلك، وهو الأحاديث الواردة بألفاظ منها: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فمن ترك أحد هذه الخمس فلم يكن معصوم الدم ولا المال، وأعظم من ذلك تارك معنى التوحيد، أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال.
فإن قلت: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك، بل لو عرض أحدهم على السيف لم يقر بأنه مشرك بالله، ولا فاعل لما هو شرك، ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك لم يفعله.
قلت: الأمر كما قلت، ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا
_________
(1) تقدم التعريف بهم.
(2) أخرج البخاري رقم (4351) ومسلم رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري وفيه " .. إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية - وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود ".
(3) تقدم تخريجه مع بيان طرقه (ص 347 - 349).(1/350)
يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري، أو فعل فعلا كفريا.
وعلى كل حال [27] فالواجب على كل من اطلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلغهم الحجة الشرعية، ويبين لهم ما أمره الله ببيانه، وأخذ عليهم الميثاق أن لا يكتمه، كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز، فيقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث هم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النذور، وينحر لهم النحائر، ويعظمهم تعظيم الرب -سبحانه- أن هذا الذي تفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية، وهو الذي بعث الله رسله هدمه، وأنزل كتبه في ذمه، وأخذ على النبيين أن يبلغوه عبادة أنهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التوحيد، ويعبدوه وحده، فإذا علموا هذا علما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم أصروا على ما هم فيه من الطغيان والكفر بالرحمن وجب عليه أن يخبرهم بأنهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الهداية فقد حلت دماؤهم وأموالهم، فإن رجعوا وإلا فالسيف هو الحكم العدل كما نطق به الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين في إخوانهم من المشركين.
[طلب دعاء الأحياء والاستشفاع بهم ليس شركا]
فإن قلت: قد ورد الحديث الصحيح (1) بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه ويستغيثون به، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا -صلى الله عليه وعليهم-.
قلت: أهل المحشر إنما يأتون [28] هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله -سبحانه-، ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف، وهذا جائز، فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما، وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 311).(1/351)
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في حياته أن يدعو لهم كما في حديث: " يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم " لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا، وحديث (1): "سبقك بها عكاشة "، وقول أم سليم (2): يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له. وقول المرأة (3) التي كانت تصرع: يا رسول الله، ادع الله لي، وآخر الأمر سألته الدعاء بأن لا تنكشف عند الصرع، فدعا لها.
ومنه إرشاده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لجماعة من الصحابة بأن يطلبوا من أويس القرني (4) الدعاء إذا أدركوه، ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6541) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري أيضًا في صحيحه رقم (6542) ورقم (5811).
ومسلم في صحيحه رقم (367) و (369/ 216) من حديث أبي هريرة. وأخرجه مسلم أيضًا في صحيحه رقم (371/ 218) من حديث عمران بن حصين.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6334 و6344 و6378 و6379) من حديث أنس.
(3) أخرجه البخاري رقم (5652) ومسلم رقم (54/ 2576) من حديث ابن عباس.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2542): عن أسير بن جابر، قال: كان عمر بن الخطاب، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس. فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر. لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " فاستغفر لي، فاستغفر له.
فائدة: أن الرحل الصالح الذي يطلب منه الدعاء لا يشترط أن يكون أفضل عند الله ممن يطلب منه الدعاء بل يكفي أن يكون من أهل الصلاح والتقوى حسب ما يظهر للناس.
ولذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، وعمر أفضل منه، لكنه كان صالحا بارا بأمه، بل وطلب عليه الصلاة والسلام من أمته أن يسألوا له الوسيلة بقوله: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعة" أخرجه مسلم في صحيحه رقم (288) و (384).(1/352)
الغيب (1) وغير ذلك مما لا يحصر، حتى إن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر لما خرج معتمرا: لا تنسنا يا أخي من دعائك (2).
فمن جاء إلى رجل صالح، واستمد منه أن يدعو له، فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات، بل هو سنة حسنة، وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه من أهلها كالأنبياء، ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة: "سل تعطه، واشفع تشفع" (3) وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به في كتابه العزيز.
والحاصل [29] أن طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها. ومن ذلك الدعاء فإنه يجوز استمداده من كل مسلم، بل يحسن ذلك.
وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من يشفع لا تكون إلا بإذن الله، كما ورد بذلك القرآن (4) الكريم، فهذا تقييد للمطلق لا ينبغي
_________
(1) (منها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2733) عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ".
(2) أخرجه أحمد (1/ 29، 2/ 59) وأبو داود رقم (1498) والترمذي رقم (3562) وقال: حديث حسن صحيح. وابن حبان في المجروحين (2/ 128) وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم (387) من حديث عمر. وهو حديث ضعيف.
(3) تقدم تخريجه (ص 311).
(4) منها قوله تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه)، [يونس: 3].
وقوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) [مريم: 87] وقوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) [طه: 109].(1/353)
العدول عنه بحال.
واعلم أن من الشبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات أنهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهلية، لأنهم إنما اعتقدوا في الأولياء والصالحين، وأولئك اعتقدوا في الأوثان والشياطين.
وهذه الشبهة داحضة تنادي على صاحبها بالجهل، فإن الله -سبحانه- لم يعذر من اعتقد في عيسى -عليه السلام- وهو نبي من الأنبياء، بل خاطب النصارى بتلك الخطابات القرآنية، ومنها: {يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله} (1) وقال لمن كان يعبد الملائكة: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم} (2).
ولا شك أن عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين صار هؤلاء القبوريون يعتقدونهم، ويغلون في شأنهم، مع أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو أكرم الخلق على الله [30]؛ وسيد ولد آدم قد نهى أمته أن (3) تغلو فيه كما غلت النصارى في عيسى -عليه السلام-، ولم يمتثلوا أمره، ولا امتثلوا ما ذكره الله
_________
(1) [النساء:171].
(2) [سبأ].
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (3445) عن ابن عباس أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله ".(1/354)
-سبحانه- في كتابه العزيز من قوله: {ليس لك من الأمر شيء (1)، ومن قوله:} وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله {(2)، وما حكاه عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وما قاله رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله:} وأنذر عشيرتك الأقربين {فقام داعيا لهم، ومخاطبا لكل واحد منهم قائلا: " يا فلان بن فلان لا أغني عنك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني فلان لا أغني عنكم من الله شيئا" (3).
فانظر- رحمك الله- ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه، المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كما يقول صاحب البردة (4)
_________
(1) [آل عمران:128].
(2) [الانفطار: 17 - 19].
(3) تقدم تخريجه (ص 317).
(4) هو محمد بن سعيد البوصيري، صوفي ناظم، توفي بالإسكندرية سنة 694 هـ له " الكواكب الدرية في مدح خير البرية " المعروفة بالبردة.
انظر " معجم المؤلفين " (1/ 28).
وفي هذه القصيدة مخالفات شرعية ضللت الكثير من أدعياء العلم الذين ينشدونها في مجالسهم.
والعجيب أن يزعم الزاعمون ويكذب الكاذبون أن البوصيري كان أصيب بفالج -ليته لم يشف منه وقضى نحبه وأنقذ المسلمين مما في البردة من شركيات وأكاذيب- فأنشد قصيدة البردة في المنام للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعجب بها، فألبسه جبته وشفي للحال: وهذا مما زاد تعلق الحمقى والمغفلين بها وغدت تقرأ كالقرآن أو أكثر حتى في مجالس بعض الشيوخ المخرفين الذين يتمايلون على أنغامها وهي تفوح منها رائحة الكفر والإلحاد:
1 - ) القسم، بمخلوقات الله كالقمر.
2 - ) إرهاصات وخوارق عجيبة حصلت يوم مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي باطلة.
3 - ) الإخلال بتوحيد الربوبية.
لمزيد من المعرفة للوقاية والحذر انظر " كتب ليست من الإسلام " محمود مهدي الاستانبولي ص 11 - 26.(1/355)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وغفل عن ربه، ورب رسول الله -إنا لله وإنا إليه راجعون- وهذا باب واسع قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب [31]. ومن ذلك قول من يقول مخاطبا لابن العجيل:
هات لي منك يا ابن موسى إغاثة ... عاجلا في مسيرها حثاثة
فهذا محض الاستغاثة التي لا تصلح لغير الله بميت من الأموات، قد صار تحت أطباق الثرى منذ مئين من السنين، ويغلب على الظن أن مثل هذا البيت والبيت الذي قبله إنما وقعا من قائليهما لغفلة، وعدم تيقظ، ولا مقصد لهما إلا تعظيم جانب النبوة والولاية، ولو نبها لتنبها ورجعا، وأقرا بالخطأ. وكثيرا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة. وقد سمعنا ورأينا.
فمن وقف على شيء من هذا الجنس لحي من الأحياء فعليه إيقاظه بالحجج الشرعية، فإن رجع وإلا كان الأمر فيه كما أسلفنا. وأما إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثرى فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل. وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضًا لمن تصدى لمدح نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ولمدح الصالحين والأئمة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدة، فليسر المراد إلا التنبيه والتحذير: {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (1)،
_________
(1) [ق: 37].(1/356)
} وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين {(1)،} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب {(2) [32].
واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيرا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركا قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفيا في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه، ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد. وربما يقف جماعة من المحتالين على قبره، ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت، ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم، وعلى من يعولونهم ويجعلوا ذلك مكسبا ومعاشا.
وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات، ويجملون قبره مما يعظم في عين الواصل إليه، ويوقدون في مشهده الشموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجم، فينبهر الزائر، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق، وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم، وتقريبهم له نفائس الأموال ونحرهم أصناف النحائر (3).
فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في بادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك [33] من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا
_________
(1) [الذاريات:55].
(2) [آل عمران: 8].
(3) انظر: " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ علي محفوظ ص 141 "الفتاوى المصرية" لابن تيمية (1/ 312)."اقتضاء الصراط المستقيم" ابن تيمية (2/ 651).(1/357)
ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه يبعد كل البعد أن ينتقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات، وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاف، وتعاورته العصور، وتناوبته الدهور. وهكذا كل شيء يقلد الناس فيه أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة.
وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، وتبدلت الأمة بمثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك، ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه، حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل مكروه، ومزقوا عرضه بكل لسان، وهذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق لا ينكره إلا من هو متهم في عقله.
وانظر إن كنت ممن يعتبر ما ابتليت به هذه الأمة من التقليد للأموات في دين الله، حتى صارت كل طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين، ولا تقبل قول غيره، ولا ترضى به، وليتها وقفت عند عدم القبول والرضا، لكنها تجاوزت ذلك إلى الحط على سائر علماء المسلمين، والوضع من شأنهم، وتضليلهم، وتبديعهم [34]، والتنفير عنهم، ثم تجاوزا ذلك إلى التفسيق والتكفير، ثم زاد الشر حتى صار أهل كل مذهب كأهل ملة مستقلة، لهم نبي مستقل، وهو ذلك العالم الذي قلدوه، فليس الشرع إلا ما قال به دون غيره، وبالغوا وغلوا فجعلوا قوله مقدما على قول الله ورسوله. وهل بعد هذه الفتنة والمحنة شيء من الفتن والمحن!.
فإن أنكرت هذا فهؤلاء المقلدون على ظهر البسيطة قد ملئوا الأقطار الإسلامية فاعمد إلى أهل كل مذهب، وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم هل هي مخالفة لكتاب الله، أو(1/358)
لسنة رسول الله، ثم أرشدهم إلى الرجوع عنها إلى ما قاله الله أو رسوله (1) وانظر بماذا
_________
(1) واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضيلة من فضائل هذه الأمة. قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران:110]. وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة: 71]. وهذه المسئولية تتأكد على كل من العلماء والحكام بشكل خاص وعلى الآحاد من المسلمين بشكل عام.
1 - ) العلماء فلأنهم يعرفون من شرع الله ما لا يعرفه غيرهم من الأمة ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب مما جعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول.
2 - ) الأمراء والحكام فإن مسئوليتهم أعظم وأخطر لأن لهم الولاية والسلطان ولديهم القدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهون عنه وحمل الناس على الامتثال ولا يخشى من إنكارهم مفسدة لأن القوة والسلاح في أيديهم.
مخاطر تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [المائدة: 78 - 79].
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ".
ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم).
ثم قال: "والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا" من حديث ابن مسعود.
أخرجه أبو داود رقم (4336) والترمذي رقم (47 30) وابن ماجه رقم (4006) وهو حديث حسن بشواهده.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) والترمذي رقم (2172).
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ". من حديث حذيفة. أخرجه الترمذي رقم (2169) وهو حديث حسن بشواهده.(1/359)
يجيبونك فما أظنك تنجو من شرهم، ولا تأمن من معرتهم، وقد يستحلون بذلك دمك ومالك، وأورعهم يستحل عرضك وعقوبتك، وهذا يكفيك إن كان لك فطرة سليمة، وفكرة مستقيمة.
ثم انظر كيف خصوا بعض علماء المسلمين، واقتدوا بهم في مسائل الدين، ورفضوا الباقين، بل جاوزوا هذا إلى أن الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأمة، وأن الحجة قائمة بهم، مع أن في عصر كل واحد منهم من هو أكثر علما منه، فضلا عن العصر المتقدم على عصره، والعصر المتأخر عن عصره. وهذا يعرفه كل من يعرف أحوال الناس، ثم تجاوزوا ذلك إلى أنه لا اجتهاد لغيرهم، بل هو مقصور عليهم، فكأن هذه الشريعة كانت لهم لا حظ لغيرهم فيها، ولم يتفضل الله على عباده بما تفضل عليهم.
وكل عاقل يعلم أن هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمة رحمهم الله - إن كانت باعتبار كثرة علمهم، وزيادته على علم غيرهم، فهذا مدفوع عند كل من له اطلاع على أحوالهم، وأحوال غيرهم؛ فإن في أتباع كل واحد منهم من هو أعلم منه لا ينكر هذا إلا مكابر أو جاهل، فكيف بمن لم يكن من أتباعهم [35] من المعاصرين لهم، والمتقدمين عليهم، والمتأخرين عنهم! وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة فالأمر كما تقدم، فإن في معاصريهم والمتقدمين عليهم والمتأخرين عنهم من هو أكثر عبادة وورعا منهم، لا ينكر هذا إلا من لا يعرف تراجم الناس، وكتب التواريخ، وإن كانت تلك المزايا بتقدم عصورهم، فالصحابة والتابعون أقدم منهم عصرا بلا خلاف، وهم أحق هذه المزايا ممن بعدهم لحديث: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين(1/360)
يلونهم (1). وإن كانت تلك المزايا لأمر عقلي فما هو؟ أو لأمر شرعي فأين هو؟.
ولا ننكر أن الله قد جعلهم بمحل من العلم والورع، وصلابة الدين، وأنهم من أهل السبق في كل الفضائل والفواضل، وعن الشأن في المتعصب لهم من أتباعهم، القائل أنه لا يجوز تقليد غيرهم، ولا يعتد بخلافه إن خالف، ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تقليدهم وإن كان عارفا بكتاب الله، وسنة رسوله، قادرا على العمل بما فيهما، متمكنا من استخراج المسائل الشرعية منهما، فلم يكن مقصودنا إلا التعجيب لمن كان له عقل صحيح، وفكر رجيح، وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون للأموات، وأنه لا يغتر العاقل بالكثرة وطول المهلة مع الغفلة؛ فإن ذلك لو كان دليلا على الحق لكان ما زعمه المقلدون المذكورون حقا، ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقا.
وهذا عارض من القول أوردناه للتمثيل، ولم يكن من مقصودنا، والذي نحن بصدده هو أنه إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقررناه في حكم المعتقدين [36] للأموات لسبب من أسباب الخفاء التي قدمنا ذكرها، ولم يتعقل ما سقناه من الحجج البرهانية القرآنية والعقلية فينبغي أن تسأله: ما هو الشرك؟ فإن قال: هو أن تتخذ مع الله إلها آخر كما كانت الجاهلية تتخذ الأصنام آلهة مع الله -سبحانه- فقل له: وماذا كانت الجاهلية تصنعه لهذه الأصنام التي اتخذوها حتى صاروا مشركين؟ فإن قال: كانوا يعظمونها ويقربون لها، ويستغيثون بها، وينادونها عند الحاجات، وينحرون لها النحائر، ونحو ذلك من الأفعال الداخلة في مسمى العبادة فقل له: لأي شيء كانوا يفعلون لها ذلك؟ فإن قال: لكونها الخالقة، أو الرازقة، أو المحيية، أو المميتة فاقرأ عليه ما قدمنا لك من البراهين القرآنية المصرحة بأنهم مقرون بأن الله الخالق الرازق المحيي المميت، وأنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، وقالوا: هم شفعاؤهم عند الله، ولم يعبدوها
_________
(1) تقدم تخريجه في رسالة "التحف في مذاهب السلف" (ص255).(1/361)
لغير ذلك؛ فإنه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أن كلام الله حق، وبعد أن يوافقك أوضح له أن المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصفة التي قررناها وكررناها في هذه الرسالة، فإنه إن بقي فيه بقية من إنصاف، وبارقة من علم، وحصة من عقل فهو لا محالة يوافقك وتنجلي عنه الغمرة، وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة، ويعترف بأنه كان في حجاب عن معنى التوحيد الذي جاءت به السنة والكتاب، فإن زاغ عن الحق، وكابر وجادل، فإن جاءك في مكابرته ومجادلته بشيء من الشبهة فادفعه بالدفع الذي قد ذكرناه فيما سبق، فإنا لم ندع شبهة يمكن أن يدعيها مدع إلا وقد أوضحنا أمرها، وإن لم يأت بشيء في جداله، بل اقتصر على مجرد الخصام والدفع المجرد لما أوردته عليه من الكلام [37] فاعدل معه عن حجة اللسان بالبرهان والقرآن إلى محجة السيف والسنان، فآخر الدواء الكي. هذا إذا لم يكن دفعه بما هو دون ذلك من الضرب والحبس والتعزير؛ فإن أمكن وجب تقديم الأخف على الأغلظ عملا بقوله تعالى:} فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى {(1)، وبقوله:} ادفع بالتي هي أحسن {(2).
ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما جزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير (3) -رحمه الله- في شرحه لأبياته (4) التي يقول في أولها:
_________
(1) [طه:4].
(2) [فصلت:34].
(3) محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني المنشأ، الكحلاني المولد سنة 1099 هـ، محدث فقيه، أصولي، من أئمة اليمن المشاهير.
من تصانيفه: " سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام "، " توضيح الأفكار في شرح تنقيح الأنظار "، " منحة الغفار على ضوء النهار ". وغيرها. انظر البدر الطالع (2/ 133 - 139).
(4) انظر " ديوان الصنعاني " (ص 173).(1/362)
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي (1). . . . . . . . . . . . .
فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي، لا الكفر الجحودي، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث (2) الصحيحة، وكفر تارك الحج في قوله تعالى:} ومن كفر فإن الله غني عن العالمين {(3)، وكفر من لم يحكم بما أنزل الله كما في قوله تعالى:} ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون {(4)، ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى، ومن سرق، ومن أتى امرأة حائضا، أو امرأة في دبرها، أو أتى كاهنا، أو عرافا، أو قال لأخيه: يا كافر.
قال: فهذه الأنواع من الكفر وإن أطلقها الشارع على فاعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان، ويفارق به الملة، ويباح به دمه وماله وأهله كما ظنه من لم
_________
(1) وتمامه:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي
اعلم أن هذه القصيدة لم تكن من نظم الأمير محمد بن إسماعيل لأنها تخالف ما ذكره في كتبه الدالة على حسن اعتقاده مثل " تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد " وقد رد الشيخ سليمان بن سمحان هذه المنظومة بكتابه المعروف تبرئة الشيخين وهو مطبوع.
(2) منها: ما أخرجه أحمد (5/ 346) والترمذي رقم (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه رقم (1079) والحاكم (1/ 6 - 7) وصححه ووافقه الذهبي.
من حديث بريدة قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ". وهو حديث صحيح.
(ومنها): ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (134/ 82) وأبو داود رقم (4678) والترمذي رقم (2620) وابن ماجه رقم (1578) وأحمد (3/ 370، 389) من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ليس بين العبد وبين الكفر -أو قال الشرك- إلا ترك الصلاة". وهو حديث صحيح.
(3) [آل عمران:97].
(4) [المائدة:44].(1/363)
يفرق بين الكفرين، ولم يميز بين الأمرين، وذكر ما عقده البخاري في صحيحه من كتاب الإيمان في كفر دون كفر، وما قاله العلامة ابن القيم: إن الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة من الكفر العملي، تحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا، فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فهو نوعان: نوع يضاد الإيمان، ونوع لا يضاده.
ثم نقل عن ابن القيم كلاما في هذا المعنى. ثم قال السيد المذكور: قلت: ومن هذا -يعني الكفر العملي- من يدعو الأولياء [38] ويهتف هم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدرانها، وينذر لها بشيء من ماله؛ فإنه كفر عملي لا اعتقادي، فإنه مؤمن بالله وبرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وباليوم الآخر، لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحون ينفعون، ويشفعون، ويضرون، فاعتقدوا ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام، لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكارا على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما دعاهم إلى كلمة التوحيد:} أجعل الآلهة إلها وحدا {(1)، فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة، وقالوا في التلبية: " لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك" (2) فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له، لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له تعالى، بل مملوك، فعباد الأصنام جعلوا لله أندادا، واتخذوا من دونه شركاء، وتارة يقولون: شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر؛ فإنهم مقرون لله بالوحدانية، وإفراده بالإلهية، وصدقوا رسله، فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد.
_________
(1) [ص:5].
(2) تقدم تخريجه (ص338).(1/364)
فالواجب هو وعظهم وتعريفهم جهلهم، وزجرهم ولو بالتعزير كما أمرنا بحد الزاني، والشارب، والسارق من أهل الكفر العملي إلى أن قال: فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية، فهو من الكفر العملي.
وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أمورا من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة ".
أخرجه مسلم في صحيحه (1) من حديث أبي مالك الأشعري. فهذه من الكفر العملي، لا تخرج بها الأمة عن الملة، بل هم مع إتيانهم [39] بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال: من أمتي. فإن قلت: الجاهلية تقول في أصنامها أنهم يقربوهم إلى الله زلفى كما يقوله القبوريون، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقوله القبوريون أيضا، قلت: لا سوى فإن القبوريين مثبتون لتوحيد الله، قائلون أنه لا إله إلا هو، ولو ضربت عنقه على أن يقول: إن الولي إله مع الله لما قالها، بل عنده اعتقاد جهل أن الولي لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاه، به تقبل شفاعته، ويرجى نفعه، لا أنه إله مع الله، بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعما أن وثنه إله مع الله، ويسميه ربا وإلها.
قال يوسف -عليه السلام-:} أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار {(2) سماهم أربابا لأنهم كانوا يسمونهم بذلك، كما قال الخليل:} هذا ربي {(3) في الثلاث الآيات مستفهما لهم مبكتا متكلما على خطابهم، حيث يسمون الكواكب أربابا. وقالوا:} أجعل الآلهة إلها واحدا {(4)، وقال قوم إبراهيم:
_________
(1) رقم (29/ 934).
(2) [يوسف:39].
(3) [الأنعام:77، 78].
(4) [ص:5].(1/365)
} من فعل هذا بآلهتنا {(1)} أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم {(2). وقال إبراهيم:} أإفكا آلهة دون الله تريدون {(3).
ومن هنا تعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الإلهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله:} ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {(4)،} من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم {(5)،} قل من يرزقكم من السماء والأرض {إلى قوله:} فسيقولون الله {(6).
فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما [40]، لا أنه إقرار بتوحيد الإلهية، لأنهم يجعلون أوثانهم أربابا كما عرفت، فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد، ومن لازمه كفر العمل بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله، والإيمان به، وبرسله، وباليوم الآخر، فإنه كفر عمل، فهذا تحقيق بالغ، وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط ... انتهى كلام السيد المذكور -رحمه الله-.
وأقول: هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ، بل كلام متناقض، متدافع، وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد، وكفر عمل، لكن دعوى أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد فإنه قد ذكر في هذا البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عملي، وهذا عجيب، كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء، وسمى ذلك اعتقادا، ثم يقول: إنه من الكفر العملي. وهل هذا إلا التناقض
_________
(1) [الأنبياء:59].
(2) [الأنبياء:62].
(3) [الصافات:86].
(4) [الزخرف:87].
(5) [الزخرف:9].
(6) [يونس].(1/366)
البحث، والتدافع الخالص!.
انظر كيف ذكر في أول البحث أن كفر من يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جدراتها، وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عملي!.
فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة، وتقبيل الجدران، ونذر النذورات! هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد، فهذا لا يفعله إلا مجنون، أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت، فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال!.
ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل، لا كفر اعتقاد بقوله: لكن زين له الشيطان [41] أن هؤلاء عباد الله الصالحين، ينفعون، ويشفعون، ويضرون! فاعتقد ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام.
فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية، وأثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل. وليت شعري أي فائدة لكونه اعتقاد جهل! فإن طوائف الكفر بأسرها، وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق، والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلا. وهل يقول قائل: إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذرا لإخوانهم المعتقدين في الأموات!.
ثم تمم الاعتذار بقوله: لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد إلى آخر ما ذكره.
ولا يخفاك أن هذا عذر باطل، فإن إثباتهم للتوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم.
ثم كرر هذه المعنى في كلامه، وجعله السبب في رفع السيف عنهم، وهو باطل فما ترتب عليه مثله باطل، فلا نطول برده، بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد من(1/367)
الأمور كما حكى الله عنهم بقوله:} وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا {(1)، وبقوله تعالى:} قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين {(2)، وبقوله تعالى:} وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خولناه نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل {(3)، وبقوله تعالى:} وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين {(4)، بخلاف المعتقدين في الأموات؛ فإنها إذا دهمتهم الشدائد استغاثوا بالأموات، ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله -سبحانه- في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم.
ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من في السفينة من الملاحين، وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات، ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط. قال: ولقد خشيت في تلك الحالة الغرق لما شاهدته من الشرك بالله.
وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية أن كثيرا منهم إذا حدث له ولد جعل قسطا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنه قد اشترى ولده ذلك من الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال (5).
_________
(1) [الإسراء:67].
(2) [الأنعام:40].
(3) [الزمر:8].
(4) [لقمان:32].
(5) في هامش المخطوط ما نصه: " أما من بلغ به الحال إلى أنه يعتقد في الميت أنه يحيي ويميت، وما أشبه ذلك من الاعتقادات فلعل السيد محمد وغيره لا ينازعون في كفره، وأما جعل الحكم بالشرك كليا على كل من اعتقد في الأموات وأنه يستباح دمه وماله فهو من المختارات (تمت كاتبه).(1/368)
وبالجملة فالسيد المذكور -رحمه الله- قد جرد النظر في بحثه السابق إلى الإقرار بالتوحيد الظاهري، واعتبر مجرد التكلم بكلمة التوحيد فقط من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلم بكلمة التوحيد ويخالفه في اعتقاده الذي صدرت عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات [43]، وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه، ولا الاشتغال به، فالله -سبحانه- إنما ينظر إلى القلوب، وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ، وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق. وأما ما نقله السيد (1) المذكور -رحمه الله- عن ابن القيم في أول كلامه من تقسيم الكفر إلى عملي واعتقادي، فهو كلام صحيح، وعليه جمهور المحققين، ولكن لا يقول ابن القيم ولا غيره أن الاعتقاد في الأموات على الصفة التي ذكرها هو من الكفر العملي. وسننقل هاهنا كلام ابن القيم في أن ما يفعله المعتقدون في الأموات من الشرك الأكبر كما نقل عنه السيد -رحمه الله- في كلامه السابق، ثم نتبع ذلك بالنقل عن بعض أهل العلم، فإن السائل -كثر الله فوائده- قد طلب ذلك في سؤاله.
[أنواع الشرك]
فنقول: قال ابن القيم في شرح المنازل (2) في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر، وأصغر:
فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله. أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وقد شاهدنا هذا -نحن وغيرنا- منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده. وهكذا كان عباد الأصنام،
_________
(1) محمد بن إسماعيل الأمير.
(2) أي "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 379 - 0 38).(1/369)
سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجز، وغيرهم اتخذها من البشر. قال الله حاكيا عن أسلاف هؤلاء [44]:} والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار {(1). وهكذا حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى. وما أعز من تخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك. وقد أنكر الله ذلك في كتابه، وأبطله. وأخبر أن الشفاعة كلها له. ثم ذكر الآية التي بسورة سبأ (2)، وهي قوله تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض {. وتكلم (3) عليها ثم قال (4): والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا
_________
(1) [الزمر:3].
(2) (وما لهم فيهما من شرك وما لهم منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 22 - 23].
(3) في كتابه " مدارج السالكين " (1/ 383).
فقال: فنفى -سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية نورا، وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها.
(4) ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 383).(1/370)
يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه، أو دونه، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والمسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي سليم يرى ذلك عيانا. والله المستعان.
ثم قال في ذلك الكتاب (1): (وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، كما ثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك بالله " (2)، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
ثم قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ذلك الكتاب (3) بعد فراغه من ذكر الشرك الأكبر والأصغر، والتعريف لهما: ومن أنواع الشرك سجود المريد للشيخ (4)، ومن
_________
(1) أي مدارج السالكين (1/ 384).
(2) تقدم تخريجه (ص 323).
(3) مدارج السالكين (1/ 385).
(4) انظر: "رماح حزب الرحيم" لعلي حرازم (1/ 133). "قلادة الجواهر" للصيادي ص 378.
ومن هذه الضلالات آداب يجب أن يتحلى بها المريد مع شيخه:-
1 - \ يستحضر شخص شيخه في قلبه أثناء الذكر ويجعله بين عينيه قبل الذكر فإن شيخه هو باب الدخول على الله ومنه يستمد الهمة ويكون الشيخ عنده كالقبلة فبذلك يمد له نور من قبر الشيخ الرفاعي.
2 - \ مراقبة الشيخ دائما في كل الشئون وهذا شرك بالله لأنه فيه رفع الشيخ إلى مرتبة الربوبية والألوهية.
3 - \ عدم الاعتراض على الشيخ وعدم الإنكار عليه حتى ولو رأى المريد شيخه يفعل شيئا محرما وهذه دعوى لتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 - \ لا يلتجئ لغيره من الصالحين.(1/371)
أنواعه التوبة للشيخ، فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غير الله، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، أو سأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل استعانته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذا حال كل مشرك. والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له كما أوصانا (1) النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزارهم زيارة العبادة في قضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة، وحلق الرءوس، فجعلوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياء الموحدين المخلصين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذ ظنوا [46] أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم حيث يقول:} واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس {(2)
_________
(1) (منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي رقم (2040) وابن ماجه رقم (1547) والبغوي في " شرح السنة " رقم (1555) وأحمد (5/ 353، 360) من حديث بريدة، رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية" وهو حديث صحيح.
(2) [إبراهيم:35 - 36].(1/372)
وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله ... انتهى كلام ابن القيم (1).
فانظر كيف صرح بأن ما يفعله هؤلاء المعتقدون في الأموات هو شرك أكبر، بل أصل شرك العالم، وما ذكره من المعاداة لهم، فهو صحيح:} لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله {(2). قال الله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء {إلى قوله [تعالى]:} كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده {(3).
وقال شيخ الإسلام تقي الدين في الإقناع: إن من دعا ميتا، وإن كان من الخلفاء الراشدين فهو كافر، وإن من شك في كفره فهو كافر.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل (4) في الفنون: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى
_________
(1) "مدارج السالكين" (1/ 387).
(2) [المجادلة: 22].
(3) [الممتحنة: 1 - 4].
(4) علي بن عقيل بن محمد البغدادي الظفري الحنبلي، فقيه، أصولي ولد ببغداد سنة 431 هـ وتوفي سنة 513 هـ.
من تصانيفه: " تفضيل العبادات على نعيم الجنات "، "الانتصار لأهل الحديث"، "الواضح في أصول الفقه".
انظر: شذرات الذهب (4/ 35 - 40) ولسان الميزان (4/ 243 - 244).(1/373)
بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء بمن عبد اللات والعزى ... انتهى.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1) في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم كتابا سماه: مناسك المشاهد (2). ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام ... انتهى. وهذا [47] الذي أشار إليه هو ابن المفيد. وقال في النهر الفائق: اعلم أن الشيخ قاسم قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي فلك من الذهب، أو الفضة، أو الشمع، أو الزيت كذا. باطل إجماعا لوجوه إلى أن قال: ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر ... انتهى.
وهذا القائل هو من أئمة الحنفية.
وتأمل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النذر المذكور، وأنه كفر عنده مع ذلك الاعتقاد.
وقال صاحب الروض: إن المسلم إذا ذبح للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كفر ... انتهى. وهذا القائل من الشافعية.
وإذا كان الذبح لسيد الرسل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كفرا عنده، فكيف بالذبح لسائر الأموات (3).
_________
(1) (1/ 288).
(2) ألفه ابن المفيد الشيعي الغالي، من أعيان الشيعة في القرن الخامس الهجري.
(3) فليعلم أن النذر لغير الله مع ما فيه من الشرك بالله هو مسخ للدماغ وإهانة للعقل البشري، وذلك بسبب الاعتقاد بأن الميت الذي لا يستطيع أن ينفع نفسه يلجأ إلى المخدوعين وضعاف العقول، من الدراويش. ومن حذا حذوهم من المبتدعة المحسوبين على أمة الإسلام. فيطلبون من ذلك المقبور الشفاء وقضاء الحاجات ورد الغائب وما شاكل ذلك من أنواع العبادات التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرفها لأحد من البشر أو الملائكة أو الأنبياء كائنا من كان فقد أشرك بالله فضلا عن كون هؤلاء مجتمعين لا يقدرون على قضائها أو تحقيقها لطالبيها، لأنها من خصائص الألوهية المحضة.
" مصرع الشرك والخرافة " (ص 220).(1/374)
وقال ابن حجر في شرح الأربعين له: من دعا غير الله فهو كافر ... انتهى.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين -رحمه الله- في الرسالة السنية: إن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبده وحده لا يجعل معه إلها آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم [48] ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى:} قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب {(1) الآية. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، ثم قال في ذلك الكتاب: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل الله به الكتب. قال الله تعالى:} ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت {(2)، وقال تعالى:} وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون {(3)
_________
(1) [الإسراء:56 - 57].
(2) [النحل:36].
(3) [الأنبياء:25].(1/375)
وكان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يحقق التوحيد، ويعلمه أمته حتى قال رجل: ما شاء الله وشئت. قال: " أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده " (1). ونهى عن الحلف بغير الله وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك" (2). وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (3) يحذر ما فعلوا. وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" (4)، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (5). ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه من سلم على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عند قبره أنه لا يتمرغ بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق. كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال الله تعالى:} إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما {(6) ولهذا كانت كلمه التوحيد أفضل الكلام، وأعظمه آية الكرسي:} الله لا إله إلا هو الحي القيوم {(7). وقال
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 332 - 333).
(2) تقدم تخريجه (ص 323).
(3) تقدم تخريجه (ص 324).
(4) تقدم تخريجه (ص 325).
(5) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود رقم (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث حسن.
(6) [النساء: 48].
(7) [البقرة: 255].(1/376)
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " (1)، والإله هو الذي يأله القلب عبادة له، واستغاثة به، ورجاء له خشية وإجلالا ... اهـ.
وقال أيضًا شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه: اقتضاء (2) الصراط المستقيم في الكلام على قوله تعالى:} وما أهل به لغير الله {(3) أن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه: بسم الله كما قد تفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعات، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح.
ثم قال في موضع آخر من هذا الكتاب (4): إن العلة في النهي عن الصلاة عند القبور ما يفضي إليه ذلك من الشرك. ذكر ذلك الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك، وكأبي بكر الأثرم علله بهذه العلة .. اهـ، وكلامه في هذا الباب واسع جدا، وكذلك كلام غيره من أهل العلم.
وقد تكلم جماعة من أئمة أهل البيت -رضوان الله عليهم- ومن أتباعهم -رحمهم الله- في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتسع المقام لبسطه، وآخر من كان منهم نكالا عن القبوريين وعلى القبور الموضوعة على غير الصفة الشرعية مولانا الإمام المهدي
_________
(1) أخرجه أبو داود (3116) والحاكم (1/ 351) وقال: صحيح الإسناد. وأحمد (5/ 233). وهو حديث حسن.
(2) (2/ 565).
(3) [البقرة:173].
(4) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (2/ 776).(1/377)
العباس (1) بن الحسين بن القاسم -رحمه الله-، فإنه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتنة للناس، وسببا لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهى الناس عن قصدها والعكوف عليها فهدمها، وكان في عصره جماعة من أكابر العلماء أرسلوا إليه برسائل، وكان ذلك هو الحامل له على نصرة الدين بهدم طواغيت القبوريين.
وبالجملة فقد سردنا من أدلة الكتاب والسنة فيما سيق ما لا يحتاج معه الاعتضاد بقول أحد من أهل العلم، ولكن ذكرنا ما حررناه من أقوال أهل العلم، مطابقة لما طلبه السائل -كثر الله فوائده-.
[إخلاص التوحيد في كتاب الله]
وبالجملة فإخلاص التوحيد، والأمر الذي بعث الله لأجله رسله، ونزل به كتبه. وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، ولو أراد رجل أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلدا ضخما، فانظر فاتحة الكتاب التي تكرر في كل صلاة مرات من كل فرد من الأفراد، ويفتتح بها التالي لكتاب الله، والمتعلم له، فإن فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في مواضع، فمن ذلك} بسم الله الرحمن الرحيم {؛ فإن علماء المعاني والبيان ذكروا أنه يقدر المتعلق متأخرا ليفيد اختصاص البداية باسمه تعالى، لا باسم غيره. وفي هذا ما لا يخفى من إخلاص التوحيد، ومنها في قوله:} الحمد لله رب العالمين {(2)، فإن التعريف يفيد أن الحمد مقصور على الله، واللام في} الله {تفيد اختصاص الحمد به، ومقتضى هذا أنه لا حمد لغيره أصلا وما وقع منه لغيره فهو في
_________
(1) هو الإمام المهدي لدين الله العباس ابن الإمام المنصور بالله الحسين ابن الإمام المتوكل القاسم بن الحسين ولد سنة 1131 هـ. له اطلاع كلي على علم التاريخ والأدب ومعرفة بفنون من العلم. انظر "البدر الطالع" (1/ 310).
(2) [الفاتحة:2].(1/378)
حكم العدم. وقد تقرر أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري لقصد التعظيم، فلا ثناء إلا عليه، ولا جميل إلا منه، ولا تعظيم إلا له، وفي هذا من إخلاص التوحيد ما ليس عليه مزيد. ومن ذلك قوله:} مالك يوم الدين {(1) أو (ملك يوم الدين) على القراءتين السبعيتين (2)، فإن كونه المالك ليوم الدين يفيد أنه لا ملك لغيره فلا ينفذ إلا تصرفه لا تصرف أحد من خلقه من غير فرق بين نبي مرسل، وملك مقرب، وعبد صالح [52]، وهكذا معنى كونه} ملك يوم الدين {، فإنه يفيد أن الأمر أمره، والحكم حكمه ليس لغيره معه أمر ولا حكم، كما أنه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم، ولله المثل الأعلى. وقد فسر الله هذا المعنى الإضافي المذكور في فاتحة الكتاب في موضع آخر من كتابه العزيز فقال:} وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله {(3) ومن كان يفهم كلام العرب ونكتة وأسراره كفته هذه الآية عن غيرها من الأدلة، واندفعت لديه كل شبهة، ومن ذلك قوله:} إياك نعبد {(4) فإن تقدم الضمير قد صرح به أئمة المعاني والبيان، وأئمة التفسير أنه يفيد الاختصاص، فالعبادة لله -سبحانه- لا يشاركه فيها غيره، ولا يستحقها سواه، وقد عرفت أن الاستغاثة، والدعاء،
_________
(1) [الفاتحة:4].
(2) قرأ عاصم والكسائي بالألف أي (مالك يوم الدين) وقرأ الباقون بغير الألف (ملك يوم الدين) وذكر الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي وهو من جلة أصحاب الكسائي عن الكسائي أنه خير في ذلك.
الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 25) مكي بن أبي طالب القيسي، وانظر زاد المسير (1/ 10 - 15).
(3) [الانفطار:17 - 19].
(4) [الفاتحة:5].(1/379)
والتعظيم، والذبح، والتقرب من أنواع العبادة. ومن ذلك قوله:} وإياك نستعين {(1) فإن تقدم الضمير هاهنا يفيد الاختصاص كما تقدم، وهو يقتضي أنه لا يشاركه غيره في الاستعانة به في الأمور التي لا يقدر عليها غيره.
فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب يفيد كل واحد منها إخلاص التوحيد، مع أن فاتحة [53] الكتاب ليست إلا سبع آيات، فما ظنك بما في سائر الكتاب العزيز!، فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أن في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسر الإحاطة به. ومما يصلح أن يكون موضعا سادسا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب قوله تعالى:} رب العالمين {. وقد تقرر لغة وشرعا أن العالم لمن سوى الله -سبحانه-.
وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب (2) المعاني والبيان والتفسير والأصول بلغت ثلاث عشرة (3) صيغة فصاعدا، ومن شك في هذا فليتتبع كشاف الزمخشري، فإنه سيجد فيه
_________
(1) [الفاتحة:5].
(2) انظر الكوكب النير (3/ 515) ومعترك الأقران في إعجاز القران (1/ 136).
(3) الحصر: وجه من وجوه إعجاز القرآن. وهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص، ويقال أيضًا إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
ينقسم إلى قصد الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي، مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقيا نحو ما زيد إلا كاتب، أي لا صفة له غيرها، وهو عزيز لا يكاد يوجد. لتعذر الإحاطة بصفات الشيء، حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية وعلى عدم تعذرها يبعد أن يكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها، ولذا لم يقع في التنزيل.
ومثاله مجازيا: (وما محمد إلا رسول) [آل عمران: 144]، أي مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي استعظموا، إنه شأن الإله. ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقيا: لا إله إلا الله. ومثاله مجازيا: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) [الأنعام:145].
وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام:
1 - \ قصر إفراد: يخاطب به من يعتقد الشركة، نحو: (إنما الله إله واحد)، [النساء: 171].
2 - \ قصر قلب: يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له. نحو (ربي الذي يحيي ويميت) [البقرة: 258]، خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه المحيي والمميت دون الله.
3 - \ قصر تعيين: يخاطب به من تساوى عنده الأمران فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها.
وطرق الحصر كثرة:
1 - \ النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أو ما أو غيرهما. والاستثناء بإلا أو غير نحو: لا إله إلا الله، وما من إله إلا الله. (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) [المائدة: 117].
2 - \ (إنما) عند الجمهور أنها للحصر (إنما حرم عليكم الميتة) [النحل: 115]. وقال لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر. (قال إنما العلم عند الله) [الأحقاف: 23]. (قل إنما علمها عند ربي) [الأعراف: 187].
3 - \ (أنما) بالفتح: عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي. قال تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) [الأنبياء: 108]. وقد اجتمع الأمران في هذه الآية (إنما، أنما) وفيه الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقصور على استئثار الله بالوحدانية.
4 - \ العطف بلا أو بل، ذكره أهل البيان - زيد شاعر لا كاتب.
5 - \ تقدم المعمول نحو:} إياك نعبد {[الفاتحة:5].
6 - \ ضمير الفصل نحو: (فالله هو الولي)، [الشورى: 9]. (وأولئك هم المفلحون) [لقمان: 5].
7 - \ تقديم المسند إليه -يكود معرفة ومثبتا-. قال تعالى: (بل أنتم بهديتكم تفرحون) [النمل: 36]. وقال تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) [التوبة: 101] أي لا يعلمهم إلا نحن.
- المسند منفيا: (فهم لا يتساءلون) [القصص: 66].
- المسند نكرة: لا امرأة، للجنس، وللوحدة لا رجلان.
- أن يلي المسند إليه حرف النفي فيفيده نحو: ما أنا قلت هذا. قال تعالى: (وما أنت علينا بعزيز) [هود: 91]. وقال تعالى: (أرهطي أعز عليكم من الله) [هود: 92].
8 - \ تقديم المسند، ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص.
9 - \ ذكر المسند إليه، صرح بذلك الزمخشري. قال تعالى: (الله يبسط الرزق) [الرعد: 26]. قال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث) [الزمر: 23].
10 - \ تعريف الجزأين: ذكره فخر الدين الرازي في "نهاية الإيجاز".
مثال الحمد لله يفيد الحصر كما في (إياك نعبد). أي أن الحمد لله لا لغيره.
11 - \ نحو: جاء زيد نفسه. نقله شراح التلخيص أنه يفيد الحصر.
12 - \ نحو: إن زيد القائم.
13 - \ نحو: قائم - في جواب زيد إما قائم أو قاعد. ذكره الطيبي في شرح البيان.
انظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/ 136 - 142).(1/380)
ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان، كالقلب، فإنه جعله من مقتضيات الحصر، ولعله ذكر ذلك عند تفسيره (1) للطاغوت، وغير ذلك مما لا يقتضي المقام بسطه ومع
_________
(1) أي الكشاف: (5/ 296 - 297). قال تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) [الزمر: 17].
قال -أي الزمخشري- القلب للاختصاص بالنسبة إلى الطاغوت، لأن وزنه على فعلوت، من الطغيان، كملكوت ورحموت. قلب بتقديم اللام على العين، فوزنه فلعوت، ففيه مبالغات: التسمية بالمصدر والبناء بناء مبالغة، والقلب، وهو للاختصاص، إذ لا يطلق على غير الشيطان.
وفي موطن آخر من تفسير الكشاف (6/ 130): حيث قال: قدم الظرفان -في قوله تعالى- (له الملك وله الحمد) [التغابن:1] ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص لأنه مبتدئ كل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه، وكذلك، لأن أصول النعم وفروعها منه.(1/382)
الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة تكثر الأدلة الدالة على إخلاص التوحيد، وإبطال الشرك بجميع أقسامه.
واعلم أن السائل -كثر الله فوائده- ذكر في جملة ما سأل عنه أنه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين، مشهور بالصلاح، ووقف لديه وأدى الزيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميت لديه من المنزلة، هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميت، ويصدق [54] عليه أنه قد دعا غير الله، وأنه قد عبد غير الرحمن، ويسلب عنه اسم الإيمان، ويصدق على هذا القبر أنه وثن من الأوثان، ويحكم بردة ذلك الداعي، والتفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويعامل معاملة المرتدين، أو يكون فاعل معصية كبيرة أو مكروه؟.
وأقول: قد قدمنا في أوائل هذا الجواب أنه لا بأس بالتوسل بنبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أو عالم من العلماء. وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، فهذا الذي جاء إلى القبر زائرا، ودعا الله وحده، وتوسل بذلك الميت، كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسل إليك بما لهذا العبد الصالح من العبادة لك، أو المجاهدة فيك، أو التعلم والتعليم، خالصا لك، فهذا لا أتردد في جوازه.
لكن لأي معنى قام يمشي إلى القبر؟، فإن كان لمحض الزيارة ولم يعزم على الدعاء والتوسل إلا بعد تجريد القصد إلى الزيارة، فهذا ليس بممنوع، فإنه إنما جاء ليزور. وقد أذن لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بزيارة القبور بحديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وهو في الصحيح (1). وخرج لزيارة الموتى، ودعا لهم،
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (977) وأبو داود رقم (3235) والنسائي (4/ 89) والترمذي رقم (1054) وزاد: " فإنها تذكر الآخرة " كلهم من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي.(1/383)
وعلمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم. وكان يقول: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، [55] وإنا بكم -إن شاء الله- لاحقون، وأتاكم ما توعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية (1)، وهو أيضًا في الصحيح بألفاظ، وطرق، فلم يفعل هذا الزائر إلا ما هو مأذون له به، ومشروع، لكن بشرط أن لا يشد راحلة، ولا يعزم على سفر، ولا يرحل كما ورد تقييد الإذن بالزيارة للقبور بحديث: " لا تشد الرحال إلا لثلاث ... " (2) وهو مقيد لمطلق الزيارة. وقد خصص بمخصصات منها زيارة القبر الشريف النبوي المحمدي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتحن بسببها من امتحن، وليس ذكر ذلك هاهنا من مقصودنا.
[حكم المشي إلى القبر ليشير إليه عند التوسل]
وأما إذا لم يقصد مجرد الزيارة، بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدعاء عنده فقط، وجعل الزيارة تابعة لذلك، أو مشى لمجموع الزيارة والدعاء فقد كان يغنيه أن يتوسل إلى الله بما لذلك الميت من الأعمال الصالحة من دون أن يمشي إلى قبره.
فإن قال: إنما مشيت إلى قبره لأشير إليه عند التوسل به، فيقال له إن الذي يعلم السر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه [56]، ويطلع على خفيات الضمائر، وتنكشف لديه مكنونات السرائر لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنها الحاملة لك على قصد القبر، والمشي إليه. وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميت باسمه العلم، أو بما يتميز به عن غيره، فما أراك مشيت لهذه الإشارة، فإن الذي تدعوه في كل مكان، ومع كل إنسان، بل مشيت لتسمع الميت توسلك به، وتعطف قلبه عليك، وتتخذ عنده ندا
_________
(1) تقدم تخريجه آنفا (ص 372).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1189) ومسلم رقم (1397) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/384)
بقصده وزيارته، والدعاء عنده، والتوسل به، وأنت إن رجعت إلى نفسك وسألتها عن هذا المعنى فربما تقر لك به وتصدقك الخبر، فإن وجدت عندها هذا المعنى الدقيق الذي هو بالقبول منك حقيق فاعلم أنه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عباد القبور، ولكنك قهرت هذه النفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشر ما انطوت عليه من محبة ذلك القبر، والاعتقاد فيه، والتعظيم له، والاستغاثة به، فأنت مالك لها من هذه الحيثية، مملوك لها من الحيثية التي أقامتك من مقامك، ومشت بك إلى فوق القبر، فإن تداركت نفسك بعد هذه وإلا كانت المسئولة عليك المتصرفة فيك المتلاعبة بك [57] في جميع ما تهوى مما ما قد وسوس به لها الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
فإن قلت: رجعت إلى نفسي فلم أجد عندها شيئا من هذا، وفتشتها فوجدتها صافية من ذلك الكدر. فما أظن الحامل لك على المشي إلى القبر إلا أنك سمعت الناس يفعلون شيئا ففعلته، ويقولون شيئا فقلته. فاعلم أن هذه أول عقدة من عقد توحيدك، وأول محنة من محن تقليدك، فارجع تؤجر، ولا تتقدم تنحر، فإن هذا التقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة سيحملك على أخواتها فتقف على باب الشرك أولا، ثم تدخل منه ثانيا، ثم تسكن فيه وإليه ثالثا. وأنت في ذلك كله تقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، ورأيتهم يفعلون أمرا ففعلته.
[أحوال الذي يقصد القبر ليدعو عنده]
وإن قلت: إنك على بصيرة في عملك وعلمك، ولست ممن ينقاد لهوى نفسه كالأول، ولا ممن يقهرها، ولكنه يقلد الناس كالثاني، بل أنت صافي السر، نقي الضمير، خالص الاعتقاد، قوي اليقين، صحيح التوحيد، جيد التمييز، كامل العرفان، عالم بالسنة والقرآن، فلا لمراد نفسك اتبعت، ولا في هوة التقليد وقعت،(1/385)
فقل لي بالله ما الحامل لك على التشبه بعباد القبور، والتعزير على من كان في عداد سليمي الصدور، فإنه يراك الجاهل [58] والخامل، ومن هو عن علمك وتمييزك عاطل، فيفعل كفعلك، ويقتدي بك، وليس له بصيرة مثل بصيرتك، ولا قوة في الدين مثل قوتك، فيحكي فعلك صوره، ويخالفه حقيقة، ويعتقد أنك لم تقصد هذا القبر إلا لأمر، ويغتنم إبليس اللعين غربة هذا المسكين الذي اقتدى بك، واستن بسنتك، فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد، فرحم الله امرأ هرب بنفسه عن غوائل التقليد، وأخلص عبادته للحميد المجيد.
وقد ظهر بمجموع هذا التقسيم أن من يقصد القبر ليدعو عنده هو أحد ثلاثة: إن مشى لقصد الزيارة فقط، وعرض له الدعاء، ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير فذلك جائز، وإن مشى لقصد الدعاء فقط، أو له مع الزيارة، وكان له من الاعتقاد ما قدمنا فهو على خطر الوقوع في الشرك، فضلا عن كونه عاصيا، وإذا لم يكن له اعتقاد في الميت على الصفة التي ذكرنا فهو عاص آثم، هذا أقل أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق ... انتهى.
تحريره بقلم مؤلفه في ليلة الأحد لسبع مضت من شهر رجب سنة 1213هـ. حامدا الله، ومصليا مسلما على رسوله وآله.(1/386)
[5]
[23/ 4]
بحث في أن إجابة الدعاء لا ينافي سبق القضاء
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(1/387)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: " بحث في أن الدعاء لا ينافي سبق القضاء ".
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين. اعلم وفقك الله وإياي أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم، وطالت ذيوله.
4 - آخر الرسالة: فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله وآله.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد صفحات الرسالة: (3) صفحات.
الأولى: 18 سطرا. مع هامش على يمين الصفحة.
الثانية: 41 سطرا.
الثالثة: 16 سطرا. مع الهامش في أعلى الصفحة.
8 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".
10 - وجدت العبارة التالية في نهاية المجلد الرابع من " الفتح الرباني ":
" الحمد لله كمل للحقير أحمد بن محمد الشوكاني غفر الله لهما النظر فيه جزى الله مؤلفه أفضل الجزاء، ونفعه بعلمه النافع في دار البقاء وتغشاه برحمته ورضوانه. آمين ".(1/389)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه الأكرمين. اعلم -وفقك الله وإياي- أنه قد وقع الخلاف بين أهل العلم، وطالت ذيوله، وتشعبت أبحاثه في التعارض بين ما ورد من أن القضاء الأزلي من الله -عز وجل- لا يتغير ولا يتبدل، وهو المعبر عنه بأم الكتاب [بقوله] (1) تعالى:} لا معقب لحكمه {(2) وقوله:} ما يبدل القول لدي {(3) وبين ما ورد من الإرشاد إلى الأدعية، وطلب الخير من الله عز وجل، وسؤاله أن يدفع الشر، ويرفع الضر، وسائر المطالب التي [يطالبها] (4) العباد من ربهم -سبحانه- (5) كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر " أخرجه الترمذي (6) من حديث سلمان وحسنه، وابن حبان (7)، وصححه، والحاكم (8) وصححه، والطبراني في الكبير (9)، والضياء في المختارة (10) ومثله حديث ثوبان مرفوعًا بلفظ: " لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في
_________
(1) في المخطوطة [لقوله] والصواب ما أثبتناه.
(2) [الرعد: 41].
(3) [ق: 29].
(4) كذا في المخطوط ولعلها [يطلبها].
(5) انظر قطر الولي على حديث الولي (ص 424 - 425 وص 479 - 491).
(6) في السنن رقم (2139) وقال هذا حديث حسن غريب.
(7) لم يخرجه ابن حبان والحاكم من حديث سلمان.
(8) لم يخرجه ابن حبان والحاكم من حديث سلمان.
(9) (6/ 251 رقم 6128). وفي "الدعاء" (2/ 799 رقم 30).
(10) لم أجده في الأجزاء المطبوعة. قلت: وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (4/ 169) والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 36 رقم 832 - 833).
وفي سنده أبو مولود اسمه فضة وهو بصري مشهور بكنيته ضعفه أبو حاتم في الجرح والتعديل (9317) وقال عنه ابن حجر في التقريب (2/ 112): فيه لين. وقد أورده المنذري في الترغيب رقم (2437) والدمياطي في المتجر الرابح رقم (1374).
وخلاصة القول أن الحديث حسن بشاهد حديث ثوبان الآتي.
قال الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 34: فيه دليل -أي حديث سلمان- على أنه سبحانه يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وقد وردت بهذا أحاديث كثيرة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)، [الرعد: 39].(1/393)
العمر إلا البر، وإن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه" (1) وكقوله: " لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة " أخرجه الحاكم في المستدرك (2)، والبزار (3)، والطبراني في الأوسط (4)، والخطيب (5) قال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث عائشة مرفوعًا.
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 277، 282) وابن ماجه رقم (90) والنسائي في السنن الكبرى (2/ 133 - كما في تحفة الأشراف). والحاكم في المستدرك (1/ 493) والطبراني في المعجم الكبير (2/ 100) وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 441 - 442) والبغوي في شرح السنة (13/ 6) وابن حبان في صحيحه رقم (872). وهو حديث صحيح.
قال ابن القيم في "الجواب الكافي" ص 27: إن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال .. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب، وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ من حصول المطلوب ".
(2) في المستدرك (1/ 492) وقال الحاكم: هذا حديث " صحيح الإسناد " وتعقبه الذهبي بقوله: زكريا مجمع على ضعفه.
(3) في مسنده (3/ 29 - 30 رقم 2165 - كشف).
(4) 3/ 66 رقم 2498) وفي الدعاء (2/ 800 رقم 33).
(5) في تاريخه (8/ 452 - 453).(1/394)
وقال في مجمع الزوائد (1) (2).
وقد ضعف هذا الحديث بزكريا بن منظور (3)، وكما ذكرته في شرحي للعدة (4).
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود (5) والترمذي (6)، وابن ماجه (7) وابن حبان (8) وصححه عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن ربكم حيي كريم يستحي
_________
(1) (10/ 146) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والبزار بنحوه وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.
قلت: وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 359 - 360) وقال: هذا حديث لا يصح وأعله بزكريا ونقل بعض أقوال النقاد فيه.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 1068) في ترجمة زكريا بن يحيى من طريق زكريا بن منظور عن عطاف بن خالد به.
(2) أنزلت النص الآتي من صلب الرسالة إلى الهامش؛ لأنه زيادة مقحمة فيه كما يتضح من تحقيق الرسالة.
[رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي، وهو ثقة].
(3) قال البخاري في " التاريخ الكبير" (3/ 424): " ليس بذاك ". وقال النسائي في " الضعفاء " (ص 109 رقم 221) ضعيف. وقال ابن حبان في المجروحين (1/ 314) منكر الحديث جدا، يروي عن أبي حازم ما لا أصل له من حديثه.
(4) أي تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين ص 35.
يعتلجان: أي يتصارعان. " النهاية " (3/ 286).
قال الشوكاني: فيه دليل على أن الحذر لا يغني عن صاحبه شيئا من القدر المكتوب عليه، ولكنه ينفع من ذلك الدعاء، ولذلك عقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
(5) في السنن رقم (1488).
(6) في السنن رقم (3556) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(7) في السنن رقم (3865).
(8) في صحيحه رقم (876).(1/395)
من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا ". وأخرجه أيضًا الحاكم (1)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح. ثم رواه (2) من حديث أنس مرفوعا: " إن الله رحيم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه، ثم لا يضع فيهما خيرا " وأخرجه الطبراني (3)، وأبو يعلى (4). ومن ذلك قوله: " لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ". أخرجه ابن حبان (5) من حديث أنس، والحاكم في المستدرك (6)، وقال: صحيح الإسناد، والضياء في المختارة (7) وقد رددت في شرحي للعدة (8) على من ضعفه.
_________
(1) في المستدرك (1/ 497). وهو حديث صحيح.
(2) أي الحاكم في المستدرك (1/ 498) وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: عامر بن يساف ذو مناكير.
(3) في الأوسط (5/ 270 رقم 5286).
(4) في مسنده (6/ 3232) بنحوه وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 148). وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
(5) في صحيحه رقم (871) بإسناد ضعيف لضعف عمر بن محمد بن صهبان.
(6) في المستدرك (1/ 494) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: لا أعرف عمرا، تعبت عليه.
(7) في المختارة (5/ 136 رقم 1760).
(8) قال الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 37: " وعدم معرفته -أي الذهبي- له لا تستلزم عدم معرفة غيره له، نعم قال الذهبي في الميزان (3/ 207) حاكيا عن أبي حاتم أنه مجهول، وهذا قادح صحيح. ولهذا قال ابن حجر في لسان الميزان (4/ 325) وقد تساهل الحاكم في تصحيحه، ولكن لا يخفاك أن تصحيح ابن حبان والضياء يكفي ولا يحتاج معه إلى غيره، وعلى تقدير أن في إسنادهما هذا الرجل الذي قيل: إنه مجهول، فمعلوم أنهما لا يصححان الحديث المروي من طريقه إلا وقد عرفاه وعرفا صحة ما رواه، ومن علم حجة على من لم يعلم.
قلت: عمر بن محمد هو بن صهبان الضعيف لا ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كما ظن الحاكم وابن حبان والضياء. فقد جاء مصرحا به عند أبي نعيم في أخبار أصفهان (2/ 232) والعقيلي في الضعفاء (3/ 188) وقال العقيلي عمر بن محمد لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 1674) وقال: عمر بن صهبان عامة أحاديثه مما لا يتابعه الثقات عليه. والغلبة على حديثه المناكير.
ومما تقدم يظهر لنا ضعف كلام الإمام الشوكاني -رحمه الله-. والخلاصة أن الحديث إسناده ضعيف.(1/396)
ومن ذلك: ما أخرجه الترمذي (1) من حديث أبي هريرة، والحاكم في المستدرك (2)، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. وأخرجه أيضًا (3) من حديث سلمان وقال: صحيح الإسناد.
ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك (4) من حديث أبي هريرة، وقال صحيح الإسناد. قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض ". وأخرجه أبو يعلى (5) من حديث علي [بهذا اللفظ، وأخرج أبو يعلى (6) من حديث جابر رضي الله عنه] (7) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم، ويدر لكم أرزاقكم؟ تدعون الله في ليلكم ونهاركم، فإن الدعاء سلاح ...
_________
(1) في السنن رقم (3370) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) في المستدرك (1/ 490): وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. قلت: وأخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (712) والطيالسي في المسند رقم (2585) وأحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (3829). وهو حديث حسن.
(3) لم يخرجه من حديث سلمان، والله أعلم.
(4) في المستدرك (1/ 492) من حديث علي وقال: هذا حديث صحيح. قلت: بل ضعيف لجهالة محمد بن الحسن بن أبي يزيد.
(5) في المسند (1/ 344 رقم 439).
(6) في المسند رقم (182). وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 147) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن أبي حميد وهو ضعيف. وهو حديث ضعيف.
(7) ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها السياق من "تحفة الذاكرين (ص 38) ".(1/397)
المؤمن" (1). وأخرج أحمد في المسند (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من مسلم ينصب وجهه لله في مسألة، إلا أعطاه إياها، إما أن يعجلها له، وإما أن يدخرها له ". قال المنذري في الترغيب والترهيب (3)، لا بأس بإسناده، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (4)، والحاكم (5).
ويشهد لمعناه ما أخرجه أحمد (6)، والبزار (7)، وأبو يعلى (8). قال المنذري (9)، بأسانيد جيدة من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها ".
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (10)، ...
_________
(1) في المخطوطة مكررة.
(2) (2/ 448). وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 148) وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.
(3) (2/ 474 رقم 2426).
(4) رقم (711).
(5) في المستدرك (1/ 497) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وهو حديث صحيح لغيره.
(6) في المسند (3/ 18).
(7) في مسنده رقم (3134، 3144 - كشف).
(8) في مسنده رقم (46/ 1019).
(9) في الترغيب والترهيب (2/ 475 رقم 2427). قلت: وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 493) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 148) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة. والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.
(10) (10/ 200).(1/398)
وأبو داود (1)، والترمذي (2)، والنسائي (3)، وابن حبان (4) قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدعاء هو العبادة، ثم تلا:} وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي {الآية (5) وصححه الترمذي (6)، وابن حبان (7)، والحاكم (8). وأخرج الترمذي (9) من حديث أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدعاء مخ العبادة". وأخرج الترمذي (10) والحاكم في المستدرك (11) وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لم يسأل الله يغضب عليه ". وفي لفظ: " من لم يدع الله يغضب
_________
(1) في السنن رقم (1479).
(2) في السنن رقم (3247) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) في السنن الكبرى رقم (11464).
(4) في صحيحه رقم (890).
(5) [غافر: 60].
(6) في السنن (5/ 456).
(7) في صحيحه (3/ 172).
(8) في المستدرك (1/ 491) وصححه ووافقه الذهبي.
قلت: وأخرجه أحمد (4/ 267) والبغوي في شرح السنة رقم (1384)، والطيالسي رقم (801) والبخاري في الأدب المفرد رقم (714) وابن ماجه رقم (3828) وأبو نعيم في الحلية (8/ 120) كلهم من حديث النعمان بن بشير. وهو حديث حسن.
(9) في السنن رقم (3371)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
وقال الألباني: -رحمه الله- ضعيف بهذا اللفظ.
(10) في السنن رقم (3373).
(11) في المستدرك (1/ 491) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. واللفظ: " من لا يدعو الله يغضب عليه ". قلت: وأخرجه أحمد (2/ 442، 443، 447) والبخاري في الأدب المفرد رقم (658) والبغوي في شرح السنة (5/ 188) وابن ماجه رقم (3827).(1/399)
عليه " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1)، والحاكم في المستدرك (2) وصححه.
ومن ذلك استعاذته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سوء القضاء كما في صحيح مسلم (3) وغيره (4).
ومن (5) ذلك ما ثبت في قنوت الوتر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فيه: " وقني شر ما قضيت " وهو حديث صحيح، وإن لم يخرجه الشيخان (6) وفيهما الاستعاذة من القضاء المشتمل على الشر والسوء.
ومن ذلك الأحاديث الواردة في صلة الرحم، وأنها (7) تزيد في العمر وهي أحاديث
_________
(1) (10/ 200)
(2) في المستدرك (1/ 491). والخلاصة: إن الحديث حسن والله أعلم.
(3) في صحيحه رقم (53/ 2707).
(4) كالبخاري في صحيحه رقم (6347) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كان يتعوذ من سوء القضاء ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء.
(5) أخرجه أبو داود رقم (1425، 1426) والترمذي رقم (464) وابن ماجه رقم (1178) من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما. وهو حديث صحيح.
(6) وهو كما قال الشوكاني رحمه الله، انظر التعليقة السابقة.
(7) رأي الشوكاني في المسألة: ذهب الشوكاني إلى أن أجل الإنسان يزيد وينقص، وأن الله سبحانه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ ويثبت ما يشاء منه واستدل على ذلك بأدلة كثيرة:- قال تعالى: (لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) [الرعد: 38 - 39].
وقال الشوكاني عند تفسيره الآية: "أي لكل أمر مما قضاه الله، أو لكل وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب، الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي يمحو من ذلك الكتاب، ويثبت ما يشاء منه ثم قال: " وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر، أو خير أو شر ... ".
وأورد اثني عشر قولا في معنى الآية ورجَّح أن الآية عامة وأن العمر فرد من أفرادها ... فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ
".
انظر تفصيل ذلك " فتح القدير " للشوكاني (3/ 88) قطر الولي (504 - 506).
ولكن الرأي الراجح أن المحو والإثبات في المكتوب عند الملائكة وأن ما في سابق علمه سبحانه وفي اللوح المحفوظ لا يقع فيه المحو والإثبات، وقد ذكر ذلك ابن تيمية في مجموع فتاوى (14/ 490 - 492) و (8/ 517، 540) وابن أبي العز الحنفي في " شرح العقيدة الطحاوية " ص 152، وابن حجر في الفتح (4/ 353 - 354) (11/ 497).
وعلى هذا القول فإن الكتاب كتابان: أحدهما الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق - عن أنس بن مالك قال: " وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6595) ومسلم في صحيحه رقم (2646) - وذلك الكتاب محل المحو والإثبات والكتاب الثاني أم الكتاب أو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب المشتمل على تعيين جميع الأحوال العلوية والسفلية، وهو الباقي لا يغير فيه شيء.
انظر: تفسير ابن كثير (2/ 538) زاد المسير (4/ 339) وجامع البيان (13/ 167) لابن جرير.
قال الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي في تيسير الكريم المنان (4/ 117):-
قال تعالى: (يمحو الله ما يشاء) الآية " يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه. فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال (وعنده أم الكتاب) أي اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع وشعب فالتغيير والتعديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.
وعلى هذا فإن زيادة الآجال ونقصها بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، لا بالنسبة إلى ما في سابق علم الله وقضائه، فلا زيادة فيه ولا نقص وهو معنى قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف: 34، النحل: 61].
ومن الأدلة على أن الآجال لا تتغير ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2663) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية قال: فقال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد سألت الله لأجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله ".(1/401)
صحيحة (1).
ومن ذلك الأحاديث الواردة في إجابة دعاء المظلوم على ظالمه (2). والأحاديث الواردة في دعاء الوالدين لولدهما (3). والأحاديث الواردة في دعوة الإمام العادل (4)، والأحاديث
_________
(1) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5986) ومسلم رقم (2557) من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
(ومنها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5985). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من سره أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه ".
(2) (منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1395) ومسلم رقم (19) والترمذي رقم (625) وأبو داود رقم (1584) والنسائي (5/ 52، 55) وابن ماجه رقم (1783). من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتقوا دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".
(3) أخرج أبو داود رقم (1536) والترمذي رقم (3448) وابن ماجه رقم (3862) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد لولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم ". وهو حديث حسن.
(4) أخرج الترمذي رقم (1905) وابن ماجه رقم (1752) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء. يقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين". وهو حديث صحيح.(1/402)
الواردة في إجابة دعوة من دعا الله باسمه الأعظم (1)، وغير ذلك كثير، وجميع ذلك على اختلاف دلالته متواتر.
فليت شعري؟! كيف ذهب جماعة من أهل العلم إلى مخالفة ذلك كله وقالوا: إن أحكام الله وقضاءه في سابق علمه، لا تتغير أصلا (2)؟!. فإن استدلوا بمثل قوله تعالى:} ما يبدل القول لدي {(3)، وما ورد في اللوح المحفوظ، وما كتب فيه، وأنه قد حق القضاء ونحو ذلك، فأي فائدة في مثل قوله عز وجل:} ادعوني أستجب لكم {(4)،
_________
(1) أخرج الترمذي في السنن رقم (3475) وابن ماجه رقم (3857). من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد ويدي في يده، فإذا رجل يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد الذي لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد دعا الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دعي به أجاب ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار، أو عذاب القبر كان خيرا وأفضل ".
هذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير. ولهذا جمع العلماء بين هذا الحديث وما في معناه من الآيات.
- قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف:34].
- قال تعالى: (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) [المنافقون: 11].
وبين ما ورد في زيادة العمر لمن وصل رحمه، وأجابوا بأجوبة منها: أن الزيادة كناية عن البركة في العمر، والتوفيق إلى الطاعات، وما يبقى بعده من الثناء الجميل فكأنه لم يمت. انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 114).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أن تلك البركة وهي زيادة في العمل والنفع هي أيضًا مقدرة مكتوبة ... مجموع فتاوى (14/ 491 - 492).
(2) سبق ذكر التعليقة ص 400.
(3) [ق: 29].
(4) [غافر: 60].(1/403)
فإن هذا أمر منه لعباده بدعائه، وأي فائدة في أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يخبر عباده بأنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟ وأي فائدة في قوله -عز وجل-[1 ب] مخبرا لعباده.} يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب {(1)، كيف وقد علمنا سبحانه كيف ندعو في نحو قوله:} ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا {إلى آخر الآية، وحكى لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل قال عن هذه الدعوات: قد فعلت؟؟ وكذلك سائر ما قصه الله علينا في كتابه من إجابته لدعوة أنبيائه كما في قوله [عز وجل] (2).} حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا {(3)؟. وفي مثل:} إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم {(4)، وما يشابه ذلك من الآيات (5) وما شوهد من نبينا -عليه الصلاة والسلام- من إجابة دعواته في مواطن يتعسر إحصاؤها (6)، وما شوهد من صالحي هذه الأمة في كل قرن من
_________
(1) [الرعد: 39].
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) [يوسف: 110].
(4) [محمد: 7].
(5) قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) [الأنفال: 9].
قال تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) [يونس: 12].
قال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه) [الزمر: 8].
وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) [البقرة: 186].
(6) أخرج البخاري في صحيحه رقم (933) ومسلم في صحيحه رقم (897) عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر يوم الجمعة يخطب، أتاه أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وما نرى في السماء قزعة، فواالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب كأمثال الجبال، ثم لم ينزل عن المنبر حتى رأيت الماء يتحارد على لحيته فمطرنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى ... ".
وما أخرجه الترمذي رقم (3514) بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم استجب لسعد إذا دعاك ". فكان لا يدعو إلا استجيب له. سيأتي (ص 1073).
انظر: " تهذيب الخصائص النبوية الكبرى " (ص 335 - 345).(1/404)
القرون، من إجابة دعواتهم في الحال. ومن جهل هذا، أو بعضه، نظر في مثل حلية الأولياء (1)، ومثل رسالة القشيري (2)، ومثل صفوة الصفوة لابن الجوزي (3)، وغير ذلك مما يكثر تعداده. بل ينظر الدعوات المجابة من الصحابة -رضي الله عنهم- كما دوَّناه في البحث الذي قبل هذا (4).
كما وقع مع جماعة كثيرة من السلف -رحمهم الله- أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: " اللهم إن كنت قد كتبتني في ديوان الأشقياء فانقلني إلى ديوان السعداء" بعبارات مختلفة هذه أحدها (5).
وبالجملة فالكتاب العزيز، والسنة المتواترة، ترد عليهم ردا أوضح من شمس النهار. وطائفة قالت: إن الأقضية على نوعين (6): مطلقة ومقيدة. فالمطلقة ما لم تكن
_________
(1) انظر الرسالة رقم (26) من هذا القسم -العقيدة-. فقد تم التعريف بهذه الكتب.
(2) انظر الرسالة رقم (26) من هذا القسم -العقيدة-. فقد تم التعريف بهذه الكتب.
(3) انظر الرسالة رقم (26) من هذا القسم -العقيدة-. فقد تم التعريف بهذه الكتب.
(4) الرسالة رقم (26) من هذا القسم بعنوان " بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء ".
(5) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان (8\ ص 13/ 167 - 168) عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود
(6) ومثاله كأن يقال للملك: إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر. والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه ألبتة - ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق. فتح الباري (10/ 416).
وأشار إلى ذلك ابن تيمية في مجموع فتاوى (8/ 517) حيث قال: والأجل أجلان، أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، وهذا يتبين معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يبسط في رزقه، وينسأ في أثره فليصل رحمه" - تقدم تخريجه (ص 402) - فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلا وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا؟ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر".(1/405)
مشروطة بشرط، واقعة، وإلا فلا.
