أمّةَ الإسلام، المرأة في الإسلام شقيقةُ الرجال في إقامة الحياة على خيرِ حال، علاقتها به علاقةُ مودّةٍ ورحمة وسَكَنٍ وطمأنينة، يقول في خطبة الوداع: ((فاتّقوا الله في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله)) [5]، ولئن حكى التاريخ تحقيرَ العصور الجاهليّة الأولى للمرأةِ وسلبَها حقوقها وكرامتَها فإنّ الحالَ اليومَ أسوأُ [منه] في حضاراتِ غير الإسلام، فهي في نظراتهم لا تعدو أن تكونَ مصيَدةً للآذان يُتنافَس فيها بالبغي والعدوان، أو أن تكونَ عاملاً لاهثًا ومنتِجًا راكضًا بلا رحمة ولا إحسان، أمّا المرأة في الإسلام فلها الشأنُ العظيم، حقوقها محفوظةٌ مُصَانة، تعيش كريمةً مُصانة عُضوًا مشَرّفا وعنصرًا فعّالا في إقامة حياةٍ سعيدة ومجتمع طاهر نزيه، تمارس مسؤولياتها وفقَ الحِشمة والآداب، مستوعِبةً المفيدَ من الجديد، محافظةً على نفسها، لها ميادينها ومجالاتُها في الخير والعطاءِ والبذل والفداء، وحينئذ تجني لأمّتها ولنفسها الثمراتِ الخيّرة، ولمجتمعها القطوفَ الزّاهرة، مجتنبةً الويلاتِ التي يعاني منها المستسلِمات لصرخاتِ التحرير الكاذبة الماكرة والدعوات الخادعة السافرة.
أيّها المؤمنون، أعداءُ الإسلام حريصون على أن تنهجَ المسلمة السبُل العوجاءَ والأفكار الهوجاء، قال أحدهم: "لن تستقيمَ حال الشّرق ما لم يُرفَع الحجابُ عن وجه المرأةِ ويعطَّ به القرآن"، وقال آخر: "إنّ التأثير الفكريَّ الذي يظهر في كلّ المجالات ويقلب المجتمعَ الإسلاميّ رأسًا على عقب لا يبدو في جلاءٍ أفضل بما يبدو في تحرير المرأة" انتهى. وهذا ليس بمستغرَبٍ على من مبادؤُه مهلِكة ومقاييسه فاسِدة، ولكن المستغرَب أن يتأثّر بذلك ذوو أفهامٍ سقيمة أو نوايا خبيثة، فتجدهم يتّجهون لمِثل تلك الدعوات، وينادون في ديار الإسلام بمثل تلك الصيحات. ألا فليت هؤلاء وغيرهم يدركون ما أدركه عقلاء القومِ ويستبصرون ما استبصروه من العواقب الوخيمةِ والآثار المدمّرة لمثل تلك التوجّهات، فترى أولئك منذرين نادمين على أرجاءِ حاضرتهم الهابطة التي أوردتهم الموارد.
تقول إحدى كاتباتهم: "إنّ الاختلاطَ الذي يألفُه الرجال وقد طمعَت فيه المرأة بما يخالف فطرتَها، وهنا البلاء العظيم على المرأة ... إلى أن قالت: أما آن لنا أن نبحثَ عمّا يخفِّف ـ إذا لم نقل: عمّا يزيل ـ هذه المصائب؟! "، وتقول أخرى: "ألا ليتَ بلادَنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفافُ والطّهارة، تنعَم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمَل أولادُ البيت، ولا تُمسُّ الأعراض بسوء" انتهى.
ألا وقد استبان الأمرُ وانكشف الحال، فواجبُ مَن انبهر بهذه المبادئ الزائفة والشعارات المرَونقَة واجبهُ النظرُ المنصِف والتفكُّر الدقيق، ليعلم ما جرّته تلك المفاهيمُ الزائفة من عواقبَ وخيمة على الفرد والمجتمع في كثيرٍ من العالم اليوم.
وإنّه لحريٌّ بالمسلمين التمسّكُ بخصائصهم الدينيّة والثقافية والاجتماعيّة أمامَ طغيان الثقافات الأخرى ومفاهيمها في قضية المرأة وغيرها، وذلك باختيار الهدي الإلهي ومبادئ التشريع الرباني وإظهار الاعتزاز بتلك الخصوصية وتطبيقها والالتزام بها، فذلك كافلٌ لها بموقع مشرِّفٍ في كلّ المجالات وشتّى الميادين.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، جاء الإسلامُ والناسُ تموج بهم صراعاتُ الأجناس والألوانِ والطبقات، فأشرق نورُه، وجمع بين تلك المختلِفات على مبدأ المساواة بين النّاس، لا تفاضُلَ فيه إلاّ باعتبار التقوى التي تنطرِح معها كلّ نزعةٍ عنصريّة عصبية أو قومية، يقول المصطفى في خطابه التوعيديّ: ((إن ربّكم واحدٌ، وأباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضلَ لعربيّ على عجميّ ولا لعجميّ على عربيّ ولا لأحمر على أسود ولا لأسودَ على أحمر إلا بالتقوى)) [6]. فهل يستيقِن المسلمون اليومَ أنّ التفرُّقَ والتشرذُم الحاصِل والذلّ والهوان الواقع إنما هو بسببِ القوميّات العرقيّة والأحزاب الفكريّة والمشارِب المتعدّدة؟! فكم جرّت على الأمّة الإسلاميّة من ويلاتٍ وويلات، ودمّرت مصالحَ ومقدَّرات، ونبيّ الأمّة يقول: ((ليس منا من دعا إلى عصبيّة أو قاتل على عصبيّة أو مات على عصبيّة)) [7].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/126)
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، وفي ظلِّ هذا التشريع فحقوق الإنسان وكرامتُه في الإسلام محفوظة مُصانة، ليست شعارًا عامّا فحسب، بل هي نظامٌ تشريعيّ داخلٌ في البناء العقديّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ، قال أحد المنصفين من كبار القانونيّين بعد زيارةٍ لبلاد الحرمين حفظها الله، قال بصفتِه مسيحيّا: "أعلنُ أنّ حقوقَ الإنسان في القرآن بعد أن سمعتُها ورأيتُ الواقعَ في تطبيقها تتفوّق بلا شكّ على ميثاق حقوقِ الإنسان" انتهى.
ومن هنا فما المبادئُ التي تدعو لحقوقِ الإنسان اليومَ إلا في الميزان المرجوح أمامَ نظرة الإسلام، ذلكم أنها مبادئ تقوم في غالبِ مفاهيمها على مصالحِ القويّ وإهدارِ الجانب الأخلاقيّ وإقصاء الدين عن الحياة والدعوة للحرية التي سيماها الانفلاتُ نحوَ الرذيلة والفساد وفي محيط إهدار الفضائل والأخلاق بمقاييسَ عصريةٍ مادية تأباها الفِطر الإنسانية والتشريعات الإلهية، بل إنّ هذه المبادئَ التي تدعو إليها هيئاتٌ ومؤسّسات تتّسِم باختلاف المفاهيم وازدواج المعايير عند الحكم والتقويم بحَسب المصالح المكانية والاختلافات البشريّة والدينيّة، وإلاّ فأينَ هي من حمايةِ حقوق الأفراد في كثير من بقاع ديارِ المسلمين؟! وأين هي من حقوق بعض شعوب المؤمنين؟!
أيّها المسلمون، وتُختَم كلمات الوداع من نبيّ الأمّة وهو يفارقها بوَصيّة تضمَن لها السعادة والرفعةَ والنصرَ والعزّ، إنها وصيّة الالتزام بالتمسك بالوحيين والاعتصام بالهديين، قال: ((تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي: كتابَ الله)) [8]. تمسُّكٌ بهما في شتَّى الجوانب، واعتصامٌ بهما في جميع الأحوال، عقيدةً وعملاً، شريعةً وتحاكمًا.
ألا فليكن التنظيمُ في حياة المسلمين على وفقهما، وليُنهَج في ديار المسلمين الإصلاحُ في ضوء مذهبهما، نظامُ حياةٍ كامل، ودستور إصلاح شامِل، فالتأريخ الإسلامي في المدّ والجزر والنصر والهزيمة والقوّة والضعف برهانٌ ساطع على أن العزّةَ والسؤدَد والرخاءَ والازدهار يكون للمسلمين يومَ يكون أمرهم على الوحيين وشؤونُهم وفقَ الهديين.
وفّق الله المسلمين جميعًا للعمل بكتابه وتحكيم شريعته.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا لا ينفد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحَد الصمد، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله أفضلُ من تعبّد، اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تعبّد.
أما بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله، فإنها سعادةُ الأبرار وقوامُ حياةِ الأطهار، تمسَّكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الأضحيةُ مشروعةٌ بأدلّة الشريعة المتنوّعة، فضلُها عظيم وأجرُها كبير. تتأكّد مشروعيتُها لمن كان غنيًّا وعلى ثمنِها مقتدِرًا، روى ابن ماجه بسند حسَن عن النبيّ: ((من كان له سعةٌ ولم يُضحِّ فلا يقربَنَّ مصلاّنا)) [1].
والشاةُ تجزئ عن الرجُل وأهلِ بيته من الأمواتِ والأحياء.
ومَن كان عنده وصايا وجب عليه تنفيذُها سواءً بسواءً حَسبَ المنصوص.
ولا يجزئ للأضحية إلاّ ما كان سليمًا من العيوب، فلا تجزئ العوراءُ البيّنُ عوَرها، وهي ما نتأت عينُها أو انخسفت، ولا تجزئ العرجاءُ البيّن ضلعُها، وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السَّليمة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّنُ مرضُها بحيث يظهرُ أثرٌ في أحوالها أو فساد لحمها، والعجفاء التي لا تُنقي، وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ثبت ذلك عن المصطفى في حديث البراء [2]. وقال أهل العلم: ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلَها أو أشدّ.
ولا بدّ أن يكتمل السنُّ المعتبَر في الأضاحي؛ ففي الإبل ما تمّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمّ له سنتان، وفي المعز سنةٌ، وفي الضأن نصفُها.
ووقتُ الأضحية المعتبرَ من بعد صلاةِ العيد، والأفضلُ بعد انتهاء الخطبة، فقد ثبت عن النبيّ [أنّه] صلّى ثم خطب ثم نحر [3]. ويستمرّ الذبحُ إلى آخر أيّام التشريق، يوم العيد وثلاثة بعده.
فكُلوا وتصدّقوا واهدوا. والسنّة ـ أيها المسلمون ـ أن يذبحَ المسلم الأضحيةَ إن كان محسِنًا للذبح، وإلاّ فليشهَدْ ذبحَها.
إخوةَ الإيمان، في الأعياد تُظهر الأمُم زينتَها، وتعلن سرورَها، وتسرِّي عن نفسها ما يصيبها من مشاقّ الحياة ولأوائها، ومِن هنا شُرع للمسلمين عيدُ الفطر والأضحى، لا عيدَ في الإسلام غيرهما، ينعَم فيهما المسلمون، ويبتهجون لهوًا طيِّبًا مباحًا، وتعبُّدًا صالحًا حميدًا، قال: ((أيّام التشريق أيّامُ أكلٍ وشرب وذكرٍ لله تعالى)) [4].
والحذَر الحذَر أن تكون الأعيادُ موسمًا يُعَبُّ فيه من اللهو عَبًّا، بلا تحرُّز من حرام أو تباعُد عن باطل، فذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ويضادُّ مقاصدَه من الأعياد وغيرها.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، أفضلُ ما لهجت به ألسنتُنا بعد ذكر الله الإكثارُ من الصلاة والسلام على النبي المصطفى.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/127)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:01 ص]ـ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا إخوةَ الإيمان في كلّ مكان، أيّها المسلمون في أمّ القرى بلدِ الله الحرام، حجّاجَ بيت الله الحرام، خيرُ ما يوصَى به الأنام تقوَى الله الملكِ القدوس السلام، فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في السِّرِّ والإعلان، وزكّوا بواطنَكم من الأوضار والأدران. اتَّقوا الله في الغيبِ والشهادةِ تحوزوا والحسنى وزيادة، وتحقِّقوا السعادةَ والسيادة والقيادة والريادة، يِـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
معاشرَ المسلمين، أيّها الحجّاجُ الميامين، ها قد أنعم الله عليكم ببلوغ هذا اليومِ المبارَك الأزهر، وشهدتُم بفضله ومنِّه يومَ الحجّ الأكبر والمنسكِ الأشهَر، منسكٍ لا تُحصى فضائله ولا تُستَقصى نوائلُه، يوم عيد الأضحى المبارك، يجود فيه الباري جلّ وعلا بمغفرةِ الزلاّت وسَتر العيوب والسيّئات وإقالةِ العثرات وإغاثةِ اللّهفات ورفع الدرجات وإجابة الدعوات وقَبول التوبات. طوبى لكم ـ أيها الحجاج ـ ثم طوبى على ما تنعمون به من غامِرِ الرَّوحانياتِ وسابغ الإيمانيات، دموعُكم لرضوان الله مطَّردة، والضُّلوع منكم بالأشواق متَّقِدة، كيف وقد عانيتُم في عرفةَ من الإجلال والمهابةِ والخشوع والخضوع والدّموع والإنابة ما يكاد يذهب بالمُهَج ويأخذ بالألباب.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
عبادَ الله، من الشعائر العظمَى التي يتقرّب بها المسلمون إلى ربِّهم في هذا اليوم الأغرّ ـ يستوي فيها الحجّاج والمقيمون ـ شعيرة ذبح الأضاحي، اقتداءً بخليل الله إبراهيم ونبيِّ الله وحبيبه محمّد عليهما الصلاة والسلام، يقول تعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:103 - 107]. وخُلِّدت بذلك سنّةُ النّحر في عيد الأضحى لتبقى شامةً غرّاءَ على عظيم الاستسلام والإيمان، وآيةً كبرى في الإذعان لأوامِر الواحِد الديّان، ولتبقى حادثةَ الفداء أيضًا عبرةً وعنوانًا لتربية الأبناءِ في طاعةِ وبرِّ الآباء، لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]، أي: ينالُه طاعتُكم وما وقر في قلوبكم من خشيته وتعظيم أمره.
أيّها المسلمون، أيّها المضحّون، ويحسُن التذكيرُ في هذا المقام بجُملةٍ من أحكام وسُنَن الأضحية، فقد أجمع أهلُ العلم على أنّ الأضحيةَ لا يجوز ذبحُها قبلَ وقتِ صلاةِ عيد يوم النّحر لما ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له [1]، وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: صلّى النبيّ يومَ النحر ثم خطب ثم ذبح وقال: ((من ذبح قبل أن يصلّي فليذبح أخرى مكانَها، ومن لم يذبح فليذبَح بسم الله)) أخرجه الشيخان [2].
وينتهي وقتُ ذبح الأضحية بغروب شمسِ اليوم الثالث من أيّام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام: ((وكلّ أيام التشريق ذبحٌ)) أخرجه الإمام أحمد وغيره [3].
ولا يجوز التضحيةُ بالمعِيبة عيوبًا بيّنة، لما ورد عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّنُ عوَرها، والمريضة البيّن مرضُها، والعرجاء البيِّن ظلعُها، والكبيرة التي لا تُنقي)) أخرجه أحمد وأهل السنن [4].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ويُعتبَر في سِنّ الهدي والأضحية السنُّ المعتبَر شرعًا، وهو في الإبل خمسُ سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الغنم نصفُ سنة.
وتُجزئ الشاة الواحدة عن الرجُل وأهلِ بيته، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه [5].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/128)
ومن سُنَن الأضحية أن يتولّى المضحِّي الذبحَ بنفسه لمن كان يُحسنُه؛ لأنَّ النبيَّ نحر ثلاثًا وستين بدنةً بيده الشريفة، ثم أعطى عليًّا رضي الله عنه فنحَر ما غبر [6]، كما جاء ذلك في صحيح الخبر [7]. وقد ضحّى النبي بكبشين أملحَين أقرنين، ذبحهما بيده وسمّى وكبّر [8].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ومِن السنّة ـ يا عبادَ الله ـ أن لا يُعطَى جازرها أجرَتَه منها.
ومن السنّة أن يأكلَ منها ثُلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدّق بثلث، لقول الله عز وجل: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
أمّةَ الإسلام، حجَّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما هداكم للإسلام، فلقد كان الناسُ قبل انبلاج فجرِ الإسلام ببعثةِ خير الأنام عليه الصلاة والسلام في جهالةٍ حالِكة وضلالات هالكة، يئدون البنات، ويعبدون الحجارةَ كاللاّت والعزى ومناة، يتطيّرون ويتكهّنون، ويتعلّقون بالأوهامِ والخرافات، ويأتون الفواحشَ والمحرّمات، كانوا في ظلامٍ بهيم دامسٍ وكُفرٍ لحقيقةِ الحياة طامِس، إلى أن أضاءَ الكون بشمس الرسالة المحمّدية على صاحبها أزكى صلاة وأفضل سلام وتحيّة، فأخرجَتِ الناسَ من الظلمات إلى النور، وانتشلتهم من جَور الأديان إلى عدل ورحمةِ الإسلام، كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
وكان أساسُ الأسُس وأصلُ الأصول في دعوتِه عليه الصلاة والسلام وركيزة مرتكزاتها ورُكن أركانها الدعوة إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة ونبذ كلّ ما سواه، تحقيقًا لقوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولهذا المقصد الأجلّ ـ يا عبادَ الله ـ أرسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ويحذّر سبحانه خاتمَ أنبيائه من معرّة الشرك بقوله: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65]. ويدلّ ذلك أجلى دلالة على خطورة الشرك على الملّة والأمّة ووجوب الحذر من شَوب التوحيد بما ينقضه أو ينقصُه، يقول الحقّ تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وفي التنديدِ والتشنيع على من حادّ الله بالإشراك به يقول تعالى: قُلِ ?دْعُواْ ?لَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ?لضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً [الإسراء:56].
إنّ التوحيدَ الخالصَ لله هو الذي أطلَق العقولَ من أغلال الخرافة، وحرّرها من قيود الذلّ إلا لله والاستعانة إلا بالله، وإنّ العقيدة الصحيحةَ الخالصة من كلّ شوبٍ وكدر هي التي خرّجت أجيالاً من الأمّة غيّرت مجرى التأريخ، ولألأت وجهَ العالم، وتألّقت بها أبهى وأزهى حضارةٍ عرفتها البشريّة، وبها قُهِرت الشدائد العاتية والجيوشُ الغاشمة ضدّ الملّة والإنسانية، وهي بلا مِراء أساس القوّة والعِزّة التي يجب أن يستعصمَ بها كلّ مسلم صادقِ الإيمان في كلّ زمان ومكان.
فلِواحدٍ كن واحدًا في واحدي أعني سبيلَ الحقّ والإيمان [9]
إخوةَ العقيدة، وما يبدئ الموحّد الغيورُ ويعيد في قضيّة العقيدة والتوحيد إلا لأنّه حقّ الله على العبيد، وما كان حقًّا لله جل وعلا طاب ذكرُه في الأفواه وحلا، حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/129)
إخوةَ الإسلام، ومن المهمّات التي يجب أن يتوارَد عليها المسلمون في موسِم حجّهم المبارك ما تميّزت به الشريعة الغرّاء من منهج الوسطيّة والاعتدال في كلّ أبوابها ومقاصدها، فهي وسطٌ في العقيدة، وسَط في العبادات، وَسطٌ في المعاملات، وسطٌ في كلّ شيء، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فلا إعناتَ ولا غلوّ، ولا مشقّة ولا حرَج، ولا تنطُّعَ ولا شطَط، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. ومن قواعدِنا الفقهية المشهورة: اليُسر ورفعُ الحرج، والمشقّة تجلب التيسير.
ولما انحرف فئامٌ من المسلمين عن منهاج الوسطيّة والاعتدال ظهرت فتنةٌ فاقِرة يقاسي المسلمون جرّاءها الكروب والمحن، فتنة زلّت فيها أقدامٌ وضلّت فيها أفهام، ألا وهي فتنة التكفير ـ أجارنا الله وإياكم ـ الدّاعية إلى الخروجِ على ولاة أمر المسلمين وإثارةِ القلاقل وزعزعة أمنِ الأمّة وشَرخِ صفّ جماعتها، وأسبابُ ضلال هذه النابتة فهمٌ منحرِف آحاديّ لنصوص الكتاب والسنة، ولله درّ الإمام العلاّمة ابن القيم حيث يقول:
ولهم نصوصٌ قصّروا في فهمها فأُتوا من التّقصير في العِرْفان [10]
ضاربين صَفحًا عن فهم الصحابة الأبرارِ الذين شاهدوا التنزيلَ وأدركوا التأويل، مطَّرحين أقوالَ السلف الأخيار وأئمّة التفسير والفقه واللّغة، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ?لنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ?لسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لسُّفَهَاء وَلَـ?كِن لاَّ يَعْلَمُونَ [البقرة:13].
إنّ الذين يؤلّبون المسلمين على وُلاة أمرهم ابتغاءَ الفتنةِ والفوضَى ويسعَون في الأرض فسادًا وتدميرًا وإرهابًا وإرعابًا وتفجيرًا واستحلالاً للدّماء المعصومة من المسلمين والمعاهَدين والمستأمَنين باسم الإسلام ودعوى الإصلاح بإفكِهم لَمَا هم عليه من أبطَل الباطل، وأشدِّه تنكُّبًا عن دين الإسلام الأبلج، وأعمقِه مخالفةً لدعوة رسول الهدى وسواءِ المنهج، يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، أيّ وعيد وتهديدٍ أبلغُ وأزجر من هذا؟! ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهَدًا لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري [11]. وهل يعني الولاءُ والبراء ـ يا عبادَ الله ـ اتخاذَ المستأمَنين والمعاهَدين والذمّيين غرضًا للقتل والترويع وسفكِ الدماء وتناثُر الأشلاء؟! يقول جلّ شأنه: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2]، ويقول سبحانه: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. والآية دليلٌ على سماحةِ الإسلام ويُسره واعتداله وموقفِه المنصفِ من المخالفين.
أمةَ الإسلام، إنّ قضيّة التكفيرِ الخطيرة ناجمةٌ عن انحرافٍ وغلوّ، وقد نُهينا عن الغلوّ في الدين لأنّه سبب هلاكِ الأوّلين: يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ [المائدة:77]. والغلوّ مذموم في جانب الوجود والعدم والفِعل والترك، كما أنّ الإرهابَ مذموم في الأسباب والبواعث والمقدّمات والنتائج والأفعال وردود الأفعال، إضافةً إلى أنّ امتطاءَ صَهوةِ التكفير يبعثُ عليها جهلٌ مركَّب في فهم مسائلَ من الدين كالولاء والبراءِ والجهاد والحدودِ والدماء، وقد بلغت حدًّا يوجِب التصدّي له من قِبَل أهل العِلم بالحجّة والبيان والدليل والبرهان، حراسةً لشبابِ الأمّة الغضّ من الهُويّ في عينِها الحَمِئة والتمرُّغِ في أوحَالها النّتِنة، يقول: ((من رمى أخاه بالكفر أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه)) [12]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما)) عياذًا بالله، خرّجه مسلم في صحيحه [13].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/130)
إنَّ على وسائل الإعلام المرئيّة والمسمُوعة والمقروءَة، وعلماءِ الشريعَة الموقِّعين عن ربّ العالمين المؤتمَنين على ميراث النبوّة، والدعاةِ ورجالِ الحِسبة، أن يربطوا المسلمين وفِتيانهم بمنهاج الوسطيّة السلفيَة المعتدِلة التي جاءت بها شريعَة الإسلام، ودلّت عليها نصوصُ الكتابِ والسنّة بفهمِ سلَف الأمّة، وتمثّلتها مهبِط الوحي ومنبع الرسالة، فكان أن سَطع بأساطينِ قيادتها نورُ الإيمان، وعمّ الأمنُ والأمان، وغدَت ثغرًا باسمًا في وجهِ الزمان، فضلاً من الله ومَنًّا، لا باكتسابٍ مِنّا، وَ?لْبَلَدُ ?لطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ [الأعراف:58].
إنَّ أمنَ بلاد الحرمين الشريفين قضيةٌ لا تقبَل المساومات ولا تخضع للمزايدات، ولا تهزّها الزوبعات والمهاترات، وقد بسط الله فيها أمنَه وأمانَه إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، لا مكانَ فيها للعُنف والتخريبِ والإفساد والتأليب، وإن رغِمَت أنوفٌ من أناس فقل: يا ربّ، لا تُرغم سِواها.
أمّةَ الدعوة والإصلاح، ومن القضايا التي يجب أن تتواصى بها الأمّةُ وتحدِّدَ أصولَها وضَوابطها وتتَّخذها عنوانَ حِرصٍ للترابُط وتجاوز العقَبات والتحدّيات الدعوةُ للإصلاح الذي هو وجهٌ من وجوه حكمةِ بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسان شعيب عليه السلام: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
والذين يتوجَّهون شطرَ الإصلاح المعتَبر ويحملون لواءَه لهم رجالٌ بَررَةٌ بالأمّة، يُسلِمونها إلى ساحاتِ الخير والقوّة، ولا يقودُ هذه الركابَ إلاّ كبيرُ الهمّة مَضّاء العزيمة، وسيكون الإصلاحُ مربحًا ومغنَمًا إذا انطلقنا فيه من إصلاحِ الذات والنظر في عيوبها وتهذيبها وأطرِها على سُنَن الهُدى، وأتبعنا ذلك بإصلاحِ الأسرةِ ولبناتها لأنها نواة المجتمع، وسيكون الإصلاحُ للعَلياء مرقاةً إذا بسطنا ظلالَه على المجتمَع والأمّة بما تقتضيه الحكمة والمصلحةُ من التدرّج والرفق ولأناة ومراعاة فقه المهمّات والأولويات.
ولمّا كانت الأهواءُ تجمح والمدارِك تختلِف وتتفاوَت كان لِزامًا اعتبارُ صلاح المصلِح وصفاءِ منهجه واستقامة آرائه؛ إذ لا يشفَع في هذه الأمانة الجُلَّى سلامةُ النيّة وحبُّ الخير ـ على أنهما محمدتان ـ مع ضحالةِ العلم وقصورِ النظر وضَعف الترجيح بين المفاسد والمصالح والخلطِ بين الثوابت والمتغيّرات. وبهذا تتفتّق أكمامُ الإصلاح على قول الحق سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
ويؤكَّد هنا ـ يا رعاكم الله ـ على التحذير من الجانب المزعوم للإصلاح الذي يركَب مطيتَه بُعض المزايدين على الشريعة وذوي المغامرات الطائشَة والأطروحات المثيرة المتَّسِمة بالمخالفات الشهيرة واللاهثين وراءَ ركوب موجةِ حُبّ الشُهرة والظهور، وقد أوضحَ لنا القرآن الكريم ذلك غايةَ الإيضاح في جانب قومٍ لا خلاقَ لهم من المنافقين بقوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أمّة الإسلام الخيِّرة، أيّتها الوفودُ المباركة، تعيشون هذه الأيامَ وعلى ثرى البلد الأمين الأفيَح سرورَ العيد وأُنسَ التعارُف والتآلف، وتنعَمون بنسائِمِ الرحمة والأخوّة الإسلامية الحانية، في هذه المواكبِ المهيبة الفريدة، ولكنّنا نذكّر في غمرَة الأسى بأنّ أمّتنا الإسلاميّة لا تزال تتجرّع المآسيَ والحسرات وتتلقّى الويلات والنكبات، القوارعُ تنوشُها من كلّ حدَبٍ وصَوب، والخطوب تؤمُّها من كلّ مضيق وطريق، تبدّدَت قواها، وانقصمت عُراها، وحيثما أجلتَ النظرَ أدمَت عينيك وقرّحت فؤادَك توازعُ الأشلاء ونزيف الدماء واغتصابُ الأرض والعِرض، والعدوّ المتربِّصُ يجدّ في خنق أنفاسِها وتجاهُل قضاياها، ولا مخلِّصَ لها من هذا الذلِّ والهوان إلا الاعتصامُ بالوحيين وأن تتنادَى وتتواصى بالوحدة الإسلامية المسيكة على مَرِّ الفُرصِ والمناسبات، تحقيقًا لقولِه سبحانه: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/131)
فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وأن لا تربطَ ولاءاتِها وتوجُّهاتها إلا لعقيدتها ودينها وثوابتها، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وفي هذا الموسمِ الكريم ملتقَى العالم الإسلاميّ من أطراف البقاع والأسقاع يجب على الأمّة أن يمتدَّ بصرُها لتعيَ جيِّدًا موقعَها من ركاب العلياء والقيادة، ولتعلم أنَّ مسؤوليّاتٍ جسامًا تنتظرها، كفاؤها الصبرُ والعِزّة، في ابتدارٍ لأسباب النصرةِ ووسائل الظَّفر مهما كانت قوّةُ العدوّ قاهرة، لاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى ?لأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ ?لنَّارُ وَلَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [النور:57]، يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إنّه لا سبيلَ للغاية المنشودةِ من القوّة والعزّةِ والوحدَة وحماية الديار والذّمار ودَحر المعتدين على كلّ أرضٍ مسلِمة إلاّ بالأوبةِ العمليّة الصادقة إلى الوحيين واتخاذهما شِرعةً ومنهاجًا. وإنّنا في حاجة ملحّة إلى أن نتمثَّل ذلك كلٌّ بحسَب ثغرِه من الأمانة والمسؤوليّة على كلّ صعيد؛ سياسيًّا وثقافيًّا، فكريًّا واقتصاديًّا، اجتماعيًّا وإعلاميًّا وتربويًّا، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، وكُبرى القضايا المعاصِرة التي أشخصتِ الأبصار وفرتِ الأكبادَ وأذاقت الغيورَ اللوعةَ والسُّهاد قضيةُ فلسطين المحتلَّة السليبةِ والمسجد الأقصى الجريح المعَنَّى، فلسطينُ المسلمة تُسام العذاب والدون، والأقصى الملَوَّع يقاسي مرائرَ العدوانِ والهون، فليت شِعري كيف تطيب الحياةُ وأرضُنا المقدّسة مسرى إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام في قبضةِ شِرذمةٍ من الصهاينة الغاشمين، يُلطِّخونها بأرجاسِهم وأنجاسِهم، ويثبِّتون فيها أقدامَهم، ويحشُدون قواهم، ويضاعفون خُططَهم ومآربهم عبرَ توسُّعاتٍ جغرافيّة ومستوطنات عدوانية وجدرانٍ فاصلةٍ عنصريّة، ومضاعفةٍ لترسانة الأسلحة النووية التي تمثِّل خطورةً بالغة على الأمن والسلام في المنطقة على سمع العالم ومرآه، بل إنهم يسومون إخوانَنا هناك القصفَ والخسف والمذابِح والمجازرَ والتدمير والتشريد والإرهاب بكلّ ما يحمله هذا المصطلحُ من معاني الظّلم والغِلظة والقسوَة والعنجهيّة، وأليّة بفاطِر الأرض والسماء لا حنثَ يعروها، لو أنَّ الظلمَ والإرهابَ والصَّلَف والقِحة والإرعاب صُوِّرت مخلوقًا لما تخطّى تلك الطُّغمةَ الباغية من الصهاينة المعتدين الغاشمين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وتستحكِم بنا حلقاتُ المحن، ويبسط الأعداءُ أيديَهم بالسوء، وتُرزَأ الأمّة في جزء آخرَ من أجزاء جسدها المثخَن بالجراح، يتمثَّل ذلك في بلادِ الرافدَين مهدِ العلماء وموئِل الخلافة الإسلاميّة حِقبةً من الزمان، وتعيش تلك الرّقعة الهضيمةُ حياةَ النّهب والسّلب والفوضى، حتى أمسَى العَمارُ فيها دمارًا وتبارا، وأسرع الغاصِب إلى خيراتها وتبارَى، وغدا الاستقرار فوضىً وبوارًا، وإلى الله وحدَه نجأر بالبثِّ والشَّكوى، والدعوةُ موجَّهة إلى العالم بأسرِه للإسهام في إعمارِ العراقِ العريق ودَعم شعبِه المسلِم والحِفاظ على وَحدتِه، والدعاءُ مبذولٌ أن يهيِّئ الله لإخوانِنا في بلادِ الرافدَين ولايةً تحكمُهم بالكتابِ والسنّة، وتؤمِّن بإذنِ الله سُبُلهم، وتحقِّق أمنَهم، وتوحِّد صفوفَهم، وترعى مقدَّراتهم، وتحافظ على خيراتهم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/132)
فيا مَن تشهدون هذه العبادةَ العظيمة، يا مَن تتصعَّد مِن أحنائكم الزَّفرات وتلجؤون إلى الرحمن بأحرِّ الدعوات وتسكبون العَبَرات الذارفات، اذكُروا إخوانًا لكم مفزَّعين ملتاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي كلّ مكان، ادعوا الله أن يكشفَ عنهم الهمومَ والغموم، وأن ينصرَهم على كلّ باغٍ ظلوم ومعتدٍ غشوم، عَسَى ?للَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَ?للَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً [النساء:84].
بهذه المكائدِ الزُّيوف برح الخفاء، وبانتِ الدعاوى الجوفاء، وأيقن الغيورون على أوضاعِ أمّتهم أنَّ الهيئات العالميةَ التي تتعلَّل فيما يَمسّ قضايا المسلمين بالعُلالاتِ الواهية لن تجمعَ متفرِّقًا، ولن تكُفَّ معتدِيًا غاشمًا، وأنَّ المنظّمات الدولية التي تماطل قضايانا لن تؤمِّن خائفًا، ولن تنصُر مظلومًا، مما يؤكِّد الحاجةَ لمتابعةِ الدعوة إلى إنشاءِ محكمة عدلٍ إسلاميّة عالميّة، حتى لا تختلّ الموازين التي ينبغِي أن تحكمَ التعامُل بين الشعوب والأمَم.
إنّه لن يصلحَ حالُنا إلاّ باتحادِنا وتآلفنا وتوجُّهنا شطرَ الكتاب والسنة، وإن دهاقنةَ السياسة العالمية ووسائل الإسلام الغربية مطالبة أن تفهمَ الإسلامَ على حقيقته، وأن تحذرَ من ربطِ الإرهاب بالإسلام دينِ الحقّ والخير والعدل والسلام، وأن تحذرَ من إلصاقِ تهمة الإرهاب بالمسلمين.
لقد آن الأوانُ لكي تخرجَ الأمّةُ من نفَق التحدّيات وبُؤَر العقبات والأزمات، أن تضطلعَ بمشروعٍ إسلاميّ حضاريٍّ يضع الخطَطَ والبرامِج والاستراتيجيات المهمّة والآلياتِ العمليّة والخطُوات التنفيذيّة الجادّة لكافّة قضايا أمّتنا والمستجدّات والتحدّيات السياسية والاقتصادية والثقافيّة والفكرية والأمنية والتربويّة والإعلامية، ووضعِ برامجَ توعويّة بشتَّى اللغات تعالجُ الجهلَ بقواعدِ الاعتدالِ والوسطيّة والتخلُّص من الآراء الآحادية والاجتهاداتِ الفرديّة والفتاوَى التحريضيّة التي تنطلِق مِن كهوفٍ ومَغارات، ويبثُّها مجاهيلُ نكِرات، لا سيّما في القضايا المصيريّة، وذلك بوضعِ ميثاقٍ علميّ عالمي عالٍ للإفتاء، يحقِّق المرجعيّة المعتبَرة للفتوَى في النوازل والمستجدّات المعاصِرة، تحقيقًا للمصالح وتكمِيلها، ودرءًا للمفاسد وتقليلها، وإنَّ من فضل الله وكريم ألطافه أن ضمنَ المستقبلَ المشرِقَ لهذه الأمّة، فلا مكانَ لليأس والقنوط، ولا مجالَ للتخاذل والإحباط، بل جدٌّ وعمل وتفاؤل وانطلاق واستشرافٌ لآفاق مستقبلٍ أفضل، صلاحًا وإصلاحًا، ولن يصلُح أمرُ آخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [النور:55].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
نسأل الله أن يُصلحَ أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وأن يهيّئ لهم من أمرهم رشَدًا بمنّه وكرمه، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الملكِ القدّوس السلام، أكملَ لنا الدينَ وأتمَّ علينا الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شرع الشرائع وأحكمَ الأحكام، وأصلّي وأسلِّم على نبينا محمّد بن عبد الله سيّد الثقلين وأزكى الأنام، انجابت بنور رسالته حنادِس الظلام، وعلى آله البرَرة الكرام، وصحبه الهُداة الأعلام، فُرسان الوغى وليوث الآجام، ومن تبع آثارهم بالحقّ واستقام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/133)
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتقوا الله يا حجّاجَ بيت الله، فمن اتَّقى الله فهو المرحوم، ومن حُرِمها فهو المحروم، واعلموا أنّ التقوى سببُ القَبول وخير مطيّة لتحقيق الخير المأمول، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيها المسلمون، إنَّ من مقاصد الإسلام الساميَة تهذيبَ النفوس من الشحِّ والأثرةِ، والإحسانَ للفقراء والمحتاجين والملهوفين والمنكوبين، يقول جل وعلا: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)) [1].
وهذه السَّجيّة المنبثِقةُ من سماحةِ الإسلام وجوهره تأسو الجراح وتداوي الكُلومَ وتخفِّف البأساء وتدفع البلاء والضرَّاء، ولا غِنى عنها لأيّ مجتمعٍ ينشُد المحبَّة والوِئام، ولن يتنكَّر لذوي الحاجات والعاهات والفاقات والزمنَى والمعوِزين إلاّ غلاظُ الأكباد وقساةُ القلوبِ عياذًا بالله، وشريعتُنا الرحيمة حذّرت من ذلك أيّما تحذير.
إنّ الأعمالَ الخيريّة والإغاثية بصنوفها المتعدّدة جزءٌ لا يتجزّأ من منظومةِ شريعتِنا الغرّاء وحضارتنا المشرِقة اللألاء، هي الكفُّ الندِيّ والبلسَم الشفيّ وطوقُ النجاة للمجتمعات والملتقَى الإنسانيّ للحضارات، ومَن ينتسبُ إليها يسمو سماءَ المجدّ شرفًا، قد تخلَّى عن الذات، وتجاوز المصالحَ والأنانيّات، عاش شمعةً مضيئة، يبذل الخيرَ للغير، وإذا طُوي بساطُها وأفَلت نجومُها وعُطِّلت قوافِلها حلّت في المجتمعاتِ الكوارثُ والنكبات، وانتشر الفقرُ والعَوَز، واستشرت البَطالة، ولا غروَ أن تجدَ نماذجَ مضيئةً مشرقَة تنطلقَ من ثوابتِ بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله ونسيجِها المتميِّز، فلها القِدح المعلَّى والدورُ الرائدُ المجلَّى في ذلك كلِّه، وما هي إلاّ شكرٌ للمنعِم على إنعامه، وآيةٌ ساطِعة على كَرَم أبنائها وزكاءِ أَرُومتهم ونُبل معدنهم ومحبَّتهم للخير وتفانيهم فيه بحمد الله، ولن يقبضَ أياديَها البيضاءَ في إسداءِ البرِّ والإحسان وبذلِ النَّدى والمعروف وإغاثة الملهوف ولو في أقاصي المعمورة ـ كما هو واقعُ الحالِ بحمد الله ـ تخذيلُ الشانئين وحملاتُ المغرضين ومحترفي الإساءة للبرآء الخيّرين، ممّا يؤكِّد وجوبَ التصدِّي الحاسم والوقوف الحازم، وذو الفَضلِ لا يسلَم من قَدح وإن غدا أقومَ مِن قِدح، والله المستعان.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أمةَ التعليم والتربية، مناهجُنا مبَاهِجُنا، هي التي تمثِّل مِحورَ الثمرةِ التعليميّة والتربويّة، وفي ضوئها تتكوّن مداركُ الأجيال واتجاهاتُهم، وبها تُعلَّق الآمال في الإصلاح العقديّ والفكريّ والاجتماعي، وهي ولا ريب من الأهميّة بمكانٍ في الدلالة على رقيِّ الأمّة أو انحدارها. ولئن حدّقنا في مضامينِ تلك المناهج ومعانيها وحلَّقنا فوقَ مفرداتها ومبانيها ألفيناها بحمد الله ومنّه قائمةً على الكتاب والسنّة، مستوحاةً من هدي سلفنا الصالح، مواكبةً لتمدُّن العصرِ وتطوُّرِه، في غيرِ تبعيّة أو ذَيليّة، تقتبِس مِن علوم الحضارةِ المعاصرة ما تؤيّدُه شريعتُنا، وتنبذُ ما سواه. وأمّا الافتراءاتُ التي ألحِقَت بها وحامت حولها فهي أوهى من أن تُتَعقَّب أو تُنقَض، وتحويرُ المناهج وتنقيحُها مما يقتضيه توثُّب العصر ورُقيُّه، وقد درَجت على ذلك الأمَم قديمًا وحديثًا، ولسنا بِدعًا في هذا المرتَقى، فلتقرَّ أعينُ الذين يدوكون ويخوضون فيها بعِلم أو بغير علم أنها بأيدٍ أمينةٍ بإذن الله، مخلِصةٍ لديها وأمَّتها، ولكنَّ المهمَّ في ذلك الإيصاءُ بالحرص على عدَم التعرُّضِ لجوهر العقيدة، والحذَر من المساس بالثوابتِ والأصول، والعناية بتأهيل المعلِّمين والمعلِّمات الذين يتحمَّلون أمانةَ التربية والتعليم، ليكونوا قدوةً لطلاّبهم قولاً وعملاً، داخلَ حصونِ التعليم وخارجَها، وأن يُتحرَّى منهم مَن كان على حظٍّ وافر من الدين والنُّضج العقليّ والجانب الخُلقيّ والسّلوكي.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/134)
إخوةَ الإيمان، ومِن المنافع التي يجب أن نشهدَها في هذا المؤتمر الإسلاميّ ضرورةُ العناية بفئةٍ عزيزة على نفوسنا جميعًا، فئةٍ تُعدُّ بحقٍّ مناطَ آمَال الأمّة ومعقِدَ رجائها، تلكُم هي فئة الشباب، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـ?هُمْ هُدًى [الكهف:13]؛ لأنّ إغفالَ قضايا هذه الشريحة المهمّةِ في الأمّة والتجافيَ عن محاورتهم وتوجيههم وإرجاءَ الحلولِ لمشكلاتهم قد يؤدّي بهم إلى فسادٍ عريض في كلّ مزلَقٍ خلقيّ وجنوح سلوكيّ وانحرافٍ فكري.
يجب تحصينُ الشباب من لوثاتِ العولمة والتغريب والحفاظُ عليهم من تيّارات التطرُّف والغلوّ، وما فواجعُنا التي كابدناها منّا ببعيد، لذا فإنّ الحاجةَ ملِحَّةٌ لأخذهم بحكمةِ العاقل الأحوذي، واحتضانهم وفتح الصدور لهم بقدرة العاقل الألمعيّ، واستخدامِ أمثل الأساليب التي تُلامس أفئدتهم وتوافق فِطرَتهم لنثوبَ بهم إلى رحابِ الجيل الإسلامي المأمول بإذن الله، ولعلّ ذلك يكون من أولويّات حوارنا الإصلاحيّ الذي نفَحَنا عَبَق أريجة وقام داعيًا إلى منهج الوسطية والاعتدال والمطارحاتِ الشفيفة في الآراء دونَ مواربة أو إعضاء، وإنّ منهجَ الحوار ليُحسَبُ للأمّة الإسلاميّة وثبةً فكريّة وحضاريّة تُحكِم نسيجَ الجماعةِ المسلمَة وتعضدُ من وَحدتها وتآلفها، ومنقبَةً شمّاء تستطلِع في شموخٍ آليّاتِ التحدّي داخليًا وخارجيًا في هذا العصر المتفتِّق على متغيّراتٍ خطيرة، لكن ثم لكن لا بدَّ من مراعاة آداب الحوار وضوابِطه ومنهجِه وأخلاقياته، حتى لا يتحوّل الحوارُ إلى فوضى فكريةٍ تلحِقُ الآثارَ السلبية على البلاد والعباد، وأن لا يتّخَذ الحوار من ذوي المآرب المشبوهة مطيّةً للنيل من المسلَّمات والمساس بالثوابت، سدّد الله الخُطى ومَنى التوفيق.
أمّةَ الإسلام، لوسائل الإعلام النزيهةِ المنصفة من قنوات وشبكاتٍ وصُحفٍ ومجلاّت عبءٌ في بيان وبثِّ قضايا الأمة والسعيِ للدفاع عنها، مع كشف هجماتِ الأعداء المسمومة والوقوف بحزمٍ أمام حملاتهم المحمومة وتصحيحِ المفاهيم المغلوطةِ عن ديننا وعقيدتنا وشريعتنا.
أما بعضُ وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة المتهتِّكة التي تثير غاراتٍ شعواء من الشهوات والملذّات التي تضرِم نيرانَ الفساد والإفساد وتزلزل معاقِلَ الطُّهر والفضيلة من القواعدِ فإننا نناشدهم اللهَ عز وجل أن يتَّقوا الله في قِيَم الأمّة ومُثُلِها وفضائلها، وأن يُبقوا على لُعاعةٍ من حياء لبني الإسلام ودياره.
إنَّ استحواذَ الرذيلة على جوانبَ من حياة الأمة عبرَ تلك القنوات يُعرِّضها لأخطرِ المهالك، ويفضي بها إلى مهاوٍ سحيقة من الظلْم والظّلَم، خصوصًا وأنَّ كثيرًا من القلوب خاوية من اليقين والخشية، وهما خير عاصمٍ من قواصم تلك القيعان الوبيئة. وايم الله، إنّك لتُقضَى أسًى وحسرةً على الأحوال المزرية المسِفَّة التي آل إليها أمرُ كثير من الفضائيات وشبكات المعلوماتِ من الدعوة الصارخة إلى الفُحشِ والفضائح وسردِ المخازي والقبائح، في تحطيمٍ أرعن للشرَف والعِفّة والفضيلةِ والأخلاق.
إنّ هذا الواقعَ المأساويّ المرير لمن أمضى الأسلحةِ التي انتضاها أعداؤنا وبعضُ أفراخهم من بني جِلدتنا للقضاء على ما تبقّى من شأفتنا، وحسبُك من شرٍّ سماعُه. فماذا دَهانا؟! وأيّ أمرٍ أمَرٍّ عَرانا؟! أين ضياءُ العفاف والطُّهر؟! أينَ عزّةُ الغيرة والفضيلةِ والحياء؟! بل أين صلابة العقيدة وقوّة الإيمان؟! إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
فيا إخوةَ الإسلام، يا حجّاجَ بيتِ الله الحرام، صونوا أبصارَكم وأنفسَكم وأبناءكم وأُسَركم عن تلك المباءات، واحسِمُوا هذا الداءَ قبل استطارة شرّه، فمعظمُ النار من مستصغَر الشَّرَر، وما شرَرُها إلا كبير وخطير، ممّا يدعو إلى ضرورةِ الالتزام بميثاق شرَف إسلاميّ إعلاميّ، يتقيّد به جميعُ مُلاّك هذه القنوات في إعلاءِ صرح الفضيلة. وإنّ لكم في الإعلام الإسلاميّ الهادف الرصين المرتقِي في أدائه المبدِع في عرضه النيِّرِ في فكره المتميِّز في طرحه خيرُ بديلٍ في تمثيل الإسلام أحسنَ تمثيل لمواجهةِ التحدِّيات الإعلامية المناوئةِ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/135)
للإسلام في وسائل الإسلام العالمية، والنماذجُ الواقعيّة المتميّزة تبعثُ بحمد الله على التفاؤل والاستبشار.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، شريعتُنا الغرّاء كانت ولا تزال الحفيّةَ بالمرأة، الحارسةَ لكرامَتها وعِرضها، الراعيةَ لحقوقها ومكانتها، أمًّا كانت أو بنتًا، زوجةً أو أختًا. والإسلام هو الذي شرَع السُّبُل الكفيلةَ لتحصين شخصيتها ضدَّ كلِّ ما يهدِّد مقوّماتِها من الامتهان والابتذال، خصوصًا في هذا العصر حيثُ سعيرُ المغريات والشهوات واشتدادُ الهجمة على أخواتنا المحصَنات المؤمنات، وقد بات من البدَهيّات أنَّ الذين ينتقصون الإسلامَ من خِلال ما يتظاهرون به من الدفاع عن حقوقِ المرأة وقضاياها إنما يصدُرون عن فيَضان مشاعرَ مسعورة وأهواء جامحة تريد من المرأة المصونَة أن تكون أداةً طيِّعةً في التقليد والإغراء، وليس وراءَ تلك الدعوات اعتبارٌ لدينٍ أو خُلق أو فضيلة أو رغبةٌ في إنصاف المرأة، وإلا كيف يقبل العقل أن يكون الوقارُ والحِشمَة والحياء في قفَص الاتهام والتنديد والجفاء، والسفورُ والتبرّج مبرّآن من كلّ نقيصةٍ ووصمة؟!
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى مكانة المرأة في الحضارات الغربية، فإنها كانت ولا تزالُ معدودةً مسلاةً لتَرَف الرجُل وبذخِه الغريزيّ والجنسيّ، ومظهرًا لا بدّ منه للبريق الحضاريّ. وبرهانٌ آخر يتجلّى في المنادين والمناديات بالحريّات عمومًا وبحريّة المرأة خصوصًا، أين هؤلاء عن نزعِ حجابها عنوةً في بعض المجتمعات التي يُزعَم أنها مضربُ المثل في صيانةِ الحريات ومراعاة حقوق الإنسان؟!
إنَّ الإسلام حين شرع الحجابَ ولزومَ الحياءِ والقرار إنما يصرف المرأةَ إلى خصائصِها ومكانتِها التي لا يُحسِنها سواها، ويراعي ظروفَها وأنوثَتها، لتمضيَ مع الرجل جنبًا إلى جنب في هذا الكون بنظام محكمٍ بديع من اللطيف الخبير، لكلٍّ مقامُه ووظيفته، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ?للَّهُ [البقرة:140].
وللواهمين والواهماتِ يُساق القول: إنَّ المرأةَ في مكانتها السَّنيَّة وبالتزام آداب الحجابِ الشرعية والضوابط المرعيّة لا يمنعها ذلك أن تكونَ في قمّة الحضارةِ والرقيّ وإحراز السَّبق العليّ والتقدّم الاجتماعي والنهوض بأمّتها والانتصار لدينها، وإن اضطُرَّت إلى العمَل الوظيفيّ أو المهنيّ ففي منأًى عن أنظار الرجال والاختلاطِ بهم، وأن لا تكون بَرزَةً تنازعهم أقدامَهم وتزاحمهم مناكبَهم، حين ذاك يغيضُ ماؤها ويذهب بهاؤها، فالحذرَ الحذر من كلّ دعوةٍ نشاز تريد أن تهبطَ بالمرأة من سماء مجدِها وأن تنزلها من علياء كرامتها وإن بدَت بزخرف القول ومعسول الكلام ودعوى التقدُّميَّة الزائفة والمدنية المزعومة والحرية المأفونة.
وإنّنا إذ نحمد الله سبحانه على ما امتنّ به على فتاةِ الحرمين الشريفين من تمثُّل الحجاب والوقار والحشمة لنذكِّرها بالمحافظة على مكانتها الشمّاء بين قريناتها في سَائر المجتمعات، ونحذِّرها في الوقتِ نفسه أن تُخدَع ببعضِ الأصواتِ النّشاز التي تتبجّح بالخروج على شِرعة الحشمة والهدى والمعروف والحياء، وإنّ ما تلوّح به تلك الأصوات المبحوحة إنما هو مسلكُ المنهزمين والمنهزمات أمام بريق الحضارة الزائفة، والله عزّ وجلّ يقول: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها الحجّاج الكرام، إخوةَ الإسلام، رحِم الله أمرأً شهِد هذه المشاهدَ بجوارحه وقلبه، وندم على آثامه وذنبه، وتاب وأناب في هذه العَرصات إلى ربّه، وأقام الفرائض والسّنَن، واستمع القولَ فاتبَع أحسنه.
فتمسّكوا ـ عبادَ الله ـ بكتاب الله، وتفكَّروا في آياتِه ومعانيه، وامتثِلوا أوامرَه ونواهيه، اقتدوا بنبيكم، وتمسَّكوا بسنّته.
اللهَ اللهَ في الصلاةِ مع الجماعةِ، فإنها نعمتِ الطاعة والبضاعَة، ومُروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حليمًا حكيمًا رقيقًا، فالحِسبة قِوام الدين، وبها نالت الأمّة الخيرية على العالمين، هي صمام الأمان في الأمة، فكونوا لها أوفياء، وبأهلها أحفياء، حتى لا تغرقَ سفينة الأمة.
احفَظوا أقدارَ العلماء، وصونوا أعراضَ أهلِ الحسبة والدعاة الفُضَلاء، أطيعوا أمرَ من ولاّه الله من أموركم أمرًا، وحذار أن تقربوا من الفتنة شرَرًا ولا جمرًا، ولا تقحِموا في الخلافِ المعتبر إلا العلماء الثقات، لا زيدًا ولا عمرًا.
عليكم بالصدق والوفاء بالعهد والأمانة والحشمة والصيانة وبرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام، تراحموا، تلاحموا، تسامحوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. احذَروا الغشّ وقولَ الزور والكذب والخيانةَ، ولا تقرَبوا الزنا، واحذروا الربَا والرشوةَ، واجتنبوا المسكِرات والمخدّرات، فإنها من الكبائرِ وسببُ البلايا والجرائر، وإياكم والنميمةَ والغيبةَ والظلم والبهتان والشائعات والتساهلَ في حقوق العباد، فإنها مجلبةٌ لغَضَب الجبار والذلّةِ والصغار وحَطِّ الأقدار، بل هي الآثام والأوزار، أجارنا الله وإياكم من ذلك كلِّه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهمّ إنَّ السرورَ بك هو السرور، والفرحَ بغيرك هو الغرور، اللهمّ بابَ فضلك نقرع، وإليك نلجأ ونفزع، وبأسمائك الحسنى نلهَج، وبصفاتك العلا نبهَج، اللهمّ فأعزّ الإسلام والمسلمين، اللهمّ فأعزّ الإسلام والمسلمين، اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمةَ الحقّ والدين، وأذلَّ الشرك والمشركين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين، ودمّر أعداءَ الملّة والدين، اللهمّ عليك بالطغاة والملحدين والصهاينة المعتدين وكلّ أعداء الإسلام والمسلمين ...
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/136)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:05 ص]ـ
الخطبة الأولى
عباد الله، إن يومكم هذا يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، هو يوم الحج الأكبر لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج، وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يضحون فيه وينحرون هداياهم، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، وهذه الأضاحي سنة أبيك إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والتسليم، وإنها لسنة مؤكدة، يُكره لم يقدر عليها أن يتركها. فضحوا ـ أيها المسلمون ـ عن أنفسكم وعن أهليكم متقربين بذلك إلى ربكم، متبعين لسنة نبيكم محمد حيث ضحى عنه وعن أهل بيته، ومن كان منكم لا يجد الأضحية فقد ضحى عنه النبي، جزاه الله خيرًا عن أمته.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ بأن الشاة تجزئ عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، فلا يشترك شخصان في شاة واحدة ولا أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة، ولكن للإنسان أن يشرك في ثواب الأضحية من شاء سواء كانت شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة.
واعلموا أن للأضحية شروطًا ثلاثة:
الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، ونصف سنة في الضأن.
الشرط الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء، وهي أربعة عيوب: العرجاء البين ظلعها، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعيب الرابع: العجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها.
الشرط الثالث من شروط الأضحية: أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعًا، وهو من الفراغ من صلاة العيد، والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فأيام الذبح أربعة: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وأفضلها يوم العيد.
ومن السنة نحر الإبل قائمة معقلة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، ويقول كما قال رسول الله: ((بسم الله الله أكبر، اللهم هذا منك ولك)). والسنة أن يأكل منها ثلثًا ويتصدق بثلث ويهدي ثلثًا.
عباد الله، قد علم الكثير منكم أن من أراد أن يُضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره وبشرته من دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي لنهي النبي عن ذلك، ولكن إذا لم يعزم أحدكم على الأضحية إلا في أثناء العشر أو بعد صلاة العيد وقد أخذ شيئًا من شعره وأظفاره وبشرته من قبل فلا بأس أن يضحي، وأضحيته تامة إن شاء الله.
ويشرع للمسلمين في جميع أقطارهم وأمصارهم التكبير عقب الصلوات الخمس من صبح يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر في آخر أيام التشريق.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا اله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والإعلان والمنشط والمكره، وأُحذركم الغفلة عن ذكر الله فإنها داء خطير، والأعراض عن ذكر الله فإن عقوبته شديدة وعاجلة، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، وقال تعالى في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37]، فأي فلاح وأي عيش لمن تخلى عنه وليه ومولاه، وتولاه عدوه ومن يريد هلاكه؟! إنه لا شيء غير حياة الخوف والهم والغم والألم، فيكون المال والولد في حقه شقاء لا سعادة، وتعبًا لا راحة، وعذابًا لا رحمة، كما قال عز وجل في قوله: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]. فالقلب لا يهدأ والعين لا تقرُّ والنفس لا تطمئن إلا بإلهها ومعبودها الذي هو الحق، وكل معبود سواه باطل.
أيها المسلمون، إن المعاصي توهن القلب والبدن، وتزيل النعم وتجلب النقم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/137)
عباد الله، أيام قلائل وتودعون عامًا وستستقبل الأمة الإسلامية عامًا جديدا، إنها تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام ونحن في سباق غافلون، إنه عام سيطوى سجله ويختم أعماله، فهنيئًا لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهلم نتساءل عن هذا العام: كيف قضيناه؟ ولنفتش كتاب أعمالنا: كيف أمليناه؟ فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه.
كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك ينقص من عمره، وإنها مراحل يقطعها من سفره، وصفحات يطويها من دفتره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعد للقدوم على ربه بامتثال أمره؟! تجدد عامًا بعد عام، فأنتم تودعون عامًا شهيدًا عليكم وتستقبلون عامًا جديدًا مقبلاً إليكم، فبماذا تودعون هذا العام وتستقبلون العام الجديد؟! فليقف كل منا مع نفسه محاسبًا، محاسبًا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، عن حقوق المخلوقين والتخلص منها، عن أمواله التي جمعها من أين جاءت وكيف ينفقها، حاسبوا أنفسكم يا عباد الله، فأنتم اليوم أقدر على العلاج منكم غدًا، فإنكم لا تدرون ما يأتي بعد الغد، حاسبوها في ختام عامكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها.
روي أن رسول الله خطب فقال: ((أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن المؤمنين بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه)).
فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت. فلنتذكر ـ يا عباد الله ـ بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فكم وُلد في هذا العام من مولود، وكم مات فيه من حي، وكم استغنى فيه من فقير وافتقر من غني، وكم عز فيه من ذليل وذل فيه من عزيز. فاتقوا الله عباد الله، واستدركوا ما فات بالتوبة، فأيامكم معدودة، وإقامتكم في هذه الدنيا محدودة، وأعمالكم مشهودة.
أيها المؤمنون، تذكروا بهذا الاجتماع اجتماعكم يوم العرض على الله يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، في ذلك الموقف ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:88 - 96].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:34 - 37].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/138)
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد. أحمده سبحانه وأشكره على ترادف مننه وتكاثر نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، شرع الشرائع وسن الأعياد وقرر الملة وأشاد. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واعبدوه حق عبادته، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله، عليكم بوصية رسول الله وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) حتى يفيض بها لسانه، ذلك لأن الصلاة عمود الإسلام وثاني أركانه، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31]، وأدوا زكاة أموالكم، وحجوا بيت الله الحرام، واحذروا الشرك فإنه محبط للأعمال، وإياكم وعقوق الوالدين فإنه من كبائر الذنوب، وإياكم والربا حيث حذركم ربكم منه والتعامل به.
عباد الله، عليكم بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآداب سيد الأنام، حسنوا أخلاقكم مع إخوانكم المؤمنين، مع أقاربكم وجيرانكم، فما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، حسنوا أخلاقكم مع أهليكم وأزواجكم، فقد قال النبي: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، وخياركم خياركم لنسائهم)).
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله، وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك وما استرعاك الله عليه، مري أبنائكِ بالصلاة وعوديهم على الطاعات وعلى الصدقة والأمانة ومكارم الأخلاق، حذريهم من الكذب والغيبة والنميمة وبذاءة اللسان، حافظِي على كرامتك وعرضك، لا تزاحمي الرجال في الأسواق والمتاجر والمجتمعات.
أيها المؤمنون والمؤمنات، إن الله أوجب على الأمة الإسلامية التعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح فيما بيننا واجب لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وإن الفساد ـ يا عباد الله ـ إذا انتشر في الأمة عمّ المسيء وغيره وحلت العقوبة في الأمة كلها، وإن من أسوأ الأمور التي عمّ بها البلاء في كثير من بلاد الإسلام ما جلبه أعداء المسلمين لتمزيق شملهم وتفكيك أُسرهم وإفساد دينهم وابتزاز أموالهم وقتل مروءتهم والفتك بأجسادهم وأرواحهم، إنها المخدرات بجميع أنواعها وأشكالها والخمور وسائر المحرمات التي أفسدت الأخلاق وشتت الأسر ونكدت على الآباء والأمهات، من جراء فساد أخلاق أبنائهم وتباعدهم عن دينهم وعن أهليهم والتفافهم على أصحاب الشر والفساد وجلساء السوء.
فيا عباد الله، إنه يجب علينا جميعًا محاربة هذه الأمور وإنكارها والتحذير منها وإشاعة ضررها وتبليغ المسؤولين عن أمن هذه البلاد عما يعلمه كل فرد من المروجين والمتعاطين لها لقمع الفساد والمفسدين، فإن هذا من التعاون المطلوب من كل مسلم، ومن واجب كل مؤمن حماية لنفسه ولأبناء جنسه وقيامًا لواجبه ونصحًا لدينة وأمته، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وصلوا أرحامكم، ولا تقربوا الزنا فقد نهى الله من الاقتراب منه.
عباد الله، عظموا شعائر الله وتعاليمه ودينه، وتسامحوا وانبذوا الخصام، وأكرموا المساكين والأيتام، وإياكم والظلم فإنه ظُلمات يوم القيامة، وإياكم وقول الزور والغيبة والنميمة والحسد فإنها تسخط الله تعالى، واعملوا على ما يرضيه.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا على رسول الله خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، نبي الهدى والرسول المجتبى، امتثالاً لقول الرب تعالى في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن العشرة المفضلين، وأهل بدر والعقبة، وعن أصحاب الشجرة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/139)
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا في كل مكان يا رب العالمين ...
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:06 ص]ـ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن التقوى هي زمام الأمور، وهي وقاية للإنسان من الوقوع في المهالك والشرور، هي سبيل النجاة من النار دار الخزي والعار دار الجحيم والبوار, هي تكفير للسيئات ورفع للدرجات ومرضاة لمالك الأرض والسماوات، قال الله سبحانه في كتابه الفرقان: يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، اشكروا الله جل وعلا أن بلّغكم هذا اليوم العظيم وهذا الموسم الكريم، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين حجاجًا ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعًا لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد أمر الله خليله بذبح ابنه وفلذة كبده فامتثل وسلّم، ولكن الله سبحانه بفضله ورحمته افتداه بذبح عظيم، فكانت ملة إبراهيمية جارية وسنة محمدية سارية عملها المصطفى ورغّب فيها، في الصحيحين أنه ضحّى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمّى وكبر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة ومقاصد عظيمة فضيلة وحِكمًا بديعة، فنحن نعيش الآن الساعات الأولى من يوم عيد النحر المبارك، يوم العيد الأكبر، الذي يلتقي فيه المسلمون على صعيد الحب والإخاء، يتبادلون أحاديث الود والصفاء، فتقوى صلاتهم وتتوثق أخوتهم، فيحمدون الله عز وجل على نعمة الشريعة الإسلامية التي جمعتهم برباطها، وألفت بين قلوبهم، وشدت بعضهم إلى بعض بعرى العقيدة والإيمان، فأصبح مثلهم في المودة والتراحم كمثل الجسد الواحد والبنيان المرصوص، فالتواصل بين المسلمين والتزاور وتقارب القلوب وارتفاع الوحشة وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد، فهذه حكمة من حكم العيد ومنافعه العظمى، فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى. فاجعل نفسك ممن يستحق التهنئة بفرحة هذا العيد السعيد، وإن من يستحق التّهنِئَةَ بالعيد الموسِر الذي يزرَع البسمةَ على شِفاه المحتاجين، والشَّفيقُ الذي يعطِف على الأرامِلِ واليتامى والمساكين، والصحيحُ الذي يتفقَّد المرضى والمقعَدين، والطّليق الذي يرعَى السجناءَ والمأسورين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/140)
وفي المقابِلِ أيّها المسلمون، ليس العيدُ لمن عقَّ والدَيه فحُرِم الرّضَا في هذا اليومِ المبارَك السعيد، وليس العيدُ لمن يحسُد الناسَ على ما آتاهم الله من فَضله، وليس العيدُ لخائنٍ غشّاش كذّاب يسعى بالأذَى والفسادِ والنميمةِ بين الأنام. كيف يسعَد بالعيد من تجمَّلَ بالجديد وقلبُه على أخيهِ أسود؟! كيف يفرح بالعيدِ من أضاع أموالَه في الملاهِي المحرَّمة والفسوقِ والفجور، يمنَع حقَّ الفقراء والضعفاء ولا يخشى البعثَ والنشور؟! لا يعرِف من العيدِ إلا المآكلَ والثوبَ الجديد، ولا يفقَه مِن معانيه إلاّ ما اعتاده من العاداتِ والتقاليد، ليس لهم منَ العيد إلا مظاهرُه، وليس لهم من الحظِّ إلى عواثِرُه.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟! هل ألنتم لهم الجانب؟! هل أطلقتم الوجه لهم؟! هل شرحتم الصدور عند لقائهم؟! هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟! هل زرتموهم في صحتهم توددا؟! هل عدتموهم في مرضهم احتفاء وسؤالا؟! هل بذلتم لهم ما يجب من نفقة وسداد حاجة؟!
أيها المسلمون، هذه الاستفهامات وغيرها من الاستفهامات التي تقتضيها صلة الرحم يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه عليها، فلينظر هل قام بما يجب عليه في هذا الأمر أم هو مفرط فيه، فالصلة أمارة على كرم النفس وسعة الأفق وطيب المنبت وحسن الوفاء، ومعاداة الأقارب شر وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وتشهد عليه بقطيعة إن كان قطعها. فاجعل عيد هذا اليوم منطلقا لوأد القطيعة وطيّ صحيفة الشقاق والنزاع، لوأدها مجالات واسعة يسيرة، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، زيارات وصلات، تفقد واستفسار، مهاتفة ومراسلة، والرأي الذي يجمع القلوب على المودة، كفّ مبذول وبر جميل، وإذا أحسنت القول فأحسن الفعل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واهنَؤوا بعيدكم، والزموا الصلاحَ وأصلحوا، فالعيد يومُ فرَح وسرورٍ لمن قبِل الله منه أعماله وصحّت لله نيته، ويومُ ابتهاجٍ وتهانٍ لمن حسُن خُلُقه وطابَت سَرِيرتُه، يومُ عفوٍ وإحسان لمن عفَا عمّن هفا وأحسَن لمن أسَاء، يومُ عيدٍ لمن شَغَله عيبُه عن عيوبِ النّاس. والزَموا حدودَ ربِّكم، وصوموا عن المحارِمِ كلَّ دَهركم، تكُن لكم أعيادٌ في الأرض وأعيادٌ في السماء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، اللهَ اللهَ في الصلاةِ مع الجماعةِ، فإنها نعمتِ الطاعة والبضاعَة، ومُروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حليمًا حكيمًا رقيقًا، فالحِسبة قِوام الدين، وبها نالت الأمّة الخيرية على العالمين، هي صمام الأمان في الأمة، فكونوا لها أوفياء، وبأهلها أحفياء، حتى لا تغرقَ سفينة الأمة. احفَظوا أقدارَ العلماء، وصونوا أعراضَ أهلِ الحسبة والدعاة الفُضَلاء، أطيعوا أمرَ من ولاّه الله من أموركم أمرًا، وحذار أن تقربوا من الفتنة شرَرًا ولا جمرًا، ولا تقحِموا في الخلافِ المعتبر إلا العلماء الثقات، لا زيدًا ولا عمرًا.
عليكم بالصدق والوفاء بالعهد والأمانة والحشمة والصيانة وبرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام، تراحموا تلاحموا تسامحوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. احذَروا الغشّ وقولَ الزور والكذب والخيانةَ، ولا تقرَبوا الزنا، واحذروا الربَا والرشوةَ، واجتنبوا المسكِرات والمخدّرات، فإنها من الكبائرِ وسببُ البلايا والجرائر، وإياكم والنميمةَ والغيبةَ والظلم والبهتان والشائعات والتساهلَ في حقوق العباد؛ فإنها مجلبةٌ لغَضَب الجبار والذلّةِ والصغار وحَطِّ الأقدار، بل هي الآثام والأوزار، أجارنا الله وإياكم من ذلك كلِّه. فاجتنبوا في جمعكم للأموالِ المسالكَ المعوجَّة والطرقَ الملتوِية والمخالفةَ للأحكام القرآنيّة والتوجيهاتِ النبويّة والقواعدِ الشرعية.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/141)
فيا أخي، إن كنتَ تحِبّ نجاتَك وترجو سعادتك فأطِب كسبَك ونقِّ مالَك وتخلَّص من حقوق غيرك، فرسول الله يقول: ((من كانت عندَه مظلمةٌ لأخيه من مالٍ أو عِرض فليأته فليستَحلِله من قبلِ أن يؤخَذَ منه وليسَ ثَمّ دينارٌ ولا دِرهم، فإن كانَت له حسناتٌ أخِذَ من حسناتِه لصاحِبِه، وإلاّ أخِذ من سيّئات صاحبه فطُرِحت عليه فطرِح في النار)) رواه البخاريّ. فما موقِفُك ـ يا عبد الله ـ من الأموالِ العامّة التي لك النفوذ فيها؟! هل اتقيتَ الله فيها ووضعتَ كلَّ شيء موضعَه، أم غلَلت ونهبتَ وتلاعبتَ؟! والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
احذر ـ يا عبد الله ـ مماطلة الناس حقوقهم، لقد انتشر في الآونة الأخيرة بين كثير من المقترضين والمستدينين ظاهرة عدم وفاء القرض أو وفاء الدين، فتجد الشخص يأتي إلى أخيه في بداية الأمر ليطلب منه سلفةً نقدية أو سلعة يشتريها بالدَّين، ويظهِر له حسنَ النية بكلام معسول وعبارات مُنَمَّقَة، وأنه سيسدّده في الوقت الذي يحدّده المقرِض، وهو في الحقيقة يضمر خلافَ ذلك، ثم يأخذ المال وتمر عليه شهورٌ وربما سنوات دون أن يعتذِر منه، أو يطلب فسحة في الأجل، وهذا ليس من خلق المسلم، وليس من الأدب الإسلامي في شيء، فإن ديننا يحثّ على رد الجميل والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه، وقال: ((خير الناس أحسنهم قضاء)) متفق عليه، وأن لا ينوي استغلاله ومماطلته وأكل ماله، فإنه إن نوى ذلك فقد عرض نفسه للعقوبة، قال رسول الله: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري. فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى في ذلك، ويخشى عقوبته ووعيده الذي أخبر به، وليبادر إلى رد القرض وأداء الدين عند حلوله دون تسويف أو مماطلة.
ما موقفك وحالُك من المسؤوليّة التي أُنيطَت بك؟! هل أدّيتَها حقَّ الأداء وأدّيت الأمانةَ فيها بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى؟! ما هي معاملاتك؟! تفكَّر فيها وتدبَّر، والتَزمِ الشرعَ، فالله سائِلُك عن مالك: من أين أتاك؟ وفيم أنفَقتَه؟
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ المسلمين اليومَ تتقاذفُ بهم أمواجُ الفتَن، وتحيطُ بهم أسبابُ التفرُّق والشرور والإحن، يسعى الأعداءُ لتفريق صفوفهم، ويبذُلون كلَّ جهدٍ لبذرِ أسبابِ العداء بين أبنائهم، يفرَحون بخرقِ صفِّ المسلمين وتفريق كلِمتهم، ويسعَدون ببثِّ روح التباغُض في مجتمعاتهم وفُشوِّ الكراهيَّة بين شبابهم. وحينئذٍ فما أحوجَ المسلمين اليومَ للالتزام بالمنهجِ الذي تصفو به قلوبُهم، وتسلَم معه صدورُهم، وتُنشَر من خلاله مبادئُ المحبَّة والوئام في مجتمعاتهم، فاحذَروا دعاةَ السوء والفساد وإن تظاهروا بالإصلاح، فالله يعلم إنهم مفسِدون، إنهم يسعَونَ في الأرض فسادًا، ولا يريدون لكم خيرًا ولا صلاحًا. فاتَّقوا الله في أنفسكم، واحذروا الدعاياتِ المضلِّلة والإعلامَ الجائِر الذي يحاوِل أن يصوِّرَ أنّه مصلِحٌ وأنّه ينصَح ويوجِّه، والله يعلم أنه مفسِد وأنّ هدفَه السوء، ولكن كما قال الله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43].
واعلموا أن لكم أعداء ـ يا أمة الإسلام ـ يعملون ويخططون ليل نهار، ويحبّون إشعالَ الفتن واستطار شرِّها، يحبون ذلك ويكرَهون للأمة أن تعيشَ في أمنٍ واستقرار وراحةِ بال، لا يرضيهم ذلك بل يحبّون أن تكونَ بلادُ الإسلام دائمًا بلادَ فِتَن واضطراباتٍ وانقسامات، فهم يُذكون كلَّ بلاء، ويشعِلون النزاعَ الطائفي والنزاعَ القَبلي إلى غير ذلك مِن كلّ ما يمكِنهم من تفريقِ الأمّةِ وضربِ بعضِها ببعض. وإعلانهم المعادي للإسلام وأهله وأعمالهم المشينة الخطيرة من تكفيرٍ وتفجير وتبديعٍ وتضليلٍ وإحداثِ فوضى في الأمّة وراءَها أعداءُ الإسلام، يذكون نارَها، وإنَّ أهلَ هذه البلادِ ـ بلادِ الحرمين ـ وهم يعيشون نِعَمًا عُظمى وخيراتٍ جُلَّى فهم محسودُون من أعداء الإسلام والمسلمين، لذا حَريٌّ بأهلها وحريٌّ بأهل الإسلام في كلِّ مكان الاجتماعُ على السنّة والهدى والتعاونُ على البرّ والتقوى، وواجبٌ على المسلمين في هذه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/142)
البلاد أن يكونوا يدًا واحدةً مع ولاةِ أمورهم ومع علمائهم لتحقيقِ المنافعِ الخيِّرة والمصالح المرجوَّة، وأن يحذَر الجميع أسبابَ التدابرُ والتباغض وطرقَ التنازع والتفرُّق؛ حتى يسلمَ للناسِ دينهم، وتسلمَ لهم دنياهم، ويعيشوا في ظلِّ أمن وأمان ورغدٍ ورَخاء. فكونوا على حَذَر من أعدائكم، فهم ـ والله ـ الأعداءُ وإن أظهَروا لكم المحبّةَ والنصيحة.
أيها الآباءُ والأمهات، واجبُكم تقوى الله في أبنائكم، رَبّوهم التربيةَ الصالحة، راقبوا سلوكَهم وتصرّفاتهم، حذِّروهم من مجالسِ السّوء ومن دعاةِ الباطل والضلال الذين يسعَونَ لتَلويثِ أفكارهم وإدخالِ أمور في أفكارهم هي بعيدةٌ كلَّ البُعد عن دينهم وعن مصالحِ دُنياهم.
أيّها المربّون، رجالَ التربية والتعليم، واجبُ الجميعِ الأخذُ على أيدي أبنائنا، وتوجيهُهم التوجيهَ السليم، وتحذيرهم من كلِّ أمر فيه ضررٌ عليهم في دينهم ودنياهم، فهم أمانةٌ في أعناقِكم، فعلِّموهم الخيرَ ووجِّهوهم للخير، وحذِّروهم من مبادئ الشرِّ على اختلافها وتلوُّن عباراتها.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا نساءَ المسلمين، إنّ الله رفعكنَّ وشرّفكنّ، وأعلى قدركنّ ومكانتَكنّ، وحفِظ حقوقكنّ، فاشكُرنَ النعمة، واذكُرن المنَّة، فما ضُرِب الحجابُ ولا فُرِض الجِلباب ولا شُرع النقاب إلاّ حمايةً لأغراضِكن وصيانةً لنفوسِكن وطهارةً لقلوبكنّ، وعصمةً لكنّ من دواعي الفتنة وسُبُل التحلُّل والانحِدار. فعليكنّ بالاختِمار والاستِتار، واغضُضنَ من أبصاركنّ واحفظن فروجَكنّ، واحذَرن ما يلفِت الأنظارَ ويُغري مرضَى القلوبِ والأشرار، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. استُرن وجوهكنّ وزينتكنّ ومحاسنكنّ عن الرّجال الأجانب عنكنّ. ولتحذَر المرأةُ المسلمة الرقيقَ من الثيابِ الذي يصِف ويشفّ، والضيِّقَ الذي يبين عن مفاتِنها وتقاطيعِ بدنها وحجمِ عظامها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجت استشرَفها الشيطان، وأقرَب ما تكون من ربِّها إذا هِي في قعرِ بيتِها)) أخرجه ابن حبان.
أيّها المسلمون، تقبَّل الله طاعاتِكم وصالحَ أعمالكم، وقبِل صيامَكم في الأيام العشر وصدقاتكم ودعاءَكم، وضاعف لكم الأجر، وجعل عيدَكم مباركًا وأيّامَكم أيامَ سعادةٍ وهناء وفضلٍ وإحسان وعمل.
العيدُ المبارك لمن عمَر الله قلبَه بالهدى والتُّقى، في خُلُقٍ كريم وقلبٍ سليم، غنيٌّ محسن وفقير قانِع ومبتلًى صابِر، تعرِفهم بسيماهُم، رجالٌ صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه. توبوا إلى الله ـ يا عباد الله ـ من جميع ذنوبكم وابدؤوا صفحة جديدة ملؤها الأعمال الصالحة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
اللهم اجعل عيدنا سعيدًا، اللهم أعده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، اللهم أعده على الأمة الإسلامية جمعاء وقد تحقق لها ما تصبو إليه من عز وكرامة وغلبة على الأعداء. أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يبارك لي ولكم في القرآن، وينفعنا بما فيه من الآيات والهدى والبيان، وأن يرزقنا السير على سنة المصطفى من ولد عدنان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله يمنّ على من يشاء من عباده بالقبول والتوفيق، أحمده تبارك وتعالى وأشكره على أن منّ علينا بحلول عيد الأضحى وقرب أيام التشريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لأكمل شريعة وأقوم طريق، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله ذو المحْتِد الشريف والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والتصديق، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما توافد الحجيج من كل فج عميق، آمِّين البيت العتيق، وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/143)
أما بعد: أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى: ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)). وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي: (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذه الأيام الأضاحي، يقول عز وجل: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، والتي ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وهي سنة أبينا إبراهيم المؤكدة، ويكره تركها لمن قدر عليها، كما أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة.
ثم اعلموا أن للأضحية شروطًا ثلاثة، أولها: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، وستة أشهر في الضأن.
والشرط الثاني: أن تكون سالمة من العيوب التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تعانق الصحيحة في الممشى، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرط الثالث: أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، وهو الفراغ من صلاة العيد وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيام أربعة.
ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبحها بنفسه، ومن لا يحسنه فليوكل غيره ممن يحسنه، وليرفق الجميع بالبهيمة، وليرح أحدكم ذبيحته، وليحد شفرته، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، حتى في ذبح البهيمة، ثم ليسمّ أحدكم عند ذبحها ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ويسمي صاحبها. والسنة نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة، ويقول عند الذبح: بسم الله وجوبًا، والله أكبر استحبابًا، اللهم هذا منك ولك، ويستحب أن يأكل ثلثًا ويهدي ثلثًا ويتصدق بثلث، لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]. ولا يعطي الجزار أجرته منها.
فكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا، وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وإذا عجزت عن الأضحية فاعلم أن رسول الهدى قد ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته.
وإنني أدعوكم ونفسي إلى اتباع السنة لا إلى اتباع العاطفة، أدعوكم ونفسي إلى أن نترسم خطى إمامنا وقدوتنا وأسوتنا محمد وأن لا نتجاوز ما فعل، وأن لا نسرف فإن الله لا يحب المسرفين. إن بعض الناس يعتمدون على حديث ضعيف وهو أن الأضحية في كل شعرة منها حسنة، وهذا لا يصح عن النبي. أهم شيء في الأضحية أن نظهر الدم ابتغاء وجه الله وتعظيما لله عز وجل، هذا هو المهم، لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? [الحج:37]، هذا الذي يناله الله أن نتقي الله عز وجل في التقرب إلى الله تعالى بذبحها وذكر اسم الله عليها، وأن نتمتع بالأكل منها نحن وأولادنا وجيراننا وإخواننا وفقراؤنا. واحذروا الإسراف في الأضاحي، فالأضحية الواحدة تكون للرجل عنه وعن أهل بيته كافية، ومن كان عنده فضل مال وأراد أن ينفع أمواته فليتصدق به على من كانوا في بلاد أخرى محتاجين للصدقة أكثر ممن كانوا في بلادنا. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وجعلها خالصة لوجهه الكريم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.
اللهم إنّا خرجنا في هذا المكان نرجو رحمتَك وثوابَك، فتقبّل مساعيَنا وزكِّها، وارفع درجاتِنا وأعلها. اللهمّ آتنا من الآمالِ منتهاها، ومن الخيرات أقصاها. اللهم تقبّل ضحايانا وصدقاتنا. اللهمّ تقبّل دعاءنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد ...
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/144)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:07 ص]ـ
الخطبة الأولى
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد: أيها المسلمون، إن دين الله الإسلام بني على أسس وقواعد ثابتة، دين من عند ربنا يرسم الأحكام والنظام، تتلاقى فيه أحكام الشريعة مع نزاهة المشاعر، وتتوازن فيه الأوامر مع الزواجر، دين كامل شامل يخاطب العقل والقلب، هو الهدى المغني عن تجارب الخطأ والصواب، وهو الصراط الحق الواقي من الكبوة والعسار، أحكام الإسلام لا يختلف فيها صحيح النقل مع صريح العقل، ولا يتناقض فيها الوحي مع سليم الفكر، صفاء المعتقد والإيمان بالله هو أساس الفضائل ولجام الرذائل، يحتم على أهله الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، مصدره كتاب هداية جامع للسلوك الإنساني الصحيح، جمع كل شيء وما فرط فيه من شيء، والسعادة الحقة لا تكون إلا في صدق الإيمان والارتباط الصادق المخلص بالواحد الديان، ومن قل نصيبه من الإيمان اختلت استقامته واعوجت سيرته فتراه لا يحمل رسالة ولا يقيم دعوة، ينحرف عند أدنى محنة ويضل عند أدنى شبهة ويزل لأول بارقة شهوة، دينه ما تهوى نفسه، وعقيدته ما يوافق هواه، قد لا ينقصه علم أو رجاحة عقل ولكن يفوته التوفيق والصواب.
أيها المسلمون، للصلاة في دين الله المنزلة العلية والرتبة السامية، فهي عمود الإسلام وركن الملة ورأس الأمانة، بها صلاح الأعمال والأقوال، أداؤها نور في الوجه والقلب وصلاح للبدن والروح، تطهر القلوب وتكفر السيئات، تجلب الرزق والبركة وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
ومن المحافظة عليها أمر الأهل والأقربين بها والأخذ على يد المفرط منهم، وإن من أعظم المصائب وأقبح المعايب ترك الصلاة، من تركها عظمت عقوبته وطالت حسرته وندامته، وليس بعد ضياعها والتفريط فيها إسلام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
في طيب المكسب وصلاح المال سلامة الدين وصون العرض، فلا تأكل إلا حلالا، ولا تنفق مالك إلا في حال، قال بعض السلف: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل إلى جوفك"، أكل الحرام يعمي البصيرة وينزع البركة ويجلب الفرقة والشحناء ويحجب الدعاء، ولتكن النفوس بالحلال سخية، والأيدي بالخير ندية، يقول علي: (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام لله فيها بما يجب عليه عرضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم لله بما يجب عليه عرضها للزوال والفناء)، ومن وفق لبذل معروف أو أداء إحسان فليكن ذلك بوجه طلق وبشاشة مظهر.
وإن من خيار بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وخفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة وكمال المروءة ويحفظ بإذن الله من المحن والبلايا.
أمة الإسلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج متين تقوم به الأمة لتحفظ دينها ويدوم خيرها، فتحفظ الصالح من أمورها وشئونها وتقضي على السيئ والفاسد من أحوالها وأوضاعها ولا تستوفى أركان الخيرية لهذه الأمة إلا به كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، بدونه تضمحل الديانة وتعم الضلالة وتفسد الديار ويهلك العباد.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الغيبة مظهر من مظاهر الخلل في المجتمع ودليل على ضعف الديانة، يقول الحسن البصري رحمه الله: "والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد" المبتلى بها ذو قلب متقلب وفؤاد مغتم انطوى على بغض الخلق قلبه، مؤتفك مريض، يحسد في السراء، ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "فر من المغتاب فرارك من الأسد" ذو الغيبة صفيق الوجه لا يحجزه عن الاغتياب إيمان، ولا تحفظه مروءة، إن لكل الناس عورات ومعايب وزلات ومفالت، فلا تتوهم أيها المغتاب أنك علمت ما لا يعلم غيرك أو أنك أدركت ما عجز عنه غيرك، فظُن الخير بإخوانك، واعمل عمل رجل يرى أنه مجاز بالإحسان مأخوذ بالإجرام، والموفق من شغله عيبه عن عيوب الناس، ومن عزت عليه نفسه صانها وحماها، ومن هانت عليه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/145)
أطلق لها عنانها وأرخى زمامها فألقاها في الرذائل ولم يحفظها من المزالق.
أيها المسلمون، رحم الإنسان هم أولى الناس بالرعاية، وأحقهم بالعناية، وأجدرهم بالإكرام والحماية، صلتهم مثرات في المال، ومنسأة في الأثر، وبركة في الأرزاق، وتوفيق في الحياة وعمارة للديار، يقول النبي: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) رواه البخاري.
صلتهم أمارة على كرم النفس وسعة الأفق وطيب المنبت وحسن الوفاء، ومعاداة الأقارب شر وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وتشهد عليه بقطيعة إن كان قطعها.
واجعل عيد هذا اليوم منطلق لوأد القطيعة وطي صحيفة الشقاق والنزاع لوأدها مجالات واسعة يسيرة، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، زيارات وصلات، تفقد واستفسار، مهاتفة ومراسلة، والرأي الذي يجمع القلوب على المودة، كف مبذول، وبر جميل، وإذا أحسنت القول فأحسن الفعل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر خلق الخلق وأبدع الكائنات، الله أكبر شرع الدين وأحكم التشريعات، الله أكبر كلما ارتفعت بطلب رحمته الأصوات، الله أكبر كلما سكب الحجيج العبرات.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله المحمود على كل حال، الموصوف بصفات الجلال والكمال، المعروف بمزيد الإنعام والإفضال، أحمده سبحانه وهو المحمود في كل آن وعلى كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الصادق المقال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل.
أما بعد: أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى: ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي: (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
وإذا غدا المصلى لصلاة العيد من طريق سن له أن يرجع من طريق آخر، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن جابر أن النبي كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق.
معاشر النساء، إن من شكر الله تعالى في حقكن أن تلتزمن بأدب الإسلام فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? وَأَقِمْنَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتِينَ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِعْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32، 33]، وأطعن أزواجكن بالمعروف واحفظن أعراضكن والتزمن بالحجاب الشرعي بحشمة وعفة، وتصدقن ولو من حليكن.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إن من أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذه الأيام الأضاحي، يقول عز وجل: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، ويبدأ وقت ذبحها من بعد صلاة العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، ولا يجزئ من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ولا من البقر إلا ما تم له سنتان، ولا من المعز إلا ما تم له سنة، ولا من الضأن إلا ما تم له ستة أشهر، وتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، والبدنة والبقرة عن سبعة من المضحين، وأفضل كل جنس أثمنه وأغلاه ثمنًا، والسنة أن يذبحها المضحي بنفسه، ولا يجوز أن يعطي الجزار أجرته منها، ولا يجزئ في الأضاحي المريضة البين مرضها، ولا العوراء البين عورها، ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحيحة، ولا الهزيلة التي لا مخ فيها.
وكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وإذا عجزت عن الأضحية فاعلم أن رسول الهدى قد ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/146)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:08 ص]ـ
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واذكروا أنَّكم في يوم هو أعظم الأيام عند الله كما أخبر بذلك رسول الله في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم في مستدركه [1]، فاسلُكوا فيه سبيلَ الإحسان في كلِّ دروب الإحسان، واستبِقوا الخيراتِ واستكثِروا فيه من الباقيات الصالحات، وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:44].
أيها المسلمون، إن وحدةَ الصفّ واجتماعَ الكلمة والتجافيَ على الفُرقة ونبذَ التنازع المفضي إلى الفشل وذهابِ الريح هو من المقاصد الكبرى لهذا الدين، لها فيه مكانةٌ عليَّة ومنزلة ساميَة ومقام كريمٌ، وقد مضى رسول الله الذي نزّل عليه ربّه في الكتاب قولَه سبحانه: وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ [المؤمنون:52]، مضى جاهداً كلَّ الجهد في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة وترسيخ هذه القاعدة الشريفة وإرساء هذا المقصد العظيم في كلّ طَور من أطوار حياته، مبتهلاً كلَّ فرصة، موظِّفاً كلَّ موقف، مستثمراً كلَّ مناسبة، مستعملاً مختلِف ألوانِ البيان، فحرص على التأكيد على حقيقة وحدة الأمة بدوام التذكير بها والعمل على تعميق الإحساس بضرورتها ولزومها في كلّ مناسبة يشهدها وعندَ كلّ موقفٍ يقفُه، لا سيما في هذه المجامع العظام التي يجتمع فيها المسلمون لإقامة شعائر الله، والتي يتبوأ يومُ الحج الأكبر منها موقعَ الصدارة، إذ هو اللقاء الذي تلتقي فيه الوَحدة بالتوحيد أروعَ لقاءٍ وأجملَه وأوفاه.
أما الوحدةُ فتتجلَّى في الزمان وفي المكان وفي الشعائر، وأما التوحيد ففي كلّ شعيرة من شعائر الحجّ وفي كلّ موقفٍ من مواقفه إعلانٌ له ولَهَج به واستشعارٌ لحقائقِه ومعانيه وبراءةٌ من نواقضه، وإذا كان فرصةُ هذا الاجتماع المبارَك في رحابِ بلدِ الله وفي أكناف حرمِه وأمام بيته مناسبةً عظيمة للتوجيه والتذكير والتربية والتزكية لا يصحّ لأولي الألباب إغفالُها ولا إغماض الأجفان عنها، فلا غروَ أنْ كان للأمة من حصادها هذه الخطبةُ العظيمة وهذه الموعظة البليغة والوصية الفذة الجامعة لشريف المعاني وعظيم المقاصد وبليغ العبَر وصادق القول وخالِص النُّصح، وقد أخرجها البخاري رحمه الله في صحيحه بإسناده عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: خطبنا رسول الله يومَ النحر فقال: ((أي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس يومَ النحر؟!)) قلنا: بلى، قال: ((أي شهر هذا؟!)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنَّه سيسميه بغير اسمه فقال: ((أليس ذو الحجة؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فأيّ بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكتَ حتى ظننَّا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: ((أليس بالبلد الحرام؟!)) قلنا: بلى، قال: ((فإنَّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربَّكم، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، فربّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، فلا ترجِعوا بعدي كفّارا يضرِب بعضَكم رقابَ بعض)) [2]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته لأمته: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) [3].
وقال في خطبته هذه أيضاً: ((يا أيها الناس، اتَّقوا ربَّكم ـ وفي رواية: اعبدوا ربَّكم ـ وصلّوا خمسَكم وصوموا شهرَكم وأدّوا زكاةَ أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنّةَ ربّكم)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح [4].
وقال أيضاً في هذه الخطبة: ((ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا وإنَّ الشيطانَ قد أيِس من أن يُعبَد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقِرون من أعمالكم، فسيرضى به)) أخرجه الترمذي في جامعه [5].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/147)
عباد الله، إنَّ في هذه الخطبة العظيمة التي خطب بها رسول الله في هذا اليومِ العظيم من ألوان التقرير لوِحدة الأمّة والحثّ على الاستمساك بأهدابها والتنفير من المساس بها أو تعكير صفوها أو توهين عُراها بأيّ صورةٍ من الصور وتحت أيّ اسم من الأسماء ما لا مزيد عليه، فحرمةُ الدماء والأموال والأعراض مرتكزٌ عظيم وقاعدة راسخة وأساس متين لبناء وحدة الأمة القائمة على توحيد الله وتحقيقِ العبودية له وحده سبحانه دونَ سواه، ثمّ جاء تحريم القتال بين أبناء الأمّة المسلمة متلازماً مع تقرير هذه الحرمة أشدّ التلازم، مرتبطاً بها بأوثق رِباط، إذ القتال مفضٍ إلى انتهاكِ هذه الحرمة وتقويض هذه العِصمة واستباحة هذا الحِمى، فلا عجَب إذاً أن يكون محرَّماً تحريماً بالغَ التأكيد بهذه الصورة البيانية البليغة المتفرِّدة التي ازدادت وثاقةً وتأكّداً بكونها وصيةَ رسول الله لأمّته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
أيّها المسلمون، إنَّ من أظهر أسباب الحفاظ على هذه الوحدة قيامَ المرء بأداء ما افترض الله عليه، وفي الطليعة بذلُ حقّه سبحانه في توحيده بإفراده بالعبادة وعدم الإشراك به، ثمّ بإقامة الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، لأنَّ امتثالَ أوامرِ الله والانتهاءَ عمَّا نهى عنه باعثٌ عظيم على معرفة العبد ما يجب عليه من الحقوق، ثمّ على العمل على صيانتها وحفظها ورعايتها حقَّ رعايتها، ومن أعظمها حقُّ الإخوة في عصمة الدماء والأموال والأعراض، وحقُّ الأمة في وحدة الصفّ واجتماع الكلمة ونبذ الفرقة. ومن أسباب الحفاظ على هذه الوحدة أيضاً ـ يا عباد الله ـ طاعةُ من ولاه الله أمرَ المسلمين، إذ في السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ـ كما قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله ـ سعادةُ الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم. وأما المخالفة عن هذا بترك السمع والطاعة في المعروف فلا ريبَ أنّه يفضي إلى شرّ عظيم، ويحدث من الفساد والمنكر والبلاء ما لا سبيل إلى دفعه أو الخلاص منه، وكفى به شرًّا أنّه عاملُ هدمٍ في بناء الوحدة وأصلٌ من أصول الفُرقة وداعٍ من دواعي التنازع والفشل وذهاب الريح، ولذا جاء أمرُه صلوات الله وسلامه عليه في خطبة يومِ النّحر بعبادة الله وتقواه، ثم بطاعة من ولِي أمرَ المسلمين، جاء هذا دالاً على هذه الحقيقة، مبيّناً هذا المعنى.
ثمَّ إن في استشعار المسلم معانيَ التضحية وهو يتفيّأ ظلال هذا العيدِ ويقِف في مواطن الذكريات الأولى لأبي الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام، وفي تضحية هذا الحاجّ بماله وبراحته وبإيناس أهله وولده وبإلفِ وطنه حافزٌ قوي له على التضحية بأهوائه ونزعاته، وذلك بالانتصار على أحقاده والاستعلاء على خصوماته ونزاعاته التي انساق وراءها، فزيّنت له بُغضَ من أبغض وعداء من عادى والحقدَ عليه والتربُّص به، إذ المال ربما كان أيسرَ ما يُضحَّى به لدى كثير من الناس، غيرَ أنّ التضحيةَ بالأهواء هذه التضحية المتمثلة في الانتصار على الأحقاد وتناسي الخصومات وهجر النزاعات والمشاحنات هي من أشدّ العسر الذي يتكلّفه المسلم ويجاهد نفسَه عليه في هذا العيد، لكن المجاهدة ـ أيها الإخوة ـ يسيرةٌ على من يسّرها الله عليه، وقد وعد سبحانه بكمال المعونة عليها فقال: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ?للَّهَ لَمَعَ ?لْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فلتكن أيامُ هذا العيد إذاً فرصةً للتضحية بكلّ ما تجب التضحيةُ به، وذلك بهجره والتجافي عنه، وسبباً لتنمية عواطف الخير في القلوب وتعهّدها بالرعاية تعهّدَ الزارع لزرعه حتى تؤتي أكلَها حُبًّا مطبوعاً غيرَ متكلَّف، وألفةً صادقة بين أبناء الأمة، وتعاوناً وثيقاً على البرّ والتقوى وعلى العمل بما يحبّ الربّ ويرضى، فيتحقَّق عند ذاك المثلُ الذي ضربه رسول الهدى للمودة بين المؤمنين فقال: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) أخرجه مسلم في صحيحه [6].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/148)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ [الحج:27 - 29].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه الواحد العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الأبرار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه، صلاة دائمة ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وليكن هذا العيدُ موسماً للإحسان في كلّ دروب الإحسان، واعلموا أنَّ خيرَ ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربه في هذا اليوم إراقةُ دم الأضاحي إحياءً لسنة أبيكم إبراهيم عليه السلام الذي ابتلاه ربّه فأمره بذبح ابنه ليسلم قلبَه لله ويخلص العبادةَ له وحدَه، فامتثلَ أمرَ مولاه، وسارعَ إلى إنفاذه دونَ تردّد أو وجَل فقال: ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الصافات:102]. فلما امتثل الوالدُ واستسلم الولد أدركتهما رحمةُ أرحم الراحمين، وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104 - 107]. فأحيى رسول الله هذه السنةَ المباركة وعظَّمها، وأهدى في حجة الوداع مائةَ بدنة، وضحَّى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين.
فبادروا ـ أيها المسلمون ـ إلى الاقتداء بسنة نبيّكم صلوات الله وسلامه عليه، وحذار من الشحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم، وأكثرُ أهل العلم على استحباب الأضحية وتأكّدها، بل أوجبَها بعض أهل العلم عند اليسار. وأفضلُها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمناً. وتجزئ الشاةُ عن الرجل وأهل بيته، والبدنة عن سَبع شياه، والبقرةُ كذلك. ويجزئ من الضأن ما تمَّ له ستة أشهر، ومن الإبل ما تمَّ له خمسُ سنين، ومن البقر ما تمَّ له سنتان، ومن المعز ما تمَّ له سنة. ولا تجزئ العوراء البيِّن عورُها، ولا العرجاء البيّن ظلعها، ولا المريضة البيّن مرضها، ولا الهزيلة التي لا تنقي، ولا العضباء التي قطع أكثرُ أذنها أو قرنِها. وتُنحَر الإبل قائمةً معقولة يدُها اليسرى، يطعنها في وهدتها قائلاً: "بسم الله، الله أكبر، اللهم إن هذا منك ولك"، ويتلفَّظ بالنية فيقول: "عن فلان"، وتُذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر. والسنة أن تقسَّمَ الأضاحي أثلاثاً، فثلثٌ يجعله لأهله، وثلثٌ يهديه، وثلث يتصدَّق به، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. ويبدأ وقتُ الذبح من بعد طلوع الشمس من يومِ العيد، وينتهي بنهاية آخر أيام التشريق، لما روى مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي بردة أنه قال: خطبَنا رسول الله يومَ النحر فقال: ((من صلَّى صلاتَنا ووجّه قبلتَنا ونسك نسكَنا فلا يذبح حتى يصلّي)) [1]، ولما أخرجه مسلم في صحيحه عن البراء بن عازب أن رسول الله قال: ((إنّ أوّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصابَ سنتَنا، ومن ذبح قبلُ فإنما هو لحمٌ قدَّمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) [2].
ألا فاتقوا الله، واعملوا على إحياءَ سنن رسول الله تحظَوا برضوان ربّكم، وتكونوا عنده من المفلحين الفائزين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/149)
ألا وصلوا وسلموا على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقد أمركم بذلك الربّ الكريم فقال سبحانه قولاً كريما: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ...
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:09 ص]ـ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى، فإنّ تقوى الله خير زادٍ ونِعم المدَّخَر ليوم الميعاد.
عبادَ الله، إنَّ لكلّ أمّة عيدًا يعود عليهم في وقتٍ معلوم، يتحقَّق فيه أمَل، ويتَتَابع به عمل، وتتقوَّى به عقيدةُ تلك الأمة، وتقوم فيه بِعبادتها، وتحقِّق به جانبًا عظيمًا من وحدَتها، ويتمثَّل في هذا العيدِ رمزُ وجودها. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67] قال: (منسكًا يعني عيدًا) [1].
لكنّ أمّةَ الإسلام تختلِف في عيدها عن الأممِ الأخرى؛ فالأمَم غيرُ الإسلاميّة أعيادُها أعيادٌ جاهلية أرضية من وضعِ البشر، لا تنفع في هداية القلوب بشيء، أمّا أمّةُ الإسلام فقد بنى مجدَها الواحد الصّمدُ رافِع السماء بلا عمد، قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
إنَّ أمةَ الإسلام عميقةُ جذور الحقِّ في تاريخ الكون، متَّصلِةُ الأسباب والوشائج عبرَ الزمان السحيق، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]. وختَم الله الأنبياءَ الذين بعثَهم اللهُ بالدّين الحقِّ عليهم الصلاة والسلام، ختمَهم بسيّد البشر، فنسخَت شريعته كلَّ شريعة، فمن لم يؤمِن بمحمد فهو في النّار أبدًا. وأمرَه الله تعالى أن يتّبعَ ملّةَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل:123]. فكانت أمّة الإسلام وارثةَ خليل الرّحمن محمّد ووارثةَ خليل الله إبراهيم الأبِ الثالث للعالَم عليه الصلاة والتسليم.
وأنتم في عيدِكم هذا على إرثٍ حقّ ومَأثَرةِ صِدق من الخليلين عليهما الصلاة والسلام، فقد منَّ الله على المسلمين بعيد الفطر وعيد الأضحى، عن أنس قال: قدِم علينا رسول الله المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((لقد أبدَلَكم الله بهما خيرًا منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) أخرجه أبو داود والنسائي [2].
وقد جعل الله برحمتِهِ وحِكمته هذين العيدَين بعد عبادة عظيمة، فجعل عيدَ الفطر بعد الصيامِ والقيام، ينقُل النفسَ من الجهد والاجتهادِ في العبادة إلى المباحاتِ النافعة التي تجِمّ القلبَ ليستعدَّ لعبادات أخرى، وعيد الأضحى بعد الوقوفِ بِعرفة الذي هو أعظم ركنٍ في الحجّ، فيومُ عرفَة مقدِّمَة ليوم النّحرِ بين يديه، فإنَّ يومَ عرفة يكون فيه الوقوفُ والتضرّع والتوبة والابتهال والتطهُّر من الذنوب والنقاء من العيوب، ثم يكون بعده يومُ النحر وذبحُ القرابين عبادةً لله تعالى وضِيافة ونزلاً من الله الجوادِ الكريم لوفده، ثم يأذن الله لوفده بزيارته والدخول إلى بيته العتيق بعد أن هذِّبوا ونُقُّوا ليتفضّل عليهم ويكرمهم بأنواع من الكرامات والهبات، لا يحيطُ بها الوَصف.
وعيدُكم هذا سمّاه الله في كتابِه يومَ الحجِّ الأكبر؛ لأنّ أكثَرَ أعمال الحجِّ تكون فيه، وجاء في فضل هذا العيد ما رواه أحمد وأبو داودَ من حديث عبد الله بن قُرط أن النبيَّ قال: ((أفضل الأيّام عند الله يومُ النحر ويوم القرّ)) [3]، وهو اليومُ الذي بعد يومِ النّحر، أي: الحادي عشر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/150)
ومن رحمةِ الله وحِكمته أنّه إذا شرع العملَ الصالح دعا الأمّةَ كلَّها إلى فعله، وإذا لم يتمكَّن بعض الأمّة من ذلك العملِ الصالح شرَع لهم من جنسِه من القرُبات ما ينالون به من الثوابِ ما يرفع الله به درجاتهم، فمن لم يقدَّر له الوقوفُ بعرفات للحجّ شرع الله له صيامَ عرفة الذي يكفّر السنة الماضية والقابلةَ، وشرَع له الاجتماعَ لعيدِ الأضحى في مصلّى المسلمين وصلاةَ العيد والذكر والأضحيةَ قُربانًا لله تعالى، كما يتقرَّب الحاجّ بالذبح لله يوم النّحر اتِّباعًا لهدي نبيّنا محمّد، وتمسُّكًا بملّة أبينا إبراهيم، وتحقيقًا لعبادةِ الله وحدَه لا شريك له، وتوحيدًا لقلوبِ الأمّة، وجمعًا لكلمتِها، وربطًا لأمّة الإسلام بهُداتها العِظام الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، فقد أوقَفَ جبريل عليه الصلاة والسلام نبيَّنا على المشاعِرِ والمناسِكِ كلِّها منسكًا منسكًا، وشرَع الله له كلَّ قُربة صالحة كما فعل من قبلُ مع أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، إنَّ عيدَكم هذا ذو منافعَ عظيمة وفوائدَ كريمة، منافعُه في العبادةِ حيثُ يتقرَّب فيه المسلم بأحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، ومنافِعُه في الاجتماعِ حيث يتواصَل فيه المسلِمون ويتزاوَرون ويترابَطون ويتسَامحون ويتوادّون فيكونونَ كالجسدِ الواحِد، تتلاشى فيه الضغائن والحزازاتُ والأحقاد، وتنتهِي فيه القطيعةُ والتّدابُر، فيكون المسلِمون بنعمة الله إخوانًا، ويتعرّضون في هذا العيد وفي مجتمعه لنفحات الله، ويسألون الله من فضله في الدنيا والآخرة، فتغشاهم الرحمة من الله، ويستجيب الله تبارك وتعالى لهم، ويرحم اجتماعهم، ويتفرَّقون بغنائمَ منَ الله وفَضل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الصلاةَ الصلاةَ؛ فإنها عمودُ الإسلام وناهيَةٌ عن الآثام، أقيموها في بيوتِ الله جماعة؛ فإنها أوّل ما يُسأَل عنه العبدُ يومَ القيامة، فإن قبِلت قُبِلت وسائِر العمل، وإن رُدَّت رُدَّت وسائر العمل، وأدّوا زكاةَ أموالِكم طيّبةً بها نفوسُكم؛ فمن أدّاها فلَه البركةُ في مالِه والبشرى له بالثّواب، ومن بخل بها فقد مُحِقت بركة مالِه والويل له من العقاب، وصومُوا رمضانَ، وحُجّوا بيتَ الله الحرام؛ تدخلوا الجنّة بسلام.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصِلَة الأرحام، فقد فاز من وفَّى بهذا المقام. وأحسنوا الرعايةَ على الزوجات والأولادِ والخدَم ومن ولاّكم الله أمرَه، وأدّوا حقوقهم، واحمِلوهم على ما ينفعهم، وجنِّبوهم ما يضرّهم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وفي الحديث عن النبيِّ: ((كلُّكم راع، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته)) [4].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، إيّاكم والشِّركَ بالله في الدّعاءِ والاستِعانة والاستِغاثة والاستِعاذة والذّبح والنذر والتوكُّل والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادَتِه خلَّدَه الله في النار، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
وإيّاكم وقتلَ النفس التي حرَّم الله، ففي الحديث: ((لا يزال المسلِمُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [5]، ولزوالُ الدّنيا أهوَن عند الله من قتلِ رجلٍ مؤمِن.
وإيّاكم والرّبا؛ فإنه يوجِب غضَبَ الربّ، ويمحَق بركة المال والأعمار، وفي الحديث: ((الرِّبا نيِّفٌ وسبعون بابًا، أَهونُها مِثل أن ينكِحَ الرّجل أمَّه)) [6].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/151)
وإيّاكم والزِّنا؛ فإنّه عارٌ ونار وشَنار، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وفي الحديث: ((ما مِن ذنبٍ أعظم عند الله بعد الشِّرك من أن يضَعَ الرجل نطفتَه في فرجٍ حرام)) [7].
وإيّاكم وعملَ قومِ لوطٍ؛ فقد لعن الله من فعل ذلك، قال: ((لعَن الله من عَمِلَ عملَ قومِ لوط)) قالها ثلاثًا [8].
وإيّاكم والمسكراتِ والمخدِّرات؛ فإنّها موبِقاتٌ مهلِكات، توجب غضَبَ الربِّ، وتمسَخ الإنسان، فيرى الحسنَ قبيحًا، والقبيحَ حسنًا، عن جابر أنّ النبيَّ قال: ((كلُّ مسكرٍ حرام، وإنّ على الله عهدًا لمن يشرَب المسكر أن يسقيَه من طينة الخبال، عُصارةِ أهل النار)) رواه مسلم والنسائي [9].
وإيّاكم وشربَ الدّخان، قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وهو باب من أبواب الشرّ كبير، يفتح على الإنسان شرورًا كثيرة.
وإيّاكم وأموالَ المسلمين وظلمَهم؛ فمن اقتطَع شبرًا من الأرض بغيرِ حقٍّ طوَّقه الله إياه من سبعِ أراضين.
وإيّاكم وأموالَ اليتامى؛ فإنّه فَقرٌ ودمار وعقوبة عاجلة ونار.
وإيّاكم وقذفَ المحصنات الغافلات، فإنه من المهلِكات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وإيّاكم والغيبةَ والنميمة؛ فإنها ظلمٌ للمسلم وإثم، تذهَب بحسناتِ المغتاب، وقد حرَّمها الله في الكتاب.
وإيّاكم وإسبالَ الثياب والفخرَ والخُيَلاء، ففي الحديثِ: ((ما أسفَلَ من الكعبَين فهو في النّار)) [10].
يا معشرَ النِّساء، اتَّقين اللهَ تعالى، وأطِعن الله ورسوله، وحافِظن على صلاتِكنّ، وأطعنَ أزواجكنّ، وارعَينَ حقوقهم، وأحسِنَّ الجوار، وعليكنّ بتربيةِ أولادكنّ التربيةَ الإسلامية ورعاية الأمانة، وإيّاكنّ والتبرجَ والسفور والاختلاطَ بالرّجال، وعليكنّ بالسِّتر والعفاف؛ تكنَّ من الفائزات، وتدخُلنَ الجنّةَ مع القانتات، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله: ((إذا صلَّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفِظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها: ادخُلي الجنّةَ من أيِّ أبواب الجنة شِئتِ)) رواه أحمد والطبراني [11].
وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: جاء النبيُّ مع بلال إلى النّساء في عيد الفطر فقرأ: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، ثم قال: ((أنتُنّ على ذلك؟)) قالت امرأة: نَعَم يا رسول الله [12]. وروى الإمام أحمدُ أنّ أُمامةَ بنت رُقيقة بايعَت رسولَ الله على هذه الآية، وفيه: ((ولا تنوحِي، ولا تبرَّجي تبرُّجَ الجاهلية)) [13]. ومعنى وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ أي: لا يلحِقنَ بأزواجهنّ غيرَ أولادهم؛ لحديث أبي هريرة: ((أيما امرأةٍ أدخلت على قومٍ ولدًا ليس منهم فليسَت من الله في شيءٍ ولن تدخُلَ الجنّة)) رواه أبو داود [14].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58]
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/152)
الله أكبر كلّما ضجَّت الأصواتُ بالدعوات، الله أكبر كلّما تقرَّب العابدون بالصالحات، الله أكبر كلَّما تعرَّضوا لنفحاتِ الرحمن في عرفات، وكلّما سفَحت الأعين هنالك من العَبَرات، الله أكبر كلَّما تعاقب النورُ والظلُمات، الله أكبر عددَ ما خلق في السماء، الله أكبر عدَدَ ما خلَق في الأرض، الله أكبر عدَدَ كلِّ شيء، الله أكبر ملءَ كلِّ شيء، الله أكبر عدَدَ ما أحصاه كتابه ومِلءَ ما أحصاه كتابه.
الحمد لله ربِّ العالمين، أعزَّ بطاعته المتّقين، وأذلَّ بمعصيته الفاسقين، الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. أشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، بعثه الله بين يدَيِ الساعة رحمةً للعالمين، لينذِر من كان حيًّا ويحقَّ القول على الكافرين، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تفلحوا، وأطيعوه تهتَدوا.
عبادَ الله، إنَّ يومكم هذا يومٌ فضيل وعِيدٌ عظيم جليل، يجتمع فيه الحاجّ بمنى، يكمِّلونَ أنساكَ حجّهم، ويذبحون قرابينَهم للإله الحقّ لا ربَّ غيره، إِحياءً لسنّة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشرعِ نبيِّنا محمّد، فقد أمر الله خليلَه إبراهيم بذبحِ ابنه الوحيد إسماعيلَ عليه السلام، فبادَرَ إلى ذلك مُسارِعًا، وأتى الأمر طائعًا، فلمّا أضجعه للذّبح سلَب الله السكينَ حدَّها، وعالج الذّبحَ بالسّكّين فلم تنفُذ في الرقبة، فلمّا اطَّلع الله على العزمِ الأكيد واليقينِ الوَطيد فدى الله إسماعيلَ عليه السلام بذِبحٍ عظيم، وفاز الخليلُ عليه الصلاة والسلام في هذا الابتلاء، وحقَّق درجةَ الخلّةِ التي لا تقبَل الشّرِكة، فأراد الله أن تكونَ خلّةُ إبراهيم خالصةً لله، لا يشاركه فيها محبّةُ الولد، والمحبّةُ والذلّ والانقياد هي العبادَة.
وقد وفَّى مقامَ الخلّةِ أيضًا سيّدُ البشر نبيّنا محمّد، فقد اتخذه الله خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً. رواه البخاري [1].
ووَقفَ العالَم مطَّلِعًا على هذا الابتلاء لأبينَا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ورَوَتها الأجيالُ من جميعِ الملَلِ عبرَ التاريخ، معظِّمين هذا الإيمانَ الأعلى، وكان ذبحُ أبينا إبراهيم لفِداءِ ابنِه الذي فُدِي به من الرّبِّ تبارك وتعالى، كان سُنّةً في بنيه في هديِ الحجّ وأضاحي المسلمين.
جاء في فضلِ الأضحية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ: ((ما عمِل ابن آدم في يومِ أضحَى أفضل من دم يُهراق إلا أن يكونَ رحِمًا يوصَل)) رواه الطبراني [2]، وعن أبي سعيد الخدريّ عن النبي قال: ((يا فاطمةُ، قومي إلى أضحيتك فاشهدِيها، فإنّ لك بكلِّ قطرةٍ من دمها أن يغفرَ لكِ ما سلف من ذنوبك))، قالت: يا رسولَ الله، ألنا خاصّة أهلَ البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين)) رواه الطبراني والبزار [3].
واعلَموا أنّ الشاةَ تجزئ في الأضحية عن الرجل وأهلِ بيته، وتجزئ البدنةُ وهي الناقة عن سبعة، والبقرة عن سبعةٍ، ولا يجزئ من الضّأن إلا ما تمّ له ستّةُ أشهر، ولا من المعزِ إلاّ الثني وهو ما تمَّ له سنة، ولا يجزِئ من الإبل إلا ما تمَّ له خمس سنين، ولا من البقَر إلا ما تمّ له سنتان.
ويُستَحَبّ أن يتخيَّرها سمينةً صحيحة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّن مرضُها، ولا العوراء، ولا العجفاء وهي الهزيلةُ، ولا العرجاءُ البيِّن ظلَعها، ولا العَضباء التي ذهب أكثرُ أُذنها أو قرنِها، وتجزئ الجمّاء والخصيّ.
والسّنّة نحرُ الإبل قائمةً معقولةَ اليدِ اليسرى، ويقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهمّ هذا منك ولَك.
ويُستحَبّ أن يأكلَ ثُلُثًا، ويهدِيَ ثلثًا، ويتصدَّق بثلُث، ولا يعطي الجزارَ أجرتَه منها.
ووقتُ الذبح بعد صلاةِ العيدِ ويومان بعده باتفاق أهل العلم، واليومُ الذي بعد ذلك فيه خلاف بينهم، والأرجح جوازه.
عبادَ الله، تذكَّروا ما أمامَكم من الأهوالِ والأمور العِظام بعدَ الموت، وتفكَّروا فيمَن صلَّى معكم في هذا المكان في سالِفِ الزمان من الآباء والأحبَّة والإخوان، كيف خلَّفوا الدّنيا ووَارَاهم التّرابُ وانصرَفَ عنهم الأحباب، ولم ينفَعهم إلا ما قدَّموا، ولم يلازِمهم إلا ما عملوا، يتمنَّونَ استدراكَ ما فرط وفاتَ، وأنَّى للحياة الدنيا أن ترجِعَ للأموات؟!
وتفكَّروا في القرونِ الخالية العظام الشداد، الذين غرَسوا الأشجارَ، وأجرَوا الأنهار، واختَطّوا المدنَ والأمصار، وتمتَّعوا باللّذّات في طول أعمار، كيف نقِلوا إلى ظلُمات اللحود ومراتِع الدود، وإن ما أتى على الأوّلين سيأتي على الآخرين.
فأعِدّوا للحياةِ الطيّبة الأبديّة، ولا تركَنوا لحياةِ النّصَب والمكارِه والأذيّة، فليست السعادةُ في لبسِ الجديد ولا في أن تأتيَ الدنيا على ما يتمنَّى المرءُ ويريد، لكنّ السعادةَ والله في تقوى الله عز وجل والفوز بجنّة الخُلد التي لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، والنجاة من نارٍ عذابها شديد، وقعرها بعيد، وطعامُ أهلِها الزقّوم والضّريع، وشَرابهم المهلُ والصّديد، ولِباسُهم القطِران والحديد.
عبادَ الله، اشكروا ربَّكم على ما منَّ الله به عَليكم في هذه البلادِ من الأمن والإيمان وعافِيةِ الأبدان وتيسُّر الأرزاقِ وتوفُّر مرافق الحياةِ وانطِفاء نارِ الفِتن المدمِّرة، واستديموا نعَمَ الله بشُكرِه وطاعته.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال: ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كبيرًا. اللهمّ ارض عن الصحابة أجمعين ...
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/153)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:11 ص]ـ
الخطبة الأولى
أما بعد، فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوه حق التقوى، والزموا عروة الإسلام الوثقى، فتقوى الله خير زادكم، وعدتكم ووسيلتكم إلى ربكم.
عباد الله، إن لكل أمة من الأمم عيداً يعود عليهم في يوم معلوم، يتضمن عقيدتها وأخلاقها وفلسفة حياتها، فمن الأعياد ما هو منبثق ونابع من الأفكار البشرية البعيدة عن وحي الله تعالى، وهي أعياد العقائد غير الإسلامية، وأما عيد الأضحى وعيد الفطر فقد شرعهما الله تعالى لأمة الإسلام، قال الله تعالى: لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا [الحج:34]، روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس قال: (منسكاً أي: عيداً) [1] فيكون معنى الآية أن الله جعل لكل أمة عيداً شرعياً أو عيداً قدرياً.
وعيد الأضحى وعيد الفطر يكونان بعد ركن من أركان الإسلام، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يكون بعد عبادة الصوم، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما قال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال: ((قد أبدلكم الله خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود والنسائي [2].
فعيد الأضحى جعله الله يوم العاشر من ذي الحجة بعد الوقوف بعرفة ركنِ الحج الأعظم، وشرع في هذا العيد أعمالاً جليلة صالحة يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى، وسماه الله يوم الحجر الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج تكون في يوم هذا العيد، والله عز وجل برحمته وحكمته وعلمه وقدرته شرع الأعمال الصالحة والقربات الجليلة، ودعا الناس كلهم إلى فعلها قربةً إلى الله وزلفى عنده كما قال تعالى: سَابِقُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى? الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [المائدة:48]، فإذا لم يُمكن أن يعمل المسلم بعض الطاعات لأجل اختصاصها بمكان أو بزمان شرع الله له طاعات من جنس ونوع تلك الطاعات المختصة بالمكان أو الزمان، فيوم عرفة عيد لحجاج بيت الله الحرام، واجتماع لهم وتضرع لله عز وجل، فمن لم يحج شرع الله له صلاة عيد الأضحى في جمع المسلمين، وشرع له صيام عرفة الذي يكفر السنة الماضية والآتية، وقربانُ الحاج وذبائحهم شرع الله مقابل ذلك أضحية المقيم، فأبواب الخيرات كثيرة ميسرة، وطرق البر ممهَّدة واسعة، ليستكثر المسلم من أنواع الطاعات لحياته الأبدية بقدر ما يوفقه الله تعالى.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة، ومقاصد عظيمة فضيلة، وحِكماً بديعة، أولى معاني العيد في الإسلام توحيد الله تعالى لإفراد الله عز وجل بالعبادة في الدعاء والخوف والرجاء والاستعاذة والاستعانة، والتوكل والرغبة والرهبة والذبح والنذر لله تبارك وتعالى، وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا التوحيد هو أصل الدين الذي ينبني عليه كل فرع من الشريعة، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله المدلولِ عليه بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الذي نقرؤه في صلاة العيد وغيرها من الصلوات، والتوحيد هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنات النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمل، وخُلِّد في النار أبداًً. والمتأمل في تاريخ البشرية يجد أن الانحراف والضلال والبدع وقع في التوحيد أولاً ثم في فروع الدين. فتمسك ـ أيها المسلم ـ بهذا الأصل العظيم، فهو حق الله عليك وعهد الله الذي أخذه على بني آدم في عالم الأرواح، وقد أكد الله في القرآن العظيم توحيد الله بالعبادة، وعظم شأنه، فما من سورة في كتاب الله إلا وهي تأمر بالتوحيد نصاً أو تضمناً أو التزاماً، أو تذكر ثواب الموحدين أو عقوبات المشركين، فمن وفى بحق الله تعالى وفى الله له بوعده، تفضُّلاً منه سبحانه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/154)
على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) رواه البخاري [3]. فالتوحيد أول الأمر وآخره.
وثاني معاني العيد تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله التي ننطق بها في التشهد في صلاة العيد وغيْرها من الصلوات، إن معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعة أمره واجتناب نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بما شرع مع محبته وتوقيره، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [النور:54].
ومن حكم العيد ومنافعه العظيمة شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين، إظهاراً لفقر العباد لربهم، وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضاً لنفحات الله وهباته التي لا تُحد ولا تُعد، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. رواه البخاري ومسلم [4]. فتشهد النساء العيد غير متبرجات وغير متعطرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى، التواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [5]، وفي الحديث: ((ليس منا من لم يرحم الصغير، ويوقر الكبير)) [6]، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تُنصرون وتُرزقون بضعفائكم)) رواه أبو داود بإسناد جيد [7].
والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم [8]. فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى، عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي [9].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إن من غايات العيد ومنافعه إعلان تعاليم شريعة الإسلام ونشرها في المجامع ومشاهد المسلمين، وتبليغها على رؤوس الأشهاد، ليأخذها ويتلقاها الجيل عن الجيل، والآخر عن الأول، علماً وعملاً مطبَّقاً، فتستقر تعاليم الإسلام في سويداء القلوب، ويحفظها ويعمل بها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وخطبةُ العيد التي شرعها رسول الله تشتمل على أحكام الإسلام السامية، وتشريعاته الحكيمة. وظهور فرائض الإسلام وتشريعاته وأحكامه هي القوة الذاتية لبقاء الإسلام خالداً إلى يوم القيامة، فلا يُنسى، ولا يُغيَّر، ولا تُؤوَّل أحكامه، ولا تنحرف تعاليمه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/155)
أيها المسلمون، عيد الأضحى ترتبط فيه أمة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمة المسلمة عميقة جذور الحق في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوشائج عبر الزمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم عليه الصلاة والسلام الأرض، وتنزل كلام الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عبر العصور الخالية، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وختم الله الرسل عليهم الصلاة والسلام بسيد البشر محمد الذي أمره الله باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بقوله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فكانت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع الشرائع، فلا يقبل الله إلا الإسلام ديناً، ولا يقبل غيره، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)) رواه مسلم [10].
فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق والدين القيم، ملة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ودين الخليل محمد، وعيد الأضحى يربطكم بهذين الخليلين النبيين العظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من القربات والطاعات، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله: ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم)) قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)) رواه ابن ماجه [11].
وذلك أن الله أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام قرباناً إلى الله، فبادر إلى ذبحه مسارعاً، واستسلم إسماعيل صابراً، فلما تمَّ مرادُ الله تعالى بابتلاء خليله إبراهيم عليه السلام، وتأكد عزمه، وشرع في ذبح ابنه، فلم يبق إلا اللحم والدم، فداه الله بذبح عظيم، فعَلِم الله عِلم وجود أن خلة إبراهيم ومحبته لربه لا يزاحمها محبة شيء، والأضحية والقرابين في منى تذكير بهذا العمل الجليل الذي كان من إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، الصلاة الصلاة، فإنها عماد الإسلام، وناهية عن الفحشاء والآثام، وهي العهد بين العبد وربه، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة هي الصلاة، فإن قبلت قبلت وسائر العمل، وإن ردت ردت وسائر العمل. وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تطهروا بها نفوسكم، وتحفظوا بها أموالكم من المهالك، وتحسنوا بها إلى الفقراء، وتثابوا على ذلك أعظم الثواب، فقد تفضل الله عليكم بالكثير، ورضي منكم بنفقة اليسير. وصوموا شهر رمضان، وحجوا بيت الله الحرام، فإنهما من أعظم أركان الإسلام.
وعليكم ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الأيتام، وذلك عمل يعجِّل الله ثوابه في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من حسن الثواب، كما أن العقوق والقطيعة ومنع الخير مما يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يؤجل لصاحبه في الآخرة من أليم العقاب.
وارعوا ـ معشر المسلمين ـ حقوق الجار، وفي الحديث: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) [12] يعني شره. وأمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر فإنهما حارسان للمجتمع، وسياجان للإسلام، وأمان من العقوبات التي تعم الأنام، وإياكم وأنواع الشرك التي تبطل التوحيد، التي يقع فيها من لا علم له كدعاء الأنبياء والصالحين والطواف على قبورهم وطلب الغوث منهم، أو طلب كشف الكربات منهم والشدائد، أو دعائهم بجلب النفع أو دفع الضر، أو الذبح أو النذر لغير الله تعالى، أو الاستعاذة بغير الله تعالى، قال الله عز وجل: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وقال عز وجل: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/156)
وإياكم وقتل النفس المحرمة، والزنا، فقد قرن الله ذلك في كتابه بالشرك بالله عز وجل، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، ومعنى أَثاما بئر في قعر جهنم والعياذ بالله، وفي الحديث: ((لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) [13]، وعن الهيثم عن مالك الطائي عن النبي قال: ((ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له)) رواه ابن أبي الدنيا [14].
وعمل قوم لوط أعظم من الزنا، فقد لعن فاعله رسول الله [15]، والسحاق نوع من الزنا، وخبث من الخبائث المحرمة، وإياكم والربا فإنه محق للكسب، وغضب للرب، عن البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: ((الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه)) رواه الطبراني في الأوسط [16].
وإياكم والتعرض لأموال المسلمين والمستضعفين، فإن اختلاطه بالحلال دمار ونار، وإياكم والرشوة وشهادة الزور فإنها مضيعة للحقوق مؤيِّدة للباطل، ومن كان مع الباطل أحلَّه الله دار البوار، وجلَّله الإثم والعار، فقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي [17]، وقرن الله شهادة الزور بالشرك بالله عز وجل.
وإياكم والخمر وأنواع المسكرات والدخان والمخدرات، فإنها تفسد القلب، وتغتال العقل، وتدمر البدن، وتمسخ الخُلُق الفاضل، وتغضب الرب، وتفتك بالمجتمع، ويختل بسببها التدبير، عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) رواه مسلم والنسائي [18].
وإياكم والغيبة والنميمة فإن المطعون في عرضه يأخذ من حسنات المغتاب بقدر مظلمته، عن حذيفة مرفوعاً: ((لا يدخل الجنة قتات)) يعني: نمام، متفق عليه [19].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أحمد ربي وأشكره على نعمه وآلائه التي لا تحصى ولا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الصمد، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سنن الرشد، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والسؤدد.
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ بطلب مرضاته، والبعد عن محرماته، واعلموا أن يومكم هذا يوم جليل، وأن عيدكم عيد فضيل، عن عبد الله بن قرط أن النبي قال: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر)) [1] وهو اليوم الذي بعد يوم النحر، ولأن يوم عرفة وإن كان فاضلاً من بعض الوجوه فهو مقدمةٌ وتوطئة ليوم النحر، ففي عرفة يتطهرون من الذنوب، ويدعون ويتضرعون ويخشعون ويتوبون، فإذا هذِّبوا ونُقّوا وتطهروا من الآثام، وازدادوا خيراً، ازدلفوا ليلة جمع، وتضرعوا واستغفروا وتابوا، ثم ذبحوا قرابينهم لله تعالى، فأكلوا من ضيافة الله لهم في منى في يوم النحر، ثم أذِن الله لهم بزيارته، والطواف ببيته.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/157)
وأما غير الحاج فشرع الله له الأضحية في هذا اليوم، مع الذكر وفعل الخيرات، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله عز وجل من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسا)) رواه الترمذي وابن ماجه [2]، وعن ابن عباس رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما عمل ابن آدم في يوم أضحى أفضل من دم يهراق إلا أن يكون رحماً يوصل)) رواه الطبراني [3]، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإن لك بكل قطرة من دمها ما سلف من ذنوبك)) قالت: يا رسول الله، ألنا خاصة أهل البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين)) رواه الطبراني والبزار [4].
معشر المسلمين، إن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته في الأضحية، وتجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ولا يجزئ من الضأن إلا ما تم له ستة أشهر، ولا من المعز إلا الثني وهو ما تم له سنة، ولا من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ولا من البقر إلا ما تم له سنتان، ويستحب أن يتخيرها سمينة صحيحة، ولا تجزئ المريضة البين مرضها، ولا العوراء، ولا العجفاء، وهي الهزيلة، ولا العرجاء البين ضلعها، ولا العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، وتجزئ الجمّاء والخصي.
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة ويقول عند الذبح: بسم الله وجوباً، والله أكبر استحباباً، اللهم هذا منك ولك، ويستحب أن يأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث، لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]، ولا يعطي الجزار أجرته منها.
ووقت الذبح بعد صلاة العيد باتفاق، واليوم الذي بعد ذلك فيه خلاف، والراجح أنه زمن للذبح مع فوات فضيلة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا نساء المسلمين، اتقين الله تعالى في واجباتكن التي طوقت أعناقكن، أحسِنَّ إلى أولادكن بالتربية الإسلامية النافعة، واجتهدن في إعداد الأولاد إعداداً سليماً ناجحاً، فإن المرأة أشد تأثيراً على أولادها من الأب، وليكن هو معيناً لها على التربية، وأحسِنَّ إلى الأزواج بالعشرة الطيبة، وبحفظ الزوج في عرضه وماله وبيته، ورعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه، ففي الحديث عن النبي: ((إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحجَّت بيت ربها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت)) [5].
وعليكِ ـ أيتها المرأة المسلمة ـ أن تشكري نعمة الله عليك حيث حفظ لك الإسلام حقوقك كاملة، ولا تنخدعي بالدعايات الوافدة فإن مكانتك في هذه البلاد أحسن مكانة في هذا العصر، واذكرن دائماً قول الله تعالى: يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، فقد كان النبي يذكر النساء بهذه الآية في العيد كما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما [6]، ومعنى بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ لا يلحقن بأزواجهن أولاداً من غيرهم.
أيها المسلمون، اشكروا الله واحمدوه على نعمه الظاهرة والباطنة، اشكروه على نعمة الإسلام، واحمدوه واشكروه على نعمة الأمن والإيمان، وتيسُّر الأرزاق والمنافع والمرافق والتمتع بالطيبات التي لا تحصى، واشكروه تعالى على اجتماع الكلمة في بلادكم هذه، وصرف الفتن عنكم التي تُستحل فيها الحرمات، وتختلف فيها القلوب. وشكر الله على ذلك بطاعة الله ودوامها، واجتناب معصيته، وملازمة التوبة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/158)
أيها المسلمون، اعلموا أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد، فلبس الجديد، ولا من خدمته الدنيا وأتت على ما يريد، لكن السعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.
عباد الله، تذكروا ما أنتم قادمون عليه من الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وكرباته، وصحائف الأعمال والميزان والصراط وروعاته، واذكروا من صلى معكم في هذا المكان فيما مضى من الزمان، من الأخلاء والأقرباء والخلان، كيف اخترمهم هادم اللذات، فأصبحوا في تلك القبول مرتهنين بأعمالهم، فأحدهم في روضة من رياض الجنان، أو في حفرة من حفر النيران، فتيقنوا أنكم واردون على ما عليه وردوا، وشاربون كأس المنية الذي شربوا، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
أين الأمم الخالية؟ وأين القرون الماضية؟ أين منهم ذوو الملك والسلطان؟ وأين منهم ذوو الأكاليل والتيجان؟ وأين تلك العساكر والدساكر؟ أين الذين جمعوا الأموال، وغرسوا الأشجار، وأجروا الأنهار، وشيدوا الأمصار؟ أين منهم الغني والفقير؟ أتى عليهم الموت فنقلهم من القصور إلى ضيق القبور، ومن أنس الأهل والأصحاب إلى اللحد والتراب، فلا تركنوا إلى هذه الدنيا التي لا يؤمن شرها، ولا تفي بعهدها، ولا يدوم سرورها، ولا تُحصى آفاتها، ما مثلُها إلا كمائدة أحدكم، تُعجب صاحبها ثم تصير إلى فناء، دارٌ يبلى جديدها، ويهرم شبابها، وتتقلب أحوالها، فاتخذوها مزرعة للآخرة، فنِعم العمل فيها.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وحبيب الحق تبارك وتعالى.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:12 ص]ـ
الخطبة الأولى
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الله أكبر كلما أحرم الحجاج من الميقات وكلما لبى الملبون وزيد في الحسنات، الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة آمنين وكلما طافوا بالبيت الحرام وسعوا بين الصفا والمروة ذاكرين الله مكبرين.
الحمد لله على ما منَّ به علينا من مواسم الخيرات وما تفضل به من جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسبغ النعم ودافع النقم وفارج الكربات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق وأفضل البريات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
إخوة الإسلام، كلما جاء شهر ذي الحجة وهلّت مواقيت الحج تألقت صفحة من تأريخ الإسلام ووقفة من وقفات الرسول، ومن أهم معالم رحلة الحج إلى جانب أداء المناسك العبادية، تلك المعاني الجامعة والمبادئ البليغة التي خاطب بها رسول الله المسلمين في حجة الوداع.
لقد أعلن رسول الله تلك المبادئ التي لم تكن شعارات يرفعها أو يتاجر بها، بل كانت هي مبادئه منذ فجر الدعوة يوم كان وحيدًا مضطهدًا، وهي مبادئه يوم كان قليلاً مستضعفًا لم تتغير في القلة والكثرة والحرب والسلم وإعراض الدنيا وإقبالها، وهي مبادئه التي يرسخها في نفوس أصحابه لينقلوها إلى العالم فيسعد بها، ولقوتها وصدقها لم تذبل مع الأيام ولم تمت مع تعاقب الأجيال وإنما هي راسخة تتجدد في الأقوال والأعمال.
مبادئ سكبت مع عبارتها دموع الوداع، ومن أجل ذلك سميت خطبة الوداع، وفيها حذر من الشرك ذلك الداء الوبيل الذي يفتك بالإنسانية ويحطم روابطها ويقطع صلتها بمصدر الخير ويذهب بها في أودية سحيقة تتوزعها الأهواء وتأسرها الشهوة، ومن ثم فالمعنى الأصيل الذي تدور عليه أحكام الحج بل تقوم عليه أحكام الدين وحدانية الله تبارك وتعالى.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/159)
وفي خطبة الوداع يقول الرسول: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) إن الإنسان لا يهنأ له عيش ولا يهدأ له روع، ولا تطمئن له نفس إلا إذا كان آمنًا على روحه وبدنه لا يخشى الاعتداء عليهما.
وفي ظل شريعة الإسلام يتحقق الأمن وتشيع الطمأنينة، ينظر الرسول إلى الكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك)) بينما أناس مسلمون أو يزعمون الإسلام يقتلون الإنسان المسلم ولسنا بحاجة إلى التذكير بتلك الدماء المسلمة التي تسيل يوميًا كالأنهار في أجزاء من المعمورة، مجازر بشرية ومذابح جماعية أدمت قلوبنا وأقضت مضاجعنا، ومهما كانت المسوغات فهي خطيئة كبرى ومصيبة عظمى ألم يقل رسول الله: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ويقول: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) إن إراقة دم المسلم أكبر عند الله من كل شيء في الدنيا ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم)) فكيف سيكون حسابهم عند الله تبارك وتعالى.
إن الحضارة الحديثة أعلنت مبادئ لحقوق الإنسان، لكنها قاصرة ضعيفة لا تملك العقيدة التي ترسخها والإيمان الذي يحييها والأحكام التي تحرسها، ولذا فهي تنتهك في أرقى دول العالم تقدمًا وحضارة، أين حقوق الإنسان الذي انتهك قدسه الشريف واغتصبت أرضه وصودرت أمواله ونزف دمه سنين عديدة؟ أين حقوق الإنسان على أرض البلقان حيث تناثرت أشلاؤه ودفنت جماجمه في مقابر جماعية على مرأى ومسمع من أدعياء حقوق الإنسان؟ أين حقوق الإنسان في كشمير والفلبين؟ أين حقوق الإنسان وأخلاقه تدمر وقيمه تحطم وإنسانيته تنتهك في حرب إعلامية فضائية ترعى الرذيلة وتنبذ الفضيلة.
وفي خطبة الوداع يقول رسول الله: ((إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم)) مبادئ خالدة لحقوق الإنسان لا يبلغها منهج وضعي ولا قانون بشري، فلصيانة الدماء يقول تعالى: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ [البقرة:179]، ولصيانة الأموال يقول تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ولصيانة الأعراض يقول تعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، هذا لغير المحصن، أما المحصن فعقوبته الرجم حتى الموت، فلا كرامة لباطل ولا حصانة لفوضى خلقية.
ومن مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام أنه لا يجوز أن يؤذى إنسان في حضرة أخيه ولا أن يهان في غيبته سواء كان الإيذاء للجسم أو للنفس، بالقول أو الفعل، ومن ثم حرم الإسلام ضرب الآخرين بغير حق ونهى عن التنابذ والهمز واللمز والسخرية والشتم.
روى البخاري وأبو داود أن رجلاً حُدَّ مرارًا في شرب الخمر فأتي به يومًا فأُمر به فضرب فقال رجل من القوم: "أخزاه الله، اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به" فقال رسول الله: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا: اللهم ارحمه، اللهم تب عليه)).
ولم يكتف الإسلام عباد الله بحماية الإنسان وتكريمه حال حياته، بل كفل له الاحترام والتكريم بعد مماته، ومن هنا أمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، نهى عن كسر عظمه أو الاعتداء على جثته أوإتلافها، روى البخاري أن رسول الله قال: ((لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)).
وقال في خطبة الوداع: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع)) وبهذا تسقط جميع الفوارق وجميع القيم، فلا أحمر ولا أسود ولا أبيض، ولا نسب ولا مال ولا جاه، يرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، يتفاضل على أساسه الناس إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
لقد كانت العصبيات قبل البعثة عميقة الجذور قوية البنيان فاستطاع رسول الله أن يجتث التمييز العنصري بكل صوره وأشكاله من أرض كانت تحيي ذكره وتهتف بحمده وتفاخر على أساسه فقال: ((كلكم لآدم، وآدم من تراب إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ، ليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى)).
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/160)
حضارات حديثة تزعم التقدم والرقي والمساواة بينما شعور التمييز العنصري يتنفس بقوة في مختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والإعلامية، ومن المخزي أن هذه الحضارات توسم بأنها حضارات القوميات والألوان.
وحين كادت أن تتسلل إلى الصف المسلم في غزوة بني المصطلق بذرة غريبة في مجتمع طاهر قال الرسول الذي كان يرعى المسيرة: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)) لم يرضَ الرسول أن تظهر بين أصحابه في المجتمع المسلم، أن تظهر بينهم بوادي التمييز العنصري ولو كان في الألفاظ، فهذا أبو ذر يعير رجلا بأمه ويناديه: يا ابن السوداء، فيغضب رسول الله ويقول: ((أعيرته بأمه، إنك أمرؤ فيك جاهلية)) وهذا لا يسلب أبدًا فضله من إسلامه ومن جهاده.
وهكذا عباد الله ماتت العصبيات الجاهلية على أساس النسب والدم والعرق، وقال رسول الله: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) ويقول أيضًا: ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثا جهنم)).
وفي أعقاب الزمن ينبري أقوام من بني جلدتنا لإحياء العصبيات الجاهلية ويهتفون بها ويتفاخرون على أساسها ويمنحونها الاستمرار ورسول الله يقول: ((دعوها فإنها منتنة)).
وفي خطبة الوداع يقول: ((وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب؛ فإنه موضوع كله)) لم يحرم الله الربا إلا لعظيم ضرره وكثرة مفاسده، فهو يفسد ضمير الفرد، يفسد حياة الإنسانية، يشيع الطمع والشره والأنانية، يميت روح الجماعة، يسبب العداوة، يزرع الأحقاد في النفوس، ولهذا أعلن الله تعالى الحرب على أصحابه ومروجيه، حرب في الدنيا: غلاء في الأسعار، أزمات مالية، أمراض نفسية، انعدمت معاني التعاون والإيثار، أما في الآخرة فعذاب أليم يقول الله تعالى: ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ ?لرّبَو?اْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ?لَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ?لشَّيْطَـ?نُ مِنَ ?لْمَسّ [البقرة:275]، ويعتبر النظام الربوي مسئولاً عن كثير من الأزمات المالية والاقتصادية على مستوى الأفراد والجماعات والدول.
وفي خطبة الوداع يقول: ((اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتمهن بأمانة الله)) وفي أمتنا اليوم من يتباكى على حال المرأة، فينصبون أنفسهم مدافعين عن حقوقها، منصفين لأوضاعها المهضومة، فهي كما يزعمون كمٌ مهمل وطاقة مهدرة ورئة معطلة، ولو عاش هؤلاء الإسلام حقيقة لنطق لهم بأجلى بيان وتحدث بأوضح أسلوب عن الأثر العظيم الذي تركته المرأة في زمن أشرق بنور النبوة، فقد كانت المرأة تهز المهد بيمينها وتهز العالم بشمالها عندما تنشئ قادة وعلماء ومفكرين وأبطالاً ميامين تفخر بهم الأمة.
ولهذه الدولة وفقها الله الريادة في الوقوف سدًا منيعًا أمام هؤلاء الجهلة وضعاف العقول والنفوس؛ فقد منعت الاختلاط في كل مراحل التعليم في الوقت الذي يئن العالم كله من هذه التجربة الخاطئة، أغلقت كل المنافذ الموصلة إلى خدش حياء المرأة فمنعت جل أنواع التصوير للمرأة حتى في الوثائق الرسمية فجعلتها بذلك درة مصونة مقصورة على محارمها، ومع ذلك ضبطت الأمن فسجلت أدنى معدلات الجريمة مقارنة بدول كبرى، عملت المرأة في المجالات التي تناسب فطرتها وأنوثتها وشريعة ربها فأثبتت المرأة في هذا المجتمع نجاحًا كبيرًا مع احتفاظها بالحشمة والعفاف فأعطت العالم كله درسًا عمليًا في حقوق المرأة في الإسلام.
وفي خطبة الوداع يقول: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي)) فالذي خلق الإنسان أعلم بما يصلحه ويحقق سعادته، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة؛ ففيهما العصمة من الخطأ، والأمن من الضلال، والحيدة عنهما فشل وتفرق وتخلف، ألم تسمعوا قول الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
إخوة الإسلام، خطبة الوداع نداء يوجه إلى الأمة الإسلامية بمناسبة الحج لتحقق الأمة المراجعة المطلوبة والاستقامة على الطريق والاستجابة لنداء سيد المرسلين، فهل تستجيب وهل تفعل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/161)
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
الأضحية عباد الله مشروعة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع علماء المسلمين، وبها يشارك أهل البلدان حجاج بيت الله في بعض شعائر الحج؛ فالحجاج يتقربون إلى الله بذبح الهدايا وأهل البلدان يتقربون إليه بذبح الضحايا، وهذا من رحمة الله بعباده، فضحّوا أيها المسلمون عن أنفسكم وعن أهليكم تعبدًا لله تعالى وتقربًا إليه واتباعًا لسنة رسوله.
والواحدة من الغنم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، الأحياء والأموات، والسُبُعُ من البعير أو البقر يجزئ عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم فيجزئ عن الرجل وأهل بيته الأحياء والأموات، ومن الخطأ أن يضحي الإنسان عن أمواته من عند نفسه ويترك نفسه وأهله الأحياء.
ومن كان عنده وصايا بأضاحي فليعمل بها كما ذكر الموصى، فلا يدخل مع أصحابها أحدًا في ثوابها، ولا يخرج منهم أحدًا، وإن نسي أصحابها فلينوها عن وصية فلان فيدخل فيها كل من ذكر الموصي.
ولا تجزئ الأضحية إلا من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ [الحج:34]، ولا تجزئ الأضحية إلا بما بلغ السن المعتبر شرعًا وهي ستة أشهر في الضأن، وسنة في المعز، وسنتان في البقر، وخمس سنوات في الإبل، فلا يضحي بما دون ذلك لقول النبي: ((لا تذبحوا إلا مسنة (وهي السنية) إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جزعة من الضأن)).
ولا تجزئ الأضحية إلا بما كان سليمًا من العيوب التي تمنع من الإجزاء، فلا يضحي بالعوراء البين عورها وهي التي نتأت عينها العوراء أو انخسفت، ولا بالعرجاء البين ضلعها وهي التي لا تستطيع المشي مع السليمة، ولا بالمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت أثار المرض عليها بحيث يعرف من رآها أنها مريضة من جرب أو حمى أو جروح أو غيرها ولا بالهزيلة التي لا مخ فيها، لأن النبي سئل ماذا يجتنب من الأضاحي؟ فأشار بيده وقال: ((أربع: العرجاء البين ضلعها والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) فقيل للبراء بن عازب إني أكره أن يكون في الأذن نقص أو في القرن نقص أو في السن نقص فقال البراء: (ما كرهت فدع، ولا تحرمه على أحد).
فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء، دل على ذلك الحديث وقال به أهل العلم ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد، فلا يضحي بالعمياء ولا بمقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين ولا بالمغشومة حتى يزول الخطر عنها، ولا بما أصابها أمر تموت به كالمجروحة جرحًا خطيرًا أو المنخنقة والمتردية من جبل ونحوها مما أصابها سبب الموت؛ لأن هذه العيوب في معنى العيوب الأربعة التي تمنع من الإجزاء بنص الحديث، فأما العيوب التي دون هذا فإنها لا تمنع من الإجزاء فتجزئ الأضحية بمقطوعة الأذن أو مشقوقتها مع الكراهة.
ولا تذبحوا ضحاياكم إلا بعد انتهاء صلاة العيد وخطبتها؛ فإن ذلك أفضل وأكمل اقتداءً بالنبي فإنه كان يذبح أضحيته بعد الصلاة والخطبة، ولا يجزئ الذبح قبل تمام صلاة العيد لقول النبي: ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)).
واذبحوا ضحاياكم بأنفسكم إن أحسنتم الذبح وقولوا: باسم الله والله أكبر، وسموا من هي له عند ذلك اقتداءً بالنبي، فإن لم تحسنوا الذبح فاحضروه فإنه أفضل لكم وأبلغ في تعظيم الله والعناية بشعائره قال تعالى: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34].
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/162)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الآل والصحب الكرام وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:13 ص]ـ
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ: فَإِنَّ اللهَ الذِي خَلَقَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَهُوَ أَعلَمُ بما يُصلِحُ شُؤُونَهُم وَتَستَقِيمُ به أَحوَالُهُم قَد أَمَرَهُم وَأَوصَاهُم وَحَذَّرَهُم وَنَهَاهُم، أَوصَاهُم بِوَصَايَا جَامِعَةٍ وَأَمَرَهُم بِأَوَامِرَ نَافِعَةٍ، لَوِ امتَثَلُوهَا وَاتَّبَعُوهَا لَنَالُوا خَيرَيِ الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَحَذَّرَهُم مِن سَبَبِ كُلِّ بَلاءٍ، وَنَهَاهُم عَن مَنشَأِ كُلِّ دَاءٍ، ممَّا لَوِ اجتَنَبُوهُ وَتَجَافَوا عَنهُ وَهَجَرُوهُ لَسَعِدُوا في دُنيَاهُم وَفَازُوا في أُخرَاهُم، قَالَ سُبحَانَهُ: وَللهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِن تَكفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا. مَا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ مِن خَيرٍ وَلا صَلاحٍ وَلا مَتَاعٍ حَسَنٍ وَلا أَمنٍ ولا سَعَةٍ إِلاَّ وَطَرِيقُهَا التَّقوَى وَالإِيمَانُ وَسَبِيلُهَا الطَّاعَةُ وَالعَمَلُ الصَّالحُ، وَمَا فِيهِمَا مِن شَرٍّ وَلا فَسَادٍ وَلا بَلاءٍ وَلا فِتنَةٍ وَلا خَوفٍ ولا ضِيقٍ إِلاَّ وَسَبَبُهَا الكُفرُ فَمَا دُونَهُ مِنَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، وَمَا أَنعَمَ اللهُ عَلَى قَومٍ نِعمَةً فَنَزَعَهَا مِنهُم وَغَيَّرَهَا عَلَيهِم إِلاَّ بِكُفرِهِم نِعمَةَ رَبِّهِم وَجُحُودِهِم فَضلَهُ وَفُسُوقِهِم عَن أَمرِهِ وَتَكذِيبِهِم رُسُلَهُ وَنَقضِهِم العَهدَ مَعَهُ وَتَغيِيرِهِم مَا بِأَنفُسِهِم، وَمَا عَادَ إِلَيهِم مَا نُزِعَ عَنهُم إِلاَّ بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ وَرُجُوعٍ حَقِيقِيٍّ، قَالَ تَعَالى: وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ تَعَالى: وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُّهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا، وَقَالَ تَعَالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَأَنِ استَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٍ فَضلَهُ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ كَبِيرٍ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا عَن يُونُسَ عَلَيهِ السَّلامُ: فَالتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَولا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطنِهِ إِلى يَومِ يُبعَثُونَ، وَقَالَ تَعَالى عَن قَومِهِ: فَلَولاَ كَانَت قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَومَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفنَا عَنهُم عَذَابَ الخِزيِ في الحَيَاةَ الدُّنيَا وَمَتَّعنَاهُم إِلى حِينٍ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/163)
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَا يُرَى في العَالمِ اليَومَ مِن غَلاءٍ فَاحِشٍ في أَسعَارِ المَوَادِّ الأَسَاسِيَّةِ وَالضَّرُورِيَّاتِ وَارتِفَاعٍ كَبِيرٍ في قِيَمِ السِّلَعِ وَالحَاجَاتِ وَانخِفَاضٍ في القِيمَةِ الشِّرَائِيَّةِ لِلعُملاتِ وَانحِبَاسٍ لِلأَمطَارِ وَقِلَّةٍ في البَرَكَاتِ فَضلاً عَن تَسَلُّطِ الأَعدَاءِ وَضَعفِ كَلِمَةِ المُسلِمِينَ، إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لأَثَرٌ مِن آثَارِ ابتِعَادِ العِبَادِ عَن رَبِّهِم وَكُفرِهِم بِنِعَمِهِ وَغَفلَتِهِم عَمَّا خُلِقُوا لَهُ مِن عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَانشِغَالِهِم بما كُفُوا مَؤُونَتَهُ مِن طَلَبِ مَا زَادَ عَنِ الكَفَافِ وَعِمَارَتِهِم الدُّنيَا عِمَارَةَ مَن يَخلُدُ فِيهَا وَيَبقَى وَتَهَاوُنِهِم بِالآخِرَة تَهَاوُنَ مَن هُوَ بها مُكَذِّبٌ غَيرُ مُوقِنٍ، وَلَو يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُم إِلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا. وَإِنَّهُ وَاللهِ لا مُخَلِّصَ لِلعِبَادِ ممَّا هُم فِيهِ وَلا مُنجِيَ لهم ممَّا أَصَابَهُم إِلاَّ التَّوبَةُ الصَّادِقَةُ إِلى اللهِ وَالرُّجُوعُ الحَقِيقِيُّ إِلى حِمَاهُ وَالتَّخَلُّصُ مِن أَسبَابِ الغَضَبِ وَمُوجِبَاتِ العَذَابِ وَالعَمَلُ بما يَجلِبُ الرَّحمَةَ وَتُستَنزَلُ بِهِ البَرَكَةُ، وَإِنَّ مِن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ المُؤمِنِينَ وَلُطفِهِ بهم وَإِرَادَتِهِ الخَيرَ لهم أَنْ يَبتَلِيَهُم بِأَنوَاعِ المَصَائِبِ وَالابتِلاءَاتِ؛ مِن تَأَخُّرِ الغَيثِ وَفَسَادِ الثَّمَرَاتِ وَغَلاءِ الأَسعَارِ وَنَزعِ البَرَكَاتِ وَظُهُورِ الأَمرَاضِ وَالأَوبِئَةِ وَالآفاتِ وَتَسَلُّطِ الظَّلَمَةِ وَالمُنَغِّصَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ تَذكِيرًا لهم وَتَنبِيهًا؛ لِئَلاَّ يَتَمَادَوا في عِصيَانِهِم وَيستَرسِلُوا في غَيِّهِم، وَإِلاَّ فَلَو شَاءَ سُبحَانَهُ لَمَدَّ لهم وَأَمهَلَهُم وَوَسَّعَ عَلَيهِم، لِيَتَمَادَوا في طُغيَانِهِم وَيَلَجُّوا في عِصيَانِهِم، ظَنًّا مِنهُم أَنَّ ذَلِكَ عَن رِضًا مِنهُ عَنهُم، حَتى إِذَا فَرِحُوا أَخَذَهُم عَلَى غِرَّةٍ وَأَهلَكَهُم عَلَى حِينِ غَفلَةٍ، كَمَا فَعَلَ سُبحَانَهُ بِمَن لم يَتَذَكَّرْ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَالتي أَخبَرَنَا سُبحَانَهُ عَن أَحوَالِهِم في كِتَابِهِ لِنَعتَبِرَ وَنَتَّعِظَ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: وَلَقَد أَرسَلنَا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ فَلَولا إِذْ جَاءهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَمَا أَرسَلنَا في قَريَةٍ مِن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذنَا أَهلَهَا بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَد مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذنَاهُم بَغتَةً وَهُم لاَ يَشعُرُونَ وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلاَ يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ أَوَلم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرضَ مِن بَعدِ أَهلِهَا أَنْ لَو نَشَاءُ أَصَبنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَنَطبَعُ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لاَ يَسمَعُونَ.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/164)
نَعَمْ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَا أَصَابَنَا وَيُصِيبُنَا مِن تَغَيُّرٍ وَفَسَادٍ وَمَا يَتَوَالى عَلَينَا مِن مِحَنٍ وَابتِلاءَاتٍ إِنَّمَا هُوَ تَذكِيرٌ لَنَا لِنَتَنَبَّهَ وَنَرجِعَ وَنَتُوبَ، قَالَ جَلَّ وَعَلا: وَبَلَونَاهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ، وَقَالَ تَعَالى: وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ العَذَابِ الأَدنى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَلَقَد أَهلَكنَا مَا حَولَكُم مِنَ القُرَى وَصَرَّفنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ، وَقَالَ تَعَالى: وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فِرعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقصٍ مِن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ، وَقَالَ في شَأنِ المَطَرِ: وَلَقَد صَرَّفنَاهُ بَينَهُم لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا، فَهَل نحنُ بما جَرَى لِغَيرِنَا مُعتَبِرُونَ؟ هَل نحنُ بما أَصَابَ مَن حَولَنَا مُتَّعِظُونَ؟ هَل نحنُ بما ذُكِّرْنَا بِهِ مُتَذَكِّرُونَ؟ هَل مِن تَوبَةٍ عَمَلِيَّةٍ صَادِقَةٍ شَامِلَةٍ، نُرَاجِعُ فِيهَا أَنفُسَنَا، وَنُدَقِّقُ النَّظَرَ في حِسَابَاتِنَا، وَنَتَذَكَّرُ مَا مَضَى مِن مُخَالَفَاتِنَا، فَنُصَحِّحَ الطَّرِيقَ وَنُعَدِّلَ المَسَارَ وَنُسَارِعَ بِالرُّجُوعِ وَنُبَادِرَ بِالانكِسَارِ؟ هَل نَفعَلُ ذَلِكَ وَنَجأَرُ إِلى اللهِ قَائِلِينَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لم تَغفِرْ لَنَا وَتَرحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ، أَمْ نَفعَلُ كَفِعلِ مَن قَسَت قُلُوبُهُم مِنَ المُنَافِقِينَ، فَلَم يَتَّعِظُوا بما يَرونَهُ مِنَ أَنوَاعِ العَذَابِ التي تُصَبُّ عَلَى مَن حَولَهُم، قَالَ سُبحَانَهُ في حَالِ أُولَئِكَ الظَّالمِينَ: أَوَلاَ يَرَونَ أَنَّهُم يُفتَنُونَ في كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَو مَرَّتَينِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُم يَذَّكَّرُونَ.
أَلا فَلنَتَّقِ اللهَ أُمَّةَ الإِسلامِ، وَلْنَبدَأْ بِأَنفُسِنَا وَلْنُحَاسِبْهَا، فَإِنَّ كُلاًّ مِنَّا أَدرَى بِنَفسِهِ وَأَبصَرُ بِعَيبِهِ، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ. ثم لْنُصلِحْ أُسَرَنَا وَمُجتَمَعَاتِنَا وَمَن حَولَنَا، يُصلِحِ اللهُ شَأنَنَا وَيَحفَظْ أَمنَنَا وَيَزِدْنَا وَيُبَارِكْ لَنَا. إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا، وَإِنَّ مَعَ الضِّيقِ مَخرَجًا، وإِنَّ مَعَ الكَرْبِ تنفيسًا وَمَعَ الهَمِّ فَرَجًا، لَكِنَّ فِينَا مَن لم يَزَلْ يَتمَادَى وَيَزدَادُ بُعدًا، فِينَا مَن يُرِيدُ العَودَةَ بِالأُمَّةِ إِلى جَهَالاتِهَا وَضَلالاتِهَا بَعدَ إِذْ أَنقَذَهَا اللهُ مِنهَا، فِينَا مَن يَسعَى لإِحيَاءِ القَومِيَّةِ وَالعَصَبِيَّةِ وَالنَّفخِ في رُوحِ القَبَلِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، فِينَا مَن يُرِيدُ لِلنَّاسِ الاجتِمَاعَ عَلَى غَيرِ ذِكرِ اللهِ وَالصَّلاةِ، فِينَا مَن يَوَدُّ لَو تَفَرَّقَ النَّاسُ شِيَعًا وَأَحزَابًا، مِنَّا مَن تَرَكَ الصَّلاةَ وَتَهَاوَنَ بها، مِنَّا مَن مَنَعَ الزَّكَاةَ وَبَخِلَ بها، مِنَّا مَن يُعطِي وَيُنفِقُ وَيَتَكَرَّمُ لا لِوَجهِ اللهِ، فَإِذَا جَاءَ أَمرٌ للهِ وَفي سَبِيلِهِ بَخِلَ وَاستَغنى، مِنَّا القَاطِعُ لِرَحِمِهِ الهَاجِرُ لأَقَارِبِهِ المُصَارِمُ لإِخوَانِهِ، أَكَلنَا الرِّبَا وَتَهَاوَنَّا بِالمُعَامَلاتِ المَشبُوهَةِ، وَقَعنَا في محارِمِ اللهِ وَتَعَدَّينَا حُدُودَهُ بِأَدنى الحِيَلِ، طَلَبنَا الدُّنيَا بِالآخِرَةِ، تَعَالَجنَا بِالسِّحرِ وَأَتَينَا الكَهَنَةَ وَالعَرَّافِينَ، رَفَعنَا أَطبَاقَ الشَّرِّ فَوقَ مَنَازِلِنَا، تَسَمَّرنَا أَمَامَ فَاسِدِ القَنَوَاتِ، وَتَشَبَّعنَا بما يُلقَى فِيهَا مِن شُبُهَاتِ وَضَلالاتٍ، وَتَشَرَّبنَا مَا تَعرِضُهُ مِن فَوَاحِشَ وَشَهَوَاتٍ وَمُنكَرَاتٍ، فَإِلى مَتى الغَفلَةُ وَالتَّنَاسِي؟! وَإِلى مَتى الإِعرَاضُ وعَدَمُ العَمَلِ بِالعِلمِ؟! أَلم يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكرِ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/165)
اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ.
إِنَّنَا وَاللهِ عَلَى خَطَرٍ مِن مَوتِ القُلُوبِ إِذَا نحنُ لم نُفِقْ مِن غَفلَتِنَا وَنَنتَبِهْ مِن سَكرَتِنَا وَنَعمَلْ بما عُلِّمْنَا وَنَفعَلْ مَا بِهِ وُعِظْنَا، قَالَ: ((تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ عَرضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ، حَتى يَصِيرَ القَلبُ أَبيَضَ مِثلَ الصَّفَا لا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السُّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَدًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ))، وَقَالَ سُبحَانَهُ: وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ رَبِّكُم وَسُنَّةِ نَبِيِّكُم، اِعرِفُوا حَقِيقَةَ الدُّنيَا وَلا تَغتَرُّوا بها، وَاطلُبُوا الآخِرَةَ وَكُونُوا مِن أَهلِهَا، لا تُلهِيَنَّكُمُ الفَانِيَةُ عَنِ البَاقِيَةِ، اللهَ اللهَ في طَاعَةِ اللهِ وَالصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعةِ، فَإِنَّهَا نِعْمَ الذُّخرُ وَحَسُنَتِ البِضَاعَةُ، أَدُّوا الزَّكَاةَ وَأَنفِقُوا لِوَجهِ اللهِ، وَارحَمُوا مَن في الأَرضِ يَرحَمْكُم مَن في السَّمَاءِ، مُرُوا بِالمَعرُوفِ أَمرًا حَلِيمًا رَفِيقًا، وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ نَهيًا حَكِيمًا رَقِيقًا، اِحفَظُوا أَقدَارَ وُلاةِ الأَمرِ وَالعُلَمَاءِ، وَصُونُوا أَعرَاضَ أَهلِ الحِسبَةِ وَالدُّعَاةِ الفُضَلاءِ، أَطِيعُوا مَن وَلاَّهُ اللهُ أَمرَكُم، وَاحذَرُوا التَّفَرُّقَ وَالتَّشَرذُمَ، وَتَجَنَّبُوا مَوَاقِعَ الفِتَنِ وَمُصَاحَبَةَ المَفتُونِينَ، وَأَحيُوا رُوحَ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ وَمَحَبَّةَ الخَيرِ لِلآخَرِينَ، وَأَمِيتُوا التَّعَصُّبَ وَالأَثَرَةَ وَحُبَّ الذَّاتِ وَالحَسَدَ، بَرُّوا وَالِدِيكُم وَصِلُوا أَرحَامَكُم، تَرَاحَمُوا وَتَلاحَمُوا، وَتَصَالَحُوا وَتَسَامَحُوا، وَلا تَقَاطَعُوا وَلا تَهَاجَرُوا، عَلَيكُم بِالصِّدقِ وَالوَفَاءِ وَالحَيَاءِ، وَاجتَنِبُوا الكَذِبَ وَالغَدرَ وَالجَفَاءَ، أَدُّوا الأَمَانَةَ وَاحذَرُوا الخِيَانَةَ، وَأَلزِمُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم الحِشمَةَ وَالصِّيَانَةَ، اِحفَظُوا العُهُودَ وَأَوفُوا بِالعُقُودِ، اِحذَرُوا الغِشَّ وَالفُحشَ وَقَولَ الزُّورِ، وَإِيَّاكُم وَالغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ وَالشَّائِعَاتِ، وَاتَّقُوا الظُّلمَ وَالبُهتَانَ وَالتَّسُاهُلَ في حُقُوقِ العِبَادِ، وَلا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ وَالزِّنَا، وَاحذَرَوا الرِّشوَةَ وَالرِّبَا، وَاجتَنِبُوا المُسكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَلَو يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ استِعجَالَهُم بِالخَيرِ لَقُضِيَ إِلَيهِم أَجَلُهُم فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءَنَا في طُغيَانِهِم يَعمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِدًا أَو قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفنَا عَنهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لم يَدعُنَا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلمُسرِفِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ وَلَقَد أَهلَكنَا القُرُونَ مِن قَبلِكُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ وَمَا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/166)
كَانُوا لِيُؤمِنُوا كَذَلِكَ نَجزِي القَومَ المُجرِمِينَ ثُمَّ جَعَلنَاكُم خَلاَئِفَ في الأَرضِ مِن بَعدِهِم لِنَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ.
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعَالى حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِصَالحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا، وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن شَهِدتُم هَذَا العِيدَ السَّعِيدَ، اِعلَمُوا أَنَّهُ لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن خَافَ رَبَّهُ وَتَابَ مِن ذَنبِهِ، لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن أَعطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسنى، لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن طَهَّرَ قَلبَهُ وَأَصلَحَ قَالَبَهُ، لا عِيدَ إِلاَّ لِمَن وَصَلَ رَحِمَهُ وَأَحسَنَ إِلى أَقَارِبِهُ. إِنَّكُم في يَومٍ عَظِيمٍ سَمَّاهُ اللهُ يَومَ الحَجِّ الأَكبرِ، تَتلُوهُ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ عَظِيمَةٌ، فَعَظِّمُوهَا بِطَاعَةِ اللهِ وَذِكرِهِ، وَأَكثِرُوا مِن حَمدِهِ وَشُكرِهِ، ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ. ضَحُّوا وَطيبُوا نَفسًا بِضَحَايَاكُم، وَاذكُرُوا اللهَ عَلَى مَا رَزَقَكُم وَأَنْ هَدَاكُم، فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ اللهُ في يَومِ النَّحرِ بِمِثلِ إِرَاقَةِ دَمِ الأَضَاحِي، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكَانٍ قَبلَ أَن يَقَعَ عَلَى الأَرضِ، فَاحرِصُوا عَلَى الأَخذِ بِأَسبَابِ القُبُولِ؛ مِنَ الإِخلاصِ للهِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَاستِشرَافِ الضَّحَايَا وَاستِسمَانِهَا وَاختِيَارِ أَطيَبِهَا، وَاحذَرُوا مَا يُحبِطُ الأَعمَالَ مِنَ الشِّركِ وَالرِّيَاءِ وَالبِدَعِ، أَو مَا يَمنَعُ الإِجزَاءَ أَو يُنقِصُ الأَجرَ مِنَ العُيُوبِ، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَأَنَّهُ لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ الذَّبحَ مُمتَدٌّ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ مِن ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشرِيقِ، وَأَنَّهُ يُشرَعُ في هَذِهِ الأَيَّامِ التَّكبِيرُ وَلا سِيَّمَا في أَدبَارِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ، فَكَبِّرُوا وَارفَعُوا بِهِ أَصوَاتَكُم، وَأَحيُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُم في خَلَوَاتِكُم وَجَلَوَاتِكُم.
ثم صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَن أُمِرتُم بِالصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَيهِ ...
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:15 ص]ـ
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا معاشر المسلمين، يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَ?للَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ?لأَرْضِ نَبَاتاً % ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17، 18].
عباد الله، الإنسان جزء من هذه الأرض، فآدم خلق من ترابها ثم أسكن الله ذريته في أنحائها، وأباح لهم الانتفاع بما فيها، وجعل نمو الإنسان بما يتغذى من أجزائها، وكما خلق الله الإنسان من طينها، فقد قدر الله له أن يعود مرة أخرى إلى جوفها ليختلط رفاته بترابها، ثم ليخرج منها يوم البعث: مِنْهَا خَلَقْنَـ?كُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى? [طه:55]. الله أكبر.
والصانع الحكيم لم يسكن الإنسان في هذه الأرض إلا بعد أن هيأها له قال تعالى: وَ?لأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـ?هَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَـ?هَا وَ?لْجِبَالَ أَرْسَـ?هَا مَتَـ?عاً لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [النازعات:30 - 33]. وأمر عباده بالمحافظة على بيئتها، فقال تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/167)
لقد أصلح الله تعالى هذه الأرض بما خلق فيها من المنافع، وامتن على عباده بأن وفقهم لاستغلالها، دون الإضرار بها، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]. وقد نهى سبحانه عن كل فساد في هذه الأرض، والانحراف عن منهج الرسل أعظم فساد في هذه الأرض، وبسبب المعاصي والذنوب يقع الاضطراب في الكون بإمساك الله للمطر الذي به قوام الحياة: وَأَلَّوِ ?سْتَقَـ?مُواْ عَلَى ?لطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـ?هُم مَّاء غَدَقاً لّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً [الجن:16، 17].
فالماء قوام الحياة، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَنْزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ?لزَّرْعَ وَ?لزَّيْتُونَ وَ?لنَّخِيلَ وَ?لاعْنَـ?بَ وَمِن كُلّ ?لثَّمَر?تِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:10، 11].
لذلك كانت دعوة الإسلام واضحة للمحافظة على البيئة، فأمر بالمحافظة على نظافة الماء، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)). ونهى عن الإسراف في استعمال الماء حتى في الطهارة والوضوء وأمر الإسلام بالمحافظة على النبات ودعا إلى غرس الأشجار قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة)) [متفق عليه] [1]. والحيوان جزء من هذه البيئة التي نعيش فيها، والإنسان مسؤول عن حمايته ورعايته والانتفاع به في الحدود الشرعية، فالحيوان كما صوره القرآن عارف بربه، له تسبيحه وله سجوده قال ربنا تعالى: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس [الحج:17]. الله أكبر.
والقاعدة الشرعية: لا ضرر ولا ضرار لها تطبيقات واسعة في النهي عن تلويث البيئة وتوسيخها وإفسادها، فالضرر ما فيه منفعة لجهة ومضرة لجهة أخرى كالصيد الذي يتسبب في انقراض أو نقصان حيوان البر والبحر، فلحماية البيئة الحيوانية يمنع صيد الأسماك والطيور والحيوانات في فصول تكاثرها، والإسلام وضع القاعدة لنظام حماية الثروة النباتية والحيوانية عندما حرم على الحجاج الصيد قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ?لصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]. وقال: ((إن هذا البلد الحرام حرام لا يعضد شوكه - أي لا يقطع - ولا يختلى خلاه)) [2] (أي لا يقطع نباته الرطب) فيحرم على الحاج المحرم الصيد ويحرم عليه ازعاج الحيوان ويحرم عليه أن يقطع الشجر.
والضرار هو ما ليس فيه منفعة لأحد كرمي النفايات ورمي السموم الضارة بالبحار والوديان وكإتلاف الأشجار وقطعها دون العناية بها وكاتلاف النباتات في الحدائق وغيرها، والقرآن الحكيم حدثنا عن جمال الطبيعة ونظامها وعن دور المفسدين فيها فقال: وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِى ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205]. فالكتاب الحكيم يشنع على المفسدين لنبات الأرض وحيواناتها، ويؤكد على أنه ما من فساد يقع في هذه الأرض إلا بسب أيدي الناس، قال ربنا تعالى: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41]. الله أكبر.
عباد الله، تفقهوا في دينكم واعلموا أن دين الإسلام شدد على نظافة البيئة عندما حث على تنظيف الجسد وتنظيف اللباس، وتنظيف الأواني وتنظيف الطرقات، قال ربنا تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ [المدثر:4]. وأنزل الله تعالى الماء ليتطهر به الإنسان ويتنظف، قال تعالى: وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ?لسَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]. وحث على نظافة الطرقات: عن أبي برزة الأسلمي قال: قلت يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الله به الجنة، فقال: ((أمط الأذى عن الطريق)) [رواه مسلم] [3]. وإبعاد ما يؤذي الناس في طرقاتهم من شعب الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة)) [4].
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/168)
وكما حث الإسلام على الطهارة نهى عن تلويث البيئة فنهى عن البصاق على الأرض ونهى عن البول في الطرقات أو تحت الأشجار أو في المياه، ليكون المسلم نظيفاً في كل شيء: في عقيدته، في معاملته، في المحيط الذي يعيش فيه، وإنه لواجب علينا معاشر المسلمين أن نذكر أنفسنا بهذه التوجيه وأن يقوم الخطباء والوعاظ بتذكير الناس بهذا الأمر، وأن يحرص المعلمون والأساتذة على تذكير التلاميذ والطلبة بنظرة الإسلام نحو البيئة، فذلك من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في الكتاب الحكيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله، عيدان اجتمعا لكم في يومكم هذا، فيوم الجمعة قال عنه نبينا عليه الصلاة والسلام: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)) [1] فيوم الجمعة سيد الأيام ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام سيد الأنام، فلذلك يستحب الإكثار من الصلاة والسلام عليه في هذا اليوم.
ويومكم هذا هو يوم الحج الأكبر وهو الأضحى والنحر، فأكثر مناسك الحج تؤدى في هذا اليوم، وما عمل ابن آدم في هذا اليوم عملاً أحب إلى الله من إراقة دم وذبح الأضاحي عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162]. وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَـ?كَ ?لْكَوْثَرَ فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [الكوثر:1، 2]. الله أكبر.
عباد الله، أمر الله نبيه أن يكون نسكه أي عبادته وذبيحته لله وحده، وأن يصلي صلاة العيد وينحر بعدها. وها أنتم خرجتم إلى هذا الصعيد، لأداء صلاة العيد، تأسياً بنبيكم وطمعاً في رحمة ربكم. فأبشروا برحمة الله، واستحضروا قول ربكم: إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. فالإحسان في كل شيء واجب، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) [رواه مسلم] [2]. فاحرصوا رحمكم الله على الرفق بالضحايا عند ذبحها واذكروا اسم الله عليها وقولوا: بسم الله والله أكبر، والأولى أن تذبح أيها المسلم أضحيتك بيدك. فإن لم تتمكن فلتوكل في الذبح مسلماً مصلياً وتنوي لنفسك، والأفضل أن تأكل من الأضحية وتتصدق منها قال تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:28]. ووقت ذبحها بعد ذبح الإمام بالمصلى ويمتد إلى غروب شمس اليوم الثالث من العيد، ولا يجوز بيع شيء منها ولا يعط شيء منها أجرة للجزار. الله أكبر.
معاشر المسلمين، أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، فكبروا الله تعالى بعد الصلوات المفروضة من ظهر يومكم هذا إلى صبح اليوم الرابع، وأكثروا من الصلاة والسلام على من أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور ...
ـ[محمود غنام المرداوي]ــــــــ[20 - 11 - 09, 11:42 م]ـ
جهد مشكور أخي الفاضل
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 10:37 ص]ـ
جزاك الله خيرا على هدا المجهود
ـ[وذان أبو إيمان]ــــــــ[21 - 11 - 09, 02:34 م]ـ
بارك الله فيك
لقد اختصرت علينا الكثير سأقوم بإذن الله بتنزيلها
شكر الله سعيك وبارك فيك وحقق لك ما تريد
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:50 م]ـ
غفر الله لكم أجمعين
ـ[ضيدان بن عبد الرحمن اليامي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 12:39 ص]ـ
بارك الله فيك أخي الكريم عاطف جميل الفلسطيني على هذا المجهود الطيب، أرحت الخطباء من عناء إعداد خطبة العيد بهذا الجمع الطيب والموفق.
ـ[وذان أبو إيمان]ــــــــ[22 - 11 - 09, 07:34 م]ـ
جزاك الله كل خير
ليتك تقوم بانتقاء بعض الخطب المؤثرة أو محاضرات مكتوبة في هذا الباب لنختار منها أجمل ما فيها لعلنا نقدم للناس خطبة جميلة يوم العيد
فإننا نحاول الاجتهاد قدر المستطاع
والله وحده الموفق للصواب
لعلك إمام مسجد مغترب أخي الكريم
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 05:09 م]ـ
الأخ وذان وفقه الله:
هذه الخطب وضعتها لكي ينتقي منها ما شاء وما يناسبه من عبارات وكلمات، وطريقتي في إعداد الخطب هي كالتالي:
1 - البحث عن موضوع الخطبه مثلا ((ذكر الله، عذاب القبر، أحداث اليوم الآخر))
2 - قراءة كل موضوع يتعلق بموضوع الخطبه
3 - تقييد الفوائد والكلمات المؤثرة مثال في خطبة العيد ((ملة إبراهيمية جارية، وسنة محمدية سارية .. ))
4 - بعد أن يتم جمع القدر المناسب من المواضيع أقوم بترتيب الأفكار في ورقة خاصة
5 - أعتمد غالبا على أسلوبي في الخطب وليس على كلام الخطباء بشكل عام
ولذلك أخي الكريم وضعت هذه الخطب كما ذكرت لك أعلاه لكي ينتقي منها من أراد أن ينتقي، والذي يريد نفس الخطبة دون إضافات أو دون تعديل فإن الغالب على هذه الخطب أن لا تكون مؤثرة بشكل كبير ....
نعم أخي الكريم أنا مغترب، وأتبادل الخطابة مع الآخرين إلى أن يتم تعيين الإمام الراتب ........
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/169)
ـ[يوسف بن عواد البردي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:19 م]ـ
بارك الله فيك ...
ـ[أبو إلياس السلفي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 12:30 ص]ـ
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
ـ[وذان أبو إيمان]ــــــــ[25 - 11 - 09, 12:04 ص]ـ
أعانك الله في غربتك أنت وإخوانك الكرام
جعلكم الله خير نموذج للمسلمين
رزقكم الله الثبات والصبر واليقين ونجاكم الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن
ونحن معكم بإذن العلي القدير
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[25 - 11 - 09, 04:52 م]ـ
الله يرضى عليكم أجمعين .....(80/170)
حمّل شرح الآجرّوميّة للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله pdf
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[18 - 11 - 09, 05:11 ص]ـ
< table id="ncode_imageresizer_warning_1" class="ncode_imageresizer_warning" width="400"><tbody><tr><td class="td1" width="20">
</td><td class="td2">
</td></tr></tbody></table>http://www7.0zz0.com/2009/11/17/21/440223352.jpg
شرح الآجُرُّوميَّة لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ت 1421
الطبعة الأولى: 1425
الناشرون: مكتبة الرشد
طُبِع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
حجم الكتاب: 12.1 ميجا بايت
عدد الصفحات: 576
لا تنسوني من صالح دعائكم
حمّل من هنا
http://www.4shared.com/file/15421985...9dc4/____.html (http://www.4shared.com/file/154219852/effb9dc4/____.html)
أو من هنا
http://www.multiupload.com/8KT
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
SMR5ST
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[18 - 11 - 09, 11:28 ص]ـ
بارك الله فيك وجزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك.
ورحم الله الشيخ محمد بن صالح العثيمين واسكنه الفردوس الأعلى.
وأسأل من الله العلي القدير أن يجمعنا ومشايخنا مع محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم.
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[18 - 11 - 09, 07:14 م]ـ
جزاك الله خيرًا على مرورك الكريم
ـ[ saead] ــــــــ[19 - 11 - 09, 10:12 ص]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/dfgdfgdfg.gif
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[19 - 11 - 09, 09:26 م]ـ
جزاك الله خيرا على مرورك يا أخي الكريم
ـ[أبو الوليد ناصر الدين]ــــــــ[19 - 11 - 09, 11:10 م]ـ
هل توجد نسخة وورد أو للشاملة.
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[20 - 11 - 09, 08:35 ص]ـ
هل توجد نسخة وورد أو للشاملة.
لا أدري ... قد طلب مني أحد الإخوة أن أصور شرح الآجرومية فصورته له ..
ـ[أبو الوليد ناصر الدين]ــــــــ[20 - 11 - 09, 06:00 م]ـ
بارك الله فيك أخي أبا طلحة.
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 10:49 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:36 م]ـ
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى
ـ[أبو الوليد ناصر الدين]ــــــــ[21 - 11 - 09, 06:02 م]ـ
من يتكرم علينا برفع شرح الآجرّوميّة للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بصيغة وورد أو الشاملة.
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 08:27 م]ـ
أبو عبد الرحمن الجزائري
وشتا العربي
أشكر مروركما الطيب وجزاكما الله خيرًا
ـ[أبو يوسف الحلبي]ــــــــ[23 - 12 - 09, 07:43 ص]ـ
أكرمك الله ووفقك أخي أبو طلحة ورحم الله الشيخ العثيمين رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته.
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[23 - 12 - 09, 07:21 م]ـ
جزاك الله خيرًا على مرورك الكريم يا أبا يوسف ورحم شيخنا العلامة ابن عثيمين
ـ[ماجد المسلم]ــــــــ[24 - 04 - 10, 04:13 ص]ـ
جزاك الله خيراً وأحسن إليك في الدارين ..
ورحم الله العلامة الشيخ ابن عثيمين ورفع منزلته في عليين
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[24 - 05 - 10, 12:27 ص]ـ
جزاك الله خيرًا يا أخي ماجد على كريم مروركم ..
ـ[ماجد المسلم]ــــــــ[24 - 05 - 10, 02:52 ص]ـ
من يتكرم علينا برفع شرح الآجرّوميّة للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بصيغة وورد أو الشاملة.
ما زال طلب الأخ قائماً والكتاب غير متوفر بهذه الصيغ (م م) , فمن لها؟(80/171)
من يتكرم علينا بهذا الكتاب:ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى
ـ[فوزى محمد أمين ملطان]ــــــــ[18 - 11 - 09, 11:28 ص]ـ
أحتاج حاجة شديدة الى كتاب
ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ( http://3lsooot.com/booksmall/vbook7579.html)
فجزى الله من يرفعه
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[20 - 09 - 10, 04:29 م]ـ
- ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى.
- الرياض النضرة في مناقب العشرة.
كلاهما ضروري، وقد سمعت في أحد دروس الشيخ عبد الكريم الخضير أن الرياض النضرة مطبوع محققا!
الطبعات غير المحققة متوفرة، لكن نريد المحققة، مخرجة الأحاديث، ولو وجدت رسائل جامعية فخير كثير .. !
ـ[حسين بن حيدر]ــــــــ[20 - 09 - 10, 04:51 م]ـ
http://search.4shared.com/q/10/%D8%B0%D8%AE%D8%A7%D8%A6%D8%B1
http://www.4shared.com/document/IgZlUCej/__online.html
http://www.4shared.com/account/document/Nq8XnN2X/____.html(80/172)
مناسك الحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[18 - 11 - 09, 12:26 م]ـ
مناسك الحج والعمرة
وزيارة المسجد النبوي.
لفضيلة الشيخ/ عبد الله بن جبرين ـ رحمه الله ـ.
المقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن الحج بيت اله الحرام ركن من أركان الإسلام، أمر الله تعالى بأدائه، فقال سبحانه
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وفي الحج تتجلى صور العبودية في أبهى مظاهرها، حيث يقوم المسلمون بأداء كثير من المناسك التي قد لا يدركون من معناها وحكمتها إلا أنها عبادة الله تعالى، وإقامة لذكره، وإتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك لهم شرفا وفخرا.
ولما كان الواجب على المسلمين أن يحجوا كما حج النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نساعد إخواننا الحجاج والمعتمرين في هذا الأمر، فكانت فكرة هذا الكتاب الصغير الذي تناولنا فيه مناسك الحج والعمرة والأخطاء التي يقع بها كثير من الحجاج، وكذلك آداب زيارة مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك بصورة مبسطة وطريقة مبسطة.
نسأل الله تعالى أن يكون هذا العمل خالصا لوجهه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
حمل من هنا ( http://www.4shared.com/file/154499203/e35741d/______.html)
ـ[ saead] ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:43 م]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/868686.gif
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[19 - 11 - 09, 12:03 م]ـ
أشكرك أخي الكريم saead على مرورك الراقي والرائع ومرورك و تفاعلك شرفني فعلا.(80/173)
حمل الجزء الخامس من الجامع الصحيح للسنن والمسانيد
ـ[صهيب عبدالجبار]ــــــــ[18 - 11 - 09, 12:32 م]ـ
هذا هو الجزء الخامس
وهو كتاب القرآن الكريم
مفهرس جيدا
وكل حديث في صفحة مستقلة
ومفهرس للبحث في الشاملة
ـ[صالحي أحمد]ــــــــ[18 - 11 - 09, 12:42 م]ـ
بارك الله فيك اخي صهيب جزاك الله خير
واين اجد البقية الأول و الثاني الى آخره
شكرا
ـ[صهيب عبدالجبار]ــــــــ[18 - 11 - 09, 01:33 م]ـ
تجدها هنا أخي الكريم
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=138424
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=192971
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=192972
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=192973
ـ[الجسارى]ــــــــ[18 - 11 - 09, 04:10 م]ـ
رحمكم الله ورضى عنكم
جزاكم الله خيرا
ـ[أبوعمرو المصري]ــــــــ[18 - 11 - 09, 05:14 م]ـ
جزاكم الله خيرا أخي الكريم ونفع الله بعلمكم.
ـ[صهيب عبدالجبار]ــــــــ[19 - 11 - 09, 11:17 م]ـ
أبو عمرو والجساري وأنتما جزاكما الله خيرا.(80/174)
طلب كتاب شرح رسالة ابي زيد للقاضي عبد الوهاب
ـ[صالحي أحمد]ــــــــ[18 - 11 - 09, 12:35 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
طلب كتاب شرح رسالة ابي زيد للقاضي عبد الوهاب
مصور أوو رد
جزاكم الله خير
ـ[صالحي أحمد]ــــــــ[23 - 11 - 09, 10:17 ص]ـ
للرفععععععععععععععععععععععع
ـ[صالحي أحمد]ــــــــ[09 - 12 - 09, 09:17 م]ـ
للرفععععععععععععععععععععععع
ـ[ابو عبد الله الهلالى]ــــــــ[09 - 12 - 09, 11:19 م]ـ
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showpost.php?p=864381&postcount=1(80/175)
مكتبة الامام الذهبي المصورة
ـ[جمال سعدي الجزائري]ــــــــ[18 - 11 - 09, 01:35 م]ـ
على الوقفية http://www.waqfeya.com/search.php
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[19 - 11 - 09, 12:08 م]ـ
بارك الله فيك ونفعك بك، ووفقني وإياك لما يحب ويرضى.(80/176)
للشاملة: الموقظة للذهبي موافق للمطبوع تحقيق: أبو غدة.
ـ[أبو مهند القصيمي]ــــــــ[18 - 11 - 09, 01:36 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقد وجدت في الشاملة الموقظة للذهبي بتحقيق: عبد الفتاح أبو غدة من تنسيق وفهرسة الأخ الفاضل: أسامة بن الزهراء فوافقته للمطبوع المصور في الوقفية وهذه بيانات الكتاب:
الكتاب: الموقظة في علم مصطلح الحديث
المؤلف: شمس الدين أبوعبدلله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (673 - 748)
اعتنى به: عبد الفتاح أبو غدة (1326 - 1417)
الطبعة الثانية سنة 1412هـ
مكتبة المطبوعات الإسلامية.
قام بتنسيقه و فهرسته أسامة بن الزهراء - عفا الله عنه - لملتقى أهل الحديث
وهذا رابط النسخة المصورة المباشر
http://www.archive.org/download/waq26695/26695.pdf
أخوكم /
أبو المهند القصيمي
ـ[أبو مريم العراقي]ــــــــ[18 - 11 - 09, 04:12 م]ـ
أحسنت يا القصيمي، و بارك الله في ابن الزهراء.
ـ[أبو مهند القصيمي]ــــــــ[19 - 11 - 09, 10:06 ص]ـ
أبو مريم ..
جزاك الله خيراً وبورك فيك ..(80/177)
تحميل الكتاب الجديد: مصباح السنن
ـ[محمد عارف بالله القاسمي]ــــــــ[18 - 11 - 09, 03:06 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه روابط لتحميل الكتاب: مصباح السنن، وهذه هدية مني إلي جميع أحبابي في المتلقى
والسلام
http://rapidshare.com/files/307309496/mesba7.rar.html (http://rapidshare.com/files/307309496/mesba7.rar.html)
http://www.megaupload.com/?d=UFV2EA1K (http://www.megaupload.com/?d=UFV2EA1K)
http://arabsh.com/0ryc7xzk04be.html (http://arabsh.com/0ryc7xzk04be.html)
http://filaty.com/file/8f9f2e0abeda6...63/mesba7.rar? (http://filaty.com/file/8f9f2e0abeda68b5d8d864b53f26c638/911/87663/mesba7.rar?)
http://www.mrrha.com/files/0ERBX9
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
Y/mesba7.rar (http://www.mrrha.com/files/0ERBX9
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
Y/mesba7.rar)
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[19 - 11 - 09, 01:39 م]ـ
جزاك الله خيرا وأجزل مثوبتك وأحسن إليك وغفر لك ولوالديك.(80/178)
أبحث عن هذا الكتاب!
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 04:24 م]ـ
أسأل الله أن يعينني وإياكم على اغتنام الأوقات الفاضلة ....
- أبحث عن كتب معينة في المعاملات المالية المعاصرة أو المكتوبة بأسلوب عصري أو في عموم الاقتصاد الإسلامي.
- اطلعت على كثير من المواضيع المشتملة على تلك الكتب هنا وفي الألوكة وغيرها من المواقع فلم أظفر بما أريد.
- أريد:
المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام، نور الدين عتر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1986م
سأكتب الباقي تباعا.<? xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p>
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 04:27 م]ـ
المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام، د. نورالدين عتر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1986م
ـ[عبدالعزيز محمد أمين]ــــــــ[19 - 11 - 09, 06:52 ص]ـ
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الحمدلله وحده و الصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أنصحك يا أخي بكتاب فقه المعاملات المالية المعاصرة للخثلان و كتب الشبيلي
ـ[مكتب زهير الشاويش]ــــــــ[19 - 11 - 09, 09:28 ص]ـ
المعاملات المالية المعاصرة في ضوء الاسلام.
للشيخ سعد الدين الكبي
المكتب الاسلامي للطباعة والنشر
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[19 - 11 - 09, 01:57 م]ـ
شكرا جزيلا لمن رد!
عندي ما ذكرتم وبخاصة كتاب الأستاذ الكبي.
أبا أبحث عن هذا الكتاب بخصوصه، فمن لديه نسخة منه فليرفعه غير مأمور.
وأظنه نفد من السوق!
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[21 - 11 - 09, 02:06 م]ـ
للرفع!
لو عاجلا!
المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام، د. نورالدين عتر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1986م(80/179)
قائمة (النشرات الإسلامية) - المعهد الألماني للدراسات الشرقيّة
ـ[خزانة الأدب]ــــــــ[18 - 11 - 09, 08:50 م]ـ
قائمة (النشرات الإسلامية) - المعهد الألماني للدراسات الشرقيّة
لفائدة الباحثين ولا يوجد روابط
علماً بأن عدداً قليل منها مرفوع على الشبكة
(1) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق هلموت ريتر، الطبعة الرابعة المنقحة، 1426هـ/2005م.
(2) التيسير في القراءات السبع للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني، عني بتصحيحه أوتو برتزل، إستانبول، مطبعة الدولة، الطبعة الأولى، 1349هـ/1930م.
(3) المقنع في رسم مصاحف الأمصار، مع كتاب النقط للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني، باعتناء أوتو برتزل، إستانبول، مطبعة الدولة، 1351هـ/1932م.
(4) فرق الشيعة، لأبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي، عني بتصحيحه هلموت ريتر، إستانبول، مطبعة الدولة، الطبعة الأولى 1350هـ/1931م.
(5) بدائع الزهور في وقائع الدهور لمحمّد بن أحمد بن إياس الحنفي، 5 أجزاء في 6 مجلدات، تحقيق محمّد مصطفى (الجميع مع الفهارس 13 جزءاً)
(6 الوافي بالوفيات لصلاح الدين خليل بن أيبك الصّفدي (30 جزءاً صدر منها 27)
(7) مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع لابن خالويه، عني بنشره ج. برجشتراسر، المطبعة الرحمانية بمصر، الطبعة الأولى، 1353هـ/1934م.
(8) غاية النهاية في طبقات القرّاء، لشمس الدين أبي الخير محمّد بن محمّد ابن الجزري المتوفى سنة 833هـ، عني بنشره ج. برجشتراسر:
(9) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين محمّد بن أحمد الملطي، إستانبول، مطبعة الدولة، الطبعة الأولى، 1358هـ/1939م.
(10) دراسة حول مخطوطات الحديث النبوي في مكتبات إستانبول، لماكس وايسوايلر، مطبعة يوني رسوم، الطبعة الأولى، إستانبول 1357هـ/1938م.
(11) بيان مذهب الباطنية وبطلانه، منقول من كتاب قواعد عقائد آل محمّد، لمحمّد بن الحسن الديلمي، عني بتصحيحه ر. شتروطمان، إستانبول، مطبعة الدولة، الطبعة الأولى، 1357هـ/1938م.
(13) كاراغوز (كذا).
(14) فردوس المرشدية في أسرار الصمدية، لمحمود بن عثمان، بتصحيح فريتز ماير، إستانبول، مطبعة معارف، الطبعة الأولى 1362هـ/1943م.
(15) سوانح، لأحمد غزالي، بتصحيح هلموت ريتر، إستانبول، مطبعة معارف، الطبعة الأولى، 1361هـ/1942م.
(16) مجموعة في الحكمة الإلهية، من مصنفات شهاب الدين يحيى بن حبش السهروردي، عني بتصحيحه هـ. كوربين، المجلد الأوّل، إستانبول، مطبعة معارف، الطبعة الأولى، 1365هـ/1945م.
(17) شعر عبد اللّه بن المعتزّ صنعة أبي بكر الصُولي (جزءان)
(18) الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة، تحقيق هانس وير، الطبعة الأولى، 1376هـ/1956م.
(19) أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، نقله من العربية وعلّق عليه هلموت ريتر، الطبعة الأولى، 1379هـ/1959م.
(20) ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ الحكمي (ستة أجزاء)
(21) طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن المرتضى، تحقيق سوسنّه ديفلد فلزر، الطبعة الثانية، 1407هـ/1987م.
(22) مشاهير علماء الأمصار، تصنيف محمّد بن حبّان البستي، تحقيق مانفريد فليشهمر، الطبعة الأولى، 1379هـ/1959م.
(23) نور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة والأدباء والشعراء والعلماء لأبي عبيد اللّه محمّد بن عمران المرزباني، اختصار أبي المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود الحافظ اليغموري:
(24) كنز الولد لإبراهيم بن الحسين الحامدي، تحقيق مصطفى غالب، الطبعة الأولى، 1391هـ/1971م.
(25) مكارم الأخلاق لأبي بكر عبد اللّه بن محمّد بن عبيد القرشي البغدادي المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق جيمز أ. بلمي، الطبعة الأولى، 1393هـ/1973م.
(26) كتاب النبات لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري، الجزء الثالث والنصف الأوّل من الجزء الخامس، تحقيق برنهارد لوين، الطبعة الأولى، 1394هـ/1974م.
(27) حاشية على شرح بانت سعاد لابن هشام الأنصاري، تأليف عبد القادر البغدادي (3 أجزاء)
(28) أنساب الأشراف لأحمد بن يحيى البلاذري (10 أجزاء)
(29) نظم الدر والعقيان لمحمّد بن عبد اللّه بن عبد الجليل التنسي
(30) كتاب النجاة لأحمد الناصر لدين اللّه، تحقيق ويلفرد ماديلونغ، الطبعة الأولى 1405هـ/1985م.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/180)
(31) تاريخ الملك الظاهر، لعزّ الدين محمّد بن علي بن إبراهيم بن شدّاد، تحقيق أحمد حطيط، الطبعة الأولى، 1403هـ/1983م.
(32) علم الجذل في علم الجدل لنجم الدين الطوفي الحنبلي، تحقيق فولفهارت هاينريشس، الطبعة الأولى، 1408هـ/1987م.
(33) بدء الإسلام وشرائع الدين لابن سلام الإباضي، تحقيق فيرنر شوارتس والشيخ سالم بن يعقوب، الطبعة الأولى، 1406هـ/1986م.
(34) ما اتفق لفظه واختلف معناه لابن الشجري، تحقيق عطية رزق، الطبعة الأولى، 1413هـ/1992م.
(35) ثلاثة مصنّفات للحكيم الترمذي (جزءان)
(36) قهوة الإنشاء لابن حجة الحموي الأزراري، تحقيق رودولف فيسيلي الطبعة الأولى، 1426هـ/2005م.
(37) دول الإسلام الشريفة البهية لأبي حامد القدسي، تحقيق صبحي لبيب وأولريش هارمان 1418هـ/1997م.
(38) المسرح الشعبي العربي في القاهرة سنة 1909، تحقيق وترجمة مانفريد فويديش وجاكوب لنداو، الطبعة الأولى، 1413هـ/1993هـ.
(39) نزهة المقلتين في أخبار الدولتين لابن الطوير، تحقيق أيمن فؤاد سيّد، الطبعة الأولى، 1412هـ/1992م.
(40) كنز الفوائد في تنويع الموائد، تحقيق مانويلا مارين وديفيد واينز، الطبعة الأولى، 1413هـ/1993م.
(41) الواضح في أُصول الفقه لابن عقيل، تحقيق جورج المقدسي (4 أجزاء)
(42) زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة لبيبرس المنصوري الدوادار، تحقيق دونلد س. ريتشاردز، الطبعة الأولى، 1419هـ/1998م.)
(43) المراسلات بين صدر الدين القونوي ونصير الدين الطوسي، تحقيق جودرون شوبارت، الطبعة الأولى، 1416هـ/1995م.
(44) كتاب العَروض لأبي الحسن علي بن عيسى الربعي، تحقيق محمّد أبو الفضل بدران، الطبعة الأولى 1420هـ/1999م.
(45) وثيقة وقف السلطان الناصر حسن بن محمّد بن قلاون، تحقيق هويدا الحارثي، الطبعة الأولى، 1423هـ/2001م.
(46) تاريخ مجموع النوادر للأمير شهاب الدين قرطاي العزّي الخزنداري، الجزء الرابع، تحقيق محمّد الحجيري وهورست هاين، الطبعة الأولى، 1426هـ/2005م.
(47) شرح الأشعار الستّة الجاهلية لأبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي، قيد الإعداد
(48) الإلمام بأخبار مَن بأرض الحبشة من ملوك الإسلام، لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، تحقيق منفريد كروب وفرانز كويستوف مُوت، قيد الإعداد
49) تلخيص الأدلة لقواعد التوحيد، لأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الصفّار البخاري، قيد الإعداد. آب 2008.(80/181)
هل هناك أى برنامج لحفظ القرآن على الشبكة؟
ـ[محمد دروش]ــــــــ[18 - 11 - 09, 11:22 م]ـ
السلام عليكم،
أبجث عن برنامج لجفظ القرآن على الشبكة؟ هل هناك منتديات أو صحيفة فى هذا الموضوع؟
ـ[براءة]ــــــــ[19 - 11 - 09, 07:03 ص]ـ
أخي ادخل على موقع: طريق الحقيقة
http://www.factway.net/
وسجل في الموقع وانتظر حتى يتم تفعيل عضويتك، ثم تسجل في أحد حلقات التحفيظ
وهو موقع مبارك، وهنا صفحة التسجيل:
http://www.factway.net/quran-care.php(80/182)
الهوى وأثره في الخلاف الشيخ عبد الله الغنيمان
ـ[الكتيبات الاسلامية]ــــــــ[19 - 11 - 09, 12:00 ص]ـ
الهوى وأثره في الخلاف
الشيخ عبد الله الغنيمان
للتحميل من هنا
http://www.ktibat.com/showsubject-link-3.html(80/183)
تنبيه الناس بشأن اللباس الشيخ عبد الله القصير
ـ[الكتيبات الاسلامية]ــــــــ[19 - 11 - 09, 12:03 ص]ـ
تنبيه الناس بشأن اللباس
الشيخ عبد الله القصير
للتحميل من هنا
http://www.ktibat.com/showsubject-link-240.html(80/184)
أين بقية تفسير الشيخ الشعراوى؟
ـ[محمد دروش]ــــــــ[19 - 11 - 09, 01:50 ص]ـ
السلام عليكم يا إخوانى الكرام
وجدت على الشبكة تفسير الشيخ الشعراوى فى 20 مجلدا من الفاتحة حتى سورة الصفات بصيغة ب د ف من الموقع الوقفية. ولكن أين بقية تفسيره؟ وجدت بقية التفسير صوتا فى صحيفة الشيخ، هل هناك من يدرى بقية التفسير بصيغة ب د ف.
شكرا كثيرا وجزاكم الله خيرا(80/185)
أبحث عن كتب إلكترونية موافقة للمطبوع أو pdf
ـ[أبو عطي الهاشمي]ــــــــ[19 - 11 - 09, 11:47 ص]ـ
أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبحث عن الكتب الآتية إلكترونية موافقة للمطبوع أو بصيغة pdf
1. إعراب القرآن لابن سيده
2. إنباه الرواة على أنباه النحاة. للقفطي - علي بن يوسف بن إبراهيم (646هـ).
3. أخبار النحويين لأبي طاهر المقرئ
4. غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري
5. شرح ديوان التنبي للواحدي
جزاكم الله خيرا(80/186)
المسجد الحرام عمارة وتاريخا.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[19 - 11 - 09, 01:50 م]ـ
المسجد الحرام عمارة وتاريخا.
المراد بالمسجد الحرام.
يطلق على المسجد الحرام مسجد الكعبة: فقد جاء في صحيح البخاري , في كتاب التوحيد , في باب قوله تعالى: وكلم الله موسى تكليما حدثنا عبد العزيز بن عبد الله , حدثني سليمان , عن شريك بن عبد الله أنه قال: سمعت ابن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر ... إلى آخر حديث الإسراء الطويل.
قال العلامة ابن ظهيرة القرشي رحمه الله تعالى في كتابه (الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف) ما نصه: اعلم أن الله تبارك وتعالى قد ذكر المسجد الحرام في كتابه العزيز في نحو خمسة عشر موضعا. فإذا تقرر هذا , فقد اختلف في المراد بالمسجد الحرام الذي تتعلق به المضاعفة في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن الزبير وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي
فقيل: جميع بقاع الحرم , وقيل: المراد الكعبة وما في الحجر من البيت , ويؤيده ما أخرجه النسائي , عن أبي هريرة رضي الله عنه: صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا الكعبة وقيل: المراد الكعبة وما حولها من المسجد , وجزم به النووي وقال: إنه الظاهر.
وإليك مسرد الآيات القرآنية التي ذكر فيها المسجد الحرام:
حمل الكتاب من هنا ( http://www.4shared.com/file/155205362/1942bc5a/Masjid_El_Haram_avec_photos.html)(80/187)
مفاتيح العلوم كتاب الكتروني رائع
ـ[أحمد أبوالمعاطي]ــــــــ[19 - 11 - 09, 03:27 م]ـ
مفاتيح العلوم كتاب الكتروني رائع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَفاتيحُ العُلوم
محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي
يُعد هذا الكتابُ مِفتاحًا لمبادئ كثير ٍ من العلوم وهو مقالتان المقالة الأولى في الفقه وأصوله والعقائد وعلم الكلام والفِرَق والنحو والشعر والعَرُوض والتاريخ والأخبار واشتملت المقالة الثانية على الفلسفة والمنطق والطب وعلم النجوم والهندسة والموسيقى والكيمياء والحيل وأمورٍ أخرى
حجم الكتاب 744 كيلوبايت
http://img185.imageshack.us/img185/8906/tajmeel1yh6ps2.gif
http://img40.imageshack.us/img40/1069/75500391.jpg
http://img40.imageshack.us/img40/6154/27782163.jpg
http://img40.imageshack.us/img40/5161/69326855.jpg
روابط التنزيل
المرفقات
فلنتعاون في الله بنشره على مواقع أخرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[19 - 11 - 09, 06:53 م]ـ
شكر الله لك أخي الكريم وبارك جهودك وتقبل سعيك وأجزل مثوبتك.
ـ[أحمد أبوالمعاطي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 02:21 م]ـ
جزاكم الله خيرا(80/188)
من لي برسالة في جامعة الملك سعود؟
ـ[طالبة أصولية]ــــــــ[19 - 11 - 09, 10:11 م]ـ
رسالة العلو والعزة في القرآن الكريم، دراسة موضوعية
للباحثة إيمان بنت حمد الجاسر
في مكتبة جامعة الملك سعود
فمن لي بها؟
ـ[طالبة أصولية]ــــــــ[22 - 11 - 09, 03:20 م]ـ
للرفع ...
ـ[طالبة أصولية]ــــــــ[25 - 11 - 09, 01:49 م]ـ
للرفع من جديد
ـ[أبو أسامة القحطاني]ــــــــ[25 - 11 - 09, 02:13 م]ـ
مكتبة الجامعة مغلقة في الإجازة حسب ما أعلم
و لا يسمح بتصوير إلا 50 صفحة من الرسالة
فالحل للحصول على الرسالة كاملة هو مراسلة الطالبة عن طريق بريدها الإلكتروني و تحصيله ميسور , و قد لا تسمح بعرضه هنا.
ـ[طالبة أصولية]ــــــــ[26 - 11 - 09, 03:01 م]ـ
جزاك الله خيرا على بيانك وتوضيحك
لكن كيف لي أن أحصل على بريدها الإلكتروني؟؟(80/189)
حمِّل: ماضي الحجاز وحاضره - نصيف
ـ[خزانة الأدب]ــــــــ[20 - 11 - 09, 12:01 ص]ـ
حمِّل: ماضي الحجاز وحاضره - نصيف
http://www.4shared.com/file/40441156/96cb347b/___online.html?s=1
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[20 - 11 - 09, 12:15 م]ـ
بارك الله في مجهوداتك، وجزاك الله خيرًا.(80/190)
حمل: " اللؤلؤ و المرجان فيما اتفق عليه الشيخان " pdf :
ـ[أبو عمار ياسر البطاوى]ــــــــ[20 - 11 - 09, 03:37 ص]ـ
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبعد:
نظرا لأن كتاب اللؤلؤ و المرجان فيما اتفق عليه الشيخان من الكتب الهامة فى موضوعها، ولمسيس الحاجة إليه بصيغة مصورة pdf ، قمت برفعه على موقع " ميديا فاير " وهاكم روابطه:
الغلاف <? xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p>
http://www.mediafire.com/?ovelmdnkcuy (http://www.mediafire.com/?ovelmdnkcuy)
<o:p></o:p>
المقدمة:< o:p></o:p>
http://www.mediafire.com/?zvammjyzj2o (http://www.mediafire.com/?zvammjyzj2o)
<o:p></o:p>
الجزء الأول:< o:p></o:p>
http://www.mediafire.com/?m2oggzdn12l (http://www.mediafire.com/?m2oggzdn12l)
<o:p></o:p>
الجزء الثانى:< o:p></o:p>
http://www.mediafire.com/?knzxkyjz4iz (http://www.mediafire.com/?knzxkyjz4iz)
<o:p></o:p>
الجزء الثالث:< o:p></o:p>
http://www.mediafire.com/?uqmtjryzdyy (http://www.mediafire.com/?uqmtjryzdyy)
<o:p></o:p>
<o:p></o:p>
تقبل الله منا ومنكم
ـ[أبو عمار ياسر البطاوى]ــــــــ[20 - 11 - 09, 04:34 ص]ـ
روابط الكتاب على موقع الأرشيف
الغلاف:
http://ia311005.us.archive.org/3/items/waq15458/00_15458.pdf
المقدمة:
http://ia311005.us.archive.org/3/items/waq15458/01_15458p.pdf
المجلد الأول:
http://ia311005.us.archive.org/3/items/waq15458/01_15458.pdf
المجلد الثانى:
http://ia311005.us.archive.org/3/items/waq15458/02_15459.pdf
المجلد الثالث:
http://ia311005.us.archive.org/3/items/waq15458/03_15460.pdf
تقبل الله منا ومنكم
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[20 - 11 - 09, 11:48 ص]ـ
بارك الله فيك وجزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك.
ـ[أبو عمار ياسر البطاوى]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:29 ص]ـ
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
رابط واحد لتحميل الأجزاء مجتمعة pdf
http://www.mediafire.com/?eyyg1whyzdy
أو
http://www.4shared.com/file/155573788/ea536362/_______pdf.html
رابط لتحميل نسخة شاملة موافقة للمصور
http://www.mediafire.com/?yrmgomnvmkn
أو
http://www.shamela.ws/books/106/10619.rar
تقبل الله منا و منكم
ـ[أبو منذر العبيدي]ــــــــ[31 - 10 - 10, 05:54 م]ـ
بارك الله فيك على هذا العمل.(80/191)
تفريغ الأشرطة (440، 441، 786، 900) من سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[20 - 11 - 09, 11:26 ص]ـ
تفريغ الأشرطة (440، 441، 786، 900) من سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني
حمل من هنا:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1157
ـ[سفيان الأبياري]ــــــــ[20 - 11 - 09, 01:40 م]ـ
أليس من الغريب الا تفرغ اشرطة الالباني الى الان و تمنع فتاويه
بينما تجد ائمة الضلال اشرطتهم تفرغ بسرعة عجيبة رغم كبر حجمها!
اللهم اقبضنا اليك غير مفتونين ثابتين على السنة
ـ[ saead] ــــــــ[20 - 11 - 09, 05:08 م]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/dfgdfgdfg.gif
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[21 - 11 - 09, 07:51 ص]ـ
وفيك بارك الله.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:02 ص]ـ
جزاك الله كل خير وفتح الله عليك وأعطاك الله الصحة والعافية.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[21 - 11 - 09, 03:53 م]ـ
آمين، وإياكم.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[18 - 02 - 10, 11:10 ص]ـ
تفريغ الأشرطة (25، 33، 71، 72، 81) من سلسلة الهدى والنور، للشيخ الألباني
يمكن تحميل تفريغ الأشرطة (25، 33، 71، 72، 81) من سلسلة الهدى والنور، للشيخ الألباني من الرابط التالي:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1179
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[19 - 02 - 10, 08:04 ص]ـ
للفائدة.
ـ[ابو بكر المغربي]ــــــــ[19 - 02 - 10, 11:13 ص]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[21 - 02 - 10, 09:21 ص]ـ
وجزاك خيراً، وبارك فيك.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[15 - 03 - 10, 01:32 م]ـ
تفريغ الأشرطة (247، 301، 327، 341، 372) من سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني
يمكن تحميل تفريغ الأشرطة (247، 301، 327، 341، 372) من سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني من الرابط التالي:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1205
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[23 - 03 - 10, 09:00 ص]ـ
تفريغ الأشرطة (377، 390، 392، 393، 397، 405، 406، 420، 425، 428) - سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني
يمكن تحميل تفريغ الأشرطة (377، 390، 392، 393، 397، 405، 406، 420، 425، 428) من سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني من الرابط التالي:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1206
ـ[سفيان السلفي]ــــــــ[23 - 03 - 10, 09:29 ص]ـ
جزاكم الله خيرا و بارك في جهودكم يا شيخ
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[23 - 03 - 10, 11:00 ص]ـ
بارك الله فيك وجزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك.
ورحم الله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني واسكنه الفردوس الأعلى.
وأسأل من الله العلي القدير أن يجمعنا ومشايخنا مع محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[24 - 03 - 10, 05:09 م]ـ
آمين، وإياكم.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[25 - 03 - 10, 11:07 ص]ـ
سلسلة الهدى والنور - تفريغ الأشرطة (323، 339، 439، 446، 453، 457، 458، 460، 468، 470) للشيخ الألباني
يمكن تحميل تفريغ الأشرطة من الرابط التالي:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1207
لمزيد من الأشرطة المفرغة يرجى زيارة الرابط:
http://www.alalbany.net/albany_tapes_tafregh.php
ـ[سفيان السلفي]ــــــــ[25 - 03 - 10, 12:32 م]ـ
بارك الله فيكم شيخ إبراهيم على هذا العمل، نسأل الله عزوجل أن يجمعكم و إيانا مع الإمام ناصر السنة في جنانه
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[25 - 03 - 10, 03:25 م]ـ
آمين، وفيك بارك الله.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[25 - 03 - 10, 06:36 م]ـ
بارك الله فيك وجزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك.
ورحم الله الشيخ محمد ناصر الدين الألباني واسكنه الفردوس الأعلى.
وأسأل من الله العلي القدير أن يجمعنا ومشايخنا مع محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[25 - 03 - 10, 08:25 م]ـ
آمين، وإياك.
ـ[أبو الحسن السلفي]ــــــــ[25 - 03 - 10, 10:02 م]ـ
أخي الحبيب إسلام إبراهيم
أسعد دائما برؤية مشاركاتك القيمة
جزاكم الله خيرا
ـ[أبو فراس القحطاني]ــــــــ[26 - 03 - 10, 12:03 ص]ـ
جزاك الله خيرا
ورحم الله شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني
وأسأل الله أن يجمعنا معه ومع شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله وشيخنا الشيخ العثيمين رحمه الله عند نبينا محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم.
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[26 - 03 - 10, 07:19 ص]ـ
وجزاكم الله خيراً، وأحسن إليكم.
ـ[أبو عبد الله أحمد بن نبيل]ــــــــ[27 - 03 - 10, 07:39 ص]ـ
جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم
شيخ اسلام
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[27 - 03 - 10, 08:23 ص]ـ
تم إضافة الشريطين (483، 494) لهذه المجموعة، والتحميل من الرابط:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1206
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[27 - 03 - 10, 08:24 ص]ـ
جزاك الله خيراً.
تم إضافة الشريطين (500، 538) لهذه المجموعة، والتحميل من الرابط:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1207
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/192)
ـ[إسلام إبراهيم]ــــــــ[27 - 03 - 10, 08:25 ص]ـ
تم إضافة ثلاث أشرطة مفرغة للشيخ الألباني - من سلسلة الهدى والنور - وهي: (568، 596، 597)، لمجموعة أشرطة مفرغة مضافة سابقاً - وهي (10، 13، 188، 189، 404، 524، 525، 623، 666).
يمكن تحميل المجموعة كلها من الرابط التالي:
http://www.alalbany.net/click/go.php?id=1127
لمزيد من الأشرطة المفرغة يرجى زيارة الرابط:
http://www.alalbany.net/albany_tapes_tafregh.php
ـ[سفيان السلفي]ــــــــ[29 - 03 - 10, 03:59 م]ـ
جزاك الله خيراً
ـ[سفيان السلفي]ــــــــ[29 - 03 - 10, 04:01 م]ـ
جزاك الله خيرا ووفقكم لإتمام هذه السلسلة المباركة، لم يبقى إلا القليل يا شيخ إبراهيم.
ـ[سفيان السلفي]ــــــــ[29 - 03 - 10, 04:03 م]ـ
بارك الله فيكم و في عقبكم و كتب لكم أجر هذا العمل و من عمل به و رفع درجاتكم في الدنيا و الآخرة.(80/193)
طلب كتاب: ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للحافظ الذهبي
ـ[أبو حسين العلوي]ــــــــ[20 - 11 - 09, 12:48 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نرجو من الاخوة أن يتفضلوا علينا بكتاب ((ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل))
للحافظ الذهبي
ـ[أبو المظفر السِّنَّاري]ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:42 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نرجو من الاخوة أن يتفضلوا علينا بكتاب ((ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل))
للحافظ الذهبي
إليك الكتاب:
ـ[إبراهيم الأبياري]ــــــــ[22 - 11 - 09, 07:38 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حمِّل: «أربع رسائل في علوم الحديث» من هنا:
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=1721
الرسالة الرابعة هي: «ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل».(80/194)
ما هو أفضل كتاب في تاريخ الدولة العثمانية؟
ـ[محمد براء]ــــــــ[20 - 11 - 09, 01:37 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ما هو أفضل كتاب في تاريخ الدولة العثمانية؟.
ـ[مكتب زهير الشاويش]ــــــــ[20 - 11 - 09, 02:04 م]ـ
سمعت وقرأت مدحاً لكتاب الدكتور علي حسون (تاريخ الدولة العثمانية).
وأيضاً لكتاب المؤرخ العلامة محمود شاكر (العهد العثماني) من ضمن سلسلة التاريخ الاسلامي الشهيرة.
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[20 - 11 - 09, 02:27 م]ـ
من افضلها
تاريخ الدولة العثمانية للتركي يلماز اوزثونيا
وهناك كتاب جيد اختصره من تاريخ جودت التركي تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد
http://rapidshare.com/files/194799236/Tareekh_Al-Othmanya_by_Lolo.pdf
وهناك
الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط للصلابي
http://www.alsallaby.com/books/othmania.rar
ـ[أبو سليمان العسيلي]ــــــــ[20 - 11 - 09, 03:15 م]ـ
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
جزا الله أخي محمد خير الجزاء
و أضيف عليه:
الدولة العثمانية المجهولة 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=189998
المكتبة العثمانية Pdf
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=134170
ـ[محمد السيد ابراهيم]ــــــــ[20 - 11 - 09, 05:02 م]ـ
احسن كتاب في تارخ الدولة العثمانية هو كتاب د. عبد العزيز الشناوي. الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها. وهو في ثلاث مجلدات كبار.
ولا تحسب من عنوان الكتاب انه سار في طريق مدحها دون النظر الى اخطائها بل احسبه كان موضوعيا.
ويتميز بانه متخصص في التاريخ الاسلامي الحديث
اما الكتب التي اشار ليها الاخوة فعلى العين والراس لكن معظم كتابها غير متخصصين ولا متتبعين بالدرجة الكافية وفي كل خير والله المستعان.
ـ[مكتب زهير الشاويش]ــــــــ[20 - 11 - 09, 05:12 م]ـ
اما الكتب التي اشار ليها الاخوة فعلى العين والراس لكن معظم كتابها غير متخصصين ولا متتبعين بالدرجة الكافية وفي كل خير والله المستعان. [/
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
UOTE]
لا يا سيدي .. مؤلفا الكتابين اللذين ذكرتهما من المتخصصين او المتابعين او الاثنين معاً ..
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[20 - 11 - 09, 09:10 م]ـ
اما الكتب التي اشار ليها الاخوة فعلى العين والراس لكن معظم كتابها غير متخصصين ولا متتبعين بالدرجة الكافية وفي كل خير والله المستعان.
كلامك غير صحيح أخي بل كما ذكرت ان افضل كتاب للمورخ الشهير يلماز (تاريخ الدولة التركية)
وكتاب تاريخ الدولة العلية لمحمد فريد وهو مؤرخ وقد اختصره من كتاب تاريخ جودت التركي ذي الثمانة اجزاء
والصلابي غني عن التعريف
وهذا كتابالمدخل إلى التاريخ التركي للمؤرخ التركي الشهير يلماز السالف الذكر
ترجمةو تحقيق أرشد الهرمزي
من النيل والفرات
هذا الكتاب يضم الجزء الأول والثاني من كتاب –تاريخ تركيا- الذي ألفه المؤرخ البحاثة الشهير يلماز أوزطونا بدءاً من وجود الترك على وجه البسيطة وحتى العصر الحديث. ويقتصر الجزء الأول في هذا الكتاب على نشأة الأتراك، ومناطقهم الجغرافية، والدول التركية الكبرى في الهند والصين وأقطار أخرى قبل الإسلام وبعده.
ويتابع المؤلف ليسلط الضوء على السلاجقة والغزنويين، كما يبحث في انفتاح الأتراك على القارة الأوروبية.
ويتطرق الكتاب في قسمه الثاني إلى الأناضول وتركيا، ويزود القارئ بأدق المعلومات عن الحروب الصليبية واشتراك الأتراك في ردّ تلك الحملات، كما يعطي القارئ معلومات واسعة ودقيقة عن إمارات الأناضول ودولها التركية.
والكتاب ملف وثائقي هام يكشف عن إسهام الأتراك في حضارة الشرق، كما يشكل مرجعاً لا غنى عنه في كل ما يتعلق بالأمة التركية قبل نشوء الإمبراطورية العثمانية وقد نقل هذين الجزئين إلى اللغة العربية الباحث المعروف أرشد الهرمزي.
وما من شك أن المترجم قد نجح في عمله نجاحاً كبيراً يعود إلى ثقافته التركية والعربية وإتقانه اللغتين، وتعمقه في تاريخ الترك ورجوعه إلى ما ألف في هذا المجال.
كل ذلك أضفى على هذه الترجمة سمة الدقة في المضمون، والروعة في جمالية الأسلوب، فالكتاب يعد ذخراً للمؤرخين والباحثين والقراء.
الرابط
http://www.mediafire.com/?y1nowoyammm
ـ[وليد]ــــــــ[20 - 11 - 09, 09:21 م]ـ
لعل هذا الكتاب يفيدك
تاريخ بني عثمان من نشأتهم حتى الآن
http://www.4shared.com/file/125421737/3a683a7f/________.html(80/195)
سؤال عن تحقيقات الشيخ مساعد الراشد.
ـ[محمد المبارك]ــــــــ[20 - 11 - 09, 04:19 م]ـ
الشيخ الكريم مساعد بن سليمان الراشد الحميد
محقق كتاب الجهاد لابن ابي عاصم
هل له تحقيقات اخرى.
وهل هناك نبذة عنه
ـ[عبد الرحمن العدناني]ــــــــ[20 - 11 - 09, 07:39 م]ـ
هذه بعض الكتب التي حقق اضغط على اسم الكتاب لترى التفاصيل
http://www.kfnl.gov.sa:88/ipac20/ipac.jsp?session=T2535R4706O06.959457&profile=akfnl&uindex=BAW&term=%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF%20%D8%8C %20%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%AF%20%D8%A8%D9%86%2 0%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86&aspect=basic&menu=search&source=172.16.16.74@!kfnl1256
وانظر هنا الرسالة رقم1
http://www.merbad.net/vb/showthread.php?t=2433&page=117
ـ[محمد المبارك]ــــــــ[20 - 11 - 09, 10:34 م]ـ
بارك الله فيك اخي العزيز(80/196)
هل هناك كتب مطبوعة متعلقة بالكتب الستة جرت علي نفس طريقة الشيخ عبد الله القرعاوي؟
ـ[أبو عبد الله الزبيدي]ــــــــ[20 - 11 - 09, 10:39 م]ـ
هل هناك كتب مطبوعة متعلقة بالكتب الستة جرت علي نفس طريقة الشيخ عبد الله القرعاوي في كتابه المحصل لمسند أحمد من حيث جمع طرق كل حديث صحابي في موضع واحد؟
ـ[صهيب عبدالجبار]ــــــــ[21 - 11 - 09, 08:01 ص]ـ
انظر هذا الرابط ربما يفيدك
http://www.almeshkat.com/books/open.php?cat=8&book=2290(80/197)
كتاب النوادر لأبي مسحل (بصيغة الشاملة)
ـ[علي ابن جابر]ــــــــ[21 - 11 - 09, 05:50 ص]ـ
كتاب نفيس في اللغة
ـ[أبو مريم العراقي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 07:10 ص]ـ
بارك الله فيك.
لكن الكتاب ملفه غير معروف.
ـ[علي ابن جابر]ــــــــ[21 - 11 - 09, 08:47 ص]ـ
تفضل يا أخي رفعته مرة أخري
ـ[أبو مريم العراقي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:23 ص]ـ
أحسنت، بارك الله فيك.
ـ[محمد أمنزوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:39 م]ـ
جزاك الله خيرا(80/198)
طلب كتاب: (مكانة أصول الفقه في الثقافة المحظرية)
ـ[تلميذة الملتقى]ــــــــ[21 - 11 - 09, 06:23 ص]ـ
للباحث الموريتاني: محمد محفوظ بن أحمد، فمن يرفعه لنا؟
نفعنا الله بعلمكم.(80/199)
تفضلوا: (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) للسمهودي تحقيق قاسم السامرائي + رسالة ماجستير
ـ[إبراهيم أمين]ــــــــ[21 - 11 - 09, 08:39 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المصدر: من الأخوين الكريمين مشرف الشهري، وأبي رقية الذهبي – حفظهما الله وغفر لهما –
(((وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى)))
تأليف: نور الدين علي بن عبد الله السمهودي
تحقيق وتقديم د.: قاسم السامرائي
مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 2001م
عدد الأجزاء: خمسة
http://www.mediafire.com/?zcd3imzmwju
http://www.mediafire.com/?umlanjqdjnw
http://www.mediafire.com/?31m5hyhu0ez
http://www.mediafire.com/?zidtrjnzwzm
http://www.mediafire.com/?wlxxmytnoj0
** ( موارد السمهودي ومنهجه التاريخي في كتابه وفاء الوفا بأخبار المصطفى)
ماجستير 1420هـ، 409ص، الباحثة: هدى محمد سعيد، المشرف أ. د: محمد المنسي محمود
http://www.mediafire.com/?gnztt32iuyw
وعندي هذا الكتاب
(((خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى مجلدان)))
تحقيق د: محمد الأمين الجكني
فإن أراده الإخوة رفعته (والله الموفق والمستعان)
** (((لا تحرمونا صالح الدعاء))) **
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[21 - 11 - 09, 10:53 ص]ـ
جزاك الله كل خير وفتح الله عليك وأعطاك الله الصحة والعافية.
ـ[خال ساجد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:52 م]ـ
بارك الله فيك
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[21 - 11 - 09, 02:19 م]ـ
وعندي هذا الكتاب
(((خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى مجلدان)))
تحقيق د: محمد الأمين الجكني
فإن أراده الإخوة رفعته (والله الموفق والمستعان)
أيوا جُد جُد (جود)!
ـ[أبو زيد الشيباني]ــــــــ[21 - 11 - 09, 02:20 م]ـ
جزاك الله كل خير وفتح الله عليك وأعطاك الله الصحة والعافية.
كده ولا بلاش!
ـ[حسين بن حيدر]ــــــــ[21 - 11 - 09, 03:56 م]ـ
جزاك الله خيراً في هذا الشهر الكريم وأيام الحج العشر
ـ[المنصور]ــــــــ[21 - 11 - 09, 05:00 م]ـ
الملف الأخير لم أستطع تحميله. يدخل الرابط على صفحة التحميل وكلما ضغطت download يتم تحديث الصفحة؟
ـ[أبو هادي المزيد]ــــــــ[01 - 03 - 10, 03:59 م]ـ
أرجوكم أشد الرجا
إذا في أحد يستطيع أن يرفعه وورد فهذا أفضل وأعم للفائدة لكي يستطيع الواحد أن يستفيد منه أكثر، وهو أقرب إلى الفائدة وحفظ الوقت.
أرجو أن يكون الرد سريع بنعم إن شاء الله أو ما نقدر
والعفو منكم
- - -
ـ[مصعب الجهني]ــــــــ[01 - 03 - 10, 08:36 م]ـ
أعجل علينا بتحقيق الجكني
فقد وجدته أفضل من أخرج تاريخ السمهودي
ـ[أبو زيد الخير]ــــــــ[02 - 03 - 10, 11:50 ص]ـ
تفضلوا: (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى) نسخة للشاملة لكن لا يوجد في بطاقة الكتاب أي معلومات و الظاهر أنه موافق لنسخة مطبوعة و محقق ... ففي آخره قال محققه جزاالله خيراً:
و قد تم بحمد ذي القدرة و الجبروت، الذي بيده ملكوت السموات و الأرض- تحقيق هذا الكتاب المبارك إن شاء الله في شهر رمضان المعظم من سنة 1374 ه، و الله سبحانه ولي التوفيق و السداد،
... فمن عنده معلومات عن هذه النسخة فليتفضل بإفادة إخوانه بها
ـ[أبو زيد الخير]ــــــــ[08 - 03 - 10, 12:39 م]ـ
هل من معلومات عن بطاقة الكتاب زيادة على ما وجدتُ في هذه النسخة:
الكتاب: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى اللّه عليه و سلم
تأليف: الشّيخ العلّامة نور الدّين علي بن أحمد السّمهودي
المتوفى 911 هـ
اعتنى به و وضع حواشيه خالد عبد الغني محفوظ
... بارك الله فيكم
ـ[محمد رضوان صالح]ــــــــ[09 - 03 - 10, 11:26 ص]ـ
هذه نسخة من كتاب وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى موافقة للمطبوع(80/200)
القرآن الكريم الإصدار الثالث 25 مقرئا و أكثر
ـ[ saead] ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:48 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
القرآن الكريم الإصدار الثالث
اخر إصدار من البرنامج
v3.4
2009-2010
25 مقرئا و أكثر
برنامج كلام الله عز وجل
المصحف المرتل والمصحف المجود و المصحف المعلم للأطفال
واجهة الاسطوانة
http://sites.google.com/site/qurankareemcom/_/rsrc/1255542800605/httpsitesgooglecomsitequrankareemcom/ast1.jpg
صورة البرنامج
http://sites.google.com/site/qurankareemcom/_/rsrc/1256068336057/prameg/klmm/ddfgdh.jpg?height=737&width=1024
http://sites.google.com/site/qurankareemcom/_/rsrc/1252101531060/httpsitesgooglecomsitequrankareemcom/Untitled2.jpg?height=600&width=800
لا يوجد حقوق محفوظة لبرنامج القرآن الكريم هذا الحافظ هو الله رب العالمين
((كما يمكنك تسجيل صوتك وإضافته للبرنامج كما في الصورة السابقة))
لتحميل الاسطوانة:
http://sites.google.com/site/qurankareemcom/prameg/klmm
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:34 م]ـ
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم أخي الفاضل
وقد رأيت من فترة موسوعة للقراء وكان فيها حوالي سبع قراء وحجمها حوالي 25 ميجا فقط؟
فهلا تكرم بعض الأفاضل بتوفيرها لصغر حجمها؟
لأن الموجودة الآن حجمها يقارب 700 ميجا إلا قليلا
وجزاكم الله خيرا وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى
ـ[ saead] ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:44 م]ـ
أولا: وفيك بارك الله وجزاك بمثله.
وثانيا: لا يعقل أخي العزيز أن هناك موسوعة لسبعة قراء بهذا الحجم إلا إن كان التشغيل عن طريق النت فنعم، لكن هذه الموسوعة تشغيل من جهازك لا من النت، لذلك تجد حجمها كما ذكرت، وعموما أخي اصبر على تحميلها فهي رائعة وقد أخذت مني وقت في التحميل ولكنها الآن كاملة عندي بفضل الله.
أسأل الله أن ييسر لك وللجميع.
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:55 م]ـ
أولا: وفيك بارك الله وجزاك بمثله.
وثانيا: لا يعقل أخي العزيز أن هناك موسوعة لسبعة قراء بهذا الحجم إلا إن كان التشغيل عن طريق النت فنعم، لكن هذه الموسوعة تشغيل من جهازك لا من النت، لذلك تجد حجمها كما ذكرت، وعموما أخي اصبر على تحميلها فهي رائعة وقد أخذت مني وقت في التحميل ولكنها الآن كاملة عندي بفضل الله.
أسأل الله أن ييسر لك وللجميع.
بارك الله فيكم أخي وجزاكم خيرا على دعائكم لي ويسر الله لك وجزاك عنا خيرا كثيرا
وقد كانت عندي فعلا موسوعة لسبعة قراء لا تتجاوز 25 ميجا وقد حزنت جدا لفقدها في عطب لجهازي وأتمنى لو حصلت عليها مرة أخرى.
جزاكم الله عنا خيرا وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى
ـ[ saead] ــــــــ[21 - 11 - 09, 01:07 م]ـ
وقد كانت عندي فعلا موسوعة لسبعة قراء لا تتجاوز 25 ميجا
عجبا لهذا الأمر!!!
حسنا ألا تتذكر اسمها حتى؟ لعلني أتمكن من العثور عليها بإذن الله.
بارك الله فيكم أخي وجزاكم خيرا على دعائكم لي ويسر الله لك وجزاك عنا خيرا كثيرا
جزاكم الله عنا خيرا وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى
وأيضا أقول آمين ولك بمثله.
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 01:12 م]ـ
عجبا لهذا الأمر!!!
حسنا ألا تتذكر اسمها حتى؟ لعلني أتمكن من العثور عليها بإذن الله.
وأيضا أقول آمين ولك بمثله.
حفظك الله أخي
كل ما أذكره عنها أن اللون الغالب عليها كان هو اللون الأصفر وكان شكل الأيقونة على شكل مصحف مفتوح
والقراء السبعة أتذكر كان فيها:
السديس ـ الشريم ـ القحطاني ـ الغامدي ـ المنشاوي
ولا أذكر الباقين.
ولا عجب أخي من هذا الأمر فقد وجدت سورة البقرة لبعض القراء بحجم 2 ميجا تقريبا ووجدتها في موقع آخر حوالي 60 ميجا أو أكثر
أظن حصل معي هذا في المصحف الذي بصوت الشيخ المعيقلي إن لم تخني الذاكرة
وجزاكم الله خيرا وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى(80/201)
كتاب (الدرة الثمينة في أخبار المدينة) لابن النجار
ـ[العابري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:42 م]ـ
من يتكرم برفعه مصوراًً ( pdf) ، حيث أن رابطه الحالي الموجود على النت لا يعمل
جزاكم الله خيرا(80/202)
اقتراح مهم للمكتبة الوقفية وملتقى الحديث والألوكة
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:45 م]ـ
السلام عليكم
هل يمكن للمكتبة الوقفية أن تصنع عندها قائمة بريدية مثلما نرى في بعض المواقع بحيث تقوم بإرسال قائمة بالكتب الجديدة لكل العناوين التي في قائمتها البريدية؟
وهل يمكن للألوكة وملتقى الحديث وغيرها من المواقع الإسلامية المهتمة بالكتب أن تصنع الأمر نفسه وترسل للعناوين قائمة بالكتب الجديدة كل أسبوع؟
رجاء التفكير في هذا الاقتراح وتطبيقه إن أمكن لكونه سيفيدنا في معرفة الكتب الجديدة التي تم تصويرها في كل المواقع
وكذلك سيفيدنا في معرفة الكتب المطبوعة حديثا
وحبذا لو كانت القائمة على شكل مفصل يعني:
كتب طبعت حديثا ونزلت للأسواق:
كتب تم تصويرها حديثا ونزلت في موقع المكتبة الوقفية:
كتب للشاملة حديثا ونزلت في موقع كذا ...
كتب يتوقع صدورها للطباعة حديثا ....
وممكن في هذا القائمة أن يتم إرسال أخبار الكتب الجديدة أو الإعلانات أو أي فوائد خاصة بالكتب
وممكن أيضا الاستفادة منه في تنبيهنا للموضوعات المهمة التي ينبغي مطالعتها
أو الأبحاث المفيدة التي يضعها المشايخ الكرام في المنتدى
فرجاء التفكير في إمكانية تطبيق هذا الاقتراح خاصة في المكتبة الوقفية وملتقى الحديث والألوكة
وجزاكم الله خيرا وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى
ـ[أبو معاذ السلفي المصري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 01:22 م]ـ
بارك الله فيك
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 09:37 م]ـ
وبارك الله فيكم أخي وجزاكم الله خيرا
ـ[أسامة بن يحيى الجزائري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 10:55 م]ـ
اقتراح مهم أرجو إيضاله للمعنيين
وبارك الله في الناصح
ـ[أبو مهند المصري]ــــــــ[22 - 11 - 09, 04:12 ص]ـ
اقتراح موفق، بارك الله فيكم.
ـ[أبو محمد عثمان الأنصاري]ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:29 م]ـ
اقتراح موفق
ـ[يحيى صالح]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:30 م]ـ
اقتراحك ممتاز يا أخي / شتا
بارك الله فيك
حبذا لو أخذوا به فعلاً.
ـ[أبو ياسر الداعي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 03:15 ص]ـ
لا فض فوك ولا شلت يمينك
نعم الرأي السديد(80/203)
أحاديث عشر ذي الحجة وأيام التشريق أحكام وآداب ويليها رسالة في أحاديث شهر الله المحرم.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[21 - 11 - 09, 12:48 م]ـ
كتاب أحاديث عشر ذي الحجة وأيام التشريق أحكام وآداب ويليها رسالة في أحاديث شهر الله المحرم.
تأليف: عبد الله بن صالح الفوزان.
نبذة مختصرة: أحاديث عشر ذي الحجة وأيام التشريق أحكام وآداب ويليها رسالة في أحاديث شهر الله المحرم: رسالة مشتملة على جُملٍ مختصرة من الأحكام والآداب المتعلقة بعشر ذي الحجة وأيام التشريق، و في آخرها رسالة صغيرة في «أحاديث شهر الله المحرم» لا سيما ما ورد من الأحاديث في صيام عاشوراء، وما يتعلق به من أحكام.
حمل الكتاب:
1. بصيغة PDF (http://www.islamhouse.com/d/files/ar/ih_books/single/ar_hadeeths_in_the_rulings_and_etiquettes_of_the_t en_of_dhu_al-hijjah.pdf)
2. بصيغة Word (http://www.islamhouse.com/d/files/ar/ih_books/single/ar_hadeeths_in_the_rulings_and_etiquettes_of_the_t en_of_dhu_al-hijjah.doc)
ـ[ saead] ــــــــ[21 - 11 - 09, 01:48 م]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/fdgdfg.gif
ـ[أبو عبد الله البلتاني]ــــــــ[21 - 11 - 09, 02:26 م]ـ
جزاك الله خير يا أخي الحبيب , كتيب فوق الرائع
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:18 م]ـ
جزاكم الله خير الجزاء وبارك فيكم وأورثكم الفردوس الأعلى على مروركم الكريم.
ـ[هشام جبر]ــــــــ[22 - 11 - 09, 06:36 م]ـ
أحد الإخوة الأفاضل قد أعد رسالة جامعية عن فضل عشر ذي الحجة _ أحاديثها جمعا ودراسة، وقد طبع منذ فترة وقرأت إعلانه في مجلة البيان لكن لا أذكر العدد لآتي بالبيانات كاملة .... فهل يذكر أحد الإخوة مثل هذا الكتاب؟(80/204)
حجة الوداع لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[21 - 11 - 09, 01:14 م]ـ
حجة الوداع.
لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم.
حمل الكتاب من هنا ( http://www.4shared.com/file/156463892/df151c88/Hajjat_El_Ouada.html)
ـ[ saead] ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:45 م]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/dfgdfgdfg.gif
على ما أتحفتنا به من كتب وعلى هذه الهمة.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[21 - 11 - 09, 07:49 م]ـ
أشكر مرورك العطر وجزاك الله خيرًا أخي الكريم سعيد.
ـ[أسامة بن يحيى الجزائري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:01 م]ـ
أي طبعة هاته أيها الحبيب؟!
ـ[أبويعلى البيضاوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 01:11 م]ـ
الكتاب وورد
يسر الله طيعة مصورة , وللكتاب ثلاث طبعامة العلمية والافكار الدولية ودار ابن ابن حزم
ومن احسنها الطبعة الاخيرة
ـ[أبويعلى البيضاوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 01:17 م]ـ
الكتاب وورد
يسر الله طيعة مصورة , وللكتاب ثلاث طبعات العلمية والافكار الدولية ودار ابن ابن حزم
ومن احسنها الطبعة الاخيرة
ـ[أسامة بن يحيى الجزائري]ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:08 م]ـ
والأخيرة بتحقيق عبد الحق التركماني؛ وهو معروف بالاعتناء بكتب ابن حزم ...
وطبعته جيدة تقع في مجلد ضخم والحمد لله فقد اقتنيته.
يسر الله أن يصور ويرفع(80/205)
قائمة كتب في موقع أرشيف
ـ[مشرف الشهري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 01:33 م]ـ
تفضل من هنا
http://www.archive.org/bookmarks/barribar
ـ[أبو سليمان العسيلي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:13 م]ـ
جزاك الله خير و بارك بك و بعلمك
ـ[فوزى محمد أمين ملطان]ــــــــ[02 - 12 - 09, 04:02 م]ـ
جزاك الله خير
ـ[ابو اسحاق فيصل الاحمداني]ــــــــ[02 - 12 - 09, 04:14 م]ـ
بارك الله فيك ايها الفاضل جزاك الله خيرا(80/206)
خمسة كتب جديدة للشاملة
ـ[علي ابن جابر]ــــــــ[21 - 11 - 09, 03:12 م]ـ
تفضلوا أيها الإخوان هذه خمسة كتب أهديها لكم بصيغة الشاملة
ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[21 - 11 - 09, 03:18 م]ـ
هدية مباركة
في أيام مباركة
شكرا لك
وبارك الله فيك
وجزاك الله خيرا
ـ[أبو مريم العراقي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:12 م]ـ
بارك الله فيكم، و أنا أقترح عليك أن تقدم للإخوة: "كشف اللثام"، و "الإعلام" ....
ـ[هاني القزاز]ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:21 م]ـ
ماشاء الله
لاقوة إلا بالله
ـ[أبو إبراهيم حسانين]ــــــــ[21 - 11 - 09, 08:18 م]ـ
جزاك الله خيرا يا شيخ علي وبارك فى جهودكم المثمرة
ـ[زياد التونسي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 09:11 م]ـ
هل الكتب موافقة للمطبوع
ـ[أبو كوثر الصادقي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 07:08 م]ـ
جزاك الله خيرا ...
ولفائدة الإخوان:
أن كتاب (أدب الغرباء)، لأبي الفرج الأصبهاني،
تحقيق: الدكتور صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد - بيروت، نة 1972م.
ـ[محمد أمنزوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:14 م]ـ
بارك الله فيك وجعل هذه الهدية في ميزان حسناتك
ـ[أبو سليمان الجسمي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 07:59 م]ـ
جزاك الله خيرا على الهدية.(80/207)
الشرح الكبير للمقدمة الجزرية في التجويد للدكتور غانم قدوري الحمد
ـ[عمر موفق محمد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 03:49 م]ـ
من يستطيع تصويره ورفعه. وهناك كتاب آخر ملخص لشرح الجزرية لنفس المؤلف
الشرح الكبير للمقدمة الجزرية في التجويد للدكتور غانم قدوري الحمد
ـ[عمر موفق محمد]ــــــــ[14 - 12 - 09, 10:14 م]ـ
ضروري جدا من يتبرع مشكورا بتصوير الكتاب
ـ[ابا عبد الله السهيل]ــــــــ[15 - 12 - 09, 12:26 م]ـ
اضم صوتي الى الاخوة وجزاكم الله خيرا
ـ[حسين بن محمد]ــــــــ[28 - 06 - 10, 09:18 م]ـ
تفضل:
تجده هنا وغيره:
http://www.shatiby.edu.sa/index.php?op=newpublish
ـ[عمر موفق محمد]ــــــــ[28 - 06 - 10, 10:21 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[هشام جبر]ــــــــ[29 - 06 - 10, 07:46 م]ـ
نسخة الشرح الكبير تنزل معطوبة .... برجاء من القائمين العمل على إصلاحها
ـ[أبو عبد الله الزبيدي]ــــــــ[30 - 06 - 10, 04:36 م]ـ
نسخة الشرح الكبير تنزل معطوبة .... برجاء من القائمين العمل على إصلاحها
بل تعمل
شغلتها على برنامج foxit
ـ[ابوخالد الحنبلى]ــــــــ[02 - 07 - 10, 12:54 م]ـ
ارفعه لنا
ـ[الدسوقي]ــــــــ[02 - 07 - 10, 08:54 م]ـ
برنامج Foxit Reader 1.3
لقراءة ملفات بي دي اف، يعمل بدون تنصيب، وخفيف عل الجهاز.
ـ[ابوخالد الحنبلى]ــــــــ[02 - 07 - 10, 10:42 م]ـ
اريد الكتاب لا البرنامج اين الكتاب
ـ[الدسوقي]ــــــــ[03 - 07 - 10, 01:30 ص]ـ
هذا البرنامج هدية للأخ الفاضل هشام جبر، رزقه الله بزوجات صالحات.
وأما الكتاب = الشرح الكبير للمقدمة الجزرية؛ فحمله من هذا الرابط المباشر الذي يدعم استئناف التحميل، علما أنك لن تستطيع فتحه بأدوب أكروبات، وإنما بالبرنامج السابق:
http://www.shatiby.org/Books/shrah_Algzariah/shrah_Algzariah_m.pdf
ـ[حسين بن محمد]ــــــــ[03 - 07 - 10, 01:33 ص]ـ
اريد الكتاب لا البرنامج اين الكتاب
هذه روابط مباشرة:
- شرح المقدمة الجزرية - أ. د غانم قدوري الحمد. ( http://www.shatiby.org/Books/shrah_Algzariah/shrah_Algzariah_m.pdf)
- الشرح الوجيز على المقدمة الجزرية - أ. د غانم قدوري الحمد. ( http://www.shatiby.org/Books/Acharh_Alogiz/Acharh_Alogiz_m.pdf)
- الميسر في علم التجويد - أ. د غانم قدوري الحمد. ( http://www.shatiby.org/Books/Al_misr/Al_misr_m.pdf)
- تعليم تدبر القرآن الكريم - د. هاشم بن علي الأهدل. ( http://www.shatiby.org/Books/Talim_Tdber_AL_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
uran/Talim_Tdber_AL_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
uran_m.pdf)
- منهج الاستنباط من القرآن الكريم - فهد بن مبارك بن عبد الله الوهبي. ( http://www.shatiby.org/Books/Menhj_Alastenbat/Menhj_Alastenbat_m.pdf)
- إقراء القرآن الكريم - دخيل بن عبد الله الدخيل. ( http://www.shatiby.org/Books/Iqra_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
uran/Iqra_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
uran_m.pdf)
- المحرر في علوم القرآن - د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار. ( http://www.shatiby.org/Books/Al_Mahrr/Al_Mahrr_m.pdf)
ـ[هشام جبر]ــــــــ[04 - 07 - 10, 07:54 م]ـ
هذا البرنامج هدية للأخ الفاضل هشام جبر، رزقه الله بزوجات صالحات.
وأما الكتاب = الشرح الكبير للمقدمة الجزرية؛ فحمله من هذا الرابط المباشر الذي يدعم استئناف التحميل، علما أنك لن تستطيع فتحه بأدوب أكروبات، وإنما بالبرنامج السابق:
http://www.shatiby.org/Books/shrah_Algzariah/shrah_Algzariah_m.pdf
بارك الله فيك شيخنا الجليل
وها هو رابط مباشر للكتاب بلا أية مشكلة بإذن الله
http://www.4shared.com/get/329239035...d66/_____.html (http://www.4shared.com/get/329239035/16f2ed66/_____.html)
ـ[ابوخالد الحنبلى]ــــــــ[07 - 07 - 10, 10:40 م]ـ
من هنا
http://majles.alukah.net/showthread.php?p=384855#post384855
وسيفتح باكروبات ان شاء الله
ـ[ابوخالد الحنبلى]ــــــــ[07 - 07 - 10, 10:42 م]ـ
او
http://www.4shared.com/get/329239035/16f2ed66/_____.html
والمختصر
http://www.4shared.com/get/329190803/6b836fad/____.html
الميسر في علم التجويد
http://www.4shared.com/document/h6ksKMAK/___.html?err=no-sess
ـ[أبو عمر محمد بن إسماعيل]ــــــــ[24 - 09 - 10, 06:57 م]ـ
أحسن الله إليكم ونفع بكم(80/208)
أريد كتاب غرر المقالة لابن حمامة المغراوي
ـ[الترفاس رشيد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:47 م]ـ
السلام عليكم
أريد كتاب غرر المقالة لابن حمامة المغراوي، علما بأن الرابط الموجود على النت لا يعمل
فلا أدري هل الخلل في الرابط ام في الجهاز
ومن كان عنده رابط آخر للتحميل فلا يبخل علي به جزاه الله كل خير
ـ[ saead] ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:49 م]ـ
تفضل أخي ها هو الكتاب:
http://ia311024.us.archive.org/3/items/Resalah_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ayrawany/Resalah_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ayrawany.pdf(80/209)
أربد كتاب غرر المقالة
ـ[الترفاس رشيد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 04:51 م]ـ
السلام عليكم
أريد كتاب غرر المقالة لابن خمامة المغراوي علما بأن الرابط الموجود الآن على النت فيما بلغي لا يعمل
فمن كان له رابط آخر فلا يبخل علي به جزاه الله خيرا
ـ[محمدزين]ــــــــ[21 - 11 - 09, 06:18 م]ـ
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
يمكنكم تحميله من مدونة الفقه المالكي
وهذا رابط الكتاب في المدونة
http://malikiaa.blogspot.com/2009/09/blog-post_22.html
ـ[الترفاس رشيد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 10:25 م]ـ
السلام عليكم
جربت هذا الرابط لكنه لا يعمل
ـ[محمدزين]ــــــــ[22 - 11 - 09, 03:10 ص]ـ
أخي الكريم الرابط يعمل
إذا دخلت إلى صفحة المدونة انظر في الاسفل (قرب غلاف الكتاب) تجد كلمة (تحميل)
ولتسهيل الأمر عليك خذ الرابط المباشر
http://www.archive.org/download/Resalah_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ayrawany/Resalah_
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ayrawany.pdf
ـ[الترفاس رشيد]ــــــــ[22 - 11 - 09, 05:10 م]ـ
السلام عليكم
إن هذا الكتاب لا يريد أن يعمل في جهازي
فأرجو من أحد الإخوة الأفاضل أن يحمله لديه، ثم يضغطه ويغير له طريقة التحميل، كأن يضععه في (طق طق) مثلا أو غيرها.
وله مني الدعوات في هذه العشر الأوائل من ذي الحجة(80/210)
أين أجد جزء قراءات النبي صلى الله عليه وسلم للدوري
ـ[شتا العربي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 05:05 م]ـ
رجاء التكرم بتصوير هذا الكتاب للحاجة الماسة
جزء فيه قراءات النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عمر الدوري
ـ[شتا العربي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 09:29 ص]ـ
==============
ـ[حسين بن محمد]ــــــــ[02 - 12 - 09, 06:53 ص]ـ
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=3467(80/211)
ندوة في موضوع: تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأثره في تقليل الاختلاف (دار الحديث الحسنية بالمغرب)
ـ[معاذ الطالب]ــــــــ[21 - 11 - 09, 09:15 م]ـ
نظمت دار الحديث الحسنية يومين دراسيين تحت موضوع:
تمييز أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأثره في تقليل الاختلاف
وتميزت هذه الندوة بمشاركة مجموعة من المشايخ والأساتذة الفضلاء من داخل المغرب وخارجه، منهم الأستاذ محمد الروكي والأستاذ الحسين آيت سعيد والشيخ محمد عوامة والدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وغيرهم.
ويوجد بالمرفقات البرنامج المفصل لهذه الندوة المباركة
ـ[ابن العدوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 12:09 ص]ـ
جزاكم الله عز وجل خيرا(80/212)
متن السلم المنورق بصوت طه الفهد مقسم حسب أبواب المتن
ـ[النهاري]ــــــــ[21 - 11 - 09, 09:18 م]ـ
أخواني بارك الله فيكم
أحببت أن أشارك بهذه المشاركة البسيطة
على هذا الرابط تجدون متن السلم المنورق بصوت طه الفهد مُقَسَّم حسب أبواب المتن
http://rapidshare.com/files/310226697/________________________________________.ZIP
ـ[محمد سعيد الأبرش]ــــــــ[23 - 11 - 09, 09:36 ص]ـ
بارك الله فيك، ولكن حبذا لو كان على غير هذا الموقع.
ـ[طه محمد عبدالرحمن]ــــــــ[05 - 01 - 10, 01:39 م]ـ
بارك الله فيك.
ـ[أبو سلمى رشيد]ــــــــ[15 - 04 - 10, 10:56 م]ـ
أخواني بارك الله فيكم
أحببت أن أشارك بهذه المشاركة البسيطة
على هذا الرابط تجدون متن السلم المنورق بصوت طه الفهد مُقَسَّم حسب أبواب المتن
http://rapidshare.com/files/310226697/________________________________________.ZIP
بارك الله فيك وفي الشيخ
لكن الملاحظات هي نفسها يا شيخنا
ـ[حسان الشافعي]ــــــــ[15 - 04 - 10, 11:09 م]ـ
بارك الله فيك، ولكن حبذا لو كان على غير هذا الموقع.
تفضل أخي هذه 5 روابط أخرى
بارك الله فيكم
ـ[حسان الشافعي]ــــــــ[16 - 04 - 10, 12:04 ص]ـ
عذرا
هذا هو الرابط
http://www.multiupload.com/O1MH9VDDF2(80/213)
تفضلوا: (خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى) مجلدان
ـ[إبراهيم أمين]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:11 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المصدر: من الأخوين الكريمين مشرف الشهري، وأبي رقية الذهبي – حفظهما الله وغفر لهما –
(((خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى مجلدان)))
تحقيق د: محمد الأمين الجكني
فإن أراده الإخوة رفعته (والله الموفق والمستعان)
http://www.mediafire.com/?2ayzw4ytytd
http://www.mediafire.com/?tgttm2dzqw1
**((( لا تحرمونا صالح الدعاء))) **(80/214)
تفضلوا: (الخلاصة النحوية) لـ تمام حسان رحمه الله
ـ[إبراهيم أمين]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:12 م]ـ
تفضلوا: (الخلاصة النحوية) لـ تمام حسان رحمه الله
http://www.mediafire.com/?zjwyhjzo3hq
**((( لا تحرمونا صالح الدعاء))) **
ـ[أبو أسامه]ــــــــ[22 - 11 - 09, 01:59 م]ـ
..
كتاب رائع جدًا .. فيه خرائط وتخطيطات مفيدة.
ولكن أخي الكريم: الصفحات من 113 إلى 128؛ فيها خلل من التصوير.
وبارك الله فيكم.
..(80/215)
حمل التعليقات الرضية على الروضة الندية للالباني
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:27 م]ـ
http://www.megaupload.com/?d=FN92KXZI
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[22 - 11 - 09, 07:18 م]ـ
جَزَاكُ اللّه خيراً أَخِي الْكَرِيم.
في ميزان أعمالك إن شاء الله.
ـ[عبد الأحد بن محمد]ــــــــ[30 - 11 - 09, 08:01 م]ـ
الموقع محجوب فلو جعلت هذا في المرفقات مشكورا
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[30 - 11 - 09, 09:34 م]ـ
الموقع محجوب فلو جعلت هذا في المرفقات مشكورا
http://www.archive.org/details/Albany7
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=336 <!-- / message --> <!-- BEGIN TEMPLATE: ad_showthread_firstpost_sig --> <!-- END TEMPLATE: ad_showthread_firstpost_sig --> <!-- controls -->
ـ[عبدالحميد حسن]ــــــــ[01 - 12 - 09, 03:40 ص]ـ
جزاك الله خير ورحم الله العلامه الالباني
ـ[أبو عبد الرحمن بن عبد الفتاح]ــــــــ[01 - 12 - 09, 04:37 م]ـ
جزاك الله خير ورحم الله العلامه الالباني
و جعل الله هذا فى ميزان حسناتك
ـ[ saead] ــــــــ[01 - 12 - 09, 05:08 م]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/868686.gif(80/216)
حمل التعليقات الرضية على الروضة الندية للالباني
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:28 م]ـ
التعليقات الرضية على الروضة الندية
المؤلف محمد ناصر الدين الالباني
المحقق: علي بن حسن بن عبدالحميد الحلبي
الناشر: دار ابن عفان - القاهرة -
الطبعة: الأولى -
سنة الطبع: 1423ه
الفهرس
تعريف بـ (التعليقات الرضية على الروضة الندية)
(الدرر البهية) تعريف وبيان
متن (الدرر البهية في المسائل الفقهية)
بداية (التعليقات الرضية .. )
كتاب الطهارة
أقسام المياه
أحكام النجاسات
النجاسات
تطهير النجاسات
باب قضاء الحاجة
فرائض الوضوء
باب الوضوء
سنن الوضوء
نواقض الوضوء
باب الغسل
موجبات الغسل
كيفية الغسل
الأغسال المسنونة
باب التيمم
أحكام الحيض
باب الحيض والنفاس
أحكام النفساء
كتاب الصلاة
مواقيت الصلاة
باب الأذان
باب شروط الصلاة
باب كيفية الصلاة
فيما لا يجوز في الصلاة
متى تبطل الصلاة وعمن تسقط
على من تجب الصلوات الخمس وعمن تسقط
باب صلاة التطوع
باب صلاة الجماعة
باب سجود السهو
باب القضاء للفوائت
باب صلاة الجمعة
باب صلاة العيدين
باب صلاة الخوف
باب صلاة السفر
باب صلاة الكسوفين
باب صلاة الاستسقاء
كتاب الجنائز
أحكام المحتضر
غسل الميت
تكفين الميت
صلاة الجنازة
المشي بالجنازة
دفن الميت
كتاب الزكاة
باب زكاة الحيوان
نصاب الإبل
نصاب البقر
نصاب الغنم
في الجمع والتفريق , والأوقاص
باب زكاة الذهب والفضة
باب زكاة النبات
باب مصارف الزكاة
باب صدقة الفطر
كتاب الخمس
كتاب الصيام
وجوب صوم رمضان
أحكام الصيام
مبطلات الصوم
قضاء الصوم
باب صوم التطوع
ما يستحب صيامه
ما يكره صومه
ما يحرم صومه
باب الاعتكاف
كتاب الحج
أحكام الحج
وجوب الحج
وجوب تعيين نوع الحج بالنية
محظورات الإحرام
ما يجب عمله أثناء الطواف
وجوب السعي بين الصفا والمروة
مناسك الحج
أفضل أنواع الهدي
باب العمرة المفردة
كتاب النكاح
أحكام الزواج
الأنكحة المحرمة
أحكام المهر
الولد للفراش
كتاب الطلاق
مشروعية الطلاق وأحكامه
أنواع الطلاق
بما يقع الطلاق
باب الخلع
باب الإيلاء
باب الظهار
باب اللعان
أنواع العدة
باب العدة
استبراء الأمة المسبية والمشتراة
باب النفقة
باب الرضاع
باب الحضانة
كتاب البيوع
أنواع البيوع المحرمة
باب الربا
باب الخيارات
باب السلم
باب القرض
باب الشفعة
باب الإجارة
باب الإحياء والإقطاع
باب الشركة
باب الرهن
باب الوديعة والعادية
باب الغصب
باب العتق
باب الوقف
باب الهدايا
باب الهبات
كتاب الأيمان
كتاب النذر
كتاب الأطعمة
المحرمات من الأطعمة
باب الصيد
باب الذبح
باب الضيافة
باب آداب الأكل
كتاب الأشربة
كتاب اللباس
كتاب الأضحية
باب الوليمة
أحكام العقيقة
كتاب الطب
كتاب الوكالة
كتاب الضمانة
كتاب الصلح
كتاب الحوالة
كتاب المفلس
كتاب اللقطة
كتاب القضاء
كتاب الخصومة
كتاب الحدود
باب حد الزاني
باب السرقة
باب حد القذف
باب حد الشرب
باب حد المحارب
باب من يستحق القتل حداً
كتاب القصاص
كتاب الديات
أحكام الدية والشجاج
باب القسامة
كتاب الوصية
كتاب المواريث
كتاب الجهاد والسير
أحكام الجهاد
أحكام الغنائم
أحكام الأسير والجاسوس والهدنة
حكم قتال البغاة
من أحكام الإمامة
http://www.megaupload.com/?d=FN92KXZI
http://www.archive.org/details/Albany7
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=336
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:52 م]ـ
جزاك الله خيرًا
ـ[يحيى صالح]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:04 م]ـ
جزاك الله خيرًا ورحم الله الشيخ الألباني رحمة واسعة(80/217)
ما صحة هذا الحديث؟
ـ[حسن أبوجنى]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:29 م]ـ
رجاء من علمائنا علماء الحديث أن يفيدونا بصحة هذا الحديث من عدمه، مع العلم أن فى القلب شيئا من صحته، وقد سمعته من دكتور يتحدث عن تربية الأطفال ونسبه للبخاري ومسلم وبحث عنه فيهما ولم أجده، والحديث هو: "من ترضى صبيا له صغيرا من نسله حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى "
ـ[أبو الهمام البرقاوي]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:52 م]ـ
" من ترضى صبيا له صغيرا من نسله حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى " فيه حماد بن بسطام لا يكتب حديثه.
تذكرة الموضوعات .. 1 .. 132
- عن واثلة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على عثمان بن مظعون ومعه صبى له صغير يلثمه فقال له ابنك يا هذا قال نعم قال أتحبه يا عثمان قال إى واللهيا رسول الله إنى أحبه قال أفلا أزيدك له حبا قال بلى فداك أبى وأمى قال إنه من ترضى صبيا له صغيرا من نسله حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى (ابن عساكر)
[كنز العمال 45958]
أخرجه ابن عساكر (52/ 363).
ـ[حسن أبوجنى]ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:40 ص]ـ
للرفع
ـ[ضيدان بن عبد الرحمن اليامي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 06:47 م]ـ
أخي الكريم حسن أبو جني ـ حفظه الله ـ:<? xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p>
الحديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه، عن وَاثِلَةَ ـ رضيَ اللَّهُ عنهُ ـ: «أَن رسولَ اللَّهِ خَرَجَ عَلى? عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَمَعَهُ صَبِيٌّ لَهُ صَغِيرٌ يَلْثِمُهُ، فَقَالَ لَهُ: ابْنُكَ يَـ?ا هَـ?ذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: الْجَنَّةَ يَـ?ا عُثْمَانُ؟ قَالَ: إِي واللَّهِ يَـ?ا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَتُحِبُّهُ يَـ?ا عُثْمَانُ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ يَـ?ا رَسُولَ اللَّهِ، إِني أُحِبُّهُ، قَالَ: أَفَلاَ أَزِيدُكَ لَهُ حُبّاً؟ قَالَ: بَلى? فِدَاكَ أَبِي وَأُمي، قَالَ: إِنَّهُ مَنْ تَرَضّى? صَبِيّاً لَهُ صَغِيراً مِنْ نَسْلِهِ حَتّى? يَرْضى? تَرَضَّاهُ اللَّهُ تَعَالى? يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتّى? يَرّضى?» < o:p></o:p>
انظر: جامع المسانيد والمراسيل (18984)، كنز العمال (45958)، تنزيه الشريعة المرفوعة (2/ 200) ح (63)، وتذكرة الموضوعات (1/ 132).< o:p></o:p>
وكما ذكر أخي الكريم ـ حفظه الله ـ أبو همام البرقاوي: فيه حماد بن بسطام لا يكتب حديثه. < o:p></o:p>
وأزيد عليه إيضاحاً:< o:p></o:p>
الحديث فيه حماد بن بسطام، وهو أبو مالك حماد بن مالك بن بسطام الأشجعي الحَرَسْتَاني.< o:p></o:p>
ذكره ابن حبان في الثقات (13072) فقال: " حماد بن مالك بن بسطام، أبو مالك، من أهل حَرَسْتَا، سكن دمشق، يروى عن الأوزاعي، روى عنه يعقوب بن سفيان، والشاميون ".< o:p></o:p>
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 356): " حماد بن بسطام، عن بعض التابعين. قال الازدي: لا يكتب حديثه ".< o:p></o:p>
وذكره الحافظ في لسان الميزان (2952) (2240): حَمَّادُ بْنُ بِسْطَامٍ: عن بعض التابعين. قال الأزدي: لا يكتب حديثه، انتهى. وهذا هو حماد بن مالك بن بسطام الأشجعي، شامي معروف نسب لجده ".< o:p></o:p>
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (9/ 135): " حماد بن مالك بن بسطام بن درهم، المحدث المعمر، أبو مالك الاشجعي الدمشقي الحرستاني، حدث عن: الاوزاعي، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وسعيد بن بشير، وإسماعيل بن عياش، وجماعة.< o:p></o:p>
روى عنه: الوليد بن مسلم وهو من شيوخه، ومروان الطاطري، وهشام بن عمار، ومحمد بن عوف الطائي، وأبو إسماعيل الترمذي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو حاتم الرازي، وإسماعيل سمويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم البسري، وعدة.< o:p></o:p>
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أخرج حماد بن مالك مقدار أربعين حديثاً [عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر] فأخبر أبو مسهر بذلك.< o:p></o:p>
فأنكر، وقال: لم يدرك ابن جابر.< o:p></o:p>
وسئل عنه أبو حاتم، فقال: شيخ.< o:p></o:p>
وقال إسحاق بن إبراهيم الهروي القراب: توفي في سنة ثمان وعشرين ومئتين ".< o:p></o:p>
فالحديث ضعيف.< o:p></o:p>
والغريب أن ينسب تخريج هذا الحديث إلى البخاري، ومسلم، وليس فيهما قطعاً.< o:p></o:p>
<o:p> </o:p>
<o:p> </o:p>
<o:p> </o:p>
<o:p> </o:p>
ـ[حسن أبوجنى]ــــــــ[23 - 11 - 09, 02:30 ص]ـ
بارك الله فيكما(80/218)
مشروع البحث العلمي وبرنامج النشاط الثقافي لمؤسسة دار الحديث الحسنية بالمغرب
ـ[معاذ الطالب]ــــــــ[21 - 11 - 09, 11:40 م]ـ
مشروع البحث العلمي وبرنامج النشاط الثقافي لمؤسسة دار الحديث الحسنية بالمغرب(80/219)
الواجبات المتحتمات على كل مسلم ومسلمة
ـ[الكتيبات الاسلامية]ــــــــ[22 - 11 - 09, 01:44 ص]ـ
الواجبات المتحتمات على كل مسلم ومسلمة
http://www.ktibat.com/showsubject-link-372.html(80/220)
أبحث عن شرح لنظم السبك العجيب على الشبكة
ـ[عبد الله محمد إبراهيم]ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:36 ص]ـ
أبحث عن شرح لنظم مغني اللبيب المسمى بالسبك العجيب على الشبكة.
بارك الله فيكم.
ـ[عبد الله محمد إبراهيم]ــــــــ[22 - 11 - 09, 09:01 م]ـ
للرفع ...
ـ[عبد الله محمد إبراهيم]ــــــــ[23 - 11 - 09, 05:55 م]ـ
لعل وعسى! ...(80/221)
حمل 96 كتابا مصورا pdf فى السيرة النبوية بروابط مباشرة
ـ[أبو عمار ياسر البطاوى]ــــــــ[22 - 11 - 09, 02:55 ص]ـ
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
سنذكر أولا أسماء الكتب كلها مرقمة، ثم نذكر الروابط مجتمعة، و فى ذيل كل رابط رقم الكتاب، لو راقك كتاب أردت تحميله ماعليك إلا أن تحدد رقمه ثم تتجه إلى رابطه، أما لو أردت تحميل الكتب كلها، ما عليك إلا أن تضع المؤشر على أحد الروابط، ثم كليك يمين، ثم تحميل كلى أو جماعى من خلال أحد البرامج مثل " داونلود ماندجر "، ثم توكل على الله - عز و جل - تاركا البرنامج يؤدى مهمته حتى يأتى عليهم جميعا دون أدنى تدخل منك مع ملاحظة أن الروابط تدعم الاستكمال فتستطيع أن توقف التحميل وقتما تشاء لتستأنفه وقتما تشاء بإذنه تبارك و تعالى، والآن هاكم الكتب و روابطها:
أولا: أسماء الكتب
1 - أبناء النبي البنون والبنات وأمهاتهم.
2 - أخلاق النبي وآدابه.
3 - أسماء النبي في القرآن والسنة لعاطف قاسم المليجي.
4 - إرهاصات نبوة خاتم المرسلين محمد لمحمد قطب.
5 - اعلام النبوة لعلي بن محمد الماوردي الشافعي.
6 - الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت الدعوة لرزق هيبة.
7 - الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر تحقيق شوقي ضيف.
8 - الرحيق المختوم لصفي الدين المباركفوري طبعة مكتبة النور.
9 - الرسالة الخالدة لعبدالرحمن عزام.
10 - الرسول حياة محمد مترجم
11 - السيرة النبوية وكيف حرفها المستشرقون لمحمد عبدالعظيم علي.
12 - الشجرة النبوية في نسب خير البرية.
13 - الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية للترمذي.
14 - العرض القرآني لسيرة الرسول.
15 - المختصر الكبير في سيرة الرسول.
16 - دور المرأة الرسالية فى دولة النبوة
17 - المستوطنات اليهودية على عهد الرسول لأحمد علي المجدوب
18 - المغازي للواقدي.
19 - النبي محمد لعبدالكريم الخطيب.
20 - الرسول في قلوب أصحابه لوليد الأعظمي.
21 - الوفود في العهد المكي وأثرها الإعلامي لعلي رضوان الأسطل.
22 - أوصاف النبي للترمذي.
23 - تهذيب سيرة ابن هشام.
24 - جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم.
[25 - حروب دولة الرسول لسيد محمود القمني.] ((تم حذفه))
فالقمني الخبيث معتزلي المذهب وهذا الكتاب فيه من البذاءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه.
26 - خطب الرسول لمجدي الشهاوي.
27 - خواطر في معية خاتم الأنبياء والمرسلين لزغلول النجار.
28 - دروس السيرة النبوية وعبرتها فقه السيرة لأحمد محمد العليمي.
29 - دلائل النبوة ومعجزات الرسول لعبدالحليم محمود.
30 - رحلتان إلهيتان الإسراء والمعراج لمحمود الشريف
31 - زوجات النبي محمد وحكمة تعددهن.
32 - ساعة في رحاب الرسول لزين السماك.
33 - سيرة خاتم المرسلين لمحمد عبدالمنعم
34 - سيرة خاتم النبيين لأبي الحسن الندوي
35 - سيرة نبي الهدى والرحمة لعبد السلام حافظ.
36 - شمائل الرسول لابن كثير.
37 - رحمة الله للعالمين صلى الله عليه وسلم لمحمد حسن.
38 - كيف حج الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي تراب الظاهري.
39 - رسول الله في القرآن لحسن ملطاوي.
40 - سيد الخلق لكريمان حمزة.
41 - صحيح السيرة النبوية لابن هشام أعده مجدي فتحي السيد.
42 - عبقرية محمد لعباس العقاد.
43 - عظات وعبر في بيت النبوة لعصام الشريف.
44 - غزوات الرسول بين شعراء الشعوب الإسلامية لحسين مجيب المصري.
45 - غزوات الرسول لعبدالحميد شاكر.
46 - غزوة الأحزاب وما بعدها لمنصور الرفاعي عبيد.
47 - غزوة بدر الكبرى لمحمد أحمد باشميل.
48 - فقه السيرة لمحمد الغزالي.
49 - محمد خاتم المرسلين لشوقي ضيف.
50 - فقه السيرة النبوية من زاد المعاد.
51 - في بيت النبي لمحمد متولي الصباغ.
52 - في رياض السيرة النبوية العهد المدني لأحمد عمر هاشم.
53 - قبس من سيرة المصطفى.
54 - كيف حج الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي تراب الظاهري. (مكرر)
55 - لماذا محمد صلى الله عليه وسلم هو الأعظم لأحمد ديدات.
56 - مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها لحسن خالد.
57 - مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة لمحمد حميد الله
58 - محمد رسول الله والذين معه (مولد الرسول) لعبدالحميد جودة السحار.
59 - محمد صلى الله عليه وسلم وبنو إسرائيل لمصطفى كمال وصفي.
60 - محمد قائد الأمم لإسماعيل حلمي.
61 - محمد رسول الله سيرته وأثره في الحضارة لجلال مطهر.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/222)
62 - محمد رسول الله لإيثين دينيه.
63 - محمد رسول الحرية لعبدالرحمن الشرقاوي.
64 - محمد رسول الله والذين معه أبراهيم أبو الأنبياء.
65 - محمد رسول الله والذين معه بنو إسماعيل العدنانيون.
66 - محمد رسول الله والذين معه صلح الحديبة لعبدالحميد جودة السحار.
67 - من معجزات النبي.
68 - من هدي السنة النبوية لأحمد عمر هاشم.
69 - منهج الدعوة والعمل المتبوع في المرحلة المكية.
70 - منهج النبي في حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها خلال الفترة المكية.
71 - مواقف جاهلية مع خير البرية.
72 - موسوعة الغزوات الكبرى غزوة أحد لمحمد أحمد باشميل.
73 - مولد أمة أضواء على خلق رسول الإنسانية.
74 - نساء النبي لعائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ.
75 - نهاية السول في خصائص الرسول محمد بن عبدالله لمجد الدين بن دحية.
76 - نور اليقين في سيرة سيد المرسلين لمحمد الخضري بك.
77 - هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة لأحمد عبدالغني النجولي الجمل.
78 - هدى المحبين إلى سيرة إمام المرسلين فؤاد العمر.
79 - هدى النبي في رمضان.
80 - هذا رسول الله.
81 - وفود المهتدين إلى خاتم الأنبياء والمرسلين.
82 - يهود يثرب وخيبر الغزوات والصراع
83 - محمد كأنك تراه لعائض القرني.
84 - محمد محاولة لفهم السيرة النبوية لمصطفى محمود.
85 - محنة المسلمين في العهد المكي
86 - مختصر تخريج الدلالات السمعية لأبي الحسن التلمساني.
87 - مساجد في السيرة النبوية.
88 - مشاهد من حياة الرسول لمأمون غريب.
89 - من قصص النبي.
90 - معارف من السيرة النبوية لمصطفى الصاوي.
91 - مع المصطفى.
92 - معجزات الرسول ودلائل صدق نبوته.
93 - معجزات النبي من صحيح الأخبار.
94 - من خصائص الرسول وشمائله.
95 - من خصائص ومناقب سيدنا محمد
96 - من صفات الرسول الخلقية والخلقية.
ثانيا: روابط الكتب
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/001.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/002.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/003.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/004.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/005.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/006.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/007.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/008.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/009.pdf
http://ia311203.us.archive.org/1/items/sira01/010.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/011.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/012.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/013.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/014.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/015.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/016.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/017.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/018.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/019.pdf
http://ia311235.us.archive.org/0/items/sira02/020.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/21.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/22.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/23.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/24.pdf
[25- حروب دولة الرسول لسيد محمود القمني.] تم حذفه
فالقمني الخبيث معتزلي المذهب وهذا الكتاب فيه من البذاءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه.
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/26.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/27.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/28.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/29.pdf
http://ia311208.us.archive.org/3/items/sira03/30.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/31.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/32.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/33.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/34.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/35.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/36.pdf
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/223)
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/37.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/38.pdf
http://ia311202.us.archive.org/2/items/sira04/39.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/40.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/41.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/42.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/43.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/44.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/45.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/46.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/47.pdf
http://ia311321.us.archive.org/1/items/sira05/48.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/49.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/50.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/51.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/52.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/53.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/54.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/55.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/56.pdf
http://ia311240.us.archive.org/3/items/sira06/57.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/58.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/59.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/60.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/61.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/62.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/63.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/64.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/65.pdf
http://ia311214.us.archive.org/3/items/sira07/66.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/67.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/68.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/69.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/70.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/71.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/72.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/73.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/74.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/75.pdf
http://ia311235.us.archive.org/1/items/sira08/76.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/77.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/78.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/79.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/80.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/81.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/82.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/83.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/84.pdf
http://ia311208.us.archive.org/2/items/sira09/85.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/86.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/87.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/88.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/89.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/90.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/91.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/92.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/93.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/94.pdf
http://ia311227.us.archive.org/3/items/sira010/95.pdf
http://ia311215.us.archive.org/0/items/sira11/96.pdf (http://ia311215.us.archive.org/0/items/sira11/96.pdf)
تقبل الله منا ومنكم الأعمال
ـ[عماد أحمد سعيد]ــــــــ[22 - 11 - 09, 04:15 ص]ـ
جزاك الله خيراأخى
ـ[خالد البعلبكي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 09:50 ص]ـ
جزاك الله خيرا على هذه المجموعة القيمة
وبارك الله بك
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:07 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[22 - 11 - 09, 12:41 م]ـ
جزاك الله خيرا، وبارك فيك، ووضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك ...
ـ[أبو عثمان_1]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:10 م]ـ
بارك الله فيكم
ـ[أبو طلحة الحضرمي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:38 م]ـ
كتب الله أجرك
ـ[أحمد أبو يوسف]ــــــــ[23 - 11 - 09, 12:15 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 12:43 م]ـ
جزاك الله خير
ـ[أحمد أبو تسنيم]ــــــــ[24 - 11 - 09, 05:07 م]ـ
أحسن الله إليك وغفر لوالديك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/224)
ـ[ابو اليمن ياسين الجزائري]ــــــــ[26 - 11 - 09, 01:47 ص]ـ
الله يعفو عنك
ـ[ابن عزمى]ــــــــ[27 - 11 - 09, 03:51 ص]ـ
جزيت الجنة
ـ[هاني درغام]ــــــــ[28 - 11 - 09, 11:08 ص]ـ
جزاكم الله خيرا كثيرا وبارك لكم
ـ[هشام جبر]ــــــــ[28 - 11 - 09, 09:06 م]ـ
جزاك الله خيرا أخي الكريم على جهدك الكبير .... لكن كتاب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة لعاطف قاسم المليجي .... من الواضح أنه من غلاة الصوفية فلقد نقل عن النبهاني أسماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله بها من سلطان ومن الواضح ضعف مادة الرجل العلمية ... لذا وجب التنبيه ... والله أعلم
ـ[أبو عبد الرحمن بن عبد الفتاح]ــــــــ[28 - 11 - 09, 09:32 م]ـ
بارك الله فيك و جازاك خيرا(80/225)
موقع كتب بصيغة ورد
ـ[وليد]ــــــــ[22 - 11 - 09, 07:44 ص]ـ
موقع للكتب بصيغة ورد لمن لا يعرفه
http://sh.rewayat2.com/ (http://sh.rewayat2.com/)
<!-- / message -->
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[22 - 11 - 09, 12:43 م]ـ
جزاك الله خيرا، وبارك فيك، ووضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك ...
ـ[وليد]ــــــــ[22 - 11 - 09, 04:53 م]ـ
جزاك الله خيرا، وبارك فيك، ووضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك ...
وجزاك الله خيرًا مثله أخي الكريم.
ـ[يحيى صالح]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:26 م]ـ
جزاك الله خيرًا
وإنما هي جزء من منتديات روايات2
ـ[وليد]ــــــــ[02 - 12 - 09, 03:05 م]ـ
جزاك الله خيرًا
وإنما هي جزء من منتديات روايات2
نعم أخي
وإنما قصدت إلى ما يخص الكتب الإسلامية منها
ـ[أبو مريم العراقي]ــــــــ[02 - 12 - 09, 04:30 م]ـ
بارك الله فيكم.
لكن هل يمكن التحميل منها؟ و ما هي الطريقة؟
ـ[وليد]ــــــــ[02 - 12 - 09, 10:01 م]ـ
نعم أخي يمكن:
إما بالنسخ واللصق في ملف ورد
أو الضغط يمينا على رقم الجزء واختيار حفظ الهدف باسم
ـ[وليد اليمني السلفي]ــــــــ[29 - 12 - 09, 06:58 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[بن مسرة]ــــــــ[30 - 12 - 09, 02:58 ص]ـ
كلها موجودة فى الشاملة(80/226)
شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام كتاب الحج.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[22 - 11 - 09, 01:31 م]ـ
شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام
كتاب الحج.
إملاء
الشيخ سليمان بن ناصر العلوان.
حمل الكتاب من هنا ( http://www.4shared.com/file/157154699/6e943064/Charhe_Bolough_El_Maram_Min_Adillat_El_Ahkam.html)(80/227)
طلب خاص (الأمالي لابن الشجري،،وفضائل القرآن،،)
ـ[بنت الإبراهيم]ــــــــ[22 - 11 - 09, 04:37 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أسعد الله مسائكم أخوتي بالرضى والسرور، وطاعة المولى الغفور ..
أتمنى مساعدتي في تحميل كتاب الأمالي الشجريه لابن الشجري، ويكون موافق للمطبوع ..
وكذا كتاب فضائل القرآن لابن الضريس،،علما بأني وجدته في صفحات النت لكن غير موافق للمطبوع ..
وكذا فضائل القرآن لابن زنجويه ..
مع خالص الشكر والامتنان،،وخالص الدعوات للرازق المنان،،لمن تفضل بمساعدتي ..
ـ[بنت الإبراهيم]ــــــــ[23 - 11 - 09, 12:12 ص]ـ
انتظر مساعدتكم يا إخوة ... فأفيدوني وفقكم الله
ـ[أبو عبد الله الزبيدي]ــــــــ[26 - 11 - 09, 02:58 ص]ـ
الأمالي الشجرية لابن الشجري طبعة حيدر أباد 1932
http://al-mostafa.info/data/arabic/depot3/gap.php?file=i000112.pdf
ما لم ينشر من الأمالي الشجرية
http://al-mostafa.info/data/arabic/depot/gap.php?file=001805-www.al-mostafa.com.pdf
فضائل القرآن لابن الضريس طبعة دار الفكر
http://www.archive.org/download/F
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ORAAN/F
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
ORAAN.pdf
منقول من أماكن متفرقة(80/228)
مطلوب: الاصلاح والمجتمع في المغربي في القرن التاسع عشر
ـ[أبو العباس السوسي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 07:14 م]ـ
السادة الأفاضل
من فضلكم انا في حاجة الى كتاب "الاصلاح والمجتمع في المغربي في القرن التاسع عشر" pdf، وقد حملته منذ مدة لكنه ضاع مني، فمن يتكرم بإعادة رفعه، بارك الله فيكم.
ـ[أبو العباس السوسي]ــــــــ[25 - 11 - 09, 07:59 م]ـ
اعادة الرفع للأهمية
ـ[أبو العباس السوسي]ــــــــ[26 - 12 - 09, 12:03 ص]ـ
للرفع عسى احد الاخوة يتحفني به، فأنا في حاجة إليه ماسة، وهو لبحثي من القيمة بمكان. بارك الله فيكم.
وأرجو أن يتكرم الاخ أبو يعلى البيضاوي برفعه إن كان عنده.
ـ[فهمي الهاشمي]ــــــــ[26 - 12 - 09, 02:24 ص]ـ
تفضل أخي الكريم:
http://www.4shared.com/file/181195711/2ccdf2e6/_____19.html
ـ[أبو العباس السوسي]ــــــــ[26 - 12 - 09, 05:11 م]ـ
الاخ الفاضل فهمي الهاشمي، جزاك الله خيرا كثيرا كثيرا على تنزيل الكتاب، فمنذ زمن وأنا أبحث حتى بدأت أبحث عنه في المكتبات. جعل الله هذا العمل في ميزان حسناتك وآجرك عليه اجرا لايعدّ بعدّ، ولا يحدّ بحدّ.
ـ[أحمد بن شاهد]ــــــــ[30 - 12 - 09, 01:52 ص]ـ
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا(80/229)
البلغة الى أصول اللغة لمحمد صديق حسن خان تحقيق ودراسة (بصيغة الشاملة)
ـ[علي ابن جابر]ــــــــ[22 - 11 - 09, 08:52 م]ـ
اصل هذا الكتاب في موقع الألوكة
البلغة الى أصول اللغة لمحمد صديق حسن خان تحقيق ودراسة
ـ[محمد أمنزوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:09 م]ـ
بارك الله فيك وجزاك كل خير(80/230)
الإيضاح في القراءات (بصيغة الشاملة)
ـ[علي ابن جابر]ــــــــ[22 - 11 - 09, 08:57 م]ـ
اصل هذه الرسالة في موقع الألوكة
ـ[محمد أمنزوي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:10 م]ـ
جزاك الله خيرا(80/231)
من يصور لنا رسالة دكتوراه ابراهيم الغماري وجزاه الله خيرا؟
ـ[صخر]ــــــــ[22 - 11 - 09, 08:58 م]ـ
السلام عليكم ..
من الأفاضل يصور لنا رسالة دكتوراه العلامة إبراهيم الغماري رحمه الله؟
وجزاه الله خيرا ..(80/232)
موقع: (المناهج التعليمية السعودية) بتقنية سيمانور.
ـ[المسيطير]ــــــــ[22 - 11 - 09, 10:22 م]ـ
- موقع تعليمي إلكتروني لمناهج المملكة العربية السعودية بتقنيات سيمانور؛ يحتوي على دروس وحقائب إلكترونية، وكتب منهجية، ووسائط متنوعة كالأفلام والصور، ونحوها.
- من إصدار شركة سيمانور.
- مفيد جدا لكثير من الطلاب الذين يدرسون خارج المملكة، كما يفيد كثيرا الإخوة الذين يرغبون الاستفادة من مناهج المملكة في تعليم أبنائهم.
http://www.nooor.com/(80/233)
من يخرج هذه الأبيات
ـ[أبو العباس السوسي]ــــــــ[22 - 11 - 09, 11:21 م]ـ
الاخوة الافاضل
أحتاج الى تخريج هذه الابيات، اي بيان قائليها ومصادرها إن وجدت، مع التوثيق، بارك الله فيكم.
وَغايَةُ جُهْدِ أَمْثالِي ثَناءُ يَدُومُ مَدى اللَّيالِي أَوْ دُعاءُ
ــــــــــــ
ما زالَ يَلْهَجُ بِالرَّحِيلِ وَذِكْرِهِ حَتّى أَناخَ بِبابِهِ الجَمّالُ
فَأَصابَهُ مُتَيَقِّظاً مُتَشَمِّراً ذا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمالُ
ــــــــــــ
وما عرفنا ولا ألفنا سوى الموافاة والوصال
ــــــــــ
تَوْلِيَةُ الأَبِ عَنِ ابْنِهِ العَمَلْ وَالاِبْنُ في تَعَلُّمِ العِلْمِ اشْتَغَلْ
خَيْرٌ مِنَ الرِّباطِ وَالجِهادِ وَحَجِّ بَيْتِ خالِقِ العِبادِ
ـــــــــ
اِلْزَمِ الفَضْلَ وَدَعْ عَنْكَ الفُضُولْ وَاغْتَنِمْ وَقْتاً تَرَ كُلَّ السُّرُورْ
فَثَلاثٌ جَمَعَتْ كُلَّ المُنَى اِغْتَنِمْها تَنْجُ مِنْ كُلِّ الشُّرُورْ
ــــــــ
لَهُ كَرَمٌ عَلى الأَيّامِ يَنْمُو كَما تَصْفُو عَلى الزَّمَنِ العُقارُ
ـ[حسين بن حيدر]ــــــــ[23 - 11 - 09, 12:45 ص]ـ
http://www.alfaseeh.com/vb/index.php
جرب هنا
ـ[أبو سليمان الجسمي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 10:55 ص]ـ
و إذا حصلت على الجواب فضعه هنا لنستفيد.
ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:46 ص]ـ
رضيت بما قسم اللَه لي = وفوضت امري إلى خالقي
لقد أحسن اللَه فيما مضى = كذلك يحسن فيما بقي
لمحمد بن يوسف بن مسعود بن بركة شهاب الدين الشيباني التلعفري
كما في ديوانه.
..................................................
وغاية جهد أمثالي ثناء = يدوم مدى الليالي مع دعاء
انظر حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر؛ لعبد الرزاق البيطار
..................................................
ما زال يصرخ بالرحيل مناديا = حتى أناخ ببابه الجمال
الوافي بالوفيات للصفدي؛
في ترجمة ابن يونس الصدفي 18/ 110
..................................................
للشيخ محمد الجاولي رضي الله عنه
صحبته رضي الله عنه مدة فما رأيت عليه شيئاً يشينه في دينه بل تربي في حجر الأولياء على وجه اللطف، والدلال كما قال الأستاذ سيدي علي بن وفا رضي الله عنه:
فما عرفنا، ولا ألفنا = سوى الموافاة، والوصال
مات بمكة سنة نيف، وثلاثين، وتسعمائة رضي الله عنه آمين.
الطبقات الكبرى؛ للشعراني
ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[23 - 11 - 09, 12:28 م]ـ
له خلق على الأيام يصفو = كما تصفو على الزمن العقار
بلا نسبة في:
المستطرف في كل فن مستظرف؛ للأبشيهي
2/ 105
بتحقيق أخي الفاضل الكريم المحقق الثبت الأستاذ إبراهيم صالح
دار البشائر بدمشق 1999م
ـ[أبو العباس السوسي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 04:27 م]ـ
بارك الله فيكم جميعا، وبارك في الدكتور مروان الذي خرج مشكورا الأبيات حتى انتهى الى توقيعي الذي ضم البيت: كما أحسن الله فيما مضى .. والحق يقال أنني لم أكن أعرف قائله، والآن عرفته بفضل جهودك دكتور. بارك الله فيك.
ـ[أبوعبدالعزيز الأثري]ــــــــ[23 - 11 - 09, 04:32 م]ـ
نقلك:
وَغايَةُ جُهْدِ أَمْثالِي ثَناءُ يَدُومُ مَدى اللَّيالِي أَوْ دُعاءُ
التخريج:
حلية البشر للبيطار 1625
سلك الدرر للمرادي 496
نقلك:
ما زالَ يَلْهَجُ بِالرَّحِيلِ وَذِكْرِهِ حَتّى أَناخَ بِبابِهِ الجَمّالُ
فَأَصابَهُ مُتَيَقِّظاً مُتَشَمِّراً ذا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمالُ
التخريج:
الوافي بالوفيات وقد سبقت
نسمة السحر ليوسف بن يحيى 14441
نقلك:
وما عرفنا ولا ألفنا سوى الموافاة والوصال
التخريج:
أظنه من كلام العرب ولم أجد له شيئا وسبقني الدكتور مروان لنسبته
نقلك:
تَوْلِيَةُ الأَبِ عَنِ ابْنِهِ العَمَلْ وَالاِبْنُ في تَعَلُّمِ العِلْمِ اشْتَغَلْ
خَيْرٌ مِنَ الرِّباطِ وَالجِهادِ وَحَجِّ بَيْتِ خالِقِ العِبادِ
التخريج:
لم أجده
نقلك:
اِلْزَمِ الفَضْلَ وَدَعْ عَنْكَ الفُضُولْ وَاغْتَنِمْ وَقْتاً تَرَ كُلَّ السُّرُورْ
فَثَلاثٌ جَمَعَتْ كُلَّ المُنَى اِغْتَنِمْها تَنْجُ مِنْ كُلِّ الشُّرُورْ
التخريج:
لم أجده
نقلك:
لَهُ كَرَمٌ عَلى الأَيّامِ يَنْمُو كَما تَصْفُو عَلى الزَّمَنِ العُقارُ
التخريج:
في المحب والمحبوب للسري الرفا 474
وفي المستطرف للأبشيهي كما سبق
وفي ربيع الأبرار للزمخشري 474
وفي غرر الخصائص للوطواط 19(80/234)
أحتاج إلى كتاب كلمة حق وعمدة التفاسير للشيخ أحمد شاكر
ـ[معتز]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:13 ص]ـ
أريدهما مصورين
وجزاكم الله خيرا
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[23 - 11 - 09, 03:33 م]ـ
عمدة التفاسير
http://www.archive.org/details/Omdat_Altafseer
كلمة حق
http://s203995553.onlinehome.us/waqfeya/books/02/0140.rar
كلمة حق وورد
http://www.tetouanhadit.com/attachment.php?attachmentid=46&d=1252005716(80/235)
من لديه معلومات عن كتاب الحاوي الكبير ط دار الفكر فليزودني لأني مضطر لذلك
ـ[أبو عبد الله وعزوز]ــــــــ[23 - 11 - 09, 07:00 ص]ـ
نقلت كلاما كثيرا للماوردي من كتاب الحاوي الكبير ط دار الفكر
وأريد من الإخوة -حفظهم الله - معلومات عن هذه الطبعة كسنة الطبع ورقم الطبعة وأي معلومات عنها , ومن لديه الأجزاء الأربعة الأُول على صيغة pdf فأرجو أن يزودني بها أنا مضطر لها للتأكد مما نقلته من الأقوال في رسالتي العلمية
ـ[أبوعمرو المصري]ــــــــ[23 - 11 - 09, 07:40 ص]ـ
أخي الكتاب موجود مصورا في المكتبة الوقفية وباستطاعتك تحميله، وهذا رابط صفحة الكتاب:
عنوان الكتاب: الحاوي الكبير
المؤلف: الماوردي
المحقق: علي معوض - عادل عبد الموجود
طبعة دار الكتب العلمية
http://www.waqfeya.com/category.php?cid=84&st=15
جربت الرابط فلم يعمل عندي، وهذا رابط بديل لتحميل الكتاب وهو يعمل جيدا:
http://www.3lsooot.com/book/index.php?action=cat&id=33
ـ[أبو عبد الله وعزوز]ــــــــ[03 - 02 - 10, 01:22 ص]ـ
أخي شكرا على جهدك وردك المبارك ..
لكن بودي طبعة دار الفكر وليس دار الكتب العلمية , وكلا الطبعتين موجدتان في الشاملة , وأنا عزوت من طبعة دار الفكر , فأرجو مساعدتكم , ولكم مني الدعاء
ـ[هشام فاروق ابو عمر]ــــــــ[20 - 10 - 10, 12:10 ص]ـ
طبعة دار الفكر تحقيق مطرجي تجدها في مكتبة المصطفى انا رأيتها هناك
ـ[أحمد محمد يوسف]ــــــــ[20 - 10 - 10, 07:40 م]ـ
أجزاء متفرقة وليست كاملة(80/236)
أرجو المساعدة / أريد شرح الشيخ عبدالمحسن الزامل على كتاب تحفة أهل الطلب في تجريد أصول قواعد بن رجب
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 09:03 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني الكرام
أرجو منكم مساعدتي في أقرب وقت
أريد شرح الشيخ عبدالمحسن الزامل ((((كاملاً)))) على كتاب تحفة أهل الطلب في تجريد أصول قواعد بن رجب سواء كان مفرغاً أو صوتياً
جزاكم الله خير
ـ[سليمان بطيخ]ــــــــ[23 - 11 - 09, 01:05 م]ـ
انا لله وانا اليه راجعون
انا من قرابة الغام وانا ابحث عنه ولكن بدون جدوى قاذاعة القران الكريم ترفض رفعه ولا توجد منه نسخه عند غيرها فالله المستعان لنتعاون معا على البحث عنه ولو عندك او رأيت شرح اللاحم على التحفة دار اشبليا فلتتكرم علينا به أو معلومات عنه وبالمناسبة لا يوجد على النت فى حد بحثى القاصر شرحا كاملا لقواعد ابم رجب او تحفة اهل الطلب يصلح لفك غوامضه عن طالب العلم
ـ[علي السلوم]ــــــــ[24 - 11 - 09, 06:34 ص]ـ
موجود في بحمدالله في موقع البث الإسلامي
http://www.liveislam.net/result.php
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 07:24 ص]ـ
أخي الفاضل علي السلوم
الشرح الموجود في البث الإسلامي
غير كامل
وغير مرتب
ـ[سليمان بطيخ]ــــــــ[24 - 11 - 09, 05:11 م]ـ
نعم يا ابا حارث
ولكنك لم تتجاوب معى
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 06:41 م]ـ
أخي الفاضل
سليمان بطيخ
لم أفهم ما أردت
الذي قلته أن الكتاب غير موجود في الانترنت كاملاً
ـ[محمد السيد ابراهيم]ــــــــ[24 - 02 - 10, 10:30 ص]ـ
http://www.archive.org/details/zamil-ibnrajab
هذا الشرح وجدته على أرشيف
هذا الشرح من اذاعة القران الكريم واخر شرح كان بتاريخ
16 - 9 - 1430 هـ
شرح كتاب تحفة أهل الطلب في تجريد أصول قواعد ابن رجب للعلامة السعدي رحمه الله شرح الشيخ عبدالمحسن الزامل(80/237)
من يتكرم ويرفع كتاب جمهرة نسب قريش، للإمام الزبير بن بكار
ـ[فوزى محمد أمين ملطان]ــــــــ[23 - 11 - 09, 09:55 ص]ـ
< HR style="COLOR: #dcf7cc" SIZE=1> <!-- / icon and title --><!-- message -->
الأخوة الأعزاء
من فضلكم من يحتفظ بنسخة من الكتاب مصورا
فليرفعه لنا بارك الله فيكم
فهو من الكتب الهامة في بابها
<! -- / message -->(80/238)
من يتكرم ويرفع لنا كتاب الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 10:52 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني الأفاضل
من يتكرم ويتفضل علينا
ويرفع لنا كتاب الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية للسيوطي
بصيغة pdf
وقد وجدت الكتاب بصيغة pdf في هذا الموقع وغيره من المواقع
لكن جميع الروابط لاتعمل
آمل منكم المساعدة في أقرب وقت
جزاكم الله خير
ـ[أبو عبد الله الزبيدي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 05:18 م]ـ
من مرفوعات الفاضلين الطيماوي أو مشرف الشهري:
http://www.megaupload.com/?d=U
[تعليق مُعِدّ الكتاب للشاملة]
VFFMUJ
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:15 م]ـ
أخي الفاضل
هذا الرابط محجوب عندنا في السعودية
لو تكرمت نريد رابط آخر
ـ[أبو المظفر السِّنَّاري]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:15 م]ـ
سيخرج لهذا الكتاب - قريبًا جدًا - طبعة قشيبة عن (دار الشروق الدولية / بمصر) وهي بتعليق وتخريج العبد الفقير باشتراك مع أخيه الأكبر.
وسأقوم برفْعها على الشبكة سريعًا إن شاء الله. مع نسخة خاصة للشاملة.
وأرجو أن تكون تلك الطبعة هي أفضل طبعات الكتاب جميعًا.
ـ[أبو عبد الله الزبيدي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:49 م]ـ
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي للإمام السيوطي
طبعة محققة ومنقحة ومراجعة من إعداد مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار الباز بالرياض
طبعة 1418 هـ 1997 م
رابط مباشر
الجزء الأول
http://www.archive.org/download/achbah-nadair-fi9h/asnzs1.pdf
الجزء الثاني
http://www.archive.org/download/achbah-nadair-fi9h/asnzs2.pdf
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 07:35 ص]ـ
أخي الفاضل أبو عبدالله الزبيدي
الرابط شغال
جزاك الله خيرا
ورفع قدرك
وأتعبناك معنا
ـ[أبو حارث السلفي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 07:38 ص]ـ
سيخرج لهذا الكتاب - قريبًا جدًا - طبعة قشيبة عن (دار الشروق الدولية / بمصر) وهي بتعليق وتخريج العبد الفقير باشتراك مع أخيه الأكبر.
وسأقوم برفْعها على الشبكة سريعًا إن شاء الله. مع نسخة خاصة للشاملة.
وأرجو أن تكون تلك الطبعة هي أفضل طبعات الكتاب جميعًا.
الله يجزاك خير على جهودك
وبانتظار صدورها إن شاء الله
ـ[شريف جادالله]ــــــــ[05 - 07 - 10, 04:43 م]ـ
شاكر لكم فضلكم وجعلك الله عونا لاهل العلم(80/239)
عندي كتاب قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل للشيخ حنبكة الميداني، هل تحتاجون إليه؟
ـ[سعيد بن خليل]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:32 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم،
لا أدري إن كان هذا الكتاب قد تم رفعه إلى الشبكة أم لا، وهو عندي من أمد بعيد، فوددت أن أستفسر إن كنتم بحاجة إلى تصويري إياه؟
فإن كنتم كذلك، أود من يعينني على تنسيقه وفهرسته، فليس عندي من الوقت ما يجعلني أدرس مثل هذه الأمور.
وشيء آخر، أنا ليس عندي ماسحة ضوئية، عندي مصوّرة (كاميرا)، فهل ينفع ذلك؟
http://img149.imageshack.us/img149/820/32236157.jpg
http://img204.imageshack.us/img204/6043/61331797.jpg(80/240)
معجم البدع لرائد صبري
ـ[سعود الكابري]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:44 ص]ـ
أرجو من الأخوة ممن يملك الكتاب رفعه إن لم يكن مرفوعاً أو الإرشاد إليه.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك فأرجوا تقييم الكتاب ووضع فهرس الموضوعات.(80/241)
كشف اللثام شرح عمدة الأحكام الجزء الأول بصيغة الشاملة
ـ[علي ابن جابر]ــــــــ[23 - 11 - 09, 02:11 م]ـ
تنبيه:
هذا الكتاب محول بواسطة القارئ الآلي و يحتاج الي تصويب الأخطاء الإملائية من كان يريد تصويبه فليقم بتنزيله و إلا فلا فائدة فيه
ـ[علي عمر]ــــــــ[23 - 11 - 09, 04:20 م]ـ
لعلك أخطأت في وضعه يا شيخ علي
فالمصورات كثيرة جدا
والقارئ الآلي موجود بالملتقى
ولو فتحنا هذا الباب لوجدنا غدا مئات (المحولات) بل قل (المشوهات) من كتب الوقفية تنتظر من يصحح الأخطاء، وأين هم
ـ[أبو مريم العراقي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 04:47 م]ـ
بارك الله فيكم أخي عليا، لقد فرحت كثيرا.
فلعلك تواصل تنزيل البقية.
و أما الأخطاء، فالذي يستفيد منه سيصححه على نسخته المصورة أو المطبوعة عنده.
و نحن في انتظار البقية.(80/242)
الناسخ والمنسوخ لابن سلام كتاب الكتروني رائع
ـ[أحمد أبوالمعاطي]ــــــــ[23 - 11 - 09, 03:21 م]ـ
الناسخ والمنسوخ لابن سلام كتاب الكتروني رائع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الناسخ والمنسوخ
أبو عُبيد القاسم بن سلاّم البغدادي المتوفى 224هـ
أورد المؤلف 436 نصًا مسندًا منها المرفوع والموقوف والمقطوع ورتب المؤلف مادة الكتاب على الأبواب الفقهية المعتادة ويتعرض المؤلف للمسائل الخلافية بذكر كل رأي مع دليله ويناقش ويرجح كما أن الناسخ والمنسوخ في اصطلاح المؤلف له شمول أوسع مما استقرعليه العمل أخيرًا ولم يقتصر المؤلف على النسخ في القرآن الكريم بل ناقش النسخ في السنة يقسم العلماء المسلمين الناسخ والمنسوخ إلى ثلاثة أنواع هي ما نُسخ حكمه وبقي حرفه ما نُسخ حرفه وبقي حكمه ما نُسخ حرفه ونسخ أيضا حكمه
حجم الكتاب 455 كيلوبايت
http://img185.imageshack.us/img185/8906/tajmeel1yh6ps2.gif
http://img267.imageshack.us/img267/4787/49020270.jpg
http://img267.imageshack.us/img267/3809/47257574.jpg
http://img267.imageshack.us/img267/1026/61277989.jpg
روابط التنزيل
المرفقات
فلنتعاون في الله بنشره على مواقع أخرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[23 - 11 - 09, 09:11 م]ـ
جعله الله في صالح أعمالكم.
ـ[أحمد أبوالمعاطي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 06:16 م]ـ
وإياكم. بارك الله فيكم
ـ[احمد ابو معاذ]ــــــــ[24 - 11 - 09, 07:16 م]ـ
جزاك الله خير
ـ[أحمد أبوالمعاطي]ــــــــ[25 - 11 - 09, 08:43 م]ـ
جزاك الله خير
وإياكم أخي أحمد. بارك الله فيكم
ـ[طالبة ميراث النبوة]ــــــــ[27 - 10 - 10, 07:21 ص]ـ
لم استطع تنزيله ما لعمل هل الرابط لا يعمل أو ماذا؟
ـ[أبوالفداء المصري]ــــــــ[27 - 10 - 10, 07:23 ص]ـ
يعمل ولله الحمد
جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم
ـ[طالبة ميراث النبوة]ــــــــ[27 - 10 - 10, 07:26 ص]ـ
لماذا لم أستطع تحميله أنا بحاجة إليه(80/243)
حمل الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (تحقيق الأرناؤوط)
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[23 - 11 - 09, 03:57 م]ـ
من الوقفية
عنوان الكتاب: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (ت الأرناؤوط)
المؤلف: علي بن بلبان الفارسي الأمير علاء الدين
المحقق: شعيب الأرناؤوط
حالة الفهرسة: غير مفهرس
الناشر: مؤسسة الرسالة
سنة النشر: 1408 - 1998
عدد المجلدات: 18
رقم الطبعة: 1
الحجم (بالميجا): 144
http://www.archive.org/download/waq6110/00_6110.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/01_6110.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/02_6111.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/03_6112.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/04_6113.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/05_6114.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/06_6115.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/07_6116.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/08_6117.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/09_6118.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/10_6119.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/11_6120.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/12_6121.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/13_6122.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/14_6123.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/15_6124.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/16_6125.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/17_6126.pdf
http://www.archive.org/download/waq6110/18_6127.pdf
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=3401
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[24 - 11 - 09, 12:53 م]ـ
بارك الله فيك
وجزاك الله خيرا
ووفق إلى ما يحب ويرضى.
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[24 - 11 - 09, 12:59 م]ـ
بارك الله فيك
وجزاك الله خيرا
ووفق إلى ما يحب ويرضى.
ـ[أبو عبد الرحمن بن عبد الفتاح]ــــــــ[26 - 11 - 09, 09:48 م]ـ
بارك الله فيك و نفعنا جميعا بهذا الكتاب
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[26 - 11 - 09, 09:53 م]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[أحمد أبو تسنيم]ــــــــ[27 - 11 - 09, 09:15 م]ـ
أحسن الله إليك وغفر لوالديك(80/244)
حمل رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز
ـ[محمد وحيد]ــــــــ[23 - 11 - 09, 04:17 م]ـ
وقفية
عنوان الكتاب: رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز (ت بن دهيش)
المؤلف: عبد الرازق بن رزق الله الرسعني الحنبلي عز الدين
المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
حالة الفهرسة: مفهرس على العناوين الرئيسية
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
عدد المجلدات: 9
رقم الطبعة: 1
عدد الصفحات: 6118
الحجم (بالميجا): 91
http://www.waqfeya.com/book.php?bid=3402
وانظر
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=45083
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[24 - 11 - 09, 12:48 م]ـ
بارك الله فيك وجزاك خير الجزاء وأحسنه.
ـ[عبد الله الحمراني]ــــــــ[24 - 11 - 09, 02:09 م]ـ
وفي الرابط نسخة للشاملة موافقة للمطبوع:
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=45083
(( تم وضع الملف في المرفق للتسهيل)) المشرف.
ـ[محمد النفيعي العتيبي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 02:23 م]ـ
بارك الله فيك وجزاك خيراً
ـ[عبد الله الحمراني]ــــــــ[24 - 11 - 09, 02:30 م]ـ
((تم وضع الملف في المرفق للتسهيل)) المشرف.
أحسنتم أحسن الله إليكم.
ـ[ saead] ــــــــ[25 - 11 - 09, 05:25 م]ـ
http://www.samysoft.net/forumim/shokr/1/868686.gif
ـ[ابوهادي]ــــــــ[25 - 11 - 09, 10:55 م]ـ
أسأل الله أن يبيض وجهك يوم لقائه وجميع أهل الملتقى وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا(80/245)
نظرات فيما ذكره الزركلي حول الكتب في كتابه الأعلام
ـ[أبو رفيف]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:46 م]ـ
أرجو من المشرف إلغاء هذه المشاركة ... لتكرارها.(80/246)
نظرات فيما ذكره الزركلي حول الكتب في كتابه الأعلام
ـ[أبو رفيف]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:47 م]ـ
هذه النَّظرات مما كتبته قديماً على طُرَّةِ نسختي من كتاب الأعلام للزركلي - رحمه الله تعالى -.
هذا الكتاب الذي عايشته سنوات عديدة، وأنا أُقلِّبُ صفحاته .. قارئاً ومُستفيداً. وصَدَقَ الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله تعالى - حيث قال في كتابه الذكريات (1/ 125): خير الدين الزركلي ... مؤلف الكتاب العظيم (الأعلام) أحد الكتب العشرة التي يُفاخر بها هذا القرن القرون السابقة. اهـ.
لا أُريد الإطالة، ولندخل فيما أردنا، بعد الاطلاع على هذه الملحوظات:
1 - ليس المقصود بـ (النظرات) هنا: الاستدراك أو التصويب فقط، وإنما قد يكون في إضافة معلومة أو فائدة حول هذه الكتب.
2 - ما سأذكره في هذا الموضوع ما هو إلا نماذج لما لديَّ، وليست على ترتيب الكتاب.
3 - ما سأذكره من نظرات هنا عن الكتب فقط.
فليُتنبه لذلك، وعلى الله اتكالي.
ـ[أبو رفيف]ــــــــ[23 - 11 - 09, 06:49 م]ـ
(1/ 26) فِيشَر:
أشهر آثاره: " معجم فيشر – خ "، قضى أربعين سنة في جمعه وترتيبه وإعداده للطبع.
- قال عبد الرحمن بدوي في موسوعة المستشرقين (ص: 406، 407): وبدأ أوجست [فِيشَر] العمل في هذا لمعجم في عام 1913 م بوضع جذاذات مستخرجة من المجاميع والدواوين وبعض كتب الحديث، وقد بلغ عدد الجذاذات حتى عام 1918 م حوالي اثني عشر ألف جذاذة. وأُنشئ مجمع اللغة العربية في مصر في عام 1932 م، وعُيِّن فِشَر عضواً فيه. فاستأنف العمل بحماسة في هذا المعجم، وصار يتردد على القاهرة في شتاء كل عام حتى عام 1939 م، وفي هذه الفترة استعان ببعض العاملين في المجمع. لكن قامت الحرب في عام 1939 م، ولم يستطع فِشَر العودة إلى مصر، خصوصاً وقد أُلغي تعيينه في عضوية المجمع في عام 1945 م. لكن ماذا كان مصير المواد التي جُمعت ووُضعت أمانةً لدى مجمع اللغة العربية؟ لقد بددها المجمع، خصوصاً أثناء انتقال داره من شارع قصر العيني إلى شارع مراد بالجيزة، ولم يبقَ منها إلا القليل الذي حاولت جامعة توبنجن وغيرها من الجامعات الألمانية تصويره، ابتغاء استئناف العمل في هذا المعجم. لكن الأمر وقف عند هذا الحدِّ، فلم يواصل أحدٌ العمل – رغم الدعاوى الكثيرة – وضاع الشطر الأكبر الذي صنعه ومساعدوه ... والواقع أنه على الرغم من امتداد عمره حتى بلغ الرابعة والثمانين، فإن إنتاجهُ ضئيل، وكان سيكون عظيماً وباقياً لو أنه انتهى من معجمه ذاك. اهـ.
ـ[إسلام الغرباوي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 01:39 ص]ـ
. وصَدَقَ الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله تعالى - حيث قال في كتابه الذكريات (1/ 125): خير الدين الزركلي ... مؤلف الكتاب العظيم (الأعلام) أحد الكتب العشرة التي يُفاخر بها هذا القرن القرون السابقة. اهـ.
.
وما الكتب التسعة؟
ـ[أبو الطيب أحمد بن طراد]ــــــــ[24 - 11 - 09, 02:50 ص]ـ
أؤيد صديقنا الغرباوي، وما تلك الكتب التسعة التي يُفاخر بها هذا القرن القرون السابقة
ـ[أبو فهد العتيبي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 03:32 ص]ـ
هذا تدخل خارجي مني على الإجابة
من تلك الكتب ... التحرير والتنوير لابن عاشور
وأيضا هناك شرح ديوان المتنبي لمحمود شاكر
ـ[أبو معاوية البيروتي]ــــــــ[24 - 11 - 09, 08:20 ص]ـ
وصَدَقَ الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله تعالى - حيث قال في كتابه الذكريات (1/ 125): خير الدين الزركلي ... مؤلف الكتاب العظيم (الأعلام) أحد الكتب العشرة التي يُفاخر بها هذا القرن القرون السابقة. اهـ.
جزاكم الله خيراً على هذه الفائدة،
ولو تفردها بموضوع مستقل كاستفسار للإخوة ليُدلوا بآرائهم يكون أفضل لئلاّ يخرج موضوعك هنا عن مساره،
وفي رأيي ... أحدها سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة للإمام الألباني رحمه الله.
ـ[أبوخالد]ــــــــ[24 - 11 - 09, 09:54 ص]ـ
لعلك تستمر يا أبا رفيف ...
ـ[أبو رفيف]ــــــــ[24 - 11 - 09, 04:22 م]ـ
ملحوظة:
* أرجو من الإخوة الكرام عدم الخروج عن صلب الموضوع، إلا للإضافة على شرط الكاتب؛ فالمجال مفتوح.
وشكراً.
ـ[أبو رفيف]ــــــــ[24 - 11 - 09, 05:05 م]ـ
(1/ 178) المقريزي:
من تآليفه ... " اتعاظ الحنفاء في أخبار الأئمة الفاطميين والخلفاء – ط ".
- ورد اسمه في المطبوع هكذا: " اتعاظ الحُنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخُلَفا ".
وفي كشف الظنون لحاجي خليفة (1/ 7): اتعاظ الحُنفا بأخبار الفاطميين الخُلَقا ... الخُلَقا: بالقاف من خلق الإفك. اهـ.
ـ[عصام البشير]ــــــــ[24 - 11 - 09, 06:09 م]ـ
جزاكم الله خيراً على هذه الفائدة،
ولو تفردها بموضوع مستقل كاستفسار للإخوة ليُدلوا بآرائهم يكون أفضل لئلاّ يخرج موضوعك هنا عن مساره،
سبق النقاش في هذا الموضوع هنا:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=72352
وأرجو أن يواصل الأخ الكريم أبو رفيف فوائده.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/247)
ـ[عبد الرحمن العدناني]ــــــــ[24 - 11 - 09, 07:45 م]ـ
جزاكم الله خيرا
هذا رابط لاحد الاعضاء وهو ابو معاوية البيروتي يذكر فيه كلام بكر بن عبد الله ابي زيد الذي ينتقد فيه الاعلام وهو كلام رائع ومختصر جدا ومفيد
http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?p=49005
ـ[أبو رفيف]ــــــــ[27 - 11 - 09, 01:18 م]ـ
(3/ 290) الشريف عبد الحي:
له تصانيف، منها: " نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر – ط " ثلاثة أجزاء منه، جعل أحدها ذيلاً للدرر الكامنة لابن حجر.