وهذا القول وإن كان مردودا مثل الأول، إلا أنه أقل مفسدة منه، وإن كان رأيا بحتا ليس عليه دليل. وبالجملة فالبحث يطول. فلنقتصر على هذا المقدار، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله وآله. الحمد لله، كمل للحقير أحمد بن محمد الشوكاني -غفر الله لهما- النظر فيه - جزى الله مؤلفه أفضل الجزاء، ونفعه بعلمه النافع في دار البقاء، وتغشاه برحمته ورضوانه - آمين [2 أ].(1/406)
بحث
في
وجوب محبة الرب سبحانه
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(1/407)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: " بحث في وجوب محبة الله ".
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. اعلم أن محبة الله عز وجل هي من أعظم الفرائض المفترضة على العباد ..
4 - آخر الرسالة: ... إني لأعرف ناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمنزلتهم عند الله يوم القيامة الذين يحبون الله ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله، فإذا أطاعوا الله أحبهم الله.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: (3) ثلاثة.
الأولى: 28 سطرا.
الثانية: 32 سطرا.
الثالثة: 28 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 13 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(1/409)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين. اعلم أن محبة الله -عز وجل- من أعظم الفرائض المفترضة على العباد كما يدل على ذلك آيات الكتاب المبين، وأحاديث سيد المرسلين، وإجماع المسلمين أجمعين، فمن ذلك قول الله -عز وجل-:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله {(1).
وقد علم أن اتباع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فرض واجب لا خلاف فيه، وكانت هذه المحبة لله -سبحانه- أدخل في الفرضية لتعليق الاتباع بها، وجعله متسببا عنها، مع ما في ذلك من التهييج للعباد على الاتباع بما هو مطلوب لكل فرد من أفرادهم، ومقصد من مقاصد عامهم وخاصهم، فإن دخول العبد في زمرة المحبين لله -عز وجل- هو الذي يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق إليه المتسابقون، فإذا سمع السامع أن هذا الاتباع (2) لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هو صنع من يحب الله، وعمل من يتصف بذلك سعى إليه وبادر به، وبالغ في تحصيله بكل ممكن.
والحاصل أن في هذا النظم القرآني دلالة بينة على أن اتباع (3) رسول الله- صلى الله
_________
(1) [آل عمران: 31]
(2) قال ابن كثير في تفسيره (2/ 22): هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله.
قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله {.
(3) ويعتبر اتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض واجب لا خلاف فيه:
قال تعالى:} لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا {[الأحزاب: 21].
وقال سبحانه وتعالى:} فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون {[الأعراف:158] وقال سبحانه وتعالى:} فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {[النساء: 65].
وقال تعالى:} فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر {[النساء:59].
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ". من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أخرجه مسلم رقم (1337).
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ". أخرجه البخاري رقم (7280).(1/413)
عليه وآله وسلم- متسبب عن محبة العبد لله، وفرع من فروعها، وأنه سبب لمحبة الله -عز وجل- للعبد، ومن أحب الله وأحبه الله فقد ظفر بالغاية القصوى، ووصل المقصد الأسنى الذي هو أعلى مطالب الطالبين، ونهاية رغبات الراغبين، وكل العبادات والأعمال الصالحات إنما هي للتوصل بها إلى هذه المحبة التي يكون بها حصول الفلاح والنجاح والفوز لكل محبوب، والنجاة من كل مكروه.
ومن الآيات القرآنية الدالة على فرضية محبة العبد لربه، قوله -عز وجل-:} قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين {(1).
فهذا الوعيد المذكور في آخر هذه الآية بقوله:} فتربصوا حتى يأتي الله بأمره {(2) مع قوله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (3) قد دل أبلغ دلالة على أن محبة
_________
(1) [التوبة:24]
(2) [التوبة:24]
(3) [التوبة:24](1/414)
العبد لله -عز وجل- فرض من أعظم الفرائض الدينية، ولا سيما بعد ذكره لما هو غاية ما يحب في الدنيا من الأشخاص الذين هم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر، فإن هؤلاء هم الذين تحصل المحبة لهم، وضم إلى ذلك الأموال والمساكن، وما هو أعظم أسباب الكسب وهو التجارة بصدقه على غالب المكاسب التي يتكسب العباد بها، ويحصلون الأرزاق منها.
ومعلوم أن الله لا يتوعد بالعذاب، ويشير إلى أن من لم يقم بما توعد عليه فهو من القوم الفاسقين المحرومين للهداية الربانية والعناية الإلهية، إلا على فرض لازم، وواجب متحتم.
ولهذا كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يستكثر من سؤال الله -سبحانه- حصول هذه المحبة له كما أخرجه أحمد (1)، والترمذي (2)، والحاكم (3) وصححه من حديث معاذ بن جبل، وفيه: "أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك" فوقع منه السؤال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لحب الله، وحب ما هو وسيلة إليه، وحب من حصل له هذا الحب.
وأخرج نحوه البزار (4)، والطبراني (5)، والحاكم (6) من حديث ثوبان، وأخرجه أيضًا البزار (7) من حديث ابن عمر، وأخرجه أيضًا الترمذي (8). . . . . . . . . .
_________
(1) في "المسند" (5/ 243).
(2) في "السنن" رقم (3235) وقال: "حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح" اهـ.
(3) في " المستدرك" (1/ 521). وهو حديث صحيح.
(4) في مسنده (4/ 60 رقم 3197 - كشف). وأورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 181) وقال: رواه البزار وإسناده حسن.
(5) في " الكبير" (20/ 109 - 110 رقم 216) من حديث معاذ بن جبل.
(6) في "المستدرك " (1/ 527) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري.
(7) لم أعثر عليه؟!
(8) في "السنن" رقم (3490) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ولكن في سنده عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي. وقيل: ابن يزيد بن ربيعة، وهو مجهول من السادسة. انظر "التقريب" رقم (3309).(1/415)
والحاكم (1) من حديث أبي الدرداء، وفي آخره بعد ذكر ما في حديث (2) معاذ ما لفظه: "اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد" وحسنه الترمذي (3).
وأخرج الترمذي (4) أيضًا وحسنه من حديث عبد الله بن بريدة الخطمي عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول -في دعائه-: "اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك". وفي الباب أحاديث وآثار بهذا المعنى عن جماعة من الصحابة.
ومن الأدلة المرشدة إلى افتراض محبة الله -عز وجل- ما ورد في الأحاديث الصحيحة من التحاب في الله، فإن التحاب في الله -عز وجل- هو من محبة الله -سبحانه-.
ومنها الحديث الصحيح (5): " إن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة ".
_________
(1) في " في المستدرك " (2/ 433) وقال: صحيح الإسناد ورده الذهبي بقوله: قلت: بل عبد الله هذا قال أحمد: أحاديثه موضوعة. والخلاصة أن الحديث ضعيف، والله أعلم.
(2) تقدم تخريجه آنفا.
(3) في السنن (5/ 522).
(4) في "السنن " (5/ 523 رقم 3491) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: وأخرجه الطبراني في "الدعاء" (3/ 1454 رقم 1403).
وهو حديث حسن.
(5) أخرج الترمذي في "السنن" رقم (2390) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ومالك في "الموطأ" (2/ 953 رقم 16)، وأحمد في "المسند" (5/ 233)، والطبراني في "الكبير" (20/ 80 رقم 150) والحاكم في "المستدرك" (4/ 168 - 169) والقضاعي "مسند الشهاب" (2/ 322 - 323 رقم 1449 - 1450) وابن حبان في صحيحه رقم (574) وهو حديث صحيح.
عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "قال الله عز وجل: المتاحبون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ". وأخرج الحاكم (4/ 169) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأحمد (5/ 229، 247)، والطبراني في "الكبير" (20/ 81 رقم 152، 153، 154) عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه، إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه، وصدروا عن قوله، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت، فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي.
قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني أحبك لله، فقال: ألله؟ فقلت: ألله؟ فقال: ألله؟ فقلت: ألله؟ فقال: ألله؟ فقلت: ألله، قال: فأحذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في " وهو حديث صحيح.
وأخرج ابن حبان في صحيحه رقم (576) وأحمد (5/ 239) والطبراني في "الكبير" (20/ 87 - 88 رقم 167 و168)، وأبو نعيم في "الحلية" (5، 121، 122، 131). من طرق عن أبي مسلم الخولاني، قال: قلت لمعاذ بن جبل: والله إني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك، ولا قرابة بيني وبينك قال: فلأي شيء؟ قلت: لله، قال: فجذب حبوتي، ثم قال: أبشر إن كنت صادقا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء" ثم قال: فخرجت فأتيت عبادة بن الصامت، فحدثته بحديث معاذ، فقال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول عن ربه تبارك وتعالى: "حقت محبتي على المتحابين في، وحقت محبتي على المتناصحين في، وحقت محبتي على المتزاورين في، وحقت محبتي على المتباذلين في، وهم على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون بمكانهم ".
وهو حديث صحيح.
وأخرج أبو داود في "السنن" رقم (3527) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى".
قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها؛ فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا حزن الناس " وقرأ هذه الآية} ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {[يونس: 62].
وإسناده منقطع، أبو زرعة لم يدرك عمر، وروايته عنه مرسلة. وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 390 رقم 572) من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة، وأبو زرعة يروي عن أبي هريرة. فالحديث حسن. وقد صححه الألباني في صحيح أبي داود والله أعلم.(1/416)
ومنها: حديث (1): " إن العبد لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله " وهو حديث صحيح.
وأخرج أحمد (2) والترمذي (3) من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أعطى لله، ومنع لله، وأبغض لله، وأحب لله فقد استكمل إيمانه" وواجب على العبد أن يطلب ما يكمل به إيمانه. وأخرجه أيضًا أبو داود (4) من حديث أبي أمامة.
وأخرج أحمد (5) من حديث البراء بن عازب عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 298، 520) والحاكم (1/ 3) والبزار في مسنده (1/ 50 رقم 63 - كشف) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من أحب لله" وقال هاشم: "من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل".
قال الحاكم: صحيح لا يحفظ له علة، وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 90) وقال: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات" .. وهو حديث حسن.
وأخرج البخاري (1/ 60 رقم 16) ومسلم في صحيحه (1/ 66 رقم 67/ 43) والترمذي (5/ 15 رقم 2624) والنسائي (8/ 96 رقم 4988) وابن ماجه رقم (4033) عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار".
(2) في "المسند" (3/ 438، 440).
(3) في "السنن" رقم (2521) وقال: حديث حسن، وهو كما قال.
(4) في "السنن" رقم (4681) وهو حديث حسن، انظر "الصحيحة" رقم (380).
(5) في "المسند" (4/ 286) وفيه " أوسط" بدل "أوثق". وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 89 - 90) وقال: رواه أحمد وفيه ليث بن أبي سليم وضعفه الأكثر.(1/418)
قال: " إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله ". وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن الصحابة واسعة.
وفي صحيح البخاري (1) وغيره أن رجلا كان يؤتى به إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد شرب الخمر، فقال رجل: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، فجعل العلة المقتضية للمنع من سبه كونه يحب الله ورسوله، مع ارتكابه لذلك المحرم المجمع عليه، والمعصية الشديدة.
وأخرج الترمذي (2) من حديث ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " أحبوا الله لما يغدوكم من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي" ومن أعظم ما ينبه على افتراض هذه [1ب] المحبة قوله -عز وجل-:} يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ... {الآية (3)
_________
(1) رقم (6780) من حديث عمر بن الخطاب.
(2) في "السنن" رقم (3789) وقال: هذا حديث حسن غريب.
قلت: وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 150)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 211)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 160).
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وقال الألباني في "تخريج فقه السيرة للغزالي" ص20: "وهذا من تساهلهم جميعا لا سيما الذهبي، فقد أورد النوفلي هذا في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" وقال فيه: "فيه جهالة، ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف"، ثم ساق له هذا الحديث فأنى له الصحة؟! وقد تفرد به هذا المجهول، ولم يوثقه أحد، ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في "التقريب" رقم (3372) إنه مقبول يعنى عند المتابعة، فأنى المتابع له؟! ولذلك فقد أصاب ابن الجوزي حين قال: "هو غير صحيح" كما نقله المناوي في "فيض القدير" وتعقبه بما لا طائل تحته" اهـ.
والخلاصة أن الحديث ضعيف والله أعلم.
(3) [المائدة:54] وقد ذكر الله سبحانه وتعالى صفات أولئك القوم الذي سيأتي بهم قال تعالى:}
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم {[المائدة:54].
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/ 25). فقد ذكر لهم أربع علامات:
1 - ، 2): أذلة على المؤمنين قيل: أرقاء رحماء مشفقين عليهم عاطفين عليهم. قال عطاء: للمؤمنين كالولد لوالده، والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته} أشداء على الكفار رحماء بينهم {[الفتح: 29].
3 - ) الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد، واللسان والمال وذلك تحقيق دعوى المحبة.
4 - ) أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهدا علامة صحة المحبة.(1/419)
فتوعد المرتدين عن الدين بأنه سيأتي بقوم هذه صفتهم، فأفاد ذلك أن هذا الوصف أشرف الأوصاف، وأعلى ما تتسبب عنه الخيرات، ومن أعظم البواعث على محبة الله -عز وجل- أنه يحصل بها المحبة من الله -عز وجل- للعبد والمغفرة لذنوبه كما تقدم في قوله:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم {(1)، ومن أحبه الله -عز وجل- أعطاه ما لم يكن له في حساب، كما ورد في الحديث الثابت في صحيح البخاري (2) وغيره عن أبي هريرة عن
_________
(1) [آل عمران:31]
(2) رقم (6502).
قال ابن تيمية في "الفرقان ببن أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص 51: وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى ومنعوا من يحب أن يمنع.
وقال الحافظ في "الفتح" (11/ 342 - 343): قال الفاكهاني: في هذا تهديد شديد، لأن من حاربه الله أهلكه، وهو من المجاز البليغ، لأن من كره من أحب الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه. وقال الطوفي: لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى، تولاه الله بالحفظ والنصرة.(1/420)
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: يقول الله -عز وجل-: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألته لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته".
وقد روي هذا المعنى من حديث جماعة من الصحابة (1)، وأخرج ابن ماجه (2) من رواية موسى بن عبيدٍ عن سعيد المقبري، عن الأذرع السلمي قال: كان رجل يقرأ قراءة عالية، فمات بالمدينة فحملوا نعشه فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ارفقوا به رفق الله به، إنه كان يحب الله ورسوله" قال: وحضر حفرته فقال: "أوسعوا له وسع الله عليه" فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه، قال: "أجل، إنه كان يحب الله ورسوله ".
وفي الصحيحين (3) وغيرهما من حديث أنس أن رجلا سأل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال: رسول الله
_________
(1) انظرها في "مجمع الزوائد" للهيثمي (2/ 247 - 248).
(2) في "السنن" رقم (1559).
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 276 رقم 564): "ليس لأذرع السلمي هذا عند ابن ماجه سوى هذا الحديث، وليس له شيء في الخمسة الأصول، وإسناد حديثه ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي ... ". وهو حديث ضعيف.
(3) البخاري في صحيحه رقم (6171) ومسلم في صحيحه رقم (164/ 2639).(1/421)
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "فأنت مع من أحببت".
وفي رواية للبخاري (1) قلنا: ونحن كذلك، قال: نعم، ففرحنا يومئذ بذلك فرحا شديدا، وفي رواية لمسلم (2)، قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قوله: " أنت مع من أحببت".
وأخرج البزار (3) في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه
_________
(1) في صحيحه رقم (6167).
(2) في صحيحه رقم (163/ 2639).
(3) في مسنده (1/ 85 رقم 140 - كشف).
وأورده الهيثمي في "المجمع" (1/ 120) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار، وفيه عبد الله بن عبد القدوس، وثقه البخاري وابن حبان وضعفه ابن معين.
وقد ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/ 20 - 21) الأسباب الجالبة للمحبة وهي عشرة:
أحدها: قراءة القرآن، بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبان الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
السابع: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة: وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة.(1/422)
وآله وسلم- قال: "إني لأعرف ناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم عند الله يوم القيامة، الذين يحبون الله ويحبونه إلى خلقه يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله".(1/423)
بحث
في
حديث
(إن الله خلق آدم على صورته)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(1/425)
وصف المخطوط (أ)
1 - عنوان الرسالة: "بحث في حديث أن الله خلق آدم على صورته".
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
أول الرسالة: الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد .. فإنه سألني الأخ القاضي العلامة الحسين بن يحيى السحولي، وكثر الله فوائده عن معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله خلق آدم على صورته "
4 - آخر الرسالة: ... والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على نبيه وآله خير نبي آل حرره المجيب محمد بن على الشوكاني في شهر القعدة سنة 1207.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: 4 صفحات الأولى: 33 سطرا.
الثانية: 31 سطرا.
الثالثة: 27 سطرا.
الرابعة: 25 سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 17 كلمة تقريبا.
الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(1/427)
وصف المخطوط (ب)
1 - عنوان الرسالة: "سؤال عن حديث أن الله خلق آدم على صورته، ... "
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: سؤال عن حديث إن الله خلق آدم على صورته، وعن ما روي عن قبض السماوات والأرض يوم القيامة بين السبابة والإبهام، فضحك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم يكشف عن ساق ".
4 - آخر الرسالة: .... والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على نبيه وآله خير نبي آل.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد الصفحات: 8 صفحات:
الأولى: 6 سطرا.
الثانية- السابعة: 24 سطرا.
الثامنة: 3 أسطر.
7 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة.
8 - حصلت على المخطوطة "ب" من الأخ الفاضل\ عادل حسين أمين\ الذي أحضرها من الهند أثناء دراسته هناك جزاه الله خيرا.(1/431)
*بين يدي الرسالة رقم (7) *
. أهمية العلم بصفات الله وإثباتها له تعالى:
(1): أن الله سبحانه عرف نفسه إلى عباده بهذه الصفات، فالعلم بها، وإثباتها له على الوجه اللائق به مع تنزيهه عن كل نقيصة هو الطريق إلى معرفة الله تعالى؛ لأن معرفته جل وعلا بحقيقة كنهه غير ممكنة، وإنما يعرف بما أثبته لنفسه من صفات الكمال، وما نفاه عن نفسه من العيوب والنقائص.
(2): أن العلم بالصفات وإثباتها لله تعالى هو من توحيد الله عز وجل الذي يعتبر من أشرف العلوم، ويعادل ثلث القرآن.
وهو ما أشار إليه الحافظ في الفتح (9/ 61) في شرح حديث أبي سعيد الخدري في أن} قل هو الله أحد {تعدل ثلث القرآن -أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5013) و (5014) ورقم (5015). نقلا عن بعض العلماء:
"تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما يجب إثباته لله من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال المعنى ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحيد الاعتقادي. ولذلك عادلت ثلث القرآن، لأن القرآن خبر وإنشاء، والإنشاء أمر ونهي وإباحة، والخبر خبر عن الخالق، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عن الله، وخلصت قارئها من الشرك الاعتقادي.
وانظر بدائع الفوائد لابن القيم (1/ 184).
. قواعد إثبات صفات الله تعالى:
(القاعدة الأولى): إثبات صفات الله تعالى توقيفي- فلا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب، والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه.(1/435)
وقال الإمام أحمد بن حنبل " لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصف به رسول، لا يتجاوز القرآن والحديث ".
الفتوى الحموية الكبرى لابن تيمية (ص 61). وفتح الباري (13/ 357).
. ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:
(الأولى): التصريح بالصفة، كالعزة والقوة، والرحمة.
(الثاني): تضمن الاسم لها، مثل الغفور متضمن للمغفرة والسميع متضمن للسمع.
(الثالث): التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش والمجيء للفصل بين العباد والنزول إلى السماء. قال تعالى:} الرحمن على العرش استوى {(1) [الفجر: 22].
انظر: " الفتوى الحموية " لابن تيمية (ص 61).
" بدائع الفوائد " (1/ 183)، فتح الباري (13/ 357).
(القاعدة الثانية): ليس كل ما أضيف إلى الله يكون صفة له، بل الألفاظ المضافة إلى الله على مراتب:-.
فالإضافة على مراتب ثلاثة: " إضافة إيجاد وإضافة تشريف وإضافة صفة " فهذه قاعدة مهمة في التمييز بين ما أضيف إلى الله إضافة صفة، وما أضافه إليه إضافة خلق وإيجاد، أو تخصيص وتشريف، فكل ما أضيف إلى الله مما هو غير بائن عنه فهو صفة له غير مخلوقة. وكل شيء أضيف إلى الله مما هو بائن عنه فهو مخلوق، فليس كل ما أضيف إلى الله يستلزم أن يكون صفة له، وقد أشار إلى هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (9/ 290 - 291).
_________
(1) [طه: 5]. وقوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا}.}}}}}}(1/436)
(القاعدة الثالثة): ذات الباري لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات وهذه منتزعة دلالتها من النصوص قال تعالى:} ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {(1).
انظر: تفصيل ذلك في التدمرية (ص 44 - 45)، والحجة في بيان المحجة، لأبي القاسم الأصبهاني (1/ 175).
(القاعدة الرابعة): تنزيه الله تعالى عما لا يليق به.
قال الحافظ في الفتح (11/ 206 - 207) - تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله من كل نقص وتقديس صفاته من النقائص. قال: " فيلزم نفى الشريك والصاحبة والولد، وجميع الرذائل ... لذلك جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو سبحان، سبح بلفظ الماضي ويسبح بلفظ المضارع.
_________
(1) [الشورى:11].(1/437)
بسم الله الرحمن الرحيم
[الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد:
فإنه سألني الأخ القاضي العلامة الحسن بن يحيى السحولي- وكثر الله فوائده- عن معنى قوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله خلق آدم على صورته" (1) وعن المروي أنه سأل النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض الأحبار عن قبض (2) السماوات يوم القيامة فقال: " بين السبابة والإبهام " فضحك- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعن قوله (3) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تفسير قول الله:} يوم يكشف عن ساق {(4) أنه يكشف الله عن ساقه، وعن قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " إن جهنم تقول يوم القيامة:} هل من مزيد {(5) فيضع الله قدمه فتقول: " قط قط" (6). قال- حفظه الله-: فهل تكون هذه الأخبار مجازا، أو إن ذلك حقيقة؟] (7).
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6227) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4811) ومسلم في صحيحه رقم (2786) عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، إنا نجد: أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:} وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون {[الزمر: 67].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7439) ورقم (4919) مختصرا ومطولا. ومسلم في صحيحه (3/ 25 - 34 - شرح النووي) كتاب الإيمان.
(4) [القلم: 42].
(5) [ق:30].
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4848) من حديث أنس رضي الله عنه.
(7) زيادة من [أ].}}}}}}(1/439)
[سؤال عن حديث إن الله خلق آدم (1) على صورته، وعن ما روي عن (2) قبض السماوات والأرض يوم القيامة بين السبابة والإبهام، فضحك- رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعن تفسير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) -} يوم يكشف عن ساق {(4) أنه عن ساقه، وعن قوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن جهنم تقول يوم القيامة:} هل من مزيد {(5) فيضع (6) الله قدمه فتقول: قط قط. هل هذا مجاز أو حقيقة؟ فقال رضي الله عنه] (7).
أقول: قد اختلف الناس في هذه الأحاديث وأمثالها من أحاديث الصفات، وكذلك الآيات الواردة هذا المورد. فذهب قوم إلى أنه لا يتكلم في معناها بل يجب الإيمان بها، والاعتقاد بما يليق بجلال الله مع اعتقادنا الجازم بأن الله- جل جلاله- ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسيم ونحوه، وهذا مذهب السلف. حكاه النووي (8) عن معظمهم، و [واختاره] (9) جماعة من محققي المتكلمين، وهو مذهب الصدر الأول من أئمة الآل، كما حكى ذلك عنهم غير واحد.
قال النووي (10): وغيره وهو أسلم، واحتجوا بوجوه:
الأول: [على] (11) أن المتأول إما أن يقطع على أن للمتشابه تأويلا واحدا أولا.
_________
(1) سبق ذكره (ص 439)
(2) سبق ذكره (ص 439)
(3) سبق ذكره (ص 439)
(4) [القلم:42]
(5) [ق:30]
(6) سبق ذكره (ص 439)
(7) زيادة من [ب]
(8) انظر" فتح الباري" (13/ 458) و (13/ 383)
(9) في [أ]: إخباره.
(10) نظر " الفتوى الحموية " (ص70). ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 201 - 205).
(11) زيادة من [ب]}}}}}}(1/440)
الأول: ممنوع لأنه لا طريق إلى العلم إلا بأن الأولين والآخرين من العلماء الراسخين لو اجتمعوا ما وجدوا سبيلا إلى تأويل ثان غير ما وقع لهذا المتأول وهو باطل، لأن غاية الأمر أنه طلب [فلم] (1) يجد، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود في الواقع.
والثاني: يلزم منه أن المتأول لا يأمن أن يكون التأويل الذي جوزه مغايرا لما وقع له حقا والذي وقع له باطلا، فلا يحل له أن يخبر عن الله، أو عن رسوله بأنهما أرادا هذا التأويل بعينه دون غيره، لأن ذلك مما لا يؤمن كذبه، وهو قبيح عقلا وشرعا.
الوجه الثاني: أنه قد يظهر للمتأول معان كثير محتملة في الآية والحديث مع تجويز غيرها، وذلك يمنع من القطع بجميعها لأن من العلماء من يمنع من كون الجميع مرادا، والأقل يجوز ذلك.
الثالث: قوله تعالى:} ولا تقف ما ليس لك به علم {فإن هذه الآية توجب تحريم العمل بالظن والقول به، فلا يجوز إلا بدليل، ولم يأت دليل إلا في العمل بالظنيات العمليات دون القطعيات العلميات.
الرابع: إن موسى لما أشكل عليه فعل الخضر ولم يعرف وجهه وقف ولم يؤوله، وما وسعه وسعنا، لأن شرع من قبلنا حجة إذا حكاه الله لنا.
الخامس: إن الله لم يوجب ذلك علينا ولا رسوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فالمتأول إما من الراسخين أو من الخاسرين [1أ] بخلاف الساكت فإنه آمن بالإجماع. وأما قول المتكلمين أنه لا يجوز على الله، ولا على رسوله أن يخاطب الأمة بما [لا يفهم] (2). فالجواب عنه أن الخطاب نوعان:
أحدهما: ما فيه طلب عمل، أو نهي عن عمل، وهذا لا نزاع في أنه لا بد أن ينصب المخاطب إمارة تدل على مراده.
_________
(1) في [ب] (ولم)
(2) في: [ب] لا تفهمه}}}}}}(1/441)
النوع الثاني: ما ليس في فيه طلب من المكلفين، ولا نهي فلا دليل على أنه يجب أن يظهر فيه المراد لجميع المكلفين، فإنه قد تكون لله حكمة في ظهوره للبعض دون [1] البعض، وهذا جائز عقلا ونقلا [و] (1) وفاقا، فإنه معلوم بالضرورة أن جميع المكلفين لا يعلمون التأويل. وإنما اختلف في الراسخين، ومتى جاز ذلك جاز أن يكون العارف بذلك هو رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن شاء الله أن يطلعه عليه من الملائكة، ومن أحب أن يطلعه رسوله عليه من المسلمين، لأنه إنما يجب عليه إشاعة الأحكام الشرعية دون الأسرار الربانية. وقد صح أن الله خص الخضر بما لا يعلمه موسى، فكيف لا يصح أن يخص رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما لا نعرفه. وهذه الأدلة باعتبار مجموع المتشابه من الكتاب والسنة ويختص المنع من الكلام في متشابه الكتاب بقول الله تعالى:} وما يعلم تأويله إلا الله {(2)} والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا {(3) وقد أجمع القراء على الوقف هنا. وكاد أن يجمع على أن المتشابه لا يعلمه إلا الله السلف الصالح، والقول بعطف الراسخين على الله محتمل، فلا يجوز التمسك به. وقد قطع جماعة من المحققين بأن العطف فاسد لفظا ومعنى. بل المراد أن الراسخين ليس لهم إلا أن يقولوا آمنا به وقد أخرج جماعة من أئمة الحديث عن ابن عباس أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:" من قال [1ب] في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (4) وحسنه [الترمذي (5)] (6) وأخرجوا أيضًا عن جندب أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " من قال في القران برأيه فأصاب فقد أخطأ " (7).
_________
(1) زيادة من [أ].
(2) [آل عمران: 7].
(3) زيادة من [ب].
(4) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2950) من حديث ابن عباس.
(5) في " السنن " (5/ 199) وقال: هذا حديث حسن صحيح. بل هو حديث ضعيف.
(6) زيادة من [أ].
(7) أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2951) وقال: حسن صحيح. بل هو حديث ضعيف.(1/442)
هذه بعض حجج القائلين بالوقف عند متشابهات القرآن والسنة. ولهم حجج كثيرة لا تفي بسطها إلا كراريس، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
القول الثاني: قول من قرر الظواهر واعتقدها، ولم يتأول ولا يتوقف، وهم طائفتان:
إحداها: لم تعرف علم الكلام، والخوض في العقليات على ما ينبغي كجماعة من المحدثين فقالوا: التجوز لا يحسن إلا مع معرفة المخاطبين للقرائن الدالة على التجوز.
وإلا خرج إلى جنس التعمية والإضلال. قالوا: والعرب كانوا لا يعرفون الأدلة الموجبة لتأويل هذه الأحاديث والآيات. وقد رد ذلك [عليهم] (1) المتكلمون بأنها معارف عقلية لا تحتاج إلى تعليم من النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن ترك النظر فيها فتقصيره هو الجاني عليه، [وأنتم] (2) الجانون على أنفسكم هجر علم المعقول، ولو عرفتموه لم تذهبوا إلى هذا المذهب المستلزم لما لا يجوز على الله. والشارع إنما يجب عليه تعليم الشرعيات فقط.
والطائفة الثانية منهم خاضوا في العقليات، ولكنهم يذهبون إلى القدح في كثير منها كدليل الأكوان، وقد جود الرازي (3) الرد عليهم في كتبه (4).
القول الثالث: قول الشيعة كافة، والمعتزلة، ومعظم الأشعرية الجبرية والاختيارية إن ما ورد من المتشابهات في الصفات يؤول على ما يلائم الأدلة القاطعة [2 أ] والآيات المحكمة، ولهم على ذلك أدلة طويلة مبسوطة في مواطنها (5) لا يليق سردها
_________
(1) زيادة من [أ].
(2) في [ب] (فأنتم).
(3) تقدمت ترجمته (ص 268).
(4) انظر "شرح أسماء الله الحسنى" للرازي (ص 37 - 50).
(5) انظر "المعتزلة" (ص 84 - 86)، "المنقذ من الضلال" للغزالي (ص 107). و"الأسماء والصفات" لابن تيمية (2/ 493 - 502).(1/443)
في هذا الجواب. وقد أولوا ما سأل عنه السائل -كثر الله فوائده- وأكثروا من وجوه التأويل في كتبهم.
أما حديث: "إن الله خلق آدم على صورته" (1) فله تأويلات عدة مبسوطة في شروح (2) الحديث وغيرها. منها أن الضمير في قوله صورته [2] راجع إلى آدم (3)، وهذا
_________
(1) تقدم تخريجه في السؤال (ص439).
(2) انظر"فتح الباري" (11/ 3).
(3) وقيل: المراد الرد على الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة، ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان ولا أول لذلك، فبين أنه خلق من أول الأمر على هذه الصورة.
. وقيل: المراد الرد على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فعل الطبع وتأثيره.
. وقيل: للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق نفسه.
. وقيل: إن لهذا الحديث سببا حذف من هذه الرواية، وأن أوله قصة الذي ضرب عبده فنهاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وقال له- الحديث رقم (2559) - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه".
وقد ذكر الحافظ أن مسلم ذكره في صحيحه -رقم (115/ 2612) - وزاد: فإن الله خلق آدم على صورته "وقال الحافظ في "الفتح" (5/ 183): واختلف في الضمير على من يعود؟.
. فالأكثر على أنه يعود على المضروب، لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه ولولا أن المراد التعليل بذلك يكن لهذه الجملة ارتباط، مما قبلها. وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة، ثم قال: وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى.
. قلت -الحافظ في "الفتح" (5/ 183): الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في "السنة"- رقم (517). -والطبراني- في "الكبير" (13/ 430) -من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات وأخرجها ابن أبي عاصم- في "السنة" رقم (521) من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول -أن الضمير في قوله: "على صورته" يعود على المضروب- قال: "من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن".
. قال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكا بما ورد في بعض طرقه: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن".(1/444)
هو الظاهر، لأن أقرب اللفظين هو المرجع في الغالب، ويتعين المصير إليه عن الاشتباه، ولا سيما إذا استلزم الإرجاع [الضمير] (1) إلى البعيد لازما فاسدا. وهذا لا ينبغي أن يعد تأويلا بل هو الظاهر. والمراد أن الله -جل جلاله- أخبر عباده على لسان نبيه أنه خلق آدم على الصورة التي رأوه عليها بلا زيادة ولا نقصان، كما هو الغالب في الخلق، فإنهم يزيدون في أوائل العمر، وينقصون في أواخره.
وأما ما روي من أنه خلق آدم على صورة الرحمن (2)، فالمراد (3) أنه خلق آدم على
_________
(1) زيادة من [ب].
(2) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (517) بإسناد ضعيف ورجاله ثقات غير ابن لهيعة فإنه سيء الحفظ.
ولكن الحافظ ابن حجر والإمام أحمد وإسحاق ابن راهويه صححوا هذه الرواية وضعفها ابن خزيمة والمازري والقرطبي والمحدث الألباني.
. أخرج ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (518) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقبحوا الوجوه؛ فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته". وهو حديث صحيح.
. وأخرج ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (519) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ولا وجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته". وإسناده حسن.
(3) على ما تقدم نقول: بيان أن إعادة الضمير في حديث "خلق الله آدم على صورته" على غير الله هو قول الجهمية كما قال الإمام أحمد وفي ذلك رد على جميع التأويلات التي ذكرها الحافظ من أقوال الذين جعلوا الضمير عائدا على آدم، أو على المضروب أو على المقول له فإن هذه الأقوال مخالفة لما ذهب إليه جمهور السلف من أن الضمير فيه عائد على الله عز وجل.
. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله في "نقض التأسيس" (3/ 202) - وما بعدها" لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك ... إلى أن قال: "ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة".(1/445)
صورة صورها الرحمن فيكون معناه صحيحا.
وأما ضحكه (1) -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول اليهودي فقد تكلم منه شراح الحديث كلاما طويلا، من جملة ذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما ضحك (2) لمقالته السخيفة، لأنه ما قدر الله حق قدره كما ثبت في حديث آخر: أن النبي (3) -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع يهوديا يقول: إن الله خلق كذا في يوم كذا، وكذا في يوم كذا، ثم استراح في يوم كذا فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
_________
(1) تقدم تخريجه في السؤال (ص 439).
(2) دلالة الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقر اليهودي على ذكر الأصابع وصدقه فانتفى أن يكون تشبيها، كما جاء ذكر الأصابع على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبد الله بن عمرو- "أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء" ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".
- أخرجه مسلم في صحيحه (17/ 2654) - فيكون وصف الله تعالى بالأصابع قد ثبت بالسنة التقريرية والقولية.
أما "ضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": قال الحافظ في "الفتح" (13/ 399): زعم الخطابي والقرطبي أن ضحكه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إنكارا أو تعحبا من جهل اليهودي وأن راوي الحديث زاد فيه "تصديقا له" ظنا منه أن الأمر كذلك وليس كذلك.
وهذا الزعم قد رد عليه الحافظ: أن ذلك الزعم فيه طعنا على ثقات الرواة، وردا للأخبار الثابتة وقال: ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظن، للزم منه تقرير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الباطل وسكوته عن الإنكار وحاشا لله من ذلك.
ثم ذكر الحافظ كلام ابن خزيمة -في التوحيد (1/ 178): قال: وقد اشتد إنكار ابن خزيمة على من ادعى أن الضحك المذكور كان سبيل الإنكار، فقال: "قد أجل الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكا، بل لا يوصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا الوصف من يؤمن بنبوته ".
(3) فلينظر من أخرجه؟!(1/446)
} وما قدروا الله حق قدره {(1).
فالظاهر أن ضحكه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس ضحك تقرير ورضا، بل ضحك [2 ب] تعجب لفظيع تلك المقالة، وإنكار لصدور مثل تلك الجهالة. ولو سلم [أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضحك] (2) من كلام اليهودي لغير ذلك، وكان فيه ما يشعر بالتقرير، فما في ذلك ضير، لأن المراد به الكناية عن كمال اقتداره -جل جلاله- لا حقيقة الأصبع (3).
وقد صرح بمثل هذا جماعة من أئمة التفسير والبيان في قول الله تعالى:} بل يداه مبسوطتان {(4) فقالوا: هو من باب الكناية. وقال آخرون منهم: هو من باب التورية، وذلك مستوفى في علم البيان. والحديث (5) والآية واردان موردا واحدا. فالكلام في أحدهما كالكلام في الآخر.
_________
(1) [الزمر:67].
(2) في [ب] أن ضحكه - صلى الله عليه وسلم -.
(3) تقدم التعليق على ذلك (ص 446).
ونقول: لا شك أن الحديث يدل على قدرة الله سبحانه وتعالى ولكنه إلى جانب إظهار القدرة، يثبت صفة الأصبع لله عز وجل إثباتا حقيقا لا مجال للتأويل -مع إيماننا أن الله ليس كمثله شيء-.
(4) [المائدة:64]
(5) قد تواترت في السنة مجيء "اليد" في حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كحديث: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل". أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2759) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
وحديث: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك وسعديك والخير في يديك".
. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7518) ومسلم في صحيحه رقم (2829) من حديث أبي سعيد الخدري.
والمفهوم من هذه النصوص وغيرها من النصوص: "أن لله تعالى يدين، مختصان ذاتيتان له، كما يليق بجلاله". "مجموع فتاوى" لابن تيمية (6/ 362 - 363).
"وأجمع أهل السنة والجماعة على إثبات اليدين لله تعالى، فيجب إثباتا بدون تحريف ولا تعطل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهما يدان حقيقيتان لله تعالى تليقان به".
انظر "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي (3/ 412 وما بعدها)، "شرح لمعة الاعتقاد" لابن عثيمين (ص 48).(1/447)
وأما حديث: "يكشف ربنا عن ساقه" (1) فمعناه مثل ما في القرآن من قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق {(2) إنما فيه التصريح بفاعل الكشف.
وقد صرح جماعة من (3) الأئمة أن الساق هنا عبارة عن شدة الأمر وبلوغه إلى الغاية
_________
(1) تقدم تخريجه في السؤال (ص439).
(2) [القلم:42].
(3) قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى " (6/ 394 - 395): إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف قي تفسيرها.
وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت عن ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه أثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.
وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا في مثل قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق {فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة وإن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات، للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين.
واعلم أن ما روي عن ابن عباس وعن غيره من السلف من تفسيره قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق {بالشدة والكرب، ليس من جنس تأويلات المتكلمين المحدثة، لأن ابن عباس وغيره من السلف يثبتون صفة الساق لله تعالى بالحديث الصحيح الذي دل عليها، ففسروها بعيدة عن كونها دالة على صفة من صفات الله تعالى.
وقال ابن القيم في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (1/ 252 - 253): "والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين، والإصبع لم يأخذوا من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدا" ومن حمل الآية على ذلك قال: قوله تعالى:} يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود {مطابق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها، وتعالى شأنها، أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبه، قالوا: وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشفت الشدة عن القوم، لا كشف عنها كما قال الله تعالى:} فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون {[الزخرف:50] وقال:} ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر {[المؤمنون: 75]. فالعذاب والشدة تشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة.
ويظهر لك من خلال كلام -ابن تيمية وابن القيم قوة موقف الذين عدوا الآية من آيات الصفات لأمرين:
1 - ): ظهور التطابق بين الآية والحديث.
2 - ): ضعف تفسير الآية بالشدة.
ويقوي هذا القول ما أخرجه الدارمي في "سننه" (2/ 420 - 421 رقم 2803) وابن منده في "كتاب الإيمان" (2/ 773 رقم 811) بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعًا نحو حديث أبي سعيد وفيه: "فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودا، وذلك قول الله تعالى:} يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون {، ويبقى كل منافق فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة ".(1/448)
التي ليس فوقها، فهو مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهن كما قال بعض العرب. ويروى لحاتم (1):
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال ابن الرقيات (2):
_________
(1) انظر ديوان حاتم الطائي (ص 49).
(2) لعبيد بن قيس الرقيات.
ويتضح لك المعنى في البيت الذي قبله حيث يقول:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء؟
انظر ديوانه (ص 96).(1/449)
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن حذام العقيلة العذراء
[3]
قال العلامة جار الله في كشافه (1): [فمعنى] (2)} يوم يكشف عن ساق {: يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف [ثم] (3) ولا ساق كما يقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد [ثم] (4) ولا غل، وإنما هو [3أ] مثل في البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان.
والذي غره منه حديث ابن مسعود: "يكشف الرحمن عن ساقه" (5) ثم قال ومعناه: يشتد أمر الرحمن، وتتفاقم أهواله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة. ثم كان من حق الساق أن يعرف على ما ذهب إليه المشبه؛ لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن -تعالى عن ذلك-. ثم روى القول بالتشبيه عن مقاتل وأطال الكلام وأطاب (6). ولكن الحديث الذي عزاه إلى ابن مسعود هو في كتب الحديث المعتمدة من حديث أبي سعيد الخدري.
وأما حديث: "إن الله يضع قدمه في جهنم" (7). فقد اختلف فيه (8) المؤولون فمنهم
_________
(1) (6/ 190 - 191).
(2) زيادة من [أ].
(3) في [ب] ثمة.
(4) في [ب] ثمة.
(5) تقدم تخريجه (ص 439) من حديث أبي سعيد لا من حديث ابن مسعود.
(6) انظر كلام ابن القيم السابق.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4849) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها، فتقول: قط قط".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4850) من حديث أبي هريرة: "حتى يضع رجله فتقول: قط قط قط".
ففي هذين الحديثين وغيرهما بأن القدم والرجل كلاهما عبارة عن شيء واحد صفة ذاتية لله تعالى حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته.
(8) ذكر الحافظ في "الفتح " (8/ 596) سبعة تأويلات: وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك فقال: 1)
أن المراد بالقدم إذلال النار.
2 - ) أن المراد بها الفرط السابق، أي يصنع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب.
3 - ) أن المراد قدم المخلوقين، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم.
4 - ) أن المراد بالقدم الأخير، لأن القدم آخر الأعضاء، فيكون المعنى. حتى يضع الله في النار آخر أهلها فيها، ويكون الضمير للمزيد.
5 - ) أن المعنى: حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة التي عصي الله فيها فتمتلئ، لأن العرب تطلق القدم على الموضع.
6 - ) أن المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد، والإشارة بذلك إلى شفاعته.
7 - ) أن المراد قدم إبليس، وهذا الذي قال فيه الحافظ: إنه من التأويل البعيد.
وكما يظهر لك من هذه التأويلات التي ذكرها الحافظ دون تعليق أنها حشو وليته لم يذكرها. فمثل هذه لا تذكر إلا لتبطل وتزيف لا لتقرر ويعتمد عليها.
وانظر "التعليق على فتح الباري" للدرويش (ص18).
قال الحافظ في الفتح (8/ 596) فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله سبحانه وتعالى.(1/450)
من قال: [إن] (1) المراد إذلال جهنم، وأنها إذا بالغت في الطغيان أذلها الله -تعالى- فعبر عنه بوضع قدمه كما يقال: وضعه تحت قدمه أي أذله.
والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال، ولا تريد أعيانها كقولهم: رغم أنفه وسقط في يده. وقيل: المراد بالقدم الفرط السابق أي ما قدمه لها من أهل العذاب.
وقيل: هو كناية عن أهل النار الذين قدمهم الله تعالى لها، وهم شرار خلقه. كما إن المؤمن قدمه الذين قدمهم إلى الجنة، ولكنه يشكل على ذلك ما وقع في رواية أنه يضع رجله. والجواب أنه تحريف كما قال بعض الحفاظ، وذلك أن الراوي ظن أن المراد بالقدم الرجل فعبر عنه بذلك. وقيل: المراد بالرجل الجماعة كما يقال: رجل من جراد.
_________
(1) زيادة من [ب].(1/451)
وفي هذا المقدار كفاية، وإن كان المقام [3 ب] يحتاج إلى بسط طويل، لا سيما إذا أردنا استيفاء التأويل، ولكن ما كفى وإن قل خير مما طال وأقل. والحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على نبيه وآله خير نبي آل. [حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني في شهر القعدة سنة 1207] (1).
_________
(1) زيادة من [أ].(1/452)
بحث
في
وجود الجن
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(1/453)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: "بحث في وجود الجن".
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله ورضي الله عن صحبه. وبعد: فإنه كثيرا ما يفتح البحث بين أهل العلم في وجود الجن والباعث. . . .
4 - آخر الرسالة: بل راقم هذه الأحرف غفر الله له قد سمع كلامهم غير مرة، وطال بينه وبينهم الخطاب، وبعضهم أخذ يدي وقبلها، وكانت كفه كأكبر ما يكون من أيدي الإنس مع قصر في أصابعها. والحمد لله أولا وآخرا. كتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الصفحات: (5) صفحات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 11 - 12 كلمة.
9 - الرسالة من المجلد الرابع من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".(1/455)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله، ورضي الله عن صحبه، وبعد:
فإنه كثيرا ما يقع البحث بين أهل العلم في وجود الجن، والباعث على ذلك هفوة وقعت من بعض علماء هذه الديار الموجودين بعد مضي ألف سنة من الهجرة. ولم يكن ذلك منه عن اعتقاد مطابق لما تكلم به، لأنه من علماء الكتاب والسنة، ومن أهل الدين المتن، ولكنه باحثه بعض المقصرين في هذه المسألة فجزم في مقام المباحثة بعدم وجودهم كما يقع كثيرا بين المتناظرين من النقض والمعارضة.
واعلم أنه لم يتقدم إلى إنكار ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وعلماء الإسلام أحد قط، وإنما هي مقالة مروية عن جماعة من الفلاسفة، وجمهور الزنادقة، وهؤلاء لا نتكلم معهم في هذا المقام، فإنهم لا يتمسكون بشيء من الحجج القرآنية، والأحاديث النبوية، ولا يلتفتون إلى شيء من ذلك. وقد فرغ منهم الشيطان وأخرجهم من زمرة الإسلام، ولكنا نتكلم هاهنا مع بعض القائلين بذلك من المعتزلة (1)، فقد نقل جماعة عن جمهورهم، ونقله آخرون عن البعض منهم، وهذه الطائفة من أهل الإسلام، ومن المتمسكين بشرائعه، وإن خالفوا في بعض المسائل الأصولية خلافا تدفعه النصوص القرآنية، ومتواتر السنة، فلم يكن ذلك منهم كيادا للدين، ولا دفعا في وجه شريعة المسلمين، بل تمسكوا بشبهة أشبهت عليهم قالوا بها وقصروا عن العلم بغيرها مما يدفعها ويرفع لبسها.
ولكن الشأن في إنكار من أنكر (2) منهم وجود الجن (3)، فإنه لا يكون إلا أحد رجلن:
_________
(1) سيأتي التعريف بها (ص 656).
(2) انظر الإرشاد (ص 271 - 272) للجويني.
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاوى (17/ 465): " الجن سموا جنا لاجتنانهم، يجتنون عن الأبصار، أي: يستترون، كما قال تعالى: {فلما جن عليه الليل} [الأنعام: 76]. أي استولى عليه فغطاه وستره.
وقال: "والإنس سموا إنسا لأنهم يأنسون" كما قال تعالى} إني آنست نارا {[طه: 10] أي رأيتها.
وقال الحافظ في الفتح (6/ 394) "والمراد بالشيطان: المتمردة من الجن".
* وقال: والرسول مبعوث إلى الجنسين، لكن لفظ الناس لم يتناول الجن ولكن يقول} يا معشر الجن والإنس {[الرحمن: 33].
لذلك تعلم أن لفظ الجن ليس قسما من لفظ الإنس ولكنه قسيم له.
* قال إمام الحرمين في "الإرشاد" (ص 272): الجن والشياطين أجسام لطيفة نارية غائبة عن إدراك العيون قال: وعن بعض التابعين أن من الجن صنفا روحانيا، لا يأكل ولا يشرب ومنهم من يأكل ويشرب.
والله أعلم بكيفية ذلك ومن مستفيض الأخبار أنهم سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزاد فأباح لهم كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه يجدونه أوفر ما كان لحما. وقيل: إنهم يعيشون بالشم لا بالأكل، وورد أن أرواث دوابنا علف دوابهم.
* قال الونشريسي في "المعيار المعرب" (12/ 309): قيل: والصواب أن حكم من أنكر وجود الجن من المعتزلة أنه كافر، لأنه جحد نص القرآن والسنن المأثورة والإجماع الضروري، وآية الأحقاف وسورة:} قل أوحى {أي سورة الجن. وخطاب الجن والإنس معلوم بالضرورة، وكذا ذكر توعدهم بالنار، فهو بنص القرآن" اهـ.(1/459)
إما معاند لا يتقيد بالكتاب والسنة، وهذا لا ينبغي الكلام معه، وإما جاهل جهلا منكرا لا يعرف معه كتاب الله -سبحانه- بل لا يعرف معه سورة الرحمن، وسورة الجن، بل لا يعرف ورود القرآن بالاستعاذة (1) من الشيطان [1 أ]، ومثل هذا وإن كان معذورا بما هو فيه من الجهل لكنه غير معذور في التكلم بما ليس من شأنه، وأجهل منه من حكى عنه هذه المقالة المردودة ودونها في كتب العلم، ونصب له خلافا في هذه المسألة التي هي معلومة للنساء والصبيان، فضلا عن الرجال، فضلا عن أهل العلم. وليس بأيدي هؤلاء إلا مجرد الاستبعاد والرجوع إلى تخيلات مختلة، وعلل معتلة، مع
_________
(1) قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].(1/460)
قطع النظر عن هذه الشريعة المحمدية، بل مع قطع النظر عن الشرائع المتقدمة على هذه الشريعة، فإنها متفقة على وجودهم، وكذلك أهلها متفقون على ذلك مقرون به كإقرار المسلمين، وهؤلاء اليهود والنصارى موجودون في كثير من البلاد الإسلامية قد لا يخلو عنهم قطر من الأقطار من أراد أن يعرف صدق ما ذكرناه فليسأل من له [نباهة] (1) منهم، بل جميع مشركي (2) العرب مقرون بذلك لا خلاف فيه بينهم، وينقلون ما يسمعونه من الجن من الأشعار التي يصرخون بها بين أظهرهم، ومن الكلمات التي يسمعونها من الأوثان التي ينصبونها في ديرتهم، ويروي ذلك الآخر عن الأول، حتى وصلت إلى أهل الإسلام، ونقلوها في الكتب الإخبارية، والآيات القرآنية في إثبات وجودهم معلومة لا نطيل بذكرها، ولكنا هاهنا نذكر بعض ما ورد في السنة المطهرة (3) حتى يعلم من وقف على هذا البحث أن المنكر لذلك منكر لقطعي بل ضروري ديني يحصل العلم بفرد من أفراد الأدلة الواردة فيه، فالمفكر إن كان يعلم بما في المصحف الشريف، وصمم على هذا الجهل المتبالغ فهو مستحق لما يستحقه من أنكر الشريعة المطهرة، ودفع ما فيها ورد ما جاءت به، وشهد على أنه بالإلحاد والمروق من دين الإسلام. وقد تضمن القرآن الكريم بيان ما خلقوا منه فضلا عن بيان وجودهم، قال الله
_________
(1) في المخطوطة بنهاهة ولعل الصواب ما أثبتناه.
(2) قال صاحب "آكام المرجان في أحكام الجان" ص 5: قال الشيخ أبو العباس ابن تيمية لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين وإن وجد فيهم من ينكر ذلك فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرون بذلك، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم السلام تواترا معلوما بالاضطرار ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائما بالإنسان أو غيره.
وانظر: "لقط المرجان" للسيوطي (ص 17).
(3) في المخطوط المطهر، ولعل الصواب ما أثبتناه.(1/461)
-عز وجل-:} وخلق الجان من مارج من نار {(1) وقال سبحانه:} والجان خلقناه من قبل من نار السموم {(2) وقال تعالى حاكيا عن إبليس} خلقتني من نار وخلقته من طين {(3).
وأما الثابت في السنة في وجودهم وتفصيل أحوالهم فالبعض منه يحكم عليه بالتواتر، فكيف بالكل!.
فمن ذلك أمره -صلى الله عليه واله وسلم- لمن دخل بيته أن يذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، فإذا فعل ذلك قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. . . الحديث، وهو في صحيح (4) مسلم وغيره (5) من حديث جابر.
وفي الصحيحين (6) وغيرهما (7) [1 ب] من حديث أنس أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".
وفي الترمذي (8) من حديث علي بن أبي طالب أن رسول الله- صلى الله عليه وآله
_________
(1) الرحمن: 15].
(2) [الحجر: 27].
(3) [الأعراف: 12].
(4) رقم (2018).
(5) كأبي داود رقم (3765) والنسائي رقم (10689) في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة رقم (178) وابن ماجه رقم (3887) من حديث جابر كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء".
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (142). ومسلم رقم (375).
(7) كأبي داود رقم (5) والترمذي رقم (5) وابن ماجه رقم (298) والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (74). وهو حديث صحيح.
(8) في السنن رقم (606) وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي وقد روي عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . . أشياء في هذا.
قلت: وأخرجه ابن ماجه في السنن رقم (297).
وهو حديث صحيح.(1/462)
وسلم- قال: "ستر ما بين أعين الجن وعورات أمتي إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله".
ومن ذلك حديث أبي سعيد الخدري عند الترمذي (1) والنسائي (2) "إن بالمدينة جنا قد أسلموا، وإذا رأيتم من هذه الهوام شيئا فآذنوه ثلاثا، فإن بدع لكم فاقتلوه".
وفي صحيح مسلم (3) وغيره من حديث عائشة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لعائشة: "أخذك شيطانك". قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: "نعم، ومع كل إنسان" قالت: ومعك يا رسول الله؟ قال: "نعم، ولكن رب -عز وجل- أعانني عليه حتى أسلم".
وفي لفظ (4): "أعانني عليه فأسلم".
وفي صحيح البخاري (5) وغيره من حديث أبي هريرة أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال في الروث والعظم: "أنهما من طعام الجن"، وأخرجه أيضًا مسلم (6) وغيره (7).
وأخرج مسلم (8). . . . . . . . . .
_________
(1) لم أجده في السنن.
(2) لم أجده في السنن. بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2236).
(3) رقم (70/ 2815).
(4) عند مسلم في صحيحه رقم (69/ 2814).
(5) رقم (3860).
(6) في صحيحه رقم (150/ 450).
(7) كأبي داود رقم (39) والترمذي في السنن رقم (18) كلهم من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث صحيح.
(8) في صحيحه رقم (106/ 2020).(1/463)
وغيره (1)
من حديث ابن عمر أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها".
وفي صحيح مسلم (2)
وغيره (3) من حديث حذيفة في الجارية التي ذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بيدها، ثم جاء أعرابي فذهب ليضع يده فأخذ بيده، وقال: "إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، فإنه جاء هذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء هذا الأعرابي ليستحل به، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدهما".
في الصحيحين (4) وغيرهما من حديث ابن عباس حديث الجن الذين استمعوا القرآن من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في سوق عكاظ.
وفي الصحيحين (5) من حديث ابن مسعود أنها آذنت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بهم شجرة.
وفي صحيح مسلم (6) وغيره أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- اجتمع بالجن بمكة والمدينة. . . . الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه.
_________
(1) كأبي داود رقم (3776) والترمذي رقم (1800) ومالك في الموطأ (2/ 923).
وهو حديث صحيح.
(2) في صحيحه رقم (2017).
(3) كأبي داود في السنن رقم (3766) وابن السني رقم (460) والحاكم (4/ 108) وصححه ووافقه الذهبي، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (273).
وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4921) ومسلم في صحيحه رقم (149/ 449).
(5) أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (3859) ومسلم في صحيحه رقم (450) عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقا: من آذن النبي بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك -يعني عبد الله: أنه آذنت هم شجرة"،
(6) انظر الحدث وطرقه في الخلافيات للبيهقي (1/ 158 - 182).(1/464)
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح (1) من حديث أبي هريرة أنه أخذ الذي جاء يسرق زكاة رمضان، وأنه علمه آية الكرسي. وله ألفاظ، وفيه طول.
وفي الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان".
وفي الصحيحين (3) حديث الرجلين الذين استبا عند رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حتى احمر وجه أحدهما فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وفي الصحيحين (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ثم قال في آخره: "وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي".
وفي السنن (5) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن الغضب من الشيطان".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2311).
(2) لم يخرجه البخاري. وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (780).
قلت: وأخرجه الترمذي في السنن رقم (2877) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (965).
وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6048) ومسلم في صحيحه رقم (2610) من حديث سليمان بن رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3293) ومسلم في صحيحه رقم (2691).
(5) أخرجه أحمد في المسند (4/ 226) وأبو داود رقم (4784) من حديث أبي وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي، فكلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الغضب من الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وهو حديث ضعيف.(1/465)
وفي الصحيح (1) أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا جاء رمضان [2 أ] سلسلت الشياطين"، وفي لفظ (2): "صفدت الشياطين".
وفي صحيح (3) البخاري عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة".
وفي صحيح مسلم (4) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال لمن قال له: إن الشيطان قد حال بيني وبن قراءتي فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ذلك شيطان يقال له خنزب".
وفي صحيح مسلم (5) عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن الأسواق معركة الشيطان، وبها ركز رايته".
وفي صحيح مسلم (6) أيضًا عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إن الشيطان يحضر الإنسان عند طعامه".
وفي الصحيحين (7) من حديث أنس عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإذا قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1899) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 1079) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1/ 1079) من "حديث أبي هريرة.
(3) رقم (609) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) رقم (68/ 2203).
(5) رقم (100/ 2451) من حديث سلمان بلفظ: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته".
(6) في صحيحه رقم (000/ 2018) من حديث جابر.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5165) ومسلم في صحيحه رقم (116/ 1434).(1/466)
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ما من بني آدم مولود ألا نخسه الشيطان حين يولد" الحديث.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث صفية بنت حيي أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".
وفي الصحيحين (3) وغيرهما من حديث جابر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ". وفي الصحيحين (4) وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم" الحديث.
وفي الصحيحين (5) وغيرها من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان".
وفي الصحيحين (6) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من رآني في النوم فسيراني في اليقظة، لا يتمثل بي الشيطان" وفي لفظ (7): "فإن الشيطان لا يتمثل بي".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3431) ومسلم ي صحيحه رقم (146/ 2366).
(2) أخرجه البخاري ي صحيحه رقم (2035) ومسلم في صحيحه رقم (24/ 2175).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3304) ومسلم في صحيحه رقم (97/ 2097).
وتمام الحديث ". . . فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم، واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم".
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1142) ومسلم في صحيحه رقم (207/ 776).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5747) ومسلم في صحيحه رقم (1/ 2261).
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6993) ومسلم رقم (11/ 2266).
(7) عند مسلم في صحيحه رقم (10/ 2266).(1/467)
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "ألا إن الفتنة هاهنا يشير إلى المشرق من حيث يطلع قرن الشيطان".
وأخرج أبو داود (2)، والنسائي (3) من حديث عمرو بن عبسة في حديث "إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وتغرب بين قرني شيطان".
وفي الصحيحين (4)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط".
وفي الصحيحين (5) وغيرهما أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا سمعتم صراخ الديكة فسلوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا".
وفي صحيح مسلم (6) من حديث أبي الدرداء قال: قام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يصلي فسمعناه يقول: "أعوذ بالله منك".
وفي الحديث: إنه يعرض له الشيطان، وقال: "لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة" وهو في الصحيحين (7)
من حديث أبي هريرة. [2 ب]
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7092) ومسلم في صحيحه رقم (45/ 2905).
(2) في السنن رقم (1277).
(3) في السنن (1/ 283 - 284) وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (608) ومسلم في صحيحه رقم (19/ 389).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3303) ومسلم في صحيحه رقم (82/ 2703). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) رقم (40/ 542).
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (461) ومسلم رقم (39/ 541).(1/468)
وفي الصحيحين (1) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر بن الخطاب: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".
وفي كتب السير وغيرها أن الشيطان حضر مجمع قريش بدار الندوة (2)، وفيها أيضًا أنه حضر وقعة بدر (3)، وفيها أيضًا حضوره وقعة بيعة العقبة (4)، وصراخه وحضوره ووقعة أحد (5)، وصراخه بأن رسول الله قتل.
وبالجملة فالاستكثار من الأحاديث الواردة في هذا المعنى لا يأتي بمزيد فائدة بعد القرآن الكريم في غير موضع، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك من الآيات البينات لكان في رسالة مستقلة ومعرفة ذلك متيسر لمن يتمكن من قراءة المصحف الشريف وإن كان مقصرا،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3294) ومسلم رقم (22/ 2396).
(2) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/ 136 - 137) عن ابن عباس رضي الله عنه.
(3) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/ 301) عن عروة بن الزبير.
(4) ذكره ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/ 101) عن عبد الله بن كعب عن أبيه كعب بن مالك وانظر في صحيح السيرة (2/ 288).
(5) قال شيخ الإسلام في معرض كلامه عن غزوة أحد: "وكان الشيطان قد نعق في الناس أن محمدا قد قتل، فمنهم من تزلزل لذلك فهرب ومنهم من ثبت فقاتل، فقال الله تعالى:} وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ {[آل عمران: 144].
انظر " سيرة ابن هشام " (3/ 105 - 106).
وانظر: ثلاث " رسائل في الجهاد " ص 66.
* والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقهم وحالهم، وأن نبينا مبعوث إلى الإنس والجن، فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين، ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة، ومن كذبه فهو الشيطان المبعد من المؤمنين في الدنيا والآخرة، والنار مستقرة.
انظر " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (19/ 1).(1/469)
وناهيك باجتماع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بهم في غير موطن حتى صرح بعض الحفاظ أنه اجتمع بهم في أربعة مواضع، وصرح آخر أنه اجتمع هم في خمسة مواضع، وروى ذلك عن الحاضرين معه الجمع الجم من أهل العلم، وبعد هذا كله فكثير من عباد الله قد اجتمع بالجن وجمع كلامهم، وسألوه وسألهم، وهذا موجود في كل عصر من العصور قد تتبعنا من وقع له ذلك من الثقات فثبت لنا بذلك التواتر المعنوي.
بل راقم هذه الأحرف -غفر الله له- قد سمع كلامهم غير مرة، وطال بينه وبينهم الخطاب، وبعضهم آخذ يدي وقبلها، وكانت كفه كأكبر ما يكون من أيدي الإنس مع قصر في أصابعها (1)
والحمد لله أولا وأخيرا.
كتبه محمد بن علي الشوكاني -غفر الله لهما-[3 أ].
_________
(1) قال الحافظ في الفتح (8/ 669): واختلف في أصلهم -أي الجن- فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس فمن كان منهم كافرا سمي شيطانا. وقيل: إن الشياطين خاصة أولاد إبليس. ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس -رقم (4921) - يقوي أنهم واحد من أصل واحد، واختلف صنفه فمن كان كافرا سمي شيطانا، وإلا قيل له: جني. ولذلك قالوا: الجن والشياطين لمسمى واحد، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان فلا يقال لمن آمن منهم: أنه شيطان.
- أوصاف الجن من الأدلة الواردة في شأنهم إما نصا وإما استنباط فمن أوصافهم:
1 - \ أنهم قادرون على التصور بصور مختلفة.
2 - \ أنهم يأكلون ويشربون، وهناك من نفى ذلك ولكن الراجح الإثبات لثبوت ذلك نصا -من الأحاديث المتقدمة.
3 - \ أنهم يتناكحون، ويتوالدون، وفيهم الذكور والإناث.
4 - \ أنهم يتكلمون بكلام الإنس، ويسرقون ويخدعون.
5 - \ أن لهم قوة على التوصل إلى باطن الإنسان، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم وذلك إما على ظاهره -تقدم من حديث صفية. وإما على سبيل الاستعارة من كثرة الأعوان، وكأنه لا يفارق كالدم، فاشتركا في شدة الاتصال وعدم المفارقة.
6 - \هل تمكن رؤيتهم أو لا؟ فيه خلاف على ثلاثة أقوال:
أحدها: النفي مطلقا، لقوله تعالى:} إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم {[الأعراف: 27]. وهدا قول أكثر العلماء، حتى قال الشافعي من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته واستدل بهذه الآية.
وثانيها: أن نفي رؤية الإنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية. بل ظاهرها أنه ممكن، فإن نفي رؤيتنا إياهم مقيد بحال رؤيتهم لنا، ولا بنفي إمكان رؤيتنا لهم في غبر تلك الحالة.
وثالثهما: أنه تمكن رؤية الجني في حال تصوره بغير صورته، أما رؤيته على صورته التي خلق عليها فلا وأن ذلك هو مقصود الآية.
والقول الراجح الثالث وكذلك رجحه الحافظ ابن حجر.
* وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة؛ لأن الجماعة اتفقوا على أن الجن مكلفون. وهو قول الأئمة وغيرهم فقال الحافظ: "لم يختلف من أثبت تكليفهم أنهم يعاقبون على المعاصي واختلف هل يثابون؟.
وذهب الجمهور إلى أنهم يثابون على الطاعة، ثم اختلفوا: هل يدخلون مدخل الإنس؟ على أربعة أقوال:
1 - \ نعم- يدخلون مدخل الإنس، وهو قول الأكثر.
2 - \ يكونون في ربض الجنة، وهو منقول عن مالك وطائفة.
3 - \ أنهم أصحاب الأعراف.
4 - \ التوقف عن الجواب في هذا.
ولا شك أن الجن من الغيب الذي يجب الإيمان بما ثبت بالدليل الصحيح من أمورهم، والكف عما لم يدل عليه الدليل، لأنه من الرجم بالغيب، وقد قال تعالى:} وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا {[الإسراء: 36].
وانظر: فتح الباري "باب صفة إبليس وجنوده" من كتاب بدء الخلق- شرح سورة} قل أوحي إلي {كتاب التفسير.(1/470)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/471)
إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(1/473)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة في المخطوط: "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات".
2 - موضوع الرسالة: في العقائد.
3 - الرسالة من المجلد الرابع (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
4 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. . .
5 - آخر الرسالة:. . . كان الفراغ من تحرير هذا المختصر يوم الأربعاء لعله السابع والعشرون من شهر ربيع الآخر من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف، بقلم مؤلفه المفتقر إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 - عدد الأوراق: (40).
8 - المسطرة: الورقة (1): عنوان الرسالة.
الورقة (2): 24 سطرا.
الورقة (3): 28 سطرا.
الورقة (4 - 7): 29 سطرا.
الورقة (8): 32 سطرا.
الورقة (9 - 13): 31 سطرا.
الورقة (14 - 15): 30 سطرا.
الورقة (16): 28 سطرا.
الورقة (17 - 18): 32 سطرا.(1/475)
الورقة (19): 31 سطرا.
الورقة (20): 32 سطرا.
الورقة (21 - 23): 31 سطرا.
الورقة (24): 6 سطرا.
الورقة (25): 31 سطرا.
الورقة (26): 32 سطرا.
الورقة (27): 31 سطرا.
الورقة (28): 33 سطرا.
الورقة (29 - 30): 35 سطرا.
الورقة (31 - 32): 34 سطرا.
الورقة (33): 36 سطرا.
الورقة (34): 35 سطرا.
الورقة (35): 34 سطرا.
الورقة (36): 37 سطرا.
الورقة (37): 38 سطرا.
الورقة (38): 34 سطرا.
الورقة (39): 35 سطرا.
الورقة (40): 28 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.(1/476)
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
اللهم لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، ولك الشكر عدد كل شيء، وزنة كل شيء، وملء كل شيء، وعدد ما قد شكرك الشاكرون، وما سيشكرك الشاكرون.
اللهم وصل وسلم على رسولك المصطفى من خلقك (محمد) صلاة وسلاما يدومان بدوام المخلوقات، ويتجددان بتجدد الأوقات، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الأكرمين.
وبعد، فإن القرآن العظيم قد اشتمل على الكثير الطيب من مصالح المعاش والمعاد، وأحاط بمنافع الدنيا والدين، تارة إجمالا، وتارة تفصيلا، وتارة عموما، وتارة خصوصا، ولهذا يقول -سبحانه-:} ما فرطنا في الكتاب من شيء {(1). ويقول -عز وجل-:} وكل شيء أحصيناه في إمام مبين {(2). ويقول -تبارك وتعالى-:} [ونزلنا عليك الكتاب] (3) تبيانا لكل شيء {(4)، ونحو ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وأما مقاصد القرآن الكريم التي يكررها، ويورد الأدلة الحسية والعقلية عليها، ويشير إليها في جميع سوره، وفي غالب قصصه وأمثاله، فهي ثلاثة مقاصد، يعرف ذلك من له كمال فهم، وحسن تدبر، وجودة تصور، وفضل تفكر.
المقصد الأول: إثبات التوحيد.
المقصد الثاني: إثبات المعاد.
_________
(1) [الأنعام: 38].
(2) [يس: 12].
(3) غير موجود في المخطوط.
(4) [النحل: 89].(1/481)
المقصد الثالث: إثبات النبوات.
ولما كانت هذه الثلاثة المقاصد، مما اتفقت عليه الشرائع جميعا، كما حكى ذلك الكتاب العزيز في غير موضع أحببت أن أتكلم هاهنا على كل مقصد منها، بإيراد ما يوضح ذلك من الكتب السابقة، وعن الرسل المتقدمين، مما يدل على اتفاق أنبياء الله وكتبه على إثباتها، لما في ذلك من عظيم الفائدة، وجليل العائدة، فإن من آمن بها كما ينبغي، واطمأن إليها كما يجب، فقد فاز بخيري الدارين، وأخذ بالحظ الوافر من السعادة الآجلة والعاجلة، ودخل إلى الإيمان الخالص من الباب الذي أرشده إلينا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في جواب من سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال في الإيمان:
"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله [1]، والقدر خيره وشره". هكذا ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (1) من طرق كثيرة.
ولا ريب أن من آمن بالله، وبما جاءت به رسله، ونطقت به كتبه، فإن إيمانه هذه المقاصد الثلاثة، هو أهم ما يجب الإيمان به، وأقدم ما يتحتم عليه اعتقاده؛ لأن الكتب قد نطقت بها، والرسل قد اتفقت عليها اتفاقا يقطع كل ريب، وينفي كل شبهة، ويذهب كل شك.
وسميت هذا المختصر: (إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات). وبالله أستعين، وعليه أتوكل.
_________
(1) يشير إلى حديث جبريل الطويل، أخرجه البخاري في صحيحه رقم (50 و4777) ومسلم في صحيحه رقم (9 و10) من حديث أبي هريرة.
* وأخرجه مسلم قي صحيحه رقم (2، 3/ 8) من حديث عمر بن الخطاب.
وأخرجه أبو داود في "السنن " رقم (4695) من حديث بريدة وهو حديث صحيح.
وهو حديث مشهور في كتب السنة وقد سمى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه "الدين" فقال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
وانظر الحديث تخريجا وتعليقا في "معارج القبول" (2/ 723 - وما بعدها) بتحقيقي.(1/482)
واعلم أن إيراد الآيات القرآنية، على إثبات كل مقصد من هذه المقاصد، وإثبات اتفاق الشرائع عليها، لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم.
فإنه إذا أخذ المصحف الكريم، وقف على ذلك في أي موضع شاء، ومن أي مكان أحب، وفي أي محل منه أراد، ووجده مشحونا به من فاتحته إلى خاتمته.(1/483)
الفصل الأول
في بيان اتفاق الشرائع على التوحيد
اعلم أن قد روى جماعة من أكابر علماء الإسلام أن الشرائع كلها اتفقت على إثبات التوحيد على كثرة عدد الرسل المرسلين، وكثرة كتب الله -عز وجل-، المنزلة على أنبيائه.
فإنه أخرج ابن حبان (1) والبيهقي (2) بسندين حسنين من حديث أبي ذر: "أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وأن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب".
فالتوحيد هو دين العالم أوله وآخره، وسابقه ولاحقه. ومن خالف في ذلك فجعل لله -عز وجل- شريكا، وعبد الأصنام، فإنه كما أرشد إليه القرآن حكاية عنهم بقوله:} ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى {(3) مقر بأنه إيمان، وإنما جعل الشريك وصلة إلى الرب - سبحانه-، ووسيلة إلى التقريب إليه. وما ثبت في الصحيح (4) أنهم
_________
(1) في صحيحه (2/ 76 رقم 361) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني قال حدثنا عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر به.
وإبراهيم بن هشام هذا قال عنه أبو حاتم في " الجرح والتعديل " (2/ 42 - 43): كذاب.
(2) في "السنن الكبرى" (9/ 4).
قلت: وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/ 2699) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 168) كلهم من طريق يحيى بن سعيد القرشي السعدي عن ابن جريج، عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر بطوله.
وفيه يحيى بن سعيد قال ابن حبان عنه في " المجروحين " (3/ 129): شيخ يروى عن ابن جريج المقلوبات، وعن غيره من الثقات الملزقات لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد.
وخلاصة القول أن الحديث ضعيف جدا والله أعلم.
(3) [الزمر: 13].
(4) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (22/ 1185) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك. قال: فيقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "ويلكم قد. قد" فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالميت.(1/484)
كانوا يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ".
وها نحن نذكر لك ما كتب الله -عز وجل- من أدلة التوحيد، وهي وإن كان عددها ما تقدم لكنه لم يبق بأيدي أهل الملل منها فيما وجدناه عندهم بعد البحث عن ذلك، ومزيد الطلب له، إلا التوراة، والزبور، والإنجيل، وكتب نبوات أنبياء بني إسرائيل.
أما التوراة (1) فالنصوص فيها على ذلك كثيرة جدا، وقد اشتملت على ذكر ما كان
_________
(1) التوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة وتسمى القانون أي القانون كما تسمى أيضًا (البانتاتيك) وهي كلمة يونانية تعني الأسفار الخمسة وهي:
1 - ): سفر التكوين: يقع في (50) إصحاحا، وسمي بذلك لاشتماله على قصة خلق العالم، ثم قصص آدم وذريته ونوح وإبراهيم وذريته وينتهي هذا السفر باستقرار بني إسرائيل وموت يوسف عليه السلام.
2 - ): سفر الخروج: ويقع في (40) إصحاحا. وسمي بذلك نسبة إلى حادثة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض سيناء بقيادة موسى عليه السلام، وفيه يذكر الحوادث التي جرت لبني إسرائيل في أرض التيه، والوصايا العشر والكثير من الأحكام والتشريعات.
3 - ): سفر اللاويين: ويقع في (27) إصحاحا، ويحتوي على شئون العبادات وخاصة القرابين والطقوس الكهنوتية وكانت الكهانة موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب فلذلك سمي السفر نسبة إليهم.