- يُسمَّى هذا الكتاب: " الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام "، وهو أوسع كتاب في تراجم علماء شبه القارة الهندية، حيث اشتمل على أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة ترجمة. اشتغل فيه مؤلفه نحو ثلاثين سنة، وتوفي قبل أن يُطبع بنحو عشر سنوات. وقد طُبِعَ الكتاب تِبَاعاً بمطبعة دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد بالهند بدءاً بالجزء الثاني سنة 1350 هـ، ثُمَّ الجزء الأول سنة 1366 هـ، وتتالت أجزاؤه إلى أن طُبِعَ الجزء الثامن سنة 1390 هـ. وطُبِعَ مؤخراً عن دار ابن حزم ببيروت سنة 1420 هـ، " 8 أجزاء " في " 3 مجلدات كِبَار ".
أما قول الزركلي: جعل أحدها ذيلاً للدرر الكامنة لابن حجر؛ فليس كذلك. ولكن عندما طبعت دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد بالهند كتاب: " الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة "، للحافظ ابن حجر، اقترح بعض من لهم اطلاع على مخطوطة: " نزهة الخواطر " أن يُكَمَّلَ هذا الكتاب بطبع الجزء الثاني من " نزهة الخواطر "، وهو الجزء الذي يشتمل على تراجم أعيان القرن الثامن في الهند، فكان ذلك. وهذا هو السبب الذي جعل طبع الجزء الثاني من " نزهة الخواطر " يتقدم على طبع الجزء الأول منه، كما أسلفنا.(80/248)
هدية عيد الأضحى 1430: مجموعة أطالس إسلامية ملونة رائعة - المغلوث
ـ[المكتبة الوقفية]ــــــــ[23 - 11 - 09, 10:55 م]ـ
هدية عيد الأضحى 1430:
مجموعة أطالس إسلامية ملونة رائعة
لمؤلفها: سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث
أطلس حروب الردة في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3421) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
أطلس الخليفة على بن أبي طالب ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3420) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
أطلس الخليفة عثمان بن عفان ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3419) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
أطلس الخليفة عمر بن الخطاب ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3418) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
أطلس الخليفة أبي بكر الصديق ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3417) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
الأطلس التاريخي لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3416) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
أطلس تاريخ الأنبياء والرسل ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3415) - سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث
أطلس الأديان ( http://waqfeya.com/book.php?bid=3414) - سامي بن عبد الله بن أحمد الملغوث
ـ[ابو آلاء]ــــــــ[24 - 11 - 09, 03:09 ص]ـ
جزاكم الله خير الجزاء ونفعكم ونفع بكم ورفعكم وسددكم
ـ[أبو عبد الرحمن العامري]ــــــــ[24 - 11 - 09, 08:49 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[عيسى بنتفريت]ــــــــ[24 - 11 - 09, 12:05 م]ـ
جزاكم الله خيرا.
ـ[حسين بن محمد]ــــــــ[24 - 11 - 09, 01:50 م]ـ
بارك الله فيكم وجزاكم خيرا، ونفع بكم.
ـ[أبو عبد الرحمان القسنطيني الجزائري]ــــــــ[24 - 11 - 09, 03:17 م]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[أبو عمار ياسر البطاوى]ــــــــ[24 - 11 - 09, 09:32 م]ـ
حمل الأطالس الإسلامية للمغلوث بروابط مباشرة تدعم الإستكمال
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
<? xml:namespace prefix = o ns = "urn:schemas-microsoft-com:office:office" /><o:p></o:p>
نظرا لكبر حجم بعض الكتب التى تصل إلى مايقرب من 300 ميجا نذكر روابط الوقفية التى تدعم الأستكمال.< o:p></o:p>
سنذكر أولا أسماء الكتب كلها مرقمة، ثم نذكر الروابط مجتمعة، لو راقك كتاب أردت تحميله ماعليك إلا أن تحدد رقمه ثم تتجه إلى رابطه، أما لو أردت تحميل الكتب كلها، ماعليك إلا أن تضع المؤشر على أحد الروابط، ثم كليك يمين، ثم تحميل كلى أو جماعى من خلال أحد البرامج مثل " داونلود ماندجر "، ثم توكل على الله - عز و جل - تاركاالبرنامج يؤدى مهمته حتى يأتى عليهم جميعا دون أدنى تدخل منك مع ملاحظة أن الروابط تدعم الاستكمال فتستطيع أن توقف التحميل وقتما تشاء لتستأنفه وقتما تشاء بإذنه تبارك و تعالى، والآن هاكم الكتب و روابطها< o:p></o:p>
<o:p></o:p>
أولا: أسماء الكتب:< o:p></o:p>
<o:p></o:p>
1 - أطلس الأديان< o:p></o:p>
2 - أطلس تارخ الأنبياء و الرسل< o:p></o:p>
3 - الأطلس التاريخى لسيرة الرسول صلى الله عليه و سلم< o:p></o:p>
4 - أطلس الخليفة أبو بكر الصديق< o:p></o:p>
5 - أطلس الخليفة عمر بن الخطاب < o:p></o:p>
6 - أطلس الخليفة عثمان بن عفان< o:p></o:p>
7 - أطلس الخليفة على بن أبى طالب< o:p></o:p>
8 - أطلس حروب الردة فى عهد الخلفة الراشد أبى بكر الصديق< o:p></o:p>
<o:p></o:p>
ثانيا: روابط التحميل المباشرة:< o:p></o:p>
<o:p></o:p>
1 - http://ia341305.us.archive.org/2/items/waq94649/94649.pdf<o:p></o:p>
2 - http://ia341326.us.archive.org/1/items/waq70763/70763.pdf<o:p></o:p>
3 - http://ia341318.us.archive.org/2/items/waq54551/54551.pdf<o:p></o:p>
4 - http://ia341337.us.archive.org/3/items/waq70766/70766.pdf<o:p></o:p>
5 - http://ia341317.us.archive.org/2/items/waq70765/70765.pdf<o:p></o:p>
6 - http://ia341315.us.archive.org/3/items/waq70767/70767.pdf<o:p></o:p>
7 - http://ia341334.us.archive.org/1/items/waq86235/86235.pdf<o:p></o:p>
8 - http://ia341327.us.archive.org/3/items/waq98398/98398.pdf<o:p></o:p>
<o:p></o:p>
تقبل الله منا و منكم صالح الأعمال< o:p></o:p>
ـ[ابن عزمى]ــــــــ[27 - 11 - 09, 03:37 ص]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[مهاجرة الى ربى]ــــــــ[29 - 11 - 09, 01:22 م]ـ
حفظكم الله ورعاكم وسدد على طريق الحق خطاكم
ـ[علي القدامي]ــــــــ[28 - 12 - 09, 01:34 ص]ـ
جزاك الله خيرا ونفع بك.
ـ[عمر العايد]ــــــــ[29 - 12 - 09, 12:43 ص]ـ
جزاكم الله خيرا على هذه الهدية الطيبة
ونفع الله بجهودكم وكتب لكم الأجر والقبول
ـ[صالح الحازمي]ــــــــ[07 - 01 - 10, 05:29 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[أمة الله بنت عبد الله]ــــــــ[31 - 01 - 10, 05:55 ص]ـ
جزاكم الله خيرا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/249)
ـ[حمدان المطرى]ــــــــ[14 - 02 - 10, 02:33 م]ـ
جزاكم الله خيرا
ـ[محمود يحيى]ــــــــ[03 - 07 - 10, 11:36 ص]ـ
جزاكم الله خيرا(80/250)
بيع الأصول والثمار محمد مختار الشنقيطي
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 10:59 م]ـ
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [1] من رحمة الله تعالى بخلقه، ومن تيسيره لأسباب العيش في الحياة بالدنيا أن جعل حاجات بعضهم عند بعضهم الآخر، لتدور المنافع بينهم، وليستمر كل أحد لمنافع الآخرين، وليتم تبادل هذه المنافع على صور مختلفة منها البيع والشراء، ومما تكثر الحاجة إليه في البيع والشراء: بيع الأصول والثمار، وعندها ينبغي على المسلم معرفة أحكام بيع الأصول والثمار من صحة وفساد، وما يتعلق بها من شروط واستثناءات .. إلى غير ذلك، من الأحكام المتعلقة بهذا الباب. تعريف الأصول والثمار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار]: الأصول: جمع أصل، والأصل ما انبنى عليه غيره، كأساس الدار يسمى أصلاً؛ لأن الدار تبنى عليه. والثمار جمع ثمرة، وثمرة الشيء: نتاجه، وما يكون منه. فقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيع الأصول والثمار]؛ لأن مما جرت به العادة أن البائع إذا باع شيئاً، أو اشترى شيئاً، فتارةً يقصد عين الشيء، وتارةً يكون مقصوده الشيء ونتاجه الموجود، ومن هنا قد يقع الخلاف بين البائع والمشتري، كرجل باع بستاناً وفيه ثمرة، فاشتراه المشتري بمائة ألف، ثم قال له البائع: بعتك البستان، ولم أبعك الثمرة، فالثمرة لي. وقال المشتري: بل اشتريت الأصل والثمرة؛ فالثمرة لي. فإنهما يختصمان فيرد السؤال: هل الفرع يتبع الأصل، أو لا يتبعه؟ ومن هنا بينت الشريعة مسائل الفروع والثمار، ففي أحوال يحكم بكونها للبائع، وفي أحوال يحكم بكونها للمشتري، والأصل في هذا الباب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين، أنه قال: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، ومن باع عبداً وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع) ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأصل والنتاج الظاهر الذي لا يُسْتَصحَب مع العين، ومن هنا لا بد من بحث مسألة الفروع، ومسألة ما يتبع الشيء، وما لا يتبعه. ومن سعة الفقه الإسلامي أنه بيَّن مسائل التوابع في البيع، وفصل الفقهاء رحمهم الله تعالى هذه المسائل، وبيَّنوا ما يتبع المبيع، وما لا يتبعه، سواء كان المبيع من العقارات أم كان من المنقولات، فإنك قد تشتري داراً، فإذا تم البيع بينك وبين البائع فهناك أشياء من حق البائع أن يأخذها من الدار، وهناك أشياء ليس من حقه أن يأخذها، ومن هنا فصل العلماء ما الذي يتبع البيع، وما الذي لا يتبعه؟ فلربما لو ابتعت داراً، وجاء البائع وقال لك: أريد أن آخذ متاعي الذي في الدار، فإن من حقه أن يأخذ متاعاً معيناً وضع العلماء رحمهم الله تعالى له الضوابط، وكذلك لو باع منقولاً كالسيارة مثلاً، فتارة يكون من حقه أن يأخذ المتاع الموجود، كالفرش غير الملتصق بالسيارة، وهو الفرش الخاص به، وهكذا ما يكون من المتاع المتعلق به، كأن يضع أشرطة له يستمعها، فإن الأشرطة ليست تابعة للرقبة؛ لأنه باعك السيارة، ولم يبعك ما فيها من الأشرطة، وهكذا لو كان له في داخلها لباس، أو حوائج تختص به، فإنك لا تقول: قد اشتريت منك السيارة بما فيها؛ لأن البيع وقع على السيارة، فيتبع البيع ما قد انصب العقد عليه، وما لم ينصب العقد عليه فإنه لا يتبع والعكس، فلو أنه باعك السيارة، ثم أراد أن يأخذ عدتها اللازمة الموجودة فيها، كالآلات الموجودة لاستصلاح السيارة ونحوها، فإنه يقال له: ليس من حقك إلا الأدوات الخاصة التي تستصلح بها السيارة من أجهزة وعدد لا تكون موجودة في الأصل في السيارة، وإنما اشتراها لنفسه، فإن من حقه أن يأخذها. أما الآلات التي توجد في طبيعة السيارة، كالآلة التي ترفعها عند استصلاح ما يكون فيها من عطل، فإنه ليس من حقه أن يأخذها؛ لأنها موجودة في المبيع أصلاً، وتابعة له من أجل الارتفاق. لكن لو أنه اشترى آلات معينة، وأجهزة معينة، لاستصلاح السيارة عند العطل زائدةً عن المعروف والمألوف الذي يتبع عين السيارة، فإن من حقه أن يأخذها عند البيع. إذاً هذه المسألة مسألة مهمة يُحتاج فيها لعلمك، فتعلم ما الذي لك وما الذي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/251)
عليك بائعاً ومشترياً، وللناس أيضاً، فإنهم يختلفون ويختصمون ويحتكمون إلى العلماء، للفصل بينهم، فيدعي البائع أنه باع الرقبة ولم يبع ما فيها، والمشتري يدعي أنه اشترى الرقبة وما فيها، فتارة يكون البائع ظالماً، وتارة يكون المشتري ظالماً، ومن هنا وجب أن يعرف الحد الفاصل بين ملك البائع وملك المشتري، وهذا هو الذي يجعله العلماء في باب بيع الأصول والثمار. ...... علاقة باب بيع الأصول والثمار بباب الربا لعل سائلاً يسأل: ما علاقة هذا الباب بباب الربا؟ والجواب: الربا فيه زيادة ظلم؛ لأنه إذا باع الدينار بالدينارين، فقد ظلم صاحب الدينارين، فأخذ زائداً عن حقه؛ لأن الذي من حقه الدينار، فإذا أخذ الزائد فهو الربا الذي حرم الله تعالى، فإذا باع الأصل والثمر وجب عليه أن يعرف ما الذي له، حتى لا يأخذ الزائد المحرم، فاتفق هذا الباب وتناسب أن يذكر بعد باب الربا؛ لأنه إذا بُيِّنَ ما الذي يتبع المبيع، وما الذي لا يتبعه، أمكن أن ينصف الناس بعضهم بعضاً بحكم الله عز وجل، وبما استخرجه العلماء من مقاصد الشريعة وأدلتها وقواعدها العامة، مما يدل على الحقوق في البيع والشراء، وهذا ما قصد المصنف بيانه في هذا الموضع. كأنه يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة ببيع الأصول والثمار.
بيع الدور والبنيان وما يتبعها ...... ما يتبع الدور والبنيان عند بيعها قال رحمه الله تعالى: [إذا باع داراً شمل أرضها]: أي: إذا قال له: بعتك هذا البيت، أو هذه العمارة، أو هذه الغرفة، فإن البيع قد انصب على رقبة الدار، فذات الدار مملوكة بالبيع، ثم يشمل ذلك أصل الدار، وهي الأرض التي بنيت عليها، ويشمل سقفها وهواءها، أما ملكيتك لأرض الدار وما سفل منها فلظاهر قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل الظلم في أخذ الأعلى ظلماً في أخذ الأسفل، وجعل الأسفل تابعاً للأعلى، ومن هنا قال جماهير العلماء: من ملك داراً ملك أسفلها، وعليه قالوا: إنه لو كانت له دار، فأراد أحدٌ أن يستحدث من تحتها معبراً لم يكن من حقه حتى يستأذنه؛ لأنه ملكٌ له، ومن حقه أن يأذن له، ومن حقه أن يمتنع، لما يرى من رفقه أو ضرره. فمن ملك داراً ملك أرضها، فالدار التي بيعت، والصيغة التي وقعت بين البائع والمشتري على هذا المكان المعين ملكه بالعقد فإن قال له: بعتك هذه الدار وعيّنها، وكان طول الدار عشرين متراً أو ذراعاً، وعرضها عشرة، فإن هذه الدار بهذا الطول المتفق عليه ملك للمشتري إذا أوجب البيع، وتمت الصفقة بينهم، وحينئذ يملك الدار، ويملك أسفلها، فإذا باع داراً، شمل أرضها وما سفل منها. ومن هنا خَرَّجَ بعض العلماء مسألة: أنه لو كان معتكفاً في مسجد فنزل في أسفله لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج عن المسجد، وجعلوا حرمة الأسفل والأعلى بمنزلة. ومن هنا -أيضاً- خرج بعض العلماء المسألة المعروفة: وهي عدم جواز بناء المسجد فوق المتاجر؛ لأن الأرض إذا كانت موقوفة ومسبلة للمسجد، كانت غير مملوكة، وغير مستصلحة للمعاوضات بالبيع والشراء، وليست محلاًّ للبيع والشراء؛ لأن حرمة الأعلى والأسفل واحدة. ومن هنا أيضاً: إذا قلنا ملك الأسفل والأعلى، صح أن يملك أعلاها، فإذا صعد إلى أعلى المسجد لم يكن اعتكافه باطلاً، ولو حلف أنه لا يخرج من المسجد، فصعد إلى سطحه فإنه غير خارج؛ لأنه ما زال في حدود المسجد. وعليه كأنه لما قال له: بعتك هذه الدار، فإن هذا هو حد الدار، وحد البناء الذي وقع عليه العقد. وقول العلماء: من ملك داراً ملك أرضها، من باب بيان الاستحقاق، فحقك بهذا العقد الدار وأرضها وأساسها وأسفلها ملك لك. قال رحمه الله تعالى: [شمل أرضها وبناءها] قوله: [وبناءها]، أي: البناء الذي عليها، فلو كانت الأرض فيها غرفٌ، فإنك تملك هذه الغرف، ولو كانت عليها عمارة ملكتها، أو كان عليها أي بناء، كرجل باع قطعة في مخطط عليها سور، فإن هذا السور ملك لك إذا اشتريته، فلو أنه باعك هذه الأرض في المخطط بضابطها وعينها، وأخذتها وضبطتها، وعلمت أن هذه الأرض الفلانية ذات الرقم الفلاني ملك لك فأعطيته مئة ألف وهي قيمة الأرض واتفقتما، وإذا بالأرض عليها سور، فجاء لكي يخلع السور الموجودة فيها، فإنك تقول له: ليس من حقك؛
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/252)
لأنني أملك الأرض وبناءها، فليس من حقك أن تخلع هذا السور، أو تهدم هذا السور؛ لأنه صار إلى ملكي، ولا يستطيع أحد أن يحدث شيئاً في هذه السور، أو ينتفع بهذا السور إلا بأذني، ولذلك قال المصنف: [شمل أرضها وبناءها]. وهكذا بناء الدار، أي: البناء الموجود في الدار؛ فإنه يشمله البيع. وهنا مسألة عصرية -ونحن نحب دائماً أن نربط الموضوع بالوقائع الموجودة الآن- وهي أنه في بعض الأحيان يبيع الشخص داراً وهو لا يملك الأرض، وذلك في البيوت الجاهزة، والبيوت المتنقلة، فإذا قال له: عندي غرفة متنقلة، فإن هذا لا يستلزم أنه يبيعه الغرفة بما هي عليه من الأرض، فلو اتفقا على غرفة متنقلة -مثلاً- بطول معين وعرض معين من نوع معين، فاشتراها، ثم قال له: خذ غرفتك قال: لا، من ملك أرضاً ملك بناءها وأرضها، وهذه الأرض في حكم الدار، فأملك الأرض التي تحتها، نقول: لا، ليس لك هذا؛ لأنه باعك إياها على وصف التنقل، فأنت تملكها متنقلة، ولا تملكها ثابتة على الأرض. قال رحمه الله تعالى: [وسقفها]: سقف الدار كذلك، فإن السقف يملك، وعلى هذا قالوا: إنه إذا طاف في السطح الأعلى من المسجد، كان كمن طاف في أسفله؛ لأن الله تعالى يقول: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26]، وجماهير العلماء على أن الطواف لا يصح خارج البيت، فإذا طاف في داخل البيت صح طوافه. ولو صعد إلى الدور الثاني، أو صعد إلى الدور الثالث، قالوا: يصح طوافه؛ لأنه طاف في داخل البيت، ولم يخرج عن حرم البيت، ولو كان معتكفا وصعد من داخل المسجد إلى أعلى المسجد في الدور الأول والثاني فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه ما زال في حرم المسجد. فمعنى قوله: [وسقفها] أن السقف تابع للأسفل، وفرِّع على هذا مسألة السعي بين الصفا والمروة في الدور الثاني، فإنه مفرَّع على مسألة من ملك أرضاً ملك سماءها وبناءها. قال رحمه الله تعالى: [والباب الملصوق]: بعد أن بيّن لنا رحمه الله تعالى أنه يملك الأرض، ويملك البناء، يأتي السؤال الآن عن الأشياء الموجودة في جدران الأرض، كرجل باعك غرفة، وهذه الغرفة بطول معين، وعرض معين، وسمك معين، فاتفقتما، وتم البيع، ثم لما تم البيع ودفعت المال، جاء يريد أن يأخذ الباب والنافذة، ويقول: أنا بعتك الغرفة للجرم والذات، وما بعتك نوافذها، وأبوابها، ويقول: ما بعت لك إلا عين الرقبة، فهل من حقه أن يقول ذلك؟ نقول: لا، بل فيه تفصيل: فما كان من الأبواب مُسَمَّراً، في نفس الغرفة، فإنه يملك وينصب البيع عليه، وما كان منها منفصلاً، ولم يسمر، فإنه ليس من الرقبة، ولا يعتبر تابعاً للرقبة، وعلى هذا ليس من حقه أن يخلع الباب المسمر، ولا النافذة المسمرة، وعليه تكون تابعة للأصل وتابعة للدار. لكن لو كان الباب مخلوعاً، كما لو باعه الغرفة ونظر إليها وبابها مخلوع، فمعناه أنه اشترى حاضراً ناظراً بهذه الصفة، وحينئذ يتم البيع على أنها غرفة بدون باب. ولو كان عنده غرفة لها باب، وفي هذه الغرفة ثلاثة أبواب وضعها البائع في الغرفة، أي: استخدم الغرفة كمخزن، فجاء المشتري وقال: أنا أملك الغرفة والأبواب الموجودة، نقول: لا، فالأبواب فيها تفصيل، فما كان منها مسمراً يملك ويتبع العقد، وما كان منها غير مسمر فإنه لا يتبع العقد. قال رحمه الله تعالى: [والسلم والرف المسمرين]: السلم هو الذي يصعد عليه، وأما الرف فهو مثل الذي يوضع في دورات المياه، على المغاسل لتوضع عليه أشياء، ففي القديم كانوا يجعلونها في الغرف لأجل أن توضع عليها الأشياء، أو تكون في الصالات فإن المسمر منها في الغرفة لا يخرج، وليس من حقه أن يأخذه، لكن لو كان الرف مخلوعاً وموضوعاً في مخزن البيت، أو موضوعا في غرفة من غرف البيت كمخزن، فمن حقه عند البيع أن يأخذه؛ لأنه غير مسمر، وقد اشترى العين بصفاتها الموجودة، وحينئذ يجب عليه أن يترك المسمر، وأن يأخذ غير المسمر. والسلم ينقسم إلى قسمين -خاصة في القديم-: قسم من السلالم ثابت، كأن يبيعه داراً لها دوران، الدور الأرضي، والأول الذي فوق الأرضي، فالذي فوق الأرضي يحتاج إلى الصعود إليه بسلم، وهذا السلم ثابت موجود في نفس الدار، وهو -طبعاً- مسمر، ومحفور ومرتكز، فإنه إذا باعه يتبع المبيع، فلو جاء لكي يخلعه، نقول له: ليس من حقك خلعه، هذا مسمر وتابع للرقبة، وتابع للمبيع، وهناك قسم من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/253)
السلام ليس بمسمر، مثل السلم الذي تضعه في المكتبة من أجل أن ترقاه من أجل أن تجد كتاباً في الأعلى، أو سلم تستصلح به -مثلاً- مصابيح الكهرباء ونحو ذلك، أو تتناول به الأشياء العالية، وهذا النوع من السلالم غير مسمر، فهذا من حقه إذا باعك الدار أن يستخرجه ويأخذه معه، فهو غير مسمر، ولا يتبع الرقبة، ولا يكون البيع منصباً عليه مع ذاته. وبناء على ذلك يفصل في السلالم، فما كان منها مسمراً فإنه يتبع العين والرقبة، ولا يجوز فكه، ولا يجوز أن يأخذه البائع معه، وإنما يبقى مع المبيع ويتبعه، وما كان منها منفكاً ومتنقلاً غير مسمر، فمن حقه أن يأخذه معه. هذا بالنسبة للسلالم، فما الحكم في المصاعد؟ كما لو باعه عمارة فيها مصعد كهربائي، واشتراها منه بنصف مليون مثلاً، ثم فوجئ بالبائع يريد أن يأخذ المصعد معه، فقال له: بعتني العمارة والمصعد تابع للعمارة، قال: لا، أنا بعتك العمارة، وما بعتك المصعد، فننظر: إن كان المصعد مسمرا، بمعنى أنه في نفس العمارة ويعمل فحينئذ يصبح تابعاً للعمارة، حتى ولو كان عاطلا، ً ما دام أنه مهيأ للعمل، ومثبت في العمارة، فإنه تابع للرقبة، فيكون الخطأ من البائع، فإذا أراد أن يستثني فليقل: أبيعك العمارة إلا المصعد، إذا أراد أن لا يبيع المصعد، فإذا لم يستثنِ ودخل المشتري ورأى المصعد، ورأى العمارة بمصعدها فكأنه يقول له: أبيعك العمارة بمصعدها، وعلى هذا تكون المصاعد في حكم السلالم المسمّرة، ونحوها. لكن لو أنه باعه عمارةً وفي حوشها مصعد معطل، أو جاهز للعمل لكنه غير مركب، فهل يكون المصعد تابعاً للعمارة؟ نقول: لا؛ لأنه غير مسمر، وغير موجود في العمارة، والبيع وقع على العمارة، وهذا ليس متصلاً بها ولا في حكم المتصل بها. قال رحمه الله تعالى: [والخابية المدفونة]: أي: وكذلك الخابية المدفونة تتبعها، ويشترط الدفن؛ لأنه كالتسمير في الأرفف.
ما لا يتبع الدور عند بيعها قال رحمه الله تعالى: [دون ما هو مودع فيها من كنزٍ وحجر] قوله رحمه الله تعالى: [دون] استثناء، أي: لا يشمل البيع ما كان مودعاً في المبيع، أي: محفوظاً فيه، فإذا كانت لك عمارة فيها غرفة لك أشبه بالمخزن، فما وضع في هذه الغرفة مما هو من حوائجك الخاصة والأشياء التي لمصالحك تريد أن ترتفق بها، فإنها ملك لك، إذا كنت البائع، وليس من حقه أن يقول: اشتريت العمارة كلها بما فيها. فما أودع في المبيع، فليس بتابع للمبيع، وإنما يكون البيع على ظاهره، والمودع يكون ملكاً لصاحبه الذي أودعه دون المودع فيها. والودع: أصله الترك، ومنه قوله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى:3] أي ما تركك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات -يعني تركهم صلاة الجمعة- أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)، نسأل الله السلامة والعافية، فالودع الترك، وسميت الوديعة وديعة؛ لأن صاحبها يتركها عند من استودعه إياها. و [مِنْ] في قوله: [دون ما هو مودع فيها من كنز وحجر] بيانية، كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1]، فـ (من) هنا بيانية. وقوله: [دون ما هو مودع فيها من كنز]، أي: من أمثلة ما يودع فيها الكنز، كمثل رجل أخذ دنانير ذهب -وفي القديم كان الناس يخافون على أموالهم، وليس هناك أماكن يحفظون فيها الأموال- فربما وضع الذهب في صرة أو نحوها وحفر لها في الدار، ثم دفنها، كأنه يكتنزها لنفسه للحاجة، فهذا كنزٌ أو في حكم الكنز. كذلك في زماننا اختلفت الصورة، فلو أن رجلاً عنده خزنة، وفي هذه الخزنة -مثلاً- مائة ألف، أو فيها حلي، أو فيها ذهب، أو فيها جواهر، فهو يضع في هذه الخزنة أموالاً، فباع العمارة ثم جاء إلى الخزانة يريد أن يفتحها، فقال له المشتري: لا، هذه العمارة بعتني إياها بما فيها، فالكنز لي. فليس من حقه، فالبائع يقول: بعتك العمارة ولم أبعك كنوزها؛ لأن هذا الكنز ملك لي، فهذا معنى قوله: [من كنز]، أي: ما كان مكتنزاً في العمارة، محفوظاً ومودعا فيها، فإنه ملك لبائعها، ليس من حق المشتري أن يطالبه به. قال رحمه الله تعالى: [ومنفصل منها كحبلٍ ودلوٍ]: أي: كحبل الدلو، فقد كانوا في القديم يحفرون الآبار في البيوت حتى يستقون منها ويرتفقون بها، فالحبل يحتاجه من أجل أن يستقي الماء،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/254)
وربما كان الحبل موجوداً في المخزن، فالحبل إذا كان موجوداً في الدار، للاستسقاء بالدلو، فهذا لا يعتبر تابعاً للبيع، وإنما باعه البئر، والبئر تابعة للرقبة، وهذا الحبل ليس بمسمر ولا بمتصل، وهكذا الدلو الذي يغرف به لا يعتبر تابعاً للمبيع. قال رحمه الله تعالى: [وبكرة]: وهكذا البكرة التي يجري عليها الحبل. قال رحمه الله تعالى: [وقفل]: القفل: واحد الأقفال، وكانوا في القديم يضعون الأقفال على الأبواب، يقفلون بها، فالباب له قفل يضعه البائع على داره، ثم لما باع الدار جاء وأخذ أقفالها، فهل من حقه ذلك؟ نقول: نعم؛ لأن القفل ليس متصلاً بالمبيع، فمن حقه أن يأخذ الأقفال، لكن في زماننا هذا تستخدم الأقفال المتصلة، فإذا كانت الأقفال متصلة فليس من حقه أن يأخذها، لكن الأقفال المنفصلة، ونحوها الضباب التي تعلق تعتبر ملكاً للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، وهكذا السلاسل التي توضع على الأبواب تسفل بها لتقفل، فإنها تعتبر تابعة للبيع، فالمشتري إذا اشترى يشتري القفل الذي يناسبه، وهو يملك المتصل دون المنفصل، وهذا هو ضابطها كما قال رحمه الله: [دون ما هو مودع فيها ... ومنفصل منها .. ]. قال رحمه الله: [وفرش]. إذا باع عمارة أو غرفة فمن حقه أن يأخذ جميع الفرش الموجودة فيها، وحينئذ يقوم المشتري بفرشها من جديد، أو الاستغناء عن فرشها إذا كان يريدها لغير الجلوس، فالمهم أن الفراش يكون ملكاً للبائع، فإن الفراش ليس متصلاً بالرقبة، ولا يأخذ حكم المتصل، لكن في بعض الأحيان إذا كان الشيء المبيع مهيأً لكي ينتفع به المنتفع، كأن يبيعه شيئاً يقُصد به نفعٌ معين ولهذا المبيع تهيئة خاصة تتعلق به، مثل ما يوجد في المحلات الآن كما لو باعه -مثلاً- مطبخا، أو باعه على أنه مطبخ، فإن جميع ما يتعلق بهذا المطبخ من عُدَدِه وآلاته ووسائله إذا كان مهيأ مجهزاً بذلك يكون تابعاً للمبيع. لكن إذا باعه العمارة السكنية، أو باعه الغرفة، فإن هذا كله لا يعتبر فيه الفراش تابعاً، ويعتبر منفصلا عن المبيع فمن حقه أن يخلع الفراش ويقوم المشتري بفرشها بما يشاء. قال رحمه الله تعالى: [ومفتاح]: أي: والمفاتيح كذلك، وهذا في الأقفال، فإذا كان القفل ملكاً للبائع فمعنى ذلك أن المفتاح سيكون ملكاً للبائع، لكن الكوالين الموجودة الآن، تعطى بالمفاتيح للمشتري؛ لأنها متصلة بالمبيع، وهذا الذي ذكره المصنف رحمه الله كائنٌ في المبيعات القديمة، لكن نمثل بأشياء موجودة اليوم، فمثلاً: في زماننا لو باع سيارة،، وكانت رقبتها ليس فيها أشياء تخص المشتري فلا إشكال، فحينئذ يتبع السيارة ما هو فيها من آلاتها وعددها المعروفة بالعرف، لكن لو أنه -طالب أي البائع- بشيء موجود فيها بالعرف، كأن يكون باعه سيارة فأراد أن يستخرج مسجلها مثلاً، أو المكيف الموجود فيها، فهل من حقه ذلك؟ الجواب: ليس من حقه ذلك؛ لأنه متصلٌ بالمبيع ومسمرٌ في المبيع، ووقع البيع أثناء العقد على هذا الشيء بعينه، فإن أراد أن يستثني فعليه أن ينص على ذلك ويقول: دون مسجلها أو: أبيعك هذه السيارة وأشترط أن آخذ مسجلها، أو مكيفها، أو راديها، أو نحو ذلك من الأشياء الموجودة فيها مما هو متصل بها. كذلك أيضاً لو باع داراً وقام على أجهزتها الكهربائية واستخرجها وخلعها، وقال: هذه الدار المسلمة هي التي بعتك إياها، أما بالنسبة لما فيها من الأدوات الكهربائية فأنا ما بعتك إياها، فهل من حقه أن يستخرج هذه الأجهزة الكهربائية أو لا؟ فيه تفصيل: فما كان منها متصلاً مثل المصابيح الكهربائية، فهذه تبقى، وليس من حقه أن يستخرجها، أما ما كان منفصلاً، كالثلاجات والغسالات، فهذه تعتبر منفصلة، وفي حكم المنفصل، فمن حقه أن يأخذها؛ لأن ليست تابعة للرقبة. فلو باعه داراً فيها تلفون، فهل من حقه أن يأخذ التلفون معه؟ أو يترك له خط التلفون؟ نقول: إن التلفون ملكٌ لصاحبه؛ لأن التلفون في الأصل صفة كمال في المبيع، ولذلك الدور منها ما هو موجود فيها، ومنها ما هو غير موجود، لكن الكهرباء موجودة في المبيعات، وحينئذ نقول: هذا التلفون من حقه أن يستخرجه، لكن لو اشترط المشتري، وقال: أشتري الدار بما فيها من التلفونات، كان من حقه ذلك. وبناء على ذلك، يُفرق بين ما يكون متصلاً، خاصة بالعرف، وبين ما يكون منفصلاً عن الدار، فيتبع المتصل ولا يتبع المنفصل،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/255)
وكذلك أيضاً من الفراش، فما يوجد من فرش الدار الموجود في عصرنا، فيحكم بكونه ملكاً للبائع، كما قرر العلماء رحمهم الله تعالى أن فرش الدار يكون ملكاً للبائع، ولا يحكم بكونه تابعاً للرقبة.
بيع الأرض وما عليها ...... بيع الأرض مطلقاً يشمل الغرس والبناء قال رحمه الله تعالى: [وإن باع أرضاً ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها]: لو أن رجلاً قال لك: أبيعك مزرعةً طولها كذا، وعرضها كذا، في مكان كذا، فإنه حينئذ أوجب الصفق على هذا المبيع الموصوف في الذمة، أو المعين، كأن يقول: مزرعتي هذه، والمزرعة فيها زرع، فلما أوجب البيع وتمت الصفقة، قال لك: بعتك الأرض، فأنت تأخذ المزرعة، أي: الأرض الصالحة للزراعة، فمن حقي أن أخلع النخل، وأُخرج النخل، ومن حقي أن أخرج الزروع إلا أن تعوضني عنها، فيقال: من باع أرضاً شمل غرسها وزرعها، وليس من حق البائع أن يأخذ ذلك، إلا إذا اشترط على المشتري، فقال له: أبيعك هذه المزرعة على أن آخذ جميع ما فيها، فحينئذ لا إشكال، إما أن يخلع النخل أو يتراضى مع البائع على حسب ما يتفقا.
حكم الزرع الموجود في الأرض المبيعة قال رحمه الله تعالى: [وإن كان فيها زرع كبُر وشعير، فلبائع مبقي]: الحبوب إذا زرعها البائع فإن هذه الحبوب لا تبقى ولا تستديم، ولا تعتبر تابعةً للمبيع، وتكون للبائع، لكن يستبقيها إلى الحصاد، فيكون من حقه إذا باع الأرض أن يبقيها، ويطالب المشتري ببقائها وسقيها حتى يحصدها، فإن هذا الزرع مبقيٌ للبائع إلى الحصاد، فإذا جاء الحصاد وجب عليه أن يحصد، وتكون مئونة الحصاد، وكلفة الحصاد على المشتري، ثم بعد ذلك تبقى الأرض والرقبة للبائع. ثانياً: ما كان نتاجه مراراً: قال رحمه الله تعالى: [وإن كان يجز أو يلقط مراراً، فحقوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع]: الآن بيّن لنا أن الذي يبتاع الرقبة يملكها وما فيها مما هو متصلٌ بها، والزرع في الأصل متصلٌ بالأرض، وكان ينبغي أن يكون تابعاً للبيع، لكن العلماء رحمهم الله فصلوا في هذا؛ لأن السنة نبهت على ملكية البائع لزرعه إذا كان له ثمرة في ذلك الزرع، فتخرج في ملكه ولا تخرج في ملك المشتري. والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من باع نخلاً قد أبرت)، فالأصل النخل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أبرت)، أي: الثمرة، فإذا أبرت النخلة فمعناه أن الثمرة حدثت في ملكي أنا البائع، فليس من حق المشتري أن يطالبني بها، إلا إذا اشترط، فإذا أبرت النخلة فمعناه أن هذه الثمرة التي أبرت حدثت في ملكي وضماني، فأنا أستحقها ويتم البيع على الأصل دون الثمرة. وبناءً على هذا تكون لي الثمرة في تلك السنة، لكن في السنة القادمة إذا أطلعَ النخلُ تكون الثمرة للمشتري؛ لأنها وقعت في ملك المشتري، أكد هذا النبي صلى الله عليه وسلم بالمفهوم، فلما قال بمنطوق النص،: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع)، فهمنا أن من باع نخلاً لم تؤبر فثمرتها للمشتري. وعلى هذا كأن الثمرة إن وقعت في ملك البائع فللبائع، وإن وقعت في ملك المشتري فللمشتري. وبناء عليه يُفَصَّل في الثمار، فلو أنه باعه نخلاً قد أبرت، وقلنا: إنها تابعةٌ للبائع، فإن الموجود عندنا أصل وثمرة، فالذي دلت عليه السنة أن المشتري يملك الثمرة لذلك العام وحده، ففرع عليهما ما كان يُجز ويُلقط مراراً، فما يجز مراراً مثل الكرّاث، ومثل البرسيم، فالبرسيم إذا جززته نبت مرة ثانية، والكرّاث إذا جززته نبت مرة ثانية، أو يلقط كالعنب فإنه يؤخذ ويلقط، والرطب والبلح ونحو ذلك، هذا كله يلقط، وقد يلقط ويتجدد، وقد يلقط على بطن ظاهر وبطن متخلف، كالقثاء، والباذنجان، ونحو ذلك. إذاً لا بد من التفصيل في هذه الأنواع كلها، فما كان له جزة واحدة كالحبوب، فإنه إذا باع أرضاً فيها زرع، كالحب، فإنه يكون قد حدث في ملك البائع، فليس من حق المشتري أن يطالبه بهذا الزرع الموجود، ويجزه البائع عند حصاده، ويكون ملكاً له، إلا إذا اشترط المشتري، وقال: أشترط أن آخذ الأرض بهذا الزرع الموجود فيها فهي ملكٌ له. الحالة الثانية: أن يكون مما يجز، ولاحظ أن الأول يجز فلا يعود، فجزَّته واحدة، أما الذي يجز ويعود، إن كان يجز مرة بعد مرة، كالبرسيم، فإنه ربما يبقى في الأرض خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، على حسب أنواعه،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/256)
وحسب جودة الأرض، فإذا كان هذا البرسيم يجز مرة بعد مرة فباعه والبرسيم فيه جزة ظاهرة فإنها قد حدثت في ملك البائع، فنقول: أصل البرسيم للمشتري والجزة الظاهرة للبائع، ولكن الأصل للمشتري، فإذا جز البائع الجزة الظاهرة أصبح الكل ملكاً للمشتري. قال رحمه الله تعالى: [وإن اشترط المشتري ذلك صح]: أي: إن اشترط المشتري ذلك، فقال: الجزة الظاهرة لي، أو قال فيما يلقط: هذا الملتقط لي، أو قال في ثمرة البستان هذا لي، فإنه يكون له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع)، أي: أنها ملك للمبتاع إن اشترطها.
أحكام بيع النخل مع ثمره قال رحمه الله تعالى: [فصل: ومن باع نخلاً تشقق طلعه فلبائع مَبقيٌ إلى الجذاذ، إلا أن يشترطه مشترٍ]: هذا الفصل ينبني على ما قبله، وانظروا إلى سعة هذه الشريعة ودقتها، وكيف أن الحديث الواحد يمكن أن تفرع عليه أبواب، وتبنى عليه فصول، وتبنى عليه قواعد وأصول؛ لأنها شريعة كاملة، نبهت بالقواعد العامة وبالأصول العامة، فهذا الحديث حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، ومن باع عبدا له مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) أصل عظيم في مسألة ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه، وكل المسائل تفرعت على هذا الأصل، وانبنت عليه. فالزروع تكون ملحقة بالمعنى، والمنقولات تكون ملحقة بالأصل، وهذا لا شك يدل على عظم هذه الشريعة، وأنها شملت، فما تركت صغيراً ولا كبيراً إلا بينته، ويدل أيضاً على أن القواعد الكلية في الشريعة أصل معتبر؛ لكي يحكم بشموليتها، وعلى هذا فما ذكرناه في الفصل السابق مفرع على هذا الحديث. يقول رحمه الله تعالى: [ومن باع نخلاً تشقق طلعه]: النخل: معروف طبعاً، وهذا النخل من حكمة الله سبحانه وتعالى، يراد لثمره وما يكون منه، وهو ينقسم إلى زوجين: الذكور والإناث، فذكور النخل هي الفحول التي يؤخذ منها اللقاح لكي يلقح به الأنثى، وهناك الإناث التي فيها الثمار المختلفة، اختلفت ألوانها، واختلفت أشكالها واختلف طعمها، والكل يُسقى بماء واحد، وهذا من أعظم الدلائل على وحدانية الله جل جلاله، فهو دليل على وحدانيته تعالى، ومن شواهد التوحيد أنك إذا تأملته وجدته مختلفاً أُكُله، ومختلفاً أشكاله، ومختلفاً حتى في مواسم خروجه. وثمره بعضه يؤكل بلحاً، ولا تستطيبه وتجده ألذ ما يكون إلا بلحاً، وبعضه لا تستعذبه ولا تجده لذيذاً إلا وهو رطب، وبعضه لا تستلذه إلا تمراً كامل اليبس، وأيضاً تجده مختلف الألوان، فإذا بدا اللون الأخضر فيه، الذي هو الأصل، ينقلب إلى أحمر، وينقلب إلى أصفر، وينقلب إلى أبيض أشهب، وقد يبقى على خضرته، وهذا كله يدل على وجود الله جل جلاله ووحدانيته؛ لأن هذه الأشياء لو حدثت بنفسها كانت حدثت بلون واحد، وحدثت بشكل واحد، وبطعم واحد، وتجدها تختلف باختلاف المؤثرات؛ لكن الله سبحانه وتعالى جعلها على حالة مختلفة مع أنها تسقى بماء واحد وفي أرض واحدة، كما قال تعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4] فليست آيةً، بل آيات، لكن لمن يتأمل، فأعظم به سبحانه وتعالى! وهذا النخل من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تطلع ثمرته من الأنثى، وتخرج ثمرته في وعاء كيزان تكون حافظةً للثمرة بإذن الله عز وجل، وتتخلق الثمرة فيما لا يقل عن شهرين، تستتم وتتخلق في داخل النخلة، ثم تخرج من بين الجريد وبين الجذع، وتستتم خروجها حتى تكتمل إلى القدر الذي تكتمل إليه، ثم ينشق هذا الوعاء بقدرة الله عز وجل، وقد يكون طلعه في زمان بارد، فيوافق عند التشقق حرارة تعتريه، وقد يكون الناس في شدة البرد، لكن يرسل الله عز وجل عليه من الحرارة ما يكتمه حتى يتشقق؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا قال للشيء: كن، فيكون، ولو كان في شدة البرد، فإن الله سبحانه وتعالى يخرجه، ولو كنت في شدة الحر، وأنت تتألم يفجر لك الأنهار من الجبال عذبة باردة، سبحانه! سبحانه! وأعظم به. فالشاهد أنه يخرج ذاك الكوز مكتملاً، فإذا اكتمل تشقق، ويتشقق بعد يوم، أو يومين، أو ثلاثة أو أسبوع على حسب المناطق، وعلى حسب النوعية، ثم إذا بدأ يتشقق يأتي الفلاح
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/257)
إلى الذكر، والذكر يطلع في الوقت الذي تطلع فيه الإناث، فتخرج كيزانه مغلفة، فتقص وهي مغلفة، ثم يزال الغلاف الخارجي، وبعض الناس يلقح به وهو طري، وبعضهم ينشره في الشمس؛ لأن الشمس تقوي اللقاح وتغذيه وتجعل فائدته أكثر، فيتركونه ينشر في الشمس ليستوي. وفيه غبار، ورائحته كمني الرجل الآدمي، سبحان الله! ولذلك تجد العلماء يقولون عن المني: رائحته كطلع النخل، سبحان الله تعالى! ويقولون: إن النخل تشبه الإنسان كثيراً، حتى إن فيها الكريم وفيها البخيل -سبحان الله تعالى! - أي: في الصفات، فيقولون: إنها من أشبه ما تكون بالإنسان، فمن هنا إذا وضع اللقاح خرجت وتشققت، ولا يمكن أن تصلح هذه الثمرة إلا إذا لقحت ووضع هذا الغبار. ثم انظر إلى أنواعه، فبعض الأنواع بمجرد ما تنشق تلقح، وبعضها الأفضل أن تبرد، وتنتظر يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام، وإذا برزت ولقحتها بعد البروز كانت ثمرتها فاخرة، فإذا بادرتها باللقاح في أول شيء جاءت ثمرتها صغيرة، فلربما حشفت وجاء الشيط الذي لا نوى فيه، فتجد بعضها ليس فيه نوى؛ لأنه لم يلقح، أو بادره باللقاح قبل وقته. ثم منه العكس، فبعضه ما لم يبادر مباشرة بلقاحه صار إلى الشيص وتغير، يخالف بين الأحوال حتى يدل على وجود الله سبحانه وتعالى، وأن هذه الأمور وراءها أمر من الله جل جلاله، ومدبر يدبرها سبحانه وتعالى. فالشاهد إذا جاء الفلاح وغبر النخل، قالوا أبرها، فهذا هو التأبير. إذاً عندنا مراحل للنخلة: الكن الذي يكون قبل تخلق الثمرة، ثم بعد ذلك الطلع بداية الطلع، ثم بعد ذلك التشقق، ثم بعد ذلك التأبير، فإذا أبرت وغُبرت، فهنا جعل الشرع هذا الحد فاصلاً بين ملك البائع وملك المشتري، فقال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبرت، فثمرتها للبائع)؛ لأنها إذا أطلعت وتشققت ففي ملك من ظهرت الثمرة؟ الجواب: في ملك البائع، فإن حدثت الثمرة في ملكي، فإذا بعت فقد بعت الأصل، والثمرةُ لا زالت ملكاً لي! فإذا لم ينصب العقد عليها بالتبعية لم يحكم بتبعيتها. لكن لو أنه باع البستان، أو باع النخلة وهي لم تؤبر، أو بمجرد بدو الكيزان أو خروجها ولم تتشقق، فقالوا: إذا باعه قبل مرحلة التشقق والتأبير فإنها تتبع المبيع، وتصبح الثمرة حينئذ تشققت وتأبرت في ملك المشتري، وتصير ملكه، فهذا الفاصل بين مال البائع والمشتري. قال صلى الله عليه وسلم: (من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع). قوله رحمه الله تعالى: [إلا أن يشترطها مشترٍ]: إلا أن يشترطها المبتاع هو اللفظ الصحيح، أو المشتري بمعنى: المبتاع الذي اشترى، فلو قال له: بعتك بستاناً فيه نخلٌ مؤبر، فقال المشتري: أشترط أن تكون الثمرة تابعة للنخل، فقال له البائع: لك ذلك، فحينئذ يملكها بالشرط ولا يملكها بالأصل، وعلى هذا يتم البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، أي: أنه إذا اشترط عليك فمن حقه أن تفي له بشرطه. ...... بيع العنب والتوت والرمان ونحوه مع ثمره قال رحمه الله تعالى: [وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره]: هناك نوع من الثمار يظهر من نَوْرِه، ومنها ما يتشقق من أكمامه، ومنها ما يظهر من الأرض، فهذا الشيء الذي تتفتح أكمامه تكون العبرة بتفتحه؛ لأنها تفتحت الثمرة على ملك البائع، وهذا الشيء الذي يكون في داخل النَّور كالتفاح ونحوه، إذا تساقط عنه نَوره، فإنه حينئذ تظهر الثمرة بعد تساقط الأنوار الذي فيه، وهكذا الليمون إذا تساقط زهره، فحينئذ تجعل لكل ثمرة ظهورها، وهذا يختلف باختلاف أنواع الثمار، فما كان منها له أكمام ويتفتح فإنه عند تفتحه عن كُمِّه يكون تابعاً للأصل، فإن وقع البيع قبله فإنه يكون ملكاً للمشتري؛ لأنه ظهرت الثمرة بعد البيع، وإذا ظهرت الثمرة قبل البيع يكون للبائع سواءً أظهرت بتفتح الكم أم بغيره؛ لأن الثمرات تخرج من أكمامها، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا [فصلت:47]، فهناك نوع من الثمرات يخرج من أكمامه، وبعضها يتشقق كذلك عن قشره، وبعضها يكون داخل وعائه مثل اللوز، والجوز، ونحوه، فهذا يرجع فيه إلى أهل الخبرة في ظهوره، إن ظهرت علامات وجوده فإنه يحكم بكونه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/258)
ملكاً للبائع إن كان ظهوره قبل العقد، ويحكم بكونه ملكاً للمشتري إن كان ظهوره بعد العقد. قال رحمه الله تعالى: [وما ظهر من نوره كالمشمش والتفاح]: هذه كلها يحكم بكونها ملكاً للبائع إذا ظهرت من نَوْرها قبل العقد، وتكون ملكاً للمشتري إن ظهرت من نَوْرها بعد العقد. قال رحمه الله تعالى: [وما خرج من أكمامه كالورد والقطن]: الورد يظهر وهو مستغلق الأكمام، ثم بعد ذلك يخرج قلب الوردة من كمها، فتظهر ثمرة الورد، ومن المعلوم أن المزرعة قد تباع وتكون مزرعة ورد، والورد يباع وينتفع به، وله ثمن وله قيمة، فتشتري منه هذه المزرعة التي فيها ورود، أو فيها الفل والياسمين ونحوها من الزهور التي لها روائح وينتفع بها، فإذا كانت هذه المبيعات تفتحت وظهرت ثمارها من أكمامها أو من قشورها، فتقشرت أو ظهرت، أو خرجت من كيزانها -كما في النخل-، فإنه يحكم بكونها للبائع إن كان الظهور وهي في ملك البائع أي قبل العقد، ويحكم بكونها للمشتري إن كان جميع ذلك بعد العقد. قال رحمه الله تعالى: [وما قبل ذلك والورق فلمشترٍ]: قوله: [وما قبل ذلك] أي: ما كان قبل ذلك، يعن: ي قبل ظهور الثمرة، إما بتشقق الكيزان كما في النخل، إن قيل: العبرة بالتشقق، أو قيل العبرة بالتأبير؛ لأن الأول يختاره الجمهور والثاني يختاره الإمام أحمد رحمة الله عليه، أو كان بظهوره من نَوْره كالتفاح والمشمش ونحوه، أو كان بتفتح أكمامه كالورد ونحوه من الزهور، فهذا كله إن وقع فيه الظهور للثمرة قبل العقد كان في ملك البائع، وإن كان بعده كان في ملك المشتري وما كان قبل ذلك، أي: ما كان مبيعاً وحدث فيه ذلك، (قبل العقد) أي: قبل البيع، فإنه يكون ملكا ً للبائع؛ لأنه حدث في ملكه. قوله: [والورق] في بعض الأحيان يكون ملكاً للبائع مطلقاً، إذا كان الورق الظاهر مثل الحنا، فالحناء إذا بيعت يراد منها الورق، فالورق الظاهر للبائع، فينتف ورقها ثم تعيد ورقها مرة ثانية لملك المشتري؛ لأن الورق الأول كان في ملك البائع، فإذا باعه الحنا كان من حقه أن يقطف ورقها؛ لأن الورق مقصود. لكن هناك ورق غير مقصود، كورق الأغصان الذي ليس هو بذاته يباع مثل ما يقع في النباتات، فهذا من حيث الأصل أنه إذا بيع يكون تبعاً للمبيع، مثل الجريد، فالجريد يكون تابعاً للنخلة، فلو باعه نخلته ثم قام المشتري يريد أن يقص جميع جريدها، ويقول: الورق للبائع، نقول له: لا؛ لأن هذا الورق في الأصل للمبيع، لكن لو باعه شيئاً يراد منه الورق، فالورق الظاهر للبائع، والورق الذي هو البطن الذي بعده للمشتري، وذلك في الذي يتجدد ورقه. وكذلك ورق العنب يقطف في موسمه، ويكون ملكاً للبائع في هذه الحالة، ثم ما تجدد منه يكون ملكاً للمشتري. إذاً الورق فيه تفصيل على ما ذكرناه، وإطلاق المصنف يحتاج إلى نظر، وقد نبه بعض العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك كالإمام الماوردي وغيره، فنبهوا على أن الورق منه ما يكون مقصوداً؛ لأن المبيعات منها ما يقصد منها ورقها، ومنها ما يقصد منها ثمرتها، ومنها ما يقصد منه الأمران: الورق والثمرة، أي: كون المنفعة في الورق والثمرة، وعلى هذا فإنه إذا باعه مبيعاً له ورق، والورق حدث في ملك البائع، ثم لما باعه قال: أريد أن آخذ هذا البطن من الورق الذي حدث في ملكي، كان من حقه ذلك، فلا يكون الورق للمشتري، وإنما يكون للبائع. ...... الأسئلة ...... الدار المشتركة وحكم أرضها السؤال: إذا اشترك جماعة في بناء دار وأصبح لكلٍّ شقة من الدار، فلمن تكون الأرض؟ الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإذا اشترك جماعة في أرض، وكانت مشاعة بينهم مناصفة، كرجلين يملك كل منهما نصف الأرض، أو أثلاثاً، أو أرباعاً، أو أخماساً على حسب الشراكة، وبنوها بنفس السهم الذي لهم، فبنوها -مثلاً- بنصف مليون، كلٌّ دفع مائة ألف وهم خمسة، فحينئذ تكون الأرض وبناؤها وما عليها بينهم أخماساً، كل يملك خمس الأرض، فإن أمكن قسمتها كأن تكون فيها خمس شقق، فلكلٍّ شقة ينتفع بها، فإن تنازعوا فقال أحدهم: آخذ الشقة السفلى؛ لأنها أخف مؤنة وأقل عناءً، وقال البقية: بل نحن نأخذها، فتشاحوا فيها، فإنهم يقترعون وتجري بينهم القرعة، ثم بعد ذلك تكون بينهم إذا أرادوا أن يسكنوها، أما لو أرادوا أن يؤجروها فإنها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/259)
تؤجر، ويكون لكلٍّ خمس أجرتها. هذا بالنسبة للملكية، وبالنسبة لبيع الشقة بعد وجود العمارة فله حكم خاص، فإذا كانت العمارة فيها ثلاثُ شقق، وأراد صاحبها أن يبيعها على ثلاثة أشخاص، وقال: أبيع هذه العمارة بينكم الثلاثة. صح البيع، وحينئذ تكون الأرض بذاتها، وشققها مشاعة بينهم، لكن لو قال لأحد: أبيعك شقة من هذه العمارة، وباع للثاني شقة، وباع للثالث شقة، فهنا لا يصح البيع على أصح أقوال العلماء رحمهم الله تعالى. والسبب في هذا أننا لو قلنا: إن الشقة تملك وحدها، يكون ملك صاحب الدور الأول الشقة الأولى، وملك صاحب الدور الثاني الشقة الثانية، وملك صاحب الدور الثالث الشقة الثالثة، فيبقى السطوح لا شقة فيه، فيأتي ويحدث شقة رابعة، ويبيعها على رابع، ثم يأتي ويحدث شقة خامسة ويبيعها على خامس، ويصبح السطح ليس ملكاً لأحد، بل ملك له متى ما شاء بنى فيه؛ لأنه إنما باع الشقق، وهو يملك الأرض ويملك سماءها، فإذا قلنا بصحة البيع للشقة بذاتها، فمعناه أنه يملك بدرومها وأساسها وما فيها، ويملك أيضاً عاليها، فيتصرف في العالي كما شاء، وهذا لا شك يدخل فيه الغرر؛ لأنه يخاطر بأصحاب الشقق، فأنت إذا بنيت العمارة على أنها -مثلاً- ثلاث شقق، أو على أنها ثلاثة أدوار، ليس كما لو أحدثت أدواراً فوقها. ثم إن هذه الشقة لو قلنا: إنه قد باع الشقة ويملك المشتري الشقة فقط، فهذه الشقة كم ستبقى؛ لأنه سيملك الشقة وحدها، فلا ندري أيطول أجل العمارة وهي باقية فيطول أجل الشقة؟ أم يقصر أجل العمارة؟ وقد تكون العمارة محكوماً عليها أنها خلال عشرين سنة، أو ثلاثين سنة ستنتهي، فإذا تهدمت فلمن تكون الأرض؛ لأنه باعه الشقة وما باعه الأرض. فالعقود لا بد أن تحدد، فإن كان يريد أن يبيعه فيبيعه بالمشاع، كأن يقول له: هذه عمارة لك ربعها، فكل يعرف حقه، وكل يعرف نصيبه، لكن أن يقول له: أبيعك شقة من عمارة، ولا يدرى كم تبقى، فكيف يصح هذا؟ وصحيح لو أننا اشترينا العمارة كذلك، لا ندري كم تبقى؟ لكن حتى لو فنيت في أقرب أجل، فإني أملك أرضها، أما أني أملك شقة فقط! ويزول ملكي بزوال الشقة! ولا أدري أقريب أم بعيد، ولا أدري كم بقاؤها، ويخاطر البائع ويغرر بالمشتري فلا، لكن لو ملكت الأرض، أو جزءاً من الأرض، ويكون لي ربع الأرض، فإني أنتفع بشقة، كأنها ربع قسمة، كما لو مات ميت عن دار وقسمت بين الورثة فلا إشكال، لكن أن يقال: أبيعك الشقة بعينها فهذا غرر، وهذا على أصح قولي العلماء، واختيار طائفة من مشايخنا رحمة الله عليهم، أنه لا يصح بيع الشقة لما فيه من الغرر؛ لأن الملكية تنصب على الشقة، ولا يكون لذات الأرض فيها ملك. وإذا قيل بملكيتها كأن يقال: بيع الشقق المراد به أن يملك الشقة، فتقسم العمارة بحسب الشقق، فإن الدور الرابع ليس ملكاً لأحد، فلو كان هناك ثلاث شقق، فباع للأول شقة وللثاني شقة، وللثالث شقة، فإن قالوا: نحكم بأن لكلٍّ شقة، فتصبح الأرض أثلاثاً، نقول: السطح ليس بمبيع، بل السطح ملك للبائع، فإن قلت: أقسمها أثلاثاً، قلنا: كيف جعلت من لا شقة له يقاسم الذي له شقة؟ وكيف جعلت قيمة السطح الذي لا شقة فيه بقيمة الشقة؟ إن قلت: أدخل صاحب العمارة شريكاً فتكون أرباعاً؟ فحينئذٍ ليس هناك تكافؤٌ؛ لأن السطح ليس فيه بناء كما في الشقة! وإن قلت: أدخله بجزء، فكم هذا الجزء؟ وإن قلت: لا أدخله، فإن الأرض في الأصل ملك له بكاملها، وقد باع شقة ولم يبع سطحها، ولم يبع ما فيها، فإن قلت: إن سطح العمارة يكون تابعاً للشقق، نقول: حينئذ من باع شقة فإنه يكون ما فوق الشقق تابعاً لهذه الشقة، وهذا لا يستقيم من ناحية فقهية، فلا يستقيم أن نقول: إنه يجوز أن تجزأ العمارة، ولذلك تقع مشاكل كثيرة في بيع الشقق، وبيع أجزاء العمائر من الشقق المملكة. وهناك قول ثانٍ، ولهذا القول وجهته، ومن اشترى شقة يتأول على هذا القول الثاني فلا بأس، وهذا حكمٌ مثل ما يختلف العلماء على قولين، لكن نحن نبين ما ظهر لنا بالدليل؛ فإننا لا نعرف في زمن السلف رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يبيعون دوراً من العمارة، أو دوراً من الأرض، أو غرفة من الدار، إنما تباع إما بنسبة مشاعة، كنصف العمارة، أو ربعها، أو ثمنها، فيقول له: أدخل معك شريكاً، فبكم تبيع هذه العمارة؟ فإن قال: بمليون، قال: أنا أدفع نصف مليون، ونصبح شركاء
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/260)
فيها، وحينئذ لا تجد أي شبهة أو لبس، حيث يدخلون سوياً في الغرم والغنم، وإذا جئنا نقسم الأرباح نعرف كيف نقسمها، فلهذا نصف ولهذا نصف، وإذا قسمنا الأضرار نقسمها بالنصف، لكن لو أن هذه العمائر التي لم تبع بنسبة مشاعة حدث ضرر في مائها، أو حدث عطل فيها، فلن تستطيع أن تقسم، لا الغرم ولا الربح، ويحدث إشكال، ولو أنه قال: أريد أن أبني على العمارة، فأنا بعتكم الشقق وشققكم موجودة، وأريد أن أبني على العمارة، وقرر المهندسون أن العمارة تتحمل عشرة أدوار، فتكون قد اشتريت الشقة من العمارة وفيها -مثلاً- ساكنان، الذي فوقك والذي تحتك، فإذا بك بعمارة فيها عشرة أدوار، وأدخل عليك عشرة ساكنين، فأنت إنما رضيت بالواحد ورضيت بالاثنين، لكن لن ترضى بالعشرة، وتستضر بكثرة الجيران، وتحدث أضرارٌ، فلا تتأتى ملكية الجزء على وجهٍ ليس بمحدد الملكية؛ لأنهم قالوا: من ملك أرضاً ملك سماءها مثل ما قرر العلماء، وحينئذ نقول: من ملك شقة، فحينئذ ملك الشقة بدون أرضها، وبدون سمائها، وما الدليل على أنه يملك الشيء بدون أرضه ولا سمائه، فهذا الذي نريد له الدليل، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتصب قيد شبر من الأرض طُوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)، فجعل الأسفل تابعاً للأعلى! فهاتوا دليلاً يستثني هذا النوع من البيع، وأن من ملك الأعلى لا يملك الأسفل! هذا أمر يحتاج إلى تقرير أصل شرعي يمكن أن يبنى عليه جواز تجزئة العمارة بشققها؛ لأنه إذا قيل بصحة تجزئة العمارة بشققها، يقال بصحة تجزئة البيوت بغرفها. وعلى هذا فالذي يظهر، والذي يتبين أنه لا يصح بيع الشقق، ولكن نقول: هناك قول مخالف، ولهذا القول حجته ودليله لكنه لم يظهر لي؛ لأنهم يقولون، باعه جزءاً من العمارة، ويغتفرون هذا الجزء، وأقول: لا زال الإشكال قائماً، فإذا كانت العمارة من ثلاثة شقق كما ذكرنا، وقلت: تقسم أثلاثاً، عارضك صاحب الملك، فقال: السطح لي، وإن قلت: إن السطح ليس له، وإنما لصاحب الشقة الثالثة، فحينئذ صاحب الشقة الأولى يملك سطح شقته فلا يصح بيع الشقة الثانية، وصاحب الشقة الثانية يملك سطح شقته، كما ذكرت، وأظن هذا من ناحية فقهية لا يستقيم، فإذا قال: نقسم هذه العمارة أثلاثا بين الثلاث الشقق، عارض صاحب العمارة بأن له السطح، وإن قلت: ندخل صاحب العمارة شريكاً، قلنا: سبحان الله، شقة كاملة مبنية مدفوع فيها مئات الألوف، بسطح عارٍ لا بناء فيه ولا شيء، كيف تدخل؟ وما وجه الإدخال؟ وإن قلت: أدخله على أنه باع الأصل ولم يبع ما فوقه، نقول حينئذ: هذا الذي دفع قيمة الشقة ليست قيمتها كقيمة السطح؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء قدرا وحقا. فالذي يظهر أنه لا بد من وضع حلٍّ، والشريعة ما تركت شيئاً وليس في هذا ضيق؛ لأن المراد من هذا حفظ حقوق الناس، فالذي يشتري يعرف ما الذي يأخذه، وما الذي يعطيه. فنقول: الحل أن العمارة إذا كانت من أربع شقق يعرضها، ويقول: هذه العمارة معروضة للبيع، إن شاء شخص أن يشتريها بأربعمائة ألف وتكون ملكاً له فبها ونعمت، وإن جاء أربعة يشترونها فلهم ذلك، وبدلاً من أن تجزئ شققها، بِع بيعاً شرعياً لا إشكال فيه ولا شبهة، فلماذا نُحدث هذه البيوعات التي ما كنا نعرفها ولم تكن موجودة بيننا؟ والبيع الشرعي أن نجعل البيع كما هو، ونقول: يعرضها في أربع شقق على أربعة شركاء، كلٌّ له ربع الأرض، ثم إذا ملك هؤلاء الأربعةُ الشركاء كان لهم التصرف في العمارة كما يتصرف الشركاء في أموالهم، فهو بيع شرعي ومخرج شرعي لا شبهة فيه ولا إشكال، هذا ما ظهر، والله تعالى أعلم. أما لو باع الشقة قبل أن تبنى فهذا أمر أشد؛ لأنه باع المعدوم وباع الشيء قبل أن يخلق ويوجد، فحين يقول: سنبني العمارة، أو سنبني الشقة، فالشقة لم توجد، فإن قالوا: يصح هذا البيع قياساً على السَّلَم، نقول: السلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فهو في الموزونات والمكيلات، واختلف في المعدودات. وأما الدُّور فإنها تباع بالذرع، فهي مذروعة، والبناء مذروع، ولذلك يقال: طوله كذا وعرضه كذا، ويحدد أجرامه سُمكاً وطولاً وعرضاً، فهذا لا يدخل في السلم. وعلى هذا فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه من بيع الغرر، وبيع ما لم يوجد، ثم قد يقال: إننا سنبني هذه العمارة فيها مائة شقة، أو فيها مثلاً خمسون شقة، ثم تؤخذ الأموال، وبعد فترة إذا به قد قرر البيع على أنها كل شقة بمائة ألف، فلما أراد المنفذ أن ينفذ إذا بالأسعار قد غلت، وارتفعت قيمة المؤنة، فأصبحت بأضعاف القيمة التي رسمت، فهو بيع غرر؛ لأنك تدفع في زمان، وتنفذ في زمان، وإذا بالحقيقة تخالف الواقع، فيغرر الإنسان بنفسه، ولو قال المقاول أو المالك: أنا راضٍ، فالشريعة لا ترضى؛ لأن الرضا الذي يأتي على خلاف الشرع كبيع المخاطر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/261)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:01 م]ـ
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [2] من الأحكام المتعلقة بباب بيع الأصول والثمار: أنه لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، على تفصيل في بدو الصلاح وعلاماته واختلافه باختلاف أنواع الثمار والزروع، وإن باع قبل بدو الصلاح فلابد من شرط القطع، على تفصيل في اختلاف أنواع الثمار والزروع وما يجز منها وما يلقط. بيع الثمار والزروع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: ...... اشتراط بدو الصلاح في بيع الثمار وعلة ذلك فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]: أي: ولا يجوز أن يباع ثمر قبل بدو صلاحه، والدليل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، أي: نهى البائع أن يبذل الثمرة على هذا الوجه، ونهى المشتري أن يدفع الثمن في هذا النوع من الثمار. وثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمارُّ أو تصفارُّ)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في السنن أن الناس كانوا يتبايعون الثمار، ثم إذا حضر تقاضيهم قال المشتري: أصاب الثمارَ الدمانُ -وهو نوع من الأمراض التي تصيب الثمرة فتتلفها- والدمان مثل ما يصيب البلحة حين يأتيها شيء مثل الحمار، أشبه بلون الدم إلى اللون البني، فتصبح يابسة لا طعم لها، وربما أفسد الثمرة بالكلية، فيقول المشتري: أصاب الثمرة الدمانُ، أصاب الثمرةَ القشامُ، لأمراض وعاهات يذكرونها، فلما كثرت خصوماتهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
علامات بدو الصلاح في النخل علمنا الحكم وعلمنا الدليل فنحتاج إلى شرح هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق: النخلة كما ذكرنا تُطلع، وإذا أطلعت وتشققت وأبّرها الفلاح، تبقى ما لا يقل عن شهرين، فأول ما يخرج الكوز فيه الثمرة، وتنظر إلى العرجون الذي تراه حاملاً للثمرة بعد استوائها ونضجها، وإذا أخرجها الفلاح وغبرها، فقبل ما يخرجها تنظر إليها وإذا بها حبات مرتبة منسقة بنظام عجيب بديع غريب، وتتعجب من بديع صنع الله عز وجل، فإذا حضر موسم التأبير والتغبير فاذهب إلى المزرعة وانظر؛ لأن هذا مما يزيد العبد إيماناً بالله جل جلاله، وتحار العقول في بديع صنعه، قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ [السجدة:7]، حتى تحس بمعاني الآيات التي في كتاب الله جل جلاله، تنظر إليها وإذا بها في ذلك الكوز، وتنظر إلى الكوز نفسه فترى مادته الخشبية العجيبة في سماكتها وثخنها من الخارج، ولطفها ونعومتها من الداخل، وكيف أنه يحفظ الثمرة، وإذا بالثمرة تخرج بيضاء ناصع لونها نقية ليس فيها أي شائبة، أو أي خلل، أو أي ارتباك، بل متناسقة مرتبة منظمةٌ، الثمرة بجوار الثمرة بطريقة عجيبة بديعة، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء! سبحانه لا إله إلا هو! ووالله إن هذا يزيد من إيمان الإنسان، وينبغي لطلاب العلم أن ينظروا؛ لأن الله تعالى يقول: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99] فالله تعالى ندبنا إلى هذا. فإذا نظرت إلى ذلك وجدته بهذه الطريقة، فيأتي الفلاح فيزيلها عن بعضها؛ لأنها مرتبة متناسقة، ويبعدها عن بعضها حتى يدخل الغبار فيما بينها، ويدخل لقاح الذكر فيما بينها، ثم يزيل هذا الوعاء، وتبقى مفتحة، وتبقى على مر الأيام بحساب دقيق عجيب غريب لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، فإذا به مدة زمنية معينة يكتمل كبر هذه الثمرة، ونضجها واستواؤها، لا يسبق زمانه ولا يتعداه أبداً. ومن أغرب ما يكون أن يكون لها موسم معين، يكتمل فيه جرمها وحجمها، وبعض النخل يكون طويلاً كالعنبرة -نوع من أنواع التمر طويل- وبعضها صغير الحجم كالعجوة، خاصة المسماة العجوة الثانية، وهي التي تنطبق عليها السنة، وهي الصغيرة، وهناك عجوة طويلة، وهي عجوة مستحدثة وقعت شبيهة بالعجوة، لكن العجوة التي ينطبق عليها السنة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/262)
أكثر هي العجوة الصغيرة. فالشاهد أنك تجد هذه صغيرة الحجم، وتلك طويلة الحجم، ثم تجد الوسط بينهما، كالصفاوي، ثم تجد هذا حلواً شديد الحلاوة، بحيث إنك إذا أكلته لا تستطيع أن تتمالك نفسك من قوة الحلاوة، وكذلك العكس، فتجد منها ما عذوبته في حموضته، شيء من الحموضة فيه، وتجد ما هو وسط بين الاثنين. فهذا الاكتمال إذا مرت الأيام تبدأ هذه الثمرة تكبر شيئاً فشيئاً، وإذا رأيت الحبوب تجدها بقدر حبة الذرة على أطراف الشماريخ، وتمر الفترة الزمانية فتبدأ تكبر شيئاً فشيئاً، حتى يتناهى كبرها في الزمان المعين، فلا تتقدم ولا تتأخر، وفي مثل ذلك يقول تعالى: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [يس:40]، وكل شيء مقدر، والله تعالى قدر له لا يزيد ولا ينقص، فإذا جاء وقت اكتمال جرمه -وهذا أول شيء- فبعد أن يكتمل الجذر يأتي اللون، فيضربها الحمار ويضربها الصفار، فتنظر إليها في الأول وإذا بها خضراء في حالة الخضرة، وهذا يسمى في عرف الناس الصربان، أي: وهي في الخضار قبل أن يضربها اللون، فهذا الأخضر الغالب في الثمار لا يؤكل؛ لأنك إذا أكلته وهو في خضرته، كأن سقماً يضر الإنسان، ويعطى علفاً للدواب، ولكن مع كونه هكذا في الغالب فقد جعل الله تعالى منه شاباً، فمنه الأخضر الذي إذا جنيته أخضر يكون من ألذ ما يكون، وهو الذي يكون في صنف الحلوة المشهورة أخضرها عذب ويؤكل، وله نكهة ولذة كما تجد اللذة فيها وهي بسرٌ أو ربط أو تمر؛ لكي يختلف الشيء فيدل على أن الله سبحانه وتعالى خالقها، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] فلو الأخضر لا يؤكل لكن الله تعالى جعل بعض الأخضر يؤكل، حتى ينبه على أن الله تعالى هو الذي جعله لا يؤكل؛ وقادر أن يجعله يؤكل. فالشاهد: أن هذا الأخضر لا يؤكل، وليس بزمان يصلح فيه الأكل، ففي هذه المرحلة تكون مرحلة قبل بدو الصلاح، فإذا صار أخضر ضربه اللون، وضربة اللون تكون عند بداية الصلاح، فإذا ضربه اللون الحمار أو الصفار فإن الغالب أن يأمن العاهة بقدرة الله عز وجل ويسلم، وأكثر الخطر يقع ما بين التأبير والاحمرار والاصفرار، أما إذا احْمَرَّ أو اصْفَرَّ فالغالب أن يسلم ويحفظ، إلا أن تأتيه آفة سماوية كإعصار، أو يأتيه سيل ... إلخ. فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا يشمل مرحلة الطلع، ومرحلة التأبير، ومرحلة ما قبل الإزهاء، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم وما تزهي؟ قال: (تحمار أو تصفار)، فجعل بدوَّ الصلاح بالاحمرار، أو الاصفرار. ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله تعالى أن بداية الجواز لبيع الثمرة بعد بدو الصلاح بالاحمرار أو الاصفرار. هذا بالنسبة للنخلة تحمر أو تصفر، فإذا احمرت أو اصفرت أمنت العاهة غالباً، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو -يعني يظهر، من بدا الشيء: إذا ظهر- يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.
علامات بدو الصلاح غير الحمرة والصفرة قد يقال: فإذا كان بدو الصلاح باللون، ففي بعض الأحيان تكون النخلة خضراء، كالخضري الآن، فالخضري لا يحمر ولا يصفر؟ قلنا: اللون علامة بدو الصلاح الأولى، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (حتى تزهي؟ قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فإذا كان لونها واحداً قبل بدو الصلاح وبعد بدو الصلاح كالخضري، وهو نوع من التمر ونوع من النخل أخضرُ لا يحمار ولا يصفار، فمتى يحكم ببدو صلاحه؟ الجواب: يحكم ببدو صلاحه بطيب أكله، فإذا أصبح حلواً وطاب أكله، فحينئذ يكون قد بدا صلاحه، أما قبل الإزهاء فلا يمكن أن يكون حلوا، وفي بعض الأحيان يكون الفرق يوماً واحداً، بالأمس تمر على النخل فلا تجد فيها حبة صفراء، وتصبح في اليوم الثاني وإذا بها قد اصفرت أو احمرت، قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] سبحانه لا إله إلا هو! وفي بعض الأحيان عندنا في المدينة إذا طلع سهيل تكون الثمرة موجودةً ويكون البلح موجوداً، فتأكل البلح بالأمس له طعم، وإذا طلع النجم أكلتها في اليوم الثاني كأنها لم تكن مرّةً، وهذا شيء جربته بنفسي؛ لأن الله تعالى قدر كل شيء
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/263)
بوقته وزمانه. فالشاهد أنه ربما يكون الفرق يوماً واحداً في بدو الصلاح، فما كان بلونه فبلونه، وما لم يكن باللون يكون بالطعم، والدليل على ذلك الحديث أيضاً، وهو صحيح وثابت أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تؤكل، فقوله: (حتى تؤكل)، وفي رواية: (حتى تُطعم)، وذلك بأن يكون طعمها صالحاً للأكل، وبناء على ذلك جاءت العلامة الثانية: أن يكون بدو الصلاح بالطعم. فهناك علامة بالطعم، وهناك علامة باللون، وهناك علامة ثالثة في النخل بالزمان، وهي طلوع الثريا؛ لحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يطلع النجم، وتؤمن العاهة)، أي: أن الله تعالى جعل طلوع النجم بداية لموسم صلاح الثمار، وهذا -كما ذكر بعض العلماء رحمه الله تعالى- من الاهتداء بالنجم الذي ليس بمحرم؛ لأن الله تعالى يقول: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، والمراد بطلوع النجم: طلوع الثريا، وهذا في بعض الأماكن مثل المدينة والحجاز، فإذا طلعت الثريا، يبدأ الصلاح، وفي المدينة غالباً إذا طلعت الجوزاء فإنه يبدو الصلاح، ويبدأ الإزهاء في النخل فيحمر ويصفر، وهذا كما ذكرنا علامة زمان، فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء!
استباق العلامات وما الذي يعتبر به منها إذا علمنا أن عندنا علامة باللون، وعلامة بالطعم، وعلامة بالزمان، فبالنسبة للطعم واللون والزمان فلا إشكال إذا اتفق الكل، بمعنى طلع النجم وجاء الزمان وبدا الصلاح فأزهت النخلة فاحمرت واصفرت، أو طاب طعم ما كان أخضر منها، لكن الإشكال لو سبقت علامة الزمان الاحمرار والاصفرار، أو سبقت علامةُ الاحمرار والاصفرار طلوع النجم، فهل العبرة بالزمان الذي وضعه الله تعالى سنة كونية؛ للسلامة من العاهة في الغالب؟ أم العبرة بالحال والصورة؟ قال بعض العلماء: العبرة بأي واحدة منهما؛ لأن السنة دلت على هذا كما دلت على هذا، فأيُّ العلامتين ظهرت أو سبقت فالعبرة بها، والغالب أنه لا يسبق إلا باليوم أو اليومين والشيء اليسير، وهذا بقول أهل الخبرة: إنه لا يسبق إلا بالشيء اليسير. فنخرج من هذا بالخلاصة: أن بيع الثمر إذا بدا صلاحه في النخل، سواء كان باللون أم بالطعم، أم بالزمان، فإنه يحكم بجواز بيعه، سواء اتفقت هذه العلامات أم سبق بعضها، فإنه يعتبر موجباً للحكم بالجواز. هذا بالنسبة للنخل، ويبقى غير النخل، وفي الحقيقة من المستحب والأفضل لطالب العلم دائماً أن يكون على إلمام بمثل هذه الأشياء إذا كانت المسألة تتصل بالزروع والثمار؛ لأنك تُسأل وتُستَفَتى، وقد تكون في المدينة لا ترى شيئاً من هذا، لكن افرض أنك يوماً سافرت إلى قرية، فجاءك الفلاحون يسألونك: ما حكم الشرع في بيع النخيل والزروع والثمار؟ فينبغي لطالب العلم أن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأشياء، فإذا جاء فصل التأبير ذهب ونظر وعرف التأبير، وكان الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله تعالى برحمته الواسعة يخرج مع طلابه، لكي يمتثل أمر الله عز وجل بقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] وكان رحمه الله تعالى يمسك بالبعير، ويجسه رحمه الله تعالى برحمته الواسعة، فيُعَوّد الإنسان نفسه على أنه يعرف الأشياء على حقيقتها، فإن كانت المسألة متصلة بالزروع والثمار سأل أهل الخبرة بالزروع والثمار. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذا ذكر المسألة أسهب فيها، كأنه يحسن هذا الفن والعلم، وقد ذكر مسألة الأهلة، فجاء يتكلم على منازل الهلال واختلاف المطالع حتى تكاد تقول: إنه فلكي، وفعلاً هو قد درس علم الفلك؛ لأنه لا يمكن أن يحكم بهذه الأشياء من كون المطالع تتفق أو تختلف، إلا إذا كان متقناً لعلمها، فإتقان العلوم وضبطها مهم، وعليه أن يرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ليصبح طالب العلم على بصيرة من أمره وعلى علم، حتى يمكنه ذلك من الترجيح في المسائل، فهذا أمر مهم جداً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/264)
علامات بدو الصلاح في العنب وغيره إذا عرفنا المسألة بالنسبة للنخل، فتنتقل إلى العنب، فالعنب أول ما يخرج إذا خرج في عناقيده يكون صغير الحجم، وهذا الحجم الصغير لو أخذت منه حبة تكاد تكتوي من حموضتها، ثم يستتم يكبر شيئاً فشيئاً، حتى يبلغ قدره الذي قدره الله تعالى له، فيبقى على خضرته الغامقة، وإذا أكلته أكلته حامضاً، فإذا جاء وقت صلاحه تفتحت خضرته، وضربه الماء فإذا بلونه اليوم ليس كلونه بالأمس، وإذا بطعمه الساعة ليس كطعمه قبل أن يأذن الله تعالى بحلاوته، فيتموه، وهذا التموه هو بداية الصلاح. وإذاً يكون صلاح العنب بالطعم، وفي حديث عند أحمد رحمه الله تعالى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ)، وهذا في نوع خاص من العنب، يكون باللون، لكن بالنسبة لضابطه يكون بالطعم؛ لأنه أخضر، فينظر الطعم بالنسبة للعنب إلا في بعض أنواعه، كالأحمر الذي يكون غامقاً؛ فإن بداية صلاحه تكون بالحمرة الغامقة. ومما يبدو صلاحه بالطعم -أن يصبح حلواً بعد مرارته ويكون سكرياً- قصب السكر، فقصب السكر إذا أُكل قبل بدو صلاحه لا يكون له طعم، ولا يوجد له طعم العذوبة السكرية الموجودة فيه، فإذ بدا صلاحه كان طعمه مستعذباً، فقالوا: بدو صلاحه أن يحلو بعد مرارته. وفي بعض الأحيان يكون بدو الصلاح بلينه بعد يبسه، ومن أمثلته التين، فإن التين يبدأ يابساً، وتكون حياته صلبة شديدة، ثم بعد ذلك يبدو صلاحها فتلين شيئاً فشيئاً، حتى البطيخ، إذا كانت صلبة شديدة فاتَّقها، لكن إذا كانت رخوة فمعنى ذلك أنها قد بدا صلاحها، ولذلك تجدهم يضربون عليها حتى يستكشفون ما فيها، فقالوا: كالتين والبطيخ، يلين بعد شدته. وهناك ما هو عكس -وانظر إلى قدرة الله تعالى- فهناك ما يطيب بشدته بعد لينه، وهي العلامة الرابعة، مثل الحبوب، في السنابل، كالبر والشعير، فإنه أول ما يبدأ يكون ليناً، ولو أخذتها وعصرتها لخرج مادته، ثم تبدأ تشتدّ شيئا فشيئاً حتى تيبس، كما في الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتدّ)، فهذا الاشتداد، قالوا: اشتداده بعد لينه عكس الأول. وهناك ما يبدو صلاحه بانتهائه في الكبر، أو الطول، كالقثاء (الخيار) وكالبطيخ والخربز ونحوه، فإنه لا يمكن أبداً أن يباع وهو صغير، فهذا يتعاظم حتى يبلغ غاية عظمه، فمنه ما يكون بالطول مثل القثاء، ومنه ما يكون بالحجم كالدباء، فالدباء تكون بكبر الحجم وهو الذي يسمى بالقرع. كذلك أيضاً يكون من بدو الصلاح أن يتفتح عن أكمامه، كالورد، فالورد إذا تفتح من كمه بدا صلاحه، لكن قبل أن يتفتح وهو مصكوك كثيراً ما تهجم عليه الحشرات، أو تأتيه الآفات ولا يتفتح، ولا يغلب على الظن سلامته إذا لم يتفتح، إنما يغلب على الظن سلامته إذا بدأ يتفتح، فهذا يكون بتفتحه من أكمامه. فهذه من أشهر علامات بدو الصلاح. قال رحمه الله تعالى: [ولا زرع قبل اشتداد حبه]: أي: ولا يجوز بيع الزرع قبل اشتداد حبه، كالشعير ونحوه؛ لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد). وكذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحب حتى يبيض، وإذا اشتدّ يبدأ ييبس غلافه الخارجي، وهذا هو البياض، أي: يشتدّ ويشتدّ حتى يتساقط ما عليه ويكتمل استواؤه.
البيع قبل بدو الصلاح ...... بيع الثمر وما يجز ويلقط من الزرع قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان، دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال، أو جزة جزة، أو لقطة لقطة]: ذكرنا أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمشتري. وذكرنا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً بمعناه. ومعناه أن الشريعة لا تجيز بيع الثمار، ولا بيع محاصيل المزروعات إذا كان بيعها على وجه فيه غرر وتغرير ومخاطرة على المشتري. وبناء عليه قلنا: لا بد من بدو الصلاح في الثمار، سواء أكانت من النخيل أم كانت من غيره من المزروعات، وبينا هذا كله. لكن السؤال يتعلق ببعض المزروعات التي تجز محاصيلها، وبعضها تلتقط، كالرطبة، فإن أصلها ثابت، ويجز ظاهرها، فتجز الجزة، ثم تنبت مرة ثانية، ثم تجز،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/265)
وهكذا بعض أنوع الجزر الذي يؤخذ ورقه علفاً للدواب، يجز ظاهره ويبقى أصله، وكذلك أيضاً البرسيم يجز ظاهره ويبقى أصله في الأرض، فإذا باع رجل برسيماً، كأن يأتي رجل يريد حوض برسيم من صاحب مزرعة، فيقول له: بعني هذا الحوض من البرسيم، فقال له: أبيعك بمائة، قال: قبلت، فإنه في هذه الحالة قد اشترى البرسيم بالجزة الظاهرة، فلا يجوز أن يشتري البرسيم بأصله، وذلك لأنه لا يعلم، ولا ندري كم جزة ستكون فيه، ولا ندري كم سيكون بقاؤه في الأرض، فبعض البرسيم قد يبقى سنة، وبعضه قد يبقى ثلاث سنوات، وقد يبقى إلى فوق خمس سنوات، كما في البرسيم الحجازي، فإنه يجلس إلى أكثر من خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، فلو أنه باعه البرسيم الظاهر شيئاً موجوداً، لأنه يكون في الظاهر في شيء موجود، لكن بالنسبة لما هو باطن في السنوات والشهور والأيام الآتية فإنه مجهول كبيع الثمرة في النخل سنين وأعواماً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه نهى عن بيع السنين والمعاومة، وبيع السنين والمعاومة كما فسره العلماء رحمهم الله تعالى: هو بيع الثمرة -أعني ثمرة النخل- سنوات، فيقول له: أشتري منك محصول مزرعتك من التمور ثلاث سنوات، فلا يجوز هذا؛ لأنه وإن كان في السنة الأولى قد باع ثمرة قد بدا صلاحها، ففي السنة الثانية مجهولة وفي السنة الثالثة مجهولة، فكذلك لو باعه البرسيم الذي يجز على مراتب، فلو كانت الجزة الأولى ظاهرة فإن ما سيأتي مجهول. وعلى هذا فإنه لا يباع من الشيء الذي يجز مرات مع بقاء أصله إلا الجزة الظاهرة، فتقول له: أبيعك هذا الحوض الموجود الآن بمائة، أو أبيعك هذه الخمسة الأحواض بخمسمائة، فاشتراها بخمسمائة ثم قام بجزها علفاً لدوابه، فلا حرج وهو جائز، لكن لو قال له: أشتري منك هذا البرسيم مدة بقائه في الحوض، لم يجز؛ لأنه بيع مجهول، ويغرر به، فربما ظن أن هذا البرسيم يبقى في الحوض سنة، فإذا به يبقى أقل، وربما ظن البائع أنه سيبقى سنة ثم سيبيع حوضاً ثانياً، فإذا به يبقى خمس سنوات، فهو من بيع المخاطرة، ثم هو بيع للمجهول، لا يدرى أيوجد أو لا يوجد، وهل يخرج جيداً أو يخرج رديئاً. والخلاصة: أن المصنف هنا يريد أن يطبق القاعدة في بيع الأصول والثمار، وهي أنه لا يجوز بيع الغرر. وبيع الغرر في بيع الأصول والثمار. فالبرسيم له أصل، وله ثمرة هي نتاجه الظاهر، والجزة الظاهرة، وكذلك الرطبة لها أصل، وهو الذي يسمى بالجزر، وهو غير الجزر المعروف الذي يعصر، وإنما الجزر السميك المتين هذا الذي يباع وله ورق يزحف على الأرض يقطع علفاً للدواب، هذا النوع من الجزر، وهذا النوع من العلف الذي هو البرسيم لا يباع إلا جزة ظاهرة، ولا يباع أصله مع ثمرته؛ لأننا لا ندري كم ينتج الأصل. لكن لو باع المزرعة وكان فيها صح تبعاً، ولم يصح أصلاً، وقد بينا القاعدة: أنه يجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل، وبينا ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله رحمه الله تعالى: [ولا رطبة]. أي: ولا يجوز بيع الرطبة، وفي حكمها كل شيء مما يكون مستتر الأصل، ظاهر الثمرة فلا يباع إلا الثمرة، ولا يباع النتاج إلا على الظاهر، أن يأخذ ظاهره جزة جزة، أو لقطة لقطة، كما سيأتي في لفه ونشره رحمه الله. قوله: [وبقل]: البقول كما لا يخفى تستتر في الأرض، ولما قلنا: أنه لا يجوز بيع الظاهر من البرسيم إلا جزة جزة، لا يجوز أيضاً بيع البقول إلا لقطة لقطة، ومن هنا فلا يجوز بيع الفجل، ولا يجوز أيضاً بيع الكرّاث، إلا إذا كان قد استخرج الفجل من الأرض، وهكذا بالنسبة للكرّاث، تكون الجزة الظاهرة هي التي تباع؛ لأن الكرّاث كالبرسيم، إذا استتم طوله جزه، ثم ينبت مرة ثانية، ثم يجز فينبت مرة ثالثة، فلا يبيع أصل الكرّاث وفرعه، وإنما يبيع الجزة الظاهرة، وهذا على القاعدة التي ذكرناها: أنه لا يصح البيع إلا لشيء معلوم لا يغرر فيه بالمشتري، وإنما يكون المشتري على علم وبينة، حتى يعلم أن المال الذي يدفعه هل يُستحق لهذا الشيء، ويعلم ما الذي له وما الذي عليه، فلا يجوز إلا لقطة لقطة بالنسبة لما يلتقط، وجزة جزة بالنسبة لما يجز، وهذا كله دفعاً للضرر الذي اشتمل عليه هذا النوع من بيوع الغرر. قوله: [ولا قثاء]: القثاء معروفة، والقثاء إذا أثمرت يكون بعض الحبوب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/266)
مستتم الخلقة، وبعضها صغيراً، وبعضها متوسطاً، فمنها ما استتم خلقه، ومنها ما لم يستتم، وبناء على ذلك يقولون: لا يبيع إلا الذي استتم خلقه، ومن هنا كما قلنا: لا يجوز بيع المجزوز إلا جزة ظاهرة، جزة جزة، كذلك الملتقط لا يجوز بيعه إلا ما كان متأهلاً صالحاً للالتقاط، أما الذي لم يصلح للالتقاط، فإن بيعه كبيع الحب قبل اشتداده، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والقاعدة واحدة، والشريعة جاءت بقاعدة، وهي أن بدو الصلاح تؤمن معه العاهة غالباً. فإذاًَ بعد أن قررت القاعدة فوردت في النخل، ووردت في الحبوب، فأصبح النخل أصلاً لما ظهر، والحبوب أصلاً لما يحصد، هذا أصل، وهذا أصل، والمعنى في كل منهما أن لا يغرر بالمشتري، ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية حافظة لحق البائع، حافظة لحق المشتري، فكل يشتري الشيء بيناً واضحاً دون أن يغرر البائع بأخيه المسلم، ودون أن يشتري المسلم شيئاً يجهله، فيغرر بماله ويخاطر بحقه. قوله: [ونحوه كباذنجان]: ذلك؛ لأن فيه الصغير والكبير، وما بدا صلاحه وما لم يبدُ، فلو قال له: أبيعك محصول الباذنجان هذا، فإنه لا يجوز. وقال بعض العلماء في القثاء والباذنجان، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وطائفة: يجوز بيع كله إذا بدا الصلاح في بعضه، قياساً على النخيل، ولا شك أن الغرر في الباذنجان والقثاء أعظم من الغرر في النخيل، فإن النخيل، إذا بدا الصلاح في بعضها فغالباً تؤمن العاهة فيها كلها، ولكن المحاصيل تختلف عن ذلك، وهذا معلوم بالتجربة، ورجح بعض العلماء قول من قال بالجواز، وقال: إن الذي هو صغير، أو لم يظهر في حكم الظاهر، ولكن هذا ضعيف، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علل النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بخوف الآفة والعاهة، وهذا المعنى موجود في المحاصيل التي لم يستتم خلقها.
البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال]: بعد أن ذكر لنا الرطبة، وذكر لنا البقلة، وقال: لا يجوز بيع ما لم يبدُ صلاحه، وكذلك الباذنجان وما في حكمه، ذكر أن هذه الأشياء كلها، لا يجوز بيعها إلا بشرط القطع في الحال. وهنا مسائل سندخل فيها تتعلق ببيع الشيء الذي لم يبدُ صلاحه. قد قررنا أن الشيء الذي لم يبد صلاحه من التمور ومن المزروعات ومن الحبوب، لا يجوز بيعه، والشريعة دالة على هذا، والنصوص واضحة في هذا الحكم. لكن بيع الشيء الذي لم يبد صلاحه، له حالات: الحالة الأولى: أن يشتري ثمرة لم يبدُ صلاحها بشرط أن يقطعها في الحال، كأن يعطيها علفاً للدواب. الحالة الثانية: أن يشتريها من أجل أن يستبقيها لكي تصلح. فإن اشترى ثمرة بستان، لم يبدُ صلاحها، واشترط أن يقطعها فوراً، أو اشترط البائع على المشتري أن يجز ويقطع العراجين التي هي للثمرة فوراً فالبيع صحيح في قول جماهير العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (الأئمة الأربعة)، وهو مذهب جماهير السلف والخلف: أن من اشترى ثمرة بستان قبل بدو الصلاح بشرط أن يقطعها فوراً، صح البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بينت العلة، وهي أنه لا يؤمن على الثمرة أن تفسد، فإذا كان يريدها في الحال، ويقطعها في الحال علفاً للدواب، فقد زالت العلة. وإليك توضيح هذه المسألة: نحن ذكرنا أن النخل يطلع وبعد الطلع يتشقق ثم يؤبر، ثم يجلس فترة ما بين التأبير وما بين بدو الصلاح، فهذه الفترة التي ما بين التأبير وبدو الصلاح، هل يجوز فيها بيع الثمرة أو لا؟ الواقع أن هذه الفترة إذا وقع فيها البيع لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يبيع بشرط القطع. الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية. الحالة الثالثة: أن يبيع بيعاً مطلقاً، أي: خالياً من شرط القطع والتبقية. فإذا بدت الثمرة فأبرها صاحبها، ولم يبدُ صلاحها، ثم باعها قبل بدو الصلاح، فإما أن يبيع بشرط القطع أو يبيع بشرط التبقية، أو يبيع بيعاً مطلقاً. أما الحالة الأولى: فهي أن يبيع بشرط القطع، كأن يكون عندك بستان فيه مائة نخلة أطلعت، ولكن لم يبدُ الصلاح في الثمرة، فالأصل الشرعي يقتضي عدم جواز البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، هذا الأصل الشرعي، لكن لو جاءك رجل، وقال
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/267)
لك: هذه الثمرة التي في البستان ثمرة مائة نخلة أريد أن أشتريها وأقطعها فوراً علفاً للدواب، وفي بعض الأحيان إذا أطلع النخل لأول مرة فبعض أهل الخبرة يقطعون الثمر، ويقولون: إن هذا يفيد النخلة كثيراً ويقوي النخلة، وفي بعض الأحيان حتى لو أطلعت وكان طلعها كثيراً، وفيها عراجين كثيرة، يقطعون بعض العراجين، ولو كانت في السنة الثانية أو الثالثة أو بعد سنوات، فيقطعون بعض العراجين؛ لأنه إذا قطع بعض العراجين قوي المحصول في الآخر، وبقاؤه قد يؤثر على النخلة؛ لأن كثرة المحاصيل تؤثر عليها، فربما أجهلت في السنة الثانية، أي: لا تطلع، فيقطعون المحصول عنها، حتى يخف العبء على النخلة الأم؛ لأنه مثل الحمل في الآدمية، فيخففون عنها، فهذا العرجون إذا قطعت ثمرته قبل بدو الصلاح هل يجوز بيعه أو لا؟ نقول: يحرم بيعه على النخلة بشرط التبقية، أو بيعاً مطلقاً، أما لو قطعه وباعه بعد قطعه، أو اشتراه رجل واشترط أن يقطعه، فإنه يصح البيع. والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك، فبم تستحل أكل ماله). وتأمل الحديث فإنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين العلة، قال: (أرأيت أي: أخبرني، لو منع الله الثمرة عن أخيك)، يعني: لو بعت بستانك لرجل ولم يبدُ الصلاح -وقبل بدو الصلاح لا تؤمن الآفة- كما ذكرنا فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك)، أي: جاءت الآفة فعلاً، وتلفت الثمرة، فبم تستحل أكل ماله، فالثمرة تلفت؛ لأنه قبل بدو الصلاح لا يؤمن التلف، فإذا تلفت الثمرة صار المال لقاء لا شيء، وأصبح حينئذ البائع يأخذ مالاً بدون ثمرة في مقابله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فأخذ الجمهور من هذا الحديث دليلاً على أن العلة في تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو خوف فسادها، فإن كان يريدها حاضرة ناضرة بحالها هذا، لكي ينتفع بها علفاً للدواب، لا للآدميين الذين بسببهم منع البيع خوفاً من فسادها قبل أن ينتفعوا بها، جاز البيع، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن السنة واضحة الدلالة عليه، وهو مذهب صحيح؛ لأن القاعدة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا جاءت منصوصاً عليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا ثبت هذا فمن باع ثمرة من بستان قبل بدو صلاحها، فإنه يجوز إذا كان بشرط القطع، أو قطعها وعرضها للبيع فإنه جائز؛ لأن العلة في هذا التي من أجلها حرم البيع قبل بدو الصلاح غير موجودة، والأصل حل البيع، وهذا يريدها علفاً للدواب، ولا يريدها للآدميين. الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية، كأن يكون عندك مائة نخلة ولم يبدُ صلاحها، فأطلعت وأبرتها، وبعد التأبير وقبل بدو الصلاح جاءك رجل، وقال: أريد أن أشتري منك صيف البستان في هذه السنة، قلت له: صيف هذا البستان في هذه السنة بمائة ألف، قال: إذاً أشترط عليك أن تبقيها لي حتى يبدو صلاحها، فهذا يسميه العلماء: شرط التبقية، عكس الأول، إذ الأول يشترط القطع والثاني يشترط التبقية، والتبقية تفعلة من البقاء، أي: يقول المشتري للبائع: أنا أشتريها، والآن لم يبدُ صلاحها، ولكن شرطي عليك أن تبقيها لي حتى آكلها بلحاً، أو آكلها رطباً، وآكلها تمراً، فهذا يسمونه شرط التبقية. ففي الحالة الأولى حالة اشتراط القطع فإن البائع هو الذي يشترط غالباً؛ لأن من مصلحته أن تقطع الثمرة حتى يرتفق النخل وينتفع بذلك. وفي الحالة الثانية حالة اشتراط التبقية فإن الغالب أن يشترط المشتري. ففي الحالة الثانية إذا اشترى قبل بدو صلاحها، واشترط في العقد أن تبقى إلى بدو الصلاح، فالإجماع على تحريم هذا البيع؛ لمخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فإذا باعها قبل بدو صلاحها، واشترط بقاءها فالعلة موجودة بخلاف الحالة الأولى التي فيها العلة مفقودة. لكن هناك وجه عند المالكية خرجه اللخمي من أصحاب الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقتضي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/268)
الجواز، ولكنه شاذ وضعيف. وشذوذه لمخالفته الإجماع، ومخالفته لنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً في الحالة الأولى إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فالصحيح قول الجماهير ومنهم الأئمة الأربعة بصحة البيع، لظاهر السنة، وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والحالة الثانية: أن يبيع بشرط التبقية، فالإجماع على عدم الجواز، وهناك وجه شاذ عند المالكية يقتضي الجواز، وهو باطل لمخالفته السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحالة الثالثة: أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها ويكون البيع مطلقاً. والبيع المطلق هنا: هو الذي لا يشترط فيه القطع ولا تشترط فيه، كأن يقول: عندي مائة نخلة، وهذه المائة نخلة لم يبدُ صلاحها، قال: أنا أشتريها منك بمائة ألف، وسكت البائع، وسكت المشتري، فلم يشترط هذا ولم يشترط هذا، هذا يسمى عند العلماء بالبيع المطلق؛ لأنه عري عن الشرط. فإذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، فما الحكم؟ جماهير العلماء على عدم صحة البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حرمت بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال الحنفية: يصح البيع، ولكن يجب على المشتري أن يقطع، فقالوا: نصحح البيع، ونلزم المشتري بالقطع فوراً، وهذا ضعيف؛ لأنه مصادم للسنة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نهى فيها عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولم يفرق بين الذي فيه شرط التبقية، وبين الذي فيه شرط القطع، وبين الذي هو بيع مطلق، وجاء الاستثناء لشرط القطع بالعلة، فبقي ما عداه على الأصل الموجب للتحريم؛ لأن السنة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فجاءت السنة بالعلة وقيدت حال القطع، فبقي ما عداه على التحريم. إذاً الخلاصة: أن بيع ثمرات النخيل قبل بدو الصلاح، -وهو ما بين التأبير، وما بين بدو الصلاح الذي هو الإزهاء- له ثلاث صور: إما أن يبيعه بشرط القطع، فيصح في قول الجماهير، لظاهر حديث أنس رضي الله عنه: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك). أو يبيعه بشرط التبقية، فلا يصح بإجماع، وفيه شذوذ لا يعول عليه. أو يبيع بيعاً مطلقاً، فالجمهور على عدم الجواز لظاهر السنة، والحنفية مخالفون، والصحيح مذهب الجمهور.
تابع بيع ما يجز ويلقط بعد هذا نرجع إلى مسألة بيع الرطبة والقثاء ونفرِّعها على بيع الثمرة، وانظر إلى دقة المصنف رحمه الله تعالى، حيث جعل بيع النخل بشرط القطع أصلاً، فألحقت به الزروع والثمار والمحاصيل التي تكون في نفس المعنى، فإذا كان الزرع مما يحصد مثل الكرّاث، أو الجُزر الذي يراد ورقه، أو البرسيم، الذي يراد علفاً، فلا يجوز بيع أصله وفرعه، لكن لو باعه بشرط القطع على الجزة الظاهرة صح له ذلك وجاز؛ لأن العلة من خوف الغرر غير موجودة، ويلحق بهذا ما يلتقط، فكما أن الذي يجز يباع فيه الجزة الظاهرة، كذلك الذي يلتقط كالقثاء والباذنجان، والقثاء يختلف؛ لأنه لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الطول، والباذنجان لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الجرم والحجم، ولذلك قد تبيع الباذنجان وهو أخضر، ثم يصير أحمر، فاللون ليس لذاته مؤثراً، ولكن المؤثر تناهي الحجم، والحجم إما في الطول كما في القثاء، وإما في العرض كما في الباذنجان، وانظر كيف اختار المصنف رحمه الله تعالى، حتى نعلم أن الفقهاء حين يأتون بالتمثيل والتقريب يراعون الأحوال المختلفة، فإن سئلت عن ثمرة طويلة كالقرع المديني تقول: تلتحق بالقثاء، فإن الفقهاء نصوا على عدم جواز بيع القثاء إلا ما تناهى كبره للَّقطة الظاهرة، فلا يباع القرع المديني إلا بعد تناهي طوله فيما تم طوله وتناهى. وأما ما كان من عرضه ممتلئاً فتقول: لا يصح بيعه إلا بعد تناهي كبره لبدو صلاحه في اللقطة الظاهرة، كالقرع غير المديني، وهو القرع الذي يكون مدوراً، فهذا يكون صلاحه بعد تناهي كبره، ويكون للقطة الظاهرة، فيبيع ما صلح للقط، وأما ما لم يصلح فإن البيع فيه بيع غرر، فينتظر إلى صلاحه. [أو جزة جزة]: ذلك كالكرّاث، وكذلك أيضاً البرسيم وأنواع العلف، والقصب. قوله: [أو لقطة لقطة]: وذلك كما ذكرنا في الأشياء التي تلتقط ويكون بعضها لم يصلح، ولم يستتم صلاحه، أو لم يتناه كبره، فإنه حينئذ يباع لَقطة لَقطة. ولاحظ عبارة المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/269)
قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه، ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة]. فأول شيء ذكر لنا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وأعاد عليها قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال] فلا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، وحينئذ تعيد إليها [إلا بشرط القطع]، أي: لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه إلا بشرط القطع. ثم قال: [ولا زرع قبل اشتداد حبه ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان] وأعاد عليها قوله: [أو جزة جزة أو لقطة لقطة]، فجعل القطع عائداً إلى النخل، فيقطع ما عليها من العراجين والشماريخ، والجز عائداً إلى الحب وإلى الرطبة، والحب يجز ويحصد ويقص من الأرض، سواء بالآلات أم بالوسائل الموجودة الآن، فالمهم أنه يحصد. وأيضاً كذلك الرطبة، قلنا أصلها باطن وفرعها مقصود، كالبرسيم يجز ظاهره، والكراث يجز، فلا يباع إلا جزة جزة، وبعد الجزة قال: [أو لقطة لقطة]، كقثاء وباذنجان ونحوه؛ لأنه يلتقط فأعاد اللقطة إلى الباذنجان والقثاء ونحوهما. وهذه أمور كانت من أوضح ما تكون، أي: الزروعات، وكان الناس عمال أنفسهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم)، وهذه الأمور أصبحت تخفى. فيكون كلامه على هذا فيه لف ونشر، فتعيد القطع إلى النخل، والجز إلى الحب وإلى الرطبة، والالتقاط إلى القثاء والباذنجان. إذاً: هذه الأمور كلها مرتبة على حسب إيراد المصنف رحمه الله من الأنواع الأول.
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [3] تبادل المنافع بالبيع والشراء حاجة من حاجات الناس، ولما كانت النفوس مجبولة على استيفاء حظوظها والنظر في مصالحها دون مصالح الآخرين، فإن هذا قد يؤدي إلى النزاع في البيع والشراء فيما يستحقه كل منهما بالبيع، أو وقوع الغبن على أحدهما، فاقتضت تعاليم الشريعة المحكمة أن تضع شروطاً وضوابط وموانع لما يباع، وبيان حقوق البائع والمشتري في البيع، وبيان بطلان البيع .. إلى غير ذلك مما يجب على المسلم علمه حال البيع، وفي هذه المادة بيان لبعض هذه التعاليم الغراء في بيع الأصول والثمار خاصة. أحكام تتعلق بالبائع والمشتري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلف الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]: ...... من يلزمه الحصاد والجذاذ واللقاط ونبدأ بالنخيل، فإن اشترى ثمرة مائة نخلة في هذا الصيف بعد بدو الصلاح والشروط متوفرة، وبعد أن تم البيع، وحان وقت جني المحصول، قال المشتري للبائع: النخل نخلك، والثمرة اشتريتها منك، فاحصده لي، فأنت الذي تجذ النخل، وعليك الجذاذ. وكما هو معلوم النخل تارة يؤخذ بثراً، وهذا يحتاج إلى التقاط، ورطباً يحتاج إلى التقاط، وتمراً يحتاج إلى جذ، فيجذ العرجون كله ثم يحصد ما فيه، فقال: أنا اشتريت منك ثمرة بستانك فالذي عليك، أن تجذ لي النخل، وتلتقط لي الرطب، وتلتقط لي البثر، قلت له: يا أخي أنا بعتك الثمرة، والحصاد والجذاذ عليك أنت! وهذا النخل موجود فادخل وخذ ثمرتك، أما أنا فكيف أتكلف هذا؟ لأن الحصاد يكلف بعض الأحيان عشرات الألوف، خاصة إذا كان النخل كثيراً وفيه مؤنة ومشقة، وفي مثل مواسم الحصاد. فيأتي السؤال: هل الحصاد والجذاذ على البائع، أو على المشتري؟ يقول رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]، أي: أنت أيها المشتري عليك مؤونة جني الثمرة، فالثمرة ثمرتك وهو يمكنك من دخول البستان لجني المحصول، ويكون هذا بالمعروف، فإذا مكنك من ذلك فهذه ثمرتك، إن شئت تأخذها بلحاً وإن شئت تأخذها رطباً، وإن شئت تأخذها تمراً، فيخلي بينك وبين المبيع، أما أن تلزمه بالجذاذ، فهذا ليس من حقك. وقوله: [والحصاد]، الحصاد في الزروع، كحصد محصول الحب، والشعير، ونحو ذلك، فيقول البائع للمشتري: أنت الذي تحصد، فتأتي بمن يحصد لك هذا الحب الذي اشتريت مني. فتكون مؤونة الحصاد على المشتري لا على البائع. قوله: [والجذاذ]: كذلك جذ النخل، فإذا أراد أن يجذ نخله والثمرة التي اشتراها، تكون المؤونة والأجرة على المشتري لا على البائع. قوله: [واللقاط على المشتري] كذلك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/270)
اللقاط، وهو الجني، مثل القثاء يلتقطها، ومثل الباذنجان والكوسة والباميا، ونحو ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى التقاط، فإن مؤونة الالتقاط على المشتري، لا على البائع.
حالات يبطل بها البيع قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه مطلقاً، أو بشرط البقاء، أو اشترى تمرا ً قبل بدو صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا، أو جزة أو لقطة فنمتا، أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها، أو عرية فأثمرت، بطل والكل للبائع] قوله: [وإن باعه مطلقاً]: تقدم أن البيع المطلق هو الذي ليس فيه شرط التبقية ولا شرط القطع، أي: يبيعه بيعاً خالياً من الشرط، وينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن سياق الكلام هنا في الثمرة التي لم يبدُ صلاحها؛ لأن الكلام متصل بقوله: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]. فيرد السؤال: الحكم أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فلو حصل وباعه قبل بدو الصلاح؟ قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه]، أي: قبل بدو الصلاح، [بيعاً مطلقاً ... بطل]، فالأصل يقتضي عدم جواز البيع، خلافاً للحنفية، إذ يرون أنه لو باعه بيعاً مطلقاً فإنه يجوز، ويجب على المشتري أن يقطع فوراً. فلو باعه بيعاً مطلقاً وتم البيع بينهما مخالفا للسنة التي ذكرنا، ومضى الحال سواءٌ علم الحكم أم جُهل، ثم بعد أربعة أشهر لما بدا الصلاح سأل أهل العلم، فقالوا: هذا البيع لا يجوز، فماذا يكون حكمه؟ الثمرة الآن صالحة، فهل تكون الثمرة ملكاً للبائع، بناء على أن البيع فاسد، والأصل أنها ملك له ولم تخرج من يده؟ أم أنها ملك للمشتري بناء على أنه لم يتدارك الفساد؟ بين رحمه الله تعالى أنها ملك للبائع، وهذا هو الصحيح؛ لأن هذا البيع فاسد من أصله، فلما تبايع معه بيعاً غير شرعي، فمعناه أن الثمرة ما زالت باقية في ملك البائع، وأن المشتري لا يملك هذه الثمرة؛ لأن الإيجاب والقبول والصيغة وقعت على وجه غير معتبر، فوجودها وعدمها على حد سواء، لكن ما الحكم حينئذ؟ الجواب: يُلزم البائع برد الثمن، ويقال: هذا البيع منفسخ، ثم يقال للمشتري: الآن بدا الصلاح فإذا أردت أن تشتري فلتشتر من جديد؛ لأن البيع الأول فاسد، فإن أحببت أن تنصرف بمالك فلا إشكال، وإن أردت هذه الثمرة فادفع حقها الآن؛ لأن الإيجاب والقبول في بيعكما باطل لا قيمة له، فالثمرة ما زالت في ملك صاحبها، ولكن ما الفائدة في هذا؟ الجواب: في بعض الأحيان يبيعه الثمرة قبل بدو صلاحها، على أن السوق غالٍ، فتكون قيمتها -مثلاً- مائة ألف، ثم لما بدا الصلاح أصبح السوق كاسداً، فتنزل القيمة، فلربما اشتراها بخمسين ألفاً، فيكون أخف وأرفق بالمشتري، وربما يكون العكس؛ لأن فيها مخاطرة، فتكون القيمة أقل. فإذا بدا الصلاح قلنا: إذا أردتما أن تنشئا العقد فأنشئا من الآن، ولو أرادا أن لا ينشئا عقداً، أو قال البائع: لا أريد أن أبيع، أو رجعت عن بيعي وأريد أن آخذ الثمرة بنفسي كان له ذلك؛ لأن الثمرة ما زالت في ملكه وهو أحق بها، ويجب عليه أن يرد للمشتري ماله كاملاً. قوله: [أو بشرط البقاء]: هي الحالة الثانية، اشترى قبل بدو الصلاح، وقال له: أشترط أن تبقي لي الثمرة حتى يبدو الصلاح، فسواء علم الحكم أم جهله فالبيع فاسد، وحينئذ إذا رفع الأمر إلى القاضي فإنه يحكم بانفساخ البيع ووجوب رد المال إلى المشتري، ورد الثمرة إلى البائع. قوله: [أو اشترى ثمراً قبل بدو صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]: أي: لو جاءك رجل وأنت عندك مائة نخلة، لم يبدُ صلاح ثمرها، فقال: أشتريها منك، قلت له: أنا لا أبيعها إلا بشرط أن تقطعها، قال: قبلت، واشتراها منك بعشرة آلاف ريال على أنه يقطعها، ثم جاءته ظروف فلم يستطع القطع، أو تهرب وماطل، حتى بدا صلاح ثمرها، فما الحكم؟ الحكم حينئذ أن نقول: إن هذا العقد الذي وقع بينكما وقع بشرط القطع مصححا، وإلا الأصل عدم صحته، فلما فات الوصف الشرعي المعتبر للتصحيح فإنه يرجع إلى حكم الأصل ببطلانه، فترد له المال، ولا حق له بالمطالبة بالثمرة، وتنشئان بيعاً جديداً إذا أردت البيع. قوله: [أو جزة أو لقطة فنمتا]: أي: إذا جاء واشترى منه برسيماً وهو على طول شبر، فالبرسيم على شبر له قيمة، والبرسيم على شبرين له قيمة، ففي بعض الأحيان يأتي المشتري، وتأتيه ظروف فيقول: أريد البرسيم الآن، فتقول له: ليس عندي إلا هذا البرسيم الذي هو في نصف الاكتمال،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/271)
فيقول: بكم أشتريه منك؟ فيقول البائع مثلاً: عشرة أحواض بمائة، قال: قبلت، وأعطاه المائة، ثم إذا به يماطل ويتأخر، أو جاءه ظرف، حتى أصبح البرسيم فوق ذلك بكثير، فيصبح المبيع الحاضر غير الذي أوجبا البيع عليه من قبل، وقد تكلف البائع مؤونة سقيه والقيام عليه، فحينئذ ينفسخ البيع الأول؛ لأن الجزة التي تعاقدتما عليها ليست بموجودة، ففاتت بتفويت المشتري، وحينئذ يتحمل مسئولية فوات البيع وترد له القيمة، وينُشئان بيعاً جديداً، وغالباً ما يكون البرسيم بضعفي قيمته؛ لأنه لما نما كان غير الذي اتفقا عليه. إذاً: الثمرة إذا صلحت وبدا صلاحها، فقيمتها غير قيمتها قبل بدو الصلاح، ولا شك أن المشتري إذا أراد أن يتلاعب، وفعل ذلك عن تلاعب لا شك أن هذا من خديعة المسلم، ولذلك يمثل بعض العلماء بأن الغش كما يكون من البائع للمشتري يكون كذلك من المشتري للبائع، ومن غِشِّ المشتري للبائع أن يشتري بشرط القطع، فإذا به يؤخر ويماطل حتى تكتمل الثمرة، فيأتي ويأخذها، ولا شك أن هذا إذا فعله على قصد التلاعب، فإنه معصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حرّم أن يفعل المسلم بأخيه هذا، فيشتري منه الشيء بنصف قيمته على أن يأخذه فوراً، وهو يضمر ويريد منه ما هو أكمل، مما يستحق قيمة أكثر، وليس هذا من النصح للمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فمما ينبغي للمسلم أن ينصح لأخيه، وهذا ليس من النصح. فقوله: [أو جزة]، أي: من كراث، أو برسيم ونحوه، [أو لقطة]، أي: من قثاء وباذنجان ونحوه، كالقرع والباميا، ونحو هذه الأشياء التي تلتقط، فاشتراها على هيئة ثم تركها حتى زادت، فالذي أوجب البيع عليه غير الذي صار إلى هذه الحالة، فوجب أن ينشأ العقد على الذي صار إليه الحال، ويلغى البيع في الأول. قوله: [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]: أي: إذا اشترى ما بدا صلاحه، وحصل آخر، أي: زيادة على الذي اتفقا عليه، واختلطت الزيادة بالأصل، و [اشتبها]، فما استطاعا أن يميزا الذي اتفقا عليه من الذي لم يتفقا عليه، فحينئذ يصير المال ما بين حلال وحرام، والقاعدة أنه إذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، في كلب الصيد إذا أُرسل للصيد، وأكل الكلب من الفريسة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه)؛ لأنه إذا أكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فصيده حلال، ويحتمل أنه أمسك لنفسه، فصيده حرام، فقال: (إن أكل فلا تأكل). فإذا أكل وجلس على الفريسة يأكل منها فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه أمسك لنفسه، لكن إذا أكل منها، ثم جاءك بفضلته فحينئذ يحتمل أن يكون صاد لنفسه، ثم من باب الوفاء جاء لسيده بالباقي، أو أنه صاد لسيده، فلما ذاق حلاوة اللحم ولذة الفريسة نهش منها، كأنه يرى أن سيده لا يضربه ولا يؤذيه، فيحتمل أنه صاد لسيده فعلاً، لكن الكلب -أكرمكم الله تعالى- لا ينطق ولا يتكلم، وإنما يباح صيده إذا صاد لك، ويحرم إذا صاد لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] فدل على أنه إذا لم يمسك لك لا يجوز لك الأكل؛ لأن كلاب الصيد والجوارح، كالصقور، والبوازي، والشواهين والنسور ونحوها، يصح صيدها إذا لم تأكل، أما لو أكلت فلا، فالصقر -مثلاً- إذا أرسلته وأكل من الفريسة فحينئذ لا يؤكل منها؛ لأنه اختلط الحلال بالحرام، فهناك موجب يقتضي الحل، وهو كونك أنت الذي أرسلت، وذكرت اسم الله تعالى، وأنت الذي حددت الفريسة، وهناك موجب يقتضي الحرمة؛ لأن شرط حل صيدها أن لا يأكل، فلما أكل اشتبه أن يكون أمسك لنفسه ولم يمسك لك، فإذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل. ولذلك نقول: القاعدة أنه إذا اجتمع حاظرٌ ومبيح، قدم الحاظر على المبيح، والسبب في هذا أن الحاظر والحرام أمرك الله تعالى باجتنابه، والحلال لم يأمرك الله تعالى بأخذه، فحينئذ تعارض الأمر مع ما هو دونه، فقال العلماء: إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. ومن هنا قالوا: إذا اشتبهت ميتة بمذكاة حرمتا، وإذا اشتبهت زوجة بأجنبية حرمتا، فلو كان هناك امرأتان متشابهتان تماماً وكانت إحداهما زوجة لإنسان، فجاء ودخل فوجد امرأتين كلتيهما شبه لزوجته، لا يدري هذه زوجته
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/272)
أو هذه، وقد يقع هذا في بعض الأحيان كما كان يقع في القديم في سفر القوافل، فقد كان يقع بعض اللبس، فإذا لم يتحرَّ ولم يتأكد أنها زوجته لم يجز له أن يقدم على غرة؛ لأنه ربما وطئ في حرام، والله تعالى أمره باجتناب الحرام. إذاً: اجتمع الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. وهنا إذا اشتبه ماله الذي اشتراه، وهو ملك للمشتري والمال الذي حدث في ملك المشتري وجب ترك الكل، وتصحيح العقد ما أمكن. قوله: [أو عرية فأثمرت]: العرية: من العرايا، سميت بذلك لأنها تعرى من البستان. والعرايا: أن يباع الرطب على رءوس النخل بخرصه تمراً، وليس الرطب بمجني؛ إذ المجني لا يباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر، لكن يباع على رءوس النخل. فلو فرضنا أن رجلاً عنده تمر سكري، لكنه أحب أن يأكل بدلاً منه رطباً، ففي الأصل لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم وجود التماثل، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع العرايا بخرصها تمراً، في قدر خمسة أوسق، كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كانت العرية في خمسة أوسق فما دون صح، أي: أن يؤخذ منه ثلاثمائة صاع؛ لأن الوسق ستون صاعاً، فيبيع نخلاً عرايا في حدود ثلاثمائة صاع، فإذا نقص عن ذلك جاز، ولو زاد لم يجز. فلو فرضنا أن النخلة فيها عشرون صاعاً، فخرصها الخارص وقال: هذا الرطب إذا صار تمراً يصير عشرين صاعاً، فقلت له: إذاً أعطيك عشرين صاعاً من التمر الذي في الأرض بهذه العريا التي فيها عشرون صاعاً، واتفقتما ع
ما يلزم البائع والمشتري عند بطلان البيع قوله: [بطل والكل للبائع] أي: بطل البيع، وقوله: [والكل للبائع] ذكرنا أن المشتري إذا أخذ الثمرة بشرط القطع فإن أبقى الكل فالكل للبائع، ويرد له الثمن، لكن لو أنه أخذ بعض التمرة وترك بعضها حتى صار تمراً، أو ترك بعضها حتى بدا صلاحه، فقال رحمه الله تعالى: [والكل للبائع]، أي: أنه يُلغى البيع كله، ويرد الثمن كاملاً، ويصبح المثمن كاملاً للبائع، فيقدر الذي أخذه بقيمته، ويلزم المشتري بدفع قيمة ما أخذ. وعلى هذا في العرايا لو اشتراها صفقة واحدة ثم أكل النصف رطباً وأبقى النصف تمراً، فمن العلماء من قال: تتجزأ الصفقة، فتصحح في النصف وتبقى في النصف، ومنهم من يقول: يبطل الكل؛ لأنها بيعت بصفقة واحدة. وعلى هذا الوجه يلزم البائع أن يرد الثمن كاملاً، ويضمن المشتري للبائع قيمة ما أخذه بحقه.
حكم البيع المطلق وبشرط التبقية قال رحمه الله تعالى: [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة، واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: أي: إذا بدا ما له صلاح في الثمر جاز بيع الكل بيعاً مطلقاً وبشرط التبقية، فإذا بدا الصلاح في النخيل فأزهت، فاحمَّرت واصفرت، فحينئذ يجوز بيعها بيعاً بشرط التبقية، وبيعاً مطلقاً. كرجل عنده مائة نخلة وبدا صلاحها، فقلت: يا فلان بكم تبيعني هذه المائة نخلة؟ فقال لك: أبيعكها بألف ريال، فقلت له: قبلتُ، فمن حقك أن تشترط عليه أن يبقيها، فتقول: قبلت بشرط أن تبقيها لي حتى تصير تمراً، وإذا بدا الصلاح تكون حبات التمر بلحاً؛ والنخيل منه ما لا يؤكل إلا بلحاً، ومنه لا يؤكل إلا رطباً، ومنه ما لا يؤكل إلا تمراً، وهناك ما يجمع الثلاثة الأحوال، كالتي تسمى أم جرذان، قيل: إنها التي ورد في السير أنه حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -وكانت بقباء- أكل منها، وهذه من أبكر أنواع النخيل الموجودة في المدينة وتؤكل بسراً وبلحاً ورطباً وتمراً. فهذا النوع يؤكل بجميع الأحوال، لكن هناك نوع إذا اشتراه المشتري يشترط بقاءه إلى التمر، وهناك ما يؤكل بلحاً ورطباً وتمراً، لكن من مصلحة بيعها أن تؤخر حتى تصير تمراً، فقيمتها تمراً أغلى من قيمتها رطباً، وبعضها قيمتها رطباً أغلى من قيمتها تمراً، فالذي يحتاج إلى تأجيل من أجل ربح السوق، فحينئذ يشترط بقاءه إلى الحصاد والجذاذ. ومن هنا قال رحمه الله تعالى: إذا اشترى بعد بدو الصلاح يجوز أن يتم البيع بيعاً مطلقاً، دون أن يوجد شرط، ويكون من حق المشتري أن يبقيها إلى القطع، ويجوز أن يشتريها ويقول: أشترط عليك أن تبقيها لي إلى الجذاذ. وفائدة هذه المسألة: لو أن رجلاً اشترى منك مائة نخلة بعد بدو الصلاح، فقلت له: أنت اشتريت الحاضر الناضج، فألزمك بقطعها، لم يكن من حقك ذلك، بل تبقى إلى جذاذها،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/273)
ولا يجوز لك أن تلزمه بالقطع قبل الجذاذ، فله حقٌّ أن يقطعها فوراً، أو أن يؤخرها إلى منتصف الموسم، أو إلى آخر الموسم، ولا يلزمه أن يقطعها فوراً. لكن الحنفية يخالفون الجمهور في هذه المسألة، فيرون أنه إذا اشترى الثمرة بعد بدو صلاحها يجب عليه القطع مطلقاً، سواء اشترط أم لم يشترط، وهذا مذهب مرجوح، والسبب في هذا أنهم يرون أن بيع الثمرة على أن تبقى إلى بدو الصلاح من بيوع الغرر، وبيوع الآجال، ولا يصححون هذا النوع من البيع بشرط التبقية، ولا يجيزون في البيع المطلق إلا أن يقطع فوراً، ويلزمون المشتري بقطعها فوراً، ولا شك أن مذهب الجمهور أصح.
حالات بدو الصلاح وآراء الفقهاء فيها وفي حق المشتري بناءً على ما سبق عندنا الأحوال التالية: الحالة الأولى: إذا بدا الصلاح بسراً فاحمَّرت الثمرة، أو اصفرت. الحالية الثانية: أن ترطب، فيكون النضج في نصفها، أو في ربعها، أو في أكثرها. الحالة الثالثة: أن يتم استواؤها ويكتمل، فتتهيأ للصرام والقطع. هذه ثلاثة أحوال بعد بدو الصلاح ينتبه لها. الحالة الأولى: أن تكون بلحاً، وبسراً. الحالة الثانية: أن تكون رطباً. الحالة الثالثة: أن تكون تمراً. فإن بيعت النخلة في هذه الثلاث الأحوال، إما أن تباع عند نهاية الاستواء، فإذا بيعت بعد اكتمال استوائها واكتمال نضجها، فبالإجماع يصح البيع ويقطعها فوراً، كرجل عنده مائة نخلة سكرية، وتركها وحفظها حتى صارت تمراً، ثم جاءه رجل وقال: أشتري منك هذه المائة نخلة بمائة ألف، فقال: خذها. فإنه يتم البيع بالإجماع ويصح. الحالة الثانية: أن تباع قبل أن تثمر، وقبل أن يكتمل استواؤها، فجماهير أهل العلم على جواز البيع وصحته، وخالف في هذه المسألة. رجلان عالمان، وكلاهما من التابعين، أولهما: عكرمة بن عبد الله، صاحب ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، الفقيه المشهور، فقالا: لا يجوز البيع، فلم يصححا بيع ثمرة النخيل قبل الاستواء الكامل، ولكن الصحيح مذهب الجماهير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها). ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النهي توقف عند بدو الصلاح فدل على أنه بعد بدو الصلاح يحل البيع، وهذا على القاعدة الأصولية المشهورة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم، فلما قال: حتى يبدو صلاحها، فالغاية بدو الصلاح، فمعناه أن الحكم بعد بدو الصلاح يخالف الحكم قبل بدو الصلاح، وقبل بدو الصلاح قال: (نهى)، فمعناه أنه بعد بدو الصلاح، يجوز ولا بأس به. وإذا قلنا بقول الجمهور: إنَّه يجوز بيعها قبل أن تثمر، فهم على طائفتين: فالمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، رحمة الله تعالى على الجميع، على أنك إذا اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها يجوز لك أن تبقيها، ولا يجب عليك القطع. وقال الحنفية: يصح بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، ونلزم المشتري بقطعها فوراً، فإن بيعت بُسراً وجب عليه أن يقطعها بسراً، وإن بيعت رطباً يجب عليه أن يقطعها حال كونها رطباً. والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترط في حل ما كان بعد الغاية مفهوم القطع. وعلى هذا يكون الحكم أنه يجوز بيعها بعد بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، وبيعاً بشرط التبقية، وبشرط القطع، لا بأس بذلك كله، على ظاهر السنة.
يلزم في بيع الحب ما يلزم في بيع ثمر النخل عند صحتها قوله: [واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: الحب أول ما يظهر. يكون طرياً، حيث يكون فيه ماء السنبلة، ثم يبدأ ييبس قليلاً قليلاً، حتى يشتدّ ويكتمل استواؤه، فإذا اكتمل استواؤه جاز بيعه، وبيع الحب على حالتين: الحالة الأولى: أن يأتي المشتري يشتري منك الحب، كأن تكون زرعت مزرعة كلها حبوب، فيأتي فينظر إليها ويقدرها، وتتوافر شروط البيع من العلم بقدر المبيع ونوعه، وبعد ذلك قال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود في مزرعتك بخمسين ألفاً، فقلت له: قبلت، فإن كان الحب طرياً لم يشتدّ لم يجز، إلا بشرط قطعه فوراً، كالنخل، كأن يقول: أريده علفاً الآن، ولا أريد بقاءه حتى يُحصد، فلو اشتراه قبل بدو صلاحه واشتداده بشرط أن يقطعه فوراً، صح البيع. ولو أخذه منك في هذه الحالة بشرط أن يقطعه فأخره حتى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/274)
اشتدّ، فما الحكم؟ الجواب: يبطل البيع على القاعدة التي ذكرناها، فإذا اشترى الحب قبل بدو صلاحه، بشرط القطع صح، وإن اشتراه بشرط أن لا يقطعه، بطل البيع، فإن بدا صلاحه، واشتدّ فحينئذ فيه تفصيل: فإن اشترى منك الحب وهو في سنابله وفي أرضه صح البيع، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، لكن لو أن هذا الحب حصدته، فأدخلته في البيدر، ومعه الشوك، ولم يصف الحب بعد، فهل يجوز أن يشتريه منك بالخرص قبل أن يكال؟ أو هل يجوز أن يشتريه بالكيل؟ أو يجوز أن يشتريه غير خالص؟ الجواب: لا؛ لأنه إذا حصد ووضع في البيدر، وأراد أن يأخذه بصفته فإنه يكون من بيع الغرر؛ لأننا لا ندري كم يصفى من هذا الحب، فلو قال قائل: هذا الحب يجوز بيعه، وهو في سنابله! قلنا: بالخرص، لكنه إذا خلط وأصبح محصوداً لا ينفع فيه الخرص، ولا يستطيع الخارص أن يحدد بدقة، أو بغلبة ظن ما هو أقرب للحقيقة، بخلاف ما إذا كان على رءوس زرع مشتدّ في سوقه، فإنه يمكنه أن يخرص، لكنه إذا دخل في البيدر، تكون السيقان الطويلة، والصغيرة، ويختلط الحب بغلافه، وبعد ذلك لا يمكن معرفته على الحقيقة أو قريب من الحقيقة إلا إذا صفي، فلا يجوز بيعه بعد الحصد إلا بتصفيته؛ لأنه يفضي إلى الغرر؛ فإنه حينما تشتري الصاع فإنك تشتري الحب مع الشوك، ولا يجوز بيع الشوائب لما فيها من الغرر، إلا بعد تصفيتها، ما دام أنه يمكن تصفيتها. قال رحمه الله تعالى: [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]: هذه هي الحالة الثانية: فإذا اشترى الحب بعد اشتداده، فإنه لا يجوز لك أن تقول له: احصد الآن، بل من حقه أن يؤخر إلى اكتمال الحصاد، حتى ينشف نشافاً كاملاً، ثم بعد ذلك يحصد، فإن اكتمل استواؤه، فقال: أريد أن أتأخر، فليس من حقه ذلك، أي: إذا تمت المدة وجاء موسم الحصاد يلزم المشتري بالحصاد؛ لأن هذا قد يضر بالبائع، ولذلك يلزم بحصده فوراً.
ما يلزم البائع بعد بيع الثمرة قال رحمه الله تعالى: [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]: بعد أن بين لنا رحمه الله تعالى مسائل البيع، شرع في مسائل الحقوق التي تتبع البيع، ولذلك الكلام على الفرع، وبيان الفرع بعد بيان الأصل والكلام عليه، وهذا كما ذكرنا أكثر من مرة من دقة العلماء، إذ قد تصح البيوع ويأتي الناس يتقاضون في الحقوق، فتختلف الأحوال فتارة يبيعه النخل بيعاً صحيحاً، ويبيعه الحب بيعاً صحيحاً، ولكن يفرط البائع في حق المشتري، أو يمنع البائع حقاً من حقوق المشتري، فيرد السؤال: ماذا يكون من حق المشتري إذا اشترى الثمرة بعد كمال استوائها، أو بعد صلاحها؟ الجواب: يجب على البائع أن يحافظ على الثمرة، ويحافظ على الأسباب التي تحافظ على الثمرة، وأهم تلك الأسباب مسألة السقي، كسقي النخل، فإن الثمرة تتأثر بالماء، فإذا اشترى منه نخلاً، وجب عليه أن يقوم على سقيه، وبناء على ذلك لو أن المزارع الذي اشتريت منه تعطلت آلة الماء عنده وجب عليه أن يصلحها، فإن لم يمكنه أن يسقي بآلته، وجب عليه أن يستسقي لك ماء يبقي لك الثمرة، إلى أن يتم حصادها، فإذا قصر فإنه يتحمل مسئولية التقصير، فإذا قلت: إنه يجب على البائع أن يسقي الثمرة بالمعروف، معناه أنه لو قصر كأ، يكون النخل يسقى، النخل يسقى إلى ثلاثة أيام، أو إلى يومين، إذا كان سقيه بالري الكامل وبأحواض كبيرة، فأصبح يسقي كل أربعة أيام، أو كل خمسة أيام، أو كل أسبوع مرة؛ لكونه فيه كلفة على الآلة، وهذه أمور، كانت تكلف الناس، ولا زالت تكلف الناس، فيخفف على نفسه؛ لأن الثمرة لم تعد ثمرةً له، وإنما صارت ثمرة لغيره، فحينئذ لا يتضرر، ولا يضره شيءٌ، فيقوم بالتساهل في سقيها، فقال المصنف رحمه الله تعالى: يجب على البائع السقي، أي: أنه مسئول عن سقي النخل، ويلزم بالماء الذي يستبقى به النخل إبقاءً للفرع المشترى، وهو الثمرة، فلو أنه تساهل في السقي، ولم يستتبع النخل في السقي، أو تساهل عماله، فحينئذ يلزمه الضمان، فلو أن الثمرة تضررت حتى ذهب العشر بسبب ضعف السقي، يُلزم بضمان عشر القيمة. وهكذا لو أنه تساهل في السقي، وتلاعب في ذلك حتى ذهب نصف الثمرة، يلزم بضمان نصف الثمرة، فإذا ألزمناه بالسقي ألزمناه بما يتبع التفريق للتساهل إذا كان ذلك بتساهل منه. قوله: [وإن تضرر الأصل]: في بعض الأحيان يكون السقي مضرّاً بالأصل، فهل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/275)
نقول: نقدم حق المشتري ويجب عليه السقي؟ أو نقول نقدم حق البائع؛ لأن الأصل الضررُ به أعظم من الفرع؛ لأن ضرر النخل ليس كضرر ثمرته، ففي بعض الأحيان يقول أهل الخبرة مثلاً: من المصلحة أن لا تسقي النخلة، وتحتاج أن تمسك الماء عنها أسبوعاً علاجاً لها من بعض الأمراض، والنخلة تمرض كما يمرض الآدمي؛ لأن لها أمراضاً تخصها، فإن قيل له مثلاً: الأرض مختمرة، ولا بد أن تمسك الماء عنها أسبوعاً، فحينئذ إذا أمسك الماء تضررت الثمرة، فنقول: إنه يلزم بالسقي بالمعروف ولو تضررت النخلة، لكن تضرر النخلة غالباً في مثل هذه المسائل ليس تضرراً سارياً إلى الثمرة، إنما هو في التضرر المستقل.
الآفات وأقسامها وعلى من ضمانها [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع] أي: إن تلفت بآفة سماوية، كما لو اشترى بستاناً بمائة ألف، ثم أصابته جائحة، والجوائح هي من حيث الأصل: الآفات والأضرار التي تصيب المحاصيل، وتصيب الزروع والثمار، وتنقسم إلى قسمين: الأول: آفات سماوية، وهي التي لا دخل للمكلف فيها. الثاني: وآفات غير سماوية، ويكون فيها للمكلفين دخل. أما الآفات السماوية: فمثل الأعاصير، كأن يأتي إعصار فيه نار فيحرق محصول الحب، ومزارع الحب في بعض الأحيان إذا كان هناك إعصار تشتعل ناراً، خاصة إذا كانت متأهلة للحصاد، فإذا اشتعلت ناراً بالإعصار، أو الصواعق، أو جاء سيل فغمر المحصول كله وأتلفه، فما الحكم؟ إذا كانت الآفة سماويةً، ولا دخل للمكلف فيها، فالسنة مضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، فأخوك المسلم إذا اشترى منك ثمرة البستان، أو اشترى منك محصول الزرع، ثم أصاب ذلك المحصول، أو تلك الثمرة جائحةٌ سماوية ليس بيده ولا بيدك دفعها، فإنه يجب عليك أن تضع الجائحة عنه، بمعنى أنك ترد له المال، ويكون الضمان على حسب الجوائح، والدليل على وضع الجائحة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم وغيره، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح)، فالسنة على أن الجوائح توضع. ومثل الحب النخل، فبعض المواسم يكون فيها: غبار كثير، والغبار يتلف ثمرة النخيل خاصة إذا كان عند التغبير، أو قبل بدو الصلاح، فتجد الثمرة منتفخة ليست بمليئة، وتصاب بأمراض بسبب الغبار، وتصاب بأمراض بسبب الأعاصير وسبب الرياح. وفي بعض الأحيان تهب رياح عاتية قوية، فإذا تحرك النخل تساقط التمر على الماء، ويفسد التمر؛ لأن التمر يصيبه الخمج إذا وقع في الماء، فتتحرك الرياح اليوم واليومين، وتلعب بجريد النخل فربما لا تبقي منه إلا ربعه، وربما لا تبقي منه إلا نصفه، وربما لا تبقي منه إلا ثلثه، فحينئذ إذا جاءت الجائحة فأتلفت الثمرة كاملة وضعت القيمة كاملة، وإن أتلفت نصفها وضع نصف القيمة، وإن أتلفت الربع وضع ربع القيمة. وكيف نعرف أنها أتلفت نصف المحصول، أو ربعه، أو ثلثه؟ الجواب: يرجع إلى أهل الخبرة، فينظر أهل الخبرة في البستان، ويقولون: هذا البستان تلف من محصوله الربع، فإذا اشترى منك بأربعمائة ألف. ترد له مائة ألف، وإن قالوا: تلف النصف، فحينئذ ترد له نصف القيمة، أي: أن الجائحة بالآفة السماوية تضمن وترد القيمة إذا تلف المحصول كاملاً، أو تلفت الثمرة بكاملها، وإن تلف الجزء فيرد بحسابه. هذا بالنسبة للآفات السماوية، أما الآفات غير السماوية وهي ما يكون بفعل المكلف، مثل أن تحصل بين الناس خصومة، فيتلف بعضهم محاصيل بعض، يكون فقد كان في القديم تقع الفتن والحروب فتتلف المحاصيل، فإذا جاء رجل واشترى منك محصول حب، ثم جاء الغزاة وأحرقوا هذا المحصول، فإن العلماء يقولون: آفات الآدمي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون بالغلبة والمغاصبة والقهر، مثل أن تأتي الجماعة التي لا تغلب، فتعيث في القرية أو في المدينة فساداً وتتلف محاصيلها، فهذا بالغلبة والمغاصبة. القسم الثاني: ما يؤخذ بالخلسة، كأن يكون محصولك جاهزاً، وإذا بسارق سرق ربعه أو نصفه أو ثلثه. فأما النوع الذي يكون من فعل الآدمي فجمهور العلماء على أنه لا توضع الجائحة فيه؛ لأنه يكون من تقصير من نفس الشخص غالباً، وإذا غُلب بالقهر فيكون هذا من باب الغنم بالغرم، وبعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله تعالى، يقولون: توضح الجائحة فيه، والأول أقوى، والثاني من ناحية العلة أظهر. أما لو أنك بعت ثمرة بستانك، فجاء
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/276)
السارق بالليل وسرق ممن اشترى منك، فالأفضل أن تخفف على أخيك، لكن لا يجب عليك ذلك، فهو الذي يلزم بالحفظ، ويلزم بالرعاية، وأنت لست بمسئول عن ضمان حقه. قال رحمه الله تعالى: [وإن أتلفه آدمي خير مشترٍ بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]: قوله: [وإن أتلفه آدمي]: هذا في حالة خاصة غير ما ذكرنا أولاً، وهو أن يأتي شخص بعينه، كأن يكون صاحب المزرعة بينه وبين رجل خصومة، فجاء هذا الرجل وأتلف محصول المزرعة، ولم يبق فيها شيئاً، أو أتلف نصف المحصول، أو ثلاثة أرباعه، فما الحكم؟ الجواب: نقول للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت فسخت البيع ورجعت بالمال كله على البائع إذا تلف المحصول كله، وهذا يعتبر كالعيب الذي طرأ في المبيع، وإن شئت طالبت المتلف بضمان حقك. وفي الأمرين فرقٌ: ففي بعض الأحيان، الأفضل له أن يسترد القيمة الأصلية، كأن يكون اشترى بقيمة غالية، فلما تم المحصول، ونزل إلى السوق وإذا بالقيمة رخيصة، فجاء المتلف في رخص السوق، فالأفضل له أن يفسخ البيع، وتارة يكون الأفضل له أن يطالب المتلف، فإنه قد يشتريها بعد بدو صلاحها بمائة ألف، فلما أتلفها المتلف كانت قيمتها مائة وخمسين، فإذا كانت قيمتها مائة وخمسين، فالأحظ له أن يطالب المتلف بالضمان، فالمقصود أنه إن شاء أخذ هذا، وإن شاء أخذ هذا.
استباق الثمار في بدو الصلاح وأحكامه ...... صلاح بعض الثمرة دون بعضها قال رحمه الله تعالى: [وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان]: مما ينبغي علمه أن النخل إذا بدا صلاحه فيه لا يبدو دفعة واحدة، فأنت إذا نظرت إلى النخلة تجد أن فيها أكثر من عرجون، وإذا نظرت إلى البستان ففيه أكثر من نوع، وإذا نظرت إلى المدينة والقرية ففيها مئات البساتين، فحينئذ سنبحث مسائل جديدة: أولاً: بدو الصلاح في عرجون واحد، كأن تظهر فيه حبةٌ واحدة فقط حمراء أو صفراء، فإذا بدا الصلاح في حبة واحدة من عرجون واحد، فهل معناه أن العرجون كله يباع؟ فهذه مسألة. ثم إذا قلنا بجواز بيع هذا العرجون، فهل معناه جواز بيع النخلة كلها؟ وهذه مسألة ثانية. وإذا قلت: تباع النخلة، فهل يباع أمثالها من نفس النوع في البستان؟ وهذه مسألة ثالثة. وإذا قلت: إنه يباع هذا النوع في هذا البستان، فهل يجوز أن يباع في البساتين الأخرى هذا النوع نفسه؟ وهذه مسألة رابعة. وإذا قلت بجواز بيع هذا النوع في هذا البستان، فهل يقاس عليه بقية الأنواع؟ وهذه مسألة خامسة. هذه مسائل كلها تابعة لمسألة بدو الصلاح. وحتى تكون الصورة واضحة، فالنخل -كما سبق- إذا بدا الصلاح فيه يتفاوت، فهناك ما يبكر صلاحه، وهناك ما يتأخر ويصبح في آخر النخل، وهناك ما هو وسط بين المبكر والمتأخر. فمن أمثلة المتقدم في بدو الصلاح: اللونة والحليا، وهما من أبكر ما يظهر صلاحه من تمور المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ويتأخر عنهما الربيع والروثان؛ لأن ثمرة الربيع والروثان صفراء، فلا تصفر إلا بعد وقت، وبقريب منها الحلوة، فلا تحمر إلا بعد وقت، وهي من الأنصاف، أي: المتوسط، وهناك ما يتأخر كالعجوة والصفاوي، ونحو ذلك، فعندنا نوع يبكر، وعندنا نوع يتأخر، وعندنا نوع وسط بينهما. فإذا بدا صلاح في حبة في عرجون، أو حبتين، وكان الزمان زمان صلاح فإنه يحكم ببدو الصلاح في النخلة كلها، وعلى هذا يجوز بيع ذلك العرجون وبيع سائر العراجين في النخلة، ويجوز بيع هذا النوع في البستان كله، فلو ظهر صلاحه في نخلة واحدة، فهو كبدو الصلاح في بقية النخل. وبالتجربة أنه إذا بدا الصلاح في أول النهار في نخلة، فغالباً لا يأتي آخر النهار إلا وقد بدا في نخلة أو نخلتين، أو ثلاث، ثم لا تأتي من الغد أو بعد الغد إلا وقد انتشر في البستان كله من هذا النوع، فتأخره قليل جداً، وعلى هذا يجوز بيع جميع النوع في البستان. لكن هل يجوز بيع بقية البساتين؟ أي: لو ظهر الصلاح عندك في بستانك، ولكن في بستان جارك لم يبدُ، فهل يجوز لجارك أن يبيع؟ الجواب: نعم؛ بزمان بدو الصلاح نفسه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: (حتى تطلع الثريا وتؤمن العاهة)، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان، أنه إذا بدا الصلاح في واحدة أن يكون للجميع، فهو زمان الصلاح وأَمْنِ العاهة غالباً، ومن هنا قال الجمهور:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/277)
إنَّ بدو الصلاح في نخلة بدوٌّ في جميعها، وبدو الصلاح في ذلك النوع يوجب جواز بيع ذلك النوع في البستان كله، وكما جاز بيع ذلك النوع في البستان، يجوز بيعه في بقية البساتين؛ لأنه ربما كان جارك ليس بينك وبينه إلا الحائط، وقد تكون مزرعتك مائة متر، ومزرعته مائة متر، فلو قلنا: لا يجوز أن يبيع جارك، فكيف بالذي عنده مزرعة فيها مائتي مترٍ، وبدا الصلاح في نخلة واحدة؟ إذً العبرة بالزمان، والعبرة بغلبة الظن في السلامة وهي موجودة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيجوز أن تبيع النخلة، وأن تبيع نوعها في البستان، وأن يباع نوعها في بقية البساتين.
صلاح نوع دون نوع هناك يقال: هل يجوز بيع المتأخر إذا بدا الصلاح في المبكر؟ الجواب: لا، والعبرة في كل نوع بحسبه، فلا نبيع تمر الحلوة، إلا إذا بدا الصلاح ولو في واحدة منه، لكن إذا بدا الصلاح في الحليا، لا نبيع في ذلك الحلوة، ولو بدا في تمر اللونة، لا نبيع العجوة، وإذا بدا في السكري لا يباع الصفاوي وقس على هذا. فكل نوع بحسبه، فإن من جرب النخيل، وجرب الزراعة يعلم أنها تتفاوت في طلعها، وتتفاوت في تأبيرها، وتتفاوت في بدو صلاحها. وعلى هذا فإنه لا يحكم بجواز بيع النوع إذا ظهر الصلاح في نوع غيره، وإنما يتقيد بالنوع نفسه، الذي بدا الصلاح فيه. قال رحمه الله تعالى: [وبدو الصلاح في زمن النخل أن تحمر أو تصفر]: هذه علامة بدو الصلاح، والأصل في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه،: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فهذا يدل على أن الحمرة والصفرة توجب الحكم ببدو الصلاح. قال رحمه الله تعالى: [وفي العنب أن يتموه حلواً]: العنب يبدو صغيراً، وبعد ذلك يبدأ يكبر شيئاً فشيئاً، حتى تكتمل حبة العنب في الحجم، وهي خضراء شديدة الخضرة، ثم يضربها الماء، فإذا تموهت وصار الماء عليه تفككت خضرتها، فبمجرد ما ينظر إليها صاحب الخبرة يعلم أنها قد نضجت، فإذا كانت شديدة الخضرة، فهي حامضة، وطعمها حامض، ويبدو صلاحها بذلك، وإذا بدا الصلاح في عنبة جاز بيع بقية العنب في ذلك البستان. لكن لو كان العنب أنواعاً، كالعنب الطائفي والحجازي والمشرقي، فهذه الأنواع يفصل فيها: فإذا تموه العنب من نوعٍ، فلا يحكم بجواز بيع غيره من نوع آخر إذا تفاوت في النضج. قال رحمه الله تعالى: [وفي بقية الثمار أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله]: قد بينا فيما سبق علامات بدو الصلاح، فمن الأشياء ما يكون بدو صلاحه بلينه بعد اشتداده، كالتين والبطيخ. ومنها ما يكون باشتداده بعد لينه كالحب. ومنها ما يكون بحلاوته بعد مرارته كقصب السكر، والرمان ونحو ذلك. ومنها ما يكون بتفتح أكمامه، كما ذكرنا في الورد، ويقاس على ذلك بقية الأنواع.
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:02 م]ـ
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [2] من الأحكام المتعلقة بباب بيع الأصول والثمار: أنه لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، على تفصيل في بدو الصلاح وعلاماته واختلافه باختلاف أنواع الثمار والزروع، وإن باع قبل بدو الصلاح فلابد من شرط القطع، على تفصيل في اختلاف أنواع الثمار والزروع وما يجز منها وما يلقط. بيع الثمار والزروع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: ...... اشتراط بدو الصلاح في بيع الثمار وعلة ذلك فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]: أي: ولا يجوز أن يباع ثمر قبل بدو صلاحه، والدليل على هذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري)، أي: نهى البائع أن يبذل الثمرة على هذا الوجه، ونهى المشتري أن يدفع الثمن في هذا النوع من الثمار. وثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمارُّ أو تصفارُّ)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في السنن أن الناس كانوا يتبايعون الثمار، ثم إذا حضر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/278)
تقاضيهم قال المشتري: أصاب الثمارَ الدمانُ -وهو نوع من الأمراض التي تصيب الثمرة فتتلفها- والدمان مثل ما يصيب البلحة حين يأتيها شيء مثل الحمار، أشبه بلون الدم إلى اللون البني، فتصبح يابسة لا طعم لها، وربما أفسد الثمرة بالكلية، فيقول المشتري: أصاب الثمرة الدمانُ، أصاب الثمرةَ القشامُ، لأمراض وعاهات يذكرونها، فلما كثرت خصوماتهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
علامات بدو الصلاح في النخل علمنا الحكم وعلمنا الدليل فنحتاج إلى شرح هذه المسألة، فنقول وبالله التوفيق: النخلة كما ذكرنا تُطلع، وإذا أطلعت وتشققت وأبّرها الفلاح، تبقى ما لا يقل عن شهرين، فأول ما يخرج الكوز فيه الثمرة، وتنظر إلى العرجون الذي تراه حاملاً للثمرة بعد استوائها ونضجها، وإذا أخرجها الفلاح وغبرها، فقبل ما يخرجها تنظر إليها وإذا بها حبات مرتبة منسقة بنظام عجيب بديع غريب، وتتعجب من بديع صنع الله عز وجل، فإذا حضر موسم التأبير والتغبير فاذهب إلى المزرعة وانظر؛ لأن هذا مما يزيد العبد إيماناً بالله جل جلاله، وتحار العقول في بديع صنعه، قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ [السجدة:7]، حتى تحس بمعاني الآيات التي في كتاب الله جل جلاله، تنظر إليها وإذا بها في ذلك الكوز، وتنظر إلى الكوز نفسه فترى مادته الخشبية العجيبة في سماكتها وثخنها من الخارج، ولطفها ونعومتها من الداخل، وكيف أنه يحفظ الثمرة، وإذا بالثمرة تخرج بيضاء ناصع لونها نقية ليس فيها أي شائبة، أو أي خلل، أو أي ارتباك، بل متناسقة مرتبة منظمةٌ، الثمرة بجوار الثمرة بطريقة عجيبة بديعة، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء! سبحانه لا إله إلا هو! ووالله إن هذا يزيد من إيمان الإنسان، وينبغي لطلاب العلم أن ينظروا؛ لأن الله تعالى يقول: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99] فالله تعالى ندبنا إلى هذا. فإذا نظرت إلى ذلك وجدته بهذه الطريقة، فيأتي الفلاح فيزيلها عن بعضها؛ لأنها مرتبة متناسقة، ويبعدها عن بعضها حتى يدخل الغبار فيما بينها، ويدخل لقاح الذكر فيما بينها، ثم يزيل هذا الوعاء، وتبقى مفتحة، وتبقى على مر الأيام بحساب دقيق عجيب غريب لا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، فإذا به مدة زمنية معينة يكتمل كبر هذه الثمرة، ونضجها واستواؤها، لا يسبق زمانه ولا يتعداه أبداً. ومن أغرب ما يكون أن يكون لها موسم معين، يكتمل فيه جرمها وحجمها، وبعض النخل يكون طويلاً كالعنبرة -نوع من أنواع التمر طويل- وبعضها صغير الحجم كالعجوة، خاصة المسماة العجوة الثانية، وهي التي تنطبق عليها السنة، وهي الصغيرة، وهناك عجوة طويلة، وهي عجوة مستحدثة وقعت شبيهة بالعجوة، لكن العجوة التي ينطبق عليها السنة أكثر هي العجوة الصغيرة. فالشاهد أنك تجد هذه صغيرة الحجم، وتلك طويلة الحجم، ثم تجد الوسط بينهما، كالصفاوي، ثم تجد هذا حلواً شديد الحلاوة، بحيث إنك إذا أكلته لا تستطيع أن تتمالك نفسك من قوة الحلاوة، وكذلك العكس، فتجد منها ما عذوبته في حموضته، شيء من الحموضة فيه، وتجد ما هو وسط بين الاثنين. فهذا الاكتمال إذا مرت الأيام تبدأ هذه الثمرة تكبر شيئاً فشيئاً، وإذا رأيت الحبوب تجدها بقدر حبة الذرة على أطراف الشماريخ، وتمر الفترة الزمانية فتبدأ تكبر شيئاً فشيئاً، حتى يتناهى كبرها في الزمان المعين، فلا تتقدم ولا تتأخر، وفي مثل ذلك يقول تعالى: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [يس:40]، وكل شيء مقدر، والله تعالى قدر له لا يزيد ولا ينقص، فإذا جاء وقت اكتمال جرمه -وهذا أول شيء- فبعد أن يكتمل الجذر يأتي اللون، فيضربها الحمار ويضربها الصفار، فتنظر إليها في الأول وإذا بها خضراء في حالة الخضرة، وهذا يسمى في عرف الناس الصربان، أي: وهي في الخضار قبل أن يضربها اللون، فهذا الأخضر الغالب في الثمار لا يؤكل؛ لأنك إذا أكلته وهو في خضرته، كأن سقماً يضر الإنسان، ويعطى علفاً للدواب، ولكن مع كونه هكذا في الغالب فقد جعل الله تعالى منه شاباً، فمنه الأخضر الذي إذا جنيته أخضر يكون من ألذ ما يكون، وهو الذي يكون في صنف الحلوة المشهورة أخضرها عذب ويؤكل، وله نكهة ولذة كما تجد اللذة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/279)
فيها وهي بسرٌ أو ربط أو تمر؛ لكي يختلف الشيء فيدل على أن الله سبحانه وتعالى خالقها، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49] فلو الأخضر لا يؤكل لكن الله تعالى جعل بعض الأخضر يؤكل، حتى ينبه على أن الله تعالى هو الذي جعله لا يؤكل؛ وقادر أن يجعله يؤكل. فالشاهد: أن هذا الأخضر لا يؤكل، وليس بزمان يصلح فيه الأكل، ففي هذه المرحلة تكون مرحلة قبل بدو الصلاح، فإذا صار أخضر ضربه اللون، وضربة اللون تكون عند بداية الصلاح، فإذا ضربه اللون الحمار أو الصفار فإن الغالب أن يأمن العاهة بقدرة الله عز وجل ويسلم، وأكثر الخطر يقع ما بين التأبير والاحمرار والاصفرار، أما إذا احْمَرَّ أو اصْفَرَّ فالغالب أن يسلم ويحفظ، إلا أن تأتيه آفة سماوية كإعصار، أو يأتيه سيل ... إلخ. فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا يشمل مرحلة الطلع، ومرحلة التأبير، ومرحلة ما قبل الإزهاء، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم وما تزهي؟ قال: (تحمار أو تصفار)، فجعل بدوَّ الصلاح بالاحمرار، أو الاصفرار. ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله تعالى أن بداية الجواز لبيع الثمرة بعد بدو الصلاح بالاحمرار أو الاصفرار. هذا بالنسبة للنخلة تحمر أو تصفر، فإذا احمرت أو اصفرت أمنت العاهة غالباً، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو -يعني يظهر، من بدا الشيء: إذا ظهر- يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.
علامات بدو الصلاح غير الحمرة والصفرة قد يقال: فإذا كان بدو الصلاح باللون، ففي بعض الأحيان تكون النخلة خضراء، كالخضري الآن، فالخضري لا يحمر ولا يصفر؟ قلنا: اللون علامة بدو الصلاح الأولى، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (حتى تزهي؟ قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فإذا كان لونها واحداً قبل بدو الصلاح وبعد بدو الصلاح كالخضري، وهو نوع من التمر ونوع من النخل أخضرُ لا يحمار ولا يصفار، فمتى يحكم ببدو صلاحه؟ الجواب: يحكم ببدو صلاحه بطيب أكله، فإذا أصبح حلواً وطاب أكله، فحينئذ يكون قد بدا صلاحه، أما قبل الإزهاء فلا يمكن أن يكون حلوا، وفي بعض الأحيان يكون الفرق يوماً واحداً، بالأمس تمر على النخل فلا تجد فيها حبة صفراء، وتصبح في اليوم الثاني وإذا بها قد اصفرت أو احمرت، قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] سبحانه لا إله إلا هو! وفي بعض الأحيان عندنا في المدينة إذا طلع سهيل تكون الثمرة موجودةً ويكون البلح موجوداً، فتأكل البلح بالأمس له طعم، وإذا طلع النجم أكلتها في اليوم الثاني كأنها لم تكن مرّةً، وهذا شيء جربته بنفسي؛ لأن الله تعالى قدر كل شيء بوقته وزمانه. فالشاهد أنه ربما يكون الفرق يوماً واحداً في بدو الصلاح، فما كان بلونه فبلونه، وما لم يكن باللون يكون بالطعم، والدليل على ذلك الحديث أيضاً، وهو صحيح وثابت أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تؤكل، فقوله: (حتى تؤكل)، وفي رواية: (حتى تُطعم)، وذلك بأن يكون طعمها صالحاً للأكل، وبناء على ذلك جاءت العلامة الثانية: أن يكون بدو الصلاح بالطعم. فهناك علامة بالطعم، وهناك علامة باللون، وهناك علامة ثالثة في النخل بالزمان، وهي طلوع الثريا؛ لحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يطلع النجم، وتؤمن العاهة)، أي: أن الله تعالى جعل طلوع النجم بداية لموسم صلاح الثمار، وهذا -كما ذكر بعض العلماء رحمه الله تعالى- من الاهتداء بالنجم الذي ليس بمحرم؛ لأن الله تعالى يقول: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، والمراد بطلوع النجم: طلوع الثريا، وهذا في بعض الأماكن مثل المدينة والحجاز، فإذا طلعت الثريا، يبدأ الصلاح، وفي المدينة غالباً إذا طلعت الجوزاء فإنه يبدو الصلاح، ويبدأ الإزهاء في النخل فيحمر ويصفر، وهذا كما ذكرنا علامة زمان، فسبحان الله الذي بيده ملكوت كل شيء!
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/280)
استباق العلامات وما الذي يعتبر به منها إذا علمنا أن عندنا علامة باللون، وعلامة بالطعم، وعلامة بالزمان، فبالنسبة للطعم واللون والزمان فلا إشكال إذا اتفق الكل، بمعنى طلع النجم وجاء الزمان وبدا الصلاح فأزهت النخلة فاحمرت واصفرت، أو طاب طعم ما كان أخضر منها، لكن الإشكال لو سبقت علامة الزمان الاحمرار والاصفرار، أو سبقت علامةُ الاحمرار والاصفرار طلوع النجم، فهل العبرة بالزمان الذي وضعه الله تعالى سنة كونية؛ للسلامة من العاهة في الغالب؟ أم العبرة بالحال والصورة؟ قال بعض العلماء: العبرة بأي واحدة منهما؛ لأن السنة دلت على هذا كما دلت على هذا، فأيُّ العلامتين ظهرت أو سبقت فالعبرة بها، والغالب أنه لا يسبق إلا باليوم أو اليومين والشيء اليسير، وهذا بقول أهل الخبرة: إنه لا يسبق إلا بالشيء اليسير. فنخرج من هذا بالخلاصة: أن بيع الثمر إذا بدا صلاحه في النخل، سواء كان باللون أم بالطعم، أم بالزمان، فإنه يحكم بجواز بيعه، سواء اتفقت هذه العلامات أم سبق بعضها، فإنه يعتبر موجباً للحكم بالجواز. هذا بالنسبة للنخل، ويبقى غير النخل، وفي الحقيقة من المستحب والأفضل لطالب العلم دائماً أن يكون على إلمام بمثل هذه الأشياء إذا كانت المسألة تتصل بالزروع والثمار؛ لأنك تُسأل وتُستَفَتى، وقد تكون في المدينة لا ترى شيئاً من هذا، لكن افرض أنك يوماً سافرت إلى قرية، فجاءك الفلاحون يسألونك: ما حكم الشرع في بيع النخيل والزروع والثمار؟ فينبغي لطالب العلم أن يكون عنده إلمام بمثل هذه الأشياء، فإذا جاء فصل التأبير ذهب ونظر وعرف التأبير، وكان الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله تعالى برحمته الواسعة يخرج مع طلابه، لكي يمتثل أمر الله عز وجل بقوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] وكان رحمه الله تعالى يمسك بالبعير، ويجسه رحمه الله تعالى برحمته الواسعة، فيُعَوّد الإنسان نفسه على أنه يعرف الأشياء على حقيقتها، فإن كانت المسألة متصلة بالزروع والثمار سأل أهل الخبرة بالزروع والثمار. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، إذا ذكر المسألة أسهب فيها، كأنه يحسن هذا الفن والعلم، وقد ذكر مسألة الأهلة، فجاء يتكلم على منازل الهلال واختلاف المطالع حتى تكاد تقول: إنه فلكي، وفعلاً هو قد درس علم الفلك؛ لأنه لا يمكن أن يحكم بهذه الأشياء من كون المطالع تتفق أو تختلف، إلا إذا كان متقناً لعلمها، فإتقان العلوم وضبطها مهم، وعليه أن يرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ليصبح طالب العلم على بصيرة من أمره وعلى علم، حتى يمكنه ذلك من الترجيح في المسائل، فهذا أمر مهم جداً.
علامات بدو الصلاح في العنب وغيره إذا عرفنا المسألة بالنسبة للنخل، فتنتقل إلى العنب، فالعنب أول ما يخرج إذا خرج في عناقيده يكون صغير الحجم، وهذا الحجم الصغير لو أخذت منه حبة تكاد تكتوي من حموضتها، ثم يستتم يكبر شيئاً فشيئاً، حتى يبلغ قدره الذي قدره الله تعالى له، فيبقى على خضرته الغامقة، وإذا أكلته أكلته حامضاً، فإذا جاء وقت صلاحه تفتحت خضرته، وضربه الماء فإذا بلونه اليوم ليس كلونه بالأمس، وإذا بطعمه الساعة ليس كطعمه قبل أن يأذن الله تعالى بحلاوته، فيتموه، وهذا التموه هو بداية الصلاح. وإذاً يكون صلاح العنب بالطعم، وفي حديث عند أحمد رحمه الله تعالى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسودّ)، وهذا في نوع خاص من العنب، يكون باللون، لكن بالنسبة لضابطه يكون بالطعم؛ لأنه أخضر، فينظر الطعم بالنسبة للعنب إلا في بعض أنواعه، كالأحمر الذي يكون غامقاً؛ فإن بداية صلاحه تكون بالحمرة الغامقة. ومما يبدو صلاحه بالطعم -أن يصبح حلواً بعد مرارته ويكون سكرياً- قصب السكر، فقصب السكر إذا أُكل قبل بدو صلاحه لا يكون له طعم، ولا يوجد له طعم العذوبة السكرية الموجودة فيه، فإذ بدا صلاحه كان طعمه مستعذباً، فقالوا: بدو صلاحه أن يحلو بعد مرارته. وفي بعض الأحيان يكون بدو الصلاح بلينه بعد يبسه، ومن أمثلته التين، فإن التين يبدأ يابساً، وتكون حياته صلبة شديدة، ثم بعد ذلك يبدو صلاحها فتلين شيئاً فشيئاً، حتى البطيخ، إذا كانت صلبة شديدة فاتَّقها، لكن إذا كانت رخوة فمعنى ذلك أنها قد بدا صلاحها، ولذلك تجدهم يضربون عليها حتى يستكشفون ما فيها، فقالوا:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/281)
كالتين والبطيخ، يلين بعد شدته. وهناك ما هو عكس -وانظر إلى قدرة الله تعالى- فهناك ما يطيب بشدته بعد لينه، وهي العلامة الرابعة، مثل الحبوب، في السنابل، كالبر والشعير، فإنه أول ما يبدأ يكون ليناً، ولو أخذتها وعصرتها لخرج مادته، ثم تبدأ تشتدّ شيئا فشيئاً حتى تيبس، كما في الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتدّ)، فهذا الاشتداد، قالوا: اشتداده بعد لينه عكس الأول. وهناك ما يبدو صلاحه بانتهائه في الكبر، أو الطول، كالقثاء (الخيار) وكالبطيخ والخربز ونحوه، فإنه لا يمكن أبداً أن يباع وهو صغير، فهذا يتعاظم حتى يبلغ غاية عظمه، فمنه ما يكون بالطول مثل القثاء، ومنه ما يكون بالحجم كالدباء، فالدباء تكون بكبر الحجم وهو الذي يسمى بالقرع. كذلك أيضاً يكون من بدو الصلاح أن يتفتح عن أكمامه، كالورد، فالورد إذا تفتح من كمه بدا صلاحه، لكن قبل أن يتفتح وهو مصكوك كثيراً ما تهجم عليه الحشرات، أو تأتيه الآفات ولا يتفتح، ولا يغلب على الظن سلامته إذا لم يتفتح، إنما يغلب على الظن سلامته إذا بدأ يتفتح، فهذا يكون بتفتحه من أكمامه. فهذه من أشهر علامات بدو الصلاح. قال رحمه الله تعالى: [ولا زرع قبل اشتداد حبه]: أي: ولا يجوز بيع الزرع قبل اشتداد حبه، كالشعير ونحوه؛ لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد). وكذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحب حتى يبيض، وإذا اشتدّ يبدأ ييبس غلافه الخارجي، وهذا هو البياض، أي: يشتدّ ويشتدّ حتى يتساقط ما عليه ويكتمل استواؤه.
البيع قبل بدو الصلاح ...... بيع الثمر وما يجز ويلقط من الزرع قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان، دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال، أو جزة جزة، أو لقطة لقطة]: ذكرنا أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمشتري. وذكرنا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً بمعناه. ومعناه أن الشريعة لا تجيز بيع الثمار، ولا بيع محاصيل المزروعات إذا كان بيعها على وجه فيه غرر وتغرير ومخاطرة على المشتري. وبناء عليه قلنا: لا بد من بدو الصلاح في الثمار، سواء أكانت من النخيل أم كانت من غيره من المزروعات، وبينا هذا كله. لكن السؤال يتعلق ببعض المزروعات التي تجز محاصيلها، وبعضها تلتقط، كالرطبة، فإن أصلها ثابت، ويجز ظاهرها، فتجز الجزة، ثم تنبت مرة ثانية، ثم تجز، وهكذا بعض أنوع الجزر الذي يؤخذ ورقه علفاً للدواب، يجز ظاهره ويبقى أصله، وكذلك أيضاً البرسيم يجز ظاهره ويبقى أصله في الأرض، فإذا باع رجل برسيماً، كأن يأتي رجل يريد حوض برسيم من صاحب مزرعة، فيقول له: بعني هذا الحوض من البرسيم، فقال له: أبيعك بمائة، قال: قبلت، فإنه في هذه الحالة قد اشترى البرسيم بالجزة الظاهرة، فلا يجوز أن يشتري البرسيم بأصله، وذلك لأنه لا يعلم، ولا ندري كم جزة ستكون فيه، ولا ندري كم سيكون بقاؤه في الأرض، فبعض البرسيم قد يبقى سنة، وبعضه قد يبقى ثلاث سنوات، وقد يبقى إلى فوق خمس سنوات، كما في البرسيم الحجازي، فإنه يجلس إلى أكثر من خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، فلو أنه باعه البرسيم الظاهر شيئاً موجوداً، لأنه يكون في الظاهر في شيء موجود، لكن بالنسبة لما هو باطن في السنوات والشهور والأيام الآتية فإنه مجهول كبيع الثمرة في النخل سنين وأعواماً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه نهى عن بيع السنين والمعاومة، وبيع السنين والمعاومة كما فسره العلماء رحمهم الله تعالى: هو بيع الثمرة -أعني ثمرة النخل- سنوات، فيقول له: أشتري منك محصول مزرعتك من التمور ثلاث سنوات، فلا يجوز هذا؛ لأنه وإن كان في السنة الأولى قد باع ثمرة قد بدا صلاحها، ففي السنة الثانية مجهولة وفي السنة الثالثة مجهولة، فكذلك لو باعه البرسيم الذي يجز على مراتب، فلو كانت الجزة الأولى ظاهرة فإن ما سيأتي مجهول. وعلى هذا فإنه لا يباع من الشيء الذي يجز مرات مع بقاء أصله إلا الجزة الظاهرة، فتقول له: أبيعك هذا الحوض الموجود الآن بمائة، أو أبيعك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/282)
هذه الخمسة الأحواض بخمسمائة، فاشتراها بخمسمائة ثم قام بجزها علفاً لدوابه، فلا حرج وهو جائز، لكن لو قال له: أشتري منك هذا البرسيم مدة بقائه في الحوض، لم يجز؛ لأنه بيع مجهول، ويغرر به، فربما ظن أن هذا البرسيم يبقى في الحوض سنة، فإذا به يبقى أقل، وربما ظن البائع أنه سيبقى سنة ثم سيبيع حوضاً ثانياً، فإذا به يبقى خمس سنوات، فهو من بيع المخاطرة، ثم هو بيع للمجهول، لا يدرى أيوجد أو لا يوجد، وهل يخرج جيداً أو يخرج رديئاً. والخلاصة: أن المصنف هنا يريد أن يطبق القاعدة في بيع الأصول والثمار، وهي أنه لا يجوز بيع الغرر. وبيع الغرر في بيع الأصول والثمار. فالبرسيم له أصل، وله ثمرة هي نتاجه الظاهر، والجزة الظاهرة، وكذلك الرطبة لها أصل، وهو الذي يسمى بالجزر، وهو غير الجزر المعروف الذي يعصر، وإنما الجزر السميك المتين هذا الذي يباع وله ورق يزحف على الأرض يقطع علفاً للدواب، هذا النوع من الجزر، وهذا النوع من العلف الذي هو البرسيم لا يباع إلا جزة ظاهرة، ولا يباع أصله مع ثمرته؛ لأننا لا ندري كم ينتج الأصل. لكن لو باع المزرعة وكان فيها صح تبعاً، ولم يصح أصلاً، وقد بينا القاعدة: أنه يجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل، وبينا ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله رحمه الله تعالى: [ولا رطبة]. أي: ولا يجوز بيع الرطبة، وفي حكمها كل شيء مما يكون مستتر الأصل، ظاهر الثمرة فلا يباع إلا الثمرة، ولا يباع النتاج إلا على الظاهر، أن يأخذ ظاهره جزة جزة، أو لقطة لقطة، كما سيأتي في لفه ونشره رحمه الله. قوله: [وبقل]: البقول كما لا يخفى تستتر في الأرض، ولما قلنا: أنه لا يجوز بيع الظاهر من البرسيم إلا جزة جزة، لا يجوز أيضاً بيع البقول إلا لقطة لقطة، ومن هنا فلا يجوز بيع الفجل، ولا يجوز أيضاً بيع الكرّاث، إلا إذا كان قد استخرج الفجل من الأرض، وهكذا بالنسبة للكرّاث، تكون الجزة الظاهرة هي التي تباع؛ لأن الكرّاث كالبرسيم، إذا استتم طوله جزه، ثم ينبت مرة ثانية، ثم يجز فينبت مرة ثالثة، فلا يبيع أصل الكرّاث وفرعه، وإنما يبيع الجزة الظاهرة، وهذا على القاعدة التي ذكرناها: أنه لا يصح البيع إلا لشيء معلوم لا يغرر فيه بالمشتري، وإنما يكون المشتري على علم وبينة، حتى يعلم أن المال الذي يدفعه هل يُستحق لهذا الشيء، ويعلم ما الذي له وما الذي عليه، فلا يجوز إلا لقطة لقطة بالنسبة لما يلتقط، وجزة جزة بالنسبة لما يجز، وهذا كله دفعاً للضرر الذي اشتمل عليه هذا النوع من بيوع الغرر. قوله: [ولا قثاء]: القثاء معروفة، والقثاء إذا أثمرت يكون بعض الحبوب مستتم الخلقة، وبعضها صغيراً، وبعضها متوسطاً، فمنها ما استتم خلقه، ومنها ما لم يستتم، وبناء على ذلك يقولون: لا يبيع إلا الذي استتم خلقه، ومن هنا كما قلنا: لا يجوز بيع المجزوز إلا جزة ظاهرة، جزة جزة، كذلك الملتقط لا يجوز بيعه إلا ما كان متأهلاً صالحاً للالتقاط، أما الذي لم يصلح للالتقاط، فإن بيعه كبيع الحب قبل اشتداده، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والقاعدة واحدة، والشريعة جاءت بقاعدة، وهي أن بدو الصلاح تؤمن معه العاهة غالباً. فإذاًَ بعد أن قررت القاعدة فوردت في النخل، ووردت في الحبوب، فأصبح النخل أصلاً لما ظهر، والحبوب أصلاً لما يحصد، هذا أصل، وهذا أصل، والمعنى في كل منهما أن لا يغرر بالمشتري، ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية حافظة لحق البائع، حافظة لحق المشتري، فكل يشتري الشيء بيناً واضحاً دون أن يغرر البائع بأخيه المسلم، ودون أن يشتري المسلم شيئاً يجهله، فيغرر بماله ويخاطر بحقه. قوله: [ونحوه كباذنجان]: ذلك؛ لأن فيه الصغير والكبير، وما بدا صلاحه وما لم يبدُ، فلو قال له: أبيعك محصول الباذنجان هذا، فإنه لا يجوز. وقال بعض العلماء في القثاء والباذنجان، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وطائفة: يجوز بيع كله إذا بدا الصلاح في بعضه، قياساً على النخيل، ولا شك أن الغرر في الباذنجان والقثاء أعظم من الغرر في النخيل، فإن النخيل، إذا بدا الصلاح في بعضها فغالباً تؤمن العاهة فيها كلها، ولكن المحاصيل تختلف عن ذلك، وهذا معلوم بالتجربة، ورجح بعض العلماء قول من قال بالجواز، وقال: إن الذي هو صغير، أو لم يظهر في حكم الظاهر، ولكن هذا ضعيف، خاصة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/283)
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علل النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بخوف الآفة والعاهة، وهذا المعنى موجود في المحاصيل التي لم يستتم خلقها.
البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال]: بعد أن ذكر لنا الرطبة، وذكر لنا البقلة، وقال: لا يجوز بيع ما لم يبدُ صلاحه، وكذلك الباذنجان وما في حكمه، ذكر أن هذه الأشياء كلها، لا يجوز بيعها إلا بشرط القطع في الحال. وهنا مسائل سندخل فيها تتعلق ببيع الشيء الذي لم يبدُ صلاحه. قد قررنا أن الشيء الذي لم يبد صلاحه من التمور ومن المزروعات ومن الحبوب، لا يجوز بيعه، والشريعة دالة على هذا، والنصوص واضحة في هذا الحكم. لكن بيع الشيء الذي لم يبد صلاحه، له حالات: الحالة الأولى: أن يشتري ثمرة لم يبدُ صلاحها بشرط أن يقطعها في الحال، كأن يعطيها علفاً للدواب. الحالة الثانية: أن يشتريها من أجل أن يستبقيها لكي تصلح. فإن اشترى ثمرة بستان، لم يبدُ صلاحها، واشترط أن يقطعها فوراً، أو اشترط البائع على المشتري أن يجز ويقطع العراجين التي هي للثمرة فوراً فالبيع صحيح في قول جماهير العلماء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (الأئمة الأربعة)، وهو مذهب جماهير السلف والخلف: أن من اشترى ثمرة بستان قبل بدو الصلاح بشرط أن يقطعها فوراً، صح البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بينت العلة، وهي أنه لا يؤمن على الثمرة أن تفسد، فإذا كان يريدها في الحال، ويقطعها في الحال علفاً للدواب، فقد زالت العلة. وإليك توضيح هذه المسألة: نحن ذكرنا أن النخل يطلع وبعد الطلع يتشقق ثم يؤبر، ثم يجلس فترة ما بين التأبير وما بين بدو الصلاح، فهذه الفترة التي ما بين التأبير وبدو الصلاح، هل يجوز فيها بيع الثمرة أو لا؟ الواقع أن هذه الفترة إذا وقع فيها البيع لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يبيع بشرط القطع. الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية. الحالة الثالثة: أن يبيع بيعاً مطلقاً، أي: خالياً من شرط القطع والتبقية. فإذا بدت الثمرة فأبرها صاحبها، ولم يبدُ صلاحها، ثم باعها قبل بدو الصلاح، فإما أن يبيع بشرط القطع أو يبيع بشرط التبقية، أو يبيع بيعاً مطلقاً. أما الحالة الأولى: فهي أن يبيع بشرط القطع، كأن يكون عندك بستان فيه مائة نخلة أطلعت، ولكن لم يبدُ الصلاح في الثمرة، فالأصل الشرعي يقتضي عدم جواز البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، هذا الأصل الشرعي، لكن لو جاءك رجل، وقال لك: هذه الثمرة التي في البستان ثمرة مائة نخلة أريد أن أشتريها وأقطعها فوراً علفاً للدواب، وفي بعض الأحيان إذا أطلع النخل لأول مرة فبعض أهل الخبرة يقطعون الثمر، ويقولون: إن هذا يفيد النخلة كثيراً ويقوي النخلة، وفي بعض الأحيان حتى لو أطلعت وكان طلعها كثيراً، وفيها عراجين كثيرة، يقطعون بعض العراجين، ولو كانت في السنة الثانية أو الثالثة أو بعد سنوات، فيقطعون بعض العراجين؛ لأنه إذا قطع بعض العراجين قوي المحصول في الآخر، وبقاؤه قد يؤثر على النخلة؛ لأن كثرة المحاصيل تؤثر عليها، فربما أجهلت في السنة الثانية، أي: لا تطلع، فيقطعون المحصول عنها، حتى يخف العبء على النخلة الأم؛ لأنه مثل الحمل في الآدمية، فيخففون عنها، فهذا العرجون إذا قطعت ثمرته قبل بدو الصلاح هل يجوز بيعه أو لا؟ نقول: يحرم بيعه على النخلة بشرط التبقية، أو بيعاً مطلقاً، أما لو قطعه وباعه بعد قطعه، أو اشتراه رجل واشترط أن يقطعه، فإنه يصح البيع. والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك، فبم تستحل أكل ماله). وتأمل الحديث فإنه نهى عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين العلة، قال: (أرأيت أي: أخبرني، لو منع الله الثمرة عن أخيك)، يعني: لو بعت بستانك لرجل ولم يبدُ الصلاح -وقبل بدو الصلاح لا تؤمن الآفة- كما ذكرنا فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك)، أي: جاءت الآفة فعلاً، وتلفت الثمرة، فبم تستحل أكل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/284)
ماله، فالثمرة تلفت؛ لأنه قبل بدو الصلاح لا يؤمن التلف، فإذا تلفت الثمرة صار المال لقاء لا شيء، وأصبح حينئذ البائع يأخذ مالاً بدون ثمرة في مقابله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله)، فأخذ الجمهور من هذا الحديث دليلاً على أن العلة في تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها هو خوف فسادها، فإن كان يريدها حاضرة ناضرة بحالها هذا، لكي ينتفع بها علفاً للدواب، لا للآدميين الذين بسببهم منع البيع خوفاً من فسادها قبل أن ينتفعوا بها، جاز البيع، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن السنة واضحة الدلالة عليه، وهو مذهب صحيح؛ لأن القاعدة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا جاءت منصوصاً عليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا ثبت هذا فمن باع ثمرة من بستان قبل بدو صلاحها، فإنه يجوز إذا كان بشرط القطع، أو قطعها وعرضها للبيع فإنه جائز؛ لأن العلة في هذا التي من أجلها حرم البيع قبل بدو الصلاح غير موجودة، والأصل حل البيع، وهذا يريدها علفاً للدواب، ولا يريدها للآدميين. الحالة الثانية: أن يبيعها بشرط التبقية، كأن يكون عندك مائة نخلة ولم يبدُ صلاحها، فأطلعت وأبرتها، وبعد التأبير وقبل بدو الصلاح جاءك رجل، وقال: أريد أن أشتري منك صيف البستان في هذه السنة، قلت له: صيف هذا البستان في هذه السنة بمائة ألف، قال: إذاً أشترط عليك أن تبقيها لي حتى يبدو صلاحها، فهذا يسميه العلماء: شرط التبقية، عكس الأول، إذ الأول يشترط القطع والثاني يشترط التبقية، والتبقية تفعلة من البقاء، أي: يقول المشتري للبائع: أنا أشتريها، والآن لم يبدُ صلاحها، ولكن شرطي عليك أن تبقيها لي حتى آكلها بلحاً، أو آكلها رطباً، وآكلها تمراً، فهذا يسمونه شرط التبقية. ففي الحالة الأولى حالة اشتراط القطع فإن البائع هو الذي يشترط غالباً؛ لأن من مصلحته أن تقطع الثمرة حتى يرتفق النخل وينتفع بذلك. وفي الحالة الثانية حالة اشتراط التبقية فإن الغالب أن يشترط المشتري. ففي الحالة الثانية إذا اشترى قبل بدو صلاحها، واشترط في العقد أن تبقى إلى بدو الصلاح، فالإجماع على تحريم هذا البيع؛ لمخالفته لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فإذا باعها قبل بدو صلاحها، واشترط بقاءها فالعلة موجودة بخلاف الحالة الأولى التي فيها العلة مفقودة. لكن هناك وجه عند المالكية خرجه اللخمي من أصحاب الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقتضي الجواز، ولكنه شاذ وضعيف. وشذوذه لمخالفته الإجماع، ومخالفته لنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً في الحالة الأولى إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فالصحيح قول الجماهير ومنهم الأئمة الأربعة بصحة البيع، لظاهر السنة، وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والحالة الثانية: أن يبيع بشرط التبقية، فالإجماع على عدم الجواز، وهناك وجه شاذ عند المالكية يقتضي الجواز، وهو باطل لمخالفته السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحالة الثالثة: أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها ويكون البيع مطلقاً. والبيع المطلق هنا: هو الذي لا يشترط فيه القطع ولا تشترط فيه، كأن يقول: عندي مائة نخلة، وهذه المائة نخلة لم يبدُ صلاحها، قال: أنا أشتريها منك بمائة ألف، وسكت البائع، وسكت المشتري، فلم يشترط هذا ولم يشترط هذا، هذا يسمى عند العلماء بالبيع المطلق؛ لأنه عري عن الشرط. فإذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، فما الحكم؟ جماهير العلماء على عدم صحة البيع؛ لأن السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حرمت بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال الحنفية: يصح البيع، ولكن يجب على المشتري أن يقطع، فقالوا: نصحح البيع، ونلزم المشتري بالقطع فوراً، وهذا ضعيف؛ لأنه مصادم للسنة الصريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي نهى فيها عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، ولم يفرق بين الذي فيه شرط التبقية، وبين الذي فيه شرط القطع، وبين الذي هو بيع مطلق، وجاء الاستثناء لشرط القطع بالعلة، فبقي ما عداه على الأصل الموجب للتحريم؛ لأن السنة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/285)
عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها)، فجاءت السنة بالعلة وقيدت حال القطع، فبقي ما عداه على التحريم. إذاً الخلاصة: أن بيع ثمرات النخيل قبل بدو الصلاح، -وهو ما بين التأبير، وما بين بدو الصلاح الذي هو الإزهاء- له ثلاث صور: إما أن يبيعه بشرط القطع، فيصح في قول الجماهير، لظاهر حديث أنس رضي الله عنه: (أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك). أو يبيعه بشرط التبقية، فلا يصح بإجماع، وفيه شذوذ لا يعول عليه. أو يبيع بيعاً مطلقاً، فالجمهور على عدم الجواز لظاهر السنة، والحنفية مخالفون، والصحيح مذهب الجمهور.
تابع بيع ما يجز ويلقط بعد هذا نرجع إلى مسألة بيع الرطبة والقثاء ونفرِّعها على بيع الثمرة، وانظر إلى دقة المصنف رحمه الله تعالى، حيث جعل بيع النخل بشرط القطع أصلاً، فألحقت به الزروع والثمار والمحاصيل التي تكون في نفس المعنى، فإذا كان الزرع مما يحصد مثل الكرّاث، أو الجُزر الذي يراد ورقه، أو البرسيم، الذي يراد علفاً، فلا يجوز بيع أصله وفرعه، لكن لو باعه بشرط القطع على الجزة الظاهرة صح له ذلك وجاز؛ لأن العلة من خوف الغرر غير موجودة، ويلحق بهذا ما يلتقط، فكما أن الذي يجز يباع فيه الجزة الظاهرة، كذلك الذي يلتقط كالقثاء والباذنجان، والقثاء يختلف؛ لأنه لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الطول، والباذنجان لا يبدو صلاحه إلا إذا تناهى في الجرم والحجم، ولذلك قد تبيع الباذنجان وهو أخضر، ثم يصير أحمر، فاللون ليس لذاته مؤثراً، ولكن المؤثر تناهي الحجم، والحجم إما في الطول كما في القثاء، وإما في العرض كما في الباذنجان، وانظر كيف اختار المصنف رحمه الله تعالى، حتى نعلم أن الفقهاء حين يأتون بالتمثيل والتقريب يراعون الأحوال المختلفة، فإن سئلت عن ثمرة طويلة كالقرع المديني تقول: تلتحق بالقثاء، فإن الفقهاء نصوا على عدم جواز بيع القثاء إلا ما تناهى كبره للَّقطة الظاهرة، فلا يباع القرع المديني إلا بعد تناهي طوله فيما تم طوله وتناهى. وأما ما كان من عرضه ممتلئاً فتقول: لا يصح بيعه إلا بعد تناهي كبره لبدو صلاحه في اللقطة الظاهرة، كالقرع غير المديني، وهو القرع الذي يكون مدوراً، فهذا يكون صلاحه بعد تناهي كبره، ويكون للقطة الظاهرة، فيبيع ما صلح للقط، وأما ما لم يصلح فإن البيع فيه بيع غرر، فينتظر إلى صلاحه. [أو جزة جزة]: ذلك كالكرّاث، وكذلك أيضاً البرسيم وأنواع العلف، والقصب. قوله: [أو لقطة لقطة]: وذلك كما ذكرنا في الأشياء التي تلتقط ويكون بعضها لم يصلح، ولم يستتم صلاحه، أو لم يتناه كبره، فإنه حينئذ يباع لَقطة لَقطة. ولاحظ عبارة المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه ولا زرع قبل اشتداد حبه، ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال أو جزة جزة أو لقطة لقطة]. فأول شيء ذكر لنا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وأعاد عليها قوله: [دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال] فلا يباع ثمر قبل بدو صلاحه، وحينئذ تعيد إليها [إلا بشرط القطع]، أي: لا يباع ثمر قبل بدو صلاحه إلا بشرط القطع. ثم قال: [ولا زرع قبل اشتداد حبه ولا رطبة وبقل، ولا قثاء ونحوه كباذنجان] وأعاد عليها قوله: [أو جزة جزة أو لقطة لقطة]، فجعل القطع عائداً إلى النخل، فيقطع ما عليها من العراجين والشماريخ، والجز عائداً إلى الحب وإلى الرطبة، والحب يجز ويحصد ويقص من الأرض، سواء بالآلات أم بالوسائل الموجودة الآن، فالمهم أنه يحصد. وأيضاً كذلك الرطبة، قلنا أصلها باطن وفرعها مقصود، كالبرسيم يجز ظاهره، والكراث يجز، فلا يباع إلا جزة جزة، وبعد الجزة قال: [أو لقطة لقطة]، كقثاء وباذنجان ونحوه؛ لأنه يلتقط فأعاد اللقطة إلى الباذنجان والقثاء ونحوهما. وهذه أمور كانت من أوضح ما تكون، أي: الزروعات، وكان الناس عمال أنفسهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم)، وهذه الأمور أصبحت تخفى. فيكون كلامه على هذا فيه لف ونشر، فتعيد القطع إلى النخل، والجز إلى الحب وإلى الرطبة، والالتقاط إلى القثاء والباذنجان. إذاً: هذه الأمور كلها مرتبة على حسب إيراد المصنف رحمه الله من الأنواع الأول.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/286)
شرح زاد المستقنع - باب بيع الأصول والثمار [3] تبادل المنافع بالبيع والشراء حاجة من حاجات الناس، ولما كانت النفوس مجبولة على استيفاء حظوظها والنظر في مصالحها دون مصالح الآخرين، فإن هذا قد يؤدي إلى النزاع في البيع والشراء فيما يستحقه كل منهما بالبيع، أو وقوع الغبن على أحدهما، فاقتضت تعاليم الشريعة المحكمة أن تضع شروطاً وضوابط وموانع لما يباع، وبيان حقوق البائع والمشتري في البيع، وبيان بطلان البيع .. إلى غير ذلك مما يجب على المسلم علمه حال البيع، وفي هذه المادة بيان لبعض هذه التعاليم الغراء في بيع الأصول والثمار خاصة. أحكام تتعلق بالبائع والمشتري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلف الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]: ...... من يلزمه الحصاد والجذاذ واللقاط ونبدأ بالنخيل، فإن اشترى ثمرة مائة نخلة في هذا الصيف بعد بدو الصلاح والشروط متوفرة، وبعد أن تم البيع، وحان وقت جني المحصول، قال المشتري للبائع: النخل نخلك، والثمرة اشتريتها منك، فاحصده لي، فأنت الذي تجذ النخل، وعليك الجذاذ. وكما هو معلوم النخل تارة يؤخذ بثراً، وهذا يحتاج إلى التقاط، ورطباً يحتاج إلى التقاط، وتمراً يحتاج إلى جذ، فيجذ العرجون كله ثم يحصد ما فيه، فقال: أنا اشتريت منك ثمرة بستانك فالذي عليك، أن تجذ لي النخل، وتلتقط لي الرطب، وتلتقط لي البثر، قلت له: يا أخي أنا بعتك الثمرة، والحصاد والجذاذ عليك أنت! وهذا النخل موجود فادخل وخذ ثمرتك، أما أنا فكيف أتكلف هذا؟ لأن الحصاد يكلف بعض الأحيان عشرات الألوف، خاصة إذا كان النخل كثيراً وفيه مؤنة ومشقة، وفي مثل مواسم الحصاد. فيأتي السؤال: هل الحصاد والجذاذ على البائع، أو على المشتري؟ يقول رحمه الله تعالى: [والحصاد والجذاذ واللقاط على المشتري]، أي: أنت أيها المشتري عليك مؤونة جني الثمرة، فالثمرة ثمرتك وهو يمكنك من دخول البستان لجني المحصول، ويكون هذا بالمعروف، فإذا مكنك من ذلك فهذه ثمرتك، إن شئت تأخذها بلحاً وإن شئت تأخذها رطباً، وإن شئت تأخذها تمراً، فيخلي بينك وبين المبيع، أما أن تلزمه بالجذاذ، فهذا ليس من حقك. وقوله: [والحصاد]، الحصاد في الزروع، كحصد محصول الحب، والشعير، ونحو ذلك، فيقول البائع للمشتري: أنت الذي تحصد، فتأتي بمن يحصد لك هذا الحب الذي اشتريت مني. فتكون مؤونة الحصاد على المشتري لا على البائع. قوله: [والجذاذ]: كذلك جذ النخل، فإذا أراد أن يجذ نخله والثمرة التي اشتراها، تكون المؤونة والأجرة على المشتري لا على البائع. قوله: [واللقاط على المشتري] كذلك اللقاط، وهو الجني، مثل القثاء يلتقطها، ومثل الباذنجان والكوسة والباميا، ونحو ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى التقاط، فإن مؤونة الالتقاط على المشتري، لا على البائع.
حالات يبطل بها البيع قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه مطلقاً، أو بشرط البقاء، أو اشترى تمرا ً قبل بدو صلاحه بشرط القطع، وتركه حتى بدا، أو جزة أو لقطة فنمتا، أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها، أو عرية فأثمرت، بطل والكل للبائع] قوله: [وإن باعه مطلقاً]: تقدم أن البيع المطلق هو الذي ليس فيه شرط التبقية ولا شرط القطع، أي: يبيعه بيعاً خالياً من الشرط، وينبغي على طالب العلم أن يتنبه إلى أن سياق الكلام هنا في الثمرة التي لم يبدُ صلاحها؛ لأن الكلام متصل بقوله: [ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه]. فيرد السؤال: الحكم أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فلو حصل وباعه قبل بدو الصلاح؟ قال رحمه الله تعالى: [وإن باعه]، أي: قبل بدو الصلاح، [بيعاً مطلقاً ... بطل]، فالأصل يقتضي عدم جواز البيع، خلافاً للحنفية، إذ يرون أنه لو باعه بيعاً مطلقاً فإنه يجوز، ويجب على المشتري أن يقطع فوراً. فلو باعه بيعاً مطلقاً وتم البيع بينهما مخالفا للسنة التي ذكرنا، ومضى الحال سواءٌ علم الحكم أم جُهل، ثم بعد أربعة أشهر لما بدا الصلاح سأل أهل العلم، فقالوا: هذا البيع لا يجوز، فماذا يكون حكمه؟ الثمرة الآن صالحة، فهل تكون الثمرة ملكاً للبائع، بناء على أن البيع فاسد، والأصل أنها ملك له ولم تخرج من يده؟
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/287)
أم أنها ملك للمشتري بناء على أنه لم يتدارك الفساد؟ بين رحمه الله تعالى أنها ملك للبائع، وهذا هو الصحيح؛ لأن هذا البيع فاسد من أصله، فلما تبايع معه بيعاً غير شرعي، فمعناه أن الثمرة ما زالت باقية في ملك البائع، وأن المشتري لا يملك هذه الثمرة؛ لأن الإيجاب والقبول والصيغة وقعت على وجه غير معتبر، فوجودها وعدمها على حد سواء، لكن ما الحكم حينئذ؟ الجواب: يُلزم البائع برد الثمن، ويقال: هذا البيع منفسخ، ثم يقال للمشتري: الآن بدا الصلاح فإذا أردت أن تشتري فلتشتر من جديد؛ لأن البيع الأول فاسد، فإن أحببت أن تنصرف بمالك فلا إشكال، وإن أردت هذه الثمرة فادفع حقها الآن؛ لأن الإيجاب والقبول في بيعكما باطل لا قيمة له، فالثمرة ما زالت في ملك صاحبها، ولكن ما الفائدة في هذا؟ الجواب: في بعض الأحيان يبيعه الثمرة قبل بدو صلاحها، على أن السوق غالٍ، فتكون قيمتها -مثلاً- مائة ألف، ثم لما بدا الصلاح أصبح السوق كاسداً، فتنزل القيمة، فلربما اشتراها بخمسين ألفاً، فيكون أخف وأرفق بالمشتري، وربما يكون العكس؛ لأن فيها مخاطرة، فتكون القيمة أقل. فإذا بدا الصلاح قلنا: إذا أردتما أن تنشئا العقد فأنشئا من الآن، ولو أرادا أن لا ينشئا عقداً، أو قال البائع: لا أريد أن أبيع، أو رجعت عن بيعي وأريد أن آخذ الثمرة بنفسي كان له ذلك؛ لأن الثمرة ما زالت في ملكه وهو أحق بها، ويجب عليه أن يرد للمشتري ماله كاملاً. قوله: [أو بشرط البقاء]: هي الحالة الثانية، اشترى قبل بدو الصلاح، وقال له: أشترط أن تبقي لي الثمرة حتى يبدو الصلاح، فسواء علم الحكم أم جهله فالبيع فاسد، وحينئذ إذا رفع الأمر إلى القاضي فإنه يحكم بانفساخ البيع ووجوب رد المال إلى المشتري، ورد الثمرة إلى البائع. قوله: [أو اشترى ثمراً قبل بدو صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا]: أي: لو جاءك رجل وأنت عندك مائة نخلة، لم يبدُ صلاح ثمرها، فقال: أشتريها منك، قلت له: أنا لا أبيعها إلا بشرط أن تقطعها، قال: قبلت، واشتراها منك بعشرة آلاف ريال على أنه يقطعها، ثم جاءته ظروف فلم يستطع القطع، أو تهرب وماطل، حتى بدا صلاح ثمرها، فما الحكم؟ الحكم حينئذ أن نقول: إن هذا العقد الذي وقع بينكما وقع بشرط القطع مصححا، وإلا الأصل عدم صحته، فلما فات الوصف الشرعي المعتبر للتصحيح فإنه يرجع إلى حكم الأصل ببطلانه، فترد له المال، ولا حق له بالمطالبة بالثمرة، وتنشئان بيعاً جديداً إذا أردت البيع. قوله: [أو جزة أو لقطة فنمتا]: أي: إذا جاء واشترى منه برسيماً وهو على طول شبر، فالبرسيم على شبر له قيمة، والبرسيم على شبرين له قيمة، ففي بعض الأحيان يأتي المشتري، وتأتيه ظروف فيقول: أريد البرسيم الآن، فتقول له: ليس عندي إلا هذا البرسيم الذي هو في نصف الاكتمال، فيقول: بكم أشتريه منك؟ فيقول البائع مثلاً: عشرة أحواض بمائة، قال: قبلت، وأعطاه المائة، ثم إذا به يماطل ويتأخر، أو جاءه ظرف، حتى أصبح البرسيم فوق ذلك بكثير، فيصبح المبيع الحاضر غير الذي أوجبا البيع عليه من قبل، وقد تكلف البائع مؤونة سقيه والقيام عليه، فحينئذ ينفسخ البيع الأول؛ لأن الجزة التي تعاقدتما عليها ليست بموجودة، ففاتت بتفويت المشتري، وحينئذ يتحمل مسئولية فوات البيع وترد له القيمة، وينُشئان بيعاً جديداً، وغالباً ما يكون البرسيم بضعفي قيمته؛ لأنه لما نما كان غير الذي اتفقا عليه. إذاً: الثمرة إذا صلحت وبدا صلاحها، فقيمتها غير قيمتها قبل بدو الصلاح، ولا شك أن المشتري إذا أراد أن يتلاعب، وفعل ذلك عن تلاعب لا شك أن هذا من خديعة المسلم، ولذلك يمثل بعض العلماء بأن الغش كما يكون من البائع للمشتري يكون كذلك من المشتري للبائع، ومن غِشِّ المشتري للبائع أن يشتري بشرط القطع، فإذا به يؤخر ويماطل حتى تكتمل الثمرة، فيأتي ويأخذها، ولا شك أن هذا إذا فعله على قصد التلاعب، فإنه معصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حرّم أن يفعل المسلم بأخيه هذا، فيشتري منه الشيء بنصف قيمته على أن يأخذه فوراً، وهو يضمر ويريد منه ما هو أكمل، مما يستحق قيمة أكثر، وليس هذا من النصح للمسلمين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فمما ينبغي للمسلم أن ينصح لأخيه، وهذا ليس من النصح. فقوله: [أو جزة]، أي: من كراث، أو برسيم ونحوه،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/288)
[أو لقطة]، أي: من قثاء وباذنجان ونحوه، كالقرع والباميا، ونحو هذه الأشياء التي تلتقط، فاشتراها على هيئة ثم تركها حتى زادت، فالذي أوجب البيع عليه غير الذي صار إلى هذه الحالة، فوجب أن ينشأ العقد على الذي صار إليه الحال، ويلغى البيع في الأول. قوله: [أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها]: أي: إذا اشترى ما بدا صلاحه، وحصل آخر، أي: زيادة على الذي اتفقا عليه، واختلطت الزيادة بالأصل، و [اشتبها]، فما استطاعا أن يميزا الذي اتفقا عليه من الذي لم يتفقا عليه، فحينئذ يصير المال ما بين حلال وحرام، والقاعدة أنه إذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، في كلب الصيد إذا أُرسل للصيد، وأكل الكلب من الفريسة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك لنفسه)؛ لأنه إذا أكل من الفريسة فيحتمل أنه أمسك لك فصيده حلال، ويحتمل أنه أمسك لنفسه، فصيده حرام، فقال: (إن أكل فلا تأكل). فإذا أكل وجلس على الفريسة يأكل منها فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه أمسك لنفسه، لكن إذا أكل منها، ثم جاءك بفضلته فحينئذ يحتمل أن يكون صاد لنفسه، ثم من باب الوفاء جاء لسيده بالباقي، أو أنه صاد لسيده، فلما ذاق حلاوة اللحم ولذة الفريسة نهش منها، كأنه يرى أن سيده لا يضربه ولا يؤذيه، فيحتمل أنه صاد لسيده فعلاً، لكن الكلب -أكرمكم الله تعالى- لا ينطق ولا يتكلم، وإنما يباح صيده إذا صاد لك، ويحرم إذا صاد لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة:4] فدل على أنه إذا لم يمسك لك لا يجوز لك الأكل؛ لأن كلاب الصيد والجوارح، كالصقور، والبوازي، والشواهين والنسور ونحوها، يصح صيدها إذا لم تأكل، أما لو أكلت فلا، فالصقر -مثلاً- إذا أرسلته وأكل من الفريسة فحينئذ لا يؤكل منها؛ لأنه اختلط الحلال بالحرام، فهناك موجب يقتضي الحل، وهو كونك أنت الذي أرسلت، وذكرت اسم الله تعالى، وأنت الذي حددت الفريسة، وهناك موجب يقتضي الحرمة؛ لأن شرط حل صيدها أن لا يأكل، فلما أكل اشتبه أن يكون أمسك لنفسه ولم يمسك لك، فإذا اشتبه الحلال بالحرام، حرم الكل. ولذلك نقول: القاعدة أنه إذا اجتمع حاظرٌ ومبيح، قدم الحاظر على المبيح، والسبب في هذا أن الحاظر والحرام أمرك الله تعالى باجتنابه، والحلال لم يأمرك الله تعالى بأخذه، فحينئذ تعارض الأمر مع ما هو دونه، فقال العلماء: إذا تعارض الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. ومن هنا قالوا: إذا اشتبهت ميتة بمذكاة حرمتا، وإذا اشتبهت زوجة بأجنبية حرمتا، فلو كان هناك امرأتان متشابهتان تماماً وكانت إحداهما زوجة لإنسان، فجاء ودخل فوجد امرأتين كلتيهما شبه لزوجته، لا يدري هذه زوجته أو هذه، وقد يقع هذا في بعض الأحيان كما كان يقع في القديم في سفر القوافل، فقد كان يقع بعض اللبس، فإذا لم يتحرَّ ولم يتأكد أنها زوجته لم يجز له أن يقدم على غرة؛ لأنه ربما وطئ في حرام، والله تعالى أمره باجتناب الحرام. إذاً: اجتمع الحاظر والمبيح، قدم الحاظر على المبيح. وهنا إذا اشتبه ماله الذي اشتراه، وهو ملك للمشتري والمال الذي حدث في ملك المشتري وجب ترك الكل، وتصحيح العقد ما أمكن. قوله: [أو عرية فأثمرت]: العرية: من العرايا، سميت بذلك لأنها تعرى من البستان. والعرايا: أن يباع الرطب على رءوس النخل بخرصه تمراً، وليس الرطب بمجني؛ إذ المجني لا يباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر، لكن يباع على رءوس النخل. فلو فرضنا أن رجلاً عنده تمر سكري، لكنه أحب أن يأكل بدلاً منه رطباً، ففي الأصل لا يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لعدم وجود التماثل، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع العرايا بخرصها تمراً، في قدر خمسة أوسق، كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كانت العرية في خمسة أوسق فما دون صح، أي: أن يؤخذ منه ثلاثمائة صاع؛ لأن الوسق ستون صاعاً، فيبيع نخلاً عرايا في حدود ثلاثمائة صاع، فإذا نقص عن ذلك جاز، ولو زاد لم يجز. فلو فرضنا أن النخلة فيها عشرون صاعاً، فخرصها الخارص وقال: هذا الرطب إذا صار تمراً يصير عشرين صاعاً، فقلت له: إذاً أعطيك عشرين صاعاً من التمر الذي في الأرض بهذه العريا التي فيها عشرون صاعاً،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/289)
واتفقتما ع
ما يلزم البائع والمشتري عند بطلان البيع قوله: [بطل والكل للبائع] أي: بطل البيع، وقوله: [والكل للبائع] ذكرنا أن المشتري إذا أخذ الثمرة بشرط القطع فإن أبقى الكل فالكل للبائع، ويرد له الثمن، لكن لو أنه أخذ بعض التمرة وترك بعضها حتى صار تمراً، أو ترك بعضها حتى بدا صلاحه، فقال رحمه الله تعالى: [والكل للبائع]، أي: أنه يُلغى البيع كله، ويرد الثمن كاملاً، ويصبح المثمن كاملاً للبائع، فيقدر الذي أخذه بقيمته، ويلزم المشتري بدفع قيمة ما أخذ. وعلى هذا في العرايا لو اشتراها صفقة واحدة ثم أكل النصف رطباً وأبقى النصف تمراً، فمن العلماء من قال: تتجزأ الصفقة، فتصحح في النصف وتبقى في النصف، ومنهم من يقول: يبطل الكل؛ لأنها بيعت بصفقة واحدة. وعلى هذا الوجه يلزم البائع أن يرد الثمن كاملاً، ويضمن المشتري للبائع قيمة ما أخذه بحقه.
حكم البيع المطلق وبشرط التبقية قال رحمه الله تعالى: [وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة، واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: أي: إذا بدا ما له صلاح في الثمر جاز بيع الكل بيعاً مطلقاً وبشرط التبقية، فإذا بدا الصلاح في النخيل فأزهت، فاحمَّرت واصفرت، فحينئذ يجوز بيعها بيعاً بشرط التبقية، وبيعاً مطلقاً. كرجل عنده مائة نخلة وبدا صلاحها، فقلت: يا فلان بكم تبيعني هذه المائة نخلة؟ فقال لك: أبيعكها بألف ريال، فقلت له: قبلتُ، فمن حقك أن تشترط عليه أن يبقيها، فتقول: قبلت بشرط أن تبقيها لي حتى تصير تمراً، وإذا بدا الصلاح تكون حبات التمر بلحاً؛ والنخيل منه ما لا يؤكل إلا بلحاً، ومنه لا يؤكل إلا رطباً، ومنه ما لا يؤكل إلا تمراً، وهناك ما يجمع الثلاثة الأحوال، كالتي تسمى أم جرذان، قيل: إنها التي ورد في السير أنه حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة -وكانت بقباء- أكل منها، وهذه من أبكر أنواع النخيل الموجودة في المدينة وتؤكل بسراً وبلحاً ورطباً وتمراً. فهذا النوع يؤكل بجميع الأحوال، لكن هناك نوع إذا اشتراه المشتري يشترط بقاءه إلى التمر، وهناك ما يؤكل بلحاً ورطباً وتمراً، لكن من مصلحة بيعها أن تؤخر حتى تصير تمراً، فقيمتها تمراً أغلى من قيمتها رطباً، وبعضها قيمتها رطباً أغلى من قيمتها تمراً، فالذي يحتاج إلى تأجيل من أجل ربح السوق، فحينئذ يشترط بقاءه إلى الحصاد والجذاذ. ومن هنا قال رحمه الله تعالى: إذا اشترى بعد بدو الصلاح يجوز أن يتم البيع بيعاً مطلقاً، دون أن يوجد شرط، ويكون من حق المشتري أن يبقيها إلى القطع، ويجوز أن يشتريها ويقول: أشترط عليك أن تبقيها لي إلى الجذاذ. وفائدة هذه المسألة: لو أن رجلاً اشترى منك مائة نخلة بعد بدو الصلاح، فقلت له: أنت اشتريت الحاضر الناضج، فألزمك بقطعها، لم يكن من حقك ذلك، بل تبقى إلى جذاذها، ولا يجوز لك أن تلزمه بالقطع قبل الجذاذ، فله حقٌّ أن يقطعها فوراً، أو أن يؤخرها إلى منتصف الموسم، أو إلى آخر الموسم، ولا يلزمه أن يقطعها فوراً. لكن الحنفية يخالفون الجمهور في هذه المسألة، فيرون أنه إذا اشترى الثمرة بعد بدو صلاحها يجب عليه القطع مطلقاً، سواء اشترط أم لم يشترط، وهذا مذهب مرجوح، والسبب في هذا أنهم يرون أن بيع الثمرة على أن تبقى إلى بدو الصلاح من بيوع الغرر، وبيوع الآجال، ولا يصححون هذا النوع من البيع بشرط التبقية، ولا يجيزون في البيع المطلق إلا أن يقطع فوراً، ويلزمون المشتري بقطعها فوراً، ولا شك أن مذهب الجمهور أصح.
حالات بدو الصلاح وآراء الفقهاء فيها وفي حق المشتري بناءً على ما سبق عندنا الأحوال التالية: الحالة الأولى: إذا بدا الصلاح بسراً فاحمَّرت الثمرة، أو اصفرت. الحالية الثانية: أن ترطب، فيكون النضج في نصفها، أو في ربعها، أو في أكثرها. الحالة الثالثة: أن يتم استواؤها ويكتمل، فتتهيأ للصرام والقطع. هذه ثلاثة أحوال بعد بدو الصلاح ينتبه لها. الحالة الأولى: أن تكون بلحاً، وبسراً. الحالة الثانية: أن تكون رطباً. الحالة الثالثة: أن تكون تمراً. فإن بيعت النخلة في هذه الثلاث الأحوال، إما أن تباع عند نهاية الاستواء، فإذا بيعت بعد اكتمال استوائها واكتمال نضجها، فبالإجماع يصح البيع ويقطعها فوراً، كرجل عنده مائة نخلة سكرية، وتركها وحفظها حتى صارت تمراً، ثم جاءه رجل وقال: أشتري منك هذه المائة نخلة بمائة ألف،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/290)
فقال: خذها. فإنه يتم البيع بالإجماع ويصح. الحالة الثانية: أن تباع قبل أن تثمر، وقبل أن يكتمل استواؤها، فجماهير أهل العلم على جواز البيع وصحته، وخالف في هذه المسألة. رجلان عالمان، وكلاهما من التابعين، أولهما: عكرمة بن عبد الله، صاحب ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، الفقيه المشهور، فقالا: لا يجوز البيع، فلم يصححا بيع ثمرة النخيل قبل الاستواء الكامل، ولكن الصحيح مذهب الجماهير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها). ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النهي توقف عند بدو الصلاح فدل على أنه بعد بدو الصلاح يحل البيع، وهذا على القاعدة الأصولية المشهورة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم، فلما قال: حتى يبدو صلاحها، فالغاية بدو الصلاح، فمعناه أن الحكم بعد بدو الصلاح يخالف الحكم قبل بدو الصلاح، وقبل بدو الصلاح قال: (نهى)، فمعناه أنه بعد بدو الصلاح، يجوز ولا بأس به. وإذا قلنا بقول الجمهور: إنَّه يجوز بيعها قبل أن تثمر، فهم على طائفتين: فالمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، رحمة الله تعالى على الجميع، على أنك إذا اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها يجوز لك أن تبقيها، ولا يجب عليك القطع. وقال الحنفية: يصح بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، ونلزم المشتري بقطعها فوراً، فإن بيعت بُسراً وجب عليه أن يقطعها بسراً، وإن بيعت رطباً يجب عليه أن يقطعها حال كونها رطباً. والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترط في حل ما كان بعد الغاية مفهوم القطع. وعلى هذا يكون الحكم أنه يجوز بيعها بعد بدو صلاحها بيعاً مطلقاً، وبيعاً بشرط التبقية، وبشرط القطع، لا بأس بذلك كله، على ظاهر السنة.
يلزم في بيع الحب ما يلزم في بيع ثمر النخل عند صحتها قوله: [واشتدّ الحب جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية]: الحب أول ما يظهر. يكون طرياً، حيث يكون فيه ماء السنبلة، ثم يبدأ ييبس قليلاً قليلاً، حتى يشتدّ ويكتمل استواؤه، فإذا اكتمل استواؤه جاز بيعه، وبيع الحب على حالتين: الحالة الأولى: أن يأتي المشتري يشتري منك الحب، كأن تكون زرعت مزرعة كلها حبوب، فيأتي فينظر إليها ويقدرها، وتتوافر شروط البيع من العلم بقدر المبيع ونوعه، وبعد ذلك قال: أنا أشتري منك هذا الحب الموجود في مزرعتك بخمسين ألفاً، فقلت له: قبلت، فإن كان الحب طرياً لم يشتدّ لم يجز، إلا بشرط قطعه فوراً، كالنخل، كأن يقول: أريده علفاً الآن، ولا أريد بقاءه حتى يُحصد، فلو اشتراه قبل بدو صلاحه واشتداده بشرط أن يقطعه فوراً، صح البيع. ولو أخذه منك في هذه الحالة بشرط أن يقطعه فأخره حتى اشتدّ، فما الحكم؟ الجواب: يبطل البيع على القاعدة التي ذكرناها، فإذا اشترى الحب قبل بدو صلاحه، بشرط القطع صح، وإن اشتراه بشرط أن لا يقطعه، بطل البيع، فإن بدا صلاحه، واشتدّ فحينئذ فيه تفصيل: فإن اشترى منك الحب وهو في سنابله وفي أرضه صح البيع، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، لكن لو أن هذا الحب حصدته، فأدخلته في البيدر، ومعه الشوك، ولم يصف الحب بعد، فهل يجوز أن يشتريه منك بالخرص قبل أن يكال؟ أو هل يجوز أن يشتريه بالكيل؟ أو يجوز أن يشتريه غير خالص؟ الجواب: لا؛ لأنه إذا حصد ووضع في البيدر، وأراد أن يأخذه بصفته فإنه يكون من بيع الغرر؛ لأننا لا ندري كم يصفى من هذا الحب، فلو قال قائل: هذا الحب يجوز بيعه، وهو في سنابله! قلنا: بالخرص، لكنه إذا خلط وأصبح محصوداً لا ينفع فيه الخرص، ولا يستطيع الخارص أن يحدد بدقة، أو بغلبة ظن ما هو أقرب للحقيقة، بخلاف ما إذا كان على رءوس زرع مشتدّ في سوقه، فإنه يمكنه أن يخرص، لكنه إذا دخل في البيدر، تكون السيقان الطويلة، والصغيرة، ويختلط الحب بغلافه، وبعد ذلك لا يمكن معرفته على الحقيقة أو قريب من الحقيقة إلا إذا صفي، فلا يجوز بيعه بعد الحصد إلا بتصفيته؛ لأنه يفضي إلى الغرر؛ فإنه حينما تشتري الصاع فإنك تشتري الحب مع الشوك، ولا يجوز بيع الشوائب لما فيها من الغرر، إلا بعد تصفيتها، ما دام أنه يمكن تصفيتها. قال رحمه الله تعالى: [وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ]: هذه هي الحالة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/291)
الثانية: فإذا اشترى الحب بعد اشتداده، فإنه لا يجوز لك أن تقول له: احصد الآن، بل من حقه أن يؤخر إلى اكتمال الحصاد، حتى ينشف نشافاً كاملاً، ثم بعد ذلك يحصد، فإن اكتمل استواؤه، فقال: أريد أن أتأخر، فليس من حقه ذلك، أي: إذا تمت المدة وجاء موسم الحصاد يلزم المشتري بالحصاد؛ لأن هذا قد يضر بالبائع، ولذلك يلزم بحصده فوراً.
ما يلزم البائع بعد بيع الثمرة قال رحمه الله تعالى: [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل]: بعد أن بين لنا رحمه الله تعالى مسائل البيع، شرع في مسائل الحقوق التي تتبع البيع، ولذلك الكلام على الفرع، وبيان الفرع بعد بيان الأصل والكلام عليه، وهذا كما ذكرنا أكثر من مرة من دقة العلماء، إذ قد تصح البيوع ويأتي الناس يتقاضون في الحقوق، فتختلف الأحوال فتارة يبيعه النخل بيعاً صحيحاً، ويبيعه الحب بيعاً صحيحاً، ولكن يفرط البائع في حق المشتري، أو يمنع البائع حقاً من حقوق المشتري، فيرد السؤال: ماذا يكون من حق المشتري إذا اشترى الثمرة بعد كمال استوائها، أو بعد صلاحها؟ الجواب: يجب على البائع أن يحافظ على الثمرة، ويحافظ على الأسباب التي تحافظ على الثمرة، وأهم تلك الأسباب مسألة السقي، كسقي النخل، فإن الثمرة تتأثر بالماء، فإذا اشترى منه نخلاً، وجب عليه أن يقوم على سقيه، وبناء على ذلك لو أن المزارع الذي اشتريت منه تعطلت آلة الماء عنده وجب عليه أن يصلحها، فإن لم يمكنه أن يسقي بآلته، وجب عليه أن يستسقي لك ماء يبقي لك الثمرة، إلى أن يتم حصادها، فإذا قصر فإنه يتحمل مسئولية التقصير، فإذا قلت: إنه يجب على البائع أن يسقي الثمرة بالمعروف، معناه أنه لو قصر كأ، يكون النخل يسقى، النخل يسقى إلى ثلاثة أيام، أو إلى يومين، إذا كان سقيه بالري الكامل وبأحواض كبيرة، فأصبح يسقي كل أربعة أيام، أو كل خمسة أيام، أو كل أسبوع مرة؛ لكونه فيه كلفة على الآلة، وهذه أمور، كانت تكلف الناس، ولا زالت تكلف الناس، فيخفف على نفسه؛ لأن الثمرة لم تعد ثمرةً له، وإنما صارت ثمرة لغيره، فحينئذ لا يتضرر، ولا يضره شيءٌ، فيقوم بالتساهل في سقيها، فقال المصنف رحمه الله تعالى: يجب على البائع السقي، أي: أنه مسئول عن سقي النخل، ويلزم بالماء الذي يستبقى به النخل إبقاءً للفرع المشترى، وهو الثمرة، فلو أنه تساهل في السقي، ولم يستتبع النخل في السقي، أو تساهل عماله، فحينئذ يلزمه الضمان، فلو أن الثمرة تضررت حتى ذهب العشر بسبب ضعف السقي، يُلزم بضمان عشر القيمة. وهكذا لو أنه تساهل في السقي، وتلاعب في ذلك حتى ذهب نصف الثمرة، يلزم بضمان نصف الثمرة، فإذا ألزمناه بالسقي ألزمناه بما يتبع التفريق للتساهل إذا كان ذلك بتساهل منه. قوله: [وإن تضرر الأصل]: في بعض الأحيان يكون السقي مضرّاً بالأصل، فهل نقول: نقدم حق المشتري ويجب عليه السقي؟ أو نقول نقدم حق البائع؛ لأن الأصل الضررُ به أعظم من الفرع؛ لأن ضرر النخل ليس كضرر ثمرته، ففي بعض الأحيان يقول أهل الخبرة مثلاً: من المصلحة أن لا تسقي النخلة، وتحتاج أن تمسك الماء عنها أسبوعاً علاجاً لها من بعض الأمراض، والنخلة تمرض كما يمرض الآدمي؛ لأن لها أمراضاً تخصها، فإن قيل له مثلاً: الأرض مختمرة، ولا بد أن تمسك الماء عنها أسبوعاً، فحينئذ إذا أمسك الماء تضررت الثمرة، فنقول: إنه يلزم بالسقي بالمعروف ولو تضررت النخلة، لكن تضرر النخلة غالباً في مثل هذه المسائل ليس تضرراً سارياً إلى الثمرة، إنما هو في التضرر المستقل.
الآفات وأقسامها وعلى من ضمانها [وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع] أي: إن تلفت بآفة سماوية، كما لو اشترى بستاناً بمائة ألف، ثم أصابته جائحة، والجوائح هي من حيث الأصل: الآفات والأضرار التي تصيب المحاصيل، وتصيب الزروع والثمار، وتنقسم إلى قسمين: الأول: آفات سماوية، وهي التي لا دخل للمكلف فيها. الثاني: وآفات غير سماوية، ويكون فيها للمكلفين دخل. أما الآفات السماوية: فمثل الأعاصير، كأن يأتي إعصار فيه نار فيحرق محصول الحب، ومزارع الحب في بعض الأحيان إذا كان هناك إعصار تشتعل ناراً، خاصة إذا كانت متأهلة للحصاد، فإذا اشتعلت ناراً بالإعصار، أو الصواعق، أو جاء سيل فغمر المحصول كله وأتلفه، فما الحكم؟ إذا كانت الآفة سماويةً، ولا دخل للمكلف فيها، فالسنة مضت عن رسول
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/292)
الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، فأخوك المسلم إذا اشترى منك ثمرة البستان، أو اشترى منك محصول الزرع، ثم أصاب ذلك المحصول، أو تلك الثمرة جائحةٌ سماوية ليس بيده ولا بيدك دفعها، فإنه يجب عليك أن تضع الجائحة عنه، بمعنى أنك ترد له المال، ويكون الضمان على حسب الجوائح، والدليل على وضع الجائحة حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم وغيره، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح)، فالسنة على أن الجوائح توضع. ومثل الحب النخل، فبعض المواسم يكون فيها: غبار كثير، والغبار يتلف ثمرة النخيل خاصة إذا كان عند التغبير، أو قبل بدو الصلاح، فتجد الثمرة منتفخة ليست بمليئة، وتصاب بأمراض بسبب الغبار، وتصاب بأمراض بسبب الأعاصير وسبب الرياح. وفي بعض الأحيان تهب رياح عاتية قوية، فإذا تحرك النخل تساقط التمر على الماء، ويفسد التمر؛ لأن التمر يصيبه الخمج إذا وقع في الماء، فتتحرك الرياح اليوم واليومين، وتلعب بجريد النخل فربما لا تبقي منه إلا ربعه، وربما لا تبقي منه إلا نصفه، وربما لا تبقي منه إلا ثلثه، فحينئذ إذا جاءت الجائحة فأتلفت الثمرة كاملة وضعت القيمة كاملة، وإن أتلفت نصفها وضع نصف القيمة، وإن أتلفت الربع وضع ربع القيمة. وكيف نعرف أنها أتلفت نصف المحصول، أو ربعه، أو ثلثه؟ الجواب: يرجع إلى أهل الخبرة، فينظر أهل الخبرة في البستان، ويقولون: هذا البستان تلف من محصوله الربع، فإذا اشترى منك بأربعمائة ألف. ترد له مائة ألف، وإن قالوا: تلف النصف، فحينئذ ترد له نصف القيمة، أي: أن الجائحة بالآفة السماوية تضمن وترد القيمة إذا تلف المحصول كاملاً، أو تلفت الثمرة بكاملها، وإن تلف الجزء فيرد بحسابه. هذا بالنسبة للآفات السماوية، أما الآفات غير السماوية وهي ما يكون بفعل المكلف، مثل أن تحصل بين الناس خصومة، فيتلف بعضهم محاصيل بعض، يكون فقد كان في القديم تقع الفتن والحروب فتتلف المحاصيل، فإذا جاء رجل واشترى منك محصول حب، ثم جاء الغزاة وأحرقوا هذا المحصول، فإن العلماء يقولون: آفات الآدمي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يكون بالغلبة والمغاصبة والقهر، مثل أن تأتي الجماعة التي لا تغلب، فتعيث في القرية أو في المدينة فساداً وتتلف محاصيلها، فهذا بالغلبة والمغاصبة. القسم الثاني: ما يؤخذ بالخلسة، كأن يكون محصولك جاهزاً، وإذا بسارق سرق ربعه أو نصفه أو ثلثه. فأما النوع الذي يكون من فعل الآدمي فجمهور العلماء على أنه لا توضع الجائحة فيه؛ لأنه يكون من تقصير من نفس الشخص غالباً، وإذا غُلب بالقهر فيكون هذا من باب الغنم بالغرم، وبعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله تعالى، يقولون: توضح الجائحة فيه، والأول أقوى، والثاني من ناحية العلة أظهر. أما لو أنك بعت ثمرة بستانك، فجاء السارق بالليل وسرق ممن اشترى منك، فالأفضل أن تخفف على أخيك، لكن لا يجب عليك ذلك، فهو الذي يلزم بالحفظ، ويلزم بالرعاية، وأنت لست بمسئول عن ضمان حقه. قال رحمه الله تعالى: [وإن أتلفه آدمي خير مشترٍ بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف]: قوله: [وإن أتلفه آدمي]: هذا في حالة خاصة غير ما ذكرنا أولاً، وهو أن يأتي شخص بعينه، كأن يكون صاحب المزرعة بينه وبين رجل خصومة، فجاء هذا الرجل وأتلف محصول المزرعة، ولم يبق فيها شيئاً، أو أتلف نصف المحصول، أو ثلاثة أرباعه، فما الحكم؟ الجواب: نقول للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت فسخت البيع ورجعت بالمال كله على البائع إذا تلف المحصول كله، وهذا يعتبر كالعيب الذي طرأ في المبيع، وإن شئت طالبت المتلف بضمان حقك. وفي الأمرين فرقٌ: ففي بعض الأحيان، الأفضل له أن يسترد القيمة الأصلية، كأن يكون اشترى بقيمة غالية، فلما تم المحصول، ونزل إلى السوق وإذا بالقيمة رخيصة، فجاء المتلف في رخص السوق، فالأفضل له أن يفسخ البيع، وتارة يكون الأفضل له أن يطالب المتلف، فإنه قد يشتريها بعد بدو صلاحها بمائة ألف، فلما أتلفها المتلف كانت قيمتها مائة وخمسين، فإذا كانت قيمتها مائة وخمسين، فالأحظ له أن يطالب المتلف بالضمان، فالمقصود أنه إن شاء أخذ هذا، وإن شاء أخذ هذا.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/293)
استباق الثمار في بدو الصلاح وأحكامه ...... صلاح بعض الثمرة دون بعضها قال رحمه الله تعالى: [وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان]: مما ينبغي علمه أن النخل إذا بدا صلاحه فيه لا يبدو دفعة واحدة، فأنت إذا نظرت إلى النخلة تجد أن فيها أكثر من عرجون، وإذا نظرت إلى البستان ففيه أكثر من نوع، وإذا نظرت إلى المدينة والقرية ففيها مئات البساتين، فحينئذ سنبحث مسائل جديدة: أولاً: بدو الصلاح في عرجون واحد، كأن تظهر فيه حبةٌ واحدة فقط حمراء أو صفراء، فإذا بدا الصلاح في حبة واحدة من عرجون واحد، فهل معناه أن العرجون كله يباع؟ فهذه مسألة. ثم إذا قلنا بجواز بيع هذا العرجون، فهل معناه جواز بيع النخلة كلها؟ وهذه مسألة ثانية. وإذا قلت: تباع النخلة، فهل يباع أمثالها من نفس النوع في البستان؟ وهذه مسألة ثالثة. وإذا قلت: إنه يباع هذا النوع في هذا البستان، فهل يجوز أن يباع في البساتين الأخرى هذا النوع نفسه؟ وهذه مسألة رابعة. وإذا قلت بجواز بيع هذا النوع في هذا البستان، فهل يقاس عليه بقية الأنواع؟ وهذه مسألة خامسة. هذه مسائل كلها تابعة لمسألة بدو الصلاح. وحتى تكون الصورة واضحة، فالنخل -كما سبق- إذا بدا الصلاح فيه يتفاوت، فهناك ما يبكر صلاحه، وهناك ما يتأخر ويصبح في آخر النخل، وهناك ما هو وسط بين المبكر والمتأخر. فمن أمثلة المتقدم في بدو الصلاح: اللونة والحليا، وهما من أبكر ما يظهر صلاحه من تمور المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ويتأخر عنهما الربيع والروثان؛ لأن ثمرة الربيع والروثان صفراء، فلا تصفر إلا بعد وقت، وبقريب منها الحلوة، فلا تحمر إلا بعد وقت، وهي من الأنصاف، أي: المتوسط، وهناك ما يتأخر كالعجوة والصفاوي، ونحو ذلك، فعندنا نوع يبكر، وعندنا نوع يتأخر، وعندنا نوع وسط بينهما. فإذا بدا صلاح في حبة في عرجون، أو حبتين، وكان الزمان زمان صلاح فإنه يحكم ببدو الصلاح في النخلة كلها، وعلى هذا يجوز بيع ذلك العرجون وبيع سائر العراجين في النخلة، ويجوز بيع هذا النوع في البستان كله، فلو ظهر صلاحه في نخلة واحدة، فهو كبدو الصلاح في بقية النخل. وبالتجربة أنه إذا بدا الصلاح في أول النهار في نخلة، فغالباً لا يأتي آخر النهار إلا وقد بدا في نخلة أو نخلتين، أو ثلاث، ثم لا تأتي من الغد أو بعد الغد إلا وقد انتشر في البستان كله من هذا النوع، فتأخره قليل جداً، وعلى هذا يجوز بيع جميع النوع في البستان. لكن هل يجوز بيع بقية البساتين؟ أي: لو ظهر الصلاح عندك في بستانك، ولكن في بستان جارك لم يبدُ، فهل يجوز لجارك أن يبيع؟ الجواب: نعم؛ بزمان بدو الصلاح نفسه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: (حتى تطلع الثريا وتؤمن العاهة)، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان، أنه إذا بدا الصلاح في واحدة أن يكون للجميع، فهو زمان الصلاح وأَمْنِ العاهة غالباً، ومن هنا قال الجمهور: إنَّ بدو الصلاح في نخلة بدوٌّ في جميعها، وبدو الصلاح في ذلك النوع يوجب جواز بيع ذلك النوع في البستان كله، وكما جاز بيع ذلك النوع في البستان، يجوز بيعه في بقية البساتين؛ لأنه ربما كان جارك ليس بينك وبينه إلا الحائط، وقد تكون مزرعتك مائة متر، ومزرعته مائة متر، فلو قلنا: لا يجوز أن يبيع جارك، فكيف بالذي عنده مزرعة فيها مائتي مترٍ، وبدا الصلاح في نخلة واحدة؟ إذً العبرة بالزمان، والعبرة بغلبة الظن في السلامة وهي موجودة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيجوز أن تبيع النخلة، وأن تبيع نوعها في البستان، وأن يباع نوعها في بقية البساتين.
صلاح نوع دون نوع هناك يقال: هل يجوز بيع المتأخر إذا بدا الصلاح في المبكر؟ الجواب: لا، والعبرة في كل نوع بحسبه، فلا نبيع تمر الحلوة، إلا إذا بدا الصلاح ولو في واحدة منه، لكن إذا بدا الصلاح في الحليا، لا نبيع في ذلك الحلوة، ولو بدا في تمر اللونة، لا نبيع العجوة، وإذا بدا في السكري لا يباع الصفاوي وقس على هذا. فكل نوع بحسبه، فإن من جرب النخيل، وجرب الزراعة يعلم أنها تتفاوت في طلعها، وتتفاوت في تأبيرها، وتتفاوت في بدو صلاحها. وعلى هذا فإنه لا يحكم بجواز بيع النوع إذا ظهر الصلاح في نوع غيره، وإنما يتقيد بالنوع نفسه، الذي بدا الصلاح فيه. قال رحمه الله تعالى: [وبدو الصلاح في زمن النخل أن تحمر أو تصفر]: هذه علامة بدو الصلاح، والأصل في ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه،: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي، قالوا: يا رسول الله! وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفار)، فهذا يدل على أن الحمرة والصفرة توجب الحكم ببدو الصلاح. قال رحمه الله تعالى: [وفي العنب أن يتموه حلواً]: العنب يبدو صغيراً، وبعد ذلك يبدأ يكبر شيئاً فشيئاً، حتى تكتمل حبة العنب في الحجم، وهي خضراء شديدة الخضرة، ثم يضربها الماء، فإذا تموهت وصار الماء عليه تفككت خضرتها، فبمجرد ما ينظر إليها صاحب الخبرة يعلم أنها قد نضجت، فإذا كانت شديدة الخضرة، فهي حامضة، وطعمها حامض، ويبدو صلاحها بذلك، وإذا بدا الصلاح في عنبة جاز بيع بقية العنب في ذلك البستان. لكن لو كان العنب أنواعاً، كالعنب الطائفي والحجازي والمشرقي، فهذه الأنواع يفصل فيها: فإذا تموه العنب من نوعٍ، فلا يحكم بجواز بيع غيره من نوع آخر إذا تفاوت في النضج. قال رحمه الله تعالى: [وفي بقية الثمار أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله]: قد بينا فيما سبق علامات بدو الصلاح، فمن الأشياء ما يكون بدو صلاحه بلينه بعد اشتداده، كالتين والبطيخ. ومنها ما يكون باشتداده بعد لينه كالحب. ومنها ما يكون بحلاوته بعد مرارته كقصب السكر، والرمان ونحو ذلك. ومنها ما يكون بتفتح أكمامه، كما ذكرنا في الورد، ويقاس على ذلك بقية الأنواع.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/294)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:09 م]ـ
بيع العبد وما يتبعه قال رحمه الله تعالى: [ومن باع عبداً له مال، فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري]: هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)، فإن البيع ينصب على الرقبة، فيبقى المال ملكاً للبائع؛ لأن الأصل أنه مَلَكَ العبد والمال، فإذا وقع البيع على العبد، فإن المال ليس بمتصل به، فيحكم بكون المشتري مالكاً للعبد دون ماله، فإن أراد أن يأخذ ماله اشترط، وقال: أشترط أن يكون لي ماله، فإذا لم يشترط لم يكن له ذلك. قال رحمه الله تعالى: [فإن كان قصده المال، اشترط علمه، وسائر شروط البيع، وإلا فلا]: والمراد من هذا، أنه لو اشترى عبداً وله مال، وكان لدى العبد عمارة وقال للبائع: أشترط أن يكون ماله تابعاً له. فينبغي أن توصف هذه العمارة؛ لأنه اشترى الرقبة وما يقصد منها من الانتفاع بمالها، فينبغي أن يكون المال الذي قصده بالبيع معلوماً، والأموال إذا بيعت يشترط فيها العلم، فنعلم نوع المال وجنسه وقدره، وغيرها من الشروط المعتبرة في البيع. فيشترط فيه ما يشترط في البيع. قال رحمه الله تعالى: [وثياب الجَمال للبائع والعادة للمشتري]: إذا بيع العبد وعليه ثياب، فالثياب التي يلبسها في العادة تكون تابعةً للرقبة، وقد تكلمنا عند هذا في بيع المبيع وما يتبعه وما لا يتبعه، وبينا القواعد فيه والضوابط، لكن لو كان الثوب الذي عليه ثوبَ جمال، أي: ثوباً زائداً عن المعتاد، فحينئذ لا يكون المشتري مالكاً له بالبيع ولا يتبع؛ لأن المتصل بالعبد يتبعه، فإن كان المتصل له خصوصية، وهو ثياب الجمال، فإنه لا يتبع. فإذا باع عبداً وعليه ثياب فإنها تتبع الرقبة؛ لأن هذا هو الأصل في العادة، إذا كان ملبوسها بالعادة. وأما إذا كانت ثياباً فارهةً، وثياباً خاصة، كما كان في القديم، إذا كان الرجل له ملك يمين من الأرقاء، ويحتاجهم في معونته إذا ذهب إلى عمله أو نحوه، فكان يلبسهم لباساً معيناً لما يحتاجهم إليه، وهذه ثياب جمال يتجملون بها أثناء ذهابهم معه لعمله، أو لزيارة أناس، أو نحو ذلك، فهذه لا تتبع الرقبة في البيع، وأما بالنسبة لثياب العادة فإنها تكون تابعة للعبد؛ لأنها متصلة به. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل علمنا خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ......
شرح زاد المستقنع - باب بيع السلم [1] من العقود التي أحلها الشرع عقد السلم، الذي هو بيع معجل بمؤجل، وهو مما فيه توسعة على البائع والمشتري، ولابد فيه من انضباط صفات المسلم فيه من جهة قدره، ومن جهة جنسه ونوعه، ومن جهة أجله، وكذلك من جهة إمكان وجوده وقت التسليم، وهذا كله حتى لا يدخل الغرر والجهالة في هذا العقد. عقد السلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [باب السلم: وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة، أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس، والجواهر والحامل من الحيوان، وكل مغشوش، وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه، ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين، وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها. الثاني: ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه، ولا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء، فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه: لزمه أخذه. الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع يُعلم، وإن أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلاً: لم يصح. الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن، فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ ولا إلى يوم، إلا في شيء يأخذه منه كل يوم: كخبز ولحم ونحوهما. الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد، فإن تعذر أو بعضه: فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/295)
ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه]. ...... أموال البيع قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السلم] فيقول رحمه الله: (باب السلم)، هذا الباب يعتبر أحد أنواع البيوع المهمة والتي رخص الله عز وجل لعباده فوسع عليهم فيها، وقد بين العلماء رحمهم الله وجه التوسعة في هذا النوع من البيع وذلك أن الإنسان إذا باع السلعة لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يدفع المشتري الثمن نقداً، ويدفع البائع المثمن معجلاً. والحالة الثانية: أن يؤخر المشتري الثمن، ويقدم البائع المثمن. والحالة الثالثة: أن يقدم المشتري الثمن ويؤخر البائع المثمن. هذه ثلاثة أحوال للبيع، إذا دفعت المال حاضراً ودفع البائع لك السلعة حاضرة فإن هذا النوع من البيع يكون الثمن فيه مكافئاً للمثمن، فلو أردت أن تشتري سيارةً مثلاً أو داراً فقال لك: أبيعها لك بعشرة آلاف حاضرة، أي: نقداً، فإنك تراعي قيمة السيارة ويكون الثمن -غالباً- مكافئاً للمثمن، أي: أن السيارة تستحق هذا المبلغ دون زيادة أو نقص، الحالة الثانية: أن يكون المثمن مقدماً والثمن متأخراً كرجل أراد أن يستلم سيارةً، وطلب من البائع أن يؤخره سنةً كاملة فمعنى ذلك: أن المثمن معجل والثمن مؤجل، فإذا عجل البائع لك السلعة وقلت: لا أستطيع أن أعطيك المال حاضراً انتظرني سنة أو انتظرني سنتين، فالغالب أنه يثقل عليك في الثمن وتصبح القيمة قد زادت لقاء الأجل. وعليه: تكون التوسعة على البائع في زيادة الثمن توسعة على المشتري في إنظاره وتأخيره، فيأخذ السيارة عاجلاً ويخف عليه دفع القيمة آجلاً، ولا يعتبر هذا كالربا؛ لأن الربا جاءت الزيادة فيه لقاء الأجل المحض، ولكن هنا: جاءت الزيادة لقاء السلعة، وقيمتها حاضرة ليست كقيمتها مؤجلة وقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً.
التوسعة في بيع السلم تبقى الصورة الثالثة: وهي أن تدفع الثمن معجلاً ويؤخر البائع المثمن مؤجلاً، وهذا هو الذي يقع في بيع السلم، مثلاً: رجل عنده مزرعة، وهذه المزرعة يزرعها براً أو يزرع فيها شعيراً، أو فاكهةً أو غير ذلك، هذا المزارع ليست عنده سيولة وليس عنده مال، وجاء الموسم للزراعة، وليس عنده ما يشتري به البذر، وقد لا يوجد من يدينه، فيأتي الرجل ويقول: أنا أسلفك ألف ريال، وتعطيني مائة صاعٍ في نهاية رجب أو في نهاية شعبان، فيقدم الثمن ويؤخر المثمن، في هذه الحالة سيكون الرفق بهذا المزارع، وسيكون التيسير على هذا المزارع حيث إنه انتفع بأرضه وقام بزرعها واشترى ما احتاج من بذره، ثم انتفع المشتري؛ لأنه يحتاج إلى المائة الصاع، إلا أن هذه المائة صاع لو أنه جاء لهذا الفلاح بعينه ولم يستلف منه وجاءه في نهاية رجب يريد أن يشتريها بقيمتها لكان قيمتها ألفاً وخمسمائة، ولكنه لقاء التعجيل سيشتريها بألف فقط، فأصبح السلم أن يقدم المشتري لك الثمن وتعده بالمثمن بكيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، ويقع هذا في المكيلات وفي الموزونات، وتقدم معنا ضبط المكيلات وضبط الموزونات، فلو جاءه وقال: هذه عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاع -مثلاً- من التمر السكري في نهاية شهر شوال، فإن هذا البيع تعجل فيه الثمن وتأخر فيه المثمن، ولو جئت في نهاية شوال تبحث عن تمرٍ بهذه الصفات لوجدته بأحد عشر ألفاً أو باثني عشر ألفاً، ولكن الله وسع على المشتري وخفف عليه المئونة؛ لأنك ستشتري والموسم ليس بحاضر، وأنت لا تريد السلعة الآن إنما تريدها إلى أجل، وكثيراً ما يقع هذا البيع عند التجار، ويقع كثيراً ما بين التاجر والمورد، فيقول التاجر للمورد: أريد -مثلاً في المكيلات- مائة صندوق من التمر بوزن كذا وكذا أو مائة صندوق من العسل أريدها لصيف كذا وكذا، فيحدد الشهر ويحدد الأجل الذي يريد أن يدفع له هذا الملتزم هذه السلعة فيه، فيقول البائع: قد التزمت لك هذه المائة صندوق من العسل أو من التمر أن أحضرها لك في نهاية شهر شوال، وقيمتها عشرة آلاف ريال أو قيمتها ثمانية آلاف ريال، فتعجل الثمن وتؤجل المثمن، وذلك في موزونٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم، وكذلك إذا وقع في الكيل فتقول له: أريد مائة صاعٍ من شعير أو أريد مائة صاع من بر، أريدها في نهاية شهر شوال بكم؟ قال له: بألفين أو بثلاثة آلاف ريال، فقال: خذ هذه الثلاثة آلاف ريال وهذه المائة صاع أكتبها ديناً عليك تحضرها لي في نهاية شهر شوال، فأسلف في كيل معلوم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/296)
إلى أجل معلوم بثمنٍ معلوم، ويعطيه الثمن نقداً، هذا بالنسبة للمكيلات والموزونات، والمعدودات مثل ما يقع في بيع السيارات الموجودة الآن، يأتي ويقول لك مثلاً: السنة القادمة هناك نوع من السيارة سواءً كانت من هذا الصنف أو من هذا الصنف قيمتها عشرة آلاف ريال، أو قيمتها مائة ألف ريال فتدفع المائة ألف ريال مقدماً، قبل أن يأتي ما يسمى بالموديل أو بأي اسم يعبر عن الصنف الذي يهيأ للسنة القادمة تدفع المعجل مائة ألف أو مائتي ألف تدفع القيمة ثم يعطيك أوصاف السيارة كاملة، هذا إذا قيل بجواز السلم في المعدودات؛ لأن السيارة من المعدودات؛ ولأن من العلماء من يرى أن السلم لا يقع إلا في مكيل أو موزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهناك من يرى أن المعدود كالمكيل والموزون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالمثل على مثله، ولم يرد استثناء المعدود كما ورد في بيع الربا، ولذلك قالوا: يبقى المعدود منبهاً عليه بالنظير على نظيره، فإذا قلنا بأن المعدود يقع فيه بيع السلم، فحينئذٍ يمكن أن يعطيه -مثلاً- مائة ألف لقاء السيارة أو لقاء السيارتين أو الثلاث أو اشترى منه دفعةً من السيارات من نوعٍ معين أو من صنف معين قال: هذا النوع إذا حضر فأنا: أشتريه منك بمليون أو بنصف مليون، كذلك أيضاً ربما يقع في المعدودات من أدوات الكهرباء فيقول له: أريد منك مائة غسالة أو مائة ثلاجة -مثل ما يقع بين التجار بعضهم مع بعض- هذه المائة غسالة أو المائة ثلاجة أريدها إلى أجل معلوم وهذا ثمنها، فإذاً هذا البيع فيه توسعةٌ على البائع من جهة كونه استفاد بثمنٍ معجل أو استفاد بزرع أرضه وأخذ ثمنٍ معجل، وتوسعةٌ على المشتري بتخفيف القيمة عليه.
مشروعية السلم والسلم والسلف لغتان، يقال: السلم ويقال: السلف، والسلف لغة أهل المشرق، والسلم لغة أهل الحجاز، والأصل في مشروعيته دليل الكتاب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، كان ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن يقول: (أشهد أن الله قد أحل السلم) ويتلو هذه الآية، وكأنه يرى أن هذه الآية نزلت في السلم؛ وذلك لأنها نصت على الدين، وبيع السلم يكون على إسلام الثمن وتعجيله والسلف في الْمُسلَّم وتأجيله، وأما دليل السنة فما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف فليسف في كيل معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فهذا الحديث -كما يقول العلماء- أصلٌ في مشروعية السلم، وكذلك حديث الأنباط من الشام أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسلفونهم في الحنطة ويعطونهم من الغنائم إذا غنموها إلى أجلٍ معلوم، وسئلوا: هل كان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قال الراوي: ما كنا نسألهم عن شيء من ذلك. فاتفقت هذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشروعية السلم وجوازه، ومن هنا أجمع العلماء على جواز بيع السلم. ومناسبة ذكر بيع السلم بعد باب النسيئة أن باب النسيئة ثبت فيه التحريم لبيع الدين بالدين، وبينا فيه أنه لا يجوز بيع الدين بالدين ثم ذكرنا الصرف وبينا في الصرف حرمة النسيئة من الطرفين أو من أحدهما، فلما كان الكلام متعلقاً بالصفقات المشتملة على البيوع المؤجلة، وكان بيع السلم بيعاً مؤجلاً مرخصاً فيه ناسب أن يذكر المباح المستثنى من المحرم فيما سبق، ومحل بيع السلم إذا لم يكن في الربويات، فإذا كان في الصنف الربوي كأن يقول له: أعطيك مائة صاع من البر بمائة صاع من البر مع اتحاد الصنف لا يجوز، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع شعير، أو أعطيك مائة صاع بر الآن وتعطيني مائة صاع من التمر السكري، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد في البر مع التمر أن يكون يداً بيد، سواءً اتحد الربوي أو اختلف، هذا حاصل ما يقال في مقدمة باب السلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/297)
تعريف السلم قال رحمه الله تعالى: [وهو عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمن مقبوضٍ بمجلس العقد]. يقول رحمه الله برحمته الواسعة وأنار قبره بأنواره الساطعة: (وهو) أي: البيع السلم (عقدٌ)، العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، يقال: عقد الحبل إذا أدخل بعضه في بعض، وعقدة الحبل معروفة، فيكون في المحسوسات كعقد الحبل وعقد العقال، ويكون في المعنويات، كعقدة النكاح وعقدة البيع فيقولون: عقد بيعٍ أو عقد نكاح قال تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235]، فالعقد يستعمل في المحسوسات ويستعمل في المعنويات، وأما في الاصطلاح فالعلماء إذا وجدتهم يقولون: هذا عقد، فاعلم أنه إيجاب وقبول، إيجاب من البائع وقبول من المشتري، إن كان الإيجاب والقبول على بيعٍ قلت: عقد بيع، وإن كان الإيجاب والقبول على إجارة قلت: عقد إجارة، وإن كان الإيجاب والقبول على رهن، قلت: عقد رهن. فقال رحمه الله عن بيع السلم: (هو عقدٌ) أي: إيجاب وقبول على السلف، أو إيجاب وقبول على السلم، وعلى هذا إذا قال: أسلمتك هذه العشرة آلاف بمائة صاعٍ من بر، قال: قبلت، فقول المشتري: أسلمتك هذه العشرة آلاف بالمائة صاع من البر إلى نهاية السنة، وقوله: قبلت، إيجاب وقبول، وهذا عقدٌ، والعقد يستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل، والعقد يتضمن الصيغة، والصيغة تستلزم وجود الطرفين: الموجب والقابل. وقوله رحمه الله: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة) الموصوف المراد به: محل العقد، وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، سواء كانت من الأوصاف الحسية أو الأوصاف المعنوية، فقوله: (على موصوفٍ في الذمة) أي: أن الإيجاب والقبول ينصب على شيء موصوف في الذمة، فمثلاً: قوله: مائة صاع، يقول أولاً: مائة فيذكر القدر، ثم يقول: صاع، فيحددها ويميزها، سواءً من برٍ أو من تمر أو من شعيرٍ أو من زبيب ... إلخ. فإذاً السلم يكون على موصوفٍ، وهذا الموصوف يكون في الذمة، فخرج العقد على المعين، كأن يقول له: هذه العشرة آلاف بهذا البر هذا ليس بسلم وليس بسلف؛ لأنه حاضر وهو بيع معجل، ولا يكون السلم إلا في البيوع المؤجلة، لذلك بعض العلماء يقول في تعريفه: بيع العاجل بالآجل وبيع المعجل بالمؤجل، وقوله رحمه الله: (على موصوفٍ في الذمة) هذا ينبني على ما ذكرنا في السابق أن المبيع إما أن يكون بالعين وإما أن يكون بالذمة، فالمعين أن تقول: هذا، وتحدده وتبينه، أو تقول: سيارتي، وهو يعلم أنه ليس لك سيارة غيرها، هذا معين، أما الموصوف في الذمة فهو أن يصف الشيء ويحدده والذمة محل في الإنسان قابل للالتزام والإلزام، أي أن هذا المحل قابل أن يلتزم، فيقول لك: في ذمتي عشرة آلاف، فالذمة ليست بشيء مشاهد كالرأس واليد، بل الذمة وصف اعتباري، فقوله: (موصوفٌ في الذمة): أي أنه في ذمته، أي: أدخل في ذمته وتعلقت ذمته بذلك الشيء أنه يحضره لك، وأنه يقوم بإنجاز ما وعدك به عند حلول الأجل. قال: (عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجل بثمنٍ). الباء للمقابلة والبدلية، تقول: هذا بهذا، وعقود السلم تقوم على الثمن المعجل لقاء المثمن المؤجل، فقال: (بثمن) والثمن هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أسلف فليسلف، -يعني: فليعطِ، وهو الثمن المعجل-، في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم) إلخ. وهذا الثمن يكون حاضراً في مجلس العقد، وسيذكر المصنف رحمه الله له شروطاً لابد من توفرها لكي يحكم بصحة العقد واعتباره، فابتدأ رحمه الله بتعريف السلف وبيانه، وهذا مبنيٌ على أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن عادة العلماء أنهم يبدءون أولاً بتعريف الأشياء ثم يبينون أحكامها.
ألفاظ السلم قال رحمه الله: [ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة]. يقول رحمه الله: هذا النوع من البيع -وهو بيع السلم- يصح بألفاظ: البيع والسلم والسلف، فإذا سألك سائل وقال لك: قد علمتُ أن بيع السلم عقد وعلمتُ أن العقد يقوم على الإيجاب والقبول، فهذا الإيجاب وهو قوله: أسلفت، هل له ألفاظٌ مخصوصة؟ والإيجاب يكون تارةً من البائع وتارةً يكون من المشتري -فالجواب أنه إذا أوجب بالسلم وابتدأ به عرضاً وقال: أسلفتك، أو قال: أسلفني، أو قال: أسلمتك، أو قال: أسلمني عشرة آلاف الآن أعطيك بها مائة صاع إلى نهاية السنة، قال: قبلت
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/298)
فالإيجاب يقع بلفظ السلم، ويقع بلفظ السلف، ويقع بلفظ البيع، هذه ثلاثة ألفاظ اختار المصنف رحمه الله أن عقد السلم يقوم عليها: السلم والسلف والبيع، وغير ذلك لا يصح به؛ لأن السلم رخصة وبيوع الرخص تتقيد بألفاظها.
شروط عقد السلم قال رحمه الله: [بشروط سبعة]. أي: لابد من توفر هذه الشروط لكي نحكم بصحة السلم، فهي شروط صحة، فإذا وجدت هذه الشروط صح العقد، فإذا سألك تاجر عن بيعٍ تتأمل البيع، فإن كان الثمن مدفوعاً لقاء مثمن معجل خرج عن كونه سلماً، لكن لو كان الثمن معجلاً والمثمن مؤجلاً فانظر رحمك الله هل هذا النوع من المعجل والمؤجل من جنس السلم المأذون به شرعاً أو لا، فإذا جئت تحكم بأنه سلم شرعي أو غير شرعي تحتاج إلى سبع علامات، وهي التي سماها العلماء بالشروط، وهذه العلامات إن وجدت حكمتَ بصحة السلم، وإن فقدت أو فقد أحدها حكمت بعدم صحته، فقال رحمه الله: (ويصح)، إذا قال: يصح بشروط، فمعنى هذا أنها شروط صحة، وإذا قال: يجب بشروط فمعنى هذا شروط وجوب، فهذا نوع من الشروط وهو: شروط الوجوب، وهذا نوع من الشروط يسمى: شروط الصحة، وشروط الصحة علامات وأمارات وضعها الشرع، إن وجدت حكمنا بصحة العبادة والمعاملة وإن فقدت حكمنا بعدم صحتها ولو فقد شرطٌ واحد، على تفصيل في العبادات والمعاملات، وهذه الشروط يأخذها العلماء من نص الكتاب والسنة، فالشروط علامات وأمارات نصبها الشرع، فإما أن تؤخذ من نص الكتاب أو من نص السنة أو يقع عليها إجماع أو كان ثم نظر صحيح، نبه الله سبحانه وتعالى في دليل كتابه أو سنة رسوله على اعتبار هذا الشرط بالمعنى. ...... الشرط الأول: انضباط الصفات قال رحمه الله: [أحدها: انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع]. يقول رحمه الله: (أحدها) وهو الشرط الأول (انضباط صفاته)، أي: صفات الشيء المسلم فيه، (انضباط صفاته بمكيل وموزون ومذروع)، أن يكون من جنس ما ينضبط بالصفات، والسبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلومٍ أو وزنٍ معلوم)، فقيد الشيء المسلم فيه بكونه منضبطاً فقال: (في كيلٍ) ثم قال: (معلوم)، ثم قال: (في وزنٍ معلوم)، ومعنى هذا: أنه لا بد وأن يكون منضبطاً بطريقةٍ يندفع بها التنازع والاختلاف، مثلاً: لو جاء رجلٌ تاجر إلى رجل عنده مصنع أو -مثلاً- يقوم بتجارة الأواني -إذا كانت الأواني منضبطة وقلنا بالسلم في المعدودات- فقال له: أريد مائة وعاء أو كأس، أو مائة صندوق من الكأس من النوع الفلاني، إن كان هذا الكأس مثل ما هو في القديم يصنعونه ولا ينضبط، فإذا جاء الصانع يصنعه ربما كان واسعاً وربما كان ضيقاً وربما كان طويلاً وربما كان قصيراً، فما ينضبط بصفةٍ معينة، فإذا قلنا: يجوز، فمعنى هذا أنه سيعطيه العشرة آلاف مثلاً في شيءٍ قد يختاره المشتري حينما أعطاه العشرة آلاف على أنه متوسط أو جيد فإذا به يأتي بالأفواه الضيقة، أو يأتي بأكواب بعضها كبير وبعضها صغير، فيحصل الاختلاف ويقع التنازع وتقع الشحناء فيقول: لا. أنا ما قصدت هذا، فيقول هذا الآخر: أنت لم تقل إلا هذا، فهذا قد يحصل؛ لأنه شيءٌ غير منضبط، فالبيوع والمعاملات من قواعد الشريعة، ومن الأصول الشرعية أن المعاملات إذا أفضت إلى التنازع أو كانت على وجهٍ يفضي إلى الشحناء والبغضاء حرمت، لأنها تقطع أواصر الأخوة بين المؤمنين، والدنيا أحقر من أن تفسد الدين، ومن هنا حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه، وحرم النجش، وحرم الغش؛ لأنه متى ما دخلت المعاملة المالية لإفساد الدين منع الشرع منها وحرمها، فإذاً لو أجزنا السلم وأجزنا للرجل أن يدفع مبلغ العشرة آلاف في شيء لا ينضبط فقد يظن أن التاجر سيعطيه شيئاً كاملاً فيأتيه به ناقصاً، فيقول له: يا أخي! هذا ناقص، فيقول: أليس هذا كأساً؟ فيقول: بلى، فيقول: أليس هذا يسمى طبقاً؟ فيقول: بلى، فيقول: أنت طلبت مني مائة طبق وهذه مائة طبق، فإذاً إذا لم يكن هناك انضباط بالكيل أو بالوزن ولا كان هناك وصف ينضبط به الشيء فإنه لا يندفع التنازع وتقع الشحناء وتقع البغضاء فحرم الشرع هذا النوع من المعاملات، فلا يصح السلم إلا إذا كان منضبطاً، وهذا شرطٌ أجمع عليه جماهير العلماء رحمهم الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نبه عليه بقوله: (في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم)، فجعل المسلَّم فيه مما ينضبط، فلو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/299)
سألك سائل: ما الدليل على اشتراط هذا الشرط؟ تقول: لأن الأصل حرمة السلف وجاء الشرع باستثنائه، ولكن فيما ينضبط، فوجب تخصيص الرخصة فيه بمحلها.
حكم السلم في الأطعمة غير المنضبطة قال رحمه الله: [وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرءوس والأواني المختلفة الرءوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس والجواهر والحامل من الحيوان وكل مغشوش وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين: فلا يصح السلم فيه]. قرر المؤلف الشرط في صحة السلم أن يكون بما ينضبط، ومفهوم هذا الشرط أن الشيء الذي لا ينضبط لا يصح السلم فيه، فقال رحمه الله: (كالفواكه)، وتعرفون أن مفاهيم الشرط في المتون معتبرة، فلما قال: (كالفواكه) يعني: إذا باعه سلماً في فواكه فقال له: أسلمتك -مثلاً- في الموز، والموز من المعلوم أن فيه الصغير وفيه الكبير، خاصةً في القديم حين كان يباع بالعدد، وفي البرتقال أو في التفاح أو في الكمثرى أو نحو ذلك من الفواكه فقد كانت تباع عدداً وإن كانت في زماننا تباع وزناً، لكن هذا المسلم فيه وهو الفواكه لا ينضبط؛ لأن فيه الكبير وفيه الوسط وفيه الصغير، فهو مختلف الأحجام مختلف الرءوس، ولذلك قالوا: إذا كان من جنس الأطعمة ولا ينضبط كالفواكه: لم يصح. قال رحمه الله: [والبقول]. إذا نظرنا إلى المعدود من البقوليات والكراث ونحوها فإنها لا تنضبط؛ لأنها من ناحية الحجم فيها الكبير وفيها الصغير، وحينئذٍ يقع الاختلاف بين البائع و المشتري مثلما ذكرنا فيما لو أسلمه في معدود لا ينضبط، وهذا من جنس الأطعمة، وقد مثل المصنف بالفواكه والبقول، والأمر يشمل الأطعمة الأخرى فلا ينحصر الأمر في الفواكه أو في البقول، مثلاً: لو أسلمه في شيء من أنواع الأطعمة الأخرى التي لا تنضبط، مثلاً: الكمثرى أو الخيار أو القثاء أو الطماطم أو البطاطا أو البطيخ فإنه لا ينضبط فلو قال له: أسلفتك هذه الألف ريال في مائة من البطيخ، ويكون موسم البطيخ في أول رجب فإنه لا يصح؛ لأن البطيخ لا ينضبط، ولو أسلمها في قرع فالقرع لا ينضبط كذلك، إذاً لو سألك تاجرٌ خضروات عن بيع السلم على هذا الوجه تقول: لا يصح؛ لأنه لا ينضبط، والسنة قد دلت على لزوم الانضباط دفعاً للشحناء والتنازع كما يفهم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسلم في كيلٍ معلوم أو وزن معلوم إلى أجلٍ معلوم)، وهكذا لو سأل بائع البقول تقول: إن البقول لا تنضبط، أما لو انضبطت وكانت من الطعام المنضبط لأجزناه مثلما تقدم معنا، ومثلاً الآن نجد بعض شركات الأطعمة تتكفل بالطعام ويكون وزنه معلوماً وكيله منضبطاً، وتوضع في أغلفة معينة لأحجام معينة، فهم يعطون المشتري عينة قبل أن يعطوه الشيء المسلم فيقولون: هذه عينة هذا النوع ونعطيك من هذا النوع والصنف، وفعلاً إذا جاء الأجل يسلمونه بذلك النوع المعين أياً كان المطعوم، حتى ولو كان من الحلويات، فلو أنه أسلمه من الحلويات الموزونة وقال له: هذه ألف ريال في حلوى من النوع الفلاني مقابل عشرة صناديق منها -مثلاً- خمسة صناديق من النوع الفلاني والصنف الفلاني فيأتي التاجر إلى تاجر الجملة ويعطيه هذا المبلغ، في بعض الأحيان يعطيه إلى شهر ويقول: هذه البضاعة ليست موجودةً عندي، ولاحظوا أن أكثر ما يقع هذا النوع من البيع بين التجار في بيع الجملة؛ لأن هذا التاجر يحتاج إلى توريد هذا الشيء من أجل أن يعرضه على الأفراد، وقليلاً ما يقع في بيع الأفراد، فأكثر ما يقع بيع السلم في بيع الجملة وأكثر من يسأل عنه التجار إذا اشتروا صفقات كبيرة؛ لأنه غالباً ما يشتريها إلى أجل معلوم وتكون منضبطة بصفاتها ومنضبطة أيضاً بمواعيدها، فإذا كانت طعاماً فقد ذكرنا أن الطعام إذا كان من الفواكه أو البقول التي لا تنضبط لم يصح السلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/300)
حكم السلم في الجلود والرءوس قال: [والجلود]، الجلد منه ما هو رقيق ومنه ما هو ثخين، ومنه ما يسلم من القد وما لا يسلم من القد، وبناءً على ذلك لا يصح السلم في الجلود؛ لأن الجلود لا تنضبط، ثم لا تنضبط أحجام الحيوانات نفسها، أي: أنه لو أن رجلاً في المسلخ يأتي -وكثيراً ما يقع هذا في تجارة الأحذية أكرمكم الله فالتجار يحتاجون إلى الجلود ليصنعوا منها حقائب وأوعيةً أو غير ذلك -يأتي إلى جزار ويقول لصاحب المجزرة: احفظ لي مثلاً مائة جلد من الغنم وهذه ألف ريال، أو مثلاً: أريد عدداً معيناً من جلد البقر وهذه ألف ريال، ويحدد له العدد، هل يصح؟ نقول: لا يصح؛ لأن الجلد من الشاة المذبوحة أو البقرة أو الناقة المنحورة لا نعلم أهو من النوع الكبير أم الصغير، فما تستطيع أن تضبط أحجام الحيوانات لكن بسنها قد تنضبط إذا كان المبيع داخلاً في البيع، لكن أنت تريد الجلد، ولا تريد المبيع حياً ولا تريد لحمه موزوناً، إنما تريد الجلد، والجلد فيه الصغيرة والكبير فلا ينضبط بوزنه؛ لأنه ليس من جنس ما يوزن إنما يراد به الحجم والجلد، ولذلك يمتنع السلم في الجلود، فلو سألك من يشتري الجلود: إذا طلبت من المسلخ -مثلاً- مائة جلد غنم، وأعطيته ألفاً حاضرة على أنه سلم فهل هذا جائز؟ تقول له: لا يجوز، قال: يا أخي! هذه تجارة، فما الحل؟ قل له: الحل يسير، وكل وكالة، وقل له: اشترِ لي الجلود في موسمها ثم لك عن كل جلدٍ تحضره خمسة ريالات أو ريالان أو ثلاثة ريالات، فتعطيه حقه وتكون إجارة؛ فحينئذٍ الناس لا تتعطل مصالحهم، ويكون هناك البديل الشرعي الذي يضمن فيه السلاخ حقه والجزار حقه ويضمن أيضاً فيه التاجر حقه. قال: [والرءوس]. مثلاً: الذين يبيعون الرءوس المشوية مثل المندي -وهذا يقع في الحاضر كما كان يقع في القديم، فكانوا يبيعونه بهذه الصفة وكانت هذه التجارة موجودة ومشهورة- يأتي الرجل صاحب الحفرة الذي يشوي الرءوس، فلا يستطيع أن يذهب ويحضر هذه الرءوس، فيقول للجزار: أريد مائة رأس من الغنم من أجل أن أطبخها وهذه ألف أسلمتكها في مائة من رءوس الغنم، فنقول: لا يصح؛ لأن الرءوس لا تنضبط وليست من جنس ما ينضبط، والحل أن يعدل إلى الإجارة؛ لأن الرأس ولو كان من الغنم وعلم جنسه وعلم نوعه لكن لا ينضبط فهناك رأس كبير وهناك رأس صغير فالرءوس لا تنضبط، وأحجامها ليست بمنضبطة فلا يصح السلمُ فيها دفعاً للتنازع.
حكم السلم في الأواني قال: [والأواني المختلفة الرءوس]. بعد أن بين رحمه الله السلم بالمطعومات وبالجلود شرع رحمه الله في غيرها كالأواني، والأواني تنقسم إلى قمسين: منها ما ينضبط ومنها ما لا ينضبط. أما ما ينضبط من الأواني فغالب ما في زماننا الآن، حيث وجدت المصانع وانضبطت الأواني سواءً كانت زجاجية أو نحاسية أو حديدية انضبطت بالصفات، حتى إنك تجد كل صنف من الأواني له رقم معين، وله وصف معين والتجارة به معلومة، والمصانع التي تقوم بصنعه ودقه ونقشه ونحو ذلك معلومة، فإذا كانت الأواني منضبطة جاز السلم فيها، فلو جاء تاجر الأواني وقال لصاحب المصنع: هذه عشرة آلاف ريال أعطيكها وأسلفها لك لقاء مائة صندوق من صنف كذا من الأواني الزجاجية أو النحاسية أو غيرها فيقول: قبلت. فإذا كانت الأواني معلومة النوع والصنف ولها أرقامها ولها صفاتها المنضبطة فيها صح السلم أجلاً؛ لأن المقصود أن يكون المسلم منضبطاً معلوم الصفات وهذا متحقق في السلم على هذا الوجه. أما لو كانت الأواني غير منضبطة ومختلفة الرءوس، مثل ما ذكر: القماقم من النحاس، ففي القديم كان النحاس إذا صنع صنعاً يدوياً يختلف بالصنعة، فتارةً يوسع فوهة الصاع وتارةً يضيقها، وتارةً يصنع المد فيضيق فوهته وتارةً يوسعها، فلا تنضبط في هذه الحالة، فمثل العلماء بالأواني المختلفة الرءوس، فهناك أوانٍ رءوسها ضيقة وأوانٍ رءوسها واسعة، ثم الأوساط، فبعضها أوساطها واسعة وبعضها أوساطها ضيقة، ومثل ذلك ما يسمى في عرفنا (الزير) المصنوع من الفخار وأواني الفخار ونحوها هذه مختلفة الرءوس مختلفة الأوصاف لا يمكن ضبطها أما لو صنعت على وجهٍ تنضبط به وأمكن ضبطها جاز السلم فيها على القول بجواز السلم في المعدود. قال: [والأوساط]، كذلك [كالقماقم والأسطال الضيقة الرءوس]. الأسطال: جمع سطل، والسطل من المعلوم أنه تكون له العروة،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/301)
ويكون واسعاً ويكون ضيقاً، ومثلها: الطشت، فالأسطال تضيق وتتسع، ورءوسها تختلف، والقماقم أوساطها تتسع وتضيق، فهذه وأمثالها لا يصح السلم فيها، فالقاعدة كلها تدور حول الشيء المنضبط، ومثّل العلماء رحمهم الله بهذه الأمثلة وطالب العلم لا يحس بفجوة بينه وبين المسألة؛ لأن المسألة تقوم على التمثيل والتنظير وهم تارةً يحكون مثالاً من الطعام ومثالاً من الأواني؛ لأنه لو مثّل بالطعام ربما أعجزك سؤال في الأواني، لكن حينما يجعل لك مثالاً من الطعام ومثالاً من الأواني، والطعام نفسه يعطيك مثالاً على ما اختلف في خلقته، ومثالاً على ما يحصد مثل البقول بعد أن يحصدها ويحزمها، فحزمة واسعة وحزمة ضيقة فيعطيك أمثلة للتنظير حتى تستطيع أن تطبق هذه النظرية على أفرادها، وتضع القاعدة وتطبقها على فروعها، فالقاعدة كلها تدور حول الانضباط، فإن كان المبيع منضبطاً صح السلم فيه مكيلاً كان أو موزوناً أو معدوداً على القول بجواز السلم في المعدود، وإن كان غير ذلك فلا يجوز.
حكم السلم في الجواهر قال: [والجواهر]. الجواهر لا تنضبط لأنها مختلفة الرءوس، ومختلفة الأحجام في القديم، لكن في زماننا اليوم أمكن تصنيعها ووضع ضوابط معينة، فتجار الجواهر يضعون مثلاً للألماس أحجاماً معينة بأرقام معينة، بل حتى إن الآلات التي تصنعها لها أرقام محفوظة ودقيقة، والتجار الذين يتعاملون بالجواهر يعلمون ذلك، فيأتي طالب العلم ويقول: الذي أدركنا عليه العلماء أن الجواهر لا يجوز فيها السلم، والسبب أننا قرأنا في الفقه أن الجواهر لا يسلم فيها، لكن حينما يعلم أن العلة هي الانضباط يعلم أن مدار الأمر على وجود هذا الوصف وهو الانضباط، فإن انضبطت الجواهر كما هو موجود وكان تجار الجواهر لهم فيها أرقام معينة يضبطونها بها صح السلم، وإن كانت الآلات التي تصنع بها يديوية لا تنضبط بها لم يصح السلم. وكذلك الأحجار الكريمة، حيث توجد الآن بعض الآلات التي تقص الأحجار الكريمة قصاً معيناً بأحجام معينة، فإذا انضبطت هذه الأحجام صح السلم وإذا لم تنضبط لم يصح. قال: [والحامل من الحيوان]. والحامل من الحيوان كذلك، فهو مجهول ولا يدرى قدره ولا يعلم ما فيه، فلو أسلم: في مائة شاة حامل في بطونها أولادها ما يصح، وهكذا الإبل وهكذا البقر؛ لأنها مجهولة لا يعلم ما فيها.
حكم السلم في المغشوش والمخلوط غير المتميز قال: [وكل مغشوش]. من دقة المصنف ذكر لك ما اختلف في حجمه، فإذا قلت: إن مختلف الحجم لا ينضبط تأتي أمورٌ ملحقة بهذا المعنى ليست من جنس الأحجام كالسوائل، فالسوائل ممكن ضبطها بالوزن وممكن ضبطها بالكيل، مثلاً: عندنا العلبة التي يوضع فيها العود، لو قال له: أسلم في مائة علبة من العود، فهذا في حكم المكيل، وتكون معدودة بالعدد على القول بجواز السلم في العدد فلا إشكال، وهناك أنواع من العود: كالكمبودي أو الهندي، فالنوع المخصوص الذي يريده، إذا وضع له ضابطاً في هذا النوع من العود لا إشكال، لكن لو أن السلم وقع على نوع من الطيب مخلوط، فإنه لا ينضبط إذا كان مخلوطاً، فإن طيب الأخلاط كما سيأتي مثل مختلف الرءوس ومختلف القماقم من حيث المعنى، فالأمر لا يختص بالجوامد بل يشمل حتى السوائل. قال رحمه الله: [وما يجمع أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين]. جاء المصنف رحمةُ الله عليه بأمثلة من الجوامد، فأعطى مثالاً على الطعام، وأعطى مثالاً على غير الطعام، ثم بعد ذلك ذكر السوائل، قال: (وما يجمع أخلاطاً)، يعني: يجمع أكثر من نوع فلا ينضبط به، ولا يمكن أن تحدد كم نسبة هذا من نسبة هذا فلا يصح، ما السبب؟ لأنه يوجب الشحناء والنزاع، ولا يمكن به حفظ الحقوق، لا حفظ حق البائع ولا حفظ حق المشتري؛ لأن الأخلاط يقع فيها الخطأ في التقدير والضبط فيها يكون متعذراً أو متعسراً. قال: [أخلاطاً غير متميزةٍ كالغالية والمعاجين]. أما إذا تميزت جاز، فمثلاً لو عندنا صنف من الطيب كصنف يخلط من العودة والورد، وكان للعودة نسبة معينة في العلبة، وهي نصف العلبة، فيخلط بطريقة معينة يتميز بها، كأن يكون نصف التولة من العود ونصف التولة من الورد، ويخلط، وأهل الخبرة يضبطونه بذلك: صح؛ لأن مدار المسألة على الانضباط فإذا لم ينضبط: لم يصح. قوله: (كالغالية والمعاجين فلا يصح السلم فيه). فلا يصح السلم فيه للعلة التي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/302)
ذكرناها.
حكم السلم في الحيوان والثياب المنسوجة من أنواع قال رحمه الله: [ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين]. أي: ويصح السلم في الحيوان وذلك بذكر جنسه ونوعه وسنه، فيقول مثلاً: أسلم في مائة من الإبل في سن البكر أو مائةٍ خياراً رباعياً، أو مائة جذعة قالوا: يصح، وهذا مبني على الخلاف المشهور، وهو هل المعدود يدخل في جنس السلم أو لا؟ وللعلماء في هذه المسألة وجهان، قال جمهور العلماء: يصح السلم في المعدودات؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الكيل والوزن تنبيهاً على العدد. قال: [والثياب المنسوجة من نوعين]. الثياب المنسوجة -أي: المخيطة- معدودة؛ لأن الثياب إذا لم تكن مخيطة فإنها مذروعة وليست بمعدودة، وحينئذٍ أدخل الثياب في جنس المسلم في باب العدد، والثوب لا يخلو من حالتين: إن كان من قماشٍ واحد فلا إشكال، مثل الموجود الآن عند تجار القماش، يأتي إلى تاجر ويقول له: هذه مائة ألف، أريد -مثلاً- بيعة من الثياب المفصلة من نوع -مثلاً- (الأصيل) الموجود الآن عندنا، لو طلب مائة ثوب من (الأصيل)، قال: أريدها -مثلاً- في موسم رمضان في نهاية شهر شعبان، صحت على القول بالعدد، فيصفه بأوصافه ويحدد الأوصاف الموجودة فيه، أو كما يوجد -مثلاً- الذي يسمى في عرفنا: (الفنائل) ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن، فيكون التطبيق أوضح -قال له: أريد أن أشتري منك -مثلاً- بيعة الفنائل أو الشماغ أو الغتر ونحوها، فحدد نوعها وصنفها وعددها، وحدد الأجل الذي يستلم فيه وأعطاه -مثلاً- مائة ألف أو أعطاه مائتي ألف لهذه البيعة صح وجاز؛ لأن الثوب منضبط إذا كان من مادة واحدة وخام واحد ولا إشكال فيه، يقول: أريد ألوانها بيضاء أو ألوانها مختلفة أو أريد الألوان الآتية: الأبيض، الأخضر، الأصفر ... إلخ، يكون هناك نوع من الانضباط التام ببيان الجنس والنوع والصنف والمقاسات والأطوال .. إلخ، هذا يصح، ولا إشكال عندنا فيه على القول بصحة السلم بالمعدود، والمصنف بعد أن انتهى من الأشياء التي تكون في الأطعمة وتكون في السوائل والجوامد شرع في الثياب، فإن كانت الثياب منسوجة من أكثر من نوع ونسجها لا يمكن أن ينضبط لا يصح السلم، كما ذكرنا فيما تقدم إذا كان لا يمكن أن ينضبط، لكن إذا كان نسجها ينضبط وكان تحديد كل خام وقدره معلوماً عند أهل الخبرة صح السلم فيه وجاز.
حكم السلم فيما خلطه غير مقصود قال رحمه الله: [وما خلطه غير مقصودٍ كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها]. أي ويصح السلم في الشيء الذي خلطه غير مقصود، ولو كان الشيء جمع أكثر من مادة، كالجبن، فمادته من اللبن مع الأنفحة، لكن هذا الخلط غير مقصود، فأنت عندما تشتري الجبن ما تريد الأنفحة ولا تريد اللبن منفصلاً، فالخلط فيه غير مقصود، فتشتري المادة من أجل الشيء الموجود دون النظر إلى الخلط الذي فيه، وهكذا خل التمر وهكذا الدبس، أو نحوه مما يكون فيه أكثر من مادة ولا يكون المخلوط مقصوداً بنسبه؛ لأنه إذا قصد بنسبه فمعناه أنه ينبغي أن نعطي كل نسبة حظها وحقها، لكن إذا كان الخلط فيه غير مقصود، أو كانت طبيعة صنعه تقوم على ذلك فإنه لا يؤثر ولا يضر؛ لأن خل التمر هو خل تمر، فلا تأتي تقول: خل التمر فيه مادة كذا ومادة كذا، فأريد خل تمر فيه نسبة (80%) من المادة الفلانية، وفيه: (20%) من المادة الفلانية، أي: أنه تختلف نسبه، فخل التمر صفةٌ واحدة وإن كان بعضه جيداً وبعضه أجود، لكن المادة واحدة، والخلط الموجود يراد بمادته ولا يراد بأجزائه وأفراده، لكن إذا اشتريت القماش مركباً من نوعين من الخام فإنه يراد لذلك، ولذلك تجد هناك ما فيه صوف وغير الصوف، وتجد الصوف له قيمة وغير الصوف له قيمة، كذلك الصوف له نسبته وغير الصوف له نسبته، فالمقصود أنه إذا كان الخلط غير مقصود جاز وصح. قال: [والسكنجبين ونحوها]. والسكنجبين: نوع من الدواء، لو سألك صيدلي -مثلاً- أنه يريد أن يسلم إلى تاجر في الأدوية يقول له: هذه مائة ألف أريد -مثلاً- من الدواء الفلاني عدد كذا، فيحدد العدد ويحدد صنف الدواء والأشياء الموجودة فيه، فإذا تميز صح وجاز، وإن كانت الأدوية في تركيبها أخلاطاً، مثلاً: لو طلب منه شراباً لعلاج السعال، أو حبوباً لعلاج القرحة فهذه الأدوية مخلوطة، لكن هذا الخلط غير مقصود، إنما انصب السلم على مادةٍ مكتملة هي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/303)
التي تسمى بالأسبرين أو هي التي تسمى -كما ذكر العلماء- بالسكنجبين وغيرها من الأدوية الأخرى فهي أكثر من مادة، لكنها بالخلط صارت مادة واحدة وأريدت مخلوطة، فلا تقل: القاعدة عندنا أن المخلوط لا يجوز السلم فيه، والخلط في الأدوية غير متميز فلا يصح، لا، فقد ذكر رحمه الله السكنجبين أصلاً للأدوية التي تنضبط بأعدادها أو بأوزانها أو تنضبط مكيلةً، ففي هذه الحالة إذا انضبطت جاز وصح السلم فيها، فلو سألك صيدلي أنه يريد بيعة من دواءٍ معين من شراب، أو يريد بيعة من حبوب لعلاج، وهذه البيعة بمائة ألف، وذكر لك الشيء الذي أسلم فيه من الأدوية وتميز بصفاته، فذكره منضبطاً بكيله إن كان مكيلاً أو بوزنه إذا كان موزوناً أو عدده الذي لا يختلف بأشكاله إن كان معدوداً صح وجاز، والعكس بالعكس، إن كان الخلط يراد فيه المواد منفصلةً لم يصح ذلك ولم يجز إلا بعد الانضباط.
الشرط الثاني: ذكر الجنس والنوع قال رحمه الله تعالى: [الثاني: ذكر الجنس والنوع]. يقول رحمه الله: (الشرط الثاني: ذكر الجنس) أي: جنس المسلم فيه (ونوعه)، فجنسه -مثلاً-: بهيمة الأنعام، ونوعه: من إبل أو بقر أو غنم، فلو قال له: هذه مائة ألف أسلمتكها في مائة رأس من الحيوان، لم يصح حتى يبين نوع جنس هذا الحيوان، فإذا قال: من بهيمة الأنعام قيل: لابد أن تذكر نوع بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، فإذا قال: من الغنم، فإنه يُحدد: هل هي من الضأن أو من الماعز، وإذا قال: من الإبل، قيل: هل هي عرابي أو بختية، وكذلك البقر، هل هي من البقر أو من الجواميس، ففي بعض الأعراف يكون البقر والجواميس كالشيء الواحد، فإذاً لابد أن يحدد الجنس ويحدد النوع. قال رحمه الله: [ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه]. إذا الفرق بين هذا الشرط والشرط الأول: أن الشرط الأول يحدد لك مكان السلم، ويخرج ما ليس بمحلٍ للسلم، فإذا قلنا: مكان السلم المنضبط -فقد يسلم في منضبط فيقول: هذه في مائة رأس من الغنم- لكن لو لم يحدد كم عددها وما هو نوعها ومن أي أنواع الغنم، من الماعز أو من الضأن، أو يقول: من الإبل ولا يحدد نوعها عرابي أو بختية ولا يحدد سنها، إذاً لابد للشيء أن يكون من جنس ما ينضبط ثم يضبط، إذاً: الشرط الأول شيء والشرط الثاني شيءٌ آخر، والشرط الثاني مركب على الشرط الأول، فإنه إذا وجد الشرط الأول وهو كامل منضبط يرد السؤال: هل يطلقه بدون أن يذكر ما ينضبط به أم لابد من ضبطه بالمكيل كيلاً والموزون وزناً؟
اشتراط ذكر الأوصاف التي يحصل بها الاختلاف في السلم قال: [وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً وحداثته وقدمه]. أي يشترط أن يذكر هذه الأمور والأوصاف التي يختلف فيها المبيع ثمناً وكذلك رغبةً فيقول -مثلاً-: العودة الكمبودي أو الهندي هناك نوعان منه: نوعٌ قديم ونوعٌ جديد، كذلك التمر السكري: يكون للعام الماضي وللسنة الحالية، فلابد أن يبين هل هو قديم أو حديث؟ ولابد أن يذكر هذه الأشياء؛ لأن القديم له قيمة والحديث له قيمة، وقد يكون القديم أغلى من الجديد، مثلاً دهن العود القديم منه أفضل من الجديد. أربعةٌ قديمهن أجود خِلٌ وخَلٌ دُهن عود عسجد الخِل: هو الصديق، فالقديم من الأصدقاء أجود من الجديد، وخَلٌ: الخَل القديم أفضل من الجديد، دُهن عودٍ: العود القديم أفضل من الجديد، عسجد: الذهب، الذهب القديم أفضل من الجديد، فهذه الأشياء تختلف في جودتها قدماً وحداثة، فإذا كان جديداً فإنه يكون أقل وأردأ، والعكس وارد فهناك أشياء جديدها أفضل من قديمها، كالتمور مثلاً، فإن التمور قديمها ليس كالجديد، فالجديد أفضل وأطيب، فحينئذٍ لابد أن يذكر: هل هو من القديم أو من الجديد دفعاً للتنازع، والقاعدة هي القاعدة، وخذ هذا أصلاً لا بد أن يسير عليه طالب العلم في المعاملات خاصةً بيوعات المعاوضات: أن كل شيء يختلف، سواءً قدماً وحداثة، كبراً وصغراً ونحو ذلك يختلف باختلافه الثمن، فلابد وأن يضبط البيع، ولا يمكن أن يصح البيع إلا إذا ضبط وحدد، أما لو أطلق فإن هذا مظنة التنازع ومظنة الاختلاف ومظنة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تشتري وأنت تريد الجديد وتقصد لنفسك الجديد فيعطيك القديم، تقول له: اشتريت أواني جديدة، قال: وأنا بعت أواني قديم؛ لأنك لم تشترط عليه الجديدة، فإذاً لابد من بيان ما تنضبط
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/304)
به صفاته وما يختلف به الثمن ظاهراً بقدم وحداثة ونحو ذلك.
حكم اشتراط أجود أو أردأ شيء في السلم قال رحمه الله: [لا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء]. إذا قلنا: إنه لابد أن تستوي الصفات فقال: هذه عشرة آلاف لقاء ألف صندوق -مثلاً- من التمر السكري من تمر هذه السنة، قال: وأشترط أن يكون أجود التمر السكري، لم يصح؛ لأن أجود أفعل، والأجود ما ينضبط، فأصبح المنضبط يئول بالشرط إلى ما لا ينضبط، فإن الأجود عندي ليس كالأجود عندك، والأجود عند البائع ليس كالأجود عند المشتري، وبناءً على ذلك إذا أدخل شرطاً يوجب الغرر فإنه لا يصح، فإذا قال: من الجيد، فالجيد وصف في السوق، وعندما يحصل التنازع بينهما نسأل أهل الخبرة ونقول: هل هذا جيد؟ فلو قال أهل الخبرة: نعم، هذا جيد، لزم المشتري أن يأخذه، لكن لو قال: أريد الأجود، فالأجود لا ينضبط؛ لأن الأجود عند المشتري ليس كالأجود عند غيره ومن هنا قالوا: يفرق بين الأجود والجيد؛ لأن الرديء وصف، وفي بعض الأحيان لا يقال: طيب ورديء وإنما يقال: رقم واحد، أو اثنين أو ثلاثة، أو درجة أولى، أو درجة ثانية، أو بالأماكن فيقال -مثلاً-: مشرقي أو مغربي أو جنوبي أو شمالي، فينضبط بالجهات ويضبط بالأوصاف، كل هذا يكفي إذا كان من جنس ما ينضبط، لكن إذا كان من جنس ما لا ينضبط ومما يوجب الغرر فإنه يئول إلى الأصل الذي ذكرنا أنه يوجب التنازع الذي يحكم بسببه بعدم صحة السلم.
حكم إتيان البائع بما هو أفضل من المتفق عليه أو قبل الوقت قال رحمه الله: [فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر قي قبضه لزمه أخذه]. قوله: [فإن جاء بما شرط]. عرفنا أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون مما ينضبط وأن تذكر صفات ضبطه، لو قال له: أريد من التمر السكري الجيد، يقولون: فاخر، وهذا في عرف الناس أن منه الفاخر، والفاخر يمتاز بكبر حجمه، وأيضاً: الري، فتكون الحبة من التمر ظاهرٌ فيها الريّ، وفي بعض الأحيان تراها كبيرة بسبب الكيماوي أو نحوه، لكن ما فيها ما يدل على الغذاء والري، فإذا جاءه به -مثلاً- من التمر الفاخر، وقال: هذا من جيد السكري، فإنه يكون قد جاءه بأفضل من الجيد وهو الأجود، فإذا قال المشتري: أنا اشتريت فاشترطت أن يكون من الجيد، فقال له البائع: جئتك بالجيد وزيادة، قال له: لا. ما أريد إلا الجيد، فما الحكم؟ يلزم بأخذه؛ لأنه أعطاه صفته وزيادة إلا إذا وجد الضرر في أخذه، مثلاً: لو أن رجلاً اشترى نوعاً من الطيب من العودة وقال له: أريد الصنف الرديء الذي هو الدرجة الثانية، فقال له: قبلت أعطيك مثلاً مائة علبة منه في نهاية شوال بألف ريال أو بألفين، قال: اتفقنا، ففي نهاية شوال جاءه بجيد أفضل من الرديء قال له: ما أريد؛ لأن هذا أجود من الرديء الذي طلبت وأنا أريد الرديء؛ لأنه هو المرغوب؛ لأنني أبيع بين أناس فقراء لا يعرفون كلمة الجيد ولا يرغبون الجيد وأنا أتضرر، فمع كونه جيداً، لكنه يتضرر، فنقول: إذاً يلزم البائع بإحضار النوع الرديء؛ لأنه وإن كان قد أعطاه الجيد إلا أنه يفوت عليه مقصوده من تصريف البضاعة من محله، فيلزم بإحضار المثل. إذاً ليست المسألة أنه إذا جاء بدل الجيد بأجود منه أنه ملزم بأخذه مطلقاً، وانظروا إلى العدل وكيف أن الفقهاء رحمهم الله يضعون الضوابط لرد الحقوق إلى أصحابها، فما دام أنه يريدها للتصريف والتجارة، ومثل هذا إذا كان أجود لا يتصرف فلا يلزم به، كذلك أيضاً ربما لو قال له: من تمرٍ رديء، والتمر الرديء يريد أن يبيعه علفاً للدواب فجاءه بتمرٍ جيد، فقال له: أنا لا أقبل هذا التمر؛ لأني أريده علفاً للدواب، ولا يمكن أن آخذ شيئاً طيباً يأكله الآدمي وأعطيه علفاً للدواب؛ لأن هذا لا أراه يرضي الله عز وجل، فالآدمي أحق به، فامتنع، كان هذا من حقه، وحينئذٍ يلزم البائع بإحضار الرديء الذي اتفق معه عليه. قال: [ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه] (ولو قبل محله) لو أنه قال له: أريد هذا في نهاية شوال فجاءه به في نهاية رمضان، إذاً البائع لم يقصر مع المشتري، المشتري قال: أريد مائة غسالة أو مائة ثلاجة في نهاية شوال فجاءه بها في رمضان، فهو أحسن إليه، فبدل أن يتأخر عجّل، فقال له: لا أريدها الآن ولا أقبضها إلا في نهاية شوال، قلنا: يا أخي! هذه تجارة قد جاءت معجلة لماذا لا تقبضها؟ قال:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/305)
لا، ليست هناك مصلحة، هذه المائة ثلاجة أريدها للحج والموسم، وأريد أن أبيعها، ولو أنني قبضتها الآن سأحتاج لمستودع أضعها فيه شهراً، وهذا يكلفني ويحملني عبئاً، فمع كون الأجل سبق، ومن المصلحة التعجيل، إلا أن هذا التعجيل يؤدي إلى ضررٍ للمشتري، فنقول: لا يلزم المشتري، وينبغي أن يبقى البائع إلى الأجل المحدد فيدفع له ما اتفقا عليه؛ لأنه يستضر بهذا، وقد يكون البائع في بعض الأحيان يريد أن يتخلص من ضرر وجود السلعة عنده وحينئذٍ يصرفها حتى يأتي بغيرها، ويكون هذا أخف مئونةً عليه؛ ولكنه يثقل على المشتري وحينئذٍ قالوا: إنه لا يلزم المشتري بالأخذ إلا في المحل، أي: في الوقت الذي اتفقا عليه والمكان الذي اتفقا عليه. قال: [ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه]. انظر دقة الفقهاء رحمهم الله، والله تعجب كيف خرجت هذه القيود وهذه الاستثناءات؛ لأن بعض المتون الفقهية عصارة فهم العلماء من خلال مخاصمات الناس ومن خلال فتاويهم ومن خلال الأقضية، وهذا الجهد الموجود في المتون الفقهية حصيلة تعب وعناء لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولذلك تجد الترتيب في الأفكار والدقة في التصريف وحسن الترتيب في التنظير، وكل ذلك من فضل الله عز وجل عليهم، ولا شك أن هذا توفيق من الله عز وجل، وهذا كله يدل على دقة العلماء وحسن احترازهم بالقيود ونحوها من خلال ما عالجوه من مشاكل الناس، فقال رحمه الله: (ولا ضرر في أخذه لزمه) معنى هذا: أن القاضي لا يلزم المشتري بالأخذ حتى ينظر، هل هناك ضرر في قبضه أو لا، فيقول: يا فلان! هل هذه سلعتك؟ قال: نعم، قال: واتفقتما على هذه السلعة؟ قال: نعم، فإذا ثبت عند القاضي أن السلعة هي السلعة انتقل إلى المسألة الثانية: يقول للبائع: ما دعواك؟ قال: دعواي أني أريده أن يقبض السلعة، ما دام أنه اعترف أنها سلعته فليقبضها؛ فيسأل القاضي المشتري: هل أنت اشتريتها واتفقت مع فلان على كذا وكذا؟ وكان الوعد بينكما كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: إذاً معنى ذلك أنه قدم بشهر، قال له: رحمك الله لماذا لم تأخذ؟ قال: إذا أخذتها ففيها ضرر عليّ، فالموسم لم يحضر بعد، ومعنى ذلك أنني سأتكلف حفظها، وإذا كانت دواباً سأتكلف علفها وسأتكلف مئونتها وحراستها والقيام عليها، فأنا لا أريد هذا الضرر، قال: هذا الضرر يقع عليك؟ قال: نعم، فسأل أهل الخبرة، فقالوا: نعم، الموسم لم يحل بعد، فوجد أن كلام المدعى عليه صحيح، قال: ثبت عندي أن المشتري يستضر وعليه تصرف الدعوى بإلزام القبض فوراً لوجود الضرر على المشتري. والقاعدة في الشريعة: لا ضرر ولا ضرار، وما ظلم البائع أبداً؛ لأن الاتفاق أن تسلم البضاعة في عشرين أو ثلاثين من شوال، هذا الاتفاق الذي بينهما وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فإن خرج عن الاتفاق بقي النظر للمشتري، ويقول القاضي للمشتري: أنت بالخيار، إن شئت أن تقبض فاقبض وإن شئت ألا تقبض فلا تقبض، ويقول للبائع: ليس لك أن تلزمه بالقبول.
الشرط الثالث: تحديد قدر المسلم فيه يعلم كيلاً ووزناً وذرعاً قال رحمه الله تعالى: [الثالث: ذِكرُ قدره بكيل أو وزن أو ذرع]. قال رحمه الله: الشرط الثالث: ذكر قدر المسلم فيه بكيل إن كان مكيلاً أو وزنٍ إن كان موزوناً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فبين أن المكيل يكون معلوماً، وأن الموزون يكون معلوماً، وقد تقدم معنا ضوابط العلم في شرط العلم بالمبيع، وبينا كيفية ضبطه من ناحية الجنس ومن ناحية النوع ومن ناحية القدر والصفات المعتبرة التي يندفع بها موجب الغرر، وقد شرحنا هذا في أول شروط البيع. قال: [أو ذرعٍ يُعلم]. إذا قلنا: إن السلم يقع في المذروع أيضاً، فالقماش مذروع -وطاقة القماش فيها -مثلاً- عشرون ياردة، أو مثلاً فيها تسعة عشر متراً- فإذا أراد تاجر قماش أن يشتري بالجملة، فأسلف له مائة طاقة من القماش إلى أجلٍ معلوم واتفقا على ذلك فلابد من تحديد جنسها ونوعها وقدرها والصفات التي فيها، مثلاً: لو بين أنها من نوع السلك مثلاً، هذا النوع السلكي، إذا كان نوعاً واحداً لا إشكال، وإذا كان درجات فيذكر هل هو من الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة، ثم اللون هل يريد لوناً واحداً، أو ألواناً، فإذا كان يريد لوناً واحداً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/306)
فليحدد اللون، وإذا كان يريد ألواناً يحدد الألوان ويحدد عددها فيقول: هي خمسون طاقة: عشرةٌ منها من لون كذا، وعشرة منها من لون كذا، إذاً لابد وأن يكون المسلَم فيه معلوماً منضبطاً بهذا الانضباط الكامل، في الكيل كيلاً -كما ذكرنا- وفي الوزن وزناً وفي العدد عدداً وفي الذرع ذرعاً.
حكم السلم في المكيل وزناً أو العكس قال رحمه الله: [وإن أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً: لم يصح] تقدم معنا أن المكيل لا ينضبط بالوزن، وأن الموزون لا ينضبط بالكيل غالباً، فمن هنا تجدون العلماء في القديم لا يحررون الآصع في الفدية والكفارات بالوزن؛ لأن التمر يختلف وزنه، والحبوب يختلف وزنها، ومن هنا جعلوا الضبط في المكيل بالكيل، وأبقوا السنة كما هي؛ لأن الانضباط فيها بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، وهذا هو الأصل، أن يبقى الكيل كيلاً حتى من باب فقه الفتوى وفقه السنة حتى لا يميت الناس السنة فيأتي زمان لا يعرف فيه الصاع، فلو جاءك شخص عليه فدية في الحج، كم صاعاً يجب عليه؟ نقول: ثلاثة آصع يقسمها بين ستة مساكين، الناس اليوم لو جئنا نقول لأحدهم: عليك ثلاثة آصع، يقول: ما هو الصاع؟ نقول له يا أخي! الذي تخرجه في آخر رمضان تقسمه بين اثنين، يفهم، لكن لو أصبحنا نضبط الفديات بالوزن لجاء زمان لا يعلم الناس فيه ما هو الصاع، حتى ولو جاز ضبطه بالوزن لما كان هذا من فقه الفتوى، حتى لا يأتي زمان لا يعلم الناس ما هو الصاع، وتموت هذه السنة؛ ولذلك ينبغي أن يبقى المكيل مكيلاً والموزون موزوناً؛ لأن الانضباط في الكيل لا يكون بالوزن، والموزون غالباً لا ينضبط بالكيل، ومن هنا تجد العلماء المتقدمين يحررون الفديات والكفارات وصدقة الفطر ونحوها بما وردت به السنة، ويضبطون ذلك بالسنة، إن كانت صاعاً فصاعاً، وإن كانت نصف صاع فنصف صاع فيضبطونها بالمكيل كيلاً ويحددون ذلك، وعلى هذا قال: لا يسلم في المكيل وزناً ولا في الموزون كيلاً، ورخص بعض العلماء في الإسلام في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً، والأولى ما ذكرناه؛ لأننا ذكرنا أن بيع السلم رخصة، والذين يجيزون بيع المكيل وزناً والموزون كيلاً يرون أن بيع السلم ليس برخصة وإنما يرونه بيعاً قائماً برأسه، وجماهير العلماء رحمهم الله وعليه الفتوى في المذاهب الأربعة أن السلم جاء على خلاف الأصل، وهو رخصة واردة ثبت بها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتبر مستثناةً من الأصل؛ لأن فيها نوعًا من الغرر، وكذلك فيها نوع من الجهالة وبناءً على ذلك قالوا: إنها استثنيت لورود النص، وعليه يقدر المكيل كيلاً والموزون وزناً.
الشرط الرابع: تحديد الأجل قال رحمه الله تعالى: [الرابع: ذِكر أجل معلوم له وقع في الثمن]. أن يكون السلم إلى أجلٍ معلوم، فلابد أن يحدد هذا الأجل، فيبين السنة ويبين الشهر ويبين اليوم؛ فهناك سلم لا ينضبط إلا باليوم فيحدد الأجل، وهناك بعض البيوعات يكون التحديد فيها بالساعات، وقد يكون التحديد بأول النهار وآخر النهار، فكل شيء فيه غرر أو فيه ضرر في المواقيت والمواعيد وجب تحديده إن كان مما يلزم الدقة فيه لزم التدقيق، وإن كان مما يتسع فإن الأمر يبقى فيه على السعة، لكن لابد من ذكر الأجل، أما الدليل على اشتراط الأجل فقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه قال: (فليسلف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم)، فلابد وأن يكون السلم إلى أجلٍ معلوم، فلو قال له: أسلمتك هذه المائة ألف لقاء ألف صاعٍ من تمر متى ما جئتني بها: لم يصح، ولم يجز ذلك، بل لابد أن يحدد الأجل الذي يكون إليه السلم. قال: [له وقعٌ في الثمن]. أي: له أثر في الثمن، ولا يصح أن يقول له: أسلمتك هذه الألف ريال لقاء مائة صاع في آخر النهار، فإن آخر النهار أجل، لكنه أجل ليس له وقعٌ في الثمن، والسبب في قولهم: له وقعٌ في الثمن، حتى تتحقق الرخصة التي من أجلها جاء السلم؛ لأنه إذا كان له وقع في الثمن معناه حصلت الرخصة من الاتفاق بتعجيل الثمن فحينئذٍ يرخص المبيع، فصار هذا من رحمةِ الله عز وجل بالأسواق مما يؤدي إلى رخصها والرفق بالمشتري إذا اشترى على هذا الوجه. قال رحمه الله: [فلا يصح حالاً ولا إلى الحصاد والجذاذ]. (لا يصح حالاً) إذا كان مثل ما ذكرنا، لو قال: إلى نهاية اليوم أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/307)
فهذا بيع معجل وأما إذا قال: إلى نهاية الحصاد فإن الحصاد لا ينضبط، هناك حصاد معجل وهناك حصاد وسط وهناك حصاد مؤجل، فمثلاً إذا قال له: إلى حصاد النخل، فالنخل منه ما يجد مبكراً عند بداية استوائه تمراً، ومنه ما يتأخر إلى نشاف العرجون وقد يأخذ العرجون في النشاف ما يقرب من شهر كامل، فلو قال له: إلى الحصاد فيبس الثمر، فإنه يقول: أنا قصدت أول اليُبس، فيقول الآخر: لا. بل قصدت قطعه من على النخل، أو قصدت تمام اليبس، فيقع بينهما التنازع، فكما يقع النزاع الصفات وغير المنضبطة كذلك يقع في الآجال غير المنضبطة. قال رحمه الله: [ولا إلى يوم إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما]. (ولا إلى يومٍ) يقول: في غدٍ مثلاً، إلا في مثل خبزٍ يأخذه يومياً، مثلاً لو قال له: هذه خمسمائة ريال، كل يومٍ يأتيك فلان ويأخذ منك عشرة آصع من تمر كذا، ويكون شخصاً يتصدق على غيره، فيقول لوكيله: سأجعل لك عند بائع التمور الفلاني عشرة آصع لمدة عشرة أيام، هذه المائة صاع أريدك كل يوم تأخذ منها عشرة آصع وتفرقها على مساكين بني فلان، فهذا الوكيل الذي سيقبض، سيقبضها مقسطة. كذلك أيضاً في المكيلات، فالحليب -مثلاً- يباع باللتر، فقال له: يأتيك ابني كل يوم ويأخذ كيلو حليب، لمدة ثلاثين يوماً في الشهر، وهذه مائة وخمسون ريالاً لقاء الحليب، كل يوم تعطيه كذا وكذا، ويقع أيضاً في البقالات، مثلاً يجد شخص أيتاماً أو أرملة يحتاجون إلى طعام يوم، وهذا الطعام من جنس ما ينضبط، فيقول لصاحب البقالة -إذا رخص بمعدود كالخبز- هؤلاء الأيتام سيأتونك كل يوم فأعطهم مثلاً بعشرة ريالات، ثلاثة ريالات مثلاً لخبز من نوع كذا وكذا، وثلاثة ريالات للجبن من نوع كذا وكذا، فيحدد المعدود والموزون والمكيل، فيأتي كل يوم ويأخذ قسطاً، فهذا سلم مقسط في الأيام فحينئذٍ يجوز ولا حرج.
الشرط الخامس: وجود المسلم فيه وقت التسليم قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن يوجد غالباً في محله ومكان الوفاء لا وقت العقد]. يشترط في صحة السلم أن يكون المبيع موجوداً في محله في غالب الظن مثلاً: عندنا التمر، فالتمر يكون رطباً ثم يتمر، والرطب لا يوجد إلا في زمان معين وفي موسمٍ معين، لكن التمر يمكن أن يوجد في زمان الصيف، ويمكن أن يوجد في زمان الشتاء إلا أنه في زماننا -بفضل الله عز وجل- لوجود الثلاجات والبرادات أمكن إيجاد الرطب في زمان غير زمانه، لكن في القديم الرطب غير موجود في حال إكنان النخل، وهو عدم وجود الطلع، وكذلك في بداية الطلع، فالرطب لا يوجد إلا في زمانه ووقته، فلو أنه أسلم له في شيء لا يوجد في زمان فحدده إلى نهاية شوال، وفي نهاية شوال لا يوجد هذا الشيء سواءً كان من جنس الأطعمة أو من جنس الأقمشة أو من جنس المبيعات الأخرى، لم يصح السلم، والسبب في هذا أنه على هذا الوجه يكون قد دخل في الغرر، وأصبح السلم غير غالب على الظن وجوده، فمن هنا لا يصح على هذا الوجه.
الحكم إذا تعذر الوفاء بالمتفق عليه في السلم قال رحمه الله: [فإن تعذر أو بعضه فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض]. إذا كان الشيء يوجد في زمن الأجل، ثم لما جاء زمانه أصابت الناس جائحة -والعياذ بالله- فتلف التمر، وكان قد أسلمه تمراً إلى نهاية شهر معين يوجد فيه تمر، فجاء الشهر والتمر غير موجود، فإذا وقعت هذه الحادثة واختصم البائع والمشتري فقال البائع: إنني قد قبلت منك هذا المبلغ وأنا أظن أنه يوجد، فإذا به لم يوجد، أو جاءت جائحة وأخذت التمور وأتلفتها. فحينئذٍ يخير المشتري بين أمرين: إن شاء طالب البائع أن يأتي له بمثل ما اتفقا عليه فيدبر أمره فيقال للبائع: أنت اتفقت معه، فحينئذٍ تأتي بمثل هذا الشيء، فيذهب ويبحث حتى يجد مثل ما اتفقا عليه؛ لأنه حق من الحقوق، وإن شاء قال له: أصبر عليك هذه السنة، وإن شاء الله السنة القادمة تعطيني ما اتفقنا عليه، وأمهله وأنظره، وهذا هو الأفضل والأكمل له: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فإن هذا من العسر. [فله الصبر أو فسخ الكل أو البعض]. (فله الصبر)، أي: للمشتري (أو فسخ الكل أو البعض) فسخ الكل إذا لم يوجد، (أو البعض) مثلاً: إذا قال له: أسلمتك بمائة صاع، فأعطاه خمسين ولم يستطع أن يوجد الخمسين الباقية فحينئذٍ نقول له: أنت بالخيار إن شئت أمضيت
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/308)
الصفقة في نصف المبلغ المتفق عليه، وتأخذ ما بقي أو تؤجله إلى سنة قادمة، وإن شئت ألغيت الكل فأنت بالخيار؛ لأنه في بعض الأحيان يتضرر إذا قلنا له: أمضِ البعض، فحينئذٍ نترك الخيار له، فهذا الخيار يختلف باختلاف الحال، ونظراً لاختلاف الحال والصفقة، والعقد ليس على هذا الوجه، فهو بالخيار بين أن يمضي ويعذر أخاه ويصبر عليه وبين أن يلغي العقد كليةً. قال رحمه الله: [ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه]. إذا كان الثمن ليس بموجود ويوجد عوض عنه فإنه يأخذ العوض عنه، حتى ولو كان بالصرف، لكن بشرط أن يكون حالاً، كأن يكون أسلم له بريالات ولم يتيسر إلا وجود الدولارات عند فساد العقد والرد، فحينئذٍ يردها دولارات فيصرفها في ساعتها مثلاً بمثله.
الأسئلة ...... حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه السؤال: ما الحكم إذا باع المشتري المسلَم فيه إلى رجل آخر قبل أن يقبضه؟ الجواب: إذا اتفق البائع والمشتري على مسلَمٍ فيه لم يجز للمشتري أن يتصرف في الشيء المسلم فيه إلا بعد القبض، فلا يجوز له بيعه ولا يجوز له هبته ولا يجوز له أن يرهنه ولا يجوز له أن يحيل عليه، إلا بعد قبضه، مثال ذلك: لو أنك اشتريت -مثلاً- مائة صندوق من التمر السكري وبعد أن اشتريت هذه المائة صندوق بعشرة آلاف ريال جاءك رجل وقال: هذه الصناديق التي اشتريتها من فلان أنا أشتريها منك بعشرين، لم يصح حتى تقبضه، وبعد أن تقبضه يجوز لك البيع، أما قبل القبض فإنه لا يجوز، وهو من بيع الإنسان ما ليس عنده، وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تبع ما ليس عندك)، ولأن هذا الشيء المسلم فيه لم يؤل إلى ضمانك، وقد بينا أنه لا يصح بيع الطعام قبل ضمانه وقبضه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، والله تعالى أعلم.
الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم السؤال: ما الفرق بين عقد الاستصناع وعقد السلم؟ عقد الاستصناع أكثر من تكلم عليه وفصل فيه فقهاء الحنفية رحمهم الله، والفرق بينه وبين عقد السلم أن عقد الاستصناع يقارب الإجارة كثيراً، ويكون في بعض الأحيان الخام من البائع والعمل من البائع، ويقع مثلاً في صنع الخفاف، يقول له مثلاً: أريد مائة خف على أن تصنعها لي، قالوا: إنه يجوز أن يكون هذا من عقد الاستصناع، وهو أقرب إلى الإجارة منه إلى السلم، ولكنه دخل في بيع السلم وقارب بيع السلم لانصبابه على الذوات، وقارب الإجارة لانضباطه على المنفعة، فهو يجمع بين المنفعة وبين البيع للذات، فهو من ناحية الطلب يقول: أريد أن تصنع لي -مثلاً- مائة خف، فهذا إجارة، ومن جهة كون الخام من البائع ويلتزم به فهو أشبه بعقد السلم، ومن هنا شرك بين البيع وبين الإجارة، فأفردوه بقولهم: عقد الاستصناع، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شرح زاد المستقنع - باب بيع السلم [2] عقد السلم من العقود المؤجلة التي رخَّص الشرع فيها على خلاف الأصل، ولهذا اشترط له شروط خاصة، منها: أن يقبض الثمن وأن يكون معلوماً، وألا يكون السلم في معين، وتحديد مكان الوفاء إذا لم يمكن الوفاء في مكان العقد، كل هذا تقيداً بمحل الرخصة في عقد السلم، ودفعاً للنزاع، ولهذا لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الحوالة به أو عليه لنفس العلة. تابع شروط عقد السلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: ...... الشرط السادس: قبض الثمن تاماً قبل التفرق قال المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: أن يقبض الثمن تاماً معلوما قدره ووصفه قبل التفرق]. فلا زال المصنف رحمه الله يبين الشروط المعتبرة لصحة السلم، ومن هذه الشروط الشرط السادس: وهو قبض الثمن، فيشترط في صحة السلم، إذا اشترى التاجر الصفقة، وتم العقد بينه وبين من يبيعه تلك الصفقة ووقعت سلماً فإنه يشترط أن يعجل له الثمن، أما الدليل على ذلك فهو ما ثبت في قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (فليسلف) بمعنى فليعطِ. وعلى هذا استنبط العلماء رحمهم الله من هذا الحديث أنه يشترط في صحة السلم أن يقدم الثمن، وأن يعطيه في مجلس العقد، وهناك صورتان للإعطاء:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/309)
الصورة الأولى: أن يكون الإعطاء عقب الإيجاب والقبول مباشرةً، والصورة الثانية: أن يتأخر الإعطاء عن العقد، أعني: عن الإيجاب والقبول، مثال الصورة الأولى: قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء سيارتين إلى نهاية رمضان من نوع كذا وصنف كذا، قال: قبلت، فأعطاه بمجرد القبول المائة ألف، فوقع الإسلام والإعطاء عقب العقد مباشرةً، أو يقول له أيضاً في هذه الصورة: هذه عشرة آلاف أسلمتكها لقاء مائة صندوق مثلاً من التمر البرحي أو من تمر العجوة أو من التمر السكري إلى نهاية رمضان، قال: قبلت وقبض، فحينئذٍ لا إشكال إذا وقع القبض والإسلام والإعطاء موافقاً للعقد ومصاحباً له. الصورة الثانية: أن يتراخى عن الإيجاب والقبول ويتحقق القبض قبل افتراقهما عن مجلس السلم كأن يقول التاجر للتاجر: أعطيك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من تمر العجوة أو مائة صاع من التمر البرحي أو الشعير، فقال له: قبلت، فيتأخر في إعطائه ويحصل الإعطاء قبل أن يفترقا، فالإيجاب والقبول تم في الساعة الثانية، والإعطاء تم في الساعة الثالثة، لكنهما لم يفترقا إلا بعد أن أعطاه، صح ذلك وجاز. إذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يقع الإعطاء مصاحباً للعقد أو بعد العقد مباشرةً وهذه بالإجماع جائزة، والصورة الثانية: أن يتراخى عن الإيجاب والقبول ويتأخر عنه ولكن لا يفترقان إلا بالقبض، وهي صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح العقد ما دام أنهما لم يفترقا إلا بعد وجود القبض فيما يشترط له القبض. قال: [أن يقبض الثمن تاماً معلوما قدره]. ومفهوم هذا: أنه لو قال له: أسلفتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صاعٍ من التمر السكري، أو من التمر البرحي أو من تمر العجوة قال: قبلت، ولم يعطه العشرة آلاف، قال: أعطيكها غداً، أو أعطيكها الأسبوع القادم، أو أعطيكها بعد ثلاثة أيام: لم يصح؛ لأنه يصير من باب الدين بالدين، فلا يجوز أن يفترقا إلا بعد أن يعطيه الثمن، سواءً أعطاه إياه بعد الإيجاب والقبول مباشرةً أو أعطاه إياه متراخياً عنه قبل أن يفترقا عن العقد. قال رحمه الله: (يقبض الثمن)، الثمن يشترط فيه ما يشترط في الأثمان في البيوع، وأن يكون القبض تاماً، فإذا قال: عشرة آلاف، يعطيه العشرة آلاف كاملة، ولا يفترقان حتى يقبض منه العشرة آلاف تامة، وكذلك أيضاً أن يكون معلوماً، فإذا قال له: بعشرة آلاف، يبين نوعها؛ لأنه ربما مثلاً قال له: بعشرة آلاف، فيحتمل أن تكون دولارات وريالات إذا كان هناك أكثر من نوع من النقد، فلابد أن يبين نوع النقد وأن يبين جنسه وقدره. وعلى هذا: لو قال له أعطيك ريالات في مقابل مائة صندوق من العجوة أو أعطيك دنانير أو أعطيك دراهم لم يصح؛ لأنه لم يبين قدرها، فلابد من بيان القدر فيما ينضبط قدره، وكذلك يبين نوعها إذا كان هناك نوعان من النقد، كأن يذكر الجنيهات فيقول له: أعطيك مائة جنيه لقاء مائة صاع، أو ألف صاع من التمر السكري، فيحتمل أن تكون جنيهات سعودية وقيمتها غالية، ويحتمل أن تكون غير سعودية وقيمتها رخيصة، فيكون هناك جهالة، فلابد وأن يحدد نوعها وقدرها من حيث العدد كما ذكرنا في شرط العلم بالثمن والمثمن، وبينا دليل ذلك من أن الشرع لا يصحح بيع المجهول؛ لأنه يفضي إلى التنازع والتلاعب بحقوق الناس، ومن هنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر لاشتماله على الجهالة المفضية إلى التنازع بين الطرفين. قال: [ووصفه قبل التفرق]. يصف هذا الشيء الذي أسلم فيه وصفاً منضبطاً، وقد بينا هذا كله في شرط العلم به؛ لأن السلم بيع، ويشترط فيه ما يشترط في البيع وزيادة، فللسلم شروط تسمى: الشروط العامة، وهي شروط البيع، وشروطٌ خاصة بالسلم، وهي التي بيناها في المجلس الماضي، ولا زال المصنف يذكر بعضها، فهنا: مسألة أن يكون الثمن معلوماً، فهذا من شروط البيع ويعتبر من الشروط العامة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/310)
حكم السلم إذا تم قبض بعض الثمن قال رحمه الله: [وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه]. هذا الشرط يتركب من أمرين، الأمر الأول: أن يكون الثمن معلوماً، وحدود العلم كما ذكرنا أن يكون بالجنس والنوع والقدر، فلا يكون مجهولاً جهالةً مفضية إلى النزاع، فلو قال له: أسلمتك مائة ألف لقاء مائة صندوق، قال: قبلت، وقد قدمنا في البيوع أنه إذا حدد الثمن على هذا الوجه ما الحكم؟ فيه تفصيل: إن كان ليس هناك إلا نقدٌ واحد كالريالات، فنعرف أن قوله: خذ مائة ألف أو أسلمتك مائة ألف أنه منصب إلى الريالات فيصح، لكن لو كان هناك ثلاث عملات، الريالات والدولارات والجنيهات -مثلاً- لم يصح، فلابد أولاً من العلم بالثمن في جنسه ونوعه وقدره على ما ذكرناه، ثانياً: أن يحصل القبض للثمن حتى لا يكون من باب الدين بالدين؛ لأنهما متى افترقا عن مجلس العقد بدون أن يحصل القبض فقد باع الثمن ديناً بمثمنٍ ديناً، وقد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)، وبينا أنه على ظاهر هذا الحديث لا يجوز بيع الدين بالدين. وعلى هذا إذا قررت أنه يشترط في السلم القبض فتقول للتاجر: إذا عقدت صفقة سلم فيجب أن تعجل الثمن، ولا يجوز أن تعقد الصفقة سلماً في سيارات أو أطعمة أو أكسية أو نحو ذلك إلا إذا قدمت رأس المال ودفعته قبل أن تفارق مجلس العقد، فعندنا حالات: إما أن يدفع البعض ويؤخر البعض، وإما أن يؤخر الكل، أو يعجل الكل، فإذا عجل الكل صحّ، وإذا أخر الكل لم يصح ويلغى العقد، وإذا أخر البعض وقدم البعض ففيه تفصيل، مثال الأول -وهو أن يعجل الكل- قال له: خذ هذه عشرة آلاف، فحينئذٍ لا إشكال، حيث تم الشرط الذي اعتبره الشرع لصحة العقد، وإما أن يؤخر ويقول: أعطيك غداً أو أعطيك بعد أسبوع، أو أعطيك شيكاً على أنه سيصرف فيفترقان قبل القبض فلا يصح، بل لابد وأن يكون الثمن حاضراً في مجلس العقد ويسلمه إياه، ولو كان المبلغ كبيراً فإنه يمكن أن يذهب معه إلى البنك ويعطيه إياه، ولو كان بالنقلة. وعلى هذا لابد من القبض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط، وقال: (من أسلف فليسلف)، ولأن بيع السلم خارجٌ عن الأصل، وما خرج عن الأصل يقيد الحكم بجوازه بمثل الصورة التي وردت بالنص، والذي ورد في النص الإعطاء والإسلام الفوري، وذلك في رأس المال فلا يجوز مؤخراً، ويكون أيضاً ذلك الشيء الذي أسلم فيه معلوماً، فلو قال له: خذ هذه الصرة من الذهب أو خذ هذه الصرة من الفضة وما فيها لقاء مائة صندوق من العجوة أو مائة صاع من بر، أو لقاء سيارةٍ إلى نهاية شعبان أو نحو ذلك لم يصح؛ لأنه لا يدرك كم بداخلها، فلا يصح الإسلام بمجهول سواءً كان من الذهب أو الفضة ولو عُلِم نوعه ذهباً أو فضة إذا لم يعلم قدر ذلك الثمن المسلم. فتبين أنه إذا عجل الثمن كله صح، وإذا أجله كله لم يصح، لكن لو قال له: أسلفتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق من العجوة، فأعطاه خمسين ألفاً معجلة، وقال له: الخمسين الألف الباقية أعطيكها غداً، أو بعد أسبوع أو بعد شهر، فقدم البعض وأخر البعض فما الحكم؟ للعلماء وجهان: فقال بعض العلماء: يبطل السلم؛ لأن العقد واحد والصحة لا تجزأ، وقال بعضهم: يصح في الخمسين المعجلة ويبطل في الخمسين المؤجلة؛ لأن الأصل إعمال العقود ما أمكن، فلما كان التأخير في بعض الصفقة فإنه يقيد الحكم بالبطلان بالمؤجل، ويحكم بالصحة على المعجل سواءٌ كان ذلك أنصافاً أو أثلاثاً أو أرباعاً، فأنصافاً كأن يقول له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء ألف صندوق -مثلاً- من تمر قال: قبلت، فأعطاه خمسين ألفاً وأخر عنه الخمسين الباقية، فيصح في النصف ويبطل في النصف، وأما أرباعاً فكأن يقول له: أسلمتك مائة ألف لقاء سيارة من نوع كذا وكذا إلى نهاية شعبان، وهذه خمسة وعشرون ألفاً وأعطيك الخمسة والسبعين الباقية بعد يوم أو بعد شهر، فحينئذٍ إذا كانت السيارات أربع سيارات ولكل سيارة خمسة وعشرون ألفاً حكمنا بصحة السلم في الربع وهو الخمسة والعشرون التي دفعها، وألغينا صفقة الخمسة والسبعين الباقية، متى ما فصل لكل سيارةٍ قيمتها، لكن لو كانت السيارة واحدة، وقال له أسلمتك المائة ألف في سيارة من نوع كذا وكذا، أو كانت الصفقة على سيارتين وأعطاه خمسة وعشرين وكل سيارة لها خمسون ألفاً، فحينئذٍ لا تقبل الصفقة التجزئة فيبطل في الكل.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/311)
إذاً إذا جزأ وقال له: أسلمتك مائة ألفٍ لقاء مائة صاعٍ أو مائة صندوق وأمكنت التجزئة صححنا في الأجزاء، فإن كان قد دفع له خمسين ألفاً صححنا في نصف الصفقة وأبطلنا النصف الباقي، وإن كانت الصفقة لا تقبل التجزئة كما لو اشترى سيارة وأعطاه خمسة وعشرين ألفاً من قيمتها أو خمسين ألفاً من قيمتها أو خمسة وسبعين ألفاً من قيمتها أو حتى تسعين ألفاً من قيمتها فهي لا تقبل التجزئة ويبطل العقد، إذاً لابد وأن يكون معجلاً، فلو قدم البعض وأخر البعض وأمكنت التجزئة وتصحيح جزء العقد صح، وإن لم يمكن لم يصح.
حكم السلم في أجناس وآجال مختلفة أو متوافقة قال رحمه الله: [وإن أسلم في جنس إلى أجلين أو عكسه: صح إن بيَّن كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجل]. (إن أسلم في جنس إلى أجلين) بين رحمه الله صحة السلم والشروط المعتبرة له، فإذا كان مالاً في جنس واحد فلا إشكال، لكن لو أن المال في جنسين، أو كان لكل جنسٍ مثلاً حظه وقيمته، أو أعطاه في ثلاثة أجناس مختلفة الأجل، أو أعطاه في أكثر من جنس متفقة الأجل، هذه كلها صور، فتارةً يقول له: هذه مائة ألف أعطيكها، منها خمسون ألفاً في سيارة من نوع كذا، وخمسون ألفاً في تمرٍ من نوع كذا، فحينئذٍ أسلم بمالٍ واحد في جنسين مختلفين، وهذا كثيراً ما يقع من التجّار حينما يشترون البضائع، مثلاً: إذا جئنا إلى تجار السيارات، يأتي التاجر في بعض الأحيان فيشتري من نوعٍ واحد، ويقول: هذه مائة ألف لقاء عشر سيارات أو خمس سيارات من نوع كذا، فحينئذٍ يكون المال واحداً والجنس واحداً ولكن الأنواع مختلفة، فإذا كان النوع مختلفاً وحدد لكل نوعٍ قيمته، فتارةً يكون الأجل واحداً، وتارةً يكون الأجل مختلفاً فيقول: أريد خمس سيارات، السيارة الأولى في شهر محرم، والثانية في صفر، والثالثة في ربيع الأول، والرابعة في ربيع الثاني، والخامسة في جماد، فأسلم في نوعٍ واحد وفي أنواع متعددة، ولكن الآجال أيضاً متعددة، وتارةً يقول: خمس سيارات من نوع كذا ونوع كذا ونوع كذا ولكن إلى نهاية محرم، فالأجل واحد، فإما أن يسلم في أنواعٍ متعددة بآجال متعددة لكل سيارةٍ قيمتها فيصح، وله أن يسلم في أنواع بأجل واحد، فيستوي أن يكون في أنواع إلى أجل واحد أو آجال. والشرط يتوقف على صحة التجزئة، فإن أعطى كل نوعٍ حظه وحقه فلا إشكال، وهكذا إذا حدد الأجل لكل واحدٍ صح. قال رحمه الله: [صح إن بيَّن كل جنسٍ وثمنه وقسط كل أجل]. إن بيَّن كل نوع أو كل جنس وثمنه وأجله صح مثلما ذكرنا، وفي بيع الطعام يقول له: هذه عشرة آلاف ريال، خمسة آلاف منها لقاء مائة صاع من التمر في نهاية رمضان هذا، وخمسة آلاف لقاء مائة صاع من الشعير إلى ذي القعدة فيصح؛ لأنه بين لكل أجل قيمته، وحينئذٍ لا إشكال سواء اتحد الجنس واختلف الأجل أو اختلف الجنس واتحد الأجل، فكله جائز ما دام أنه قد جعل لكل مبيع حظه وحقه، فقد صححنا السلم إذا قال له: هذه مائة ألف لقاء سيارة إلى نهاية محرم، فلو أنه قال له: وهذه خمسمائة ألف في خمس سيارات، السيارة الأولى في محرم، والثانية في صفر، والثالثة في ربيع الأول، والرابعة في ربيع الثاني، والخامسة في جماد، فتأخذ نفس الحكم؛ لأن المسألة مسألة تفصيل، يعني سواء اتفق النوع واختلف الأجل، أو اختلف النوع واتحد الأجل، أو اختلف النوع والأجل، أو اتحد النوع والأجل، فاتحد النوع والأجل مثل أن يقول له: هذه عشرة آلاف ريال في مائة صاع من التمر إلى نهاية محرم، فاتحد النوع واتحد الأجل، وهذه واضحة. وأما مثال اختلاف الجنس مع اتحاد الأجل، تقول مثلاً: أريد تمراً وبراً وشعيراً وملحاً، إلى نهاية رمضان، فاختلفت الأجناس ولكن الأجل واحد، فإذا اختلفت الأجناس الأربعة أعط لكل صنف حظه وحقه، حتى يُعلم المائة صاع من البر كم لها وكذا التمر والشعير والملح، فاختلفت الأجناس واتحد الأجل. وأما مثال اختلاف الأجل مع اتحاد الجنس: لو وجد تاجر يبيع التمر السكري بالجملة، وأنت تريد أن تشتري منه من أجل أن تبيع بالتجزئة كما في البقالات ونحوها، فتقول له: يا أخي! أنا عندي موسمان، الموسم الأول: رمضان، والموسم الثاني: في ذي الحجة، موسم الحج، فأعطيك هذه المائة ألف في التمر، فأشتري منك بخمسين ألفاً مائة صاع أو مائة صندوق إلى نهاية شعبان، هذا الأجل الأول، والخمسين الألف الثانية إلى نهاية ذي القعدة أي: إلى موسم الحج، فعندنا الجنس واحد، والأجل مختلف. الصورة الرابعة: اختلف الجنس واختلف الأجل مثاله: كتمرٍ وبرٍ، فتقول: أسلمك في مائة صاع من التمر، ومائة صاع من البر أو من الملح، على أن تعطيني مائة صاع تمر في رمضان ومائة صاع بر أو ملح في ذي القعدة، فحينئذٍ اختلف الجنس واختلف الأجل، فهذه الصور الأربع: أن يتحد الجنس ويختلف الأجل، وأن يختلف الجنس ويتحد الأجل، أو يتحدا أو يختلفا، فإذا جزأ لكل واحد منهما حظه وحقه فلا إشكال.
الشرط السابع: أن يكون السلم في الذمة لا في معين قال رحمه الله تعالى: [السابع: أن يسلم في الذمة فلا يصح في عين]. يقول رحمه الله: الشرط السابع من شروط السلم، والسلف (أن يسلم في الذمة)، ولذلك قالوا: لا يصح أن يسلم في المعين، وتقدم معنى بيان العين والذمة، فلو قال له: هذه مائة ألف لقاء هاتين السيارتين إلى نهاية رمضان: لم يصح؛ لأن بيع هذه السيارة بيع عين وليس بيع ذمة وإذا قال له: هذه مائة ألف لقاء هذه المائة كتاب إلى نهاية رمضان: لم يصح، والحل أن يقول: خذ هذه المائة الألف لقاء هذه الكتب وسآتي وآخذها إن شاء الله منك إلى نهاية رمضان أو نهاية شعبان، فيحدد الأجل للقبض، أما أن يجعله سلماً فلا، والسبب في ذلك: أنه لو باعه المعين سلماً لم يأمن أن يتلف المعين، وحينئذٍ قالوا: لا يصح السلم بالعين إنما يصح وصفاً في الذمة فيقول له: أريد مائة كتاب من نوع كذا وكذا ويصفها وصفاً منضبطاً كما تقدم معنا في المعدودات إن كان من المعدودات، والكيل إن كان من المكيلات، وبالوزن إن كان من الموزونات، وبالذرع إن كان من المذروعات على القول بصحته في المعدودات والمذروعات.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/312)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:13 م]ـ
أحكام متعلقة بالسلم ...... محل الوفاء في عقد السلم قال رحمه الله: [ويجب الوفاء موضع العقد]. بعد أن بين رحمه الله المسائل المتعلقة بالشروط شرع في بيان ما يترتب على قضية العين والذمة، إذا كان السلم ينبني على بيع الموصوف في الذمة بالثمن المعجل فمعنى ذلك أنه سيكون من بيع الدين (بيع الآجال) وإذا كان من بيوع الآجال فترد مشكلة مترتبة على الحكم بجواز بيع الأجل وهي قضية القبض، فإذا اتفقت معك على صفقة وكان البيع بيع السلم وحل الأجل، فهل يجب علي أنا البائع أن أوصل المبيع إليك أم يجب عليك أن تحضر إلي لقبض المسلم فيه، أم أن الأمر يتوقف على مكان العقد ومحله؟ الجواب: أنه يجب الوفاء في مكان العقد، وقال: (الوفاء)؛ لأن بيع السلم يقوم على شيء من الدين، كأنني التزمت في ذمتي أن أعطيك التمر أو أعطيك السيارات المبيعة فلما التزمت هذا لقاء هذا المبلغ المعين لزمني الوفاء بهذا العقد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وانظر كيف أن العلماء يتأدبون مع الشرع، فيختارون في المتون الفقهية المصطلحات القريبة من الشرع، فالعلماء رحمهم الله في فقههم -خاصةً فقه العلماء الذي يسير على منهج السلف- يتأدبون حتى في ألفاظهم، قالوا: يجب الوفاء؛ لأنه إذا صار العقد بالإيجاب والقبول ترتب عليه الوفاء، فالوفاء ينبغي أن يكون في مكان العقد، فإذا اختصم التاجران، فإن كانا من مدينةٍ واحدة فغالباً لا يقع إشكال، أي: إذا كنتما قد اتفقتما في مكة أو في المدينة أو في جدة فحينئذٍ الغالب ألا يقع إشكال، لكن يقع الإشكال في المبيعات التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حملها ويكون المتعاقدان من موضعين مختلفين، فيقول التاجر الذي اشترى: تحضر لي السلعة إلى بلدي، ويقول البائع: إنما التزمت إذا حل الأجل أن أعطيك، ومعنى ذلك أنك تحضر عندي وتأخذ السلعة، فحينئذٍ يقع التنازع بينهما، مثلاً: لو أعطيت رجلاً عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان التبايع مثلاً في المدينة ومزرعته في المدينة وأنت من مكة، فلو وجب عليه الوفاء بحيث إنه يجب عليه أن يوفر لك السلعة فمعناه: أنه سيستأجر من يحملها من المدينة إلى مكة، ويتحمل أعباء هذه الإجارة، فقال: (يجب الوفاء في موضع العقد)، يعني: أنه ينظر إلى المكان الذي وقع فيه العقد إن كان في المدينة، فالوفاء في المدينة، وإن كان في مكة فالوفاء في مكة، وإن كان في القصيم فالوفاء في القصيم، وإن كان في الرياض فالوفاء في الرياض، فيجب عليه أن يفي في المكان الذي تمت فيه الصفقة، أي: الإيجاب والقبول. فإذا كان هذا واجباً في مكان العقد، فهل يشترط أن يكتباه في نفس العقد؟ الجواب: سواء كتبا أو لم يكتبا فإنهما يلزمان بمكان العقد، وهذا أصل في البيوع، إذا وقع البيع بين اثنين، فإن الوفاء يكون في مكان العقد؛ لو أنهما تعاقدا في طرف المدينة الشرقي وأحدهما -مثلاً- من جنوب المدينة والثاني من شمالها، فنقول: يكون الوفاء في مكان العقد الذي هو شرقها.
حكم اشتراط الوفاء في غير محل السلم قال رحمه الله: [ويصح شرطه في غيره]. أي: يصح ويجوز لكلا المتعاقدين إذا تعاقدا بالسلم أن يتفقا على أن التسليم يكون في غير مكان العقد، مثلاً الآن: لو أن رجلاً اشترى من رجلٍ مزارعٍ فقال له: أسلمتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان هذا الاتفاق -مثلاً- في مكة، وكلاهما من غير مكة، فصاحب المزرعة مزرعته في القصيم، -السكري لا يوجد إلا في القصيم غالباً، ولذلك نجعل التمثيل بالسكري؛ لأنه معروف ومشهور، ولا نمثل بالعدوي والبرحي، وإن كان البرحي مشهورا ًأيضاً- فقال: السكري موجود في مزرعتي، يعني: إذا حان الحصاد فإني غالباً أهيئه في مزرعتي في القصيم، فألزمك أو أشترط عليك أن تأتي وتأخذه مني قال له: قبلت، فيلزم بالذهاب وأخذ الصفقة من مكانها الذي اتفقا عليه، أو قال له -مثلاً-: هذه عشرة آلاف ريال لقاء سيارة من نوع كذا وكذا قال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن أعطيك السيارة في جدة قال: قبلت، حينئذٍ الاتفاق وقع في مكة سواءً في التمر أو في السيارة، لكنهما اتفقا بالتراضي من الطرفين أن يكون الوفاء في موضع غير موضع العقد فيصح ذلك، وكأن المصنف يريد أن يقرر لك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/313)
أن وجوب الوفاء في مكان العقد محله ما لم يتفقا على غيره، فإن اتفقا على غيره جاز، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فهما قد اشترطا أن يكون ذلك في موضعٍ غير موضع العقد برضاهما واختيارهما، وعلى هذا: يلزم الطرفان بما اتفقا عليه وحصل الشرط عليه.
محل الوفاء إذا كان العقد قد تم في مكان لا يضبط قال رحمه الله: [وإن عقدا ببرٍ أو بحرٍ: شرطاه]. هذا من دقة العلماء، إذا كنت تقرر أن العقد إذا وقع في مكانٍ وجب الوفاء فيه، فافترض أن العقد وقع في مكان لا يمكن ضبطه، كالبر: الصحراء التي ليست فيها معالم، فلا يمكن ضبط المكان، لكن في الصحراء لو أنهما اتفقا في موضعٍ معين ومعلمٍ معين مثل القرى التي تكون في الطريق، أو اتفقا في استراحة معينة في مكانٍ معين، وجب الوفاء في مكان الاتفاق، ما لم يتفقا على غيره، هذا إذا كان ببر، ومثل البر أيضاً: البحر، فلو كان في سفينة أو مركب وقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صاع من البر أو من التمر، قال: قبلت، وكان الاتفاق في البحر، فإنه في هذه الحالة لا بد وأن يحددا مكاناً غير المكان الذي اتفقا فيه؛ لأن المكان الذي اتفقا فيه لا ينضبط، وهكذا لو كان في الجو كما في زماننا، فلو أن تاجرين كانا في طائرة، وقال أحدهما للآخر: هذه عشرة آلاف ريال لقاء -مثلاً- نوع من القماش أو من المزروعات، أو نوع من الطعام من المكيلات أو من الموزونات، وتمت صفقة السلم كاملة وهما في الجو فهذا المكان لا ينضبط، إذاً لابد في العقد أن يتفقا على موضع للوفاء، فيقول له: نحن الآن مسافران فيكون وفاؤنا في المدينة، أو وفاؤنا في مكة أو في موضع كذا، فيحددان المكان ويتفقان عليه.
حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه قال رحمه الله: [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] إذا تمت هذه الشروط المعتبرة للسلم، فاعلم رحمك الله أنه يترتب عليها أحكام، ومن أحكام السلم أنه لا يجوز لمن عَقَد عَقْد السلم أن يبيع الشيء الذي اتفق عليه وأسلم من أجله قبل أن يقبضه، فلو أن رجلاً اشترى سيارةً سلماً بمائة ألف من الوكالة، ثم قال له رجل: هذه السيارة أرغبها هل تبيعها لي؟ فنقول: لا يجوز أن يبيعها قبل قبضها، وهكذا لو اشترى تمراً أو براً أو غير ذلك من المبيعات، لكن ما الدليل على أنه لا يصح أن يبيع؟ نقول: إن كان السلم وقع على طعام فإننا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أرى غير الطعام كالطعام)، وإن كان غير طعام، وقلت: النص خاص بالطعام، نقول: إنه قد ربح ما لم يضمن، فإذا اشتريت سيارةً من وكالة بعشرة آلاف إلى نهاية رمضان هذه السنة، وبعتها بأحد عشر ألفاً أو بعتها باثني عشر ألفاً أو بعتها بثلاثة عشر ألفاً، فمعنى ذلك أنك قد بعت شيئاً وربحت فيه قبل أن يكون في ضمانك، وهذا بيناه في مسألة: ربح ما لم يضمن، فتعلمون أن السيارة الآن لو تلفت فإنها تتلف على ضمان البائع الذي هو الوكالة، فلا يصح في الشريعة أن يتحمل غيرك مسئولية السلعة وأنت تأخذ الربح والنتاج، فانظروا إلى عدل الله عز وجل بين عباده، فلا يصح أن تتحمل الوكالة مسئولية هذه السيارة وحفظها وصيانتها والقيام عليها وتكون مسئولةً عنها، وأنت الذي تربح وتغنم، هذا شيء من الأنانية، ولذلك لا تجيز الشريعة أن تأخذ ربح شيء لم تضمنه، لكن تتحمل مسئوليته وضمانه وتأخذ ربحه ونتاجه، وعلى هذا: لا يصح أن تبيع السيارة قبل قبضها، ولا يصح أيضاً أن تبيع الطعام قبل قبضه، ولا يصح أن تبيع القماش إذا أسلمت فيه قبل قبضه، وهكذا الحديد والنحاس والرصاص وغيرها من سائر المبيعات لابد أن تقبض أولاً، ثم بعد قبضه بع وتصرف، ولأنه لا ينتقل إلى ملكيتك إلا بالقبض فاشترط القبض لصحة التصرف فيه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/314)
حكم هبة المسلم فيه قبل قبضه قال: [ولا هبته]. إذا كان لا يجوز لي أن أبيع حتى لا يحصل الربح قبل الضمان، فافرض أن شخصاً قال لك: هذا المسلم فيه أريد أن أعطيه بدون عوض، كأن أهبه لأخي، فأقول لأخي: يا فلان! هذه السيارة التي اشتريتها من الوكالة هبةٌ مني لك، لم يصح؛ لأن الهبة لا تصح شرعاً إلا بعد الملكية، والملكية تتوقف على القبض، ولا يصح التصرف في شيء بهبته إلا بعد قبضه وملكه، ومن هنا: هبة الأعضاء والتبرع بالأعضاء على القول بعدم جوازها، بني هذا القول على أن الإنسان لا يملك أعضاءه؛ لأن الهبة شرطها: أن تكون مالكاً للشيء الذي تهبه، والإنسان ليس مالكاً لجسده، فهو ممكن أن يهب ماله، وممكن أن يهب سيارته، لكن يده ليست ملكاً له، وكذلك كليته وأعضاؤه، وقرنية العين ونحو ذلك لا يملكها، فقالوا: يشترط في الهبة الملكية، ومن هنا قالوا: صحيح أنه قد تعاقد، ولكنه لم يصل إلى ملكيته الحقيقية التي تبيح له التصرف فيه، فاشترط القبض لهبته، فلا يصح أن يهب السيارة ولا أن يهب الطعام ولا أن يهب القماش ولا أن يهب أي شيءٍ وقع عليه السلم إلا بعد قبضه.
حكم الحوالة بالمسلم فيه أو عليه قبل قبضه قال: [ولا الحوالة به ولا عليه]. أي: أن يحيل بهذا الشيء الذي وقع عليه السلم، فلا يصح أن يحيل به، ولا أن يحيل عليه، لا يصح في كلتا الحالتين، فحينما تدفع مائة ألف لقاء سيارة، فإن المائة ألف هذه لا يصح للوكالة التي اتفقت معها على أن تعطيك سيارة أن تحيلك إلى مكانٍ آخر؛ لأنه لا يصح للشخص الذي تعاقدت معه سلماً أن يحيلك إلى شخصٍ آخر، وأنت أيضاً لا يصح أن تحيل غيرك إلى ذلك الشيء الذي يقع السلم عليه؛ لأن الحوالة تكون على دين مستقر، والسلم لا يستقر ديناً إلا بعد حلول أجله وقبضه، فأنت إذا دفعت مائة ألف لقاء سيارة وجئت تحيل شخصاً له عليك مائة ألف وقلت له: خذ هذا الدين الذي لي على الوكالة، لا يصح إذ الوكالة ليست بمدينة؛ لأن الأجل لم يحل أصلاً، وهذا بيع وصفقة خارجة عن الديون، والحوالة شرطها أن تكون على ديون كما سيأتي (من أحيل على مليء فليتبع) كما قال صلى الله عليه وسلم، فالحوالة تكون في الديون المستقرة، وأنت تحيل على شيء لا يستقر ديناً، وصحيح أن الصفقة أوجبته، لكنه لم يستقر ديناً، فلا يصح للوكالة أن تحيلك على وكالة ثانية، ولا يصح لتاجر الحبوب أن يحيلك على تاجر آخر، ولا يصح لتاجر التمر أن يحيلك على تاجر آخر، كذلك أيضاً لا يصح لك أنت أيضاً أن تحيل على هذا التاجر، فكما أنه لا يصح لهذا أن يحيل على هذا، فكذلك الطرف الثاني لا يصح أن يحيل غيره عليه. قال: [ولا أخذ عوضه]. أي: العوض عن هذا المسلم فيه، مثلاً: رجل تعاقدت معه على مائة صندوق من التمر في نهاية رمضان، فلما حضر الأجل قال لك: والله ما عندي مائة صندوق من التمر السكري الذي اتفقنا عليه، فأريد أن أعطيك عوضاً عنها تمراً برحياً، لم يصح، وإنما يجب عليه أن يحضر هذا الذي اتفقتما عليه وهو السكري، فإن كان ليس عنده يذهب ويحضره من الغير، ولكن بعض العلماء يقول: إذا عجز، كأن يكون هناك جائحة اجتاحت التمور وأصبح هذا الموسم ليس فيه تمر من هذا الصنف الذي اتفقا عليه، فينفسخ العقد، ويحكم بانفساخ عقد السلم، وفي هذه الحالة يطالب برد المال، ولا يطالب بالعوض؛ لأنه غير موجود، فلو قال له: أعطيك عوضاً من نوعٍ ثانٍ، أو أعطيك بدل السيارة طعاماً لم يجز، ولابد أن يعطيه نفس الشيء الذي أسلم فيه، وهذا كله -كما ذكرنا- مبني على أن السلم رخصة خارجة عن الأصل، والخارج عن الأصل يتقيد بالصورة الواردة و التي اتفقا عليها وأوجدا العقد عليها، ولا يجوز التصرف في هذه العقود لإخراجها عن حقيقتها؛ لأنه لو قلنا بجواز ذلك خرج عن كونه سلماً إلى بيع آخر، وأصبح بيع السلم ذريعة إلى بيوع أُخر، ومن هنا: الرخص لا يتجاوز بها محالها، فما جاء على سبيل الرخصة يقيد بصورته ولا يصح إلا بعقده.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/315)
حكم الرهن والكفالة بالسلم قال رحمه الله: [ولا يصح الرهن والكفيل به]. الرهن للاستيثاق، فإذا أخذ منك شخص ديناً مائة ألف ريال، تقول له: أعطني رهناً، فيعطيك رهناً مثلاً: أرضه أو عمارته، فيقول: هذه العمارة رهن حتى أعطيك المائة ألف، أو هذا كفيلي يكفلني في الديون، فلا يجوز أن يجعل السلم رهناً، وكذلك أيضاً قالوا: لا يجوز أن يجعل في السلم رهناً، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يجوز أخذ الرهن في السلم، وبعضهم يمنع من أخذ الرهن في السلم، مثلاً: رجل تعاقد مع غيره سلماً في تمر، فقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري آخذها منك في نهاية رمضان، قال: قبلت، قال: أعطني رهناً لقاء هذه المائة ألف التي سأعطيك إياها، فمعناه أنه سيأخذ الرهن لقاء الوفاء بالسلم، فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب بعض العلماء، وقال بعض العلماء بصحة الرهن فيه وهو أقوى، وذلك لظاهر آية الدين لقوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فإذا كان الشخص لا يأمن ولا يستوثق قالوا: يجوز له أن يأخذ رهناً لقاءه، إلا أنه ضُعف، والحنابلة ومن وافقهم يجيبون بأنه إذا لم يمكنه الوفاء فإنه يلزم بالمثل، وإذا لم يكن المثل فإنه يلزم برد المال الذي هو الثمن الذي أسلمه إليه، فلا داعي لأخذ الرهن به، والصحيح والأقوى ما ذكرنا؛ لظاهر الآية الكريمة؛ لأنها نزلت في السلم، وكان ابن عباس رضي الله عنه يحلف أن آية الدين في السلم، وفي آية الدين ذكر الرهن؛ ولأنه قد يعجز عن الوفاء بالسلم، أو يتعذر وجود الشيء الذي اتفقا عليه ووقع عليه عقد السلم، وتصبح المائة ألف ديناً، فيكون حينئذٍ من حقه أن يستوثق للمال الذي دفعه إليه. قال: [والكفيل به]. كذلك لو قال له: أحضر لي كفيلاً ليكفل قالوا: لا يصح، والصحيح أنه يصح كالرهن. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة ...... الفرق بين عقد السلم وبيع الثمر قبل بدو صلاحها السؤال: أشكل عليّ بيع السلَم مع بيع الثمرات قبل بدو صلاحها وبين بيع الرجل ما لا يملك؟ الجواب: هذا إشكال جيد، فقد تقدم معكم أن من باع ثمرةً قبل بدو صلاحها، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لا يأمن فساد الثمر، وبناءً على ذلك يقولون كأنه باع شيئاً غير موجود؛ لأنه اشترى الثمرة، والثمرة أثناء العقد صلاحها مفقود، فكيف صححنا السلم مع أن المبيع مفقود وغير موجود؟ والجواب: أن بيع الثمرة ينصب على معين، وبيع السلم انصب على غير المعين، وهذا الذي ذكرناه: أنه يشترط في السلم أن يكون موصوفاً في الذمة، ومعنى ذلك: أنه لما باع الثمر انصب على معينٍ يفوت بفواته، ولكن في بيع السلم ينصب على غير معين، فهذا الفرق، وبناءً على ذلك إنما يرد الاعتراض أن لو اتفقا في الحكم، بحيث قلنا: يجوز هذا و يجوز هذا وهما متفقان أيضاً في الوصف، والواقع أن هذا شيء وهذا شيء، فلما كان الغرر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها موجباً للتحريم حرمنا، ولما كان الغرر غير موجب في بيع السلم، أو كان موجوداً ولكنه يسير، وأجاز الشرع أجزناه، والفرق بينهما من هذا الوجه ظاهر، والله تعالى أعلم.
الفرق بين السلم وبيع الرجل ما لا يملك السؤال: ما الفرق بين بيع السلم وبيع الرجل ما لا يملك؟ الجواب: بيع السلم: بيع من الرجل لما لم يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: عام وخاص، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فنقول القاعدة: عدم جواز بيع الرجل لما لا يملك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث حكيم بن حزام كما في حديث السنن: (لا تبع ما ليس عندك)، فلما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده جاء حديث ابن عباس فقال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فنقول: صح السلم؛ لأنه فردٌ من أفراد العام المنهي عنه، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، فبيع ما ليس عند الإنسان محرم إلا في السلم؛ لورود الرخصة فيه، وقال بعض العلماء: ليس بيع السلم من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه من بيع الذمة، ولكن مذهب الجمهور على أنه من بيع الإنسان ما ليس عنده، والحق أن مذهب الجمهور أرجح والرخصة فيه واضحة، ولذلك قال: ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلم، والسلم مرخصٌ فيه من هذا الوجه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/316)
حكم الكتابة والإشهاد في عقد السلم السؤال: هل تجب الكتابة والإشهاد في السلم؟ الجواب: السلم من الديون، والديون يفصل فيها: فإذا كان الدين موثقاً والحق ممكن توثيقه لصاحبه بكتابةٍ، وثابت لصاحب الحق حقه فلا إشكال بأنه يجوز أن يتعاقد باللفظ دون حاجة إلى إشهاد. وأما إذا كان الحق لا يمكن الوصول إليه إلا بالاستيثاق فيجب الإشهاد، وإن كان الاستيثاق بالكتابة وجبت الكتابة، ومن هنا يفصل فيه، فإذا كنت قد اشترى منك رجل سلماً سلعة وكتبت في وصيتك: إن لفلان وفلان كذا وكذا سلماً وثبت حقه؛ فحينئذٍ لا إشكال، أما إن كان عدم الكتابة سيؤدي إلى ضياع الحق فإن الكتابة واجبة، والإشهاد عليه واجب، والكتابة استيثاق إن حصل بدونها فبها ونعمت؛ كالشهادة المجردة باللفظ، وإن كان قد حصل الاستيثاق بالكتابة مع الإشهاد فهذا أكمل وأفضل على ظاهر آية البقرة، وقد رخص بعض العلماء في ترك الإشهاد لحديث اليهودي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهون عند يهودي في صاعين من شعير)، قالوا: ولم يكتب في وصيته حقه، وإنما ترك ذلك لمكان الاستيثاق، ولكنه لا يخلو من النظر لما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
حكم الاتفاق مع الخياط على خياطة ثوب السؤال: هل العقد الذي يتم مع خياط الثياب يعتبر من عقود السلم؟ الجواب: إذا قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، بكم؟ قال: الثوب من هذا القماش بمائةٍ أو مائة وعشرين، فإنه حينئذٍ يكون عقد بيع وإجارة، فلو قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، فكم متراً يكفيني؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: وتفصلها؟ قال: وأفصل، قال: إذاً أشتري منك بمائة، لم يصح؛ لأنه جمع بين الإجارة والبيع مع الجهالة، فلم يعلم قسط الإجارة من قسط البيع، كيف؟ لما قال له: كم متراً يكفيني من هذا الثوب؟ قال: ثلاثة أمتار، فحينئذٍ رغب أن يعطيه من هذا الثوب ثلاثة أمتار، ثم قال له: وتفصل؟ قال: وأفصل، قال: كم تأخذ عليه؟ -يعني: على البيع وعلى التفصيل- فقال: مائة، فجمع بين الثلاثة الأمتار المبيعة أولاً وبين إجارة الخياطة ثانياً على وجهٍ لا يدرى فيه حق الإجارة من حق البيع، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يمنع منه؛ لأنه جمعٌ بين عقدين في عقد واحد على وجهٍ موجب للجهالة والغرر، أما لو قال له: بكم المتر من هذا؟ قال: المتر بستة ريالاً، قال: إذاً أعطني ثلاثة أمتار بثمانية عشر ريالاً، وبكم تفصل؟ قال: بثلاثين، قال: إذاً هذه ثمانية وأربعون، اقطع لي ثلاثة أمتار وفصلها لي، صح ذلك وأجازه العلماء وألحقوه بعقد الاستصناع.
شرح زاد المستقنع - باب القرض [1] يعتبر القرض من المعاملات المالية التي يراد بها الإرفاق، وقد ثبت القرض بأدلة الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض، فيوسع به على المكروب، ويفك به الغارم والمديون، ومن جانب آخر على المقرض أن يحذر من إقراض من يستعين بالقرض على حرام أو مكروه؛ لأنه حينئذٍ يكون شريكاً له في وزره. مشروعية القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب القرض]. القَرض والقِرض، والأشهر: بالفتح، لكن يصح الكسر، وأصل قرض الشيء الاقتطاع منه، ومنه قولهم: قرضه فأر، إذا اقتطع منه، وسمي القرض قرضاً: لأن الشخص يقتطع من ماله جزءاً للمديون، فيعطيه إياه ديناً، وأصل القَرض: دفع المال للغير إرفاقاً ليرده عند حلول أجله المتفق عليه، وهذا النوع يسميه العلماء: إرفاقاً، وقد اعتبروه من عقود الرفق؛ لأن الشخص يعطي ماله يحتسب الثواب عند الله عز وجل ويريد الرفق بما أخذ منه، فيكون حينئذٍ عبادة، وقد يدفع المال له من باب العاطفة، فيكون عادة، كشخصٍ -مثلاً- جاءك وقال: أريد مائة ألفٍ قرضاً إلى نهاية السنة، فإنك قد تنظر إلى ظروفه وما ألمّ به من الحوائج فتعطيه المائة ألف، لكن لما أعطيته المائة ألف أعطيتها من باب الرفق، وقد تقدم في أول كتاب البيوع أن عقود المعاوضات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - ما يقصد منه الرفق المحض. 2 - ما يقصد منه القبض المحض. 3 - ما يقصد منه مجموع الأمرين القبض والرفق. أما ما يقصد منه القبض المحض فمثل البيع، فإذا جئت تشتري من المعرض أو جئت تشتري من التاجر إذا عرض عليك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/317)
السلعة فأنت تريد أن تغبنه وهو يريد أن يغبنك؛ فإن قال لك: هذه السلعة بمائة تقول له: بل بتسعين، وإذا قال بثمانين، قلت: بل بسبعين، هو يريد أن يكون الغبن عندك وأنت تريد أن يكون الغبن عنده، فهذه يسمونها عقود الغبن في البيع وكذلك في الإجارة، إذا قال: أجرتك داري هذا بعشرة آلاف سنةً كاملة، فقلت: بل بتسعة آلاف، فهو يريد أن يغبنك في الألف، وأنت تريد أيضاً أن تغبنه في الألف، فهذا يسمى عقد الغبن، كذلك لو اكتريت أحدهم من أجل أن يوصلك إلى الحرم فقال لك: من هنا أذهب بك إلى الحرم بعشرين، تقول: لا. بل بعشرة، فالغبن إما أن يكون في حق المستأجر أو الأجير، فهذا النوع من العقود يسمونها عقود الغبن والشرع يشدد في شروط هذا النوع، ولذلك تجد شروط البيع أشد من شروط غيره؛ لأنه ما دام أن هناك غبناً فالشرع يريد أن يحتاط للبائع وللمشتري، وبعبارة أخرى: يحتاط للمتعاقدين في حقيهما، فلا يصحح بيع المجهولات ولا يصحح بيوع الغرر بأحوالها، كل هذا احتياطاً لحق البائع، وحق المشتري. النوع الثاني: عقود الرفق، ومنها: الهبة، كما لو أن شخصاً جاءك وقال لك: يا فلان! إني أحبك في الله، وأهدى لك هدية، أو قال: هذا القلم هبةٌ مني لك، أو هديةٌ مني لك؛ فإنه يعطيك القلم ولا يريد الثواب إلا من الله عز وجل، أو يريد أن يكون ثوابه المحبة والمودة، فهذا يسمى عقد الرفق المحض، لا يريد أن يغبنك ولا تريد أن تغبنه، فليس هناك غبن من الطرفين أو أحدهما، إنما يراد الرفق، فيشمل هذا الصدقات والهبات بعوض. النوع الثالث من العقود: ما جمع الغبن والرفق، ومن أمثلة ذلك: الشركات، فلو أن رجلاً قال لك: ندفع مائة ألف، أنت تدفع خمسين وأنا أدفع خمسين، ويكون ثلاثة أرباع الربح لي، وربع الربح لك، تقول له: لا. بل ثلاثة أرباع الربح لي، وربعه لك، فهناك غبن في الربح، وهناك رفق في التقوي بكلا المالين؛ فإن المتاجرة بمائة ألف ليست كالمتاجرة بالخمسين، فأنت تريد أن تقوي ماله وهو يريد أن يقوي مالك، فترى رفقاً منك به وهو أيضاً يرى رفقاً منه بك، فصار رفقاً من الطرفين، ولكنه غبن من الطرفين، فإذاً: عقد الشركة جامع بين الغبن وبين الرفق (المضاربة والقراض)، كرجلٍ قال: خذ هذه العشرة آلاف واضرب بها في الأرض، ويكون لي ثلثا الربح ولك ثلث الربح، فتجد في المضاربة رفقاً من الطرفين؛ لأن العامل يأخذ المائة الألف المجمدة والتي لا تستطيع أن تعمل بها فيرفق بك بالمتاجرة، فأنت ارتفقت من هذه الناحية، والعامل ارتفق من جهة اكتساب صنعته وتنمية خبرته، واستفاد من جهة الربح الذي سيجده من المائة ألف، فإذاً: صار عقد المضاربة عقد رفق من هذا الوجه وهو عقد غبنٍ؛ لأنك ستقول: لي ثلثا الربح، وهو سيقول: بل لي ثلثا الربح ولك ثلثه، وكل منكما يريد أن يغبن الآخر في حضه من الربح، فصار عقد المضاربة والقراض جامع بين الغبن والربح. القرض والدين من العقود التي يقصد بها الرفق المحض، فإنه يعطيه القرض على سبيل أن يرفق به، جاءك رجل وعنده كربة أو نكبة لا قدر الله، وقال لك: يا فلان! إني في ضائقة وحاجة، كرجل يريد إيجاراً لشقته أو يريد علاجاً لمريضه أو علاجاً لمرضه؛ فإن هذا كله يقصد به الرفق من دفع الشدة والحاجة عن المحتاج، ولذلك قالوا: دفع المال للغير إرفاقاً -بقصد الرفق- على أن يرده، فلما قالوا: على أن يرده خرجت الهبة والصدقة، فصار القرض من عقود الهبات، والهبة من عقود الرفق. ...... أدلة مشروعية القرض القرض مشروع بالكتاب والسنة وبإجماع الأمة، إذا أعطيت الناس أموالك قرضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة:282]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] فجعل معاملة المخلوق للخالق مركبة على القرض، وشبهها بالقرض، فشبهها بالمعروف والمعهود فدل على السنن. كذلك دلت السنة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على جواز القرض، أما القول: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فهذا يدل على أن من أخذ القرض وفي نيته أن يرده -لا أن يتلاعب بحقوق الناس- فإن الله يعينه، قال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (أدى الله عنه)،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/318)
يحتمل أمرين: الأمر الأول: يحتمل أن يوفقه في الدنيا فيسدده، وقل أن تجد رجلاً يأخذ أموال الناس وفي نيته أن يردها إلا ويوفق للرد. الأمر الثاني: يحتمل أن يكون في الآخرة، أي: إذا مات ولم يسدد الدين، فإن الله لما علم من حسن نيته يتكفل بإرضاء خصمه و الأداء عنه فضلاً من الله عز وجل و تكرماً لحسن نيته؛ لأن نيته كانت صالحة، والله هو المطلع على الضمائر والسرائر، أما لو كانت نيته سيئة، كرجل يُكثر الذنوب ولا يستطيع أن يسدد ويأتي إلى أخيه المسلم ويخدعه بالعبارات وبالكلمات الحسنة والوعود المكذوبة، والله يطلع على ضميره وسريرته أنه كذاب، سيأتي إلى الرجل، ويقول له: أعطني مائة ألف، وفي نهاية السنة تأتيني أموال ويعده وعوداً كاذبة ويمنيه والله يعلم أنه في قرارة قلبه ليس بصادق، وأنه ليس عنده ما يستطيع أن يسدد به، وليس صادقاً فيما يقول من أنه سيعطيه، بل بعض الأحيان يعلم أنه ستأتيه الأموال ولكن يبيت في قرارة قلبه أن يأخذ الدين ولا يرده، فمثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، ولذلك لا يوفق للسداد، فتتراكم عليه الديون حتى يشتكى ويطالب، فيلبس لباس الذلة في الدنيا، وما ينتظره من عذاب الآخرة أشد وأبقى، نسأل الله السلامة والعافية. فالدين جائزٌ ومشروع لظاهر هذا الحديث، وكانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تكثر من الدين فيلومونها، وهي لم تكن تكثر من الدين من أجل أن تتاجر وتبيع إنما كانت تفرج به الكربات، فكانوا يقولون لها: ما هذا الذي تفعلينه؟ لماذا تتدينين؟ فقالت: لا أدع هذا الدين منذُ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، فهي تستدين للحاجة وتفريج الكربة. وأما دليل الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية القرض وجوازه وأنه من الأمور المستحبة والمندوبة، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض.
مراتب القرض من حيث الجواز والمنع والقرض يكون واجباً، ويكون حراماً، ويكون مندوباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً. أما أنه يكون واجباً: كرجلٍ تاجر عنده قدرة ومال، ويأتيه المكروب -خاصةً من الأقرباء- ويطلبه مالاً يسيراً، وهذا المديون الذي يريد الدَّين عنده كربة مثلاً فيه مرض خطير، وقد يهلك إذا بقي فيه هذا المرض، ويريد منه الدين من أجل أن ينقذ نفسه، أو يريد هذا القرض من أجل أن يشتري طعاماً، أو يشتري شراباً لابد منه لحياة نفسه، فإنه في هذه الحالة يجب على هذا الذي وسع الله عليه أن يفرج كربة أخيه المسلم، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه إذا لم يفعل ذلك أنه سيهلك، والله عز وجل أمر المسلم أن ينقذ أخاه المسلم، ولا يجوز له أن يقتله، فإذا لم يعطه المال فكأنه قتله؛ لأنه تعاطى السبب لهلاكه ولحوق الضرر به، ومثل ذلك لو جاءك المديون يسألك العون، وعلمت أنك إذا لم تسدد دينه فإنه يتضرر، فيكون مثلاً احتاج إلى عشرة آلاف ريال؛ لأن رجلاً اشتكاه في عشرة آلاف ريال، وإذا لم يسدد العشرة آلاف سيسجن، ثم إذا سجن في هذه العشرة آلاف كحق واجب عليه فإن ذلك يعرض أسرته وأولاده للضرر، وقد تتعرض زوجته للزنا والحرام، فلابد أن يضع المسلم الأمر في حسبانه، فإذا كان المدين قريباً لك إما ابن عمٍ لك أو ابن خالٍ لك -بينك وبينه نسب- وأنت تستطيع تفريج كربته فإنه يجب عليك أن تقوم بسداد هذا الدين وتتحمل عنه، خاصةً إذا غلب على ظنك أنه سيسدد، قالوا: قد يكون واجباً عليك أن تدفع له القرض، فإن لم تدفع فإنك تأثم، وتتحمل وزر هذا المسلم، وهذا من كفر نعمة الله عز وجل؛ ولذلك لما جاء الملك للأقرع، قال له: ابن سبيلٍ منقطع، قال له: الحقوق كثيرة، سبحان الله! وهذا هو قول الناس اليوم: عندما تأتي لشخص يقول لك: الالتزامات كثيرة، رجل يكون عنده عشرات الألوف، بل مئات الألوف، بل قد يكون عنده ملايين، وتأتيه في حاجة يسيرة فيقول لك: الحقوق كثيرة، وعليَّ التزامات كثيرة، يعني: هذه الملايين وعشرات الألوف ومئات الألوف لا تفي لسداد هذا الدين الذي لا يعادل شعرةً في مقابل ما عنده، هذه النعمة التي أنعم الله عز وجل بها عليه والمحروم من حرم الخير، وهذا من كفر النعم نسأل الله السلامة والعافية، ولا يأمن من نقمة الله العاجلة والآجلة، فإن من كفر نعمة الله عز وجل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/319)
فإن الله يلبسه ثوب الذلة، ويسلبه النعمة ويذيقه سوء العذاب الذي ذاقه غيره ما دام أنه يرى قريبه ويرى المحتاجين على تلك الحال ولا يعينهم، هذه كلها أمور ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم بالقرض. من جاء يطلب قرضاً وأنت تعلم أنه يريده لسكنه أو لطعامه ورزقه ورزق أولاده وأنت قادرٌ عليه ينبغي عليك أن تفرج كربته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. كذلك يمكن أن يكون القرض حراماً، كما لو جاء يطلب القرض من أجل أن يفعل الحرام كأن يشتري به خمراً أو يسافر به لارتكاب الحرام، والمسئول الذي طلب منه القرض يعلم ويغلب على ظنه أن هذا المال سيصرف في هذا الحرام فلا يجوز له أن يعطيه، وإذا أعطاه كان شريكاً له في وزره وإثمه نسأل الله السلامة والعافية. ويكون القرض مندوباً، كأن يكون المقترض مسلماً وجاءك في حاجة ولا يجب عليك أن تنقذه كطالب علمٍ أو رجلٍ يريد أن يسافر إلى أهله ليعف نفسه أو نحو ذلك من المستحبات والمندوبات فأعنته على ذلك فهذا قرضٌ مندوب، وهذا هو الذي نبه عليه المصنف، وهذا عند انتفاء الموانع التي توجب حرمته وانتفاء الدوافع التي ترفعه إلى مرتبة الوجوب، مثلاً: لو جاءك مديون يستطيع أن يأخذ منك الدين ويأخذ من غيرك، وقال لك: يا فلان! أقرضني، وتعلم أنك إذا لم تقرضه سيذهب إلى غيرك فلا يتعين عليك في هذه الحال ولم يجب عليك، ولكن من الأفضل والأكمل أن تبذل له الدين، ففي هذه الحالة يكون القرض مندوباً. ويكون مكروهاً إذا كان لشيءٍ مكروه لا يصل إلى درجة الحرام، كأشياء تشغله عن ذكر الله ولا تصل إلى درجة الحرام ويقضي به وطره فيكون المعونة عليه معونة على المكروه. ويكون مباحاً، كرجلٍ جاءك يريد أن يأخذ المال من أجل أن يشتري صفقة وتجارة، فهو في الأصل ليس مضطراً حتى يصل إلى درجة الوجوب، كتفريج الكربات، إنما يريد أن يربح ويزيد ماله، فأنت استحيت منه وأعطيته، كما يقع بين التجار بعضهم مع بعض، يأتي ويأخذ منه السلعة ديناً وهو قادر أن يسدده، هذا يكون مباحاً؛ لأنه لا دوافع تجعله مندوباً أو واجباً ولا موانع تجعله محرماً أو مكروهاً فصار مباحاً، أو كرجلٍ غني ثري يأخذ منك ديناً فتستحي منه وتعطيه، فهنا لا تستطيع إن تقول: إن هذا تفريج، أي: ليس هو بمكروه، ولا تستطيع أن تقول: إن هذا محرم؛ لأنه ليس بحرام، فليس في مقام المطلوبات ولا في مقام المحرمات، فيكون مباحاً.
الجمع بين مشروعية القرض وذم المسألة إذا طلب إنسان القرض هل يدخل هذا في ذم المسألة؟ لقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة ورغب في ترك سؤال الناس، وبين فضيلة ترك المسألة، وأن من ضمن أن لا يسأل الناس شيئاً ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: (من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئاً أضمن له الجنة) والسبب في هذا الاستغناء بالله جل وعلا وصدق اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى وكمال اليقين به، والمؤمن إذا صان ماء وجهه عن أن يريقه للناس كان هذا أكمل في إيمانه ومروءته، وهذا كله يقصده الشرع ويطلبه. فهل إذا استدان يدخل في المسألة المكروهة؟ الجواب: إن طلب الدين لا يعتبر من المسألة المكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدين، وتوفي كما في الصحيحين ودرعه مرهونة في صاعين من شعير عند يهودي، وهذا يدل على أن طلب الدين ليس من المسألة المكروهة، وما زال على ذلك عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين رحمهم الله، حتى إن محمد بن سيرين وهو من أجلاء أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، أصابته الديون وعظمت عليه حتى سجن في الدين، وأصبح مرهوناً، ولما توفي أنس بن مالك رضي الله عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين وكان مسجوناً في دينه، وهذا يدل على أن مسألة الدين ليست من المسألة المحرمة، ولا من المسألة المكروهة؛ لأنه يأخذ الدين ويرده، وليس بآخذ شيئاً بدون عوض.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/320)
أركان القرض المشروع القرض يقوم على ثلاثة أركان، وهي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة، فأما العاقدان: فهما المقرض والمستقرض، فالمقرض هو الذي يدفع القرض، والمستقرض هو الشخص الذي يأخذ القرض، ويشترط فيهما: الأهلية، وهذه الأهلية تستلزم العقل، فلا يصح أن يستقرض من مجنون، أو صبي غير مأذون له بالتصرف في المال، ولو أقرض لم يصح القرض وجاز لوليه أن يأخذه مباشرة. كذلك يشترط في المقرض أن يكون مالكاً للمال الذي يقرضه، فإذا كان غير مالكٍ له لم يصح أن يقرضه للغير، والمال الذي يدفعه للغير قرضاً إذا لم يكن مالكاً له فقد تصرف في ملك غيره، ومن المعلوم أن القرض يصير المال المقتَرَض ملكاً للمقتَرِض، وعلى هذا لابد أن يكون الذي بذل مالكاً. ويتفرع على هذا المسألة المشهورة: لو أن رجلاً أُعطي مالاً لكي يزكيه لا يصح أن يعطيه قرضاً؛ لأنه أُعطي المال وكالة، والإذن له بالتصرف في المال وكالة في الزكاة، وعلى هذا فلا يجوز له أن يقرضه، وكذلك أيضاً لا يجوز أن يتصرف في مال اليتيم فيقرضه للغير؛ لأن نصب الولي على اليتيم من أجل أن ينظر مصلحة المال في تنميته والقيام عليه، فإذا أعطاه قرضاً فإنه قد خاطر بالمال؛ لاحتمال أن يعجز الشخص الذي أخذ القرض عن السداد، وإنما أُذن للولي أن يتصرف في مال موليه وهو اليتيم إذا كان على وجه الإحسان والحفظ والصيانة، فإذا أعطاه قرضاً كان ذلك مخالفاً للأصل، فلم يصح ولا يجوز له. أما الصيغة فإنها تقوم على الإيجاب والقبول، فتقول: أقرضتك، أو أسلفتك، فإنه يصح أن يعبر بالقرض ويصح أن يعبر بالسلف، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: (استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً)، فقوله: (استسلف) تدل على جواز أن يقول: أسلفتك هذه الدراهم، أو أسلفتك هذه الريالات، ومن هنا قالوا: يصح أن تتركب الصيغة بلفظ القرض وبلفظ السلف.
الحكمة من مشروعية القرض القرض في مشروعيته حِكم عظيمة، فهو يفرج كربات المكروبين، ويدفع ويقضي حوائج المحتاجين، حتى قال بعض العلماء: إنه من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المديون لا يأتيك إلا من حاجة، فإذا ضاقت عليه السبل وأراد أن يطلب منك أن تعينه بالقرض وهو موثوق لا يعرف بالتلاعب ولا بالكذب ولا بالغش ولا بالخديعة للناس، وخاصة إذا كان غريباً لا يعرف غيرك، أو بينك وبينه قرابة، فإنك إن فرجت كربته كان هذا من أبلغ ما يكون من الأثر والإحسان إلى الناس، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل الإحسان إلى الناس في القروض والتوسعة عليهم فيها: (من يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وعلى هذا استحب العلماء القرض، واستحبوا التيسير على المقترض، ومن التيسير على المقترض عدة أمور: أولاً: أن تيسر له إذا جاء يسأل، فلا تعنفه، ولا توبخه، ولا تهينه، ولا تشعره بشيء من الحرج، كان السلف يملكون الأموال ولكن كأنها ليست ملكاً لهم، بل ملكاً لمن سأل، حتى قال ابن عباس: (ثلاثة لهم عليَّ فضل: رجل احتاج حاجة فجاء يسألنيها) ووجه فضله قالوا: إنه اختارك من بين الناس كلهم، فكان الناس يوم كانوا يحسون أن من جاء للحاجة والفاقة وقصدني فإنه اختارني من بين الناس. وهذا أمر يعظم وقعه على الكريم الذي له نفس حية وقلب حي، فيرد هذا، حتى إنه يتحرج أن تأتي، وتقول له: يا فلان! قد نزلت بي حاجة، فيقول لك: ماذا تريد؟ ماذا تأمر؟ ولا يسمح لك أن تقص حاجتك، وتريق ماء وجهك، يحس بأخوة الإسلام وأن ما أصابك كأنه أصابه، ويحس أن الذي نزل بك كأنه نزل به، فيستشعر حينما جئت إليه وفي وجهك ولسانك ما يدل على الشدة والحاجة والفاقة كأنك هو، فهو يحس بهذه الآلام والأشجان ويتألم كما تتألم بها أنت، فلا يريدها أن تستمر، فيقول لك: أرجوك قل ما تريد، ولا يسمح لك أن تذكر سبباً للسؤال وللحاجة، فهذا من التيسير على المعسرين، وهو يدل على كمال الإيمان وشكر نعمة الله عز وجل المنعم المتفضل على العبد، فإن الله إذا أعطاك نعمة وبارك لك فيها شكرتها، وإذا شكرتها وجاءك المكروب أحسست كأنك هو. وعلى هذا قالوا: هذا من التيسير عند ابتداء القرض، ثم إذا جئت تعطيه القرض لا تشعره بالأسلوب القوي العنيف، فهذا من التعسير عليه والتضييق؛ لأنه لم يشعر بآلامه ولم يحسها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/321)
فيوسع عليه، يقول له: المال مالك، وأسأل الله أن يبارك لك فيه، خذه مباركاً .. خذه بطيبة نفس، أسأل الله أن يفرج عنا وعنك، فيخرج المكروب والمنكوب ميسراً عليه وقد كان جاءك بهموم الدنيا وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فيخرج من عندك مجبور القلب والخاطر، فلا يملك إلا أن يدعو لك بظهر الغيب ويذكرك بالخير، وهذه هي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح)، فإن المال الصالح الذي جاء من طريق الحلال والكسب الطيب إذا جاء للرجل الصالح فستر به العورات وفرج به الكربات، أنعم الله عليه بهذا المال، فيصبح الناس يدعون له بظهر الغيب، كذلك من التيسير على المعسر ما لو قال لك مثلاً: أعدك بالسداد في نهاية رجب، وأنت تعلم أنه قد ضيق على نفسه، فتقول له: لا يا أخي! بل إن شاء الله إلى أن ييسر الله عليك، فهذا أيضاً من التيسير على المعسر في الأجل. فعلى العموم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هذا القرض، وفي مشروعيته حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يعظم الأجر والمثوبة لمن أعطاه الله المال، فشكره بمثل هذا. ومن حكمه العظيمة أنه يحقق الألفة والمحبة والأخوة بين الناس، فإن الناس لا زالوا بخير ما رحم بعضهم بعضاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فهذه من الأمور التي تستفاد من القرض أنه يجعل الناس متراحمين، وانظر إلى الرجل حينما يأتيك، ويقول لك: أصابتني ضائقة فذهبت إلى فلان وسألته عشرة آلاف فأعطانيها ويسر لي، فعل الله به وفعل، فتحس أن الناس يشعرون أن الخير لا يزال موجوداً، ولكن نسأل الله السلامة والعافية، إذا احتاج المحتاج ونزلت الكربة بالمكروب وضاقت على المسلم الأرض فأصبح يفكر، وينظر ذات اليمين وذات الشمال يبحث عمّن يعينه فلا يجد، بل يذهب ويريق ماء وجهه عند الرجل ويشكو له حاجته وكربته وفاقته، فإذا به يقول له: والله الحقوق كثيرة، والذين يتدينون كثير وقل من يقضي، وكأنه يقول له: أنت مثلهم، هذه من الأمور التي لا تحمد عقباها، وهو من كفر نعمة الله عز وجل، إما أن تعطيه، وإما أن ترده بالتي هي أحسن. وعلى هذا فالقرض فيه خير كثير، وفيه حكم عظيمة وتوسعة على الناس وتفريج لكرباتهم، وربما جاءك المكروب وهو يحتاج المال لسداد دين مسكنه، فإذا لم تسدد عنه كيف يكون حال الناس؟! يخرجون من مساكنهم إذا ضاقت عليهم الدنيا؟ كذلك أيضاً ربما جاءك وقد ابتُلي بغريم لا يحسن، ومن هنا كانوا يوصون ويقولون: إذا رجوت فلا ترج إلا الحيي الذي يستحي، حتى قيل: (لا ترج من ليس له حياء)؛ لأن الحيي إذا جئته فإنه يستحي منك وأقل شيء أنه إذا ردك ردك بالتي هي أحسن، فإذا نظرنا إلى هذه الحكم المستفادة من قضاء الديون، فإننا ندرك حكمة الشرع في تجويزه للقرض، وأنه من الخير والرحمة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فمن رحمة الله ويسر هذه الشريعة أن يسرت على الناس في هذا النوع من المعاملات. وقوله: [وهو مندوب]. بعد أن عرفنا أن القرض يقوم على عاقدين: المستقرض والمقرض، وعلى محل وهو: المال المدفوع وبدله، وعلى صيغة وهي الإيجاب والقبول، (أقرضتك) و (قبلت)، انتقل بعدها رحمه الله إلى الحكم العام، فقال: [وهو مندوب] أي: القرض وذلك بالنسبة للشخص الذي يدفع ويعطي وهو المقرض. ولكن هنا مسألة عارضة، وهي: من المعلوم أن الواجبات أعظم أجراً من المندوبات والمستحبات، فمرتبة الواجب أعلى وأعظم، فإذا نُظر إلى الدين فإنه مندوب، وإذا فرج عن أخيه ويسر وسهل عليه كان من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن التيسير ليس بواجب، فقالوا: إنه فُضِّل هذا المندوب على الأصل من المطالبة، وهو إلزام الغريم بمطالبته، وعلى الصدقة، قالوا: لأن هذا فيه معنى الوفاء وفيه زيادة، فكأنه اشتمل على الأصل الواجب والزيادة عليه، فكان أفضل من هذا الوجه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/322)
الأشياء التي يجري فيها القرض وقوله: [وما يصح بيعه يصح قرضه] أي: يصح قرض كل شيء يصح بيعه، وعلى هذا تشمل الأموال: الأثمان والمثمنات، وعند العلماء خلاف في هذه المسألة، فبعض العلماء يقول: لا يصح القرض إلا إذا كان من المثليات، المكيلات والموزونات والمعدودات المنضبطة، أما لو استقرض شيئاً لا ينضبط مثله لم يصح القرض، والسبب في هذا أن القرض يلزم المديون برد المثل، فإذا أخذ شيئاً لا ينضبط فمعنى ذلك أنه يفضي إلى الغرر والاختلاف والتنازع، وعلى هذا قالوا: لابد وأن يكون منضبطاً، واختلفوا في المنضبط على وجهين: الوجه الأول: منهم من يخصه بالمكيل والموزون ولا يجيز في المعدود كالحنفية. الوجه الثاني: منهم من يجيز في الكل كالجمهور، ودرج المصنف على مذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يجوز حتى في العدد، قالوا: والدليل على مشروعيته ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فردها خياراً رباعياً) والبكر من الإبل معدود وليس بمكيل ولا موزون ورده خيارًا رباعيًا، وقال: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) فدل على جواز السلف والدين والقرض في المعدودات، وأنه لا ينحصر بالمكيلات والموزونات. وبناءً على مذهب الحنفية لا يجوز أن يقترض إلا ما كان منضبطاً بالوزن أو بالكيل، وأما ما عداه فلا يجوز، وإذا قررنا الإجماع فكلهم متفقون على أن الذي لا ينضبط لا يجوز قرضه، فمثلاً قال له: هذه الحفنة من الطعام أُعطيكها قرضاً، فإنه إذا جاء يسدد لا يستطيع أن يعطي مثل الحفنة، وهكذا لو قال له: هذا كيس لا يُعلم كم بداخله أعطيكه قرضاً، فإنه لا يُعلم كم بداخله، ولو أعطاه جواهر؛ لأن المشكلة أنه إذا أخذ هذا الكيس سيستنفده، ولا يدري كم هو، فلابد وأن يكون الذي يأخذه منضبطاً، ولو أخذ الجواهر وكانت مما لا ينضبط ولم يكن لها وصف تتميز به، فإنه لا يصح قرضها على هذا الوجه؛ لأنه يفضي إلى الاختلاف والتنازع. وقوله: [إلا بني آدم] فمثلاً: قال شخص لآخر: أقرضني هذه الأمة، وعندنا أن كل ما صح بيعه فإنه يصح قرضه، والمملوك يجوز بيعه، وبناءً على ذلك يجوز قرضه، ومن حيث الأصل أنه إذا استقرض بعيراً مثلاً، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض البعير ورد مثله وأفضل منه، وعلى ذلك فإذا استقرض المملوك فإنه يرد مثله في صفاته، فالسبب في منع قرض بني آدم، قالوا: خشية إعارة الفروج، والسبب في هذا أن القرض يراد منه الانتفاع والارتفاق، فإذا أخذه المقترض فإنه يملكه، ولا يكون مالكاً له إلا بالقبض أو بالتصرف، فإذا تصرف فيه ملكه، وحينئذٍ ربما أخذه واقترضه ووطئ المرأة قبل أن يتصرف فيها أو وطئها بعد قرضها، وحينئذٍ يكون قد وطئ فيما يملك الغير، قالوا: إنه وطئ في ملك الغير، فلو صححنا أنه وطئ في شيء ملكه بالقبض قالوا: يصير كأنه أعار الفرج بالفرج؛ لأنه أخذها للوطء، ثم جاء ببدل عنها مكان الذي ارتفق به، قالوا: وبناءً على هذه العلة وهي عدم جواز إقراض بني آدم يصبح الحكم الأشبه فيه أن يختص بالتي يمكن أن يطأها. والشافعية دققوا في هذه المسألة، فقالوا: قرض بني آدم إن كان مما لا يوطأ كصغيرة لم تبلغ سن الوطء، أو ذات محرم كأن يقرضه أخته تكون مملوكة، فقال له: أقرضني أختي ديناً، فأخذها قرضاً وديناً فحينئذٍ قالوا: يصح؛ لأنه لو أعطاه بدلاً عنها فلا تتحقق المفسدة؛ لأنه إذا أخذ أخته قرضاً عتقت عليه، ثم إذا عتقت عليه جاء بالبدل عنها، وحينئذٍ قالوا: إن المفسدة المرادة من إعارة الفروج ليست موجودة، بخلاف ما إذا أعاره أمة فأخذها وملكها فوطئها ثم رد مثلها، فكأنه رد الفرج بالفرج، وعلى هذا قالوا: يفرق بين ذات المحرم وغير ذات المحرم، ويفرق بين ما يمكن وطؤه وما لا يمكن. أيضاً قالوا: يجوز أن تستقرض المرأة المملوكة، فيجوز قرض بني آدم للنساء بعضهن مع بعض؛ لأن مفسدة إعارة الفروج ليست بموجودة؛ لأن المرأة لا تطأ المرأة، ومن هنا قالوا: ينبغي تقييد المنع بما وجدت فيه العلة، وهذا هو وجه المنع من استقراضه، وإلا فلو نظرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف المعدود ورد المعدود فإن هذا يدل على جواز قرض بني آدم ورد المثل إذا لم يكن هناك مثل، أو رد العين إن كانت العين موجودة.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/323)
ما يملك به الإنسان القرض وقوله: [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه] ويملك القرض بقبضه، هناك ثلاث مراحل وسبق وأن نبهنا عليها، وهي: العقد، وهو الإيجاب والقبول، وهناك القبض والحيازة والتسليم ونحو ذلك، وهناك التصرف سواءً بالبيع، أو بالإجارة، أو بالهبة، أو بالعتق، وهذا كله تصرف في المبيع، فأما بالنسبة للعقد، فمثلاً: قال له: أقرضني عشرة آلاف ريال إلى نهاية رمضان، قال: قبلت، فقال بعض العلماء: إذا قال له: أقرضني عشرة آلاف، أو أقرضني هذا الكتاب، أو أقرضني هذه السيارة، أو أقرضني هذه الدابة، وقال الآخر: قبلت، فإنه بمجرد الإيجاب والقبول تصير إلى ملك المستقرض، وحينئذٍ من حق المستقرض أن يعطي البدل عن القرض، وفائدة المسألة سنبينها في البدلية، قال بعض العلماء: لا يقع الملك إلا بعد القبض. فمثلاً: لو فرضنا مالاً كمائة ألف ريال من فئة الخمسمائة، إذا قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال له: هذه مائة ألف إلى نهاية رمضان ولم يقبضها، فعلى القول الأول: تصير إلى ملك المستقرض بمجرد الإيجاب والقبول، والقول الثاني: أنها لا تصير إلى ملك المستقرض إلا بالقبض، فإذا قبضها فحينئذٍ لو طالبه صاحب الدين؛ لأنه في بعض الأحيان يقول صاحب الدين: خذ المائة ألف إلى نهاية رمضان، ثم يقول: لا. قد رجعت عن ديني، أعطني إياه الآن، فيريد أن يفسخ، وسنبين هل يلزمه أن يبقى أم لا يلزمه، لكن نقول على ما اختاره المصنف رحمه الله وجماعة: إن من حقه أن يرجع ولو كان بعد العقد مباشرة، فلو أنها من فئات الخمسمائة ريال، فقلنا: إنها تملك بالقبض على القول الثاني الذي اختاره المصنف، فإذا قبض المستقرض القرض حينئذٍ ملكه، فجاز له إذا طالبه برده أن يرد المثل بدلاً عنه؛ لأنه قد ملك وحينئذٍ يصل إلى ملكيته إن شاء أعطى نفس الشيء وإن شاء أعطى مثله؛ لأنه صار إلى ملكيته بمجرد القبض. القول الثالث: لا يصير إلى ملكية المستقرض إلا بالتصرف، فإن تصرف في الدين فحينئذٍ ملكه ولم يلزم رد عينه، فالمسألة هنا في رد العين، لو أن هذا الشيء في بعض الأحيان يكون خمسمائة والسوق الأفضل أن تكون مفرقة فاستقرضها مفرقة، فأراد أن يعطيه بدلاً عنها جملة وبرأسها كما يقولون كان له ذلك؛ لأنه ملكها بالقبض وصح له أن يصرفه إلى المثل، هذا إذا قلنا: إنها بمجرد العقد. إذاً: يملك القرض بالعقد، ويملك بالقبض، ويملك بالتصرف، فإن اقترض منه قمحاً ولم يتصرف فيه وطالبه صاحب القمح برده قبل التصرف لزمه أن يرد عين القمح ولا يصرفه إلى مثله؛ لأنه لم يملكه إذا لم يتصرف فيه، وهكذا أيضاً لو قلنا: لو قبضه وبعد القبض طالبه لم يصح أن يطالبه بعينه، والعكس لو طالبه قبل القبض وبعد العقد لزمه أن يدفع له عين الطعام الذي أخذ، وهكذا لو أنه اقترض منه سيارة أو دابة على أن يرد مثلها، فإنه إذا اقترض منه السيارة قرضاً بعينها ورقبتها فإنه يصير مالكاً لها بمجرد العقد على القول الأول، وبالقبض إذا ركبها وقبضها وساقها على القول الثاني، وإذا تصرف فيها وبذلها على القول الثالث، فإذا تصرف فيها فباعها أو أجرها للغير صارت ملكاً له، فحينئذٍ يجوز أن يعطيه بدلها ويجوز أن يعطيه عينها، فالخيار له إذ لا يكون ملزماً بالعين، هذا بالنسبة لمسألة ما يملك بقبضه. إذاً: عندنا ثلاثة أوجه للعلماء: فالجمهور يرجحون القبض، وغيرهم يرجح التصرف، والجمهور كلهم على القبض والتصرف، وقال المالكية: إنه يملك بمجرد العقد، لكن الجمهور منقسمون على القبض وعلى التصرف، واختار المصنف رحمه الله قول من قال: إنه يملك بالقبض. وهذه المسائل بناها العلماء على أصول في الشريعة، فأنت حينما تعطي شخصاً ديناً فإن هذا الدين بأصل الشرع إذا أخذه كان من حقه أن يتصرف فيه، فمن أقرض قرضاً فإن الإجماع قائم على أن المقترض يملك القرض، بدليل أنه يذهب يأخذ منك المائة ألف فيشتري بها عمارة أو سيارة وليس من حقك أن تطالبه بهذه العمارة أو السيارة إنما تطالبه بالمائة ألف، إذاً: الإجماع والأصل الشرعي يدل على أنه يملكها. يبقى السؤال: هذه المائة ألف في الأصل هي ملك لي وأعطيتها لك وحصل بيني وبينك إيجاب وقبول، فهل ملكيتك لها تكون بمجرد الإيجاب والقبول؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] ودل على أنه يلزم بمجرد العقد،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/324)
أم أنه لابد من القبض وهذا أصل مفرع على المعاوضات؛ لأن الديون في البداية فيها شبه بالعارية وفي النهاية فيها شبه بالبيع؛ لأنه إذا تصرف فيها لزمه البدل، فإذا قلت: إنه ملكها ودخلت إلى ملكيته وتصرف فيها فحينئذٍ يضمن البدل، فهذا يقتضي أنها معاوضة وفيها شبه من البيوع والمعاوضات؛ لكن في الابتداء ومن حيث الأصل الدين لي والمال مالي، خاصة على قول من يقول: إنه من حقي أن أطالبك في أي وقت ولو قبل الأجل. فإذاً: لابد أن نحدد متى ينتقل المال من عندي إليك، وهذا يترتب عليه الأحكام الشرعية حتى ننصف صاحب المال وننصف المديون أيضاً، وحتى نعلم أن هذه الشريعة كاملة، وأنها فاقت جميع القوانين والتشريعات التي هي من صنع البشر والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52] قواعد صحيحة وأصول متينة، فالعلماء يدرسون كل شيء يترتب عليه ذمم الناس والحقوق والمسئوليات، فيفرعون ويفصلون حتى يُعرف ما لكل ذي حقٍ من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه. فالفقه ميزته أنه سبب ليعطى كل ذي حقٍ حقه، وهذه المسائل وإن كانت في البداية غريبة لكنها تنبني عليها حقوق، فقد يأخذ المقترض الطعام فيطحنه، وقد يأخذ الدقيق فيطحنه أو يتصرف فيه ثم يطالب الرجل بعين ماله، فهل من حقه أن يطالب أو ليس من حقه؟ وإذا قلت: من حقه، لماذا؟ وإذا قلت: ليس من حقه، لماذا؟ هذه كلها أمور محسومة ومفصلة في كلام العلماء رحمهم الله حتى يتيسر القضاء إن حصلت الخصومة، وتتيسر الفتوى إن حصل السؤال، ويتيسر العلم إذا حصل الطلب، فالمراد أننا ندرس هذه المسائل حتى نعرف بيان ضوابط القرض، وكذلك الأموال حتى نعلم متى تنتقل من ملكية المالك الأصلي إلى ملكية غيره.
حكم تسديد الدين قبل حلول الأجل وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله] (بل يثبت) أي: يثبت الدين والضمير في (بدله) عائد إلى الدين، وقوله: (في ذمته) أي: ذمة المديون والذي استقرض، والذمة وصف يقوم بالأشخاص قيام الأوصاف الحسية بمحسوساتها، وهو وصف يقبل الالتزام، فقوله: [في ذمته] أي: أنه لابد وأن يكون الشخص الذي يقترض عنده ذمة قابلة بأن يلتزم بها. وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً] هذا فيه خلاف. وقوله: [ولو أجله] ولو: إشارة إلى خلاف مذهبي. وهذه المسألة نريد أن نبحثها، فمثلاً: لو أن رجلاً أعطاك مائة ألف ديناً، فهذه المائة ألف قلت له: أخذت منك هذه المائة ألف أو آخذ منك هذه المائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فقال لك: قبلت خذها ديناً إلى نهاية السنة، نحن الآن في رمضان، فإذا قبضتها على القول بأن الملكية بمجرد قبضك لها يثبت في ذمتك لصاحب الدين مائة ألف حالة، أي: تدفع فوراً، لو طالبك بها في أي وقت ولو قبل نهاية السنة تدفع، ولو اتفقتما على التأجيل لماذا؟ لأنهم يقولون: القرض كالعارية بدليل أنك لا تملكه إلى الأبد، صحيح أنك لما أخذت المائة ألف تصرفت فيها لكن لا تملكها إلى الأبد، بل تلزم برد مثلها، فإذاًَ: هذا المثلي مملوك لك أم غير مملوك، وبالإجماع إذا قلنا بثبوته على المديون ليس ملكاً له، فمعنى ذلك: أنك إذا أخذت مائة ألف فهي ليست ملكاً لك، إنما ملكت الانتفاع والارتفاق بها إلى الأجل، هذا من حيث الأصل. فإن قلنا: إنها كالعارية، فلو أن شخصاً أخذ منك السيارة يريد أن يصل بها إلى الحرم المكي ويرجع، فمعنى ذلك: أنه أخذها وردها، وهو ليس مالكاً لها، فإذاً: يقول أصحاب هذا القول من الحنابلة والحنفية رحمهم الله: الدين يثبت في ذمة المديون حالاً ولو أجله صاحب الدين فأعطاه مهلة إلى أجل، ولو قال له: أشترط عليك أن يكون إلى أجل، قالوا: يفسد الشرط ويلغى ويكون وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ويلزم لو طالبه في أي وقت أن يعطيه دينه؛ لما يلي: أولاً: أن الدين كالعارية، ومن حقه في أي وقت أن يرجع ويأخذ العارية، فلو أنك أخذت السيارة عارية إلى الحرم فمشيت بها مثلاً مائة متر فلحقك، وقال: أعطني سيارتي، قالوا: من حقه أن يستردها؛ لأنها كالعارية. ثانياً: أنه إذا قال لك: خذها إلى نهاية السنة فوعد، والوعد ليس بملزم، وإن كان المسلم مطالب أن يفي بوعده، وإلا فإنه يأثم، لكن ما فيه إلزامات مترتبة على هذا الوعد؛ لأنه إحسان وتبرع محض، فقد يعطيك الدين على أنه موسع ثم يرجع عن ذلك فيتذكر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/325)
حقوقه، والله تعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] والذي بذل الدين محسن، فلو أعطاك قرضاً إلى نهاية السنة وقال: أنا أريد الأجر والثواب ثم جاءه ظرف بعد شهر أو شهرين أو يوم أو ساعة، وقال لك: أعطني الآن فعليك أن تعطيه، وقالوا: يثبت في ذمتك حالاً. أي: لو أنك تصرفت فيها وطالبك بالدفع فوراً فأصبحت بعد التصرف مباشرة معسراً يثبت في ذمتك حالاً، فليست القضية أن تدفع فوراً إذا كان فيه إمكان، لكن شاهدنا: أن الدين لا يُلزم بإبقائه إلى الأجل، هذا هو الذي درج عليه المصنف واختاره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية رحمهم الله. وهناك قول للمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، أنه إذا أجله فإنه يلزم بالأجل، وأنه إذا اشترط عليه أن يسدد في رمضان لم يكن من حقه أن يطالبه قبل رمضان، ويلزم بالبقاء إلى نهاية رمضان، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) وهذا قد أخذ ديناً، فلو سلمنا أن الدين كالعارية في شبهه، فإننا نقول: يمكن أن نسلم بهذا، لكن لما اشترط عليه ألزم بشرطه، والفرق بين ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام ابن القيم وبين مذهب المالكية: أن شيخ الإسلام يجعله عند الشرط إذا اشترط، والمالكية يقولون: اشترط أو ذكر الأجل فإنه يلزم بالتأخير إلى الأجل، والصحيح أنه إذا اشترط عليه أن يؤجل فليس من حقه أن يطالبه قبل الأجل. وقوله: [ويثبت في ذمته حالاً ولو أجله] أي: أنه إذا قبض المديون الدين فإنه يملكه، فيجوز له بيعه وهبته وإتلافه؛ لأنه ملكه، فلو أخذ منك دقيقاً وطحنه وعجنه وخبزه فإنه يملكه بقبضه، فعلى هذا يثبت في ذمته مثل الذي أخذ إن تصرف فيه، وإذا لم يتصرف فيه ووجد عين المبيع فمن حقه أن يطالبه بدفع العين، وقيل: يثبت مثله أو بدله، وهذا هو الذي نص عليه المصنف بقوله: [ويثبت]. وقوله: [بل يثبت بدله] البدلية: تستلزم اتحاد الجنس واتحاد النوع واتحاد الصفة واتحاد القدر، وهنا تستلزم المثلية، والمثلية تقوم على اتحاد الجنس: طعام بطعام، واتحاد النوع: بر ببر، واتحاد الصفة: إبل عرابية بعرابية أو بختية ببختية، وبختية ما لها سنامان، والعرابية ما لها سنام واحد، إذاً: يعطيه بصفتها، واتحاد العدد والقدر كأن يأخذ منه مائة ويرد مائة. فقوله: [يثبت بدله] أي: بدل الدين، ولا يلزم برد العين إن طالبه صاحب الدين، ففي بعض الأحيان يستسلف دنانير ذهب جديدة ويقضيها قديمة، والجديدة أفضل من القديمة، وقد يستسلف خمسمائة دينار كل عشرة دنانير على حدة، مثلاً: بوزنها، والجملة أثقل من الصرف؛ لأن المصروف أفضل، وفي بعض الأحيان الجملة أفضل، فلو أنه أخذها منك خمسمائة فجئت وطالبته بها كان من حقه أن يعطيك بدلاً عنها تفاريق، ولا تقل له: أعطني هذه الخمسمائة. إذاً: لما قال المصنف: [يثبت بدله] قرر المسألة عند الخلاف إذا تنازعا، فمثلاً: لو استدان رجل منك أي مال من الأموال، ثم تبين أن هذا الرجل في ماله شبهة، فجئت وقلت له: أعطني ديني، وأنت تريد عين ما أخذ منك تورعاً، فحينئذٍ على قوله: [يثبت بدله] ليس من حقك أن تطالب بالعين، وعلى القول: بأنه إذا طالبه بالعين ولو عند نهاية الأجل يثبت عينه إن كان موجود العين، فحينئذٍ يلزم بدفع عينه، ولا يجوز له أن يصرفه إلى المثل والبدل، فلو كان عندك بعير تحبة فجاءك من يطلبه منك، فأعطيته إياه فبقي عنده، ثم بعد ذلك جئت تطالبه وإذا بالبعير عنده، فقال لك: خذ بعيراً مثله، فقلت له: أُريد نفس بعيري. وعلى هذا أثبت الحق لك بالبدل، إن شاء أعطاك عينه، وإن شاء أعطاك بدله، هذه مسألة البدلية، فقد يكون من الأفضل أن يأخذ الإنسان عيناً وفي بعض الأحيان العكس. وقوله: [فإن رده المقترض: لزم قبوله] [فإن رده المقترض] إن رد المقترض القرض [لزم] أي: لزم المقرض [قبوله] أي: أخذ المال ولا يجوز له أن يمتنع والضمير في [رده] عائد إلى البدل، فإذا رد البدل لزم المقرض قبول البدل، ولا يقول: أطالب بعين ما دفعت، ولا يطالبه بعين ما دفع، وعلى هذا يقرر المصنف أنه بمجرد قبضه ينتقل الأمر إلى الذمة، وإذا انتقل إلى الذمة سقطت العين، فإذا قلت: ذمة فإنه يصبح مثلياً، وإذا قلت: عيناً فإنه يصبح منحصراً في نفس
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/326)
الدين. فمثلاً: إذا أقرضت هذا الكتاب فمعناه أننا إذا قلنا: إنه يثبت عين الكتاب إن وجد أو بدله إذا لم يوجد يصبح ليس من حق المقترض أن يلزمك بمثله إن وجد عينه، فينصرف المعين إلى الذمة، أما لو قلنا: إن الواجب عليك المثل، فمعناه أنه في ذمتك، ولذلك قال: [ويثبت بدله في ذمته] ولم يقل: يثبت عينه، فإن لم يثبت عينه فبدله، لا. إنما يثبت البدل والمثل، والبدلية تستلزم المثلية في الجنس والنوع والعدد والقدر والصفة.
قضاء الديون إن اختلفت العملة وقوله: [وإن كانت مكسرة أو فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها: فله قيمتها وقت القرض] هذه المسألة كانت في القديم حيث كانوا يضربون الدنانير والدراهم في بيت المال ثم يتعامل الناس بها، وهذه الدنانير والدراهم يصاحبها نوع ثالث من النقود وهي الفلوس، وكثيراً ما تكون من النحاس، ويكون لها رواج، ثم تلغى هذه الفلوس التي من النحاس ويؤتى بفلوس أخرى، ويسمونها السِّكَّة بحيث تضرب من جديد، فيضرب نوع جديد غير النوع القديم، وفي زماننا يضرب ورق نقدي جديد غير الورق النقدي القديم. فحينئذٍ إذا منع السلطان التعامل بالورق القديم وأحدث ورقاً جديدة، فحينئذٍ يلزم بمثلها، أي: إذا كانت الريالات هي نفس الريالات فلا إشكال، فكما أنه ينتقل إلى المثلي في أصل الدين من نفس العملة ينقل إلى العملة نفسها إن صارت مثلية، فمثلاً إذا أخذ منك مائة ريال على أن يردها بعد شهر، فجاء بعد شهر وأعطاك المائة ريال، من نفس النقد، فكما جاز له أن يرد المثل من نفس النقد ومن نفس الريالات جاز أن يرد ريالات أيضاً عليها شكل آخر أو ضرب آخر أو بصفة أخرى مادام أنها هي نفسها. وعلى هذا لو أنه اقترض ريالات قديمة ثم أُلغيت واستبدلت بريالات جديدة فإنه يقضيه بالريالات الجديدة، فإن أُعدمت الريالات نهائياً وجاءت عملة أخرى بدلاً عنها باسم جديد فحينئذٍ يقدر قيمة القديم بالجديد إذا كانت حالة. فعندنا هنا حالتان: الدنانير القديمة تكون مثلاً بغلية، ثم يؤتى بدراهم إسلامية، فلو أنه اقترض بالدرهم البغلي ثم أُلغي حتى لا يتعامل به الناس -فسواءً توقف الناس عن التعامل به أو أُلغي من السلطان- فحينئذٍ لو أُلغي هذا الدينار فإنه ينزل الدينار الذي ضرب مكانه منزلته، إن كان بوزنه وبقدره وبحجمه، كريال الفضة القديم مع ريال الورق الموجود الآن، فإن ريال الفضة القديم حينما سحب أعطي بدله المستند، ومن هنا قالوا: إن المستند منزل منزلة رصيده فوجبت فيه الزكاة، وهذا هو وجه من يقول: إن النصاب ثلاثة وخمسون ريالاً؛ لأن ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة تعادل السَّكَّة الجديدة، فالفضة القديمة ألغيت لكن أُقيم المستند مقامها فنزل منزلتها، والعجز عن الرصيد يعتبر عذراً فنزلت منزلتها حكماً. وعلى هذا نوجب فيها الزكاة، مع أن الورق لا تجب فيه الزكاة، فلو قلنا: لا رصيد لها فمعناه أن الزكاة لا تجب فيها، وعلى هذا وجبت الزكاة فيها؛ لأن رصيدها من الفضة، ويقوم رصيدها بمائتي درهم الذي هو أصل الفضة، فلما كان عدل المائتين درهم ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة بوزنها يعادل الخمسة أواقٍ من الفضة التي هي النصاب، قالوا: نزلت الثلاثة والخمسون ورقاً منزلة ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة، ولو جئت تبادل ريال الورق بريال الفضة القديم فإنك تبادله مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو جئت تبادل ريال الفضة القديمة بثلاثة ريالات جديدة فهو عين الربا، كأنك بادلت رصيده من الفضة القديمة ثلاثاً بريال وهو عين الربا، ومن هنا إذا ألغي القديم وجاء الجديد مكانه اسماً وصفة وحكماً واعتباراً وجب أن يبقى على هذا الأصل. فلو قال قائل: ألغي رصيده في التعامل العام الذي يكون بين الجماعات والجماعات، والدول والدول، هذا إلغاء رصيد، فأصبحت القيمة للمشتريات والصادرات والواردات بالريال الجديد، لكن قيمة الريال في ذاته وأصله وحقيقته مستند، ولو وضعت عندي كيلو من الذهب أمانة وأعطيتك مستنداً عليه، ثم قلت لك: ألغيت الرصيد وهذا المستند لا قيمة له لم يصح في حكم الشرع، فدل على أن إلغاء الرصيد لا يلغي قيمة الريال، وإذا كان لا يلغي قيمة الريال، فوجب أن يصرف الريال بالريال مثلاً بمثل، يداً بيد، وأنه لو صرف تسعة ريالات بعشرة ريالات فهو كصرف تسعة ريالات فضة قديمة بعشرة ريالات فضة قديمة، لأنه إذا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/327)
أُلغي القديم ونزل الجديد منزلته اسماً وصفة فإنه يأخذ حكمه، سواءً بسواء، فلو قلت: إنه ورق، نقول: إن الورق لا قيمة له، ولا تجب الزكاة فيه. فإن قيل: إنه ورق له قيمة فنزل منزلة الذهب والفضة نقول: إن ورق كتب العلم له قيمة، والدفاتر لها قيمة، وغيرها من الأوراق لها قيمة؛ لأنها كلها لها قيمة شرائية، فلو كانت مسألة القيمة توجب الزكاة لوجبت في الأوراق؛ لأن العبرة بالرصيد. وبناءً على ذلك: إذا ألغي القديم ينظر في الجديد، فإن نزل منزلته من كل وجه صار آخذاً حكمه من كل وجه، فلو استدان منه مائة ريال فضة قديمة قضاها مائة من الفضة القديمة إن وجدت، فإن لم توجد قضاها بالورق، ونزل الموجود من الورق منزلتها.
تسديد القروض المثلية بالمثل وقوله: [ويرد المثل في المثليات] مثلما ذكرنا أن المثلية تستلزم الجنس والنوع والقدر والصفة، فمثلاً: لو استلف بعيراً بكراً أو خياراً فإنه يرد الجنس بالجنس، والنوع بالنوع، والسن بالسن الذي هو القدر، فقدره في السن بكر ببكر .. رباعي برباعي .. جذعة بجذعة .. وابن لبون بابن لبون، مثِلاً بمثل، ذكر بذكر، أنثى بأنثى، فإذاً: يرد المثل في المثليات، وعلى هذا يكون العدل، وكما قال الله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] (وإن تبتم) أي: في مسألة الديون، (تَظْلِمُونَ) أي: الناس، حينما أخذتم رأس المال لم تأخذوا زائداً عن حقكم، (وَلا تُظْلَمُونَ) لأنكم لم تبخسوا حقوقهم، فأخذتم رأس مالكم وحقيقة ما دفعتموه، وعلى هذا لابد من التماثل، هذا في القديم، ونفس الشيء في الجديد، فلو اقترض منه سيارته أو أدوات أو فراشاً، فإنه ينظر إلى جنسه ونوعه وصفاته ويرد مثله في الصفات وفي الجنس وفي النوع.
تسديد القيمة عند عدم وجود المثل وقوله: [والقيمة في غيرها] المثليات قالوا: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، وفي المعدود عدداً، أما إذا تعذر أن يصير إلى المثل حينئذٍ صار إلى القيمة، فالدراهم والدنانير إذا أُلغيت وجيء بعملة غير العملة القديمة بأن كانت القديمة من الذهب فصارت من الفضة، فإنه ينظر إلى القيمة، عِدل الذهب من الفضة في ذلك الزمان يوم القرض، إن قالوا: يعادل خمس جنيهات، فحينئذٍ هذه الخمس جنيهات الموجودة الآن تقضى له خمس جنيهات، فينظر إلى المثلي يوم القرض؛ لأنه فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يعتبر يوم القرض، وبعضهم يعتبر بيوم القبض، وهذا هو الصحيح، وهو أننا إذا كنا نقول: إنه يملك بالقبض فمعناه أن ذمته شغلت بالقبض، وعلى هذا ينبغي أن يتقيد بالقبض. فلو أنه اقترض سيارة في شهر رجب وهذه السيارة قبضها منه في شعبان، وكانت قيمتها في رجب خمسة آلاف، وفي شعبان قيمتها أربعة آلاف، فحصل القبض في شعبان، ثم تصرف في السيارة حتى تلفت ولا يوجد لها مثلي، فحينئذ نصير إلى القيمة، فإن نظرنا إلى العقد يوم القرض فهو في شعبان وهو قبضها في رمضان، فإذا جئنا يوم الاتفاق والعقد في شعبان وكانت قيمتها خمسة آلاف، ويوم القبض والتصرف في رمضان كانت قيمتها أربعة آلاف اختلفت القيمة، قالوا: العبرة بيوم القبض وهذا هو الصحيح، أنه إذا استلفها منه نظر إلى يوم القبض؛ لأن الملكية تصير إليه وتتعلق بذمته عند القبض، فصار مشغول الذمة وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، ونص الإمام أحمد رحمه الله على هذا كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة في المغني. وقوله: [فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً] مثل السيارات التي ينقطع موديلها ولا يوجد لها مثيل فينظر إلى قيمتها، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا أعوز المثل، ومن هنا تتفرع المسألة في اختلاف القيمة الشرائية للعُمل، فإن استسلف شخص عملة بالدولارات، والدولار قيمته عشرة ريالات في عام ألف وأربعمائة، ثم أصبحت قيمته في عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر -عند القضاء- عشرين، فحينئذٍ هل نقول: إنه يجب أن يقضيه نصف القيمة؛ لأنه قد زاد عن الأصل الذي أخذ به، أم نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته؟ نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته غالياً أو رخيصاً، والسبب في هذا قاعدة سبق وأن بيناها: أن الغنم بالغرم. وبناءً على ذلك: في العملة؛ إذا استدان منك مائة دولار إلى السنة القادمة فمعناه أنه قد رضي بخسارتها ورضيت أنت بخسارتها، ورضي بما يكون من ربحها
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/328)
وارتفاع سعرها، ورضيت بربحها وارتفاع سعرها، فلا يصح إذا نقصت قيمتها أن يأتي يطالبك؛ لأنه لو زادت قيمتها لطالبك بالمثل، ومن هنا قالوا: يتحمل المسئولية، فأي شيء استدانه وجاء ليحل ويفي رد مثله، بغض النظر عن كونه غالياً أو رخيصاً، يطالب بالمثل؛ وعلى هذا أصل شرعي، وهو أنه إذا أخذ الشيء رده، فإن قلنا: إن الشيء ملكه يرد مثله، فإن وجد المثل وجب أن ينصرف إليه. لكن لو أنه قبل خمسين سنة أخذ منه ثلاثة ريالات فضة، ويمكن أن تصل قيمتها اليوم ثلاثة ملايين. نقول: يقضيه ثلاثة ريالات الآن، لكن من باب الوفاء وحسن القضاء لا بأس أن يزيده لكن لا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً)، وقال: (رحم الله امرء سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فإذا أردت أن تقضي فتحسن وتتذكر فضله، وهذا من خلق الكرام، فإن الكريم إذا أكرمته رد الكرامة بمثلها وزيادة، وعلى هذا لا يليق وليس من المحاسن أن يرد نفس المال، وإنما يرد ويحاول أن يجبر خاطر من دينه، خاصة وأن هذا فيه رد للجميل.
حكم القروض التي تجر منافع وقوله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] الشروط في القروض تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شروط مشروعة. والقسم الثاني: شروط ممنوعة. والقسم الثالث: شروط مختلف فيها. وهذا القرض له نوعان من الشروط: شروط شرعية وشروط جعلية، والفرق بين الشروط الشرعية والجعلية: أن الشرعية لا يصح أن يكون القرض من مجنون أو ممن لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، أما الجعلية، أي: جعلها المتعاقدان أو اشترطها أحدهما ورضي بها الآخر. وهذه الشروط الجعلية من المتعاقدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون مشروعة، وإما أن تكون ممنوعة، وإما أن تكون مختلفاً فيها. فالشروط المشروعة المتفق عليها أن يقول له: أعطني قرضاً مائة ألف، قال: أعطيك ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً غارماً يغرم، هذا شرط اشترطه رب الدين على المدين، وكما لو قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال: أقرضك ولكن بشرط أن ترهن دارك أو ترهن عندي رهناً، فهذا شرط، أو يقول له: أقرضني مائة ألف، قال: بشرط أن نسجل هذا الدين وأثبته عليك بكتابة وشهود، قال: قبلت، فإذاً: هذا دين بشرط، وهذا الشرط جعلي من المكلفين، ولكنه مشروع غير ممنوع، وضابط المشروع: أن لا يخالف مقتضى القرض وأن لا يفضي إلى محرم، فمثلاً لو اقترضت من شخص فقال لي: أقرضك هذه المائة ألف بشرط أن لا تشتري بها شيئاً، ومقتضى القرض في الأصل أن أنتفع به وأرتفق، فإذا أخذت المائة ألف على هذا الشرط فماذا أفعل بها؟ فإذاً: هذا يخالف مقتضى العقد، وقالوا: يشترط الرهن ويشترط الكفيل الغارم؛ لأن هذا يحقق مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يفي المديون للدائن، وأن ترد الحقوق إلى أصحابها، فإذا اشترط عليه الكفيل الضمان للاستيثاق بالرهن، فإن هذا مما يوافق الشرع ولا يخالفه. النوع الثاني: الشروط المحرمة وهي الممنوعة التي تخالف مقتضى عقد القرض، فإن عقد القرض يقصد منه الارتفاق، فيقول: أقرضك على أن لا تتصرف في الدابة، بأن لا تركبها ولا تبيعها ولا تحلبها، فهذا كله يخالف مقصود عقد القرض، فهذا نوع من الشروط المحرمة. النوع الثالث: أن يكون الشرط متضمناً للربا مفضياً إليه، كأن يقول له: أشترط عليك فائدة في كل مائة (6%) أو كل شهر (5%) فهذا من شرط الربا، ولا يجوز. فالمقصود: أن كل قرض اشتمل على شرط يجر نفعاً فإنه لا يجوز وهناك شروط اختلف فيها العلماء فمثلاً: يقول له: آخذ منك هذه المائة ألف بشرط أن أسددها في نهاية السنة، فهذا اشتراط التأجيل، فبعضهم يراه جائزاً كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم لا يراه جائزاً كالجمهور، وهناك مثلاً بعض الشروط لا بأس بها وهي مشروعة، وفي بعض الأحيان تكون ممنوعة بنص الشرع، كأن يقول له: أقرضني مائة ألف، قال له: أقرضك مائة ألف بشرط أن تبيعني بيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف)، فهذا قرض خالف الشرع لورود النص فيه بعينه، قالوا: لأنه إذا اشترط عليه البيع، فالبيع غالباً فيه ربح، فكأنه يعطيه الدين بالدين مع زيادة الربح في صفقة البيع، وهذا ينبه على أن الشريعة حرمت الربا، وحرمت ذرائع الربا، ولا يشترط في الربا أن يقول له: الواحد باثنين أو الواحد بثلاثة. ومن هنا كان الفقه في مسائل المعاملات والمعاوضات
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/329)
مهم، فهي في بعض الأحيان تتضمن المحذور بطريقة الذريعة والوسيلة. إذاً: كل قرض اشتمل على شرط جر نفعاً فهو ربا، أما لو أنه اشترط عليه ما فيه رفق به، فهذا فيه تفصيل عند العلماء، ومن أمثلته مثلاً، لو قال له: أسلفني مائة ألف، قال له: أسلفك مائة ألف، قال له: والله أنا لا أستطيع أن أسدد المائة ألف لكن أسدد لك ثلاثة أرباعها، قال له: إذاً: أسلفتك وخذ خمسة وعشرين منها وردّ خمسة وسبعين، فإذاً: أسلفه بشرط أن يحله من ربع الدين، ويرد له ثلاثة أرباع الدين، قالوا: هذا لا بأس به ولا حرج فيه.
الأسئلة ...... اعتبار المقاصد في عقود البيع السؤال: هل هناك فرق في الصورة بين القرض وبين صرف الأثمان مع النسيئة دون التفاضل؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: .. فإن المقاصد معتبرة في العقود، ولذلك تقوم العبرة في العقود بمقاصدها، فإذا قال له: بعني كان بيعاً، وإذا قال له: صارفني كان صرفاً، وإذا قال له: أسلمتك صار سلماً، وإذا قال: أسلفتك صار سلفاً، فلما كان العقد عقد سلف قالوا: هذا مستثنى، ومن هنا استثني أن يأخذ الدراهم ويردها بعد مدة؛ لأنه لم يقصد المصارفة وإنما قصد الدين، ومن هنا قالوا: هذا مستثنىً كاستثناء العارية من المزابنة، ورخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فإنه يعتبر المقصد، فإن كان المقصد الدين جاز، وإن كان المقصد الصرف والبيع لم يجز، والله تعالى أعلم.
حكم إنقاص المشتري من الثمن المتفق عليه السؤال: رجل اشترى سلعة فاتفق مع البائع على ألف ريال، لكنه لما أعطاه المال أعطاه تسعمائة وخمسين ريالاً فقط فوافق البائع، فهل يجوز هذا؟ الجواب: إذا اشتريت بألف ريال ثم جئت، وقلت له: أعطيك تسعمائة وخمسين ريالاً ورضي البائع جاز، والرضا ينقسم إلى أقسام: 1 - الرضا بطيب نفس ورضا خاطر، كأن تأتي تريد أن تعطي المال، فلما وصلت إلى تسعمائة وخمسين وأردت أن تخرج الخمسين، فقال لك: لا. هذه تكفي، وهذا يقع بين الأحبة والإخوان، وتعلم من دلائل الحال وبساط المجلس ما يدل على أنه يريد ذلك. 2 - الرضا الممكن الذي يكون على حد سواء، مثل: شخص تأتي وتبيع عليه بألف، فإذا جاء أعطاك تسعمائة وخمسين، فقلت له: يا أخي! أعطني خمسين، فقال: سامحني، فنقول: يا أخي! أعطني حقي! قال: سامحني، فتطالبه، وإذا بك ترى أنك تزري بنفسك، وربما يكون بين أُناسٍ تستحيي أن تطالبه أمامهم، فتضطر أن تقول له: اذهب، فكأنك اضطررت غلى مسامحته، فتقول بلسان الحال: وما حيلة المضطر إلا ركوبها! فهذا المأخوذ بسيف الحياء لا خير فيه ولا بركة فيه، ومثل هذا ينزع الله البركة له من الصفقة؛ لأنه لم يأخذ بالسماحة، وإنما أخذ بالأذية وإحراج الناس، ومثل هذا ما يقع في فضول أموال الناس، كأن يأتي لبائع يبيع الطعام، فيقول له: بكم هذا؟ ويلتقط منه ويأكل دون أن يستأذن، وربما أنه أكل الشيء، فلا يستطيع البائع أن يقول له: يا أخي! لا تأكل. فمثل هذه الأشياء ينبغي اتقاؤها، وهي إلى التحريم أقرب إن عُلم أو غلب على الظن أن البائع لا يرضى، ولابد أن يتحرى في رضاه، وأن يعلم منه طيبة النفس ورضا الخاطر، فإذا غلب على ظنك أنه بطيبة نفسه ورضا خاطره فلا بأس، وإن كان الأفضل والأكمل العفة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستعفف يعفه الله وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالقناعة بما أعطى الله عز وجل خير للعبد، فإذا جاء أحد يستفضل عليك، قلت له: لا، هذا حقك خذه كاملاً، وبارك الله لك في مالك، فهذا هو الأفضل والأكمل للمسلم، أن يعامل الناس ويؤدي حقوقهم إليهم كاملة. وأما إذا كان بسيف الحياء أو يكون البائع غريباً أو عاملاً مستضعفاً، فيأتي ويقف يصيح عليه بقوة ويرعبه ويزعجه، فإذا جاء وقت المطالبة أعطاه المال ناقصاً ثم زجر بقوة فاضطر العامل أن يسكت، فإن هذا من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الرضا وجوده وعدمه على حد سواء، فينبغي أن يُتقى في مثل هذا، وأن يفصل فيه، فما كان من الرضا مستوفياً بالصفات المعتبرة حكم به وإلا فلا، والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/330)
حكم بيع الدابة نسيئة السؤال: أيجوز بيع دابة بدابة ويدفع المشتري أو البائع لصاحبه زيادة من المال أو من أي شيء آخر؟ الجواب: الدابة بالدابة معدود بمعدود يجوز متفاضلاً ونسيئة، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) فهذا ليس بمحذور؛ لأنه جمع بين البيع والدين، فهو بيع لأنه بعير ببعيرين -ولو كان ديناً لكان بعيراً ببعير- ودين من جهة الأجل؛ لأنه قال: (البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) وعلى هذا يجوز لك أن تشتري السيارة بالسيارتين، والسيارة بالسيارة من نوعها مع الزيادة، والسيارة بالسيارة من نوعها مع زيادة من نوعها أو صفاتها أو بزيادة في المال، كأن يقول: أعطيك سيارتي وتعطيني سيارتك وأزيدك خمسة آلاف أو عشرة آلاف فلا بأس، وهكذا بقية المعدودات، فلو بادل ثلاجة بثلاجتين، أو غسالة بغسالتين، أو مصباحاً بمصباحين، وقس على هذا، فإن الكل جائز، والله تعالى أعلم.
كلمة توجيهية حول طلب العلم السؤال: الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى علم شرعي مبني على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية تحث فيها كل داعية إلى الله عز وجل على الاهتمام بالعلم الشرعي، وفقكم الله؟ الجواب: الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً) ومن حمل هموم الدعوة إلى الله وحمل أمانة الدعوة وتبليغ رسالة الله إلى عباد الله فقد حمل أشرف الأشياء، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته ولا عبادة إلا بالعلم وبالبصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]. فلابد للداعي أن يستشعر أولاً: ما هي الدعوة؟ وما هي الرسالة التي يحملها، والأمانة التي في عنقه لأهلها؟ فإذا عرف عظم هذه المسئولية؛ علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله بأن يكون أجره على الله لا على أحد سواه: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] وقال عن أنبيائه نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السماوات والأرض ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف .. على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن قبل عملك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً وهو الله جل جلاله. وعلى الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما يكون الداعية العالم ولا تكون دعوة إلا بعلم، فمن أراد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم، وليأخذ من العلم، وينتهي من العلم ويحرص على مجالس العلم، ويكون من أهل هذه الرياض التي تنشر فيها رحمة الله، ويبتغى فيها ما عند الله، ويصبر ويصابر ويجد ويجتهد ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك، حتى يبلغ من العلم أعلى مراتبه، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها. وأول ما ينبغي على الداعية طلب العلم، وإذا طلبت العلم تطلبه بقوة وبعزيمة وهمة صادقة لا يثنيك عنها شيء، فلا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاع زائل وغرور حائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تحس أنك أنت الرابح، ولا يكون طلبك للعلم بضعف، فتشعر أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تتاجر ولا تربح، لا. بل تدخل في العلم وتحس أنك أربح صفقة وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، فقد طلب أقوام العلم فكفاهم الله هم الدنيا والآخرة،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/331)
واقرأ في سير العلماء، والله إن منهم من كان لا يجد إلا طعمة يومه .. مرقع الثياب .. حافي القدم، ولكنه أغنى الناس بالله جل جلاله، وأسعد الناس، وأشرحهم صدراً، وأثبتهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضعه الله في قلبه وفي لسانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، فلا يشتكي من السهر والتعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وصدق وعزيمة. فإذا جد طالب العلم في طلبه عليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها فتكفي الأمة همها وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله بمكان، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما يكون علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه عظيم البلاء بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى. كما ينبغي أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى أمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدث في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان، وتحرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ، ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى إنما تأتي باللفظ نفسه، فإذا بلغت ذلك كملت نظارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)، فهذا أكمل ما يكون في طلب العلم فإذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها، فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً، وتحرص في مجالس العلم على أن تتقيد بما سمعت، ثم بعد ذلك إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقة تامة أن الله مطلع على سريرتك وما في قلبك، وإن نظر الله إليك في كل مجلس ودرس تحاول أن تفهم وترجع مهموماً محزوناً تريد أن تضبط هذا العلم وتضبط كل كلمة وعبارة وجملة، أثابك على ذلك. العلم تسلو به الأرواح والأنفس، فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات .. آية في علم اللغة .. آية في لسان القرآن .. آية في الحديث والرواية بالأسانيد .. آية في الفقه وهو صاحب كتاب الأموال وصاحب الغريبين، هذا الإمام العظيم استوقفه رجل بعد صلاة العشاء، وكان قدم عليه من خراسان، فسأله عن مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر، وهذا ليس من ضرب الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم فإنك تسمو عن كل شيء، إذا ذهبت في هذه المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكنز العظيم الذي خلف، تحس بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، فقد كان الرجل منهم إذا لم يجد إلا صخرة لنقش العلم عليها حتى لا يفوت على من بعده. إن همم كان النصيحة لله ولأمة الإسلام رضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه الهمة الصادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم فمن الغبن والله، أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز لا نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لم نتعمق ونضبط ونجد ونجتهد، فطالب العلم اليوم يقف فقط عند الحكم دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ وإذا كان ليس بصحيح فلماذا؟ تغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، إذا تعبت اليوم وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة وتجد وتجتهد لا تشتكي من سهر ليل ولا ظمأ الهواجر، ولا تشتكي من غربة ولا من تعب ولا نصب وإنما تحس أنك أنت الرابح. لا إله إلا الله! لو ذهبت إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط والرجولة، والرجل تجده أمام أولاده، يقول لهم: هذا موسمي، هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر أنه وضع الشيء في موضعه وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/332)
جلاله؟ فمنزلتك عند الله على قدر العلم الذي عندك، فابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فعلى المرأ رجلاً كان أو امرأة أن يطلب العلم ويجد ويجتهد، ولا يقف عند الحدود بل يحاول أن يغوص في أعماق العلم. فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت، وقف يفسر سورة النور آية آية وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا ذهب في علوم القرآن رأيت منه العجب وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وإذا ذهب إلى السنة فناهيك به علماً وورعاً وعملاً مصاحباً للعلم رضي الله عنه وأرضاه. فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان، وما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم ولا أوفى من الله، والله إذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببت، ويأخذونه من فمك طيباً مطيباً كما أخذته من علمائك طيباً مطيباً، وكما أقررت عين العالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلابد وأن يقر الله عينك في طلابك، وهذه سنة الله عز وجل، وانظر في حال السلف فلا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله، فلما توفي ابن عباس فإذا طلابه هم سعيد بن جبير وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينه وبينهم عِلماً وعملاً، لابد وأن يقر الله عينك، وكله على قدر تعبك في طلب العلم. الآن انظر إلى الذين يأخذون الكتب ويقرءون من الكتب ولو كا
شرح زاد المستقنع - باب القرض [2] مشروعية القرض معلومة، وشروطه منها ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو مختلف فيه، كما أن القروض التي توضع في البنوك منها ما هي ودائع مشروعة، ومنها ما فيه احتيال وغرر، ومنها ما هو استثمار، وكل هذا له ضوابط وحدود معروفة عند علماء المسلمين، وأما الجمعيات المعروفة فهي في حكم المشتبه الذي لا يقطع فيها بالحرمة ولا بالجواز؛ لأن من نظر إلى ظاهر شروطها يجدها ربوية، ومن نظر إلى مضمون شروطها يجدها جائزة ليس فيها زيادة. أنواع الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين، أو يجعلها المدين على صاحب الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشروعة، والثاني: ممنوعة، والثالث: مختلف فيها، والأصل أنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين على المدين زيادة على دينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فإذا سُئلت عن قضاء الدين؟ تقول: الأصل أن يرد له دينه دون زيادة أو نقص؛ لأنه إذا زاد فقد ظلم المدين، وإذا انتقص من الدين فقد ظلم صاحب الدين، فأنصف الشرع وعدل بين الطرفين، فأوجب أن يكون الرد مثل المأخوذ دون زيادة أو نقصان، وإذا سُئلت عن دليله؟ قلت: قوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]. ثم إن العلماء تكلموا على الفوائد والأمور التي تكون زائدة عن الدين، وفصلوا فيها؛ لأن الشريعة منعت وأجازت، فمنعت من الزيادة في قوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وأجازت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قضى الدين وزاد، والشرط في الدين أن يقول صاحب الدين للشخص المدين: أعطيك مائة ألف بشرط كذا وكذا، وهذا الذي يشترطه تارة يكون مالاً من جنس الذي دفع إلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/333)
المدين، كأن يقول: أعطيك مائة ألف بشرط أن تردها لي مائة وعشرة، فهذا شرط بزيادة. وتارة يقول له: أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تؤجرني دكانك أو تبيعني سيارتك أو عمارتك أو أرضك أو مخططك أو طعامك إلى آخره، فصار قرضاً وبيعاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع. وبناءً على هذا يقول العلماء: إن الفوائد المستفادة فيها تفصيل: فإن كان صاحب الدين اشترط منفعة زائدة على المدين أياً كانت المنفعة إما بالمال والنقد أو ما يكون مقدراً له قيمة فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف) فالزيادة لا تجوز ولو كانت ضمن عقد آخر، فإنه لما نهى عن بيع وسلف، عندما يقول لك: هذه عشرة آلاف بشرط أن تبيعني سيارتك بثمانية آلاف تكون السيارة قيمتها عشرة آلاف، فتتنازل عن الألفين لقاء القرض، وعلى هذا قالوا: لا يجوز الشرط بالمنفعة. هنا مسألة: وهي وجود المنافع كأن يقول لك: أعطيك مائة ألف مثلاً من الذهب، في القديم الدنانير تحتاج إلى حمل؛ لأنها من الذهب، والذهب يوضع في الأكياس، والأكياس لابد من حفظها، وإذا أعطاه في مكة، وقال: بشرط أن تعطيني المائة ألف في نهاية رمضان في المدينة، فإن حمل الذهب من المدينة إلى مكة فيه مخاطرة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى حمله والاستئجار للدواب لوضعه بها ثم نقله إلى المدينة، فإذا قال: أعطيك مائة ألف في مكة بشرط أن تقضيني إياها في المدينة أو الطائف، فهمنا أنه يريد منفعة السلامة من الخطر، والنجاة من ضمان الحمل. فإن كان الحمل يكلف خمسمائة ريال مثلاً، فكأنه أعطاه مائة ألف ليردها مائة ألف وخمسمائة. إذاً: الفوائد تكون ظاهرة وتكون خفية عن طريق المنافع، ومن هنا نهي عن قرض وشرط، فالقرض الذي يكون معه شرط فيه فائدة فهو محرم، فمثلاً: الودائع المصرفية كأن يودِع في المصرف عشرة آلاف على أنها وديعة، فيأخذ عشرة آلاف وخمسمائة بعد أجل مسند، فيشترط عليه المصرف شرطين: الشرط الأول: أن لا يسحب هذه الوديعة قبل سنة؛ لأن الودائع المصرفية التي عليها فوائد لابد أن تمكث مدة معينة، وكل سنة فيها مثلاً (6%)، فمعناه أنه اشترط عليه بقاءها إلى أجل على أن لا يطالبه قبلها. وثانياً: أن يعطيه زيادة عليها، فشرط الأجل من المصرف وشرط الزيادة من العميل؛ لأن العميل هو الذي يطالب بالزيادة. وبناءً على ذلك: إذا كانت القروض تأتي بفوائد عينية كمائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وهذا يدعونا إلى دراسة ما يسمى بالوديعة المصرفية؛ لأن الباب باب قرض، وفيه قديم وجديد، وطالب العلم قد يدخل إلى المصرف ويرى كلمة (حساب جاري) ولا يعرف ما معنى ذلك، ويرى مثلاً: الودائع بفوائد، وهو لا يدري عنها، فلابد أنه يعلم الحكم والموقف الشرعي من هذا النوع من القرض، فنحتاج إلى مسائل: ...... الفرق بين الوديعة الشرعية والوديعة المصرفية المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟ فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض. فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟ أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه. الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا، والسؤال: هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟ إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/334)
فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناًَ، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد. فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة. إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد العين أم بحفظه ورد مثله؟ الجواب: رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه. ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء. وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع. إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام. ...... أقسام الودائع المصرفية القسم الأول: الوديعة المستندية. القسم الثاني: الحساب الجاري. القسم الثالث: الودائع بالفوائد. القسم الرابع: شهادات الاستثمار. ...... الوديعة المستندية أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان. إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟ الجواب: يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا. إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن السؤال: اتفاق المصرف مع
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/335)
العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟ يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك. فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول. إذاًَ: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً.
الحساب الجاري والودائع بالفوائد القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور. الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص. الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم. الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة. أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً. إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان. أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً)؟ الجواب: إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم. الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/336)
بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك. إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين: الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله. الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته. وهنا سؤال: لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟ الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله تعالى يقول في القرض: فَلَكُمْ [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام. وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟ نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟ ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار! إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟ ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/337)
فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة. الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين: المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً. إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك.
شهادات الاستثمار هناك مسألة الوديعة بزيادة مشترطة، وهي ما يسمى بالاستثمار، فمثلاً يحدد المصرف مبلغاً ما ويقول للعميل: ادفع ما لا يقل عن ستة آلاف ولا يزيد عن عشرة آلاف قسطاً شهرياً لمدة ثلاث سنوات، فإذا مضت الثلاث السنوات أعطيناك زيادة (6%) على المبلغ كله. أولاً: لابد أن يحدد المصرف الحد الأقل للمبلغ المدفوع والحد الأقصى، أي: ما بين ألف إلى عشرة آلاف، كأن لا تزيد على عشرة آلاف ولا تنقص عن ألف، إن شاء يدفع ألفاً شهرياً قُُبل منه، وإن شاء يدفع ألفين أو ثلاثة آلاف إلى أن يصل إلى عشرة آلاف، فلو قال: سأدفع شهرياً أحد عشر ألفاً يقولون: لا، ادفع فقط ما بين ألف إلى عشرة آلاف. وهذه هي الفئة الممتازة، فعندما تكون فئة (أ) يكون فيها المبلغ أكبر والمدة محددة، فبعد أن يحدد المصرف أقل مبلغ يدفع يحدد له أكثر المبلغ، ثم تحدد المدة، يقال لك: تدفع لمدة سنتين شهرياً، فلو دفع ألفي ريال شهرياً، والسنة فيها اثنا عشر شهراً، فمعناه أنه سيدفع أربعة وعشرين ألف ريال، والأربعة والعشرون ألف ريال خلال ثلاث سنوات يكون مجموعها اثنين وسبعين ألف ريال، وهذا المبلغ يحسب منه فوائد (10%) أي: سبعة آلاف ومائتين، معناه أنه سيعطيه تسعة وسبعين ألفاً ومائتين، فكانت المعاملة على النحو الآتي: يحدد المبلغ الأقلي والأكثري على أن يكون الدفع بينهما، ويلتزم العميل بالدفع شهرياً ولا يتخلف أي شهر حتى تتم المدة، ثم يلتزم بعدم السحب من الرصيد لمدة ثلاث سنوات؛ لأن المصرف سيأخذها ويقرضها للناس، وهذه الالتزامات على العميل مكونه من: التزام في المبلغ أن لا ينقص عن كذا ولا يزيد عن كذا، والتزام في المدة: ثلاث سنوات أو سنتين أو سنة ونصف، والتزام بعدم السحب، هذه ثلاثة أشياء، وبعد أن يتم الاتفاق على هذا الوجه يلتزم البنك والمصرف بإعطائه فائدة بنسبة معينة. إذاً:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/338)
هناك استثمار من فئة (أ) واستثمار من فئة (ب)، لماذا تتفاوت فئة (أ) عن فئة (ب)، فئة (أ) يكون المبلغ كبيراً ويحدد بمدة لأصحاب الأموال الكثيرة؛ لأنهم يعرفون طبقات المجتمع، ويريدون أن يستفيدوا من طبقات المجتمع، فيجعلون لمن كان راتبه أكثر مبلغاً أكثر، فيحددون مثلاً: من خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، طبعاً: لا يستطيع أن يدخل في هذا الاستثمار لمدة ثلاث سنين بهذا المبلغ الكبير إلا إنسان مقتدر، النوع الثاني: يضعونه، فئة (ب)، وهذه الفئة تتراوح المبالغ فيها من ثلاثة آلاف ريال أو من ألفين شهرياً إلى ستة آلاف، فيكون التحديد أقل والمبلغ أقل وأيضاً الفائدة أقل، أي: هناك تجد الفائدة (10%) وهنا الفائدة (5%) مثلاً، فالتفاوت والتفاضل بين الفئة (أ) والفئة (ب) من حيث المضمون والجوهر، لكن من ناحية شرعية الحكم فيهما واحد، فلا تضرك المسميات؛ لأن هذا شيء يرجع إلى طريقة حساب الفوائد، فهي تختلف من طبقة إلى طبقة. أعطوا في الفئتين السابقتين الاستثمار للطبقة العالية والطبقة المتوسطة وبقي الطبقة الضعيفة، فتعطى استثماراً من فئة (ج)، وفئة (ج) من مائة ريال، أو مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، يقولون: تدفع من خمسين ريالاً مثلاً؛ لأنهم يعرفون أنه سيشارك في هذه الفئة عدد أكبر، فيدفعون مثلاً: من خمسين ريالاً إلى ستمائة ريال لمدة ثلاثة شهور، وفي بعض الأحيان يحددون ويقولون: تدفع مائتي ريال شهرياً، فإذا دفع مائتي ريال شهرياً لمدة ثلاثة شهور هذه ستمائة ريال، والستمائة ريال يقولون: يلتزم المصرف بردها، ولكن يجمعون أسماء المشاركين كلهم، ثم توضع القرعة، ومن خرجت له القرعة أخذ الفائدة أو الجائزة الموجودة، وتقسم أرباح هذه الفئة كلها على عشرة أشخاص، يكون للأول ألف، وللثاني ألفان، وللثالث أربعة آلاف ... إلخ. فنلاحظ أن عندنا فئة (أ) وفئة (ب) وفئة (ج)، هذه ثلاث دركات -نسأل الله السلامة والعافية- فئة (أ) وفئة (ب) لها دراسة مستقلة، أما فئة (ج) فسنركز عليها أكثر؛ لأن البعض أفتى بجوازها، وأدخل بعض الشبهات في الحكم بجوازها، فسندرس فئة (أ) و (ب) على حدة، ثم بعد ذلك ندرس فئة (ج). فئة (أ) و (ب) حينما يقال: تدفع ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، وتلتزم ببقاء المبلغ ثلاث سنوات، وتلتزم أيضاً بعدم السحب منه وتعطى فائدة كذا، ما حقيقة هذا العقد؟ أولاً: هو قرض، وثانياً: اشترط فيه وجود المنفعة والزيادة، وهذا بإجماع العلماء ربا محرم؛ وهو مخالف لقوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فإذا أعطاه بزيادة -سواءً حدد المدة أو لم يحدد المدة مادام أنه يقول: آخذ منك هذا الدين وأرده بزيادة كذا وكذا سواء قلت الزيادة أو كثرت- فإنه الربا الذي حرم الله ولو ريالاً واحداً، فإن اشتراط هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة هو عين الربا. الأمر في (أ) و (ب) واضح جداً ولا إشكال فيه، لكن الإشكال في فئة (ج)، فما هي الشبهة وكيف جوابها؟ قالوا: أولاً: في فئة (ج) المصرف أو البنك لم يلتزم أن يعطيك فائدتك إنما هو قال: تدخل في القرعة، فيحتمل أن تربح ويحتمل ألا تربح، فإذاً: حينما دخل العميل في الاستثمار لم يشترط على المصرف أن يربح ولم يشترط المصرف له أن يعطيه الزيادة، فإذاً: خلا عن قرض شرط فيه النفع, وأصبحت الزيادة بدون اشتراط، فهي جائزة، وغاية ما فيه أن المصرف تفضل بإعطاء هذه الزيادة وهذا الربح من باب المكافأة، والمكافأة على الدين جائزة، هذا بالنسبة للشبهة التي تثار في فئة (ج)، أنه لم يلتزم بإعطاء الفائدة وإنما وقع ذلك على سبيل الاحتمال، وإنما تحرم الزيادة إذا كانت على البت، كما لو أقرض الشخص شخصاً يحتمل أن فيه مكافأة ويحتمل أن لا يعطيه مكافأة، فتردد بين الزيادة وعدمها، قالوا: فيجوز. والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال من وجوه: الوجه الأول: أن دخول العميل في هذا النوع من شهادات الاستثمار إنما قصد منه الربح والنماء، لم يدخل أحد في هذا الاستثمار لمجرد أن يحفظ ماله إنما دخل من أجل أن يربح، والمقاصد معتبرة في العقود، وعلى هذا كأنه يدين من أجل أن يربح. الوجه الثاني: أن هذا الربح لو كان مكافأة فإنه مبني على أصل محرم، والمكافأة من المحرم فرع راجع إلى أصله، وما بني على حرام فهو حرام، وبناءً على ذلك: لو سُلم جدلاً أنه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/339)
مكافأة، فإننا نقول: إنه يعتبر من مال محرم، والمكافأة من المحرم محرمة؛ لأنها مأخوذة من فوائد من الإيداع ومكافأ بها العميل، وعلى هذا فلا يمكن التسليم بأنها من المكافأة؛ لأن العميل دخل وقد علم المكافأة، وحددت له، وبينت له، ووضع المال قاصدها، وشرط المكافآت أن لا يكون هناك علم أو تواطؤ أو إخبار، فلو قال له: ادفع لي عشرة آلاف يمكن أن أعطيك عليها ربحاً أو لا أعطيك لحرمت بالإجماع، قال له: إذاً: أشترط عليك أنه إذا يسر الله تعطيني وإذا لم ييسر فلا تعطيني، فهنا يقول: أشترط عليك إن ظهر اسمي أعطيتني، وإن لم يظهر اسمي فلا تعطيني، فلا يوجد فرق بين الحالتين. فإذاً: التذرع بأن خير الناس أحسنهم قضاءً، هذا ليس بوارد، إنما يكون ذلك لو خلا عن المقصد، وجاء بدون قصد ولا عدة، وهنا جاء بقصد؛ لأنه دخل وهو يريد، وجاء بعدة محتملة، أي: إن ظهر اسمك كان لك وإن لم يظهر فلا، فالتذرع بمثل هذا لا يصح ولا يستقيم. الآن عرفنا الشبهة وجوابها، وعندنا شبهة سبق وأن نبهنا عليها، وهي: أنه يتذرع في شهادات الاستثمار بأنها من باب القراض، ولو فرضنا أن وجائز، كأن يدفع رب المال إلى العامل ماله على أن يتجر به والربح بينهما على ما شرطاه، القراض يكون عندك مائة ألف وأنت طالب علم لست بمهيأ للمرابحة بهذه المائة ألف أو المتاجرة فيها، وهي موجودة عندك كرصيد مجمد، فمن رحمة الله عز وجل وتيسيره أن أباح لك أن تعطيها رجلاً عنده خبرة، يضرب بها في الأرض ويتاجر فيستفيد بخبرته، وينمي هذا المال، فإن ظهر ربح كان بينكما على ما اشترطتما .. إما أن يقول: الربح بيني وبينك مناصفة، أي: إذا ربح خمسة آلاف فإن لك ألفين وخمسمائة وله ألفين وخمسمائة، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف في السيارات، أو الأقمشة، أو الأغذية، أو الأدوية أو غيرها ... وبعد مضي المدة المتفق عليها تقول له: يا فلان! احسب لي المضاربة، فيذهب ويبيع الأشياء الموجودة بمائتي ألف، ثم يدفع أجرة الدكاكين وأجرة الأعباء وأجور العمال، فاستقر المبلغ على مائة وخمسين ألفاً؛ لأن الربح لا يكون إلا بعد رد الحقوق، فأنت دفعت مائة واتفقتما على أن الربح بينكما مناصفة وكان الربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسةً وعشرين ويرد لك مائة وخمسة وعشرين، هذه هي المضاربة الشرعية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: من قال: إن القراض الذي هو المضاربة، ويسمى قراضاً ويسمى مضاربة، وسمي مضاربة؛ لأنه من الضرب في الأرض: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] الذي هي التجارة، وسمي قراضاً؛ لأنه اقتطع من ماله قرضاً فسمي بهذا. يقول: إن من قال: إنها ثابتة بالإجماع فقد وهم، إنما هي ثابتة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة، وجاء الإسلام والقراض موجود ومعروف، ورحلة الشتاء والصيف تدل على أنهم كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن للتجارة، ثم ترد الأرباح وتقسم على حسب ما يتفقون عليه، فأجازت الشريعة هذا النوع من العقود. يقولون: إن الفوائد والأرباح تعتبر قراضاً، وأعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي من يقول: إن عقد القراض ليس فيه نص من الكتاب والسنة بشروط معينة، وإذا كان ليس فيه نص معين لا من الكتاب ولا من السنة وليس فيه إجماع على شروط معينة، فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصبح قراض الأمس له حالة، وقراض اليوم له حالة، هذا هو الفقه الجديد الذي -نسأل الله السلامة والعافية- زين لصاحبه حتى يحل ما حرم الله، فيضل ويضل ومن ثم يهلك ويُهلك غيره. والقراض في الأصل يقوم على أركان وهي: رب المال، والعامل الذي يضرب بالمال ويتاجر، وهو الطرف الثاني، والمحل الذي هو المتاجرة، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، كأن يقول له: قارضتك على أن يكون الربح بيننا. يقولون: إذا جاء العميل للمصرف ودفع مائة ألف فإنن ...... حكم اشتراط المنافع على القرض يقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط] أي: في الدين إذا اشترط المنفعة فلا يجوز؛ لأن اشتراط المنافع تارة يكون من المكر، كأن يقول: العشرة آلاف تردها لي عشرة آلاف وخمسمائة، وبعض الأحيان يكون اشتراط المنفعة بالمعنى سواءً كانت منفعة اعتبارية أو منفعة من غير النقد، كأن يقول له: أعطيك عشرة آلاف على أن تعمل عندي يوماً، أو توصل هذا لفلان، أو تفعل كذا وكذا، فصار قرضاً جر
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/340)
نفعاً، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً من حيث الجملة إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة رحم الله الجميع برحمته الواسعة، فمن حيث الأصل لا يجوز القرض الذي يجر نفعاً، ولكن إذا ثبت هذا فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل وفي عصرنا الحاضر عندنا مسألتان نحتاج إلى ذكرهما: المسألة الأولى: قديمة وموجودة في زماننا. والمسألة الثانية: موجودة أو طرأت وكثر الكلام فيها الآن ....... مسألة السفتجة أما المسألة الأولى: فهي السفتجة وهي تنبني على الحوالات. المسألة الثانية: فهي جمعيات المال. أما السفتجة ففي القديم كانوا يخافون الخروج بالأموال في السفر، فيأخذ الرجل مائة دينار في مكة ويعطيه ورقة لوكيل له في المدينة، أنه إذا جاءك فلان فأعطه مائة دينار، وإذا جئنا إلى صورة المسألة نجد أنه دفع مائة دينار وأخذ مائة دينار، لكن الشخص الذي هو رب المال دفع المال في مكة بشرط أن يأخذه في المدينة، فاشترط أخذه في المدينة حتى يحيله إلى وكيله، وهذا الشرط في الحقيقة قصد منه منفعة الأمن من خطر حمل المال معه، ومن هنا اختلف السلف رحمهم الله في هذا النوع، وكان موجوداً في زمان الصحابة رضوان الله عليهم، فمنهم من رخص، ومنهم من منع. فإذا دفعت لأحد مالاً على أن تأخذه في مكان آخر، فلا يخلو المال من حالتين: السفتجات، وهي فارسية معربة، ويبحثها الفقهاء تحت هذا المسمى السفتجة، والسفتجة من حيث الأصل لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المال المديون يحتاج إلى مئونة حمل إلى المدينة، فمثلاًً: يأخذ المدين من صاحب المال مائة صاع في مكة ويقول له صاحب المال: بشرط أن تحيلني على وكيلك في المدينة وأستلمها منه، فإن كان نقل مائة صاع من المدينة إلى مكة يكلف ديناراً أو عشرة دنانير فصار كأنه أقرضه مائة صاع معها عشرة دنانير، فصار قرضاً جر نفعاً، وهنا نقول: لابد من دراسة؛ لأن المشكلة أن بعض العقود ترى في ظاهرها أن لا شيء فيها، لكن حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فتجد أنه لابد من التأمل والنظر بعمق. لذلك فلابد من دراسة المسألة حتى تفهم نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، فالسلف يعطي نفس المال، لكن لما أدخل البيع معه ربما وجدت الزيادة في البيع؛ لأنه لا يبيع أحد شيئاً إلا وفيه ربح، ففهمنا من هنا أن الشرع لا يقتصر على كون هذا أخذ رأس مالٍ ما لم يحقق في اشتراطه عليه، فلما اشترط شرطاً فيه الزيادة والمصلحة له فهمنا أنه قرض جر نفعاً واختلف فيه الصحابة رحمهم الله. أما لو كان المال المدفوع طعاماً يحتاج إلى نقل ومئونة، فجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على تحريمه؛ لأنه استفاد النقل، وسلم مئونة النقل، والمال صحيح أنه ما نقل لكنه اشترط شرطاً على وكيله هناك ولم يقل له: أدها لي هنا، فدل على أنه قصد الهروب من مئونة الحمل، ودلالة الحال قد تدل على المقاصد في المآل. ثانياً: أن يكون المال ليس فيه مئونة، فمثلاً: يعطيه مائة دينار في مكة، ويقول له: هذه المائة دينار أحلني على وكيلك في المدينة يعطيني المائة دينار وهذه المائة دينار، ليس في حملها مئونة، فلا تحتاج إلى أكياس وإجارة، بل يضعها الإنسان في جيبه، أو في خرجه ... إلخ، فلو كانت أكثر، مثلاً: عشرة آلاف دينار من الذهب -كما في القديم-، فتحتاج إلى صرر ويستأجر لحملها وكرائها، فهذا يدل على أنه يريد أن يخرج من مئونة الحمل ومئونة الخطر في الطريق؛ لأنه ربما ركب بحراً فغرق، وربما أخذت منه في الطريق، فالمقصود أنه يريد أن يتهرب من هذا كله، فيشترط أن يأخذها على وكيله حوالة، فصارت حوالة بمنفعة. فإن كانت لا مئونة فيها فقد شدد فيها بعض السلف ورخص فيها البعض الآخر، وممن رخص فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد كان ابن الزبير كما روى عطاء يأخذ المال من الرجل في مكة ويكتب لأخيه مصعب في البصرة أن يقضيه، وهذا على سبيل الترخص؛ لأنه نفس عين المال وما فيه مئونة، وبناءً على ذلك رخص فيها هؤلاء الصحابة، وكذلك قال بهذا القول جمع من التابعين رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد. ومنعها بعض السلف على خلاف
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/341)
بينهم، فمنهم من يفهم من كلامه التحريم، ومنهم من يفهم من كلامه الكراهية، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية وطائفة من الحنفية رحم الله الجميع، فيقولون بالمنع، إما على سبيل التحريم، وإما على سبيل الكراهة، وروي الجواز مع الكراهة عن مالك من وجه يثبت عنه. وبناءً على ذلك يرد السؤال الآن في الحوالة في الأصل بنفس العملة وبغير العملة، كأن تريد مثلاً تحويل عشرة آلاف ريال من مكة إلى المدينة، فالعملة واحدة، وتريد تحويل عشرة آلاف ريال إلى دولارات في غير مكة خارج البلاد مثلاً. والحوالة في الأصل هل هي حوالة أم قرض؟ هذا يحتاج إلى نظر، الحوالات الموجودة الآن هي قرض، وهي آخذة حكم السفتجات؛ لأنك تأتي إلى المصرف وتعطيه عشرة آلاف، وحين يأخذ المبلغ فإنه لا يحيلك بنفس المبلغ، وإنما حقيقته أنه أخذ هذا القرض في ذمته وأحال إلى وكيله أن يعطيك إياه، وأنت لا تحيل إلا لمصلحة، فكأنك أقرضته لمصلحتك، وهذا وجه دخولها في السفتجات؛ لأنه يريد توصيلها وفي توصيلها مئونة، فإن جاء يسافر هو بنفسه فمئونة السفر مكلفة، وإذا استأجر الغير فإنه يدفع قيمة استئجار الغير، فهي داخلة في حكم السفتجة. فعلى قول من قال من الصحابة بالترخيص في السفتجات، وهذا مع اتحاد العملة فلا إشكال في الجواز، يكون في حكم السفتجة جائزة على قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، والنفس تطمئن إلى هذا القول، خاصة كما قال الإمام مالك: إن الناس يحتاجون إلى ذلك، فخفف فيه لوجود المصلحة، وصار فيه نوع من الإرفاق وهو متفق مع مقصود الدين. ويبقى النظر في الحوالة مع اختلاف العملة، إذا دفعت عشرة آلاف فإنها في الأصل تكون ريالات وتريد تحويلها إلى البلد الثاني بعملته، فهنا عقدان: العقد الأول: الصرف، وهو كونك تبدل العشرة آلاف من ريالات إلى دولارات، والعقد الثاني: عقد الحوالة، فيجب أولاً: أن تصرف وتبدل العملة إلى عملة أخرى، وتقبض يداً بيد، فإذا حصل الصرف بصفته الشرعية المعتبرة، ودخلت النقود في شيك أو حوالة وأحيلت فلا إشكال في جوازها على قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله، لكن لو أعطاه عشرة آلاف ريال، وقال: حولها إلى فلان دولارات، فحينئذٍ وقعت النسيئة والتأخير في الصرف، ولا خلاف في أن وجود التأخير يوجب التحريم، إذاً: المخرج والمباح أن يصرف أولاً وبعد القبض يحيل ما شاء من المال.
مسألة الدين في الجمعيات أما مسألة الدين في الجمعيات، فإن الجمعية -إذا جئت تنظر إليها- في الواقع هي قرض جر نفعاً، فلو دخلنا الجمعية بخمسة آلاف ريال، فكل شخص يدفع الخمسة آلاف على شرط أن يدينه الثاني أو يدين من يدينه، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف وكل شخص دفع خمسة آلاف، فمعناه أن محمداً الأول هو الذي سيأخذ مجموع المال، فكأنك دفعت الخمسة آلاف لمحمد من أجل أن يقضك ويقرض الباقين أيضاً، ودفعتها لأولئك الأربعة الباقين بنفس الشرط، فصار قرضاً جرَّ نفعاً، ولو علمت أنهم لا يعطونك لامتنعت، فإذاً: أنت لم تدفع المال إلا من أجل أن تستفيد من قوة المبلغ، والدين إنما يدفع من أجل الرفق بالمديون، وقد أجمع العلماء على أن الدين عقد رفق. ومن هنا حرم أن يستفيد المدين، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف مع زيد وعمرو وخالد لمحمد، كأنك تقول: يا محمد! خذ مني الخمسة آلاف الآن بشرط أن تعطي الشهر القادم خمسة آلاف لزيد، والذي بعده لعمرو، والذي بعده لبكر، فلو علمت أنه يمتنع لما دفعت ولما أعطيته، وهذا يقتضي المنع، فصار قرضاً جر نفعاً، وإن قلنا: إنه دفع خمسة آلاف وأخذ خمسة آلاف فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] يقولون: دفع ديناً وأخذ عين الدين، فإن وجدت من يجيز ويفتي بالجواز فإنه يرى أنه دفع خمسة آلاف وأخذ الخمسين ألفاً ورد لكلٍ دينه بدون زيادة، وإن وجدت من يحرم وجدته يرى شبهة زائدة على الارتفاق وهي كونه يدين بشرط، وهذا سلف وشرط، فصار قرضاً بشرط فيه منفعة، إما له حقيقة أو تبعاً، فحقيقة من جهة أنه سيستفيد الخمسين ألفاً، وتبعاً كأنه يقول: يا محمد! أقرض من أقرضني، وأعط لمن أعطاني كما أنني أعطيتك. وعلى هذا أقول: إنها من جنس المشتبه، فلا أقوى على الجزم بالتحريم؛ لأن فيها شبهة من الحلال، وفيها شبهة من الحرام، فإذا جئنا ننظر إلى وجود الشرط فهذا شبه من
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/342)
الحرام، وإذا جئنا لمضمون الشرط مع أنه لا يأخذ إلا رأس ماله لقلنا بالجواز، فأنا أقوال: إنه من المشتبه، وأنا ما أفتيت بحلها يوماً ولا بحرمتها، ولكن أرى أنها -أي: الجمعيات- من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
شرح زاد المستقنع - باب القرض [3] الغاية من القرض هي الإرفاق بالمقترض والتيسير عليه، وهو من قبيل الدين والله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين فألزم كلاً منهما بإلزامات تمنع الضرر عن الآخر، ومن ذلك أنه أوجب على المديون أن يرد الدين لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، كما يحرم على الدائن أن يشترط زيادة على دينه عند السداد. مسائل في القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] تقدم الكلام على هذه الجملة، وبينا أنه متى اشترط صاحب الدين على المدين شرطاً يتضمن منفعة له فهذا ذريعة إلى الربا، وهو: - إما أن يكون رباً محضاً، كقوله: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر؛ فإنه شرط تمحض بالزيادة المحرمة وهي الربا. - وإما أن يشترط عليه شرطاً فيه منفعة تكون حينئذٍ الحرمة من جهة وجود الزيادة. والأصل في ذلك أن الله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين، وأن الواجب على المديون أن يرد الدين والحق لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، وكذلك لا يجوز له أن ينتقص من حقه. إذاً: فقوله: [ويحرم] أي: يأثم بهذا الفعل إذا اشترط الزيادة، ولا يجوز دفع هذه الزيادة، فلو ترافعا إلى القاضي فإن القاضي لا يحكم على المديون أن يدفع هذه الزيادة، فلو قال: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر، فإن القاضي يحكم عليه بأن يرد العشرة فقط. ...... مكافأة صاحب الدين بدون شرط وقوله: [وإن بدأ به] إذا بدأ المديون بمكافأة صاحب الدين بدون شرط ولا مواطأة جاز له ذلك، والدليل على هذا حديث أبي رافع رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فقال: لا أجد إلا خياراً، قال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً) ومعنى هذا: أن المنفعة والزيادة جائزة إذا لم تكن بمواطأة أو بشرط. والمنفعة كرجل استدان منك عشرة آلاف، فجاء وأعطاك العشرة آلاف، وقال لك: إنك أحسنت إليّ، وإني قد وهبتك داري شهراً، فهذه منفعة، وهذا القرض جر نفعاً لكنه ليس على وجه محرم؛ لأنه جاء على سبيل الإكرام بعد انتهاء الدين وقضائه، وقوله: [وإن بدأ به] أي: المديون، ومعناه أنه لم يكن النفع مشترطاً من سابق، فيبدأ به المديون لكن بعد القضاء والوفاء، فابتدأ من عند نفسه دون أن يلزمه صاحب الدين أو يكون هناك شرط بينهما، وإن بدأ به على هذا الوجه فإنه جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فمن السماحة في القضاء أن يزيد ويستفضل، سواءً كانت الزيادة بالأعيان أو بالمنافع، فيرد له عيناً أفضل من عينه، أو يرد له حقه من المال ويزيده منفعة أو مالاً، هذا كله دلت السنة على جوازه، ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن يكون بعد تمام الوفاء، فلا يكون قبل الوفاء، فإن كان قبل الوفاء ففيه كلام. الشرط الثاني: أن يكون دون شرط أو مواطأة، بل تعطى الزيادة بطيبة نفس ورضا خاطر، فهذه جائزة ولا بأس بها. وقوله: [بلا شرط] أي: من محض اختياره ومن عند نفسه، لكن فصل بعض العلماء في الشخص الذي تكون من عادته الزيادة، مثل: الكرماء وأهل السخاء والجود، فإن أمثال هؤلاء الغالب أنهم إذا استدانوا أن يكافئوا من استدانوا منه؛ لأن الله جبلهم على الكرم، والكرم نعمة من الله عز وجل، والكريم يشعر أنه لا يملك مالاً، وفي هذه الحالة تجده يعطي الضعيف والمحتاج ومن يسأل، فكيف إذا كان الذي أمامه قد أحسن إليه، فإن الكريم لا يرضى أن يعطي نفس الذي أعطيته، وغالباً ما يرد بأفضل؛ لأن الله جبله على ذلك، فالكرم من مظنته الزيادة، فيرد السؤال: إذا أعطى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/343)
الدين لكريم فإنه سيشعر أنه سيكافئه. إذاً: فهل هذا المعروف من الكريم ينزل منزلة الشرط؟ الجواب: فيه تفصيل، إن كان الذي أعطاه الدين في نيته ورغبته وقرارة نفسه يقصد أنه إن أعطاه سيكافئه وأحب أن يعطيه حتى يكافئه فحينئذٍ تكون الشبهة، فمن العلماء من حرم ومنهم من كره، وعلى هذا تنزل القاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً وشرطاً، فحينما علم أنه كريم وجواد وأنه سيرد الشيء بأفضل فكأنه أعطاه على أن يزاد في عطائه. وقال بعض العلماء: بالكراهة، كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، واختاره بعض أهل العلم، ووجه الكراهة أنه تردد بين الحرام وبين الحلال، فإنه إذا أعطاه الدين على أن يرده بنفسه اقتضى ذلك الحل، وإن أعطاه الدين بشرط الزيادة اقتضى التحريم، فإن سكت وعُلم ذلك من طبيعة الشخص ورغبة من أعطى كان متردداً بين الحلال والحرام، وهذا ضابط عند بعض علماء الأصول أنهم يجعلون المكروه ما تردد بين الحرام والحلال، فيصفون بعض المعاملات وبعض الأفعال بكونها مكروهة؛ لأنها في مرتبة بين الحلال والحرام، فيها شبه من الحل يقتضي جوازها وشبه من الحرام يقتضي منعها. فإن نظرنا إلى أنه ليس هناك شرط ولا مواطأة ولا وعد قلنا: بالحلال، وإن نظرنا إلى الداخل والنية والقصد قلنا: إنه حرام، ومن هنا يقولون: يصير مكروهاً، مثل ما ذكروا في الثوب، إن كان فوق الكعبين فهو حلال بالنسبة للرجل، وإن كان أسفل من الكعبين فإنه حرام، وإن كان على الكعبين فهو مكروه، لأنه ليس بالحرام المحض؛ لأنه لم يرد نص بتحريمه، إنما ورد النص بما أسفل الكعبين، ومفهوم (أسفل) أنه يشترط في الحكم بكونه حراماً أن يكون أسفل. فالشاهد أننا عندما قلنا: يشترط أن يكون حراماً إذا اشترط، فإذا لم يشترط اقتضى هذا الحل، وإذا جرت العادة نزلت منزلة الشرط، فإذا قصد هذا المعتاد منه قالوا: يكون مكروهاً.
حكم رد القرض بأفضل منه وقوله: [أو أعطاه أجود] كأن يستدين منه نوعاً من الإبل فقضاه بنوع أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الطعام فقضاه أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الثياب والألبسة والأكسية فرد أفضل وأجود منه. إذا أخذ الجيد ورد بأجود، أو أخذ الحسن ورد بأحسن، أو أخذ الفاضل فرد بالأفضل، فإنه يجوز إذا لم يكن بشرط ولم يكن بعدة ولا بمواطأة، أما الدليل على جواز ذلك، فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحت بفضيلة القضاء بالأحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطه -أي: سددوا دينه واقضوا دينه- فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكونه أحسن: يدل على أنه يكون أفضل، إما في الجودة والرداءة وفي الصفات الموجودة في المذروع وفي المعدود. وإما أن تكون الجودة والأحسن في القدر، وذلك كأن يستلف منه خمسة ريالات فيرد ستة ريالات أو يستلف منه مائة ريال فيردها مائة وعشرة بدون شرط وبدون عدة.