4 - ): سفر العدد: ويقع في (36) إصحاحا، وسمي بذلك لأنه حامل بالعد والإحصاء لأسباط بني إسرائيل ومما يمكن إحصاؤه من شؤونهم ويتحلل ذلك بعض الأحكام والتشريعات.
5 - ): سفر التثنية: ويقع في (34) وسمي بذلك لإعادة ذكر الوصايا العشر وتكرار الشريعة والتعاليم مرة ثانية على بني إسرائيل عند خروجهم من أرض سيناء.
وهذا السفر ينهي التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ورد في آخرها النص الآتي: "فمات هناك موسى، عبد الرب قي أرض مؤاب بأمر الرب وتم دفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فاعور، ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم وكان موسى ابن مائة وعشرين حين مات. . . وتذكر دائرة المعارف الفرنسية (معجم لاروس) تحت عنوان توراة: أن العلم العصري ولا سيما النقد الألماني قد أثبت بعد دراسات مستفيضة في الآثار القديمة والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى وإنما كتبها أحبار لم يذكروا اسمهم عليها ألفوها على التعاقب معتمدين على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل ا هـ.
وصرح بذلك أيضًا الفيلسوف اليهودي باروخ سبينوز (ت 1677م) ذكر فيه كلام عالم يهودي شك في نسبة الأسفار الخمسة ونسبتها إلى موسى-في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة (ص 266 - 271) حيث ذكر ملاحظات ابن عزرا- وأضاف إليها ملاحظات شخصية فقال: يبدو واضحا وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عديدة.
وقد ذكر هذه النتيجة المؤرخ ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة (2/ 367).
* علما بأن التوراة تعتبر جزءا رئيسا من (الكتاب المقدس) عند اليهود- والذي يسميه النصارى بالعهد القديم وينقسم إلى التوراة، الأسفار التاريخية، أسفار الأناشيد، أسفار الأنبياء.(1/485)
يقع من الخصومات لأهل الأصنام، وإيراد الحجج عليهم، ولا سيما بعد موت موسى، وقيام أنبياء بني إسرائيل، فإنها وقعت بينهم قصص يطول شرحها، وكانوا يقاتلون من عبد الأصنام، ويستحلون دماءهم ويحشدهم على ذلك اتباع موسى، وأخبار الملة اليهودية [2]، وكل نبي يبعثه الله من أنبياء بني إسرائيل، يوجب على بني إسرائيل قتال من يعبد الأصنام، وغزوهم إلى ديارهم، وقد اشتملت التوراة أيضًا على حكاية ما كان من أخبار الأنبياء قبل موسى، وما كان بينهم من الدعاء إلى التوحيد، والفرار من الشرك، والتنفير عنه.
ومن نصوص التوراة ما ذكر في (الفصل العشرين) منها من السفر الثاني (1).
ولفظه: "أنا الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك معبودا آخر من دوني، لا تصنع لك منحوتا، ولا شبها لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلا، وما تحت الأرض، لا تسجد لهم، ولا تعبدها، لأني الله ربك القادر الغيور" انتهى.
_________
(1) أي سفر الخروج.(1/486)
وكرر هذا في مواضع منها غير هذا الموضع، وفي الفصل السادس والعشرين من السفر (1) الثالث من التوراة، ما لفظه: "ولا تصنعوا لكم أوثانا، ومنحوتا ونصبا، ولا تصنعوا لكم حجرا من خزف، لا تصنعوا في بلدكم لتسجدوا له، أنا الله ربكم" انتهى. وفي التوراة من النصوص المفيدة لهذا المعنى، ما يصعب الإحاطة به، ويتعسر الذكر لجميعه.
وفي الفصل (الثالث والعشرين) من كتاب يوشع بن نون ما لفظه: "وباسم معبوداتهم، لا تذكروا، ولا تحلفوا، ولا تعبدوهم، ولا تسجدوا لهم، بل الله ربكم، وبه تتمسكون كما فعلتم إلى هذا اليوم"، وفي كتابة نصوص كثيرة قاضية بإثبات التوحيد.
وكذلك في كتب من بعده من أنبياء بني إسرائيل الذين لهم كتب مدونة وقفنا عليها، وهم: صمويل الصبي، ثم اليسع، ثم داود، ثم سليمان، ثم عزرا الكاتب، وهو المسمى في القرآن: (عزير)، ثم إيليا، ثم عوبد، ثم أيوب، ثم أشعيا بن أموص، [وهو المسمى في القرآن: (إلياس). وفي (السفر الثاني) من أسفار الملوك من التوراة، أن الله رفعه إلى السماء]، ثم أرميا، ثم حزقيال، ثم دانيال ثم هوشع، وهو المسمى في الكتاب يوشع، ثم يونان، وهو المسمى في القرآن يونس، والمسمى أيضًا بذي النون. ثم ميخا، ثم ناحوم، ثم حبقوق، ثم صفونيا، ثم حجي، ثم يوحنا، ويقال: (ملاحيا) وهو المسمى في القرآن (يحيى). ثم بعد هؤلاء بعث الله -عز وجل- المسيح ابن مريم عليهم وعلى نبينا صلاة الله وسلامه.
وفي الزبور بما فيه التصريح بإثبات التوحيد مواضع كثيرة، فمنها في المزمور (2) السابع
_________
(1) أي سفر اللاوين
(2) سفر المزامير: وهي مجموعة من الأشعار الملحنة وغرضها تمجيد الله وشكره وكانت ترنم على صورة المزمار وغيره من الآلات الموسيقية. وفي العبرانية يسمى (كتاب الحمد) وقد عرفت باسم (مزامير داود) بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت إليه وبلغت (73) من (150) مزمورا وتنقسم هذه المزامير إلى خمسة أقسام، وتقرأ هذه المزامير في الكنيسة والعبادات الفردية والجماعية.
انظر: ترجمته في سفر صموئيل الأول وسفر الملوك الأول، " السنن القويم" (ج16)، " قاموس الكتاب (430، 361، 366).(1/487)
عشر ما لفظه: " كلام الرب مختبر، وهو ناصر جميع المتوكلين عليه؛ لأن من الإله غير الرب، أو من الإله سوى إلهنا"؟ انتهى.
وفي المزمور الموفي ثمانين. ما لفظه [3]: "ولا يكن فيك إله جديد، ولا تسجد لإله غريب، لأنني أنا هو الرب إلهك" انتهى.
وفي المزمور الخامس والثمانين ما لفظه: "الذي هو وحده إله، وله وحده أيضًا يجب أن يسجد الجميع ويخدموا" انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: "أنت وحدك الإله العظيم" انتهى.
وفي المزمور الرابع والتسعين (1) ما لفظه: "بالمزمور يهلل له، لأن الرب إله عظيم، وملك كبير على جميع الآلهة" انتهى. وفي المزمور الخامس والتسعين (2) ما لفظه: "فإن الرب عظيم ومسبح جدا، مرهوب هو على كل الآلهة، لأن كل آلهة الأمم شياطين، فأما الرب فصنع السماوات" انتهى.
وفي المزمور السادس والتسعين ما لفظه: " يخزى جميع الذين يسجدون للمنحوتات المفتخرون بأصنامهم. اسجدوا له يا جميع ملائكته" انتهى. وفي المزمور الخامس (3) بعد المائة: "وعبدوا منحوتاتهم (4) فصار ذلك عثرة لهم" انتهى.
_________
(1) بل هي في المزمور الخامس والتسعون مع اختلاف بسيط.
(2) بل هي في المزمور السادس والتسعين مع تغير بسيط.
(3) بل هي في المزمور السادس بعد المائة: (فصارت لهم شركاء).
(4) وفي المزمور أصنامهم بدل (منحوتاتهم).(1/488)
وفي المزمور الثالث عشر بعد المائة: " إلهنا في السماء وفي الأرض، وكلما شاء صنع. أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال أيدي الناس لها أفواه، ولا تتكلم، لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخر ولا تشم، لها أيادي ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشط، ولا تصوت بحنجرتها" انتهى.
وفي المزمور الثالث والثلاثين بعد المائة، ما لفظه: "أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال أيدي الناس، لهم أفواه ولا يتكلمون، ولهم أعين ولا يبصرون، ولهم آذان ولا يسمعون، وليس في أفواههم روح. مثلهم يصير الذين يصنعونهم، وجميع المتوكلين عليهم ". انتهى.
وأما إنجيل المسيح -عليه السلام- فهو مشحون بالتوحيد، وبذم المشركين والمنافقين والمرائين، ومن أراد استيفاء ذلك، فليراجع الأناجيل (1) الأربعة التي جمعها الأربعة من
_________
(1) إن الأناجيل تمثل جزءا رئيسا من (الكتاب المقدس) عند النصارى، الذي ينقسم عندهم إلى قسمين رئيسين هما:
1 - ): العهد القديم: الذي يحتوي على أسفار الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح ومنها التوراة.
2 - ): العهد الجديد: ويحتوي على الأسفار التي تبدأ بظهور المسيح عليه السلام، وتنقسم بحسب محتوياتها إلى ثلاثة أقسام هي:
- قسم الأسفار التاريخية وتشمل الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل.
- قسم الأسفار التعليمية وتشمل رسائل الحواريين وتلاميذ المسيح.
- قسم رؤيا يوحنا اللاهوني.
أما الإنجيل لغة: فهو كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني (إيفانجليون EVANGELION) ومعناه (الخير الطيب) أو البشارة.
واصطلاحا: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام قد استعمل كلمة الإنجيل بمعنى (بشرى الخلاص من خطيئة آدم الأزلية) التي حملها إلى البشر، واستعملها تلاميذه من بعده بالمعنى نفسه، ثم استعملت هده الكلمة على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وهي سيرة المسيح عليه السلام وقد غلب استعمالها بهذا المعنى على إنجيل متى، إنجيل مرقص وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا.
انظر: كتاب "يسوع المسيح" (ص 14)، للأب بولس إلياس، "قاموس الكتاب" (ص 120 - 121)، "قصة الحضارة" (11/ 206) لويورانت، ومحتويات هذه الأناجيل فيمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات.
1 - ) القصص: وبشغل الحيز الأكبر منها تتحدث عن قصة المسيح عليه السلام بدءا بولادته ثم دعوته ثم موته على الصليب ودفنه ثم قيامه من القبر ثم صعوده إلى السماء -حسب زعمهم-.
2 - ) العقائد: وتتركز بشكل رئيسي حول ألوهية المسيح وبنوته لله وتقرير أسس العقيدة النصرانية المنحرفة وأكتر الأناجيل صراحة في تقرير ذلك إنجيل يوحنا.
3 - ) الشريعة: يفهم من الأناجيل أنها أقرت شريعة موسى عليه السلام إلا ما ورد عن المسيح بتعديله أو نسخه في أمور محدودة وهي: الطلاق وقصاص الجروح ورجم الزانية.
4 - ) الأخلاق: يفهم منها الغلو والإمعان في المثالية والتسامح والعفو ودفع السيئة بالحسنة (متى الإصحاح 5).
5 - ) الزواج وتكوين الأسرة: لم تهتم الأناجيل كثيرا. مسألة الزواج، ولكن يفهم منها عموما أن المتبتل الأعزب أقرب إلى الله من المتزوج الذي يعاشر النساء.
وقد اعتمدت هذه الأناجيل الأربعة عند النصارى مجمع نيقية عام 325 م.(1/489)
الحواريين، ومن ذلك ما في الإنجيل الذي جمعه (القديس متى) في الفصل الخامس والخمسين منه ما لفظه: "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك، فخذ معك أيضًا واحدا أو اثنين لكي [تقوم كل كلمة] (1) على فم شاهدين أو ثلاثة، تثبت كل كلمة، وإن لم يسمع منهم، فقل للبيعة، وإن لم يسمع أيضًا من البيعة فيكون عندك كوثني وعشار" انتهى.
وهكذا الرسائل (2) التي صنفها جماعة من الحواريين، فإنا مشحونة بالتوحيد، ونفي
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق.
(2) وهى رسائل الحواريين والتلاميذ - وتعتبر من الرسائل التعليمية لأنها توضح تعاليم النصرانية ومبادئها تشتمل على (21) رسالة موزعة كالآتي:
- (14) رسالة لبولس عدد إصحاحاتها (99) إصحاحا.
- رسالة واحدة ليعقوب عدد إصحاحاتها (5).
- رسالة واحدة ليهوذا مكونة من إصحاح واحد.
- رسالتان لبطرس عدد إصحاحاتها (8).
- رسائل يوحنا عدد إصحاحاتها (7).
- ومنها رسائل -رؤيا بوحنا- صاحب الإنجيل الرابع - وهو عبارة عن تنبؤات مستقبلية عدد إصحاحاتها 22 إصحاحا.
انظر: "تاريخ الكنيسة" (ص 152، 153) يوسابيوس القيصري ترجمة القمص مرقص داود، "كتاب الغفران بين الإسلام والمسيحية" (ص33 - 35) للأستاذ إبراهيم خليل -الذي كان قسيسا وأستاذ اللاهوت بكلية اللاهوت بأسيوط ثم هداه الله إلى الإسلام-.(1/490)
الشرك، والذم لأهله، ومثل ذلك الكتاب المشتمل على سيرة أصحاب المسيح المسمى عندهم (إبراكسيس) (1).
وبالجملة فكتب الله -عز وجل- بأسرها، ورسله جميعا متفقون على التوحيد والدعاء إليه، ونفي الشرك بجميع أقسامه.
وأما دعاء الأنبياء المتقدمين على موسى إلى التوحيد فقد تضمنت التوراة حكاية ما كانوا عليه من التوحيد والدعاء إليه ونفي الشرك [4] فإنها قد حكت ما وقع منهم من عند أبينا آدم ومن بعده من الأنبياء، كنوع، وإبراهيم، ولوط، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب ويوسف إلى عند قيام موسى- سلام الله عليهم أجمعين-.
_________
(1) سفر أعمال الرسل ويسمى براكسيس: وهي كلمة يونانية تعني الأعمال- وينسب هذا السفر إلى لوقا- صاحب الإنجيل الثالث- وعدد إصحاحاته (28) إصحاحا يحتوي على سير الحواريين وتلاميذ المسيح وجهودهم في سبيل نشر تعاليم المسيح بعد رفعه عليه السلام -حسب زعمهم-.
وهذه الأنواع الثلاثة [براكسيس ورسائل الحواريين والتلاميذ، رؤيا يوحنا] رسائل يزعم النصارى أن تلاميذ المسيح قد كتبوها إلى كنائس معينة أو أشخاص أو النصارى عامة، تم اعتبرتها الكنيسة أسفارا قانونية وأنها كتبت بإلهام من الروح القدس لمؤلفيها. وكان اعتمادها على مراحل منها [انعقد مجمع بيقيه سنة 325م ومجمع لوريسيا سنة 364 م ومجمع قرطاج سنة 397 م ومجمع ترلو سنة 692 م، مجمع فلورنس سنة 1439م، مجمع ترنت سنة 1542 - 1563م. . ".(1/491)
الفصل الثاني
في بيان اتفاق الشرائع على إثبات المعاد
اعلم أنه سبق لي تأليف رسالة في هذا سميتها: (المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة) (1)
ولما كان هذا هو أحد المقاصد الثلاثة التي جمعت لها هذا المختصر، فإن ذكر بعض ما في كتب الله -عز وجل- مما يتعلق به لازما.
ففي التوراة في أولها عند الكلام على ابتداء الخليقة التصريح باسم الجنة، ولفظه: "فغرس الله جنانا في عدن شرقيا (2)، وابقا، ثم آدم الذي خلق وأنبت الله"، ثم كل شجرة حسن منظرها، وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن، ليسقي الجنان. ومن ثم يتفرق، ويصير أربعة رؤوس. اسم أحدهما النيل، وهو المحيط بجميع بلد زويلة الذي ثم الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ، وحجارة البنور. واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة. واسم النهر الثالث الدجلة وهو السائر شرقي الموصل. والنهر الرابع، هو الفرات". انتهى.
وكما وقع التصريح في التوراة بالجنة كما ذكرنا، فقد وقع التصريح فيها باسم النار. ولفظها في التوراة (شول واش) قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين (جهنم).
وفي موضع آخر في التوراة ما لفظه: "وإن الله خلق خلقا وتفتح الأرض فاها فينزلون إلى الثرى، هؤلاء القوم الذين عصوا الله. وقال: أحجب رحمتي عنهم، وأريهم عاقبتهم، وكما أنهم كادوني بغير إله، وأغضبوني بغروراتهم، كذلك إني أكيدهم؛ لأن النار تتقدح من غصبي، وتتوقد إلى أسفال الثرى، فتأكل الأرض ونباتها، حتى تستطلع
_________
(1) سيأتي تحقيقها في القسم الأول هذا "الفتح الرباني" عقب هذه الرسالة. برقم (10).
(2) في التوراة سفر التكوين الإصحاح الثاني.(1/492)
أساسات الجبال، كذلك أزيد عليهما شرورا، وسهامي أفرقها فيهم" انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من السفر الثالث من التوراة ما لفظه: "واحفظوا رسومي وأحكامي؛ فإن جزاء من عمل بها، أن يحيا الحياة الدائمة" انتهى. ولا حياة دائمة في الدنيا، بل في الآخرة. وفي التوراة من النصوص على هذا المعنى كثير.
وفي الفصل السادس والعشرين من كتاب النبي أشعيا ما لفظه: "يقوم الموات، ويستيقظ [5] الذين في القبور" انتهى. وفي كتابه أيضًا ما لفظه: "مزكى الظالم لأجل الرشا، وزكاة الزكي يزيلونها عنه لذلك، كما تأكل القش لسان النار، والهشيم ما يخليه اللهيب عناصرهم تكون كالبرق، وفروعهم تصعد كالغبار، إن زهدوا في توراة رب الجيوش، وقول قدوس العالم رفضوا، آية أن الهاوية موعودة من أمس، وهي أيضًا أصلحت للملوك عمقها، فأوسعها نارا وحطبا كثيرا، وأمر الله كواد من كبريت مشتعل فيها، وقال: ويحرقون ينظرون إلى أجسام القوم الذين كفروا بي، إن دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفأ، فيصيرون عبرة لباقي البشريين". انتهى.
وقال أيضًا في كتابه المذكور في حقيقة تلذذ أهل الجنة: "لا عين تقدر [أن] (1) إلا علم الله تعالى" انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من كتاب دانيال ما لفظه: "وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون: هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعيير وخزي أبدي" انتهى.
وفي زبور النبي داود- عليه السلام- في المزمور السادس منه ما لفظه: "وأنت يا رب (فإلى متى توعد) يا رب، ونج نفسي وخلصني من أجل رحمتك، لأنه ليس في الموتى من ينكرك، ولا في الجحيم من يعترف لك". انتهى.
وفي المزمور التاسع منه ما لفظه: "انتشبت الأمم في الفساد الذي عملوه، وفي الفخ الذي أخفوه، تعلقت أرجلهم، يعرف الرب أنه صانع الأحكام، والخاطئ بعمل يديه
_________
(1) زيادة يستلزمها السياق(1/493)
يؤخذ، يرفع الخطاة إلى الجحيم". انتهى.
وفي المزمور الخامس عشر (1) منه: "فرح قلبي وتهلل لمساني، وجسدي أيضًا يسكن على الرجاء، لأنك لا تترك نفسي في الجحيم، ولا تدع ضيفك أن يرى فسادا". انتهى. وفي المزمور الرابع والخمسين (2) ما لفظه: "ليأت الموت عليهم، ولينحدروا إلى الجحيم أحياء، لأن الشرور في مساكنهم وفي وسطهم" انتهى.
وفي المزمور السابع والثمانين (3) ما لفظه: "يا رب، لأن نفسي قد امتلأت شرورا، وحياتي إلى الجحيم دنت، حسبت مع المنحدرين في الجب، صرت كإنسان فاقد المعونة بين الأموات، جرى كالمجرمين الراقدين في القبور، الذين يذكرهم أيضا، وهم أقصوا من يدك، وضعوني في جبّ أسفل السافلين في ظلمات وظلال الموت" انتهى.
وفي وصايا النبي سليمان- عليه السلام- في الفصل الخامس منها ما لفظه: "لأن أرجل العبادة، تحذر الذين سيعلمونها، وتحطهم بعد الموت إلى الجحيم " انتهى.
وفي الإنجيل المسيحي في الفصل الخامس منه، من الإنجيل الذي جمعه متى ما لفظه [6]: "ومن قال لأخيه يا أحمق فقد وجبت عليه نار جهنم" انتهى. وفي هذا الفصل ما لفظه: "إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها، وألقها عنك، فإنه لخير لك أن تهلك أحد أعضائك من أن تهلك جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحد أعصابك من أن يذهب جسدك كله في جهنم "انتهى.
وفي الفصل العاشر منه ما لفظه: "لا تخافوا ممن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس. خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسم جميعا في جهنم" انتهى.
_________
(1) بل هو في المزمور السادس عشر.
(2) بل هو في المزمور الخامس والخمسين.
(3) هو في المزمور الثامن والثمانين.(1/494)
وفي الفصل الثالث عشر منه: "إن الملائكة يجمعون كل أهل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار حيث البكاء وصرير الأسنان". انتهى.
ومنه أيضًا ما لفظه: "هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان يخرج الملائكة، ويغرزون الأشرار من وسط الأخيار، ويلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" انتهى. وفي الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: "حينئذ يقول الذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وجنوده" انتهى. وفيه أيضًا ما لفظه: "فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة المؤبدة" انتهى.
وفي الفصل التاسع من الإنجيل الذي جمعه مرقص ما لفظه: "فإن شككتك يدك فاقطعها، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعسم من أن يكون لك يدان وتذهب إلى جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ، وإن شككتك رجلك فاقطعها، فخير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن يكون لك رجلان وتلقى في جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ" انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر منه، التصريح "بأن الزنادقة هم الذين يقولون: ليست تكون قيامة". انتهى. وفي الإنجيل الذي جمعه لوقا في الفصل السادس عشر منه ما لفظه: "ثم مات أيضًا ذلك الغبي وقُبر فرفع عينه، وهو يعذب في الجحيم" انتهى.
وفيه أيضًا ذكر الزنادقة، وهم الذين يقولون: ليست قيامة، هكذا في الفصل العشرين منه. وفيه أيضًا ما لفظه: "فأما أن الموتى يقومون فقد أنبأ بذلك موسى" انتهى. وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن المسيح قال للمصلوب الذي آمن به: "إنك تكون معي في الفردوس" انتهى.
وفي الإنجيل الذي جمعه يوحنا في الفصل الخامس منه ما لفظه: "فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الحسنات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" انتهى. وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: "يكون له الحياة المؤبدة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر".(1/495)
وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: "الحق والحق أقول لكم: إنه من يؤمن بحياة دائمة" انتهى.
إذا عرفت هذا المصرح به في الأناجيل، فهكذا صرح الحواريون من أصحاب المسيح في رسائلهم المعروفة (1).
والحاصل أن هذا أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله -عز وجل-، سابقها، ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل: أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم [7]، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم، أنه أنكر ذلك قط. ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له موسى بن ميمون اليهودي (2) الأندلسي، فوقع منه كلام، في إنكار المعاد. واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق، لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقى ذلك عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا، فقلده ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) انظر: "رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس" الإصحاح الخامس عشر العهد الجديد.
(2) موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق، أبو عمران القرطبي: طبيب فيلسوف يهودي. ولد وتعلم في قرطبة -529 هـ- 601 هـ= 1135 - 1204 م، وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس وتظاهر بالإسلام وقيل: أكره عليه فحفظ القرآن وتفقه المالكية فدخل مصر فعاد إلى يهوديته وأقام في القاهرة عاما كان فيها رئيسا روحيا لليهود كما كان طبيبا في تلك المدة قي البلاط الأيوبي. ومات بها ودفن في طبريا (بفلسطين).
له تصانيف كثيرة بالعربية والعبرية منها: دلالة الحائرين ثلاثة أجزاء بالعربية والحروف العبرية وهو كتاب فلسفته، قال ابن العبري: سماه الدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمه ويسميه الضلالة. وله الفصول-فصول القرطبي.
انظر: "الأعلام" للزركلي (7/ 329 - 330).(1/496)
المحمدية (1) إثبات المعاد، وتقليدا لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة، ولعنوه، وسموه كافرا.
قال في تاريخ النصراني في ترجمة موسى بن ميمون المذكور (أنه صنف رسالة في إبطال المعاد الجسمي، وأنكر عليه مقدمو اليهود، فأخفاها إلا عمن يرى رأيه قال: ورأيت جماعة من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه، ويسمونه كافرا". انتهى.
فهذه رواية نصراني عن طائفة من اليهود، وأنهم كفروا ابن ميمون ولعنوه بسبب هذه المقالة على أن هذا الملعون الزنديق قد اعترف في كثير من كلامه بالمعاد فقال في تأليفه المسمى بالمشنا (2) في فقه اليهود: "إن هذا الموضوع الذي هو جن عيذا (3) هو موضوع خصيبة من كرة الأرض، كثير المياه والأثمار، وسيكشفه الله للناس في المستقبل، فيتنعمون به، ولعله يوجد فيه نبات غريب جدا، عظيم النفع، كثير اللذة غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كله غير ممتنع ولا بعيد، بل قريب الإمكان بمشيئة الله تعالى"، ثم اعترف بذلك اعترافا آخر فقال في كتاب (اللغات) في حرف العين: "إن معنى هذا الاسم الذي هو "عيزا" التلذذ والتنعم، ومنه سميت لذات الآخرة، ونعيم أنفس الصالحين الكاملين (جن عيزا).
ثم قال في هذا الكتاب في تفسير (جن عيزا): أي أن تلك هي جنات النعيم، وفردوس السعادة، وقد شرحوا معنى (جن عيزا) وماهية التلذذ فيها رجال من وصل
_________
(1) سيأتي التعليق عليها.
(2) قد سماه موسى بن ميمون في "دلالة الحائرين" (مشنة التوراة) (1/ 15) ويسميه البعض "تثنية التوراة". انظر موسى بن ميمون (حياته ومصنفاته) للدكتور إسرائيل ولفنسون. مطبعة لجنة التأليف 1936م.
(3) وقد صرح أيضًا باسم (جنة عدن) في كتابة دلالة الحائرين قال مخاطبا أحد تلاميذه (. . . كنت أيها التلميذ العزيز الربي يوسف بن الربى يهودا سكنت نفسه جنة عدن) (1/ 7).(1/497)
إليها، واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها، قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله"، قال: "وقال النبي أشعيا في حقيقة التلذذ: لا عين [تقدر تراه] (1) إلا علم الله تعالى". انتهى كلام موسى ابن ميمون المذكور.
ثم قال هذا اللعين في كتابه المسمى بالمشنا بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه هاهنا ما لفظه: "اعلم أنه كما لا يدري الأعمى الألوان، ولا يدري الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع؟ كذلك لا تدري الأجسام اللذات النفسانية. وكما لا يعلم الحوت اصطقص النار لكونه في حده، كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا توجد لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادئ الرأي إلا بعد تحذق كثير.
وإنما وجب ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته، فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبين هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه، ولا يصح لنا في الشرع، ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل هي لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري -عز وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها؛ لأنه ليس لهم حواس مثلنا يدركون بها ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت، لا يدرك اللذات الجسمانية، ولا يريدها، كما لا يريد الملك عظيم الملك، أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق، وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك من حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا. كما نفضل نحن اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية.
_________
(1) صوابه اللغوي [تقدر أن تراه].(1/498)
وإذا ما بلغت أمر هاتين اللذتين نجد حساسة اللذة الواحدة، ورفعة الثانية، ولو في هذا العالم، وذلك أن نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب، ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست لذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس، يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يتجنب أعظم ما يكون من اللذات الجسمانية، خشية أن يناله في ذلك جزاء أو حشمة من الناس.
فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا، فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثل ما تعقل الأجرام العلوية، أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمته: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك، وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل، ولا شرب، ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ بما تعقل من الباري بما تستلذ سائر طبقات الملائكة بما عقلوا من وجوده -سبحانه-.
فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى. والحصول في هذا الحد.
هو بقاء النفس كما وصفنا إلى ما لا نهاية له، ببقاء الباري -جل اسمه-، وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف [تمثل] (1) الدائم بما لا نهاية له بالشيء المنقطع، وهو قوله تعالى في نص التوراة: "لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العلم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وأن لا تحصل باقية، وهو القطع المذكور (1)
في التوراة كما بين". وقال: "انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل.
_________
(1) كذا في المخطوط والفصيح (يمثل) بالياء التحتية.(1/499)
فكل من أخلد إلى اللذات الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، وبقي مادة منقطعة فقط، وقد قال النبي أشعيا: "إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه".
وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك: "إن امتثلت هذه الشرائع، نعينك على امتثالها، والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كلها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة فوعد بزوال هذه كلها، وإنهم يصحون، ويتذهنون حتى يكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل. فليس غاية التوراة إلا أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها، وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدث عليهم تلك العوائق كلها، حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة. فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه الشرائع بمحبة وفرض نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضا استخفافا، نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء" انتهى.
فهذا خلاصة كلام ابن ميمون اليهودي زنديق اليهود في كتابه المذكور سابقا، وقد أوردنا لك كلامه هاهنا، لتعلم أنه لم يربطه شيء من كلام الله -سبحانه- يصلح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل، وكتب سائر الأنبياء منادية بخلاف ذلك، حسبما قدمنا لك. وها نحن نوضح لك فساد كلامه هذا فنقول:
أولاً: إن حصر هذه اللذات النفسانية التي ذكرها لا ينافي حصول اللذات الجسمانية التي وردت في كتب الله -عز وجل-.
وقوله: "وليست بلذة طعام أو شراب"، هذا مسلم، فإن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام ولا شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام وشراب ونحوهما في تلك الدار الآخرة؟
فإن كان بالشرع، فكتب الله -سبحانه- جميعها ناطقة بخلاف ذلك كما قدمنا ذلك(1/500)
في كتب الله -عز وجل- المتقدمة، وكما في القرآن العظيم مما يكثر تعداده، ويطول إيراده، وهو لا يخفى مثله على أحد من المسلمين الذين يقرؤون القرآن لبلوغه في الكثرة إلى غاية يشترك في معرفتها المقصر والكامل.
وإن كان بالعقل فليس في العقل ما يقتضي إثبات اللذة النفسانية، ونفي اللذة الجسمانية، بل لا مدخل للعقل هاهنا، ولا يتعول عليه أصلا. وإن كان لا يعتبر عقل، ولا شرع، بل لمجرد الزندقة، والمروق من الأديان كلها، والمخالفة لما ورد في كتب الله -سبحانه-[10] فبطلان ذلك مستغن عن البيان.
وأما قوله: "كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك! "، فهذا عجب منه -عليه السلام- من كثرة خير الله -سبحانه-، وجزالة ما خبأه للصالحين (1) من عباده الطائعين لأمره في الدار الآخرة، وهو دليل على الملعون لا له، فإن كلامه هذا هو ككلام سائر أنبياء الله في استعظام ما أعده الله للصالحين من عباده، كما قال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (2). ومثله في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} (3).
وأما قوله: "وهكذا العلماء: العالم المستقبل، ليس فيه لا أكل، ولا شرب إلى آخره" فيقال له: إن أردت علماء الملة اليهودية، فهم الذين لعنوك وكفّروك بسبب هذه
_________
(1) قال تعالى:} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ {[محمد: 15].
وانظر الآيات: [البقرة: 25]، [الرعد: 35]، [إبراهيم: 23].
(2) أخرجه البخاري رقم (8498) ومسلم في صحيحه رقم (2/ 2824) من حديث أبي هريرة.
(3) [السجدة: 17](1/501)
المقالة كما قدمنا، وهم جميعا يخالفونك، ويثبتون المعاد الجسماني، واللذات الجسمانية، ويكفرون من لم يثبتها كما كفروك ويلعنونه كما يلعنوك. وإن أردت علماء الملة النصرانية، فهم متفقون بأسرهم على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية فيه، وكيف يخالف منهم مخالف في ذلك، والإنجيل مصرح هذا الإثبات تصريحا، لا يبقى عنده ريب لمرتاب. وإن أردت علماء الملة الإسلامية فذلك كذب بحت، وزور محضر، فإنهم مجمعون على ذلك، لا يخالف منهم فيه مخالف. ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحا يفهمه كل عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفا بسيطا.
وأما استدلاله بقوله في التوراة: "لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، ويطيل أيامك في العالم الذي كله طائل" فهذا دليل على الملعون، فإن الخطاب في الدنيا لمجموع الشخص الذي هو الجسم والروح. وظاهره أنه يكون له هذا على الصفة التي خوطب وهو عليها، وأنه يحصل له جميع ما يتلذذ به من اللذات الجسمانية والنفسانية، ومن ادعى التخصيص ببعض الشخص، أو ببعض اللذات، فهو يدعي خلاف الظاهر. ولكن المحرف المتزندق لا مقصد له إلا التلبيس على أهل الأديان. وكذلك قوله: "وقد قال النبي أشعيا: إن العالم المستقبل ليس يُدرك بالحواس، وهو قوله: "لا عين تقدر أن تراه". فإن هذا هو مثل ما قدمنا من كلام الأنبياء في استعظام ما عند الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة. وهذا تعرف أنه لم يكن في كلام هذا الملعون الزنديق ما يتمسك به متمسك، أو يغتر به مغتر [11]، بل هو خلاف ما في كتب الله جميعا كما قدمنا، وخلاف ما عند علماء الملل، بل خلاف ما أقره به في كلامه السابق إقرار مكررا.
فيا عجبا لمن يتمسك بمثل هذا الكلام الذي لم يجر على نمط ملة من الملل، ولا وافق نصا من نصوص كتب الله -سبحانه-، ولا نصا من نصوص رسل الله جميعا!،(1/502)
ويجعله نفس ما وردت به التوراة والإنجيل، ويجزم به ويحرره في كتبه مظهرا أن الشريعة المحمدية جاءت بما لم يكن في الشرائع السابقة، زاعما أن ذلك دليل على كمالها، مبطنا ما أبطنه هذا الزنديق ابن ميمون اليهودي، كما فعل ذلك ابن سينا (1)، وتبعه ابن أبي الحديد (2) في شرح (النهج) (3). بل جاوز ما قاله هذا إلى ما هو شر منه، فقال: إن التوراة لم يأت فيها وعد ووعيد يتعلق بما بعد الموت. وهذه فرية على التوراة، وجحد لما فيها، وتحريف لما صرحت به في غير موضح كما قدمنا بعض ذلك. وكذلك زعم أن المسيح وإن صرح بالقيامة فقد جعل العذاب روحانيا، وكذلك الثواب، وهذا أيضًا كذب محض. وقد قدمنا ما يفيدك ذلك، ويطلعك على كذبهما. والعجب أن ابن ميمون اليهودي لم يتجاسر على ما زعماه من أن التوراة لم يأت فيها وعد ووعيد يتعلق بما بعد الموت، بل أثبت ذلك، واستدل عليه بالتوراة كما عرفت من كلامه السابق المتضمن لاعترافه، ولمخالفته في إثبات اللذات الجسمانية. فإن قلت: قد جاء عن الصابئة، وعن جماعة من المتعلقين بمذاهب الحكماء ما يوافق كلام ابن ميمون المذكور. قلت: لسنا بصدد الرد على كل كافر ومتزندق، بل بصدد الكلام على ما جاءت به رسل الله،
_________
(1) هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا، البلخي، ثم البخاري يلقب بالشيخ الرئيس، فيلسوف، طبيب، شاعر ولد سنة 370 هـ كان هو وأبوه من أهل دعوة الحاكم العبيدي من القرامطة الذين لا يؤمنون بمبدأ، ولا بمعاد، ولا رب، ولا رسول. من تصانيفه الإشارات، القانون في الطب وتقاسيم الحكمة.
انظر: شذرات الذهب (3/ 234)، معجم المؤلفين (4/ 20).
(2) هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني كان فقيها أصوليا، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلما جدليا، اصطنع مذهب الاعتزال ولد بالمدائن في غرة ذي الحجة سنة ست وثمانين وخمسمائة، ونشأ بها، نظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم، وفيها غالي وتشيع. من مصنفاته، الاعتبار، شرح نهج البلاغة.
انظر: البداية والنهاية (13/ 213) وفوات الوفيات (2/ 259) والوافي في الوفيات (18/ 76، 77).
(3) لم أجد هذه العبارات في شرح النهج.(1/503)
ونطقت به كتبه، واتفقت عليه الملل المنتسبة إلى الأنبياء المقتدية بكتب الله ورسله دفعا لما وقع من الكذب البحت، والزور المحض، ممن زعم المخالفة بينها وبين ما جاءت به الشريعة المحمدية، فأوضحنا أن ذلك مخالف للملة اليهودية، ولما جاءت به التوراة، وما قاله علماء اليهود. ومخالف لما جاءت به الملة النصرانية، ولما جاء به الإنجيل، وما قاله علماء النصارى. ومخالف أيضًا لما جاء به أنبياء بني إسرائيل، وما نطقت به كتبهم حسبما قدمنا. ومخالف لما كان من الأنبياء المتقدمين على بعثة موسى كما يحكي ذلك ما تضمنته التوراة من حكاية أحوالهم، وما كانوا عليه، وما كانوا يدينون به، وكما يحكي ذلك عنهم القرآن الكريم، فإن فيه ما يفيد ما كانوا عليه، وما كانوا يدينون به، وما قالوا لقومهم، وما وعدوهم به من خير وشر، [12] بل فيه ما يفيد ما كان عليه أهل الكتب المتأخرة من البعثة لموسى، ومن بعده، وما كانوا يدينون به كقوله _سبحانه- حاكيا عن اليهود:} وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى {، وقوله تعالى:} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ {(1)، وقوله حاكيا عن موسى (2) إلى فرعون:} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {إلى قوله:} وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {إلى قوله:} فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {(3)، وقوله:} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ {(4).
_________
(1) [المائدة: 72].
(2) ليست عن موسى وإنما هي عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه كما في سورة غافر (28 - 32).
(3) [غافر: 39 - 40].
(4) [آل عمران: 55 - 57].(1/504)
وقال:} بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {(1).
ونصوص القرآن الحاكية عن اليهود والنصارى، وسائر الملل مثل هذا كثيرة جدا، ولا يتسع المقام لبسطها، وقد بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأهل الملة اليهودية والنصرانية في أكثر بقاع الأرض، وبلغهم ما حكاه القرآن عن أنبيائهم من إثبات المعاد، وإثبات النعيم الجسماني والروحاني، ولم يسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك، أو قال هو خلاف ما في التوراة والإنجيل. وقد نزل أكثر القرآن على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة، وكان اليهود متوافرين فيها وفيما حولها من القرى المتصلة بها، وكانوا يسمعون ما ينزل من القرآن، ولم يسمع أن قائلا منهم قال للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنك تحكي عن التوراة ما لم يكن فيها من البعثة، وما أعده الله في الدار الآخرة من النعيم للمطيعين، والعذاب للعاصين، وقد كانوا يودون أن يقدحوا في النبوة المحمدية بكل ممكن. بل كانوا في بعض الحالات ينكرون وجود ما هو موجود في التوراة كالرجم (2)، فكيف سكتوا عن هذا الأمر العظيم، وهل كانوا يعجزون أن يقولوا عند سماعهم لقوله تعالى:
_________
(1) [الأعلى: 16 - 19].
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6841) ومسلم رقم (26/ 1699) من حديث ابن عمر أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ "فقالوا: نفضحهم ويجلون. قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمرهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة".(1/505)
} وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً {(1) , ما قلنا هذا، ولا نعتقده، ولا جاءت يه شريعة موسى؟!.
وهكذا عند سماعهم لقوله تعالى:} وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى {(2). وقد كان أمر المعاد مشتهرا في أهل الكتاب، وكانوا يتحدثون به، واستمر ذلك فيهم استمرارا ظاهرا، وعلم به غيرهم من أهل الأوثان لما كانوا يسمعون منهم. ومن ذلك ما أخرجه ابن إسحاق (3) قال: حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد (4)، عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومه (5) بني عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار [13]، والحساب والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت. وذلك قبل مبعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: ويحك يا فلان، أو ويلك، وهذا كائن أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون من أعمالهم؟!. قال: نعم، والذي يحلف، به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم، فتحمونه، ثم تقذفوني فيه، ثم تطينون علي، وأني أنجو من تلك النار غدا. فقيل: يا فلان، فما علامة ذلك؟ فقال: نبي يبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار إلى مكة واليمن بيده، قالوا: فمن نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، وأنا أحدث القوم، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. . . إلى آخر الحديث (6).
_________
(1) [البقرة: 80].
(2) [البقرة: 111].
(3) في السيرة النبوية (1/ 270 - 272).
(4) في السيرة زيادة [أخي بني عبد الأشهل].
(5) عبارة الشوكاني تشعر بأن هذا اليهودي من بني عبد الأشهل نسبا وصوابه كما في السيرة (1/ 271): "فخرج علينا من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنا. . . ".
(6) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 467) والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 2\ 68) وأبو نعيم دلائل النبوة (1/ 74 - 75) والبيهقي في الدلائل أيضًا (2/ 78 - 79) والطبراني في الكبير (7/ 41 - 42) رقم 6327) والحاكم (3/ 417 - 418) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي.
وأورده الهيثمي في المجمع (8/ 230) وقال: رجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع.
والخلاصة أن الحديث صحيح. والله أعلم.(1/506)
وأهل الكتاب إلى عصرنا هذا يقرون بالمعاد، والجنة والنار، والحساب والعقاب، والنعيم والثواب، ولا ينكر ذلك منهم منكر، ولا يخالف فيه مخالف.
وإذا قيل لهم: قد قال قائل: إنكم لا تثبتون ذلك، أنكروا أشد الإنكار. فمن روى عنهم ما يخالف ذلك، فقد افترى، وجاء مما ترده الأحياء منهم والأموات، وبما تبطله الرسل المرسلة إليهم، والكتب النازلة عليهم، حسبما قد حكينا لك في هذا المختصر.(1/507)
الفصل الثالث
في إثبات النبوات
[1 - تمهيد]:
اعلم أن الأنبياء -عليهم السلام- على كثرة عددهم، واختلاف أعمارهم، وتباين أنسابهم، وتباعد مساكنهم، قد اتفقوا جميعا على الدعاء إلى الله- عز وجل- وصار الآخر منهم يقر بنبوة من تقدمه، وبصحة ما جاء به. وإذا خالفه في تحليل بعض ما حرمه الله على لسان الأول، أو تحريم ما أحله الله له ولأمته فهو مقر بأن الحكم الأول تحليلا أو تحريما هو حق، وهو حكم الله -عز وجل- وأنه الذي تعبد الله به أهل تلك الملة السابقة، واختاره لهم، كما اختار للملة اللاحقة ما يخالفه. والكل من عند الله -عز وجل- وذلك جائز عقلا وشرعا في ملة واحدة، فضلا عن الملل المختلفة.
وما روي في بعض كتب أصول الفقه من أن اليهود ينكرون النسخ، فتلك رواية غير صحيحة، وقد نسبها من نسبها إلى طائفة (1) قليلة منهم، وما أظنه يصح عنهم ذلك؛ فإن التوراة مصرحة بنسخ كثير من الأحكام التي تعبدهم الله بها، تارة تخفيفا، وتارة تغليظا، وتارة إيجابا، وتارة تحريما.
وبالجملة فلا شك، ولا ريب أن الأنبياء متفقون على تصديق بعضهم بعضا، وأن ما جاء به كل واحد منهم فهو من عند الله- عز وجل-[14] وقد عرفناك فيما سبق أن
_________
(1) قال صاحب الكواكب (3/ 533).
يجوز النسخ عقلا باتفاق أهل الشرائع سوى الشمعونية- ينتسبون إلى شمعون بن يعقوب.
وكذلك يجوز النسخ سمعا باتفاق أهل الشرائع سوى العنانية من اليهود فإنهم يجوزونه عقلا لا سمعا.
العنانيه: فرقة من اليهود ينتسبون إلى عنان بن داود وهم يخالفون اليهود في سائر السبت والأعياد وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد. . . ".
الإرشاد (ص 185). نهاية السول (2/ 167). الملل والنحل (1/ 315).(1/508)
عددهم بلغ إلى مائة (1) ألف وأربعة وعشرين ألفا، ولا خلاف بين أهل النظر أن اتفاق مثل هذا العدد يفيد العلم الضروري بصدق ما اتفقوا عليه، بل اتفاق عشر هذا العدد، بل اتفاق عشر عشره يفيد ذلك. ومن ينكر في هذا الاتفاق فعليه بمطالعة التوراة، فإنها قد اشتملت على حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى بعثة موسى، وفيها التصريح بتصديق بعضهم بعضا، ولم يقع من واحد منهم الإنكار لنبوة أحد ممن تقدمه. ثم جاء من بعد موسى وهارون أنبياء بني إسرائيل، وكل واحد منهم يقر بمن تقدمه، ويثبت نبوته، كما اشتمل على ذلك كتب نبواتهم، وكثير منهم كان يجاهد من يعبد الأصنام من بني إسرائيل وغيرهم. وقد وقعت لهم قصص وحروب مع من كان يعبد الصنم المعروف (ببعل) الذي ذكره الله -سبحانه- في القرآن (2). وكذلك كان لهم قصص وحروب مع من كان يعبد غيره من الأصنام. وهكذا داود وسليمان، وهما من أنبياء بني إسرائيل، وممن يدين بالتوراة، ما زالا في حرب مع عباد الأصنام كما يحكي ذلك الزبور، وكتاب داود، وكما تحكيه وصايا سليمان، وهى كتاب مستقل.
وهكذا الإنجيل، فإن المسيح - عليه السلام- كان يحتج على المخالفين له من اليهود بنص التوراة في غالب فصوله المشتملة على حكاية المسائل التي أنكرها عليه اليهود. ومع هذا فلم يقع اختلاف بينهم قط في الدعاء إلى توحيد الله، وإثبات المعاد، وصحة نبوة كل واحد منهم وصدقه، فيما جاء به من الشرع، وفيما حكاه عن الله - سبحانه-. وهذه هي الثلاثة المقاصد التي جمعنا هذا المختصر لتقرير اتفاقهم عليها، وإثباتهم لها، وكثيرا ما كان يقع التبشير من السابق منهم باللاحق، كما هو مصرح به في التوراة من تبشير موسى بيوشع بن نون، وكما هو مصرح به في الزبور من تبشير داود بعيسى، وهو الرابع عشر من أولاده، فإن بين داود والمسيح أربعة عشر أبا. وقيل أكثر من
_________
(1) تقدم تخريجه (ص484) وهو حديث ضعيف.
(2) قال تعالى: (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين) [الصافات: 125].(1/509)
ذلك، حسبما يحكيه ما وقع في بعض نسخ الإنجيل، وكما وقع من يحيى بن زكريا المسمى عندهم يوحنا، فإنه بشر بالمسيح مع اتصال عصره بعصره، فإن يحيى بن زكريا إنما قتل بعد أن بعث الله المسيح كما يحكي ذلك الإنجيل.
[2 - تبشير التوراة بمحمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:]
والكلام في تبشير بعض الأنبياء ببعض يطول، وها نحن نذكر لك هاهنا ما وقع من التبشبر بنبينا محمد-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن تقدمه من الأنبياء، حتى يتضح لك أن هذه سنة الله- عز وجل- في أنبيائه- عليهم السلام-.
فمن ذلك ما ثبت في التوراة في الفصل السابع عشر من السفر الأول منها: " قال الله سبحانه لإبراهيم، وقد سمعت قولك في إسماعيل، وها أنا مبارك فيه، وأثمره، وأكثره بمأذ مأذ" (1) انتهى قوله: "بمأذ مأذ" (2) هو اسم محمد بالعبرانية، وهذا صريح في البشارة بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [15]
وفي الفصل الثالث (3) والثلاثين من السفر (4) الخامس من التوراة، ما لفظه: "يا الله الذي تجلى نوره من طور سينا، وأشرق نوره من جبل سيعير، ولوح به من جبل فاران، وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم" انتهى.
هذا نص التوراة المعربة تعريبا صحيحا، وقد حكى هذا اللفظ من نقل عن التوراة بمخالفة لما هنا بسيرة: "هكذا جاء الله من طور سيناء، وأشرق من (ساعير) واستعلن من جبال فاران، وفي لفظ: "تجلى الله من طور سيناء إلخ".
قال جماعة من العلماء: إن معنى تجلى نور الله -سبحانه- من طور سيناء، أو مجيئه
_________
(1) لا توجد هذه الكلمة في العهد القديم ويوجد بدلها " كثيرا جدا ".
(2) لا توجد هذه الكلمة في العهد القديم ويوجد بدلها " كثيرا جدا ".
(3) انظر العهد القديم (ص 234). ط: القاهرة.
(4) أي سفر التثنية وقد تقدم.(1/510)
من طور سيناء، هو إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ومعنى إشراقه من جبل (سيعير)، إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من (سيعير)، أو (ساعير) (1) , وهي أرض الخليل من قرية منها تدعى (ناصرة) وباسمها سمى أتباعه نصارى، ومعنى لوح به من جبل فاران (2)، أو استعلن من جبل فاران، إنزاله القرآن على محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وجبال فاران هي جبال مكة بلا خلاف بين المسلمين، وأهل الكتاب. ومما يؤيد هذا ما في التوراة في السفر (3) الأول منها ما لفظه: "وغدا إبراهيم فأخذ الغلام يعني إسماعيل، وأخذ خبزا وسقاء من ماء، ودفعه إلى هاجر، وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقت هاجر، فظلت سبعا، ونفذ الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة، وجلست مقابلته على مقدار رمية سهم، لئلا تبصر الغلام حين يموت، ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام، فدعا ملك الله هاجر وقال لها: ما لك يا هاجر لا تخشي، فإن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو، فقومي فاحملي الغلام، وشدي يديك به، فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت بئر ماء، فسقت الغلام، وملأت سقاها، وكان الله مع الغلام فربى وسكن في برية فاران" انتهى.
ولا خلاف أن إسماعيل سكن أرض مكة فعلم أنها فاران، وقد حكى الله -سبحانه- في القرآن الكريم ما يفيد هذا، فقال حاكيا عن إبراهيم:} رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {(4).
_________
(1) في التوراة اسم لجبال فلسطين وهو من حدود الروم وهو قرية من الناصرة بين طبرية وعكا. معجم البلدان (3/ 171).
(2) كلمة عبرانية معربة: وهو اسم لجبال مكة. انظر معجم البلدان (4/ 225).
(3) أي سفر التكوين. الإصحاح الحادي والعشرون. انظر العهد القديم (29).
(4) [إبراهيم: 37](1/511)
ولا خلاف في أن المراد بهذا الوادي أرض مكة، وفي الأحاديث الصحيحة (1)
الحاكية لقصة إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل ما يفيد هذا ويوضحه.
ومما يؤيد هذه البشارة، المذكور في التوراة البشارة المذكورة في كتاب نبوة النبي شمعون (2) ولفظه: "جاء الله من جبال فاران، وامتلأت السماوات والأرض من تسبيحه، وتسبيح أمته".
ومثل ذلك البشارة المذكورة في نبوة النبي حبقوق (3) ولفظه: " جاء الله من التيمن (4)، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك يمينه رفات الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر" (5) انتهى.
وفي هذا التصريح بحبال فاران مع التصريح باسم نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[16] بقوله: وامتلأت الأرض من تحميد أحمد تصريح لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
ومن البشارات بنبينا - محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الزبور (6) لداود - عليه السلام- ما لفظه:
_________
(1) انظر: فتح الباري (6/ 386 - 395).
البداية والنهاية (1/ 150 - 155).
(2) ونص الترجمة الحالية: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران، سلاه جلاله غطى السماوات والأرض، امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور له من يده شعاع. وهناك استثار قدرته".
سفر حبقوق، الإصحاح الثالث، العهد القديم 1046.
(3) اسم عبري معناه (يعانق) أو ربما اسم نبات حديقة وهو نبي يهوذا ويستفاد من المزمور المنسوب إليه أنه كان من سبط لاوي وأنه أحد المفتين في الهيكل وهو عند أهل الكتاب ثامن الأنبياء الصغار الذين ظهروا في مملكة يهوذا.
قاموس الكتاب المقدس (ص 287 - 288).
(4) اسم عبري معناه اليمنين أو الجنوبي أو الصحراء الجنوبية.
قاموس الكتاب المقدس (ص 288).
(5) سفر حبقوق الإصحاح الثالث.
(6) نص الترجمة الحالية: "رنموا للرب، باركوا اسمه، بشروا من يوم إلى يوم بخلاصة، حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه؛ لأن الرب عظيم وحميد جدا".
سفر المزامير، المزمور السادس والتسعون العهد القديم 704.(1/512)
"إن ربنا عظيم، محمود جدا، ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا" انتهى.
ففي هذا التصريح باسمه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومن ذلك قوله فيه "بارك عليك إلى الأبد. ويقلد أبونا الجبار السيف؛ لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، اركب كلمة الحق، وسمت التأله، فإن ناموسك وشرائعك معروفة هيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك" (1) انتهى. وهذه صفات نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لم يبعث نبي هذه صفته بعد داود سواه. ومثل هذا قوله في موضع آخر: "ويجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وتخذى أهل الجزائر بين يديه، ويلحس أعداؤه التراب، ويسجد له ملوك الفرس، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص البائس المضطهد ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصفى عليه ويبارك في كل حين" (2) انتهى. وهذه الصفات أيضًا ليست لأحد من الأنبياء غيره. فإنه لم يملك أحد
_________
(1) نص الترجمة الحالية: " فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك لساني قلم كاتب ماهر، أنت أبرع جمالا من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك - أيها الجبار- جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم، أركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك عينيك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون".
سفر المزامير، المزمور الخامس والأربعون العهد القديم 672.
(2) نص الترجمة الحالية: "ويملك من البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمه. ملوك شيا وسبأ يقدمون هدية ويسجد له كل الملوك. كان كل الأمم تتعبد له لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين، إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبأس ويخلص أنفس الفقر من الظلم والخطف، يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا يصلي لأجله دائما اليوم كله يباركه".
سفر المزامير، المزمور الثاني والسبعون. العهد القديم 688.
وقوله من البحر إلى البحر: لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي ومن لدن الأنهار سيحون وجيحون إلى منقطع الأرض بالمغرب.
* والجزائر: أهل جزيرة العرب الجزيرة بين الفرات ودجلة، جزيرة قبرص وأهل جزيرة الأندلس.
* قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زويت لي الأرض، مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها".
أخرجه ابن ماجه في السنن رقم (4000) من حديث ثوبان، وله ألفاظ عند مسلم رقم (2889)
وأبو داود رقم (4252) والترمذي في السنن رقم (2176) وهو حديث صحيح.(1/513)
منهم من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، كما ذلك معلوم لكل أحد، بل الذي انتشرت شريعته، وبلغت سيوف أمته إلى هذا المقدار هو نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهكذا قوله: ويسجد له ملوك الفرس، فإنه لم يفتح الفرس، ويستعبد أهلها، ويضرب عليهم الجزية إلا أمة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهكذا قوله: "وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد" فإنها لم تدن الأمم كلها لغيره. وهكذا قوله: "ويصلي عليه ويبارك (1) في كل حين" فإن هذا يختص بنبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاستمرار ذلك له في كل وقت، ووقوع الأمر القرآني به، ولم يكن ذلك لغيره من الأنبياء. ومن البشارات، ما ذكره أشعيا (2) في كتاب نبوته من التبشير براكب الحمار، وراكب الجمل، ولا شك أن راكب الحمار، هو المسيح، وراكب الجمل هو نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وفي نبوة أشعيا أيضًا قوله: "إني جعلت أمرك يا محمد، يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد" (3). انتهى.
_________
(1) وقوله: "يصلى عليه ويبارك في كل حين": في كل صلاة والصلوات الخمس وغيرها اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد. . . . . . ".
(2) نص الترجمة الحالية: لأنه هكذا قال لي السيد: اذهب أقم الحارس ليخبر بما يرى، فرأى ركابا أزواجا من الفرسان. ركاب حمير، ركاب جمال فأصفي إصفاء شديدا، ثم صرح كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائما في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان فأجاب وقال: سقطت بابل، وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة، كسرها إلى الأرض".
سفر أشعياء، الإصحاح الحادي والعشرون العهد القديم 801.
* وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقطت أصنام بابل.
(3) لم أقف عليه.(1/514)
وهذا تصريح باسم نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على وجه ينفي كل شك ويقطع كل ريبة، وكذلك قوله في موضع آخر (1) من كتاب نبوته حاكيا عن الله سبحانه أشكر حبيبي أحمد فإن هذا التصريح باسم نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ومثل هذا قول حبقوق (2) النبي في كتاب نبوته: "أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من شعاع منظره" (3) وكذا قوله في موضع آخر (4) من كتاب نبوته: "وتنزع في مشيك إعراقا ونزعا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء- فإن هذا تصريح أوضح من الشمس ومن البشارات قول حزقيال (5) النبي في كتاب نبوته مهددا لليهود:- وأن الله يظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبيا، وينزل عليهم كتابا، ويملكهم رقابكم، فيقهرونكم،. . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(1) لم أقف عليه.
* وإنما قال أشعياء "إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد".
سفر أشعياء. الإصحاح السادس والستون العهد القديم 846.
(2) انظر: سفر حبقوق الإصحاح الثالث العهد القديم (1046).
* أشعيا بن آموص، ومعنى اسمه (الرب يخلص) ويعتبره النصارى من أعظم أنبياء العهد القديم ويلقبونه (بالنبي الإنجيلي) لكثرة نبواته عن المسيح ويغلب على ظن المؤرخين بأن أشعياء قد مات مقتولا في اضطهاد الملك منسي الإسرائيلي.
وينسب إلى أشعياء سفر باسمه عدد إصحاحاته (66) إصحاحا ويعتبر ضمن أسفار الأنبياء المتأخرين.
قاموس الكتاب المقدس ص 81 - 85.
(3) وتمامه: مثل النور يحوط بلاده بعزة تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام فمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة وانخفضت الروابي، وتزعزعت ستور أهل مدين".
(4) انظر: سفر حبقوق الإصحاح الثالث، والعهد القديم 1046.
(5) حزقيال: معناه (الله يقوي) وهو ابن بوزي من عشيرة كهنوتيه ويعتبرونه أحد الأنبياء الكبار وقد نشأ في فلسطين زمن النبي أرميا ثم حمل مسبيا مع ملك يهوذا (يهوياكين) إلى أرض بابل أثناء الغزو البابلي، ولا يعرف وقت ومكان موته.
ينسب إليه (سفر حزقيال) عدد إصحاحاته (48) إصحاحا.
القاموس (الكتاب المقدس) (301 - 304).(1/515)
ويذلونكم (1) بالحق [17]، ويخرج رجال (بني قيذار) (2) في جماعات الشعوب، معهم ملائكة على خيل بيض" (3) انتهى.
ففي هذا التصريح ببعثة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقهر أمته للأمم، فإن (قيدار) هو ابن إسماعيل بن إبراهيم بلا خلاف، ولم يبعث الله فيهم نبيا إلا نبينا محمدا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا معلوم لكل أحد، لا يخالف فيه مخالف، ولا ينكره منكر.
ومن البشارات ما في كتاب نبوة دانيال النبي، فإنه صرح فيها باسم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمثل ما تقدم في نبوة حبقوق فقال: "ستنزع في مشيك إعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء" (4) انتهى.
وفي موضع آخر من كتابه هذا التصريح ببعثة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال بعد ذكر التبشير بالمسيح ما لفظه: "حتى أبعث بي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملائكة فبشروها، فأوحي إلى ذلك النبي وأعلمه السماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إلي، وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو، فأدنيه، وأسلم عليه، وأوحي إليه، ثم أرده إلى
_________
(1) في المخطوط مكرر قوله: "ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم ".
(2) رجال بني قيدار هم ربيعة ومضر أبناء عدنان وهما جميعا من ولد قيدار بن إسماعيل والعرب كلهم من بني عدنان وبني قحطان، فعدنان -أبو ربيعة- ومضر وأنمار من ولد إسماعيل باتفاق الناس وأما قحطان فقيل: هم من ولد إسماعيل. . . ..
البداية والنهاية (2/ 156) واللباب في معرفة الأنساب (3/ 222).
(3) انظر: سفر حزقيال الإصحاح العشرين والعهد القديم 949.
(4) النص الذي وجدته: "كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض".
سفر دانيال. الإصحاح السابع، العهد القديم 1000.(1/516)
عبادي بالسرور والغبطة حافظا لما استودع، صادعا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول، والموعظة الحسنة، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، رؤوف بمن والاه، رحيم بمن آمن به حتى على من عاداه" (1). انتهى، ولا ريب أن هذه صفات نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنه لم يبعث الله نبيا من بني إسماعيل سواه. ومثل هذه الصفات، ما في حديث عبد الله بن عمرو وعند البخاري (2) وغيره أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التوراة قال (إنه لموصوف في التوراة (3) ببعض صفته في القرآن (4):} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا {(5) وحرزا للأميين. أنت عبدي ورسولي، حميتك المتوكل، لست بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله). قيل: قد يراد بلفظ التوراة جنس الكتب المتقدمة من التوراة والزبور والإنجيل، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل. فعلى هذا، يكون المراد بقول عبد الله بن عمرو: "إنه لموصوف في التوراة " هذه الصفات المذكورة في نبوة دانيال، ولا مانع من أن تكون هذه الصفات كانت موجودة في التوراة فحذفتها اليهود، فما ذلك بأول تحريف وتبديل وتغيير
_________
(1) انظر: سفر دانيال الإصحاح التاسع بكامله، والعهد القديم (1003 - 1004).
* ودانيال: معناه (الله قضى) عاش في فترة السبي البابلي، ونال مكانة عالية عند نبوخذ نصر بعد أن فسر له دانيال حلما قد أزعجه وتوفي في عهد الملك كورش ملك الفرس وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته (12) إصحاحا ويحتوي على تاريخ بني إسرائيل في فترة السبي وعلى تنبؤات مستقبلة.
قاموس الكتاب المقدس (357 - 360).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2125) و (4838).
(3) لفظ التوراة يقصدون به جنس الكتب التي عند أهل الكتاب، ولا يخصون بذلك كتاب موسى.
(4) انظر: سفر أشعياء الإصحاح الثاني والأربعون (1/ 20) والعهد القديم (822).
(5) [الأحزاب: 45].(1/517)
منهم.
[تبشير الإنجيل بمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:]
ومن البشارات به في الإنجيل، ما في الفصل الخامس عشر من الإنجيل الذي جمعه يوحنا (أن الفار قليط روح الحق الذي يرسله الله هو [يعلم] (1) كل شيء) (2).انتهى. وفي موضع آخر منه: (والفار قليط روح القدس الذي يرسله [18] الله هو [يعلم] (3) كل شيء وهو يذكركم ما قلت لكم). وفي موضع آخر منه: (إذا جاء الفار قليط الذي أرسله الله روح الحق الذي هو يشهد لي، قلت لكم هذا، حتى إذا كان يؤمنون به، ولا يشكون فيه) (4). وفي الفصل السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفار قليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وعلى البر، وعلى الحكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فإني منطلق ولستم تروني، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان، وأن لي كلاما كثيرا لستم تطيقون كله الآن. لكن إذا جاء روح الحق ذاك، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي) انتهى.
وقد تكرر ذكر (الفار قليط) (5) في الإنجيل، وأنذر به المسيح وبشر به قومه في غير موضع منه. وقد اختلفوا في المراد، (فالفار قليط) في لغتهم على أقوال. وذهب الأكثر
_________
(1) كذا في المخطوط وصوابه. (يعلمكم).
(2) إنجيل يوحنا (14/ 26).
(3) كذا في المخطوط وصوابه. (يعلمكم).
(4) يوحنا (15/ 26).
(5) الفار قليط: هو محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله الله بعد المسيح.(1/518)
من النصارى إنه المخلص (1)، وقالوا هو مشتق من (فاروق) (2) أو من (فارق) قالوا: ومعنى (ليط) (3) كلمة تزاد كما يقال في العربية: رجل هو، وحجر هو، وعالم هو، وجاهل هو.
وقد تقرر أنه لا نبي بعد المسيح غير نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهذه البشارات قد تضمنت أنه سيأتي بعد المسيح نبي يخلص تلك الأمم مما هم فيه، ويوبخهم على الخطية، ويتكلم بما يسمع، ويخبر بكل ما يأتي، ولم يكن هذا لأحد بعد المسيح غير نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومما يدل على أن المراد بالفار قليط هو نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه وقع الحذف هذا اللفظ من بعض نسخ الإنجيل مع ثبوته في غالبها. وليس ذلك إلا تغييرا وتبديلا من النصارى، لما يعلمونه من أن المراد هذا اللفظ هو التبشير بنبي يأتي بعد المسيح:
_________
(1) انظر: تخجيل من حرف التوراة والإنجيل (2/ 702)
وقيل: إنه (الحماد) وقيل (الحامد) وقيل: (المعز)، وأكثر النصارى على أنه المخلص.
* "إن الطبعات الحديثة للأناجيل لا توجد فيه لفظة (فار قليط) وأبدلت بألفاظ أخرى مثل (المعزي، المحامي، المعين، المخلص، الوكيل، الشافع) علما بأن كلمة (الفار قليط) كانت موجودة في الترجمة العربية للأناجيل المطبوعة في لندن سنة 1821 م، 1831 م، 1844 م، وقد وقفت على مخطوطة لترجمة التوراة والزبور والإنجيل في إسطنبول بمكتبة عاطف أفندي تحت رقم (7) وفيها ذكرت لفظة (الفار قليط).
ومعلوم لدينا أن اليهود والنصارى يسعون إلى إخفاء البشارات بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتبهم المقدمة لديهم أو تحريف معناها وذلك مما أخبرنا الله عز وجل عنهم فقال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وإن فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 146].
فما معنى كلمة (فار قليط) التي اختلف النصارى في معناها؟ إن (فار قليط) معربة من كلمة (بيركليتوس) اليونانية ( perialytos) التي تعني اسم: أحمد صيغة المبالغة من الحمد" ا هـ.
حاشية. "تخجيل من حرف التوراة والإنجيل" (2/ 703).
(2) قال ابن القيم في "هداية الحيارى" ص 56: وهو بالسريانية فاروق وقالوا معنى (ليط) في السريانية أيضا.
(3) قال ابن القيم في "هداية الحيارى" ص 56: وهو بالسريانية فاروق وقالوا معنى (ليط) في السريانية أيضا.(1/519)
وأنها ستقوم عليهم بذلك الحجة فحذفوا هذا اللفظ لهذه العلة (1).
وقد حكى الله - سبحانه- في القرآن العظيم أن المسيح بشر بنبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال:} وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ {(2).
وفي الإنجيل أيضًا الذي جمعه يوحنا أن المسيح قال: "أركون العالم سيأتي، وليس لي شيء" (3). وهذا اللفظ فيه أعظم بشارة بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإن الأركون في لغة النصارى العظيم القدر، ولم يأت بعد المسيح من هو هذه الصفة إلا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه جعله أركون العالم، وقال عن نفسه: ليس له من الأمر (4) شيء، فدل هذا على أنه سيأتي بعده عظيم من عظماء العالم يكون منه الإصدار والإيراد، والحل والعقد في الدين، وإثبات الشرائع، وأن المسيح بالنسبة إليه كمن ليس له شيء.
وهذا إنما يكون تبشيرا بمن هو أعظم من المبشر به [19]، أعني المسيح -عليه السلام- ولا يصح حمله على رجل عظيم القدر في الدنيا، أو في الملك، أو غير ذلك؛ لأن الأنبياء لا يبشرون بمن هو كذلك، ويجعلونه أركون العالم، ويجعلون الأمر إليه، وينفون الأمر عن أنفسهم، فإن هذا لا يكون أبدا من الأنبياء، ولا يصح نسبته إليهم، ولا صدوره منهم قط، بلا خوف بين أهل الملل.
ولا يمكن أن يدعي مدع أنه جاء بعد المسيح من هو هذه الصفة غير نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإن الحواريين إنما دانوا بدينه، ودعوا الناس إلى شريعته، ولم يستقل أحد منهم بشيء من جهة نفسه قط. ومن جاء بعدهم من أتباع المسيح فهو دونهم بمراحل.
_________
(1) [انظر التعليقة السابقة].
(2) [الصف: 6].
(3) ورد النص في إنجيل يوحنا (14/ 30) "لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء".
(4) قال ابن قيم الجوزية في "هداية الحيارى " (ص 65): تضمنت هذه البشارة أصلي الدين: إثبات التوحيد، وإثبات النبوة. . . ".(1/520)
[4 - إشارة القرآن والسنة إلى بشارات الكتب السابقة]
وقد حكى الله - سبحانه- في القرآن الكريم ما تتضمنه الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، من التبشير بنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يغني عن جميع ما ذكرناه من نصوص تلك الكتب، وإنما أردنا بالنقل منها إلزام الحجة، وتكميل الفائدة لمن كان في قلبه ريب، وفي صدره حرج.
فمن ذلك قوله -سبحانه-:} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ {(1)، وقال -عز وجل-:} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ {(2)، وقال تعالى:} وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {(3)، وقال سبحانه:} وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {(4)، وقال سبحانه:} وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {(5)، وقال سبحانه:} قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ {(6)، وقال:} أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ {(7).
_________
(1) [الأعراف: 157].
(2) [البقرة: 146].
(3) [البقرة: 144].
(4) [البقرة: 89].
(5) [الأنعام: 114].
(6) [الرعد: 43].
(7) [الشعراء: 197].(1/521)
وقال سبحانه:} وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {(1). وقال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {(2)، وقال سبحانه:} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ {(3). وقال سبحانه:} فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ {(4). وهذا بعض ما اشتمل عليه الكتاب العزيز، وفي الأحاديث ما يؤيده ذلك ويؤكده.
فمن ذلك ما رواه ابن إسحاق (5) قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل بعثته، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود بن سلم: يا معشر اليهود [20] اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن أهل الشرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير:
_________
(1) [المائدة: 83].
(2) [الإسراء: 107 - 109].
(3) [القصص: 52 - 53].
(4) [يونس: 94].
(5) كما في السيرة النبوية (2/ 224).(1/522)
ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله -عز وجل-:} فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {(1).
وروى ابن إسحاق (2) نحو هذه القصة التي هي سبب نزول هذه الآية من طرق، ومنها: أنه قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة الأنصاري قال: حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت الأنصاري قال: "والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثماني سنين أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديا يقول على أطم (3) يثرب، فصرخ: يا معشر اليهود، فلما اجتمعوا عليه، قالوا: ما لك وتلك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث الليلة ".
ومن ذلك، ما كان من خروج زيد بن عمرو بن نفيل، وسؤاله لأهل الكتاب، وإخبارهم عن أن نبينا يبعث في العرب، فرجع، وأدرك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث، ومات قبل البعثة. وهذا الحديث في البخاري (4) وغيره.
وأخرج البيهقي (5) بإسناد صحيح من حديث أنس بن مالك أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمرض، فأتاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعوده، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة. فقال له رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا يهودي! أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في التوراة صفتي؟ ومخرجي؟ قال: لا. قال الفتى: بلى والله يا رسول
_________
(1) [البقرة: 89].
(2) كما في "السيرة" لابن هشام (1/ 168).
(3) الأطم: القصر، وكل حصن مبني بالحجارة، وكل بيت مربع مسطح. وجمعه آطام، وأطوم. "القاموس المحيط" ص 1390.
(4) في صحيحه رقم (3827).
(5) في "دلائل النبوة" (6/ 272) وأطرافه [51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541].(1/523)
الله، إنا نجد في التوراة نعتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم ".
وثبت في البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما من حديث ابن عباس، عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل ملك الروم عن صفات رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره، فقال: "إن يكن ما تقوله حقا إنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحسنت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه".
وفي البخاري (3) حكاية عن هرقل هذا: "إنه كان حزاء ينظر في النجوم، فنظر فقال: إن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: يختن اليهود، فلا يصمك شأنهم، وابعث إلى من كان في مملكتك من اليهود فيقتلونهم، ثم وجد إنسانا من العرب فقال: انظروا أمختتن هو؟ فنظروا فإذا هو مختتن، وسأله عن العرب فقال يختتنون".
وفيه (4) أيضا: وكان (برومية) صاحب لهرقل. كان هرقل نظيره في العلم، فأرسل إليه وسار إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتى كتاب من صاحبه يوافق رأيه على خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومن هذا، ما ثبت في كتب السير (5) والحديث من إسلام النجاشي وتصديقه بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[21] وهو في الحبشة لم يشاهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنما وصل إليه بعض أصحابه وسمع ما تلوه عليه من القرآن، فآمن وصدق.
_________
(1) في صحيحه رقم (7).
(2) في صحيحه رقم (1773).
(3) في صحيحه رقم (7).
(4) أي صحيح البخاري رقم (7).
(5) انظر: "السيرة النبوية" (1/ 414 - 418).(1/524)
وثبت في الصحيح (1) أن ورقة بن نوفل الذي دار في طلب الدين، وسأل طوائف أهل الكتاب، لما أخبره رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما رأى من نزول جبريل عليه في غار حراء، وما قال له، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني كنت جذعا أدرك إذ يخرجك قومك، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أومخرجي هم؟! " فقال ورقة: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
ومن هذا ما رواه ابن إسحاق (2)، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: "هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية، وأسد بن عبيد نفر من هذيل لم يكونوا من بني قريظة، ولا النضير. كانوا فوق ذلك. فقلت: لا. قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له: ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسنين، وكنا إذا قحطنا، أو قل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان، اخرج فاستق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه. ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيستقي، فوالله ما نقوم من مجلسه حتى تمر السحاب.
وقد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة، فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم. قال: فإنه إنما أخرجني أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه. هذه البلاد مهاجره فاتبعوه، ولا تُسبقن إليه إذا خرج، يا معشر يهود، فإنه يبعث
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3) ومسلم في صحيحه رقم (160) من حديث عائشة.
(2) كما في "السيرة النبوية" (3/ 272 - 273).
قلت: وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" (1/ 23 - 24) والبيهقى في "الدلائل" (2/ 80 - 81) بسند منقطع لجهالة الشيخ من بني قريظة. وهو حديث ضعيف.(1/525)
بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء، ممن يخالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات. فلما كان الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الثلاثة الفتية، وكانوا شبانا أحداثا: يا معشر يهود! والله إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان. فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى. والله إنه بصفته، ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم، فلما فتح الحصن رد ذلك عليهم.
وأخرج البخاري في تاريخه (1)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2) عن محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت أبي جبير يقول: لما بعث الله نبيه، وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: تعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم، قال: فأخذوا بيدي، فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل [22] وصور. قالوا لي: انظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته. قلت: لا أرى صورته. فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فيه صور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فنظرت، فإذا أنا بصفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصورته، وإذا أنه بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ قلت: نعم. قالوا: هو هذا [23] وأشاروا إلى صفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت: اللهم نعم أشهد أنه هو. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم. قالوا: تشهد أن هذا هو صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده.