الهدية بعد وفاء الدين وقوله: [أو هدية بعد الوفاء جاز] أي: أو أهدى إليه هدية بعد وفاء الدين جاز، كأن يستدين منك مائة ألف ريال، ثم جاءك وأعطاك المائة ألف بعد حلول الأجل وأعطاك معها ساعة أو كتاباً أو قلماً؛ لأنه يرى أن لك معروفاً عليه، وأحب أن يكافئك على المعروف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) قالوا: هذه الهدية لما جاءت بدون شرط وجاءت بعد تمام الوفاء ولم يكن ذلك جارٍ على عرفٍ يقتضي الاشتباه جاز بدون حرمة ولا كراهة. وقد اختلف العلماء في مسألة المكافأة على الدين والرد بأفضل، وبعض العلماء يقول: إنه يجوز أن ترد بالأفضل في الصفات ولا ترد في العدد، فمثلاً: لو أخذ مائة ريال لا يجوز أن يردها مائة وعشرة، وهذا هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، يرى أن تكافئ في الصفات لكن لا تكافئ في العدد؛ لأن المكافئة في العدد صورة الربا، فإذا أخذ مائة ريال وردها مائة وواحداً أو مائة واثنين أو مائة وعشرة فهو ربا، فهو على صورة: أن يأخذ الواحد ويرده اثنين أو ثلاثاً، واستدل بقوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فهذه المسألة فيها خلاف، وإن كان بعض الحنفية يميل مع المالكية في بعض التفصيلات، لكن المشهور الخلاف بين المالكية، وعن الإمام أحمد أيضاً رواية في رد المكافأة مطلقاً لكن الصحيح ما ذكرناه. وعندنا دليلان: الدليل الأول: في سداد الديون:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/344)
فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وهذا الأصل يقتضي أن سداد الدين يكون مماثلاً، إن كان عين الدين فلا إشكال، وإذا لم يكن عيناً كان مماثلاً في العدد والصفة؛ لأنه رأس المال، وإن لم يكن رأس المال حقيقة يكون حكماً، وظاهر هذه الآية الكريمة يمكن أن تجزم بأنه لا يجوز لأحد أن يدفع مكافأة على الدين؛ لأن الأصل يقتضي أنه كما أخذ العشرة أن يرد العشرة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما استسلف البكر وهو نوع من الإبل، وجاء عند القضاء، فقال: (يا رسول الله! لا أجد إلا خياراً رباعياً، قال: أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فمن أهل العلم من قال: إن هذا الحديث ورد في الصفة، فإن الخيار الرباعي أفضل من البكر، فيجيز في المعدودات بأوصافها والمذروعات بأوصافها ويمنع في الربويات من الذهب والفضة والأطعمة، فلا يجوز أن تعطي الصاعين مقابل صاع، ولا يجوز أن تعطي الدرهمين مقابل درهم. لأنه يرى أن حديث أبي رافع في المعدودات والزيادة عنده جاءت في الصفة، فلا يجوز أن نتوسع ونجيز القضاء في المعدودات الربوية، في المكيل كيلاً بزيادة الكيل، وفي الموزون وزناً بزيادة الوزن، فعلى هذا القول لا يجوز لك إذا استدنت كيلو من الذهب أن ترده كيلو ونصفاً، أو ترده كيلو وربعاً مثلاً، أي بزيادة ربع عليه؛ لأنه يرى أن الأصل التحريم، والحديث جاء في المعدودات وهي الإبل وما في حكمها، فعلى هذا القول فإن الحكم يختص بالجواز بصورة هذا الحديث، والجمهور قالوا: يجوز أن يزيد سواءً كان في الذهب والفضة التي هي الأثمان أو في المطعومات، سواء المكيلات أو الموزونات، ويجوز أن يزيد في المعدودات صفة وعدداً، وعلى الوجه الأول عندهم أنك لو أخذت بعيراً فلا يجوز أن تقضي بعيرين؛ لأن الحكم عندهم يختص بالصفة، والزيادة بالصفة مع وجود الاتحاد في العدد، فلا يجيزون أن تقضي البعير بالبعيرين، ولا يجيزون أن تقضي الشاة بالشاتين وبالثلاث؛ لأنهم يرون أن الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بالصفة، فقال (يا رسول الله! إني لا أجد إلا خياراً رباعياً)، فمن هنا يقولون: لا يجوز أن تدفع بزيادة عدد لقاء عدد أقل، هذا بالنسبة للقول الأول الذي ذكرناه. وأما الجمهور لما أجازوا هذا قالوا: الحديث ورد فيما ذكرتموه، لكن في الحديث عبارة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فجعل الأمر بالزيادة في الصفة والجودة مركب من قوله: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فالتعليل يفيد العموم، فلما كان منشأ الحكم الإحسان في القضاء، وأكد هذا بقوله: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فهمنا أن مقصود الشرع المكافأة على الدين، ما دام أنه بدون وعد ولا تواطؤ ولا شرط، وبناءً على هذا نخرج ما ذكره المصنف رحمه الله. ويمكننا أن نقول: إنه يجوز أن يقضي الشيء بأحسن منه وأجود في الصفات، ويجوز أن يقضي الشيء بضعفه في العدد، فيقضي البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، ويقضي أيضاً الثوب -بصفاته المنضبطة- بثوبين إذا كان قد اقترضه منه، والطاقة من القماش بالطاقتين إذا استدان مذروعاً، وقس على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً). أما إذا كان كريماً، ومن عادته أن يكافئ على الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكرم الخلق، ومع ذلك استدان واستدان منه الناس وهم يعلمون كرمه وفضله عليه الصلاة والسلام وجوده وسخاءه، قال رجل: يا قوم! أسلموا فقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر، ما سُئل عن شيء إلا أعطاه، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين، فالمقصود: أنه ولو كان كريماً سخياً يجوز أن تتعامل معه، لكن ينبغي أن لا تجعل في نيتك أن يكافئك بالأفضل، وإنما يكون ذلك على سبيل المسامحة والارتفاق.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/345)
حكم الهدية لصاحب القرض قبل سداد الدين وقوله: [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز]. عرفنا أنه يجوز أن تزيد عند القضاء بأفضل؛ لحديث أبي رافع بشرط أن تكون الزيادة بعد انتهاء الأجل وبعد الوفاء، حتى قال بعض العلماء: لو جئت تسدد الدين لا تقدم الهدية، بل سدد الدين أولاً وبعد أن يقبض دينه أعطه الهدية، ولا تجعل العطاء للهدية سابقاً لوفاء الدين، إنما تعطيه بعد تمام الوفاء، فحينئذٍ يرد السؤال: لو اقرضت شخصاً فجاء وأعطاك شيئاً قبل السداد فهل يجوز لك أن تأخذ من المديون شيئاً، سواءً كان من الأثمان أو الأطعمة أو الأكسية أو المنافع ... كرجل استدان منك عشرة آلاف ريال، وكان الدين إلى نهاية السنة، وجاءك في رمضان، وقال: يا فلان! هذه خمسة آلاف ريال مني لك أو هذه ألف ريال، أو هذه مائة ريال، فأعطاك هدية من غير جنس الدين، كأن يكون استدان منك عشرة آلاف ريال ففوجئت به قبل تمام الأجل وقد جاءك بشيء من غير الأثمان كطعام أو كساء أو ساعة أو قلم أو كتاب، وقال: يا فلان! إني أحبك في الله وهذه هدية مني لك، لكن بينك وبينه دين ولم يسدد الدين بعد. فحينئذٍ إذا أعطاك شيئاً قبل الدين فإنك تتقيه، وعلى هذا وردت نصوص الصحابة والنقول عنهم متظافرة، وقد جاء عند ابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قبول هذه الهدية، لكن هذا الحديث متكلم في سنده، وذكر بعض العلماء أن له شواهد من حيث المضمون العام للمتن، وأما عن الصحابة فلا إشكال، فإن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري لما جاء إلى عبد الله بن سلام الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، قال له: إنك بأرض أرى الربا فيها فاشياً، فإذا استدان منك رجل ديناً فأعطاك هدية أو حملاً أو .. فإياك أن تقبله. فمنعه من قبول الهدية قبل تمام الدين، وأُثر هذا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس سئل عن رجل استدان من آخر عشرين درهماً، ثم صار المديون يهدي للدائن السمك، فأهداه في المرة الأولى سمكاً، ثم مرة ثانية أهداه سمكاً، ثم المرة الثالثة أهداه سمكاً، حتى وصلت قيمة السمك ثلاثة عشر درهماً، فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل استدان منه عشرين درهماً، وأهداه هدية تبلغ ثلاثة عشر درهماً فقال: خذ منه سبعة دراهم. فاحتسب جميع ما أهداه إليه، وعدّ ذلك محرماً عليه إلا أن تعطى قيمته. والسبب في هذا واضح، فكأنه قبل وفاء الدين تارة تتخذ الهدايا لإطالة الأجل، فإذا جاء السداد تنكسر عين صاحب الدين بالهدايا، ولا يستطيع أن يطالب المديون، ويؤخره ويؤجله، وكذلك أيضاً فيها ذريعة إلى الربا أن يمحض له الأجل من نفس المبلغ، ومن هنا تظافرت النقول عن الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما، ومن أئمة التابعين كسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، كلهم منعوا قبول الهدية قبل الوفاء. وقد ضيق السلف في هذا حتى إن بعضهم كان يتورع عما هو أخف من هذا بكثير، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله استدان منه رجل ديناً، ثم جاء الإمام أبو حنيفة يطالبه بالدين، فوقف على بابه في شدة الظهر في الهاجرة، وكان مع الإمام أبي حنيفة أصحابه، فكان الرجل في داخل الدار وقُرع عليه الباب، فوقف الإمام أبو حنيفة في الشمس وجاء أصحابه إلى مظلة الباب (الروزنة)، ودخلوا تحتها، وقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، قال: لا والله، أخشى أن يكون فضل منه عليَّ، فلم يرض أن يأتي إلى ظل داره قبل وفاء دينه. والفقه في بعض الأحيان يضيق على الإنسان، لكنه يثاب على هذا، إذا تورع بمثل هذا الورع الذي كان عليه سلف الأمة، واحتاط إلى هذه الدرجة، بأن يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما فيه بأس، وهذا الورع أكمل ما يكون من الورع، شريطة أن لا يفضي ذلك إلى الوسوسة وتحريم ما أحل الله عز وجل من الطيبات. فالشاهد أنه خشي أن يكون مرتفقاً بهذا الظل، وبناءً عليه لا تقبل الهدية من الشخص الذي لك عليه دين قبل سداد الدين إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تحتسب الهدية من الدين، فلو كان رجل عنده لك عشرة آلاف ريال، فأهداك ساعة بخمسمائة، فاقبلها على أن الذي بقي لك عليه تسعة آلاف وخمسمائة، ولو أهداك هدية بألف، فاقبلها على أن الدين تسعة آلاف، فإذا كنت
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/346)
تقبل الهدية على أنها من الدين فلا بأس به. الحالة الثانية: أن يكون الرجل الذي أهداك الهدية من عادته أن يهديك، أو يكرمك، كرجل استدان منك ديناً ومن عادته أنه يهدي لك هدية في كل رمضان، فاستدان منك الدين إلى نهاية السنة فجاءك بالهدية في رمضان وأعطاكها، فإنها خارجة كلية عن الدين، والأورع والأفضل أن لا تقبلها في ذلك العام، لكن التهمة هنا منتفية، ولذلك أجازوا للقاضي أن يستضيفه من كان من عادته أن يستضيفه قبل القضاء، فإذا دعاه إلى وليمة خاصة أجابه؛ لأننا نعلم أن بينهما وداً قديماً، وأنه لم يستضفه مبتلىً بهذه الأمانة وهذه الحقوق. فالمقصود أنه إذا كان من عادته أن يهديك وأهداك على عادته صحت هديته، لكن إن كان من عادته أن يهديك وزاد في هديته في ذلك العام حرمت الزيادة؛ لأنها خرجت عن المألوف والمعروف، ومن هنا لو استدان رجل منك ديناً ودعاك إلى وليمة، فإما أن يكون الطعام عاماً، كأن يكون زاوج ابنه أو ابنته فإن هذه الدعوة لا يخصك بها، وإنما أنت والناس فيها على حد سواء، ويبعد أن تكون مكافأة عن الدين؛ لأن هذا أمر عام يقصد منه إشهار النكاح ولا علاقة له بالدين، ومن هنا أجازوا للقاضي أن يجيب الولائم العامة. لكن قال بعض العلماء: يجوز أن تتخلف عنها تورعاً، إذا خشيت أن يكسر عينك بالزيادة في الإكرام في الحفلات العامة والولائم العامة، فيحابيك محاباة خاصة، ويميزك بها، فإنها في الظاهر دعوة عامة لكن فيها شيء تتورع عنه إذا علمت ذلك، وهذا أصل عام يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأعراف والأزمنة، وعلى المؤمن أن يتقي الله، ويتورع عن مثل هذه الدعوات، وهذا هو الذي فيه طمأنينة القلب، ففي مثل هذه المسائل يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فإنه في بعض الأحيان يكون الشيء في ظاهره حلالاً لكن تجد أموراً وقرائن تدل على وجود الشبهة، فمثل هذا تتقي فيه وتمتنع منه، صحيح أنه يدعوك دعوة عامة، إلا أنه يميزك على من هو أفضل منك، فتفهم من هذا أن القدر المباح والمشترك زدت على حقك فيه، كما لو أهداك هدية وكان من عادته أن يهديك وزاد في الهدية، فإن الزيادة تحرم، فالمقصود أنهم لما قالوا: من عادته أن يهديك، محل ذلك أن لا يكون فيه شبهة أو ذريعة إلى الحرام، كأن يزيد عن هديته، أو يفعل معك فعلاً يميزك به في وليمة عامة أو نحوها، ولو دعاك إلى دعوة خاصة لم يجز أن تجيبه؛ لأنها أشبه بالمكافأة على الدين قبل وفائه وأدائه. وقوله: [لم يجز] أي: لم يجز لك أن تأخذ الهدية منه قبل وفائه للدين إلا أن تنوي مكافأته على الهدية، كرجل استدان منك عشرة آلاف وذلك إلى نهاية السنة، ثم جاءك بهدية (ساعة) لم يجز لك أن تقبلها، إلا أن تنوي مكافأته على الساعة، فتنوي في قلبك أنك ستقبل منه الساعة الآن على أن ترد عليه هدية مثل هديته أو أفضل من هديته، فتكون حينئذٍ قطعت الهدية بمثلها أو أفضل منها. وقوله: [إلا أن ينوي مكافأته] وهذا ما يسمى بهبة الثواب، وهي الهبة بعوض، وهذا النوع محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله الإنسان من أجل أن يكافئه الغير، وهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] (ولا تمنن) أي: تفعل الهدية وتعطي الهدية وما فيه منة، (تستكثر) أي: تستدعي الكثرة بطلبك لما هو أكثر، وهذا يفعله الضعفاء، فيأتون للأغنياء ويعطونهم هدية، ومن المعلوم أن الفقير إذا أهدى للغني فمعنى ذلك أن يكافئه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أهداه ونوى في قلبه أن يرد هديته وأن يكافئه عليها جاز له ذلك. وقوله: [أو احتسابه من دينه] كرجل يأتي ويعطيك هدية، فتقدر هذه الهدية بقيمتها، وتنوي في قرارة قلبك أنه إذا جاء يسدد الدين فإنك تسقط الهدية من قيمة الدين، فيجوز لك أن تقبلها.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/347)
حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض وقوله: [وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وفيما لحمله مئونة قيمته] [وإن أقرضه أثماناً] كذهب وفضة، دنانير ودراهم، أو أقرضه ريالات وطالبه بها في غير البلد، كأن يستدين منك عشرة آلاف في مكة، فقلت له: أنا جالس في مكة في رمضان، ولكنني أطالبك بردها لي مثلاً في الرياض في ذي القعدة، أو في جدة أو المدينة لزمه ذلك، أي: لزم المدين أن يسدد الدين في الموضع الذي اتفقا عليه، فهذا من الشرط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم). وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا أعطاه الأثمان في بلد وطالبه بقضائها في بلد آخر، أنه لا بأس بذلك ولزمه أن يسددها في البلد الآخر، لكنهم فرقوا بين الأثمان وغير الأثمان، كالطعام والكساء وغيرها مما يحمل وفيه مئونة؛ لأنه إذا اشترط عليه أن يوفيه في بلد غير بلده استضر المديون، وصارت منفعة زائدة للدائن على المديون، فلا يجوز ولا يلزم بهذا. أما الأثمان كالذهب والفضة، في القديم إذا قال لك: أعطيك مائة دينار في المدينة وتقضيها في مكة جاز ولزمه أن يسدد الدين في مكة؛ لأنه لم يكن في حمله مئونة، لكن في زماننا فيه مئونة، خاصة إذا كان من بلد إلى بلد تختلف العُمل فيه، فإن العُملة إذا كانت صعبة كأن يستدين مثلاً: دولارات، فيقول له وهو في مكة: هذه العشرة آلاف دولار أشترط أن تسددها لي في المشرق أو في المغرب، والدولارات في المشرق أو المغرب غالية وعزيزة الوجود، وحملها إلى هناك فيه مئونة ومشقة، فكأن الدائن صاحب الدين اشترط منفعة وصار أخذ الدين مع المنفعة الزائدة، وعليه قالوا: إنه لا يلزمه هذا الشرط، إذا كان على وجهٍ فيه ذريعة إلى الربا. كذلك الذي في حمله مئونة، كما لو استدان منه طعام بر أو استدان منه طن حديد أو طن نحاس وهو في مكة، وقال له: السداد يكون في المدينة، وهذا الدين قد لا يوجد مثلاً في المدينة، كما في القديم، إذا كانت البلدان مختلفة والأطعمة والمنافع كانت المثمونات مختلفة في الأماكن، فيلزمه ببلد غير بلده، فيتحمل مشقة الحمل إليه، قالوا: عندها يُنتقل إلى القيمة، ولا يلزمه دفع العين ولا دفع المثل إذا كان المثل لا يتيسر في ذلك البلد وكان حمله إلى ذلك البلد فيه مئونة، فأنت إذا تأملت أن حمل هذا الشيء إلى جدة يكلفه خمسمائة، فصار كأنه استدان منه مائة صاع فقضاها مائة صاع وخمسمائة، وصار يستفضل على دينه، وصار شرطاً جر منفعة، والشروط التي تجر المنافع تعتبر محرمة. لكن إذا اشترط عليه في المثمونات التي في حملها مئونة أن يسدده في بلد غير بلده وفي حمله إلى ذلك البلد مئونة، فحين نقول: ينتقل إلى القيمة، يرد السؤال: إذا قال له: هذا الطن من الحديد تأخذه مني في مكة وتقضيه لي في المدينة، وقلنا: إنه يلزمه أن يدفع قيمته بدلاً عن مثله، فالطن الحديد مثلاً في المدينة قيمته أكثر من قيمته في مكة، فهل العبرة بمكة أو بالمدينة؟ الجواب: من حيث الأصل لا يلزم من استدان منك أن يعطيك ما في حمله مئونة في البلد الذي اشترطته، وإن ألزمته بذلك يُنتَقَل إلى القيمة؛ لأننا إذا ألزمناه بالعين صار الحمل مئونة، وإذا ألزمناه بالمثل سيتضرر بحمل المثل إلى بلد القضاء، وغالباً ما تقع هذه المسألة، إذا كان البلد الذي اشترط عليه القضاء فيه ليس فيه نفس الشيء، أما لو كان فيه نفس الشيء فلا إشكال، يأخذ هذا الشيء ثم يذهب إلى البلد ويقضيه نفس الشيء، لكن حين لا يكون في البلد نفس ذلك سواءً كان من طعام أو غيره، فقال له: اقضني في مكة وقد استدان منه في المدينة، أو اقضني في المدينة وقد استدان منه في مكة، فمعناه: أنه سيتحمل مئونة الحمل إلى مكة، فصار فضل زيادة مشترطة في الدين وهذا محرم، وفي هذه الحالة يعدل إلى القيمة، ويلزمك أن تدفع قيمة الدين. إذاً: الأمر إما أن تكون قيمة الدين في مكة هي قيمته في المدينة فلا إشكال، فلو أن الطن الحديد الذي أخذه منك قيمته في مكة عشرة آلاف ريال، وقيمته في المدينة عشرة آلاف ريال، فيلزمه أن يدفع عشرة آلاف ريال ولا إشكال، أي: لم يقع ظُلِم على المدين، ولم يطالب بأن يعطيك عين السلعة؛ لأنها غير موجودة؛ لأنه استنفدها، ولا يلزمه أن يعطيك المثل؛ لأنه لو جاء يعطيك المثل في البلد المتفق عليه فإنه حينئذٍ يستضر بالحمل وصار
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/348)
قرضاً جر نفعاً، ولكن يلزمه أن يدفع لك القيمة، وإذا لزمه أن يدفع لك القيمة فحينئذٍ يرد السؤال هل العبرة ببلد القرض أم العبرة ببلد الوفاء؟ إن اتفقت القيمة لا يرد هذا السؤال، بمعنى: إن كانت قيمته في مكة هي قيمته في المدينة لا إشكال، لكن إن اختلفت القيمة فحينئذٍ هل العبرة ببلد الدين الذي أعطاه فيه الدين أم العبرة ببلد الوفاء؟ الجواب: العبرة ببلد الدين. وقوله: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] إذا كان الدين في بلد القرض أنقص فحينئذٍ تلزمه القيمة، فقلنا: يدفعها ببلد القرض الذي هو مكة، فإن كانت أنقص في مكة بأن كانت قيمتها عشرة آلاف، وفي المدينة قيمة القرض عشرون ألفاً، فحينئذٍ يدفع بقيمة بلد القرض، وقول بعض العلماء: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] خطأ، والصواب: أكثر، إن لم تكن ببلد القرض أكثر، وفي هذه الحالة عكس المسألة وجعل البلاء على المقرض وأعتد ببلاء المقرض على حساب المقترض، والأول له وجهه والثاني له وجهه، وإن قيل: إن العبرة ببلد القرض لا إشكال في صحته واعتباره زائداً أو ناقصاً؛ لأن الحق ثبت في بلد القرض، وبعض العلماء يرى أن العبرة ببلد الوفاء، ويلزمه بقيمته في بلد الوفاء، سواءً كانت أكثر أو أنقص.
الأسئلة ...... حكم تأخير الدين السؤال: ما حكم تأخير الدين؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالواجب على المسلم إذا استدان من أخيه المسلم ديناً ألا يؤخره، وأن يبادر بالسداد عند حلول الأجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى)، ومن السماحة أن ترُد الدين في أجله، وأن لا تزيد على هذا الأجل فتماطل وتؤخر، فتأخير الدين عن وقته للقادر الذي يستطيع السداد محرم، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (مطل الغني ظلم يحل لومه وعرضه) قال العلماء: في هذا دليل على أن الرجل إذا استدان منك ديناً، وحل الأجل وهو قادر على السداد وامتنع أن يسدد، فهو آثم بهذا، ويحل لك أن تغتابه وتقول: فلان ظالم، فيجوز إذا اشتكاه أن يقول: فلان ظلمني، أو يذهب إلى أبيه أو قريبه أو من له عليه قوة، ويقول: اردع فلاناً وأمره أن يفي فإنه ظالم، فقوله: إنه ظالم، فيه أذية ولكنها تجوز لمكان الظلم، وفيه سوء، والله تعالى يقول: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]. فتأخير الناس في حقوقهم والمطل في ذلك محرم، كما أجمع العلماء على ذلك، وقال بعض أهل العلم: من امتنع من سداد ديون الناس وهو قادر على السداد عند حلول آجالها محق الله البركة من ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فتوعد من ظلم الناس في أموالهم وحقوقهم، ولا شك أن من الظلم أن يمتنع الإنسان من السداد. الأمر الثاني: أن تأخير الدين والمماطلة به والتلوم فيه مع القدرة على السداد يضر الإنسان، فلربما كان صاحب الدين يحتاج إلى هذا المال لعلاج أو طعام أو مصالح يريد قضاءها فيعطله عن هذه المصالح ويؤذيه فيها، وهذا لا شك أنه ضرر عظيم. الأمر الثالث: أن كل من استدان ديناً فإن نفسه تتعلق بذلك الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ولذلك لا ينفك هذا الرهن إلا بسداد الدين، ومن هنا قال العلماء: من مات حلت ديونه، فالميت إذا مات وجب أن تسدد ديونه فوراً وتحل ديونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في أول الإسلام كان لا يصلي على ميت عليه دين لم يترك وفاءً، فقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل عليه ديناران لم يترك وفاءً، فقال: ما دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني في سكك المدينة ويقول لي: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد حتى لقيني ذات يوم، وقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهذا أمر عظيم. وقد اختلف العلماء في قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) قالوا: إنه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/349)
ينحبس عن النعم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم، فالرهن أصله الحبس: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: مرهونة، فعلى هذا لا يجوز أن يؤخر ويماطل، ومن السنن العجيبة أن الشخص إذا يسر الله له القضاء فماطل وأخر فإن الله لا يوفقه للقضاء إلا فيما ندر، ولذلك قل أن تجد صاحب تجارة يأخذ الأموال من الناس ولا يبادر بسدادها إلا وجدته يدخل من دين إلى دين ومن دين إلى دين حتى تستنفد تجارته ويصبح رأس ماله في التجارة أقل بكثير من الدين، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذه الأمور، وإذا قدر على السداد أن يبادر بسداد أموال الناس ورد حقوقهم إليهم كاملة حتى يكون ذلك من باب الوفاء وأداء الحقوق إلى أهلها، والله تعالى أعلم.
حكم بيع التمر وهو في رءوس النخل السؤال: في بيع التمر وهو في رءوس النخل أليس في هذا جهالة في المقدار؟ الجواب: في بيع الثمار يباع الثمر على رءوس النخل خرصاً، يأتي الرجل الخبير ويخرص، وكل فلاح يعلم هذا، أنه إذا جاء أحد يريد أن يشتري ثمرة بستانه، لا يأتي وحده إلا إذا كان عنده خبرة ومعرفة، أما إذا لم تكن عنده خبرة فيأتي برجل له خبرة بالثمرة وبالسوق، فينظر في النخل ويقول: هذا النخل يخرج منه مثلاً: ثلاثة آلاف صاع، وهذه الثلاثة آلاف صاع غالباً تكون قيمتها إن كان السوق طيباً مثلاً: ثلاثين ألفاً، وإن كان السوق وسطاً تكون القيمة مثلاً عشرين ألفاً، وإن كان السوق رديئاً تكون القيمة عشرة آلاف، فيعطيك سعراً تقريبياً، إذاً: إنما جاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه على سبيل الاستثناء، ولذلك لا يرد عليه ما يرد على الأصل. ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: بيع الثمرة على رءوس النخل مستثنىً من بيع الغرر؛ لأن الأصل أن يُعلم قدر المبيع، وأن يكون المشتري على علم بما يكون من الثمرة رطباً كانت أم تمراً، ولكن أُبيح ذلك من باب التوسعة على الناس وهو مستثنىً من الأصل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.
استغلال شهر رمضان السؤال: نطلب كلمة توجيهية حول استغلال ما تبقى من شهر رمضان المبارك في طاعة الله سبحانه وتعالى وغير ذلك من الأعمال الصالحات؟ الجواب: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما بقي من هذا الشهر الكريم، كما نسأله تعالى ألا يختم لنا هذا الشهر إلا بعتق من النار، وفوز بالرحمة والمغفرة والعفو عمّا سلف وكان، ومما أوصي به إخواني ونفسي تقوى الله عز وجل، ومن غيب النية الصالحة في الخير أعانه الله على الخير، ومن كانت نيته على الطاعة والبر قوى الله عزيمته وسدده ووفقه وأرشده، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً [الأنفال:70] فالله تعالى اختار القلوب للنظر، فأول ما أوصي به أن تغيب في سريرتك لما بقي من هذا الشهر خيراً، وأن تعزم في قرارة قلبك أن تعمر هذه الأوقات والساعات واللحظات في طاعة الله ومرضات الله. أما الأمر الثاني: فالحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة ما بقي من هذا الشهر في الطاعات والتي من أحبها كثرة تلاوة القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله لحب القرآن، وإذا أردت أن يبارك الله لك فيما بقي من شهرك، بل ويبارك لك فيما بقي من عمرك، فالزم كتاب الله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، طوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رضوانه والجنة، طوبى لعبد عكف على كتاب الله يتلوه قائماً وقاعداً، يتلوه آناء الليل، يتقرب به إلى الله ويرجو به رحمة الله، يقف عند آياته ويخشع لعظاته، ويتدبره ويتلوه حق تلاوته. فخير ما يُوصى به أن يكثر العبد من تلاوة القرآن، فإن أكثرت من تلاوة القرآن أصلح الله قلبك، فإن الله تعالى يقول: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57] وإذا شُفي ما في صدرك، وجعل الله القرآن أنيساً لك وجليساً، فعندها انشرح صدرك للخيرات، واطمأن قلبك بذكر الله والطاعات، وأصبحت مشمراً عن ساعدك في مرضات الله جل جلاله، وما فاز السلف رحمهم الله إلا بتوفيق الله أولاً وآخراً، ثم بتلاوة القرآن، وانظر إلى أفضل الناس طاعة وبراً تجده ملازماً لكتاب الله ليلاً ونهاراً. القرآن مفتاح كل خير، ومفتاح كل بر؛
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/350)
لأن الإنسان صلاحه كله في قلبه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ولن يصلح هذا القلب إلا بكتاب الله جل جلاله وبكلام الله جل جلاله. فخير ما يوصى به من أراد أن يبارك الله له في رمضان وفيما بقي من أيامه ولياليه أن يكثر من تلاوة القرآن، وأن يحاول ألا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله عز وجل، مع التفكر والتدبر والتأمل، ومع الإشفاق على النفس والإزراء والإحساس بما بينه وبين كتاب الله من النقص حتى يكمله، ومن العيب حتى يستره، ومن الثلمة حتى يسدها، فإذا تلوت كتاب الله فسوف تستشعر أن الله يأمرك ويعظك، فإذا كان حال الإنسان مع القرآن في ليله ونهاره بورك له في شهره، بل بورك له في عمره، ولذلك نجد بعض الناس إذا خرج من رمضان خرج بحفظ القرآن، وكم من سعيد وفق للسعادة باغتنام رمضان في القرآن حتى أصبح القرآن أنيسه وجليسه، لا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره، فيحس أن سعادته كلها في كتاب الله جل جلاله، كان شيخ الإسلام رحمه الله في آخر حياته يبكي ويتحسر على كل لحظة فاتت في غير كتاب الله جل جلاله. القرآن خير كثير، ولن تبحث في سيرة أحد من السلف الصالح إلا وجدتها مقرونة بالقرآن في قيام الليل أو تلاوته في النهار، قال بعض السلف: صحبت عبد الرحمن بن القاسم العتقي رحمه الله -صاحب الإمام مالك - من مكة إلى المدينة والله ما فتر عن تلاوة القرآن، كان السلف يتلون القرآن، وقد أدركت والله أقواماً وهم ذاهبون إلى السوق تسمعهم يتلون كتاب الله عز وجل، وإذا جن عليهم الليل سمعت كتاب الله من بيوتهم ومن حجراتهم، وأعرف أقواماً في ضيق وشظف من العيش ومع ذلك تجدهم أسعد الناس بكتاب الله جل جلاله، أغناهم من الفقر، وأمنهم بفضل الله من الخوف، وألبسهم لباس العافية، فتجدهم أبعد الناس عن الشهوات والشبهات والمذلات بكتاب الله جل جلاله. الوصية الجامعة لخيري الدين والدنيا والآخرة: لزوم هذا القرآن: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فالاعتصام بكتاب الله جل جلاله والقرب من هذا القرآن والحب لهذا القرآن واستشعار أنه كلام الله الذي ما نزل أحب إلى الله ولا أكرم على الله في كلامه مثل هذا الكلام وهو القرآن، وقد أجمع السلف رحمهم الله على تفضيل القرآن على سائر الكتب السماوية المنزلة، لفضله وعلو شرفه ومكانته، وأُنزلت آيات منه من كنوز تحت العرش، وهذا فضل عظيم وخير كثير اختص الله به هذه الأمة. فالإنسان السعيد الموفق الذي يريد أن يبارك الله له حتى في حياته وعمره يلزم كتاب الله، وانظر إلى أي ملتزم وشابٍ صالح يستقيم على طاعة الله لن تجده أقوى الناس التزاماً وهداية إلا إذا وجدته ملازماً لكتاب الله يتلوه ويتفكر فيه ويتدبره ويخشع له ويحب سماعه، فلا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره حتى ينال السعادة ويجدها في نفسه، وهذا هو حال أهل القرآن. فينبغي الإكثار من تلاوة القرآن والإحساس بفضل هذا الكتاب، والإحساس بعظيم ما أنعم الله به على هذه الأمة بهذا الكتاب الذي: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]. أما الوصية الأخرى: فالحرص على أن يكون للإنسان في هذا الشهر حسنة وصدقة بينه وبين الله خفية، من إطعام الجائع، وكسوة العاري، وتفريج كربة المكروب، قال بعض العلماء: إن الله جعل رمضان ليتذكر الغني الفقير، ويتذكر القوي الضعيف، ويتذكر الصحيح المريض، فيتفقد بعضنا بعضاً، ويحسن بعضنا إلى بعض، فتجعل لك في هذا الشهر الكريم بعض الصدقات الخفية، وتجعل صيامك حينما جاعت أمعاؤك وظمئت أحشاؤك يذكرك بالمكروب والمنكوب والجائع، ويذكرك بالأرملة واليتيم، فتكفكف دموع اليتامى، وتجبر قلوب الأرامل والثكالى، وتحتسب الثواب عند الله جل جلاله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فإن المعروف لا يبلى، والخير لا يُنسى، مات أقوام وما ماتت مآثرهم، مات أقوام وهم في الناس أحياء، بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل. تجعل لك من هذا الشهر زاداً للإحسان، فكما أنك تصلح في نفسك بالقرآن، تصلح لغيرك بحسنة أو بصدقة، فإن لم تستطع من نفسك وأمكنك أن تشفع عند من يقبل الشفاعة منك وتزكي نعمة الجاه التي أنعم الله بها عليك فتدخل السرور على بيت مسلم في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/351)
هذا الشهر المبارك فنعم ما صنعت، فإن (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) ما دمت قد ذقت حر الصيام وألم الصيام ولذة عبادة الصيام، فإن تفريج كربة المكروب وإدخال السرور على الأرملة يعادل ذلك الفضل، كالصائم الذي لا يفطر، فأنت الآن عرفت قيمة الصيام، ووجدت لذة هذه العبادة فاعلم أنه من الخير لك بمكان أن تفرج عن أرملة أو يتيم، ولو بكلمة تشفع بها عند من يمكنه ذلك. كذلك مما يدخل في هذا قضاء الديون وتفريج كربات المكروبين، فإذا علمت أن قريباً أو جاراً لك مديون وتستطيع أن تذهب إلى غني خاصة في هذا الشهر والنفوس مقبلة على الخير وباغي الخير مقبل، فتحتسب عند الله جل جلاله قضاء دين المديون، فإذا علمت أن أخاك مديون أو عنده كربة أو عنده حاجة أو عوز وضيق: (فاشفعوا تؤجروا) فالشفاعة في مثل هذا عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأنك تدخل على بيت من بيوت المسلمين الفرحة والسرور بقضاء دين عليهم أو تفريج كربة أو التوسعة عليهم، وهذا مما يحتسب عند الله جل جلاله، وقد كان بعض السلف يفضل السعي على الناس وتفريج كرباتهم على الاعتكاف في العشر الأواخر، فكان يخرج من معتكفه لتفريج كربة المكروب، وتنفيس نكبة المنكوب، فهذا من أحب وأفضل ما يثقل به ميزان العبد عند الله. فكم من أرملة إذا دخلت عليها وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، ليس عندها من قريب ولا صديق ولا حبيب يلتفت إلى حالها أو يفرج ما يكون بها من بلائها بإذن ربها، فإذا دخلت عليها في ظلمة ليل أو في ضياء نهار، فأدخلت السرور عليها بإعطاء مال أو إعطاء طعام ووليت ظهرك وهي تشيعك بصالح الدعوات وما تسأل الله لك من جميل المكرمات فإن الله لا يضيع تلك الدعوات؛ لأنها تخرج من القلب الصادق، الكلب -أكرمكم الله- لما مرت عليه بغي من بغايا بني إسرائيل فاستقى، ومن شدة الظمأ كان يلهث الثرى، فنزلت البغي إلى البئر واستقت له بخفها، وفي رواية: (فشكر الله لها) أي: أن الكلب لم يستطع أن يشكرها، عظم جميلها حتى عند الكلب -أكرمكم الله- (فغفر الله لها ذنوبها)، فكيف بالمسلمة وقد تكون أمة صالحة، وقد تكون أمة متعرضة للحرام يعفها الله عز وجل بشفاعة حسنة: (اشفعوا تؤجروا) وكان الناس فيهم خير كثير عندما كانوا متراحمين، وكان القوي لا يغفل عن الضعيف. وأنبه على مسألة تفريج الكربات؛ ففي غالب الأحيان تكون صدقاتنا للفقراء المعروفين، ولكن هناك من يغفل عنهم كثير من الناس ألا وهو الفقراء الأخفياء الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ركبتهم ديون وحاجات يفضلون أن يتعرضوا للموت على أن يمدوا كفاً لأحد، قد جعلوا فقرهم إلى الله وغناهم بالله، وقد يكون معك زميل لك وترى من حاله البؤس والفقر وأنت غني ثري وسع الله عليك، وقد تأتيه على طعامه وتطعم من ذلك الطعام الضيق ولا تتحرك في نفسك معاني الرحمة، هذا أمر يشتكى منه، فينبغي أن يحس بعضنا ببعض. ومسألة الشفاعة عند الأغنياء أيضاً أجرها عظيم خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأن نفوسهم مهيأة للخير، ولا يزال الخير موجوداً في الناس إلى قيام الساعة، لكن إذا كان طالب العلم يدخل على أناس
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:15 م]ـ
أحكام متعلقة بالسلم ...... محل الوفاء في عقد السلم قال رحمه الله: [ويجب الوفاء موضع العقد]. بعد أن بين رحمه الله المسائل المتعلقة بالشروط شرع في بيان ما يترتب على قضية العين والذمة، إذا كان السلم ينبني على بيع الموصوف في الذمة بالثمن المعجل فمعنى ذلك أنه سيكون من بيع الدين (بيع الآجال) وإذا كان من بيوع الآجال فترد مشكلة مترتبة على الحكم بجواز بيع الأجل وهي قضية القبض، فإذا اتفقت معك على صفقة وكان البيع بيع السلم وحل الأجل، فهل يجب علي أنا البائع أن أوصل المبيع إليك أم يجب عليك أن تحضر إلي لقبض المسلم فيه، أم أن الأمر يتوقف على مكان العقد ومحله؟ الجواب: أنه يجب الوفاء في مكان العقد، وقال: (الوفاء)؛ لأن بيع السلم يقوم على شيء من الدين، كأنني التزمت في ذمتي أن أعطيك التمر أو أعطيك السيارات المبيعة فلما التزمت هذا لقاء هذا المبلغ المعين لزمني الوفاء بهذا العقد، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وانظر كيف أن العلماء يتأدبون مع الشرع، فيختارون في المتون الفقهية
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/352)
المصطلحات القريبة من الشرع، فالعلماء رحمهم الله في فقههم -خاصةً فقه العلماء الذي يسير على منهج السلف- يتأدبون حتى في ألفاظهم، قالوا: يجب الوفاء؛ لأنه إذا صار العقد بالإيجاب والقبول ترتب عليه الوفاء، فالوفاء ينبغي أن يكون في مكان العقد، فإذا اختصم التاجران، فإن كانا من مدينةٍ واحدة فغالباً لا يقع إشكال، أي: إذا كنتما قد اتفقتما في مكة أو في المدينة أو في جدة فحينئذٍ الغالب ألا يقع إشكال، لكن يقع الإشكال في المبيعات التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حملها ويكون المتعاقدان من موضعين مختلفين، فيقول التاجر الذي اشترى: تحضر لي السلعة إلى بلدي، ويقول البائع: إنما التزمت إذا حل الأجل أن أعطيك، ومعنى ذلك أنك تحضر عندي وتأخذ السلعة، فحينئذٍ يقع التنازع بينهما، مثلاً: لو أعطيت رجلاً عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان التبايع مثلاً في المدينة ومزرعته في المدينة وأنت من مكة، فلو وجب عليه الوفاء بحيث إنه يجب عليه أن يوفر لك السلعة فمعناه: أنه سيستأجر من يحملها من المدينة إلى مكة، ويتحمل أعباء هذه الإجارة، فقال: (يجب الوفاء في موضع العقد)، يعني: أنه ينظر إلى المكان الذي وقع فيه العقد إن كان في المدينة، فالوفاء في المدينة، وإن كان في مكة فالوفاء في مكة، وإن كان في القصيم فالوفاء في القصيم، وإن كان في الرياض فالوفاء في الرياض، فيجب عليه أن يفي في المكان الذي تمت فيه الصفقة، أي: الإيجاب والقبول. فإذا كان هذا واجباً في مكان العقد، فهل يشترط أن يكتباه في نفس العقد؟ الجواب: سواء كتبا أو لم يكتبا فإنهما يلزمان بمكان العقد، وهذا أصل في البيوع، إذا وقع البيع بين اثنين، فإن الوفاء يكون في مكان العقد؛ لو أنهما تعاقدا في طرف المدينة الشرقي وأحدهما -مثلاً- من جنوب المدينة والثاني من شمالها، فنقول: يكون الوفاء في مكان العقد الذي هو شرقها.
حكم اشتراط الوفاء في غير محل السلم قال رحمه الله: [ويصح شرطه في غيره]. أي: يصح ويجوز لكلا المتعاقدين إذا تعاقدا بالسلم أن يتفقا على أن التسليم يكون في غير مكان العقد، مثلاً الآن: لو أن رجلاً اشترى من رجلٍ مزارعٍ فقال له: أسلمتك عشرة آلاف ريال لقاء مائة صندوق من التمر السكري، وكان هذا الاتفاق -مثلاً- في مكة، وكلاهما من غير مكة، فصاحب المزرعة مزرعته في القصيم، -السكري لا يوجد إلا في القصيم غالباً، ولذلك نجعل التمثيل بالسكري؛ لأنه معروف ومشهور، ولا نمثل بالعدوي والبرحي، وإن كان البرحي مشهورا ًأيضاً- فقال: السكري موجود في مزرعتي، يعني: إذا حان الحصاد فإني غالباً أهيئه في مزرعتي في القصيم، فألزمك أو أشترط عليك أن تأتي وتأخذه مني قال له: قبلت، فيلزم بالذهاب وأخذ الصفقة من مكانها الذي اتفقا عليه، أو قال له -مثلاً-: هذه عشرة آلاف ريال لقاء سيارة من نوع كذا وكذا قال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن أعطيك السيارة في جدة قال: قبلت، حينئذٍ الاتفاق وقع في مكة سواءً في التمر أو في السيارة، لكنهما اتفقا بالتراضي من الطرفين أن يكون الوفاء في موضع غير موضع العقد فيصح ذلك، وكأن المصنف يريد أن يقرر لك أن وجوب الوفاء في مكان العقد محله ما لم يتفقا على غيره، فإن اتفقا على غيره جاز، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (المسلمون على شروطهم)، فهما قد اشترطا أن يكون ذلك في موضعٍ غير موضع العقد برضاهما واختيارهما، وعلى هذا: يلزم الطرفان بما اتفقا عليه وحصل الشرط عليه.
محل الوفاء إذا كان العقد قد تم في مكان لا يضبط قال رحمه الله: [وإن عقدا ببرٍ أو بحرٍ: شرطاه]. هذا من دقة العلماء، إذا كنت تقرر أن العقد إذا وقع في مكانٍ وجب الوفاء فيه، فافترض أن العقد وقع في مكان لا يمكن ضبطه، كالبر: الصحراء التي ليست فيها معالم، فلا يمكن ضبط المكان، لكن في الصحراء لو أنهما اتفقا في موضعٍ معين ومعلمٍ معين مثل القرى التي تكون في الطريق، أو اتفقا في استراحة معينة في مكانٍ معين، وجب الوفاء في مكان الاتفاق، ما لم يتفقا على غيره، هذا إذا كان ببر، ومثل البر أيضاً: البحر، فلو كان في سفينة أو مركب وقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صاع من البر أو من التمر، قال: قبلت، وكان الاتفاق في البحر، فإنه في هذه الحالة لا بد وأن يحددا مكاناً غير المكان الذي اتفقا فيه؛ لأن المكان الذي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/353)
اتفقا فيه لا ينضبط، وهكذا لو كان في الجو كما في زماننا، فلو أن تاجرين كانا في طائرة، وقال أحدهما للآخر: هذه عشرة آلاف ريال لقاء -مثلاً- نوع من القماش أو من المزروعات، أو نوع من الطعام من المكيلات أو من الموزونات، وتمت صفقة السلم كاملة وهما في الجو فهذا المكان لا ينضبط، إذاً لابد في العقد أن يتفقا على موضع للوفاء، فيقول له: نحن الآن مسافران فيكون وفاؤنا في المدينة، أو وفاؤنا في مكة أو في موضع كذا، فيحددان المكان ويتفقان عليه.
حكم بيع المسلم فيه قبل قبضه قال رحمه الله: [ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] إذا تمت هذه الشروط المعتبرة للسلم، فاعلم رحمك الله أنه يترتب عليها أحكام، ومن أحكام السلم أنه لا يجوز لمن عَقَد عَقْد السلم أن يبيع الشيء الذي اتفق عليه وأسلم من أجله قبل أن يقبضه، فلو أن رجلاً اشترى سيارةً سلماً بمائة ألف من الوكالة، ثم قال له رجل: هذه السيارة أرغبها هل تبيعها لي؟ فنقول: لا يجوز أن يبيعها قبل قبضها، وهكذا لو اشترى تمراً أو براً أو غير ذلك من المبيعات، لكن ما الدليل على أنه لا يصح أن يبيع؟ نقول: إن كان السلم وقع على طعام فإننا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أرى غير الطعام كالطعام)، وإن كان غير طعام، وقلت: النص خاص بالطعام، نقول: إنه قد ربح ما لم يضمن، فإذا اشتريت سيارةً من وكالة بعشرة آلاف إلى نهاية رمضان هذه السنة، وبعتها بأحد عشر ألفاً أو بعتها باثني عشر ألفاً أو بعتها بثلاثة عشر ألفاً، فمعنى ذلك أنك قد بعت شيئاً وربحت فيه قبل أن يكون في ضمانك، وهذا بيناه في مسألة: ربح ما لم يضمن، فتعلمون أن السيارة الآن لو تلفت فإنها تتلف على ضمان البائع الذي هو الوكالة، فلا يصح في الشريعة أن يتحمل غيرك مسئولية السلعة وأنت تأخذ الربح والنتاج، فانظروا إلى عدل الله عز وجل بين عباده، فلا يصح أن تتحمل الوكالة مسئولية هذه السيارة وحفظها وصيانتها والقيام عليها وتكون مسئولةً عنها، وأنت الذي تربح وتغنم، هذا شيء من الأنانية، ولذلك لا تجيز الشريعة أن تأخذ ربح شيء لم تضمنه، لكن تتحمل مسئوليته وضمانه وتأخذ ربحه ونتاجه، وعلى هذا: لا يصح أن تبيع السيارة قبل قبضها، ولا يصح أيضاً أن تبيع الطعام قبل قبضه، ولا يصح أن تبيع القماش إذا أسلمت فيه قبل قبضه، وهكذا الحديد والنحاس والرصاص وغيرها من سائر المبيعات لابد أن تقبض أولاً، ثم بعد قبضه بع وتصرف، ولأنه لا ينتقل إلى ملكيتك إلا بالقبض فاشترط القبض لصحة التصرف فيه.
حكم هبة المسلم فيه قبل قبضه قال: [ولا هبته]. إذا كان لا يجوز لي أن أبيع حتى لا يحصل الربح قبل الضمان، فافرض أن شخصاً قال لك: هذا المسلم فيه أريد أن أعطيه بدون عوض، كأن أهبه لأخي، فأقول لأخي: يا فلان! هذه السيارة التي اشتريتها من الوكالة هبةٌ مني لك، لم يصح؛ لأن الهبة لا تصح شرعاً إلا بعد الملكية، والملكية تتوقف على القبض، ولا يصح التصرف في شيء بهبته إلا بعد قبضه وملكه، ومن هنا: هبة الأعضاء والتبرع بالأعضاء على القول بعدم جوازها، بني هذا القول على أن الإنسان لا يملك أعضاءه؛ لأن الهبة شرطها: أن تكون مالكاً للشيء الذي تهبه، والإنسان ليس مالكاً لجسده، فهو ممكن أن يهب ماله، وممكن أن يهب سيارته، لكن يده ليست ملكاً له، وكذلك كليته وأعضاؤه، وقرنية العين ونحو ذلك لا يملكها، فقالوا: يشترط في الهبة الملكية، ومن هنا قالوا: صحيح أنه قد تعاقد، ولكنه لم يصل إلى ملكيته الحقيقية التي تبيح له التصرف فيه، فاشترط القبض لهبته، فلا يصح أن يهب السيارة ولا أن يهب الطعام ولا أن يهب القماش ولا أن يهب أي شيءٍ وقع عليه السلم إلا بعد قبضه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/354)
حكم الحوالة بالمسلم فيه أو عليه قبل قبضه قال: [ولا الحوالة به ولا عليه]. أي: أن يحيل بهذا الشيء الذي وقع عليه السلم، فلا يصح أن يحيل به، ولا أن يحيل عليه، لا يصح في كلتا الحالتين، فحينما تدفع مائة ألف لقاء سيارة، فإن المائة ألف هذه لا يصح للوكالة التي اتفقت معها على أن تعطيك سيارة أن تحيلك إلى مكانٍ آخر؛ لأنه لا يصح للشخص الذي تعاقدت معه سلماً أن يحيلك إلى شخصٍ آخر، وأنت أيضاً لا يصح أن تحيل غيرك إلى ذلك الشيء الذي يقع السلم عليه؛ لأن الحوالة تكون على دين مستقر، والسلم لا يستقر ديناً إلا بعد حلول أجله وقبضه، فأنت إذا دفعت مائة ألف لقاء سيارة وجئت تحيل شخصاً له عليك مائة ألف وقلت له: خذ هذا الدين الذي لي على الوكالة، لا يصح إذ الوكالة ليست بمدينة؛ لأن الأجل لم يحل أصلاً، وهذا بيع وصفقة خارجة عن الديون، والحوالة شرطها أن تكون على ديون كما سيأتي (من أحيل على مليء فليتبع) كما قال صلى الله عليه وسلم، فالحوالة تكون في الديون المستقرة، وأنت تحيل على شيء لا يستقر ديناً، وصحيح أن الصفقة أوجبته، لكنه لم يستقر ديناً، فلا يصح للوكالة أن تحيلك على وكالة ثانية، ولا يصح لتاجر الحبوب أن يحيلك على تاجر آخر، ولا يصح لتاجر التمر أن يحيلك على تاجر آخر، كذلك أيضاً لا يصح لك أنت أيضاً أن تحيل على هذا التاجر، فكما أنه لا يصح لهذا أن يحيل على هذا، فكذلك الطرف الثاني لا يصح أن يحيل غيره عليه. قال: [ولا أخذ عوضه]. أي: العوض عن هذا المسلم فيه، مثلاً: رجل تعاقدت معه على مائة صندوق من التمر في نهاية رمضان، فلما حضر الأجل قال لك: والله ما عندي مائة صندوق من التمر السكري الذي اتفقنا عليه، فأريد أن أعطيك عوضاً عنها تمراً برحياً، لم يصح، وإنما يجب عليه أن يحضر هذا الذي اتفقتما عليه وهو السكري، فإن كان ليس عنده يذهب ويحضره من الغير، ولكن بعض العلماء يقول: إذا عجز، كأن يكون هناك جائحة اجتاحت التمور وأصبح هذا الموسم ليس فيه تمر من هذا الصنف الذي اتفقا عليه، فينفسخ العقد، ويحكم بانفساخ عقد السلم، وفي هذه الحالة يطالب برد المال، ولا يطالب بالعوض؛ لأنه غير موجود، فلو قال له: أعطيك عوضاً من نوعٍ ثانٍ، أو أعطيك بدل السيارة طعاماً لم يجز، ولابد أن يعطيه نفس الشيء الذي أسلم فيه، وهذا كله -كما ذكرنا- مبني على أن السلم رخصة خارجة عن الأصل، والخارج عن الأصل يتقيد بالصورة الواردة و التي اتفقا عليها وأوجدا العقد عليها، ولا يجوز التصرف في هذه العقود لإخراجها عن حقيقتها؛ لأنه لو قلنا بجواز ذلك خرج عن كونه سلماً إلى بيع آخر، وأصبح بيع السلم ذريعة إلى بيوع أُخر، ومن هنا: الرخص لا يتجاوز بها محالها، فما جاء على سبيل الرخصة يقيد بصورته ولا يصح إلا بعقده.
حكم الرهن والكفالة بالسلم قال رحمه الله: [ولا يصح الرهن والكفيل به]. الرهن للاستيثاق، فإذا أخذ منك شخص ديناً مائة ألف ريال، تقول له: أعطني رهناً، فيعطيك رهناً مثلاً: أرضه أو عمارته، فيقول: هذه العمارة رهن حتى أعطيك المائة ألف، أو هذا كفيلي يكفلني في الديون، فلا يجوز أن يجعل السلم رهناً، وكذلك أيضاً قالوا: لا يجوز أن يجعل في السلم رهناً، وهذا فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يجوز أخذ الرهن في السلم، وبعضهم يمنع من أخذ الرهن في السلم، مثلاً: رجل تعاقد مع غيره سلماً في تمر، فقال له: هذه عشرة آلاف لقاء مائة صندوق من التمر السكري آخذها منك في نهاية رمضان، قال: قبلت، قال: أعطني رهناً لقاء هذه المائة ألف التي سأعطيك إياها، فمعناه أنه سيأخذ الرهن لقاء الوفاء بالسلم، فقيل: لا يجوز، وهذا مذهب بعض العلماء، وقال بعض العلماء بصحة الرهن فيه وهو أقوى، وذلك لظاهر آية الدين لقوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فإذا كان الشخص لا يأمن ولا يستوثق قالوا: يجوز له أن يأخذ رهناً لقاءه، إلا أنه ضُعف، والحنابلة ومن وافقهم يجيبون بأنه إذا لم يمكنه الوفاء فإنه يلزم بالمثل، وإذا لم يكن المثل فإنه يلزم برد المال الذي هو الثمن الذي أسلمه إليه، فلا داعي لأخذ الرهن به، والصحيح والأقوى ما ذكرنا؛ لظاهر الآية الكريمة؛ لأنها نزلت في السلم، وكان ابن عباس رضي الله عنه يحلف أن آية الدين في السلم، وفي آية الدين ذكر الرهن؛ ولأنه قد يعجز عن الوفاء بالسلم، أو يتعذر وجود
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/355)
الشيء الذي اتفقا عليه ووقع عليه عقد السلم، وتصبح المائة ألف ديناً، فيكون حينئذٍ من حقه أن يستوثق للمال الذي دفعه إليه. قال: [والكفيل به]. كذلك لو قال له: أحضر لي كفيلاً ليكفل قالوا: لا يصح، والصحيح أنه يصح كالرهن. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسئلة ...... الفرق بين عقد السلم وبيع الثمر قبل بدو صلاحها السؤال: أشكل عليّ بيع السلَم مع بيع الثمرات قبل بدو صلاحها وبين بيع الرجل ما لا يملك؟ الجواب: هذا إشكال جيد، فقد تقدم معكم أن من باع ثمرةً قبل بدو صلاحها، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لا يأمن فساد الثمر، وبناءً على ذلك يقولون كأنه باع شيئاً غير موجود؛ لأنه اشترى الثمرة، والثمرة أثناء العقد صلاحها مفقود، فكيف صححنا السلم مع أن المبيع مفقود وغير موجود؟ والجواب: أن بيع الثمرة ينصب على معين، وبيع السلم انصب على غير المعين، وهذا الذي ذكرناه: أنه يشترط في السلم أن يكون موصوفاً في الذمة، ومعنى ذلك: أنه لما باع الثمر انصب على معينٍ يفوت بفواته، ولكن في بيع السلم ينصب على غير معين، فهذا الفرق، وبناءً على ذلك إنما يرد الاعتراض أن لو اتفقا في الحكم، بحيث قلنا: يجوز هذا و يجوز هذا وهما متفقان أيضاً في الوصف، والواقع أن هذا شيء وهذا شيء، فلما كان الغرر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها موجباً للتحريم حرمنا، ولما كان الغرر غير موجب في بيع السلم، أو كان موجوداً ولكنه يسير، وأجاز الشرع أجزناه، والفرق بينهما من هذا الوجه ظاهر، والله تعالى أعلم.
الفرق بين السلم وبيع الرجل ما لا يملك السؤال: ما الفرق بين بيع السلم وبيع الرجل ما لا يملك؟ الجواب: بيع السلم: بيع من الرجل لما لم يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: عام وخاص، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فنقول القاعدة: عدم جواز بيع الرجل لما لا يملك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث حكيم بن حزام كما في حديث السنن: (لا تبع ما ليس عندك)، فلما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده جاء حديث ابن عباس فقال: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فنقول: صح السلم؛ لأنه فردٌ من أفراد العام المنهي عنه، والقاعدة: لا تعارض بين عام وخاص، فبيع ما ليس عند الإنسان محرم إلا في السلم؛ لورود الرخصة فيه، وقال بعض العلماء: ليس بيع السلم من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه من بيع الذمة، ولكن مذهب الجمهور على أنه من بيع الإنسان ما ليس عنده، والحق أن مذهب الجمهور أرجح والرخصة فيه واضحة، ولذلك قال: ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلم، والسلم مرخصٌ فيه من هذا الوجه.
حكم الكتابة والإشهاد في عقد السلم السؤال: هل تجب الكتابة والإشهاد في السلم؟ الجواب: السلم من الديون، والديون يفصل فيها: فإذا كان الدين موثقاً والحق ممكن توثيقه لصاحبه بكتابةٍ، وثابت لصاحب الحق حقه فلا إشكال بأنه يجوز أن يتعاقد باللفظ دون حاجة إلى إشهاد. وأما إذا كان الحق لا يمكن الوصول إليه إلا بالاستيثاق فيجب الإشهاد، وإن كان الاستيثاق بالكتابة وجبت الكتابة، ومن هنا يفصل فيه، فإذا كنت قد اشترى منك رجل سلماً سلعة وكتبت في وصيتك: إن لفلان وفلان كذا وكذا سلماً وثبت حقه؛ فحينئذٍ لا إشكال، أما إن كان عدم الكتابة سيؤدي إلى ضياع الحق فإن الكتابة واجبة، والإشهاد عليه واجب، والكتابة استيثاق إن حصل بدونها فبها ونعمت؛ كالشهادة المجردة باللفظ، وإن كان قد حصل الاستيثاق بالكتابة مع الإشهاد فهذا أكمل وأفضل على ظاهر آية البقرة، وقد رخص بعض العلماء في ترك الإشهاد لحديث اليهودي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهون عند يهودي في صاعين من شعير)، قالوا: ولم يكتب في وصيته حقه، وإنما ترك ذلك لمكان الاستيثاق، ولكنه لا يخلو من النظر لما ذكرنا، والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/356)
حكم الاتفاق مع الخياط على خياطة ثوب السؤال: هل العقد الذي يتم مع خياط الثياب يعتبر من عقود السلم؟ الجواب: إذا قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، بكم؟ قال: الثوب من هذا القماش بمائةٍ أو مائة وعشرين، فإنه حينئذٍ يكون عقد بيع وإجارة، فلو قال له: أريد ثوباً من هذا القماش، فكم متراً يكفيني؟ قال: ثلاثة أمتار، قال: وتفصلها؟ قال: وأفصل، قال: إذاً أشتري منك بمائة، لم يصح؛ لأنه جمع بين الإجارة والبيع مع الجهالة، فلم يعلم قسط الإجارة من قسط البيع، كيف؟ لما قال له: كم متراً يكفيني من هذا الثوب؟ قال: ثلاثة أمتار، فحينئذٍ رغب أن يعطيه من هذا الثوب ثلاثة أمتار، ثم قال له: وتفصل؟ قال: وأفصل، قال: كم تأخذ عليه؟ -يعني: على البيع وعلى التفصيل- فقال: مائة، فجمع بين الثلاثة الأمتار المبيعة أولاً وبين إجارة الخياطة ثانياً على وجهٍ لا يدرى فيه حق الإجارة من حق البيع، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يمنع منه؛ لأنه جمعٌ بين عقدين في عقد واحد على وجهٍ موجب للجهالة والغرر، أما لو قال له: بكم المتر من هذا؟ قال: المتر بستة ريالاً، قال: إذاً أعطني ثلاثة أمتار بثمانية عشر ريالاً، وبكم تفصل؟ قال: بثلاثين، قال: إذاً هذه ثمانية وأربعون، اقطع لي ثلاثة أمتار وفصلها لي، صح ذلك وأجازه العلماء وألحقوه بعقد الاستصناع.
شرح زاد المستقنع - باب القرض [1] يعتبر القرض من المعاملات المالية التي يراد بها الإرفاق، وقد ثبت القرض بأدلة الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض، فيوسع به على المكروب، ويفك به الغارم والمديون، ومن جانب آخر على المقرض أن يحذر من إقراض من يستعين بالقرض على حرام أو مكروه؛ لأنه حينئذٍ يكون شريكاً له في وزره. مشروعية القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [باب القرض]. القَرض والقِرض، والأشهر: بالفتح، لكن يصح الكسر، وأصل قرض الشيء الاقتطاع منه، ومنه قولهم: قرضه فأر، إذا اقتطع منه، وسمي القرض قرضاً: لأن الشخص يقتطع من ماله جزءاً للمديون، فيعطيه إياه ديناً، وأصل القَرض: دفع المال للغير إرفاقاً ليرده عند حلول أجله المتفق عليه، وهذا النوع يسميه العلماء: إرفاقاً، وقد اعتبروه من عقود الرفق؛ لأن الشخص يعطي ماله يحتسب الثواب عند الله عز وجل ويريد الرفق بما أخذ منه، فيكون حينئذٍ عبادة، وقد يدفع المال له من باب العاطفة، فيكون عادة، كشخصٍ -مثلاً- جاءك وقال: أريد مائة ألفٍ قرضاً إلى نهاية السنة، فإنك قد تنظر إلى ظروفه وما ألمّ به من الحوائج فتعطيه المائة ألف، لكن لما أعطيته المائة ألف أعطيتها من باب الرفق، وقد تقدم في أول كتاب البيوع أن عقود المعاوضات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - ما يقصد منه الرفق المحض. 2 - ما يقصد منه القبض المحض. 3 - ما يقصد منه مجموع الأمرين القبض والرفق. أما ما يقصد منه القبض المحض فمثل البيع، فإذا جئت تشتري من المعرض أو جئت تشتري من التاجر إذا عرض عليك السلعة فأنت تريد أن تغبنه وهو يريد أن يغبنك؛ فإن قال لك: هذه السلعة بمائة تقول له: بل بتسعين، وإذا قال بثمانين، قلت: بل بسبعين، هو يريد أن يكون الغبن عندك وأنت تريد أن يكون الغبن عنده، فهذه يسمونها عقود الغبن في البيع وكذلك في الإجارة، إذا قال: أجرتك داري هذا بعشرة آلاف سنةً كاملة، فقلت: بل بتسعة آلاف، فهو يريد أن يغبنك في الألف، وأنت تريد أيضاً أن تغبنه في الألف، فهذا يسمى عقد الغبن، كذلك لو اكتريت أحدهم من أجل أن يوصلك إلى الحرم فقال لك: من هنا أذهب بك إلى الحرم بعشرين، تقول: لا. بل بعشرة، فالغبن إما أن يكون في حق المستأجر أو الأجير، فهذا النوع من العقود يسمونها عقود الغبن والشرع يشدد في شروط هذا النوع، ولذلك تجد شروط البيع أشد من شروط غيره؛ لأنه ما دام أن هناك غبناً فالشرع يريد أن يحتاط للبائع وللمشتري، وبعبارة أخرى: يحتاط للمتعاقدين في حقيهما، فلا يصحح بيع المجهولات ولا يصحح بيوع الغرر بأحوالها، كل هذا احتياطاً لحق البائع، وحق المشتري. النوع الثاني: عقود الرفق، ومنها: الهبة، كما لو أن شخصاً جاءك وقال لك: يا فلان! إني أحبك في الله، وأهدى لك هدية،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/357)
أو قال: هذا القلم هبةٌ مني لك، أو هديةٌ مني لك؛ فإنه يعطيك القلم ولا يريد الثواب إلا من الله عز وجل، أو يريد أن يكون ثوابه المحبة والمودة، فهذا يسمى عقد الرفق المحض، لا يريد أن يغبنك ولا تريد أن تغبنه، فليس هناك غبن من الطرفين أو أحدهما، إنما يراد الرفق، فيشمل هذا الصدقات والهبات بعوض. النوع الثالث من العقود: ما جمع الغبن والرفق، ومن أمثلة ذلك: الشركات، فلو أن رجلاً قال لك: ندفع مائة ألف، أنت تدفع خمسين وأنا أدفع خمسين، ويكون ثلاثة أرباع الربح لي، وربع الربح لك، تقول له: لا. بل ثلاثة أرباع الربح لي، وربعه لك، فهناك غبن في الربح، وهناك رفق في التقوي بكلا المالين؛ فإن المتاجرة بمائة ألف ليست كالمتاجرة بالخمسين، فأنت تريد أن تقوي ماله وهو يريد أن يقوي مالك، فترى رفقاً منك به وهو أيضاً يرى رفقاً منه بك، فصار رفقاً من الطرفين، ولكنه غبن من الطرفين، فإذاً: عقد الشركة جامع بين الغبن وبين الرفق (المضاربة والقراض)، كرجلٍ قال: خذ هذه العشرة آلاف واضرب بها في الأرض، ويكون لي ثلثا الربح ولك ثلث الربح، فتجد في المضاربة رفقاً من الطرفين؛ لأن العامل يأخذ المائة الألف المجمدة والتي لا تستطيع أن تعمل بها فيرفق بك بالمتاجرة، فأنت ارتفقت من هذه الناحية، والعامل ارتفق من جهة اكتساب صنعته وتنمية خبرته، واستفاد من جهة الربح الذي سيجده من المائة ألف، فإذاً: صار عقد المضاربة عقد رفق من هذا الوجه وهو عقد غبنٍ؛ لأنك ستقول: لي ثلثا الربح، وهو سيقول: بل لي ثلثا الربح ولك ثلثه، وكل منكما يريد أن يغبن الآخر في حضه من الربح، فصار عقد المضاربة والقراض جامع بين الغبن والربح. القرض والدين من العقود التي يقصد بها الرفق المحض، فإنه يعطيه القرض على سبيل أن يرفق به، جاءك رجل وعنده كربة أو نكبة لا قدر الله، وقال لك: يا فلان! إني في ضائقة وحاجة، كرجل يريد إيجاراً لشقته أو يريد علاجاً لمريضه أو علاجاً لمرضه؛ فإن هذا كله يقصد به الرفق من دفع الشدة والحاجة عن المحتاج، ولذلك قالوا: دفع المال للغير إرفاقاً -بقصد الرفق- على أن يرده، فلما قالوا: على أن يرده خرجت الهبة والصدقة، فصار القرض من عقود الهبات، والهبة من عقود الرفق. ...... أدلة مشروعية القرض القرض مشروع بالكتاب والسنة وبإجماع الأمة، إذا أعطيت الناس أموالك قرضاً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة:282]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] فجعل معاملة المخلوق للخالق مركبة على القرض، وشبهها بالقرض، فشبهها بالمعروف والمعهود فدل على السنن. كذلك دلت السنة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على جواز القرض، أما القول: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، فهذا يدل على أن من أخذ القرض وفي نيته أن يرده -لا أن يتلاعب بحقوق الناس- فإن الله يعينه، قال بعض العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: (أدى الله عنه)، يحتمل أمرين: الأمر الأول: يحتمل أن يوفقه في الدنيا فيسدده، وقل أن تجد رجلاً يأخذ أموال الناس وفي نيته أن يردها إلا ويوفق للرد. الأمر الثاني: يحتمل أن يكون في الآخرة، أي: إذا مات ولم يسدد الدين، فإن الله لما علم من حسن نيته يتكفل بإرضاء خصمه و الأداء عنه فضلاً من الله عز وجل و تكرماً لحسن نيته؛ لأن نيته كانت صالحة، والله هو المطلع على الضمائر والسرائر، أما لو كانت نيته سيئة، كرجل يُكثر الذنوب ولا يستطيع أن يسدد ويأتي إلى أخيه المسلم ويخدعه بالعبارات وبالكلمات الحسنة والوعود المكذوبة، والله يطلع على ضميره وسريرته أنه كذاب، سيأتي إلى الرجل، ويقول له: أعطني مائة ألف، وفي نهاية السنة تأتيني أموال ويعده وعوداً كاذبة ويمنيه والله يعلم أنه في قرارة قلبه ليس بصادق، وأنه ليس عنده ما يستطيع أن يسدد به، وليس صادقاً فيما يقول من أنه سيعطيه، بل بعض الأحيان يعلم أنه ستأتيه الأموال ولكن يبيت في قرارة قلبه أن يأخذ الدين ولا يرده، فمثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)، ولذلك لا يوفق للسداد، فتتراكم عليه الديون حتى يشتكى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/358)
ويطالب، فيلبس لباس الذلة في الدنيا، وما ينتظره من عذاب الآخرة أشد وأبقى، نسأل الله السلامة والعافية. فالدين جائزٌ ومشروع لظاهر هذا الحديث، وكانت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها تكثر من الدين فيلومونها، وهي لم تكن تكثر من الدين من أجل أن تتاجر وتبيع إنما كانت تفرج به الكربات، فكانوا يقولون لها: ما هذا الذي تفعلينه؟ لماذا تتدينين؟ فقالت: لا أدع هذا الدين منذُ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، فهي تستدين للحاجة وتفريج الكربة. وأما دليل الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية القرض وجوازه وأنه من الأمور المستحبة والمندوبة، فيستحب لمن وسع الله عليه أن يوسع على إخوانه المسلمين بالقرض.
مراتب القرض من حيث الجواز والمنع والقرض يكون واجباً، ويكون حراماً، ويكون مندوباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً. أما أنه يكون واجباً: كرجلٍ تاجر عنده قدرة ومال، ويأتيه المكروب -خاصةً من الأقرباء- ويطلبه مالاً يسيراً، وهذا المديون الذي يريد الدَّين عنده كربة مثلاً فيه مرض خطير، وقد يهلك إذا بقي فيه هذا المرض، ويريد منه الدين من أجل أن ينقذ نفسه، أو يريد هذا القرض من أجل أن يشتري طعاماً، أو يشتري شراباً لابد منه لحياة نفسه، فإنه في هذه الحالة يجب على هذا الذي وسع الله عليه أن يفرج كربة أخيه المسلم، خاصةً إذا غلب على ظنه أنه إذا لم يفعل ذلك أنه سيهلك، والله عز وجل أمر المسلم أن ينقذ أخاه المسلم، ولا يجوز له أن يقتله، فإذا لم يعطه المال فكأنه قتله؛ لأنه تعاطى السبب لهلاكه ولحوق الضرر به، ومثل ذلك لو جاءك المديون يسألك العون، وعلمت أنك إذا لم تسدد دينه فإنه يتضرر، فيكون مثلاً احتاج إلى عشرة آلاف ريال؛ لأن رجلاً اشتكاه في عشرة آلاف ريال، وإذا لم يسدد العشرة آلاف سيسجن، ثم إذا سجن في هذه العشرة آلاف كحق واجب عليه فإن ذلك يعرض أسرته وأولاده للضرر، وقد تتعرض زوجته للزنا والحرام، فلابد أن يضع المسلم الأمر في حسبانه، فإذا كان المدين قريباً لك إما ابن عمٍ لك أو ابن خالٍ لك -بينك وبينه نسب- وأنت تستطيع تفريج كربته فإنه يجب عليك أن تقوم بسداد هذا الدين وتتحمل عنه، خاصةً إذا غلب على ظنك أنه سيسدد، قالوا: قد يكون واجباً عليك أن تدفع له القرض، فإن لم تدفع فإنك تأثم، وتتحمل وزر هذا المسلم، وهذا من كفر نعمة الله عز وجل؛ ولذلك لما جاء الملك للأقرع، قال له: ابن سبيلٍ منقطع، قال له: الحقوق كثيرة، سبحان الله! وهذا هو قول الناس اليوم: عندما تأتي لشخص يقول لك: الالتزامات كثيرة، رجل يكون عنده عشرات الألوف، بل مئات الألوف، بل قد يكون عنده ملايين، وتأتيه في حاجة يسيرة فيقول لك: الحقوق كثيرة، وعليَّ التزامات كثيرة، يعني: هذه الملايين وعشرات الألوف ومئات الألوف لا تفي لسداد هذا الدين الذي لا يعادل شعرةً في مقابل ما عنده، هذه النعمة التي أنعم الله عز وجل بها عليه والمحروم من حرم الخير، وهذا من كفر النعم نسأل الله السلامة والعافية، ولا يأمن من نقمة الله العاجلة والآجلة، فإن من كفر نعمة الله عز وجل فإن الله يلبسه ثوب الذلة، ويسلبه النعمة ويذيقه سوء العذاب الذي ذاقه غيره ما دام أنه يرى قريبه ويرى المحتاجين على تلك الحال ولا يعينهم، هذه كلها أمور ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم بالقرض. من جاء يطلب قرضاً وأنت تعلم أنه يريده لسكنه أو لطعامه ورزقه ورزق أولاده وأنت قادرٌ عليه ينبغي عليك أن تفرج كربته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. كذلك يمكن أن يكون القرض حراماً، كما لو جاء يطلب القرض من أجل أن يفعل الحرام كأن يشتري به خمراً أو يسافر به لارتكاب الحرام، والمسئول الذي طلب منه القرض يعلم ويغلب على ظنه أن هذا المال سيصرف في هذا الحرام فلا يجوز له أن يعطيه، وإذا أعطاه كان شريكاً له في وزره وإثمه نسأل الله السلامة والعافية. ويكون القرض مندوباً، كأن يكون المقترض مسلماً وجاءك في حاجة ولا يجب عليك أن تنقذه كطالب علمٍ أو رجلٍ يريد أن يسافر إلى أهله ليعف نفسه أو نحو ذلك من المستحبات والمندوبات فأعنته على ذلك فهذا قرضٌ مندوب، وهذا هو الذي نبه عليه المصنف، وهذا عند انتفاء الموانع التي توجب حرمته وانتفاء الدوافع التي ترفعه إلى مرتبة الوجوب، مثلاً:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/359)
لو جاءك مديون يستطيع أن يأخذ منك الدين ويأخذ من غيرك، وقال لك: يا فلان! أقرضني، وتعلم أنك إذا لم تقرضه سيذهب إلى غيرك فلا يتعين عليك في هذه الحال ولم يجب عليك، ولكن من الأفضل والأكمل أن تبذل له الدين، ففي هذه الحالة يكون القرض مندوباً. ويكون مكروهاً إذا كان لشيءٍ مكروه لا يصل إلى درجة الحرام، كأشياء تشغله عن ذكر الله ولا تصل إلى درجة الحرام ويقضي به وطره فيكون المعونة عليه معونة على المكروه. ويكون مباحاً، كرجلٍ جاءك يريد أن يأخذ المال من أجل أن يشتري صفقة وتجارة، فهو في الأصل ليس مضطراً حتى يصل إلى درجة الوجوب، كتفريج الكربات، إنما يريد أن يربح ويزيد ماله، فأنت استحيت منه وأعطيته، كما يقع بين التجار بعضهم مع بعض، يأتي ويأخذ منه السلعة ديناً وهو قادر أن يسدده، هذا يكون مباحاً؛ لأنه لا دوافع تجعله مندوباً أو واجباً ولا موانع تجعله محرماً أو مكروهاً فصار مباحاً، أو كرجلٍ غني ثري يأخذ منك ديناً فتستحي منه وتعطيه، فهنا لا تستطيع إن تقول: إن هذا تفريج، أي: ليس هو بمكروه، ولا تستطيع أن تقول: إن هذا محرم؛ لأنه ليس بحرام، فليس في مقام المطلوبات ولا في مقام المحرمات، فيكون مباحاً.
الجمع بين مشروعية القرض وذم المسألة إذا طلب إنسان القرض هل يدخل هذا في ذم المسألة؟ لقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة ورغب في ترك سؤال الناس، وبين فضيلة ترك المسألة، وأن من ضمن أن لا يسأل الناس شيئاً ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: (من يضمن لي أن لا يسأل الناس شيئاً أضمن له الجنة) والسبب في هذا الاستغناء بالله جل وعلا وصدق اللجأ إلى الله سبحانه وتعالى وكمال اليقين به، والمؤمن إذا صان ماء وجهه عن أن يريقه للناس كان هذا أكمل في إيمانه ومروءته، وهذا كله يقصده الشرع ويطلبه. فهل إذا استدان يدخل في المسألة المكروهة؟ الجواب: إن طلب الدين لا يعتبر من المسألة المكروهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدين، وتوفي كما في الصحيحين ودرعه مرهونة في صاعين من شعير عند يهودي، وهذا يدل على أن طلب الدين ليس من المسألة المكروهة، وما زال على ذلك عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين رحمهم الله، حتى إن محمد بن سيرين وهو من أجلاء أئمة التابعين رحمه الله برحمته الواسعة، أصابته الديون وعظمت عليه حتى سجن في الدين، وأصبح مرهوناً، ولما توفي أنس بن مالك رضي الله عنه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين وكان مسجوناً في دينه، وهذا يدل على أن مسألة الدين ليست من المسألة المحرمة، ولا من المسألة المكروهة؛ لأنه يأخذ الدين ويرده، وليس بآخذ شيئاً بدون عوض.
أركان القرض المشروع القرض يقوم على ثلاثة أركان، وهي: العاقدان، ومحل العقد، والصيغة، فأما العاقدان: فهما المقرض والمستقرض، فالمقرض هو الذي يدفع القرض، والمستقرض هو الشخص الذي يأخذ القرض، ويشترط فيهما: الأهلية، وهذه الأهلية تستلزم العقل، فلا يصح أن يستقرض من مجنون، أو صبي غير مأذون له بالتصرف في المال، ولو أقرض لم يصح القرض وجاز لوليه أن يأخذه مباشرة. كذلك يشترط في المقرض أن يكون مالكاً للمال الذي يقرضه، فإذا كان غير مالكٍ له لم يصح أن يقرضه للغير، والمال الذي يدفعه للغير قرضاً إذا لم يكن مالكاً له فقد تصرف في ملك غيره، ومن المعلوم أن القرض يصير المال المقتَرَض ملكاً للمقتَرِض، وعلى هذا لابد أن يكون الذي بذل مالكاً. ويتفرع على هذا المسألة المشهورة: لو أن رجلاً أُعطي مالاً لكي يزكيه لا يصح أن يعطيه قرضاً؛ لأنه أُعطي المال وكالة، والإذن له بالتصرف في المال وكالة في الزكاة، وعلى هذا فلا يجوز له أن يقرضه، وكذلك أيضاً لا يجوز أن يتصرف في مال اليتيم فيقرضه للغير؛ لأن نصب الولي على اليتيم من أجل أن ينظر مصلحة المال في تنميته والقيام عليه، فإذا أعطاه قرضاً فإنه قد خاطر بالمال؛ لاحتمال أن يعجز الشخص الذي أخذ القرض عن السداد، وإنما أُذن للولي أن يتصرف في مال موليه وهو اليتيم إذا كان على وجه الإحسان والحفظ والصيانة، فإذا أعطاه قرضاً كان ذلك مخالفاً للأصل، فلم يصح ولا يجوز له. أما الصيغة فإنها تقوم على الإيجاب والقبول، فتقول: أقرضتك، أو أسلفتك، فإنه يصح أن يعبر بالقرض ويصح أن يعبر بالسلف، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/360)
رافع رضي الله عنه قال: (استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً)، فقوله: (استسلف) تدل على جواز أن يقول: أسلفتك هذه الدراهم، أو أسلفتك هذه الريالات، ومن هنا قالوا: يصح أن تتركب الصيغة بلفظ القرض وبلفظ السلف.
الحكمة من مشروعية القرض القرض في مشروعيته حِكم عظيمة، فهو يفرج كربات المكروبين، ويدفع ويقضي حوائج المحتاجين، حتى قال بعض العلماء: إنه من أفضل القربات وأجلها وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن المديون لا يأتيك إلا من حاجة، فإذا ضاقت عليه السبل وأراد أن يطلب منك أن تعينه بالقرض وهو موثوق لا يعرف بالتلاعب ولا بالكذب ولا بالغش ولا بالخديعة للناس، وخاصة إذا كان غريباً لا يعرف غيرك، أو بينك وبينه قرابة، فإنك إن فرجت كربته كان هذا من أبلغ ما يكون من الأثر والإحسان إلى الناس، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل الإحسان إلى الناس في القروض والتوسعة عليهم فيها: (من يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وعلى هذا استحب العلماء القرض، واستحبوا التيسير على المقترض، ومن التيسير على المقترض عدة أمور: أولاً: أن تيسر له إذا جاء يسأل، فلا تعنفه، ولا توبخه، ولا تهينه، ولا تشعره بشيء من الحرج، كان السلف يملكون الأموال ولكن كأنها ليست ملكاً لهم، بل ملكاً لمن سأل، حتى قال ابن عباس: (ثلاثة لهم عليَّ فضل: رجل احتاج حاجة فجاء يسألنيها) ووجه فضله قالوا: إنه اختارك من بين الناس كلهم، فكان الناس يوم كانوا يحسون أن من جاء للحاجة والفاقة وقصدني فإنه اختارني من بين الناس. وهذا أمر يعظم وقعه على الكريم الذي له نفس حية وقلب حي، فيرد هذا، حتى إنه يتحرج أن تأتي، وتقول له: يا فلان! قد نزلت بي حاجة، فيقول لك: ماذا تريد؟ ماذا تأمر؟ ولا يسمح لك أن تقص حاجتك، وتريق ماء وجهك، يحس بأخوة الإسلام وأن ما أصابك كأنه أصابه، ويحس أن الذي نزل بك كأنه نزل به، فيستشعر حينما جئت إليه وفي وجهك ولسانك ما يدل على الشدة والحاجة والفاقة كأنك هو، فهو يحس بهذه الآلام والأشجان ويتألم كما تتألم بها أنت، فلا يريدها أن تستمر، فيقول لك: أرجوك قل ما تريد، ولا يسمح لك أن تذكر سبباً للسؤال وللحاجة، فهذا من التيسير على المعسرين، وهو يدل على كمال الإيمان وشكر نعمة الله عز وجل المنعم المتفضل على العبد، فإن الله إذا أعطاك نعمة وبارك لك فيها شكرتها، وإذا شكرتها وجاءك المكروب أحسست كأنك هو. وعلى هذا قالوا: هذا من التيسير عند ابتداء القرض، ثم إذا جئت تعطيه القرض لا تشعره بالأسلوب القوي العنيف، فهذا من التعسير عليه والتضييق؛ لأنه لم يشعر بآلامه ولم يحسها فيوسع عليه، يقول له: المال مالك، وأسأل الله أن يبارك لك فيه، خذه مباركاً .. خذه بطيبة نفس، أسأل الله أن يفرج عنا وعنك، فيخرج المكروب والمنكوب ميسراً عليه وقد كان جاءك بهموم الدنيا وقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فيخرج من عندك مجبور القلب والخاطر، فلا يملك إلا أن يدعو لك بظهر الغيب ويذكرك بالخير، وهذه هي التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح)، فإن المال الصالح الذي جاء من طريق الحلال والكسب الطيب إذا جاء للرجل الصالح فستر به العورات وفرج به الكربات، أنعم الله عليه بهذا المال، فيصبح الناس يدعون له بظهر الغيب، كذلك من التيسير على المعسر ما لو قال لك مثلاً: أعدك بالسداد في نهاية رجب، وأنت تعلم أنه قد ضيق على نفسه، فتقول له: لا يا أخي! بل إن شاء الله إلى أن ييسر الله عليك، فهذا أيضاً من التيسير على المعسر في الأجل. فعلى العموم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هذا القرض، وفي مشروعيته حكم عظيمة، منها: أن الله عز وجل يعظم الأجر والمثوبة لمن أعطاه الله المال، فشكره بمثل هذا. ومن حكمه العظيمة أنه يحقق الألفة والمحبة والأخوة بين الناس، فإن الناس لا زالوا بخير ما رحم بعضهم بعضاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فهذه من الأمور التي تستفاد من القرض أنه يجعل الناس متراحمين، وانظر إلى الرجل حينما يأتيك، ويقول لك: أصابتني ضائقة فذهبت إلى فلان وسألته عشرة آلاف فأعطانيها ويسر لي، فعل الله به وفعل، فتحس أن الناس
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/361)
يشعرون أن الخير لا يزال موجوداً، ولكن نسأل الله السلامة والعافية، إذا احتاج المحتاج ونزلت الكربة بالمكروب وضاقت على المسلم الأرض فأصبح يفكر، وينظر ذات اليمين وذات الشمال يبحث عمّن يعينه فلا يجد، بل يذهب ويريق ماء وجهه عند الرجل ويشكو له حاجته وكربته وفاقته، فإذا به يقول له: والله الحقوق كثيرة، والذين يتدينون كثير وقل من يقضي، وكأنه يقول له: أنت مثلهم، هذه من الأمور التي لا تحمد عقباها، وهو من كفر نعمة الله عز وجل، إما أن تعطيه، وإما أن ترده بالتي هي أحسن. وعلى هذا فالقرض فيه خير كثير، وفيه حكم عظيمة وتوسعة على الناس وتفريج لكرباتهم، وربما جاءك المكروب وهو يحتاج المال لسداد دين مسكنه، فإذا لم تسدد عنه كيف يكون حال الناس؟! يخرجون من مساكنهم إذا ضاقت عليهم الدنيا؟ كذلك أيضاً ربما جاءك وقد ابتُلي بغريم لا يحسن، ومن هنا كانوا يوصون ويقولون: إذا رجوت فلا ترج إلا الحيي الذي يستحي، حتى قيل: (لا ترج من ليس له حياء)؛ لأن الحيي إذا جئته فإنه يستحي منك وأقل شيء أنه إذا ردك ردك بالتي هي أحسن، فإذا نظرنا إلى هذه الحكم المستفادة من قضاء الديون، فإننا ندرك حكمة الشرع في تجويزه للقرض، وأنه من الخير والرحمة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فمن رحمة الله ويسر هذه الشريعة أن يسرت على الناس في هذا النوع من المعاملات. وقوله: [وهو مندوب]. بعد أن عرفنا أن القرض يقوم على عاقدين: المستقرض والمقرض، وعلى محل وهو: المال المدفوع وبدله، وعلى صيغة وهي الإيجاب والقبول، (أقرضتك) و (قبلت)، انتقل بعدها رحمه الله إلى الحكم العام، فقال: [وهو مندوب] أي: القرض وذلك بالنسبة للشخص الذي يدفع ويعطي وهو المقرض. ولكن هنا مسألة عارضة، وهي: من المعلوم أن الواجبات أعظم أجراً من المندوبات والمستحبات، فمرتبة الواجب أعلى وأعظم، فإذا نُظر إلى الدين فإنه مندوب، وإذا فرج عن أخيه ويسر وسهل عليه كان من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن التيسير ليس بواجب، فقالوا: إنه فُضِّل هذا المندوب على الأصل من المطالبة، وهو إلزام الغريم بمطالبته، وعلى الصدقة، قالوا: لأن هذا فيه معنى الوفاء وفيه زيادة، فكأنه اشتمل على الأصل الواجب والزيادة عليه، فكان أفضل من هذا الوجه.
الأشياء التي يجري فيها القرض وقوله: [وما يصح بيعه يصح قرضه] أي: يصح قرض كل شيء يصح بيعه، وعلى هذا تشمل الأموال: الأثمان والمثمنات، وعند العلماء خلاف في هذه المسألة، فبعض العلماء يقول: لا يصح القرض إلا إذا كان من المثليات، المكيلات والموزونات والمعدودات المنضبطة، أما لو استقرض شيئاً لا ينضبط مثله لم يصح القرض، والسبب في هذا أن القرض يلزم المديون برد المثل، فإذا أخذ شيئاً لا ينضبط فمعنى ذلك أنه يفضي إلى الغرر والاختلاف والتنازع، وعلى هذا قالوا: لابد وأن يكون منضبطاً، واختلفوا في المنضبط على وجهين: الوجه الأول: منهم من يخصه بالمكيل والموزون ولا يجيز في المعدود كالحنفية. الوجه الثاني: منهم من يجيز في الكل كالجمهور، ودرج المصنف على مذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يجوز حتى في العدد، قالوا: والدليل على مشروعيته ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فردها خياراً رباعياً) والبكر من الإبل معدود وليس بمكيل ولا موزون ورده خيارًا رباعيًا، وقال: (إن خير الناس أحسنهم قضاءً) فدل على جواز السلف والدين والقرض في المعدودات، وأنه لا ينحصر بالمكيلات والموزونات. وبناءً على مذهب الحنفية لا يجوز أن يقترض إلا ما كان منضبطاً بالوزن أو بالكيل، وأما ما عداه فلا يجوز، وإذا قررنا الإجماع فكلهم متفقون على أن الذي لا ينضبط لا يجوز قرضه، فمثلاً قال له: هذه الحفنة من الطعام أُعطيكها قرضاً، فإنه إذا جاء يسدد لا يستطيع أن يعطي مثل الحفنة، وهكذا لو قال له: هذا كيس لا يُعلم كم بداخله أعطيكه قرضاً، فإنه لا يُعلم كم بداخله، ولو أعطاه جواهر؛ لأن المشكلة أنه إذا أخذ هذا الكيس سيستنفده، ولا يدري كم هو، فلابد وأن يكون الذي يأخذه منضبطاً، ولو أخذ الجواهر وكانت مما لا ينضبط ولم يكن لها وصف تتميز به، فإنه لا يصح قرضها على هذا الوجه؛ لأنه يفضي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/362)
إلى الاختلاف والتنازع. وقوله: [إلا بني آدم] فمثلاً: قال شخص لآخر: أقرضني هذه الأمة، وعندنا أن كل ما صح بيعه فإنه يصح قرضه، والمملوك يجوز بيعه، وبناءً على ذلك يجوز قرضه، ومن حيث الأصل أنه إذا استقرض بعيراً مثلاً، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استقرض البعير ورد مثله وأفضل منه، وعلى ذلك فإذا استقرض المملوك فإنه يرد مثله في صفاته، فالسبب في منع قرض بني آدم، قالوا: خشية إعارة الفروج، والسبب في هذا أن القرض يراد منه الانتفاع والارتفاق، فإذا أخذه المقترض فإنه يملكه، ولا يكون مالكاً له إلا بالقبض أو بالتصرف، فإذا تصرف فيه ملكه، وحينئذٍ ربما أخذه واقترضه ووطئ المرأة قبل أن يتصرف فيها أو وطئها بعد قرضها، وحينئذٍ يكون قد وطئ فيما يملك الغير، قالوا: إنه وطئ في ملك الغير، فلو صححنا أنه وطئ في شيء ملكه بالقبض قالوا: يصير كأنه أعار الفرج بالفرج؛ لأنه أخذها للوطء، ثم جاء ببدل عنها مكان الذي ارتفق به، قالوا: وبناءً على هذه العلة وهي عدم جواز إقراض بني آدم يصبح الحكم الأشبه فيه أن يختص بالتي يمكن أن يطأها. والشافعية دققوا في هذه المسألة، فقالوا: قرض بني آدم إن كان مما لا يوطأ كصغيرة لم تبلغ سن الوطء، أو ذات محرم كأن يقرضه أخته تكون مملوكة، فقال له: أقرضني أختي ديناً، فأخذها قرضاً وديناً فحينئذٍ قالوا: يصح؛ لأنه لو أعطاه بدلاً عنها فلا تتحقق المفسدة؛ لأنه إذا أخذ أخته قرضاً عتقت عليه، ثم إذا عتقت عليه جاء بالبدل عنها، وحينئذٍ قالوا: إن المفسدة المرادة من إعارة الفروج ليست موجودة، بخلاف ما إذا أعاره أمة فأخذها وملكها فوطئها ثم رد مثلها، فكأنه رد الفرج بالفرج، وعلى هذا قالوا: يفرق بين ذات المحرم وغير ذات المحرم، ويفرق بين ما يمكن وطؤه وما لا يمكن. أيضاً قالوا: يجوز أن تستقرض المرأة المملوكة، فيجوز قرض بني آدم للنساء بعضهن مع بعض؛ لأن مفسدة إعارة الفروج ليست بموجودة؛ لأن المرأة لا تطأ المرأة، ومن هنا قالوا: ينبغي تقييد المنع بما وجدت فيه العلة، وهذا هو وجه المنع من استقراضه، وإلا فلو نظرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف المعدود ورد المعدود فإن هذا يدل على جواز قرض بني آدم ورد المثل إذا لم يكن هناك مثل، أو رد العين إن كانت العين موجودة.
ما يملك به الإنسان القرض وقوله: [ويملك بقبضه فلا يلزم رد عينه] ويملك القرض بقبضه، هناك ثلاث مراحل وسبق وأن نبهنا عليها، وهي: العقد، وهو الإيجاب والقبول، وهناك القبض والحيازة والتسليم ونحو ذلك، وهناك التصرف سواءً بالبيع، أو بالإجارة، أو بالهبة، أو بالعتق، وهذا كله تصرف في المبيع، فأما بالنسبة للعقد، فمثلاً: قال له: أقرضني عشرة آلاف ريال إلى نهاية رمضان، قال: قبلت، فقال بعض العلماء: إذا قال له: أقرضني عشرة آلاف، أو أقرضني هذا الكتاب، أو أقرضني هذه السيارة، أو أقرضني هذه الدابة، وقال الآخر: قبلت، فإنه بمجرد الإيجاب والقبول تصير إلى ملك المستقرض، وحينئذٍ من حق المستقرض أن يعطي البدل عن القرض، وفائدة المسألة سنبينها في البدلية، قال بعض العلماء: لا يقع الملك إلا بعد القبض. فمثلاً: لو فرضنا مالاً كمائة ألف ريال من فئة الخمسمائة، إذا قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال له: هذه مائة ألف إلى نهاية رمضان ولم يقبضها، فعلى القول الأول: تصير إلى ملك المستقرض بمجرد الإيجاب والقبول، والقول الثاني: أنها لا تصير إلى ملك المستقرض إلا بالقبض، فإذا قبضها فحينئذٍ لو طالبه صاحب الدين؛ لأنه في بعض الأحيان يقول صاحب الدين: خذ المائة ألف إلى نهاية رمضان، ثم يقول: لا. قد رجعت عن ديني، أعطني إياه الآن، فيريد أن يفسخ، وسنبين هل يلزمه أن يبقى أم لا يلزمه، لكن نقول على ما اختاره المصنف رحمه الله وجماعة: إن من حقه أن يرجع ولو كان بعد العقد مباشرة، فلو أنها من فئات الخمسمائة ريال، فقلنا: إنها تملك بالقبض على القول الثاني الذي اختاره المصنف، فإذا قبض المستقرض القرض حينئذٍ ملكه، فجاز له إذا طالبه برده أن يرد المثل بدلاً عنه؛ لأنه قد ملك وحينئذٍ يصل إلى ملكيته إن شاء أعطى نفس الشيء وإن شاء أعطى مثله؛ لأنه صار إلى ملكيته بمجرد القبض. القول الثالث: لا يصير إلى ملكية المستقرض إلا بالتصرف، فإن تصرف في الدين فحينئذٍ ملكه ولم يلزم رد عينه،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/363)
فالمسألة هنا في رد العين، لو أن هذا الشيء في بعض الأحيان يكون خمسمائة والسوق الأفضل أن تكون مفرقة فاستقرضها مفرقة، فأراد أن يعطيه بدلاً عنها جملة وبرأسها كما يقولون كان له ذلك؛ لأنه ملكها بالقبض وصح له أن يصرفه إلى المثل، هذا إذا قلنا: إنها بمجرد العقد. إذاً: يملك القرض بالعقد، ويملك بالقبض، ويملك بالتصرف، فإن اقترض منه قمحاً ولم يتصرف فيه وطالبه صاحب القمح برده قبل التصرف لزمه أن يرد عين القمح ولا يصرفه إلى مثله؛ لأنه لم يملكه إذا لم يتصرف فيه، وهكذا أيضاً لو قلنا: لو قبضه وبعد القبض طالبه لم يصح أن يطالبه بعينه، والعكس لو طالبه قبل القبض وبعد العقد لزمه أن يدفع له عين الطعام الذي أخذ، وهكذا لو أنه اقترض منه سيارة أو دابة على أن يرد مثلها، فإنه إذا اقترض منه السيارة قرضاً بعينها ورقبتها فإنه يصير مالكاً لها بمجرد العقد على القول الأول، وبالقبض إذا ركبها وقبضها وساقها على القول الثاني، وإذا تصرف فيها وبذلها على القول الثالث، فإذا تصرف فيها فباعها أو أجرها للغير صارت ملكاً له، فحينئذٍ يجوز أن يعطيه بدلها ويجوز أن يعطيه عينها، فالخيار له إذ لا يكون ملزماً بالعين، هذا بالنسبة لمسألة ما يملك بقبضه. إذاً: عندنا ثلاثة أوجه للعلماء: فالجمهور يرجحون القبض، وغيرهم يرجح التصرف، والجمهور كلهم على القبض والتصرف، وقال المالكية: إنه يملك بمجرد العقد، لكن الجمهور منقسمون على القبض وعلى التصرف، واختار المصنف رحمه الله قول من قال: إنه يملك بالقبض. وهذه المسائل بناها العلماء على أصول في الشريعة، فأنت حينما تعطي شخصاً ديناً فإن هذا الدين بأصل الشرع إذا أخذه كان من حقه أن يتصرف فيه، فمن أقرض قرضاً فإن الإجماع قائم على أن المقترض يملك القرض، بدليل أنه يذهب يأخذ منك المائة ألف فيشتري بها عمارة أو سيارة وليس من حقك أن تطالبه بهذه العمارة أو السيارة إنما تطالبه بالمائة ألف، إذاً: الإجماع والأصل الشرعي يدل على أنه يملكها. يبقى السؤال: هذه المائة ألف في الأصل هي ملك لي وأعطيتها لك وحصل بيني وبينك إيجاب وقبول، فهل ملكيتك لها تكون بمجرد الإيجاب والقبول؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] ودل على أنه يلزم بمجرد العقد، أم أنه لابد من القبض وهذا أصل مفرع على المعاوضات؛ لأن الديون في البداية فيها شبه بالعارية وفي النهاية فيها شبه بالبيع؛ لأنه إذا تصرف فيها لزمه البدل، فإذا قلت: إنه ملكها ودخلت إلى ملكيته وتصرف فيها فحينئذٍ يضمن البدل، فهذا يقتضي أنها معاوضة وفيها شبه من البيوع والمعاوضات؛ لكن في الابتداء ومن حيث الأصل الدين لي والمال مالي، خاصة على قول من يقول: إنه من حقي أن أطالبك في أي وقت ولو قبل الأجل. فإذاً: لابد أن نحدد متى ينتقل المال من عندي إليك، وهذا يترتب عليه الأحكام الشرعية حتى ننصف صاحب المال وننصف المديون أيضاً، وحتى نعلم أن هذه الشريعة كاملة، وأنها فاقت جميع القوانين والتشريعات التي هي من صنع البشر والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52] قواعد صحيحة وأصول متينة، فالعلماء يدرسون كل شيء يترتب عليه ذمم الناس والحقوق والمسئوليات، فيفرعون ويفصلون حتى يُعرف ما لكل ذي حقٍ من حق، فيعطى كل ذي حقٍ حقه. فالفقه ميزته أنه سبب ليعطى كل ذي حقٍ حقه، وهذه المسائل وإن كانت في البداية غريبة لكنها تنبني عليها حقوق، فقد يأخذ المقترض الطعام فيطحنه، وقد يأخذ الدقيق فيطحنه أو يتصرف فيه ثم يطالب الرجل بعين ماله، فهل من حقه أن يطالب أو ليس من حقه؟ وإذا قلت: من حقه، لماذا؟ وإذا قلت: ليس من حقه، لماذا؟ هذه كلها أمور محسومة ومفصلة في كلام العلماء رحمهم الله حتى يتيسر القضاء إن حصلت الخصومة، وتتيسر الفتوى إن حصل السؤال، ويتيسر العلم إذا حصل الطلب، فالمراد أننا ندرس هذه المسائل حتى نعرف بيان ضوابط القرض، وكذلك الأموال حتى نعلم متى تنتقل من ملكية المالك الأصلي إلى ملكية غيره.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/364)
حكم تسديد الدين قبل حلول الأجل وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله] (بل يثبت) أي: يثبت الدين والضمير في (بدله) عائد إلى الدين، وقوله: (في ذمته) أي: ذمة المديون والذي استقرض، والذمة وصف يقوم بالأشخاص قيام الأوصاف الحسية بمحسوساتها، وهو وصف يقبل الالتزام، فقوله: [في ذمته] أي: أنه لابد وأن يكون الشخص الذي يقترض عنده ذمة قابلة بأن يلتزم بها. وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً] هذا فيه خلاف. وقوله: [ولو أجله] ولو: إشارة إلى خلاف مذهبي. وهذه المسألة نريد أن نبحثها، فمثلاً: لو أن رجلاً أعطاك مائة ألف ديناً، فهذه المائة ألف قلت له: أخذت منك هذه المائة ألف أو آخذ منك هذه المائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فقال لك: قبلت خذها ديناً إلى نهاية السنة، نحن الآن في رمضان، فإذا قبضتها على القول بأن الملكية بمجرد قبضك لها يثبت في ذمتك لصاحب الدين مائة ألف حالة، أي: تدفع فوراً، لو طالبك بها في أي وقت ولو قبل نهاية السنة تدفع، ولو اتفقتما على التأجيل لماذا؟ لأنهم يقولون: القرض كالعارية بدليل أنك لا تملكه إلى الأبد، صحيح أنك لما أخذت المائة ألف تصرفت فيها لكن لا تملكها إلى الأبد، بل تلزم برد مثلها، فإذاًَ: هذا المثلي مملوك لك أم غير مملوك، وبالإجماع إذا قلنا بثبوته على المديون ليس ملكاً له، فمعنى ذلك: أنك إذا أخذت مائة ألف فهي ليست ملكاً لك، إنما ملكت الانتفاع والارتفاق بها إلى الأجل، هذا من حيث الأصل. فإن قلنا: إنها كالعارية، فلو أن شخصاً أخذ منك السيارة يريد أن يصل بها إلى الحرم المكي ويرجع، فمعنى ذلك: أنه أخذها وردها، وهو ليس مالكاً لها، فإذاً: يقول أصحاب هذا القول من الحنابلة والحنفية رحمهم الله: الدين يثبت في ذمة المديون حالاً ولو أجله صاحب الدين فأعطاه مهلة إلى أجل، ولو قال له: أشترط عليك أن يكون إلى أجل، قالوا: يفسد الشرط ويلغى ويكون وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ويلزم لو طالبه في أي وقت أن يعطيه دينه؛ لما يلي: أولاً: أن الدين كالعارية، ومن حقه في أي وقت أن يرجع ويأخذ العارية، فلو أنك أخذت السيارة عارية إلى الحرم فمشيت بها مثلاً مائة متر فلحقك، وقال: أعطني سيارتي، قالوا: من حقه أن يستردها؛ لأنها كالعارية. ثانياً: أنه إذا قال لك: خذها إلى نهاية السنة فوعد، والوعد ليس بملزم، وإن كان المسلم مطالب أن يفي بوعده، وإلا فإنه يأثم، لكن ما فيه إلزامات مترتبة على هذا الوعد؛ لأنه إحسان وتبرع محض، فقد يعطيك الدين على أنه موسع ثم يرجع عن ذلك فيتذكر حقوقه، والله تعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] والذي بذل الدين محسن، فلو أعطاك قرضاً إلى نهاية السنة وقال: أنا أريد الأجر والثواب ثم جاءه ظرف بعد شهر أو شهرين أو يوم أو ساعة، وقال لك: أعطني الآن فعليك أن تعطيه، وقالوا: يثبت في ذمتك حالاً. أي: لو أنك تصرفت فيها وطالبك بالدفع فوراً فأصبحت بعد التصرف مباشرة معسراً يثبت في ذمتك حالاً، فليست القضية أن تدفع فوراً إذا كان فيه إمكان، لكن شاهدنا: أن الدين لا يُلزم بإبقائه إلى الأجل، هذا هو الذي درج عليه المصنف واختاره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية رحمهم الله. وهناك قول للمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، أنه إذا أجله فإنه يلزم بالأجل، وأنه إذا اشترط عليه أن يسدد في رمضان لم يكن من حقه أن يطالبه قبل رمضان، ويلزم بالبقاء إلى نهاية رمضان، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) وهذا قد أخذ ديناً، فلو سلمنا أن الدين كالعارية في شبهه، فإننا نقول: يمكن أن نسلم بهذا، لكن لما اشترط عليه ألزم بشرطه، والفرق بين ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام ابن القيم وبين مذهب المالكية: أن شيخ الإسلام يجعله عند الشرط إذا اشترط، والمالكية يقولون: اشترط أو ذكر الأجل فإنه يلزم بالتأخير إلى الأجل، والصحيح أنه إذا اشترط عليه أن يؤجل فليس من حقه أن يطالبه قبل الأجل. وقوله: [ويثبت في ذمته حالاً ولو أجله] أي: أنه إذا قبض المديون الدين فإنه يملكه، فيجوز له بيعه وهبته وإتلافه؛ لأنه ملكه، فلو أخذ منك دقيقاً وطحنه وعجنه وخبزه فإنه يملكه بقبضه، فعلى هذا يثبت في ذمته مثل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/365)
الذي أخذ إن تصرف فيه، وإذا لم يتصرف فيه ووجد عين المبيع فمن حقه أن يطالبه بدفع العين، وقيل: يثبت مثله أو بدله، وهذا هو الذي نص عليه المصنف بقوله: [ويثبت]. وقوله: [بل يثبت بدله] البدلية: تستلزم اتحاد الجنس واتحاد النوع واتحاد الصفة واتحاد القدر، وهنا تستلزم المثلية، والمثلية تقوم على اتحاد الجنس: طعام بطعام، واتحاد النوع: بر ببر، واتحاد الصفة: إبل عرابية بعرابية أو بختية ببختية، وبختية ما لها سنامان، والعرابية ما لها سنام واحد، إذاً: يعطيه بصفتها، واتحاد العدد والقدر كأن يأخذ منه مائة ويرد مائة. فقوله: [يثبت بدله] أي: بدل الدين، ولا يلزم برد العين إن طالبه صاحب الدين، ففي بعض الأحيان يستسلف دنانير ذهب جديدة ويقضيها قديمة، والجديدة أفضل من القديمة، وقد يستسلف خمسمائة دينار كل عشرة دنانير على حدة، مثلاً: بوزنها، والجملة أثقل من الصرف؛ لأن المصروف أفضل، وفي بعض الأحيان الجملة أفضل، فلو أنه أخذها منك خمسمائة فجئت وطالبته بها كان من حقه أن يعطيك بدلاً عنها تفاريق، ولا تقل له: أعطني هذه الخمسمائة. إذاً: لما قال المصنف: [يثبت بدله] قرر المسألة عند الخلاف إذا تنازعا، فمثلاً: لو استدان رجل منك أي مال من الأموال، ثم تبين أن هذا الرجل في ماله شبهة، فجئت وقلت له: أعطني ديني، وأنت تريد عين ما أخذ منك تورعاً، فحينئذٍ على قوله: [يثبت بدله] ليس من حقك أن تطالب بالعين، وعلى القول: بأنه إذا طالبه بالعين ولو عند نهاية الأجل يثبت عينه إن كان موجود العين، فحينئذٍ يلزم بدفع عينه، ولا يجوز له أن يصرفه إلى المثل والبدل، فلو كان عندك بعير تحبة فجاءك من يطلبه منك، فأعطيته إياه فبقي عنده، ثم بعد ذلك جئت تطالبه وإذا بالبعير عنده، فقال لك: خذ بعيراً مثله، فقلت له: أُريد نفس بعيري. وعلى هذا أثبت الحق لك بالبدل، إن شاء أعطاك عينه، وإن شاء أعطاك بدله، هذه مسألة البدلية، فقد يكون من الأفضل أن يأخذ الإنسان عيناً وفي بعض الأحيان العكس. وقوله: [فإن رده المقترض: لزم قبوله] [فإن رده المقترض] إن رد المقترض القرض [لزم] أي: لزم المقرض [قبوله] أي: أخذ المال ولا يجوز له أن يمتنع والضمير في [رده] عائد إلى البدل، فإذا رد البدل لزم المقرض قبول البدل، ولا يقول: أطالب بعين ما دفعت، ولا يطالبه بعين ما دفع، وعلى هذا يقرر المصنف أنه بمجرد قبضه ينتقل الأمر إلى الذمة، وإذا انتقل إلى الذمة سقطت العين، فإذا قلت: ذمة فإنه يصبح مثلياً، وإذا قلت: عيناً فإنه يصبح منحصراً في نفس الدين. فمثلاً: إذا أقرضت هذا الكتاب فمعناه أننا إذا قلنا: إنه يثبت عين الكتاب إن وجد أو بدله إذا لم يوجد يصبح ليس من حق المقترض أن يلزمك بمثله إن وجد عينه، فينصرف المعين إلى الذمة، أما لو قلنا: إن الواجب عليك المثل، فمعناه أنه في ذمتك، ولذلك قال: [ويثبت بدله في ذمته] ولم يقل: يثبت عينه، فإن لم يثبت عينه فبدله، لا. إنما يثبت البدل والمثل، والبدلية تستلزم المثلية في الجنس والنوع والعدد والقدر والصفة.
قضاء الديون إن اختلفت العملة وقوله: [وإن كانت مكسرة أو فلوساً فمنع السلطان المعاملة بها: فله قيمتها وقت القرض] هذه المسألة كانت في القديم حيث كانوا يضربون الدنانير والدراهم في بيت المال ثم يتعامل الناس بها، وهذه الدنانير والدراهم يصاحبها نوع ثالث من النقود وهي الفلوس، وكثيراً ما تكون من النحاس، ويكون لها رواج، ثم تلغى هذه الفلوس التي من النحاس ويؤتى بفلوس أخرى، ويسمونها السِّكَّة بحيث تضرب من جديد، فيضرب نوع جديد غير النوع القديم، وفي زماننا يضرب ورق نقدي جديد غير الورق النقدي القديم. فحينئذٍ إذا منع السلطان التعامل بالورق القديم وأحدث ورقاً جديدة، فحينئذٍ يلزم بمثلها، أي: إذا كانت الريالات هي نفس الريالات فلا إشكال، فكما أنه ينتقل إلى المثلي في أصل الدين من نفس العملة ينقل إلى العملة نفسها إن صارت مثلية، فمثلاً إذا أخذ منك مائة ريال على أن يردها بعد شهر، فجاء بعد شهر وأعطاك المائة ريال، من نفس النقد، فكما جاز له أن يرد المثل من نفس النقد ومن نفس الريالات جاز أن يرد ريالات أيضاً عليها شكل آخر أو ضرب آخر أو بصفة أخرى مادام أنها هي نفسها. وعلى هذا لو أنه اقترض ريالات قديمة ثم أُلغيت واستبدلت بريالات جديدة فإنه يقضيه بالريالات
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/366)
الجديدة، فإن أُعدمت الريالات نهائياً وجاءت عملة أخرى بدلاً عنها باسم جديد فحينئذٍ يقدر قيمة القديم بالجديد إذا كانت حالة. فعندنا هنا حالتان: الدنانير القديمة تكون مثلاً بغلية، ثم يؤتى بدراهم إسلامية، فلو أنه اقترض بالدرهم البغلي ثم أُلغي حتى لا يتعامل به الناس -فسواءً توقف الناس عن التعامل به أو أُلغي من السلطان- فحينئذٍ لو أُلغي هذا الدينار فإنه ينزل الدينار الذي ضرب مكانه منزلته، إن كان بوزنه وبقدره وبحجمه، كريال الفضة القديم مع ريال الورق الموجود الآن، فإن ريال الفضة القديم حينما سحب أعطي بدله المستند، ومن هنا قالوا: إن المستند منزل منزلة رصيده فوجبت فيه الزكاة، وهذا هو وجه من يقول: إن النصاب ثلاثة وخمسون ريالاً؛ لأن ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة تعادل السَّكَّة الجديدة، فالفضة القديمة ألغيت لكن أُقيم المستند مقامها فنزل منزلتها، والعجز عن الرصيد يعتبر عذراً فنزلت منزلتها حكماً. وعلى هذا نوجب فيها الزكاة، مع أن الورق لا تجب فيه الزكاة، فلو قلنا: لا رصيد لها فمعناه أن الزكاة لا تجب فيها، وعلى هذا وجبت الزكاة فيها؛ لأن رصيدها من الفضة، ويقوم رصيدها بمائتي درهم الذي هو أصل الفضة، فلما كان عدل المائتين درهم ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة القديمة بوزنها يعادل الخمسة أواقٍ من الفضة التي هي النصاب، قالوا: نزلت الثلاثة والخمسون ورقاً منزلة ثلاثة وخمسين ريالاً من الفضة، ولو جئت تبادل ريال الورق بريال الفضة القديم فإنك تبادله مثلاً بمثل، يداً بيد، فلو جئت تبادل ريال الفضة القديمة بثلاثة ريالات جديدة فهو عين الربا، كأنك بادلت رصيده من الفضة القديمة ثلاثاً بريال وهو عين الربا، ومن هنا إذا ألغي القديم وجاء الجديد مكانه اسماً وصفة وحكماً واعتباراً وجب أن يبقى على هذا الأصل. فلو قال قائل: ألغي رصيده في التعامل العام الذي يكون بين الجماعات والجماعات، والدول والدول، هذا إلغاء رصيد، فأصبحت القيمة للمشتريات والصادرات والواردات بالريال الجديد، لكن قيمة الريال في ذاته وأصله وحقيقته مستند، ولو وضعت عندي كيلو من الذهب أمانة وأعطيتك مستنداً عليه، ثم قلت لك: ألغيت الرصيد وهذا المستند لا قيمة له لم يصح في حكم الشرع، فدل على أن إلغاء الرصيد لا يلغي قيمة الريال، وإذا كان لا يلغي قيمة الريال، فوجب أن يصرف الريال بالريال مثلاً بمثل، يداً بيد، وأنه لو صرف تسعة ريالات بعشرة ريالات فهو كصرف تسعة ريالات فضة قديمة بعشرة ريالات فضة قديمة، لأنه إذا أُلغي القديم ونزل الجديد منزلته اسماً وصفة فإنه يأخذ حكمه، سواءً بسواء، فلو قلت: إنه ورق، نقول: إن الورق لا قيمة له، ولا تجب الزكاة فيه. فإن قيل: إنه ورق له قيمة فنزل منزلة الذهب والفضة نقول: إن ورق كتب العلم له قيمة، والدفاتر لها قيمة، وغيرها من الأوراق لها قيمة؛ لأنها كلها لها قيمة شرائية، فلو كانت مسألة القيمة توجب الزكاة لوجبت في الأوراق؛ لأن العبرة بالرصيد. وبناءً على ذلك: إذا ألغي القديم ينظر في الجديد، فإن نزل منزلته من كل وجه صار آخذاً حكمه من كل وجه، فلو استدان منه مائة ريال فضة قديمة قضاها مائة من الفضة القديمة إن وجدت، فإن لم توجد قضاها بالورق، ونزل الموجود من الورق منزلتها.
تسديد القروض المثلية بالمثل وقوله: [ويرد المثل في المثليات] مثلما ذكرنا أن المثلية تستلزم الجنس والنوع والقدر والصفة، فمثلاً: لو استلف بعيراً بكراً أو خياراً فإنه يرد الجنس بالجنس، والنوع بالنوع، والسن بالسن الذي هو القدر، فقدره في السن بكر ببكر .. رباعي برباعي .. جذعة بجذعة .. وابن لبون بابن لبون، مثِلاً بمثل، ذكر بذكر، أنثى بأنثى، فإذاً: يرد المثل في المثليات، وعلى هذا يكون العدل، وكما قال الله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] (وإن تبتم) أي: في مسألة الديون، (تَظْلِمُونَ) أي: الناس، حينما أخذتم رأس المال لم تأخذوا زائداً عن حقكم، (وَلا تُظْلَمُونَ) لأنكم لم تبخسوا حقوقهم، فأخذتم رأس مالكم وحقيقة ما دفعتموه، وعلى هذا لابد من التماثل، هذا في القديم، ونفس الشيء في الجديد، فلو اقترض منه سيارته أو أدوات أو فراشاً، فإنه ينظر إلى جنسه ونوعه وصفاته ويرد مثله في الصفات وفي الجنس وفي
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/367)
النوع.
تسديد القيمة عند عدم وجود المثل وقوله: [والقيمة في غيرها] المثليات قالوا: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، وفي المعدود عدداً، أما إذا تعذر أن يصير إلى المثل حينئذٍ صار إلى القيمة، فالدراهم والدنانير إذا أُلغيت وجيء بعملة غير العملة القديمة بأن كانت القديمة من الذهب فصارت من الفضة، فإنه ينظر إلى القيمة، عِدل الذهب من الفضة في ذلك الزمان يوم القرض، إن قالوا: يعادل خمس جنيهات، فحينئذٍ هذه الخمس جنيهات الموجودة الآن تقضى له خمس جنيهات، فينظر إلى المثلي يوم القرض؛ لأنه فيه خلاف، فبعض العلماء يقول: يعتبر يوم القرض، وبعضهم يعتبر بيوم القبض، وهذا هو الصحيح، وهو أننا إذا كنا نقول: إنه يملك بالقبض فمعناه أن ذمته شغلت بالقبض، وعلى هذا ينبغي أن يتقيد بالقبض. فلو أنه اقترض سيارة في شهر رجب وهذه السيارة قبضها منه في شعبان، وكانت قيمتها في رجب خمسة آلاف، وفي شعبان قيمتها أربعة آلاف، فحصل القبض في شعبان، ثم تصرف في السيارة حتى تلفت ولا يوجد لها مثلي، فحينئذ نصير إلى القيمة، فإن نظرنا إلى العقد يوم القرض فهو في شعبان وهو قبضها في رمضان، فإذا جئنا يوم الاتفاق والعقد في شعبان وكانت قيمتها خمسة آلاف، ويوم القبض والتصرف في رمضان كانت قيمتها أربعة آلاف اختلفت القيمة، قالوا: العبرة بيوم القبض وهذا هو الصحيح، أنه إذا استلفها منه نظر إلى يوم القبض؛ لأن الملكية تصير إليه وتتعلق بذمته عند القبض، فصار مشغول الذمة وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، ونص الإمام أحمد رحمه الله على هذا كما ذكر ذلك الإمام ابن قدامة في المغني. وقوله: [فإن أعوز المثل: فالقيمة إذاً] مثل السيارات التي ينقطع موديلها ولا يوجد لها مثيل فينظر إلى قيمتها، ولا يصار إلى القيمة إلا إذا أعوز المثل، ومن هنا تتفرع المسألة في اختلاف القيمة الشرائية للعُمل، فإن استسلف شخص عملة بالدولارات، والدولار قيمته عشرة ريالات في عام ألف وأربعمائة، ثم أصبحت قيمته في عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر -عند القضاء- عشرين، فحينئذٍ هل نقول: إنه يجب أن يقضيه نصف القيمة؛ لأنه قد زاد عن الأصل الذي أخذ به، أم نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته؟ نقول: يجب أن يعطي المثل بغض النظر عن قيمته غالياً أو رخيصاً، والسبب في هذا قاعدة سبق وأن بيناها: أن الغنم بالغرم. وبناءً على ذلك: في العملة؛ إذا استدان منك مائة دولار إلى السنة القادمة فمعناه أنه قد رضي بخسارتها ورضيت أنت بخسارتها، ورضي بما يكون من ربحها وارتفاع سعرها، ورضيت بربحها وارتفاع سعرها، فلا يصح إذا نقصت قيمتها أن يأتي يطالبك؛ لأنه لو زادت قيمتها لطالبك بالمثل، ومن هنا قالوا: يتحمل المسئولية، فأي شيء استدانه وجاء ليحل ويفي رد مثله، بغض النظر عن كونه غالياً أو رخيصاً، يطالب بالمثل؛ وعلى هذا أصل شرعي، وهو أنه إذا أخذ الشيء رده، فإن قلنا: إن الشيء ملكه يرد مثله، فإن وجد المثل وجب أن ينصرف إليه. لكن لو أنه قبل خمسين سنة أخذ منه ثلاثة ريالات فضة، ويمكن أن تصل قيمتها اليوم ثلاثة ملايين. نقول: يقضيه ثلاثة ريالات الآن، لكن من باب الوفاء وحسن القضاء لا بأس أن يزيده لكن لا يجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً)، وقال: (رحم الله امرء سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فإذا أردت أن تقضي فتحسن وتتذكر فضله، وهذا من خلق الكرام، فإن الكريم إذا أكرمته رد الكرامة بمثلها وزيادة، وعلى هذا لا يليق وليس من المحاسن أن يرد نفس المال، وإنما يرد ويحاول أن يجبر خاطر من دينه، خاصة وأن هذا فيه رد للجميل.
حكم القروض التي تجر منافع وقوله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] الشروط في القروض تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: شروط مشروعة. والقسم الثاني: شروط ممنوعة. والقسم الثالث: شروط مختلف فيها. وهذا القرض له نوعان من الشروط: شروط شرعية وشروط جعلية، والفرق بين الشروط الشرعية والجعلية: أن الشرعية لا يصح أن يكون القرض من مجنون أو ممن لا يملك المال، وليس له حق التصرف فيه، أما الجعلية، أي: جعلها المتعاقدان أو اشترطها أحدهما ورضي بها الآخر. وهذه الشروط الجعلية من المتعاقدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن تكون مشروعة، وإما أن تكون ممنوعة، وإما أن تكون مختلفاً فيها. فالشروط المشروعة المتفق
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/368)
عليها أن يقول له: أعطني قرضاً مائة ألف، قال: أعطيك ولكن بشرط أن تحضر كفيلاً غارماً يغرم، هذا شرط اشترطه رب الدين على المدين، وكما لو قال له: أقرضني مائة ألف إلى نهاية رمضان، قال: أقرضك ولكن بشرط أن ترهن دارك أو ترهن عندي رهناً، فهذا شرط، أو يقول له: أقرضني مائة ألف، قال: بشرط أن نسجل هذا الدين وأثبته عليك بكتابة وشهود، قال: قبلت، فإذاً: هذا دين بشرط، وهذا الشرط جعلي من المكلفين، ولكنه مشروع غير ممنوع، وضابط المشروع: أن لا يخالف مقتضى القرض وأن لا يفضي إلى محرم، فمثلاً لو اقترضت من شخص فقال لي: أقرضك هذه المائة ألف بشرط أن لا تشتري بها شيئاً، ومقتضى القرض في الأصل أن أنتفع به وأرتفق، فإذا أخذت المائة ألف على هذا الشرط فماذا أفعل بها؟ فإذاً: هذا يخالف مقتضى العقد، وقالوا: يشترط الرهن ويشترط الكفيل الغارم؛ لأن هذا يحقق مقصود الشرع؛ لأن مقصود الشرع أن يفي المديون للدائن، وأن ترد الحقوق إلى أصحابها، فإذا اشترط عليه الكفيل الضمان للاستيثاق بالرهن، فإن هذا مما يوافق الشرع ولا يخالفه. النوع الثاني: الشروط المحرمة وهي الممنوعة التي تخالف مقتضى عقد القرض، فإن عقد القرض يقصد منه الارتفاق، فيقول: أقرضك على أن لا تتصرف في الدابة، بأن لا تركبها ولا تبيعها ولا تحلبها، فهذا كله يخالف مقصود عقد القرض، فهذا نوع من الشروط المحرمة. النوع الثالث: أن يكون الشرط متضمناً للربا مفضياً إليه، كأن يقول له: أشترط عليك فائدة في كل مائة (6%) أو كل شهر (5%) فهذا من شرط الربا، ولا يجوز. فالمقصود: أن كل قرض اشتمل على شرط يجر نفعاً فإنه لا يجوز وهناك شروط اختلف فيها العلماء فمثلاً: يقول له: آخذ منك هذه المائة ألف بشرط أن أسددها في نهاية السنة، فهذا اشتراط التأجيل، فبعضهم يراه جائزاً كالمالكية ومن وافقهم، وبعضهم لا يراه جائزاً كالجمهور، وهناك مثلاً بعض الشروط لا بأس بها وهي مشروعة، وفي بعض الأحيان تكون ممنوعة بنص الشرع، كأن يقول له: أقرضني مائة ألف، قال له: أقرضك مائة ألف بشرط أن تبيعني بيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف)، فهذا قرض خالف الشرع لورود النص فيه بعينه، قالوا: لأنه إذا اشترط عليه البيع، فالبيع غالباً فيه ربح، فكأنه يعطيه الدين بالدين مع زيادة الربح في صفقة البيع، وهذا ينبه على أن الشريعة حرمت الربا، وحرمت ذرائع الربا، ولا يشترط في الربا أن يقول له: الواحد باثنين أو الواحد بثلاثة. ومن هنا كان الفقه في مسائل المعاملات والمعاوضات مهم، فهي في بعض الأحيان تتضمن المحذور بطريقة الذريعة والوسيلة. إذاً: كل قرض اشتمل على شرط جر نفعاً فهو ربا، أما لو أنه اشترط عليه ما فيه رفق به، فهذا فيه تفصيل عند العلماء، ومن أمثلته مثلاً، لو قال له: أسلفني مائة ألف، قال له: أسلفك مائة ألف، قال له: والله أنا لا أستطيع أن أسدد المائة ألف لكن أسدد لك ثلاثة أرباعها، قال له: إذاً: أسلفتك وخذ خمسة وعشرين منها وردّ خمسة وسبعين، فإذاً: أسلفه بشرط أن يحله من ربع الدين، ويرد له ثلاثة أرباع الدين، قالوا: هذا لا بأس به ولا حرج فيه.
الأسئلة ...... اعتبار المقاصد في عقود البيع السؤال: هل هناك فرق في الصورة بين القرض وبين صرف الأثمان مع النسيئة دون التفاضل؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: .. فإن المقاصد معتبرة في العقود، ولذلك تقوم العبرة في العقود بمقاصدها، فإذا قال له: بعني كان بيعاً، وإذا قال له: صارفني كان صرفاً، وإذا قال له: أسلمتك صار سلماً، وإذا قال: أسلفتك صار سلفاً، فلما كان العقد عقد سلف قالوا: هذا مستثنى، ومن هنا استثني أن يأخذ الدراهم ويردها بعد مدة؛ لأنه لم يقصد المصارفة وإنما قصد الدين، ومن هنا قالوا: هذا مستثنىً كاستثناء العارية من المزابنة، ورخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فإنه يعتبر المقصد، فإن كان المقصد الدين جاز، وإن كان المقصد الصرف والبيع لم يجز، والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/369)
حكم إنقاص المشتري من الثمن المتفق عليه السؤال: رجل اشترى سلعة فاتفق مع البائع على ألف ريال، لكنه لما أعطاه المال أعطاه تسعمائة وخمسين ريالاً فقط فوافق البائع، فهل يجوز هذا؟ الجواب: إذا اشتريت بألف ريال ثم جئت، وقلت له: أعطيك تسعمائة وخمسين ريالاً ورضي البائع جاز، والرضا ينقسم إلى أقسام: 1 - الرضا بطيب نفس ورضا خاطر، كأن تأتي تريد أن تعطي المال، فلما وصلت إلى تسعمائة وخمسين وأردت أن تخرج الخمسين، فقال لك: لا. هذه تكفي، وهذا يقع بين الأحبة والإخوان، وتعلم من دلائل الحال وبساط المجلس ما يدل على أنه يريد ذلك. 2 - الرضا الممكن الذي يكون على حد سواء، مثل: شخص تأتي وتبيع عليه بألف، فإذا جاء أعطاك تسعمائة وخمسين، فقلت له: يا أخي! أعطني خمسين، فقال: سامحني، فنقول: يا أخي! أعطني حقي! قال: سامحني، فتطالبه، وإذا بك ترى أنك تزري بنفسك، وربما يكون بين أُناسٍ تستحيي أن تطالبه أمامهم، فتضطر أن تقول له: اذهب، فكأنك اضطررت غلى مسامحته، فتقول بلسان الحال: وما حيلة المضطر إلا ركوبها! فهذا المأخوذ بسيف الحياء لا خير فيه ولا بركة فيه، ومثل هذا ينزع الله البركة له من الصفقة؛ لأنه لم يأخذ بالسماحة، وإنما أخذ بالأذية وإحراج الناس، ومثل هذا ما يقع في فضول أموال الناس، كأن يأتي لبائع يبيع الطعام، فيقول له: بكم هذا؟ ويلتقط منه ويأكل دون أن يستأذن، وربما أنه أكل الشيء، فلا يستطيع البائع أن يقول له: يا أخي! لا تأكل. فمثل هذه الأشياء ينبغي اتقاؤها، وهي إلى التحريم أقرب إن عُلم أو غلب على الظن أن البائع لا يرضى، ولابد أن يتحرى في رضاه، وأن يعلم منه طيبة النفس ورضا الخاطر، فإذا غلب على ظنك أنه بطيبة نفسه ورضا خاطره فلا بأس، وإن كان الأفضل والأكمل العفة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يستعفف يعفه الله وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالقناعة بما أعطى الله عز وجل خير للعبد، فإذا جاء أحد يستفضل عليك، قلت له: لا، هذا حقك خذه كاملاً، وبارك الله لك في مالك، فهذا هو الأفضل والأكمل للمسلم، أن يعامل الناس ويؤدي حقوقهم إليهم كاملة. وأما إذا كان بسيف الحياء أو يكون البائع غريباً أو عاملاً مستضعفاً، فيأتي ويقف يصيح عليه بقوة ويرعبه ويزعجه، فإذا جاء وقت المطالبة أعطاه المال ناقصاً ثم زجر بقوة فاضطر العامل أن يسكت، فإن هذا من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا الرضا وجوده وعدمه على حد سواء، فينبغي أن يُتقى في مثل هذا، وأن يفصل فيه، فما كان من الرضا مستوفياً بالصفات المعتبرة حكم به وإلا فلا، والله تعالى أعلم.
حكم بيع الدابة نسيئة السؤال: أيجوز بيع دابة بدابة ويدفع المشتري أو البائع لصاحبه زيادة من المال أو من أي شيء آخر؟ الجواب: الدابة بالدابة معدود بمعدود يجوز متفاضلاً ونسيئة، والدليل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) فهذا ليس بمحذور؛ لأنه جمع بين البيع والدين، فهو بيع لأنه بعير ببعيرين -ولو كان ديناً لكان بعيراً ببعير- ودين من جهة الأجل؛ لأنه قال: (البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة) وعلى هذا يجوز لك أن تشتري السيارة بالسيارتين، والسيارة بالسيارة من نوعها مع الزيادة، والسيارة بالسيارة من نوعها مع زيادة من نوعها أو صفاتها أو بزيادة في المال، كأن يقول: أعطيك سيارتي وتعطيني سيارتك وأزيدك خمسة آلاف أو عشرة آلاف فلا بأس، وهكذا بقية المعدودات، فلو بادل ثلاجة بثلاجتين، أو غسالة بغسالتين، أو مصباحاً بمصباحين، وقس على هذا، فإن الكل جائز، والله تعالى أعلم.
كلمة توجيهية حول طلب العلم السؤال: الدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى علم شرعي مبني على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية تحث فيها كل داعية إلى الله عز وجل على الاهتمام بالعلم الشرعي، وفقكم الله؟ الجواب: الدعوة إلى الله من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/370)
القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً) ومن حمل هموم الدعوة إلى الله وحمل أمانة الدعوة وتبليغ رسالة الله إلى عباد الله فقد حمل أشرف الأشياء، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته ولا عبادة إلا بالعلم وبالبصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]. فلابد للداعي أن يستشعر أولاً: ما هي الدعوة؟ وما هي الرسالة التي يحملها، والأمانة التي في عنقه لأهلها؟ فإذا عرف عظم هذه المسئولية؛ علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله بأن يكون أجره على الله لا على أحد سواه: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] وقال عن أنبيائه نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السماوات والأرض ويده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف .. على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن قبل عملك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً وهو الله جل جلاله. وعلى الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنما يكون الداعية العالم ولا تكون دعوة إلا بعلم، فمن أراد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم، وليأخذ من العلم، وينتهي من العلم ويحرص على مجالس العلم، ويكون من أهل هذه الرياض التي تنشر فيها رحمة الله، ويبتغى فيها ما عند الله، ويصبر ويصابر ويجد ويجتهد ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك، حتى يبلغ من العلم أعلى مراتبه، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها. وأول ما ينبغي على الداعية طلب العلم، وإذا طلبت العلم تطلبه بقوة وبعزيمة وهمة صادقة لا يثنيك عنها شيء، فلا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاع زائل وغرور حائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تحس أنك أنت الرابح، ولا يكون طلبك للعلم بضعف، فتشعر أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تتاجر ولا تربح، لا. بل تدخل في العلم وتحس أنك أربح صفقة وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، فقد طلب أقوام العلم فكفاهم الله هم الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، والله إن منهم من كان لا يجد إلا طعمة يومه .. مرقع الثياب .. حافي القدم، ولكنه أغنى الناس بالله جل جلاله، وأسعد الناس، وأشرحهم صدراً، وأثبتهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضعه الله في قلبه وفي لسانه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، فلا يشتكي من السهر والتعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وصدق وعزيمة. فإذا جد طالب العلم في طلبه عليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها فتكفي الأمة همها وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله بمكان، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما يكون علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه عظيم البلاء بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى. كما ينبغي أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى أمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدث في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان، وتحرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ، ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى إنما تأتي باللفظ نفسه، فإذا بلغت ذلك كملت نظارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/371)
مبلغ أوعى من سامع)، فهذا أكمل ما يكون في طلب العلم فإذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها، فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً، وتحرص في مجالس العلم على أن تتقيد بما سمعت، ثم بعد ذلك إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقة تامة أن الله مطلع على سريرتك وما في قلبك، وإن نظر الله إليك في كل مجلس ودرس تحاول أن تفهم وترجع مهموماً محزوناً تريد أن تضبط هذا العلم وتضبط كل كلمة وعبارة وجملة، أثابك على ذلك. العلم تسلو به الأرواح والأنفس، فهذا أبو عبيد القاسم بن سلام إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات .. آية في علم اللغة .. آية في لسان القرآن .. آية في الحديث والرواية بالأسانيد .. آية في الفقه وهو صاحب كتاب الأموال وصاحب الغريبين، هذا الإمام العظيم استوقفه رجل بعد صلاة العشاء، وكان قدم عليه من خراسان، فسأله عن مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر، وهذا ليس من ضرب الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم فإنك تسمو عن كل شيء، إذا ذهبت في هذه المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكنز العظيم الذي خلف، تحس بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، فقد كان الرجل منهم إذا لم يجد إلا صخرة لنقش العلم عليها حتى لا يفوت على من بعده. إن همم كان النصيحة لله ولأمة الإسلام رضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه الهمة الصادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم فمن الغبن والله، أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز لا نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لم نتعمق ونضبط ونجد ونجتهد، فطالب العلم اليوم يقف فقط عند الحكم دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، هل هو صحيح أو غير صحيح؟ وإذا كان ليس بصحيح فلماذا؟ تغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، إذا تعبت اليوم وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة وتجد وتجتهد لا تشتكي من سهر ليل ولا ظمأ الهواجر، ولا تشتكي من غربة ولا من تعب ولا نصب وإنما تحس أنك أنت الرابح. لا إله إلا الله! لو ذهبت إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط والرجولة، والرجل تجده أمام أولاده، يقول لهم: هذا موسمي، هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر أنه وضع الشيء في موضعه وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ فمنزلتك عند الله على قدر العلم الذي عندك، فابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فعلى المرأ رجلاً كان أو امرأة أن يطلب العلم ويجد ويجتهد، ولا يقف عند الحدود بل يحاول أن يغوص في أعماق العلم. فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً)، فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت، وقف يفسر سورة النور آية آية وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا ذهب في علوم القرآن رأيت منه العجب وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وإذا ذهب إلى السنة فناهيك به علماً وورعاً وعملاً مصاحباً للعلم رضي الله عنه وأرضاه. فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان، وما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم ولا أوفى من الله، والله إذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببت، ويأخذونه من فمك طيباً مطيباً كما أخذته من علمائك طيباً مطيباً، وكما أقررت عين العالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلابد وأن يقر الله عينك في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/372)
طلابك، وهذه سنة الله عز وجل، وانظر في حال السلف فلا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله، فلما توفي ابن عباس فإذا طلابه هم سعيد بن جبير وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينه وبينهم عِلماً وعملاً، لابد وأن يقر الله عينك، وكله على قدر تعبك في طلب العلم. الآن انظر إلى الذين يأخذون الكتب ويقرءون من الكتب ولو كا
شرح زاد المستقنع - باب القرض [2] مشروعية القرض معلومة، وشروطه منها ما هو مشروع، ومنها ما هو ممنوع، ومنها ما هو مختلف فيه، كما أن القروض التي توضع في البنوك منها ما هي ودائع مشروعة، ومنها ما فيه احتيال وغرر، ومنها ما هو استثمار، وكل هذا له ضوابط وحدود معروفة عند علماء المسلمين، وأما الجمعيات المعروفة فهي في حكم المشتبه الذي لا يقطع فيها بالحرمة ولا بالجواز؛ لأن من نظر إلى ظاهر شروطها يجدها ربوية، ومن نظر إلى مضمون شروطها يجدها جائزة ليس فيها زيادة. أنواع الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن الشروط التي يجعلها صاحب الدين على المدين، أو يجعلها المدين على صاحب الدين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: مشروعة، والثاني: ممنوعة، والثالث: مختلف فيها، والأصل أنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين على المدين زيادة على دينه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فإذا سُئلت عن قضاء الدين؟ تقول: الأصل أن يرد له دينه دون زيادة أو نقص؛ لأنه إذا زاد فقد ظلم المدين، وإذا انتقص من الدين فقد ظلم صاحب الدين، فأنصف الشرع وعدل بين الطرفين، فأوجب أن يكون الرد مثل المأخوذ دون زيادة أو نقصان، وإذا سُئلت عن دليله؟ قلت: قوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]. ثم إن العلماء تكلموا على الفوائد والأمور التي تكون زائدة عن الدين، وفصلوا فيها؛ لأن الشريعة منعت وأجازت، فمنعت من الزيادة في قوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وأجازت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قضى الدين وزاد، والشرط في الدين أن يقول صاحب الدين للشخص المدين: أعطيك مائة ألف بشرط كذا وكذا، وهذا الذي يشترطه تارة يكون مالاً من جنس الذي دفع إلى المدين، كأن يقول: أعطيك مائة ألف بشرط أن تردها لي مائة وعشرة، فهذا شرط بزيادة. وتارة يقول له: أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تؤجرني دكانك أو تبيعني سيارتك أو عمارتك أو أرضك أو مخططك أو طعامك إلى آخره، فصار قرضاً وبيعاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع. وبناءً على هذا يقول العلماء: إن الفوائد المستفادة فيها تفصيل: فإن كان صاحب الدين اشترط منفعة زائدة على المدين أياً كانت المنفعة إما بالمال والنقد أو ما يكون مقدراً له قيمة فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع وسلف) فالزيادة لا تجوز ولو كانت ضمن عقد آخر، فإنه لما نهى عن بيع وسلف، عندما يقول لك: هذه عشرة آلاف بشرط أن تبيعني سيارتك بثمانية آلاف تكون السيارة قيمتها عشرة آلاف، فتتنازل عن الألفين لقاء القرض، وعلى هذا قالوا: لا يجوز الشرط بالمنفعة. هنا مسألة: وهي وجود المنافع كأن يقول لك: أعطيك مائة ألف مثلاً من الذهب، في القديم الدنانير تحتاج إلى حمل؛ لأنها من الذهب، والذهب يوضع في الأكياس، والأكياس لابد من حفظها، وإذا أعطاه في مكة، وقال: بشرط أن تعطيني المائة ألف في نهاية رمضان في المدينة، فإن حمل الذهب من المدينة إلى مكة فيه مخاطرة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى حمله والاستئجار للدواب لوضعه بها ثم نقله إلى المدينة، فإذا قال: أعطيك مائة ألف في مكة بشرط أن تقضيني إياها في المدينة أو الطائف، فهمنا أنه يريد منفعة السلامة من الخطر، والنجاة من ضمان الحمل. فإن كان الحمل يكلف خمسمائة ريال مثلاً، فكأنه أعطاه مائة ألف ليردها مائة ألف وخمسمائة. إذاً: الفوائد تكون ظاهرة وتكون خفية عن طريق المنافع، ومن هنا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/373)
نهي عن قرض وشرط، فالقرض الذي يكون معه شرط فيه فائدة فهو محرم، فمثلاً: الودائع المصرفية كأن يودِع في المصرف عشرة آلاف على أنها وديعة، فيأخذ عشرة آلاف وخمسمائة بعد أجل مسند، فيشترط عليه المصرف شرطين: الشرط الأول: أن لا يسحب هذه الوديعة قبل سنة؛ لأن الودائع المصرفية التي عليها فوائد لابد أن تمكث مدة معينة، وكل سنة فيها مثلاً (6%)، فمعناه أنه اشترط عليه بقاءها إلى أجل على أن لا يطالبه قبلها. وثانياً: أن يعطيه زيادة عليها، فشرط الأجل من المصرف وشرط الزيادة من العميل؛ لأن العميل هو الذي يطالب بالزيادة. وبناءً على ذلك: إذا كانت القروض تأتي بفوائد عينية كمائة بمائة وخمسة، أو مائة بمائة وعشرة فهذا واضح لا إشكال فيه، وهذا يدعونا إلى دراسة ما يسمى بالوديعة المصرفية؛ لأن الباب باب قرض، وفيه قديم وجديد، وطالب العلم قد يدخل إلى المصرف ويرى كلمة (حساب جاري) ولا يعرف ما معنى ذلك، ويرى مثلاً: الودائع بفوائد، وهو لا يدري عنها، فلابد أنه يعلم الحكم والموقف الشرعي من هذا النوع من القرض، فنحتاج إلى مسائل: ...... الفرق بين الوديعة الشرعية والوديعة المصرفية المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟ فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض. فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟ أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه. الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا، والسؤال: هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟ إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة، فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناًَ، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد. فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة. إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/374)
العين أم بحفظه ورد مثله؟ الجواب: رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه. ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء. وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع. إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام. ...... أقسام الودائع المصرفية القسم الأول: الوديعة المستندية. القسم الثاني: الحساب الجاري. القسم الثالث: الودائع بالفوائد. القسم الرابع: شهادات الاستثمار. ...... الوديعة المستندية أما بالنسبة للوديعة المستندية فمن الممكن أن نسميها وديعة شرعية، وهذه الوديعة حقيقتها: أن يقوم العميل باستئجار صندوق معين في المصرف أو البنك، ويمكنه البنك من مفتاحه، على أن يضع فيه وثائقه ومستنداته، ويتكفل البنك بحفظ هذه الودائع والمستندات، ويمكن العميل من أخذها في أي وقتٍ شاء، على أن يدفع أجرة معينة على حسب المتفق عليه، وهذا النوع موجود الآن في بعض المصارف الكبيرة، ويسمونها مستندية؛ لأن الغالب أنها تستأجر من أجل المستندات، يكون التاجر عنده صكوك يخشى عليها السرقة أو الاحتراق أو التلف، أو عنده وثائق معينة لأعماله فيخشى أن يطلع إنسان عليها فتفسد تجارته، فيأتي ويستأجر هذا الصندوق ويحفظ فيه وثائقه ويقفله ويأخذ المفتاح، ومتى ما جاء التزم المصرف بتمكينه من أخذ ما شاء من هذا المكان. إذاً: لو سألت هذا الصندوق الذي يضع فيه العميل حوائجه، هل يأخذ عين المودع أم مثله؟ الجواب: يأخذ العين، وهل أحد يتصرف في هذه العين غيره؟ لا. إذاً: هي وديعة وتأخذ حكم الوديعة الشرعية، لكن السؤال: اتفاق المصرف مع العميل على أن يدفع مبلغاً معيناً شهرياً أو سنوياً هل هو جائز أم ممنوع؟ يمكننا أن نقول: إنها إجارة؛ لأنه استأجر المصرف لحفظ هذا المبلغ خلال المدة المتفق عليها، وبناءً على ذلك يسري عليه ما يسري على الإجارة الشرعية؛ لأنك قد تستأجر شخصاً من أجل أن يحفظ لك مزرعتك أو يحفظ لك دوابك. فالإجارة من أجل الحفظ مشروعة بالإجماع؛ لأن القاعدة أن الإجارة تجوز على كل منفعة مباحة، كذلك حفظ الصكوك والمستندات مباح فإذا استأجره لحفظها كان مباحاً، وبعض الناس يأخذ هذه الصناديق ويضع فيها مجوهرات وحلياً ونفائس موجودة عنده ويخشى عليها السرقة فيضعها ويقفل عليها، ويأتي ويأخذ عين المجوهر وعين الشيء الذي له، وهذا يأخذ نفس الحكم، سواء استأجرها للوثائق وللمستندات أو للجواهر أو للحلي، بل حتى لو جاء ووضع ماله في هذا الصندوق وأخذه بعينه فإنه جائز ومشروع؛ لأنها وديعة شرعية دون أن يختلط ماله بمال الغير، ودون أن يسري عليه أي شبهة أو أي محصول. إذاًَ: الوديعة المستندية جائزة ومشروعة؛ لأنها عقد إجارة على منفعة مباحة، وشروط الإجارة مستوفية، فهي إجارة على منفعة مباحة، في مدة معلومة، وبثمن معلوم، واستوفت جميع الصفات المعتبرة شرعاً.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/375)
الحساب الجاري والودائع بالفوائد القسم الثاني: الحساب الجاري، وحقيقته أن يقوم العميل بدفع مبلغٍ معينٍ للمصرف، ثم يلتزم المصرف تجاه هذا المبلغ المعين أن يمكن العميل من سحبه كله أو بعضه أي وقتٍ شاء، سواءً سحبه أصالة أو وكالة، والحساب الجاري في الحقيقة له ثلاث صور. الصورة الأولى: أن يدفع المبلغ، فيسحب على قدر مبلغه دون أن يزيد أو ينقص. الصورة الثانية: أن يدفع المبلغ ويعطيه المصرف زيادة إذا بقي المبلغ دون أن يطلبها هو، لكن إذا مضت فترة معينة حتى لو لم يقصد، فمثلاً: وضع مائة ألف على أساس أن يسحبها بعد شهر ثم تأخر سحبه إلى ثلاثة أشهر، وبعض المصارف تعطي فائدة على مدة بقائها ثلاثة أشهر، ولو لم يكن هناك اتفاق مسبق من باب المكافأة على وضعها هذه المدة، ففي هذه الحالة يكون المستفيد هو العميل، والاستفادة وقعت بدون شرط، إنما أعطاه المصرف من باب المكافأة على بقاء المبلغ هذه المدة، وهذا يقع في الخارج خاصة في أوروبا، فبعض البنوك تكافئ من يودع عندها مدة معينة ويكون المبلغ كبيراً فتجعل له الزيادة (6%) على بقائها ثلاثة أشهر دون أن يسحب أو ينزل رصيده عن حدٍ معين؛ لأنهم يستغلون هذه الأموال، ويحسون أن هذا الاستغلال لابد أن يرد فائدة، وهذا في نظرتهم. الصورة الثالثة من الحساب الجاري: وهو العكس وهذا يقع في الدول الفقيرة، بخلاف النوع الثاني فهو يقع في الدول الغنية التي فيها ثراء والسيولة فيها كثيرة. أما النوع الثالث فمثلاً: إذا دفع مبلغاً وبقي في المصرف أو البنك مدة وضعوا عليه ضريبة، فإذا جئت تسحب المال، ودفعت مائة ألف ومكثت سنة، فإنهم يأخذون ألفاً، فتأخذ تسعة وتسعين ألفاً. إذاً الحالة الأولى: إذا دفع المبلغ ثم سحب مثله والتزم أن يعطى قدر مبلغه دون زيادة أو نقصان، فهذا قرض ليس فيه فائدة، وليس هناك شرط فائدة ولا زيادة ولا ربا، ومن حيث الأصل العام إذا أعطى شخص شخصاً مائة ألف وجاء وسحب كل المال، أو التزم الطرف الثاني وقال له: يا فلان! خذ المائة ألف هذه قرضاً، قد أبعث لك شخصاً في أي ساعة يسحبها كلها أو بعضها فأعطه، فهذا جائز، والأصل يقتضي الجواز، لكن الإشكال من كونه ذريعة معينة على الحرام، فإنه إذا كان يعطي المال للمصرف فهذا يفصل فيه، فإن كان تعامل المصرف يكون بشيء محرم كان وضعه على هذا الوجه معونة على الحرام، فلا يجوز، وإن كان لا يتعامل بالحرام كان جائزاً؛ لأنه يدفع المبلغ ثم يأخذه دون زيادة أو نقصان. أما الحالة الثانية: إذا كان المصرف يعطيه الزيادة بدون موعد ولا عِدة، فهل يجوز ذلك؛ لأن: (خير الناس أحسنهم قضاءً)؟ الجواب: إذا جئنا ننظر إلى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورده خياراً رباعياً) نقول: يجوز، لكن المشكلة أن هذه العوائد تركبت من ديون بالآجال عليها فوائد، فهو يعطي لأشخاصٍ ديناً، ويأخذ عوائد هذا الدين باقتراضهم منه لكي يصرفها في الفوائد، وبناءً على ذلك صار أصله من حرام، فنقول: إن هذا الوجه يقتضي التحريم. الوجه الثاني: لو قال قائل: يجوز في الحساب الجاري، لو سافر إلى بلد غني ووضع مليوناً، ثم سحب الحساب الجاري المليون وأعطي مليوناً وعشرة، نقول: لو قيل: إن هذا من باب مكافأة الدين لم يصح، أولاً: لأنه عائد من حرام والفرع تابع لأصله، وثانياً: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلما جرت عادة المصرف بأنه يكافئ على الوضع فيه، فكأنه حينما أودع فيه اشترط مسبقاً على المصرف أن يكافئه، وهذا عين المحرم؛ لأن كل شرطٍ جر نفعاً فهو ربا، والإجماع منعقد كما حكاه ابن المنذر والإمام ابن قدامة وغيرهم على تحريم ذلك. إذاً: مسألة وضع المال وإعطاء الفائدة بدون شرط مسبق، يصح تحريمها من وجهين: الوجه الأول: أن عائده من حرام والفرع تابع لأصله. الوجه الثاني: أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ولفظاً كما يقول بعض العلماء، فكأنه حينما جرت عادة المصرف بذلك فإنه يكون عند وضعه للمال كأنه قد رضي بذلك وطلبه فينزل منزلته. وهنا سؤال: لو أن شخصاً جاء ووضع المال في هذا النوع من المصارف، فدفع مائة ألف فأعطي أرباحاً (مائة وخمسة)، فهل يتركها أو يأخذها؟ الجواب: عندنا نصوص في الكتاب والسنة نرجع إليها إذا جئنا نحكم في المسائل ونركب بعضها على بعض، وقد أثبتنا أن الوديعة والحساب الجاري يعتبر قرضاً، والله
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/376)
تعالى يقول في القرض: فَلَكُمْ [البقرة:279] أي: هذا الذي تتملكونه وهو من حقكم: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فهو إذا سحب رصيده حينئذٍ يكون قد حقق المأمور به شرعاً، لم يظلم ولم يُظلم، وهذا بالنسبة للأصل العام، أنه إذا سحب رصيده وأصل ماله فإنه لا يظلم ولا يُظلم والنص آمر بذلك وملزم به، ودال على أنه إذا أخذ الزائد عنه فقد أخذ الحرام. وقد يقول قائل: لو أخذ الزيادة واستفاد منها بإنفاقها في مشروع خير أو نحو ذلك، لكان أفضل من بقائها، خاصة وأنها إذا بقيت ربما أخذت لأمور تضر بالمسلمين، فهل يأخذها ولا يتركها؟ نقول: هذا اجتهاد في مقابل النص، والنص يقول: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ثم لما اجتهدوا هذا الاجتهاد، وقالوا بجواز أخذ المال مع زيادة عادوا فقالوا: لكن لا تصرفها في بناء مسجد أو طبع كتاب، ولا تفعل بها أموراً فيها طعام أو شراب لمسكين، فيشتبه هو في هذا المال بعد حكمه بأخذه كيف يتصرف فيه؟ ودائماً إذا خالف الإنسان النص يقع في حيرة؛ لأنه إذا التزم بالنص ما عنده إشكال، ثم نقول: لو أنك أخذت رأس المال لم يقع الربا، فإذا قيل: له أن يأخذ الزيادة حتى لا تبقى عند الغير، عندئذٍ تحقق الربا، ولذلك احتار! إذاً: ما دام أن هذه الزيادة محرمة فلماذا نفتي بجواز أخذها؟ ثانياً: لو أننا أخذنا هذه الزيادة حتى لا يستضر المسلم بها، فإننا نقول: تركها أكثر منفعة للمسلمين؛ بل إنه أبلغ في دعوة الكافر وتنبيهه على فضل الإسلام، فأنت إذا جئت لكافر يتعامل بالربا في مصرفه وأخذت رأس المال، وقلت له: ديني يأمرني أن لا آخذ إلا رأس المال، يقول لك: كيف تترك ربحاً قدره عشرة آلاف، فهم يكادون يعبدون المال من شدة تعظيمهم له، ولا يتعاملون إلا بالدينار والدرهم، ولا يعرفون إلا المال، فإذا وجد أنك لا تأخذ المال الربوي وأحس بعزتك؛ لأن الكافر يغتاظ إذا رأى المسلم معتزاً بدينه، قوي الشكيمة في الحق، لا يريد إلا دينه وما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: هو بنفسه يشعر بفضل هذا الأمر الشرعي؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين فإذا وجد أنك لا تأخذ إلا رأس مالك، وقلت له: ديننا يأمرنا أن نأخذ رأس المال، فإنه يتأثر ويحس أن هذا الذي تقوله هو عين العدل، فقد يكون سبباً في التأثير عليه، وقد يكون سبباً في شعوره بفضل الإسلام، فالدعوة كما تكون باللسان تكون أيضاً بالجوارح والأركان، لأنك بتعاملك معه تعرفه حقيقة الإسلام، وأن الإسلام دين عدل، فاليوم يأتي شخص لا يأخذ الفائدة، وآخر يأتي بموقف اجتماعي يقول: الإسلام يأمر بكذا، فلا تزال تجتمع عنده محاسن الإسلام حتى تكون سبباً في هدايته، وقد حكى بعض طلاب العلم أنه وقع في ذلك يقول: ولم أرض أن آخذ هذه الزيادة، فطلبني المسئول، وسألني: لماذا لا تأخذ الزيادة؟ فقلت له: ديني يأمرني أن آخذ رأس المال فقط، قال لي: لماذا؟ فقلت له: لأني أنا أعطيتك عشرة آلاف فآخذ عشرة آلاف فقط، فلا أظلمك بأخذ الزيادة، قال الأخ: فجعل يتعجب؛ لأنه يأخذ الدين من غيره، وغيره يطالبه بفائدة الدين، فالشاهد أننا إذا اجتهدنا لهذا فإن محاسن الشريعة بأخذ رأس المال أجل وأكمل، ولا نستطيع أن نجتهد في مقابل النص؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، فهذه الحالة الثانية: وهي أن يدفع المال ثم يعطى الزيادة عليه بدون عدة. الحالة الثالثة: أن يدفع المال فيؤخذ من المال على قدر الحفظ، فإذا قال له: ضع المال عندي لمدة شهر وآخذ منه مقابل حفظه، فهذه المسألة تتفرع على مسألتين: المسألة الأولى: رخص بعض العلماء رحمهم الله إذا أعطاه قرضاً، وقال له: خذ هذه المائة ألف قرضاً وردها لي تسعين، أو ثمانين، قالوا: يجوز؛ لأنه أبرأه وأسقط عنه ذلك، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة أن هذا النقص إنما أخذ بدعاية الحفظ وهي غير موجودة، فصار من أكل المال بالباطل، فالصورة الأولى: محض تبرع، وهناك فرق بين الصورة الأولى والثانية، وقد ذكرت هذا حتى لا يلتبس على بعض طلاب العلم، وقد ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني أنه إذا أعطاه القرض وأسقط عنه شيئاً منه جاز له ذلك، وقد رخص في هذا أئمة من السلف رحمة الله عليهم، وروي عن ابن عباس نحو هذا، لكن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/377)
هذا غير ما نحن فيه؛ لأن الذي نحن فيه أن الآخذ يدعي استحقاقه للمال لقاء الحفظ، والحفظ غير موجود، فصار من أكل المال بالباطل، فالذي يأخذه يأخذه ظلماً، ولذلك قال الله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ولو ساغ للمدين أن يأخذ من الدين شيئاً لما جعل الله الأخذ ظلماً، ولو ساغ للمدين أن يأخذ لقاء الاستدانة شيئاً لبين الله سبحانه وتعالى ذلك ولما جعله ظلماً، فكما أنه لا يجوز لرب المال أن يسقط عنه في الحفظ شيئاً، لا يجوز أن يسقط عنه فيما يدعيه حفظاً على هذا الوجه شيئاً. إذاً: الصحيح في هذه الحالة الثالثة أنها لما كانت على سبيل التعاقد والإلزام كانت من أكل المال بالباطل، والدليل على تحريمها قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] ولأن النص أثبت أنه لا يجوز للمديون أن يأخذ لقاء وجود المال عنده على الدائن؛ لقوله: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] فأمر الله المديون والدائن أن يكون الوفاء برأس المال، فدل على أنه إذا اقتطع منه شيئاً فقد ظلمه ولا يجوز ذلك.
شهادات الاستثمار هناك مسألة الوديعة بزيادة مشترطة، وهي ما يسمى بالاستثمار، فمثلاً يحدد المصرف مبلغاً ما ويقول للعميل: ادفع ما لا يقل عن ستة آلاف ولا يزيد عن عشرة آلاف قسطاً شهرياً لمدة ثلاث سنوات، فإذا مضت الثلاث السنوات أعطيناك زيادة (6%) على المبلغ كله. أولاً: لابد أن يحدد المصرف الحد الأقل للمبلغ المدفوع والحد الأقصى، أي: ما بين ألف إلى عشرة آلاف، كأن لا تزيد على عشرة آلاف ولا تنقص عن ألف، إن شاء يدفع ألفاً شهرياً قُُبل منه، وإن شاء يدفع ألفين أو ثلاثة آلاف إلى أن يصل إلى عشرة آلاف، فلو قال: سأدفع شهرياً أحد عشر ألفاً يقولون: لا، ادفع فقط ما بين ألف إلى عشرة آلاف. وهذه هي الفئة الممتازة، فعندما تكون فئة (أ) يكون فيها المبلغ أكبر والمدة محددة، فبعد أن يحدد المصرف أقل مبلغ يدفع يحدد له أكثر المبلغ، ثم تحدد المدة، يقال لك: تدفع لمدة سنتين شهرياً، فلو دفع ألفي ريال شهرياً، والسنة فيها اثنا عشر شهراً، فمعناه أنه سيدفع أربعة وعشرين ألف ريال، والأربعة والعشرون ألف ريال خلال ثلاث سنوات يكون مجموعها اثنين وسبعين ألف ريال، وهذا المبلغ يحسب منه فوائد (10%) أي: سبعة آلاف ومائتين، معناه أنه سيعطيه تسعة وسبعين ألفاً ومائتين، فكانت المعاملة على النحو الآتي: يحدد المبلغ الأقلي والأكثري على أن يكون الدفع بينهما، ويلتزم العميل بالدفع شهرياً ولا يتخلف أي شهر حتى تتم المدة، ثم يلتزم بعدم السحب من الرصيد لمدة ثلاث سنوات؛ لأن المصرف سيأخذها ويقرضها للناس، وهذه الالتزامات على العميل مكونه من: التزام في المبلغ أن لا ينقص عن كذا ولا يزيد عن كذا، والتزام في المدة: ثلاث سنوات أو سنتين أو سنة ونصف، والتزام بعدم السحب، هذه ثلاثة أشياء، وبعد أن يتم الاتفاق على هذا الوجه يلتزم البنك والمصرف بإعطائه فائدة بنسبة معينة. إذاً: هناك استثمار من فئة (أ) واستثمار من فئة (ب)، لماذا تتفاوت فئة (أ) عن فئة (ب)، فئة (أ) يكون المبلغ كبيراً ويحدد بمدة لأصحاب الأموال الكثيرة؛ لأنهم يعرفون طبقات المجتمع، ويريدون أن يستفيدوا من طبقات المجتمع، فيجعلون لمن كان راتبه أكثر مبلغاً أكثر، فيحددون مثلاً: من خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، طبعاً: لا يستطيع أن يدخل في هذا الاستثمار لمدة ثلاث سنين بهذا المبلغ الكبير إلا إنسان مقتدر، النوع الثاني: يضعونه، فئة (ب)، وهذه الفئة تتراوح المبالغ فيها من ثلاثة آلاف ريال أو من ألفين شهرياً إلى ستة آلاف، فيكون التحديد أقل والمبلغ أقل وأيضاً الفائدة أقل، أي: هناك تجد الفائدة (10%) وهنا الفائدة (5%) مثلاً، فالتفاوت والتفاضل بين الفئة (أ) والفئة (ب) من حيث المضمون والجوهر، لكن من ناحية شرعية الحكم فيهما واحد، فلا تضرك المسميات؛ لأن هذا شيء يرجع إلى طريقة حساب الفوائد، فهي تختلف من طبقة إلى طبقة. أعطوا في الفئتين السابقتين الاستثمار للطبقة العالية والطبقة المتوسطة وبقي الطبقة الضعيفة، فتعطى استثماراً من فئة (ج)، وفئة (ج) من مائة ريال، أو مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، يقولون: تدفع من خمسين ريالاً مثلاً؛
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/378)
لأنهم يعرفون أنه سيشارك في هذه الفئة عدد أكبر، فيدفعون مثلاً: من خمسين ريالاً إلى ستمائة ريال لمدة ثلاثة شهور، وفي بعض الأحيان يحددون ويقولون: تدفع مائتي ريال شهرياً، فإذا دفع مائتي ريال شهرياً لمدة ثلاثة شهور هذه ستمائة ريال، والستمائة ريال يقولون: يلتزم المصرف بردها، ولكن يجمعون أسماء المشاركين كلهم، ثم توضع القرعة، ومن خرجت له القرعة أخذ الفائدة أو الجائزة الموجودة، وتقسم أرباح هذه الفئة كلها على عشرة أشخاص، يكون للأول ألف، وللثاني ألفان، وللثالث أربعة آلاف ... إلخ. فنلاحظ أن عندنا فئة (أ) وفئة (ب) وفئة (ج)، هذه ثلاث دركات -نسأل الله السلامة والعافية- فئة (أ) وفئة (ب) لها دراسة مستقلة، أما فئة (ج) فسنركز عليها أكثر؛ لأن البعض أفتى بجوازها، وأدخل بعض الشبهات في الحكم بجوازها، فسندرس فئة (أ) و (ب) على حدة، ثم بعد ذلك ندرس فئة (ج). فئة (أ) و (ب) حينما يقال: تدفع ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، وتلتزم ببقاء المبلغ ثلاث سنوات، وتلتزم أيضاً بعدم السحب منه وتعطى فائدة كذا، ما حقيقة هذا العقد؟ أولاً: هو قرض، وثانياً: اشترط فيه وجود المنفعة والزيادة، وهذا بإجماع العلماء ربا محرم؛ وهو مخالف لقوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فإذا أعطاه بزيادة -سواءً حدد المدة أو لم يحدد المدة مادام أنه يقول: آخذ منك هذا الدين وأرده بزيادة كذا وكذا سواء قلت الزيادة أو كثرت- فإنه الربا الذي حرم الله ولو ريالاً واحداً، فإن اشتراط هذه الزيادة قليلة كانت أو كثيرة هو عين الربا. الأمر في (أ) و (ب) واضح جداً ولا إشكال فيه، لكن الإشكال في فئة (ج)، فما هي الشبهة وكيف جوابها؟ قالوا: أولاً: في فئة (ج) المصرف أو البنك لم يلتزم أن يعطيك فائدتك إنما هو قال: تدخل في القرعة، فيحتمل أن تربح ويحتمل ألا تربح، فإذاً: حينما دخل العميل في الاستثمار لم يشترط على المصرف أن يربح ولم يشترط المصرف له أن يعطيه الزيادة، فإذاً: خلا عن قرض شرط فيه النفع, وأصبحت الزيادة بدون اشتراط، فهي جائزة، وغاية ما فيه أن المصرف تفضل بإعطاء هذه الزيادة وهذا الربح من باب المكافأة، والمكافأة على الدين جائزة، هذا بالنسبة للشبهة التي تثار في فئة (ج)، أنه لم يلتزم بإعطاء الفائدة وإنما وقع ذلك على سبيل الاحتمال، وإنما تحرم الزيادة إذا كانت على البت، كما لو أقرض الشخص شخصاً يحتمل أن فيه مكافأة ويحتمل أن لا يعطيه مكافأة، فتردد بين الزيادة وعدمها، قالوا: فيجوز. والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال من وجوه: الوجه الأول: أن دخول العميل في هذا النوع من شهادات الاستثمار إنما قصد منه الربح والنماء، لم يدخل أحد في هذا الاستثمار لمجرد أن يحفظ ماله إنما دخل من أجل أن يربح، والمقاصد معتبرة في العقود، وعلى هذا كأنه يدين من أجل أن يربح. الوجه الثاني: أن هذا الربح لو كان مكافأة فإنه مبني على أصل محرم، والمكافأة من المحرم فرع راجع إلى أصله، وما بني على حرام فهو حرام، وبناءً على ذلك: لو سُلم جدلاً أنه مكافأة، فإننا نقول: إنه يعتبر من مال محرم، والمكافأة من المحرم محرمة؛ لأنها مأخوذة من فوائد من الإيداع ومكافأ بها العميل، وعلى هذا فلا يمكن التسليم بأنها من المكافأة؛ لأن العميل دخل وقد علم المكافأة، وحددت له، وبينت له، ووضع المال قاصدها، وشرط المكافآت أن لا يكون هناك علم أو تواطؤ أو إخبار، فلو قال له: ادفع لي عشرة آلاف يمكن أن أعطيك عليها ربحاً أو لا أعطيك لحرمت بالإجماع، قال له: إذاً: أشترط عليك أنه إذا يسر الله تعطيني وإذا لم ييسر فلا تعطيني، فهنا يقول: أشترط عليك إن ظهر اسمي أعطيتني، وإن لم يظهر اسمي فلا تعطيني، فلا يوجد فرق بين الحالتين. فإذاً: التذرع بأن خير الناس أحسنهم قضاءً، هذا ليس بوارد، إنما يكون ذلك لو خلا عن المقصد، وجاء بدون قصد ولا عدة، وهنا جاء بقصد؛ لأنه دخل وهو يريد، وجاء بعدة محتملة، أي: إن ظهر اسمك كان لك وإن لم يظهر فلا، فالتذرع بمثل هذا لا يصح ولا يستقيم. الآن عرفنا الشبهة وجوابها، وعندنا شبهة سبق وأن نبهنا عليها، وهي: أنه يتذرع في شهادات الاستثمار بأنها من باب القراض، ولو فرضنا أن وجائز، كأن يدفع رب المال إلى العامل ماله على أن يتجر به والربح بينهما على ما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/379)
شرطاه، القراض يكون عندك مائة ألف وأنت طالب علم لست بمهيأ للمرابحة بهذه المائة ألف أو المتاجرة فيها، وهي موجودة عندك كرصيد مجمد، فمن رحمة الله عز وجل وتيسيره أن أباح لك أن تعطيها رجلاً عنده خبرة، يضرب بها في الأرض ويتاجر فيستفيد بخبرته، وينمي هذا المال، فإن ظهر ربح كان بينكما على ما اشترطتما .. إما أن يقول: الربح بيني وبينك مناصفة، أي: إذا ربح خمسة آلاف فإن لك ألفين وخمسمائة وله ألفين وخمسمائة، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف في السيارات، أو الأقمشة، أو الأغذية، أو الأدوية أو غيرها ... وبعد مضي المدة المتفق عليها تقول له: يا فلان! احسب لي المضاربة، فيذهب ويبيع الأشياء الموجودة بمائتي ألف، ثم يدفع أجرة الدكاكين وأجرة الأعباء وأجور العمال، فاستقر المبلغ على مائة وخمسين ألفاً؛ لأن الربح لا يكون إلا بعد رد الحقوق، فأنت دفعت مائة واتفقتما على أن الربح بينكما مناصفة وكان الربح خمسين ألفاً، فيأخذ خمسةً وعشرين ويرد لك مائة وخمسة وعشرين، هذه هي المضاربة الشرعية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: من قال: إن القراض الذي هو المضاربة، ويسمى قراضاً ويسمى مضاربة، وسمي مضاربة؛ لأنه من الضرب في الأرض: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ [المزمل:20] الذي هي التجارة، وسمي قراضاً؛ لأنه اقتطع من ماله قرضاً فسمي بهذا. يقول: إن من قال: إنها ثابتة بالإجماع فقد وهم، إنما هي ثابتة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضارب بمال خديجة، وجاء الإسلام والقراض موجود ومعروف، ورحلة الشتاء والصيف تدل على أنهم كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام وفي الشتاء إلى اليمن للتجارة، ثم ترد الأرباح وتقسم على حسب ما يتفقون عليه، فأجازت الشريعة هذا النوع من العقود. يقولون: إن الفوائد والأرباح تعتبر قراضاً، وأعجب فما تنفك من عجائب! حينما يأتي من يقول: إن عقد القراض ليس فيه نص من الكتاب والسنة بشروط معينة، وإذا كان ليس فيه نص معين لا من الكتاب ولا من السنة وليس فيه إجماع على شروط معينة، فإنه يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فيصبح قراض الأمس له حالة، وقراض اليوم له حالة، هذا هو الفقه الجديد الذي -نسأل الله السلامة والعافية- زين لصاحبه حتى يحل ما حرم الله، فيضل ويضل ومن ثم يهلك ويُهلك غيره. والقراض في الأصل يقوم على أركان وهي: رب المال، والعامل الذي يضرب بالمال ويتاجر، وهو الطرف الثاني، والمحل الذي هو المتاجرة، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، كأن يقول له: قارضتك على أن يكون الربح بيننا. يقولون: إذا جاء العميل للمصرف ودفع مائة ألف فإنن ...... حكم اشتراط المنافع على القرض يقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط] أي: في الدين إذا اشترط المنفعة فلا يجوز؛ لأن اشتراط المنافع تارة يكون من المكر، كأن يقول: العشرة آلاف تردها لي عشرة آلاف وخمسمائة، وبعض الأحيان يكون اشتراط المنفعة بالمعنى سواءً كانت منفعة اعتبارية أو منفعة من غير النقد، كأن يقول له: أعطيك عشرة آلاف على أن تعمل عندي يوماً، أو توصل هذا لفلان، أو تفعل كذا وكذا، فصار قرضاً جر نفعاً، وفيه مسائل: المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن كل قرض جر نفعاً من حيث الجملة إذا وقع على سبيل الشرط والمشارطة أنه لا يجوز، وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، ونقله الإمام ابن قدامة رحم الله الجميع برحمته الواسعة، فمن حيث الأصل لا يجوز القرض الذي يجر نفعاً، ولكن إذا ثبت هذا فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل وفي عصرنا الحاضر عندنا مسألتان نحتاج إلى ذكرهما: المسألة الأولى: قديمة وموجودة في زماننا. والمسألة الثانية: موجودة أو طرأت وكثر الكلام فيها الآن ....... مسألة السفتجة أما المسألة الأولى: فهي السفتجة وهي تنبني على الحوالات. المسألة الثانية: فهي جمعيات المال. أما السفتجة ففي القديم كانوا يخافون الخروج بالأموال في السفر، فيأخذ الرجل مائة دينار في مكة ويعطيه ورقة لوكيل له في المدينة، أنه إذا جاءك فلان فأعطه مائة دينار، وإذا جئنا إلى صورة المسألة نجد أنه دفع مائة دينار وأخذ مائة دينار، لكن الشخص الذي هو رب المال دفع المال في مكة بشرط أن يأخذه في المدينة، فاشترط أخذه في المدينة حتى يحيله إلى وكيله، وهذا الشرط في الحقيقة قصد منه منفعة الأمن من خطر حمل المال معه، ومن هنا اختلف السلف رحمهم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/380)
الله في هذا النوع، وكان موجوداً في زمان الصحابة رضوان الله عليهم، فمنهم من رخص، ومنهم من منع. فإذا دفعت لأحد مالاً على أن تأخذه في مكان آخر، فلا يخلو المال من حالتين: السفتجات، وهي فارسية معربة، ويبحثها الفقهاء تحت هذا المسمى السفتجة، والسفتجة من حيث الأصل لها صورتان: الصورة الأولى: أن يكون المال المديون يحتاج إلى مئونة حمل إلى المدينة، فمثلاًً: يأخذ المدين من صاحب المال مائة صاع في مكة ويقول له صاحب المال: بشرط أن تحيلني على وكيلك في المدينة وأستلمها منه، فإن كان نقل مائة صاع من المدينة إلى مكة يكلف ديناراً أو عشرة دنانير فصار كأنه أقرضه مائة صاع معها عشرة دنانير، فصار قرضاً جر نفعاً، وهنا نقول: لابد من دراسة؛ لأن المشكلة أن بعض العقود ترى في ظاهرها أن لا شيء فيها، لكن حينما تنظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فتجد أنه لابد من التأمل والنظر بعمق. لذلك فلابد من دراسة المسألة حتى تفهم نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، فالسلف يعطي نفس المال، لكن لما أدخل البيع معه ربما وجدت الزيادة في البيع؛ لأنه لا يبيع أحد شيئاً إلا وفيه ربح، ففهمنا من هنا أن الشرع لا يقتصر على كون هذا أخذ رأس مالٍ ما لم يحقق في اشتراطه عليه، فلما اشترط شرطاً فيه الزيادة والمصلحة له فهمنا أنه قرض جر نفعاً واختلف فيه الصحابة رحمهم الله. أما لو كان المال المدفوع طعاماً يحتاج إلى نقل ومئونة، فجماهير العلماء سلفاً وخلفاً على تحريمه؛ لأنه استفاد النقل، وسلم مئونة النقل، والمال صحيح أنه ما نقل لكنه اشترط شرطاً على وكيله هناك ولم يقل له: أدها لي هنا، فدل على أنه قصد الهروب من مئونة الحمل، ودلالة الحال قد تدل على المقاصد في المآل. ثانياً: أن يكون المال ليس فيه مئونة، فمثلاً: يعطيه مائة دينار في مكة، ويقول له: هذه المائة دينار أحلني على وكيلك في المدينة يعطيني المائة دينار وهذه المائة دينار، ليس في حملها مئونة، فلا تحتاج إلى أكياس وإجارة، بل يضعها الإنسان في جيبه، أو في خرجه ... إلخ، فلو كانت أكثر، مثلاً: عشرة آلاف دينار من الذهب -كما في القديم-، فتحتاج إلى صرر ويستأجر لحملها وكرائها، فهذا يدل على أنه يريد أن يخرج من مئونة الحمل ومئونة الخطر في الطريق؛ لأنه ربما ركب بحراً فغرق، وربما أخذت منه في الطريق، فالمقصود أنه يريد أن يتهرب من هذا كله، فيشترط أن يأخذها على وكيله حوالة، فصارت حوالة بمنفعة. فإن كانت لا مئونة فيها فقد شدد فيها بعض السلف ورخص فيها البعض الآخر، وممن رخص فيها علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد كان ابن الزبير كما روى عطاء يأخذ المال من الرجل في مكة ويكتب لأخيه مصعب في البصرة أن يقضيه، وهذا على سبيل الترخص؛ لأنه نفس عين المال وما فيه مئونة، وبناءً على ذلك رخص فيها هؤلاء الصحابة، وكذلك قال بهذا القول جمع من التابعين رحمهم الله، وهو رواية عن الإمام أحمد. ومنعها بعض السلف على خلاف بينهم، فمنهم من يفهم من كلامه التحريم، ومنهم من يفهم من كلامه الكراهية، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية وطائفة من الحنفية رحم الله الجميع، فيقولون بالمنع، إما على سبيل التحريم، وإما على سبيل الكراهة، وروي الجواز مع الكراهة عن مالك من وجه يثبت عنه. وبناءً على ذلك يرد السؤال الآن في الحوالة في الأصل بنفس العملة وبغير العملة، كأن تريد مثلاً تحويل عشرة آلاف ريال من مكة إلى المدينة، فالعملة واحدة، وتريد تحويل عشرة آلاف ريال إلى دولارات في غير مكة خارج البلاد مثلاً. والحوالة في الأصل هل هي حوالة أم قرض؟ هذا يحتاج إلى نظر، الحوالات الموجودة الآن هي قرض، وهي آخذة حكم السفتجات؛ لأنك تأتي إلى المصرف وتعطيه عشرة آلاف، وحين يأخذ المبلغ فإنه لا يحيلك بنفس المبلغ، وإنما حقيقته أنه أخذ هذا القرض في ذمته وأحال إلى وكيله أن يعطيك إياه، وأنت لا تحيل إلا لمصلحة، فكأنك أقرضته لمصلحتك، وهذا وجه دخولها في السفتجات؛ لأنه يريد توصيلها وفي توصيلها مئونة، فإن جاء يسافر هو بنفسه فمئونة السفر مكلفة، وإذا استأجر الغير فإنه يدفع قيمة استئجار الغير، فهي داخلة في حكم السفتجة. فعلى قول من قال من الصحابة بالترخيص في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/381)
السفتجات، وهذا مع اتحاد العملة فلا إشكال في الجواز، يكون في حكم السفتجة جائزة على قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، والنفس تطمئن إلى هذا القول، خاصة كما قال الإمام مالك: إن الناس يحتاجون إلى ذلك، فخفف فيه لوجود المصلحة، وصار فيه نوع من الإرفاق وهو متفق مع مقصود الدين. ويبقى النظر في الحوالة مع اختلاف العملة، إذا دفعت عشرة آلاف فإنها في الأصل تكون ريالات وتريد تحويلها إلى البلد الثاني بعملته، فهنا عقدان: العقد الأول: الصرف، وهو كونك تبدل العشرة آلاف من ريالات إلى دولارات، والعقد الثاني: عقد الحوالة، فيجب أولاً: أن تصرف وتبدل العملة إلى عملة أخرى، وتقبض يداً بيد، فإذا حصل الصرف بصفته الشرعية المعتبرة، ودخلت النقود في شيك أو حوالة وأحيلت فلا إشكال في جوازها على قول من ذكرنا من السلف رحمهم الله، لكن لو أعطاه عشرة آلاف ريال، وقال: حولها إلى فلان دولارات، فحينئذٍ وقعت النسيئة والتأخير في الصرف، ولا خلاف في أن وجود التأخير يوجب التحريم، إذاً: المخرج والمباح أن يصرف أولاً وبعد القبض يحيل ما شاء من المال.
مسألة الدين في الجمعيات أما مسألة الدين في الجمعيات، فإن الجمعية -إذا جئت تنظر إليها- في الواقع هي قرض جر نفعاً، فلو دخلنا الجمعية بخمسة آلاف ريال، فكل شخص يدفع الخمسة آلاف على شرط أن يدينه الثاني أو يدين من يدينه، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف وكل شخص دفع خمسة آلاف، فمعناه أن محمداً الأول هو الذي سيأخذ مجموع المال، فكأنك دفعت الخمسة آلاف لمحمد من أجل أن يقضك ويقرض الباقين أيضاً، ودفعتها لأولئك الأربعة الباقين بنفس الشرط، فصار قرضاً جرَّ نفعاً، ولو علمت أنهم لا يعطونك لامتنعت، فإذاً: أنت لم تدفع المال إلا من أجل أن تستفيد من قوة المبلغ، والدين إنما يدفع من أجل الرفق بالمديون، وقد أجمع العلماء على أن الدين عقد رفق. ومن هنا حرم أن يستفيد المدين، فأنت إذا دفعت الخمسة آلاف مع زيد وعمرو وخالد لمحمد، كأنك تقول: يا محمد! خذ مني الخمسة آلاف الآن بشرط أن تعطي الشهر القادم خمسة آلاف لزيد، والذي بعده لعمرو، والذي بعده لبكر، فلو علمت أنه يمتنع لما دفعت ولما أعطيته، وهذا يقتضي المنع، فصار قرضاً جر نفعاً، وإن قلنا: إنه دفع خمسة آلاف وأخذ خمسة آلاف فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] يقولون: دفع ديناً وأخذ عين الدين، فإن وجدت من يجيز ويفتي بالجواز فإنه يرى أنه دفع خمسة آلاف وأخذ الخمسين ألفاً ورد لكلٍ دينه بدون زيادة، وإن وجدت من يحرم وجدته يرى شبهة زائدة على الارتفاق وهي كونه يدين بشرط، وهذا سلف وشرط، فصار قرضاً بشرط فيه منفعة، إما له حقيقة أو تبعاً، فحقيقة من جهة أنه سيستفيد الخمسين ألفاً، وتبعاً كأنه يقول: يا محمد! أقرض من أقرضني، وأعط لمن أعطاني كما أنني أعطيتك. وعلى هذا أقول: إنها من جنس المشتبه، فلا أقوى على الجزم بالتحريم؛ لأن فيها شبهة من الحلال، وفيها شبهة من الحرام، فإذا جئنا ننظر إلى وجود الشرط فهذا شبه من الحرام، وإذا جئنا لمضمون الشرط مع أنه لا يأخذ إلا رأس ماله لقلنا بالجواز، فأنا أقوال: إنه من المشتبه، وأنا ما أفتيت بحلها يوماً ولا بحرمتها، ولكن أرى أنها -أي: الجمعيات- من المشتبه الذي لا يفتى بحله ولا يفتى بحرمته، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
شرح زاد المستقنع - باب القرض [3] الغاية من القرض هي الإرفاق بالمقترض والتيسير عليه، وهو من قبيل الدين والله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين فألزم كلاً منهما بإلزامات تمنع الضرر عن الآخر، ومن ذلك أنه أوجب على المديون أن يرد الدين لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، كما يحرم على الدائن أن يشترط زيادة على دينه عند السداد. مسائل في القرض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويحرم كل شرط جر نفعاً] تقدم الكلام على هذه الجملة، وبينا أنه متى اشترط صاحب الدين على المدين شرطاً يتضمن منفعة له فهذا ذريعة إلى الربا، وهو: -
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/382)
إما أن يكون رباً محضاً، كقوله: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر؛ فإنه شرط تمحض بالزيادة المحرمة وهي الربا. - وإما أن يشترط عليه شرطاً فيه منفعة تكون حينئذٍ الحرمة من جهة وجود الزيادة. والأصل في ذلك أن الله سبحانه وتعالى عدل بين صاحب الدين والمدين، وأن الواجب على المديون أن يرد الدين والحق لصاحبه دون أن يزيد عليه إلزاماً، لكن أن يزيد تكرماً فلا بأس، وكذلك لا يجوز له أن ينتقص من حقه. إذاً: فقوله: [ويحرم] أي: يأثم بهذا الفعل إذا اشترط الزيادة، ولا يجوز دفع هذه الزيادة، فلو ترافعا إلى القاضي فإن القاضي لا يحكم على المديون أن يدفع هذه الزيادة، فلو قال: أشترط عليك أن ترد العشرة خمسة عشر، فإن القاضي يحكم عليه بأن يرد العشرة فقط. ...... مكافأة صاحب الدين بدون شرط وقوله: [وإن بدأ به] إذا بدأ المديون بمكافأة صاحب الدين بدون شرط ولا مواطأة جاز له ذلك، والدليل على هذا حديث أبي رافع رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فقال: لا أجد إلا خياراً، قال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً) ومعنى هذا: أن المنفعة والزيادة جائزة إذا لم تكن بمواطأة أو بشرط. والمنفعة كرجل استدان منك عشرة آلاف، فجاء وأعطاك العشرة آلاف، وقال لك: إنك أحسنت إليّ، وإني قد وهبتك داري شهراً، فهذه منفعة، وهذا القرض جر نفعاً لكنه ليس على وجه محرم؛ لأنه جاء على سبيل الإكرام بعد انتهاء الدين وقضائه، وقوله: [وإن بدأ به] أي: المديون، ومعناه أنه لم يكن النفع مشترطاً من سابق، فيبدأ به المديون لكن بعد القضاء والوفاء، فابتدأ من عند نفسه دون أن يلزمه صاحب الدين أو يكون هناك شرط بينهما، وإن بدأ به على هذا الوجه فإنه جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فمن السماحة في القضاء أن يزيد ويستفضل، سواءً كانت الزيادة بالأعيان أو بالمنافع، فيرد له عيناً أفضل من عينه، أو يرد له حقه من المال ويزيده منفعة أو مالاً، هذا كله دلت السنة على جوازه، ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن يكون بعد تمام الوفاء، فلا يكون قبل الوفاء، فإن كان قبل الوفاء ففيه كلام. الشرط الثاني: أن يكون دون شرط أو مواطأة، بل تعطى الزيادة بطيبة نفس ورضا خاطر، فهذه جائزة ولا بأس بها. وقوله: [بلا شرط] أي: من محض اختياره ومن عند نفسه، لكن فصل بعض العلماء في الشخص الذي تكون من عادته الزيادة، مثل: الكرماء وأهل السخاء والجود، فإن أمثال هؤلاء الغالب أنهم إذا استدانوا أن يكافئوا من استدانوا منه؛ لأن الله جبلهم على الكرم، والكرم نعمة من الله عز وجل، والكريم يشعر أنه لا يملك مالاً، وفي هذه الحالة تجده يعطي الضعيف والمحتاج ومن يسأل، فكيف إذا كان الذي أمامه قد أحسن إليه، فإن الكريم لا يرضى أن يعطي نفس الذي أعطيته، وغالباً ما يرد بأفضل؛ لأن الله جبله على ذلك، فالكرم من مظنته الزيادة، فيرد السؤال: إذا أعطى الدين لكريم فإنه سيشعر أنه سيكافئه. إذاً: فهل هذا المعروف من الكريم ينزل منزلة الشرط؟ الجواب: فيه تفصيل، إن كان الذي أعطاه الدين في نيته ورغبته وقرارة نفسه يقصد أنه إن أعطاه سيكافئه وأحب أن يعطيه حتى يكافئه فحينئذٍ تكون الشبهة، فمن العلماء من حرم ومنهم من كره، وعلى هذا تنزل القاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً وشرطاً، فحينما علم أنه كريم وجواد وأنه سيرد الشيء بأفضل فكأنه أعطاه على أن يزاد في عطائه. وقال بعض العلماء: بالكراهة، كما أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة، واختاره بعض أهل العلم، ووجه الكراهة أنه تردد بين الحرام وبين الحلال، فإنه إذا أعطاه الدين على أن يرده بنفسه اقتضى ذلك الحل، وإن أعطاه الدين بشرط الزيادة اقتضى التحريم، فإن سكت وعُلم ذلك من طبيعة الشخص ورغبة من أعطى كان متردداً بين الحلال والحرام، وهذا ضابط عند بعض علماء الأصول أنهم يجعلون المكروه ما تردد بين الحرام والحلال، فيصفون بعض المعاملات وبعض الأفعال بكونها مكروهة؛ لأنها في مرتبة بين الحلال والحرام، فيها شبه من الحل يقتضي جوازها وشبه من الحرام يقتضي منعها. فإن نظرنا إلى أنه ليس هناك شرط ولا مواطأة ولا وعد قلنا:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/383)
بالحلال، وإن نظرنا إلى الداخل والنية والقصد قلنا: إنه حرام، ومن هنا يقولون: يصير مكروهاً، مثل ما ذكروا في الثوب، إن كان فوق الكعبين فهو حلال بالنسبة للرجل، وإن كان أسفل من الكعبين فإنه حرام، وإن كان على الكعبين فهو مكروه، لأنه ليس بالحرام المحض؛ لأنه لم يرد نص بتحريمه، إنما ورد النص بما أسفل الكعبين، ومفهوم (أسفل) أنه يشترط في الحكم بكونه حراماً أن يكون أسفل. فالشاهد أننا عندما قلنا: يشترط أن يكون حراماً إذا اشترط، فإذا لم يشترط اقتضى هذا الحل، وإذا جرت العادة نزلت منزلة الشرط، فإذا قصد هذا المعتاد منه قالوا: يكون مكروهاً.
حكم رد القرض بأفضل منه وقوله: [أو أعطاه أجود] كأن يستدين منه نوعاً من الإبل فقضاه بنوع أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الطعام فقضاه أجود منه، أو استدان منه نوعاً من الثياب والألبسة والأكسية فرد أفضل وأجود منه. إذا أخذ الجيد ورد بأجود، أو أخذ الحسن ورد بأحسن، أو أخذ الفاضل فرد بالأفضل، فإنه يجوز إذا لم يكن بشرط ولم يكن بعدة ولا بمواطأة، أما الدليل على جواز ذلك، فإن السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحت بفضيلة القضاء بالأحسن، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطه -أي: سددوا دينه واقضوا دينه- فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكونه أحسن: يدل على أنه يكون أفضل، إما في الجودة والرداءة وفي الصفات الموجودة في المذروع وفي المعدود. وإما أن تكون الجودة والأحسن في القدر، وذلك كأن يستلف منه خمسة ريالات فيرد ستة ريالات أو يستلف منه مائة ريال فيردها مائة وعشرة بدون شرط وبدون عدة.
الهدية بعد وفاء الدين وقوله: [أو هدية بعد الوفاء جاز] أي: أو أهدى إليه هدية بعد وفاء الدين جاز، كأن يستدين منك مائة ألف ريال، ثم جاءك وأعطاك المائة ألف بعد حلول الأجل وأعطاك معها ساعة أو كتاباً أو قلماً؛ لأنه يرى أن لك معروفاً عليه، وأحب أن يكافئك على المعروف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) قالوا: هذه الهدية لما جاءت بدون شرط وجاءت بعد تمام الوفاء ولم يكن ذلك جارٍ على عرفٍ يقتضي الاشتباه جاز بدون حرمة ولا كراهة. وقد اختلف العلماء في مسألة المكافأة على الدين والرد بأفضل، وبعض العلماء يقول: إنه يجوز أن ترد بالأفضل في الصفات ولا ترد في العدد، فمثلاً: لو أخذ مائة ريال لا يجوز أن يردها مائة وعشرة، وهذا هو مذهب الإمام مالك رحمه الله، يرى أن تكافئ في الصفات لكن لا تكافئ في العدد؛ لأن المكافئة في العدد صورة الربا، فإذا أخذ مائة ريال وردها مائة وواحداً أو مائة واثنين أو مائة وعشرة فهو ربا، فهو على صورة: أن يأخذ الواحد ويرده اثنين أو ثلاثاً، واستدل بقوله تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فهذه المسألة فيها خلاف، وإن كان بعض الحنفية يميل مع المالكية في بعض التفصيلات، لكن المشهور الخلاف بين المالكية، وعن الإمام أحمد أيضاً رواية في رد المكافأة مطلقاً لكن الصحيح ما ذكرناه. وعندنا دليلان: الدليل الأول: في سداد الديون: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وهذا الأصل يقتضي أن سداد الدين يكون مماثلاً، إن كان عين الدين فلا إشكال، وإذا لم يكن عيناً كان مماثلاً في العدد والصفة؛ لأنه رأس المال، وإن لم يكن رأس المال حقيقة يكون حكماً، وظاهر هذه الآية الكريمة يمكن أن تجزم بأنه لا يجوز لأحد أن يدفع مكافأة على الدين؛ لأن الأصل يقتضي أنه كما أخذ العشرة أن يرد العشرة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما استسلف البكر وهو نوع من الإبل، وجاء عند القضاء، فقال: (يا رسول الله! لا أجد إلا خياراً رباعياً، قال: أعطه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فمن أهل العلم من قال: إن هذا الحديث ورد في الصفة، فإن الخيار الرباعي أفضل من البكر، فيجيز في المعدودات بأوصافها والمذروعات بأوصافها ويمنع في الربويات من الذهب والفضة والأطعمة، فلا يجوز أن تعطي الصاعين مقابل صاع، ولا يجوز أن تعطي الدرهمين مقابل درهم. لأنه يرى أن حديث أبي رافع في المعدودات والزيادة عنده جاءت في الصفة، فلا يجوز أن نتوسع ونجيز القضاء في المعدودات الربوية، في المكيل كيلاً بزيادة الكيل، وفي الموزون وزناً بزيادة الوزن،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/384)
فعلى هذا القول لا يجوز لك إذا استدنت كيلو من الذهب أن ترده كيلو ونصفاً، أو ترده كيلو وربعاً مثلاً، أي بزيادة ربع عليه؛ لأنه يرى أن الأصل التحريم، والحديث جاء في المعدودات وهي الإبل وما في حكمها، فعلى هذا القول فإن الحكم يختص بالجواز بصورة هذا الحديث، والجمهور قالوا: يجوز أن يزيد سواءً كان في الذهب والفضة التي هي الأثمان أو في المطعومات، سواء المكيلات أو الموزونات، ويجوز أن يزيد في المعدودات صفة وعدداً، وعلى الوجه الأول عندهم أنك لو أخذت بعيراً فلا يجوز أن تقضي بعيرين؛ لأن الحكم عندهم يختص بالصفة، والزيادة بالصفة مع وجود الاتحاد في العدد، فلا يجيزون أن تقضي البعير بالبعيرين، ولا يجيزون أن تقضي الشاة بالشاتين وبالثلاث؛ لأنهم يرون أن الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بالصفة، فقال (يا رسول الله! إني لا أجد إلا خياراً رباعياً)، فمن هنا يقولون: لا يجوز أن تدفع بزيادة عدد لقاء عدد أقل، هذا بالنسبة للقول الأول الذي ذكرناه. وأما الجمهور لما أجازوا هذا قالوا: الحديث ورد فيما ذكرتموه، لكن في الحديث عبارة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) فجعل الأمر بالزيادة في الصفة والجودة مركب من قوله: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً)، فالتعليل يفيد العموم، فلما كان منشأ الحكم الإحسان في القضاء، وأكد هذا بقوله: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) فهمنا أن مقصود الشرع المكافأة على الدين، ما دام أنه بدون وعد ولا تواطؤ ولا شرط، وبناءً على هذا نخرج ما ذكره المصنف رحمه الله. ويمكننا أن نقول: إنه يجوز أن يقضي الشيء بأحسن منه وأجود في الصفات، ويجوز أن يقضي الشيء بضعفه في العدد، فيقضي البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، ويقضي أيضاً الثوب -بصفاته المنضبطة- بثوبين إذا كان قد اقترضه منه، والطاقة من القماش بالطاقتين إذا استدان مذروعاً، وقس على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن خير الناس أحسنهم قضاءً). أما إذا كان كريماً، ومن عادته أن يكافئ على الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكرم الخلق، ومع ذلك استدان واستدان منه الناس وهم يعلمون كرمه وفضله عليه الصلاة والسلام وجوده وسخاءه، قال رجل: يا قوم! أسلموا فقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر، ما سُئل عن شيء إلا أعطاه، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين، فالمقصود: أنه ولو كان كريماً سخياً يجوز أن تتعامل معه، لكن ينبغي أن لا تجعل في نيتك أن يكافئك بالأفضل، وإنما يكون ذلك على سبيل المسامحة والارتفاق.
حكم الهدية لصاحب القرض قبل سداد الدين وقوله: [وإن تبرع لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز]. عرفنا أنه يجوز أن تزيد عند القضاء بأفضل؛ لحديث أبي رافع بشرط أن تكون الزيادة بعد انتهاء الأجل وبعد الوفاء، حتى قال بعض العلماء: لو جئت تسدد الدين لا تقدم الهدية، بل سدد الدين أولاً وبعد أن يقبض دينه أعطه الهدية، ولا تجعل العطاء للهدية سابقاً لوفاء الدين، إنما تعطيه بعد تمام الوفاء، فحينئذٍ يرد السؤال: لو اقرضت شخصاً فجاء وأعطاك شيئاً قبل السداد فهل يجوز لك أن تأخذ من المديون شيئاً، سواءً كان من الأثمان أو الأطعمة أو الأكسية أو المنافع ... كرجل استدان منك عشرة آلاف ريال، وكان الدين إلى نهاية السنة، وجاءك في رمضان، وقال: يا فلان! هذه خمسة آلاف ريال مني لك أو هذه ألف ريال، أو هذه مائة ريال، فأعطاك هدية من غير جنس الدين، كأن يكون استدان منك عشرة آلاف ريال ففوجئت به قبل تمام الأجل وقد جاءك بشيء من غير الأثمان كطعام أو كساء أو ساعة أو قلم أو كتاب، وقال: يا فلان! إني أحبك في الله وهذه هدية مني لك، لكن بينك وبينه دين ولم يسدد الدين بعد. فحينئذٍ إذا أعطاك شيئاً قبل الدين فإنك تتقيه، وعلى هذا وردت نصوص الصحابة والنقول عنهم متظافرة، وقد جاء عند ابن ماجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قبول هذه الهدية، لكن هذا الحديث متكلم في سنده، وذكر بعض العلماء أن له شواهد من حيث المضمون العام للمتن، وأما عن الصحابة فلا إشكال، فإن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري لما جاء إلى عبد الله بن سلام الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، قال له: إنك بأرض أرى الربا فيها فاشياً، فإذا استدان منك رجل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/385)
ديناً فأعطاك هدية أو حملاً أو .. فإياك أن تقبله. فمنعه من قبول الهدية قبل تمام الدين، وأُثر هذا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فإن ابن عباس سئل عن رجل استدان من آخر عشرين درهماً، ثم صار المديون يهدي للدائن السمك، فأهداه في المرة الأولى سمكاً، ثم مرة ثانية أهداه سمكاً، ثم المرة الثالثة أهداه سمكاً، حتى وصلت قيمة السمك ثلاثة عشر درهماً، فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن الرجل استدان منه عشرين درهماً، وأهداه هدية تبلغ ثلاثة عشر درهماً فقال: خذ منه سبعة دراهم. فاحتسب جميع ما أهداه إليه، وعدّ ذلك محرماً عليه إلا أن تعطى قيمته. والسبب في هذا واضح، فكأنه قبل وفاء الدين تارة تتخذ الهدايا لإطالة الأجل، فإذا جاء السداد تنكسر عين صاحب الدين بالهدايا، ولا يستطيع أن يطالب المديون، ويؤخره ويؤجله، وكذلك أيضاً فيها ذريعة إلى الربا أن يمحض له الأجل من نفس المبلغ، ومن هنا تظافرت النقول عن الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وغيرهما، ومن أئمة التابعين كسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، كلهم منعوا قبول الهدية قبل الوفاء. وقد ضيق السلف في هذا حتى إن بعضهم كان يتورع عما هو أخف من هذا بكثير، فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله استدان منه رجل ديناً، ثم جاء الإمام أبو حنيفة يطالبه بالدين، فوقف على بابه في شدة الظهر في الهاجرة، وكان مع الإمام أبي حنيفة أصحابه، فكان الرجل في داخل الدار وقُرع عليه الباب، فوقف الإمام أبو حنيفة في الشمس وجاء أصحابه إلى مظلة الباب (الروزنة)، ودخلوا تحتها، وقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، قال: لا والله، أخشى أن يكون فضل منه عليَّ، فلم يرض أن يأتي إلى ظل داره قبل وفاء دينه. والفقه في بعض الأحيان يضيق على الإنسان، لكنه يثاب على هذا، إذا تورع بمثل هذا الورع الذي كان عليه سلف الأمة، واحتاط إلى هذه الدرجة، بأن يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما فيه بأس، وهذا الورع أكمل ما يكون من الورع، شريطة أن لا يفضي ذلك إلى الوسوسة وتحريم ما أحل الله عز وجل من الطيبات. فالشاهد أنه خشي أن يكون مرتفقاً بهذا الظل، وبناءً عليه لا تقبل الهدية من الشخص الذي لك عليه دين قبل سداد الدين إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تحتسب الهدية من الدين، فلو كان رجل عنده لك عشرة آلاف ريال، فأهداك ساعة بخمسمائة، فاقبلها على أن الذي بقي لك عليه تسعة آلاف وخمسمائة، ولو أهداك هدية بألف، فاقبلها على أن الدين تسعة آلاف، فإذا كنت تقبل الهدية على أنها من الدين فلا بأس به. الحالة الثانية: أن يكون الرجل الذي أهداك الهدية من عادته أن يهديك، أو يكرمك، كرجل استدان منك ديناً ومن عادته أنه يهدي لك هدية في كل رمضان، فاستدان منك الدين إلى نهاية السنة فجاءك بالهدية في رمضان وأعطاكها، فإنها خارجة كلية عن الدين، والأورع والأفضل أن لا تقبلها في ذلك العام، لكن التهمة هنا منتفية، ولذلك أجازوا للقاضي أن يستضيفه من كان من عادته أن يستضيفه قبل القضاء، فإذا دعاه إلى وليمة خاصة أجابه؛ لأننا نعلم أن بينهما وداً قديماً، وأنه لم يستضفه مبتلىً بهذه الأمانة وهذه الحقوق. فالمقصود أنه إذا كان من عادته أن يهديك وأهداك على عادته صحت هديته، لكن إن كان من عادته أن يهديك وزاد في هديته في ذلك العام حرمت الزيادة؛ لأنها خرجت عن المألوف والمعروف، ومن هنا لو استدان رجل منك ديناً ودعاك إلى وليمة، فإما أن يكون الطعام عاماً، كأن يكون زاوج ابنه أو ابنته فإن هذه الدعوة لا يخصك بها، وإنما أنت والناس فيها على حد سواء، ويبعد أن تكون مكافأة عن الدين؛ لأن هذا أمر عام يقصد منه إشهار النكاح ولا علاقة له بالدين، ومن هنا أجازوا للقاضي أن يجيب الولائم العامة. لكن قال بعض العلماء: يجوز أن تتخلف عنها تورعاً، إذا خشيت أن يكسر عينك بالزيادة في الإكرام في الحفلات العامة والولائم العامة، فيحابيك محاباة خاصة، ويميزك بها، فإنها في الظاهر دعوة عامة لكن فيها شيء تتورع عنه إذا علمت ذلك، وهذا أصل عام يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأعراف والأزمنة، وعلى المؤمن أن يتقي الله، ويتورع عن مثل هذه الدعوات، وهذا هو الذي فيه طمأنينة القلب، ففي مثل هذه المسائل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/386)
يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فإنه في بعض الأحيان يكون الشيء في ظاهره حلالاً لكن تجد أموراً وقرائن تدل على وجود الشبهة، فمثل هذا تتقي فيه وتمتنع منه، صحيح أنه يدعوك دعوة عامة، إلا أنه يميزك على من هو أفضل منك، فتفهم من هذا أن القدر المباح والمشترك زدت على حقك فيه، كما لو أهداك هدية وكان من عادته أن يهديك وزاد في الهدية، فإن الزيادة تحرم، فالمقصود أنهم لما قالوا: من عادته أن يهديك، محل ذلك أن لا يكون فيه شبهة أو ذريعة إلى الحرام، كأن يزيد عن هديته، أو يفعل معك فعلاً يميزك به في وليمة عامة أو نحوها، ولو دعاك إلى دعوة خاصة لم يجز أن تجيبه؛ لأنها أشبه بالمكافأة على الدين قبل وفائه وأدائه. وقوله: [لم يجز] أي: لم يجز لك أن تأخذ الهدية منه قبل وفائه للدين إلا أن تنوي مكافأته على الهدية، كرجل استدان منك عشرة آلاف وذلك إلى نهاية السنة، ثم جاءك بهدية (ساعة) لم يجز لك أن تقبلها، إلا أن تنوي مكافأته على الساعة، فتنوي في قلبك أنك ستقبل منه الساعة الآن على أن ترد عليه هدية مثل هديته أو أفضل من هديته، فتكون حينئذٍ قطعت الهدية بمثلها أو أفضل منها. وقوله: [إلا أن ينوي مكافأته] وهذا ما يسمى بهبة الثواب، وهي الهبة بعوض، وهذا النوع محرم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله الإنسان من أجل أن يكافئه الغير، وهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] (ولا تمنن) أي: تفعل الهدية وتعطي الهدية وما فيه منة، (تستكثر) أي: تستدعي الكثرة بطلبك لما هو أكثر، وهذا يفعله الضعفاء، فيأتون للأغنياء ويعطونهم هدية، ومن المعلوم أن الفقير إذا أهدى للغني فمعنى ذلك أن يكافئه، وعلى هذا قالوا: إنه إذا أهداه ونوى في قلبه أن يرد هديته وأن يكافئه عليها جاز له ذلك. وقوله: [أو احتسابه من دينه] كرجل يأتي ويعطيك هدية، فتقدر هذه الهدية بقيمتها، وتنوي في قرارة قلبك أنه إذا جاء يسدد الدين فإنك تسقط الهدية من قيمة الدين، فيجوز لك أن تقبلها.
حكم اشتراط تسليم الدين في غير مكان القبض وقوله: [وإن أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وفيما لحمله مئونة قيمته] [وإن أقرضه أثماناً] كذهب وفضة، دنانير ودراهم، أو أقرضه ريالات وطالبه بها في غير البلد، كأن يستدين منك عشرة آلاف في مكة، فقلت له: أنا جالس في مكة في رمضان، ولكنني أطالبك بردها لي مثلاً في الرياض في ذي القعدة، أو في جدة أو المدينة لزمه ذلك، أي: لزم المدين أن يسدد الدين في الموضع الذي اتفقا عليه، فهذا من الشرط، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم). وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا أعطاه الأثمان في بلد وطالبه بقضائها في بلد آخر، أنه لا بأس بذلك ولزمه أن يسددها في البلد الآخر، لكنهم فرقوا بين الأثمان وغير الأثمان، كالطعام والكساء وغيرها مما يحمل وفيه مئونة؛ لأنه إذا اشترط عليه أن يوفيه في بلد غير بلده استضر المديون، وصارت منفعة زائدة للدائن على المديون، فلا يجوز ولا يلزم بهذا. أما الأثمان كالذهب والفضة، في القديم إذا قال لك: أعطيك مائة دينار في المدينة وتقضيها في مكة جاز ولزمه أن يسدد الدين في مكة؛ لأنه لم يكن في حمله مئونة، لكن في زماننا فيه مئونة، خاصة إذا كان من بلد إلى بلد تختلف العُمل فيه، فإن العُملة إذا كانت صعبة كأن يستدين مثلاً: دولارات، فيقول له وهو في مكة: هذه العشرة آلاف دولار أشترط أن تسددها لي في المشرق أو في المغرب، والدولارات في المشرق أو المغرب غالية وعزيزة الوجود، وحملها إلى هناك فيه مئونة ومشقة، فكأن الدائن صاحب الدين اشترط منفعة وصار أخذ الدين مع المنفعة الزائدة، وعليه قالوا: إنه لا يلزمه هذا الشرط، إذا كان على وجهٍ فيه ذريعة إلى الربا. كذلك الذي في حمله مئونة، كما لو استدان منه طعام بر أو استدان منه طن حديد أو طن نحاس وهو في مكة، وقال له: السداد يكون في المدينة، وهذا الدين قد لا يوجد مثلاً في المدينة، كما في القديم، إذا كانت البلدان مختلفة والأطعمة والمنافع كانت المثمونات مختلفة في الأماكن، فيلزمه ببلد غير بلده، فيتحمل مشقة الحمل إليه، قالوا: عندها يُنتقل إلى القيمة، ولا يلزمه دفع العين ولا دفع المثل إذا كان المثل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/387)
لا يتيسر في ذلك البلد وكان حمله إلى ذلك البلد فيه مئونة، فأنت إذا تأملت أن حمل هذا الشيء إلى جدة يكلفه خمسمائة، فصار كأنه استدان منه مائة صاع فقضاها مائة صاع وخمسمائة، وصار يستفضل على دينه، وصار شرطاً جر منفعة، والشروط التي تجر المنافع تعتبر محرمة. لكن إذا اشترط عليه في المثمونات التي في حملها مئونة أن يسدده في بلد غير بلده وفي حمله إلى ذلك البلد مئونة، فحين نقول: ينتقل إلى القيمة، يرد السؤال: إذا قال له: هذا الطن من الحديد تأخذه مني في مكة وتقضيه لي في المدينة، وقلنا: إنه يلزمه أن يدفع قيمته بدلاً عن مثله، فالطن الحديد مثلاً في المدينة قيمته أكثر من قيمته في مكة، فهل العبرة بمكة أو بالمدينة؟ الجواب: من حيث الأصل لا يلزم من استدان منك أن يعطيك ما في حمله مئونة في البلد الذي اشترطته، وإن ألزمته بذلك يُنتَقَل إلى القيمة؛ لأننا إذا ألزمناه بالعين صار الحمل مئونة، وإذا ألزمناه بالمثل سيتضرر بحمل المثل إلى بلد القضاء، وغالباً ما تقع هذه المسألة، إذا كان البلد الذي اشترط عليه القضاء فيه ليس فيه نفس الشيء، أما لو كان فيه نفس الشيء فلا إشكال، يأخذ هذا الشيء ثم يذهب إلى البلد ويقضيه نفس الشيء، لكن حين لا يكون في البلد نفس ذلك سواءً كان من طعام أو غيره، فقال له: اقضني في مكة وقد استدان منه في المدينة، أو اقضني في المدينة وقد استدان منه في مكة، فمعناه: أنه سيتحمل مئونة الحمل إلى مكة، فصار فضل زيادة مشترطة في الدين وهذا محرم، وفي هذه الحالة يعدل إلى القيمة، ويلزمك أن تدفع قيمة الدين. إذاً: الأمر إما أن تكون قيمة الدين في مكة هي قيمته في المدينة فلا إشكال، فلو أن الطن الحديد الذي أخذه منك قيمته في مكة عشرة آلاف ريال، وقيمته في المدينة عشرة آلاف ريال، فيلزمه أن يدفع عشرة آلاف ريال ولا إشكال، أي: لم يقع ظُلِم على المدين، ولم يطالب بأن يعطيك عين السلعة؛ لأنها غير موجودة؛ لأنه استنفدها، ولا يلزمه أن يعطيك المثل؛ لأنه لو جاء يعطيك المثل في البلد المتفق عليه فإنه حينئذٍ يستضر بالحمل وصار قرضاً جر نفعاً، ولكن يلزمه أن يدفع لك القيمة، وإذا لزمه أن يدفع لك القيمة فحينئذٍ يرد السؤال هل العبرة ببلد القرض أم العبرة ببلد الوفاء؟ إن اتفقت القيمة لا يرد هذا السؤال، بمعنى: إن كانت قيمته في مكة هي قيمته في المدينة لا إشكال، لكن إن اختلفت القيمة فحينئذٍ هل العبرة ببلد الدين الذي أعطاه فيه الدين أم العبرة ببلد الوفاء؟ الجواب: العبرة ببلد الدين. وقوله: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] إذا كان الدين في بلد القرض أنقص فحينئذٍ تلزمه القيمة، فقلنا: يدفعها ببلد القرض الذي هو مكة، فإن كانت أنقص في مكة بأن كانت قيمتها عشرة آلاف، وفي المدينة قيمة القرض عشرون ألفاً، فحينئذٍ يدفع بقيمة بلد القرض، وقول بعض العلماء: [إن لم تكن ببلد القرض أنقص] خطأ، والصواب: أكثر، إن لم تكن ببلد القرض أكثر، وفي هذه الحالة عكس المسألة وجعل البلاء على المقرض وأعتد ببلاء المقرض على حساب المقترض، والأول له وجهه والثاني له وجهه، وإن قيل: إن العبرة ببلد القرض لا إشكال في صحته واعتباره زائداً أو ناقصاً؛ لأن الحق ثبت في بلد القرض، وبعض العلماء يرى أن العبرة ببلد الوفاء، ويلزمه بقيمته في بلد الوفاء، سواءً كانت أكثر أو أنقص.
الأسئلة ...... حكم تأخير الدين السؤال: ما حكم تأخير الدين؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالواجب على المسلم إذا استدان من أخيه المسلم ديناً ألا يؤخره، وأن يبادر بالسداد عند حلول الأجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا قضى)، ومن السماحة أن ترُد الدين في أجله، وأن لا تزيد على هذا الأجل فتماطل وتؤخر، فتأخير الدين عن وقته للقادر الذي يستطيع السداد محرم، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (مطل الغني ظلم يحل لومه وعرضه) قال العلماء: في هذا دليل على أن الرجل إذا استدان منك ديناً، وحل الأجل وهو قادر على السداد وامتنع أن يسدد، فهو آثم بهذا، ويحل لك أن تغتابه وتقول: فلان ظالم، فيجوز إذا اشتكاه أن يقول: فلان ظلمني، أو يذهب إلى أبيه أو قريبه أو من له عليه قوة، ويقول: اردع فلاناً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/388)
وأمره أن يفي فإنه ظالم، فقوله: إنه ظالم، فيه أذية ولكنها تجوز لمكان الظلم، وفيه سوء، والله تعالى يقول: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]. فتأخير الناس في حقوقهم والمطل في ذلك محرم، كما أجمع العلماء على ذلك، وقال بعض أهل العلم: من امتنع من سداد ديون الناس وهو قادر على السداد عند حلول آجالها محق الله البركة من ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فتوعد من ظلم الناس في أموالهم وحقوقهم، ولا شك أن من الظلم أن يمتنع الإنسان من السداد. الأمر الثاني: أن تأخير الدين والمماطلة به والتلوم فيه مع القدرة على السداد يضر الإنسان، فلربما كان صاحب الدين يحتاج إلى هذا المال لعلاج أو طعام أو مصالح يريد قضاءها فيعطله عن هذه المصالح ويؤذيه فيها، وهذا لا شك أنه ضرر عظيم. الأمر الثالث: أن كل من استدان ديناً فإن نفسه تتعلق بذلك الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) ولذلك لا ينفك هذا الرهن إلا بسداد الدين، ومن هنا قال العلماء: من مات حلت ديونه، فالميت إذا مات وجب أن تسدد ديونه فوراً وتحل ديونه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في أول الإسلام كان لا يصلي على ميت عليه دين لم يترك وفاءً، فقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل عليه ديناران لم يترك وفاءً، فقال: ما دينه؟ قالوا: ديناران، قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو قتادة: فلم يزل يلقاني في سكك المدينة ويقول لي: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد حتى لقيني ذات يوم، وقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته) وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهذا أمر عظيم. وقد اختلف العلماء في قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينة) قالوا: إنه ينحبس عن النعم حتى يسدد دينه، وهذا أمر عظيم، فالرهن أصله الحبس: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أي: مرهونة، فعلى هذا لا يجوز أن يؤخر ويماطل، ومن السنن العجيبة أن الشخص إذا يسر الله له القضاء فماطل وأخر فإن الله لا يوفقه للقضاء إلا فيما ندر، ولذلك قل أن تجد صاحب تجارة يأخذ الأموال من الناس ولا يبادر بسدادها إلا وجدته يدخل من دين إلى دين ومن دين إلى دين حتى تستنفد تجارته ويصبح رأس ماله في التجارة أقل بكثير من الدين، فعلى الإنسان أن يتقي مثل هذه الأمور، وإذا قدر على السداد أن يبادر بسداد أموال الناس ورد حقوقهم إليهم كاملة حتى يكون ذلك من باب الوفاء وأداء الحقوق إلى أهلها، والله تعالى أعلم.
حكم بيع التمر وهو في رءوس النخل السؤال: في بيع التمر وهو في رءوس النخل أليس في هذا جهالة في المقدار؟ الجواب: في بيع الثمار يباع الثمر على رءوس النخل خرصاً، يأتي الرجل الخبير ويخرص، وكل فلاح يعلم هذا، أنه إذا جاء أحد يريد أن يشتري ثمرة بستانه، لا يأتي وحده إلا إذا كان عنده خبرة ومعرفة، أما إذا لم تكن عنده خبرة فيأتي برجل له خبرة بالثمرة وبالسوق، فينظر في النخل ويقول: هذا النخل يخرج منه مثلاً: ثلاثة آلاف صاع، وهذه الثلاثة آلاف صاع غالباً تكون قيمتها إن كان السوق طيباً مثلاً: ثلاثين ألفاً، وإن كان السوق وسطاً تكون القيمة مثلاً عشرين ألفاً، وإن كان السوق رديئاً تكون القيمة عشرة آلاف، فيعطيك سعراً تقريبياً، إذاً: إنما جاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه على سبيل الاستثناء، ولذلك لا يرد عليه ما يرد على الأصل. ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: بيع الثمرة على رءوس النخل مستثنىً من بيع الغرر؛ لأن الأصل أن يُعلم قدر المبيع، وأن يكون المشتري على علم بما يكون من الثمرة رطباً كانت أم تمراً، ولكن أُبيح ذلك من باب التوسعة على الناس وهو مستثنىً من الأصل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/389)
استغلال شهر رمضان السؤال: نطلب كلمة توجيهية حول استغلال ما تبقى من شهر رمضان المبارك في طاعة الله سبحانه وتعالى وغير ذلك من الأعمال الصالحات؟ الجواب: نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا فيما بقي من هذا الشهر الكريم، كما نسأله تعالى ألا يختم لنا هذا الشهر إلا بعتق من النار، وفوز بالرحمة والمغفرة والعفو عمّا سلف وكان، ومما أوصي به إخواني ونفسي تقوى الله عز وجل، ومن غيب النية الصالحة في الخير أعانه الله على الخير، ومن كانت نيته على الطاعة والبر قوى الله عزيمته وسدده ووفقه وأرشده، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً [الأنفال:70] فالله تعالى اختار القلوب للنظر، فأول ما أوصي به أن تغيب في سريرتك لما بقي من هذا الشهر خيراً، وأن تعزم في قرارة قلبك أن تعمر هذه الأوقات والساعات واللحظات في طاعة الله ومرضات الله. أما الأمر الثاني: فالحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم لعمارة ما بقي من هذا الشهر في الطاعات والتي من أحبها كثرة تلاوة القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن وفقه الله لحب القرآن، وإذا أردت أن يبارك الله لك فيما بقي من شهرك، بل ويبارك لك فيما بقي من عمرك، فالزم كتاب الله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، طوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رضوانه والجنة، طوبى لعبد عكف على كتاب الله يتلوه قائماً وقاعداً، يتلوه آناء الليل، يتقرب به إلى الله ويرجو به رحمة الله، يقف عند آياته ويخشع لعظاته، ويتدبره ويتلوه حق تلاوته. فخير ما يُوصى به أن يكثر العبد من تلاوة القرآن، فإن أكثرت من تلاوة القرآن أصلح الله قلبك، فإن الله تعالى يقول: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57] وإذا شُفي ما في صدرك، وجعل الله القرآن أنيساً لك وجليساً، فعندها انشرح صدرك للخيرات، واطمأن قلبك بذكر الله والطاعات، وأصبحت مشمراً عن ساعدك في مرضات الله جل جلاله، وما فاز السلف رحمهم الله إلا بتوفيق الله أولاً وآخراً، ثم بتلاوة القرآن، وانظر إلى أفضل الناس طاعة وبراً تجده ملازماً لكتاب الله ليلاً ونهاراً. القرآن مفتاح كل خير، ومفتاح كل بر؛ لأن الإنسان صلاحه كله في قلبه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ولن يصلح هذا القلب إلا بكتاب الله جل جلاله وبكلام الله جل جلاله. فخير ما يوصى به من أراد أن يبارك الله له في رمضان وفيما بقي من أيامه ولياليه أن يكثر من تلاوة القرآن، وأن يحاول ألا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله عز وجل، مع التفكر والتدبر والتأمل، ومع الإشفاق على النفس والإزراء والإحساس بما بينه وبين كتاب الله من النقص حتى يكمله، ومن العيب حتى يستره، ومن الثلمة حتى يسدها، فإذا تلوت كتاب الله فسوف تستشعر أن الله يأمرك ويعظك، فإذا كان حال الإنسان مع القرآن في ليله ونهاره بورك له في شهره، بل بورك له في عمره، ولذلك نجد بعض الناس إذا خرج من رمضان خرج بحفظ القرآن، وكم من سعيد وفق للسعادة باغتنام رمضان في القرآن حتى أصبح القرآن أنيسه وجليسه، لا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره، فيحس أن سعادته كلها في كتاب الله جل جلاله، كان شيخ الإسلام رحمه الله في آخر حياته يبكي ويتحسر على كل لحظة فاتت في غير كتاب الله جل جلاله. القرآن خير كثير، ولن تبحث في سيرة أحد من السلف الصالح إلا وجدتها مقرونة بالقرآن في قيام الليل أو تلاوته في النهار، قال بعض السلف: صحبت عبد الرحمن بن القاسم العتقي رحمه الله -صاحب الإمام مالك - من مكة إلى المدينة والله ما فتر عن تلاوة القرآن، كان السلف يتلون القرآن، وقد أدركت والله أقواماً وهم ذاهبون إلى السوق تسمعهم يتلون كتاب الله عز وجل، وإذا جن عليهم الليل سمعت كتاب الله من بيوتهم ومن حجراتهم، وأعرف أقواماً في ضيق وشظف من العيش ومع ذلك تجدهم أسعد الناس بكتاب الله جل جلاله، أغناهم من الفقر، وأمنهم بفضل الله من الخوف، وألبسهم لباس العافية، فتجدهم أبعد الناس عن الشهوات والشبهات والمذلات بكتاب الله جل جلاله. الوصية الجامعة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/390)
لخيري الدين والدنيا والآخرة: لزوم هذا القرآن: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فالاعتصام بكتاب الله جل جلاله والقرب من هذا القرآن والحب لهذا القرآن واستشعار أنه كلام الله الذي ما نزل أحب إلى الله ولا أكرم على الله في كلامه مثل هذا الكلام وهو القرآن، وقد أجمع السلف رحمهم الله على تفضيل القرآن على سائر الكتب السماوية المنزلة، لفضله وعلو شرفه ومكانته، وأُنزلت آيات منه من كنوز تحت العرش، وهذا فضل عظيم وخير كثير اختص الله به هذه الأمة. فالإنسان السعيد الموفق الذي يريد أن يبارك الله له حتى في حياته وعمره يلزم كتاب الله، وانظر إلى أي ملتزم وشابٍ صالح يستقيم على طاعة الله لن تجده أقوى الناس التزاماً وهداية إلا إذا وجدته ملازماً لكتاب الله يتلوه ويتفكر فيه ويتدبره ويخشع له ويحب سماعه، فلا يفتر عن تلاوة كتاب الله وسماعه وتدبره حتى ينال السعادة ويجدها في نفسه، وهذا هو حال أهل القرآن. فينبغي الإكثار من تلاوة القرآن والإحساس بفضل هذا الكتاب، والإحساس بعظيم ما أنعم الله به على هذه الأمة بهذا الكتاب الذي: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]. أما الوصية الأخرى: فالحرص على أن يكون للإنسان في هذا الشهر حسنة وصدقة بينه وبين الله خفية، من إطعام الجائع، وكسوة العاري، وتفريج كربة المكروب، قال بعض العلماء: إن الله جعل رمضان ليتذكر الغني الفقير، ويتذكر القوي الضعيف، ويتذكر الصحيح المريض، فيتفقد بعضنا بعضاً، ويحسن بعضنا إلى بعض، فتجعل لك في هذا الشهر الكريم بعض الصدقات الخفية، وتجعل صيامك حينما جاعت أمعاؤك وظمئت أحشاؤك يذكرك بالمكروب والمنكوب والجائع، ويذكرك بالأرملة واليتيم، فتكفكف دموع اليتامى، وتجبر قلوب الأرامل والثكالى، وتحتسب الثواب عند الله جل جلاله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فإن المعروف لا يبلى، والخير لا يُنسى، مات أقوام وما ماتت مآثرهم، مات أقوام وهم في الناس أحياء، بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل. تجعل لك من هذا الشهر زاداً للإحسان، فكما أنك تصلح في نفسك بالقرآن، تصلح لغيرك بحسنة أو بصدقة، فإن لم تستطع من نفسك وأمكنك أن تشفع عند من يقبل الشفاعة منك وتزكي نعمة الجاه التي أنعم الله بها عليك فتدخل السرور على بيت مسلم في هذا الشهر المبارك فنعم ما صنعت، فإن (الساعي على الأرملة كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) ما دمت قد ذقت حر الصيام وألم الصيام ولذة عبادة الصيام، فإن تفريج كربة المكروب وإدخال السرور على الأرملة يعادل ذلك الفضل، كالصائم الذي لا يفطر، فأنت الآن عرفت قيمة الصيام، ووجدت لذة هذه العبادة فاعلم أنه من الخير لك بمكان أن تفرج عن أرملة أو يتيم، ولو بكلمة تشفع بها عند من يمكنه ذلك. كذلك مما يدخل في هذا قضاء الديون وتفريج كربات المكروبين، فإذا علمت أن قريباً أو جاراً لك مديون وتستطيع أن تذهب إلى غني خاصة في هذا الشهر والنفوس مقبلة على الخير وباغي الخير مقبل، فتحتسب عند الله جل جلاله قضاء دين المديون، فإذا علمت أن أخاك مديون أو عنده كربة أو عنده حاجة أو عوز وضيق: (فاشفعوا تؤجروا) فالشفاعة في مثل هذا عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأنك تدخل على بيت من بيوت المسلمين الفرحة والسرور بقضاء دين عليهم أو تفريج كربة أو التوسعة عليهم، وهذا مما يحتسب عند الله جل جلاله، وقد كان بعض السلف يفضل السعي على الناس وتفريج كرباتهم على الاعتكاف في العشر الأواخر، فكان يخرج من معتكفه لتفريج كربة المكروب، وتنفيس نكبة المنكوب، فهذا من أحب وأفضل ما يثقل به ميزان العبد عند الله. فكم من أرملة إذا دخلت عليها وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت، ليس عندها من قريب ولا صديق ولا حبيب يلتفت إلى حالها أو يفرج ما يكون بها من بلائها بإذن ربها، فإذا دخلت عليها في ظلمة ليل أو في ضياء نهار، فأدخلت السرور عليها بإعطاء مال أو إعطاء طعام ووليت ظهرك وهي تشيعك بصالح الدعوات وما تسأل الله لك من جميل المكرمات فإن الله لا يضيع تلك الدعوات؛ لأنها تخرج من القلب الصادق، الكلب -أكرمكم الله- لما مرت عليه بغي من بغايا بني إسرائيل فاستقى، ومن شدة الظمأ كان يلهث الثرى، فنزلت البغي إلى البئر واستقت له بخفها، وفي رواية: (فشكر الله لها) أي: أن الكلب لم يستطع أن يشكرها، عظم جميلها حتى عند الكلب -أكرمكم الله- (فغفر الله لها ذنوبها)، فكيف بالمسلمة وقد تكون أمة صالحة، وقد تكون أمة متعرضة للحرام يعفها الله عز وجل بشفاعة حسنة: (اشفعوا تؤجروا) وكان الناس فيهم خير كثير عندما كانوا متراحمين، وكان القوي لا يغفل عن الضعيف. وأنبه على مسألة تفريج الكربات؛ ففي غالب الأحيان تكون صدقاتنا للفقراء المعروفين، ولكن هناك من يغفل عنهم كثير من الناس ألا وهو الفقراء الأخفياء الذين لا يسألون الناس إلحافاً، ركبتهم ديون وحاجات يفضلون أن يتعرضوا للموت على أن يمدوا كفاً لأحد، قد جعلوا فقرهم إلى الله وغناهم بالله، وقد يكون معك زميل لك وترى من حاله البؤس والفقر وأنت غني ثري وسع الله عليك، وقد تأتيه على طعامه وتطعم من ذلك الطعام الضيق ولا تتحرك في نفسك معاني الرحمة، هذا أمر يشتكى منه، فينبغي أن يحس بعضنا ببعض. ومسألة الشفاعة عند الأغنياء أيضاً أجرها عظيم خاصة في هذا الشهر الكريم؛ لأن نفوسهم مهيأة للخير، ولا يزال الخير موجوداً في الناس إلى قيام الساعة، لكن إذا كان طالب العلم يدخل على أناس
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/391)
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:28 م]ـ
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [1] باب الرهن يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وهو مشروع وجائز بالكتاب والسنة والإجماع، وله حكم عظيمة، منها: حفظ حقوق الناس، وقلة الخصومات والمنازعات، وتسهيل المداينات، وإشاعة روح التكافل والتراحم والتعاطف بين الناس .. وله أحكام يذكرها العلماء في بابها. الرهن حقيقته ومعناه وأحكامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الرهن]. هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة المتعلقة بأحكام الديون، وذلك أن المداينات إذا وقعت بين الناس، قد يحتاج فيها صاحب الدين إلى شيءٍ يستوثق به من حقه، وهذا هو الذي يقوم عليه الرهن، فبعد أن بيّن المصنف رحمه الله أحكام بيع السلم، وأتبعها بأحكام القرض، بين بعد ذلك أحكام الرهن. والرهون توضع غالباً عند أصحاب الديون، أو من يقوم مقامهم من الوكلاء والأمناء، الذين يتفق عليهم الطرفان، وهذه الرهون يُقصد منها أن يستوثق صاحب الحق من حقه، فلما فرغ رحمه الله من بيان أحكام الدين، شرع في بيان أحكام الرهن، لتعلقه بباب الدين. والرهن له معنيان: لغوي واصطلاحي، أما المعنى اللغوي: فإنه يدور حول الدوام والثبات والاستقرار، ومنه قولهم: نعمة راهنة، أي: محبوسة، وماء راهن، أي: راكد دائم ومستقر. ومن معانيه: المنع والحبس، ومنه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، أي: مرهونة ومحبوسة بما فعلت من خيرٍ أو شر. وأما المعنى الاصطلاحي: فقد عرّفه بعض العلماء بقولهم: استيثاق الدين بالعين، ليُستوفى منها عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه. فقولهم: (ليُستوفى منها)، أي: من العين أو من ثمنها. وقولهم: (عند العجز عن السداد، أو الامتناع منه)، هذا قيدٌ مهم، ولذلك ذكره طائفة من الفقهاء رحمهم الله. وقولهم: (استيثاق الدين بالعين)، معنى هذا: لو أن رجلاً جاءك وقال: أريد منك مائة ألف ريال ديناً، وأنت قد تخاف أن يعجز عن سداد هذا المبلغ، وقد تخشى من مماطلته، أو من عُسره مستقبلاً، وأنت محتاج إلى هذا المال، ولا تستطيع رده، ومن هنا جاز أن تستوثق من دينك بعينٍ تطالبه برهنها، فتقول له: أعطني رهناً، فإذا قلت: أعطني رهناً، فكأنك تريد شيئاً تستوثق به من حقك، فأنت مستعدٌ للدين، وعندك الرغبة أن تدينه وتعطيه المال الذي طلب؛ ولكنك تخشى من عجزه عن السداد أو امتناعه منه، وحينئذٍ تطالب بهذه العين، حتى إذا عجز أو امتنع من السداد، أمكنك أن تبيع هذه العين التي رُهنت لقاء الدين، وتصل إلى حقك، من ثمنها، إما كل حقك، أو بعض حقك على حسب الرهن الذي رضيت به كاملاً أو ناقصاً. إذا: هذا هو استيثاق الدين بالعين، فعندنا دين وهو المائة ألف ريال، وعندنا عين مرهونة، وهي العمارة -مثلاً- فاستوثق صاحب الدين بالعين وهي العمارة، والأصل بينهما أنه إذا عجز عن السداد وحضر الأجل، فإنه يحق لصاحب الدين أن يبيع العمارة، أو يكون ذلك عن طريق القضاء، فيرفع أمره إلى القاضي، أو بدون قضاء، كأن يقول المديون له: إذا لم أسددك في محرّم فبع العمارة وخذ حقك، فيقول: قبلت، فحينئذٍ استوثق من دينه بالعين، لكي يستوفي من العين في حال عجزه عن السداد. ولذلك عندما يُقال: ليُستوفى منها، هكذا بإطلاق، هذا خطأ؛ لأنه قد يسدد المديون الدين، وحينئذٍ لا نحتاج إلى بيع العمارة، إذاً القيد الذي ذكروه في التعريف: عند العجز عن السداد أو الامتناع منه، قيد مهم؛ لأنه لا يتدخل صاحب الدين في هذه العمارة فيبيعها ويتصرف فيها، إلا إذا عجز المدين أو امتنع من سداده حقه. ...... مشروعية الرهن الرهن مشروع وجائز، وقد دل على جوازه دليل الكتاب، ودليل السنة، وإجماع الأمة، فإن هذا النوع من المعاملات المالية شرعه الله في كتابه، فقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فقوله سبحانه: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، يدل دلالة واضحة على أنه إذا أراد صاحب الدين أن يستوثق بدينه بالعين وبالرهن فإن ذلك مشروع وجائز. كما دل دليل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/392)
وذلك كما في الصحيح من حديث أنس: (أنه عليه الصلاة والسلام توفي ودرعه مرهونة في آصُعٍ من شعير، استدانها عليه الصلاة والسلام من يهودي)، فقد استدان من اليهودي هذا القدر من الطعام، ورهن عنده درعه، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: (الرهن محلوبٌ ومركوبٌ بنفقته)، فبيَّن أحكامه وآثاره، فدلّت هذه السنة على مشروعية الرهن، وقد كان الناس في الجاهلية يرهنون، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّهم على ذلك، فاجتمع دليل الكتاب ودليل السنة القولية والفعلية والتقريرية. أما دليل الإجماع: فإن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن الرهن مشروع، لكنهم اختلفوا في جواز الرهن في الحضر، فمنهم من يقول: هو مشروعٌ مطلقاً، سواءً كنت في سفر أو كنت في حضر، أي: أنه يجوز للمسافرين أن يرهنوا، ويجوز للمقيمين أن يرهنوا، فلو أن اثنين في داخل المدينة استدان أحدهم من الآخر مالاً، فطلب منه رهناً، شُرع ذلك. وقال بعض السلف -كما هو قول مجاهد وغيره-: إن الرهن لا يجوز إلا في السفر، وهو قول ضعيف؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، ورهن في الحضَر، فدلّ على مشروعية الرهن في داخل المدن، وأنه لا يختص جوازه بالسفر على ظاهر القرآن، والجواب عن آية البقرة، وهي آية الدين: أنها جاءت بالوصف الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب، فإنه لا يعتبر مفهومه، بمعنى: أن الآية بيّنت حكم الرهن في السفر؛ لأن الغالب أن الرهن يُحتاج إليه في الأسفار، وأما بالنسبة للحضر، فغالباً ما يكون التعامل بين الأشخاص الذين يأمن بعضهم ببعض ويثق بعضهم بعضاً، وتكون التجارات بينهم حاضرة في الغالب، والنص -كما سبق- إذا خرج مخرج الغالب لم يُعتبر مفهومه. أو نقول: دل الكتاب على مشروعية الرهن في السفر، ودلّت السنة على مشروعية الرهن في الحضر، فهذا نوع من الرهن، وهذا نوع من الرهن، فلا بأس أن يرهن في الحضر، كما لا بأس أن يرهن في السفر.
الحكمة من مشروعية الرهن المسألة الثانية: إذا عرفنا أن الرهن مشروع وجائز بإجماع المسلمين، وبهذه الأدلة الشرعية، فقد شرع الله عز وجل الرهن للناس لحكم وفوائد عظيمة، منها: أن صاحب الدين يستوثق بدينه، وهذا يجعله في طمأنينة، ومن هنا لما وُجِد الرهن في الشريعة الإسلامية، وأمكن للمسلم أن يجد شيئاً يحفظ به ماله، أو يحفظ به حقه عند العجز عن السداد، فإن هذا يشجع الناس على الدين، ويجعل الثقة بينهم قوية، ومن هنا يكون صاحب الدين في مأمن من ضياع حقه. ومن حكم هذا النوع من المعاملات: تسهيل المداينات، وإذا سهُلَت المداينات انتفع أفراد المجتمع، وهذا فيه نوع من التكافل، ونوع من التراحم والتعاطف؛ لأن المسلم إذا وجد من يعطيه المال في ساعة الحاجة، فإنه يشكره ويحبه ويذكره بالخير، وهذا يجعل القلوب يعطف بعضها على بعض، ويحب المسلمون بعضهم بعضاً. فمن هنا استوثق صاحب الحق من حقه، وانتفع أفراد المجتمع، فانتشر بينهم الدين، وهي مصلحة دنيوية؛ حيث يقضون مصالحهم الدنيوية، ومصلحة دينية؛ لأنها تُحدث شيئاً من المحبة والألفة والأخوَّة، والشعور بالرحمة والمودة والتعاطف بين أفراد المجتمع، خاصة المعسر والضعيف إذا انتابته النوائب، ووجد من يفرج كربته بعد الله عز وجل بإعطائه المال. ومن الحكم: أن المدين إذا كان لديه رهن، فإنه يحفظ ماء وجهه، ويمكنه أن يستدين ممن شاء، فيقول له: أعطني المال وهذا رهن لقاء مالك، ولقاء دينك، وحينئذٍ يتمكن من الوصول إلى بغيته وحاجته بالدين، أي: أن الشرع يمكِّنه من حاجته، ويمكِّنه من سد عوزه وفاقته عند النوائب، وذلك عن طريق استيثاق الدين بالعين، فإنه إذا شعر أنه يخاطب الناس بما يضمن حقوقهم، أمكَنه أن يسألهم حاجته، ولا شك أن الرهن محقق لهذه الفائدة العظيمة. ومن الحكم: أن في الرهن عدلاً وقطعاً للتلاعب بالحقوق، فإن المديون إذا دفع العين، سواءً كانت سيارةً أو أرضاً أو طعاماً، وجعلها رهناً؛ فإنه ربما كان متلاعباً بحقوق الناس، ويريد أن يأكل أموال الناس، فإذا وضع الرهن انقطع السبيل عنه، ومُنِع من التلاعب بحقوق الناس، فإذا جاء من يتلاعب بحقوق الناس ليستدين؛ قيل له: ادفع الرهن، فإذا دفع الرهن؛ فإن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يضيع حق صاحب الحق. ومن هنا فإن شرعية الرهن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/393)
تقطع وتمنع من التلاعب، ومتى ما قيل لك: إن فلاناً لا يسدد، أو إن فلاناً يتلاعب بالحقوق، أو إن فلاناً مماطل أو نحو ذلك، فإنه إذا جاء يطلبك ربما أحرجك، وربما جاءك بشخص لا تستطيع رد شفاعته، فحينئذٍ أعطاك الشرع شيئاً تضمن به حقك، فتقول له: أعطني رهناً، لا مانع عندي أن أعطيه الدين، ولكن بشرط أن يعطيني رهناً لقاء حقي، فإذا قلتَ: أريد الرهن؛ لم يعاتبك أحد، ولم يستطع أحد أن يصفك بالظلم؛ لأنك لا تطالب أكثر من حقك، وعلى هذا: فلا شك أن في الرهن الخير الكثير. ومن الحكم: أن في الرهن منعاً للأذية والإضرار؛ لأن المديون إذا عجز عن السداد مع عدم الرهن، فإن الخصومة، والأذية تقع بين الناس؛ لكن إذا وُجِد الرهن، فسيقول له: بِع الرهن وخذ حقك، فالرهن يقطع أسباب الخصومة وأسباب النزاع. وأياً ما كان فإن الله عز وجل شرع الرهن، وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، فهو يعلم ولا نعلم، ويحكم ولا معقِّب لحكمه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]. والحكم من مشروعية الرهن كثيرة والأسرار لا شك أنها موجودة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أهمية معرفة أحكام الرهن يقول المصنف رحمه الله: (باب الرهن) أي: كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرهون، وأنت كطالب علم تحتاج أن تبحث هذا الباب، وكدارسٍ في الفقه تحتاج أن تلِمّ بهذه المسائل والأحكام، فإنه يأتيك الرجل ويريد أن يستدين من الناس فتنصحه بالرهن، أو يأتيك الرجل ويريد أن يدين الناس فتنصحه بالرهن، وكذلك أيضاً إذا أراد الرهن سألك: ما الذي يجوز رهنه؟ وما الذي لا يجوز رهنه؟ ثم إذا رُهن هذا الشيء، فهل من حقي أنا صاحب الدين أن أنتفع برهني، أو ليس ذلك من حقي؟ كذلك أيضاً صاحب الدين الذي له الدين على المدين، هل من حقه أن ينتفع بالشيء المرهون عنده، أو ليس ذلك من حقه؟ كذلك أيضاً يسألك لو أن هذا الرهن نما وزاد وكثُر، فهل تكون الزيادة المتصلة أو المنفصلة للدائن والمدين أو تكون لأحدهما؟ هذا كله من المسائل التي يُحتاج إلى بحثها، ومن هنا نجد العلماء رحمهم الله يقولون: باب الرهن.
حكم الرهن وحالات الدائن مع المدين وحكم الرهن الجواز، فليس بواجب، ولا فريضة، بمعنى إذا أراد الشخص أن يعطي الناس الدين، فإنه لا يخلو من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون الذي يطلب الدين موثوقاً به، فحينئذٍ لا تحتاج إلى رهن، فتقول له: خذ مائة ألف، ومتى ما يسّر الله لك سدادها فسدِّد، وهذا جائز بإجماع العلماء رحمهم الله. الحالة الثانية: أن يكون الشخص الذي يأخذ منك المال لا تعرفه، أو شخص تعرفه بالمماطلة، وتخاف على المبلغ الذي طلبه منك، فحينئذٍ أنت بالخيار، إن شئت طلبت الرهن، وإن شئت لا تطلب الرهن، والأفضل إذا كنت تعلم أنه محتاج وأنه مكروب، وأن هذا المال الذي يطلبه منك ليس فيه ضرر لو تأخر في سداده، فالأفضل أن تعطيه إياه بدون رهن؛ لأن الرهن يحمِّله المشقة والعناء، وقد يكون الشيء الذي يريد رهنه غير موجود عنده، ومن هنا يُفرَّق في الرهن، فإن كان الذي يريد منك الدين رجلاً عاجزاً، ولا يستطيع أن يعطيك رهناً؛ لأنه ليس عنده شيءٌ له قيمة حتى يضعه رهناً عندك؛ فالأفضل والأكمل أن تديِّنه ولا تطالبه بالرهن، وكفى بالله عز وجل وكيلاً، فإن الله يتكفل بحفظ حقك، وما دمت تعرفه بالصلاح والخير، فإنه إن شاء الله لن يُقصِّر ولن يمتنع في إبراء ذمته. أما إن وجدته مماطلاً، ووجدته رجلاً متلاعباً بحقوق الناس، وأحرجك بالدين، أو جاءك بإنسان لا تستطيع أن ترد شفاعته، فالأفضل في مثل هذا أن توقفه عند حده فتطالبه بالرهن، حتى يكون ذلك مانعاً له من تلاعبه بحقوق الناس، وأدعى لسد الباب من أن يُضر بك في ادعائه الحاجة إلى الدين؛ لأن بعض الناس قد يدعي الحاجة إلى الدين، وهو ليس بحاجة إليه، وقد يطلب الدين وهو لا يريد السداد. فحينئذٍ يقول العلماء: حكم الرهن جائز، ولكن في بعض الأحيان الأفضل أن لا تطالب بالرهن من الفقير المعدم، ونحو ذلك ممن له فضل عليك، كخاصة القرابة: كالأعمام، والأخوال، ومن لهم حق كبير، فإن طلب الرهن من هؤلاء فيه إجحاف، وأما إذا كان من الصنف الذي ذكرنا؛ فإن الأفضل أن يطالب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/394)
الإنسان بالرهن، وذلك راجع إليه على سبيل الفضل لا على سبيل الفرض.
أركان الرهن وشروطه للرهن أركان: أولاً: هناك راهن، وهو الشخص المديون. ثانياً: هناك مُرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، وقد يكون صاحب الدين، أو من يقوم مقامه. ثالثاً: هناك شيءٌ مرتَهن، وهي العين التي توضع كرهينة. رابعاً: هناك صيغة. فهذه أربعة أركان: الراهن، والمرتَهَن، والشيء المرتَهَن، والصيغة التي يقوم عليها الرهن. أما الراهن فيشترط أن يكون ممن له أهلية التصرُّف في المال، فلو جاءك طفل صغير، وقال لك: أعطني عشرة ريالات، وهذا القلم رهن عندك، فالطفل ليس من أهل التصرُّف، وليس ممن يصح رهنه، فإذا كان الطفل لم يبلغ، فإنه لا يحق له التصرف في المال إلا إذا قارب البلوغ، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على الصبي المأذون له بالتجارة. إذاً: الرهن لا يصح إلا من شخصٍ هو أهل للتصرف. وبناءً على ذلك فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، فلو أن مجنوناً جاء بسيارةٍ -ولو كان يملكها- أو رجلاً في حال سكره، أو حال تعاطيه لمخدِّر أو نحوه مما يزيل العقل -والعياذ بالله! - جاء ورهن عمارته في دين، أو نحو ذلك، فإن الرهن لا يصح ممن هو ليس بأهلٍ للتصرف. كذلك يشترط أن يكون له أهلية التصرُّف في الشيء الذي يريد رهنه، فلا يرهن مال غيره، كأن يقول: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى مكان ما، فأخذ سيارتك ثم ذهب واستدان عشرة آلاف ريال، ووضع سيارتك رهناً، وحينئذٍ لو ثبت عند القاضي أن السيارة سيارتك، فإنه يُسحب هذا الرهن ويُلغى، ويطالب بالبديل على تفصيلٍ سيأتي إن شاء الله في مسألة فوات الشيء المرتهن. إذاً لا بد في الشخص الراهن أن يكون أهلاً للتصرُّف. كذلك بالنسبة للمرتَهَن، وهو الشخص الذي يوضع عنده الرهن، يشترط أيضاً أن يكون أهلاً للتصرف. أما بالنسبة للصيغة، فهي الإيجاب والقبول، وهي التي يقوم عليها عقد الرهن، كأن يقول له: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فيقول: قبلت. فقول الراهن: سيارتي هذه رهن، هذا هو الإيجاب، وقول صاحب الدين: قبِلت، هذا هو القبول. والشيء المرتهن يشترط فيه أن يكون مما يجوز بيعه، فإذا كان مما يجوز بيعه، فإنه يجوز رهنه، حتى لو قال: خذ كتابي، وقلمي، وساعتي، بل حتى النظارة، كأن يأتي ويشتري من البقالة، ولا يجد شيئاً كبيراً يرهنه، فيضع مثلاً شيئاً له قيمة، كالنظارة ونحوها. إذاً: لدينا العاقدان، والصيغة التي هي الإيجاب والقبول، والشيء المرتَهَن الذي هو محلٌ للرهن. وبالنسبة للصيغة يقول بعض العلماء: يمكن أن يقع الرهن بالتعاطي بدل الإيجاب والقبول، فكما أن البيع يقع بالتعاطي، فإنه ينعقد الرهن بالتعاطي دون إيجابٍ ولا قبول. وقد قدمنا أن البيع يجوز بالتعاطي: ينعقد البيع بما يدل على الرضا وإن تعاطى الكل ومثال التعاطي في الرهن: لو جاء شخص وقال لآخر: أعطني عشرة دراهم ديناً إلى غد، وخذ هذه الساعة، فصاحب الدين أخذ الساعة ولم يقل: قبلت، أو رضيت، بل أعطاه العشرة مباشرة، فبإعطائه العشرة كأنه قال: قبلت أن أديِّنك العشرة، وقبلت الساعة رهناً إلى السداد. إذاً: يقع الرهن بالأفعال، كما يقع بالأقوال .. هذا بالنسبة لمجمل أركان الرهن.
صحة الرهن في كل ما يجوز بيعه قال رحمه الله: [يصح في كل عين يجوز بيعها]. قوله: (يصح) أي: أن الرهن يمكن أن يكون في أي شيءٍ يمكن بيعه، ويشمل هذا: العقارات، والمنقولات، والمثمونات، فلو قال له مثلاً في العقارات: أرضي رهنٌ، كأن يستدين مائة ألف ويجعل الأرض -مبنية أو غير مبنية، أو مزرعة- رهناً إلى السداد، فإنه يصح وينعقد؛ لأن الأرض يجوز بيعها، وكذلك أيضاً الطعام، فلو قال له: أعطني ألف ريال إلى نهاية هذا الشهر، وهذا الكيس من الأرز رهن عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ كان الرهن من جنس المطعومات، وهكذا بالنسبة للمنقولات: كالسيارات، والدواب، فلو قال له: أعطني عشرة آلاف ريال، وسيارتي هذه رهنٌ عندك، فقال: قبلت، فإن السيارة يجوز بيعها، فيجوز رهنها، وقس على هذا غيره، سواءً كان الشيء المرهون له قيمة مرتفعة أو دون ذلك، فما دام أنه يجوز بيعه فإنه يجوز رهنه. أما لو كانت العين لا يجوز بيعها؛ كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، فإنه بالإجماع لا يجوز رهنها، مثاله: لو قال له: أعطني ألفاً وهذا الحيوان المحنَّط الميت رهن حتى أسددك،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/395)
لم يصح؛ لأنه لا يصح بيع الميتات، فلا يصح رهنها. إذاً: الميتات، الخمر، الخنزير، والأصنام، ونحوها، كل هذه الأشياء لا يجوز بيعها، فلا يجوز رهنها. كذلك أيضاً لو قال له: أعطني عشرة آلاف وأرهن عندك بعيري الشارد، أو عبدي الآبق، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يجوز بيع البعير الشارد ولا العبد الآبق، ولو قال له: أعطني ألفاً والسمك الذي في هذا الماء رهنٌ عندك، لم يصح؛ لأنه غير مقدورٍ على تسلُّمه، فكل هذه الأشياء التي لا يجوز بيعها لا يجوز رهنها. ...... جواز رهن المكاتب قال رحمه الله: [حتى المكاتَب]. أي: حتى المكاتَب يجوز رهنه، فإن الشخص المكاتَب الذي كاتبَه سيده، وكانت قيمته مثلاً عشرة آلاف ريال، فقال لسيده: أنا أشتري نفسي منك بعشرة آلاف ريال، أدفع لك كل شهر ألف ريال، فقال له السيد: قبلت، ثم إن هذا السيد احتاج إلى دين مقداره عشرة آلاف ريال، فقال السيد لصاحب الدين: قد رهنت عبدي فلاناً، مع أن العبد مكاتب، قالوا: يجوز ذلك؛ لأن المكاتَب عبد حتى يتخلَّص من الرق بدفع آخر أنجم الكتابة، أما إذا لم يدفعها فإنه يسري عليه حكم المملوك؛ لأنه وما ملك ملكٌ لسيده حتى يتم السداد على ما اتفقا عليه، فعقد الكتابة في أوله جائز، ولكنه يئول إلى اللزوم عند تمام السداد.
صور الرهن قال رحمه الله: [مع الحق وبعده بدينٍ ثابت]. قوله: (مع الحق وبعده) أي: يصح رهن كل شيءٍ يجوز بيعه مع الحق الذي هو الدين، أو بعده. والعلماء رحمهم الله يذكرون صوراً للرهن: فهناك صورة للرهن قبل الدين، وصورة للرهن مع الدين، وصورة للرهن بعد الدين، هذه ثلاث صور، والقسمة العقلية تقتضيها: فإما أن يعطيه الرهن قبل الدين، وإما أن يعطيه الرهن أثناء الدين، وإما أن يعطيه الرهن بعد أن يستدين منه. فأما الصورة الأولى -نبدأ بها لأنها هي الأصل والمشهورة-: فهي أن يكون الرهن مصاحباً للدين، كأن تقول لرجل: إني بحاجة إلى مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، وأعطيك سيارتي رهناً إلى أن أسددك. فإن رهنك للسيارة وقع مصاحباً لطلبك للدين، فحينئذٍ إذا أعطاك الدين أعطيته السيارة، فالرهن وقع مصاحباً للحق، وهذا بالإجماع جائز ومشروع. أما الصورة الثانية: فهي أن يكون الرهن بعد الدين، كما لو تأخر وتراخى، فقال له مثلاً: هذه مائة ألف، فقال: بعد يوم أو يومين: لقد أعطيتني مائة ألف، وهذه مفاتيح سيارتي أو عمارتي وهي رهن لسداد دينك عند العجز، وقد صح ذلك. أما الصورة الثالثة: وهي أن يكون الرهن قبل الدين، فمن أمثلتها قالوا: إذا كانت لك سيارة عند محمد، وقلت: يا محمد! خذ هذه السيارة أمانة عندك، فأخذها محمد أمانة عنده، ثم احتجت إلى مالٍ من محمد، فجئته وقلت له: ديّنِّي مائة ألف، فأعطاك المائة ألف وقال: بماذا تضمن لي حقي؟ فتقول له: السيارة التي عندك، أجعلها رهناً واستيثاقاً للدين. قال بعض العلماء: إن هذا جائز، وتنتقل اليد من يد الإيداع إلى يد الرهن، وذلك بمجرد الإيجاب والقبول، فتصبح رهناً بعد أن كانت وديعة، ولا يشترط التقابض مرة ثانية لإلغاء اليد الأولى. وسيأتي هذا في باب الضمان، وهو الانتقال من يد الأمانة إلى يد الضمان، وفيه تفصيل عند بعض العلماء رحمهم الله، لكن قالوا: إن هذا يجوز، وشدّد فيه بعض العلماء، كما درج عليه المصنف رحمه الله وقالوا: إنه لا يجوز سبق الرهن للدين، وفي بعض الصور يقوى مذهب المصنف، وخاصة في الصور التي فيها غرر أو فيها جهالة، ولكن إذا كان الأمر أقل غرراً، أو كان الغرر يسيراً، فإنه يصح أن يُقدِّم الرهن على الدين.
عدم صحة الرهن إلا بدين ثابت مستقر وقوله: (بدين ثابت) أي: مستقر، ومثال الدين الثابت: كأن يأتي ويأخذ منك مائة ألف، أما الدين غير الثابت، فهو كالحقوق التي تتوجه ولا تثبت إلا بعد شرط أو بعد صفة، فقبل ثبوت الشروط وهذه الصفة لا يجوز الرهن على مثل هذا الدين. مثال ذلك: لو أن شخصاً ضرب إنساناً مثلاً خطأً، أو صدم بسيارته رجلاً خطأً، فأتلف عليه أحد الأعضاء المثناة، أتلفها إتلافاً كلياً فحينئذٍ تستحق نصف الدية، كما سيأتي -إن شاء الله- في باب الديات، فإذا لزمت الجاني نصف الدية، فإن على العاقلة أن تتحمل فوق الثلث، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعاقلة: هم عصبة الجاني، فهؤلاء العصبة لا يثبت الدين والاستحقاق عليهم إلا بعد ثبوت الجناية،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/396)
أما قبل ثبوت المطالبة على العاقلة، فإنه حينئذٍ لا يستقر الدين، ولا يثبت الحق، فلو أن شخصاً يعلم أنه إذا ثبتت هذه الجناية في المستقبل، أنه سيصير غارماً بعشرٍ من الإبل، أو خمسٍ من الإبل، فذهب إلى المجني عليه، وجعل الرهن لقاء هذا الدين، لم يصح للشخص المجني عليه أخذ الرهن لقاء حقه؛ لأن المجني عليه لم يثبُت حقه بعد، وحينئذٍ ليس من حقه أن يطالبك بالرهن إلا بعد ثبوت دينه، فإن العلماء يقولون: لا يكون الرهن إلا في دين ثابت مستقر، وعليه فإذا كان الدين غير ثابت وغير مستقر فإنه لا يصح الرهن؛ لأنه إيقاع للشيء قبل سببه، والأشياء لا تقع إلا بأسبابها، وذلك كما لو أدى الزكاة قبل الحول، وذلك فيما لو كان في غير التعجيل، فمثلاً: لو أن شخصاً قبل أن يحول الحول الأول الذي تثبُت به الزكاة قدَّم زكاته، لم يصح؛ لأن السبب لم توجد، وكذلك لو أخرج زكاة الفطر قبل غروب يوم السابع والعشرين من رمضان، فإنه لا يصح؛ لأنه لا يصح إخراجها إلا قبل العيد بيوم أو يومين، فإذا أخرجها قبل وقتها الموجب فإنه لا يصح؛ لأنه إنما يعتبر الإخراج مجزئاً إذا تم الشرط المعتبر لصحة الإخراج. فهنا بالنسبة للرهن لا نحكم بصحّته إلا بعد صحة الدين وثبوته، فإذا كان الدين لم يثبت فإن الرهن يتركب من الدين، وعليه قالوا: إنه لا بد من وجود دينٍ مستقر، وإذا لم يكن هناك دين مستقر، وأعطاه رهناً فليس برهن، وإنما هو دينٌ آخر. فلو أن شخصاً ارتَهَن قبل ثبوت الدين واستقراره؛ فإنه في هذه الحالة يصير ديناً لا رهناً، ولا يجري عليه حكم الرهن.
لزوم بقاء الرهن في حق الراهن دون المرتهن قال رحمه الله: [ويلزم في حق الراهن فقط] ذكرنا فيما سبق مسألة العقد اللازم، والعقد الجائز، وبيّنا العقود اللازمة من أول الحال، والعقود الجائزة في أول الحال اللازمة في آخر الحال، والعقود الجائزة في الحالين .. بيّنا هذا في أول الكتاب عند بياننا لأحكام الخيارات. فقوله رحمه الله: (ويلزم في حق الراهن) هذا هو العقد اللازم، وقد قلنا: هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه دون رضا الآخر، وأما العقد الجائز: فإنه يملك كلٌ من الطرفين فسخه ولو لم يرض الآخر، كالشركة مثلاً، فلو جئت في أي يوم من الأيام وقلت: يا فلان! افسخ الشركة التي بيني وبينك، فهذا من حقِّك، بخلاف البيع، فإنه لو باعك رجل داراً بعشرة آلاف وافترقتما دون خيارٍ بينكما، ثم جاءك وقال: لا أريد هذا البيع، فنقول: ليس من حقه أن يفسخ ما تم الاتفاق عليه بينكما؛ لأن الله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، فهذا عقد لازم. فإذا دفع الشخص إليك الرهن وقبضته فإنه يلزمه، وحينئذٍ ليس من حقه أن يسترد هذا الرهن. فمثلاً: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف دَيناً إلى نهاية السنة، فقلت له: ماذا تعطيني رهناً؟ فقال: أعطيك سيارتي هذه، فقلت له: قبلت. وتم بينكما الاتفاق على هذا، فأعطاك مفاتيح السيارة وقبض منك المائة ألف، وبعد أن خرج وافترق إذا به يأتيك في اليوم الثاني ويقول لك: قد رهنتك سيارتي الفلانية، وهذه سيارة مثلها، أو أريد سيارتي وسأعطيك بدل السيارة العمارة، سواءً كانت مثلها أو كانت أكثر أو أفضل منها، فإنه ليس من حقه أن يسحب هذه العين، أو أن يُخليها من اتفاق الرهن الذي بينكما إلا برضاً من صاحب الدين. إذاً: معنى قوله: (يلزم) أي: أنه ليس له خيار، حتى يرضى الطرف الثاني، فلو أبيت وقلت له: لا أريد رهناً إلا هذه السيارة التي جئتني بها، ولا أقبل بدلاً عنها، فهذا من حقك، وليس من حقه أن يسحب هذه السيارة أو أن يأتي بعوض عنها، وتبقى مرهونة إلى أن يتم السداد.
صحة رهن المشاع قال رحمه الله: [ويصح رهن المشاع]. الأشياء المملوكة كالأراضي والسيارات والأطعمة والأكيسة ونحو ذلك، لا تخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون ملكاً لشخص واحد، كأرضٍ يملكها زيد، أو عمارة يملكها عمرو، فحينئذٍ لا إشكال، فاليد واحدة وهي ملك لصاحبها. الحالة الثانية: أن يشترك فيها اثنان أو أكثر، فإذا اشترك فيها اثنان أو أكثر، فهذا يسمى: المشاع، وفي بعض الأحيان هذا المشاع أو المشترك، يكون سبب الشيوع والاشتراك فيه: إما أن يكون من الطرفين؛ كأن يدفعا مبلغاً ويشتريا أرضاً، فلو أنهما اشتريا أرضاً بمائة ألف، هذا دفع خمسين وهذا دفع خمسين، فالاشتراك والمشاع جاء من جهة الطرفين، فقد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/397)
دفعا المبلغ واشتركا. وإما أن تكون هذه الشراكة بدون اختيارك؛ كالإرث، مثاله: شخص توفي عنه والده وترك له ولأخٍ ذكر معه داراً، ولا وارث له غيرهما، فحينئذٍ تكون الدار بينهما، وهذا المشاع وقع الاشتراك فيه بدون اختيار من الطرفين، إنما هو بحكم شرعي، فالله عز وجل جعل هذه الدار ملكاً لهما، فلو أن ابنين اشتركا في دار والدهما، حيث انتقلت ملكية الدار إليهما بعد موت أبيهما، فاحتاج أحد الابنين إلى مبلغ ما، كمائة ألف، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقال: ليس عندي إلا إرث والدي، وهو نصف المزرعة، أو نصف العمارة، أو نصف هذه السيارة، أو نحو ذلك، فقال له: قبلت، فحينئذٍ هذا رهن المشاع، فكما يصح رهن غير المشاع، يصح رهن المشاع؛ لأن الحكمة والعلة تدور حول إمكانية رد الحق عن طريق الرهن، فهذا النصف الذي تركه الوالد للولد يمكن بيعه وسداد الحق منه، كما لو ترك له مالاً منفرداً. وكما أنك إذا ملكت الشيء لوحدك يمكن بيعه والسداد منه، فكذلك إذا كانت الأرض مشاعة بينك وبين إخوانك، فإنه يجوز الرهن؛ لأنه يمكن سداد الحقوق منها، كما يمكن سدادها من المملوكات التي لا اشتراك فيها ولا شيوع.
الأسئلة ...... مشروعية كتابة الدين وعدم وجوبها السؤال: هل كتابة الدين حالاتها مثل الرهن، وذلك أن من يؤمن السداد منه لا ينبغي له أن يطالبه بالكتابة، ومن خشي عدم سداده فإنه يطالبه بالكتابة، أم أن كتابة الدين مسنونة، وتُشرع مطلقاً أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع كتابة الديون؛ لأن هذا أمكن لأهل الحقوق، وأبعد عن الجحد والكذب، وكذلك النسيان، وقد يكون الرجل الذي تعامله أميناً ديناً صالحاً، ولكنه ينسى، وحينئذٍ قال العلماء: إنها تشرع، والأصل أنها مشروعة، ولا شك أنها سنة، فالسنة أن يكتب المديون الدين الذي عليه للناس، ويوثق هذا الدين بشاهدين عدلين ممن ترضى شهادته، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن يُرضى للشهادة. وأما بالنسبة لأحوال الناس من حيث الإنكار وعدمه، فكتابة الدين من حيث الأصل هي للاستيثاق، فإذا أمكن أن يستوثق لدَينه بكتابة المديون في وصيته ونحو ذلك فالأمر أخف، ولذلك قال بعض العلماء: تجب الوصية، ويجب أن يكتب وصيّته إذا كانت عليه ديون لم يستوثق أهله فيها. مثال ذلك: لو جئت إلى صاحب بقالة، وأخذت منه بريال، فإنه لا يجوز لك أن تبيت تلك الليلة إلا وقد كتبت أن لفلان عليك ريالاً؛ لأنك لا تأمن الأجل، وهذا الريال الذي يتساهل فيه الإنسان تتعلق نفسه به، كما ورد في الحديث: (نفس المؤمن مرهونة بدينه)، وقال أبو قتادة رضي الله عنه في قصة الدينارين، حيث أُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ وعليه ديناران، أي: ديناً عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل ترك وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة رضي الله عنه: يا رسول الله! هما عليَّ، فصلَّى عليه عليه الصلاة والسلام، فلمّا مضت الأيام قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني عليه الصلاة والسلام ويقول: هل أديت عنه؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل أديت عنه؟ حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديت عنه؟ قلت: نعم، قال: الآن بردت جلدته). فهذا أمرٌ عظيم، حتى إن قوله: (نفس المؤمن مرهونة بدينه) اختلف فيه بعض العلماء، فبعضهم يقولون: إنه يُرهن عن النعيم، بمعنى: أنه لا يُنعم، بل يُوقف عنه النعيم حتى يُسدد عنه، لأن قوله: (مرهونة) أي: محبوسة؛ لأن الرهن أصله الحبس والمنع، فإذا عبّر بالرهن فمعناه أنها محبوسة عن شيء، ونفس المؤمن لا تُحبس إلا عن خير، ولا تُحبس إلا عن فضل؛ لأن السياق سياق تخويف وتهويل، ولذلك قالوا: إنه يُمنع عن النعيم أو عن شيءٍ من النعيم. لكن ظاهر النص أنها مرهونة، أي: محبوسة في هذا الدَّين، بل قال بعض العلماء: جرّبت الدين فوجدت فيه البلاء وحبس النفس حتى في الدنيا، فإن الرجل يكون عليه الديون وعليه حقوق الناس، فلربما تأخر في السداد فدعا المظلوم عليه، ولربما سها في السداد، أو جاءته النفس الأمارة بالسوء، فأخَّر السداد وهو قادر، فدعا عليه صاحب الدين دعوة، وهو مظلوم؛ لأن مطل الغني ظلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، فإذا امتنع من السداد وهو قادر، فقد ظلم، والمظلوم مستجاب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/398)
الدعوة، قال: فيدعو عليه دعوة قد تكون سبباً في حرمانه من كثير من الخير. وكان بعض يقول العلماء: وجدت في نفسي وجرّبت هذا أنني ما استدنت إلا وجدت غم الدين على قلبي، حتى أؤدي حقوق الناس، ويقول: إنني في بعض الأحيان لا أجد نشاطاً لطلب العلم، ولا أجد راحة في العبادة، لما تتعلق نفسي بحقوق الناس، ولكن ما إن أنفك منها وأسدد للناس حقوقهم، إلا وجدت الانشراح، ووجدت أنني في نعمة؛ فلا أحد يطالبني، وليس لأحد علي من حق. فالبعد عن حقوق الناس ما أمكن هذا أفضل وأكمل. وهذا لا يعني أن الدين مذموم أو محرّم، بمعنى: مذمومٌ ذماً يصل إلى التحريم، لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدان، وهو خير الأمة، واستدان أصحابه والصالحون من بعده، وقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (والله لا أدع الدين منذ أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)، لكن إذا كان للغير عليك حق، وتعلم أنه لا سبيل لإثبات حقه إلا بالكتابة، فعليك أن تكتب في وصيتك، وهكذا إذا تعاملت مع إخوانك وأصحابك، فعليك أن تكتب ما لهم عليك من الحقوق، أو تستعير كتاباً من أخيك، أو تستعير شيئاً من أخيك، فتكتب أن لأخيك كذا وكذا، وإلا ضاعت حقوق الناس. وانظر إلى رجل يأخذ أموال الناس دَيْناً ولا يكتب دينه، حتى إذا توفاه الله عز وجل جاء أصحاب الدين يسألون حقوقهم، فقال لهم الورثة: لا نعرف شيئاً، ما ترك مورِّثنا وصيّة نعلم بها حقوقكم، فماذا سيقول أصحاب الديون؟ سيشتكون إلى الله عز وجل، وربما دعوا على الميت، نسأل الله السلامة والعافية! وهذا لا شك أنه خطرٌ عظيم على العبد، فالواجب على المسلم أنه يحتاط لدينه ويستدرك، فإذا علم أن حقوق الناس لا سبيل لإثباتها إلا بالكتابة كتب، وإذا علم أن ورثته ربما أنكروا، أو ربما زيفوا الكتابة، أو امتنعوا من إعطاء الحقوق، كتب لكل صاحب دينٍِ كتاباً يستوثق به حقه إن جاء يطلبه يوماً من الأيام، والله تعالى أعلم.
توضيح صورة الرهن بعد الدين وحكمها السؤال: ذكرتم -حفظكم الله- أن هناك ثلاثَ صور للرهن مع الدين، وذكرتم صورتين، وبقيت صورة: وهي الرهن بعد الدين، فما توضيح هذه الصورة أثابكم الله؟ الجواب: الرهن بعد الدين كما ذكرنا: أن يتفق معه مثلاً على دين عشرة آلاف ريال، ثم من الغد يعطيه رهناً، فهو في أثناء الدين لم يأخذ منه شيئاً، وبعدها بيوم أو يومين أعطاه الرهن، فإن هذا جائز ومشروع، سواءً وقع أثناء العقد أو بعد العقد، وأما قبل العقد ففيه التفصيل الذي ذكرناه، وإن كان الأصح والأقوى في غالب الصور مشروعية ذلك وجوازه، والله تعالى أعلم.
حكم التصرف في الرهن عند استيفاء أجل الدين السؤال: من الذي يتصرَّف في الرهن عند استيفاء أجل الدين، هل هو الدائن أم المدين؟ وإذا كان الدائن هو الذي يتصرف، فربما لا يُحسن التصرُّف في الرهن كأن يبيعه مثلاً بأبخس الأثمان، فهل هناك من قيد لهذا التصرُّف أثابكم الله؟ الجواب: الأصل أنه إذا أعطاه الرهن فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يقول له: هذه الدار رهنٌ عندك، فإذا لم أسددك فبعها، وخذ حقك منها. فهذا إذنٌ مسبق، وحينئذٍ من حقه إذا انتهى الوقت ولم يعطه حقه أن يبيعها مباشرة، وأن يأخذ حقه. الحالة الثانية: أن لا يأذن له، أو يسكت عن الإذن، فحينئذٍ يُنتظر إلى تمام المدة، ثم يُرفع الأمر إلى القاضي، والقاضي ينظر إلى من لهم معرفة وخبرة، ومن بعد ذلك يحكم، أو يأذن لنفس الشخص إذا كان عنده خبرة ومعرفة أن يبيع، وليست الأمور هكذا مفلوتة، فمثلاً: لو أنه عرض الأمر على القاضي، فإن القاضي يسأل أهل الخبرة: بكم تُباع هذه الدار؟ فإن قالوا: بمائة ألف، فيقول له: اذهب وبعها بمائة ألف، فيذهب ويبيعها، فإذا وجد أنها لا تباع إلا بثمانين، ألزمه بالمائة؛ لأن هذا قول أهل الخبرة، ويُعطى كل ذي حق حقه، فلا يُظلم المديون، ولا يُظلم صاحب الدين، وهذا هو شرع الله عز وجل، أنه يُعطى كل ذي حق حقه، لا يُظلم الإنسان في حقه إذا كان له على الغير، وليس من حقنا أيضاً أن نظلم أصحاب الديون المعسرين في ممتلكاتهم، فتُباع عليهم بالبخس، والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/399)
جواز اشتراط الرهن أثناء عقد الدين أو بعده السؤال: هل اشتراط الرهن ينبغي أن يكون أثناء بذل الدين، أي: في نفس المجلس، أم للدائن أن يضيف شرط الرهن بعد ذلك، خاصة إذا خشي عدم السداد أثابكم الله؟ الجواب: إذا اتفق الطرفان على الرهن في عقد الدين، فإنه لا بأس بذلك، وهو جائزٌ ومشروعٌ بالإجماع، وهكذا إذا سأله الرهن بعد أخذ الدين، وأراد أن يستوثق، فإن له ذلك، ولا بأس به؛ لأن الناس تختلف أحوالهم، فلربما أعطيت الرجل وأنت تظنه أميناً، ثم جاءك الثقة وأخبرك أنه مماطل، وأنه جحود، أو أنه متلاعب بالحق، فأردت أن تستوثق لحقك، فمن حقك أن تستوثق وتطالبه بالرهن. واشتراط وجود الرهن في الدين، سواءً كان في البيع أو كان في القرض، هذا كله من المصالح، ويُعتبر شرطاً شرعياً، فمثلاً: إذا نظرنا إلى ما يترتب على وجود الرهن من المصالح لصاحب الدين وللمديون، فإننا نرى مشروعية ذلك؛ سواءً كان أثناء عقد الدين، أو بعد عقد الدين، فالحكم واحد، والنتيجة واحدة، ولا شك أن الإنسان ربما وثق في أناس على ظاهرهم، ثم تبين له خلاف ذلك، فيريد أن يستوثق من بعد فيشترط الرهن، فهذا من حقه. أما لو وقع اشتراط الرهن أثناء عقد الدين، فإنه يعتبر ملزماً بالدَّين، والله تعالى أعلم.
حكم بيع ما زاد عن حاجة المديون لقضاء دينه السؤال: أشكل عليَّ كلام لأهل العلم رحمهم الله بعدم جواز مطالبة المدين بالدين عند حلول الأجل إذا عُلِم عُسره، فهل تباع داره أو دابته، أم أنها من الضروريات فيُنتظر إلى ميسرته أثابكم الله؟ الجواب: الأصل الشرعي أن الله تعالى وسَّع على المعسر في عسره، فقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، والمؤمنون رحماء بينهم، ولو أن المسلم نزّل نفسه منزلة أخيه المديون، الذي أصابته النوائب، وكثرت عليه البلايا والمستلزمات والحاجيات ونحوها، لو أنه أنزل نفسه منزلته لما رضي أن تُباع داره، ولما رضي أن يؤذى في ماله الذي لا بد له منه، إلا إذا كانت داره أكثر من حاجته، فلو أنه سكن في دارٍ قيمتها مائة ألف، والدين الذي عليه عشرة آلاف، ويمكننا بيع هذه الدار وأن يسكن في دارٍ بخمسين ألفاً، فإنها تُباع داره؛ لأنه زاد عن حقه المحتاج إليه بالمعروف بهذا القدر، فتُباع داره ويترك له ما يسكنه بالمعروف، وهذا مما يقضى فيه بالقاعدة المشهورة: (العادة محكّمة)، فإن كان الذي مثله يعيش في بيت بعشرين أو ثلاثين ألفاً، وذهب هو وسكن في بيت قيمته مائتا ألف أو مائة وخمسون ألفاً، أو حتى بستين ألفاً الذي هو الضعف، وجاء واستدان، ثم قال: أنا مُعسِر، وهو يسكن في هذا المسكن الفاره، أو عنده سيارة يحتاجها لنقل أولاده وعوائله، ولكن هذه السيارة يستطيع أن يستبدلها بما هو أرخص؛ فإنه لا يُعتبر معسراً، ولا يجوز دفع الزكاة إلى مثل هذا الذي يزيد في ماله ما يمكنه أن يُحسن التصرف به، ويسد به عجزه وعوزه، أما لو وجدت الحاجة والضرورة، وأصبح في عوز وشدة، فالحكم لا يخفى أنه يُنظر إلى الميسرة؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، والله تعالى أعلم.
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ... السؤال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)، شمل الحديث البيِّعان في بركة البيع ومحق بركته، فإن كذب أحدهما، فهل يشملهما أثابكم الله؟ الجواب: المحفوظ عند أهل العلم رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبَّر بالمتعاقدين على أن يأتي الخير منهما، أو الشر منهما، ومفهوم ذلك أنه لا يكون هذا من جهة، بحيث لو أن أحدهما كذب فإنه -والعياذ بالله- تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ولو أنه غش فإنه تُمحق البركة في جانبه وحده دون الجانب الآخر، ومن هنا لو باع داراً مغشوشة، ودفع له مائة ألف، وسكنها المشتري، وهو لا يعلم بهذا الغِش؛ بارك الله للمشتري إن كان رضي بهذا الشيء؛ لأنه أعطى المال دون أن يغش البائع، ولكن تُمحق البركة من مال البائع، نسأل الله السلامة والعافية! فالذي يظلم هو الذي يتعلق به محق البركة، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( .. فإن صدقا وبيّنا بورك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/400)
لهما في بيعهما)، هناك من أهل العلم من يقول كلاماً غريباً في هذا الحديث، يقول: إنه إذا كذب البائع، أو كذب المشتري، فمعنى ذلك أنه سيحدث العيب في البيع، والعيب يُستحق به الرد، وحينئذٍ تعلق البلاء بالطرفين، وبناءً على ذلك يكون الحديث على ظاهره، أي: يشمل الطرفين، لكن هذا الجواب لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه في بعض الأحيان يُغش الإنسان ويُدلّس عليه، فيرضى بهذا الغش ويرضى بهذا التدليس، ويبارك الله له في هذه الصفقة؛ بل إن الرجل يشتري الشيء الغالي، ويرى من غشّه وكذبه وبإمكانه أن يؤذيه ويضر به، فيترك أمره لله، فيبارك الله له في هذه الصفقة التي غُبِن فيها بأضعاف، والله عز وجل على كل شيءٍ قدير. ومن طلب العِوض من الله سبحانه وتعالى فيما ينزل به من المصائب أو يحل به من النكبات؛ فإن الله يعوِّضه، وفي الله عِوض عن كل فائت، والله يجبر الكسير، ويجعل له من الخلف ما لم يخطر له على بال، فمن مستقل ومن مستكثر، والناس في الرضا ببلاء الله على مراتب، فمن كمُل رضاه كمّل الله له الجبر، وكمّل الله له الخير والبركة. فالمقصود: أنه لا يمتنع أن تكون هناك بركة في البيع إذا كان أحدهما مظلوماً، وفوّض أمره إلى الله عز وجل، ورضي بما كان، والله سبحانه وتعالى يخلُف عليه بخير، والله تعالى أعلم.
حكم تأخير توزيع الميراث على الورثة السؤال: ما حكم تأخير توزيع الورث على الورثة مع الاستطاعة على التعجيل، أثابكم الله؟ الجواب: لا يجوز لمن يقوم على أموال الموتى وإرثهم، كالإخوان الكبار والأعمام ونحوهم -ممن يلي الأموال والتركات- لا يجوز له أن يؤخر قسمة الأموال دون وجود عذرٍ شرعي، أو رضاً من الورثة، فإذا رضي الورثة، وقالوا: رضينا بأن نبقى شركاء في هذه العمارة، أو رضينا أن نبقى شركاء في هذه المزرعة، فهم ورضاهم، ولا بأس بإبقاء المال، ولو إلى سنوات، بل حتى ولو إلى أجيال، مادام أنهم رضوا بذلك فالمال مالهم، فكما يجوز لهم أن يشتركوا بالطلب، يجوز لهم أن يشتركوا بحكم الشراكة. أما لو أن أحد الورثة طالب بحقِّه، أو عُلِم أنه محتاج، أو بقي محتاجاً مديوناً، ويبقى إخوانه يكتسبون ذلك منه مستغلين حياءه وخجله، فيمتنعون من قسمة المواريث، ورد الحق إلى صاحبه، وإعطاء كل وارثٍ ما تركه له مورِّثه، فهذا من الظلم، خاصة النساء، فإن النساء يُظلمن في هذه الحقوق كثيراً، وتغفل حقوقهن، ولربما أُكلت بالباطل، فلا يجوز مثل هذا، وعلى الأولياء والإخوان أن لا يجاملوا في هذا، ومن علم أن أخاه يريد حقّه، أو أن ظروف أخيه تحتاج إلى مساعدة، وتحتاج إلى مال، وأن من المصلحة بيع المال؛ فإنه يُباع، لكن هناك أحوال يؤخَّر فيها البيع، كأن يكون هناك ضرر على الورثة، كأن يكون السوق كاسداً، والمبلغ يسيراً، وفيه ضرر لو بِيع، ويُرجَّى بعد شهر أو شهرين -دون أن يكون هناك ضرر- أن يتحسن السوق، وأن يُباع بما هو قيمته، فحينئذٍ يجوز التأخير في حدودٍ وفي أحوالٍ معينة، فلا يجوز أن يُمنع الورثة من مال مورِّثهم، بل لقد رأيت من الناس من ترك له مورِّثه مالاً كثيراً، وهو والله يعيش كعيشة الفقير المسكين من تضييق إخوانه الكبار وأذيتهم له، ومحاولتهم احتوائهم للأموال، فإذا كان الرجل بالغاً رشيداً فهو أحق بماله، ومن منعه فقد ظلم، وظلم ذوي القربى أعظم من ظلم غيرهم، وعلى هذا ينبغي على أولياء الأموال أن يتقوا الله في إخوانهم، وأن يتقوا الله في قرابتهم، وأن يقسموا بقسمة الله عز وجل التي قسمها من فوق سبع سماوات.
حكم رهن الموصوف في الذمة السؤال: أشكل عليَّ معرفة المقصود من قول المصنف رحمه الله: (يصح في كل عين)، هل الموصوف في الذمة لا يصح الرهن فيه أثابكم الله؟ الجواب: تقدّم معنا مسألة العين، ومسألة الذمة، وبيّنا أن المعيّن يكون العقد عليه ويفوت بفواته، وأن الموصوف في الذمة يصدُق على كل شيءٍ ينطبق عليه ذلك الوصف. ومسألة قبض الرهن نص الله عز وجل عليها بقوله: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، ولذلك فإن الأصل في الرهن غالباً أن لا يكون إلا بالحاضر، كأن يقول: أرهنك سيارتي هذه، أو أرهنك ساعتي هذه، فهذا رهن الأعيان. وأما إذا سبق قبض الرهن على الدين، فإنه يستقيم أن يكون في الموصوف، وحينئذٍ يكون الاستقبال والاستحقاق مستقبلاً لأخذ الدين وإعطاء العين من الرهن، وعلى هذا يكون في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/401)
الذمة ابتداءً، ولكنه يئول إلى العين انتهاءً عند التعاقد، وحينئذٍ لا بأس، خاصة على مذهب من قال: إنه يجوز أن يتقدم الرهن على الدين، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة في المجلس الماضي، والله تعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [2] من المسائل المتعلقة بباب الرهن: جواز رهن المكيل والموزون والمعدود بشرط أن يقبض، وما لا يشترط فيه القبض في بيعه، فلا يشترط القبض في رهنه، ومن تلك المسائل: عدم جواز رهن ما لا يجوز بيعه، فلا يرهن إلا ما يجوز بيعه، ومنها: عدم لزوم الرهن إلا بالقبض، ومنها: أنه لا يجوز للراهن ولا للمرتهن أن يتصرف في الرهن إلا بإذن صاحبه، ومنها: مسألة نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ومئونته. جواز رهن المكيل والموزون بشرط التقابض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره]. تقدم معنا بيان مشروعية الرهن، وبيان الأركان التي يقوم عليها عقد الرهن، وبيّنا جملة من المسائل والأحكام التي صدّر بها المصنف رحمه الله باب الرهن، وشرع المصنِّف رحمه الله في هذه الجملة ببيان مسألة قبض الرهن، وعدم قبضه، فأول ما يقع بين المتعاقدين أن يقول الراهن: رهنتك كذا وكذا، فيُسمِّي الشيء الذي يريد رهنه، فإذا رضي من له الدين، قال: قبلت، فيقول -مثلاً-: رهنتك سيارتي، أو رهنتك داري، أو رهنتك أرضي، أو نحو ذلك مما يُقال بياناً للمرهون، فإذا بيّن لك الشيء الذي يريد أن يرهنه عندك حتى يُسدد الدين، فإن هذا الشيء ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مما يُكال أو يُوزن أو يُذرع أو يُعد، وإما أن يكون من غير ذلك. فإن كان مما يُكال أو يُوزن أو يُعد أو يُذرع، فإن الرهن لا يتم ولا يكون إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فلا بد أن يعطيك المكيل ويمكِّنك من قبضه، وهكذا الموزون، والمعدود، والمذروع قياساً، فإن كان المرهون مما لا يُكال، فإنه حينئذٍ يصح رهنه قبل قبضه، والأصل في اشتراط القبض أننا نوجب على من يريد أن يرتهن، أن يقبِض الرهن عنده، فإن الأصل في ذلك قوله تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، والأصل في هذه الأشياء التي تُجعل في الرهن، إنما جُعلت من أجل أن يبيعها، وعلى هذا فلا بد أن تُقبض إن كانت من جنس ما يُشترط له القبض، وأما إذا كانت من جنس ما لا يُشترط فيه القبض، فيصح أن يَرهَنها قبل قبضها، وعلى هذا فرّق العلماء رحمهم الله -على ضوء ما تقدم معنا-: بين ما يُشترط فيه القبض، وما لا يُشترط فيه القبض، فما اشتُرط فيه القبض في المبيعات، بحيث لا يصح بيعه منك إذا اشتريته حتى تقبضه كالطعام المكيل والموزون، فلا يصح أن ترهنه قبل القبض، والعكس بالعكس، فالشيء الذي لا يُشترط فيه القبض يصح أن ترهنه قبل قبضه. ...... جواز بيع المرهون عند العجز عن سداد الدين قوله: (على ثمنه)، فإن هذا المرهون حينما يوضع عند الشخص، إنما وُضِع من أجل أن يُسدَّد به الدين عند العجز، وتعذُّر السداد في الأجل، فلو استدان منك مائة ألف، وعجز عن سدادها، فإنه عن طريق هذا الرهن تقوم بأخذ حقك منه، وبناءً على ذلك يرهن على الثمن، ومن هنا فرّع العلماء مسائل الرهن على البيع؛ لأنه إذا عجز الشخص المدين عن سداد الدين، كان من حقك أن تأخذ حقّك من هذا الرهن؛ لأن المقصود من الرهن الوفاء وسداد الدين عند التعذُّر، أو الامتناع من السداد. ...... حكم رهن ما لا يجوز بيعه قال رحمه الله: [وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه]. أي: أن كل شيءٍ يجوز بيعه في الأصل؛ فإنه يجوز رهنه، وكل شيءٍ لا يجوز بيعه؛ فإنه لا يجوز رهنه. والسبب في كون العلماء يجعلون المرهون مبنياً على المبيع: أن المقصود من الرهن عند العجز أن تقوم ببيع الرهن وأخذ حقك منه، أو يقوم القاضي إذا اشتكيت إليه ببيع الرهن وسداد الدين منه، أو يقوم العدل الذي نُصِّب من الطرفين ببيع الرهن وسداد الدين منه. وبناءً على هذا لو كان الشيء الذي وضعه عندك رهناً لا يمكن بيعه؛ أو لا يجوز بيعه، فإنه لا يمكن أن تتحقق الحكمة التي من أجلها شُرع الرهن، حيث أنك إذا عجزت عن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/402)
السداد لم يستطع صاحب الحق أن يصل إلى حقه؛ لأن هذا الشيء الذي وضعته عنده لا يمكن بيعه، فمعنى ذلك: أنك وضعت شيئاً وجوده وعدمه على حدٍ سواء. وعليه فلا بد أن يكون الشيء الذي تضعه رهناً قابلاً للبيع، بمعنى أنه يجوز بيعه، ويصح بيعه، فلا يجوز رهن ما يحرُم بيعه، وذلك كالأعيان المحرّمة، وهي التي وردت في حديث جابر بن عبد الله: (إنالله ورسوله حرّم بيع الميتة، والخمر والخنزير والأصنام) فلو أعطاه ميتة رهناً، كحيوان محنَّط من جنس ما لا يذكى، وقال له: إذا عجزت عن سداد دينك فبع هذا الحيوان وخذ حقك، فإن هذا الحيوان إذا كان ميتةً لا يجوز بيعه، فلا يصح أن يكون رهناً. وهكذا إذا كان من الأعيان المباحة، ولكن يحرِّم الشرع بيعها لوجود الاستحقاق، كحق الله عز وجل في الوقف، فلو كان الشيء الذي يريد رهنه وقفاً، لم يصح أن يُرهن؛ لأن الأوقاف لا يجوز بيعها من حيث الأصل. وعليه قالوا: يُشترط أن يكون المرهون من جنس ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه؛ لأنه يفوِّت المقصود من الرهن. وهكذا لو رهنه أم الولد -على القول بعدم جواز بيع أمهات الأولاد- وكذلك بالنسبة للخنزير، والأصنام، ونحوها مما لا يجوز بيعه، قال بعض العلماء: ولو رهنه مجهولاً، كما لو قال له: أرهن عندك ما في داخل هذا الكيس، والذي في داخل الكيس مجهول، فإنه لا يصح رهنه، لكن لو كان الذي بداخل الكيس معلوماً، جاز الرهن وصح، ولو قال له: أرهنك الكيس نفسه، كأن يكون الكيس من جلد وقيمته مثلاً مائة ريال، فقال له: أعطني سلفاً مائة، وأرهن عندك هذا الكيس، صحّ. إذاً: لا يصح رهن المجهولات، ولا يصح رهن محرَّمات الأعيان: كالميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، وكل ما حرُم بيعه لا يجوز رهنه. ...... جواز رهن الثمر قبل بدو صلاحه بدون شرط القطع قال رحمه الله: [إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع]. تقدّم معنا في باب بيع الأصول والثمار، وبيّنا هناك حكم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، وبعد بدو الصلاح، وقلنا: إن الثمرة إذا بِيعت قبل بدو الصلاح لا يخلو البيع من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون بشرط القطع، والحالة الثانية: أن يكون بشرط البقاء، والحالة الثالثة: أن يكون بيعاً مطلقاً. فلو كان عندك بستان وفيه نخل، وهذا النخل فيه ثمرة، وأردت أن تبيع الثمرة كما يسميه الناس: الصيف، أردت أن تبيع الصيف، وهذا الصيف لم يبدُ صلاحه، فإن قلتَ: خذ الثمرة بمائة ألفٍ، واشترط عليك أن تبقيها له حتى يبدو الصلاح، لم يجُز، وقلنا: إن ذلك بالإجماع. ولو قال له: بعني ثمرة بستانك هذه التي لم يبدُ صلاحها، ولكني سأقطعها، بمعنى أنني أريدها علفاً للدواب، فقلنا: يجوز في قول جماهير العلماء، خلافاً لبعض السلف، كما هو قول سفيان الثوري، وابن أبي ليلى، كما تقدَّم معنا وبيّنا أن الراجح مذهب الجمهور، وهو أنه لو باعه الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع صحّ البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرّم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح خوفاً من الآفة، لحديث أنس الذي في الصحيح: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟)، فإذا كان يريد أن يقطعها مباشرة، ويأخذها وهي خضراء علفاً للدواب، انتفت العلة. فهنا لو قال: أعطني مائة ألف ديناً، فقال له: أعطني رهناً كي أعطيك هذا القرض، فقال: أرهن عندك ثمرة بستاني إلى شهر -وثمرة البستان لم يبدُ صلاحها- وإذا انتهى الشهر ولم أسددك، فاقطع الثمرة وبعها، صحّ الرهن؛ لأنه يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع. فإن اتفق معه على أن يقطع الثمرة، ورضي له بذلك، فلا إشكال، لكن يبقى الإشكال أن القاعدة: أن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه. فلو أنه قال له: أعطني مائة ألفٍ، وهذه الثمرة التي لم يبدُ صلاحها رهنٌ عندك، على أنني إذا لم أسدِّد انتظرت إلى صلاحها فبِعت وأخذت حقّك، فحينئذٍ لم يشترط القطع، فللعلماء قولان: قال بعض العلماء: لا يصح أن يرهن الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، وهذا على الأصل الذي ذكرناه، وهو أنه إذا كانت الثمرة قبل بدو الصلاح وباعها بغير شرط القطع؛ لم يصح البيع إجماعاً، وهو البيع المطلق، وإذا كان لم يصح البيع فمعنى ذلك: أن الرهن غير صحيح. وقال بعض العلماء: يجوز أن يرهن الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، كما درج عليه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/403)
المصنِّف، وهو الوجه الثاني عند أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، وانتصر له غير واحد، وقالوا: إنه إذا لم يسدد المال فإنه يأخذ حقه من الثمرة، فإن فسدت الثمرة، فإنه لا ضرر على الإنسان؛ لأنه ليس البيع منصباً على الثمرة نفسها، فقالوا: إذا رضي صاحب الدين، وقال: إن يسَّر الله وصلحت الثمرة، فإنه حينئذٍ يكون حقي ببيعها، كان له ذلك، وهذا القول الذي درج عليه المصنِّف واختاره غير واحد؛ لأن العلة التي من أجلها مُنِع البيع ضعيفة في هذه الصورة، ولأن البيع لم يتم أثناء الدين، وأنت تعلم أنك إذا أخذت من صاحب المال مائة ألف، فإنه لا يستحق بيع بستانك إلا إذا عجَزت، وربما كان عجزُك بعد بدو الصلاح، ولذلك لا يُنظر إلى الحال، وإنما يُنظر إلى المآل. ثم لو أن هذه الثمرة تلفت، فإن حقّه لا يلغى؛ لأنه مُطَالِب بحقِّه كدينٍ، بخلاف ما إذا دفع النقد لقاء الثمرة، فالفرق بينهما واضح، وهذا القول الذي اختاره المصنِّف واختاره جمعٌ من العلماء، أوجه وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى. ...... اشتراط القبض في لزوم الرهن قال رحمه الله: [ولا يلزم الرهن إلا بالقبض]. العقد ينقسم إلى قسمين: عقدٌ لازم، وعقدٌ جائز. والعقد اللازم: هو الذي ليس من حق أحد المتعاقدين أو أحد الطرفين أن يفسخه إلا برضا الآخر، فإذا حصل من الطرفين الإيجاب والقبول لزِمهُما الإيجاب والقبول، والأصل فيه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فأنت إذا بِعت بيتك، وقال المشتري: قبلت، وافترقتما؛ لزمه أن يدفع الثمن، ولزمك أن تمكِّنه من البيت. إذا ثبت هذا فإنه يرد السؤال: لو أن رجلاً قال لك: أعطني مائة ألف، وخذ داري رهناً عندك، أو اجعل عمارتي رهناً عندك، أو اجعل سيارتي هذه رهناً عندك، فإننا إذا نظرنا إلى هذا العقد، فننظر: فإن قلتَ: قبلت ورضيت، وخذ هذه المائة ألف، واترك السيارة رهناً عندي، فللعلماء قولان: من العلماء فمن قال: إذا قلت له: أعطني مائة ألف، وهذه السيارة رهنٌ عندك؛ فإنه يلزمك أن تمكِّنه من السيارة فوراً، بمجرد العقد، وهذا هو مذهب طائفة من العلماء، منهم المالكية، فهم يرون أن الرهن لازم بمجرّد الصيغة، وهي الإيجاب والقبول، فلو أنك مباشرةً بعد أن قلت له: خذ السيارة، وقال: قبلت، ثم قلت: لا، خذ -مثلاً- البيت بدل السيارة، أو خذ -مثلاً- الأرض الفلانية بدل السيارة، لم يكن من حقك ذلك على هذا القول. فأصحاب هذا القول يرون أنك ملزم بالرهن بمجرد الإيجاب والقبول، وليس من حقك أن ترجع عنه مادام أنكما اتفقتما على تلك العين، فإن أردت أن تبدِّل فليس من حقك، كما إذا أردت أن تسحب السيارة فليس من حقك، وتسري عليه أحكام الرهن بمجرد الإيجاب والقبول، هذا القول الأول. القول الثاني: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وبناءً على ذلك فإنك إذا قلت له: أرهنك هذه السيارة، وقال: قبلت. فالإيجاب والقبول لا يكفي حتى يَقبِض السيارة، فإن قَبَضَها فإنه حينئذٍ يصير الرهن لازماً، ولو أنك قبل القبض عَدَلت عن الرهن، أو جئت ببدلٍ عنه، كان من حقك ذلك، وبناءً على هذا القول -وهو مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، كما اختاره المصنِّف ودرج عليه- فإن الرهن يكون بالقبض، ولذلك قال الله عز وجل: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فدل على أن صفة القبض مؤثرة في الرهن، وأن الرهن لا يكفي وحده ما لم يكن مصحوباً بالقبض، فلزومه متوقفٌ على القبض. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله، في كون الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فإذا قال لك: أعطني مائة ألفٍ وسيارتي رهنٌ عندك، أو هذه مائة صاع من الطعام رهنٌ عندك، أو هذا الكيس من الطعام رهنٌ عندك، فإنه من حقه أن يَعْدِل ويُبدِّل مادام أنك لم تقبض، فإن قبضت لزمه الرهن. إذاً: القبض شرط، ولا يمكن أن يتحقق اللزوم بالرهن إلا بالقبض، فهل يكون القبض منك أو من الراهن؟ قالوا: ينبغي أن تستأذن الراهن، فلو أن السيارة كانت موجودة، ولم يعطك مفتاحها، ولم يمكِّنك منها؛ فإنك لم تقبض، أما إذا أذن لك وقال: خذها، فحينئذٍ تم الرهن بقبضك لمفتاحها أو ركوبك فيها، أو نحو ذلك مما يتحقق به القبض. هذه صورة ومثال للقبض. مثال آخر: لو قال له: أعطني مائة ألف دَيْناً إلى نهاية السنة، فقال: أعطني رهناً، فقال: هذه عمارتي رهنٌ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/404)
عندك، فالعمارة لا تكون رهناً لازماً إلا إذا قبض صاحب الدين العمارة، والقبض في العمائر يكون بالتخلية، فإذا خلَّى بينه وبينها وأعطاه مفاتيحها فقد قبض، فلو عَدَلَ قبل ذلك لم يقع اللُّزوم، ولا يلزم الرهن حينئذ. وبناءً على ما سبق هناك فوائد: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يكون لازماً إلا بالقبض، ومن حق الراهن الرجوع والتبديل، ومن حقه أن يرجع ويُبدِّل مادام أنه لم يَلزمه الرهن. الفائدة الثانية: أن هذا القبض إذا كان لازماً، يتوقف عليه لزوم الرهن على ظاهر القرآن: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]؛ فإنه يُشترط أن يمكِّنَك أو يأذن لك صاحب الرهن بأخذه وقبضه. قالوا: فلو أنك أنت من عند نفسك أخذت الرهن بالقوة أو بالحيلة أو بالغفلة، دون إذنٍ منه، لم يَلزمه ذلك. إذاً: لا بد أن يكون القبض بتمكينٍ وإذنٍ من صاحب الرهن، فلو أنك من نفسك جئت وأخذت الرهن، كان وجود الأخذ وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن الرهن عقد رفق، وعقود الرِّفق لا تلزم إلا بالقبض كالقرض ونحوه، وقد بيّنا أن هناك عقوداً يُقصد منها الغبن المحض، وعقوداً يُقصد منها الرِّفق المحض، وعقوداً يُقصد منها مجموع الأمرين. فالرهن من العقود التي يقصد بها الرِّفق؛ لأن المدين رفق بك فأعطاك الرهن لكي تستوثق من حقك، فليس من حقك أن تعتدي على ماله بأخذه دون إذنه، فهو من عنده أعطاك إياه رهناً، وإلا فالأصل أن تطالبه عند حلول الأجل بدفع المال، لكن هذا المال غير المال الذي أخذه منك. ومن المعلوم أنه إذا استدنتُ منه مائة ألف فإن الذي له عليَّ مائة ألف، وليس سيارتي ولا داري ولا مزرعتي ولا أرضي، وبناءً على ذلك يقول العلماء: ليس من حقه أن يعتدي على هذه الأملاك إلا بإذن من صاحبها، وعليه فإن لم يمكنك من القبض، كان قبضك لها بالاعتداء وجوده وعدمه على حدٍ سواء. إذاً: الفائدة الأولى: أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض لظاهر القرآن، والفائدة الثانية: أن القبض يُشترط فيه إذن المدين، أي: الذي عليه الدين ....... كيفية قبض الرهن وهنا مسائل: المسألة الأولى: لو قال لك: اقبض، وذهبت لتقبض، وقبل أن تقبض رجع عن إذنه، فإنه لا يصح قبضك، كما لو اعتديت مباشرة؛ لأن الإذن قبل تحقق الفعل والرجوع عنه يوجب بطلانه. المسألة الثانية: إذا ثبت أن القبض معتبر فكيف يتحقق القبض؟ سبق أن بيّنا هذه المسألة، وقلنا: إن المبيعات منها ما يتحقق فيها القبض بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة، وبالعد إن كانت معدودة، وبالذرع إن كانت مذروعة، وبالمناولة إن كانت مما يُتناول، فلو قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك هذه الجواهر؛ فإن هذه الجواهر التي هي رهن يكون قبضها بالمناولة، أي: تُناوَل باليد، فإذا ناوَلك إياها، ووقعت في يدك تم قبضها، ولو كانت في كيسها ووعائها فأعطاها لك تم قبضها، لكن المكيل لا يكون إلا بكيله، والمعدود بعدِّه، والمذروع بذرعه، على التفصيل الذي ذكرنا. وبناءً على ذلك يفرَّق في الأشياء بين ما كان من جنس المكيلات والموزونات، والمعدودات والمذروعات، وما يُتناول بالطريقة التي ذكرنا. والمعدودات: مثل الإبل، كأن يقول: أعطيك عشرة من الإبل رهناً، أو هذه الناقة رهنٌ عندك، فإنه حينئذٍ يُمَكَِّنك من قبضها، فإذا قبضتها أو قبضها وكيلك فحينئذٍ لزم الرهن. ولو كانت عمارة، فَقَبْضُ العمارةِ يكون بالتخلية، بأن يخلِّي بينك وبينها بإعطاء المفاتيح، فإذا أعطاك مفتاحها، أو خلَّى بينك وبينها للدخول والاستيثاق منها، كان هذا بمثابة القبض لها. وقس على هذا بقية الأمور، وهناك أشياء يكون قبضها بالعرف، فنرجِع إلى أعراف التجار في كيفية قبضها، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في مسألة القبض في أوائل كتاب البيع.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/405)
استدامة قبض الرهن شرط في لزومه قال رحمه الله: [واستدامته شرط]. استدامة القبض شرط، أي: أن يبقى الرهن عندك، ويكون تحت يدك وفي حوزتك، فلو أنه أعطاك السيارة ثم جاء في يوم من الأيام وأخذ مفتاحها وقادها من بيتك أو من مزرعتك، وأخرجها من المكان الذي وضعتها فيه، فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، فإن ردّها بعد ذلك رجعت لازمة بعد الرجوع. إذاً: استدامة القبض شرط في لزوم الرهن؛ لأن الله قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، وهذا الوصف لازم وباقي؛ لأن الرهن ليس بيعاً بحيث نقول: ننظر إلى ابتدائه؛ لأن بعض العقود ننظر إلى ابتدائها، وبعض العقود ننظر إلى مآلها، فالرهن ننظر إلى مآله؛ لأن الرهن لا يُراد لذاته، أنت حينما تعطي العمارة رهناً لقاء (مليون)؛ فإنك لم تقصد بيع العمارة (بالمليون)، وإنما قلتَ له: إن عجزت عن سداد (المليون) كان من حقك بيعها، ثم بعد ذلك تأخذ حقك، وعلى هذا فالعمارة في الأصل ملك للمدين، وعليه فليست في حكم المبيع من كل وجه، إنما هي بمثابة الاستيثاق، فلا بد أن تبقى تحت يد المرتهن؛ لقول الله عز وجل: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فإن خرجت عنه خرجت عن وصف الرهن؛ لأنها لم تصل إلى المآل، بحيث بِيعت أو تُصُرِّف بها، وإنما هي باقيةٌ وأمانةٌ، وإذا سُحِبت منه زال اللزوم؛ لأن وصف القبض المستصحب في الرهن قد زال.
خروج الرهن بالاختيار يزيل لزومه فإن رد عاد لزومه قال رحمه الله: [فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه]. قوله: (فإن أخرجه) أي: المرتهن صاحب الدين، أي: أخرج الرهن، فمثلاً: عندك سيارة، وجئت إلى رجل وقلت له: أقرضني عشرة آلاف ريال، فقال: أعطني سيارتك رهناً، فقلت له: هذه السيارة وهذه مفاتيحها رهن عندك وأعطني العشرة آلاف، فأعطاك العشرة آلاف. ثم بعد ذلك جِئتَ في يوم من الأيام فقلت له: يا فلان! عندي ظرف، وأريد أن أسافر إلى المدينة بأهلي، فهل تأذن لي أن آخذ السيارة؟ فقلت: خذها، فإذا أخرجتها فقد أخرجتها باختيارٍ منك ورضا منك، فيزول اللزوم، وأنت مأجور ومثاب على هذا الفعل، حيث قدرت ظرفه وأعطيته. لكن لو جاءك وقال: أريد السيارة لأسافر بها أو أذهب بها، فقلت له: لا أُعطيك؛ كأن تعرف أنه مماطل، أو رجل مخادع، ولم تأمن، فقلت له: لا أعطيك، فذهب، ولما نمت جاء إلى مكانها وأخذ المفتاح الذي عنده فقاد السيارة واستخرجها، فهل نقول: قد زال اللزوم؟ هنا خرجت بغير اختيارك، وفي هذه الحالة يكون قبضه لها غير لاغٍ لصفة القبض الأصلية، ويبقى الرهن كما هو؛ لأن الإخراج من اليد كان على سبيل القهر، والختل، والخلسة، وهكذا لو هددك فأخذها بالقوة والقهر، فإنه لا يزول وصف القبض، ولا تزول الأحكام، بل تبقى؛ لأن خروجه بغير اختيارك، والشرط أن يكون الخروج بالاختيار لا بالاضطرار. فإن كان الخروج بالإكراه أو بالغصب أو بالخلسة والخديعة، فوجوده وعدمه على حدٍ سواء. فقد اشترط رحمه الله وجود الاختيار الذي ينبني عليه اعتبار الإخراج، وعدم لزوم الرهن. وقوله: (فإن ردَّه إليه عاد لزومه إليه، أي: إن رد الرهن -كالسيارة- بعد أن قضى منه حاجته؛ رجع اللزوم إليه، أي: رجع الرهن إلى حكم اللزوم.
عدم نفاذ التصرف في الرهن من أحد الطرفين من غير إذن الآخر قال رحمه الله: [ولا ينفذ تصرف واحدٍ منهما فيه بغير إذن الآخر]. قوله: (ولا ينفذ) النفاذ: السَّرَيَان، وهناك شيء يسميه العلماء: النفاذ والوقف، أي: هناك عقد نافذ، وعقد موقوف، والعقد النافذ: هو الذي تتوفر فيه الأركان والشروط المعتبرة، فيُحكَم بنفاذه وسَرَيانه، والعقد الموقوف: هو الذي تعترضه عوارض تمنع من سريانه، كما ذكرنا في بيع وشراء الفضولي، على القول بصحته، لكنه يبقى موقوفاً على إجازة المالك الحقيقي. ومعنى كلامه رحمه الله: أنه لا ينفذ تصرُّف أحدهما في الرهن، فلو أنك أخذت الرهن وقبضته، ودفعت للرجل عشرة آلاف ريال، ثم إن الراهن أخذ وثيقة الرهن -كصك البيت مثلاً- وباعه، أو أخذ استمارة السيارة وباعها، فإن هذا التصرُّفُ من الراهن في الرهن وعليه يد القبض تصرُّفٌ لاغٍ؛ لأن الرهن الآن لازمٌ وثابتٌ ومحتكرٌ لحق الأول، وهو صاحب الدين، فإذا تصرَّف صاحب الرهن في الرهن بالبيع مثلاً، فإنه حينئذٍ قد عَطَّل هذا العقد الشرعي، ولو كان بيع الرهن يصح، وهو مقبوض
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/406)
عند المرتهن؛ لانعدمت المصلحة من الرهن، ولأمكن لكل شخصٍ أن يحتال على غيره، فتراه يرهن أرضه، وسيارته، وعمارته، ثم يبيعها ولا يبالي. إذاً: لا ينفُذ التصرف في الرهن، فلو أن شخصاً أعطاك بيته أو عمارته أو مزرعته أو أرضه رهناً، وتم القبض المعتبر شرعاً؛ فَلَزِم الرهن، وفوجئت بعد شهر وقبل السداد وإذا بالراهن قد باع هذه العمارة، أو الأرض، أو المزرعة، فترفع قضيتك إلى القاضي، فتُقيم الشاهدين العدلين على أنها مرهونة، فينقض القاضي بيعه ويُلغيه، وحينئذٍ يُبقي العين مرهونة إلى تمام ما بين الراهن والمرتهن، فإن تمت مدة الدين وسدّد فالحمد لله، وحينئذٍ إن شاء باع وأتم صفقة البيع فلا إشكال، فالمال ماله، وأما إذا لم يسدد كان من حق القاضي أن يبيع العين سداداً للدين، كما ذكرنا. وعلى هذا فلو تصرَّف بالبيع، أو تصرَّف مثلاً في المنافع؛ فإنها تُحبَس، كما سيأتي، فلو أجَّر العمارة، أو أجّر المزرعة، فكل هذه المكاسب تُحبس في الرهن حتى يُسدَّد الدين؛ لأنه موقوف ومرهونٌ لحق، ومستوثق لدين، فلا يمكن أن يُتصرَّف فيه إلا بعد تمامه، هذا كله إذا تصرَّف الشخص المدين الذي هو الراهن. أما لو تصرَّف صاحب الدين، كما أعطيته سيارتك في عشرة آلاف ديناً، وفوجئت أنه قد باع هذه السيارة، ادعى أنها له وباعها، فإنه لا يصح البيع، وليس من حقه أن يُقدم على بيع الرهن إلا إذا تمت المدة ولم تسدد، فحينها من حقه أن يقوم بالبيع إن أذنت له، وإلا رفع إلى القاضي وباع. وقوله: (بغير إذن الآخر)، أي: إذا أذن الآخر له أن يبيع، كأن جاءه وقال: يا فلان! قد رهنت عندك سيارتي أو أرضي أو عمارتي أو مزرعتي، وأنا محتاج لهذه الأرض أن أبيعها وأتصرف فيها، وقال له: بعها، فحينئذٍ يكون برضا الطرف الآخر، ويصح البيع، ويزول الرهن؛ لأن البيع يفوِّتها من ملكية الراهن. وفي بعض الأحيان يبقى الرهن في جزئها، كأن يقول: يا فلان! لك عليّ مائة ألف، والعمارة التي رهنتها عندك قيمتها مائتا ألف، سأبيع نصفها وأبقي نصفها رهناً عندك، فقال: قبلت، فحينئذٍ يلتغي النصف المباع، ويبقى النصف غير المباع على الرهن، وقس على هذا من المسائل في المشاعات، كما تقدم معنا في رهن المشاع. ...... حكم عتق الراهن للرهن قال رحمه الله: [إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم وتؤخذ قيمته رهناً مكانه]. قوله: (إلا عتق الراهن) أي: يصح عتق الراهن مع الإثم؛ لأن العتق لا يُمكن تداركه، ولذلك عظَّم الله عز وجل أمر العِتاق والنذر والطلاق والنكاح، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث جدُّهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق -وفي رواية-: النذر)، فمن قال -وهو يمزح- لعبده: أنت حر، فإنه يُلزم ويُصبح حراً لوجه الله شاء أو أبى، ولو قال: كنت أمزح، فنقول: جِدُّه جِد وهزله جِد، ولو قال لرجل: زوّجتك بنتي، وهو يمزح، وقال الآخر: قبلت، فإنه يصير ملزماً بالنكاح؛ لأن جد النكاح جد، وهزله جد. وهكذا لو قال لامرأته -يمزح معها-: أنتِ طالق، فإنها تطلُق عليه؛ لأن جد الطلاق جد، وهزله جد، وهكذا لو نذر وقال -على سبيل المزاح-: لله علي أن أصوم غداً، أو أصوم شهراً، لزِمه، ولو قال: كنتُ أمزح، فنقول: جِدُّه جِد، وهزله جِد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أربع جائزات إذا تُكلِّم بهن: النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذر). وعلى هذا فلو أنه تَلفّظ بالعتق فأعتق العبد المرهون، فإنه لا يمكنه أن يتدارك العِتق، ويأثم؛ لأنه تصرَّف على وجهٍ محرّم، ولأن هذا ليس من النصيحة للمسلم، وقد غشّ أخاه المسلم حينما جعل العبد رهناً عنده ثم فوّت عليه ذلك. وقوله: (ونؤخذ قيمته رهناً مكانه). فإذا اشتكى صاحب الدين إلى القاضي، وقال: فلان رهنني عبده، ثم أعتقه، قلنا: يسري العِتق، وإذا سرى العِتق بطل الرهن وفات، فماذا يفعل القاضي؟ هل يلغي العِتق؟ نقول: العِتق لا يُلغى، بل يقوم القاضي بإلزام المدين بوضع رهنٍ بديلاً عن الرهن، فمن العلماء من يقول: يكون ثمن العبد رهناً، ومنهم من يقول: يُنظر إلى الذي هو مثله، فيقوم مقامه، والأول أوجه وأقوى. والفرق بين القولين: أنه ربما كان الثمن أكثر، وربما كان مثله أو أقل، والعكس، وحينئذٍ تكون قيمة الرقيق رهناً عند صاحب الدين، فإن عجز عن السداد أُخِذ منها بقدر الدين وسُدِّد الدين، كما لو عجز وبِيع الرقيق
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/407)
سداداً للدين. فهذا الذي أعتق عبده إن كان قاصداً، فإن على القاضي أن يعزِّره؛ لأنه أذية للناس ومعاملة لهم بالغش، فإن القاعدة أنه إذا تعامل شخص مع أخيه المسلم بعقدٍ شرعي، فينبغي على كلٍ منهما رعايته، فإذا خدع أحدهما الآخر فعلى القاضي أن يعزّر الخادع بما يناسبه، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة، ويرجع فيه إلى العرف، وبابه باب التعزير، كما سيأتي إن شاء الله.
نماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه قال رحمه الله: [ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به]. بعد أن بين المصنف رحمه الله المسائل المتقدمة في الرهن، شَرَع في مسألة نماء الرهن. ومن المعلوم أن الرهن تارةً يزيد وتارة ينقص، فإذا رهن الشيء وهو على صفة، ثم زاد أثناء مدة الرهن، فهل الزيادة تكون للمالك الحقيقي أو تكون تابعة للرهن، أم أن هناك تفصيلاً في المسألة؟ من أهل العلم من قال: كل زيادة في الرهن تُعتبر تابعة للرهن، وهذا مذهب الجمهور من حيث الجملة. والزيادة تنقسم إلى قسمين: زيادة متصلة، وزيادة منفصلة. فالزيادة المتصلة: مثل أن يعطيه بعيراً ويكون نحيفاً ثم يصير سميناً، وتصير حالته أفضل من حالته حينما وضعه عند الرهن، أو يعطيه الرهن وهو بحالةٍ ضعيفة، كأن يكون مريضاً، فيصبح صحيحاً، ونحو ذلك من الزيادات المتصلة بالرهن. وأما الزيادة المنفصلة: مثل أن يعطيه ناقة، ثم ظهر بها حمل، فولدت، فهل الولد يتبع الأم أو لا يتبعه؟ أو رهن عنده بستانه سنتين، وللبستان ثمرة، وهذه الثمرة هل تتبع قيمتها البستان فتكون رهناً، أو لا تتبع خلال السنتين؛ لأن البستان نفسه مرهون، وثمرة البستان خلال السنة قيمتها مائتا ألف مثلاً، فخلال السنتين ستكون أربعمائة ألف، فهل نقول: الأربعمائة ألف تُوقف ويمنع صاحب البستان منها، وتكون تابعة للبستان في الرهن؛ حتى يأتي وقت السداد، فإن شاء سدّد وإلا أُخِذ من الرهن على قدر الدين؟ من أهل العلم من قال -كما ذكرنا-: إن الزيادة من حيث الجملة تكون تابعة، وبعضهم يرى أن الزيادة المتصلة تتبع، والزيادة المنفصلة لا تتبع. ومن حيث الأصول فإن الأشبه والأقوى أن الزيادة تابعة لأصلها؛ لأنه لما رهنه رهنه على جهة الاستحقاق والاستيثاق، وأصول الشريعة تدل على أن الفرع تابعٌ لأصله، فلو قلنا: إنها لا تتبع، فهذا يُشكل وتنبني عليه مسائل أُخر في أبواب أخرى، وتنخرم القاعدة، فالأصل الشرعي أن هذه الرقبة صلاحها وفسادها مرهون إلى أن يأتي وقت السداد، ويُتوصل عن طريقها إلى الحق، فإذا جاء وقت السداد وسدد للناس حقوقهم وإلا أُخذ منها، ونحن لا نظلمه، فإن ماله مردودٌ عليه، له حقُّه الذي في الرقبة، سواءً كان زائداً في الرقبة أو في النماء الموجود فيها. وعلى هذا: فإن إبقاء النماء والزيادة تابعة للأصل هو الأشبه والأقعد والأقيس والأقرب للأصول، فلمّا لم يرد دليل يستثني أولاد الأمهات، إذا رهن الأرقاء، ولا أولاد البهائم، وقد عُلم أن البهائم تكون رهناً، فلمّا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استثناء للفروع والنماء، دلّ على أنها باقية وتابعة لأصولها، وعلى هذا يُقال: إنه ينبغي إبقاء هذا النماء تابعاً لأصله. لكن لو كان هذا النماء لا يمكن حبسه، ويُحتاج إلى بيعه، مثل ثمرة البستان، كما لو أخذت ديناً مائة ألف، وقلت: سأسددها بعد خمس سنوات، وهذا البستان رهنٌ عندك، فإنك إذا رهنت البستان، فالثمرة خلال خمس سنوات لا يمكن أن نبقيها في النخلة؛ لأن بقاءها في النخلة ضرر وإفساد لها في بعض الأحوال، وبناءً على ذلك نقول: من حق صاحب البستان أن يقطعها ويبيعها؛ ولكن يُطالب بجعل القيمة مرهونة، هذا إذا كان النماء لا يمكن إبقاؤه، كثمرة البستان، فإنه لا يمكن أن تبقى إلى وقت السداد، فتؤخذ قيمتها مكانها، أما لو أمكن بقاؤها كأولاد البهائم، وأولاد الأمهات إذا رهن الأرقاء، فإنها تبقى على حالها ولا يُتصرَّف فيها، كما لا يُتصرف بالأصول والأمهات. وقوله: (وكسبه) أي: كسب الرهن، فلو أن رجلاً استدان منك ألف ريال، وقال لك: أعطني ألف ريال إلى نهاية السنة، فقلت له: أريد رهناً، فقال: ما عندي رهن إلا ناقتي، أو ما عندي رهن إلا سيارتي، أو ما عندي رهن إلا هذه الشاة، فرهن الشاة أو الناقة وقيمتها ثمانمائة ريال، فلمّا مضت الأيام أصبحت قيمتها ألفين، فجاءك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/408)
وقال لك: أنا أعطيتك هذا الرهن وقيمته ثمانمائة ريال، وسأُعطيك بدلاً عنه رهناً بقيمته، فنقول له: لا، بل يبقى ويكون الكسب تابعاً للرهن أيضاً، ويبقى مضموناً إلى أن يأتي وقت السداد، فإن سددت فالحمد لله، وإن لم تسدد فلن نأخذ منك إلا قدر الدين الذي عليك. إذاً: النماء والكسب التي يكون في الرهن، كزيادة قيمته، أو يكون له منافع كرقيق، فقد كانوا في القديم يضعون العبد رهناً، فإذا كان العبد صاحب حرفة، ويريد أن يتكسب، فهذا الكسب تابعٌ للرهن. وعلى هذا قالوا: نماء الرهن وكسبه ملحق به. وقوله: (وأرش الجناية عليه ملحق به)، مثال أرش الجناية في القديم والجديد: في القديم يمثلون بالرقيق أو الدابة: فلو أن رجلاً جاءك وأعطاك ناقته، وقال: هذه الناقة رهنٌ عندك لقاء ألف ريال، ثم إن هذه الناقة جنى عليها إنسان، فأتلف يدها، وأُعطي لقاء التلف الموجود فيها خمسمائة ريال التي هي أرش الجناية، فأصبح هناك ناقة وأرش جناية عليها، فالأرش يُحبس مع الناقة. وفي الجديد نمثل بمثال معاصر: لو أن رجلاً قال لك: أعطني عشرة آلاف ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أُعطيك سيارتي رهناً، فقلت له: قبلت، فوُضِعت السيارة أمام بيتك، في مكان محفوظ، فجاء شخص، وضرب السيارة بسيارته، وهذا التلف الذي أصاب السيارة قدِّر بثلاثة آلاف ريال، أرش جناية، فدُفِعت الثلاثة الآلاف، فنقول: هذا الأرش يكون تابعاً للرهن، ويبقى الأرش محبوساً مع السيارة حتى يأتي وقت السداد ويُحكم فيه. هذا هو معنى قوله: (أرش الجناية عليه). ...... تحمل الراهن مئونة الرهن قال رحمه الله: [ومئونته على الراهن]. إن الله سبحانه وتعالى عدل، ولن تجد على وجه الأرض أكمل من هذه الشريعة، لا أكمل أحكاماً، ولا أحسن نظاماً: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، وهذه الشريعة ما دامت أصولها كاملة، ففروعها واجتهادات العلماء رحمهم الله المستنبطة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قمة في الكمال، والبهاء، والجلال، وقمة في العدل والمساواة. فكما أن هذا الرهن كسبه ونماؤه يكون لصاحبه ويُحبس، كذلك الغُرْم والأذيَّة والضرر يتحمّل مسئوليتها الراهن، ما لم يقصِّر من وُضِع عنده الرهن تقصيراً يكون سبباً في الأذية، أو سبباً في حصول الضرر؛ فحينئذٍ يتحمل مسئوليته. ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه،) (لا يغلق) أي: يكون الذي دفعته: سيارتك، وأرضك، وعمارتك، ومزرعتك، ودوابك، وعبيدك ونحو ذلك مما دفعته في الرهن، إن صار له كسب ونماء؛ فإنه يُحفظ مع رهنك، وليس لمن له الدين، ولو أنه حصل للرهن ضرر وآفة سماوية، أو ضرر بدون تعدي ممن وضعت عنده الرهن، فإنك تتحمل أنت مسئوليته، ويكون النقص عليك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (له غنمه وعليه غرمه)، فالذي يغنَم يغرم، وهذا هو عين العدل. ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم -يقرر هذه القاعدة في حديث أبي داود -: (الخراج بالضمان)، يعني: الربح لمن يضمن الخسارة؛ إذ ليس من العدل أن نقول: ربح الرهن يكون لصاحبه، ولو حصل على الرهن ضرر أو أذية فإنه يكون على المرتهن، فإن هذا من الظلم، ومن هنا عدلت الشريعة بين الناس، فالغنم بالغرم. ومن هنا قال العلماء في القاعدة المشهورة: (الخراج بالضمان) وقولهم: القاعدة: (الخراج بالضمان) ما هو إلا تأدباً مع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث: (الخراج بالضمان) أجمع العلماء على متنه، والعمل به، كما حكى ذلك الإمام أحمد رحمه الله وغيره. ومنهم من يقول: (الغنم بالغرم)، يعني: الغنيمة لمن يتحمل الخسارة، أي: يأخذ النتاج والربح والنماء من يتحمل الخسارة. وعلى هذا: فإن الراهن هو الذي يأخذ النماء، وعليه البلاء، أي: إن حصل نقصٌ تحمّله، وإن حصلت زيادة كانت له. ...... تحمل الراهن كفن المرهون وأجرة المخزن إن احتاج إلى حفظ قال رحمه الله: [وكفنه وأجرة مخزنه]. قوله: (وكفنه) إذا كان الرهن عبداً فمات، فقيمة الكفن على الراهن. وقوله: (وأجرة مخزنه) مثلاً: أعطاك رهناً واحتاج إلى وضعه في مخزن، فإن أُجرة المخزن تكون على الراهن، وليس على صاحب الدين؛ لأن الرهن في الأصل لمن عليه الدين، وعلى هذا يكون متحمِّلاً لأجرة حفظه. وقد قلنا: إن القبض إذا كان معدوداً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/409)
فإنه يحتاج إلى عد، فهل تكون أُجرة العد على الراهن أو على صاحب الدين؟ قالوا: تكون أجرة العد على الراهن، فهو الذي يتحمل أجرة العد. وإذا كان منقولاً يحتاج إلى نقله إلى بيت المرتَهَن، فهل يكون النقل على المرتَهَن أم على الراهن؟ قالوا: يكون النقل على المرتهن.