وقريب من هذه القصة (3) ما رواه موسى بن عقبة بن هشام بن العاص، ونعيم بن عبد الله، ورجل آخر قد سماه، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر قال: فدخلنا على جبلة بن
_________
(1) (1/ 179).
(2) (1/ 384 - 385).
(3) انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (6/ 386).(1/526)
الأيهم وهو بالغوطة. . . فذكر الحديث. وأنه انطلق بهم إلى الملك، وأنهم وجدوا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار ففتح بابا، فاستخرج منه حريرة، وفيها صورة نوح، ثم إبراهيم، ثم أراهم حريرة فيها صورة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: هذا آخر الأبواب، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم.
وأمثال هذا كثيرة جدا يطول المقام ببسط بعضها، فضلا عن كلها، وفي القرآن الكريم من دلائل إثبات النبوات على العموم، وإثبات نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخصوص ما لا يخفى على من يعرف القرآن، ويفهم كلام العرب، فإنه مصرح بثبوت نبوة جميع الأنبياء من لدن آدم إلى محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفيه ذكر كل واحد منهم بصفته، وإلى من أُرسل، وفي أي زمان كان، مع تقديم المتقدم، وتأخير المتأخر، وذكر ما وقع لكل واحد منهم من إجابة قومه له، وامتناعهم عليه، وردهم لما جاء به، وما وقع بينه وبينهم من المقاولة والمحاولة والمقاتلة.
ومن نظر في التوراة وما اشتملت عليه من حكاية حال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى، وجد القرآن موافقا لما فيها غير مخالف لها.
وهكذا ما اشتملت عليه التوراة، مما اتفق لموسى وبني إسرائيل في مصر مع فرعون، وما كان من تلك الحوادث من الآيات البينات التي جاء بها، ومن تلك العقوبات التي عوقب بها فرعون وقومه، ثم ما كان من بني إسرائيل مع موسى من بعد خروجهم من مصر إلى عند موت موسى، مع طول تلك المدة، وكثرة تلك الحوادث.
فإن القرآن حكى ذلك كما هو، وذكره بصفته من غير مخالفة، ثم ما كان من الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى إلى عند قيام المسيح. فإن القرآن الكريم حكى قصصهم، وما جرى لهم، وما قالوه لقومهم، وما قاله قومهم لهم، وما وقع بينهم من الحوادث، وكان ما حكاه القرآن موافقا لما في كتب نبوة أولئك الأنبياء من غير مخالفة.
ثم هكذا ما حكاه القرآن عن نبوة المسيح، وما جرى له وأحواله، وحوادثه، فإنه موافق لما اشتمل عليه الإنجيل من غير مخالفة.(1/527)
ومعلوم لكل عاقل يعرف أحوال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان أميا لا يقرأ، ولا يكتب، وكان منذ ولد إلى أن بعثه الله -عز وجل- بين قومه، وهم قوم مشركون، لا يعرفون شيئا من أحوال الأنبياء، ولا يدرون بشيء من الشرائع، ولا يخالطون أحدا [24] من اليهود والنصارى، ولا يعرفون شيئا من شرائعهم، وإن عرفوا فردا منها، فليس ذلك إلا في مثل ما هو متقرر بينهم يعملون به في عباداتهم ومعاملاتهم باعتبار ما يشتهر عنهم في ذلك، كما يبلغ بعض أنواع العالم عن البعض الآخر. فإنه قد يبلغهم بعض ما يتمسكون به في دينهم باعتبار اشتهار ذلك عنهم.
وأما العلم بأحوال الأنبياء، وما جاءوا به، وإلى من بعثهم الله، وما قالوا لقومهم، وما أجابوهم به، وما جرى بينهم من الحوادث كلياتها وجزئياتها، وفي أي عصر كان كل واحد منهم، وإلى من بعثه الله، وكون هذا النبي كان متقدما على هذا، وهذا متأخرا عن هذا، من كثرة عددهم، وطول مددهم، واختلاف أنواع قومهم واختلاف ألسنتهم وتباين لغاتهم، فهذا أمر لا يحيط بعلمه إلا الله -عز وجل-.
ولولا اشتمال التوراة على حكاية أحوال من قبل موسى من الأنبياء لانقطع علم ذلك عن البشر، ولم يبق لأحد منهم طريق إليه ألبتة، فلما جاءنا هذا النبي العربي الأمي المبعوث من بين طائفة مشركة تعبد الأوثان، وتكفر بجميع الأديان، قد دبروا دنياهم بأمور جاهلية، "تلقاها الآخر عن الأول، وسمعها اللاحق من السابق، لا يرجع شيء منها إلى ملة، من الملل الدينية، ولا إلى كتاب من الكتب المنزلة، ولا إلى رسول الأنبياء المرسلة، بل غاية علمهم، ونهاية ما لديهم ما يجري بين أسلافهم من المقاولة والمقاتلة، وما يحفظونه من شعر شعرائهم، وخطب خطبائهم، وبلاغات بلغائهم، وجود أجوادهم وإقدام أهل الجرأة والجسارة منهم، لا يلتفتون مع ذلك إلى دين، ولا يقبلون على شيء من أعمال الآخرة، ولا يشتغلون بأمر من الأمور التي يشتغل بها أهل الملل، فإن راموا مطلبا من مطالب الدنيا، ورغبوا في أمر من أمورها، قصدوا أصنامهم، وطلبوا حصولها منها، وقربوا إليها بعض أموالهم، ليبلغوا بذلك إلى مقاصدهم ومطالبهم.(1/528)
وكان هذا النبي العربي الأمي لا يعلم إلا بما يعلمون، ولا يدري إلا بما يدرون. بل قد يعلم الواحد منهم المتمكن من قراءة المكتوب، وكتابة المقروء بغير ما يعلمه هذا النبي. فبينما هو على هذه الصفة بين هؤلاء القوم البالغين في الجهالة إلى هذا الحد جاءنا هذا الكتاب العظيم، الحاكي لما ذكرناه من تفاصيل أحوال الأنبياء وقصصهم، وما جرى لهم مع قومهم على أكمل حال، وأتم وجه. ووجدناه موافقا لما في تلك الكتب، غير مخالف لشيء منها. كان هذا من أعظم الأدلة الدالة على ثبوت نبوته على الخصوص، وثبوت نبوة من قبله من الأنبياء على العموم.
ومثل دلالة هذا الدليل لا يتيسر لجاحد، ولا لمكابر، ولا لزنديق مارق أن يقدح فيها بقادح، أو يعارضها بشبهة من الشبه كائنة ما كانت إن كان ممن يعقل ويفهم [25]، ويدري بما يوجبه العقل من قبول الأدلة الصحيحة التي لا تقابل بالرد، ولا تدفع بالمعارضة، ولا تقبل التشكيك، ولا تحتمل الشبهة.
ومع هذا فقد كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأمي المبعوث بين هؤلاء يصرح بين ظهرانيهم ببطلان ما هم عليه، ويزيف ما هم فيه أبلغ تزييف، ويقدح فيه أعظم قدح، ويبين لهم أنهم أعداء الله، وأنهم مستحقون لغضبه وسخطه وعقوبته، وأنهم ليسوا على شيء. فبهذا السبب صاروا جميعا أعداء له، يطعنون عليه بالمطاعن التي يعلمون أنه منزه عنها، مبرأ منها كقولهم: إنه كذاب، وإنه مجنون، وإنه ساحر.
فلو علموا أنه تعلم من أحد من أهل الكتاب. أو أخذ عن فرد من أفرادها، لجاءوا بهذا المطعن بادئ بدء، وجعلوه عنوانا لتلك المطاعن الكاذبة، بل لو وجدوا إلى ذلك سبيلا لعولوا عليه، ولم يحتاجوا إلى غيره. فلما لم يأتوا بذلك، ولا تكلموا به، ولا وجدوا إليه سبيلا، علم كل عاقل أنه لم يتعلم من أحد من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غير هاتين الطائفتين.
إذا لم يطعن عليه بذلك هؤلاء الذين هم قومه وقد ولد بينهم، وعاش في ديارهم، يخالطهم، ويخالطونه، ويواصلهم ويواصلونه، ويعرفون جميع أحواله، ولا سيما من كان(1/529)
من قرابته منهم الذين صاروا له بعد البعثة أشد الأعداء، وأعظم الخصوم، كأبي لهب، وأمثاله، فإنه لا شك، ولا ريب أنه لا يخفى عليهم، ما هو دون هذا من أحواله.
وأيضا لو كان قد تعلم من أحد من أهل الكتاب، لم يخف ذلك على أهل الكتاب الذين صرح لهم بأنهم إن لم يؤمنوا به فهم من أعداء الله، ومن المستحقين لسخطه، وعقوبته، وأنهم على ضلالة، وأنهم قد غيروا كتابهم، وحرفوه، وبدلوه، وأنهم أحقاء بلعنة الله وغضبه.
فلو كان له معلم منهم، أو من أمثالهم من أهل الكتاب، لجعلوا هذا المطعن عليه مقدما على كل مطعن يطعنونه به من تلك المطاعن الكاذبة، بل كان هذا المطعن مستغنيا عن كل ما طعنوا به عليه؛ لأن مسافته قريبة، وتأثره ظاهر، وقبول عقول العامة له من أهل الكتاب، ومن المشركين أيسر من قبولها لتلك المطاعن الكاذبة التي جاءوا بها. هذا معلوم لكل عاقل، لا يشك فيه شاك، ولا يتلعثم عنده متلعثم، ولا يكابره فيه مكابر. فلما لم يطعن عليه أحد منهم بشيء من ذلك علمنا علما يقينا انتفاء ذلك، وأنه لم يتعلم من أحد منهم.
وإذا تقرر هذا البرهان الذي هو أوضح من شمس النهار أنه لم يكن له معلم من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غيرهم، ممن له علم بأحوال الأنبياء، فلم يبق إلا أن يكون اطلع بنفسه منفردا عن الناس على مثل التوراة والزبور والإنجيل. ونحو ذلك من كتب الأنبياء.
وقد علمنا علما يقينا بأنه كان أميا [26] لا يقرأ المكتوب، ولا يكتب المقروء. ثبت هذا بالنقل المتواتر عن أصحابه، مع عدم مخالفة المخالفين له في ذلك، فإنه لم يسمع عن واحد منهم أنه نسب إليه أنه يقدر على قراءة المكتوب، أو كتابة المقروء، وحينئذ انتفت هذه الطريقة أعني كونه اطلع على الكتب المتقدمة بنفسه منفردا عن الناس، وإنما قلنا منفردا عن الناس لأنا لو فرضنا قدرته على ذلك في محضر أحد من الناس لم يخف ذلك على أتباعه، ولا على أعدائه.(1/530)
فإذا انتفت قدرته على قراءة المكتوب من حيث كونه أميا، وانتفى اطلاع أحد من الناس على شيء من ذلك علمنا أنه لم يأخذ شيئا من ذلك لا بطريق التعليم، ولا بطريق المباشرة منه لتلك الكتب، ولم يسمع عن أحد، لا من أتباعه، ولا من أعدائه، أنه كان بمكة من يعرف أحوال الأنبياء وقصصهم، وما جاءوا به من الشرائع، ولا كان بمكة من كتب الله -سبحانه- المنزلة على رسله شيء، ولا كانت قريش ممن يرغب إلى ذلك أو يطلبه، أو يحرص على معرفته، ومع هذا فقد كان أعداؤه من كفار قريش يعترفون بصدقه، ويقرون بأنهم لم يجربوا عليه كذبا، وفي حديث ابن عباس في الصحيحين (1) وغيرهما في قصة سؤال هرقل لأبي سفيان أنه قال له: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود أن سعد بن معاذ لما قال لأمية بن خلف أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر أنه سيقتل فقال ذلك لامرأته. فقالت والله ما يكذب محمد، وفي رواية أخرى أن أمية قال أيضا: والله ما يكذب محمد، وعزم على ألا يخرج خوفا من هذا.
وأخرج البخاري في صحيحه (3) من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لقريش: "لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا.
وأخرج البخاري في تاريخه (4)، وأبو زرعة في دلائله، وابن إسحاق (5) أن أبا طالب لما
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7) ومسلم في صحيحه رقم (1773) وقد تقدم.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3632).
(3) رقم (4770) وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (208).
(4) (4/ 1\ 50 - 51 رقم 230) من حديث عقيل بن أبي طالب.
(5) أورده الهيثمى في "مجمع الزوائد" (6/ 15): وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" إلا أنه قال من جلس بدل مكان (كبس) وأبو يعلى باختصار في أوله. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. ا هـ.(1/531)
قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن قريش، فقال: والله ما أقدر على أن أدع ما بعثت به، فقال أبو طالب لقريش: " والله ما كذب قط فارجعوا راشدين ".
وأخرج ابن مردويه في كتاب التفسير، وأبو يعلى الموصلي في مسنده، وعبد ابن حميد، أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: " وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ".
[5 - إخباره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمغيبات من دلائل النبوة]
ومن أعظم دلائل نبوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي يجد الجاحدون إلى جحدها سبيلا، ولا يمكن إسنادها إلى تعليم بشر، ولا نسبتها إلى سحر أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل عن أمور ماضية يتعنته بها أهل الكتاب والمشركون ن فينزل جبريل في تلك الحالة فيخبره بها في الموضع الذي سألوه فيه، من غير أن يفارقه أو يذهب إلى أحد من الناس يستعلم.
وذلك كسؤالهم له عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، ونحو ذلك من الأمور التي غالبها غير مذكور في التوراة ونحوها، بل قد يخبرهم ابتداء بشيء من أحوال الأنبياء، لم يكن في التوراة التي هي مرجع أهل الملل في تعرف أحوال الأنبياء من لدن آدم إلى موسى. وذلك كقصة هود، وصالح، وشعيب، وكثير من أحوال إبراهيم، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، ومثل قصة الخضر مع موسر، ومثل أحوال سليمان كقصة البساط، وقصة العفريت، وقصة الهدهد، ف'ن هذه لم تكن في التوراة، ولم يسمع عن أحد من أهل الكتاب أنه رد ذلك، أو كذبه، بل انبهروا، وأعجبوا منه.
وفي صحيح البخاري (1) من حديث أنس قال: جاء عبد الله بن سلام [27] إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بعد] مقدمه المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ والولد ينزع إلى أمه أو إلى أبيه؟
قال: أخبرني جبريل آنفا، قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
_________
(1) في صحيحه رقم (3911).(1/532)
أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت.
وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه. فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
وفي صحيح مسلم (1) من حديث ثوبان قال: كنت قائما عند رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجاء حبر من أحبار اليهود، وقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله، قال إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ينفعك شيء إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني فنكث بعود معه، فقال له: سل.
فقال اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: في الظلمة دون الحشر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: "فقراء المهاجرين". فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون؟ قال: زيادة كبد نون. قال: وما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا. قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل أو رجلان. قال ينفعك إن حدثتك؟ قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا. فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله.
فقال اليهودي: صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف. فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه، حتى أتاني به الله تعالى.
_________
(1) (1/ 252 رقم 315).(1/533)
وأخرج أبو داود الطيالسي (1) عن ابن عباس، قال: حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن خلال نسألك عنها، لا يعلمها إلا نبي، فقال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا، لتتابعوني على الإسلام. قالوا: لك ذلك. قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال:
أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة.
وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا، وكيف تكون الأنثى منه حتى تكون أنثى.
وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم؟ ومن وليك من الملائكة؟ فقال: عليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا أحدثكم لتتابعوني؟ فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل -يعقوب- مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه، فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرم من أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه؟، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل. فقالوا: اللهم نعم.
فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللهم اشهد عليهم. قال: فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ وأبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الولد والشبه له بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قال: أنشدكم بالله [28]، الذي لا إله إلا هو، وأنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه، ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد. قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك.
_________
(1) في مسنده (356 - 357 رقم 2731).(1/534)
قال: وليي جبريل -عليه السلام-، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة، فأنزل الله:} قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ {(1). ففي هذه الأحاديث اعتراف هؤلاء السائلين من اليهود أن تلك المسائل التي سألوه عنها لا يعلمها إلا نبي، وقد أخبرهم بما سألوه وصدقوا في جميع ذلك، فاندفع بذلك شك كل جاحد، وبطل عنده ريب كل ملحد.
6 - القرآن معجزة الرسول الخالدة:
واعلم أن دلائل نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطول تعدادها، ويتعسر ذكرها. وقد صنف أهل العلم في ذلك مصنفات مبسوطة مشتملة على كثير منها. ولو لم يكن منها، إلا هذا الكتاب العزيز الذي جاء به من عند الله - سبحانه- مشتملا على مصالح المعاش والمعاد، وتحدى به فرسان الكلام، وأبطال البلاغة، وأفراد الدهر في العلم هذه اللغة العربية، وقال لهم: ليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ثم قال لهم:} فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {(2) ثم قال لهم:} فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ {(3). فلم يقدروا على ذلك، وكاعوا عنه، وعجزوا على رؤوس الأشهاد، وكان أكابر بلغائهم، وأعاظم فصحائهم، إذا سمعوا القرآن، اعترفوا بأنه لا يشبه نظمهم، ولا نثرهم، وأقروا
_________
(1) [97 - 98].
(2) [هود: 13].
(3) [البقرة: 23].(1/535)
ببلاغته كما قال الوليد بن المغيرة لما سمع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {. (1) فقال: أعد، فأعاد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر" (2). وروى ابن إسحاق (3) من حديث ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله. لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر!! لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وسمعنا سمعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها بهزجه ورجزه وقريضه.
وقلتم مجنون. لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون. فما هو بخنقه، ولا تخليطه.
يا معشر قريش. انظروا في شأنكم؛ فإنه- والله- قد نزل بكم أمر عظيم (4).
وروي عن الوليد بن المغيرة (5) نحو هذا، وروى ابن إسحاق أيضًا أن أبا جهل (6) قال: إني لأعلم أن ما يقول محمد حق. ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، فينا الحجابة فقلنا: نعم. فينا السقاية: فقلنا نعم. وفي لفظ: "تنازعنا نحن وبنو عبد
_________
(1) [النحل: 90]
(2) أخرجه ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" (1/ 334 - 336) معلقا، وانظر "الدر المنثور" (7/ 329 - 331).
(3) كما في "السيرة النبوية" (1/ 369 - 370) معلقا.
(4) كما في "السيرة النبوية" (1/ 362 - 364).
(5) كما في "السيرة النبوية" (1/ 369 - 370) معلقا.
(6) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (2/ 207).(1/536)
مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، ثم إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به، ولا نصدقه أبدا.
دع عنك ما حصل للإنس من استعظام أمر القرآن، والتعجب منه وتصديقه!! هؤلاء الجن قد وقع منهم ذلك كما حكاه الله -سبحانه- عنهم في كتابه [29].
وفي الصحيحين (1) من حديث ابن عباس قال: انطلق رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقيل: حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبن خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من نبأ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، فوجدوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا:} إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا {(2). فأنزل الله -عز وجل- على نبيه محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:} قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ {(3). والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
واعلم أنه قد صنف جماعة من الحفاظ في دلائل النبوة مصنفات اشتملت على أنواع مما فيه الدلالة على نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعضه يحصل عنده العلم الضروري، فضلا عن كلها. فمن المصنفين في ذلك، الإمام أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، والإمام أبو إسحاق الحربي، والإمام أبو جعفر الفريابي، والإمام أبو زرعة الرازي، والإمام أبو
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4921) ومسلم في صحيحه رقم (149/ 449).
(2) [الجن: 1، 2].
(3) [الجن: 1].(1/537)
القاسم الطبراني، والإمام أبو الشيخ الأصبهاني، والإمام أبو نعيم الأصبهاني، والإمام أبو بكر البيهقي والإمام أبو الفرج ابن الجوزي، والإمام أبو عبد الله المقدسي وغير هؤلاء.
[7 - عود إلى الإخبار بالغيبيات كدلائل على نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
ولو لم يكن من دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا ما وقع من الإخبار بالأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر به، ولم يتخلف شيء منها، وهي كثيرة جدا وقد اشتمل القرآن الكريم على شيء من ذلك كقوله - عز وجل-:} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {(1). فوقع صدق هذا الخبر، وأظهر الله- سبحانه- دين الإسلام على جميع الأديان.
وكذا قوله:} غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ {(2). فوقع ما أخبر به القرآن بعد المدة التي ذكرها، وذلك معلوم لا يختلف فيه الناس.
وكذا قوله -سبحانه- في شأن اليهود:} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {(3) وقد كان هذا كما أخبر به القرآن، فإنهم ما زالوا تحت الذلة والمسكنة في جميع أقطار الأرض، لم يجتمع لهم جيش، ولا انتصروا في موطن من المواطن، ولا ثبتت لهم دولة قط، بل كل طائفة منهم في جميع بقاع الدنيا مضطهدون
_________
(1) [الفتح: 28].
(2) [الروم: 1 - 4].
(3) [آل عمران: 112].(1/538)
متمسكنون، يسلمون الجزية إلى غيرهم، ويذلون لمن جاورهم. وكذلك قوله -سبحانه-} قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ {(1).
وقوله:} وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ {. (2) وقد كان هذا، فإنه لم يعارض القرآن معارض، ولا جاء بمثله ولا بمثل بعضه أحد، لا من مسلم، ولا كافر، ولا من إنس، ولا جن [30]، وقد نفى -سبحانه- أن يفعلوا ذلك كما قال:} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ {(3). فأخبر سبحانه، أنهم لن يفعلوا، ولم يقع ما يخالف هذا النفي المؤكد ألبتة. وقال -سبحانه-:} قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {(4). وقال مخاطبا لليهود:} قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {(5) وقد كان هذا، فإنه لم يسمع أن يهوديا تمنى الموت إلى هذه الغاية، فإن اليهود الموجودين على ظهر البسيطة إذا قال لهم قائل: تمنوا الموت لم يتمنوه أبدا، ولا يساعد على ذلك واحد منهم قط.
وقال سبحانه:} لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا {(6).
_________
(1) [الإسراء: 98].
(2) [البقرة: 23].
(3) [البقرة: 24].
(4) [الجمعة: 6].
(5) [البقرة: 94 - 95].
(6) [الفتح: 27].(1/539)
ووقع هذا كما أخبر به -سبحانه- فدخلوا المسجد آمنين محلقين ومقصرين، كما وعدهم. وهكذا قوله:} إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا {(1) وقد دخل الناس في دين الله أفواجا. وما قبض -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا بعد أن دخل جميع العرب في دين الله، ولم يبق أحد منهم على الكفر. ومن ذلك ما وقع من إخباره- سبحانه- عن أمور مستقبلة، وكانت كما أخبر به، وذلك كثير جدا، كإخباره عن بعض الكفار بأنه لا يؤمن، وأنه من أهل النار كأبي لهب، فإنه قال فيه:} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {(2) فمات على الكفر. وقال في الوليد:} سَأُصْلِيهِ سَقَرَ {(3)، فمات على الكفر.
وقد ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث حذيفة. أنه قال: قام فينا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. وناهيك هذا، فإن الأخبار بجميع الحوادث المستقبلة إلى قيام الساعة أمر عظيم. وقد كان حذيفة راوي هذا الحديث مرجعا للصحابة في معرفة أحوال الفتن، ومعرفة أهل
_________
(1) [النصر: 1 - 3]
(2) [المسد: 3]
(3) [المدثر: 26]
(4): أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6604) ومسلم في صحيحه رقم (2891).
(5) كأبي داود في السنن رقم (4240).(1/540)
النفاق، وتمييز أهل الحق من أهل الباطل، لما حفظ في هذا المقام الذي قامه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ومن ذلك سؤال عمر بن الخطاب -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له عن الفتن فقال: إن بينك وبينها بابا، فقال هل يفتح، أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعرف عمر أنه الباب، وأنه يقتل. كما أخبر حذيفة من سأله عن ذلك هل علم عمر ذلك؟ فقال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، فإني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، وهذا ثابت في الصحيح (1).
ومن ذلك ما ثبت في البخاري (2) أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعدي بن حاتم: "لئن طالت لك حياة لتفتحن كنوز كسرى، فقال عدي: كسرى بن هرمز؟! فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كسرى بن هرمز".
وقد كان هذا كما أخبر به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففتح المسلمون مملكة كسرى بن هرمز، وأخذوا كنوزه، واستولوا على بلاده، وضربوا على رعيته الخراج والجزية. قال عدي: وكنت فيمن أتته كنوز كسرى ابن هرمز وقال له أيضًا كما في البخاري: "ولئن طالت" لك حياة لترين الظعينة، ترحل من الحيرة حتى تطوف الكعبة لا تخاف أحدا [31] إلا الله قال: قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين ذعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟ ثم قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله".
وفي صحيح مسلم (3) من حديث نافع بن عتبة قال: حفظت من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربع كلمات، أعدهن في يدي: "تغزون جزيرة العرب، يفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله".
وقد وقعت الثلاث الكلمات الأول. وستقع الرابعة إن شاء الله.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (525) ومسلم في صحيحه رقم (144).
(2) في صحيحه رقم (3595).
(3) في صحيحه رقم (38/ 2900).(1/541)
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى"، قلت: وقد خرجت هذه النار في الحجاز في بضع وخمسين وستمائة. وأضاءت لها أعناق الإبل ببصرى.
وفي صحيح البخاري (2) من حديث أبي بكرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال في الحسن بن علي- رضي الله عنه -: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح به الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، قلت: وقد كان هذا، فإن الحسن أصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وهما جيش العراق الذين كانوا معه، وجيش الشام الذين كانوا مع معاوية. وفي الصحيحين (3) وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأسماء أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في عمار بن ياسر: "تقتله الفئة الباغية"، قلت: وقد قتلته الفئة الباغية أهل الشام.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن امرأة سألت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: إن جئت فلم أجدك يا رسول الله، قال جبير بن مطعم: كأنها تعني الموت، قال: إن لم تجديني، فأتي أبا بكر. قلت: وقد كان ذلك، فإنه ولي أمر المسلمين أبا بكر -رضي الله عنه- بعد موته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وفي الصحيحين (5) وغيرهما أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". قلت: وقد كان ذلك ولله الحمد.
وفي صحيح (6) مسلم، عن أبي ذر، عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: " ستفتح مصر،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7118) ومسلم في صحيحه رقم (2902).
(2) في صحيحه رقم (2704) وأطرافه [3629، 3746، 7109].
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (447) ومسلم في صحيحه رقم (2916).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3659) ومسلم في صحيحه رقم (2386).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (19/ 2889) من حديث ثوبان.
(6) (4/ 197 رقم 226/ 2543).(1/542)
وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا". قلت: وقد فتحت ولله الحمد في أيام الصحابة.
وفي صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين، فيحملون بعضهم على رقاب بعض". قلت: وقد كان هذا، فإنهم فتحوا فارس والروم، ثم وقع منهم ما ذكره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر أيام عثمان -رضي الله عنه- ثم عند قتله، ثم فيما بعد ذلك كما هو معلوم لكل عارف. وفي صحيح البخاري (2) من حديث سليمان بن صرد قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول حين أجلى الأحزاب عنه "الآن نغزوهم، ولا يغزونا". قلت: وقد كان ذلك، فإن كفار قريش لم يغزوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدها، ثم غزاهم غزوة الفتح.
وثبت في الصحيحين (3) وغيرهما من طرق أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لذي الخويصرة: "إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام. . يحقر أحدكم صلاته مع صلاته "، الحديث، على اختلاف ألفاظه.
وقد خرج بعد ذلك الخوارج في خلافه علي -رضي الله عنه- ثم ما زالت تخرج منهم على المسلمين طائفة بعد طائفة، ومنهم شرذمة باقية إلى الآن، يقال لهم الإباضية بأطراف الهند، لا يزالون يخرجون على المسلمين في برهم وبحرهم.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سارر فاطمة ابنته - رضي الله عنها-
_________
(1) (4/ 2274 - 2275 رقم 7/ 2962).
(2) رقم (4110).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4351) ومسلم في صحيحه رقم (1064) وقد تقدم.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3623، 3625) ومسلم في صحيحه رقم (2450).(1/543)
[32] في مرض موته أنه سيموت في ذلك المرض، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقا به.
قلت: وقد مات -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك المرض، وماتت فاطمة - رضي الله عنها- بعده بستة أشهر.
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أنس: "أن أم حرام بنت ملحان طلبت من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعو لها أن تكون ممن يركب البحر فدعا لها ". قلت: وقد ركبت البحر في زمن معاوية، فلما خرجت منه صرعت عن دابتها فماتت.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث أبي هريرة: أنه قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما: "أيكم بسط ثوبه، فيأخذ من حديثي فيجمعه إلى صدره، فإنه لن ينسى شيئا سمعه؟ فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا سمعته منه " قلت: وقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- أحفظ الصحابة لما يرويه، وأتقنهم لما سمعه.
وفي صحيح مسلم (3) عن أسماء بنت أي بكر - رضي الله عنها- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" قلت: وقد كان ذلك، فالكذاب المختار بن أبي عبيد الثقفي، والمبير الحجاج بن يوسف.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه" قلت: وقد فتح الله خيبر على يدي من أعطاه تلك الراية وهو علي - رضي الله عنه-.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2789) ومسلم في صحيحه رقم (1912).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (119) ومسلم في صحيحه رقم (2492).
(3) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2545) ولفظه "أن في ثقيف كذابا ومبيرا".
* المبر: المهلك، الذي يسرف في إهلاك الناس.
لسان العرب (4/ 86).
(4) أخرجه البخاري رقم (3701) ومسلم في صحيحه (2406).(1/544)
وفي الصحيحين (1) من حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حنينا فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار" فلما حضر القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار، قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينا هم على ذلك. إذ قيل فإنه لم يمت، ولكن به جرح شديد، فلما كان الليل لم يصبر على الجرح، فقتل نفسه، فأخبر بذلك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ". ولهذا الحديث (2) ألفاظ هذا حاصلها.
وفي رواية "أن بعض الصحابة ما زال يرصده بعد أن سمع من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من أهل النار حتى قتل نفسه ".
وثبت في الصحيحين (3) وغيرهما من حديث علي: "أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره وأمر الزبير بن العوام، وأبا مرثد الغنوي، أن ينطلقوا حتى يأتوا (روضة خاخ) فإن بها امرأة معها كتاب إلى مشركي قريش، فوجدوها ووجدوا ذلك الكتاب، من حاطب بن أبي بلتعة " قلت: والقصة مشهورة، وفيها اعتذار حاطب، ونزول قوله -سبحانه-:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ {(4) الآية.
وفي الصحيحين (5) وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى وكبر عليه أربع تكبيرات. قلت: وكان الأمر كذلك، فإنه جاء الخبر بموت النجاشي في ذلك اليوم الذي أخبرهم فيه
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (3062) ومسلم في (111).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2402) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3007 و3983) ومسلم في صحيحه رقم (2494).
(4) [الممتحنة: 1]
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1245) ومسلم في صحيحه رقم (951).(1/545)
رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وفي الصحيحين (1) من حديث حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة تبوك فقال: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير، فليشد عقله فهب ريح شديد، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء".
وفي صحيح البخاري (2) أنه أرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجيش في غزوة مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال: "إن قتل فجعفر، وإن قتل فعبد الله بن رواحة، فقتلوا". وأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في اليوم الذي قتلوا فيه [33].
وفي صحيح البخاري (3) أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أخبر بقتل القراء في بئر معونة، لما أخبره جبريل أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم" قلت: وقد كان ذلك قرآنا يتلى، حتى نسخ لفظه.
فهذه شعبة يسيرة، من إخباره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر به، وقد اقتصرنا من ذلك على ما في الصحيحين، وفيهما غير ذلك مما يطول بسطه، ويتسع استيفاؤه. وأما ما كان في غير الصحيحين من كتب الحديث والسير، فلا يتسع لذلك إلا مؤلف بسيط.
[من الآيات والدلائل على نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:]
ومن دلائل نبوته وبراهين رسالته، ما وقع له من الآيات البينات، والبراهين المعجزات، فمن ذلك: انشقاق القمر، وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، قال الله - عز وجل-:} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ {(4).
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (1481) ومسلم في صحيحه رقم (1392).
(2) في صحيحه رقم (4261)
(3) في صحيحه رقم (4093)
(4) [القمر: 1 - 2](1/546)
وفي الصحيحين (1) عن أنس " أن أهل مكة سألوا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين". ومثله في الصحيحين (2) أيضًا عن ابن مسعود. وفي الصحيحين (3) أيضًا أن ابن مسعود قال "رأيت القمر منشقا شقين بمكة. قيل فخرج النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شقة على جبل أبي قبيس، وشقة على السويداء (4)، فقال كفار قريش [يا] أهل مكة، هذا سحركم ابن أبي كبشة (5) 0 انظروا السفار، فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، وإن لم يكونوا رأوا مثل ما رأيتم فهو سحر، قال فسئل السفار وقدموا من كل وجه، فقالوا رأينا".
وفي صحيح البخاري (6) عن ابن عباس أنه قال: " انشق القمر على زمان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي صحيح مسلم (7) عن ابن عمر في قوله تعالى:} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ {قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انشق القمر فلقتين، فلقة
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2802) لم يخرجه البخاري هذا اللفظ
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3868) بنحوه ومسلم رقم (2802)
(3) لم أجده هذا اللفظ قي الصحيحين.
بل أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 265، 266 - 267) وأبو داود الطيالسي في مسنده (ص 38 رقم 295) وابن جرير في جامع البيان (13\ج27/ 85).
(4) السويداء: موضع بالحجاز لسان العرب (3/ 231).
وقال ابن حجر في الفتح (7/ 184) السويداء: ناحية خارج مكة عندها جبل
(5) يقصد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض ... انظر الفتح (1/ 40)
(6) رقم (4866)
(7) رقم (2801)(1/547)
من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " اللهم اشهد ". قلت: وقد روي في غير (1) الصحيحين من غير طريق هؤلاء المذكورين.
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صعوده (2) ليلة المعراج إلى ما فوق السماوات، وقد نطق بهذا الكتاب العزيز، وتواترت به الأحاديث تواترا لا يشك من له أدنى إلمام بعلم السنة، ولا ينكر ذلك إلا متزندق، وليس بيده إلا مجرد الاستبعاد، وليس ذلك مما تدفع به الأدلة، ويبطل به الضروريات وإلا لكان مجرد إنكار وقوع الشيء المبرهن على وقوعه كافيا في دفعه، وذلك خلاف العقل والنقل. وقد رفع الله- سبحانه- إلى السماء إدريس- عليه السلام-. وثبت في السفر الثاني من أسفار الملوك في التوراة، أن إيليا رفع إلى السماء، وبعض تلامذته ينظر إليه. وشاع ذلك، ولم يخالف فيه أحد من اليهود، وهذا إيليا هو المسمى في القرآن إلياس. وهكذا ثبت في الأناجيل كلها أن الله - سبحانه- رفع عيسى- عليه السلام- بعد الصلب في زعمهم كما هو محرر هنالك، ولا يخالف في ذلك أحد من النصارى. وقد نطق القرآن (3) الكريم بأنه رفعه إليه، ولم يصلب. وإلى ذلك ذهب بعض طوائف النصارى.
والحاصل أن رفعه إلى السماء متفق عليه بين جميع المسلمين، وجميع النصارى، ولم يقع الخلاف بينهم إلا في كونه رفع قبل الصلب، أو بعده.
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما في الصحيحين (4) وغيرهما: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة- والنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم يخطب- فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال،
_________
(1) أخرجه الترمذي في السنن رقم (3289) من حديث جبير بن مطعم.
(2) انظر صحيح البخاري رقم (4716) وانظر: تفسير ابن كثير (7/ 429).
(3) قال تعالى: (إِنِّي مُتَوَفيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران: 55].
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (933) ومسلم في صحيحه رقم (8/ 897) من حديث أنسى بن مالك - رضي الله عنه -.(1/548)
وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، [34] فرفع رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، وإن السماء لمثل الزجاجة، فوالذي نفسي بيده ما وضع يديه، حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة -ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب- فقال يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده ثم قال: "اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر". فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة، وسال (وادي قناة) شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود.
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تبت في البخاري (1) وغيره في قصة أبي رافع اليهودي، وأن عبد الله بن عتيك لما فرغ من قتله، انكسرت ساقه، فوصل إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ابسط رجلك فمسحها. قال: وكأنما لم أشكها قط، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير.
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في البخاري (2) وغيره (3): " أنها أصابت سلمة بن الأكوع يوم خيبر ضربة في ساقه، فنفث فيها رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاث نفثات قال: فما اشتكيت منها حتى الساعة".
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث جابر قال:
_________
(1) في صحيحه رقم (4039)
(2) في صحيحه رقم (4206)
(3) كأبي داود رقم (3894). كلاهما حديث يزبد ابن أبي عبيد
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3585)، ولم يخرجه مسلم
(5) كالنسائي في السنن (3/ 102)(1/549)
"كان رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خطب يقوم إلى جذع من جذوع النخل، فلما صنع المنبر وقام عليه، سمعوا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوضع يده عليها، فسكنت". ولهذا الحديث طرق، وألفاظ ثابتة في الصحيحين وغيرهما.
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكليم الشجر له.
ومن ذلك ما في الصحيحين (1) وغيرهما عن معن بن عبد الرحمن قال: " سمعت أبي يقول: سألت مسروقا: من آذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك، يعني عبد الله بن مسعود أنه قال: آذنته (2) بهم شجرة".
ومن دلائل نبوته- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في الصحيحين (3) وغيرهما عن أنس "أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا بماء، فأتى بقدح رحراح (4)، فجعل القوم يتوضئون".
وفي لفظ (5): "فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح فيه ماء يسير"، وفي لفظ (6) لهما: "فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، وفي لفظ لهما: "فتوضأ الناس وشربوا"، وفي لفظ البخاري (7): " فشربنا، وتوضأنا، قلت كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة ". وفي لفظ للبخاري (8) أيضا: " كنا ألفا وأربعمائة أو أكثر من ذلك" وكذا لفظ مسلم (9)، وللحديث طرق وألفاظ في
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3859) ومسلم في صحيحه رقم (450)
(2) آذنته: آذن بالمد: أعلم. مختار الصحاح ص 12
(3) أخرجه البخاري رقم (200) ومسلم رقم (2279).
* رحراح: الواسع القصير الجدار
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3574).
(5) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3574)
(6) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3573) ومسلم في صحيحه رقم (2279)
(7) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4152)
(8) في صحيحه رقم (5639)
(9) في صحيحه رقم (1856)(1/550)
الصحيحين وغيرهما حاصلها أنهم شربوا وتوضئوا، وهم هذا العدد.
ومن ذلك ما في الصحيحين (1) وغيرهما من حديث المرأة التي وجدوها ومعها مزادتان من ماء، فانطلقوا بها إلى رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فشربوا منها وهم أربعون، قد أصابهم الجهد من العطش، وملأ كل واحد منهم قربته، ولم يظهر في المزادتين نقص، فلما رجعت المرأة إلى قومها، قالت: لقد لقيت أسحر الناس. أو أنه بي كما زعم، كان من أمره (ذيت (2)، وذيت) فهدى الله- عز وجل- ذلك القوم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا.
ومن دلائل نبوته-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في الصحيحين (3) وغيرهما من حديث جابر: "أن شاته التي ذبحها لرسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع صاع من شعير أكل منها من كان يحفر الخندق مع رسول اله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم ألف، وذلك لأن رسول الله بصق في البرمة، وبصق في العجين، وبارك في ذلك. قال جابر: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه، وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو".
ومن هذا في الصحيحين (4) وغيرهما من حديث أنس [35] في قصة أبي طلحة وامرأته أم سليم أنها أخرجت أقراصا من شعير، وعصرت عليه عكة لها، فقال فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل القوم كلهم، وهم سبعون رجلا، أو ثمانون رجلا، ثم أكل رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو طلحة وأم سليم وأنس قال: وفضل فضلة فأهديناها لجيراننا".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3571) ومسلم في صحيحه رقم (688) واللفظ لمسلم
(2) ذيت وذيت. بمعنى: كيت وكيت وكذا وكذا
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4102) ومسلم رقم (39 30) لتغط: تغطي وتفور. انظر الفتح (7/ 299)
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5381) ومسلم في صحيحه رقم (2040)(1/551)
ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة (1)، وأبي سعيد، وسلمة بن الأكوع قالوا: "كنا في مسير لنا مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنفدت أزواد القوم، حتى هموا بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها! قال: ففعل، فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، وذو النوى بنواه، فدعا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في المعسكر وعاء إلا ملئوه، فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال عند ذلك رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة".
وفي صحيح مسلم (2) من حديث سلمة في غزوة خيبر قال: "أمرنا أن نجمع ما في أزوادنا (يعني من التمر) فبسط نطعا فنثرنا عليه أزوادنا، قال: فتطاولت، فنظرت فحرزته كربضة شاة، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا، ثم تطاولت فحرزته كربضة الشاة".
وفي البخاري (3)، قال: " فتطاولت لأحزره كم هو، فحرزته كربضة المعز، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا حتى شبعنا جميعا، ثم حشونا جريبنا".
ومن ذلك ما في صحيح مسلم (4) من حديت جابر، قال: "جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه، وامرأته وضيفهما، حتى كاله، فأتى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2484) ومسلم في صحيحه رقم (27) من حديث أبي هريرة.
(2) رقم (1729)
(3) في صحيحه رقم (2484) بنحوه مختصرا
(4) في صحيحه رقم (2281)(1/552)
وفي صحيح مسلم (1) أيضًا من حديث جابر "أن أم مالك كانت تهدي للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في (عكة) لها سمنا، فيأتي بنوها، فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتجد فيها سمنا، فما زال يقيم لها أدم بنيها حتى عصرته، فأتت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: عصرتيها؟ قالت: نعم. قال: لو تركتيها ما زال قائما ".
ومن ذلك ما في الصحيحين (2) وغيرهما من حديث أنس قال: "تزوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب، فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور من حجارة، فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب فادع فلانا، وفلانا، وفلانا، ومن لقيت، وسمى رجالا، قال: فدعوت من سمى، ومن لقيت، قال الجعد، وهو الراوي عن أنس عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال: فقال لي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا أنس، هات (التور) قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم، يا أنس: ارفع فرفعت. فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت" الحديث.
ومن ذلك ما في البخاري (3) من حديث أبي هريرة "أنه أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدح لبن، فدعا أصحاب الصفة، فشرب كل واحد منهم منه حتى روي، ثم شرب أبو هريرة حتى روي، ثم شرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
_________
(1) في صحيحه رقم (2280)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5163) ومسلم في صحيحه رقم (1428).
(3) في صحيحه رقم (6452).
وأخرجه الترمذي في السنن رقم (2477) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(1/553)
ومن ذلك ما في الصحيحين (1) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال: "كنا مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثين ومائة، فأشترى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاة وذبحها لهم، وأمر بسوار البطن أن يشوي. قال: وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا من قد حز له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حزة من سوار بطنها، إن كان شاهدا أعطاه، وإن كان غائبا خبأ له، فجعل منها قصعة، وأكلوا [36] أجمعون، فشبعنا "وذكر أنهم حملوا الفضلة على البعير.
ومن دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في صحيح البخاري (2) من حديث جابر، أن والده استشهد وترك دينا، وترك ست بنات، فلما حضر جداد النخل، قال أتيت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: قد علمت أن والدي قد استشهد يوم أحد، وترك دينا كثيرا، وإني أحب أن يراك الغرماء، قال: اذهب فبيدر كل ثمر عدى ناحية، ففعلت، ثم دعوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما نظروا إليه، كأنهم أغروا بي تلك الساعة. فلما رأى ما يصنعون، أطاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: ادع لي أصحابك، فما زال يكيل لهم حتى أدى إليهم عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي إليهم عن والدي أمانته، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها حتى إني لأنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كأنها لم تنقص تمرة واحدة.
وفي رواية (3) أن جابر قد كان عرض على أهل الدين أن يأخذوا التمر كله فأبوا.
ومن دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما في الصحيحين (4) وغيرهما عن جابر بن سمرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لا
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2618) ومسلم في صحيحه رقم (2056).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2396).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2395).
(4) لم يخرجه البخاري وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2277)، وأخرجه الترمذي رقم (3624). وقال: هذا حديث حسن غريب. قلت: وهو حديث صحيح.(1/554)
أعرفه الآن".
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أنس قال: صعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدا ومعه أبو بكر وعمر عثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: "اسكن وضربه برجله، فليس عليك إلا نبى، وصديق، وشهيدان ".
وفي صحيح مسلم (2) من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة حنين قبض قبضة من الأرض، واستقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله.
وفي صحيح مسلم (3) أيضًا من حديث العباس بن عبد المطلب أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذ حصيات فرمى بها وجوه الكفار، ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة".
ومن دلائل نبوته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما نطق به القرآن الكريم من تأييد الله -سبحانه- له بالملائكة، كقوله:} أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ {(4)، وقوله:} أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ {(5)، وقوله:} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا {(6)، وقوله} وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا (7). ونحو ذلك من الآيات. وقد شوهدت الملائكة
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3675) ورقم (3686 و3697).
(2) رقم (1777).
(3) رقم (1775).
(4) [الأنفال: 9]
(5) [آل عمران: 124 - 125]
(6) [الأحزاب: 9]
(7) [التوبة: 26](1/555)
في بعض حروبه _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _.
ففي الصحيحين (1) عن ابن عباس قال: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه، فإذا قد حطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط، فأحضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة"، وذلك يوم بدر.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل -عليهما السلام-.
وفي البخاري (3) عن أنس قال: "كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل- عليه السلام- حين سار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني قريظة [37].
ومن دلائل نبوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما في الصحيحين (4) وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: "قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل نعم؟ قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فما جاءهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا، وأجنحة".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3992 - 3995) مختصرا.
ومسلم في صحيحه رقم (1763).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4054) مختصرا.
ومسلم في صحيحه رقم (2306).
(3) في صحيحه رقم (4118).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (4958) مختصرا ومسلم في صحيحه رقم (2797).(1/556)
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث البراء بن عازب وقصة هجرته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أبي بكر قال: "واتبعنا سراقة بن مالك بن جعشم، ونحن في جدد من الأرض، فقلت: يا رسول الله، آتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال: "علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا لي، ولكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا" الحديث.
وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث سراقة نفسه قال: "ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان" الحديث. ومن دلائل نبوته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما في الصحيحين (3)، وغيرهما عن جابر قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزاة قبل نجد، فأدركنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن رجلا أتاني، وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف صلتا في يده، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشام السيف (4) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه، فقال: لا أكون في قوم هم حرب لك".
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3615) بنحوه. ومسلم في صحيحه رقم (3009).
* جدد من الأرض: هو المستوي من الأرض وعند مسلم (جلد) وهما روايتان.
* صحيح مسلم (18/ 150 نووي).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3906) معلقا.
قلت: وأخرجه البيهقي في "الدلائل" (2/ 485 - 489) موصولا.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2913) بنحوه، ومسلم في صحيحه رقم (843) واللفظ له.
(4) شام السيف: أي أغمده. والشيم من الأضداد، يكون سلا وإغمادا.(1/557)
وفي الصحيحين (1) وغيرهما عن أنس قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعاد نصرانيا، فكان يقول: ما يدري محمد، إلا ما كتبت له، فقال رسول الله: اللهم اجعله آية، فأماته الله، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذه فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له، وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا: مثل الأول، فحفروا له، فأعمقوا، فلفظته الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس فتركوه منبوذا".
وفي الصحيحين (2) وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن ربيعة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط " قال ابن مسعود: فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر سحبوا إلى القليب، قليب بدر، وكان هذا الدعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم لما وضعوا عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلا الجزور.
ومن إجابة دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ثبت في الصحيحين (3) وغيرهما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لأنس بن مالك فقال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته " فكان من أكثر الأنصار مالا وولدا، حتى روي عنه أنه دفن لصلبه إلى عند مقدم الحجاج بن يوسف بضعا وعشرين ومائة.
وفي الصحيحين (4) وغيرهما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة " فبلغ مال عبد الرحمن مبلغا عظيما، قال الزهري: إنه تصدق بأربع مائة ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، خمسمائة بعير في سبيل الله، وكان عامة ماله في التجارة.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3617) ومسلم في صحيحه رقم (2781).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (240) بنحوه. ومسلم في صحيحه رقم (1794).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6344) ومسلم في صحيحه رقم (2480).
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3780).(1/558)
وفي الصحيحين (1) وغيرهما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"، فكان له من العلم والدراية بالتفسير [38] ما هو معلوم عند كل عارف، حتى كانوا يسمونه البحر.
وفي صحيح البخاري (2) أن عبد الله بن هشام كان يخرج إلى السوق فيتلقاه ابن الزبير، وابن عمر فيقولان: أشركنا، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دعا لك بالبركة فيشركهم، فربما أصاب الراحلة كما هي، فيبعث بها إلى المنزل.
وفي صحيح مسلم (3) من حديث سلمة: "أن رجلا، أكل عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشماله، فقال له: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر قال: فما رفعها إلى فيه".
واعلم -أرشدني الله وإياك- أن دلائل نبوة نبينا محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحيط بها القلم، وإن طال شوطه، وقد صنف أهل العلم في ذلك مؤلفات مبسوطة مطولة كما عرفناك سابقا، وأرشدناك إلى مصنفات بعض المصنفين في هذا الشأن، ولم نذكرها هنا إلا نزرا يسيرا، وقدرا حقيرا مما في الصحيحين أو أحدهما، وقد بقي فيها غير ما ذكرنا كمالا يخفى على العارف بها، ولو ذكرنا جميع ما فيها وما في بقية الأمهات الست، وما في سائر كتب الحديث والسير لجاء من ذلك كتابا مطولا، ومؤلفا حافلا.
ولكن لما كان الغرض هاهنا هو التنبيه على اتفاق جميع الشرائع على إثبات الثلاثة المقاصد التي جمعنا هذا المختصر لها كان فيما ذكرنا ما يفيد ذلك، ولو كتبنا هاهنا الآيات القرآنية الدالة على كل مقصد من هذه المقاصد لأتينا على غالب الآيات القرآنية، وعلى كثير من الأحاديث الصحيحة.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (75). ومسلم في صحيحه رقم (2477).
(2) رقم (2501 و2502).
(3) في صحيحه رقم (2021).(1/559)
ثم اعلم ثانيا أن دلائل نبوة سائر الأنبياء قد اشتمل على كثير منها القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وكذلك التوراة والزبور، وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل، وإنما اقتصرنا على ذكر بعض دلائل نبوة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن ثبوته بهذه الدلائل وأمثالها تستلزم ثبوت نبوة جميع الأنبياء- عليهم السلام- لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرنا بأنهم أنبياء الله -سبحانه- كما اشتمل على ذلك القرآن الكريم، والسنة المطهرة.
فثبوت نبوته يستلزم ثبوت نبوة سائر الأنبياء.
ووجه ذلك أن ثبوت نبوته يستلزم ثبوت جميع ما أخبر به وصحته.
ومما أخبر به ثبوت نبوة جميع الأنبياء، فكان في ذكر دلائل نبوته ما يغني عن ذكر دلائل نبوة سائر الأنبياء، ولهذا اقتصرنا على ذلك.
وبمجموع ما ذكرناه تقرر اتفاق الشرائع جميعها على إثبات تلك المقاصد الثلاثة وهو المطلوب.
والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.
كان الفراغ من تحرير هذا المختصر يوم الأربعاء ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر من شهور سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين والألف.
بقلم مؤلفه المفتقر إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما-.(1/560)
المقالة الفاخرة
في اتفاق الشرائع
على
إثبات الدار الآخرة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة.
2 - موضوع الرسالة: (الإيمان باليوم الآخر).
3 - أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. إياك نعبد وإياك نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن، وآله الطاهرين. وبعد: يقول الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما أنه وقف على ما قاله ابن أبي الحديد شارح " فج البلاغة " ولفظه ...
4 - أخر الرسالة:
. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في بعض نهار يوم السبت لعله الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة (1224 هـ) حامدا لله، ومسلما ومسلما على رسوله واله.
5 - الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني.
6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 - عدد الصفحات: 13 صفحة + صفحة العنوان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 25 - 27 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 13 كملة. .
في هامش الصفحة الأخيرة قول الإمام الشوكاني رحمه الله: ((الحمد لله قد تعقبت هذه الرسالة رسالة مطولة سميتها: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات " وهي في المجلد الرابع من الفتاوى)) اهـ. قلت: وهذا يؤكد لنا أن المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " هو المجلد المتضمن الرسالة المشار إليها وهي " إرشاد الثقات " ولله الحمد والمنة.(2/563)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن، واله الطاهرين.
وبعد: فيقول الحقير محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- أنه وقف على ما قاله ابن أبي الحديد (1) شارح نهج (2) البلاغة، ولفظه: إن كل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو منافع الدنيا ومضارها، أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم وكثرت من أولادكم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على أعدائكم، فإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم، ونقصت من إخائكم، وشتت كلكم، ورميتكم بالجوع والمخافة، وأقللت أولادكم، وأشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم، وشردتكم في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك، ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق. مما بعد الموت.
وأما المسيح فإنه صرح بالقيامة، وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب روحانيا، وكذلك الثواب ... فأما العقاب فبالوحشة والفزع وتخيل الظلمة، وخبث الأنفس وكدرها، وخوف شديد. وأما الثواب فما زاد على أن قال أنهم يكونون كالملائكة، وربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء، وربما قال أصحابه وعلماء ملته: الصفاء واللذة، والسرور والأمر من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم. وقد أثبت بعضهم نارا خفيفة، لأن لفظة النار وردت في الإنجيل، فقال محققوهم نارا قلبية- أي نفسية روحانية. وقال الآخرون نارا كهذه النار ومنهم من أثبت عقابا غير النار، وهو بدني فقال: الرعدة وصرير (3) الأسنان. وأما الجنة يعني .................................................
_________
(1) لم أعثر عليه.
(2) تقدمت ترجمته (ص 503).
(3) قال المسيح في الإنجيل: " بحق أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب فيجلسون مع إبراهيم. =(2/567)
الأكل (1) والشرب والجماع (2)، فإنه لم يقل به منهم قائل أصلا، لأن الإنجيل صرح بانتفاء (3) ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
وخاتم الأنبياء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولون، فقال: " إن البدن والأنفس معا مبعوثان، ومحل منهما حظ في الثواب والعقاب " (4). ثم نقل بعد هذا كلام ابن سيناء (5) وحاصله: إن الشريعة المحمدية أثبتت المحاد الروحاني والجسماني، والنعيم لهما والعقاب، وأنكر على النصارى حيت أثبتوا بعث الأبدان وخلوها عن المطعم والملبس والمشرب والمنكح.
واعلم أن أصل هذه المقالة الملعونة، والرواية عن التوراة والإنجيل المكذوبة مقالات
_________
= وإسحاق ويعقوب وملكوت السماء ومخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرانية، هنالك يكود البكاء
وصرير الأسنان " إنجيل متي (8/ 10 - 12).
(1) قال المسيح: " اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي في الحياة المؤبدة لأن ذلك قد ختمه الله ". إنجيل يوحنا (6/ 27).
(2) قال المسيح عليه السلام: " من ترك زوجة أو بنيئ أو حقلا من أجلى فإنه يعطى في الجنة مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية ".
إنجيل متى (19/ 25) ومرقس (10/ 29 ,30).
(3) وما قدمنا من أقوال المسيح برد على أبي الحديد وقد صرح المسيح بأن المؤمن يعطى في الجنة مائيي زوجة وكما يعطى مائتي حقل.
(4) قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (14/ 167): والجنة والمار التي تفتح وتغلق غير ما في القلوب، ولكن ما في القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره وقد قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذي يضرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " يأكلون ويشربون ما سيصير نارا، وقيل: هو سبب النار.
أخرجه البخاري رقم (5634) ومسلم رقم (2065).
(5) تقدمت ترجمته (ص 553).(2/568)
قالها جماعة من متزندقة اليهود والنصارى، كابن ميمون (1) اليهودي الأندلسي وأضرابه. قال في تاريخ النصراني في ترجمة ابن ميمون المذكور [1] أنه صنف رسالة في إبطال المعاد الجسماني، وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها إلا عمن يرى رأيه. قال: ورأيت جماعة من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه، ويسمونه كافرا ... انتهى.
فهذه رواية نصراني عن طائفة من اليهود أكم كفروا ابن ميمون، ولعنوه بسبب هذه المقالة. وقد وقع من هذا الملعون التحريف لما قي التوراة كما سيأتيك بيانه. وها نحن نملي عليك ما في التوراة، ثم ما ني الزبور، ثم ما في الإنجيل، حتى تعلم أن الأمر على خلاف ما قاله زنادقة الملة اليهودية، والملة النصرانية، وتلفى ذلك عنهم زنادقة الملة الإسلامية استرواجا منهم لما يتضمن من القدح في شرائع الله- سبحانه-.
أما التوراة فصرح الله (2) - سبحانه- باسم الجنة في أول التوراة عند الكلام على ابتداء خلق العالم ولفظه: فغرس الله جنانا في عيذا شرقيا وأبقا، ثم ادم الذي خلق، وأنبت الله ثم كل شجرة وحسنة، فنظرها وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان فر يخرج من عيذا ليسقي الجنان، ومن ثم يتفرق ويصير أربعة رؤس، اسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد زويلة الذي ثم الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلوء وحجارة البنور واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، واسم النهر الثالث الدجلة وهو السائر في شرقي الموصل، والنهر الرابع هو الفرات ... انتهى.
فهذه هي الجنة التي ورد ذكرها في القران الكريم، وصح عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم- أن هذه الأربعة صحيحه رقم (3207). ومسلم ي صحيحه رقم (164/ 264) وأحمد (4/ 207 - 208) وأبو عوانة (1/ 120 - 124) من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعًا بحديث الإسراء بطوله: " وحدث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى أربعة أنهار، يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران قي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ". (3) الأنهار خارجة منها كما في دواوين الإسلام وغيرها.
_________
(1) تقدت ترجمته (496).
(2) انظر: سفر التكوين والإصحاح الثاني والثالث.
(3) يشير إلى الحديث الذي أحرجه البخاري في صحيحه رقم (5610) معلقا ووصله البخاري في(2/569)
وقد اعترف هذا رأس زنادقة اليهود، وهو موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي المتقدم ذكره في تأليفه المسمى: " المسمى في الفقه (1) "، فقال: إن هذا الموضع الذي هو جن عيذا هو موضع خصيب من كرة الأرض، كثير المياه، والأثمار، وسيكشفه الله للناس في المستقبل، فيتنعمون به. ولعل يوجد فيه نبات غريب جدا، عظيم النفع [2]، كثير اللذة، غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كله غير ممتنع ولا بعيد، بل قريب الإمكان. بمشيئة الله تعالى. ثم اعترف بذلك اعترافا آخر فقال في كتاب اللغات (2) في حرف العن: إن معنى هذا الاسم الذي هو عيذا: هو التلذذ والتنعم، ومنه حميت لذات الآخرة، ونعيم أنفس الصالحين الكاملين جن عيذا. ثم قال في هذا الكتاب في تفسير جن عيذا: أي أن تلك هي جنات النعيم، وفردوس السعادة وقد شرحوا معنى جن عيذا وماهية التلذذ فيها، وحال من وصل إليها واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها. قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله. وقال النبي يشيعا في حقيقة ذلك التلذذ قال: لا عين تقدر تراه إلا علم الله تعالى ... انتهى كلام ابن ميمون في ذلك الكتاب وقد اقتصرنا على نقل كلام هذا الملعون ابن ميمون في شأن الجنة، لأنه هو الذي قال بتلك المقالة التي اقتدى به فيها مثل ابن سينا ومن بعده ولكن انظر ما الفرق بين كلامه وبن كلام ابن أبي الحديد من أهل الإسلام، وتصريحه في كلامه الذي نقلناه عنه سابقا بأنه لم يأت في التوراة وعد وعيد يتعلق. مما بعد الموت، وإن كل ما في التوراة من
_________
(1) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة " إرشاد الثقات " (9).
(2) انظر " تاح العروس " (5/ 154).(2/570)
ذلك إنما هو منافع الدنيا ومضارها. ثم قال في كلامه السابق: وأما الجنة يعني (1) الأكل والشرب والجماع، فإنه لم يقل به قائل منهم أصلا، لتعلم أنه قد جازف في هذا النقل غاية المجازفة، وافترى الكذب أو قلد من افتراه.
وأما ما زعمه من تصريح الإنجيل بنفي ذلك فسيأتيك- إن شاء الله- عن الإنجيل ما تعلم به أن ما حكاه عنه كذب صراح.
وإذا تقرر لك تصريح التوراة باسم الجنة وصفتها فهي أيضًا قد صرحت باسم النار، ولفظ التوراة شول واش. قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين جهنم. وفي موضع آخر مع التوراة: وإن الله خلق خلقا، وتفتح الأرض فاها فينزلون إلى الثرى، هؤلاء القوم الذين عصوا الله. وقال: أحجب رحمتي عنهم، واريهم ما عاقبتهم، وكما أنهم كادوني بغير إله، وأغضبوني بغروراتهم، كذلك إني أكيدهم، لأن النار تنقدح من غصبي، وتتوقد إلى أسفال الثرى فتأكل الأرض ونباتها، حتى تستطلع أساسات الجبال، كذلك أزيد عليهم شرورا وسهامي [3] أفرقها فيهم.
وقال النبي يشعيا (2): مزكي الظالم لأجل الرشا، وزكية الزكي يزيلوها عنه، لذلك
_________
(1) قال ابن تيمية في " مجموعة الرسائل الكبرى رسالة الإكليل " (2/ 11): واليهود والصابئون من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن.
والرد عليهم هو أن ما ورد في القرآن الكريم مر وصف ملذات الجمة أن حقيقتها ليست مماثلة لما في الدنيا، بل بينهما تبابن عظيم مع التشابه في الأسماء، فنحن نعلمه إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن تلك الحقائق خاصية لا يدركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكما لها لعدم إدراك عينها أو نطيرها من كل وجه وتلك الحقائق على ما هي عليه.
(2) " وهو أشيعا ومعنى الاسم (خلاص يهوه) وهو من أشهر أنبياء العهد القديم إلا أنه لم يعرف عنه إلا القليل، وقد اختلف اليهود والنصارى في سفره، وفي مقدمة أسفار هوشع، وعاموص، وميخا ما يدل على أن هؤلاء معاصرين لأشعيا ... ". "الكتاب المقدس " عندهم (ص 92) لما العهد القديم.(2/571)
كما يأكل القش لسان النار، والهشيم ما تجليه اللهيب عناصرهم يكون كالدف، وفروعهم تصعد كالغبار إن زهدوا في توراة رب الجيوش. وقول قدوس العالم: رفضوا به أن الهاوية موعودة من أمس، وهي أيضًا أصلحت للملوك، عمقها فأوسعها نارا وحطبا كثيرا، وأمر الله كواد من كبريت متشعل فيها. وقال: ويخرجون وينظرون إلى أجسام القوم الذين كفروا بي، إن دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفى، فيصيرون عبرة لباقي البشرين.
وفي هذا المقدار من التوراة ما يغنيك عن غيره، وفيها غير هذا كثير، فمن ذلك كما في الفصل الثامن عشر من السفر الثالث من التوراة ولفظه: احفظوا رسومي وأحكامي، فإن جزاء من عمل جما أن يحيا الحياة الدائمة ... انتهى. ولا حياة دائمة قي الدنيا بل في الآخرة.
وفي الفصل الخامس من وصايا سليمان- عليه السلام- ما لفظه: لأن أرجل الغباوة تحذر الذي يستعملونها، وتخطفهم بعد الموت إلى الجحيم
انتهى.
وفي الفصل السادس والعشرين من نبوة أشعيا ما لفظه: تقوم الموات، ويستيقظ الذين في القبور. انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من نبوة دانيال ما لفظه: وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعبير وخزي أبدي. انتهى.
وأما في الزبور فنصوص كثيرة. فمنها في التصريح بذكر النار في المزمور الثامن والأربعين من الزبور ما لفظه اجعلوا في الجحيم مثل الغنم والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة، ومعونتهم تتلى في الجحيم، ومن مجدهم أقصوا، بل إن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذا أخذني. انتهى.
وفي المزمور الرابع والخمسين من الزبور ما لفظه: ليأت الموت عليهم، وينحدروا إلى الجحيم ... انتهى.
وفي المزمور الحادي والثمانين من الزبور ما لفظه: قام قي مجمع الآلهة بجكم إلى متى يقضون(2/572)
ظلما، ويأخذون بوجوه الخطاة احكموا لليتيم والفقير، خلصوه من يد الخاطيء، لم يعلموا ولم يفهموا، لأنهم في الظلمة يسلكون.
وفي الإنجيل ذكر الجنة والنار في مواضع كثيرة، ففي الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل الذي جمعه القديس متى (1) ما لفظه: ومن قال يا أحمق وجبت عليه نار جهنم، فإن قدمت قربانا على المذبح، وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك شيئا فدع قربانك هناك أمام المذبح، وامض أولا فصاع أخاك، وحينئذ ائت وقدم قربانك. كن متفقا مع خصمك سريعا ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم يسلمك إلى المستخرج، وتلقى في السجن. الحق أقول لك: إنك لا تخرج [4] من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك، قد جمعتم أنه قيل للأولين: لا تزن وأنا أقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى ها في علبه، وإن شككتك عينك اليمين فاقلعها وألقها عنك فهو خير لك أن تهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمين فاقطعها وألقها عنك بم فإنه خير لك أن هلك أحد أعضائك ولا يلقى جساك كله في جهنم ... انتهى.
وفي الفصل الثامن والعشرين منه ما لفظه: ولا تخافوا ممن يقبلون الجسد، ولا يستطيعون أن يقبلوا الروح، لكن خافوا بالحرى ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد في جهنم .... . انتهى.
وفي الفصل التاسع والثلاثين منه (2) ما لفظه: هكذا يكون في منتهى هذا الدهر يرسل ملائكته، ويجمعون من مملكته كل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. ومثل هذا في الفصل الأربعين منه.
فانظر كيف صرح هاهنا بحشر الأجساد فقال: ولا يلقى جسدك كله في جهنم. ثم
_________
(1) "الإنجيل متى" (5/ 25 - 26). وانظر "إنجيل لوقا " (13/ 57 - 59).
(2) أي " إنجيل متى" (5/ 6 - 7).(2/573)
صرح بجمع الملائكة لها، وإلقائها في النار، فإن هذا لا يكون إلا للأجساد، وهكذا البكاء وصرير الأسنان لا يكون إلا من جسم.
وفي الفصل الخامس والخمسين منه صرح بذكر دخول النار المؤبدة، ويذكر دخول جهنم.
وفي الفصل الثالث والسبعين منه ما لفظه: فإن الزنادقة الذين بقولون ليست قيامة ...
انتهى.
فانظر إلى هذا النص الصريح بالقيامة، وإلى التصريح بأن الذين يقولون لا قيامة هم الزنادقة، وكفى بهذا دافعا قي وجه من زعم أن إثبات القيامة إنما جاءت به شريعة الإسلام، ولم يكن مذكورا في الشرائع المتقدمة عليها فيقال له: بل الشرائع كلها متفقة على إثبات القيامة، ولكنه أنكر ذلك زنادقة في الشريعة السابقة كما أنكره زنادقة في هذه الشريعة المحمدية.
وفي الفصل الثالث والثمانون منه ما لفظه: إن الرب يقول لأهل الميسرة يوم القيامة: اذهبوا يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وملائكته. انتهى.
وفي هذا [5] التصريح ما لا يحتاج معه إلى زيادة. وإلى هنا انتهى النقل من الإنجيل للمسيح- عليه السلام- الذي جمعه متى ..
وفي إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي جمعه القديس مرقص في الفصل الثلاثين منه ما لفظه: وإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل إلى الحياة، أعسم (1) من أد تكون بيدين وتذهب إلى جهنم، إلى النار التي لا تطفئ، حيث دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفئ. وكرر هذا اللفظ في هذا الفصل.
_________
(1) العسم: يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم.
وعمسم عسما وهو أعسم، والأنثى عسماء، والعسم: انتشار رسغ اليد من الإنسان.
" لسان العرب " (9/ 212).(2/574)
وفي الفصل الحادي عشر من الإنجيل للمسيح- عليه السلام- الذي كتبه يوحنا (1) ما لفظه: أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن. ممن أرسلني فله الحياة المؤبدة، وليس يحضر إلى الدينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. وفي هذا الفصل أيضًا ما لفظه: فلا تعجبون من هذا، فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة ... انتهى.
وفي الفصل الخامس عشر منه (2) ما لفظه: اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة المؤبدة. انتهى.
وفي هذا التصريح بالطعام في الحياة المؤبدة ما يتبين لك به بطلان ما قاله ابن أبي الحديد في كلامه الذي حكيناه سابقا أن الإنجيل صرح بانتفاء ذلك، يعني الأكل والشرب تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
وليت شعري أين وجد هذا التصريح؟ ومن رواه له؟ فقد كررنا مطالعة الأناجيل الأربعة فلم نجد من ذلك شيئا قط، بل وجدنا ما يخالفه كما جمعت فهو كذب على الإنجيل ليس في ريب لمرتاب.
وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: يكون له الحياة المؤبدة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر. انتهى.
وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: الحق والحق أقول لكم أن من يؤمن له حياة دائمة
.. انتهى.
وفي الإنجيل الذي جمعه لوقا (3) في الفصل العشرين منه ما لفظه: فأما أن الموتى
_________
(1) "إنجيل يوحنا " (6/ 27).
(2) أي " إنجيل يوحنا " (4/ 35 - 36).
(3) " إنجيل لوقا " (23/ 43).(2/575)
يقومون فقد أنبأ بذلك موسى.
وفي الفصل الثالث والعشرين منه ما لفظه: إن المسيح قال للمصلوب الذي امن به: إنك تكون معي في الفردوس.
ولنقتصر على هذا [6] المقدار من النقل عن كتب الله السابقة ونذكر لك هاهنا طرفا مما وعدناك به من تحريفات (1) زنديق الملة اليهودية ابن ميمون المتقدم ذكره فنقول: قال اللين في كتابه المسمى بالمشنى بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه سابقا ما لفظه: اعلم أنه كما لا يدرك الأعمى الألوان، ولا يدرك كذلك الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع، كذلك لا تدرك الأجسام اللذات النفسية، وكما لا يعلم الحوت استقص النار لكونه قي ضده كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا بوجه لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادي الرأي إلا بعد تحذق كثير، وإنما وجما ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته. فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبن هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه.
ولا يصح لنا قي الشرع ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل لهم لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري- عز
_________
(1) يستدل النصارى على ذلك بما ورد في " إنحيل متى " (22/ 22 - 35) و"مرقس " (12/ 18 - 25) و"لوقا" (20/ 27 - 35): (حين جاء إلى المسيح صدوقون- وهم فرقة مر اليهود- يسألونه عن امرأة تزوجت بسبعة أزواج واحدا تلو الآخر فلمن من السبعة تكون زوجة له في يوم القيامة؟
فقال المسيح: تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء). .
وهذا النص من تحريف وأباطيل النصارى: فكما نعرف أن الأنبياء عليهم السلام قد بشروا المؤمنين بالجنة وما فيها من الملذات والنعيم. وكما ورد في نصوص التوراة والإنجيل عندهم قبل التحريف.(2/576)
وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها، لأنه ليس لهم حواسي مثلنا يدركون به ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت لا يدرك اللذات الجسمانية، فلا يريدها كما لا يريد الملك عظيم الملك أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق.
وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك في حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا، كما نفضل نحيط اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية.
وإذا تأملت أمرها بين اللذتين نجد خساسة اللذة الواحدة، ورفقه الثانية، ولو في هذا العالم. وذلك أنا [7] نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة، أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست بلذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يجتنب أعظم ما يكون من اللذات الجمسمانية خشية أن يناله في ذلك جزاء، أو خشية من الناس.
فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقبل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثلما تعقل الأجرام العلوية أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!.
وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ مما تعقل من الباري كما تستلذ سائر طبقات الملائكة مما عقلوا من وجوده- سبحانه- فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى (1)،
_________
(1) والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سطعا، وبصرا، وشما وذوقا ولمسا، للروح والبدن جميعا وكان هذا هو الكمال: لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى. كما قي الحديث الصحيح: " فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه أخرجه مسلم رقم (297) والترمذي رقم (2552) وابن ماجه رقم (187) وهو حديث صحيح. وهو نمرة معرفته وعبادته في الدنيا، فأطيب ما في الدنيا معرفته، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه ولهذا كان التجلى يوم الجمعة في الآخرة على مقدار صلاة الجمعة في الدنيا. "
مجموع فتاوى " لابن تيمية (14/ 163).".(2/577)
والحصول في هذا الحد هو بقاء للنفس كما وصفنا إلى مالا نهاية له ببقاء الباري- جل اسمه- وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف يمثل الدائم. مما لا نهاية له بالشيء المنقطع! وهو قوله تعالى في نص التوراة: لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، وتطيل أيامك في العالم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وتلافها، وأن لا يحصل باقية، وهو القطع المذكور في التوراة كما يبن. وقال انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل، فكل من خلد إلى اللذات [8] الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، ويبقى مادة منقطعة فقط.
وقد قال النبي يشعيا: إن العالم المستقبل ليس يدرك بالحواس وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه. وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك: إن امتثلت هذه الشرائع نعينك على امتثالها والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كفها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة، فوعد بزوال هذه كلها، وأنهم يصحون ويتذهنون حتى تكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل، فليس غاية التوراة أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها.
وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدت عليهم تلك العوائق كلها حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة، فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه(2/578)
الشرائع. بمحبة وحرص نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضها استخفافا نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها، حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء ... انتهى.
فهذا خلاصه كلام الملعون ابن ميمون زنديق اليهود، وغاية ما جاء به قد أوردناه لك هاهنا لتعرف أنه لم يربطه بشيء من كلام الله- سبحانه- يصفح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل منادية بخلافه. وهانحن نوضح لك فسماد كلامه فنقول: أولاً: إن حصول هذه اللذة النفسانية (1) التي ذكرها لا تنافي حصول اللذة الجسسمانية
_________
(1) قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (4/ 312 - 314): الأكل والشرب في الجنة: ثابت بكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع المسلمين وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين إما كافر، وإما منافق.
أما الكافر فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها. .
وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط. .
وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون: لا معاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بين الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك بيانا في غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الدين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام وطائفة ممن ضاهوهم من كاتب أو متطبب أو متكلم أو متصوف. .
فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ذلك بيانا شافيا قاطعا للعذر وتواتر دلك عند أمته خاصها وعامها، وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال: يا محمد! أنت تقول: أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ومن يأكل ويشرب لابد له من خلاء. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رشح كرشح المسك ".
أخرجه أحمد (4/ 467، 371) والحديث له اصل في الصحيحين من حديث أبي هريرة من نحير ذكر القصة. البخاري رقم (3245) ومسلم رقم
(17). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا".
وانظر: كتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح أو صفة الجنة " لابن قيم الجوزية.(2/579)
التي وردت في كتب الله- سبحانه- ... وقوله: وليست بلذة طعام أو شراب مسلم أن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام، ولا بلذة شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام ولا شراب في تلك الدار؟.
فإن كان بالشرع فكتب الله جميعها تدفع [9] ذلك، كما أوضحناه في النصوص السابقة، وإن كان بالعقل فليس في العقل ما يقتضي إثبات اللذة النفسانية، ونفي اللذة الجسمانية، ولا مدخل للعقل هاهنا، ولا معول عليه وإن كان بغير عقل ولا شرع بل. بمجرد الزندقة والمروق من الأديان كلها، والمخالفة لما ورد في كتب الله- سبحانه- فبطلان ذلك مستغنٍ عن النبيان.
وأما قوله بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!. فهذا تعجب منه- عليه السلام- من كثرة خير الله، وجزالة ما خبأه للصالحين من عباده الطائعين لأمره في الدار الآخرة. وهو دليل على الملعون ابن ميمون لا له، فإن كلامه هذا هو ككلام سائر أنبياء الله في استعظام ما أعده الله للصالحين من عباده كما قال نبينا محمد- صلى الله عليه واله وسلم-: " في الجنة(2/580)
مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (1). ومثله ما في القرآن الكريم من قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} (2).
وأما قوله: وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب .... إلخ. فيقال: إن أردت علماء الملة اليهودية فهم الذين لعنوك وكفروك بسبب هذه المقالة كما قدمنا، وهم يخالفونك ويثبتون المعاد الجسماني، واللذات الجسمانيه، ويكفرون من لم يثبتها كما كفروك، ويلعنونه كما لعنوك. وإن أراد علماء الملة النصرانية، أو علماء الملة الإسلامية فكذب بحت، وزور محض، تدفعه نصوص القرآن والإنجيل.
أما نصوص القرآن فهو من فاتحته إلى خاتمته مصرح بالجنة والنار، وبعثة الأجسام وتنعمها بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها. مما اشتمل عليه القران من تلك الأنواع. وأما الإنجيل فقد قدمنا سياق نصوصه. وأما احتجاجه بنص التوراة [10] بقوله: لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، وتطيل أيامك في العالم الذي كله طائل. فهذا دليل على الملعون ابن ميمون لاله؛ فإن الخطاب في الدنيا. مجموع الشخص الذي هو الجسم والروح، وظاهره أنه يكون له هذا على الصفة التي خوطب، وهو عليها. ومن زعم أن يكون ذلك لبعضه فهو يدعي خلاف الظاهر، ولكن المحرف المتزندق لا مقصد له إلا التلبيس على أهل الأديان.
وكذلك قوله: وقد قال النبي يشيعا أن العالم المستقبل ليسر يدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر تراه، فإن هذا هو مثل ما قدمنا من كلام الأنبياء في استعظام ما أعد الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة.
وهذا تعرف أنه لم يكن في كلام هذا الملعون الزنديق ما يتمسك به متمسك، أو يغتر به مغتر، بل هو خلاف ما في كتب الله جميعا كما قدمنا، وخلاف ما عند علماء
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (3244) ومسلم رقم (2824).
(2) [السجدة: 17](2/581)
الملل، بل خلاف ما أقر به هو في كلامه السابق إقرارا مكررا، فيا عجبا لمن يتمسك. ممثل هذا الكلام الذي لم يجر على نمط شرع ملة من الملل، ولا وافق نصا من نصوص كتب الله- سبحانه-! ويجعله نفس ما وردت به التوراة والإنجيل، ويجزم به، ويحرر في كتبه ذلك مظهرا أن الشريعة المحمدية جاءت. مما لم يكن في الشرائع السابقة، زاعما أن ذلك دليل على كمالها، ومبطنا ما أبطنه هذا الزنديق ابن ميمون اليهودي.
وبالجملة فكلام ابن ميمون هذا كما هو مخالف للملة اليهودية، ولما جاءت به التوراة، وما قاله علماء اليهود، وهو أيضًا مخالف للملة النصرانية، ولما جاء به الإنجيل، وقاله علماء النصارى، ومخالف أيضًا لما جاءت به الشريعة الداودية، وما صرح به الزبور، ونحالف لما جاءت به الملة الإسلامية، وما صرح به القرآن الكريم، وأجمع عليه علماء الإسلام، بل مخالف لشرائع الأنبياء جميعا كما حكى [11] ذلك عنهم القران الكريم. فنحن وإن لم نقف على غير التوراة والزبور ونبوات أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل من شرائع الأنبياء السابقة فقد حكاها لنا القرآن [الكريم] (1) في غير موضع، وكما أن كتب الله- سبحانه- التي نقلنا نصوصها فيما سبق ترد ما نقله ابن أبي الحديد، ومن تقدمه كابن سيناء (2) زاعمين أنه الذي في شريعة موسى وعيسى- عليهما السلام-، وأنه الثابت في التوراة (3) والإنجيل (4). وكذلك يرده القرآن كقوله سبحانه حاكيًا عن
_________
(1) زيادة يقتفيها السياق.
(2) وقوله: " في أن المعاد لا يكون إلا روحانيا فلا تتصور اللذات الحسية إذ شرط إدراكها تعلق النفس بالبدن ". وما تقدم في الرسالة يبطله.
وانظر: كتابه " الإشارات والتنبيهات " (ص 749 - 751).
وقد رد ابن تيمية في كتابه " درء تعارض العقل والنقل " على الإشارات والتنبيهات لابن سينا في مواضع مختلفة منه.
(3) تقدم ذكر نماذج على ذلك.
(4) تقدم ذكر نماذج على ذلك.(2/582)
اليهود: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (1). وقوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (2). وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (3). وقوله حاكيا عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} إلى قوله تعالى وإن الآخرة هي دار القرار. . . إلى قوله: {فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} (4) وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (5) {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (6) ومن تتبع ما في كتاب الله- سبحانه- من حكاية نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار عن الملل السالفة، وعن كتب الله المنزلة عليها وجده كثيرا جدا لا يتسع المقام لبسطه. وقد بعث النبي- صلى الله عليه واله وسلم- وأهل الملة اليهودية والملة النصرانية
_________
(1) [البقرة: 80]
(2) [البقرة: 111]
(3) المائدة: 72
(4) [غافر: 32 - 40]
(5) [آل عمران: 55 - 57]
(6) [الأعلى: 16 - 19](2/583)
في أكثر بقاع الأرض، ولم نسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك، أو قال 1121 هو خلاف ما في التوراة والإنجيل. وقد سكن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- بالمدينة الشريفة، ونزل عليه أكثر القرآن ها، وكان اليهود متوافرين فيها، وفيما حولها من القرى المتصلة ها، وكانوا يسمعون ما يزله الله على رسوله من القرآن، وينكرون ما ورد مخالفا لما في التوراة، ويجادلون أبلغ مجادلة كما حكى ذلك القران الكريم، وتضمنته كتب السير والتاريخ، ولم يسمع أن قائلا قال له أنك تحكى عن التوراة ما لم يكن فيها من البعثة، ونعيم الجنة وعذاب النار. وقد كانوا يتهالكون على ذلك، ويبالغون في تتبعه، بل كانوا في بعض الحالات ينكرون وجود ما هو موجود في التوراة كالرجم (1)، فكيف يسكتون عن هذا الأمر العظيم مع سماعهم لحكاية القرآن له عنهم وعن التوراة! وهل كانوا يعجزون عند أن يسمعوا ما حكاه الله عنهم من قولهم: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (2). أن يقولوا: ما قلنا هذا، ولا نعتقده، ولا جاءت به شريعة موسى. وهكذا عند سماعهم قوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (3). وعند سماعهم قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} (4).
وبهذا يتبين لك أن هذه المقالة لم تسمع ها اليهود ولا النصارى إلا في عصر الزنديق ابن ميمون- عليه لعائن الله-. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في بعض فار يوم السبت، لعله الثاني عشر من شهر ربيع الآخر، سنة 1224 هـ، حامدا لله، ومصليا ومسلما على
_________
(1) تقدم ذكر ذلك (505).
(2) [البقرة: 80]
(3) [البقرة: 111]
(4) [الأعلى: 18 - 19](2/584)
رسوله وآله (1).
_________
(1) في هامش المخطوط ما نصه: ((الحمد لله قد تعقبت هذه الرسالة رسالة مطولة سميتها: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات "وهي في المجلد الرابع من الفتاوى".(2/585)
مقتطفات من الكتب المقدسة الإنجيل والزبور والتوراة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/587)
هذه الكلمات نقلتها من الإنجيل عند مطالعتي له في شهر رجب سنة 1217 هـ.
في الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل (1) للمسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس ...........................
_________
(1) لغة: فهي كلمة مأخوذة من اللفظ اليوناني إيفا نجليون ومعناه (الخبر الطب) أو البشارة.
اصطلاحا: يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام قد استعمل كلمة الإنجيل. بمعنى (بشرى الخلاص
من خطيئة آدم الأزلية) التي حملها إلى البشر، واستعملها تلاميذه من بعده بالمعنى نفسه ثم استعملت هذه الكلمة على الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى وهي سيرة المسيح عليه السلام وقد غلب استعمالها إذا المعنى على إنجيل متى، إنجيل مرقس، إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا. ومحتويات هذه الأناجيل فيمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات.
ا/ القصص، 2/ العقائد، 3/ الشريعة، 4/ الأخلاق، 5/ الزواج وتكوين الأسرة.
وقد تم توضيح ذلك كله في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9) وانظر قاموس الكتاب المقدس (عندهم) (ص120 - 121). .
الإنجيل في الإسلام فهو كما قال تعالى: {وقفينا على ءاثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين}، [المائدة: 146]. .
فهو إذن وحى وكتاب أنزله الله على عبده عيسى عليه السلام فيه هدى ونور وموعظة ومصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهو إنجيل واحد وليس أناجيل متعددة- وقد كان المسيح يدعو بني إسرائيل للإيمان هذا الإنجيل كما ورد التصريح بذلك في إنجيل متى (26/ 13) ومرقس (14/ 9) وورد في رسالة بولس إلى رومية (15/ 19) نسبة الإنجيل إلى المسيح فقال: " قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح " إلا أن هذا الإنجيل قد فقد واندثر أو لعبت به أيدي التحريف والتبديل والنسيان والإهمال حتى انطمست معالمه وآثاره باختلاط الحق بالباطل.
أما هذه الأناجيل الأربعة فإنه ليس واحدا منها هو الإنجيل الصحيح لأنها تنسب إلى غير المسيح ولما فيها من الباطل ومع ذلك فإنه لا ينفى وجود بعض بقايا الوحي الإلهي في خطب المسيح ومواعظه التي نقلها تلاميذه وتوافق القرآن الكريم والسنة الصحيحة وفيها البشارة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انظر: قاموس الكتاب المقدس (عندهم) ص 196 - 119.(2/593)
مضى (1) ما لفظه: ومن قال: يا أحمق- يعني لأخيه كما يفيده السياق- وجبت عليه نار جهنم، فإن قدمت قربانك على المذبح، وذكرت هناك أن أخاك واجد شيئا عليك فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أولا فصاع أخاك، وحينئذ ائت وقدم قربانك، كن متفقا مع خصمك سريعا ما دمت معه في الطريق لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم يسلمك إلى المستخرج وتلقى في السجن. الحق أقول لك: إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك. قد سمعتم أنه قيل للأولين: لا تزن، وأنا أقول لكم أن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، وإن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها عنك فهو خير لك ألا يهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم .. انتهى.
وفي الإنجيل (2) أيضًا في الفصل التاسع أيضًا من الإصحاح الأول ما لفظه: قد سمعتم أنه قيل: العين بالعين، والسن بالسن. وأنا أقول لكم: لا تقاوموا الشرير لكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك فدع له قميصك أيضا، ومن سخرك ميلا واحدا فامض معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. قد سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوك. وأنا أقول لكم: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى الذين يبغضونكم، وصلوا على الذين يطردونكم ويضطهدونكم انتهى.
وفي الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل (3) ما لفظه: وإذا صنعت صدقة فلا تضرب قدامك بالبوق كما يصنع المرآؤون في المجامع والأسواق لكي يمجدوا من
_________
(1) إنجيل متى (5/ 38 - 48)
(2) إنجيل متى (6/ 1 - 5)
(3) إنجيل متى (6/ 1 - 5)(2/594)
الناس. الحق أقول لكم: لقد أخذوا أجرهم. وأنت إذا صنعت رحمة فلا تعلم شمالك. مما تصنع يمينك، لتكن صدقتك في خفية. انتهى
[1] وفي الفصل العاشر من الإصحاح الأول من الإنجيل (1) ما لفظه: وإذا صفيت فلا تكن كالمرأتين لأنهم يحبون أن يصلوا قياما في المجامع وفي زوايا الأزقة ليظهروا للناس. الحق أقول لكم: إنهم قد أخذوا أجرهم. وأنت إذا صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك. انتهى.
وقال في هذا الفصل العاشر (2) أيضًا ما لفظه: وإذا صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرأتين، لأهم يعبسون وجوههم ليظهروا للناس صائمين الحق أقول لكم: إنهم قد أخذوا أجرهم، أما أنت إذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائما انتهى.
وفي الفصل الثالث عشر منه (3): لا تدينوا لئلا تدانوا، لأنه بالدينونة التي تدينون تدانون، وبالكيل الذي تكيلون يكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، ولا تفطن بالخشبة التي في عينك!؟ وكيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها أن الخشبة في عينيك, يا مرائي أخرج أولا الخشبة من عينك وحينئذ تنظر أن يخرج القذى من عين أخيك لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزقكم انتهى.
وفي الفصل الثامن والعشرين منه ما لفظه (4): ولا تخافوا ممن يقتلون الجسد ولا يستطعون أن يقتلوا الروح، لكن خافوا بالحري ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد في جهنم انتهى.
وفي الفصل التاسع والثلاثين منه ما لفظه: هكذا يكون في منتهى هذا الدهر يرسل
_________
(1) إنجيل متى (6/ 16 - 21).
(2) من إنجيل متى (6/ 19 - 20).
(3) من إنجيل متى.
(4) من إنجيل متى.(2/595)
ملائكته، ويجمعون من مملكته كل الشكوك وفاعلي الإثم فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء، وصرير الأسنان، ومثل هذا في الفصل الأربعين منه.
وفي الفصل الحادي والأربعين منه ما لفظه: أما يسوع- يعني المسيح- فقال لهم لا يهان نبي إلا في بلدته وفي بيته انتهى.
وفي الفصل السادس والأربعين منه ما لفظه: وأعمى يقود أعمى يقع كلاهما في الحفرة انتهى.
وفي الفصل الخامس والخمسين صرح بذكر دخول [2] النار المؤبدة، وبذكر دخول جهنم.
وفي الفصل السابع والخمسين ما لفظه: إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده، فإن جمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك فخذ معك أيضًا واحدا أو اثنتين لكي على فم شاهدين أو ثلاثة تثبت كل كلمة، وإن لم يسمع منهم فقل للتبعة، وإن لم يسمع أيضًا من التبعة فيكون عندك كوثني وعشار. انتهى.
وفي الثامن والخمسين منه ما لفظه: جاء إليه بطرس وقال: يا رب إلى كم مرة يخطئ أخط وأغفر له، أ إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: لست أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات انتهى.
وفي الفصل الثالث والسبعين منه (1) قال: إن الزنادقة الذين يقولون ليست قيامة.
وفي الفصل السادس والسبعين المعنون قبله بالإصحاح الثالث والعشرين من الإنجيل ما لفظه: ومن رفع نفسه اتضع، ومن وضع نفسه ارتفع. انتهى.
وفي الفصل السابع والسبعين منه ما لفظه: الويل لكم أيها الكتبة والقديسيون والمرآؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء، وتزينون مدافن الصديقين .. انتهى.
وفي الفصل الثالث والثمانين منه: أن الرب يقول لأهل المسيرة يوم القيامة: اذهبوا
_________
(1) انظر إنجيل متى الإصحاح الثاني والعشرين.(2/596)
يا ملاعن إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وملائكته. انتهى.
إلى هنا منقول من إنجيل المسيح عيسى- عليه السلام- الذي كتبه القديس متى وهو مائة فصل وفصل.
وفي الفصل الثلاثين من إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس مرقص (1) ما لفظه وإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل إلى الحياة أعسم من أن يكون لك يدان وتذهب إلى جهنم إلى النار التي لا تطفئ، حيثما دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفأ. وكرر هذا اللفظ في هذا الفصل. انتهى.
وهذا الإنجيل الذي كتبه مرقص هو أربعة وخمسون فصلا، وهى مشتملة على معاني مثلها من فصول الإنجيل الذي كتبه متى. وقد اتفقا على بعض ما نقلناه سابقا.
وفي الفصل العشرين من إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس لوقا (2) ما لفظه: لكني أقول لكم أيها السامعون حبوا أعدائكم أحسنوا إلى من يبغضكم باركوا لاعنيكم وصلوا على من يثلبكم انتهى [3].
_________
(1) قيل من السبعين- الحواريين- كتب إنجيله بالرموية، بالروم بعد صعود المسيح إلى السماء باثنتى عشرة سنة.
وقيل: إنجيل مرقس ينسب إلى مرقس الذي لم يكن حواريا ولا من تلاميذ المسيح وإنما كان تلميذ بطرس ومرافقه وقيل لا يوجد أحد هذا الاسم وأنه على صلة وعلاقة خاصة بيسوع أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى ....
محاضرات في النصرانية ص 46 - 47.
(2) إنجيل لوقا (4/ 7 - 14، 34، 35).
إنجيل لوقا: قيل: هو من السبعين- الحواريين- كتبه باليونانية بالإسكندرية وأيضا اختلف في شخصية لوقا رفي صناعته، وفي القوم الذين كتب لهم إنجيله ولا يعرف شيء عن زمن وكيفية موته.
وقد اتفق الباحثون على أن لوقا ليس من تلاميذ المسيح ولم يكن أحد السبعين الذين أرسلهم المسيح للتبشير وإنما كان الصديق المخلص لبولس.
قاموس الكتاب المقدس (عندهم) (ص 822).(2/597)
وفي هذا الفصل أيضا: وكما تحبون أن يفعل الناس بكم فكذلك أيضًا أنتم افعلوا هم انتهى. وفيه أيضًا بالكيل الذي تكيلون يكال لكم انتهى.
وفي الفصل الستين من الإنجيل الذي كتبه لوقا ما لفظه: الأمين في القليل يكون أمينا أيضًا في الكثير، والظالم في القليل يكون ظالما أيضًا في الكثير، فإن كنتم غير أمناء في مال الظلم فمن يأتمنكم في الحق! وإن كنتم فيما ليس لكم غير أمناء فمن يعطيكم مالكم؟ انتهى.
والإنجيل الذي كتبه لوقا هذا هو ستة وثمانون فصلا، وهو مثل إنجيل متى المتقدم ذكره في جميع ما اشتمل عليه إلا ما ندر من زيادة ونقص.
وفي الفصل الحادي عشر من إنجيل المسيح- عليه السلام- الذي كتبه القديس يوحنا (1) ما لفظه: الحق الحق أقول لكم أن من يسمع كلامي، ويؤمن. ممن أرسلني فله الحياة المؤبدة، وليس يحضر إلى الدينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة انتهى.
وفي هذا الفصل أيضًا ما لفظه: فلا تعجبوا من هذا فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدنيوية ... انتهى.
وفي الفصل الخامس عشر منه ما لفظه: اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة المؤبدة ... انتهى.
_________
(1) قيل: هو من الاثنى عشر حواريا كتبه- أي إنجيله- باليونانية. بمدينة أفسس بعد صعود المسيح بثلاثين سنة.
وتزعم المصادر النصرانية بان كاتب إنجيل يوحنا هو الحواري يوحنا ابن زيدي وبأنه مات. بمدينة أفسس، وتنسب إليه كذلك ثلاث رسائل وسفر رؤيا يوحنا من العهد الجديد.
قاموس الكتاب المقدس- عندهم- ص 1108 - 1114. .
وجاء في دائرة المعارف الكبرى الفرنسية، (16/ 871 - 872) أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور ..... "(2/598)
وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: تكون له الحياة المؤبدة وأنا أقيمه في اليوم الآخر انتهى.
وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: الحق الحق أقول لكم أن من يؤمن له حياة دائمة ..... انتهى.
وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن اليهود لما سمعوا كلام عيسى- عليه السلام- أن به شيطانا وقد جن فما استماعكم له انتهى.
وهذا الإنجيل الذي كتبه يوحنا وهو ستة وأربعون فصلا، وغالبه نحالف (1) للأناجيل المتقدمة التي أشرنا إليها، وغالب ما فيه ليس فيها، وفصوله طويلة.
وبعد هذه الأناجيل التي أشرت إليها رأيت في ذلك السفر فصولا مسماة إبركسيس (2) أي أعمال الرسل ذكر فيها [4] ما كان بعد المسيح- عليه السلام- من أصحابه الذين اختارهم، وما اتفق من الوقائع. ثم رأيت لبولص وهو ممن أدرك عصر المسيح أربع عشرة رسالة، كل رسالة مشتملة على فصول كتبها إلى جماعة من أهل القرى والمدن يحضهم على التمسك بشريعة المسيح وبعد ذلك رسالة للقديس يعقوب،
_________
(1) نجد كثير من الأناجيل صاحبه مجهول الهوية وكذلك مجهول مكان كتابته وتاريخ تدوينه.
وما يزيد الأمر خطورة في- إنجيل يوحنا- كثرة الاختلافات المهمة بين إنجيل يوحنا والأناجيل الأخرى كالاختلافات في الفترة الزمنية لبعثة المسيح وظهوره لتلاميذه بعد قيامه من الموت وغيرها. وهذا ما دفع- د. موريس بوكاي- أن يتساءل إذن فمن يجب أن نصدق؟ أنصدق متى أم مرقص أو لوقا أو يوحنا؟ والجواب معروف لكل ذي لب وهداية هو رفض هذه الأناجيل المتناقضة لعدم التمكن من التمييز بينها ولأن الوحي الإلهي لا يكون فيه تناقض.
الأسفار المقدسة ص 88 - 89. محاضرات في النصرانية ص 50.
(2) وهو سفر براكسيس ( PRAXIS) وهى كلمة يونانية تعني الأعمال وينسب هذا السفر إلى لوقا - صاحب الإنجيل الثالث. وعدد إصحاحاته (28) إصحاحا يحتوي على سير الحواريين وتلاميذ المسيح وجهودهم في سبيل نشر تعاليم المسيح بعد رفعه عليه السلام.
وقد تقدم في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9).(2/599)
ورسالتين للقديس بطرس، وهو من أكبر أصحاب المسيح وله ذكر في الإنجيل في مواضع. وبعد ذلك ثلاث رسائل ليوحنا، ولعله كاتب الإنجيل المذكور سابقا، ثم رسالة للقديس يهوذا، ثم رسالة طويلة ليوحنا مشتملة على رؤيا رآها ....
ورأيت في أول الإنجيل خارجا عنه غير داخل فيه ما لفظه: هذا هو في التوراة، والنقل في خارج الإنجيل منها وصايا الله العشر كما في الإصحاح العشرين من سفر الخروج (1)، كتب بإصبع الله في لوحن، ففي اللوح الأول أربع وصايا، وهي المشتملة ما هو الواجب عليهم لله: أنا الرب إلهك الذي أخرجتك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك إله آخر غيري، لا تأخذ لك صورة، ولا تمثيل كل ما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، ولاما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن، ولا تعبدهم، فإني أنا الرب إلهك إله غيور أجتزئ ذنوب الآباء من الأنبياء إلى ثلاثة، وإلى أربعة أجيال الذين يبغضونى، وأفعل الحسنة إلى ألف جيل لأحبائي، حافظي وصاياي لا تحلف باسم الرب إلهك كاذبا، من أجل أنه لا يزكى الرب من حلف باسمه كاذبا. أذكر يوم السبت لتطهره ستة أيام. اعمل عملك جميعه، واليوم السابع سبت الرب إلهك لا تعمل فيه أن عمل أنت وابنك، وابنتك، وعبدك، وأمتك، ودوابك، والغريب الذي جوات أبوابك من أجل أن في ستة أيام خلق الرب السماء والأرض والبحر وما فيه، واستراح في اليوم السابع من أجل ذلك بارك الله في يوم السبت وطهره، وفي اللوح الثاني ست وصايا، وهي المشتملة على ما هو الواجب عليهم لجميع الناس: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك. لا تقتل، لا تزن، لا تسرف، لا لشهد على قريبك شهادة زور [5]، لا تشته بنت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته،
_________
(1) سفر الخروج: ويقع في (140) إصحاحا وسمى بذلك نسبة إلى حادثة خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض سيناء بقيادة موسى عليه السلام، وفيه ذكر الحوادث التي جرت لبني إسرائيل في أرض التيه، والوصايا العشر والكثير من الأحكام والتشريعات.(2/600)
ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك، لا تزيدوا على الكلام الذي أقوله لكم، ولا تنقصوا منه. احفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم انتهى.
بلفظه إلا لفظ عليهم في الطرفين، فإني حولته. وكان في الأصل علينا.
ووجدت أيضًا هذه الوصايا العشر مكتوبة في آخر الزبور خارجة عنه، فالظاهر أنها من التوراة بدليل ذكر السبت، وذكر الألواح، وبقرينة ذكر الإفراج من مصر، ومد بحثت الإصحاح العشرين من الإنجيل فلم أجدها فيه.
رأيت في المزمور (1) الثامن والأربعين من زبور داود- عليه السلام- ما لفظه: جعلوا في الجحيم مثل الغنم، والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة، ومعونتهم تبلى في الجحيم، ومن مجدهم أقصوا، بل إن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذا أخذني. انتهى.
وقي المزمور الرابع والخمسين من زبور داود- عليه السلام- ما لفظه: ليأتي الموت عليهم وينحدروا إلى الجحيم أحياء انتهى.
وفي المزمور السبعين من الزبور ما لفظه: لم أعرف الكتابة فأدخل إلى قوة الرب انتهى. وفي المزمور الثمانين من الزبور ما لفظه: ابتهجوا بالله معينا، هللوا لإله يعقوب، خذوا مزمارا واضربوا دفا، مزمارا مطربا مع قيثاره، بوقوا في رؤوس الشهور بالبوق ني يوم عيدكم المشهور بالبهاء، لأنه وصية لإسرائيل هو وحكم لإله يعقوب شهادة وضعها في يوسف عند خروجه من أرض مصر انتهى. وقد ذكر في الزبور مثل هذا المعني في مواضع متعددة.
_________
(1) سفر المزامير: وهي مجموعة من الأشعار الملحنة وغرضها تمجيد الله وشكره وكانت ترنم على صوت المزمار وغيره من الآلات الموسيقية. وفي العبرانية يسمى (كتاب الحمد) وقد عرفت باسم (مزامير داود) بالنسبة لعدد المزامير التي نسبت إليه وبلغت 73 من 150 مزمورا وتنقسم هذه المزامير إلى خمسة أقسام تقدم ذكرها في " رسالة إرشاد الثقات " (9).
قاموس الكتاب المقدس (عندهم) ص (430، 361، 366).(2/601)
في المزمور الحادي والثمانين من الزبور ما لفظه: الله قام في مجمع الإلهية يحكم إلى متى تقضون ظلما، وتأخذون بوجوه الخطاة، احكموا لليتيم والفقير، خلصوه من يد الخاطيء لم يعلموا ولم يفهموا لأنهم في الظلمة يسلكون انتهى.
في المزمور المائة والثالث عشر من الزبور ما لفظه: إلهنا في السماء وفي الأرض، وكلما شاء صنع، أوثان الأمم فضة وذهب، أعمال تدين الناس لها أفواه ولا تتكلم، له! أعن ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع، لها مناخير ولا تشتم، لها أيادي ولا تلمس، [6] لها أرجل ولا تمشى، ولا تصوت بحنجرها انتهى.
وفي المزمور المائة والسابع عشر من الزبور ما لفظه: افتحوا لي أبواب العدل لكي أدخل فيها، وأعترف للرب. هذا باب الرب والصديقون يدخلون فيه انتهى.
وفي المزمور الخمسين بعد المائة، وهو آخر مزامير الزبور، لأنه مائة وخمسون مزمورا، كل مزمور نحو صفحة في نصف قطع وقد يزيد على ذلك، وقد ينقص عنه. ولفظ هذا المزمور الذي هو آخر المزامير: سبحوا لله في قديسية، سبحوه في فلك قوته، سبحوه على مقدراته، سبحوه نظير كثرة عظمته، سبحوه بصوت البوق، سبحوه بالمزمار والقيثارة، سبحوه بالدف والصنج، سبحوه بالأوتار والأرغن، سبحوه. بمعازف حسنة النغمة، سبحوه. بمعازف التهليل، كل نسمة فلتسبح الرب انتهى.
وجميع ما اشتمل عليه الزبور الشكاية إلى الله من أعداء داود- عليه السلام- والاستنصار به عليهم، والشكر لله على نصره لداود عليهم، والإرشاد إلى التسبيح والشكر. هذا هو الغالب. وقد يذكر نادرا شيئا من الأحكام، وقد يذكر المسيح- عليه السلام- في مواضع منه على طريق التبشير به.
وأول ذكر للمسيح في المزمور الثاني من مزامير الزبور في التوراة عند ذكر الأعياد في السفر الثالث (1): إذا دخلتم الأرض التي أعطيتكم ميراثا تسبت الأرض سبتا للرب.
_________
(1) وهو سفر اللاويين ويقع في (27) إصحاحا، ويحتوي على شئون العبادات وخاصة القرابين والطقوس الكهنوتية وكانت الكهانة موكولة إلى سبط لاوي بن يعقوب فلذلك نسب السفر إليهم.(2/602)
ازرعوا مزارعكم ست سنين، واكسحوا كرومكم ست سنين، واستغلوا غلالكم ست سنين. فأما السنة السابعة فلتكن سنة الراحة للأرض، لا تزرعوا مزارعكم، ولا تكسحوا كرومكم، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم [7]، ولبنيكم، ولعبيدكم، ولإمائكم، ولإخوانكم، وللسكان الذين يسكنون معكم. واحصوا سبع مرات سبعا سبعا تسعا وأربعين سنة، وقد سوا سنة خمسين، وليكن رد الأشياء إلى أرباها، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة، ولا تحصدوا ما ينبت فيها ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد. إلى أن قال: وإن قلتم من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها؟ فلا تهتموا لأني منزل لكم بركاتي في السادسة، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى السنة التاسعة.
وأما الأرض فلا تباع بيعا صحيحا أبدا، لأن الأرض لي، وإنما أنتم سكان، وحيث ما بيعت الأرض في ميراثكم فلتخلص، وترد في سنة الرد انتهى.
ففي هذا أن الأرض تسبت السنة السابعة على الصفة المذكورة، وأن الأرض لا تباع بيعا صحيحا، وأنها ترد في سنة الرد، وهي السنة الموفية خمسين سنة.
وفي السفر الثالث أيضًا من التوراة ذكر من يحرم نكاحه من النساء، وذكر تحريم الزنا، وتحريم اللواط، ولفظها في تحريم اللواط: أنا الله ربكم لا تضاجعوا الذكور، ولا تركب من الذكر ما ترتكب من المرأة، لأنه فعل نجس، ولا بهيمة، ولا تلق زرعك فيها فتنجس ها، والمرأة أيضًا لا تقوم بين يدي بهيمة تطؤها لأنه فعل نجس.
وقال في السفر (1) الثاني: ولا تصدقن الحبر الكاذب، لا توال الخبيث لتكون له شاهد زور، لا تتبعن هوى الكبر فتسيء، لا تشايعن الكبر. وقال فيه: لا تحيفن في
_________
(1) وهو سفر الخروج وقد تقدم.(2/603)
قضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب.
وقال في السفر الخامس (1): ولا تحيفوا في القضاء، واسمعوا من الصغير كما تسمعوا من الكبير، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شاع! نه، وكثرت أمواله. وقال فيه: صيروا لكم قضاة وكتابا في جميع قراكم، ويعطون للشعب قضاء العدل والبر لا تحيفن في القضاء، ولا تحابوا، ولا ترشوا، لأن الرشوة تعمى أعن الحكام في القضاء، ولكن أقضي بالحق [8].
وفي الفصل العشرين من السفر الثاني من التوراة ما لفظه: أنا الله ربك الذي أخرجتك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك معبود آخر من دوني، لا تصنع لك منحوتا، ولا شبها لما في السماء من العلو، وما في الأرض مثلا، وما في الماء تحت الأرض لا تسجد لهم ولا تعبدها لأني الله ربك القادر الغيور، مطالب بذنوب الآباء مع البنين والثوالث والروابع لشأني انتهى.
وفي الفصل الحادي والعشرين منه ما لفظه: ومن ضرب أباه وأمه فليقتل قتلا، وفيه ما لفظه: ومن شتم أباه وأمه فليقتل قتلا انتهى.
وفي الفصل الثالث والعشرين منه ما لفظه: ولا تقبل خبرا زورا، ولا تخاطب ظالما لتكون له شاهد ظلم. وفيه ما لفظه: ولا تأخذوا رشوة، فإن الرشاء يعمى البصر، أو تزيف الأمور العادلة انتهى.
وفي الفصل الثامن عشر من السفر الثالث من التوراة ما لفظه: واحفظوا رسومي وأحكامي، فإن جزاء من عمل ها أن يجي الحياة الدائمة انتهى.
_________
(1) وهو سفر التثنية: يقع في (34) إصحاحا وحمى بذلك لإعادة ذكر الوصايا العشر وتكرار الشريعة والتعاليم مرة ثانية على بط إسرائيل عند خروجهم من أرض سيناء، وهذا السفر الذي ينهى التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام ورد في آخرها النص الآتي " فمات هناك موسى، عبد الرب في أرض مؤاب بأمر الرب وتم دفنه في الوادي قي أرض مؤاب تجاه بيت ناعور ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ....
".(2/604)
وفي الفصل التاسع عشر منه ما لفظه: لا تصنعوا جورا في الحكم، ولا تحابوا فقيرا ولا تجثوا عظيما، بل أحكم فيما بين قومك بالعدل انتهى.
وفيه أيضًا ما لفظه: ولا تتطيروا ولا تتفاعلوا انتهى.
وفيه: ولا تولوا إلى المشعوذين والعرافين، ولا تطلبوا أن يعصوني بذلك، أنا الله ربكم. انتهى.
وفي الفصل العشرين منه ما لفظه: وقل لهم: أي إنسان من بني إسرائيل ومن الغرماء الدخيلين فيما بينهم يعطط من نسله للصنم فليقتل قتلا، وهو أن يرجمه أهل بلده بالحجارة انتهى.
وفيه: وأي إنسان لعن أباه وأمه فليقتل قتلا لما لعن أباه وأمه فقد حل دمه. وأي رجل زنا بزوجة رجل، أو زنا بامرأة صاحبه فليقتل الزاني والزانية قتلا انتهى.
وفيه: وأي رجل ضاجع ذكرا على فن مضاجعة النساء فقد صنعا جميعا كريهة، وليقتلا قتلا فقد حل دماهما انتهى.
وفيه: وأي رجل جعل مضاجعته مع بهيمة فليقتل قتلا والبهيمة أيضًا فاقتلوها، وأي امرأة تقدمت إلى بهيمة لتتروها فاقتلوا المرأة والبهيمة لما صنعا داهية فقد حل دمهما بذلك انتهى.
وفيه: وأي رجل أو امرأة كان واحدا منهما مشعوذا أو عرافا فليقتلا قتلا وبالحجارة يرجمونهما فقد حفت دماؤهما انتهى.
وفي الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: ولا تأخذ من عينة (1) ولا ربا، وخف
_________
(1) العينة: هو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها منه.
النهاية
(3/ 333 - 334). وقد قال: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ". من حديث ابن عمر. اخرج أبو داود رقم (3462) وهو حديث صحيح لطرقه.(2/605)
من ربك حتى يعيش معك، ولا يدفع إليك ورقك وطعامك بعينة ولا بربا انتهى.
وفي الفصل السادس والعشرين منه ما لافظه: ولا تصنعوا لكم أوثانا ومنحوتا ونصب، لا تصنعوا لكم (1) حجرا مزخرفا، لا تصنعوا في بلدكم لتسجدوا له أنا الله ربكم انتهى. وفي الفصل السابع والعشرين منه ما لفظه: وجميع أعشار الأرض من حبها ومن ثمر الشجر فهو لله قدسا، وإن أفتك إنسان شيئا من أعشاره فليرد عليه خمس ثمنه وجميع أعشار البقر والغنم ما يحز منه تحت أنعما فالعشر منه تكون قدسا لله، لا يفحص عن جيد أو رديء ولا يغيره، فإن غيره فقد صار هو وبدينه قدسا لله لا يفك انتهى [9]. وفي الفصل السادس عشر من السفر الخامس (2) من التوراة ما لفظه: واجعل لك حكاما وعرفاء في جميع محالك التي يعطيها الله ربك أسباطك، يحكموا فيما بين الناس حكم عدل، ولا تميلوا علماء، ولا تحابوا الوجوه، ولا تأخذوا الرشاء، لأن الرشا يعمى عيون العلماء عن الحق، وتزيف الأقوال العادلة انتهى.
وفي الفصل الثامن عشر منه ما لفظه: لا يوجد فيكم مشتعل ابنه أو ابنته بالنار، ومنجم تنجيمات، ومتفائل، ومتطير، وساحر، وراق رقئ، وسائل مشعوذ، أو عراف، أو ملتمس من الموتى، لأن الله ربك يكره كل من يصنع هذه الصنائع وبجريرتها هو قارضهم من بين يديك، بل كن ساذجا لله ربك انتهى.
وفي الفصل الحادي والعشرين منه: وإذا كان لرجل ابن زائغ مخالف، ليس يقبل أمر أبيه وأمر أمه، ويؤدبانه فلا يقبل منهما فليقبض عليه أبوه وأمه ويخرجا إلى شيوخ قريته، وإلى باب حاكم موضعه فيقولا لهم: ابننا هذا زائغ ومخالف ليس يقبل أمرنا، وهو مسرف ومفرط في الحرام، فيرجه جميع شيوخ قومه بالحجارة حتى يموت ... انتهى.
وفي الفصل الثالث والثلاثين منه ما لفظه: يا الله الذي تجلى نوره من طور سيناء،
_________
(1) في المخطوط (و) زائدة حفظتها ليستقيم المعنى.
(2) تقدم التعريف به.(2/606)
وأشرق نوره من جبل سيعير (1)، ولوح به من جبل فاران (2) وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم انتهى.
وإلى هنا انتهى النقل عن التوراة مع مطالعتها وهى خمسة (3) أسفار كل سفر مشتمل على فصول.
وفي الفصل الثالث والعشرين من كتاب يوشع بن نون (4) ما لفظه: وباسم معبوداتهم لا تذكرون، ولا تحلفون، ولا تعبدونهم، ولا تسجدون لهم، بل لله ربكم، وبه تتمسكون كما فعلتم إلى هذا اليوم ... انتهى.
وفي الفصل الخامس من وصايا سليمان- عليه السلام- ما لفظه: لأن أرجل الغباوة تحذر الذين يستعملونها، وتحطهم بعد الموت إلى الجحيم. انتهى.
وفي الفصل العاشر منها ما لفظه: الرب لن يقتل بالجوع نفسا عادلة ... انتهى.
وفي الفصل السادس والعشرين من نبوة أشعيا النبي ما لفظه: تقوم الموات، ويستيقظ الذين في القبور انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من نبوة دانيال (5) ما لفظه: وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعيير وخزي أبدي ... انتهى.
جملة أنبياء بني إسرائيل بعد موسى الذين لهم كتب وقفنا عليها، أولهم ......................
_________
(1) سيعير، فاران. تقدم في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9) وقد ذكرت في البشارات.
(2) سيعير، فاران. تقدم في رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9) وقد ذكرت في البشارات.
(3) ذكر هنا السفر الثاني، الثالث، الخامس، أما الأول: وهو سفر التكوين: يقع قي (50) إصحاحا وعي بذلك لاشتماله على قصة خلق العالم ثم قصص آدم وذريته ونوح وإبراهيم وذريته وينتهي، هنا السفر باستقرار بني إسرائيل. بمصر ومرت يوسف عليه السلام.
والرابع: هو سفر العدد ويقع في (36) إصحاحا، وعى بذلك لأنه حافل بالعد والإحصاء لأسباط بني إسرائيل ومما يتمكن إحصاؤه من شئونهم ويتخلل ذلك بعض الأحكام والتشريعات.
(4) سيأتي التعريف به لاحقا.
(5) تقدم التعريف به- رسالة " إرشاد الثقات " رقم (9).(2/607)
يوشع (1) بن نون خادم موسى، ثم صمويل الصبي، ثم اليسع، ثم داود، ثم سليمان، ثم عزرا الكاتب، وهو المسمى في القرآن عزير، ثم إيليا، وفي السفر الثاني من أسفار الملوك من التوراة أنه رفع إلى السماء، وهو المسمى في القران إلياس، ثم أيوب، ثم أشعيا بن أموص، ثم أرميا، ثم خزقيال، ثم دانيال، ثم هوشع، ثم يوييل، ثم عاموص، ثم عويذا، ثم يونان وهو المسمى في القرآن يونس ذو النون، ثم ميخا ثم ناحوم، ثم حبقوق، ضم صفونيا، ثم حجي، ثم زكريا، ثم ملاخيا، ثم المسيح بن مريم- سلام الله عليهم (2) جميعا-.
_________
(1) يوشع بن نون عليه السلام كان احمه في الأصل (هوشع، يهوشوع) ثم دعاه موسى يوشع ومعناه (يهود خلاص) وهو خليفة موسى الذي قاد بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة ومحاربة لله أهلها وأنه أمر الشمس بالوقود والتأخير قي المغيب ليتم له فتح الأرض والنصر على أعدائه. .
وينسب إليه سفر باسمه عدد إصحاحاته (24) إصحاحا، وكاتب هذا السفر مجهول وقد ينسب إلى أشخاص متعددين.
قاموس الكتاب المقدس (عندهم) (ص 1068). .
يوشع بن نون: ورد النص على نبوته وأنه خليفة موسى في بني إسرائيل فيما أخرجه البخاري رقم (3124) ومسلم رقم (1747).
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا آخر قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال فغزا فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حق فتح الله عليه .... ". .
ويتبين لنا اسم هذا النبي الذي حبست له الشمس من الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 325) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الشمس تحب على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس " وهو حديث صحيح.
(2) إن الأنبياء الذين ورد ذلك هم في القرآن يجب الإيمان هم تفصيلا أي بأشخاصهم وأسمائهم وهم [آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وداود،(2/608)
في الفصل الخامس من الإنجيل المسيحي جمع (متى) ما لفظه: ومن قال لأخيه أحمق فقد [10] وجبت ع! ليه نار جهنم انتهى.
وفي هذا الفصل ما لفظه: إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحذ أعضائك من أن يهلك جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك، فإنه لخير لك أن يهلك أحد أعضائك من أن يذهب جسدك كله في جهنم انتهى.
وفي الفصل العاشر منه ما لفظه: لا تخافوا ممن يقتل الجسد، ولا يستطيع أن يقتل النفس، خافوا ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد جميعا في جهنم ... انتهى.
وفي الفصل الثالث عشر منه: إن الملائكة مجمعون كل أهل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار حيث البكاء وصرير الأسنان انتهى.
وفيه أيضًا ما لفظه: هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان تخرج الملائكة ويفرزون
__________
= وسليمان، وأيوب، وإدريس، ويونس، وهود، وشعيب، وصالح، ولوط، وإلياس لم واليسع، وذو الكفل، وزكريا، ويحيى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين وكذلك يوشع بن نون كما تقدم ثبتت نبوته بالسنة النبوية. .
وأما بقية الأنبياء فإنه يجب الإيمان هم جملة كما قال تعالى: {ورسلا قد قصصنهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} [النساء: 164]. وقال تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24]. .
وأما ما ورد عن بني إسرائيل وفي كتبهم المقدمة لديهما من أخبار بتسمية بعض الأشخاص بالأنبياء كأشعياء وأرميا وصفينا وهوشع وغيرهم ها لم يقم على نبوتهم دليل من القرآن الكريم أو السنة الصحيحة فإننا لا نكذبه ولا نصدقه لأن خبرهم يحتمل الصدق والكذب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: & ءامنا بالله وما أنزل إلينا " [البقرة: 136].
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7542) ورقم (4485 و7362).(2/609)
الأشرار من وسط الأخيار، ويلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان ...... انتهى.
في الفصل الثالث والعشرين منه: ذكر الزنادقة الذين يقولون ليس قيامة، وهذا التصريح بأن إنكار القيامة إنما هو قول الزنادقة لا قول أهل الملل المتقدمة.
في الفصل الخامس والعشرين منه ما لفظه: حينئذ يقول للذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وجنوده انتهى.
وفيه ما لفظه: فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة المؤبدة ...
وفي التاسع من الإنجيل الذي جمعه مرقس ما لفظه: فإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعسم (1) من أن تكون لك يدان وتذهب إلى جهنم في النار حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ. وإن شككتك رجلك فاقطعها؟ فخير لك أن تدخل الحياة أعرج من أن يكون لك رجلان وتلقى في جهنم في النار، حيث دودهم لا يموت، ونارهم لا تطفأ انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر منه التصريح بأن الزنادقة هم الذين يقولون: ليس تكون قيامة.
وفي الإنجيل الثالث الذي جمعه لوقا في الفصل السادس عشر منه: ثم مات أيضًا ذلك الغني وقبر فرفع عينه وهو معذب في الجحيم ... انتهى.
وفيه أيضًا ذكر الزنادقة الذين يقولون ليست قيامة، وذلك في الفصل العشرين منه.
وفيه ما لفظه: فأما أن الموتى يقومون فقد أنبا بذلك موسى ... انتهى.
_________
(1) أعسم: القسم: يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم.
عسم عسما وهو أعسم، والأنثى عسماء، والقسم: انتشار رسغ اليد من الإنسان.
لسان العرب (9/ 212)(2/610)
وفي الفصل الثالث والعشرين منه: إن المسيح قال للمصلوب الذي آمن به: إنك تكون معي في الفردوس.
وفي الإنجيل الرابع الذي جمعه يوحنا في الفصل الخامس منه: فإنه سيأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الحسنات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدنيوية ... انتهى.
في الفصل السادس (1) عشر منه ما لفظه: لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المغربي (2)، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جادلكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة، وعلى البر، وعلى الحكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فإني منطلق إلى الآن، ولستم تروني، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم يدان، وأن لي كلاما كثيرا لستم تطيقون حمله الآن، فإذا جاء روح الحق ذلك فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم. مما ع، ويخبركم. مما يأتي انتهى. وهذا متضمن لبشارة نبينا محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[11]
_________
(1) من إنجيل يوحنا (16/ 7 - 16).
(2) ولعل هذا في النسخة القديمة وفي الحالية " الفارقليط " وقد تقدم شرحها- رسالة " إرشاد الثقات "- رقم (91).(2/611)
الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/613)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: " الإثبات لالتقاء أرواح الأحياء والأموات ".
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وصحبه الأعظمين. وبعد: وردت مسائل طلب السائل كثر الله فوائده الجواب: أولها: قوله: ما يخبرون من أحوال الموتى، وما آل إليه أمرهم في البرزخ، ويزعمون ....
4 - آخر الرسالة:
ولا يأخذوا منها شيئا، فإن أخذوا فهو منكر يجب إظهاره عليهم ولو كان مصرفا فلا يجوز له أن يصرف زكاته في نفسه.
وإلى هنا انتهى الجواب بقلم كاتبه: محمد ب! ت علي الشوكاني غفر الله له.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الأوراق: (6) ورقات وورقة للعنوان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 27 - 29 سطرا.
9 - عدد الكلمات في الأسطر: 12 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(2/615)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الأكرمين، وصحبه الأعظمين.
وبعد:
وردت مسائل طلب السائل- كثر الله فوائده- الجواب:
أولها: قوله: ما يخبرون من أحوال الموتى، وما آل إليه أمرهم في البرزخ (1)، ويزعمون أهم يتكلمون ويخبرون. مما أسلفوه وراءهم من أعمال الدنيا مثل رد وديعة، أو يخلد من شيء في الذمة، أو شيء مما يتعلق بأحواله الماضية إلى أن قال: وهذا من غرائب المنفقات مع أنه قد قال تعالى في حال الموتى: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهليهم يرجعون} (2)، {وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلى} (3) فإن كان الأمر كما وصف فما الموصل إلى هذا الأمر وحقيقته؟ فهذا شيء ما جاء عن الرسول، ولا أحد من أهل العلم به يقول.
أقول وبالله التوفيق وعليه التوكل: الجواب على هذا السؤال من وجوه:
الوجه الأول: أنه قد ثبت عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- تواترا أن الأموات يسألون في قبورهم (4) عن ربهم، وعن نبيهم، وما قيل لهم، وما قالوا. وهذا يدل أبلغ
_________
(1) انظر الرسالة رقم (18) من مجلدنا هدا.
(2) [يس: 50]
(3) [الأحقاف: 9]
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1338) وطرفه رقم (1374) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العبد إذ وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد!؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله: فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة". .
وأخرج أحمد قي المسند (4/ 287، 288، 295، 296، 297). وأورده الهيثمي في المجمع (3/ 49 - 50) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه الطيالسي في المسند رقم (753) والآجري في الشريعة (ص 367 - 370) والحاكم في المستدرك (1/ 37 - 40) وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. وأقرهما الألباني في الجنائز (ص 202). وهو حديث صحيح.
من حديث البراء بن عازب قال: حرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكث به في الأرض، فرفع رأسه فقال " استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين أو ثلاثة.
ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس .... إلى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فتعاد روحه، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله ر!. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت. ". وهو حديث طويل.(2/619)
دلالة على إمكان الكلام منهم في البرزخ، وإذا كان ممكنا فلا مانع من عقل، ولا من شرع أن يلتقي روح بعض الأموات مع روح بعض الأحياء، فيجري بينهم من الخطاب ما يجري بين الأحياء، ويعيى روح الحط ما سمعه من روح الميت. وسيأتي- إن شاء الله- وما وقع من ذلك في أيام الصحابة فمن بعدهم.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت بالأحاديث (1) المتواترة عذاب القبر لمن يستحقه، ومعلوم
_________
(1) نعم بلغت نصوص السنة في إثبات عذاب القبر مبلغ التواتر إذ رواها أئمة السنة وحملة الحديث وتعاده عن الجم الغفير والجمع الكثير من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم: 1/
حديث أنس تقدم تخريجه في هذه الرمالة وهو حديث صحيح (ص 619 - 620). 2/ البراء بن عازب تقدم تخريجه في هذه الرسالة وهو حديث صحيح (ص. 62). 3/ حديث عبد الله بن عباس أخرجه البخاري في صحيحه رقم (216) وأطرافه [218، 1361، 1378، 6052، 6055]. ومسلم في صحيحه رقم (292) وأبو داود رقم (20) والترمذي رقم (70) وابن ماجة رقم (3471) والنسائي (1/ 28 - 30 رقم 31). "
مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير " ثم قال: " بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله " ثم قال: " أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا. 14 حديث عبد الله بن عمر أخرجه البخاري رقم (1379) وطرفاه 3240، 6515 ومسلم رقم (2866) والترمذي رقم (1072) والنسائي (4/ 107 - 108) وابن ماجة رقم (4270) وأحمد (2/ 51 - 113). أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ". 5/ حديث عائشة أخرجه البخاري رقم (1049) وأطرافه [1055، 1272، 6366] عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عائذا بالله من عذاب القبر ". 6/ حديث أسماء بنت أبي بكر أخرجه البخاري رقم (1373). " قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب فذكر فتنة القبر القط يفق فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة ". 7/ حديث أبي أيوب الأنصاري أخرجه البخاري رقم (1375). قال: خرج البني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال: يهود تعذب في قبورها. 8/ حديث أم خالد فقد أخرجه البخاري رقم (1376): عن موسى بن عقبة قال: " حدثتني ابنة خالد بن سعيد بن العاص أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتعوذ من عذاب القبر ". 9/ حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (4/ 364) وابن ماجة رقم (4268) وهو حديث صحيح. 0 1/ حديث أبي سعيد أخرجه أحمد (3/ 3، 233، 346) وهو حديث صحيح.
وفيه " ..... وإن كان كافرا أو منافقا يقول له- ملك في يداه مطراقة- ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا، فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو كنت آمنت بربك، فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا فيفتح له بابا إلى النار، ثم يقمعه قمعة بالمطراق فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين ". 11/ حديث حمرة أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1386) وهو حديث طويل.(2/620)
أنه لا يعذب إلا وروحه معه، وإدراكه، ولو لم يكن كذلك لكان العذاب الواقع على مجرد الجسم بلا روح ولا إحساس ليس بعذاب، لأن إدراك الألم واللذة مشروط بوجود ما به الإدراك. وإلا فلا إدراك لمن ليس له حياة ولا إحساس لمن لا روح له. وهذا أمر معقول لا يخالف فيه من له أدنى تعقل فضلا عن من له التعقل التام، والإدراك الصحيح. وإذا تقرر لك [1 أ] هذا فأي مانع من ملاقاة روح الحي في منامه لروح هذا الميت فيخبره ببعض الأخبار.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت تواترا أن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- كان يزور القبور، ويخاطبهم. مما يخاطب به الأحياء كقوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا بكم- إن شاء الله- لاحقون، نسأل الله ولكم العافية " (1).
الوجه الرابع: أنه- صلى الله عليه واله وسلم- خاطب أهل قليب (2) بدر، ثم قال لمن عنده: (ما أنتم بأسمع منهم) ولا يسمع الخطاب إلا حي، ووقوع هذا منه- صلى الله عليه واله وسلم- مع أهل القليب متواتر، وما روي (3) عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- من الاحتجاج بعموم القرآن لا ينافي هذا الخاص.
الوجه الخامس: ما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي (9414 رقم 2040) وابن ماجة رقم (1547) والبغوي في شرح السنة رقم (1555) وأحمد في المسند (5/ 353 و360). كلهم من حديث سليمان ابن بريدة عن أبيه.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (104/ 975) والنسائي (9414 رقم 2040) وابن ماجة رقم (1547) والبغوي في شرح السنة رقم (1555) وأحمد في المسند (5/ 353 و360). كلهم من حديث سليمان ابن بريدة عن أبيه.
(3) انظره في الرسالة رقم (23) من هذا القسم.
(4) تقدم تخريجه آنفا (ص 621).(2/622)
الله- صلى الله عليه واله وسلم- قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعد بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار " وقد نطق بذلك الكتاب العزيز في حين أهل النار (1) يعرضون عليها غدوا وعشيا. والعرض يستلزم الإدراك، وإلا كان عبثا ليس فيه فائدة. وفي العرض أحاديث (2) كثيرة. الوجه السادس: ما ثبت في أحاديث (3) كثيرة أنها تعرض أعمال الأحياء على الأموات، وذلك يستلزم الإدراك الذي لا يتم إلا بالحياة.
الوجه السابع: ما أخرجه ابن حبان في كتاب الوصايا (4)، والحاكم في المستدرك (5)، والبيهقي (6) وأبو نعيم (7) كلاهما في الدلائل عن عطاء الخراساني قال: حدثتني ابنة ثابت-
_________
(1) قال تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 146].
(2) انظر الأحاديث المتقدمة (ص 619 - 621).
(3) بل وردت أحاديث ضعيفة في " معرفة الموتى في قبورهم بحال أهليهم وأقاربهم في الدنيا " والحديث الضعيف لا تقوم به حجة.
انظر: " أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور " لأبي الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (ص 150 - 157).
- " المنامات " لابن أبي الدنيا (ص 18 - 22).
- " شرح الصدور " للسيوطي (ص 342 - 345).
- كتاب الترغيب والترهيب للحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الجوزي الأصبهاني المعروف بـ (قوام السنة). (1/ 42 - 145 رقم 156، 157، 158، 159، 165، 161، 162، 163، 164).
- وضعيف الجامع رقم (1395) و (1396) والضعيفة رقم (863 و864).
(4) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " (ص 353).
(5) (3/ 235) وقال الحاكم: " صحيح " ووافقه الذهبي.
(6) في الدلائل (356/ 6 - 357).
(7) في الدلائل (2/ 730 - 731).(2/623)
ابن قيس بن كاس أن ثابتا قتل يوم اليمامة وعليه درع له نفسية، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه: إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين، فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه وبين لبستي في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل فأت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- يعني أبا بكر الصديق- رضي الله عنه - فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان وفلان من رقيقي عتيق، وفلان، فأتى الرجل خالدا وأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى ها، وحدثت أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته [1ب] أ غير ثابت، فهذا كما ترى وهو وحده يكفي في جواب السؤال.
وأخرج الحاكم في المستدرك (1)، والبيهقي في الدلائل (2) عن كثير بن الصلت قال: أغفى عثمان- رضي الله عنه - في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: إني رأيت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في منامي هذا فقال: إنك شاهد معنا الجمعة.
وأخرج أيضًا (3) عن ابن عمر أن عثمان أصبح فحدث فقال: إني رأيت النبي- صلى الله عليه واله وسلم- الليلة في منامي، فقال يا عثمان: أفطر عندنا فأصبح عثمان صائما. وقتل من يومه.
_________
= وأورده الهيثمى في المجمع (9/ 322) وقال رواه الطبراني وبنت ثابت بت قيس لم أعرفها، وبقية رجاله ثقات.
(1) (9913) وقال: هدا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) (7/ 47 - 48). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 232): رواه أبو يعلى وفيه أبو علقمة مولى عبد الرحمن بن عود ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
(3) أخرجه البيهقي والدلائل (7/ 48).(2/624)
وأخرج الحاكم (1) والبيهقي في الدلائل (2) عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة وهى تبكى فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- في المنام يبكي، وعلى رأسه ولحييه التراب، فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: وشهدت قتل الحسين آنفا.
وأخرج ابن أبي الدنيا (3)، وابن الجوزي في كتاب عيون الحكايات (4) بسنده عن شهر ابن حوشب أن الصعب بن جثامة، وعوف بن مالك، وكانا متواخين، فقال الصعب لعوف: أي أخي، أينا مات قبل صاحبه فليتراءى له قال: أو يكون ذلك؟ قال نعم، فمات الصعب فراه عوف في اليوم فقال: ما فعل بك قال: غفر لي بعد المشاق. قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه، قلت: ما هذه؟ قال: عشره دنانير استلفتها من فلان اليهودي فهي في قرني فأعطوه إياها.
واعلم أنه لم يحدث في أهلي حدث بعد موتي إلا قد لحق لي خبره حتى هرة ماتت يوم كذا. واعلم أن بنتي تموت إلى ستة أيام، فاستوصوا بها معروفا قال: عوف: فلما أصبحت أتيت أهله، فنظرت إلى القرن وهو بالقاف محركا حجبه النشاب فأنزلته، فإذا فيه عشرة دنانير في صرة، فبعثت إلى اليهودي فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعبا كان من خيار أصحاب رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) في المستدرك (4/ 19) وفي سند الحاكم تحريف عجيب. فقد أخرجه الترمذي رقم (3860) والطبراني في الكبير (23/ 882) وقال الترمذي: غريب. وذلك لجهالة سلمى.
(2) (4817). وخلاصة القول أن الخبر ضعيف والله أعلم.
(3) في المنامات رقم (25).
وأورده ابن القيم نقلا عن ابن أبي الدنيا. وقال: صح عن حماد بن سلمة. ثم ذكر الأثر كاملا.
وقال: وهذا من فقه عوف رحمه ألله (الروح ص 20 - 21).
(4) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " (ص 352).(2/625)
أسلفته عشرة دنانير فنقدتها إليه قال: هي والله بأعيانها فقلت: هل حدث فيكم حدث بعد موت الصعب قالوا: نعم حدث فينا كذا، وحدث فينا كذا، فمازالوا يذكرون حتى ذكروا موت الهرة، قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب فأتيت ها ومسستها فإذا هي محمومة فقلت: استوصوا ها معروفا فماتت لستة أيام.
وأخرج ابن المبارك في الزهد (1) عن عطية بن قيس، عن عوف بن مالك الأشجعي أنه كان مؤاخيا لرجل يقال له: محلم، ثم إن محلما حضرته الوفاة، فأقبل عليه عوف فقال له: إذا أنت وردت فارجع إلينا فأخبرنا بالذي صنع بك قال محلم: إن كان ذلك يكون لمثلي فعلت، فقبض [2أ] محلم، ثم ثوى عوف بعده عاما فرآه في منامه فقال: يا محلم، ما صنعت، وما صنع بك؟ قال: وفينا أجورنا كفها إلا الأحراض (2)، وهم الذين يشار إليهم بالأصابع في الشر، والله لقد وفيت أجري كفه، حتى أجر هرة ضلت لأهلي قبل وفاتي بليلة فأصبح عوف إلى امرأة محلم، فلما دخل قالت: مرحبا فقال عوف: هل رأيت محلما منذ توفي قالت: نعم (3) رأيته البارحة، ونازعني ابنتي ليذهب بها معه، فأخبرها عوف بالذي رأى، وذكره الهرة التي ضلت. فقالت: لا علم لي بذلك، خدمي أعلم فدعت خدمها فسألتهم فأخبروها أنها ضلت لهم هرة قبل موت محلم بليله، ومحلم هو ابن جثامة أخو الصعب.
وأخرج النسائي (4) عن خزيمة قال: رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي
_________
(1) (2/ 633 رقم 779) بسند ضعيف.
(2) قال صاحب لسان العرب (12713): الحرض: الرديء من الناس والكلام. والجمع أحراض. وقيل: هم الدين يشار إليهم بالأصابع أي اشتهروا بالشر.
وقيل: هم الذين أسرفوا في الذنوب فأهلكوا أنفسهم.
وقيل: الذين فسدت مذاهبهم.
(3) في الأصل مكرر.
(4) في السنن الكبرى (4/ 384 رقم 7631/ 3).(2/626)
- صلى الله عليه واله وسلم- فأخبرته بذلك. فقال: إن الروح لتلقى الروح.
وأخرج ابن أبي (1) الدنيا أن عفيف بن الحارث قال لعبد الله بن عائذ الصحابي - رضي الله عنه - حين حضرته الوفاة: إن استطعت أن تلقاني فتخبرنا ما لقيت بعد الموت، فلقيه في منامه بعد حين فقال له: ألا تخبرنا قال: نجونا، ولم نكد أن ننجو نجونا بعد المشيبات فوجدنا ربا خير رب، غفر الذنب، وتجاوز عن السيئة إلا ما كان من الأحراض، قلت له: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشر.
وأخرج ابن أبي الدنيا (2) عن أبي الزاهية قال: عاد عبد الأعلى بن عدي ابن أبي بلال الخزاعي فقاله عبد الأعلى: أقرء رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مش السلام، وإن استطعت أن تلقانا فتعلمني ذلك، وكانت أم عبد الله أخت أبي الزاهرية تحت ابن أبي بلال، فرأته في منامها بعد وفاته بثلاثة أيام فقال: إن ابنتي بعد ثلاثة أيام لاحقتي، فهل تعرفين عبد الأعلى؟ قالت: لا. قال: فاسألي عنه، ثم أخبريه أني قد قرأت رسول الله - صلى الله عليه واله وسلم- منه السلام فرد عليه، فأخبرت أخاها أبا الزاهية بذلك فأبلغه.
وأخرج ابن عدي (3)، وابن عساكر في تاريخه (4) عن محمد بن يحيي الجحدري قال:
قال لي ابن الأجلح: قال أبي لسلمة ابن كهيل: إن مت قبلي فقدرت أن تأتيني في يومي
_________
= وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7/ 182) " رواه أحمد بأسانيد، أحدها هدا وهو متصل، والطبراني ورجالهما ثقات " اهـ.
(1) في المنامات رقم (159) بسند حسن.
وأوردهـ السيوطي في " شرح الصدور " (ص 339).
(2) في المنامات رقم (160) بسند حسن.
وأورده السيوطى في " شرح الصدور " ص 359.
(3) في المنامات رقم (160) بسند حسن.
وأورده السيوطى في " شرح الصدور " ص 359.
(4) عزاه إليه السيوطى في شرح الصدور ص 360.(2/627)
فافعل، قال سلمة: وأنت إن مت قبلي فقدرت أن تأتيني في نومي فتخبرني. مما رأيت فافعل، فمات ابن سلمة قبل الأجلح فقال لي: أي بني علمت أن سلمة أتاني في نومي فقلت: أليس قدمت؟ قال [2ب]: إن الله قد أحياني قلت: كيف وجدت ربك؟ قال: رحيما. قلت: أيش رأيت أفضل الأعمال التي يتقرب بها العباد؟ قال: ما رأيت عندهم أشرف من صلاة الليل. قلت: كيف وجدت الأمر قال: سهلا، ولكن لا تتكلموا.
وأخرج أحمد في الزهد (1)، وابن سعد في الطبقات (2) عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: كان عمر بن الخطاب- خنه- لي خليلا، وإنه لما توفي لبثت حولا أدعو الله أن يرنيه في المنام قال: فرأيته على رأس الحول يمسح العرق عن جبهته قلت: يا أمير المؤمنين، ما فعل بك ربك؟ فقال: هذا أوان فزعت، وإن كان عرشي ليهد لولا أني لقيت ربا رؤوفا رحيما.
وأخرج ابن سعد (3) عن سالم بن عبد الله قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: دعوت الله أن يري! ط عمر في اليوم فرأيته بعد عشر سنين وهو يمسح العرق عن جبينه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما! لت؟. فقال: الآن فرغت، ولولا رحمة ربي لهلكت. وأخرج ابن سعد (4) أيضًا عن عبد الله بن عمرو قال: ما كان شيء أحب إلي أن أعلمه من أمر عمر فرأيته في المنام قصرا فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر، خرج من القصر عليه ملحفة كأنه قد اغتسل فقلت: كيف صنعت؟ قال: خيرا، كاد عرشي يهوي لولا أني لقيت ربا غفورا. قلت: كيف صنعت؟ قال: متى فارقتكم؟ قلت:
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور" (ص 360)
(2) (3/ 375).
(3) في الطبقات (3/ 375).
(4) في الطبقات (3/ 376).(2/628)
منذ ثنتى عشرة سنة قال: إنما نقلت الآن من الحساب.
وأخرج ابن عساكر (1) عن مطرف أنه رأى عثمان بن عفان- رضي الله عنه - في اليوم فقال: رأيت عليه ثيابا خضرا قلت: يا أمير المؤمنين، كيف فعل الله بك؟ قال: فعل بي خيرا. قلت: أي الدين خير؟ قال: الدين القيم ليس بسفك الدم.
وأخرج ابن أبي الدنيا (2) عن محمد بن النضر الحارثي قال: رأى مسلمة بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين، ليت شعري إلى أي الحالات صرت بعد الموت؟. قال: يا مسلمة، هذا أوان فراغي، والله ما استرحت إلا الآن. قلت: فأين أنت؟ قال: مع أئمة الهدى في جنات عدن، والقصص في هذا كثير جدا، والتقاء أرواح الأحياء بأرواح الأموات معلوم يتفق منه في كل عصر مع كثير من الناس قصص، فلا حاجة لنا إلى الاستكثار من ذلك. قال الشيخ عز الدين (3) بن عبد السلام: أجرى الله العادة [3أ] إن الروح إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظا، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان، ورأت تلك الروح المنامات إذا فارقت الجسد ". قال ابن القيم (4): تلاقي أرواح الموتى وأرواح الأحياء أدلته أكثر مع أن يحصيها إلا الله تعالى، والحس الواقع من أعدل الشهود فتتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات كما تتلاقى أرواح الأحياء. قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} (5) انتهى، قلت: وفي هذه الآية أعظم دلالة على التقاء أرواح الأحياء، والأموات، لأن أرواح الأحياء عندما يتوفى الأنفس التي لم تمت تصير مجتمعة بأرواح الأموات بجامع
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور ص 361
(2) في المنامات رقم (27) لإسناد منقطع.
(3) في القواعد الكبرى (2/ 381).
(4) في كتاب الروح (ص 28 - 29).
(5) [الزمر: 42].(2/629)
كون الله سبحانه توفى الجميع. أما الأموات فظاهر، وأما الأحياء ففي حالة النوم، وعند ذلك يتساءلون بينهم. وقد أخرج بقي بن مخلد، وابن منده (1) في كتاب الروح، والطبراني في الأوسط (2) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. ولا يخفاك أن ابن عباس- ر! نه- لا يقول هذا من نفسه، إذ لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم الرفع.
وأخرج ابن أبي حاتم (3) عن السدي معناه.
وأخرج جويبر (4) عن ابن عباس في هذه الآية قال: سبب ممدود ما بين المشرق
_________
(1) عزاه إليه ابن كثير في تفسيره (7/ 101).
(2) (1/ 45 رقم 122).
وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 100) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح.
(3) في تفسيره (10/ 3252 رقم 13897).
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 231).
* قال ابن القيم في " الروح " (ص 29 - 30): الأقوال في هذه الآية:-
1/ القول الأول: أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولا، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، والمعنى على هذا القول: أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل بوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الأخرى.
2/ القول الثاني - في الآية-: أن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفى وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكلمه واختار شيخ الإسلام- ابن تيمية- هذا القول وقال: عليه يدل الكتاب والسمة. قال: فإنه سبحانه ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاة النوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك يصفها بإمساك ولا بإرسال، بل هي قسم ثالث.
والذي يترجح هو القول الأول لأنه سبحانه أخبر بوفاتين وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين: قسما قضى عليها بالموت فأمسكها عمده وهى التي توفاها وفاة الموت وقسما لها بقية أحل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولا فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هذه التي توفاها في منامها، فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين: وفاة موت، ووفاة نوم لم يقل {والتي لم تمت في منامها} فإنها من حين قبضت ماتت، وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك {يمسك التي قضى علتها الموت} ولمن نصر هذا القول أن يقول: قوله تعالى: {فيمسك التي قضى عليها الموت} بعد أن توفاها وفاة النوم، فهو سبحانه توفاها أولا وفاة نوم، ثم قضى عليها الموت بعد ذلك، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين، فإله سبحانه ذكر وفاتين وفاة نوم، ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاه وإرسال الأخرى ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفس ميت سواء مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت. فقوله سبحانه & يتوفى الأنفس حين موتها، يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام.(2/630)
والمغرب بين السماء والأرض، فأرواح الموتى إلى أرواح الأحياء إلى ذلك السبب، فتعلق النفس الميتة بالنفس الحية، فإذا أذن لهذه الحية بالانصراف إلى جسدها لتستكمل رزقها أمسكت النفس الميتة، وأرسلت الأخرى.
وأخرج أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الوصايا عن قيس بن قبيصة مرفوعًا " من لم يوصي لم يؤذن له في الكلام مع الموتى. قيل: يا رسول الله، وهل يتكلم الموتى؟ قال: نعم. ويتزاورون ".
وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكني (1) عن جابر مرفوعا: " من مات عن غر وصية لم يؤذن له في الكلام إلى يوم القيامة. قيل: يا رسول الله، ويتكلمون قبل يوم القيامة؟ قال: نعم. ويزور بعضهم بعضا ".
وأخرج الديلمي (2) من طريق أبي هدبة عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ [3ب]: " رأيت امرأتان: واحدة تتكلم، والأخرى لا تتكلم، كلتاهما من أهل الجنة. فقلت لها: أنت تتكلمين، وهذه لا تتكلم فقالت: أما أنا فأوصيت،
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 349).
(2) في الفردوس. بمأثور الخطاب (2/ 258 رقم 3202).(2/631)
وهذه ماتت بلا وصية لا تتكلم إلى يوم القيامة ".
وأخرج الطبراني في الأوسط (1)، وابن أبي الدنيا وأورده الهيثمي في المجمع (32712) وقال فيه مسلمة لن على، وهو ضعيف. (2) عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه - أن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إن نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشر من أهل الدنيا، فيقولون: انظروا صاحبكم يستريح، إنه كان في كرب شديد، ثم يسألونه: ما فعل فلان وفلانة هل تزوجت؟ إذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي، فيقولون: إلا لله وإلا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية ".
والحاصل: أن رؤية الأحياء للأموات في المنام كائنة في جميع الأزمنة منذ عصر الصحابة إلى الآن. وقد ذكر من ذلك الكثير الطيب القرطبي في تذكرته، وابن القيم (3) في كثير من مؤلفاته، والسيوطي في شرح الصدور (4) بشرح أحوال الموتى في القبور.
الوجه الثامن: من وجوه الأدلة المقتضية لالتقاء أرواح الأحياء والأموات، وهو دليل عقلي لا يمكن الإنكار له، ولا القدح في دلالته، ولا التشكيك عليه، وذلك أنه قد وقع في عصرنا فضلا عن العصور المتقدمة أخبار كثيرة من الأحياء أفم رأوا في منامهم أمواتا فأخبروهم بأخبار هي راجعة إلى دار الدنيا، إما بأن فلانا يموت في وقت كذا تصريحا منهم بذلك، أو تلويحا، أو بأن أهلي تركوا كذا أو فعلوا كذا، أو لم ينفذوا وصيتي، أو لم يواصلوني بالدعاء، أو عندي لفلان كذا، أو عند فلان لي كذا، أو يذكر شيئا قد أودعه بطن الأرض، أو خبأه عند بعض من يعرفه فينكشف ذلك صدقا وحقا
_________
(1) (1/ 53 - 54 رقم 148) مرفوعا. وفي الكبير رقم (3887).
(2) في المنامات (ص 28 - 45) مختصرا بإسناد حسن.
(3) في الروح (ص 28 - 45).
(4) (ص 351 - 356).(2/632)
مطابقا لخبره (1). فهذا من الأدلة العقلية القوية. وإذا ضمت هذا الدليل العقلي إلى ما قدمناه لك من الأدلة النقلية انقلع عنك شكال الإشكال، واندفع عنك عضل الإعضال- إن شاء الله-.
وأما قول السائل- كثر الله فوائده-: فإن قيل أنها خصائص لبعض الأفراد فقد يتأهل لها ناس كير مرضين، فهل يجوز العمل هذه الأخبار ويترتب عليها أحكام أم ماذا يكون حالها؟ [4أ].
أقول: أما من لم يكن من أهل العدالة فأخباره مردودة غير مقبولة في اليقظة عن الأحياء فضلا عن الأموات، ولكن إذا أخبرنا عن الميت بشيء مطابق للواقع توجه العمل بذلك الخبر لكونه انكشف صحيحا، وأما إذا كان المخبر عدلا فيتعين قبول خبره، لكن إذا كان في حق له على الغير وجب الكشف كما وقع في الدليل السابع الذي قدمناه عن ثابت بن قيس بن تهاس، وأما إذا أخبر بأن عند فلان لفلان كذا، أو فلان فعل بفلان كذا فيجعل ذلك قرينة، فإن صح ما ذكره برهان شرعي عمل عليه، وإلا كان على المدعى عليه اليمن، وأما إذا أخبر بأن عنده لفلان كذا، فإن لم يصدقه الورثة كان عليهم اليمن أنهم لا يعلمون صحة هذا الخبر، ولا مطابقته للواقع، لأن من شرط الخبر أن يكون المخبر به حصل له سببه في اليقظة، لا في النوم، لأن النوم ليس فيه ضبط صحيح، والنائم غير ضابط ضبطا معتبرا في الرواية، ولكن لا يترك هذا الخبر هملا بل
_________
(1) في هامش المخطوط: ومن ذلك ما وقع للمجيب شيخ الإسلام- رضي الله عنه - وهو أنه قبيل موته بقليل قام من مرقده فظن من لديه أنه يريد الحاجة، فقاموا معه لئلا يتعثر فمشى خطوتين، ثم سجد سجدة طويلة كان يفعلها بعد الصلاة، ثم قام ورجع إلى محله، وتوفي بعد ذلك بنحو ساعتين أو ثلاث، فرأته بعض أفاضل الناس فقالت له:. بمعنى أنك سجدت قبل الموت فلم ذلك؟ قال: إنه ورد أن الإنسان ينظر ما سيؤول إليه وأين محله، فلما نظرت ذلك قمت لأسجد لله شكرا، وكذلك ل مص ض ولده كانت الأخوف، فطال المرض فوصل إلى بعض الخدم، وذكر أنه رأي شيخ الإسلام فقال: كيف ولدي أحمد؟ فذكر له أنه باق في مرضه، فقال: قل له يفعل كابلي من الذي كان معه يعرفني فتحيرت لأن الكابلى لا يناسب ذلك العارض ثم فعلته فبرئت بإذن الله رحمه الله وغفر له ورضي عنه.(2/633)
يجب على الورثة اليمين (1).
فإن قلت: قد جعل السائل قول الله- عز وجل-: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم ويرجعون} (2) دليلا على عدم قبول ما يرويه الأحياء عن الأموات في المنام.
قلت: هذه الآية في شيء آخر، وهم الذين تقوم عليهم القيامة، وينفخ في الصور فيموتون جميعا، لا يستطيع أحدهم أن يوصي إلى الآخر بأن يبلغ أهله عنه. والسياق يوضح المعنى قال- عز وجل-: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهليهم يرجعون} (3). ويدلا على ذلك ما أخرجه عبد الرزاق (4)، والفريابي (5)،
_________
(1) لا تثبت الأحكام بالإلهام والأحلام، وكذا صحة الأحاديث والأخبار: قال المحدث المباركفوري: " إن الحديث الذي لا يعلم صحته لا يكون صحيحا بتصحيحه قي المنام ولا بالكشف والإلهام، فإن أمثال هذا الحكم لا تثبت بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام وإنما تثبت بقوله في حياته في الدنيا ولأن مدار الحديث على الإسناد، تال القاري في شرح النخبة وأما الكشف والإلهام فخارجان عن المبحث لاحتمال الغلط فيهما ".
انظر: مقدمة تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (1/ 309).
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 77 - 78): وأما رؤيا غير- الأنبياء فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل ها.
فإن قيل؛ فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة، أو تواطأت؟
قلنا: مني كانت كذلك استحال مخالفتها للوص، بل لا تكون إلا مطابقة له، منبهة عليه، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه، لم يعرف الرائي اندراجها فيه فيتنبه بالرؤيا على ذلك.
(2) [يس: 50]
(3) [يس: 48 - 50]
(4) في تفسيره (2/ 144).
(5) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).(2/634)
وعبد بن حميد (1)، وابن المنذر (2)، وابن مردويه (3) عن أبي هريرة في تفسير الآية وهي: {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهليهم يرجعون} (4) قال: تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون، ويذرعون الثياب، ويجلبون اللقاح (5)، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
وأخرج عبد بن حميد (6)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (7)، وابن المنذر عن الزبر ابن العوام قال: إن الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب، والرجل يحلب الناقة، ثم قرأ {فلا يستطيعون توصية} (8) الآية.
وأخرج البخاري (9) ومسلم (10) وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقط فيه " الحديث إلى آخره.
وأما ما استدل به- عافاه الله- من قوله: " ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم " (11). فهذا قاله رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في الدنيا فلا دخل له في مسألة السؤال، والأمر ظاهر واضح [4ب].
قال السائل- كثر الله فوائده-: المسألة الثانية: مسألة المقذيين (12)، وهذه المسألة أشد إشكالا من الأولى، وعذابه كون فاعلها يستخرج أشياء من الجوف الحيواني
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).
(2) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).
(3) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).
(4) [يس: 50]
(5) اللقاح: ذوات الألبان. النهاية (4/ 262).
(6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).
(7) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (7/ 62).
(8) [يس: 50]
(9) في صحيحه رقم (7121).
(10) في صحيحه رقم (157).
(11) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1243) من حديث أم العلاء.
(12) قذت قذيا وأقذيتها إذا أخرجت منها القذى، والقذى، ما يقع في العين وما ترس به. والمقصود ها هنا رقية باطلة يفعلها بعض الجهلة.
لسان العرب (11/ 77).(2/635)
والجمادي مثل الطعام والحصاة والرصاص والشعري، وغير ذلك إلى آخر ذكره. أقول: قد ثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- صحة الرقية للحمة (1) من الحية والعقرب ونحوهما، وقال للذي (2) يرقى بالفاتحة: وما يدريك أنها رقية! متعجبا من إصابته وقال له: اضربوا لي معكم بسهم، يعني في الجعل الذي أخذوه من المرقط للراقي. وهو القطيع (3) من الغنم وهذا ثابت في الصحيح (4). فإذا كان الذي يرقط من شيء من أخلاط الجوف، أو من شيء نشب في الحلق، أو نحو ذلك بصيرا في هذه الصناعة، مجربا فيها فلا بأس بأن يطلب منه ذلك، ونحمله على أن عنده رقيه غير مخالفة للشرع، ما لم نعلم أن تلك الرقية التي استخرج ها ذلك مخالفة للشرع. وقد ورد مدح الذين لا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون كما في الأحاديث (5) الصحيحة. ولكن
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 205) رقم الباب 37.
باب رقية الحية والعقرب، وذكر فيه حديث عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: سألت عائشة عن الرقية من الحمة فقالت: رخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرقية من كل ذي حمة.
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5741) ومسلم في صحيحه رقم (2193).
(2) أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (5736) ومسلم رقم (2201) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) وهو قول البخاري في صحيحه (10/ 198) رقم الباب (34).
باب الشرط في الرقية بقطع من الغنم.
(4) عند البخاري رقم (5737) من حديث ابن عباس رضي الله عنه: " أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مروا. بماء فيه لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرأ، حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ".
(5) (منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5752) ومسلم رقم (374/ 220) من حديث ابن عباس قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألف بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطرون ولا يكتوون على ربهم يتوكلون ".(2/636)
ذلك فضيلة لا حتم. فقد قرر- صلى الله عليه واله وسلم- أصل الرقية، ومدح عليها، وأخذ من الجعل المجعول لصاحبها كما تقدم في حديث الرقية. وهذا باب من أبواب الطب والتداوي به. وقد صح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الأمر (1) بالتداوي وإن كان التوكل (2) أفضل من ذلك، فإنه قد يشفط الله المريض على يد ذلك الراقي برقية حق لا برقية باطل، فإنه أخبرني بعض ثقاة العلماء أن والده وكان من كبار العلماء الحريصين على العمل بالسنن، وهجر البدع نشب بحلقه عظم، وأعيت الحيلة في استخراجه، فجاء رجل من أهل هذه الصناعة الذين يقال لهم في بلادنا مقذيون، وهم من جملة من يندرج تحت اسم الراقين، فرقاه فخرج العظم من حلقه. فهذا صنع حسن، وطب محمود، ورقية نافعة. ولهذه القصة أخوات كثيرة.
والحاصل أنه لا فرق بين من يرقط من حمة، وبن من يرقي مما يؤذي، لأن الجامع بينهما أنه استخراج من البدن لما يحصل به التأذي، وإن اختلفا بشدة التألم والإفضاء إلى الموت في البعض دون البعض، مهما كانت بحق لا بباطل، فالكل من باب [5أ] الطب المحمود، وفيه أجر عظيم، لأن الإنسان يشح بنفسه فوق شحه. بماله، والتسبب لعافيته من مرضه أعظم أجرا من التسبب لغناه ودفع الحاجة عنه، ولذا قال الشاعر:
يجود بالنفس إن ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وهذا معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم أنه يطلب ما يدفع عنه المرض طلبا فوق طلب
_________
(1) (منها) ما أخرجه مسلم في صحيحه (69/ 2204) من حديث جابر: " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء بريء بإذن الله ".
(ومنها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5678) من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء".
(2) لما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5652) ومسلم في صحيحه رقم (2576) من حديث ابن عباس لا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتته امرأة سوداء فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت: أصبر ".(2/637)
شيء من الدنيا. ثم الدليل العقلي قد دل على جواز الاستشفاء بالأدوية، بل على مشروعية ذلك، وهذا منها. وقد يكون المدعي لذلك مخرقا متحيلا لطلب ما يحصل له من الجعل، وهذا لا شك أنه إذا عرف منه ذلك لم يجز قصده، ولا التداوي كما لو عرف من يدعى الطب. ممثل ذلك، وليس كلامنا إلا فيمن عرف حاله بإدراك تلك الصناعة وجرب.
قال- كثر الله فوائده-: المسألة الثالثة: إذا أتى الرجل الجماعة، فوجد قد أم رجل غير مرضى عنده، وإن كانت أحوال الناس مبنية على السلامة، وإحسان الظن بالمسلمين أولى من الوساوس الشيطانية، والأوهام الفاسدة- أعاذنا الله من ذلك- وإنما قد يفضل ذلك كثير من الفقهاء المتسميين، فهل يجوز له اجتناب الجماعة؟ إلخ ما ذكره.
أقول: هذا الداء العضال لا يتعلق إلا بأحد رجلن: إما جاهل للشرائع وكفى بجهله حجة عليه، ويجب على أولي الأمر ومن لهم قدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يعاقبوه حتى يترك ما خيله له جهله ويكرهوه على أن يسلك مسلك غيره من عباد الله من الائتمام. ممن يؤمهم، فالجاهل يقتدي بغيره، ويسأل أهل العلم، حتى ترتفع عنه الجهالة، ويعرف المسالك الشرعية، فما جئ عليه سوى جهله، وعلى براقش نفسها (1) تجئ وإما رجل قد تلبس بشيء من العلم من دون أن يمعن فيه، ويعرف ما ورد في تحسين الظن الحسن، ويقبح الظن السيئ، فهذا أشد الرجلين ذنبا، وأكثرهم إثما، فإنه لا يفعل ذلك إلا وقد صار معجبا بنفسه، وصار مستحقرا لغيره، فجمع بين ذنبن عظيمين، ولا سيما إذا كان له هيئة. بملبوسه، فإنه يقتدي به من يراه من العوام، ويصنعون كصنعه، [5ب] فيضل ويضل. وقد تأملنا حال جماعة ممن أصيب هذا الداء فوجهناهم متفقين في
_________
(1) قال الميداني في مجمع الأمثال (2/ 337): كانت براقش كلية لقوم من العرب، فأغير عليهم، فهربوا ومعهم براقش فاتبع القوم آثارهم بنباح براقش، فهجموا عليهم فاصطلموهم، قال حمزة بن بيض.
لم تكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني رمتني
بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني(2/638)
صفة واحدة هي كما ذكرنا أن يظن أنه قد نال نصيبا من العلم ظنا فاسدا، وجهالة مركبة، وقد يجمع عليه جماعة من العامة الذين لا يفهمون حقيقة، فيريد أن ينبل في أعينهم بالعلم والورع، فينتقص أهل العلم وأهل الدين، وضميره المستتر أنه بحاله أعلى من حالاتهم، وجلالة أكبر من جلالتهم، فيوقعه ذلك في هذا الذنب العظيم. وصار لا علم ولا عمل ولا تورع عن أعراض أهل العلم وصالحي عباد الله.
قال السائل- عافاه الله-: ثم كذلك ما يفعل بعض المتفقهين من أنه يأتي إلى الصلاة في آخر وقتها فيؤم يصلى هم مثلا الظهر في آخر وقتها، ثم يتبعها بصلاة العصر بعد دخول الوقت. ممن صفى هم، وقد ينضم إليه جماعة آخرون من المنتظرين لصلاة العصر مع الإمام الراتب، والإمام الراتب قد صار في المسجد متأهبا إما يتوضئ أو يركع إلى آخر كلامه.
أقول: هذا الذي أخر الظهر إلى آخر وقتها قد أحرم نفسه الأجر العظيم، وأحرم من اقتدى به، فإنه قد صح أن الصلاة لأول (1) وقتها من أفضل الأعمال، وجمع بين الصلاتين لا لسبب، بل لمجرد استثقال العبادة، وعدم الرغوب إليها، وفعل منكرا عظيما بالتجميع في مسجد فيه راتب يؤم فيه، وفرق الجماعة مع صحة النهى (2) عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم- عن تفريق الجماعة، وقال: ......................
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (527) ومسلم رقم (85) من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: " الصلاة على وقتها " قلت: ثم أي؟ قال " بر الوالدين " قلت: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله ".
(2) (منها) ما أخرجه مسلم قي صحيحه رقم (1848/ 53) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية ".
(ومنها) ما أخرجه البخاري قي صحيحه (7143) ومسلم قي صحيحه رقم (55/ 1849) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رأى من أمره شيئا يكرهه فليصب فإن فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ".(2/639)
مالي أراكم عزين (1)، أي متفرقين! وأدخل الشحناء بين المسلمين، ووثب على وظيفة هي لغيره فيتوجه الإنكار عليه وزجره. وإذا لم يرعو عزر بالحبس وغيره.
ولا يصدر ذلك من عارف قط، بل يقع في هذا المنكر جاهل ظن بنفسه العلم، وعاص ظن أنه مطيع مع ما يصحب ذلك من التكبر والعجب، وظن الشمر بالناس، والانقياد للشيطان بزمام.
قال السائل- كثر الله فوائده-: المسألة الرابعة: في الرجل يتولى على شيء من أموال المصالح من طريق إمام الزمان، ويفرض له أجرة معلومة، فيتوسع في التكليف، فإن كان من أهل الرياسة توسع في الأعوان والمراكيب والسلاح والفراشات والنفائس العظيمة، وإن كان من أهل العلم توسع في جمع الكتب العظيمة النفيسة إلى آخر كلامه.
أقول [6أ] إن كان رزق هذا الذي فرضه له الإمام من بيت المال معلوما، وكان لا يقوم ذلك. مما توسع به في النفقة والكسب فهو خائن إن كان متوليا على شيء من بيت المال، أو من الأوقاف، أو من سائر الأعمال، وإن كان قاضيا فهو مرتش، آكل لأموال الناس بالباطل. هذا على تقدير أن دخله معلوم، وأنه لا دخل له من عمل آخر غير ذلك، وإن كان له من بيت المال دخل غير ما هو معلوم عند من لا يعرف حاله، أو هو متول على أعمال متعددة بحيث يمكن منها أن يتوسع التوسع الذي صار فيه، فينبغي تحسين الظن به، وإعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شأنه ويشافهه، فهو إن كان من أهل العلم لا يحرج من ذلك، وأما ما يجوز له تناوله فإن كان له من بيت المال
_________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (119/ 430) من حديث جابر بن حمرة قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة " قال ثم خرج علينا فرآنا حلقا. فقال: " مالي أراكم عزين؟ ". .
خيل شمس: أي لا تستقر بل تضرب وتتحرك بأذنابها وأرجلها.
عزين: أي جماعات في تفرقة.(2/640)
ما يكفيه لا يجوز له أن يأخذ أجرة غير ذلك، بل يقتصر على ذلك، وإذا قصرت الجراية عن تكليفه طلب من الإمام أن يزيد على ما جعله له من بيت المال إلى القدر الذي يقوم به، فإن لم يفعل الإمام ترك العمل الذي فوضه فيه، واشتغل بغيره، واتكل على خالقه في رزقه، فقد جرت عاده الله- عز وجل- أن من ترك ما لا يحل له عوضه الله من حلاله، ووسع عليه، فقد تكفل- سبحانه- برزق عباده، وأمرهم بطاعته والقيام. مما شرعه لهم.
قال- كثر الله فوائده-: المسألة الخامسة: في أموال المصالح المعشرية مثل المناهل والمساجد والس! بل، هل يجب فيها الزكاة إلى آخر كلامه؟.
أقول: إن كانت الأموال مكسوبة من فاضل الغلة لمثل المساجد والمناهل ونحوهما ففيهما الزكاة كغيرها من أموال الناس، وعموم أدلة الزكاة متناولة لها، لأنها أموال، وإما أنها تجب الزكاة في نفس الزكاة المسوقه إلى بيت المال فلا، وكذلك الجزية المسوقة إلى من هي له لا تجب فيها الزكاة، لأنها من أموال الله- عز وجل- وقد صارت إلى مصرفها، فإخراج بعضها زكاة يحالف موضوعها الشرعي، ويجوز للعامل على هذه الأمور إذا كانت له ولاية شرعية عليها أن يأخذ أجرته بالمعروف، وأما من كان أمر زكاته إليه بتفويض من الإمام كالإجبار فواجب عليهم أن يصرفوها في مصارفها، ولا يأخذوا منها شيئا، فإن أخذوا فهو منكر يجب إظهاره عليهم، ولو كان مصرفا فلا يجوز له أن يصرف زكاته في نفسه.
وإلى هنا انتهى الجواب بقلم كاتبه محمد بن على الشوكاني- غفر الله له [6ب]-.(2/641)
بحث في مستقر أرواح الأموات
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/643)
وصف المخطوط
1 - عنوان المخطوط: (بحث في مستقر أرواح الأموات).
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين. اعلم أنه قد طال الخلاف بين أهل العلم في مستقر أرواح الأموات ...
4 - آخر الرسالة: وفي أن البدن يصير حيا جما كحالته في الدنيا، أو حيا بدوها حيث شاء الله، فإن ملازمة الحياة للروح أمر عادي لا عقلي وفي وهذا القدر كفاية. انتهى.
5 - نوع الخط: حط نسخط معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الأوراق: ورقتان.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: الأولى: 9 سطرا.
الثانية: 34 سطرا.
الثالثة: 31 سطرا.
الرابعة: 20 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 9 - 11 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(2/645)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين.
اعلم أنه قد طال الخلاف بين أهل العلم في مستقر أرواح الأموات من المؤمنين والعاصين بعد مفارقتها للأجساد. فذهب جمهورهم إلى أنها في حواصل طيور في الجنة يذهب حيث شاءت، واستدلوا. مما ورد من الأحاديث التي يتضمن بعضها مستقر أرواح الشهداء على الخصوص، وبعضها مستقر أرواح المؤمنين على العموم، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم (1) وغيره من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-[1أ]:" أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش "، وأخرجه أحمد (2)، وأبو داود (3)، والحاكم (4)، والبيهقي (5) من حديث ابن عباس.
وأخرج نحوه بقى بن مخلد (6) من حديث أبي سعيد، وأخرج نحوه أيضًا أبو الشيخ من حديث أنس، وأخرجه أيضًا هناد بن السري (7)، وابن منده (8) من حديث أبي سعيد الخدرى من وجه آخر, وأخرج ابن أبي حاتم (9) من حديث ابن مسعود: " أن أرواح
_________
(1) في صحيحه رقم (121/ 1887).
(2) في المسند (1/ 266).
(3) في السن رقم (2520).
(4) في المستدرك (2/ 88): وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(5) في السنن الكبرى (9/ 163) في الدلائل 3/ 304) وهو حديث صحيح.
(6) عزاه إليه ابن القيم في "الروح " (ص 114).
والسيوطى في " شرح الصدور " (ص 305).
(7) في كتاب الزهد (1/ 121 رقم 156) بإسناد ضعيف جدا.
(8) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 305).
(9) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 373).(2/649)
المؤمنين في أجواف عصافير تعرج في الجنة حيث شاءت ".
وأخرج مالك في الموطأ (1)، وأحمد (2)، والنسائي (3) بإسناد صحيح من حديث كعب بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه واله وسلم- قال: " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه "، ومعنى يعلق يأكل وهو بضم اللام.
وأخرج أحمد (4)، والطبراني (5) بإسناد حسن عن أم هانيء عن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- مثله.
وأخرج نحوه ابن عساكر (6) من حديث أم بضر، والبيهقي في الشعب (7) من حديثها نحوه من طريق أخرى.
وأخرج ابن منده (8)، والطبراني (9)، وأبو الشيخ (10) من حديث ضمرة بن حبيب نحوه أيضا.
_________
(1) (1/ 240).
(2) في المسند (3/ 456).
(3) في السنن (4/ 108) وهو حديث صحيح.
(4) في المسند (6/ 425) بإسناد ضعيف.
(5) في الكبير (24/ 4384 رقم 1072).
وأورده الهيثمي في " المجمع " (2/ 329) وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.
(6) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 307).
وعزاه في كنز العمال (15/ 687 - 688) لابن سعد عن أم بشر بن البراء.
(7) في البعث والنشور رقم (205).
(8) عزاه إليه السيوطى في " شرح الصدور " (ص 307).
(9) في الكبير (19/ 66) بنحوه.
(10) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 307).(2/650)
وأخرج ابن مردويه (1) من حديث ابن عمر نحوه أيضا.
وقالت طائفة من الصحابة والتابعين: إن أرواح المؤمنين عند الله ولم يزيدوا على ذلك.
واستدلوا. ممثل ما رواه سعيد بن منصور (2) في سننه عن ابن عمر عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: (الأرواح عند الله في السماء)، ويندرج في هذا القول قول من قال: إنها في السماء السابعة، وقول من قال: إنها في دار فيها، لأنها عند الله - سبحانه-.
وقال جماعة من الصحابة والتابعين: إن الأرواح تجمع في موضع من الأرض، فأرواح المؤمنين بالجابية (3)، وأرواح الكفار في بير برهوت (4). وقيل أرواح المؤمنين بزمزم، وقيل بأريحا، وقيل بالأردن، وقيل ما بين السماء والأرض.
_________
(1) عزاه إليه السيوطى في " شرح الصدور" (ص 310) من حديث أبي سعيد الخدري.
ولم أعثر عليه من حديث ابن عمر معزوا لابن مردويه
(2) في سننه (3/ 1104 - 1105 رقم 539) من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) الجابية. بكسر الباء وياء مخففه وأصله في اللغة الحوض الذي يحيى فيه الماء للإبل.
وهى قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمال حوران وبالقرب منها تل يسمى تل الجابية.
معجم البلدان (2/ 91)
(4) واد باليمن، وقيل برهوت بئر بحضر موت وقيل هو اسم للبلد الذي فيه هذه البئر.
وقيل: بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار.
وقال الأصمعي عن رجل من حضر موت قال: إنا نجد من ناحية برهوت الرائحة المنتنة الفظيعة جدا.
معجم البلدان (1/ 405 - 406).(2/651)
واستدلوا بمثل ما أخرجه ابن مردويه (1)، وابن عساكر (2) من حديث عبد الله بن عمر: " أن أرواح المؤمنين تجمع بالجابية، وأرواح الكفار تجمع ببير برهوت ".
وأخرج ابن أبي الدنيا (3) عن على قال: (أرواح المؤمنين في بير زمزم، وأرواح الكفار ببير برهوت).
وأخرج الحاكم في المستدرك (4)، وابن منده (5) عن عبد الله بن عمر: " أن أرواح
_________
= قال ابن القيم في "الروح" (ص 126): أما قول من قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بير زمزم فلا دليل على هذا القول من كتاب ولا سنة يجب التسليم لها ولا قول صاحب يوثق به وليس بصحيح فإن تلك البئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعا وهو مخالف لما ثبتت به السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلف في شجر الجنة.
قال ابن القيم في الروح (ص 125): أما قول عبد الله بن عمر إن أرواح المؤمنين بالجابية- فإذا أراد عبد الله بن عمر بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابية لسعته وطيب هوائه فهذا قريب وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيف ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب.
وأما من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف والخلف ويدل عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم الرفيق الأعلى" ...
ولكن هذا لا يدل على استقرارها هناك بل يصعد بها إلى هناك للعرض على ربها فيقضى فيها أمره ويكتب كتابة من أهل عليين أو من أهل سجين، ثم تعود إلى القبر للمسألة ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه فأرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم.
(1) لم يعزه السيوطي لابن مردويه بل عزاه لابن منده في " الجنائز" وابن عساكر من حديث عبد الله بن عمر
(2) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 312)
(3) عزاه بليه السيوطى في "شرح الصدور" (ص 313)
(4) (3/ 528) وقال الذهبي: الأخنس تابعي كبير أودعه البخاري في الضعفاء، وقواه أبو حاتم وغيره
(5) عزاه إليه السيوطي في " شرح الصدور " (ص 313)(2/652)
المسلمين تجتمع بأريحا، وأرواح المشركين بصنعاء " فبلغ ذلك [1 ب] كعب الأحبار فقال صدق.
وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار.
واستدلوا. مما أخرجه ابن ماجة (1)، والطبراني (2)، والبيهقي في الشعب (3) بإسناد حسن من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أم بشر بنت البراء أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت، ونسمه الكافر في سجين ".
وبما أخرجه أبو داود (4) من حديث أبي هريرة أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، لما رجم الأسلمي الذي اعترف عنده بالزنا قال: "والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس".
وبما أخرجه البزار (5)، والطبراني (6) من حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وآله
_________
(1) في السنن رقم (4271)
(2) في الكبير (19/ 64 رقم 120)
(3) في البعث والنشور رقم (205) قلت: وأخرجه أحمد (3/ 455) والنسائي (4/ 108) ومالك (1/ 186) وأبو نعيم في الحلية (9/ 156) كلهم من طريق مالك به وهو حديث صحيح.
(4) في السنن رقم (4428).
قلت: وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (4/ 276 - 277 رقم 7164/ 1) والدار قطني في السنن (3/ 196 رقم 339).
وهو حديث ضعيف انظر الضعيفة رقم (2957).
(5) لم أعثر عليه ولم يعزه الهيثمي في المجمع (9/ 223 - 224) للبزار.
(6) في الأوسط (8/ 120 رقم 8153).
وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 223) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد، وقد وثق وخاصة في حديث جابر(2/653)
وسلم- سئل عن خديجة فقال: " أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب". وأصله في الصحيح (1). ويدل على ذلك أحاديث كثيرة مصرحة بأن أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار.
وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم، والكفار عن شماله.
واستدلوا. بما ثبت في الصحيح (2) في حديث الإسراء أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لما أسرى به وجد آدم في سماء الدنيا، وأرواح أهل السعادة عن يمينه، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره، فإذا نظر إلى أهل السعادة ضحك، وإذا نظر إلى أهل الشقاوة بكى.
قال محمد بن نصر المروزي (3): إن إسحاق بن راهوية قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم، وقال ابن حزم (4) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم (5) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (6): وهو قول جميع أهل الإسلام.
_________
(1) عند البخاري في صحيحه رقم (3820) من حديث أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي فقال: "يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب "
(2) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (263/ 163)
(3) في " الرد على ابن قتيبة " في تفسير قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بنى أدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} (الأعراف: 172)، كما ذكره ابن القيم في الروح (ص 129) وابن حزم في الفصل (4/ 124)
(4) في المحلى (1/ 24رقم المسألة 43) وفي "الفصل" (4/ 124) وذكره ابن القيم في الروح (ص 128). وذكره السيوطي في "شرح الصدور" ص 315، قال ابن حزم: وهو قول جميع أئمة الإسلام، وهو قول الله تعالى:
(5) [الواقعة: 8 - 12]. وقول:
(6) [الواقعة: 88] إلى أخرها، فلا تزال الأرواح هناك حتى يتم عددها بنفخها في الأجساد ثم برجوعها إلى البرزخ، فتقوم الساعة، فيعيدها عز وجل إلى الأجساد، وهى الحياة الثانية(2/654)
قلت: ولا تصح (1) هذه الدعوى للإجماع، فإن الطوائف مختلفة حسبما قدمنا، والأدلة متنافية في الظاهر، وكون أرواح الكفار في السماء غير مسلم وإن كان ذلك مجرد العرض على آدم. من دون استقرار فلا بأس، ولكن الخلاف في مستقر الأرواح. وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين والكافرين على أفنية القبور إلا أرواح الشهداء فإنها في الجنة. وحكاه ابن حزم (2) عن عامة أصحاب الحديث.
وقالت طائفة: إن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في سجين. ورجح هذا القول الحافظ ابن حجر (3) وقد تقدم في الأحاديث التي ذكرناها ما يخالفه. وقد استدل بعض أهل العلم لهذا القول. مما في حديث الجريدة (4)، وأنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: " إنه يخفف على القبرين ما دامت رطبة" ولا يتم [2أ] هذا الاستدلال، فان التخفيف لا يستلزم أن تكون الروح المخفف عنه في ذلك المكان.
وقالت طائفة من المتكلمين: إن الأرواح (5) تموت. بموت الأجساد، وهذا القول باطل
_________
(1) انظر " الروح " لابن القيم (127 - 128)
(2) في "الفصل" (4/ 12): ثم قال عقبه وهذا قول لا حجة له أصلا تصححه إلا خبر ضعيف لا يحتج. ممثله.
وقال ابن القيم في " الروح " ص 119: وأما قول من قال الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدأ فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنة.
وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا، أولها إشراف على قبورها وهى في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور.
ودليلهم على ذلك حديث ابن عمر: " أن أحدكم إذا مات عرض عليه معقدة بالغداة والمشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة.
(3) ذكره السيوطي في "شرح الصدور" (ص 320)
(4) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (12) (ص620 - 621)
(5) ذكره السيوطي في "شرح الصدور" (ص 332)(2/655)
ترده الأدلة الصحيحة، وتدفعه الإجماعية المحكية عن أهل الإسلام من طرق وقد نص هذا القول إلى المعتزلة (1)، ولا يصح ذلك، وقد جمع بين هذه الأقوال بأن الأرواح متفاوتة في مستقرها، وأن الأدلة إلى قدمناها كل نوع منها وارد على فريق من الناس، وهذا جمع حسن، قال القرطبي (2): الأحاديث دالة على أن أرواح الشهداء خاصة في الجنة دون غيرهم، فإن أرواحهم تكون في السماء تارة، وفي الجنة تارة، وعلى أفنية القبور تارة. وقد ورد أن أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، وفي بعض ألفاظه ما يدل على أن النهر خارج الجنة، ويمكن الجواب عن هذا بأنها تفارق الجنة في بعض الحالات اختيارا منها، وتعود إلى حيث كانت.
قال ابن تيمية (3): الأحاديث متواترة على عود الروح إلى الجسد وقت السؤال.
وقال تقي الدين (4) السبكي: عود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح بجميع الموتى فضلا عن الشهداء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيا بها كحالته في الدنيا، أو حيا بدونها حيث شاء الله، فإن ملازمة الحياة للروح أمر عادي لا عقلي.
وفي هذا القدر كفاية انتهى.
_________
(1) المعتزلة: اسم يطلق على فرقة ضالة منحرفة ظهرت في الإسلام في القرن الثاني الهجري ما بين (105 - 110هـ) بزعامة رجل يسمى: "واصل بن عطاء الغزال".
نشأت هذه الطائفة متأثرة بشيء الاتجاهات الموجودة في ذلك العصر. وقد تفرقت المعتزلة فرقا كثيرة، واختلفوا في المبادئ والتعاليم ووصلوا إلى اثنتين وعشرين فرقة.
الملل والنحل (1/ 56 - 96)، الفرق بين الفرق (ص112 - 187)
(2) في "التذكرة" (1/ 300 - 301)
(3) في مجموع فتاوى (24/ 365)
(4) في "فتاوى السبكي" (2/ 636 - 638)(2/656)
سؤال عن حديث (الأنبياء أحياء في قبورهم)
وقول المفسرين أن مريم بنت ناموس دلت على عظام يوسف عليه السلام
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/657)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: سؤال عن حديث: " الأنبياء أحياء في قبورهم" وقول المفسرين أن مريم بنت ناموس دلت على عظام يوسف عليه السلام.
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقول: حديث الأنبياء أحياء في قبورهم صححه البيهقي ...
4 - آخر الرسالة: ... في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل فهو لا يقوله إلا من لاحظ له في العلم ولا نصيب له من العقل والله سبحانه أعلم.
5 - نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 - عدد صفحات الرسالة: (5) صفحات.
الأولى: 8 أسطر.
الثانية: 22سطرا.
الثالثة: 22 سطرا.
الرابعة: 22 سطرا.
الخامسة: 4 أسطر.
7 - عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة في السطر تقريبا.
الرسالة من المجلد الأول من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".
حصلت عليها من الأخ/ عادل حسن أمين. الذي أحضرها من الهند أثناء دراسته هناك فجزاه الله خيرا.(2/659)
بسم الله الرحمن الرحيم
سؤال عن حديث "الأنبياء أحياء في قبورهم " وقول المفسرين أن مريم (1) بنت ناموس دلت على عظام يوسف عليه السلام قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقول: حديث الأنبياء أحياء في قبورهم صححه البيهقي (2) وألف فيه جزأ ويؤيد ذلك ما ثبت أن الشهداء (3) أحياء يرزقون في قبورهم وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الشهداء.
قال الأستاذ أبو منصور (4) البغدادي: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا أن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
_________
(1) أخرج أبو يعلى في مسنده رقم (13/ 7245) بسند ضعيف، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 170) وقال: رواه أبو يعلى .... ورجال أبي يعلى رجال الصحيح وهذا الذي حملي على سياقها.
قلت: فيه محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال البخاري عنه: رأيتهم مجمعين على ضعفه قاله ابن حجر في التقريب رقم (6402) عن أبي موسى قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرابيا فأكرمه فقال له: إئتنا، فأتاه، فقال رسول اللة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سل حاجتك" فقال: ناقة نركبها وأعترا بحلبها أهلي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل" فقال: إن موسى لما صار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قال: عجوز من بني إسرائيل فبعث إليها فأتته فقال: دلني على قبر يوسف. قالت: حتى تعطني حكمي. قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطها ذلك فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها فانطلقت هم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء فقالت: أنضبوا هذا الماء فأنضبوه، قالت: احتفروا واستخرجوا عظم يوسف. فلما أقلوها إلى الأرض إذا الطريق مثل ضوء النهار"
(2) في كتاب "حياة الأنبياء في قبورهم " (ص 69 - 74) ط 1 سنة 1414 هـ مكتبة العلوم والحكم - المدينة
(3) قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 161 - 162)
(4) قال ابن رجب الحنبلي في " أهوال القبور" (ص 160) أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين وقد ثبت في الصحيح أن أخر كلمة تكلم بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته: "اللهم الرفيق الأعلى" وكررها حتى قبض- أخرجه البخاري رقم (3669) ومسلم رقم (2191) وقال رجل لابن مسعود: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأين هو قال: في الجنة.
وانظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 454)(2/662)
حي (1) بعد وفاته. انتهى.
ويعكر على هذه أمور:
الأول: ما ورد في الصحيح (2) في حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقى جماعة من الأنبياء في السماوات [ا أ].
وثانيًا: ما ورد أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم فوق ثلاث وروي فوق أربعين يوما إن صح ذلك والله أعلم. وقد تكلم على ذلك أهل العلم فأطالوا وأطابوا فبعضهم ضعف حديث الأنبياء أحياء في قبورهم وبعضهم جمع بينه وبين ما عارضه فإنه لا مانع من رفعهم إلى السماء ثم عودهم. وبعضهم جزم بأنهم باقون في قبورهم وفي السماء ملائكة على
_________
(1):. (2): أخرجه مسلم في صحيحه رقم (263/ 163) من حديث أنس بن مالك قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (4/ 328 - 329): " وأما رؤيته الأنبياء ليلة المعراج في السماء لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة أو العكس، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم.
وقد قال بعض الناس: لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور وهذا ليس بشيء، لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده وكذلك قد قيل في إدريس. وأما إبراهيم وموسى، وغيرهما فهم مدفونون في الأرض .... ".
(1) وقد ثبت نقلا وعقلا أن الأنبياء من الأموات، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 130).
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
وإن ورد في أخبار صحيحة أن الأنبياء في قبورهم أحياء فتلك حياة برزخية لا تماثل الحياة الدنيوية ولا تثبت لها حكمها.
انظر فتح الباري (6/ 441)(2/664)
صورهم (1) والحاصل أن المقام من المحارات لا باعتبار القصة المسئول عنها فهي لا تنهض لمعارضة ما ثبت عن الشارع، ولا تستشكل الأحاديث باعتبارها فكثيرا ما وقع من الأكاذيب في كتب التفسير (2) لا سيما المشتملة على حكاية القصص المطولة فهي متلقاة من أهل الكتاب المنصوص على أنهم يحرفون (3) الكلم عن مواضعه ويبدلون القول، بل كثير من
_________
(1) فتح الباري (6/ 444) (7/ 212).
(2) أ- من هذه التفاسير ما يذكر فيها مؤلفوها كل ما عندهم منها مقبولا كان أو غير مقبول ولكن يستمدون ما يروى من ذلك إلى رواته إسنادا تاما عملا بالقاعدة لدى علماء الحديث "من أسند لك فقد حملك". ب- ومنها كتب تعرض للإسرائيليات فترويها بأسانيدها ولكن لا يكتفي أصحاب هذه الكتب بذكر الأسانيد خروجا من العهدة، بل إنهم يتعقبون ما يرونه منها بالنقد الذي يكشف عن حقيقتها وقيمتها. ج- ومنها - أي التفاسير - نذكر من الإسرائيليات كل شاردة وواردة ولا تسند شيئا من ذلك مطلقا، ولا تعقب عليه بنقده وبيان ما فيه من حق وباطل كأنما كل ما يذكر فيها من ذلك مسلم لدى أصحابها رغم ما في بعضها من سخف ظاهر يصل أحيانا إلى الهذيان، وأحيانا أخرى يصل إلى خطل الرأي وفساد العقيدة. هـ- ومنها كتب لذكر الإسرائيليات ولا تسندها ولكنها - أحيانا - تشير إلى ضعف ما ترويه بذكره بصيغة التمريض (قيل) وأحيانا تصرح بعدم صحته وأحيانا تروى ما تروى من دلك، ثم تمر عليه دون أن تنقده بكلمة واحدة على ما في بعض دلك من باطل، يصل أحيانا إلى حد القدح في الأنبياء ونفط العصمة عنهم. و- ومنها كتب تذكر الإسرائيليات ولا تسندها، وهي حين تذكرها لا تقصد - في الأعم الأغلب - إلا بيان ما فيها من زيف وباطل، وكأنما نظر أصحاب هذه الكتب في تفاسير من سبقهم فنقلوا عنها بعض ما فيها لينبهوا على خطه وفساده، حتى لا يغتر به من ينظرون في هذه
الكتب، ويرون لأصحابها من المكانة العلمية ما يجعلهم يصدقون كل ما جاء فيها. ز- ومنها كتب وجدنا أصحاب يحملون حملة شعواء على من سبقهم من المفسرين الذين تطرقوا في تفاسيرهم إلى الإسرائيليات. . .
(3) أ- من هذه التفاسير ما يذكر فيها مؤلفوها كل ما عندهم منها مقبولا كان أو غير مقبول ولكن يستمدون ما يروى من ذلك إلى رواته إسنادا تاما عملا بالقاعدة لدى علماء الحديث "من أسند لك فقد حملك".
ب- ومنها كتب تعرض للإسرائيليات فترويها بأسانيدها ولكن لا يكتفي أصحاب هذه الكتب بذكر الأسانيد خروجا من العهدة، بل إنهم يتعقبون ما يرونه منها بالنقد الذي يكشف عن حقيقتها وقيمتها.
ج- ومنها - أي التفاسير - نذكر من الإسرائيليات كل شاردة وواردة ولا تسند شيئا من ذلك مطلقا، ولا تعقب عليه بنقده وبيان ما فيه من حق وباطل كأنما كل ما يذكر فيها من ذلك مسلم لدى أصحابها رغم ما في بعضها من سخف ظاهر يصل أحيانا إلى الهذيان، وأحيانا أخرى يصل إلى خطل الرأي وفساد العقيدة.
هـ- ومنها كتب لذكر الإسرائيليات ولا تسندها ولكنها - أحيانا - تشير إلى ضعف ما ترويه بذكره بصيغة التمريض (قيل) وأحيانا تصرح بعدم صحته وأحيانا تروى ما تروى من دلك، ثم تمر عليه دون أن تنقده بكلمة واحدة على ما في بعض دلك من باطل، يصل أحيانا إلى حد القدح في الأنبياء ونفط العصمة عنهم.
و- ومنها كتب تذكر الإسرائيليات ولا تسندها، وهي حين تذكرها لا تقصد - في الأعم الأغلب - إلا بيان ما فيها من زيف وباطل، وكأنما نظر أصحاب هذه الكتب في تفاسير من سبقهم فنقلوا عنها بعض ما فيها لينبهوا على خطه وفساده، حتى لا يغتر به من ينظرون في هذه الكتب، ويرون لأصحابها من المكانة العلمية ما يجعلهم يصدقون كل ما جاء فيها.
ز- ومنها كتب وجدنا أصحاب يحملون حملة شعواء على من سبقهم من المفسرين الذين تطرقوا في تفاسيرهم إلى الإسرائيليات. . .
انظر الإسرائيليات في التفسير والحديث، الدكتور: محمد السيد حسين الذهبي (ص 119 - 121)(2/665)
الحكايات المدونة في كتب التقصير لا مستند لها إلا ما يعتاده القصاص من تطويل ذيول المقال بالأكاذيب الحرية بالإبطال، فما كان كذلك لا ينبغي أن يلتفت إليه أو يعتقد صحته على فرض عدم معارضته لشيء مما ورد عن الشارع فكيف إذا عارض ما ورد وإن كان قاصرا عن رتبة الصحة.
والحاصل أن التفسير الذي ينبغي الاعتداد به والرجوع إليه هو تفسير كتاب (1) الله حل جلاله باللغة العربية حقيقة ومجازا إن لم يثبت في ذلك حقيقة شرعية فإن ثبتت فهي مقدمة على غيرها وكذلك إذا ثبت تفسير ذلك من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أقدم من كل شيء بل حجة متبعة لا تسوغ مخالفتها لشيء آخر ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يبعد كل البعد أن يفسر أحدكم كتاب الله ولم يسمع [1ب] في ذلك شيئا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى فرض عدم السماع فهو أحد العرب الذين عرفوا من اللغة دقها وجلها وأما تفاسير غيرهم من التابعين ومن بعدهم فإن كان من طريق الرواية نظرنا في صحتها سواء كان المروى عنه الشارع أو أهل اللغة وإن كان. محض الرأي فليس ذلك شيء ولا يحل التمسك به ولا جعله حجة، بل الحجة ما قدمناه ولا نظن بعالم من علماء الإسلام أن يفسر القرآن برأيه فإن ذلك مع كونه من الإقدام على ما لا يحل. مما لا يحل قد ورد النهي عنه في حديث "من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخلى، ومن فسر القران برأي، فأخطأ فقد كفر" (2) أو كما قال: إلا أنا لم نتعبد. بمجرد هذا الإحسان للظن على أن نقبل تفسير (3) كل عالم كيف ما كان بل إذا لم نجلى مستندا إلى الشارع.
_________
(1) انظر مقدمة في "أصول التفسير" لابن تيمية (ص 15 - 16).
(2) أخرجه الترمذي في السنن رقم (2952) وهو حديث ضعيف.
(3) قال ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير (ص 92 - 93): " في أحسن طرق التفسير":
1/ أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.
2/فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد ابن إدريس الشافعي: كل ما حكم به أصول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كما فهمه من القران قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 144].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه "- أخرجه أبو داود رقم (4604) وأحمد (4/ 131) وهو حديث صحيح.
3/ وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة- فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهدين وعبد الله بن مسعود. وعبد الله ابن عباس. .
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته من الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان أية في التفسير وكسعيد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري. .
وأما تفسير القرآن. كمجرد الرأي حرام قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم".
انظر تفسير ابن كثير (4/ 473)، فتح القدير للشوكاني (5/ 376). .
وعندما سئل ابن تيمية عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة فقال: "الحمد لله أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها (تفسير محمد بن جرير الطبري) فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكر، والكلبي".
انظر: مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير (ص 103)(2/666)
ولا إلى أهل اللغة لم يحل لنا العمل به مع التمسك بحمل صاحبه على السلامة .. ونظر ذلك.
اختلاف العلماء في سائر المسائل العلمية فلو كان إحسان الظن مسوغا للعمل. مما ورد عن كل واحد منهم لوجب علينا قبول الأقوال المتناقضة في تفسير آية واحدة أو في مسألة(2/667)
علمية واللازم باطل فالملزوم مثله وكثيرا ما نسمع من إسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذا قال لهم القائل: الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان قالوا لست أعلم من فلان يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك المسألة فنقول لهم نعم لست أعلم من فلان ولكن هل يجب على إتباعه والأخذ بقوله فيقولون لا ولكن الحق لا يفوته فتقول لهم لا يفوته وحده بخصوصية فيه أم لا يفوته هو ومن يشابهه [2أ] من العلماء ممن بلغ إلى الرتبة إلى بلغ إليها في العلم فيقول نعم لا يفوته هو وأشباهه ممن هو كذلك فيقال لهم له من الأشباه والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالا وعند الآخر حراما فهل تكون العين حلالا حراما لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم فإن قلتم نعم فهذا باطل ومن قال بتصويب المجتهدين إنما يجعل قول كل واحد منهم صوابا لا إصابة وفرق بين المعنيين أو يقول القائل في جواب مقالتهم فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم فما أحد إلا وغره أعلم منه ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حتى بيده ولا بيد أتباعه وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلى.
بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجيج ولا يعرفون أسرار الأدلة ولا يفهمون الحقائق فيحتاج من ابتلي هم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدق تمسك بأذيال العلم فإن كل عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول قول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته إنما هي وظيفته قبول حجته فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه وإن كان في الواقع ربما له حجة لم يطلع عليها العالم الآخر إلا أن مجرد هذا التجويز يجوز التمسك به [2ب] في إحسان الظن بالعالم الأول وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل فهو لا يقوله إلا من لاحظ له من العلم ولا نصيب له من العقل والله سبحانه أعلم.(2/668)
بحث في الرد على من قال إن علوم الإنسان تسلب عنهم في الجنة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/669)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: " بحث في الرد على من قال إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة).
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، إياك نعبد وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وصل السؤال ...
4 - آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في يوم السبت تاسع شهر شوال سنة 1245هـ.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الورقات: (3) ورقات.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 34 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة تقريبا.
10 - الرسالة من المجلد الخامس من مجلدات الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.(2/671)
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد، وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد:
فإنه وصل السؤال عن الكلام الذي وقعتم عليه للحافظ الذهبي (1) من أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة، ولا يبقى لهم شعور بشيء منها، فاقشعر جلدي عند الإطلاع على هذا الكلام من مثل هذا الحافظ الذي أفنى عمره في الكتاب والسنة والتراجم لعلماء هذا الشأن. وقد كنت قديما وقفت على شيء من هذا، لكن لفرد شاذ من أفراد الحكماء قاله لا عن دراية ولا رواية، فلم ألمه لجهله بالكتاب والسنة. فيا ليت شعري كيف يجري قلم أحقر عالم من علماء الشريعة. ممثل هذا! وعجبت ما أدخل هذا الحافظ (2) في مثل هذه المداخل المقفرة المكفهرة التي يتلون الخريت (3) في شعابها وهضابها، ويتحمل هذا الثقل الثقيل، والعبء الجليل! والحاصل أن الطوائف الإسلامية على
_________
(1) هو محمد بن أحمد بن عثمان ابن قايماز بن عبد الله التركماني الأصل، الفارقي ثم الدمشقي، أبو عبد الله شمس الدين الذهبي الحافظ الكبير المؤرخ الكبير صاحب التصانيف السائرة في الأقطار ولد ثالث شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ.
قال ابن حجر: حتى كان كثر أهل عصره تصنيفا، وجمع تاريخ الإسلام فأربى فيه على من تقدمه بتحرير أخبار المحدثين خصوصا.
من مصنفاته: النبلاء، العبر، تلخيص التاريخ، طبقات الحفاظ، طبقات القراء. الميزان في نقد الرجال.
قال البدر النابلسي في مشيخته: كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم جيد الفهم ثاقب الذهن.
انظر: الدرر الكامنة (3/ 336 رقم 894).
البدر الطالع (ص 626 رقم 411)
(2) أي الذهبي رحمه الله تعالى.
(3) الخريت: الماهر الذي يهتدي لأخرات المفاوز، وهي طرقها الخفية ومضايقها.
لسان العرب (4/ 52).(2/675)
اختلاف مذاهبهم، وتباين طرقهم متفقون على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية، وكيف يسلبون ما هو عندهم من أعظم النعم، وأوفر القسم! وهم في دار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (1). فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم، وما أسهل عليه من تحاور أهل الجنة (2) وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا، وأوفر الخلائق فهما! وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم، بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعم قال {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (3) وورد مثل هذا المعنى في القرآن التي رفع لفظه من المصحف، كما ثبت في الصحاح (4) تركيب
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (8498) ومسلم رقم (2/ 2824) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ملا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".
(2) (منها) قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَقَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} [المدثر: 39 - 47].
ومنها قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 50 - 51].
(3) [يس: 26 - 27].
(4) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4093) ورقم (4095).(2/676)
الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ: "بلغوا قومنا أن قد لقب ربنا فرضي عنا وأرضان! " وكذلك ما ثبت من اجتماع أهل الجنة (1) ومذاكرتهم. مما كانوا فيه في الدنيا، وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول: وفيها (2) وفيها في آيات كثيرة، وذكر أن أهلها على ...............
_________
= من حديث عائشة رضي الله عنها " ..... لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري
قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهرة. فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. ثم وضع، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا ".
(1) نعم أهل الجنة يزور بعضهم بعضا، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما من الله به عليهم من دخول الجنان.
قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].
وأخبرنا بلون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون ما في مجتمعاتهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:
25 - 28]. ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان ويدعوهم إلى الكفران: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 50 - 61] وقال سبحانه وتعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]
(2) قال سبحانه وتعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20 - 21](2/677)
سرر (1) متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون (2) وثبت أنهم يدخلون (3) الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب، وكمال الخلق، وحسن الهيئة [1ب] مردا جردا، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، وأنهم يخيرون في الجنة ما يشتهون. وكم يعد العاد من الآيات القرآنية، والأحاديث (4) الصحيحة! ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذو عقول
_________
(1) قال تعالى: {في جنت النعيم عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (الصافات:
43 - 46). وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:
51 - 54]. وقال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 15 - 18]
(2) قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [الإنسان: 19].
وانظر الواقعة [17 - 18]
(3) أخرج الترمذي في السنن رقم (3539) من حديث أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل الجنة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم" وهو حديث حسن.
وأخرج الترمذي في السنن رقم (3545) من حديث معاذ بن جبل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يدخل أهلي الجنة، جردا مردا مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة ". وهو حديث حسن.
(4) أخرج البخاري في صحيحه رقم (3254).
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد، لا! تباغض بينهم ولا تحاسد لكل امرئ زوجتان من الحور العين، يرى مح سوقهن من وراء العظم واللحم "(2/678)
صحيحة بالضرورة العقلية، كما ثبت بالضرورة الدينية. ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوى عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تحدد لها من العلوم، ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا ما لا يحتاج إلى بيان، ولا يفتقر إلى برهان. ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة، وصاروا مشاهن للدواب، وأي نعمة لمن عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا! وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل. مما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا. بمسافات! لا يقادر قدرها، ولا يحاط بكنهها. وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس (1) الظاهرة والباطنة، ولو فقدوا أحدها لما تنعموا كما ينبغي وكذا لو فقدوا
_________
(1) أخرج مسلم في صحيحه. رقم (18/ 2835) من حديث جابر قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: " جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس".
قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 368) تعليقا على الحديث: "أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ": هذا مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن نعيم أهل الجنة وملاذها بالمحسوسات وغيرها من الملاذ العقليات كأجناس نعيم أهل الدنيا، إلا ما بينهما من الفرق الذي لا يكاد يتناسب، وأن ذلك على الدوام لا أخر له .... "
وقال القرطبي في "المفهم" (7/ 180): بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شرابهم عن ظمأ ولا تثيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية ونعم متناهية. وحكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وزادهم على ذلك مالا يعلمه إلا الله ... ".
وقال ابن تيمية في "مجموع فتاوى" (4/ 330): فإن أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى الله- سبحانه وتعالى- ويتنعمون بذكره وتسبيحه ويتنعمون بقراءة القرآن ويقال لقارئ القرآن اقرأ وارق، ورتل- كما كنت ترتل في الدنيا فان منزلك عند آخر آية تقرؤها. ويتنعمون. بمخاطبتهم لربهم ومناجاته(2/679)
بعضها لم يكن له شعور بالتنعم الذي وصفه الله- سبحانه-، وبالغ فيه. وأي فائدة لفاقد العقل! وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله، ولباسه الحرير والديباج وتحليه بالذهب والجواهر، وأكله من أطيب المأكل، وشربه من أنفس المشروب، وكذا لا نعمه تامة فضلا عن أن يكون فاضلا لمن كان أعمى أو أصم، أو لا يفهم شيئا، أو لا يذكر ما مضى له، ولا يفكر في ما هو فيه.
وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة، والحواس الكاملة إلى حد يتقاصر عنه ما كان لهم من العقول والمشاعر في دار الدنيا، كما كان لهم الهيئة الفائقة هيئة الدنيا شبابا وجمالا، وقوة وفهما، وفكرا وذكرا، وحفظا وسلامة من كل نقص. ولو لم يكن الأمر هكذا لم يكن لهم فائدة. مما بولغ في شأنهم من الصفات، بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة. هذا معلوم بالعقل والشرع، لا يتمارى فيه قط. وأقل حال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا. والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية هذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك. فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة. مما ينغص نعيمهم، ويشوش حالهم، ويكدر [2أ] صفوهم، ويمحق ما أعده الله لهم! ومن التجري على الله- سبحانه-، وعلى رسوله. مما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم، وتكديره وذهاب أثره، ومحق بركته! وأنت تعلم أن مثل هذا يستلزم الكفر الصراح. فأين هذا القادح الفادح من نعيم دار يعدل موضع سوط أحدهم فيها الدنيا بأسرها، وجميع ما فيها، ومن دار نصيف إحدى زوجاتهم يعدل الدنيا وما فيها، ومن دار لو أشرفت إحدى الجواري (1) المعدة لهم
_________
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2796) من حديث أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " .... ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3245) وقد تقدم ذكره.
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن"(2/680)
على أهل الدنيا لفتنتهم أجمعين، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. ومع هذا قد ثبت قرآنا أنهم على سرر (1) متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون، وثبت سنة أنهم يجتمعون (2) ويزاورون (3). فليت شعري ما فائدة هذا الاجتماع والتزاور لمن لا عقل له، ولا فهم، ولا فكر، ولا ذكر!
والحامل أن التقول. بمثل هذا القول هو أن التقول على الله- سبحانه-. مما لم يقل، وعلى رسله، وعلى شرائعه. مما لم يكن منها. وقد ثبت في القرآن الكريم الحكم على المتقولين (4). مما هو معلوم لكل من يعرف القرآن، وإذا ثبت أن مثل هذا باطل في الدار
_________
(1) تقدم ذكر ذلك (ص 678)
(2) تقدم ذكر الآيات في ذلك.
وقد أخرج مسلم في صحيحه رقم (2833) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة- فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم ليزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فتقول لهم أهلوهم، والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا "
(3) وهى أحاديث ضعيفة انظر الترغيب (4/ 453 - 455). وحادي الأرواح ص 373 أما اجتماعهم ومذاكرتهم. مما كانوا في الدنيا وما صاروا إليه في الجنة فقد ورد في القرآن ذلك وقد تقدم ذكره
(4) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37](2/681)
الآخرة، فانظر إلى هذه الدار دار الدنيا التي ليست بشيء بالنسبة إلى الدار الآخرة، لو قيل لأحدهم أنه سيكون لك ما تريد من جمال الهيئة وكمالها، ومن النعيم البالغ، ومن الرياسة التامة، ولكن ستصاب بالجنون، أو تفقد جميع المشاعر لقال لا ولا كرامة، دعوني أعش صعلوكا فقيرا شحاذا فهو أطيب لي مما عرضتموه علي، وأحب إلي مما جئتموني به.
خذوا رفدكم لا قدس الله رفدكم ... سأذهب عنه لا علي ولا ليا
وإنما أوردنا لك هذه الأمور ليعلم أن الروح للإنسان إذا كان ساذجا كان كله ساذجا، إذ الروح هو الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن الدواب، وجميع ما ذكرنا من العقل والحواس الباطنة والظاهرة هو له، لا للحم ولا للدم ولا للعظم، فإذا كان الروح ساذجا فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، وهو المقصود بقولهم في بيان ماهية الإنسان أنه حيوان ناطق، أي مدرك للمعقولات، وليس ذلك للقالب الذي هو فيه. وكما أن ما ذكرناه وقررناه هو إجماع الطوائف الإسلامية على إخلاف أنواعهم فهو أيضًا إجماع أهل الشرائع كلها كما تحكي ذلك كتب الله- عز وجل- المرسلة على رسله، وتحكيه أيضًا كتبهم المؤلفة من أحبارهم ورهبانهم، فإنه لا خلاف بينهم في المعاد وفي النعيم المعد لأهل الجنة، كما حكاه الكتاب العزيز. وقد أوردنا من ذلك في الحرة الفاخرة (1) في إثبات الدار الآخرة، وفي إرشاد الثقات (2) إلى اتفاق الشرائع على إثبات التوحيد والمعاد والنبوات كثيرا من نصوص (3) التوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب نبوات أنبياء الله
_________
(1) يشير إلى الرسالة رقم (10) من هذا القسم " المقالة الفاخرة ".
(2) وهى الرسالة رقم (9) من هذا القسم.
(3) تقدم في تحقيق الرسالة رقم (10)، (9) من هذا القسم.(2/682)
- تعالى-[2ب]، ولم يشذ منهم إلا اليهودي الزنديق موسى بن (1) ميمون، وقد تبرأ منه قدما اليهود، وحرموه أي: أخرجوه من دينهم، بل وكذلك النصارى، وإن لم يكن من أهل ملتهم، فقد صرحوا بخذلانه وزندقته.
قال البصراني في تاريخه (2): ورأيت كثيرا من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافرا انتهى.
قلت: وقد وقع لهذا الملعون من تحريف كثير ما يدل على إلحاده وزندقته، وقد رددت ما حرفه في المؤلفين المذكورين سابقا، وأوضحته بأتم إيضاح وأما يهود عصرنا فصاروا يعظمونه، وذلك لجهلهم بحقيقة الحال، وقد ذكرت لجماعة من أحبارهم بعض تحريفاته فلعنوه وتبرؤوا منه، وكما أن هذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل الملل التابعين لأنبيائهم فهو أيضًا مجمع عليه بين المشتغلين بالعقل والنظر كالكلدانيين (3) والصابئين أتباع صاب بن إدريس (4) كما رويناه في حكاية مذاهبهم التي ذهبوا إليها في شأن المعاد، ومنهم اليونان فإنهم جميعهم من عند اسقلنييوس (5) إلى عند ....
....
..
_________
(1) تقدم ترجمة في الرسالة رقم (10) من هذا القسم (ص 496).
(2) لم أعثر عليه؟!
(3) الكلدانيون: يطلق هذا الاسم على تلك الأمة التي يرجح أنها نزحت من جنوب الجزيرة العربية فسكنت العراق وأقاموا ملكهم هناك بعد قضائهم علي السومريين وعرفت بلادهم باسم "بابل" وقد بعث الله بليهم إبراهيم الخليل يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأوثان التي كانوا يعبدونها. وذلك أيام ملك النمرود بن كنعان، وقد كسر خليل الله أصنامهم وجرت بينه وبينهم مجادلات انتهت بتفوقه على ملكهم كما قص الله ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} إلى قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}.
أنظر النهاية لابن كثير (1/ 40 وما بعدها) كشف الظنون (1/ 29 - 30).
(4) لم أعثر على ترجمته. بما لدي من كتب التراجم.
(5) الأول فيمن تولى رئاسة الطب ضمن الثمانية- من عهده إلى عهد جالينوس- الفهرست لابن النديم (ص 398).(2/683)
جالينوس (1) مصرحة كتبهم. مما للأرواح عليه في دار المعاد، وهكذا المشتغلون بالحكمة الإلهية من أهل الإسلام كالكندي ومن جاء بعده، كالفارابي (2) ومن جاء بعده منهم، كابن سينا (3) فإن كتبهم مصرحة بذلك تصريحا لا شك فيه ولا ريب. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق. حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- في صبح يوم السبت تاسع شهر شوال سنة 1245. [3أ]
_________
(1) ظهر جالينوس بعد 665 سنة من بقراط وانتهت إليه الرياسة في عصره وهو الثامن من الرؤساء الذين أولهم استليادس مخترع الطب وكان معلم جالينوس ارمينس الرومي وأخذ عن اغلوقن وله إليه مقالات. وكان جالينوس وجيها عند الملوك، أكثر أسفاره إلى مدينة رومية. من كتبه [الفرق، الصناعة، كتب العلل والأغراض، الحمايات، التشريح الكبير، ..... ] ومعنى جالينوس الساكن.
انظر الفهرست لابن النديم (ص 402 - 405)
(2) أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن طرفان. أصله من الفاريان من أرض خراعان من المتقدمين في صناعة المنطق والعلوم القديمة.
من كتبه مراتب العلوم، تفسير قطعة من كتاب الأخلاق لارسطاليس وفسر من كتب ارسطاليس: كتاب القياس قاطيفورياس. كتاب البرهان انالوطيقا الثاني.
(3) تقدمت ترجمته في الرسالة رقم (9) من هذا القسم (ص 503).(2/684)
بحث في أطفال الكفار
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن(2/685)
وصف المخطوط
1 - عنوان الرسالة: بحث في أطفال الكفار.
2 - موضوع الرسالة: مصير أطفال الكفار في الآخرة.
3 - الرسالة ضمن مجموعة من الرسائل للإمام محمد بن علي الشوكاني.
4 - أول الرسالة: " الحمد لله وحده. حديث عائشة ... "
5 - آخر الرسالة: " أن وجود العمل وعدمه هما المستقلان بالسعادة والشقاوة وجودا وعدما وإثباتا ونفيا هذا ما سدد الله الفهم واستغفر الله ".
6 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 - عدد الأوراق: أربعة.
8 - المسطرة:
الورقة الأولى: 17 سطرا.
الورقة الثانية: 20 سطرا.
الورقة الثالثة: 20 سطرا مع سطر بالعرض.
الورقة الرابعة: 21 سطرا مع سطرين بالعرض.
9 - عدد الكلمات في السطر: 7 - 9 كلمة.
10 - الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.
11 - الرسالة من المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).(2/687)
الحمد لله وحده. حديث عائشة (1) أنها قالت لما توفي صبي من الأنصار: " طوبى له عصفور من عصافر الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه " فقال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهي في أصلاب آبائهم" هكذا ساقه مسلم في صحيحه (2).
قال النووي في شرح (3) مسلم عند ذكر ما نصه: " أجمع (4) من يعتد به من علماء
_________
(1) عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بمكة قبل الهجرة بسنتين. هذا قول أبي عبيدة. وقال غره: بثلاث سنين وهى بنت ست سنين وقيل: بنت سبع، وابتنى بها بالمدينة، وهى ابنة تسع، ولم ينكح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكرا غيرها، واستأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكنية فقال لها: " اكتني بابنك عبد الله بن الزبير " يعني ابن أختها.
قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
روت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علما طيبا مباركا فيه، بلغ مسندها (2210).
اتفق البخاري ومسلم ب (174) حديثا وانفرد البخاري ب (54) وانفرد مسلم بـ (69).
توفيت سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، فدفنت بعد الوتر بالبقيع.
انظر: الاستيعاب رقم (3463) وشذرات الذهب (1/ 9) الإصابة رقم (11457) وسير أعلام النبلاء (2/ 135 - 201)
(2) (4/ 2050 رقم 31/ 2662)
(3) (16/ 207)
(4) الإجماع لغة:
1) العزم والتصميم قال تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71].
2) الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا، أي اتفقوا.
الإجماع في الاصطلاح: اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع.
انظر: أصول مذهب الإمام أحمد (ص 347)، والأحكام للأمدي (1/ 196)، وتيسير التحرير (3/ 244).(2/691)
المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة، لأنه ليس مكلفا (1). وتوقف منهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة ".
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: " أعطه إني لأراه مؤمنا" فقال "أو مسلما هو" .... الحديث (2). ويحتمل أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك كما في قوله [1] " ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (3) إلا
_________
(1) التكليف: لغة: إلزام ما فيه مشقة، فإلزام مشقة، فإلزام الشيء، والإلزام به: هو تصيره لازما لغره، لا ينفك عنه مطلقا أو وقتا ما.
وقال صاحب القاموس (ص 1099) والتكليف: الأمر. مما يشق، وتكلفه: تجشمه، وقال أيضا: "
ألزمه إياه فالتزمه، إذا لزم شيئا لا يفارقه".
التكليف في الاصطلاح: إلزام مقتضى خطاب الشرع، فيتناول الأحكام الخمسة: الوجوب والندب الحاصلين عن الأمر.
الحظر والكراهة الحاصلين عن النهي.
والإباحة الحاصلة عن التخير إذا قلنا: إنها من خطاب الشرع. ويكون معناه في المباح وجوب اعتقاد كونه مباحا.
انظر: الكوكب المنير (1/ 483) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 58.
(2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (27) ومسلم رقم (236/ 150) و (131/ 150) وأبو داود رقم (4683)
(3) الحنث: الإدراك والبلوغ. وقيل إذا بلغ مبلغا جرى عليه القلم بالطاعة والمعصية.
وقوله: لم يبلغوا الحنث: أي لم يبلغوا مبلغ الرجال، ويجري عليهم القلم فيكتب عليهم الحنث والطاعة.
وقيل: الحنث الحلم. وقيل: الحنث: الإثم.
لسان العرب (3/ 354) مادة حنث.
وانظر: الصحاح (1/ 280)(2/692)
أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم" (1) وغير ذلك من الأحاديث (2). والله أعلم. انتهى
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (1248) و (1381) وفي الأدب المفرد رقم (151) من حديث أنس بن مالك.
(2) (منها): حديث أبي هريرة قال: أتت امرأة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصبي لها، فقالت: يا نبي الله ادع الله له. فلقد دفنت ثلاثة. قال: "دفنت ثلاثة ". قالت: نعم. قال: " لقد احتظرت بحظار شديد من النار".
أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (144و 147) ومسلم رقم (2636) وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 352) والبيهقي
(4/ 67). وهو حديث صحيح.
(ومنها): حديث أبي حسان- خالد بن غلاق- قال: قلت: لأبي هريرة: انه مات لي ابنان.
فما أنت محدثني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم: " صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهما أباه- أو قال أبويه- فيأخذ بثوبه- أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى، أو قال: فلا ينتهي- حتى يدخله الله وأباه الجنة ".
أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (145) ومسلم رقم (2635) وأحمد في المسند (2/ 488و509 - 510) هو حديث صحيح. . "
دعاميص الجنة " الدعاميص: جمع دعموص، وهى دويبة تكون في مستنقع الماء والدعموص أيضا: الدخال في الأمور: أي أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلهم لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم ولا يحتجب منهم أحد.
النهاية
(2/ 120). (ومنها): حديث أبي سلمة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بخ بخ ما أثقلهن في الميزان!!! لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. والعبد الصالح يتوفى للمسلم ليحتسبه". .
أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة رقم (167) وابن أبي عاصم في السنة رقم (781) وابن حبان رقم (2328 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 511) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وهو حديث صحيح.
انظر: الصحيحة رقم (1204).(2/693)
كلامه (1) منقولا من باب معنى " كل مولود يولد على الفطرة .... " وقال (2) في باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه ما لفظه: " وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة. وقد نقل جماعة فيه إجماع المسلمين ".
وقال المازري (3): " أما أولاد الأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- فالإجماع متحقق على أنهم في الجنة، وأما أطفال من سواهم من المؤمنين فجماهير العلماء على القطع لهم بالجنة (4).
ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (5). وتوقف بعض (6) المسلمين فيها،
_________
(1) أي كلام النووي في صرحه لصحيح مسلم (16/ 182)
(2) في شرحه لصحيح مسلم (16/ 180 - 183)
(3) في " المعلم بفوائد مسلم " (3/ 180)
(4) للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1382) عن عدي بن ثابت أنه سمع البراء رضي الله عنه قال: لما توفي، إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن له مرضعا في الجنة"
(5) [الطور: 21]
(6) قال القرطبي في الجامع " لأحكام القرآن " (17/ 66 - 67): " واختلف في معناه فقيل عن ابن عباس أربع روايات:
الأولى: إن الله لرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر كم عينه.
وقيل: أن الله يجمع لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين وبموانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم هم.
الثانية: وعن ابن عباس أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان.
الثالثة: وقال ابن عباس: إن المراد بالذين أمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون.
الرابعة: وفي رواية عن ابن عباس قال: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن
كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء. فالآباء داخلون في اسم الذرية.
وقال ابن زيد: المعنى " واتبعتهم ذريتهم بإيمان " ألحقنا بالذرية أبنائهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل، فالهاء والميم على هذا القول للذرية انظر: الجامع لأحكام القرآن (17/ 67)(2/694)
وأشار أنه لا يقطع لهم كالمكلفين .... والله أعلم. انتهى (1).
وأقول: التأويل للحديث (2) متعين لقيام البرهان على ثبوت الحكمة، ولا ريب أن تعذيب من لا ذنب له ينافيها، هذا على فرض وجود وجه يصح الحمل عليه كالحمل على أنه دال ذلك قبل أن يعلم حكم أطفال المسلمين، ولو فرضنا [2] عدم وجود وجه يسوغ الحمل عليه لكان هذا الحديث معارضا. مما يوجب سقوطه ظاهرا كالآية المذكورة. وحديث "كل مولود يولد على الفطرة." (3).
_________
(1) أي كلام المازوري في " المعلم بفوائد مسلم " ص 180 - 181
(2) أي حديث عائشة المتقدم.
(3) أخرجه البخاري رقم (1319) ومسلم رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء ".
وفي صحيح مسلم ألفاظ منها:
الحديث رقم (22/ 2658): "ما من مولود إلا ولد على الفطرة أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء".
الحديث رقم (00/ 2658): ولفظه " ما من مولود إلا يولد على الفطرة".
الحديث رقم (00/ 2658) ولفظه " ما من مولود يولد إلا وهو على الملة".
الحديث رقم (00/ 2658) ولفظه " ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه".
الحديث رقم (24/ 2658) ولفظه "من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه".
الحديث رقم (25/ 2658). ولفظه " كل إنسان تلده أمة على الفطرة فأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم ".
الحديث رقم (27/ 2658) ولفظه: "فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه فقال رجل: يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك. قال الله أعلم بما كانوا عاملين".
وفي رواية رقم (27/ 2659): " أرأيت من يموت صغيرا منهم" وأما معنى الحديث فللعلماء فيه أربعة أقوال:
1/وهو الذي نختاره عليه أكثر العلماء أم المراد بالفطرة الطبع السليم المهيأ لقبول الدين وذلك من باب إطلاق القابل على المقبول.
فإن الفطرة هي الخلقة. يقال فطره أي خلقه وخلقه الآدمي فرد من ذلك وتهيأ لقبول الدين وصف لها فهذه ثلاث مراتب وذلك المقبول وهو الدين أمر رابع فاسم الفطرة أطلق عليه فكأنه قال: " كل مولود يولد مسلما بالقوة ".
لأن الدين وهو الإسلام حق مجاذب للعقل غير ناء عنه وكل مولود خلق على قبول ذلك وجبلته وطبعه وما ركزه الله فيه من العقل لو ترك لاستمر على لزوم ذلك ويفارقه إلى غيره وإنما يعدل عنه لأفة من آفات البشر والتقليد كما يعدل ولد اليهودي وولد النصراني والمجوسي بتعليم آبائهم وتلقينهم الكفر لأولادهم فيتبعوهم ويعدلون بمن عن الطريق المستقيم الذي فطرهم الله عليه وأنعم عليه به.
2/ أن معناه أن كل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به فليس أحد يولد إلا وهو يقر بأن له صانعا وإن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره.
وهذا القول بينه وبين الأول تقارب في شيء وتفاوت في شيء والأول خير منه.
3/ أن الفطرة ما قضي عليهم من السعادة والشقاوة. وقالوا: الفطرة البداءة واحتجوا بقوله تعالى: {كما بدأكم تعودون}، [الأعراف:29].
4/ أن الفطرة الإسلام ونسب هذا القول إلى أبي هريرة والزهري وعامة السلف في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم: 30.
ومعنى الحديث على هذا خلق الله سليما من الكفر مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية أدم واحتجوا بحديث " إن الله خلق آدم على صورته ونبيه حنفاء مسلمين" أخرجه البخاري رقم (6227) ومسلم رقم (2841) من حديث أبي هريرة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " من حديث عياض بن حمار المجاشعي.
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (63/ 2865).
فالطفل على الميثاق الأول وله ميثاق ثاني وهو قبول الفرائض بعد وجوده وأهلية التكليف فمن مات قبل ذلك مات على الميثاق الأول فدخل الجنة. ولا نعتقد أن أصحاب هذا القول يقولون انه يولد- معتقد الإسلام. هذا لا يقوله عاقل وإنما أرادوا أن يجري عليهم حكم الإسلام على من أسلم حقيقة ثم نام أو مات الذي أقر به في الميثاق الأول.
انظر: فتح القدير (4/ 313 - 314) والجامع لأحكام القرآن (14/ 25 - 30).
وقال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معده ومهيأة لأن يميز ها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه"، فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثرة.
الجامع لأحكام القرآن (14/ 29).
فائدة: إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو الدين الحق. وقد دل على صحة هذا المعنى قوله: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ".
يعني أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات، فلو ترك على أصل تلك الخلقة لبقى كاملا بريئا من العيوب، لكن يتصرف فيه فيجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأ عليه الآفات والنقائص فيخرج عن الأصل، وكذلك الإنسان، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح.
الجامع لأحكام القرآن (14/ 29)(2/695)
وحديث " من مات له من الولد .... " (1) وسائر الأحاديث المقتضية لرفع (2) قلم
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 306) والبخاري في الأدب المفرد رقم (146) وعزاه الحافظ في الفتح (11/ 243) لأحمد وقال: رجاله موثقون.
وأورده الهيثمي في المجمع (3/ 7) وقال أخرجه أحمد ورجاله ثقات.
من حديث جابر بن عبد الله قال: جمعت رسول الله يقول: "من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة" قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال: "واثنان" قلت لجابر: والله أرى لو قلتم: وواحد؟ لقال. قال: وأنا أظنه والله.
وهو حديث حسن.
(2) (منها) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رفع القلم عن ثلاث، فذكر: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق" أخرجه أبو داود رقم (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه رقم (2041) والدارمي (2/ 171) وأحمد (6/ 100 - 101) وابن حبان رقم (1496 - موارد) والحاكم (2/ 59). وهو حديث صحيح.
وله شواهد من حديث علي بن أبي طالب وابن عباس، وأبي هريرة وغيرهم(2/697)
التكليف عن غير البالغ.
ولكنه يمكن أن يقال أن حديث عائشة خاص صحيح يصلح لتخصيص هذه العمومات، وإن خالف في ذلك بعض الطوائف باعتبار عموم القرآن، ولهذا قلنا ظاهرا. ويمكن أن يقال أنه لا إشكال في الحديث، وبيانه أن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة: " أو غير ذلك ... " (1) لم يقع بيانه بأن هذا الطفل قد يكون في النار بل قال " بأن الله خلق للنار خلقا وللجنة خلقا ". وفي ذلك إشارة إلى الأحاديث الصحيحة (2) الواردة في كتب السعادة والشقاوة عند وضع النطفة.
فيتوجه اعتراضه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على عائشة إلى ما ذكرته في آخر كلامها لتعليل كونه عصفورا من عصافير الجنة قائلة لم يعمل السوء ولم يدركه فأرشدها- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى شيء يخالف هذا التعليل ببيان خلق الجنة وخلق النار، وأنه قد جف القلم (3). مما فيه، وكأنه قال لها: هاهنا مقتضى [3] آخر
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا، يقول يا ربي نطفة، يا رب علقة يا رب مضغة، فماذا أراد أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى أم سعيد، فما الرزق والأجل فيكتب في بطن أمه". .
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (312) ومسلم رقم (5/ 2646)
(3) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2516) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وهو كما قال.
عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كنت خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما، فقال لي: يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"(2/698)
للثواب والعقاب، وهو أن الله خلق للجنة خلقا وللنار خلقا، وهم في أصلاب الرجال، وليس المقتضى مجرد العمل.
وفي ذلك إشارة إلى حديث: " سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله" (1) قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فهذا
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (6467) ومسلم رقم (2818) من حديث عائشة رضي الله عنها.
قال الحافظ في الفتح (11/ 295): " قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى:
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها.
ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير ادخلوا منازل الجنة وقصورها. مما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية. والتقدير ادخلوها. مما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم لأن اقتسام منازل الجنة برحمته. وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك. ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم، وقال عياض طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية.
وبعد ذلك نقل الحافظ كلام ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة:
الأول: أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة.
الثاني: أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله.
الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال.
الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا. بمقابلة الأعمال ثم ذكر الحافظ بعد ذلك كلام ابن القيم فقال:
قال ابن قيم الجوزية في كتابه " مفتاح دار السعادة " كما في الفتح (11/ 296) الباء المقتضية للدخول غير الباء الثانية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية باء المعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل. بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضا لها.
لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمة مقتضية لشكرها وهو لم يوفها حق شكرها. ا هـ.
انظر فتح الباري (11/ 296)(2/699)
الحديث. بمجرده يسوغ الاعتراض على من جعل السعادة والشقاوة منوطة بالعمل فقط. وعائشة- رض الله عنها- قد جعلت ما يقتضيه كلامها من سعادة هذا الصبي معللة بعدم عمل السوء مع أنه يمكن أن تكون العفة في سعادته هي ما جرى له من اللطف بتوفي الله له في تلك السن، فإن ذلك. بمجرده لطف مع قطع النظر عن العمل.
فالحاصل أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أبان لها مقتضيا آخر للسعادة، وهو أن الله لطف به وتغمده برحمته بقبضه في ذلك الوقت، ولو كان العمل هو سبب الشقاوة والسعادة كما قالت عائشة لما تم ما تلاه عليها- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أن الله خلق للجنة خلقا وللنار خلقا، وهم في أصلاب آبائهم. ويقوي هذا ما وقع في غير صحيح مسلم بلفظ: " أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا ... " (1). فإن جعل عدم الدراية عنوانا لما أرشدها إليه (2) يشعر بأن إيصال الدراية
_________
(1) تقدم تخريجه
(2) والخلاصة: أن القول الصحيح الذي ذهب إليه المحققون من العلماء وارتضاه جمع من المفسرين والمتكلمين هو أن أطفال الكافرين في الجنة والله أعلم.
وانظر: فتح الباري (3/ 246 - 252). وطريق الهجرتين لابن القيم (387 - 401). وبحث مصير أطفال الكافرين في الآخرة إعداد محمد صبحي بن حسن حلاق ص 43 - 58(2/700)
إليها هو المقصود، ومنشأ ذلك ما فهمه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من عدم الدراية عندها لما جرى على لسانها من تعليل السعادة بعدم العمل المستفاد منه أن وجود العمل وعدمه هما المستقلان بالسعادة والشقاوة وجودا وعدما، وإثباتا ونفيا. هذا ما سبق إليه الفهم وأستغفر الله [4].
((انتهى البحث))(2/701)
بحث في مسألة وهو المسمى البغية في مسألة الرؤية
تأليف محمد بن على الشوكاني
حققه وعلى عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/703)
وصف المخطوط (أ)
1 - عنوان الرسالة: بحث في مسألة الرؤية وهو المسمى" البغية في مسألة الرؤية" (1).
2 - موضوع الرسالة: رؤية الله في الآخرة.
3 - أول الرسالة: قال رضي الله تعالى عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد والصلاة واللام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وصحبه الناصبين رايات الدين الخافضين أعلام العناد. وبعد: فإنا لما جرت المذاكرة وبين بعض الأعلام في مسألة الرؤية التي طال فيها بين الفريقين اللجاج وكثر الخصام ....
4 - آخر الرسالة: ومهما غفلت عن شيء فلا تغفل عن تلك النصوص القوية التي جاها مدعي التخصيص لأدلة الرؤية فإن عليها حامت طيور النقاد وإليها سافرت أنظار علماء الإنصاف وأئمة الاجتهاد، فخذها مجملة غير مفصلة تستأنس ها عن وجه هذه المسألة المعضلة والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ورسوله وعلى آله وصحبه.
5 - نوع الخط: خط نسخط جيد.
6 - عدد الصفحات: (45) صفحة.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: في بعضها (15) سطرا والبعض الآخر (25) سطرا.
8 - عدد الكلمات في السطر: 7 - 9.
9 - الناسخ: حسين بن محسن الأنصاري اليماني.
_________
(1) قدم الأخ العزيز/ عادل حسن أمين/ هذه الرسالة وغيرها من الرسائل المخطوطة إلي خصيصا عندما أحضرها من الهند رجاء التواب والأجر من الله فالله أسأل أن يحفظه ويرعاه ويثبت على الحق حطاه. وأن يغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين.(2/705)
وصف المخطوط (ب)
1 - عنوان الرسالة: " البغية في مسألة الرؤية ".
2 - موضوع الرسالة: رؤية الله في الآخرة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فما له من هاد. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وصحبه الناصبين رايات الدين الخافضين أعلام العناد. وبعد: فإنا لما جرت المذاكرة بيني وبين بعض الأعلام في مسألة الرؤية التي طال فيها بين الفريقين اللجاج وكثر الخصام ....
4 - آخر الرسالة:
. تستأنس ها عن وحشة هذه المسألة المعضلة، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ورسوله وعلى آله وصحبه، كمل من خط جامعه الإمام المجتهد القاضي بدر الدين، العلامة النحرير محمد بن على الشوكاني حفظه الله تعالى، ومتع جميع المسلمين بحياته آمين آمن. وكان التأليف في شهر الحجة الحرام سنة 1203 ثلاث ومائتين وألف وصلى الله وسلم على محمد وآله.
5 - نوع الخط: خط نسخط معتاد.
6 - عدد الصفحات: 28 صفحة + صفحة العنوان.
7 - عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا.
عدد الكلمات في السطر: 15 كلمة تقريبا.
9 - في هامش الصفحة الأولى ما نصه: " هذه الرسالة إن جمعها في أدام الطب بقصد تقييد الفايدة ".(2/709)
قال رضي الله تعالى عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وآله وصحبه الناصبين رايات الدين الخافضين أعلام العناد. وبعد:
فإنها لما جرت المذاكرة بيني وبن بعض الأعلام في مسألة الرؤية التي طال فيها بين الفريقين الفجاج، وكثر الخصام، وقفت على كتب الطائفتن وقوف شحيح ونظرت في حجج القبيلين أفي نظر صحيح، فحررت هذه الأحرف اليسيرة مشيرا ها إلى تلك المطولات وأثرت الاختصار في نقل أدلة الفريقين، فجاء بحمد الله من أجل المختصرات. فأقول: قالت العترة (1) والمعتزلة (2) وصفوة الشيعة (3) والمرجئة (4) ........
_________
(1) العترة في اصطلاح الإمام المهدي صاحب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار (ص ش 8) هم القاسمية والناصرية.
والقاسمية: هم أتباع الإمام القاسم ابن إبراهيم الرص الحسني ولد سنة 170 هـ وتوفي بالرس سنة 224هـ وأما أن الناصرية: هم أتباع الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني ولد سنة 230 هـ وتوفي سنة 304 هـ وقيل في " العترة " غير ذلك.
(2) تقدم التعريف بها (656)
(3) تقدم التعريف بها
(4) من أوائل الفرق التي تنتسب إلى الإسلام في الظهور، وقد احتفت مكانا واسعا في أدهان الناس، وفي اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداهم.
والمرجئة هم الذين كانوا يؤخرون العمل عن الإيمان،. بمعنى أنهم كانوا يجعلون مدار الإيمان على المعرفة بالله والمحبة له والإقرار بوحدانيته ولا يجعلون هذا الإيمان متوقفا على العمل.
وأكثر المرجئة يرون أن الإيمان لا يتبعض ولا لزيد ولا ينقص، وبعضهم يقول إن أهل القبلة لن يدخلوا النار مهما ارتبكوا من المعاصي.
انظر: التبصير في الدين (ص: 59 - 61) الفرق بينها الفرق (ص:122 - 125).(2/713)
والخوار (1) وأكثر الفرق الخارجة عن الإسلام: لا تجوز على الله الرؤية أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ولا من نفسه ولا من غيره. وقالت: الأشعرية (2) والمجسمة (3) وضرار بن عمرو (4) أكثر فرق المجبرة (5) أنه يصح أن يرى نفسه، ويصح أن يراه غيره وقيل يصح أن يرى نفسه ولا يصح أن يراه غيره، حكاه الرازي (6) عن بعضهم، وحكاه البعض عق أبي القاسم البلخي (7) وهو غير مشهور عنه.
_________
(1) تقدم التعريف بهم (ص 153 وص 856)
(2) تقدم التعريف جما (ص 151).
(3) المجسمة هم القائلون بأن الله جسم من الأجسام، وقد أورد الأشعري في (المقالات) (1/ 102 - 105) آراء حمس فرق من الشيعة الأوائل وكلها تذهب إلى التجسيم مثل قول هشام بن الحكم بأن الله تعالى جسم (طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه).
انظر دائرة المعارف الإسلامية مادة جسم (6/ 460 - 461).
(4) هو ضرار بن عمرو من كبار المعتزلة طمع في رياستهم في بلده فلم يدركها فحالفهم فكفروه وطردوه، صنف نحو ثلاثين كتابا بعضها قي الرد عليهم وعلى الخوارج، وفيها ما كحو مقالات خبيثة شهد عليه الإمام بن حنبل عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن الخمس فأفئ بضرب عنقه فهرب.
وقيل: إن يحي بن خالد البرمكي أخفاه، قال الجشمي: ومن عده من المعتزلة فقد أخطأ لأنا نتبرأ منه فهو من المجبرة توفي سنة 190هـ نحو805 م.
انظر: " الملل والنحل " للشهرستاني (1/ 102 حاشية).
(5) تقدم التعريف ها (ص 252).
(6) تقدمت ترجمته (ص 268)
(7) هو عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بابي القاسم الكعبي تلميذ الخياط وأحد المعتزلة البغداديين توفي سنة 309 هـ.
وقد خالف قد ثرية البصرة في أشياء منها:
1/ قوله: إن الله تعالى لا يرى نفسه ولا يراه غيره.
2/ قوله: إن الله سبحانه وتعالى لا يسمع ولا يبصر وكان يزعم أن معي وصفه بالسميع والبصير. بمعنى أن عالم بالمسموع والمرئي.
3/ نفى الإرادة عن الله سبحانه وتعالى.
4/ أنه كان يقول بإيجاب الأصح للعبد على الله تعالى، والإيجاب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئا.
انظر المعتزلة وأصولها الخمسة (ص 74، 75)(2/714)
[الأدلة العقلية للقائلين بامتناع الرؤية]
احتج الأولون على الامتناع بأدلة عقلية ونقليه، وسنشرع في تحرير أدلة الفريقين العقلية.
فمن أدلة المانعين العقلية قولهم: كل محسوس (1) جسم أو عرضي فقط، وكل جسم أو عرض محدث والله ليس. محدث إجماعا. قال: المجوز مجيبا على ذلك لا نسلم كلية الصغرى بقيد فقط بل هو مصادرة على المطلوب، فإنكم جعلتم المدعى أعلى أن كل محسوس جسم أو عرض جزعا من الدليل، وصيرتموه صغرى القياس فيلزم الدور، إذ لا يصح المدعى حتى يصح الدليل بتمام أجزائه، ولا يصح الدليل حتى يصح المدعى إذ هو جزؤه على هذا التقدير، وهو عين الدور المحال.
وأجيب بأن المعقول من الرؤية ما ذكرناه فاستدلالنا مبني عليه فلا مصادرة ودعوى إحساس لا يعقل ليس مما نحن بصدد إبطاله، فإنه يكفينا في نفيه كونه لا يعقل أن تلك الرؤية ذكرتم أنا لا تفتقر إلى شعاع ولا إلى لنطاع ولا إلى غيرهما من الشرائط إحساس فضلا عن إحساس لا يعقل. ورد بأن الرؤية تتعلق بكل موجود. فتكون الصغرى حينئذ جزية هكذا (2) بعض الموتى جسم وعرض ركل جسم وعرض محدث، فبعض الموتى محدث وهو مسلم.
وأجيب بأنا لا نسلم تعلق الرؤية بكل موجود، ودعوى كلية التعلق مبنية على تلك الرؤية التي قلتم إنا لا تفتقر ... الخ. ولولا ذلك لم تتم لكم الصغرى. فجوابنا السالف
_________
(1) انظر رد ابن تيمية على ذلك في منهاج السنة (3/ 344 - 350).
(2) هكذا في المخطوط ولا يخفى أن العبارة تفتقد إلى رابط.(2/715)
شامل لما ذكرتم أنا اشتغلنا عنه بغيره. قالوا منع السند بلا دليل مكابرة. وأجيب بأنه لم يكن منعنا له مجردا على أنا نمنع كونه سندا ونجعله من باب إقحام دعوى على دعوى. قالوا إنما جعلنا ذلك التعلق سندا لأنكم قد اعترفتم بأن الجسم (1) والعرض كل منهما محسوس يصح أن يحس، فقد ثبت أن صحة الرؤية مشترك بين [2] الجسم والعرض، وهذه الصحة لهما علة مختصة بحال وجودهما. وذلك لتحققها عند الوجود كما اعترفتم به وانتفائها عند العدم، فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئية بالضرورة والاتفاق، ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير شقق حال العدم- لكان ذلك- أي اختصاص الصحة بحال الوجود- ترجيحا بلا مرجع، لأن نسبة الصحة- على تقدير استغنائها عن العلة- إلى طرفي الوجود والعدم على سواء، وهذه العلة المصححة للزوم لا بد أن تكون مشتركه بين الجوهر والعرض، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد- وهو صحة كون الشيء مرتبا بالعلل المختلفة والأمور المختصة- إما بالجواهر وإما والأعراض، وهو غير جائز كما تقرر في محله.
ثم نقول: وهذه العلة إما الوجود وإما الحدوث إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة بتوهم كونها مصححة سوى هذين، لكن الحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة، لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح أن يكون جزاء للعلة، لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم ولا ما هو مركب منه، وإذا سقط العدم عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود، فإذن هي- أي العلة المشتركة- الوجود، فإنا مشتركة بينهما وبن الواجب لما تقرر من اشتراك الوجود بين الموجودات كلها. فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى بتحقق صحة الرؤية وهو المطلوب.
وأجيب بأنه قد اعترف [3] بركاكة هذا الدليل- الذي هو أشهر أدلتكم- كثير
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى 6/ 102 - 108 - 299).(2/716)
من فضلائكم، وصرح بضعفه كل محققيكم، حتى قال سعد الله: في شرح المقاصد: الإنصاف أن ضعف هذا الدليل جلط، ومع هذا فإنه يرد على قولكم ا: وهذه الصحة لها علة إلخ- أن الصحة معناها الإمكان، وهو أمر اعتباركم فلا يفتقر إلى علة موجودة، فكيفية الحدوث هو أمر اعتباري فيكون هو المصحح لرؤية الجوهر والعرض، وذلك لا يجزئ في الواجب قطعا وعلى قولكم، وإلا لزم تعليل الأمر الخ. أن الممتنع (1) أن يعلل بالعلل المختلفة إنما هو (2) الواحد الشخصي لا الواحد النوعي، كالحرارة بالذي، والنار، فيصح تعليل رؤية الجوهر والعرض. مما لا يلزم أن يكون مشتركا بينهما، بل يكون مختصا بالجوهر تارة وبالعرض أخرى، ومع ذلك لا يلزم إمكان رؤية تعالى، وعلى قولكم، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما (3) بأن الإمكان مشترك أيضًا بينهما، ولو سلم أنه ساقط من درجة الاعتبار لأن مرجعه إلى العدم والتأثير صفة إثبات تأثير العلة فلا يتصف ها العدم وكذا الحدوث ساقط عن درجة الاعتبار لذلك فمن أين جاء الحصر بقولكم لا مشترك- سلمنا (4)، فالدليل منقوض بصحة المخلوقية والملموسية وغيرهما، فإنا مشتركة بين الجوهر (5) والعرض فيلزم صحة كون الباري تعالى مخلوقا وملموسا لكونه موجودا، أو الوجود هو العلة على ما قررتم حيث قلتم لا علة لصحة الرؤية إلا الوجود، وعلى قولكم إن العلة المشتركة هي الوجود بأنكم قائلون إن وجود كل شيء عينه، وحكمكم باشتراك الوجود يقضى بأن الأشياء كفها متفقة الحقيقة، لا أنا مشتركة فيما هو على لها، واشتراك [4] الشيئيين فيما هو تمام عينيهما قاض بأن حية واحدة وهو. معزل عن المعقول، ويرد عليكم أيضًا على مقتضى ذلك الدليل- أعني صحة
_________
(1) الظاهر أن العبارة أدركها بعض التحريف ولعل كلمة " أن " محرفة من الاسم الموصول " الذي ".
(2) زيادة من [ب].
(3) لعل اللفظة "فإن" بالفاء بدل الباء.
(4) جواب ولو سُلم.
(5) انظر درء تعارض العقل والنقل (6/ 267 وما بعدها).(2/717)
الرؤية لكل موجود- أن الطعوم والروائح والأصوات والاعتقادات مرئية وهي لا تدرك بالاتفاق.
قالوا: ندفع الأول. مما قاله الجويني (1) من أنه ليس المراد من العلة ما هو المتبادر من التأثر، أي ليس المراد، بالعلة هو المؤثر في الصحة حتى يرد ما ذكر، بل المراد مجرد ما يصلح متعلقا للرؤية وقابلا لها ولا بد من وجوده، فلا يكون مثل الحوادث كافيا إذ لا تحقق له في الأعيان.
والثاني بأن متعلق الرؤية لا يجوز أن يكون من خصوصيات الجوهر أو العرض، بل يجب أن يكون مما يشتركان فيه، للقطع بأنه قد يرى الشيء من بعيد ولا يدرك منه إلا هويته دون خصوصية كونه جوهرا أو عرضا، فرسا أو إنسانا .. إلى غير ذلك من الخصوصية وهذا معي كون الرؤية المشتركة مشتركة.
والثالث: بأن الإمكان أمر اعتباري فلا يمكن تعلق الرؤية به وأن علية الصحة يجب أن تكون مختصة بحال الوجود والإمكان ليس كذلك كما لا يخفى، وأيضا فالمعدوم متصف بالامكان فيلزم صحة رؤيته وهو باطل بالضرورة.
والرابع:. مما قاله صاحب المواقف (2) متأولاً الكلام. . . .
_________
(1) هو أبو المعالي عبد الله بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ركن الدين الملقب بإمام الحرمين: أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي ولد في جوين من نواحي (نيسابور) 419 هـ- 1028م رحل إلى بغداد فمكة حيث جاور أربع سنين. وذهب إلى المدينة فأفئ ودرس جامعا طرق المذاهب.
من مصنفاته: - البرهان في أصول الفقه.
-الإرشاد في الأصول.
- التلخيص.
- الشامل في أصول الدين.
انظر: الأعلام للزركلي (4/ 160).
(2) للقاضي عضد الدين الإيجي (ت 756 هـ).(2/718)
الأشعري (1) وذلك حيث قال بأن مراد الشيخ: أنه ليس في الخارج هويتان إحداهما الوجود والأخرى الماهية، فالاتحاد بينهما بحسب التحقيق لا بحسب المفهوم، فلا ينافي اشتراكهما في مفهوم مطلق الوجود. وأجيب عن الأول بأن تفسير العلة. مما يكون متعلقا للرؤية [5] يقضي أن علة الصحة هي الموجود لا الوجود. أما لو قيل إن متعلق الرؤية هو الوجود كما هو المفروض لم يتم الدفع، لأن الوجود أيضًا لا تحقق له في الأعيان كالحدوث، وإلا لكان موجودا.
[وعن] (2) الثاني ما قاله التفتازاني (3) معترضا على ذلك الدفع بلفظ وفيه نظر، لجواز أن يكون متعلقا الرؤية هو الجسمية وما يتبعها من الأعراض من غير اعتبار الخصوصية. وبما قاله اللقاني (4) في شرح الجوهرة من أن مفهوم الهوية أمر اعتباري أيضًا لا تحقق له
في الأعيان فكيف يكون متعلقا للرؤية بل متعلقا ليس إلا خصوصيات المرئيات، ولا يلزم أن يكون كل إدراك صالحا لأن يتوصل به إلى تفصيل المدرك إلى ما فيه من الجواهر والأعراض، بل قد يكون إجمالي من حيث هو مدرك.
_________
(1) تقدمت ترجمته (ص151).
(2) في المخطوط (من) وسياق البراهين يقتضي أن يكون حرف الجار "عن" أسوة بالباقي.
(3) مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني سعد الدين: من أئمة العربية، والبيان والمنطق. ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) وأقام بسرخس وأبعد تيمورلنك إلى سمرقند. فتوفي فيها. ودفن في سرخس.
كانت في لسانه لكنة. من مكتبة " قذيب المنطق " مقاصد الطالبين في الكلام. " شرح العقائد النسفية " حاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب.
الأعلام للزركلى (7/ 219).
(4) واللقاني: هو إبراهيم بن إبراهيم بن حسن الفقاني ( ... -1041 هـ) أبو الإمداد، برهان الدين. فاضل متصوف مصري مالكي. نسبته إلى " لقائه من البحيرة. ممصر. توفي بقرب العقبة عائدا من الحج.
له مصنفات منها: جوهرة التوحيد، منظومة قي العقائد، وبهجة المحافل.
انظر: الأعلام للزركلى (1/ 28).(2/719)
وبما قاله الخيالي (1) من أن حاصل هذا الدفع من أن متعلق الرؤية أمر مشترك في الواقع أي الهوية، وهو لا يدفع الاعتراض المذكور ويستلزم استدراك التعريض لرؤية الجوهر والعرض، وذكرهم لاشتراك الصحة بينهما ولا يستلزم الاشتراك في المعلول الاشتراك في العلة، إذ يكفى أن يقال إذا رأينا زيدا فإنا لا ندرك منه إلا هوية ما، وهى مشتركة بين الواجب والممكن.
وعن الثالث بأن كون الإمكان أمرا اعتباريا قد سبق ما فيه على أن الحدوث أيضًا اعتباري نظرا إلى أنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، وهذا المفهوم أمر اعتباري لا وجود له في الأعيان، فما وجه التخصيص للحدوث دون الإمكان؟ وأما كون الرؤية [6] لا تتعلق إلا بالموجود: فإن أريد به أنه لا علة لصحة الرؤية إلا الوجود فذلك عين الدعوى الممنوعة أول البحث، وإن أريد أن الرؤية إنما تتعلق في الواقع بالموجود فلا يضرنا ولا ينفعكم، ولا يلزم منه أن الوجود هو العلة المصححة للرؤية، بل يجوز أن تكون الرؤية متعلقة بخصوص المرئيات من الجوهر والعرض كما سبق.
وعن الرابع:. مما قاله الحواني (2) في شرح العضدية من أن ذلك في غاية البد، ثم قال وقيل: إن الشيخ وإن أنكر اشتراك الوجود فإنما أقام هذا الدليل على سبيل إلزام المخالفين القائلين بالاشتراك.
_________
(1) هو أحمد بن موسى الخيالي شمس الدين فاضل، كان مدرسا بالمدرسة السلطانية في بروسه بتركيا، له كتب منها: " حاشية على شرح السعد على العقائد النسفية ".
الأعلام للزركلى (1/ 262).
(2) هو محمد بن أسعد الصديقي الدواني جلال الدين، قاض باحث. يعد من الفلاسفة ولد في دوان (من بلاد كازرون) وسكن شيراز. المتوفى سنة 907 هـ.
له مصنفات منها
- شرح العقائد العضدية.
- حاشية على شرح التوضيح لتجويد الكلام.
- حاشية على تحرير القواعد المنطقية للقطب الرازي.
الأعلام للزركلى (6/ 32).(2/720)
وهذا القائل هو الآمدي (1) لأنه اضطرب في الدفع عن الشيخ ولم يجد إلى الجواب سبيلا، وأيضا متفق الرؤية ليس هو نص مفهوم الوجود، فإن المفاهيم. ممعزلي عن الكون في الأعيان فلا يتم كلا الشيخ الأشعري (2) على ما فيه من البعد.
ثم بعد الإغماض عن هذا كله لا دفع للنقض بصحة المخلوقية والملموسية وغيرهما من الأمور المشتركة كوجوب الوجود بالغير، وسائر الأمور العامة كالماهية والمعلومية وغيرهما وعلى فرض المناقشة في النقض بالأمور العامة فلا مناقشة بالنقض بصحة الملموسية والمخلوقية، إلا أن البعض جعل النقض بصحة الملموسية قويا دون المخلوقية، وفيه نظر يؤخذ من شرح التجريد [القوشجي] (3) ثم اعلم أن محقق الأشعرية بعد اعترافهم بركة هذا الدليل العقلي وضعفه معترفون بأن التعويل على الدليل العقلي في هذه المسألة متعذر
_________
(1) هو أبو الحسن علي بن أبي محمد سالم الثعلبي الأصولي الفقيه الملقب سيف الدين الآمدي ولد سنة 551هـ كان أول شبابه، وأول اشتغاله بالعلم حنبلي المذهب انحدر إلى بعداد ثم انتقل إلى المذهب الشافعي.
من مصنفاته: أبكار في علم الكلام اختصره في كتاب سماه " منائح القرائح ورموز الكنوز ".
- دقائق الحقائق.
- الأحكام قي أصول الأحكام.
توفي سنة 631 هـ دفن بسفح جبل فاسيون.
انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 456) البداية والنهاية (13/ 140 - 141).
(2) تقدم التعريف به (ص151).
(3) علي بن محمد القوشجى. علاء الدين، فلك رياضي، من فقهاء، الحنفية أصلة من سمر قند [ ... - 879 هـ.] كان ألوه خادم الأمير "الغ لك " ملك ما وراء النهر يحفظ له البزاة (ومعنى القوشجي في لغتهم حافظ البازي).(2/721)
فلا نطول الكلام بنقل حججهم العقلية، وأجودها [7] لديهم الدليل السمي بدليل الوجود وقد أدرجناه فيما سلف.
قال السيد المحقق في شرح المواقف (1) ما نصه: (ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤية الله تعالى لكي لا يلتبس على الفطن النصفي أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهوايات أمر اعتباري كمفهوم الهوية والحقيقة، فلا تتعلق ها الرؤية أصلا وأن المذكور من الشيخ البعيد هو خصوصيته الموجودة إلا أن إدراكها إجمال لا يتمكن به على تفصيلها، فإن مراتب الإجمال متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة فليس يجب أن يكون كل إجمالي وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا، وفي هذا الترويج تكلفات يطلعك عليها أدنى تأمل.
فإذن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فليس إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي (2) من التمسك بالظواهر النقلية) (3) انتهى كلامه.
إذا عرفت هذا الاعتراف بتعذر التعويل على أدلة العقل والتصريح بأن لا متمسك إلا أدلة النقل فسنطلعك على نصيب تبصر به إن شاء الله تعالى الحق، ولكنا لما رأينا القائلين بعدم جواز الرؤية مصرحين في كتبهم الكلامية بعكس ما صرح به حذاق الأشعرية حتى
_________
(1) للقاضي عضد الدين الإيجي (ت 756 هـ) المواقف في علم الكلام.
(2) محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي (نسبة إلى ماتريد بسمرقند) توفي سنة 333 هـ من أئمة المتكلمين ورأس الماتريدية، وقد خالف الأشعري في مسائل أوردها أبو عذبة في كتابه " الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية ".
الأعلام (24217). تاريخ الأدب العربي (4/ 41 - 43).
وانظر: الماتريدية (ص 85) وما بعدها.
(3) انظر أراء الماتريدية في " الرؤية" تلبيس الجهمية (8812) منهاج السنة (2/ 331 - 333).(2/722)
جزموا بأن الاعتماد في المسألة ليس إلا على أدلة العقل لكونها مفيدة للقطع بخلاف النقل.
قال في شرح القلائد (1) ما نصه: "و قد اقتصر الإمام على العقلية فقط وإنما ذكر السمعية في آخر المسألة معارضة لما احتج به المخالف من [8] السمع، وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح لأن كون تلك السمعية مفيدة للقطع محل نزاع مبني على أن كون العموم يفيد القطع والظن، فكان الاقتصار على الأدلة العقلية المفيدة للقطع بكل حال هو الأولى انتهى.
أحببنا (2) نوقفك على ما هو العمدة منها عندهم لتنقطع عن قلبك علائق الشكوك يهون لذلك خطب التهويل، فنقول: قد استكثروا من الأدلة العقلية، وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منها، وسنذكر هاهنا أشهر أدلة هذه المسألة عندهم وهو دليلان: (الأول): الموانع. (والثاني) دليل المقابلة. وقد وقع بينهما الخلاف في ترجيح أحدهما على الآخر فمنهم من ذهب إلى ترجيح دليل الموانع وهو المأخوذ من أصول أبي هاشم (3) وبه قال محمود بن الملاحمي (3)، ورجحه المهدي أحمد بن يحط. ومنهم من رجح دليل المقابلة وهو المأخوذ من أصول أبي علي (4) وهو من معتزلة البصرة وقد ترجم له في الرسالة (24) من هذا القسم. (5) وبه قال السيد المؤيد بالله ومنهم من قال بالاستواء وهو القاضي عبد الجبار (6) وغيره.
_________
(1) " شرح القلائد في تصحيح العقائد " تأليف الشيخ عبد الله بن محمد النجري وهذا الشرح في علم الكلام.
مؤلفات الزيدية (174/ 2 رقم 1971).
(2) لعل الحرف المصدري " أن " سقط من الناسخ.
(3) هو محمد بن أحمد بن محمد الملاحمي (أبو نصر). وقيل محمود طبقات الشافعية (5/ 231)
(4) تقدمت ترجمته في الرسالة
(5) وهو من كبار المعتزلة (ص 264).
(6) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني الأسد آبادي ولد سنة 320 هـ على الأرجح وتوفي سنة 415 هـ كان أشعريا ثم انتقل إلى الاعتزال بعد اتصاله بالعالم المعتزلي أبي إسحاق بن عياش. وبقى على هذا المذهب طيلة حياته، عاصر بي بوية وولي القضاء في الري سنة 385 هـ من مؤلفاته: المغني في أبواب العدل والتوحيد، شرح الأصول الخمسة، وتنزيه القران عن المطاعن ومتشابه القرآن معجم المؤلفين (78/ 5، 79) الأعلام للزركلى (3/ 273 - 274)(2/723)
أما دليل الموانع فتحريره أن يقال: القديم تعالى حاصل على الصفة إلى لو رؤي لما رؤى إلا لكونه عليها، والواحد منا حاصل على الصفة إلى لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها. من صحة الحاسة وارتفاع الموانع فلو صحت رؤيته لوجب أن [يرى] (1) الآن فهذه ثلاثة أصول:
(الأول): أن القديم حاصل على الصفة .. الخ.
(والثاني): أن الواحد منا .. الخ.
(والثالث): أن لو صحت رؤيته .. الخ.
أما الأول: فلا خلاف في ذلك لأن الأكثر يقولون الشيء إنما تصح رؤيته لأجل صفته المقتضاه، فهو من أحكامها، وعند الشيخ أبي عبد الله أنه لأجل الصفة الذاتية، وعند الأشعريه لأجل الوجود، وعند ضرار (2) لأجل ماهيته (3) التي يختص بعلمها، والله
_________
(1) في [ب] أن نراه
(2) تقدمت ترجمته (ص 714).
(3) قال ضرار بن عمرو: إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس، ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه ها. ثم قال هذا الرجل: لله عز وجل مائية لا يعلمها في رقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة: لا يصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيرة.
وقال مرة: بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه، وهو سبحانه رأى نفسه عالم. ممائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته ذكر ذلك ابن تيمية في تلبيس الجهمية (1/ 344 - 349). وانظر الرد عليه هناك(2/724)
حاصل على كل هذه الأمور [9].
وأما الثاني: فلأن الواحد (1) منا إنما يرى لأجل كونه حيا لشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك، وقد اختلف في هذه الأشياء أهي كافية في كون أحدنا مدركا أم لا؟. فقال الجمهور إن كافية، فمن حصلت هذه الأشياء أدرك المدركات، ومن تخلف شيء منها لم تدرك. وقال أبو علي والأشعري: بل لا بد من أمر آخر وهو الإدراك، إذ هو معن عندهم يخلقه الله عند المشاهدة ونحوها من الحواس. واختلف الجمهور الذين قالوا هذه الأمور كافية: هل العلم بذلك ضروري أو اكتسابي؟.
فقال أبو الحسن: (2) هو ضروري فإنا نعلم ضرورة أن أحدنا من كان صحيح الحاسة والموانع مرتفعة والمدرك موجود وجب أن يدرك، ومن تخلف شيء منها استحال أن يدرك. وقال (3) الجمهور بل اكتسابي استدلالي وذلك أنا وجدنا الإدراك يتحصل عند اجتماع هذه الأمور عند انتفاء شيء منها على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة، فعلمنا أن كافية في الإدراك وأن لا تفتقر إلى أمر سواها، وإذا ثبت ذلك فلا التباس أن هذه الأمور مجتمعة في أحدنا بالنسبة إلى القديم تعالى، أما صحة الحاسة فظاهر وأما ارتفاع الموانع فلأن الموانع منحصرة في الثمانية المعروفة وكلها إنما تمنع من رؤية الأجسام والألوان، والله تعالى ليس بجسم ولا لون فلا تكون مانعة من فثبت الأصل الثاني. وأمما الثالث فلأنه إذا حصل الموجب للإدراك- وهو كون أحدنا حيا واجتمعت الشرائط- وجب حصول المقتضى وهو الإدراك، وإلا خرج المقتضى عن كونه مقتضيا، وهو محال. فهذا تحرير دليل الموانع [10] على سبيل الاختصار.
_________
(1) انظر تلببس الجهمية (2/ 85 - 86).
(2) أبو الحسن الأشعري وقد تقدم التعريف به (ص151)
(3) انظر تلبيس الجهمية (2/ 105 - 107).(2/725)
وأما دليل المقابلة فتحريره أن يقال: أحدنا إنما يرى بالحاسة والرائي بالحاسة لا يرى إلا ما كان (1) مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، والله تعالى ليس بشيء من ذلك، وقد حرر السيد ما ذكرتم في شرح الأصول تحريرا مطولا، وقد يحرر دليل المقابلة على تحرير آخر فرارا من الاعتراض الوارد على هذا التحرير من أن ذلك إنما يحصل باستمرار العادة وإن كان يصح خلافه، أو أن ذلك إنما هو شرط في رؤية الأجسام والألوان، وأما رؤية الله فلا يشترط فيها ذلك.
وصورة ذلك التحرير أن يقال: الواحد منا إنما يرى بالشعاع، والرائي بالشعاع إنما يرى ما كان متحيزا أو مختصا بجهة يتصل ها الشعاع، فلو صحت رؤيته لكان متحيزا ولا مختص بجهة يتصل ها الشعاع، فهذه ثلاثة أصول:
أما الأصل الأول: وهو أن أحدنا إنما يرى بالشعاع، فلأن الرؤية المعقولة في الشاهد إنما هي الرؤية بالشعاع، فإن الله تعالى ركب بنية العين تركيبا مخصوصا وجعل لها شعاعا، وهو أجزاء نور مناسبة لتلك البنية فبمجموعها يحصل الإدراك، ولهذا فإن أحدنا إذا اشتد عليه الظلام زال إدراكه لزوال الشعاع، وإن كانت حاسته في نفسها صحيحة، فعلم أن أحدنا إنما يرى بالشعاع (2).
وأما الأصل الثاني: وهو أن الرائي بالشعاع لا يدرك إلا ما كان متحيزا أو مختصا بجهة يتصل الشعاع- فلأن أحدنا إذا اثبت أنه رأى بالشعاع لم ير إلا ما وقع عليه ذلك الشعاع واتصل به، إذ لو رأى ما لم يتصل به لما كان أحدنا رائيا بالشعاع حينئذ، بل لا يفتقر إليه البتة، بل كان يلزم صحة أن يدرك جميع المدركات، ولو وجد من الموانع ما وجد، إذ تلك الموانع كلها تمنع من اتصال الشعاع، والمعلوم خلافه، فعلم أنه لا بد من اتصال الشعاع المرئي، والشعاع حاصل في الجهات لأنه أجزاء رقيقة نورية
_________
(1) انظر مناقشة ابن تيمية لذلك في تلبيس الجهمية (1/ 359)
(2) انظر الإرشاد للجويني (ص:160)(2/726)
حاصلة بين الحاسة والمرئي فلا بد حينئذ من أن يكون المرئي حاصلا في جهة إذ لا يعقل الاتصال بين ما هو في جهة وهو الشعاع وبن ما ليس في جهة وهو المرئي، وأما اللون فمعي اتصال الشعاع به هو أن يتصل. محله وجهة محله، فثبت أن المرئي بالشعاع لا بد أن يكون مختصا بجهة يتصل ها الشعاع.
وأما الأصل الثالث: وهو أن الله تعالى لا يختص إنه فقد ثبت أن اختصاصه. مكان يستلزم أن يكون من جنس الأجسام، وسواء كان جسما مركبا (1) من ثمانية جواهر أو أقل أو أكثر، وإنما قلنا إن القول بذلك يستلزمها لأدت كل (2) ما تمكن في الأماكن أو شغل الجهات فهو متحيز، وكل متحيز فهو من قبيل الأجسام، والجسمية تستلزم الحدوث لما تقرر من أن كل جسم محدث، وهو على هذين الدليلين، أعنه دليل الموانع، ودليلي المقابلة اعتراضات ومناقشات ودفوع.
فمما أورد على دليل الموانع أن قولكم إن أحدنا حاصل على الصفة التي لو ورث لما رئي إلا لكونه عليها- غير مسلم، بل يفتقر إلى أمر آخر وهو الإدراك الذي هو المعني، وأما استدلالكم على نفيه بأن أحدنا إذا كان صحت الحاسة والموانع مرتفعة والمدرك موجود أن تدرك .. الخ. فجوابه أن يقال ما أنكرتم أن الله تعالى قد أجرى العادة أن يخفق الإدراك الذي هو المعني عند اجتماع هذه الأمور ولا يخلقه عند شماء منها، وجعل ذلك مستمرا على طريقة واحدة. وأجيب عن هذا بأنه يستلزم أن كون احدنا أن يكون بين يديه أجسام عظيمة وهو يراها بأن لا يخلق الله له ذلك المعنى، والمعلوم أن أحدنا يعلم أنه لا شطء بحضرته، وأن هذا العلم مسند إلى أنه لو كان شيء بحضرته لرآه.
_________
(1) انظر تلبيس الجهمية (1/ 609 وما بعدها).
(2) في المخطوط (كلما) وهو خطأ إملائي إذ وردت فيه موصولة كالشرطية "كلما" والصواب ما أثبتناه.(2/727)
واعترضه المؤيد بالله عليه السلام (1) وغيره أنا لا نسلم أن هذا العلم إلى ما ذكرتم بل يجوز أن يكون علما ابتدائيا يخلقه الله تعالى فينا ابتداء إلى غير ذلك من الاعتراضات على هذا الدليل.
ومما أورد على دليل المقابلة أن قولكم إن أحدنا لا يرى الشعاع معترض بأن يقال إن هذا إنما هو في رؤية الأجسام والألوان فقط في الكريم أن الله لا تصح رؤيته ولا يفتقر فيها إلى شعاع فلا يلزم حينئذ أن يكون صح أصلا في جهة كما ذكرتم.
وأجيب بأنا إنما ننفي عن الله تعالى الرؤية المعقولة والرؤية إلى نعقلها إنما هي بالشعاع كما تقدم. وأما ما لا يعقل فيكفيه نفيا أنه لا يعقل، على أن الرؤية بغير الشعاع كالرؤية بغير الحاسة في أفما لا يسميان رؤية أحمية لغوية إلى غير ذلك من الاعتراضات الواردة على هذا الدليل، على أن أبا هاشم قد ذهب إلى أن الشيء إذا كان تصح رؤيته في نفسه فإنه يصح أن يرى وإن لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، ولهذا أقر جماعة من القائلين بعدم جواز رؤية الله أن اعتمادهم في هذه المسألة ليس إلا على دليل الموانع وممن صرح بذلك النجري (2) في شرح القلائل.
قال: قالت الأشعرية: ورؤيته تعالى بلا كيف، أي لا يرى في جهة من الجهات ولا على صفة من الصفات. وتحقيق ذلك ما قاله الرازي: ونصه: (المراد من الرؤية أن يحصل انكشاف قام بالنسبة إلى ذاته المخصوصة ويجري مجرى الانكشاف الحاصل عند اتصال الألوان والأضواء، وهذا الانكشاف لا أن يكون المكشوف حاصلا في جهة). وقال في موضع آخر: (ربما عاد الخلاف بين أصحابنا
_________
(1) ثم التعليق على هذا " اللفظ " في رسالة " الصوارم الحداد " رقم (24) من مجلدنا هذا.
(2) ولد (825 - 877 هـ) من مؤلفاته " شرح القلائد في تصحيح العقائد " انظر الأعلام للزركلي (12714) الضوء اللامع (5/ 62).(2/728)
وبين المعتزلة في هذه المسألة إلى اللفظ وإلى العبارة، يعني أن هذا الانكشاف الذي يسمونه الرؤية بالحاسة هو الذي تسميه المعتزلة علما ضروريا، لكن المشهور أن الخلاف بين الفريقين معنوي" (1) انتهى.
وأجيب على دعوى رؤيته تعالى بلا كيف بأن ذلك مما لا يعقل.
قالوا إنكارنا شيء عما هو معتاد في الرؤية، والحقائق لا تؤخذ من العادات لأنا لا نشترط في الروية ما ذكرتم من الضوء والمقابلة وغير ذلك من الشروط، وخروج الشعاع أو الانطباع أمر عادي قد جرت عادة الله بذلك وهو قادر على خلق الرؤية فينا من غير هذه الشروط ولا يلزم من صحة رؤية الشيء تحقق الرؤية.
ودفع هذا الجواب بأنه سفسطة (2)، وعدم اشتراطكم الضوء والمقابلة واتصال الشعاع بالمرئي إن كان مع بقاء العن على هذا التركيب وهذه البنية المخصوصة فذلك خارج عن العقل، وإن كان لامع البقاء بل إذا شاء الله ذلك وأراده يجعل العن بغير هذه البنية وعلى غير هذا التركيب الخاص فلا نزاع لأحد في هذا لكمال اقتداره تعالى.
وقولهم: الحقائق لا تؤخذ من العادات قلنا قد صرحتم أن تصديق الرسول بالمعجزة وثبوت صدقه وصدق ما جاء به لا طريق له غير العادة، فإذا تركتم أخذ الحقائق من العادات تركتم الشريعة بأسرها ومن جملتها أدلتكم النقلية التي جزمتم بأن المعتمدة في هذا
_________
(1) انظر: تلبيس الجهمية (2/ 75 - 76).
(2) السفسطة قياس مركب من الوهميات والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته كقولنا الجوهر موجود في الذهن وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض لينتج أن الجوهر عرض.
التعريفات للجرجاني (ص 234).
ومنها السوفسطائية اسم المهنة إلى ها يقدر الإنسان على المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام ... وهو مركب في اليوناتيه من (سوفيا) وهي الحكمة رمن (أسطس) وهى المموهة، فمعناه حكمة مموهة: انظر الصفديه لابن تيمية (1/ 97 - 98) ط الرياض سنة 396 هـ.(2/729)
البحث.
ومما يصلح لدفع هذه الدعوى أعني: أن الرؤية بلا كيف ما أوردوه في هذا المقام مستدلين [4] به على الرؤية كحديث تشبيه رؤية تعالى برؤية البدر والقمر (1)، وحديث أبي هريرة عند مسلم (2) وفيه " فيأتيهم الله تعالى ني صورة غر صورته المط يعرفون* وحديث جابر عند مسلم (3) أيضًا وفيه " فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم تبارك وتعالى ". وغير ذلك فإنها كفها مصرحة بالكيف. وأيضا يشهد على ضعفه أنه خلاف ما عليه جميع الفرق.
قال الرازي: في المحصل ما نصه: (مسألة: الله تعالى يصح أن يكون مرئيا لنا خلافا لجميع الفرق. أما الفلاسفة والمعتزلة (4) فلا إشكال في مخالفتهما وأما المشبهة (5) والكرامية (6) فلأنهم إنما جوزوا رؤيته لاعتقادهم كونه تعالى في المكان والجهة. أما بتقدير
_________
(1) أخر به البخاري رقم (554) ومسلم رقم (633) من حديث جرير بن عبد الله.
(2) بل في الصحيحين أخرجه البخاري رقم (806) ومسلم رقم (299/ 182).
(3) في صحيحة رقم (316/ 191).
(4) تم التعريف بها (ص 656).
(5) المشبهة: هي فرقة من الشيعة الغالية، والحشويه صرحوا بالتشبيه ومنهم الهشاميين من الشيعة ومضر وهمس وأحمد الهجنمى. قالوا: معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية، وإما جسمانية ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن.
والمشبهة الحشوية: قد أجازوا على رهم الملامسة والمصافحة وان المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا ولآخر إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض.
وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا.
وانظر الملل والنحل (118/ 1 - 123).
(6) الكرامية: وهم أصاحب أبي عبد الله محمد بن كرام كان ممن يثبت الصفات إلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبية.
والكرامية طوائف يبلغ عددها ثنى عشرة فرقة، وأصولها ستة العابدية والتونية، والزرينية، رالإسحاقية، والواحدية، وأقرهم الهيصمية ولكل واحد منهم رأي. =(2/730)
أن يكون هو تعالى منزها عن الجهة فهم يحيلون رؤيته فثبت أن هذه الرؤية المنزهة عن الكيفية مما لا يقول به أحد إلا أصحابنا) انتهى.
تنبيه: قال: ضرار بن عمرو (1) أنه تعالى يرى بحاسة سادسة، وذلك لما رأى باقي إدراكه هذه الحواس من المحالات، ورد قوله بأن هذه الحاسة إن كانت شعاعا لزم كونه جسما لما تقدم في (2) دليل المقابلة، وإن لم يكن شعاعا فغير معقول، على أن تسميتها رؤية ممنوعة، لأن الرؤية اسم للإدراك هذه الحاسة، ومن الإلزامات العامة له، وللأشعرية تجويز أن يكون الله تعالى مطعوما ومسموعا وملموسا ومشموما: إما على وجه غير ما نعقله في الشاهد كما قالت الأشعرية في الرؤية، أو بحواس أخر كما قال ضرار، فإن منعوا ذلك ورد عليهم ما أوردوه على المانعين من الرؤية من أن المنع طعن في قدرة الله وإلا فما الفرق؟
مقدمة ينتفع ها بين يدي الأدلة النقلية
وسنشرع الآن في سرد أدلة الفريقين النقلية والكلام عليها وسنهدي إليك قبل الشروع فيها مقدمة تنتفع ها في هذه المسألة وأخواتها إن كنت ممن رزق الإنصاف، وتستعن ها على السلامة من موبقات التعصب ومزالق الاعتساف.
فنقول: اعلم أن فرقتي الأشعرية (3) والمعتزلة (4) قد اشتهر بينهما من الخلاف ما ملأ الأقطار وظهر بلا مرية ظهور النهار، وأفضى ذلك إلى العصبية التي هي من أقبح المشارب الوبية، ثم تزايد الشر وتضاعف في كل عصر حتى بلغ إلى الترامي بالكفر والفسق، فلا تكاد تقف على كتاب من كتب إحدى الطائفتين في مسائل الخلاف إلا وأشار فيه من
_________
(1) ذكره ابن تيمية في تلبيس الجهمية (1/ 344)
(2) في [أ] "و" والصواب ما أثبتناه من [ب]
(3) تم التعريف بها (ص 151).
(4) تم التعريف ها (ص 656).(2/731)
التشنيع والتبشيع على الطائفة الأخرى ما تقشعر منه الجلود، فترى كل فرقة تسمي ما تشبثت به في نصرة مذهبها- وإن كان في غاية من الضعف- بالدليل والحجة والواضح والصريح والقطعي والمحكم وتطلق على متشبث الأخرى، وإن كان في غاية القوة اسم الشبهة والمتشابه والخفي ونحو ذلك، وتبالغ في كتم الناهض وإهماله وتستكثر من ذكر المردود وأمثاله محبة للغلب والانتصار للأسلاف، بل ربما أفضى ذلك إلى ما هو أطعم من ذلك وأطعم، ولا أحب التصريح بأنه الافتراء على بعضهم بعضا، وقل من ينجو من هذه البلية التي هي أقبح التغرير والتلبيس على المقصرين، لإيقاعهم (1) في المضايق ولا حط الله علما يكون هذا نتيجته. ولعمري أن الجهل أسلم منه فإن ثمرة العلم النافعة بعد الاهتداء به- الهداية إليه لا الترويج للبدع والمصائب التي لا يفلح من علقت به ولا سيما إن كان من المقصرين المغرورين، ولهذا ترى عندهم من العداوة ما لم تجده عند المحقق [16] والسر في ذلك أن المقصر المقتصر إذا عثر على كتب قومه الذي هو هم حسن الظن قطع بصحة ما فيها وجزم بأن الطائفة الأخرى لا متشبث لها في تلك المسألة إلا تلك الشبهة إلى ذكرها أسلافه فيكون ذلك من أعظم الأسباب الداعية إلى التبديع والتكفير، ثم انضم إلى هذا الترويج التنفير عن كتب الخصوم ورمي من رام العثور عليها بالابتداع. والبلعث على هذا الحذر من أن يعثر المطلع على كتب الخصم على حجة له قوية تخدش في وجه ما قرره له أسلافه، أو يقف على بطلان ما نسبوه إليه فيفتضحوا عنده.
وهذا السبب اتسع الخرق وعظم البلاء، فإياك إن كنت متبصرا أن ينفق عندك شيء من هذا الجنس فتزل بأول قدم، فإن ما دون هذه العداوة بكثير موجب لعدم قبول رواية بعضهم عن بعض وشهادته عليه، وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكم بعدم قبول شهادة أرباب الإحن على بعضهم بعضا كما في حديث: " لا تقبل شهادة ذي الظنه والإحنة " (2) وهكذا ما
_________
(1) في المخطوط [أ- ب] العطف بالواو (وإيقاعهم) والصواب ما أثبتناه.
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 201) من طريق الأعرج مركسي وأخرجه الحاكم (4/ 99) من حديت العلاء، عن أبيه، عن أبى هريرة يرفعه مثله(2/732)
بين من حاله كحال هاتين الطائفتين من الفرق الإسلامية فخذها كلية تنتفع ها انتفاعا جيدا، وعليك- إذا حاولت النظر- بأخذ مذهب كل طائفة ودليلها من كتبها كما فعلناه في هذه الرسالة والله المستعان.
أدلة المانعين من الرؤية
إذا عرفت هذا فنقول: استدل المانع من الرؤية بعد الاستدلال بالأدلة العقلية بقول الله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وتقرير الاستدلال ها أن الإدراك المسند إلى الأبصار إنما هو الرؤية أو هما متلازمان، والآية نفت أن تراه الأبصار وذلك [17] بتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الاستغراقية، والوقوع في سياق النفي في مقام المبالغة في جميع الأوقات، لأن قولك: فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولأنه تعالى [بأنه لا يرى] (1)، لأنه ذكر في اثنان المدائح. وما كان من الصفات عدمه مدح كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه، كالقدم ينفي الصاحبة والولد، فيكون انتفاء الرؤية كانتفائها بشهادة الذوق السليم من كل جزء سالم الفطرة، واعترض على هذا التقرير بوجوه (منها): أن الإدراك هو الإحاطة (2) بجوانب المولى إذ هو في الأصل النيل والوصول البلوغ ثم نقل إلى الرؤية
_________
= قال الحاكم صحيح على شرط مسلم وخالفه الذنهي وقال على شرط البخاري قال الحافظ في التلخيص (4/ 204) وفي إسناده نظر.
* الإحنة: الحنة الذي بينك وبينة عداوة.
(1) هكذا في المخطوط والكلمة محرفة بلا شك أو مشكلة قراءتها وكأها (بائن لا يرى)
(2) قال ابن القيم في حادي الأرواح (ص 370): وأنة لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الاحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61 - 62] فلم ينف موسى- صلوات الله عليه نفى إدراكهم إياهم بموله: (كلا) وأخبر الله سبحانه أنة لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] الروية والإدراك كل منهما يوجد مع الأخر وبدونه، فالرب يرى، ولا يدرك كما يعلم ولا يحاط به وانظر الدر المنثور (3/ 37) الإبانة عن أصول الديانة (ص30).(2/733)
المحيطة لكونها أقرب إلى تلك الحقيقة، وهذه الرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقا من الرؤية المطلقة، وسلب الأخص لا يستلزم سلب الأعم.
وأجيب: بأن اعتبار فقد الإحاطة في الإدراك ممنوع لا يثبت في شيء من أصلا، لا فيما هو الأصل على زعمكم- أعني- النيل والوصول والبلوغ، ولا في المنقول إليه أعني الرؤية، على أن الإدراك إذا اقترن بالبصر كان حقيقة في مجرد الرؤية، سواء قلنا إنه حقيقة لغوية (1) كما هو الظاهر أو عرفية (2) فدعوى النقل ممنوعة أيضا، وأيضًا
_________
(1) الحقيقة ويراد ها ذات الشيء وما هيته، كما يقال حقيقة العالم: من قام به العلم.
وتطلق. بمعنى اليقين. وتطلق ويراد ها المستعمل في اصل ما وضعت له في اللغة.
وقال ابن سيده في " المحكم " الحقيقة في اللغة: ما أقر في الاستعمال على اصل رضعه.
وتنقسم الحقيقة إلى لغوية، وعرفية وشرعية لأن الوضع المعتبر فيه إما اللغة وهي اللغوية كالأسد للحيوان المفترس أولا. وهو إما وضع الشارع وهي الشرعية كالصلاة للأركان وقد كانت في اللغة للدعاء أولا. وهي العرفية المنقولة عن موضوعها الأصلي إلى غره بعرف الاستعمال ولتتبه لأمرين.
1/: أن اللغوية أصل الكل، فالعرف نقلها عن اللغة إلى العرف والشرع نقلها عن اللغة والعرف.
2/:أن الوضع في اللغوية غر الوضع في الشرعية والعرفية، فأنه في اللغة تعليق اللفظ بإزاء معنى لم يعرف به يخر ذلك الوضع.
وأما الشرعية والعرفية فبمعنى غلبة الاستعمال دون المعني السابق.
انظر البحر المحيط (153/ 2 - 155). والكوكب المنير (1/ 149).
(2) والحقيقة العرفية إما أن تكون عامة، وهي أن لا يختص تخصيصها بطائفة دون أخرى (كدابة) فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر وغيره، ثم هجر الوضع الأول- وصارت في العرف حقيقة الفرس) ولكل ذات حافر.
وكذا ما شاع استعماله في غير موضوعه اللغوي كالغائط والعذرة والراوية فإن حقيقة الغالي المطمئن من الأرض والعذر في فناء الدار والرعية: الجمل يستقى عليه الماء.
أن تكون (خاصة) وهي ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم، كمشد وخبر، وفاعل ... في اصطلاح النحاة انظر: الكوكب المنير (1/ 150).(2/734)
نفط الرؤية المحيطة بالجوانب كما ذكرتم مشعر بأن له تعالى جوانب وحدودا، لأنه يصير الكلام في قوة أنه لا يرى تعالى رؤية محيطة بجوانبه وحدوده، ولو سلم عدم إشعاره بذلك فلا أقل من إبهامه له لأن توجه النفط إلى القيد أكثري، وأنه باطل قطعا وإجماعا: ومنها أن إلا تدركه الأبصار) موجبة كلية لا موضوعة جمع يحلى باللام الاستغراقية وقد [18] دخل عليها النفي فرفعها. ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية كما هو مقرر في محله. ولهذا جعل المنطقيون ليس (كل) من أسرار السالبة الجزئية. هذا إذا ثبت أن اللام للاستغراق وإلا عكسنا القضية إلا تدركه الأبصار) سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية، فالآية في قوة: بعض الأبصار لا تدركه ونحن نسلمه، لأن الرؤية مختصة بالمؤمنين دون الكافرين.
وأجيب: بأن الشائع في الاستعمال، والمأنوس في المقامات الخطابية- باتفاق أهل التحقيق- أن النفط الداخل على (1) الجمع المحلى باللام الاستغراقية لعموم السلب لا
_________
(1) قال صاحب البحر المحيط (3/ 95): " ... إن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الأنعام:103، أنه الاستغراق دون الجنس وان المعني لا يدركه كل بصر، وهو سلب العموم اعني نفي الشمول فيكون سلبا جزئيا، وليس معنى لا يدركه شيء من الأبصار ليكون عموم السلب، أي شمول النفي لكل واحد، فيكون سلبا كليا، كما أن الجمع المعرف باللام في الإثبات لإيجاب الحكم لكل فرد فكذلك هو في النفط لسلب الحكم عن كل فرد كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6] وأجاب بعضهم بجواز أو بكون ذلك باعتبار أنه للجنس، والجنس في النفط يعم وبأن الآية الأولى تعم الأحوال والأوقات وبأن الإدراك بالبصر أخص من الرؤية فلا يلزم من نفيه نفيها(2/735)
سلب العموم، حتى قال بعضهم إنه لا يوجد في التنزيل واستعمال فصحى إلا بالمعنى الأول.
وقد اعترف هذا سعد الدين (1) في شرح المختصر والمطول وشرح المقاصد، ومن أحب الوقوف على حقيقة ذلك فلينظر المطول في شرح قول القزويني: واستغراق المفرد أشمل .. الخ. وقد أطال تحقيق ذلك في شرح المقاصد ما خلاصته: أن النسبة قد تعتبر أولا إلى الكل ويعتبر دخول النفط عليه فتفيد سلبه، وقد يعتبر دخول النفط أولا ثم النسبة إلى الكل فلا يكون النفط متوجها إليه وإنما يتوجه إلى ما دخل عليه من الكلام الخالي عن حلية العموم فيفيد عموم السلب، والأول يفيد سلب العموم .. الخ. حتى قال: وبالجملة فالأول من قبيل نفى الجمع، والثاني من قبيل نفي المفرد وهو أشمل كما صرحوا به. وهذا جار في جميع القيود لا في مجرد العموم، ثم ذكر لذلك شواهد قرآنية. ثم قال: إلى ما لا يحصى في الكتاب والسنة وغيرهما من كلام الفصحى جار كفه على الاعتبار الثاني. وقال الكابي في " شرح المتحصل ". وهو إمام- ما نصه: " إنه تعالى عن بقوله لا تدركه الأبصار أي [19] لا يدركه واحد من الأبصار وذلك يقتض بأنه لا يدركه شيء من الأبصار في شيء من الأوقات أصلا، لأن قولنا تدركه الأبصار بالإطلاق العام ينقض قولنا لا تدركه الأبصار، بدليل أنه يستعمل كل واحد منهما في كذب الأخر، وإنما يتناقضان لو كان المراد من السالبة المذكورة هو السالبة الكلية الدائمة لما عرفت في المنطق أن المطلقتين القائمتين لا تتناقضان لجواز صدق كل واحدة منهما مع الأخرى في زمان، فإذا كان وثبت صدق قولنا لا يدركه شيء من الأبصار في شيء من الأوقات لزم كذب قولنا تدركه الأبصار لأن صدق أحد النقيضين يوجب كذب الآخر، وإذا ثبت كذب
_________
(1) تقدمت ترجمته أنفا (ص 719).(2/736)
قولنا تدركه الأبصار ثبت كذب قولنا يدركه بصر واحد أو بصران لعدم القائل بالفرق والفصل انتهى.
ولم يتعرض للقدح فيه بل قال إنا نقول. موجبه، وجاء. مما سبق من أن نفى الإدراك لا يستلزم نفط الرؤية قوله: وإلا عكسنا. أجيب بأنا لو سلمنا عدم العموم لكانت القضية قبل دخول حرف السلب موجبة جزئية فحصل بحرف السلب رفع الإيجاب الجزئي وهو سلب كلى فثبت المطلوب ولا نسلم ما ادعيته من الإهمال، ولو سلم لكان في قوة: لا يدرك بعض شيء من الأبصار، والبعض نكرة ني سياق النفي فيعم.
ومنها أن الإدراك غير موضوع بالحقيقة للرؤية أصلا لكنه قد يستعمل في رؤية الشيء المحدود على سبيل المجاز، وقد تقرر في أصول الفقه أنه لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بدون دليل إجماعا (1) فيجب حمل الإدراك على حقيقته التي هي اللحوق، فإذا قام الدليل [20] على العدول إلى المجاز وجب أن يلاحظ المجاز الموافق حكمه حكم الحقيقة وهو الرؤية، مع بعد الاحاطة بجوانب المرئي وحدوده، فما لا جوانب لذاته ولا حد له يمتنع فيه ذلك بالضرورة، فيجب العدول عن هذا المجاز أيضًا والحمل على إبصار العقول وإدراكها كما مر.
وأجيب. منع اعتبار نعت الإحاطة في اللحوق، وأنه لو لم يوجد في اللغة أصلا كما سلف، وبمنع أن الإدراك مجاز في الرؤية، بل حقيقة لغوية أو عرفية كما سبق وإبصار العقول مجاز بلا خلاف فلا يصار إليه إذ لا بد في المجاز من غرض صحيح ونكتة مقتضية له وقرينة وعلاقة، وليس مهنا شيء من ذلك إلا ما غالطتم به وقد منعناه.
(ومنها) أن الآية (2) محمولة على نفط الرؤية في الدنيا لا في الآخرة، جمعا بين الأدلة وذلك لأنها وإن عمت في الأشخاص على مدعاكم، فهي لا تعم في الأزمان لأنها سالبة
_________
(1) انظر البحر المحيط (2/ 231 - 232) والكوكب المنير (1/ 196 - 198)
(2) انظر حادي الأرواح لابن القيم (ص371).(2/737)
مطلقة لا موجهة دائمة.
وأجيب: بأن عموم الأزمان لقد سبق أنه مستفاد من الآية، وملاحظة القدح يأبى هذا التخصيص لأن عدم الرؤية في الدنيا ليس فيما يختص به الباري جل جلاله لجريه في أشياء كثيرة فلم يبق للتمدح فائدة يعتد ها ثم لا فرق بين قول من قال إن العام في الأشخاص عام في الأوقات والأحوال، وقول من قال إنه مطلق فيها كما حققه ابن دقيق (1) العيد في "شرح العمدة".
(ومنها) أنكم إما أن تحملوا الأبصار على حقيقتها، أو تجعلوها. بمعنى المبصرين: إن قلتم بالأول لم يصح لكم الاستدلال لأنا نقول إن الأبصار هي المذكورة، وإنما يدركه المبصرون، وإن قلتم بالثاني لزمكم في قوله تعالى: {وهو يدرك الأبصار} (2) أن يكون معناه وهو تعالى مبصر [21] مدرك فيدرك نفسه، وكل من قال بأنه يدرك نفسه قال بأنه يدركه غيره.
وأجيب بأن المراد بالأبصار ليس معناه الحقيقة إذ لا مدح حينئذ، ولا المبصرين مطلقا إذ لا دليل على ذلك بل المبصرين بالأبصار فيكون المعنى لا يدركه أهل الأبصار وهو يدرك أهل الأبصار، والقديم ليس من أهل الأبصار فاندفع الإشكال.
غاية ما يلزم ألا لا يكون في الآية دليل على نفى إدراكه لنفسه صريح، بل إدراك أهل الأبصار فقط، لكن يلزم من ذلك نفط إدراكه لنفسه، لأن كل من قال بأنه لا يدركه غيره قال بأنه لا يدرك نفسه.
(ومنها) أن التمدح بنفي الرؤية يدل على صحتها لأنها لو امتنعت ما حصل التمدح بنفيها إذ لا مدح للمعدوم بأنه لا يرى حيث لم يكن له ذلك.
وأجيب:. منع الملازمة، والسند التمدح بنفي الصاحبة والولد مع امتناعهما غاية
_________
(1) هو العلامة الشيخ الدين أبو الفتح الشهر بابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 هـ
(2) [الأنعام:103](2/738)
الامتناع. وقولكم "لا مدح للمعدوم" مريدين بذلك أنها لو كانت مدحا له تعالى بأنه لا يرى لشاركه المعدوم في ذلك لأنه لا يرى- باطل، لأن الله تعالى قد تمدح بأنه لمس كمثله شيء (1) وأيضا فإن الممتنع لا يجوز التمدح به إلا إذا كان على ضرب من الكناية، كالتمدح بانتفاء الرؤية لانتفاء لازمها من الجهة ونحوها، إذ لا معنى للتمدح بانتفاء الرؤية من حيث ذات الرؤية فقط، فإن المعدوم لا يرى ولا مدح في عدم رؤية، وقس على ذلك التمدح بانتفاء السنة والنوم والولد والصاحبة، وأيضا فأنتم قائلون بأن قوله تعالى: {ولا يظل ربك أحدا} (2) من قبيل التمدح [22] بانتفاء الممتنع لذاته، إذ الظلم محال لا يقدر عليه تعالى عندكم فما بالكم أبيتم ذلك (3) هنا. (ومنها): سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم، وعدم ورود شيء من هذه الأمور التي أسلفناها، فعمومها مخصص بالأحاديث البالغة رتبة التواتر كما صرح به الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في "الروض الباسم (4) وغره، والعلامة السيوطي في "البدور السافرة في أمور الآخرة (5) حتى جزم الإمام المذكور أنها تزيد على ثمانين حديثا من طريق أكثر من ثلاثين صحابيا منهم: أبو هريرة (6)، وأبو سعيد الخدري (7)، .................................
_________
(1) [الشورى: 11]
(2) [الكهف: 49]
(3) انظر حادي الأرواح (ص: 369 - 371)
(4) (1/ 182 - 183)
(5) (477 - 491)
(6) تقدم أيضًا (ص730)
(7) أخرجه البخاري رقم (7439) ومسلم في صحيحة رقم (302/ 183) وهو حديث طويل وفيه " ..... فيقول ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا (مرتين أو ثلاثا) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه ها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى(2/739)
وأبو موسى (1)، وعدي بن حاتم (2)، وانعمن بن مالك (3)، وجرير بن عبد الله (4)، وكل هؤلاء أحاديثهم متفق عليها مخرجة في صحيح البخاري ومسلم معا، وفي غيرهما من كتب الحديث. ومنهم بريدة بن الحصيب (5)، وأبو رزين العقيلي (6)، ..............
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (8784) ومسلم في صحيحة رقم (180)، من حديث أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " جنتان من فضة، بنيتها وما فيهما وجنتان من ذهب. آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبن أن ينظروا إلى ربهم إلا، داء الكبر على وجهه في جنة عدن".
(2) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1413) ومسلم رقم (1016) من حديث حاتم بر عدي ..... ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له ثم ليقولن له: أولائك مالا؟ فليقولن: بلى ثم ليقولن أرسل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا اذر ثم ينظر عن كاله فلا يرى فليتقين أحدكم اذر ولو بشق تمرة، بان أ يجد فبكلمة طيبة.
(3) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (1413) ومسلم في صحيحة رقم (132/ 1059) من حديث أنس مرفوعًا وفيه" .. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن بذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فو الله ما تنقلبون به " خير مما ينقلبون به " قالوا: بلى يا رسول قد رضينا. فقال لهم:" سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحوض " قال أنس: فلم نصبر.
(4) تقدم تخريجه آنفا (ص730).
(5) أخرجه الدارقطني في الرؤية" رقم (251) عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر بسند ضعيف.
(6) أخربه أحمد (4/ 11،12) وعبد الله في السنة رقم (448 و450 و451 و454 و455) وابن أبي عاصم في السنة رقم (459 - 460) واللالكائي رقم (837،838، 839) وابن خزيمة في التوحيد(2/740)
وجابر بن عبد الله (1)، وأبو أمامة (2) , وزيد بن ثابت (3)، وعمار بن ياسر (4)، وعبد الله
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 730).
(2) أخرجه أبو داود رقم (4322) وابن ماجة رقم (4077) وعبد الله بن أحمد في السنة رقم (1008). والدارقطني قي الرؤية رقم (78) من حديث أبي أمامة مرفوعًا بلفظ" خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أكثر خطته ما يحدثنا عن الدجال وذكر الحديث بطوله وقال فيه: فإنه سيبدأ فيقول: أناني ولا في بعدي، ثم يثن فيقول: أنا ربكم ولن تروا ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور. وهو حديث ضعيف.
(3) أخرجه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" رقم (846) بسند ضعيف عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلن يدعو: اللهم إني أسألك برد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائد في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة"
(4) أخرجه النسائي (5013 - 54) وابن حبان رقم (509 موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 24 - 25) والطبراني في الدعاء رقم (624) من طرق وهو حديث ضعيف من حديث عمار بن ياسر قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به" اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أن ما كانت الحياة خسيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الإخلاص في الرضاء والغضب وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنه مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.(2/741)
بن عمر (1) وعمارة بن روبية (2) وأبو بكر الصديق (3) وعائشة أم المؤمنين (4) وعمار ابن ياسر (5) وحذيفة (6). . . . . . . .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4685) ومسلم في صحيحة رقم (2768) قال رجل لابن عمر: كيف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: " يدنوا المؤمنون يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه عليه، فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها اليوم لك، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكافر والمنافق ينادي هم على رؤوس الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].
(2) عن عمارة بن روبية عن أبية قال: نظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القمر ليلة البدر سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروها فافعلوا أخرجه ابن بطة في "الإبانة" كما في "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 405 - 406).
(3) عن عامر بن سعد أن أبا بكر الصديق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: في هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بزيادة، أيونى: 126 قال " الزيادة النظر إلى وجه وهم تبارك وتعالى" أخرج الأثر عبد الله بن أحمد في السنة رقم (47،471) وابن أبي عاصم في السنة رقم (474) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (784) وغيرهم. وهو أثر صحيح.
(4) لا خلاف بين أهل العلم أن عائشة رضي الله عنها إنما نفت الرؤية في الدنيا وقد اتق أهل السنة على أن أهل الجنة يرون رهم عيانا بغير إحاطة ولا كيفية وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل وخالف في ذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج الإمامية انظر فتح الباري (13/ 426) مجموع فتاوى (1/ 26)، (3/ 137) الاقتصاد في الاعتقاد (ص:41) التوحيد لابن حزيمة (1/ 406 - 476).
(5) مكرر في المخطوط.
وقد تقدم تخريج حديث عمار (ص741).
(6) أخرج اللالكائي في" شرح أصول اعتقاد أهل السنة" رقم (784) وعبد الله أبن أحمد في " السنة "رقم (278) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (474) عن حذيفة في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس:26] قال: النظر إلى وجه الله عز وجل وفيه عنعنة أبي إسحاق(2/742)
وعبد الله بن العباس (1)، وعبد الله بن عمرو بن العاص (2) وكعب بن عجرة (3)، وفضالة بن عبيد (4)، والزبير بن العوام (5)، ولقيط بن صبرة (6)، وعمر بن ثابت الأنصاري (7)، وعبد الله
_________
(1) أخرج الأجري في كتاب " التصديق بالنظر إلى الله في الآخرة " (ص:65) رقم (44) عن عبد الله ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنا أهل الجنة يزورون ربهم عز وجل في كل يوم جمعة في رمال الكافور، وأقرنهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة، وأبكرهم غدوا بإسناد ضعيف.
(2) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 8):- وفيه" .... فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى، ونظروا إلى وجهة الكريم قالوا: سبحانه ما عبدناك حق عبادتك "
(3) أخرجه عبد الله بن احمد في السنة رقم (484) بإسناد ضعيف واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهلي السنة والجماعة رقم (781) عن كعب بن عجرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس:26] قال: الزيادة: النظر إلى وجه رهم عز وجل.
(4) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (123) وابن أبي عاصم في السنة رقم (427) وأحمد (324/ 5) واللالكالي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة رقم (847) بإسناد صحيح.
عن أبي الدرداء أن فضالة بن عبيد كان يدعوا يقول: " اللهم أسالك الرضى بعد القضاء وبسرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لظنك في يخر ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ".
(5) فلينظر من أخرجه.
(6) أخرجه الحاكم في المستدرك (58614) وابن أبي عاصم في السنة رقم (636) والطبراني في الكبير (211/ 19) بإسناد ضعيف من حديث لقيط بن صبرة "
قال: قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد، ونحن ملء الأرض ننظر إلية وينظر إليها قال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: الشمس والقمر صغيران وترونها في ساعة واحدة وتريانكم ولا تضامون في رؤيتهما، ولعمري إلهك لهو على أن يراكم وترونه) قدر منهما على أن يريانكم وتروها
(7) أخرجه مسلم في صحيحة (4/ 2245 رقم 169) قال ابن شهاب، أخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم حذر الناس الدجال " أف مكتوب بين عينية كافر، يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن " وقال: " تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت(2/743)
ابن بريدة (1)، وأبو برزة الأسلمي (2)، وأبو الدرداء (3)، وأبو ثعلبة الخشني (4)، وعبادة بن الصامت (5)، وأبي بن كعب (6). وعلى الجملة فإن أحاديث الرؤية مروية في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة حتى رووه من طريق زيد بن على (7)، وفي الصحيحين منها ثلاثة عشر حديثا اتفقا منها على
_________
(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السمة رقم (469) وفي سنده أبو خالد القرشي- عمرو بن خالد- متروك ورماه وكيع بالكذب مات بعد سنة 120 هـ.
انظر التقريب (2/ 69).
قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عز وجل به يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان ".
(2) لم أعثر عليه.
(3) انظر حديث فضالة بن عبيد (ص 743).
(4) لم أعثر عليه.
(5) أخرجه أبو داود رقم (0 432) وأحمد (5/ 324) وابن أبي عاصم في السنة رقم (428) عن عبادة ابن الصامت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا فإن أشكل عليكم منه شيء فاعلموا أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور وإنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " وهو حديث صحيح.
(6) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (119) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة رقم (849).
(7) أخرجه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (852) بإسناد رآه. عن زيد ابن على عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يزور أهل الجنة الرب تبارك وتعالى في كل جمعة ". وذكر ما يعطون. قال ثم يقول تبارك وتعالى اكشفوا حجابا فيكشف حجاب ثم حجاب ثم يتجلى لهم تبارك وتعالى عن وجهه فكأنه لم يرو نعمة قبل ذلك وهو قوله تبارك وتعالى: {ولدينا مزيد}(2/744)
ثمانية أحاديث وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة أحاديث وقد استوفى [23] الحافظ النفيس العلوي اليمني (1) في كتابه (شرح الأربعين) (2) أحاديث الرؤية ورواها من طريق نحو خمسين صحابيا، وهكذا ابن القيم في "حادي الأرواح (3) وكلها مصرحة برؤية المؤمنين له يوم القيام فهلا خصصتم ها عموم الآية؟
وأجيب بأن هذه الأحاديث تتضمن الجبر والتشبيه فيجب القطع بأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقلها وإن قالها فعلى جهة الحكاية عن قوم، والراوي حذف الحكاية ونقل الخبر، ودعوى التواتر ممنوعة، وقد اعترف بأنها أحاديثه جماعة من محققيكم من جملتهم شارح التجريد الكوسجى وغيره، وأيضا فإنها مخالفة لدليل العقل والنقل، وللآيات التي ذكرنا بعضها، وسنذكر بقيتها ولأن قوله ليس كمثله- شيء (4) يستلزم أنه سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، لأنها لو أدركته لي الأشياء، ولو سلم ذلك لكان المراد بالرؤية المذكورة في الأحاديث العلم (5)، أي: ستعلمون ربكم والرؤية هذا مما نطق به
_________
(1) هو محدث اليمن في وقته: سليمان بن إبراهيم بن عمر أبو ربيع التعزي الحنفي (ت هـ) الضوء اللامع (3/ 259) والبدر الطالع (1/ 265)
(2) ذكر السخاوي أن الحافظ ابن حجر خرج له أربعين حديث وورطاها " الأربعين المهذبة " ولعله الجزء الذي جمعه منه الحافظ كما في " المجمع المؤسس ": (3/ 115)
(3) (ص: 373).
(4) [الشورى: 11]
(5) قال القاضي عياض في "الإيمان من إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم (2/ 774) وتأولت المعتزلة أن معنى الرؤية هنا العلم وأن المؤمنين يعرفون الله يوم القيامة ضرورة وهذا خطأ لأن رؤية العلم تتعدى إلى مفعولين ورؤية العين إلى واحد .... ".
قال ابن تيميه في منهاج السنة (313/ 2): وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كمالك والتوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وإلى يوسف وأمثال هؤلاء، وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلايبة والأشعرية والسالية وغيرهم، فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية له تعالى، والأحاديث ها(2/745)
القرآن وورد به كلام الفصحاء، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (1)، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} (2) وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (3)، وقال: {} (4)، وقال الشاعر:
رأيت الله إذ سمي نزارا ... وأسكنهم. بمكة قاطنينا
وقال حاتم (5):
أماوي إن يصح صداي بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر
وأيضا قد أسلفنا أن الرؤية المذكورة في الأحاديث مكيفة، وأنتم تقولون بلا كيف؟. قالوا هذه الأحاديث واردة مورد البشارة، وأي بشارة في أم يعلمون الله تعالى في
_________
(1) [الفرقان: 45]
(2) الأنبياء: 30
(3) البقرة:246
(4) التكاثر:6 - 7
(5) أي حاتم الطائي(2/746)
دار الآخرة 1241 ومعلوم أنه يعلمونه في دار الدنيا. "
وأجيب: بأن المبشر به هو العلم الضروري وهو غير حاصل في دار الدنيا، ومثله قوله تعالى {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (1) فإن كل مؤمن بالوعد والوعيد شأنه الإيمان بالنار في الدنيا، قالوا: وأي فائدة في البشارة بالعلم الضروري أيضا؟.
وأجيب: بأنه موجب للاستراحة من مؤمنة النظر وتعب الفكر، قالوا: فيجب على هذا لاشتراك جميع العباد في ذلك من مؤمن وكافر لحصول العلم الضروري (2) هنالك لجميعهم.
وأجيب بأن المنافقين والكفار إذا علموا الله ضرورة لم يكن حالهم كحال المؤمنين لأن علم المؤمنين موجب لحصول البشارة، وعلم من عداهم موجب لحصول الكآبة والحسرة.
قالوا: أجمع على أن (رأى) إذا كان قلبيا اقتضى مفعولين (3)، ثانيهما عبارة عن الأول وإن كان بصريا فلا يقتضى إلا مفعولا واحدا، فإن جعل قوله "سترون ربكم كما ترون القمر (4) مفعولا مطلقا، أي: سترون ربكم رؤية مثل رؤية القمر، كان رؤية بصرية قطعا، لأنه متعد إلى مفعول واحد حينئذ ولا مجال لدعوى الحذف. وإن جعلناها قلبية فلا بد أن يكون كالقمر هو المفعول الثاني لعدم صلاحية (يوم القيامة وليلة البدر) لذلك ويلزمهم حينئذ الفساد لأن المقرر في النحو الثاني عبارة عن الأول محمول عليه حمل مواطأ فيكون معني الحديث: ستعلمون مثل القمر، والمثل. معني المماثل أي ستعلمون ربكم، مماثلا للقمر، وهو تشبيه بلا تجسيم صحيح، فإن المتماثلين هما المتشاركان في
_________
(1) التكاثر:6.
(2) انظر الإبانة (ص: 43 - 44).
(3) انظر الإيمان من "إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم" (2/ 774).
(4) تقدم آنفا.(2/747)
النوع، وهو ظاهر البطلان بالضرورة والاتفاق، فبطل أن تكون الرؤية. معني العلم. وأجيب بأن [25] يلزم أولاً: من جعل القمر مفعولا مطلقا كما ذكرتم أن تكون هذه الرؤية من نوع رؤية القمر، وإذا تشاركا في النوع لم يتميز أحدهما من الآخر فيلزم الجهة والكيف، فانكي مطلوبكم، وإذا جعلنا الرؤية. معني العلم لم يلزم شيء من ذلك، وسواء كان المفعول الثاني محذوفا لأغني ذكر المفعول المطلق عنه أي المفهوم من قوله كالقمر، أو مذكورا هو نفس (كالقمر) وقوله لا مجال للدعوى باطل لتصريح فحول النحاة بجواز الحذف مع القرينة كابن مالك، وجار الله (1) في تفسير قوله تعالى: {لترون الجحيم} [التكاثر:6] وإنما أطلق بعض النحاة المنع، نظرا إلى أن أصل الكلام مبتدأ وخبر، لكنك قد علمت جواز حذف أحدهما مع القرينة، وشواهد الحذف مما لا ينكره من له متمسك بالفن، ولنقتصر في الكلام على هذه الآية على هذا المقدار وإن كان الكلام عليها من الجانبين في غاية الطول.
تنبيه: اعلم أن بعض القائلين بعدم جواز الرؤية جاء في دفع هذه الأحاديث الحط جاء ها المجوز بكلام ينادي على صاحبه بقصر الباء وحقارة الإطلاع.
فقال: إنه لم يرد في الرؤية إلا خبر واحد، وهو، سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر (2) وهو من رواية: قيس بن أبي حازم (3) عن جرير بن عبد الله
_________
(1) أي الزمخشري في الكشاف (6/ 425).
(2) تقدم تخريجه.
(3) واسمه حصين بن عوف ويقال عوف بن عبد الحارث وبقال: عبد عوف بن الحارث بن عوف البجلي الأحمدي، أبو عبد الله الكوفي أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبايعه، فقبض وهو في الطريق وأدوه له صحبة.
قال الذهني أجمعوا على الاحتجاج به، ومن تكلم فيه فقد أذى نفسه. =(2/748)
البجلي، وقيس مطعون فيه من جهة أنه كان يرى رأي الخوارج (1)، وأنه خولط في عقله آخر عمره، هذا معنى ما صرح به [السيد مانكديم] (2) في شرح جامع الأصول الخمسة (3)، وتبعه جماعة، وهو باطل من جهات:
(الأولى): أن أحاديث الرؤية قد أسلفنا أنها أكثر من ثمانين حديثا عن أكثر من ثلاثين صحابيا، والقدح في حديث منها لا يستلزم [26] القدح في جميعها.
(الثانية): أن قيس بن أبي حازم وإن صح عنه رأي الخوارج (4) لم يوجب طرح رواية، لما تقرر من قبول رواية المبتدع فيما لا يقوي بدعته، كما روي ذلك عن جماعة من العلماء، حتى روى المنصور بالله (5) في "المهذب (6) و"الصفوة (7) الإجماع على
_________
= وقال ابن معين: هو أوثق من الزهري. وقال مرة ثقة.
مات سنة سبع أو ثمان وتسعين وقيل مات في آخر خلافة سليمان.
انظر الإصابة رقم (7310). وتذهيب التهذيب (3/ 444 - 445).
(1) انظر: المصادر السابقة.
(2) هو قوام الدين مانكديم أحمد بن أبي الحسين بن أبي هاشم المعروف بششديو.
(3) انظر مؤلفات الزيدية (2/ 136رقم 1883)
وهو في علم الكلام أوله " قال قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمة الله في الشرح لسؤال الأصول الخمسة "
(4) الأسلم النفي بـ[لا]
(5) الإمام المنصور عبد الله بن حمزة الحسني اليمني [561 - 614 هـ] إمام مجتهد، مجاهد.
(6) المهذب من الفتاوى " فتاوى الإمام المنصور عبد الله بن حمزة الحسني اليمني.
جمعها محمد بن أسعد بن علي بن إبراهيم المراد كما، فضم كل جنس إلى بابه وألحقه بنوعه.
(7) صفوة الاختيار " للإمام المنصور عبد الله بن حمزة الحسين اليمني فصول في قواعد الأصول بشيء من التوسع تضم المهم من أقوال العلماء ويخص أصول الأئمة(2/749)
قبول المبتدع فيما لا يقوي بدعته، وكذا الإمام يحي بن حمزة (1) في " الانتصار (2)، والقاضي زيد (3) في شرحه (4)، والشيخ أبو الحسن البصري في " المعتمد (5)، والشيخ الحسن الرصاص (6) في كتابه وحفيده ........................
_________
(1) الإمام المؤيد بالله يحي بن حمزة بن على بن إبراهيم احد أعلام الفكر الإسلامي في اليمن إمام مجتهد ولد بصنعاء 271 صفر سنة 669 هـ توفي سنة 749 هـ له مصنفات منها- إكليل التاج وجوهرة الوهاج.
- الأزهار الصافية شرح مقدمة الكافية.
أعلام المؤلفين الزيدية (ص 1124 رقم 1193).
(2) الانتصار الجامع لمذاهب علماء الأمصار في ثمانية عشر مجلدا، وهو في تقرير المختار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة في المباحث
الفقهية والمضطردات الشرعية وكان مشغولا به في سنوات (743 - 748).
مؤلفات الزيدية (42/ 11 رقم 433).
(3) زيد بن محمد بن الحسن الكلاري نسبة إلى كلار من بلاد الجبل أحد علماء الزيدية في الجبل والديلم. أعلام المؤلفين الزيدية (ص: 449 رقم 438).
(4) الجامع في تشرح وهو المعروف بشرح لتحرير وشرح لقاضى زيد لتحرير وشرحه للإمام أبي طالب الهروني وهو في معاني مجلدات أعلام المؤلفين الزيدية (ص 444)
(5) (2/ 134)
(6) ذكره ابن الوزير في الروض الباسم (482/ 2).(2/750)
أحمد (1) في " الجوهرة (2) وعبد الله بين زيد في " الدار المنظومة (3) والحاكم (4) في "شرح العيون (5)، هكذا قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله.
(الثالثة): أن قيسا وإن خول (6) في آخره، فذلك غير موجب المقدح رواه من هذه الحيثية، إلا إذا علم أن ما رواه كان في آخر عمره.
وقد تنازع الفريقان في قول الله تعالى: حاكيا عن موسى عليه السلام: " {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فقال المانع: هي من أدلة مذهبه، وقال المجوز: مثله. واحتج كل منهم بحجج سنورد بعضها.
_________
(1) أحمد بن محمد الرصاص.
(2) جوهرة الأصول " إلي هي مدرس الزيدية في هذه الأعصار ما لفظه: واختلفوا في قبول الفاسق من جهة التأويل، فذهب الفقهاء بأسرهم أنه يقبل خبره، وهو قول القاضي وأبي رشيد ... "
(3) ذكره ابن الوزير في العواصم (326/ 2). والروض الباسم (2/ 482)
(4) الشيخ العلامة الحاكم أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة انظر " العواصم " (2/ 328).
(5) حيث قال الفاسق من جهة التأويل يقبل خبره عند جماعة الفقهاء وهو قول القاسم البلخي، وقاضي القضاة وأبي رشيد. انظر: " العواصم" (3/ 328).
(6) انظر تذيب التهذيب (3/ 445)(2/751)
أما المجوز فقال: هي حجة له، على جواز الرؤية، واحتج على ذلك بوجهين: (الأول): أن موسى- عليه السلام- سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل، لأنه إن علم امتناعه، فالعاقل لا يطلب المحال، وإن جهله فالجاهل. مما لا يجوز على الله لا يجوز أن يكون نبيا.
(الثاني): أنه علق تعالى الرؤية على استقرار الجبل، واستقرار الجبل أمر ممكن عقلا، وما علق على الممكن ممكن، إذ لو كان ممتنعا لأمكن صدق اللازم بدون الملزوم وهو محال.
[27] وأجيب عن هذين الوجهين من جهة المانع بوجوه (منها)، أن موسى- عليه السلام- إنما سأل الرؤية بسبب قومه لا لنفسه، لأنه كان عالما بامتناعها، لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا: (أرنا الله جهرة (1)، وإنما نسبه إلى نفسه في قوله: (أرني أنظر إليك) (1)، ليمنع عن الرؤية، فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى، وفيه مبالغة لقطع دابر اقتراحهم، وفي أخذ الصاعقة لهم دليل على امتناع المسئول وهذا تأويل الجاحظ (2) وأتباعه (3) ا لزمخشري (4). ودفعه المجوز: بأن ذلك خلاف الظاهر، حيث لم يقل ننظر إليك فلابد له من دليل، ومع ذلك لا يستقيم، لأن موسى، لو كان بينهم لكفاه أن يقول: هذا ممتنع، بل كان ذلك هو الواجب عليه، لا تأخير الرد، وتقرير الباطل لا يجوز على مثله، ولأن موسى أيضًا زجرهم وردعهم لما قالوا: {أرنا الله جهرة} (5)، وعن السؤال، بأخذ
_________
(1) الأعراف: 143
(2) تقدمت ترجمته
(3) كذا في المخطوط وصوابه واتبعه
(4) في الكشاف (1/ 270 - 271)
(5) النساء:153(2/752)
الصاعقة، فلم يحتج موسى إلى زجرهم إلى سؤال الرؤية وإضافتها إلى نفسه، وليس في اخذ الصاعقة دلاله على امتناع المسئول، لجواز أن يكون الأخذ لقصد إعجاز موسى عن الإتيان. مم طلبوه تعنتا مع كونه ممكنا، فأنكر الله ذلك عليهم كما أنكر قولهم: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} (1) وقولهم: {فأسقط علينا كسفا من السماء} (2) بسبب التعنت وإن كان المسئول أمرا ممكنا في نفسه، فأظهر الله عليهم ما يدل على صدقه لقصد الإعجاز والردع.
قال المانع: أما قولكم إن ذلك خلاف الظاهر، فلا يقوله إلا مكابر، فإن قول موسى- عليه السلام-: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} (3)، قوله: {فقد سألوا موسى أكبر من ذالك} (4) وقوله- حاكيا عنهم-: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهره} (5) قد بلغ في الظهور إلى الغاية. وأما قولكم حيث لم يقل " ينظرون
_________
(1) الإسراء: 90
(2) الشعراء: 187
(3) الأعراف: 155
(4) النساء:153
(5) البقرة: 55(2/753)
[28] إليك " فمندفع. مما في الكشاف (1)، حيث قال: " فإن قلت هلا قال " أرهم ينظرون إليك "، قلت لأن الله سبحانه إنما كلم موسى- عليه السلام- فلما جمعوا كلام رب العزة، أرادوا أن يرى موسى ذاته، فيبصروه معه كما أجمعهم كلامه، إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى: {أرنا أنظر إليك} (2) ولأنه [إنما] (3) زجر عما طلب وأنكر عليه في ثبوته واختصاصه ولفته عند الله. وقيل: لن يكون ذلك (4) كان غيره أولى {} بالإنكار ولأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام أمته، فكان ما يخاطب به راجعا إليهم. وقوله: أنظر إليك، وما فيه من معي المقابلة الذي هي محض التشبيه والتجسيم دليل أنه ترجعه عن مقترحهم وحكاية لقولهم " إلى آخر كلامه وأما قولكم: " لو كان موسى مصدقا بينهم ".
فجوابه: أفم كانوا على عظيم من اللجاج، أو ليسوا هم القائلين أنزل علينا مائدة والمجيبين عليه حيث قال لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5)، بقولهم: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (6) والمجيبين عليه بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (7) الآيات. أن مجرد كونه مصدقا لا يكف في ردعهم. وهذا لا تعلم ...
_________
(1) (2/ 503)
(2) سورة الأعراف: 143
(3) في المخطوط [أ, ب] إذا والصواب ما أثبتناه.
(4) العبارة غير واضحة ولعلها " إذا لم يكن ذلك
(5) [المائدة: 112]
(6) المائدة:113
(7) البقرة:67(2/754)
وأما قولكم: وليس في أخذ الصاعقة الخ. فباطل، إذ ما ساقه الله تعالى من حكايتهم، دال على أفم قد فهموا أن هذه الصاعقة بسبب الرؤية إلى اقترحتموها وترجم موسى عن مقترحهم، وحصل عندهم علم ضروري بذلك، كيف وقد قال الله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (1) وقد عرفتم أنه ليس هناك إلا صاعقة واحدة، وسؤال واحد وإنما حكاه الله تعالى في مقامين كما حكا غيره من قصص الأنبياء في مواضع، ثم قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (2)، دليل واضح على أن الظلم هو سؤال رؤية رب العزة.
وأما قولكم: " فأنكر الله ذلك عليهم ". ففاسد. ولو كان الإنكار عليهم ليس إلا من هذه الحيثية لما كان لوصف سؤالهم كونه جهرة معي يعتد به.
(ومنها) أن موسى، لم يسأل الرؤية، بل تجوز ها عن العلم الضروري لأنه لازمها، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع، فكأنه قال: اجعلني عالما بك علما ضروريا، وهذا تأويل أبي الهزيل العلاف (3)، وتبعه فيه الجبائي (4) وأكثر البصريين.
وأجيب: بأن الرؤية المطلوبة في " أرنا " لو كانت. معي العلم لكان النظر المترتب عليها. بمعناه أيضا، واستعمال النظر المعدي بإلى بمعنى العلم إن ثبت مخالف للظاهر، فلا يجوز إلا بدليل ولا دليل، فوجب حمله على الرؤية البصرية.
ومما يدل على امتناع حملها على العلم هاهنا استلزام السؤال ألا يكون موسى عالما
_________
(1) [البقرة:55]
(2) النساء:153
(3) هو أبو الهزيل محمد بن الهزيل بن عبد الله، البصري العلاف شيخ المعتزلة أخذ الاعتزال عن عثمان ابن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، واختلف في وفاته فقيل سنة 266 هـ وقيل 235 هـ. وله فضائح كثيرة فيما أحدثه من البدع انظر: الملل والنحل (1/ 64) شذرات الذهب (2/ 85).
(4) تقدمت ترجته (264).(2/755)
بربه ضرورة مع أنه يخاطبه وذلك لا يعقل لأن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد. والجواب ب " لن تراني " وهو لنفى الرؤية البصرية لا العلم، بإجماع المنكرين، ولهذا جعلوه دليلا لهم، ومطابقة الجواب للسؤال لازمة.
ودفعه المانع بقوله: أما قولكم: واستعمال النظر المعدي بإلى. الخ نحن نسلم أكثريته في البصري، ولا مانع من استعمال الشيء في القليل، لا سيما مع قيام الدليل المانع من استعماله في الأكثر، وهو ما حررناه سابقا من الدليل العقلي على امتناع الرؤية فكيف قلتم: ولا دليل على أن الأكثرية. ممجردها غير كافيه في دعوى النص على المطلوب، وقولكم يلزم ألا يكون موسى عالما بربه ... الخ. مبثت على عدم تفاوت مراتب الضروري [30] قوة وضعفا، ومعلوم أن المحسوس بالنظر أقوى من المعلوم بحاسة السمع. وأما قولكم: والجواب على تراني ... الخ ".
فجوابه: ما ذكره العلامة في الكشاف (1): من قوله: " وتفسير آخر وهو أن يريد بقوله: {أرنا أنظر إليك}، عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا كأنه رآه في جلائها بأية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك: أنظر إليك: أعرفك معرفة اضطرار وكأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث: " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر " (2) يعني: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء، كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى، قال: " لن تراني " لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ... " إلى آخر كلامه.
وكون هذا التأويل خلاف الظاهر غير مضر، لأن العدول عن الظاهر لقيام الدليل على خلافه، وليس في هذا التأويل من مخالفة الظاهر ما في تأويل الرازي (3) لقوله: {لا تدركه الأبصار} (4)
_________
(1) الكشاف (2/ 501 - 504)
(2) تقدم تخريجه في هذه الرسالة
(3) انظر التفسير الكبير (13/ 25 - 126)
(4) الأنعام: 103(2/756)
حيث قال لا تدركه العقول كما سلف.
(ومنها): أن موسى عليه السلام، سأل الرؤية لنفسه وإن علم استحالتها بالعقل ليتأكد دليل العقل بدليل السمع، فيتقوى علمه بتلك الاستحالة.
وأجيب بأن موسى- عليه السلام- كان يمكنه طلب التأكيد من غير ارتكاب سؤال ما هو محال، ودفع: بأن السؤال لم يكن في الحقيقة طلبا للمحال بل كان طلبا لإظهار ما يردع بعض الأوهام عن الضلالي ولاستفادة ما لم يخطر له على بال ويظهر لقومه امتناع رؤية الكبير المتعال. فرسخ الأمر عندهم كرسوخ الجبال. كما قال من قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (1) وقال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (2) مع إمكان غير [31] المطالبة لهم بسؤالهم لكونها أنفع وأقطع.
وإلى هنا انتهت الوجوه المعترض على الوجه الأول.
واعترض على الوجه الثاني باعتراضات أحسنها أنه علق الرؤية على استقرار الجبل، إما حال سكونه أو حال حركته، الأول ممنوع والثاني مسم.
بيانه: أنه علق وجود الرؤية (3) عليه حال سكونه للزوم وجود الرؤية بحصول الشرط الذي هو الاستقرار وهو باطل، فإذن قد يقال إنه علقه عليه حال حركته، ولا خفاء في أن الاستقرار حال الحركة محال، فيكون تعليق الرؤية عليه تعليقا بالمحال فلا يدل على إمكان المعلق بل على استحالته.
وأجيب: بأنه علقه عليه من حتى هو من غير قيد نشط، والراجح عين المرجع فيكون مطلقا عن القيد أيضًا وإلا لزم الإضمار في الكلام وهو خلاف الأصل الذي لا
_________
(1) البقرة:260
(2) الأنبياء:63
(3) انظر: التفسير الكبير للرازي (14/ 231 - 232)(2/757)
يصار إليه إلا بدليل، ولا دليل. ولا شك أن استقرار الجبل من حيث هو ممكن.
ودفع بأن التعليق على استقرار الجبل من حيث هو لا مانع له إذ الواقع في الخارج لا يكون مطلقا إنما يكون مقيدا، والتعليق ليس على ما يقع في الخارج- أعي: المعلق المعقول من دون قيد حركة ولا سكون- وعلى الجملة فإن التعليق في ظاهر الأمر بادئ بدء تعليق على ممكن، لكن عدم استقرار الجبل كشف عن كون التعليق على غير ممكن.
فمن نظر إلى انه علق على ممكن كصاحب الغايات فقد نظر إلى بادي الأمر، ومن نظر إلى عاقبة الأمر وقال المانع: هي- أعني قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (1) في دالة على عدم وقوع الرؤية في جميع الأزمان لوجهين
[32]: (الأول): أن لن لتأبيد النفط وتأكيده كما صرح بذلك الزمخشري في مؤلفاته، نص على التأبيد في النموذج (2) والتأكيد في كشافه (3) ومفصله قال المحلى في " شرحه على جمع الجوامع ": وقد نقل التأبيد عن غير الزمخشري ووافقه في التأكيد كثير، حتى قال بعضهم: إن منعه مكابرة، انتهى.
وقد ذكره السيوطي على هذا في الإتقان (4) ناقلا عن بعضهم وحكى موافقة ابن عطية (5) على التأييد.
وأجيب عن ذلك. مما ذكره ابن مالك (6) من أنها لو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها
_________
(1) الأعراف:143
(2) ذكره صاحب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (1/ 284).
(3) (502/ 2 - 504).
(4) (551/ 1 - 552)
(5) ذكره السيوطي في الإتقان (1/ 552).
(6) في شرح الكافية الشافية لا بن مالك (1515/ 3) حيث يقول ابن مالك في الكافية وقال محمد محي الدين عبد الحميد في عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك (4/ 136 - 137) التعليقة رقم (2).
ادعى جار الله الزمخشري دعويين كل منهما غير مسلمة له.
أما الدعوى الأولى فذكرها في كتابه الأنموذج، وحاصلها أن لن تدل بحسب وضعها على تأبيد النفي، وأنه لا غاية له ينتهي بليها، وعلى قوله: هذا يبطل تقسيمنا نفى لن إلى الضربين اللذين ذكرناهما وهما نفى له غاية ينتهي إليها- ونفي لن مستمرا إلى غير غاية- ويكون نفى نوعا واحدا، رقد استدل لما ذهب إليه بنحو قوله تعالى: {لن يخلقوا ذبابا}.
ولا صحة لما ادعاه، ولا دليل له فيما استدل به، فأما عدم صحة دعواه فيدل له ثلاثة أمور:
أولاً: أن لن لو كانت دالة على تأبيد النفط في كل مثال ترد فيه لكان ذكر طر00ف دال على
وقت معين معها تناقضا وقد ذكر القران الكريم لفظ (اليوم) معها في قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} إذ كيف ينتفي تكليمها إنسيا نفيا مستمرا لا إلى غاية ثم يقيد ذلك بقوله اليوم في أفصح كلام وأبعده عن التناقض والاختلاف.
الوجه الثاني: أن لن لو كانت تدل كلما ذكرت على تأبيد النفي لكان ذكر لفظ (أبدا) معها تكرار لأن المفروض أنه مستفاد منها، وقد ورد ذكر أبدأ معها في القرآن في نحو قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} والقرآن مصون عن التكرار.
الوجه الثالث: أنها لو كانت دالة على تأبيد النفي لم يصح أن يذكر معها ما يدل على انتهاله نحو ما ذكرنا من قوله تعالى: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} وقوله جلت كلمته: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} وأما استدلاله على أنها تدل على تأبيد النفط بقوله تعالى نم لن يخلقوا ذبابا " فغير صحيح، لأن الدلالة على استمرار عجزهم عن خلق الذباب لم تدل عليه لن، وإنما يدل عليه دليل عقلي كما قلناه في أول كلامنا، وكلامه في دلالة لن وضعا، ولئن سلمنا جدلا دلالتها على تأبيد النفي في هذه الآية. معونة العقل فأنا لا نسلم أنها في كل تعبير ترد فيه تدل على تأبيد النفط فبطلت دعواه ولم يسلم له استدلاله وأما دعواه الثانية فإنه ذكر في الكشاف في تفسير قوله تعالى لموسى: {لن تراني} أن لن(2/758)
باليوم في {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (1) و لم يصح التوقيت في {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (2) ولكان ذكر الأبد في {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (3) تكرارا إذ الأصل عدمه، ودفع بأن التقييد المذكور من أقوى الأدلة على أنها للتأبيد، فانعكس مطلوبكم وأما ذكره التأبيد في قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} (4) فهو تأييد لا تأسيس وإلا لزم أن يكون قيدا فيتوجه النفط إليه على ما هو الأكثر في الاستعمال فيفسد المعني، ولا يقدح في ذلك مخالفة التأكيد للأصل في العربية.
(والثاني) أن الرؤية علقت على أمر لا يكون، ولا يمكن من استقرار الجبل مكانه حين تدكدكه، أي حصول التدكدك والاستقرار معا، وإلا لم يبق لما في الآية- من التعليق وذكر التدكدك- وجه. ومعلوم أن ذلك ليس إلا بيان امتناع وقوع المعلق عليه لا بيان لإمكانه، ولأن المراد الاستقرار بدل التدكدك في زمانه، وعلى فرض التسليم فلا نسلم المقدمة المقابلة أن ما علق على الممكن ممكن أو لا نسلم كليتها، والسند ما سلف. وقد سبقت الإشارة إلى مثل هذا الكلام في جواب المانع على المجوز [33] عند استدلاله هذه الآية على مذهبه وسبق دفع ذلك (5) ودفع الدفع فراجعه.
_________
(1) مريم: 26
(2) طه:91
(3) البقرة:95
(4) البقرة:95
(5) قال صاحب العقيدة الطحاوية (ص: 206 - 208) تعليقا على الآية {لن تراني} الأعراف:143 في الاستدلال منها على ثبوت رؤيته سبحانه تعالى من وجوه
1/ أنه لا يظن بكليم الله ورسوله وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل مالا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.
2/ أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال سبحانه: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود: 146
3/ أنه تعالى قال: {لن تراني} ولم يقل: إني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي أو لست. مرئي والفرق بين الجوابين ظاهر.
وهذا يدل على أن الله سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى
البشر فيها عن رؤيته سبحانه وتعالى.
4/ ويوضح ما تقدم قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} الأعراف: 143.
فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلط في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرا، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كان محالا لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف احمل وأشرب وأنام. والكل عندهم سواء.
6/ وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} الأعراف: 143.
فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم بثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
7/أن الله كلم موسى ناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغر واسطة- فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه وقد جمعوا- المعتزلة- بينهما، وانظر: تلبيس الجهمية لابن تيمية (358/ 359) الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 68).(2/760)
ومن أدلة المانعين ما قالته عائشة كما ثبت ذلك في " الصحيح (1) عنها لما سمعت من
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4855) - والفظ له- ومسلم في صحيحة رقم (287/ 177) من حديث مسروق.(2/761)
ذكر الرؤية كما لقد قف شعري وقالت مرة أخرى (1) من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ".
وأجيب: بأن احتجاج عائشة بذلك على من زعم أن محمدا رأى ربه ليلة المعراج. ومحل النزاع رؤيته في الآخرة، على أن عائشة كانت إذ ذاك في أوان ولادتها، وقد ألفها جماعة من الصحابة، وقد جزم النووي (2) وغيره بأن عائشة لم تنفي الرؤية بحديث مرفوع، إنما اعتمدت على الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية (3) وقد ذكر ابن حجر (4) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قيل له ما تقول في قول عائشة من زعم أن محمدا رأى، فقد أعظم على الله الفريلي" بم تدفع قولها، قال: بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ربي (5) وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر.
ودفع بأنه عائشة رض الله عنها إن لم تعلم ذلك من قبيل المشاهدة فقد علمته من قبيل الرواية الصحيحة عن بعض نسائه، وإن جزم النووي بذلك يخالف ما في صحيح مسلم الذي شرحه (6) بنفسه، من طريق داود بن هند عن الشج عن مسروق، أنه قال لها- أي عائشة- لم أنكرت الرؤية؟ أ لم يقل الله} وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى & (7) فقالت (8): أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله ع! عن ذلك، فقال: " إنما هو
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحة رقم (4855) ومسلم في صحيحة رقم (287/ 177) واللفظ له.
(2) في شرحه لصحيح مسلم (3/ 5).
(3) قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} الأنعام: 103 وقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} الشورى: 151
{.
(4) في فتح الباري (8/ 607) حيث قال روى الخلال في كتاب " السنة " عن المروزي
(5) أخرجه مسلم رقم (177/ 287).
(6) أي النووي في شرحه لصحيح مسلم (9 - 513).
(7) النجم:13
(8) أخرجه البخاري رقم (4855) ومسلم رقم (177/ 287).(2/762)
جبريل، أو هذا جبريل " وهذا خبر مرفوع وبأن المخالف لها من الصحابة ليس إلا ابن عباس (1)، وقد قال بقولها ابن [34] مسعود (2) وأبو ذر الغفاري (3)، كيف وقد أجابه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " نور إني أراه ... الخ"، كما في رواية مسلم (4)، وبقوله: " قد رأيت نورا، كما في رواية أحمد وبقوله كل: رآه بقلبه ولم يره بعينه كما في رواية ابن خزيمة (5) عنه.
قالوا: سلمنا جميع ذلك، وليس فيه إلا نفى الرؤية ليلة المعراج فمن أين يدل على النفط الأبدي، على أنكم لا ترضون بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نور أني أراه ". بل تؤولونه باستفهام الإنكار فتقولون: أنور هو؟ كيف! أراه، كما صرح بذلك محققكم السيد مانكديم (7) في " شرح الأصول الخمسة ".
ومن أدلة المانعين ما أورد السيد أمانكدمم (6) سابقا في " شرح الأصول " عن جابر ابن عبد الله (7) عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " لن يرى الله أحد في الدنيا والآخرة ".
_________
(1) فقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة قال: رأى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فقد أخرج مسلم في صحيحة رقم (176/ 284) والترمذي في السنن رقم (3281) وابن أبي عاصم في " السنة " رقم (439) وهو حديث صحيح.
عن عطاء عن ابن عباس قال رآه بقلبه وأخرج مسلم في صحيحة رقم (176/ 285) عن ابن عباس قال ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال رآه بفؤاده مرتين.
(2) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (174/ 280) وأحمد (1/ 460) بسند صحيح
(3) أخرجه مسلم في صحيحة رقم (178) وابن خزيمة في " التوحيد " رقم (305) وهو حديث صحيح. (4): في صحيحة رقم (178).
(4) في المسند (5/ 157،171،175) من طرق.
(5) في " التوحيد " (516/ 2 رقم ... ) بسند صحيح.
(6) في المخطوط [أ. ب] ما نكدم والصواب ما أثبتناه من مؤلفات الزيدية (2/ 136) وهو قوام الدين مانكديم أحمد بن أبي الحسين بن أبي هاشم المعروف بششديو.
(7) خبر باطل ليس له وجود في دواوين الإسلام.(2/763)
وما روي عن على (1) رض الله عنه وقد قيل: هل رأيت ربك؟ قال: " ما كنت أعبد شيئا لم أره، فقيل كيف رأيت؟ فقال: لم تره الأبصار. مشاهدة العيان، لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، موصوف بالدلالات، معروف بالآيات، هو الله الذي لا إله إلا هو الحط القيوم ".
وأجيب عن ذلك بأن الخبر مما لا وجود له في دواوين الإسلام ولا فيما يلتحق ها ولا أصل له في الصحة والأثر عن علي عليه السلام ولا يدل على المطلوب، وغاية ما فيه نفط (2) الرؤية في الدنيا بشهادة لم القابلة لمعنى المستقبل إلى المضي كما عرف في موضعه،
_________
(1) أثر باطل ليس له وجود في دواوين الإسلام
(2) هذه المسألة- رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه- وقع الخلاف فيها قديما وحديثا.
القول الأول: ذهب قوم إلى إنكارها وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه، ومن هؤلاء. عائشة وابن مسعود وأبو هريرة.
أخرج البخاري في صحيحة رقم (8855) ومسلم رقم (177) عن عائشة رضي الله عنها- قالت: " ثلاث من حدثك هن فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ... " واللفظ للبخاري. القول الثاني: إثبات رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه، وهذا قول ابن عباس وأنس وإليه ذهب عكرمة والحسنى، والربيع بن سليمان، وابن خزيمة والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبو إسماعيل الهروي وكعب الأحبار والزهري، وعروة بن الزبر، ومعمر- وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ورجحه النووي.
القول الثالث: التوقف في المسألة ذكره القاضي عياض حيث قال: ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال: ليس عليه دليل واضح لكنه جائز
.. " وقال القرطي في المفهم (1/ 402): " والوقف في هذه المسألة أرجح وذكر أنه ليس في الباب دليل قاطع وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، قال وليست المسألة من العمليات فيكتفي فيها بالأدلة الطيه، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفي فيها إلا بالدليل القطعي.
القول الراجح:- قال ابن حجر في الفتح (8/ 608) وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفى عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب. ثم المراد برؤية الفوائد روية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه كان عالما بالله على الدوام. بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه(2/764)
وإلى هنا انتهت أدلة المانع النقلية.
أدلة القائلين بالرؤية
وأما المجوز فاستدل بأدلة (منها) ما سبق من الأحاديث الكثيرة التي قال الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير (1) متواترة وتابعه على وصفها بالتواتر العلامة الأسيوطي (2) وقد ذكرنا أنها رويت من طريق ثلاثين صحابيا وأن متونها تزيد على ثمانين حديثا ومنها قوله تعالى: {رب أرني أنظر إليك} (3) الآية وقد سلف الكلام على ذلك.
ومنها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (4) والنظر معنى الرؤية والإبصار، لا سيما مع اقترانه بالوجوه. والآية قد دلت على الوقوع فرع الجواز والصحة فه! دليل على الصحة بلا شبهة.
_________
(1) في الروض الباسم (1/ 182 - 183)
(2) في البدور السافرة في أمور الآخرة (ص: 477 - 491)
(3) الأعراف: 143
(4) القيامة: 22 - 23(2/765)
تمنعون أن يكون النظر إلى الله في جهة مع الجهات، وقلتم إنه لا يستلزم إثبات الكيف والجهة أصلا، فلا بد لكم من تأويل النظر إليه تعالى بالنظر إلى جهته في العرف، وهي الجهة المعلومة إلى يلتفت إليها عند الرجوع إليه تعالى كما تقتضيه العادة والفطرة، وهي التي يترقب فيها نزول الرحمة والفيض، فيكون المعنى أن النظر حينئذ ينتهي إلى جهة رحمته ومكان ملائكته وحملة عرشه "، فلا يصح أن يكون المعنى أن النظر ينتهي إليه تعالى فإن ذلك باطل محال قطعا وإجماعا. فالآية على هذا حجة عليكم لا لكم، وقد اعترف سعد الدين وكيره من الأشاعرة بأنها لا تفيد القطع ولا تنفي الاحتمال، ودفع بأن هذا لا يستلزم الحذف، وهو خلاف الأصل، ودعوى المحالية مصادرة على المطلوب، وقد شهد. مما قلناه الحديث (1) الصحيح الذي رواه ابن عمر رض الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعمه وخدمه [36] وسرره مسيرة ألفي سنة. وأكرم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) رواه الإمام أخض (3) والترمذي (4) وابن أبي شيبة (5) وعبد بن حميد (6) واللالكائي في السنة (7) وابن جرير (8)
_________
(1) بل هو حديث ضعيف
(2) القيامة:22 - 23
(3) في المسند (13/ 2،64).
(4) في السنن رقم (2553).
(5) في المصنف (13/ 111 رقم 15847).
(6) في المنتخب رقم (817) ط: دار الأرقم.
(7) في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (866)
(8) في جامع البيان (14/ج: 29/ 193).(2/766)
وابن المنذر (1) والدارقطني في الرؤية (2)، والحاكم (3) وابن مردويه (4) والبيهقى لم، وهذا نمى في أن النظر. معي الرؤية والإبصار.
قال المانع: العدول عن الأصل لازم لا محالة إذا لم يقر محذوف ضرورة أن " إلى "
لا تكون حينئذ للانتهاء الذي هو الأصل في وضعها، بل لا بد من التجوز فيها مع أنكم قد عرفتم أن المطرزي والسكاكي (5) والقزويي والسعد التفتازاني (6) وغيرهم قائلون بأن الحذف (8) إذا لم يتغير به الحكم الإعراب لا يكون من المجاز في شيء، فلا يكون الذهاب
_________
(1) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 350).
(2) (190،191).
(3) في المستدرك (2/ 559 - 510).
(4) عزاه بليه السيوطي في الدر المنثور (8/ 350)
(5) في البعث والنشور (ص: 251 - 252 رقم 432)
(6) قال الحاكم: " حديث مفسر في الرد على المبتدعة، وثوير، وإن لم يخرجاه فلم ينقم عليه غير التشيع(2/767)
إليه عدولا عن الأصل، والحديث ليس فيه زيادة على ما في الآية أصلا، وقد عرفتم ما فيها، والآية الكريمة فيها مقابلة بين الوجوه الناضرة والوجوه الباسرة، فمقابل الناضرة هي الباسرة الظانة أن يفعل ها فاقرة، ومقتضى هذه المقابلة أن يكون نظرها إلى ربها. معنى الرجاء ليقابل الخوف الذي هو معنى الظن، وجعله. معني الرجاء مجاز مشهور، ولهذا أسمى به العلامة في الكشاف (1) وشيء آخر وهو أن النظر لفظه مشترك بين [37] معان (2) خمسة: تقليب الحدقة،
_________
(1) (6/ 270 - 271).
(2) قال ابن الجوزي في نزهة الأعين النواظر (ص: 587).
النظر: قي الأصل: إدراك المنظور إليه بالعين ويسمى ما يقع به النظر من العين: الناظر- وقد يستعار في مواضع تدل عليها القرينة. ويقال: نظرت فلانا:. معني انتظرته. ونظرته: أخرته.
والنظرة: التأخير. والنظير: المثل: وهو الذي إذا نظر إليه وإلى نظيره كانا سواء.
وقيل النظر على وجوه:- ا/ الإدراك بحاسة البصر.
2/.معنى الانتظار.
3/.معنى الرحمة.
4/.معنى المقابلة والمحاذاة يقال: دورهم تتناظر، أي تتقابل.
5/. معنى الفكرة في حقائق الأشياء لاستخراج الحكم.
وذكر أهل التفسير أن النظر في القران على أربعة أوجه:-
أحاط: الرؤية والمشاهدة ومنه قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]
الثاني: الانتظار: ومنه قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص: 15]
الثالث: التفكر والاعتبار ومنه قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام:99] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5](2/768)
والانتظار، والفكر، والرحمة، والتقابل، قال النجري (1) في " شرح القلائد " هكذا قال أصحابنا واحتجوا على كل من هذه المعاني بشيء من كلام العرب. واختار الإمام المهدي أنه مشترك بين الثلاثة الأول فقط، وأما الأخيران فإنما يستعمل فيهما على سبيل التجوز، فحمل النظر في الآية الكريمة على الرؤية حمل على المجاز إذ ليس الرؤية من معانيه، وحمله على الانتظار حمل على الحقيقة، وحمل كلام الله على الحقيقة مهما أمكن هو الأولى، فيحمل النظر حينئذ على انتظار ثوابه، وهذا التأويل مروي عن على لمحبه ومجاهد والحسن البصري وغيرهم (2) انتهى.
قال في " شرح الأصول" (3) والنظر. معنى الانتظار قد ورد، قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4) وقال حاكيا عن بلقيس: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] أي منتظرة، وقال الشاعر (5):
فإن يكون صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب
وقال آخر (6):
_________
(1) هو عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن علي الزيدي العبسي المعروف بالنجري فقيه زيدي. نسبه إلى نجرة من قرى عبس حجة باليمن. البدر الطالع (1/ 397)
(2) أخرجه ابن جرير في "جامع البيان" (14/ 29\ 191 - 192)
(3) للقاضي عبد الجبار (ص: 242).
(4) البقرة:280
(5) نسبه القاضي في الشرح (ص: 44) إلى المثقب العبدي أو الممزق.
والمثقب: هو عائذ بن محصن بن ثعلبة.
والممزق: شأس بن فار بن الأسود.
طبقات فحول الشعراء (ص: 271 - 272) جامعة الإمام.
(6) قال فخر الدين الرازي: إنه موضوع والرواية الصحيحة.(2/769)
نراه على قرب وإن قرب المدى ... ... بأعين آمال إليك نواظر [38]
وقال آخر (1):
وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص
وقال الخليل: " إنما أنظر إلى الله وإلى فلان من بين الخلائق، أي أنظر خيره وخر فلان " وجعل في الأساس من ذلك قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (2) أي انتظرونا، وقوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} (3) أي انتظرنا.
قال المجوز: إذا لم يكفكم الآجال في وجه الاحتجاج بالآية، فاسمعوا على التفصيل لينزاح عنكم الإشكال وينحل عن قلوبكم عقد هذا الإعضال.
فنقول: النظر في اللغة (4) جاء. معنى الانتظار، ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (4) أي: انتظرونا، وقال: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (5) أي ما ينتظرون، ومعنى قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (6)
_________
(1) انظر التعليقة السابقة
(2) الحديد:13
(3) البقرة:104
(4) الحديد:13
(5) ص:15
(6) النمل:35(2/770)
أي منتظرة (1)، وكذا قول الشاعر (2):
فإن غدا لناظره قريب
وجاء. معنى التفكر (3) والاعتبار، ويستعمل حينئذ بفي يقال نظرت في الأمر الفلاني أي: تفكرت، وجاء. معنى الرأفة والتعطف، ويستعمل حينئذ باللام، يقال: نظر الأمور [39] لفلان أي رأف به وتعطف، وجاء. معنى الرؤية ويستعمل بإلى قال الشاعر (4):
نظرت إلى من أحسن الله وجهه ... فيا نظرة كادت على وامق تقضي (5)
والنظر في الآية موصول "بإلى" (6) مقرون بالوجوه فوجب حمله على الرؤية فتكون واقعة في ذلك اليوم، وهو فرع الصحة فاستشهادكم. مما هو متعد بنفسه خارج عن محل
_________
(1) الخلاصة: ليس قول من قال إن (ناظرة). معنى منتظرة. مستقيم لأن نظرة إذا كانت. معنى الأنظار لا يدخل عليها حرف الغاية.
يقال: نظرت فلافا أي أنظرته، ولا يقال نظرت إليه وقول من قال من- غلاة المعتزلة- إن (إلى) هنا اسم. معنى النعمة وهو واحد، أي: منتظرة نعمة رها ليس. مستقيم أيضا، لأن الله تعالى أخبر عن الوجوه أنها ناعمة، فدخل النعيم ها وظهرت أماراته عليها، فكيف تنظر ما اخبر الله عز وجل أنه حال فيها، إنما ينظر إلى الشيء الذي هو غر موجود والوجه الذي ليه الجمهور: أن المراد رؤية الله سبحانه وتعالى ومن اعتقد غير ذلك فهو مبتدع انظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد (4/ 576 - 577)." الدر المصون " (1/ 574).
(2) سبق ذكره
(3) أي تعدى بـ (في) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (لأعراف:184).
(4) أورده الإيجي في "المواقف" (ص: 305).
(5) في المخطوط [أ] تقصر.
الوامق: ومق ومقة وومقا أحبه، وقيل الوامق: العشق، لسان العرب (15/ 409).
ومعلوم أن الذي يقضي على الوامق هو رؤية المعشوق لا تقليب الحدقة ونحوه. "الأربعين "للرازي (ص: 201، 202).
(6) قال صاحب العقيدة الطحاوية (ص: 305): فإن تعدى ب (إلى) فمعناه: المعاينة بالأبصار، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر(2/771)
النزاع، وبما هو متعد بإلى كقوله: " وجوه يوم بدر ناظرات " يحتمل أن يكون المعنى " ناظرات إلى جهة الله في العرف وهو العلو، ولذلك ترفع الأيدي في الدعاء مع الاعتقاد بأن الله منزه عن أن يكون جسما أو ذا جهة، والمعنى: ناظرات إلى آثار أفعاله لنصرة المؤمنين يوم بدر.
فإن قلت: الأصل عدم الحذف قلت: والزيادة فما هو جوابكم في منتظرات؟ فهو جوابنا هنا على أنه قد ذكر بعض الرواة أن الرواية هكذا: " وجوه ناظرات يوم بكر " وأن قائله شاعر من أتباع مسلمة (1) الكذاب، والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة، وإلا لما جاز أن يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره. ولم لا يجوز أن تكون [40] ناظرة. معنى منتظرة، مع تعدية بإلى كما قال ابن جني (2) في كتابه الموسوم ب "الخصائص" (3) أن
_________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) هو عثمان بن جني كان الوه جني روميا يونانيا وكان مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي ومن ثم ينتسب ابن بكما أزديا بالولاء ولد بالموصل قبل الثلاثين والثلاثمائة من الهجرة. وقيل كانت وفاته سنة302.
أخذ النحو عن الأخفش، فتح ابن جني في العربية أبوابا لم يتسنى فتحها لسواه ووضع أصولا في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ والمعاني.
وكان حنفي المذهب في الفقه. وذكر السيوطي في المزهر (1/ 7) أن ابن جما كان معتزليا كشيخه أبي على.
من مصنفاته:- الخصائص.
- سر الصناعة.
- تفسير ديوان المتنبي.
- اللمع في العربية.
- المقتضب. وغيرها كثير.
انظر: " البغية " (ص 391)، نزهة الألباء (ص 408) ط أولى.
(3) (2/ 308).(2/772)
الفعل إذا كان. معنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف الآخر بآخر فإن لعرب قد "تتسع فتوقع" (1) أحد الحرفين موقع ناحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر ثم قال (2): ووجدت في اللغة من هذا شياء كثيرة لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتابا ضخما، وقد عرفت طريقته، فإذا مر بك شيء عنه فاقبله وانس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن. انتهى.
وقد نقله السيوطي في " الأشباه والنظائر " (3) والقاضي كريا ونقل مثله " شارح شواهد المغني" (4) عن ابن عصفور (5) وقال ابن هشام في المغني (6): قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطون حكمه ويسمى ذلك تضمينا " انتهى.
وقد صرح صاحب (7) [41] القاموس (8) وهو من الأشعرية بأن النظر الذي هو العامل وتقليب الحدقة كما يتعدى بإلى كذلك يتعدى بنفسه، بل قدم تعديته بنفسه. فإن قلت: إن ذلك مجاز، فالمجاز قد شحن به القرآن، ولك أن تقول هو من باب: أنا ناظر إلى من عند الله، أي: ملتفت إليه فإن قلت: يلزم على هذا التأويل العدول إلى المجاز أو إلى الإضمار وكلاهما خلاف الأصل والظاهر قلت: العدول إلى مثل ذلك سائغ مع قيام الدليل بالإجماع ولك أن تقول ناظرة إلى ثواب رها ناظرة، لا يقال هذا غير تام: أما أولا فلأن الثواب ليس مرئيا في نفسه وإنما المرئي أثره فيلزم الإضمار الكثير وهو
_________
(1) في [ب] تمنع وقوع
(2) أي ابن جئ في الخصائص (31012)
(3) (7813 - 0 8)
(4) (8218)
(5) ذكره السيوطي في الأشباه والنظائر في النحو (3/ 751).
(6) (685/ 2).
(7) أي الفيروز آبادي
(8) (ص: 623).(2/773)
خلاف الأصل وأما ثانيا فلأن النظر يمتنع أن يكون معه رؤية لا للثواب ولا لأثره. أما الثواب فكما ذكرناه، وأما أثره فلأن النظر في الآية قبل أوان أثر الثواب بدليل مقابلة [42] تظن أن يفعل بها فاقرة {(1) إذ لا معنى للظن بعد الوقوع، فلا وقوع للعقاب ولا للثواب كما هو مقتضى المقابلة فالنظر بلا رؤية إنما هو عبارة عن مجرد تقليب الححقة كما هو حقيقته وهو غم أي تقليب الحدقة إلى المرثي بلا رؤية، والآية في سياق النعم على فريق الجنة فإن يومئذ في سرور لا غم فيه، لأنه يقال في الجواب عن الأول بأن إطلاق الثواب (2) على أثره مطابق للتنزيل في كذا وكذا آية، بل لم يطلق الثواب في الكتاب والسنة وسائر الكلام إلا على أثره، ولا معنى لإطلاقه على [43] نفس الثواب، أي المصدر في مقام الوعد والإضمار وإن كان خلاف الظاهر والأصل، إلا أفم قد صرحوا بأنه من أكثر أنواع الكلام ورودا.
على أن الذاهب إلى القول بالرؤية من هذه الآية لا بد له من المجاز لأن الرؤية على وجه الإحاطة بذاته تعالى ممتنعة الفاقا، ولا شك أن حمل قول القائل رأيت زيدا على وجه الإحاطة مجاز، وقد حاول القاضي زكريا دفع هذا فما جاء بشيء. وعن الثاني، بأن تقليب الحدقة إلى محل الرجاء والتلفت نحو المطلوب فرع من فروع توقعه لا محالة، هذا هو المفهوم من الآية ولا شبهة أن الاستشراف بحصول المعلوم بالوعد الصادق من الكريم المطلق تعالى في مقام إنجازه سرور وحبور، ومما يخش في وجه الاستدلال هذه الآية ما ذكره العلامة جار الله في "كشافه" (3) في تفسير هذه الآية قال " تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره وهذا معنى تقلم المفعول، ألا ترى إلى قوله:} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ {(3)} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ & (4)
_________
(1) القيامة:25
(2) انظر لسان العرب (2/ 145)
(3) القيامة:12
(4) القيامة:30(2/774)
{إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (1)، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2)، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (3) {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (4)، كيف دل التقديم فيها على معنى الاختصاص، ومعلوم أفم ينظرون إلى أشياء لا يحيط ها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محضر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال فوجب حمله على معنى يصح به الاختصاص. والذي يصح معه الاختصاص أن يكون من قول الناس- أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي- معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل (5):
وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما
وسمعت سروية (6) [44] مستجيبة. بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقايلهم تقول: عيني نويظرة إلى الله وإليكم" (7) انتهى كلامه (8)
_________
(1) الشورى:53
(2) البقرة:245
(3) آل عمران:28
(4) هود:88
(5) من (الكامل) كذا ذكره الزمخشري في الكشاف (6/ 270) وصاحب " الدر المصون " (10/ 576).
(6) السروية: النسبة إلى بلدة بطبرستان يقال لها: سارية.
وانظر القاموس (سري) (ص: 1669 - 1670).
(7) ذكره صاحب الدر المصون (10/ 576 - 578).
(8) أي الزمخشري في الكشاف
(6/ 270). والمعنى أفم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم " فقال صاحب الدر المصون (10/ 577) تعقيبا على ذلك: وهذا كالحوم على قول من يقول: إن " ناظرة ". بمعنى منتظرة. إلا أن مكيا قد رد(2/775)
وإلى هنا انتهى ما قصدنا إيراده من الكلام على هذه المسألة وقد جلبنا إليك من أدلة الفريقين ما تصير به بعون الله قرير عين، وأوردنا من حجج الطائفتين ما يذهب به عن قلبك كل صدى ورين،- وجمعنا في هذا المختصر بين الضب والنون (1)، وخلطنا فيه الخاص به عند أرباب الاصطلاح بفنون، وقررنا فيه الغث بالسمن اتكالا على تمييز الناظرين، وحكينا لك فيه الأقوال وأوضحنا مقامات الجدال والنضال، ولم نتعقب ما ركب به قائله كأهل الاعتساف، وخرج به عن أرباب الفطن عن مسالك الإنصاف، لأن الناظر في هذا المختصر إنها كامل قد استغنى بعرفانه عن التعريف أو مقصر لا يفرق وإن بالغت في التبيين بين قوي وضعيف، ومهما غفلت عن شيء فلا تغفل عن تلك النصوص القوية إلى جاء ها مدعى التخصيص لأدلة الرؤية فإن عليها حامت طيور النقلد، وإليها سافرت أنظار علماء الإنصاف وأئمة الاجتهاد فخفها مجملة غير مفصلة، نستأنس عن وحشة هذه المسألة المعضلة، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ورسوله وعلى آله وصحبه
[45]. أكمل من خط جامعه الإمام المجتهد، القاضي بدر الدين، العلامة النحرير محمد بن علي الشوكاني حفظه الله تعالى، ومتع جميع المسلمين بحياته آمين.
وكان التأليف في شهر الحجة الحرام سنة 1253 هـ ثلاث ومائتين وألف. وصلى الله وسلم على محمد وآله (2)
_________
= هذا القول في إعراب مشكل القران (2/ 431) فقال: ودخول "إلى" مع النظر يدل على أنه نظر العين، وليس من الانتظار ولو كان من الانتظار ولم تدخل معه " إلى " ألا ترى أنك لا تقول: انتظر إلى زيد وتقول: نظرت إلى زيد. ف " إلى " تصحب نظر العين ولا تصحب نظر الانتظار، فمن قال: إن " ناظرة ". معنى منتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإعراب ووضع الكلام في غير موضعه.
(1) تقدم توضيح ذلك (ص 253).
(2) زيادة من المخطوط [ب](2/776)
كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب(2/777)
وصف المخطوط (أ)
1 - عنوان الرسالة: " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار ".
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين وصحبه المكرمين. وبعد: فإنه سألني سيدي العلامة المفضال، بقية أعلام الآل، ....
4 - آخر الرسالة:. ولكنا لم نقف على شيء يصلح للتمسك به غير ما قد حررناه، وحسبنا الله ونعم الوكيل. حرره جامعه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 - نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 - الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 - عدد الأوراق: صفحة العنوان+ 11 ورقة.
8 - عدد الأسطر في الصفحة: 23 سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
10 - الرسالة من المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".(2/779)
وصف المخطوط (ب)
1 - عنوان الرسالة: " كشف الأستار في إبطال قول من قال بفناء النار "
2 - موضوع الرسالة: في العقيدة.
3 - أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهرين وصحبه المكرمين. وبعد: فإنه سألني سيدي العلامة المفضال، بقية أعلام الآل، .....
4 - آخر الرسالة: قد كانت مقابلتي والولد الأبر التقط حسين بن أحمد بن محمد بن محمد بن زبارة لهذه النسخة على الأم المنقولة منها في ليلة ثلاثين غرة شعبان سنة 370 هـ سبعين وثلاثمائة وألف بصنعاء اليمن والحمد لله رب العالمين: محمد ابن محمد بن يحيى زبارة.
5 - نوع الخط: خط نسخط متوسط.
6 - الناسخ: محمد بن محمد بن يحي زبارة.
7 - عدد الأوراق: (7) ورقات.
8 - عدد الأسطر في الصفد": (27) سطرا.
9 - عدد الكلمات في السطر: (15 - 17) كلمة.(2/783)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الطاهر (ين) (1) وصحبه المكرمين.
وبعد:
فإنه سألني سيدي العلامة المفضال، بقية أعلام الآل، وحسنة أهل الكمال الحسن بن يوسف زبارة (2) أعلى الله في الدارين منارة، وثبت إيراده وإصداره عن مسألة فناء النار، وما استدل به القائل، وأجاب المانع، وما هو الظاهر من الأدلة؟.
فأقول وبالله الاستعانة، وعليه التوكل:
أعلم أن جملة ما استدل به القائلون بذلك الفناء هو ثلاث آيات من كتاب الله العزيز: الأولى: الآية إلى في الأنعام، وهي قول الله سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (3)
والآية الثانية: قول الله سبحانه في سورة هود: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (4)
_________
(1) زيادة من [ب]
(2) الحسين بن يوسف بن الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الأير الحسين المعروف بزبارة الحسني اليمني الصنعاني. ولد سنة 1150 هـ ونشأ بصنعاء والروضة أخذ عن والده النحو والصرف والبيان.
قال الشركاني في ترجمته: هو احد علماء العصر المفيدين حسن السمت والخلق والأخلاق متين الديانة حافظ للسانه كثير العمادة وقد أجازني في جميع ما لرويه عن أليه يوسف عن جده الحسين توفي سنة 1231هـ.
انظر: نيل الوطر (ص:407 رقم 207) والبدر الطالع رقم (157)
(3) الأنعام:128
(4) هود:105 - 108(2/787)
والآية الثالثة: قوله تعالى في سورة عم {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (1)
وتقرير استدلالهم بآية الأنعام هو أنها واردة في الكفار، وقد استثني من خلودهم فقال: {إلا ما شاء الله} (2) فأفاد ذلك أهم يخلدون فيها إلا وقت هذه المشيئة الإلهية.
وتقرير الاستدلال بآية هود من وجهين:
الأول: قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (3) ففي هذا دليل على أن خلودهم هو مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السماوات والأرض: ولا خلاف أن مدة بقاء السماوات والأرض متناهية، فيلزم أن تكون مدة عقاهم متناهية.
والوجه الثاني: الاستثناء بقوله: {إلا ما شاء ربك} فإنه استثنى عن مدة عقوبتهم، وذلك يدل على زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء.
وتقرير الاستدلال بآية عم هو أن لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلا أحقابا [1أ] معدودة.
وقد تقرر أن (أفعالا) (4) هو من جموع القفة المعروفة. فهذا حاصل ما استدلوا به من
_________
(1) الآية: 23
(2) الأنعام:128
(3) هود:107
(4) قال ابن هشام في أوضح المسالك إلى ألفيه ابر مالك (4/ 236) ولجمع التكسير سبعة وعشرون بناء: منها أربعة موضوعة للعدد القليل، وهو من الثلاثة إلى العشرة وهى(2/788)
النقل، وهو أربعة أدلة كما عرفت. ولم يكن في السمنة المطهرة ما يصلح لتمسكهم به، وأما ما سيأتي من قول جماعة من السلف فستعرف- إن شاء الله- الكلام عليه.
وقد ضموا إلى هذا الاستدلال النقلي الاستدلال العقلي فقالوا: إن معصية الكفار متناهية. ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب غير متناه ظلم وأنه لا يجوز.
وأجاب الجمهور من هذه الأمة عن هذه الأدلة التي استدلت ها هذه الطائفة القائلة بالفناء بأجوبة:
أما عن آية الأنعام فقالوا: إن المراد بالاستثناء بقوله: {إلا ما شاء الله} (1) استثناء أوقات المحاسبة، لأنهم في تلك الأوقات لم يكونوا في النار.
قال الزجاج (2): إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم، ومقدار ملقم في الحساب. قال: فالاستثناء منقطع.
الجواب الثاني: أن المراد بالاستثناء (3) الأوقات التي ينتقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي (4) أفم يدخلون واديا شديد البرد يكون تضررهم برده أشد من تضررهم بحر النار، حتى يطلبوا الرجوع إلى النار.
الجواب الثالث: أن المراد: (إلا ما شاء الله) من ص ض في الدنيا بغير عذاب (5) الجواب الرابع: أن هذا الاستثناء لا يرجع إلى الخلود، بل هو راجع إلى الأجل
_________
(1) الأنعام:128
(2) في معاني القران وإعرابه (2/ 291)
(3) انظر فتح القدير (2/ 167).
(4) ذكره الزمخشري في الكشاف (2/ 396) بدون سند.
(5) ذكره الشوكاني فتح القدير (2/ 167).(2/789)
المؤجل لهم في قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} (1) فكأنهم قالوا: وبلغنا الأجل الذي حميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} (2) وكما فعل في قوم نوح، وعاد، وثمود ممن أهلكه الله قبل الأجل الذي آمنوا فيه، فبقوا إلى أن يصلوا إليه، فالمعنى إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك لكفره وضلاله.
الجواب الخامس: أن هذا الاستثناء معناه الإرشاد إلى الوقف في جميع الكفار الأحياء، لأنه قد يسلم منهم من يسلم، ويموت مسلما (3) الجواب السادس: أن المقصود هذا الاستثناء التهديد كما يقول الموتور لواتره بعد الظفر به: أهلكني الله إن عفوت عنه، إلا إذا شئت وقد علم أنه لا يشاء إلا إهلاكه، قالوا: وفي هذا وعيد شديد، وتهديد بالغ مع كم عن وقع الوعيد به (4) الجواب السابع: أن هذا الاستثناء راجع إلى مدة البرزخ، أي إلا ما شاء الله من لبثهم في البررخ (5) الرحمن: 20 (6) البلد:20 (7) المؤمنين: 100
_________
(1) الأنعام:128
(2) الأنعام:6
(3) انظر زاد المسير (4/ 158 - 161)
(4) ذكره الزمخشري في الكشاف (2/ 396) الموتور: الثائر أي صاحب الوتر الطالب بالثأر لسان العرب (15/ 205)
(5) البرزخ: الحاجز والحد بين الشيئيين، وقيل أصله برزه فعرب وقوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}
(6) والبرزخ في القيامة: الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل الرفيعة في الآخرة وذلك إشارة إلى العقبة المذكورة في قوله عز وجل {فلا اقتحم العقبة}
(7) وقال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(2/790)
الجواب الثامن: أن الاستثناء راجع إلى أهل الإيمان، أي إلا ما شاء الله من خروج الموحدين (1).
ويجاب عن الجواب الأول: بأن ظاهرة الآية أن الاستثناء بعد دخولهم النار، وبعد لبثهم فيها مدة تتصف بالخلود، لأن الخلود هو اللبث الطويل، كما تقرر في كتب اللغة (2)، وهم في وقت المحاسبة لم يكونوا قد دخلوا النار، والحمل على الانقطاع خلاف الظاهر.
ويجاب عن الجواب الثاني: بأن المراد بعذاب النار الوارد في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية هو العذاب. مما فيها من أنواع العذاب، لا. مجرد الإحراق بالنار فقط، فإن النار اسم للدار التي يكون فيها تعذيب العصاه كما أن الجنة اسم للدار التي كون فيها تنعيم أهل الطاعة، فالمعذب بالزمهرير هو في عذاب النار، أي في عذاب الدار التي يقال إلا النار، فلا يصح أن يكون المراد بالاستثناء عذاب الزمهرير.
ويجاب عن الجواب الثالث. ممثل ما أجبنا به عن الجواب الأول.
ويجاب عن الجواب الرابع بأنه خروج عن مقصود الآية، ورجوع إلى مسألة أخرى هما استيفاء الأجل المضروب للأحياء، واحترامه، وذلك غير ما سيق له الكلام القرآني، ورجوع إلى الكلام الواقع من الكفار بعد أن تعقبه الجواب عليهم بقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} (3)
_________
(1) انظر فتح القدير (2/ 537) و" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (9/ 99)
(2) انظر لسان العرب (12/ 219 - 220) وقال الأصفهاني في "المفردات" (ص: 733): لبث بالمكان: إقام به ملازما له.
(3) الأنعام:128(2/791)
ويجاب عن الجواب [2أ] الخامس. ممثل هذا الجواب عن الجواب الرابع، فإن ذلك خروج إلى مسألة أخرى لم يسق لها الكلام، ولا هي مرادة منه.
ويجاب عن الجواب السادس بأن فيه من التكلف والتعسف ما لا ينبغي حمل كلام الله سبحانه عليه. وعلى تسليم أن ذلك قد يقع التكلم به في الأحوال النادرة الشاذة فلا ينبغي الحمل على هذا النادر الشاذ، وترك ما هو الأعم الأغلب، فإن معنى الاستثناء (1) في لغة العرب الإخراج لا الإدخال، وأيضا يقال: إن ذلك لا يكون حقيقة أبدا، بل هو نوع من أنواع المجاز لا يصار إليه إلا لعلاقة مع قرينة.
ويجاب عن الجواب السابع. ممثل ما أجبنا به عن الجواب الأول.
ويجاب عن الجواب الثامن بأنه يدفع ذلك أن هذه الآية لم تكن عامة للمسلم والكافر، حتى يراد بالاستثناء خروج الموحدين من النار، وأيضا لو كان ذلك هو المراد على تسليم عمومها لقال: إلا من شاء الله ولم يقل: إلا ما شاء الله، فتدبر هذه الأجوبة عن تلك الجوابات، فإنها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم (2) وقد أخرج ابن جرير (3)، وابن المنذر (4)، وابن آبي حاتم (5) وأبو الشيخ (6) عن ابن عباس- وبه- أنه قال: " إن هذه الآية تدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا ".
وأما ما أجاب به الجمهور عن الاستدلالين المتقدم ذكرهما في آية هود، فأجابوا عن الاستدلال الأول أعني: قوله تعالى: ....
_________
(1) انظر اللمع في العربية لابن جنبي (ص: 121)
(2) انظر فتح القدير (2/ 167)
(3) في جامع البيان (5/ج: 8/ 34)
(4) عزاه إليه السيوطى في الدر المنثور (3/ 357)
(5) في تفسيره (4/ 388 رقم 7897).
(6) عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (3/ 357).(2/792)
{ما دمت السموات والأرض} (1) بجوابين: الأول: أن المراد حموات الآخرة وأرضها، قالوا: والدليل على أن في الآخرة حموات وأرضا قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (2) [2ب]، قوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (3)، وأيضا لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسماء (4).
[و] (5) الجواب الثاني: قالوا: إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم: ما دامت السماوات والأرض كما يقولون: ما اختلف الليل والنهار، فخاطب الله العرب ني هذه الآية على عرفهم، وبما تقتضيه لغتهم. قال الرازي (6) مجيبا عن الجواب الأول: ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوما مقررا، فيشبه به غيره لثبوت الحكم في المشبه، ووجود السماوات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجودهما معلوما إلا أن بقاءها على وج لا يفئ البتة غير معلوم. فلذا كان أصل وجودهما مجهولا لأكثر الخلق، ودوامهما أيضًا مجهولا للأكثر كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلام عديم الفائدة: أقصى ما في الباب أن يقال: ثبت بالقرآن وجود حموات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما وجب الاعتراف به، وحينئذ يحصل التشبيه. إلا أنا نقول: لما كان الطريق في إثبات دوام حموات وأرضي في الآخرة هو السمع، ضم السمع دل على عقاب الكافر، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الأصل في الحكم حاصل معتبر في الفرع. وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع، والتشبيه
_________
(1) هود:107
(2) إبراهيم: 48
(3) الزمر:74
(4) ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القران" (9/ 99)
(5) زيادة من [ب].
(6) في التفسير الكبر (18/ 64).(2/793)
باطل. فكذا هاهنا انتهى. ولا يخفاك أن قوله: ووجود السماوات والأرض في الآخرة غير معلوم ممنوع، لأنا نقول: إن أراد غير معلوم بالسمعي فباطل، لوجود الدليل السمعي عليه، وهو قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض ... الآية} (1)، وقوله: (وأورثنا الأرض الآية& (2) وكذلك ما وفى عن السلف مما سيأتي بيانه، وإن أراد غير معلوم بالعقل فليس البحث هاهنا في أدلة العقل، على أن كونه لا بد لأهل الدار الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسماء هو دليل عقلي، وأما قوله (3): وبتقدير أن يكون وجودهما معلوما إلا أن بقاءها على وجه لا يفئ البتة غير معلوم. فيجاب عنه بأنه قد ورد السمع كتابا وسنة [2أ/ب] ببقاء الدار الآخرة، وعدم تناهي ما فيها، وهذا الدليل [3أ] يكفي في كل ما ثبت وجوده فيها. وأما قوله (3): أقصى ما في الباب ... إلى آخره. فيجاب عنه بأن القياس إذا اشتمل على فائدة زائدة على أصل الدليل فلير بضائع، وكذلك التشبيه إذا كان الغرض الحاصل منه، وهو التقرير والمبالغة في التصوير موجودا فليس بباطل.
قال الرازي (3) مجيبا عن الجواب الثاني: ولقائل أن يقول: هل يسلمون أن قول القائل: خالدين فيها ما دامت السماوات يمنع من بقائهم في النار بعد فناء السماوات، أو يقولون: إنه لا يدل على هذا المعنى؟ فإن كان الأول فالإشكال لازم، لأن النص لما دل على أنه يجب أن يكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السماوات، ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السماوات، فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب. وأما إن قلتم: إن هذا الكلام لا يمنع من بقائهم في النار بعد فناء السماوات فلا
_________
(1) إبراهيم:48
(2) الزمر:74
(3) في تفسره (18/ 64)(2/794)
حاجة لكم إلى هذا الجواب البتة. فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع.
قال: واعلم أن الجواب الحق في هذا الباب عندي شيء آخر هو أن "المعهود" (1) من الآية أن من كانت السماوات والأرض باقيتين كان كونهم في النار باقيا. فهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرط حصل المشروط، ولا يقتض أنه إذا عدم الشرط انعدم المشروط الأبدي. إلا أنا نقول: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان، فإن قلنا: لكنه إنسان، فإنه ينتج أنه حيوان. أما إذا قلنا: لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا، فكذا هاهنا. إذا قلنا: من دامت السماوات والأرض لزم أن يكون عقابهم حاصلا. أما إذا قلنا: لكنه ما بقص السماوات والأرض لم يلزم (2) أعدم (3) دوام عقباهم انتهى (4).
ويجاب عن الترديد الذي ذكره في جوابه الأول بأنا نختار الضيق الثاني. وقولك: لا حاجة لكم إلى هذا الجواب البتة ممنوع، فإنه قد حصل به المقصود، من دفع استدلال من استدل به الآن (5) التبصر عن بقاء السماوات والأرض مراد به الدوام والأبد. وأما أقوله: (6) واعلم أن الجواب الحق في هذا الباب ... الخ، فلا نسلم أن قوله خالدين فيها مادامت السماوات والأرض هو في قوة الجملة الشرطية هي المفهومة من الآية فلا يصح ما رتبه على هذه الدعوى من قوله: فهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرط الخ ثم لا نسلم ما ذكره آخرا من التمثيل، فإن النسبة بين دوام
_________
(1) في المخطوط:"لمفهوم" وما أثبتناه من التفسير المذكور أنفا.
(2) زيادة من [ب]
(3) زيادة من التفسير الكبر (18/ 65).
(4) أي كلام الرازي في تفسيره (18/ 65)
(5) في [ب] لا أن
(6) في [ب] قولكم(2/795)