الأسئلة ...... حكم أجرة الطبيب إذا لم يشف المريض السؤال: لو أن رجلاً دفع مبلغاً للطبيب؛ وذلك من أجل العلاج للمرض، فإذا لم يُشف المريض، فهل يُلزم الطبيب برد المبلغ للمريض أثابكم الله؟ الجواب: هذه المسألة فيها تفصيل من حيث الأصل، فإن المهمات والأعمال الطبية تنقسم إلى أقسام: فهناك مهمات تُطلَب من الطبيب، أو من مساعد الطبيب، أو من الممرض، أو مَن يتوكَّل عنهم، وهي إدارة المستشفى، فتطلب هذه المهمات بغض النظر عما تتضمنه، مثلاً كالتحاليل، وتصاوير الأشعة، ونحوها مِن المهمات الظاهرة التي يقوم بها الطبيب والممرض، ونحوهم من مساعدي الأطباء، فهؤلاء يقومون بهذه المهمة على وِفق ما طُلِب منهم، فهذه لا دخل لها بمسألة الشفاء وعدمه. لكن الطبيب إذا دخل عليه المريض، وقال له: افحصني، فقام بفحصه، وتعاطى أسباب الفحص الواجبة عليه طبياً، وقام بها على وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، وأدّاها على وجهها، ثم بعد ذلك شخّص المرض، فإنه إن استأجره من أجل التشخيص، وأصاب في تشخيصه؛ كان المال من حقه، وأما إذا كان أخطأ في التشخيص، فإنه يتحمل مسئولية الخطأ، كأن خرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، أو خمَّن، أو ما إلى ذلك. مثال ذلك: هناك أنواع من المرض لا يمكن للطبيب أن يحكُم بوجودها إلا بعد أن يستعين -بعد الله عز وجل-بالفحص بالوسائل المتبعة عند المختصين، وهناك نوعان من العوارض: العوارض الظاهرة، والعوارض الباطنة، فيمكن أن يشخِّص أنها قرحة بالاحتمال، فإذا جاءه شخص وقال: أشعر بألم في هذا المكان، وأشعر بحموضة، وأشعر بكذا وكذا، وجاء بالعلامات التي تسمى: بالسريرية؛ والفحص السريري هو الذي يكون في البداية، فهذا يمكن أن يكون احتمالياً، فيحتمل أن تكون قرحة أو غيرها، فقال: أنت مصاب بالقرحة، وشخَّص على أنه مصاب بالقرحة، مع أن بإمكانه التصوير بالأشعة؛ لكي يتحقق هل هو مريض بالقرحة أم لا؟ فأعطاه الدواء على أنه مريض بالقرحة دون أن يتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ من إحالته إلى التصوير بالأشعة، أو أن يحلل له دماً أو نحو ذلك، للوصول إلى معرفة المرض الذي لا يُتوصَّل إلى الجزم به أو غلبة الظن إلا عن طريق هذه الوسائل، فإن قصَّر على هذا الوجه، وشخَّص بالطريقة الأولى، التي هي التمهيدية، أو الفحص السريري، أو الفحص المبدئي، فإنه حينئذٍ إذا أخطأ تحمّل مسئولية الخطأ، وسقط استحقاقه في الأجر؛ لأن هذا الفحص الذي قام به ليس على الوجه المتَّبَع، وليس على أصولٍ متَّبعة. أما لو أنه قام بتعاطي الأسباب، وبذل جهده، وفعلاً وُجِدت الأمارات والدلائل، وبنى عليها، فلا إشكال، وإن كانت الدلائل محتمِلة فخالف أصول المهنة، كأن تأتي صورة ليست بواضحة، فالأصول المتَّبعة عند أهل المهنة: أنه إذا جاء التصوير بالأشعة مثلاً غير واضح؛ فإنه يطَالب بإعادته، فلم يعد التصوير، وقال: هناك احتمال في الصورة أن عندك مرض كذا، ثم أعطاه دواءً بناء عليه، فإنه يتحمل المسئولية إذا تبيّن أنه ليس عنده هذا المرض. إذاً: مدار المسألة: أنه إذا بذل ما يجب عليه بذله، واتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، ولم يجازف بالمريض، ولم يعرِّضه للخطر، فحينئذٍ يكون من حقه أن يأخذ أجرة مثله، أو ما اتُّفِق عليه. لكن لو قلنا: إنه أخطأ وقصَّر، وخرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ فإنه يكون هناك أمران: أولاً: أنه قام بغير العمل الذي ينبغي القيام به؛ لأن المريض ائتمنه فيما بينه وبين الله، وحمّله المسئولية أن يتقي الله عز وجل فيه فيعامله معاملة المثل، فإن خرج عن هذه الأمانة، فقد خرج عن مقتضى العقد بينهما، ومن هنا لا يستحق الأجرة، بل وتترتب عليه مسئولية الدنيا بمحاسبته ومعاقبته ومطالبته بضمان ما ترتّب على خطئه، وتترتب عليه مسئولية الآخرة إذا لم يتب الله عز وجل عليه، فيعاقَب عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة. وهناك شيء قريب من الإجارة الطبية، وهي مسألة القراءة بالقرآن، فبعض العلماء يجعلها من باب الجُعل لا من باب
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/410)
الإجارة، وهناك فرق بين الجعل والإجارة؛ لأن الحديث في الصحيح: (اجعلوا لنا جعلاً)، فإذا قلنا: إن القراءة بالقرآن على المرضى والمصروعين والممسوسين جُعل؛ فيكون الأمر فيها أشد، فإذا قرأ القارئ على المريض، فإنه لا يستحق المال إلا إذا شُفي؛ لأن النص الذي ورد باستحقاق أخذ الأجرة على القراءة بالشفاء، وإنما أخذ الصحابة رضوان الله عليهم الأجر بعد الشفاء. ومن هنا فكون بعض القراء يفتحون عيادات، فتجدهم يأخذون مبالغ كالرسوم قبل أن يقرءوا على المرضى، فهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه لا يتأتى فيه الجعل وإنما هو إجارة، وليس هذا من ضرب الإجارة، وإنما تكون القراءة هبة من الله سبحانه وتعالى: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) لمن قرأه فأعطاه حقه، وجعل الله عز وجل ثمرة هذا التوجه إليه سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الإخلاص، فإنه يجعل له أجر الدنيا والآخرة، فيجعل له عاجل البشرى من الدنيا إذا أُعطي شيئاً أن يأخذه للسُّنة، وإن أحب أن لا يأخذ وأن يختار أجر الآخرة: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47]، فهذا أكمل وأعظم أجراً، وهو أوجب لنزول البركة له إلى أن يقبضه الله عز وجل، فقلّ أن تجد قارئاً لا يأخذ من الناس إلا وتأذَّن الله ببقاء البركة والخير في قراءته. فكون القراء يفتحون العيادات، ويكون هناك أناس يقبضون أجرة معيّنة، ويجلس معهم الجلسة الأولى لكي يبين أنه ممسوس أو مسحور أو كذا، فهذا أمر فيه توسُّع، ويحتاج إلى إعادة نظر ودراسة شرعية، يحصل من لقائها الحكم بأن هذا عمل شرعي؛ لأنها تصبح أشبه بالتكسب الدنيوي المحض. ومسألة: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) إنما هو في جُعل، والجُعل ثابت في النص، قال: (اجعلوا لنا جُعلاً)، ومن قواعد الشريعة أن ما كان من باب الجعل فلا يستحق إلا بعد تمام الشفاء الكامل؛ لأن الجُعل يخالف الإجارة، وسيأتينا هذا، وهذا مقرر عند العلماء: أن الإجارة تُستحق شيئاً فشيئاً، فلو قام بنصف العمل، فإنه يستحق نصف الأجرة، لكن في الجعل لا يستحق شيئاً حتى يأتي بالعمل كاملاً، فإن كان قد جعل له جُعلاً على أن يقرأ على مريضه فيُشفى، فلا يستحق إلا إذا شفي المريض. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يُلهمنا الصواب في القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [3] من أحكام الرهن ومسائله: أن يد المرتهن يد أمانة، ما لم يتعد أو يفرط ويقصر في حفظ الرهن، أما إذا تعدى المرتهن أو قصر فإنه يضمن، ومنها: عدم انفكاك الرهن مع بقاء بعض الدين، ومنها: بيع الرهن عند انتهاء الأجل سواء من المرتهن أو من القاضي، ومنها: أنه إذا تلف بعض الرهن فباقية رهن، وغيرها من المسائل والأحكام المفصلة في هذه المادة. يد المرتهن يد أمانة ما لم يتعد أو يفرط بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعدٍ منه فلا شيء عليه]. قوله: (وهو أمانة في يد المرتهن)، هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله أن يبيِّن فيها حُكم الرهن: هل هو أمانة أو مضمون؟ وهل يد المرتهن تُعتبر يد أمانة فلا تَضمَن إلا إذا فرَّطت، أم أن يده يد ضمانٍ فتضمن مطلقاً؟ وتوضيح هذه المسألة: لو جئت إلى رجل وقلت له: بعني بيتك بمائة ألف أعطيكها بعد سنة، فقال: قبلت، ولكن أعطني رهناً لقاء هذا المال، فأعطيته سيارة، فهذه السيارة رهن، فلو أنها تلفت في يومٍ من الأيام، فإما أن تتلف بسبب تعدٍ منه وتقصير، كأن يحرِّكها ثم حدث لها حادث فتلفت، فحينئذٍ يده يد ضمان، هذا إذا حرّك الرهن دون إذنٍ من الراهن. هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي التي يقول عنها العلماء: إذا تصرّف في الشيء المرهون دون إذن من صاحبه، فالتصرُّف بدون إذنٍ من صاحبه تصرُّف يوجب الهلاك أو فساد السلعة، أو فساد العين، فإنه في هذه الحالة يجب عليه الضمان، لكن لو أنه وضع الرهن عنده، فجاء شيءٌ وأتلفه بدون اختيارٍ منه، كأن يكون مزرعة فاجتاحها سيل، أو ثمرة فأصابتها جائحة، فهذا الفساد والتلف الذي تلف به الرهن بدون تقصيرٍ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/411)
منك، وبدون تعدٍ، هل تضمنه أو لا تضمنه؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فبعض العلماء يقول: من وضع عندك رهناً، بيتاً، أو أرضاً، أو مزرعة، أو متاعاً، أو طعاماً، ثم تلف هذا الشيء أو سقط، فإنّك تضمن، وتكون يدك يد ضمان على هذا القول. وبناءً على هذا القول: فإنه إذا كانت قيمة البيت عشرة آلاف ريال، والدين الذي دُفِع في مقابله الرهن خمسة آلاف ريال، فحينئذٍ تكون يده يد ضمان للخمسة آلاف التي هي أصل الدين، والخمسة آلاف الزائدة يده يد أمانة، فلا يضمن إلا إذا فرّط، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله. القول الثاني: من وضع عندك رهناً ولم تتعدّ ولم تفرِّط، بل حافظت على الرهن، فجاء بلاء وأتلَف هذا الرهن، وفسد بسببه هذا الرهن، فإنك لا تضمن، ويدك يد أمانة، فلا تضمن إلا إذا فرّطت، وهذا القول هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، وهو الذي سار عليه المصنِّف رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث الصحيح -وهو حديث أبي هريرة -: (لا يغْلق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه). فقوله: (لا يغْلق الرهن ممن رهنه) يعني: من الراهن، وقوله: (له غنمه) يعني: إذا زاد سعره فإنه يزيد على ملكه وضمانه، وقوله: (وعليه غرمه) يعني: لو تلف بآفة سماوية ودون تعدٍ، أو تلف بدون تفريط ممن ارتُهِن عنده، فإنه يتحمّل المسئولية، أعنِي: صاحب الرهن. وهذا القول هو الذي اختاره المصنِّف، وهو الصحيح. أما أصحاب القول الأول، فقد احتجوا بحديثين ضعيفين: الحديث الأول: فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الرهن بما فيه) أي: مرهون بما فيه. وبناءً على هذا الحديث قالوا: (الرهن بما فيه) معناه: مَن وضَع عندك رهناً بعشرة آلاف، ودينُك عليه عشرة آلاف، وتلف هذا الرهن، فإنك حينئذٍ لا تطالبه بشيء، فالرهن تلف على ضمانك، ويدك يد ضمان على هذا القول. الحديث الثاني: وهو حديث مرسلٌ ضعيف، وفيه: (أن رجلاً رهن عند رجلٍ فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نَفَق الفرس، فجاء الرجل يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ليس لك عليه من حق)، يعني: أن الفرس يُعتبر قيمةً لقاء الدين. أما الحديث الأول -وهو من حديث أبي هريرة - فإنه يُروَى مرسلاً وموصولاً، وروايته موصولاً عند البيهقي بسندٍ ضعيف، وروايته مرسلة عند أبي داود في المراسيل بسند مرسلٍ صحيح، لكن المرسل لا يُحتج به ما لم يكن متصلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا فلا يقوى الاحتجاج به. وأما الحديث الثاني -حديث الفرس- فإنه مرسلٌ ضعيف. وعلى هذا: فالصحيح مذهب الجمهور: أن من وضع عندك رهناً، فإن هذا الرهن إذا لم تفرِّط ولم تتعدّ فيه فإنك لا تضمن، فلو قال لك: خذ هذا البيت واعتبره رهناً لقاء الأربعمائة ألف التي هي لك عليَّ، فأخذت البيت وسقط البيت وانهدم، فإنك لا تضمن إذا كان سقوطه بدون تفريط، لكن لو كان سقوط البيت وانهدامه بتفريط منك، كأن يعطيك البيت رهناً، فوضعت متاعاً في السطح أثقل السطح فانكسر وانهدم، فإنك تضمن؛ لأنك في هذه الحالة تعدَّيت، وحينئذٍ إذا تعدّت يد الأمانة ضمنت. وخلاصة ما سبق: أن الرهن إذا وُضِع عند المرتهن ولم يتصرف فيه ولم يتعدّ ولم يفرِّط؛ فإنه لا يضمن إذا تلف ذلك الرهن، سواءً تلف كله أو تلف بعضه ....... تلف الرهن مع بقاء المالية وعدم بقائها والتلف على قسمين: تلف لا تبقى معه المالية، وتلفٌ تبقى معه المالية. فالتلف الذي لا تبقى معه مالية: مثل أن يعطيك تمراً، ثم إن التمر فسد وخمج، فإنه تذهب قيمته وتذهب ماليته، ومثال الذي لا تذهب معه المالية: كأن يعطيك عسلاً يفسد بعضه ويبقى بعضه، فحينئذٍ لا تذهب المالية، ويبقى الصالح منه، أو يعطيك بيتاً رهناً، فينهدم البيت، فإن أرض البيت لا زالت لها قيمة، ولربما بقية الأنقاض لها قيمة، فحينئذٍ يكون هناك تلف مع بقاء المالية. أما إذا كان موازياً للدين، مثل أن يعطيك بيتاً قيمته تقدر بمليون، ثم سقط ذلك البيت، وبقيت قيمة الأرض مع الأنقاض تقارب مثلاً نصف مليون، والدين الذي له عليك نصف مليون، فحينئذٍ لا إشكال، فتبقى المالية كما هي ويبقى الرهن كما هو. وتارة يكون التلف لا يوازي كل الدين، ولكن يكون مُذهباً لبعضه، فيكون الدين مثلاً مائة ألف، فإذا تلفت العين صارت قيمتها تسعين أو ثمانين أو نحو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/412)
ذلك.
أقسام الأيدي وحكمها وقوله: [وهو أمانة]. (وهو) أي: الرهن، (أمانة). واليد تنقسم إلى قسمين: فإما أن تكون يدك يد أمانة، أو يد ضمان. ويد الأمانة: أن تأخذ الشيء فتحفظه وتقوم على رعايته، ولا تتعدى ولا تقصِّر. مثال ذلك: رجل أعطاك عشرة آلاف ريال، وقال: يا فلان! ضع هذه العشرة آلاف وديعة عندك، فإن أخذت العشرة آلاف كما هي، سواءً كانت من فئة مائة، أو من فئة الخمسمائة، أو من فئة الخمسين أخذتها كما هي بغلافها، ونفس الأوراق التي أعطاك إياها، فوضعتها في صندوقٍ محفوظ، وقفلت عليها، وهذا الصندوق في مكان أمين، فإن يدك يد أمانة، ومتى جاءك يطلبها أعطيته إياها، فأنت لم تتعدّ؛ لأنك لم تأخذ منها شيئاً، ولم تقصِّر؛ لأنك وضعتها في نفس الصندوق الذي تحفظ في مثله. أما لو أعطاك عشرة آلاف ريال، وقال: يا فلان! ضعها أمانة عندك، فلما أخذت منه العشرة آلاف قلت: سأصرفها، وعندما يطلب حقه أُعطيه حقه، فأخذت العشرة آلاف وأنفقتها على مصالحك، وأنت في نيتك وتعلم أنه متى ما جاء يطلبها في أي يوم من الأيام أن تعطيه، فحينئذٍ إذا صرفت العشرة آلاف في أي شيء، فإن لك غنمه وعليك غرمه، فتتحمل وتضمن العشرة آلاف، وتصبح يدك يد ضمان، وهذا التصرف منك يدخل في التعدِّي؛ لأنه كان ينبغي عليك أن تأخذ العشرة آلاف كما هي وتقفل عليها، فإذا أخذتها لتجارة أو مصلحة خاصة فقد تعديت، فإن استأذنته صار قرضاً، وانتقل من الوديعة إلى القرض، مثاله: لو قلت له: يا فلان! العشرة آلاف التي أودعتها عندي سأصرفها في مصالحي، ومتى ما طلبتها مني أعطيتك، فقال: لا بأس، ففي هذه الحالة يُصبح قرضاً، في الحالة الأولى وديعة، والوديعة تحفظ كما هي، وفي الحالة الثانية تكون قرضاً. أما التفريط: فكما لو أعطاك عشرة آلاف، وقال: يا فلان! ضعها وديعةً عندك، فأخذتها ووضعتها على طاولتك أو مكتبك، وأنت في العمل أو الوظيفة، ودخلت تتوضأ فجاء شخص وأخذها، فحينئذٍ قصّرت؛ لأن هذا المبلغ بهذه القيمة لا يُوضع في هذا المكان.
تحول يد الأمانة إلى يد ضمان إذاً: يد الأمانة تضمن في حالتين: التعدي أو التقصير. فالتقصير في الحفظ: كأن يضع المبلغ في صندوق خشبي يُمكن كسرُه، فإن هذا يُعتبر تقصيراً. وأما التعدِّي: فكأن يأخذ الأموال ويتصرّف فيها. مثاله: جاءك رجل وقال: يا فلان! أنا سأُسافر، فضع سيارتي هذه عندك حتى آتيك، فأخذت السيارة ووضعتها في مكانٍ أمين، فلو أنه جاء بعد السفر وأراد أن يحرك السيارة وإذا بالسيارة تالفة لا تتحرك، فحينئذٍ لا تضمن شيئاً؛ لأنك لم تتعد ولم تقصِّر، فيدك يد أمانة. لكن لو أعطاك السيارة وسافر، فجئت في يوم من الأيام وحركتها وخرجت بها إلى حاجة من حوائجك، فوقع -لا قدّر الله- حادث، أو تلف شيءٌ في السيارة، فإنك تضمَن؛ لأنك تعدّيت، وفي هذه الحالة تكون يدك يد ضمان. إذاً: هناك يد تسمى: يد أمانة، وهناك يد تسمى: يد ضمان. والأصل في الأشياء التي تكون ملكاً لك أنت أن تتحمل مسئوليتها، والأشياء التي تملكها مثل: أراضي، بيوت، أطعمة، أكسية، فالشيء الذي تملكه ربحه لك وخسارته عليك، هذا هو الأصل. فلو أن رجلاً استدنت منه عشرة آلاف ريال وقلت له: خذ هذه السيارة وضعها عندك، فأنت في الأصل الضامن، فإن وضعت سيارتك رهناً عنده، فإن يده يد أمانة، فإن تصرّف في هذا الشيء فحينئذٍ ينتقل بتعدِّيه أو تفريطه إلى الضمان، وهذا هو معنى قوله رحمه الله: (ويده يد أمانة). إذاً: يد المرتهن يد أمانة، لا تضمن إلا إذا قصّرت أو تعدّت، وهذا على أصح قولي العلماء؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صححه الدارقطني، وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، وغير واحد من العلماء يميلون إلى ثبوته، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يَغْلَق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه) أي: ما لم يتعد أو يفرِّط. وقوله: (إن تلف بغير تعدٍ منه فلا شيء عليه). أي: إذا تلف الرهن من غير تعدٍ منه فلا شيء عليه. فلو قال لك: أعطني مائة ريال، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: هذا التمر ضعه عندك رهناً إلى نهاية الشهر، أو نهاية الأسبوع وأسددك، فأخذت التمر فوضعته في مكان حار، أو في مخزن حار، وقفلت عليه، والتمر يفسد، إذا كان في مكان حار وخزِّن في مكان مُنْكَتم، الغالب أنه يحمض ويفسد، فإذا فسد التمر فإنك تضمن؛ لأنك في هذه الحالة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/413)
قصَّرت في حفظ الأمانة، ولكن لو وضعته في مكان يُحفظ في مثله، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يأتي السوس ويتلفه، وهذا المكان ليس فيه السوس، وليس بمكان يوجد فيه السوس، ولكن تلف بإرادة الله عز وجل وقدره، فأنت لا تضمن؛ لأنك لم تقصِّر ولم تتعد.
عدم سقوط شيء من الدين إذا هلك الرهن دون تعد أو تقصير قال رحمه الله: [ولا يسقط بهلاكه شيءٌ من دينه]. وهذه فائدة يد الأمانة: وهي أن الرهن إذا وضع عندك فهو أمانة، فإذا تلف فإنه يتلف على صاحبه، ولا يسقط من الدين شيء، فهذا الرهن إذا وضِع عندك ولم تتعدّ، وتلف بآفة سماوية، كثمرة بستان قيمتها ثلاثون ألفاً، والدين ثلاثون ألفاً، فلو أن هذه الثمرة التي في البستان جاءتها جائحة، وأتلفت هذه الثمرة، فإنك لا تضمن، ولا يسقط من دينك على صاحب البستان شيء، لكن لو أن قيمة الثمرة في البستان ثلاثون ألفاً، وتعاطيت أسباب التعدي، فمنعت العمال من السقي، أو قصَّرت في حفظه، فإن تعدّيت كأن تمنعهم من أن يسقوه، فأصبحت قيمة الثمرة عشرين ألفاً، فأنت تضمن ثلث القيمة، وتكون على دينك، فإذا كان دينك ثلاثين ألفاً فتسقط منه عشرة آلاف؛ لأنك تتحمل مسئولية التعدي حينما منعته من القيام بسقي البستان. هذا بالنسبة للتعدي. أما بالنسبة للتقصير فمثاله: أن يكون من عادة صاحب البستان أن يقفله، فأنت تركته مفتوحاً، فجاء السُرَّاق، وسرقوا من ثمرته بقدر خمسة آلاف ريال، فأنت تضمن هذه الخمسة آلاف؛ لأنك قصرت في الحفظ، ويدك يد أمانة، فينزل من الدين قدر خمسة آلاف. إذاً: إذا كانت يدك يد أمانة، فإنه لا يسقط من الدين شيء، وإن كانت يدك يد ضمان، فإنه يسقط من دينك على قدر ما حصل من التفريط في الرهن، حتى لو استغرق الرهن كله فإنه يسقط كله. فلو كان تقصير المرتهِن في حدود أربعين ألفاً، والدين أربعون ألفاً، فإنه يسقط ويصير رأساً برأس، ويخرج ولا شيء عليه .. هذا بالنسبة لمسألة يد الأمانة ويد الضمان. فلما كان المصنف رحمه الله يميل إلى القول: بأن المرتهِن لا يضمن إلا إذا فرّط أو تعدى، فمعنى ذلك أن يده يد أمانة كما ذكرنا، فإذا تلف كله أو بعضه فإنه على صاحبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (له غنمه وعليه غرمه)، فإن كان التلف بتعدٍ من المرتهِن ضمِن على قدر ما وقع من التلف، وأُسقِط من الدين على قدر ذلك الضمان.
تلف بعض الرهن لا يخرجه عن كونه رهناً قال رحمه الله: [وإن تلف بعضه فباقيه رهنٌ بجميع الدين] ذكرنا أن التلف ينقسم إلى قسمين: تلف يذهب المالية، وتلف لا يذهب المالية، فإن كان التلف يذهب المالية فحينئذٍ فسد الرهن، وفسد العقد؛ لأنه فات المقصود من الاستيثاق. ويقول العلماء: إن كان الرهن قد فسد فساداً كلياً، بحيث لا تبقى له مالية، كما لو قال: أعطني خمسمائة ريال ديناً، فقال له: أعطني رهناً، فقال: هذه الشاة رهن، أو هذا البعير رهن، فمات البعير أو ماتت الشاة، فحينئذٍ يفسد الرهن؛ لأن الرهن إنما شرعه الله عز وجل لكي تتوصل به إلى حقك إن امتنع المديون من سداد الدين، فإذا مات وذهبت المالية فقد فسد عقد الرهن. وفي هذه الحالة يكون لك الخيار. ومسألة البيع: إذا بعته بيتاً بعشرة آلاف ريال، وأعطاك رهناً قيمته عشرة آلاف ريال، وقال لك: سأسدد العشرة آلاف ريال بعد سنتين، وأعطاك الرهن الذي قيمته عشرة آلاف، ففسد الرهن وذهبت ماليته، فإن من حقك أن تطالبه برهن جديد مكان الرهن القديم، ومن حقك أن تقول له: أنا لا أريد أن أبيعك، وترجِع عن بيعك؛ لأن حقك في هذه الحالة سيذهب، والحقوق إنما تضمن بالاستيثاق، ويكون لك الخيار في هذا، ولذلك يقول العلماء: ذهاب المالية موجبٌ للخيار. فإن أقام مقامه رهناً يقوم بقدره وقيمته، فحينئذٍ لا إشكال، وإلا فله الخيار في الرجوع عن البيع. وقوله: (فباقيه رهنٌ بجميع الدين) مثل أن يقول لك: بعني أرضاً، فقلت له: هذه الأرض بمليون، فقال: اشتريتها، ولكن سأعطيك المليون بعد سنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهنك بستاني، فأعطاك البستان رهناً لهذا المليون، فتلف النخل الموجود في البستان، وكانت قيمة البستان قبل تلف النخيل مليوناً، ثم لما تلفت صارت قيمته نصف مليون، إذاً صار نصف قيمة البستان رهناً، فإن الباقي من المالية يبقى رهناً، ومن حق صاحب الدين أن يعامله معاملة الرهن، فإذا لم يسدد باع ذلك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/414)
القدر، وأخذ ما فيه من المال، قلّ أو كثُر. إذاً: مراده رحمه الله: أنه إذا تلف بعضه وبقي بعضه فإنه يصير مرهوناً كله بالدين، أي: يبقى رهناً للدين. ...... عدم انفكاك الرهن مع بقاء بعض الدين قال رحمه الله: [ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين]. قوله: (ولا ينفك بعضه) هذه مسألة يسمونها: آثار الرهن، ومثالها: رجلٌ اشترى أرضاً بمليون، ورهن مزرعة بمليون، فلما جاء وقت السداد، سدّد نصف مليون، وبقي عليه نصف مليون، فقلنا له: هات ما تبقى عليك، فقال: ليس عندي وأنا معسر. فنقول: إن الرهن لا ينفك، ولو أنه سدّد نصف المليون قبل نهاية الأجل بشهر، وطالب بفك نصف الأرض فإنها لا تنفك، بل تبقى كل الأرض رهناً حتى تتم المدة، ويتم السداد على المتفق عليه، لا يظلم ولا يُظلم، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وهذا دين وفي ذمتك وحق واجب عليك، فحينئذٍ تؤديه على الوجه المعروف. فإن عجَزتَ عن السداد، فقد أخذت العهد على نفسك أن صاحب الدين يبيع الرهن ويأخذ حقه، فإذا سددت بعض الدين، لم يكن من حقك إخراج الوثيقة كاملة، ولا إخراج ما سُدِّد إلا في حالة واحدة، وهي: أن يكون الرهن متعدداً لديونٍ متعددة، فيقول -مثلاً-: عندي سيارتان، فأعطني عشرة آلاف ريال، خمسة آلاف آخذها اليوم، وخمسة آلاف آخذها غداً، والخمسة آلاف الأولى رهنها هذه السيارة، والخمسة الثانية رهنها هذه السيارة، فأصبحت الخمسة الأولى لها رهن مختص، والثانية لها رهن مختص، فإن سدد الخمسة آلاف كان من حقه أن يفك الرهن عن الأولى، لكن إذا كان المبلغ مع بعضه، والرهن مستوثَق للدين كله، فلا ينفك بسداد بعضه. وعلى هذا يُفصّل في الديون: فإذا كان الرهن مجزأ عليه بتجزئته، كان الاستيثاق للحق كلٌّ بحسبه. مثاله: أن يقول: أعطني مليوناً وأرهنك هذه الأرض على مائتين وخمسين ألفاً، وأرهنك المزرعة التي في المدينة على مائتين وخمسين ألفاً الثانية، والخمسمائة الباقية أرهن بها العمارة التي في جدة، فحينئذٍ هذه رهون متعددة لديون مفصَّلة، فإن سدد المائتين والخمسين الأولى؛ كان من حقه أن يفك الرهن عن الأرض الأولى، وإن سدّد المائتين والخمسين الثانية؛ كان من حقه أن يفك رهن المزرعة، وإن عجز عن الخمسمائة الباقية بقيت العمارة الأخيرة هي الرهن فقط. إذاً: ينفك الرهن إذا كان مجزأً على الدين، أما إذا كان كلاً رأساً برأس، فلا ينفك إلا به كله، فلو بقي منه ولو ريال واحد، فلا يمكن أن يُفك إلا بسداد الدين كاملاً. وهذا من عدل الله عز وجل بين عباده، فإن مقاطع الحقوق عند الشروط، وكأنه حينما وضع الرهن اشترط على نفسه أنه إذا لم يسدد فإنه يُباع الرهن ويسدد الحق، قليلاً كان الباقي أو كثيراً. ...... جواز الزيادة في الرهن مع عدم جوازها في الدين قال رحمه الله: [وتجوز الزيادة فيه دون دينه]. قوله: (وتجوز الزيادة فيه) أي: تجوز الزيادة في الرهن. وهنا مسألتان: المسألة الأولى: لو وضعت رهناً عند شخص لقاء دين، فهل يجوز أن تزيد رهناً ثانياً في نفس الدين؟ مثلاً: الدين، فأعطيته رهناً أرضاً، ثم جئت فقلت: يا فلان! أنا رهنتك أرضي، وأريد أن أعطيك رهناً مع الأرض هذه السيارة، أو أعطيك مع هذه الأرض أرضاً ثانية، فحينئذٍ تُسمَّى هذه المسألة: مسألة الزيادة على الرهن، ويكون الذي يزيد رهناً ثانياً هو المديون، وهذا غالباً ما يصنعه الإنسان الذي عنده ورع وخوف من الله سبحانه وتعالى، أو إنسان يقدِّر حقوق الناس؛ لأن المفروض على المديون أنه إذا رأى غيره تسامح معه ويسَّر له حاجته أن يحتاط لحقه، ومن كان عنده ورع وخوف من الله عز وجل، فإنه يخاف من الدين، فيخشى أنه لو بقيت عنده هذه الأرض فلربما باعها لمصلحة نفسه، ولربما ماطل، أو تأخر سداده، فيحتاط، أو يخشى أن يموت، فيتساهل أولاده وورثته في سداد الحقوق التي عليه، فيرهن بكامل الحق حتى يستوثق للناس بحقوقهم، فأضاف إلى الأرض أرضاً ثانية، أو أضاف إلى السيارة سيارة ثانية، وسواءً كانت الزيادة من جنس الرهن الأول ونوعه، كأرض مع أرض، أو كانت مختلفة، كأن تكون عقاراً ومنقولاً، كأن يقول له: أرهنك أرضي لقاء المليون، ثم جاء في اليوم الثاني وقال: أُضيف إلى ذلك الرهن سيارةً، فقد أضاف إلى العقار منقولاً. إذاً: الرهن الأول من العقارات،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/415)
والرهن الثاني من المنقولات، فكله جائز. وشدد في هذا بعض العلماء وقالوا: الرهن لا يُزاد فيه، والحق مستوثق بالرهن الأول، وهذا قول زفر بن الهذيل، وهو إمام مجتهد رحمة الله عليه، وقد كان من كبار أصحاب الإمام أبي حنيفة المجتهدين، وكان يرى أنك إن أدخلت الرهن الثاني دخل الشيوع، والشيوع عند الفقهاء يُبطل العقد الأول. مثاله: إذا تم العقد الأول على رهن مثلاً بثمانمائة ألف، فقد صار الرهن الأول مستوثقاً بثمانمائة ألف، فلو أَدخل الرهن الثاني أبطل الرهن الأول؛ لأنه دخل في الشيوع، قال: وحينئذٍ لا يصح أن يزيد على الرهن الأول؛ لأن الحق مستوثق به، وقد رضي صاحب الحق بهذا الرهن، فلا تجوز الزيادة. والصحيح هو مذهب الجمهور؛ لأن الزيادة الطارئة كالزيادة المبتدئة؛ لأنه كما اتفق العلماء أنه يجوز أن ترهن بأكثر من الدين، كما لو أعطاك ديناً مليوناً، فيجوز أن ترهن أرضاً قيمتها أكثر من مليون؛ فإذا كان يجوز ابتداءً جاز؛ لأن هذا بالتراضي، وما دام أنه رضي أن يُدخِل الرهن الثاني على الرهن الأول، فهذا له ولا بأس بذلك. وقوله: (دون دينه) أي: لا يجوز أن يزيد في الدين. وتوضيح ذلك: لو باعك رجلٌ أرضاً بمليون على أن تدفع القيمة بعد سنة، فقال لك: أعطني رهناً، فقلت له: أعطيك عمارتي التي في المدينة الفلانية في الموضع الفلاني رهناً لقاء هذا المليون الذي اشتريتُ به الأرض، فلو أراد أن يستدين منه أو يشتري منه سلعة ثانية، وأراد أن يجعل العمارة التي رهنها أولاً رهناً لهذا الدين أو الشراء الثاني، كأن يقول: بعني أرضك الثانية، فقال البائع: الأرض الثانية قيمتها مائة ألف، فقال له: لقد رهنتك العمارة وقيمتها مليون ومائة ألف، فأدخل هذه الزيادة من المال على الدين الأول، ويصبح الدين الأول (المليون) مليوناً ومائة ألف، لقاء هذه العمارة التي قيمتها مليون ومائة ألف، أو قيمتها مليون ومائتا ألف مثلاً، فقالوا: لا يجوز ذلك؛ لأنه إذا تم العقد بالرهن وقُبِض، فمعنى ذلك: أن الرهن قد حُبِس على الدين الأول، وصار مستَحَقاً ومستَوثَقَاً به الدين الأول، ولا يقبل حينئذٍ أن يُصرف إلى الدين الثاني، بخلاف الصورة الأولى، وهي إدخال الرهنين، فإنها ليست كإدخال دين على الرهن، ولو فُتِح هذا لاستضر الناس، وصار هذا وسيلة إلى الأذية والإضرار. ومن الأمور التي تقوِّي هذا القول: أنه لو رهنَه عمارةً قيمتها مليوناً، وجاء ليزيد في الدين، فربما نقصت قيمة العمارة، خاصة إذا كان الرهن من العقارات، وكل شيء له قيمة فلا بد أن تتفاوت قيمه، والغالب أنه مع مضي الزمن ينقص لا أن يزيد، فهذا النقصان الأولى أن لا نُدخله على الدين؛ لأن هذا يُدخِل الضرر على صاحب الدين. وأياً ما كان الأصل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، أن هذا الرهن مستَحَق بالدَّين الأول. وهذا كله إذا امتنع، أما لو رضي صاحب الدين، وقال: أُلغِي الرهن الأول وأعطيك إياه، ثم تُدخِله رهناً بالدينين؛ صحّ ذلك وجاز. فقد فك الرهن الأول، وردّه إلى صاحبه ومالكه الأول الذي هو المدين، ثم عاد ثانية وقال: هذه العمارة لقاء الدينين، فإنه يجوز، وهذا ما يسمى: بالحيلة الشرعية. وبهذا يمكن أن تدخل العمارة باليد الثانية، أي: بعقد ثانٍ غير العقد الأول، وتكون رهناً لقاء المليون والمائة ألفٍ، ولا بأس بذلك. ...... الرهن المشترك وصوره قال رحمه الله: [وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما، أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما؛ انفك في نصيبه]. قوله: (وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفّى أحدهما). هذا هو الرهن المشترك، مثاله: أخذتَ من رجل خمسمائة ريال، وأخذت من آخر خمسمائة ريال، وقلت لهما: الألف التي لكما لقاء هذه الدابة، أو رهنت أرضاً، أو رهنت سيارة، فالرهن لقاء دينين، فلو أن هذه السيارة قيمتها مثلاً ألف ريال، والدين ألف ريال، فجئت إلى عبد الله الذي هو صاحب الدين الأول. فسددته قبل انتهاء الأجل، فإذا وقع السداد لحق عبد الله انفك الرهن في نصيبه، وبقي النصف الثاني في نصيب الآخر مرهوناً. والرهن إذا كان للطرفين، فلا يجوز أن يكون عند أحدهما دون الآخر. ومسألة الشيوع في الرهن: إذا أعطيت رهناً واحداً في دينين لشخصين، لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالرهن دون الآخر؛ لأنه مشترك للحقين، وحينئذٍ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/416)
يحفظانه عند عدل، أو يرضى أحدهما أن يكون الرهن عند الآخر. وقوله: (أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما انفك في نصيبه). مثاله: شخصان يملكان سيارة، واستدانا منك عشرة آلاف ريال، ووضعا السيارة التي قيمتها عشرة آلاف ريال عندك، فحينئذٍ إذا سدّد أحدهما خمسة آلاف ريال، فإنه ينفك الرهن في نصيبه، ويبقى الرهن في النصيب الباقي. ...... حكم بيع الرهن عند حلول الأجل حال الإذن والامتناع قال رحمه الله: [ومتى حل الدين وامتنع من وفائه، فإن كان الراهن أذن للمرتهِن أو العدل في بيعه باعه ووفّى الدين، وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن]. قوله: (ومتى حل الدين وامتنع من وفائه). أي: حل الأجل، بمعنى: أن يأتي الوقت الذي تعهّد المديون بسداد الدين فيه، أو تعهّد المشتري بدفع قيمة الشيء الذي اشتراه، فإذا حلّ الأجل، فنقول له: ادفع المال؛ لأنه التزم في ذمته بالعقد بينه وبين صاحب المبيع أن يدفع له القيمة عند حلول الأجل، فلنا الحق إذا انتهى الأجل أن نطالبه بالسداد، فإن قال: ما عندي، أو أنا معسر، فحينئذٍ يجوز للمرتَهَن أن يطالب الراهن ببيع الرهن. وهذا مبني على العقد؛ لأن عندنا عقدين: العقد الأول: عقد البيع الذي فيه أساس الدين، أو عقد القرض الذي بينهما، فهذا اشترى منه أرضاً -كما ذكرنا- بمليون على أن يسدده في نهاية السنة القادمة، فإذا انتهت السنة القادمة، قلنا له: سدِّد، فإذا قال: لا أستطيع، أو قال: هذه نصف القيمة ولا أستطيع أن أسدِّد الباقي -وينبغي أن يُعلم إن كان صاحب الدين سمحاً رضيّاً، فقال له: رضيت أن أنتظر شهراً أو شهرين، وأعطاه مهلة، فهذا الأمر بالتراضي، ونحن لا نتكلّم فيه، إنما نتكلم عن الحقوق المطالب بها- فإذا تم الأجل ولم يؤد الدين كما وعد، فننتقل إلى عقد الرهن، في هذه الحالة يصير الرهن كأنه وثيقة، يقول العلماء: إنه استيثاق، أي: استوثق صاحب الدين لدينه بالعين، فالعمارة التي رهنها عندك وثيقة لقاء هذا الدين، بمعنى أنه إذا عجز عن السداد تبيعها وتتحصَّل مالك عليه، سواءً كل الدين أو بعض الدين. أما إذا كان هناك عدل الذي هو الطرف الثالث، والعدل: شخص ينصِّبه صاحب الدين والمديون، كأن يقول مثلاً: أعطني مليوناً، فيقول: أعطيكها لكن بشرط أن تعطيني رهناً، فقال: أرهن عندك عمارتي، ولكن أريد أن تكون عند زيد، فقال صاحب الدين: وأنا أرضى زيداً. إذاً: عندنا قرض: وهو المليون على الشخص المديون، وعندنا رهن: وهو العمارة عند زيد، فزيد هذا يُسمَّى: العدل، والعدل: هو الشخص المرضي، فيقولون: عدل؛ لأنه مَرضِي من الطرفين -حتى ولو لم يكن من العدول- من صاحب الدين ومن المديون، فلمّا رضيا زيداً ووُضِعت العمارة عند زيد، فجاء الأجل وهو نهاية السنة، فنقول: يا فلان! سدِّد، فقال: لا أستطيع، فهناك عدة أحوال: الحالة الأولى: أن يقول صاحب العمارة لزيد: خذ عمارتي رهناً في دين عبد الله الذي عليّ، فإن لم أُسدِّد في الوقت فبِعها وأعطه حقّه، فهذا يُسمى: إذن الراهن، فإن أذن الراهن للعدل أن يبيع فيقوم العدل مباشرةً عند ثبوت العجز ببيع العمارة، وسداد الدين كلِّه أو ما تبقّى من الدين، وهذا إذا كان العدل قد أذن له الراهن، لكن لو لم يأذن الراهن وامتنع من السداد، فبعض العلماء يقول: من حق صاحب الدين أن يرفعه إلى القاضي، ويطالبه إما بالسداد، وإما أن القاضي يأمر العدل أن يبيع. وقال جمهور العلماء: لا يؤذيه ولا يضره، وإنما يستدعيه القاضي، ويقول له: أده حقّه، فإن قال: ما عندي، قال: إذاً تُباع العمارة عليك ويُسدَد الدين، فإن قال للقاضي: لا أرضى؛ فجمهور العلماء على أنه يُترك ويقضي القاضي بالبيع الجبري، والبيع الجبري: هو أن تباع العمارة بدون إذنه ورضاه؛ لأن الحق متعلِّق بها، والقضاة والحكام إنّما نُصِّبوا من أجل رد الحقوق للناس. فإذا كان هذا يظلم هذا، فهم يقومون بردع الظالم عن ظلمه؛ لأنه من الظلم أن يقول: لا أسدد ولا تُباع العمارة، فحينئذٍ يفرض القاضي على العدل أن يبيع، هذا هو قول الجمهور. القول الثاني: إذا طلبه القاضي وقال له: بِع، فقال: لن أبيع، فقال له: ائذن للمرتهِن أن يبيع الرهن، فقال: لا آذن، حينئذٍ يأخذه ويعزِّره، وله الحق أن يسجنه، وأن يمنع الناس عنه حتى يأذن بالبيع، أي: يفرض عليه ذلك بالقهر والقوة. ومذهب الجمهور أقوى،
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/417)
أنه إذا لم يأذن فعلى القاضي مباشرة أن يُصدر حكماً بالبيع الذي يُسمَّى: البيع الجبري، وحينئذٍ تُباع السلعة؛ لأن هناك اتفاقاً مسبقاً، والحق متعلِّق بها، فتُباع كما تباع سلع المفلس، ومن حق القاضي أن يبيعها، وعلى هذا فكما ذكر المصنف رحمه الله يُباع الرهن ويُسدَّد به ما بقي من الدين، أو يسدد به كل الدين إن لم يكن دفع منه شيئاً. وقوله: (فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفّى الدين)، أي: إذا قال الراهن: يا محمد! إذا جاء أول محرم ولم أسدِّدك فالعمارة بين يديك بعها وخذ حقّك، وإن بقي عليَّ شيء أكمِّله، وإن لم يبق شيء فالحمد لله حقُّك وصل إليك، وإن زاد شيء فردَّه إليَّ. فهذا إذن مسبق، سواءً أَذِن عند عقد الرهن، أو أَذِن أثناء المدة، أو أذِن عند انتهاء الأجل، فإذا أَذِن فلا إشكال، سواءً أَذِن للمرتَهَن أو أذِنَ للعدل، فالحكم واحد. وقوله: (وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن)، يعني: على القاضي أن يجبر المديون على وفائه، ويقول له: سدِّد، فإن لم يسدد، فحينئذٍ يقوم ببيعه بالبيع الجبري كما ذكرنا. ...... جواز بيع الحاكم للرهن عن امتناع الراهن عند التسديد والبيع قال رحمه الله: [فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفَّى دينه]. أي: باعه الحاكم بيعاً جبرياً، وهذا النوع من البيع هو الذي يقول العلماء: يجوز مع فقد شرط التراضي؛ لأن الله يقول: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، والبيع لا يصح إلا بالرضا، لكن في هذه الحالة رضا المالك وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه متعلِّق به حقٌ للغير، فحينئذٍ يُستوفى هذا الحق؛ لأن هناك شرطاً وعقداً بينهما، ولا بد من إبراء ذمَّته على هذا الوجه.
الأسئلة ...... حكم الانتفاع بالرهن السؤال: إذا انتفع المرتهِن بالرهن، ألا يشكل عليه بأنه قرضٌ جرّ نفعاً أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنه ينقسم الحق إلى قسمين: فإما أن يكون الرهن لقاء حق بالقروض، فحينئذٍ يُعتبر قرضاً جر نفعاً، وعلى هذا كره الإمام أحمد رحمه الله رهن الدور، واعتبره من الربا المحض، خاصة إذا اشترط عليه أن ينتفع به فإنه يعتبر قرضاً جر نفعاً. وإما أن ينتفع بالرهن لقاء القيام عليه، كما في الدواب التي تُحلب وتُركب، فهذا وردت السنة باستثنائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (الرهن يُركب بنفقته، ولبن الدر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً)، فهذا يدل دلالة واضحة على أنه يجوز، وذلك مثل الناقة تحتاج إلى علَف، فتعلِفها ثم تأخذ بقدر ما علفت، فلو كان العلف قيمته مثلاً ثلاثين، تأخذ من حليبها وتركب عليها بقيمة الثلاثين، ولا تزيد على هذا، وهذا عين العدل؛ لأنه قديماً حينما كانت الدواب تُركَب وتُحلب، من الصعب أنك إذا وضعتها رهناً أن تأتي من مكان بعيد من أجل أن تضع العلف لها وتحلبها، فيسَّر الله عز وجل وجعل الرهن هذا يُحلب ويُركب بالنفقة التي يدفعها المرتَهن عليه، أما ما عدا ذلك فلا يجوز. ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمرتهِن أن ينتفع بالرهن بدون إذن من ارتهنه إلا إذا كان بعِوض، كأن يقول له: هذه الدار أجعلُها رهناً عندك، فقال له: أريد أن أسكنها، فبكم تؤجرني إياها؟ قال: بكذا وكذا، فأجّرها، فإن استأجرها انتقلت وخرجت عن يد الرهن إلى الإجارة، وهذا إن شاء الله سنفصل أحكامه في الفصل الثاني في مسألة منافع الرهن، سواءً كانت بعوض أو كانت بغير عوض، وسواءً كانت المرهون من جنس ما يُحلب ويركب، أو يركب ولا يُحلب، أو يحلب ولا يركب، أو لا يُركب ولا يُحلب كالدور ونحوها، هذا كله -إن شاء الله- سيكون الكلام عليه في المجلس القادم، نسأل الله التيسير. والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/418)
حكم التصرف في الأمانات السؤال: مَن وُضِعت عنده أمانة فتعدّى، هل يأثم بذلك مع العلم بأنه قادر على أن ينقد المبلغ إذا طالب به صاحبه أثابكم الله؟ الجواب: الأمانة أمرُها عظيم، وخطبها جسيم، يفر منها الصالحون، ولا يحفظها إلا الأخيار المتّقون، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: (فإذا ضُرِب الصراط على متن جهنم قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط). فقد يمكن أن يُكردس العبد في نار جهنم بأمانة خانها، أو برحمٍ قطعها، ولذلك بعض العلماء لما قرأ هذا الحديث قال: أخاف على المسلم من خيانة الأمانات وقطع الأرحام، ويقول: ما أظنه ينجو من الصراط؛ لأنه قال: (قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط، وإنها تتمثل لصاحبها يوم القيامة، فإذا جاء يأخذها هوت به في نار جهنم، فلا يزال يطلبها على قدر ما ضيّع من حقوقها)، فالأمانة أمرُها عظيم، فإذا اؤتُمِنت على شيءٍ فانظر رحمك الله! إن قدرت على أن تحفظه وتقوم عليه وتصونه فالحمد لله، وأنت مأجورٌ غير مأزور، خاصة إذا كان أخوك محتاجاً إلى حفظك ورعايتك، تفرِّج كربته، وتُحسن إليه، والله يثيبك على هذا، أما إذا علمت أن نفسك ضعيفة، فإياك إياك! خاصة في الأمانات التي تكون للضعفاء والفقراء، مثل: أموال الزكوات، والتبرعات، فإن هذه أمرها عظيم؛ لأنهم سيكونون خصومك بين يدي الله عز وجل، في توزيعها والقيام عليها، فلا تتقحّم هذا الشيء إلا وأنت متمكِّن من أداء الحق على وجهه، فكما أن في هذا العمل الثواب العظيم والأجر الكبير، ففي التفريط فيه الإثم الكبير. والإنسان الذي يحتاط لدينه إذا جاء لأمانة في الزكوات فيكتب أسماء المستحقين، ويأتي إلى المزكي ويقول: عندي ثلاث أسر .. أربع أسر .. خمس أسر؛ لأنه سيتحمل بين يدي الله عز وجل في عدم صرفها، كأن يُبقيها عنده، فربما تأخر في صرفها وجاءت دواخل النفس، وليس هناك فتنة مثل المال والنساء، فهاتان الفتنتان من أعظم الفتن. فإذا اؤتمِنت على المال، فليكن على قدر ما تستطيع، فالنفس أمارة بالسوء، فلا تتحمل أمانة أحد من الأموال؛ لأن النفس ضعيفة، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن لا يدخل نفسه في مقام الأمانات إلا إذا وثِق من نفسه، فإذا وضع شخص عندك أمانة كالمال مثلاً، فعليك أن تقول له -إن كنت محتاجاً-: أنا أحتاج هذا المال، ولا أريد أن أخون، ولا أريد أن أضيِّع، ولا أريد أن أبدِّل أمانتي، إنما أريد أن أكون من أهل الجنة، وممن غفر الله لهم، فكانوا لأماناتهم حافظين، فإن قال: قد أذنت لك أن تتصرّف فيها، فلا بأس، أما إذا قال لك: لا آذن، فحينئذٍ تحفظها يرحمك الله! أو تردّها إليه. وعلى هذا فلا يجوز التصرُّف في الأمانات إلا بإذن أهلها، والله تعالى أعلم.
جواز الإقالة في البيع للبائع والمشتري السؤال: هل للبائع بعد بيع السلعة أن يتراجع ويطلب من المشتري أن يقيله، أم أن الإقالة خاصة بالمشتري أثابكم الله؟ الجواب: يجوز ذلك للبائع وللمشتري، إذا ندِم وطلَب الإقالة فإنه يجوز له أن يستقيل، ومن أقال نادماً فله من الله الثواب، وحسن العاقبة والمآب، فمن فرّج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وشتان بين كربة الدنيا وكربة الآخرة، فإذا جاءك أخوك وقال لك: قد بعتك، ولكني نادم على هذا البيع، فقد يستضر في أهله، وقد يستضر في عِرضه، فبدل أن يكون ساكناً في عمارته فيذهب ويستأجر، فيخاف على عِرضه، ويخاف على أهله، فهذه كربة عظيمة، خاصة وأن بعض البيوعات تتعلق بها مصالح عظيمة للناس، فإذا جاءك البائع نادماً، فإن أقلته فإن الله عز وجل يثيبك على هذا، وهو من تفريج الكربة، وقدِّم آخرتك على دنياك، فإن الشيطان حريص، فقد يقول لك: هذه العمارة وهذا الثمن والربح الكثير كيف تفرِّط فيها؟! وقد يأتيك من شياطين الإنس من يسوِّل لك، كأن يقول: إنه من الخطأ أن تغفر له أو تعفو عنه، وآخر يقول لك: هذا يتلاعب بك، وثالث يقول لك: أنت ضعيف، وآخر يقول لك: أنت تضيع حقك، أنت تضيع الربح .. أنت كذا .. أنت كذا، ومنهم من يقول لك: إن استمريت على هذا فلن تربح في تجارة .. وهكذا، ويخذلك شياطين الإنس والجن، ولكن قل: لا، واستعن بالله، فلعل في هذه العمارة بلاءً يصرفه الله عنك بتفريج كربة أخيك المسلم. فلا أحد يعلم العواقب في الأمور، وقل أن يأتيك مسلم في كربة إلا وادّخر الله لك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/419)
من وراء تفريجها خيراً كثيراً، وهذا ضعه أمامك كالأمر اليقيني، أنك لن ترحم مسلماً إلا رحمك الله، ولن تُقدِم على أمر فيه خيرٌ لإخوانك، وتضحِّي وتؤثره على نفسك إلا جعل الله لك العاقبة كأحسن ما تظن، وفوق ما تظن، وهذا أمر مجرّب، ونشهد لله أنه أوفى ما يكون لعهده، فإن الله قد وعد من رحِم أن يُرحم، فأنت عندما تأتي وترحمه في المال، قد تقع في مثل ما وقع فيه، وإذا لم تُقَل فيها ربما أُصِبْت بمرض في نفسك، وربما أُصِبت بنكبة في أهلك، ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بك ويرحمك كما رحمت أخاك المسلم. فعلى المسلم أن يحسن إلى إخوانه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وبالمناسبة، في ذات مرة حدثني رجل كبير السن: أنه مرّ على غلام يُجر في السوق -وهذا قبل ثمانين سنة تقريباً، وقد توفي الرجل رحمه الله، وحدثني في آخر عمره وهو في الثمانينات- قال: فسألت الذي يجره: ما به؟ فقال: هذا رجل عليه دين يقدر بريال، والغلام قريب من البلوغ، قال: فأخرجت من جيبي ريالاً ودفعته إليه، واحتسبته عند الله، فصاح هذا الغلام: ما اسمك؟ قال: فقلت له: فلان، ولا أظن أني في يوم من الأيام سأحتاج إليه، قال: فمرت الأيام، وشاء الله أن خرج في تجارته عن طريق بلد، ثم اعتُدي على تجارته، وهو معها وفي ركبها، ثم أراد الله عز وجل أنه يهيم على وجهه في البر في ليلة شديدة البرد، -يحدثني بلسانه- يقول: فكنت في ليلة شديدة البرد، فأصبحت أخاف حتى على نفسي من شدة ما أجد من البرد، فإذا أنا بنار، قال: فلما قربت منها ولفحني الضوء، إذا بصائح يقول: عمي أحمد! فلما ذكرت له نكبتي، أحسن إليَّ، وقام معي وأكرمني، ورعى شئوني وتجارتي وحفظها، وردني إلى المدينة سالماً غانماً، ثم قال لي: هل تذكرني؟ فقلت: والله ما أذكرك، فقال: أنا الغلام الذي دفعت عني الريال يوم كذا وكذا. إذاً: فأنت لن تفرج كربة أحد إلا سخر الله لك من يفرج كربتك، أو جعل لك عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فيحتسب المؤمن، فإذا جاءك البائع نادماً على بيعه، أو المشتري نادماً على شرائه، فقدِّم آخرتك، والله يبتلي أهل الأموال والتجارات بمثل هذه المواقف، والله تعالى ما خلقنا إلا للاختبار وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]. فكيف يُعرَف الصادق من الكاذب؟! وكيف يُعرف الرحيم من غير الرحيم؟! إلا بمثل هذه المواقف، فإذا جاءك أخوك نادماً عن كلمة قالها فيك، أو تصرُّف أساء إليك، فقل: غفر الله لي ولك. فمثل هذه المواقف الطيبة، ومثل هذه المعاملة الحسنة، وكما أحسنت إلى الناس، فإن الله عز وجل يحسن إليك، والله تعالى يقول: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [4] يجوز للراهن والمرتهن أن يتفقا على أن يجعلا الرهن عند أحدهما، ولهما أن يتفقا على أن يجعلاه عند عدل يرضيانه، وهذا العدل عليه أن يحفظ الرهن إلى أن يحل أجل تسديد الدين، وله عند حلول الأجل وعجز الراهن عن تسديد الدين أن يبيع الرهن، بشرط أن يأذنا له، وعلى العدل أن يحتاط لنفسه وللراهن عند تسليم الدين، بأن يكتب أو يشهد، فإن فرط فإنه يتحمل المسئولية، وللراهن الحق في مطالبته بالثمن. اتفاق الراهن والمرتهن على عدل يأخذ الرهن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ: ويكون عند من اتفقا عليه]. قوله: (ويكون) أي: الرهن (عند مَن اتفقا عليه) أي: يجوز أن يكون الرهن عند المرتهن، ويجوز أن يكون عند شخص ثالث يتفقان عليه؛ لقوله: (عند مَن اتفقا عليه)، وعلى هذا لو قال المديون: نعطيه زيداً، فقال الدائن: لا؛ فإنه لا يلزم، ولو قال الآخر: نعطيه عمراً، فقال الطرف الثاني: لا؛ فإنه لا يلزم، فحينئذٍ لا بد أن يكون الشخص الثالث مرضياً عنه من الطرفين، وهذا الذي يُسمَّى: العدل. فإذا ثبت أن الرهن يكون عند العدل الذي اتفقا عليه، وقام الراهن وأعطى زيداً العمارة رهناً، على أساس أن زيداً عدل من الطرفين، ثم قال الراهن أو المرتهن: عزلتُك. وذلك قبل سداد الدين، فهل من حقه -أي: الراهن أو المرتهن- أن يعزل هذا الطرف الثالث قبل مضي المدة؟ للعلماء وجهان:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/420)
فمن أهل العلم من قال: من حقه أن يعزله، ولا شيء في ذلك إذا عزله، لكن يكون الخيار لصاحب الدين، فله أن يُطالب بالرهن بديلاً عن العدل، وله أن يفسخ العقد؛ لأنه لو فُتِح هذا الباب لتلاعب الناس بحقوق الرهن، فإنه يرهن عند عدل، ثم يعزله ويسحب الرهن منه، فقالوا -استيثاقاً للحقوق-: يكون الخيار دفعاً لهذا، وهذا قول جمهور العلماء. وقال بعض أصحاب الإمام مالك رحمه الله: إنه ليس من حقه العزل إلا برضا الطرف الثاني، وهذا المذهب -وهو مذهب المالكية رحمهم الله- أحوط، وقالوا: ما دام الطرفان تراضيا، فإنه ليس من حق أحدهما عزله دون الآخر؛ لأن إثباته جاء من الطرفين، فنقض هذا الإثبات لا بد أن يرضيا بعزله، وفي بعض الأحيان يتفقان على عزله، خاصة إذا بدرت منه أمور تدعو إلى الريبة، هذه حالة. الحالة الثانية: أن يموت هذا الطرف الثالث وهو العدل، فلو مات قبل السداد، فما الحكم؟ قالوا: ينفسخ التوكيل ويقيمان من يرضيانه بدلاً عنه، فإذا رضيا شخصاً بدلاً عنه أقاماه مقام هذا العدل. ...... إذن الراهن والمرتهن للعدل بالبيع بنقد البلد قال رحمه الله: [وإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد]. هذه هي أحكام العدل، فقوله: (وإن أذنا له بالبيع) أي: إذا أذن الطرفان للعدل ببيع الرهن عند مضي المدة، فليس له أن يبيع إلا بنقد البلد الذي هو فيه، فإذا كان رهنه أرضاً في مكة، فإذا باع يبيع بنقد البلد، ويبيع بالقيمة في نفس المكان، فلو كانت القيمة متفاوتة في بلدٍ آخر لم يكن له أن يتكلَّف ذلك، إنما يبيعها بنقد البلد، ويكون العدل المرضي بين الطرفين وكيلاً عنهما في البيع، فلو كان نقد البلد من الذهب باعها بالذهب، ولو كان نقد البلد من الفضة باعها بالفضة. فلو باع بغير نقد البلد، فإنه ليس من حقه أن يبيع باختياره هكذا، إنما يبيع في حدود معيَّنة؛ لأنه وكيل، والوكيل لا يتصرف إلا في حدود ما أُذِن له، وإذا أُذِن له بالبيع، فإن العرف أن يبيع بنقد البلد الموجود؛ لأن البيع يكون بالنقد ويكون بغير النقد، والنقود والأثمان كالذهب والفضة، ويكون بغيرها الذي هو بيع المقايضة، فلو باع بشيء فيه ضرر فإنه لا يجوز، كأن يبيع العمارة بعمارة أخرى، أو يبيع العمارة بطعام، إنما عليه أن يبيع بالنقد، ويكون النقد نقد البلد؛ لأن نقد غير البلد يتكلَّف في صرفه، ويكون فيه مخاطرة، فربما نقصت القيمة، أو زادت بسبب الصرف. وعلى هذا فلا يبيع إلا بنقد البلد.
حكم تلف ثمن الرهن في يد العدل قال رحمه الله: [وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن] قوله: (وإن قبض الثمن)، لو أن هذا العدل باع العمارة (بمليون)، وبعد قبض هذا (المليون)، تلِف في يده قبل أن يعطيه صاحب الدين، فما الحكم؟ قالوا: التلف على ضمان الراهن؛ لأنه وكيلٌ عنه، ولا تبرأ ذمة المديون إلا بعد أن يؤدي الوكيل الأمانة إلى ما اؤتمِن له، فهو في هذه الحالة كأنه راهن. وقد أثبتنا أن الرهن في ضمان الراهن؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت هذا فقال: (لا يغلق الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه)، ففي هذه الحالة إذا استدان مني (مليوناً) فلا تبرأ ذمّته من هذا المليون، حتى يأتي الوكيل العدل ويسلم لي المبلغ، لكن لو قلتُ له أنا: بِعها واقبض عني، فقد صار وكيلاً عن الطرفين، وكيلاً عن الراهن وعن المرتهن؛ لأنه في بعض الأحيان تكون اليدان يداً واحدة، مثل وليّ اليتيم، فلو كان عندك يتيم له بيت، ورأيت من المصلحة أن تبيع هذا البيت، وأنت ترغب في هذا البيت فاشتريته بقيمته لنفسك، فأنت بائعٌ من وجه ومشترٍ من وجه، وهنا يدان: يد بيع، ويد شراء، فيدك ببيعه يد بيع على ملك اليتيم، ويد شراء على ملكِك، فالوكيل يكون وكيلاً عن الأول ووكيلاً عن الثاني، هذا في قول بعض العلماء رحمهم الله.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/421)
آثار الرهن المترتبة عليه من عادة العلماء رحمهم الله -وهذه ميزة من مميزات الفقه الإسلامي- أنّه لا يُعطي الحكم فقط، وإنما يعطي الحكم والآثار المترتبة عليه، ففي بعض الأحيان إذا نصَّبنا العدل من أجل أن يبيع ثم يسدد، قد يحصل جحود وإنكار، كأن يقول العدل: قد سددتُه، ويقول صاحب الدين: لم يسددني، أو يقول العدل: أعطيته المبلغ كاملاً، ويقول صاحب الدين: بل أعطاني ناقصاً. فهذه تسمى: من مسائل آثار الرهن، وهذه هي مسألة المدَّعِي والمدَّعَى عليه، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأنها في القضاء والخصومات وفصل النزاعات. من المدّعِي الذي يكون القول خلافه، ويُطالَب بالبينة؟ ومن المدّعَى عليه الذي يكون القول قوله ولا يُطالَب بالبينة، ولكن يطالب باليمين عند الإنكار؟ فعندنا مدعي وعندنا مدعَى عليه، والمدعَى عليه أقوى من المدعِي، فحينئذٍ لو أن شخصاً أعطى شخصاً عشرة آلاف ريال ديناً، ثم لما جاء الأجل قال المديون: لقد سدّدته وأعطيته العشرة آلاف، فمعناه أنه يدّعي، وقال الذي له الدين: ما أعطاني شيئاً، فهذا مدَّعَى عليه. إذاً: الذي يقول: فعلت كذا هو مدعي، والذي يقول: لم يفعل كذا، هو مدعَى عليه. فنقول: هذه العشرة آلاف، اليقين أنك مديون بها؛ لأن كليهما متفق على أن المديون أخذ العشرة آلاف، وهو معترف بذلك، فنحن متأكدون أنه قد أخذ العشرة آلاف، وأن ذمته مشغولة بعشرة آلاف. فلا بد من أجل إسقاط هذا الحق أن نتأكد أيضاً أنه سدد، فيكون صاحب العشرة آلاف مدّعَى عليه، والذي عليه الدين مدعي، وقد اختلف العلماء كيف نعرف المدّعِي والمدّعَى عليه؟ لأنه عندنا قوي وضعيف: فالقوي: هو المدّعَى عليه، والأصل براءة المتهم من التهمة حتى تثبت إدانته، وبراءته من شغل ذمته بالحقوق حتى يثبت ما يدل على شغلها، والضعيف: هو المدعي. فلو أن شخصاً جاء وقال: لي على فلان ألف ريال، فإننا لو صدّقناه لكان كل شخص يدّعي على الآخر، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أناسٌ أموال قومٍ ودماءهم)، أي: لأصبح الأمر فوضى، فكل شخص يقول: لي على فلان كذا. إذاً: لا بد أن نعرف من المدّعِي والمدعَى عليه؟ قال بعض العلماء: المدعِي: هو الذي يقول: قد كان كذا وكذا، يعني يُثبِت، والمدّعَى عليه: هو الذي ينفي ما كان. فالمدّعَى عليه الذي يقول: ما أعطيتني، والمدّعِي الذي يقول: بل أعطيتك. وإذا قال شخص: أنت فعلت كذا، فأنت مسيءٌ وظالم، فقال: ما فعلت، فالمدعي هو الذي يقول: فعلت كذا. ولو قال شخص: فلانٌ كاذب، فقال: ما كذبت، فالمدعي هو الذي يقول: فلان كاذب، والذي يقول: ما كذبت، هو مدعَى عليه. إذاً: هذا أصل عند العلماء، قال الناظم: وقيل من يقول قد كان ادّعَى ولم يكن لمن عليه يُدَّعَى وهذا هو الضابط الأول من الضوابط التي يُضبط به المدّعِي والمدّعَى عليه: (كان ولم يكن) كما ذكر الناظم. الضابط الثاني: يقولون: المدَّعي: هو الذي قوله يخالف العرف ويخالف الأصل، والمدّعَى عليه: هو الذي شهد العرف أو الأصل بتصديقه. مثال الأعراف: كانوا قديماً يختصمون في الدواب كالإبل، فيقول أحدهم: هذه ناقتي، ويقول الثاني: لا، بل هي ناقتي، فإذا كان أحدهما يركب في المقدِّمة والثاني في المؤخرة، فالعرف يشهد أن الذي في المقدِّمة صاحبها مدّعى عليه، وأن الذي في المؤخرة مدّعي. وكذلك البيت، فلو جاء شخص وقال: هذه العمارة ملكٌ لي، وقال الآخر: لا، بل هي ملكٌ لي، فحينئذٍ يكون الذي داخل العمارة مالكها، والذي يدّعِي من خارج، العرف يشهد أنه ليس بمالكٍ للعمارة. فنقول: الذي بالداخل: مدّعَى عليه، والذي بالخارج مدعي، وهذا يسمونه: شهادة العرف. الضابط الثالث: شهادة الأصل: فحينما يقذف -والعياذ بالله- رجلٌ رجلاً بأي شيء، فإن الأصل يقتضي سلامته، حتى يدل الدليل على إدانته. ولذلك تقول القاعدة: المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، وهذا هو الأصل، فنحن لا نستطيع أن نتهم الناس، ولا أن نطعن في الناس، لا في عقائدهم، ولا في أخلاقهم، ولا في سلوكهم، ولا في تصرُّفاتهم؛ لأن من عرفناه من أهل الإسلام، فله علينا حق أن يسلم من ألسنتنا، وأن لا نتهمه ما لم يثبت الدليل. إذاً: الأصل أنه ليس فيه هذا الشيء، فلو جاء يتهمه بالزنا، أو يتهمه بشرب خمرٍ والعياذ بالله! أو يتهمه بكذب، أو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/422)
يتهمه بأي سوء، فنقول لمن اتهم: أنت كاذب حتى تُثبت ما تقول؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ .. ) [الحجرات:6]، فسمّاه فاسقاً بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] أي: تثبَّتوا. إذاً: من يأتي بخلاف الأصل فيقول: فلان مجرم، الأصل أنه غير مجرم حتى يثبت أنه مجرم، وقوله: فلان يكذب، الأصل أنه ليس بكاذب حتى يثبت أنه كاذب. فهذا الذي يخالف الأصل مدعي، والذي يتفق مع الأصل مُدَّعى عليه. وهذه الضوابط الثلاثة جمعها بعض العلماء في قوله: تمييز حال المدّعِي والمدّعَى عليه جملة القضاء وقعا فالمدّعِي من قوله مجردْ من أصل أو عرف بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادّعَى ولم يكن لمن عليه يُّدَّعى وهذه الضوابط الثلاثة معمول بها عند العلماء رحمهم الله. فيذكرون في مسألة الرهن إذا تنازع الطرفان فقال أحدهما: سددتك، فقال الآخر: ما سددتني، أو قال: دفعت المال إليك، فقال: ما دفعت إليَّ شيئاً، فحينئذٍ لا بد أن نعرف من الذي يُقبل قوله، ومن الذي يُطالب بالدليل، ويكون المدعي من يشهد الأصل أو العرف بخلاف قوله، وهذا ما سنبينه في المجلس القادم بإذن الله تعالى.
تسليم الدين من العدل للمرتهن بدون بينة مع الإنكار قال رحمه الله: [وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره ولا بينة]. قد سبق وأن ذكرنا أن الراهن والمرتهن إذا اتفقا على وضع الرهن عند عدلٍ أو شخصٍ معينٍ، فإن هذا الشخص يقوم بحفظ الرهن، وحينئذٍ إذا انتهى الأجل بيّنا أنه يقوم ببيعه إذا أذنا له بالبيع. وفصّل المصنف رحمه الله في جملة من الأحكام التي تتعلق بالعدل. وبعد هذا يرد السؤال: لو أن هذا الرجل أُعطِي سيارةً مثلاً رهناً، وحضر الأجل، ولم يستطع من عليه الدين أن يُسدد الدين وهو الراهن، وقام العدل ببيع السيارة وقبض ثمنها، فلو فُرِض أنه باعها بعشرة آلاف، والدين عشرة آلاف ريال، فلمّا قبض هذا العدل العشرة آلاف ريال، ادّعَى أنه أعطاها لصاحب الدين وهو المرتهن، فإذا ادعَى أنه أعطاها للمرتهن، فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى: أن يقول المرتهن الذي له الدين: قبضتُ العشرة آلاف، وحينئذٍ فلا إشكال، فيصبح العدل كالوكيل إذا سدّد عن موكِّله، ويسقط الدين عن المدين، هذا إذا أقر صاحب الدين بأنه أخذ حقّه فلا إشكال. الحالة الثانية: أن يُنكر من له الدين ويقول: لم يعطني شيئاً، فإذا أنكر فحينئذٍ نسأل العدل: هل عندك بيّنة تثبت صدق دعواك أنك أعطيت لفلان حقه؟ وحينئذٍ فلا يخلو من حالتين أيضاً: الحالة الأولى: إما أن يقول: عندي بيّنة، ويقيم بيّنته على صدق قوله، فلا إشكال، فيُقيم شاهدين عدلين، أو رجلاً وامرأتين، أو أربع نسوة على أنه دفع الحق؛ لأنها حقوق مالية يجوز فيها شهادة النساء منفردة ومجتمعة مع الرجال. فإذا أثبت أنه قبض ثمن الرهن، وأنه أعطاه للمرتهن وأقبضه حقه، فلا إشكال، ويصبح العدل حينئذٍ قد برئت ذمته، والسبب في هذا: أنه قد احتاط لصاحب الحق في حقه، فأنت حينما كان عليك الدين وأعطيت الرهن لهذا الرجل لكي يقوم عليه، فإن الواجب عليه إذا سدد أن يحتاط عند السداد، فيأخذ مثلاً كتابة ويُشهد عليها، ويقول للمرتهن: هذه العشرة آلاف التي لك على فلان، اكتب لي بها سنداً أنك قبضتها، ويُقِيم شاهدين عدلين. وبالمناسبة: فإن الناس قد يتساهلون في الحقوق، وما ضاعت حقوقهم إلا بسبب التساهل في السنة، وترك ما وصَّى الله عز وجل به من الكتابة والاستيثاق، فإن الإنسان لا يأمن الأجل، وقد يموت الطرفان، أي: الشخصان المتعاقدان، وحينئذٍ تضيع حقوق الورثة، فمن السنة أن تكتب ما لك وما عليك. الحالة الثانية: المفروض على العدل أنه حينما يعطي صاحب الدين دينه، ويُسلِّمه المبلغ أن يحتاط؛ لأنه في هذه الحالة مؤتمن على حق مَنْ عليه الدين. فإذا تساهل في ذلك كأن أعطى المرتهن المال بدون شهادة، أو بدون بينة، فإنه حينئذٍ يتحمّل المسئولية. وصورة ذلك أو مثاله: اتفق الراهن والمُرتَهَن أن يكون الرهن عند محمد، وأنه إذا عجَز الراهن عن السداد فيقوم محمد ببيع الرهن وهو العمارة، والدين مثلاً مليون، فلما حضر الأجل ولم يسدد الراهن، وهو المديون، قام محمد ببيع العمارة وقبض قيمتها، والقيمة مثل الدين (مليون)، فجاء وأعطاها لصاحب الدين ولم يكتب ولم يُشهِد ولم يستوثق، ففي هذه الحالة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/423)
سيقول: إني أعطيت صاحب الدين حقه، فلا يخلو من له الدين من حالتين: الحالة الأولى: أن يُقر، ويقول: نعم أعطاني، فإذا أقر من له الدين أنه قبض من محمد قيمة الرهن فلا إشكال، وثبت أن محمداً صادقٌ فيما يقول، وحينئذٍ تبرأ ذمته. الحالة الثانية: أن ينكر ويقول: لم يعطني محمد شيئاً، أو يموت صاحب الدين، وينكر ورثته أن محمداً أعطى مورثهم الدين الذي كان لأبيهم على الطرف الثاني، فإن أنكروا فحينئذٍ نقول لمحمد: يا محمد! هل أشهدت؟ فإذا قال: ما أشهدت .. هل استوثقت بكتابة؟ فقال: ما فعلت شيئاً، بل أعطيته الدين وكفى، فنقول: إنك قد قصّرت، وتتحمل عاقبة التقصير ومسئولية التقصير؛ إذ كان ينبغي عليك أن تحتاط لحق أخيك، فتتحمل المسئولية، فإن أنكر فإنه يُلزم بدفع الدين كاملاً. والسبب في هذا: أننا لو صدّقنا محمداً في ادعائه أنه سدّد صاحب الدين، لصار كل من نقيمه عدلاً يقول: بعت وأعطيت فلاناً، والأصل أن الدين ثابت، وأن ذمة المديون مشغولة بالدين، حتى نتأكد ونتحقق أن الحق وصل لصاحبه. فكونه يدعي ويقول: لقد أعطيته، هذا لا يكفي ما دام أن الذي له الحق أنكر، فالبينة على المدَّعِي واليمين على من أنكر، وتصوَّر لو أن كل صاحب دين أنكر قبض المال والدين من العدل، لضاعت حقوق الناس، فنحن نقول لهذا العدل: أثبِت أنك أعطيته، فإن قال: ما عندي إثبات، فيحلف الذي له الدين أنه ما قَبَض، يحلِف يمين القضاء التي من حلفها فاجراً متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان، نسأل الله السلامة والعافية! وهي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي من أشد أنواع اليمين، وتسمى: اليمين الفاجرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ بغير حقٍ لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك)، فلو كان عوداً تافهاً حقيراً لا قيمة له عند الناس، فإنه بهذه اليمين يكون شيئاً عظيماً، ويلقى الله وهو عليه غضبان، ومن يحلل عليه غضب الله فقد هوى في نار جهنم وبئس المصير، نسأل الله السلامة والعافية! ويقولون: قَلّ أن يحلفها إنسان متعمداً ويحول عليه الحول بخير. فالشاهد: أنه يحلف أنه ما قبض، فإن حلف أنه ما قبض، فعلى القاضي أن يحكم بأن الدين لا زال ثابتاً، وأنه يجب على العدل أن يدفع. لكن أنت الذي عليك الدين مُطالَب بالدين، والعدل قائمٌ مقامك على أساس أن يبيع الرهن ويسلِّم لصاحب الدين، فإذا ادَّعَى العدل السداد، ولكن أنكر صاحب الحق أن العدل سدد الدين الذي عليك، فيرد السؤال: هل يُطالِب صاحب الحق الوكيل أو يطالب الأصيل؟ والجواب: أنه يطالبُ الأصيل؛ لأن ذمة الأصيل مشغولة بحقه، والأصيل الذي عليه الدين -وهو الراهن- له أن يُطالب هذا الوكيل. وبناءً على ذلك يكون الترتيب كالتالي: لا نقبل دعوى هذا الوكيل والعدل أنه سدد ما لم يُقِم بيّنة، أو يعترف صاحب الدين، فإن لم يُقر صاحب الدين ولم يُقِم بيّنة، وأنكر صاحب الدين وحلف أنه ما قبض، فحينئذٍ يجب على القاضي أن يحكم بأن الدين لا زال ثابتاً. وإذا ثبت الدين فتكون عندنا قضيّتان: القضية الأولى: أن صاحب الدين يطالبك مطالبة شرعية بأن تسدِّده. القضية الثانية: أن الراهن له أن يطالب العدل بدعوى قضائية، أنه قام على المال بالبيع وفرّط، وأن يضمن الحق الذي عنده. وهذا معنى قولهم: يكون وجه المرتَهِن على الراهن، ويكون وجه الراهن على العدل، فكلٌ منهما يطالب الآخر. وكذلك صاحب الدين يطالب الراهن؛ لأن الأصل أن ذمة الراهن متعلقة بهذا الدين، فنقول: لا زال الحق ثابتاً ولم يرتفع؛ فنطالبه بسداد ما عليه من الدين، ثم يُقِيم الآخر دعوى قضائية على هذا العدل أنه لم يسدِّد كما أمره، وأنه وكّله في بيع داره، أو بيع أرضه، أو سيارته، ويسدد فلاناً دينه، ولكنه لم يقم بالسداد، فله أن يطالبه بقيمة المبيع، ثم بعد ذلك يأخذ كلٌ منهما حقّه من خصمه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/424)
تسليم العدل الدين للمرتهن مع حضور الراهن وعدمه قال رحمه الله: [ولم يكن بحضور الراهن ضمن كوكيل]. قوله: (ولم يكن بحضور الراهن) إن كان قد أعطاه حقه بدون بيِّنة، وأنكر صاحب الدين، فلا نحكم بالإلزام إذا كان الإعطاء في حال حضور الراهن، فيكون التقصير من الراهن؛ لأن الوكيل سدد بحضور الأصيل، وكان من المفروض أن يقول الأصيل للوكيل: أشهد على الإعطاء، فلمّا سكت من عليه الدين الذي هو الراهن، كأنه قد رضي أن يعطيه بدون بيِّنة، فرضي بالتقصير، ورضي بالتفريط، وحينئذٍ يكون ذلك الوكيل قد برِئت ذمّته. فالتقصير له حالتان: الحالة الأولى: إذا وقع الإعطاء في حال غيبة صاحب الرهن وهو الراهن، فإن كان قد أشهد فلا إشكال، وإن لم يُشهِد ولا بيِّنة، فإنه يتحمّل المسئولية إن أنكر المرتَهَن. الحالة الثانية: إذا كان قد أعطاه حقّه في حال حضور الراهن، فالراهن يرى ويسمع، ومعنى ذلك أنه قد رضي بما يراه؛ لأنه كان ينبغي عليه أن يقول له: اكتب وأَشهِد على الإعطاء، فلمّا سكت كأنه رضي، فانتقل التقصير من الوكيل إلى الأصيل، وأصبح الأصيل هو الذي يتحمل المسئولية، وهذا إذا لم توجد بيّنة وأنكر المرتَهَن.
حكم اشتراط عدم بيع الرهن إذا حل الدين قال رحمه الله: [وإن شرط أن لا يبيعه إذا حلّ الدين] أي: أن لا يبيع الرهن، فهذا الشرط خلاف الشرع، وعلى هذا فإن من حقك إذا حلّ الأجل ولم يسدد أن تقوم بالبيع؛ لأن أصل الرهن وثيقة، وهذه الوثيقة قلنا: يستوثق بها صاحب الدين لقاء دَينه، فإذا قال له: إذا حل الأجل فلا تبع الرهن، فمعناه: أن وجود الرهن وعدمه على حد سواء، فما فائدة الرهن إذا كنت لا تستطيع أن تسدد به الحق الذي لك على خصمك؟! والله تعالى إنما شرع الرهن من أجل أن يتوصل صاحب الحق إلى حقه عند العجز، فإذا جاء يشترط شرطاً يخالف مقتضى العقل، فإنه حينئذٍ يبطل، ويلغى ذلك الشرط ولا يُعتد به ولا يُلزم به، فإذا حل الأجل جرى المعروف شرعاً وهو بيع الرهن. إذاً هذا الشرط وجوده وعدمه على حدٍ سواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهذه قاعدة- ألغى الشروط المخالفة لكتاب الله، وصحح العقود، على تفصيل سبق أن بيّناه في باب الشروط في البيع. وهذا الشرط يكون في عقد الرهن، كأن يشترط عليه أنه إذا حل الأجل لا يبيع، وهذا -كما ذكرنا- يخالف شرع الله ويخالف مقتضى العقل، فنقول: إن هذا الشرط باطل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، وقال: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فجعل الشرط المستوثَق به والذي ينبني عليه الحكم إنما هو الشرط الموافق لشرع الله، لا الشرط المخالف لشرع الله، فأنت إذا تأملت الرهن حينما تأتي وتأخذ قرضاً عشرة آلاف، فقد شرع الله عز وجل لصاحب الدين أن يأخذ منك الرهن؛ حتى يستطيع سداد العشرة آلاف عند عجزك، فإن كان لا يستطيع أن يبيع ذلك الرهن، فمعناه: أنه قد فات المقصود من الرهن، فكأنه يشترط عليه شرطاً يخالف مقتضى العقد، وقد بيّنا في شروط البيع: أن الشروط التي تخالف مقتضى العقد تعتبر شروطاً فاسدة. ...... حكم اشتراط أن يكون المرهون للمرتهن عند انتهاء الأجل قال رحمه الله: [أو إن جاءه بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له]. قوله: (أو إن جاءه بحقه) مثلاً: اشتريت عمارة قيمتها خمسمائة ألف، وقال لك البائع: ادفع الثمن، فقلت له: ما عندي نقد، وكل الذي أطلبه أن يكون هناك مهلة لمدة سنة، فقال لك: ليس عندي مانع، أعطيك مهلة لمدة سنة، ولكن بشرط أن تعطيني رهناً، فاشترط في البيع شرطاً يوافق مقتضى العقد، وهو الرهن، وهنا أمور: الأمر الأول: قلنا: إن الشرط الذي يوافق مقتضى العقد صحيح، فلما اشترط عليك الرهن وقلت له: عندي أرض أجعلها رهناً عندك، فقال المرتَهِن: أنا أقبل هذه الأرض، ولكن إن جاء الأجل ولم تسدد فهي لي، فحينئذٍ لا يصح؛ والسبب في هذا: أن المعاوضة وقعت بين الأرض، وبين القرض، وحينئذٍ كأنه أدخل عقدين في عقد، وبيعتين في بيعة، البيع الأول ومركبٌ عليه البيع الثاني بشرط العجز عن السداد، فقد قال له: إذا لم أُعطِك حقك في نهاية شهر ذي الحجة فخذ الأرض، فمعناه: أنه قد أعطاه الأرض لقاء ماله، فكأنه باعه الأرض بالدين، وحينئذٍ لم يبعه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/425)
بيعاً مبتوتاً فيه، فنحن لم نتحقق؛ لأنه لا يقع هذا البيع إلا إذا عجز عن السداد، والعجز عن السداد متردد، فحصل تردد في العقد، ومن هنا قلنا: إن الإجارة التي تنتهي بالتمليك ترددٌ في العقد، والتردد في عقد البيع موجبٌ للغرر، فكأنه يقول: إن قضيتُ الدين فلستُ ببائع، وإن لم أقضِ فأنا بائع، فهذا ليس ببيع على سنَن المسلمين، فبيع المسلمين على البت. الأمر الثاني: لو فرضنا أنه عجز عن السداد، وارتفعت قيمة الأرض، وحينما أعطاه القرض كانت قيمة الأرض مثلاً خمسمائة ألف، فأصبحت قيمتها مليوناً عند السداد، فمعنى ذلك: أنه باعه الشيء وهو لا يدري ما يئول إليه من نماءٍ ومن خسارة. الأمر الثالث: قد يكون العكس أيضاً، كأن يقول له الراهن: إن لم أسددك الدين فالأرض لك، فقال: قبلت، وكانت الأرض في ذلك اليوم الذي وقع فيه الاتفاق والبيع الأول -الذي من أجله كان سبب الرهن- غالية، فلما حضر السداد إذا بالأرض رخيصة، إذاً ففيه نوعٌ من الغرر، فالشخص الذي له الدين يخاطِر بماله في حال عجز الراهن عن السداد، فيقبل أرضاً لا يدري إذا حلّ الأجل هل تعادل الدين أو لا تعادله؟ الأمر الرابع: من جهة تكييف العقد، حيث لم يجعله رهناً، وإنما جعله بيعاً ثانياً، والرهن لا يدخله التشريك، فلا يصح أن تقول: رهن وبيع. بل إما رهناً على البتّ المعروف، أو يكون بيعاً على السنن المعروفة، أما أن تجعله رهناً من وجه، وبيعاً من وجه، وتردِّده، وتقول له: هو بيع إن عجزت، ورهنٌ إن لم أعجز، فهذا لا يستقيم. فهذا النوع من التداخل والنوع من الإرباك في العقود لا تُقِرُّه الشريعة، ولذلك لا تعرف في بيوع المسلمين أو في إجارات المسلمين القديمة مثل هذا التردد؛ لأن الشريعة قفلت أبواب مثل هذه المعاملات؛ لأنها تُفضِي إلى الخصومات والنزاعات، فإذا مات أحد المتعاقدين قبل تمام العقد الأول وقع النزاع، وجاء ورثته يطالبون بما كان عليه مورثهم، أو يطالبون بإلغاء ما كان عليه مورثهم، فيقع بين الناس الخصومات والنزاعات، ثم ربما تعاقدوا والمعقود عليه على حال يرثى لها، ثم يئول إلى حالة أفضل، فيكون الغبن على البائع، أو يئول إلى حالة أردى فيكون الغبن على المشتري. وعلى هذا فلا تجيز الشريعة مثل هذا؛ لأنها تريدك إذا أردت بيعاً أن تعرف قيمة ما تشتريه، إذا كنت مشترياً، وتعرف أيضاً أنك إن بعت تبيع على البت، دون أن تغرِّر بمن يشتري منك إن كنت بائعاً ....... الشروط المشروعة والشروط الممنوعة في الرهن بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من مسألة العدل، دخل في قضايا الشروط، فهناك في الرهن شروط شرعية توافق مقتضى العقد، وهي الشروط المشروعة، وهناك شروط غير شرعية لا توافق مقتضى العقد، وهي الشروط الممنوعة. عندنا شروطٌ مشروعة، وشروطٌ ممنوعة. فالشروط المشروعة: أن يقول له الراهن: إن انتهى الأجل فقد أذِنتُ لك أن تبيع الرهن. أو يقول من له الدين: أشترط عليك أنك إذا عجزت عن السداد بعت وقضيت دينك، فيقول: قبلت. وكذلك إذا قال له: هذه العمارة قيمتها مليون، فأعطني رهناً، فقال: أرهنك أرضي الفلانية، فقال: قبلت، ولكن أشترط عليك أن تكون عند محمد، -وهو رجل عدل- فقال: قبلت، فمحمد العدل الصالح حينما يوضع عنده الرهن يُقصد منه المحافظة عليه، فكأن هذا الشرط قصد منه صاحب الدين أن لا يفوت الرهن، فهو يشترط شرطاً يوافق مقتضى الشريعة من بقاء الرهونات، فهذا يسمى: شرطاً شرعياً. وهكذا لو قال له: أشترط أن يكون عند محمد، وأنه إذا تم الأجل ولم تسددني فيكون محمد مأذوناً له بالبيع، ولا يحتاج أن يستأذن مرة أخرى، فقال: قبلت، فكتب بينهم العقد على ذلك، فحينئذٍ احتاط من له الدين باحتياطين، واشترط عليه شرطين: الشرط الأول: أن يكون الرهن عند فلان من الناس المعروف بالأمانة والحفظ، فهذا شرط شرعي؛ لأنه يوافق الشرع، ويوافق مقتضى عقد الرهن من المحافظة عليه. الشرط الثاني: أنه إذا تم الأجل ولم تسددني فيكون العدل مفوضاً ومأذوناً له بالبيع، فقبل الآخر. إذاً: عندنا رهن، وعندنا شرطان، وكلا الشرطين إذا تأملتهما وجدتهما موافقين لمقصود الشرع من الرهن، فنقول: هذا شرط شرعي، ولو كان المرهون شيئاً يسيراً، ونحن نمثل دائماً بالأشياء الغالية؛ لأنها تلفت النظر، وتجذب الأنظار، لكن حتى في الأشياء اليسيرة فإنه يأخذ نفس الحكم، حتى لو رهنه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/426)
ساعة، كأن يقول له مثلاً: يا فلان! أنا بحاجة إلى خمسمائة ريال إلى نهاية ذي الحجة من هذا العام، قال له: أُعطيك ولكن أعطني رهناً، فقال: هذه ساعتي رهنٌ عندك، فقال: أشترط عليك أن تكون عند محمد، أو عند زيد، وأنك إن لم تسددني عند تمام الأجل فإنه يبيعها. إذاً: الفقه إذا سُئلت عن الشروط في الرهن فقُل: تنقسم إلى قسمين: إما أن توافق مقصود الشرع، وإما أن تُخالف مقصود الشرع، فنحن لا نُبطل الشروط في الرهن، ولا نُثبتها بإطلاق، وإنما العدل الذي أمرنا الله به أن ننظر فإن كانت هذه الشروط قَصَد بها العاقدان أو أحدهما الاستيثاق وإيصال الحق لأهله، فنقول: هذه شروطٌ شرعية؛ لأن الشريعة قامت على ذلك؛ بل إن الله سبحانه لم يشرع الرهن إلا لكي يصل كل ذي حق إلى حقه، فإذا ثبت هذا فنقول: هذا شرطٌ شرعي، أما لو كان الشرط يخالف مقتضى عقد الرهن، ويخالف شرع الله عز وجل، فإنه لا يكون شرطاً شرعياً. وحينئذٍ نص المصنِّف رحمه الله بقوله: (لم يصح الشرط وحده). يبقى السؤال: هل يُلغى عقد الرهن؟ أو يُلغى الشرط ويصح عقد الرهن؟ نص المصنف على أن الشرط يبطل ويبقى عقد الرهن صحيحاً؛ لأن القاعدة تقول: الإعمال أولى من الإهمال، فإعمال وإبقاء عقد الرهن هو الأصل، حتى يدل الدليل على أنه مُهمل، وأنه منفسخ بمثل هذا الشرط، فحينئذٍ نحكم بانفساخه، والأصل بقاء ما كان على ما كان، فنقول: الرهن في الأصل إذا وقع بينهما واتفقا عليه أنه تام. ...... صحة الشروط أثناء العقد وبعده والشروط الشرعية التي ذكرناها تكون أثناء عقد الرهن، وتكون بعد الرهن بيوم أو يومين، أو بمدة، فمثلاً: لو أنه رهن عنده وجاءه بعد الرهن بيوم، وقال: يا فلان! نحن اتفقنا على أن تكون السيارة عند محمد، ولكني أطلب منك شرطاً وهو أنه إذا حضر الأجل أن يتولى محمد البيع دون أن ينتظر إذناً منك؛ لأنك رجل كثير السفر، وأنا رجل أريد حقي؛ لأن هذا الدين والمال الذي أعطيتكه متعلِّق بأموال أُناس أو حقوق أناس، فما أريد أن أتعطّل، فأريد إذا حضر الأجل أن يُباع الرهن ويُعطَى حقي، فقال له: لك ذلك، فالشرط لم يقع أثناء العقد، وإنما وقع بعد العقد، فإن تراضيا عليه في حال العقد أو تراضيا عليه بعد العقد، فالحكم واحد، وهو شرطٌ شرعي معتبر.
أحوال الشرط والعقد من حيث الصحة والبطلان وقوله: (لم يصح الشرط وحده)، أي: أننا نُبطِل الشرط، ولكن نصحِّح عقد الرهن، وفي بعض الأحيان تأتي شروط في العقود، وتكون الشروط فيها: على أحوال فتارةً يلغى الشرط مع العقد، وتارةً يلغى الشرط ويصح العقد، وتارة يصح العقد والشرط. فإما أن تصحِّح العقد وتلغي الشرط، أو تصحِّح العقد والشرط، أو تُلغي العقد والشرط، فهذه ثلاثة أحوال. ففي بعض الأحيان تصحِّح الشريعة الشرط مع العقد، وهذا إذا كان شرطاً موافقاً لشرع الله عز وجل، سواءً في البيع، أو في النكاح، كأن يشترط شرطاً يوافق الشريعة، وليس فيه غرر، وليس فيه أمر محرم، فنصحِّح العقد الذي هو عقد النكاح ونصحِّح الشرط. وفي بعض الأحيان يكون الشرط موجباً لإلغاء العقد؛ كأن يشترط شرطاً يُوجِب دخول الغرر في العقد، وهذا الشرط يمنع من مضي العقد، والأصل مضيه، ويمنع من لزومه، والأصل لزومه، فيضاد الشرع، فمثل هذه الشروط إذا وقعت في العقد وتَركّب العقد منها، فإنه يُلغى الشرط ويُلغى العقد، ومن هذا: البيعتين في بيعة، فلو قال له مثلاً: أبيعك هذه الدار بشرط أن تبيعني دارك، فقالوا: هذا هو البيعتان في بيعة؛ لأن البيعتين في بيعة فيها ما يقرب من أربعة أقوال للعلماء رحمهم الله: ومنها قوله: أبيعك داري بشرط أن تبيعني دارك، فحينئذٍ كأنه عاوض بين الربحين، وكأنه يبيع ربح تلك بربح هذه، ويكون مقابلاً للمال بالمال على وجهٍ يُدخِل شبهة الربا. والبيع يفسد بحرمة عين المبيع، أو بالغرر، أو بالربا، أو بالشروط التي تئول إلى الربا، أو إلى الغرر، أو مجموع الأمرين. وقد تقدَّمت معنا أمثلة في كتاب البيوع على الشروط الفاسدة المنهي عنها شرعاً، والتي توجب فساد العقود، كأن يقول له: أبيعك هذه الدار على أن لا تبيعها لأحد، فإن هذا الشرط يخالف مقتضى عقد البيع، ويخالف شرع الله؛ لأن شرع الله أنك إذا ملكت الدار فإنه من حقك أن تبيعها، فيقول العلماء: إذا قال له: أبيعك الدار بشرط أن لا تبيعها لأحد، فحينئذٍ هذا البيع
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/427)
فاسد؛ لأن البيع تَركّب من شرطٍ يخالف مقتضى العقد، حيث تم العقد وتركب منه. وبعض العلماء يصحَّح البيع ويُلغي الشرط، لكن الذي ذكرناه أقوى. وفي بعض الأحيان يُلغى الشرط والعقد، وتارةً يُلغى الشرط ويبقى العقد صحيحاً، كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم في حديث بريرة رضي الله عنها، فإن بريرة اشترط أهلها أن الولاء لهم، وهذا الشرط يخالف شرع الله عز وجل؛ لأن الولاء لمن أعتق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق)، فصحَّح البيع وألغى الشرط. وعلى هذا يقول العلماء: إن الشروط تأتي على هذه الصور كلها: فإما أن توجب فساد العقد فيلتغي الشرط والعقد، وإما أن تكون موافقة للشرع، فيُصحَّح العقد ويلزم الشرط، وإما أن يصح العقد ويلتغي الشرط. ومن القصص العجيبة التي وقعت لبعض السلف: أنه وقع له بيعٌ بشرط، فسأل بعض العلماء عن حكم هذا البيع؟ فقال: البيع فاسد بهذا الشرط الفاسد، ثم سأل ثانياً، فقال له: البيع صحيح والشرط فاسد، ثم سأل ثالثاً، فقال له: البيع صحيح والشرط معتبر؛ لأنه خفّف في ذلك الشرط واعتبره موجباً. ثم لما رجع إليهم، فوجد الذي يقول بصحة العقد وفساد الشرط يحتج بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة بريرة، حينما اشترطوا شرطاً لا يوافق شرع الله، فألغى الشرط وصحَّح العقد. والذي قال بصحة العقد والشرط احتج بحديث جابر رضي الله عنهما، لما باع جمله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشترط حملانه إلى المدينة، وهو في الصحيحين، فقال: الشرط صحيح والعقد صحيح. والذي قال بفساد العقد وفساد الشرط، احتج بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الثنيا في البيع، وعن بيعٍ وشرط؛ لحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيعٍ وشرط). فكل منهم يحتج بسنة، والواقع أن هذه السنة لا تتعارض، وذلك كما ذكرنا: إن كان الشرط يخالف مقتضى العقد تماماً، وينبني العقد عليه مع فساده، فإن هذا يدخل على العقد ويوجب فساده فيلتغيان، وإن كان موافِقاً صُحِّح، وإن كان لا يدخل على العقد، ويُراد به منفعة أحد المتعاقدَين على وجه يوجب الفساد، فإننا نقول بفساد الشرط وصحَّة العقد، وهذا هو المعوّل عليه عند المحقّقين من العلماء رحمهم الله في التفصيل في الشروط. فالخلاصة: أن الرهن فيه شروط مشروعة، وهي التي لا تخالف مقتضى العقد، ويشترطها صاحب الدين ليستوثق بها من دينه، ونحو ذلك، وهناك شروط ممنوعة، وهي التي تخالف شرع الله عز وجل، وكلٌ منهما فصّلنا حكمه، فإن كانت مشروعة شُرعت ولَزِمت، وإن كانت ممنوعة بطَل الشرط وبقي الرهن على ما هو عليه.
قبول قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده قال رحمه الله: [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده]. قوله: (ويُقبل قول الراهن في قدر الدين)، المسائل من الآن مسائل قضائية، والأصل أن مسائل القضاء تؤخَّر إلى باب القضاء، فهناك كتاب جعله العلماء رحمهم الله في الأخير يقال له: كتاب القضاء، وكتاب القضاء يُبيِّن العلماء رحمهم الله فيه آداب القاضي، وصفة الحكم بين الخصمين، والبيِّنات والأدلة والحجج، وتعارض البيِّنات والحجج، وأنواع البيِّنات ... إلى آخر ما يتبع كتاب القضاء. لكن من عادة العلماء رحمهم الله أنهم ربما أدخلوا بعض المسائل في أفراد العقود وألحقوها بها، وإن كانت مندرجة تحت أصل سيقرِّرونه في القضاء، وإلا فالأصل أنها تقرر في باب القضاء، لكن قد يأتون في الرهن ويتكلمون على هذه المسائل؛ لأنها مسائل خاصة، وهي في الحقيقة مندرجة تحت أصول كتاب القضاء، وقد سبق أن بيّنا في المجلس الماضي أن مسألة المدَّعِي والمدّعَى عليه هي التي ينبني عليها طلب الدليل من المدّعِي، وطلب اليمين من المنكر، وهو المدّعَى عليه، وقلنا: إن العلماء رحمهم الله لمّا جاءوا إلى كتاب القضاء، ذكروا أن من أهم ما ينبغي على القاضي في كتاب القضاء: أن يعرِف من المدّعِي ومن المدّعَى عليه؟ فإذا ميّز بين المدعِي والمدّعَى عليه أمكنه أن يقضي؛ لأنك إذا عرفت من المدّعِي ومن المدّعَى عليه، قلت للمدّعِي: أحضر الدليل، هذا إذا أنكر المدّعَى عليه. مثاله: جاء شخص وقال: لي على فلان ألف، فنقول: يا فلان! هل له عليك ألف؟ فإذا قال: لا. فنقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: ما عندي بينة، فنقول له: ليس لك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/428)
إلا يمينه؛ وذلك لما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (البيِّنة على المدَّعِي واليمين على من أنكر)، فإن حلَف اليمين، فقد دفع بها التهمة أو الدعوى عن نفسه. إذاً: تمييز المدَّعِي عن المدّعَى عليه مهم، ولو أن قاضياً لم يعرف من المدَّعِي والمدّعَى عليه؛ لما استطاع أن يقضي؛ لأنه إذا لم يميِّز من الذي قوله يوافق الأصل، وقوله يوافق العرف، وقوله يوافق الظاهر؛ فإنه لا يستطيع أن يقول: ائتني ببينة؛ ولما عرف من الذي يُخاطَب بالبيِّنة، ومن الذي يُخاطَب باليمين، فلمّا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدَّعِي واليمين على من أنكر)؛ لزم على القاضي أن يعرف ويميِّز بين المدَّعِي والمدّعَى عليه، قال الناظم: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا فالمدَّعِي من قوله مجرد من أصلٍ أو عرفٍ بصدق يشهد وقيل من يقول قد كان ادّعَى ولم يكن لمن عليه يُدَّعى وقد شرحنا هذا وبيّناه، وبناءً على ذلك نطبِّق هذه القواعد التي سبق شرحها: أن المدَّعَى عليه يُنكر، ويقول: لم يكن، والمدَّعِي يقول: قد كان. أو يكون المدَّعى عليه قوله يوافق الأصل، والمدعي قوله يخالف الأصل. وهنا في مسألة الدين: قول من عليه الدين -وهو الراهن- موافق للأصل. وتوضيح ذلك: عندما نأتي عند سداد الدين -والمصنِّف رحمه الله من دقته أن أخّر هذه المسألة إلى آخر باب الرهن؛ والسبب في هذا: أنه عند بيع الرهن تقع الخصومات: هل الدين ألف، أو ألفان، أو ثلاثة؟ - فعندما نأتي عند سداد الدين فربما في بعض الأحوال يقع بينهما اختلاف في قدر الدين، فالسؤال الآن الذي يحتاج إلى إجابة: هل نقبل في قدر الدين قول الراهن أو نقبل قول خصمه؟ بمعنى: هل الذي يحدد قدر الدين هو الذي عليه الدين، أو الذي أعطى الدين؟ هذا سؤال لا بد له من إجابة. والجواب: أن المدَّعِي هو المرتهن، صاحب الدين، والمدّعَى عليه هو الراهن. مثل أن يقول صاحب الدين: عند محمد مليون، فقال محمد: بل دينك مائة ألف. فهنا وقعت الخصومة؛ لأن صاحب الدين ادعى عليه أكثر، فقال له: بل ديني مليون، فإذا قال محمد المديون: إن الدين مائة ألف، وقال عبد الله: بل مليون، فإننا متحققون وعلى يقين أن الدين مائة ألف؛ لأن كلاً منهما -الذي قال: مائة ألف، والذي قال: مليون- متفقون على أن المائة ألف موجودة؛ فالذي قال: الدين مليون قد أثبت وجود مائة ألف، وكذلك الذي قال: إن الدين مائة ألف، إذاً اليقين أنها مائة ألف، وشككنا فيما زاد عليها، فهذا الزائد نقول لصاحب الدين: أثبت وجوده. فدائماً نجد أن المديون مدّعَى عليه، وقوله موافق للأصل؛ لأننا قلنا: هناك أمارات للمدَّعَى عليه، منها: أن يوافق قوله الأصل، أو يوافق العرف، أو يوافق الظاهر، فهنا ثلاث حالات: يوافق الأصل كما في مسألتنا؛ لأن الأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها. فالأصل أنه لما ثبت اليقين عندنا أنه مديون بمائة ألف، ثبت كونه مديوناً، لكن المبلغ الزائد، الأصل براءة ذمته منه، حتى يَثْبُت أنه مديون بها؛ ونعتبرها دعوى يُطالَب صاحبها بالدليل. ولما قال له صاحب الدين: لي عليك مليون، فقال: لا، بل لك علي مائة ألف. فإنه منكِر للزيادة، فيكون مدَّعَى عليه، فقوله حينئذ مُعتبَر. فإذا قال العلماء: القول قول فلان، فمعناه: أنه مدَّعَى عليه. ودائماً نجد في باب الرهن، وفي باب الخصومات، وفي الحوالة، وفي العارية: القول قول فلان، ومعناه: أنه مدّعَى عليه، وأن خصمه هو الذي يُطالَب بالدليل. ...... مسألة نفي الرهن وما يترتب عليها من أحكام هذا في مسألة قدر الدين، وأن يكون المديون مقراً بأصل الدين، ولكن الخلاف فيما هو زائد، أما لو نفى كونه رهناً، وقال: إنما أعطيته عارية، ولم أعطه رهناً، وليس له عليَّ شيء، فحينئذٍ أنكر الدين أصلاً. فإذا أنكر الدين، وقال له صاحب الدين: بل أعطيتني هذا الشيء رهناً، وأنت مدينٌ لي، فبعض العلماء يقول: إن الرهن وصفٌ زائدٌ على العارية، فيُطالَب من يدَّعِي الرهن ويدّعِي كونها محبوسة بالدليل؛ لأن الأصل ملكية الشخص لهذا الشيء، فإذا ادعاه رهناً، فمعناه: أنه يريد أن ينقل عنه الملكية في المآل. فنقول لمن يدعي أن هذا الشيء رهن: أثبت أنه استدان منك، وعليه فهناك عدة مسائل: فتارةً ينفي الدين، فإذا نفى الدين فيُطالب صاحب الدين بإثبات كونه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/429)
مديوناً؛ لأنه يمكن في بعض الأحيان أن يأتي شخص ويأخذ منك السيارة عارية، ويقول: سأذهب بها إلى قضاء حاجة وآتي، ثم بعد أن يعود تأتي فتقول له: أعطني سيارتي، فيقول: لا، هذه رهنٌ بعشرة آلاف لي عليك. إذاً: الأصل عدم وجود الدين، والأصل عدم شغل ذمته بالدين، فليس كل شخص أخذ متاع أحدٍ، أو احتبس متاع أحدٍ، أو كان واضعاً يده على متاع أحدٍ يُقبَل منه ادعاء الرّهن، فإذا أنكر الدين بالكلية فالقول قول المنكِر، الذي هو صاحب السلعة، ومالكها، ويُطَالب من يدّعي كونها رهناً بالدليل، على نفس الأصل الذي قررناه؛ لأنه لو فُتح هذا -كما ذكرنا- لادعى أناس أموال أناس، فقد يأتيك شخص ويقول لك: أعطني سيارتك لأذهب بها إلى حاجة، ثم يقبضها ويذهب ويمتنع من إعطائها لك، ويقول: أعطيتنيها رهناً بعشرة آلاف .. أو ما إلى ذلك. فحينئذٍ لن تستطيع أن تأخذ سيارتك؛ بل إنه يدَّعِي عليك شغل الذمة، فلو فُتِح هذا الباب لتسلّط الناس على أموال بعضهم، فالشريعة تقول في هذه الحالة: الأصل أنك غير مديون؛ لأن القاعدة: أن الأصل براءة الذمة، وهذه قاعدة منتزعة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أقوامٌ أموال قومٍ ودماءهم)، فلو كل شخص يدَّعِي لذهبت أموال الناس وذهبت أعراضهم، وذهبت كذلك دماؤهم. إذاً: لا نقبل ادعاءه بكونه مديوناً، هذا أولاً، وثانياً: إذا أقر أنه مديون واختلفا في قدر الدين، فإننا نرجع إلى قول المديون، ونقول: اليقين القدر الذي ذكره والزائد يحتاج إلى دليل. ويقبل قول الراهن في قدر الدين قليلاً كان أو كثيراً.
إقرار المدين بالدين ثم هنا مسألتان: أولاً: أنه إذا قال: لك عليّ ألف، وقال صاحب الدين: نعم هي ألف، فنقبل قوله؛ لأنه شهِد على نفسه، وهذا يسمى: إقرار، وأقوى الحجج في القضاء هو الإقرار؛ لأن الإقرار شهادة الإنسان على نفسه، فإذا شهد الإنسان على نفسه فإن الغالب أنه لا يشهد على نفسه بالضرر؛ لأن الله جعل للإنسان العقل، والعقل يعقِله عن أن يُدخِل الضرر على نفسه، وما دام أنه عاقل، وأنه أهل للتصرف في ماله، ليس إنساناً مجنوناً، ولا إنساناً عنده خفَّة وعته؛ فهذا الإقرار حجّة، ومن هنا يقول العلماء كلمة مشهورة: إن الإقرار سيد الأدلة، أي: أقوى الحجج؛ لأنك لن تجد أصدق من شهادة الإنسان على نفسه. وعلى هذا نقول: إنه إذا أقر بكونه مديوناً لزمه، ويُقبل قول الراهن في قدر الدين؛ لأنه شهادة منه على نفسه. ثانياً: يُقبل قوله معارضاً لقول خصمه؛ لأن قوله يقين، فإذا اختلفا في القدر وكان الأقل فهو يقين والزائد خلافه، فيُطالَب من زاد بالدليل، والأصل براءة ذمته حتى يدل الدليل على شغلها.
قبول قول الراهن في قدر الرهن قوله: (والرهن). أي: يقبل قول الراهن في قدر الرهن الذي أعطاه، وذلك عندما يعطي الراهن سيارته للمرتهن، ثم يقول المرتهن: ما أعطيتني السيارة كاملة، بل أعطيتنيها ناقصة، فحينئذٍ يقول بعض العلماء: إن الرهن يُقبل فيه قول الراهن، وقال بعض العلماء: يقبل فيه قول المرتَهِن، لأنه مدَّعَى عليه، فإذا ادعى الراهن أن قيمة الرهن أكثر، فمعناه أنه يدَّعِي الأكثر. فبعض العلماء يرجِّح أنه يُقبل قول الراهن في قدر الدين، ويقبل قول المرتهِن في قدر الرهن، وفُرِّق بينهما؛ لأن اليد في الرهن غير اليد في قدر الدين، ومن هنا ففيه إقرارٌ ثابت بشغل الذمة في الديون، وهذا يستلزم أنه قد أثبت شغل ذمته، فيبقى الادعاء زائداً بالقدر، فيكون القول قول الراهن، بخلاف المسألة الثانية، ولهذا فرق بينهما، واختار المصنِّف أنه في قدر الرهن يُقبل قول الراهن. وتوضيح ذلك أكثر: أنهم يجعلون الراهن مدَّعَى عليه، فهو يقول: إن الرهن كامل، وذلك إذا وقع اختلاف في النقص والزيادة في الرهن، فإذا قال الراهن: إن الرهن كامل، فقال المرتَهِن: ليس بكامل. فحينئذٍ يقولون: إن الأصل كماله؛ لأنه لا يمكن أن يعطيه رهناً لقاء دين إلا وهو كامل في الغالب. مثلاً: لو كان الدين مليوناً، ثم ادَّعى أنه رهنه مزرعة بقيمة المليون، فقال: بل أعطيتني مزرعةً بنصف مليون. قالوا: فيُقبل قول الراهن؛ لأن الراهن يكون هو المدَّعَى عليه. ويقول: إمام دار الهجرة، الإمام مالك رحمه الله -وأميل إليه في الحقيقة- يقول: يُنظَر إلى وجود الشبهة، فإن كان الرهن الذي أعطاه مقارباً؛ فإننا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/430)
نقبل قول أقربهما إلى هذا -يعني في القدر- وإن كان الرهن الذي يدَّعِيه المرتَهِن أقل، فإننا نقبل قول الراهن، فيجعل التهمة معتبرة لترجيح أحد القولين، فإن كان الذي يزيد -وهو الراهن- معادلاً للدين قبلنا قوله، وإن كان الذي ينقص -وهو المرتهن- مقارباً للدين قبلنا قوله. فهذا -مثلاً- يقول: رهنتك مزرعة قيمتها مليونان، والدين مليون، فيقبل هنا قول الذي له الدين في أنها بمليون؛ لأنه يدَّعي عليه أمراً زائداً في شبهة قامت، على أن الأصل والأقوى أنها بمليون؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يرهن الأكثر في الأقل. فقالوا: إن هذه شبهة تقوِّي قول صاحب الدين، وهذا الذي سبق أن ذكرناه بالإجمال، وأما إذا كان العكس، بأن قال الراهن: رهنتك مزرعة قيمتها مليون، فقال المرتهن: بل رهنتني مزرعة قيمتها ربع مليون، والدين مليون، فحينئذٍ يكون القول قول الراهن، وأما المرتَهِن فقوله خلاف الظاهر. فهذا ترجيح وإعمال للظاهر مع وجود الشبه. وهذا التفصيل حقيقة فيه قوة خاصة عند فساد الزمان؛ لأن الغالب أن الناس كلٌ منهم يحتاط عند فساد الزمان، ويكون الرهن غالباً مقارباً، إلا أن القول الذي اختاره المصنِّف ينبني على احتمال أن الشخص يرهن شيئاً زائداً عن دينه، وهذا يقع في بعض الأحوال، لكن الحكم للغالب والنادر لا حكم له. وعلى هذا يقولون: عند الاختلاف يرجع إلى الترجيح، وإن كان أحد الخصمين مظلوماً. إذاً: لا بد أن ننظر إلى الأرجح، وإلى أكثر الصور رجحاناً ونحكم بها، وهذا منهج في التشريع معروف، ولذلك لما قال الشرع: (البينة على المدَّعِي) قد يكون المدَّعِي من أصلح خلق الله، ولا يكذب، ولو ضُرِبت عنقه ما كذب، فهل تكون البينة على المدَّعِي سواءً الصالح والفاجر؟ فنقول: نعم. فالشريعة تنظر إلى أغلب الناس، ولذلك قال الناظم: والمدَّعِي مطَالَب بالبيِّنه وحالة العموم فيه بيِّنه قوله: (والمدعي مطالب بالبينة) أي: بالدليل، سواء كان فاجراً أو صالحاً، وقوله: (وحالة العموم فيه بيِّنة) يعني: واضحة ظاهرة، وهذا مما اتفقا لفظاً واختلفا معنى. فنحن إذا نظرنا إلى أصل الشريعة العامة، فإنها تنظر إلى الغالب، فكون الرهن في الغالب قريباً من الدين، هو الذي نحكم به، ويترجّح قول الإمام مالك في هذه المسألة، وهو الذي أميل إليه، واختاره بعض العلماء رحمهم الله، وبعض أصحاب الإمام أحمد، أنه يُنظر إلى الشبهة، فإن قويت الشبهة رجحت قول أحدهما، فيكون حينئذٍ القول قوله، ومن كان قوله أضعف شبهة فإنه يكون مدَّعياً فيُطالَب بالبيّنة.
قبول قول الراهن في رد الرهن وعدمه قوله: (ورده). كذلك يقبل قول الراهن في رد الرهن. فمثلاً شخص له على المديون مليون، فسدد الدين، والحكم شرعاً أنه إذا سُدِّد الدين، فيجب على من له الدين أن يرد الرهن، مثال ذلك: شخص اشترى من شخصٍ عمارة بخمسمائة ألف، وأعطاه أرضاً رهناً على أن يسدد في نهاية العام، فلما جاء الأجل أعطاه الخمسمائة ألف كاملة تامة، فيجب على المرتَهَن أن يرد الرهن، فإذا قال الراهن: أعطني رهني، فقال المرتهن: قد أعطيتك، فقال: ما أعطيتني، فاختلفا هل رد الرهن أو لم يرده؟ فنقول: أولاً: اليقين أن الرهن موجود عند المرتَهِن؛ لأنه أخذه لقاء دينه، واستوثق به لقاء دينه، فنحن على يقين أن ذمته مشغولة بهذا الرهن حتى نتحقق من رده لصاحبه. فإذا قال القاضي للمرتهن: هل أعطاك فلان رهناً؟ فقال: نعم، قال له: هل رددت له رهنه؟ فقال: نعم، رددت له الرهن، وحينئذٍ سأل القاضي خصمه: هل ردّ لك الرهن؟ فقال: لا .. إذاً نحن على يقين أن ذمة فلان -الذي هو صاحب الدين- مشغولة؛ لأنه اعترف أنه أخذ رهناً، لكن لو أن الراهن قال: أعطيته رهناً في دين، فقال المرتهن: ما أعطاني رهناً، فنقبل قول المرتَهَن؛ لأن الأصل أنه لم يأخذ رهناً حتى يقوم الدليل على أنه أخذ رهناً. إذاً: في إثبات الرهن القول قول صاحب الدين وهو المرتَهَن، وبعد أن يثبُت الرهن، ففي رد الرهن القول قول الراهن؛ لأننا تحققنا من شغل ذمة المرتَهِن، حتى يدل الدليل على أنها برئت ذمته، وأنه سدد أو رد الرهن إلى صاحبه. فكما أنه رد له حقه كاملاً، فيجب عليه كذلك أن يرد الرهن كاملاً على ما اتفقا عليه.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/431)
الأسئلة ...... حكم شراء السلعة وجعلها رهناً لقاء قيمتها عند بائعها السؤال: ما الحكم لو بعته سيارة بالتقسيط على أن يعطيني رهناً، فرهنني السيارة نفسها، وأذِنت له في التصرُّف على أن لا يبيعها حتى ينتهي السداد أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن هذا النوع من البيوع فيه شبهة، وعلى هذا يُقال: إن الرهن وقع على نفس المبيع، وحينئذٍ لم يكن على سنَن الرهن المعروف شرعاً؛ لأن الأصل في الرهن أن يكون بعينٍ يُستوثق بها لقاء الدين، وأن تكون هذه العين منفكة عن أصل التعاقد؛ لأن المقصود من الرهن إمضاء العقد الأصلي، وعلى هذا فإنه يقوم بإلغاء العقد الأصلي، فهو إذا باعه السيارة، وجعل السيارة نفسها رهناً، فإن معنى ذلك: أنه سيُبقي هذه السلعة معه، وإذا تم الأجل وعجز عن السداد ستُباع، وإذا بيعَت فلا شك أنها ستكون أنقص قيمة، ولم يستفد المشتري من السلعة، فيكون قد اشترى العاجل بالآجل مع التفاضل. والشبهة في هذا ظاهرة. فالمقصود من الرهن إمضاء العقد الأصلي، وأن يُعطى الرهن من أجل أن تتم الصفقة الأولى، فإذا صارت الصفقة نفسها هي الرهن، فحينئذٍ خالفت المقصود من الرهن، ولذلك فأصل الرهن إمضاء التجارات. وأكثر توضيحاً نقول: إذا قال له: أبيعك هذا البيت بمليون مثلاً، على أن تدع البيت رهناً عندي، فإنه في هذه الحالة إذا قال له: على أن تسدِّد المليون في نهاية السنة، فإذا لم تسدد سأبيع البيت ثم أسدد وتدفع الناقص، فإذا تم البيع فلن يستطيع أخذ السلعة، ولن يستطيع إمضاء العقد الأصلي، والرهن أصلاً لإمضاء العقد الأصلي، فيبقى البيع نفسه الذي من أجله شُرع الرهن لإتمامه معطلاً بالرهن، أي: أُدخِل الرهن لنقضه خاصة عند العجز عن السداد؛ لأن الإشكال كله عند العجز عن السداد، فإذا حضر نهاية السنة فإنه سيُباع البيت بتسعمائة ألف، فيكون حينئذٍ أوجب عليه (المليون) السابقة، ثم أخذ لقاءها تسعمائة ألف، وخرج الرجل بلا شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يؤجر البيت، ولا يستطيع أن ينتفع به طيلة المدة كلها، فصار كالعقوبة عليه لعدم السداد، ثم يلزم بدفع مائة ألف لأجلٍ، وغالباً أن السلعة إذا رُهِنت على هذا الوجه أنها تنقص قيمتها، ولا تبقى على نفس القيمة، فالشبهة في هذا واضحة. وخلاصة الأمر: أن الله عز وجل إنما شرع الرهن من أجل أن يكون هذا إبقاءً وإنفاذاً للعقد الأصلي الذي هو البيع، فإذا اشترى منه سيارة ورهنه داراً، فإن معنى ذلك: أن الدار هذه جُعِلت من أجل إن عجز عن سداد قيمة السيارة، تُسدَّد القيمة من الدار فيتم البيع الأول، فكأن مقصود الشرع أن يتم البيع الأول. فإذا أدخل صورة الرهن بشكل يخالف مقصود الشرع من مشروعيته، فإن هذا ليس على سنَن الرهن المعتبر. وعلى هذا لا يصح أن يكون الشيء مبيعاً مرهوناً، وإنما يكون الرهن بشيءٍ يستوثق به لإتمام الصفقة الأولى، ويدخله شبهة ما ذكرناه من بيع الآجل بالعاجل، على وجهٍ فيه ظلمٌ للمشتري؛ لأنه يمنع من الانتفاع بالسلعة، والأصل أنه إذا اشترى السلعة فمن حقه أن يتصرف فيها. فلو قال له: أبيعك هذه الأرض على أن لا تؤجرها لأحد، وعلى أن لا تبيعها لأحد، فكل هذا يخالف مقتضى الشرع، فالمؤقت بالممنوع كالمطلق به، فهو إذا أقّت الممنوع وقال: لا تبيعه مدة كذا، فإن هذا يخالف مقصود الشرع من كونه إذا اشترى الشيء كان حر التصرف فيه، وعلى هذا فالأظهر عدم صحة هذا النوع من الرهون، والله تعالى أعلم.
مطالبة الراهن للعدل إن فرط في الرهن السؤال: ذكرتم أن للراهن أن يقيم دعوى قضائية على العدل إذا فرَّط، فمن المدَّعِي ومن المدّعَى عليه أثابكم الله؟ الجواب: إذا كان العدل قام على الرهن، وطُلِب منه بيع الرهن عند حلول الأجل، وقبضُ الثمن، وإعطاؤه للمرتَهِن، فباع عند حلول الأجل، ثم أقبض بدون إشهاد، فإن اليقين والثابت أن ذمَّته شُغِلت بقيمة الرهن، هذا ليس فيه إشكال؛ لأنه هو يُقِر ويعترف أنه باع الرهن، وأنه سدّد فلاناً؛ لأن القضاء يفصِّل كل كلمة بمعناها، فهو لما يقول: أعطيت فلاناً، فمعناه: أني بعت الرهن ثم أعطيت فلاناً، فحينئذٍ يُمسك ويؤاخذ على قوله: أعطيت فلاناً؛ لأنه لا يُعطي إلا بعد البيع، فكأنه أقر على نفسه أنه باع وقبض الثمن، وبعد قبضه للثمن أعطى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/432)
فلاناً، سواءً فصَّل ذلك أو أجمله، فإن أجمله فالإجمال متضمِّن للمعنى البيِّن جملة وتفصيلاً، يؤاخذ به كما يؤاخذ به مفصَّلاً، كما لو قال: بِعتُ السيارة بعشرة آلاف، ثم ذهبت إلى فلان وأعطيته المبلغ، فقد أقر ببيعها بعشرة آلاف وإقباض فلان هذا المبلغ. فنقول: ذمته مشغولة باليقين بعشرة آلاف لصاحب الرهن، هذا يقين وليس فيه إشكال، لكن هل أعطى أو لم يعط، أو أعطى وأخطأ في الإعطاء؟ فربما أعطى شخصاً آخر، وربما أنه أعطى فعلاً ولكن نسي من أعطاه، فيحتمل أن يكون صادقاً ويحتمل أن يكون كاذباً، ونحن لم نطلع على الغيب، ولا نستطيع أن نستجلي حقيقة الأمر، فحينئذٍ نطالبه بالبينة على أنه أَعطَى، فنُحضِر صاحب الدين، ونقول: هل أعطاك فلان العشرة آلاف؟ فإن قال: ما أعطاني، فهناك يقين أن الذمة مشغولة بعشرة آلاف؛ لأنه لو فُتِح لكل عدل أن يقول: لقد أعطيته، ونقول: أعطاه، وانتهى الأمر، فحينئذٍ نكون قد ظلمنا أصحاب الديون، وامتنع أصحاب الديون من الرهن؛ لأنه لا تتحقق الحكمة والمقصود من الرهن، فنقول: إن القول قول صاحب الرهن؛ لأن العدل يعترف بأنه قبض عشرة آلاف ريال، ويدَّعِي، فهو معترف من جهة ومدعي من جهة، يدَّعِي أنه قد أعطاها لفلان، فصارت قضيتان: القضية الأولى: أنه أقر أن في ذمته عشرة آلاف لصاحب الدين، التي هي قيمة الرهن؛ لأنه في بعض الأحيان تكون قيمة الرهن أن يباع بتسعة آلاف أو يباع بثمانية آلاف، فإذا قال: بِعتُه بعشرة آلاف، فقد ثبت شرعاً في مجلس القضاء ويؤاخذ؛ لأن الإقرار في مجلس القضاء يؤاخذ به الإنسان. فإذا قال: بِعتُه بعشرة آلاف، فقد أقر أن ذمته شُغِلت بعشرة آلاف التي هي قيمة الرهن، لصاحبه؛ لأن العشرة آلاف ملك لصاحب الرهن. القضية الثانية: أنه ادعى أنه أعطى فلاناً العشرة آلاف، فنحضر خصمه، وتُقام بينهما الدعوى، فيقال: هل أعطاك؟ فإن قال: ما أعطاني، فنقول للعدل: ألك بينة؟ فإن قال: ما عندي بينة، فنقول: أتحلف بالله؟ فإذا حلَف بالله، انتهت القضية الأولى، فإذا طالب صاحب الدين بحقه، فنقول للمديون: سدد صاحب الدين العشرة آلاف، ثم أقم الدعوى على خصمك الذي هو العدل، وتصل إلى حقك؛ لأنه اعترف وأقر. ففي مجلس القضاء الأول ثبت فيه الإقرار، ومن الممكن لو خاصمه عند قاضٍ ثانٍ فإنه يقول: قد اعترف عند القاضي فلان أنه قد باع بعشرة آلاف، فلو أنكر العدل بعد ذلك، وقال: ضاع وما بعته، أو تلِف، وما بِعته، أو فلان سحب الرهن من عندي، فنقول للراهن: هل هذا صحيح؟ فإن قال: ما هو صحيح، هذا باع وقد اعترف بالبيع عند القاضي فلان، فإذا ثبت أنه فعلاً أقر في مجلس القضاء؛ فإن الإقرار في مجلس القضاء حجة، ويؤاخذ بهذا الإقرار ويُحكم عليه به. فالشاهد: أنهما قضيّتان منفكتان، ويؤاخذ بإقراره؛ لأنه حقٌ متعلِّق للغير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[23 - 11 - 09, 11:38 م]ـ
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [5] مسائل الاختلاف في الرهن من أهم مسائل باب الرهن، ومما يتفرع عليها: قبول قول الراهن في الدين والرهن ورده، وفي كون الرهن مالاً محترماً شرعاً، ومنها: إقرار الراهن بعدم ملكيته للرهن وما يترتب عليه، وإقراره بجناية الرهن على غيره، وأهم أمر ينبغي معرفته في ذلك: من هو المدعي والمدعى عليه. مسائل الاختلاف في الرهن وأنواعها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنِّف رحمه الله تعالى: [ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده]. سبق أن ذكرنا أن هناك مسائل يختلف فيها قول الراهن والمرتَهَن، وبيّنا أنهما يتنازعان في بعض الأمور المتعلِّقة بالرهن، وأنه ينبغي على طالب العلم إذا قرأ باب الرهن وأحكامه ومسائله أن يُلِمَّ بالمسائل التي يُقال لها: مسائل الاختلاف في الرهن. وذكرنا القاعدة عند العلماء: أنه إذا أردنا أن نبيِّن أحكام الاختلاف في الرهن، فالواجب علينا أن نعرف من هو المدَّعِي ومن هو المدّعَى عليه، وبيّنا أننا إذا قلنا: فلانٌ مدَّعَى عليه، فمعناه: أن القول قوله، وإذا قال العلماء رحمهم الله: القول قول الراهن، فمعناه: أن الراهن مدّعَى عليه، وأنه يُقبل قوله، حتى يقوم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/433)
الدليل على صدق قول من خالفه. وبناءً على هذا: إذا اختلفا في قدر الدين، فقال الراهن: لك علي عشرة آلاف، وقال صاحب الدين: بل لي عليك خمسة عشر ألفاً، فحينئذٍ اختلفا في القدر. والخلاف يكون في الجنس، ويكون في النوع، ويكون في القدر، ويكون في الصفات. فمثلاً: يكون الخلاف في الخمسة عشر ألفاً هل هي ريالات -أصلها فضة- أو (دولارات)؟ فيصبح الخلاف في النوع، فيتفقان على القدر؛ لأن كلّهم يقول: الدين عشرة آلاف، لكن اختلفا هل هي (دولارات) فهي أكثر؟ أو هي ريالات فهي أقل؟ فالمديون يقول: هي من الريالات، والدائن يقول: بل من (الدولارات)، أو من الجنيهات، أو نحو ذلك، فالذي يقول الأكثر لا شك أنه يدَّعِي، والغالب أن الأكثر يكون من المرتَهِن، والأقل يكون من الراهن الذي هو المديون، وعلى هذا يختلفان في قدر الدين، ويختلفان في نوعه، فقد يتفقان في القدر ويختلفان في النوع، فهما يتفقان على أن الدين مثلاً عشرة آلاف من حيث القدر، ويختلفان في النوع كما ذكرنا: هل هي من الذهب جنيهات، أو هي من الفضة ريالات؟ وقد يتفقان على النوع -كالفضة- ويختلفان في القدر، فيقول أحدهما: لي عليك عشرة آلاف، ويقول المديون -الذي هو الراهن-: بل لك علي خمسة آلاف. فحينئذٍ اتفقا على النوع واختلفا في القدر. وفي هذه المسائل يكون المدّعَى عليه هو الراهن، والمدعِي هو المرتَهِن، أي: صاحب الدين. والغالب -كما ذكرنا- أن صاحب الدين يذكر الأكثر، والمديون يذكر الأقل، وحينئذٍ إذا قال الراهن مثلاً: لك علي عشرة آلاف، وقال صاحب الدين: بل لي عليك خمسة عشر، فنحن على يقين أنه أخذ عشرة آلاف، والخلاف فقط في الخمسة؛ لأن الذي يقول: لي عليك خمسة عشر، فإن معناه: أنه يُقر بأن العشرة آلاف ثابتة، وكذلك أيضاً من يقول: لك علي عشرة آلاف، فالقدر المتفق عليه عشرة آلاف، والمختلف فيه الخمسة، وقس على ذلك، فمحل النزاع إذا اختلفا في قدر الدين يكون في الزائد، فإن قال: عشرة آلاف، وقال الآخر: اثنا عشر ألفاً، فالاتفاق على العشرة والخلاف في الألفين. وإن قال: لك علي عشرة آلاف، فقال: بل لي عليك أحد عشر. فحينئذٍ الاتفاق على العشرة، والخلاف في ألف. وهذا الألف الزائد نطالب صاحب الدين بإثباته، ونقول له: ألك بيِّنة؟ فإن قال: ليس عندي بينة، أي: ليس عنده كتابة ولا شهود يشهدون أن الدين أحد عشر، فحينئذٍ نقول: ليس لك إلا يمين المدّعَى عليه، والقول قول الراهن. هذا بالنسبة لمسألة قدر الدين، فإننا نرجع في قدر الدين إلى الراهن؛ لأنه مدَّعَى عليه. وقد سبق أن ذكرنا: أن المدَّعِي والمدَّعى عليه لهما ضابط، فقلنا: إما أن يكون بالنفي والإثبات، كقول الناظم: قيل من يقول قد كان ادَّعى ولم يكن لمن عليه يدَّعى فمن يثبت فهو مدعي، ومن ينفي فهو مدَّعَى عليه، فكيف نثبتها هنا؟ وكيف نطبق هذه القاعدة؟ نقول: إن الذي يقول: لي عليك خمسة عشر فهو مُثبِت ومدعي، وهو صاحب الدين، والذي ينفي هو الراهن الذي يقول: ليس لك علي إلا عشرة آلاف، فهو مدعى عليه. وقيل: من يقول: قد كان، أي: الذي وقع وحصل خمسة عشر هو المدعي، ومعنى قوله: ولم يكن، أي: لم تكن خمسة عشر، إنما كانت عشرة آلاف، هو المدَّعَى عليه وهو الراهن. وعلى هذا ينطبق الضابط الأول، وهو: ضابط النفي والإثبات. وكيف نطبِّق الضابط الثاني وهو الأصل؟ وكيف انتزعنا من هذا الضابط أن الراهن مدَّعى عليه، وأن المرتَهِن وصاحب الدين مدعي؟ نقول: الأمر واضح؛ لأن الأصل براءة ذمة المديون الذي هو الراهن، فالأصل أن الخمسة ليست عليه، والمتفق عليه هو العشرة آلاف، فإذا أثبتنا وتيقنا أن ذمته خالية، فإن ذمته بريئة حتى يثبُت ما يدل على شغلها، ولذلك يقول العلماء والفقهاء في كتبهم: الأصل براءة الذمة، فالأصل أنك غير مديون بالخمسة، والأصل أن ذمتك لا تُشْغل بالخمسة إلا بدليل، فإذا كان يقول: لي عليك دين، فأنت تسلم أن له عليك ديناً، لكن تسلِّم بالعشرة وتُنازع فيما زاد، فحينئذٍ تكون الخمسة الزائدة الأصل براءة ذمتك منها، حتى يدل الدليل على شغلها، وعلى هذا تنطبق الضوابط التي ذكرناها على قول المصنف رحمه الله: (ويقبل قول الراهن) أي: أن قول الراهن هو المقبول، وهو المعمول به في قدر الدين، هذا إذا اختلفا، أما إذا اتفقا فلا إشكال. يبقى السؤال: إذا اتفق القدر واختلف النوع، فما
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/434)
الحكم لو اتفقا في القدر واختلفا في النوع؟ كأن يقول: لي عليك عشرة آلاف جنيهات، فقيمتها أغلى، فقال: بل لك علي عشرة آلاف ريالات، فحينئذٍ يتنازعان، فبعض العلماء يقول: الأصل أن نحتكم إلى العرف. فالعرفُ إن شهِد بصدق أحدهما فالقول قوله، لأن العرف إذا كان بالريالات، فقد ذكرنا قول الناظم: تمييز حال المدعِي والمدّعَى عليه جملة القضاء وقعا فالمدعِي من قوله مجرد من أصلٍ أو عرفٍ بصدق يشهد فقوله: (أو عرف بصدق يشهد)، فالعرف يشهد بصدق إحدى الدعاوى، فإذا قال له: لي عليك عشرة آلاف من الجنيهات، وقال الآخر: بل من الريالات، والعرف يتعامل بالريالات، فنقول: القول قول من قال بالريالات؛ لأن العرف يشهد بأن الديون تجري بالريالات لا بالجنيهات، فإن كان العرف بالجنيهات أو (بالدولارات)، حُكِم بذلك العرف. هذا مما يستثنى في مسألة قول الراهن، لكن بعض العلماء يقول -كما اختاره المصنف-: إنه يُقبل قول الراهن مطلقاً، لكن لو نُظِر إلى قواعد القضاء التي ذكرناها، فيكون هناك تفصيل، فنقبل قول الراهن إذا شهِد الأصل أو شهِد العرف بصدقه. ...... تابع قبول قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده قوله: (ويقبل قول الراهن في قدر الدين والرهن ورده) كما إذا قال له: رهنتك سيارةً، فلم تردها. إذا فرضنا أن الدين عشرة آلاف ريال، فدُفِع سيارة في مقابل الدين، فإذا سدد الراهن، فإنه يجب رد الرهن إليه، فصورة المسألة: أن الراهن إذا سدّد الدين الذي عليه؛ فإن له أن يطالِب بالرهن، ويقول: كما أنني وفَّيت لك بأداء دينك عليّ، وفِّ لي برد الرهن؛ لأن الرهن شُرِع من أجل الاستيثاق، فإذا كان الدين قد أُدِّي؛ وجب رد الحقوق إلى أهلها. إذاً: صورة المسألة: إذا قام الراهن بسداد الدين الذي عليه، وإبراء ذمته، فإن له أن يطالب برد الرهن، مثاله: باع رجل عمارته بمليون، فقال له المشتري: أمهلني سنة، فقال البائع: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك أرضي الفلانية، أو عمارتي الفلانية، فقال: قبلت. وقبل انتهاء الأجل سدد المديون والمشتري جميع المليون، فإنه يجب حينئذٍ على صاحب الدين أن يرد الرهن؛ لأن الرهن ملكٌ للراهن المديون، وإنما أُخِذ منه حيطة واستيثاقاً كالوثيقة، احتُفِظ بها حق صاحبها. أما إذا اختلفا فقال الراهن: لم تعطني أرضي، وقال صاحب الدين: بل رددتها إليك، فهل نقبل قول الراهن، أو نقبل قول المرتهِن؟ أو من الذي يُطالب بالبيّنة والدليل على الرد؟ هل نطالب الراهن أو نطالِب المرتَهِن؟ في هذه المسألة ننظر إلى الأصول: فالأصل أن الرهن موجودٌ عند المرتَهِن، فتبين أن الرهن ليس في يد الراهن؛ لأن الكل متفق على أن الراهن قد دفع الأرض للمرتهن، وصاحب الدين -الذي هو المرتهن- يقول: رددت لك، ومعناه: أنه يُسَلِّم بأنه قد أخذ. فإذا جاءك شخصان أحدهم يقول: لي على فلان ألف، فقال الآخر: قد رددتها عليه، فإذا قال: قد رددتها عليه، فمعناه: أنه أقر أن عليه لفلان ألفاً. فهذا ينبغي أن يُلاحظ. فإذا قال صاحب الدين: رددت الرهن إليك، فإننا نقول: اليقين أن الرهن في ذمتك، والأصل أنك مطالب برد الرهن إلى صاحبه؛ لأنك تسلم أن حقك رجع إليك، وهو الدين، وتسلم بأن الراهن قد وضع عندك الرهن. إذاً: نحن على يقين بأن ذمته مشغولة، ونطالِبه بالدليل، كما أنه أقر، والإقرار كما يقولون: أقوى الحجج؛ لأنه شهادة من الإنسان على نفسه. فالقاضي ليس عنده إشكال أن المرتَهِن يقر أن الراهن أعطاه الرهن الفلاني، فما على القاضي إلا أن يبحث أو يطالب المرتَهن -وهو صاحب الدين- بدليلٍ يدل على براءة ذمته، كما أنه على يقين من أنها مشغولة، وحينئذٍ تعكس القضية أو تصوِّرها بصورة ثانية، فتقول: القول قول الراهن. إذاً معناه: أن الرهن في ذمة المرتَهِن، حتى يثبت أنه قد رد ذلك الرهن إلى صاحبه. وعلى هذا قالوا: إذا قال له: قد رددت الرهن إليك، وقال: ما رددت الرهن إليَّ، فحينئذٍ نطبِّق القواعد: وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يُدَّعى (قد كان) أي: صاحب الدين يقول: رددتُ، (ولم يكن) أي: الراهن يقول: ما رددتَ. فإن القول قول الراهن، فتخرَّج على القاعدة التي ذكرناها في الخلاف: أن من ينفي فالقول قوله، ومن يُثبِت يُطالَب بالدليل، وكذلك إذا نظرنا إلى الأصل، فإنه حينما قال له: قد رددت عليه أرضه، فإن الأصل أن ذمته مشغولة
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/435)
برهن الأرض حتى يدل الدليل على براءتها. وعلى هذا تستقيم القاعدتان اللتان سبق ذكرهما، ويصبح الراهنُ مدَّعى عليه، والمرتَهنُ مدَّعياً، وهذا من عدل الله عز وجل بين عباده؛ لأنه لا يمكن أن نضيِّع الرُّهون، وقد تأكدنا وتحققنا أنّ ذِمم أصحاب الديون قد شُغِلت بها. ...... قبول قول الراهن في كون الرهن مالاً محترماً قال رحمه الله: [وكونه عصيراً لا خمراً]. هذه المسألة تُعرَف: بإثبات القيمة ونفي القيمة. فإنه يشترط في الرهن أن يكون له قيمة، أي: أن يكون مالاً محترماً شرعاً. فإن قال قائل: ما الدليل على اشتراطك أن يكون الرهن مالاً محترماً؟ فنقول: إن الله عز وجل ما شرع الرهن إلا من أجل أن يُسدد الدين منه، فالحكمة من مشروعية الرهن أنه إذا عجز المديون عن سداد الدين، فإنه يُباع الرهن ويُسدد منه، فمعنى ذلك أنه ينبغي أن يكون الرهن له قيمة، فإذا لم تكن له قيمة فحينئذٍ تفوت الحكمة التي من أجلها شُرِع الرهن، وعلى هذا قال العلماء: يُشترط في الرهن أن يكون مالاً محترماً شرعاً، أي: له قيمة، وكل شيءٍ له قيمة معتبرة شرعاً، فإنه يوصف بكونه مالاً. مسألة: إذا قال الراهن: أريد منك أن تعطيني ديناً خمسمائة ريال، فقال له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك هذا (الكرتون) من العصير مثلاً، والعصير له قيمة، فقال له: قبلت، فأخذ العصير ووضعه عنده رهناً، فلما تم حلول الدين وأخذ حقه، ادعى صاحب الدين أنه لم يرهنه عصيراً، وإنما رهنه -والعياذ بالله- خمراً، كأن يكون الراهن كافراً، فالكافر الذمي الذي يكون بين المسلمين، قد يستدين منك وتطالبه برهن، فعندهم الخمر لها قيمة، وفي دينهم وشريعتهم لها قيمة، وإن كان لا يصح من المسلم أن يقبله رهناً، لكن ادعى المسلم أن الراهن سواءً كان مسلماً أو كافراً إنما رهنه خمراً، فإذا ادعى المسلم أنه رهنه خمراً، فحينئذٍ يبقى الإشكال: هل نقبل قول الراهن أو نقبل قول المرتَهِن؟ فإن قبلنا قول الراهن أثبتنا المالية للرهن، وإن قبلنا قول المرتَهِن جعلنا الرهن ذا قيمة، مع أنه خمر لا قيمة له، فالمُرتَهِن يريد أن يفوت الرهن فهو يقول: إنما هو خمر، أو يقول: هو ميتة، أو يقول: هو خنزير، بمعنى أنه شيء لا قيمة له؛ لأن الخمر والميتة والخنزير ونحوها مما لا قيمة له لا يأذن الشرع ببيعه؛ ففي الصحيحين من حديث جابر: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخنزير والأصنام)، فلو قال: إنه ميتة، فمعنى ذلك: أنه لا قيمة له. ومثال ذلك في الميتات: لو قال له: رهنتك شاةً حية، فقال: لا، بل رهنتني شاة محنَّطة ميتة. فحينئذ المحنط من الميتات -كما سبق بيانه في بيع الميتات- ليس له قيمة، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه، إذا كان ميتة غير مذكاة، فلو قال له: محنّط، فمعناه: أنه لا قيمة له، ولو قال له: شاة حية، فإن لها قيمة، أما المحنّط فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنه ميتةٌ. وبناءً على ذلك أصبح عندنا قولان: قول يقول: أعطيتك رهناً له قيمة، وهذا القول قول المديون، وهو الراهن، وقولٌ يقول: لم تعطني شيئاً له قيمة، إنما أعطيتني شيئاً لا قيمة له، سواءً كان خمراً أو ميتة أو خنزيراً، فما الحكم؟ هل نقبل قول المديون وهو الراهن، ونطالب الآخر الذي هو المُرتَهِن بالدليل والبيّنة، أو العكس؟ قال المصنِّف: يُقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً؛ لأنك تجد أن الراهن يثبت المالية، وهو حق من حقوقه، والمرتَهِن ينفي المالية؛ لأنه يُسقط عن نفسه تبعة أو مسئولية ضمان الرهن، وعلى هذا يقبل قول الراهن؛ لأن العصير له قيمة، والخمر لا قيمة له، وعلى هذا نطبِّق الضوابط التي ذكرناها. وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يُدَّعَى فكون الراهن قال: رهنتك شيئاً له قيمة، هذا هو معنى قوله: (كونه عصيراً)، والمرتَهِن يقول: بل رهنتني شيئاً لا قيمة له، فأصبح قول الراهن هو المقبول بالإثبات والنفي، فحينئذٍ الأصل إذا نظرت إلى النفي والإثبات قد تقول: إنه إذا قال له: إنه شيءٌ له قيمة، فالمدعي هو الراهن، وإذا قال: لا قيمة له، فالمدعي هو المرتَهِن، فيكون الجواب حينئذٍ: أن الأصل أن من ارتهن فإنه يرتهن شيئاً له قيمة، فتلغي ضابط النفي والإثبات، وتثبت ضابط الأصل؛ لأنه لا يعقل أن إنساناً يقبل رهناً إلا وله قيمة .. هذا وجه. وبعض العلماء يقول: لا؛ بل الأصل الأول ثابت؛ لأنه في
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/436)
حالة كونه يقول: إنه خمر، أو كونه عصيراً فيه نفي من وجه وإثبات من وجه، والآخر له نفيٌ من وجه وإثبات من وجه، فتعارض النفي والإثبات ورُجِّح بالأصل؛ لأنه في هذه الحالة لو قال: إنه عصير، فهو يثبت المالية وينفي كونه لا قيمة له، وكذلك أيضاً العكس الآخر يثبت كونه لا قيمة له وينفي المالية. وعلى هذا صار نفياً من وجه وإثباتاً من وجه، والآخر نفياً من وجه وإثباتاً من وجه، فرجَّح الأصل ما ذكرناه؛ لأن الأصل في الإنسان إذا جاء يرهن فإنه يرهن شيئاً له قيمة؛ لأن الرهن يقصد منه الضمان، وهل يكون الضمان بما فيه مالية أو لا مالية له؟ الضمان لا يكون إلا بما فيه مالية، وعلى هذا اعتضد قول الراهن، وأصبح القول قوله، وليس بقول المرتَهِن.
إقرار الراهن بعدم ملكيته للرهن قال رحمه الله: [وإن أقر أنه ملك غيره أو أنه جنى قُبِل على نفسه وحُكم بإقراره بعد فكِّه، إلا أن يصدقه المرتَهِن]. قوله: (وإن أقر أنه ملك غيره). هنا مسألة مهمة: لو أن الراهن أعطاك رهناً، فربما يحتال صاحب الرهن بأشياء ليدفع عن نفسه ضرر بيع الرهن، والتصرف فيه، كأن يأتي ويقول: هذا الرهن الذي عندك ملكٌ لفلان، فحينئذٍ أقر بأن هذا الرهن ليس ملكاً له، أو اختصم هو ورجل في الأرض التي وضعها رهناً، فلما حضر عند القاضي قال: الأرض أرض فلان، فحينئذٍ يصبح هناك شيء من الاختلاف: هل نقدِّم كونه رهناً، ونحكم على ما جرى من كونه قدمه رهناً، ونثبت الرهن، ثم نخلِّص صاحب الحق من حقه، ويضمن لصاحب الأرض قيمتها، ويصبح وجهه على صاحب الأرض، أم أننا نقول: إن الأرض ملكٌ للغير، فلا يجوز التصرُّف فيها، فيلغى الرهن وتعود السلعة إلى مالكها؟ هذا أمر محتمل. والمصنف رحمه الله أدخل هذه المسألة هنا لأهميتها، واتصالها بأساس الرهن؛ لأنه حينما ذكر آخر مسألة بكونه عصيراً لا خمراً، فهذا نفي للمالية، فناسب أن يذكر الحيل التي يُقطع بها الطريق عن بيع الرهن وعن سداد الديون، إذ لو فُتح للناس هذا الباب لكان بالإمكان أن يرهن عمارته، ثم بعد ذلك يقول لابن عمه أو قريبه: ادَّعِ أنها ملك لك، ثم يُقِر عند القاضي أنها ملكٌ له، فيتخلّص من ضرر الرهن. فهو عندما رهن ذلك الشيء، وصار الرهن محبوساً لذمة سابقة، وجاءت ذمة لاحقة، ولم يثبت ما يدل على صدقها، لكن لو ثبت ما يدل على صدقها، فهذا أمر آخر، فلو اختصم مع شخص في أرض، فأقام ذلك الشخص شهوداً، وثبت بالشهود أنها لمالكها الحقيقي، فليس هناك إشكال، إنما الإشكال عند حدوث التلاعب والتحايل، وذلك بكونه يُقر بأنها ليست ملكه؛ لأنه إذا أقر أصبح في هذه الحالة عندنا شبهة، فيحتمل أن هذا الإقرار قُصِد منه تفويت الحق على صاحب الدين، وهذا ما يقع كثيراً في الرهونات، فترى المديون -أي: الراهن- يحاول بشتى الوسائل أن لا يُباع الرهن، ويحاول بشتى الوسائل أن يماطل أهل الحقوق في حقوقهم؛ حتى لا يُباع الرهن، وهذا أمر لا تجيزه الشريعة. والأصل أن الرهن ما شرعه الله عز وجل إلا قطعاً للتلاعب في حقوق الناس، وحينئذٍ لا بد من إعمال الأصل الشرعي، فهو إذا أقر، وقال: هذه الأرض التي رهنتها لك هي ملكٌ لفلان، فحينئذٍ عندنا مشكلتان: المشكلة الأولى: أن صاحب الرهن يُطَالَب ببيع هذه الأرض عند عجزه عن السداد؛ لأنها مرهونة، ومعنى ذلك: أنه ما دفع له الدين إلا من أجل أن حقه موثق، وهذه وثيقة بحكم الشرع، قال تعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فالراهن رهن، وقبض المرتَهِن الرهن، فحينئذٍ ثبت أن الرهن لصاحب الدين. المشكلة الثانية: أنه لما أقر لشخصٍ آخر فإن الإقرار حجة، وقد اختصم معه عند القاضي، والقاعدة في الشريعة: أن المقر إذا أقر على نفسه لمدَّعٍ عليه أنه يؤاخذ بإقراره، مادامت شروط الأهلية للإقرار موجودة، فالأصل يقتضي ما دام أنه أقر لزيد من الناس، أن نحكم بأن الأرض ملكٌ لزيدٍ من الناس، فيقع الإشكال: هل نقدم صاحب الدين وقضية الرهن، أو نقدِّم المالك الحقيقي للأرض بإقراره؟ يقول العلماء: في هذه المسألة شبهة، والإقرار حجة، ونسلِّم بذلك، لكن قد صَحِبَتْهُ الشبهة، وإذا صحبته الشبهة وجب سد الذرائع، وعندنا حقان: حق الراهن، وحق من أُقِرّ له في الدعوى الثانية، وحق الراهن سابق، وهو يقيني فليس فيه شبهة، والظاهر والمتبادر والأصل أن المديون لا يرهن إلا ما يملكه، فكونه يسكت
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/437)
ويترك الأمر حتى يخشى بيع رهنه، ويأتي ويُقر لزيدٍ من الناس أو لعمرو من الناس؛ هذا فيه شبهة. فقالوا: نقبل إقراره لكن على نفسه، ونُبقي الرهن على حاله؛ لأن الأصل بقاء يد الرهن، وهو عقدٌ لازم قد تم بين الطرفين، ثم ننظر: فإذا انتهت المدة وسدد الدين، عرفنا أنه رجل أقر بحق، فننزع الأرض منه ونعطيها لمن أقر له، فقُبِل إقراره على نفسه، واستوثقنا بالدين؛ لأن الدين أُدِّي إلى صاحبه، فإن مضت المدة ولم يُسدد، فحينئذٍ الأصل أنها رهن وأنها ملكٌ له، فتُباع، ثم يحكم القاضي بأن فلاناً فوّت على فلان أرضه بقيمته، فحينئذٍ يُلزم بضمان هذه الأرض، فإما أن يُطالَب بشرائها ممن انتقلت إليه، ويرد عين الأرض كما فوّتها على أهلها، وإما أن يضمن قيمتها لصاحبها، وعلى هذا يُقبل إقراره على نفسه، لكن لا يُقبل إقراره ملغياً للأصل الذي ذكرنا .. هذا في الإقرار. لكن لو أن رجلاً استدان مائة ريال، فقال له صاحب الدين: أعطني رهناً، فقام وأخذ مسجلاً على جاره أو أخيه، ثم رهنه دون إذنٍ منه، فمعنى ذلك: أنه اغتصبه الرهن، فلما وضعه في الرهن، ادّعى الأخ أو صاحب المسجِّل عليه عند القاضي فأقر، فحينئذٍ يكون قد أقر بملكية المسجِّل لصاحبه، فيبقى المسجل على الأصل، أي: يبقى رهناً، هذا هو الظاهر، ويكون إقراره فيه شبهة، ثم بعد ذلك نحكم ببيع المسجِّل على الظاهر، مثلما فعلنا في الأرض، ونرد لصاحب الحق حقه، ثم نطالبه بأخذ هذا المسجِّل بقيمته بالغاً ما بلغ، أو يضمنه لصاحبه. فمثلاً: لو بِيع هذا المسجِّل بخمسمائة ريال، والدين مائة ريال، فنأخذ منها مائة ونسدد صاحب الدين، ونرد الأربعمائة لهذا الشخص، ثم نقيم الدعوى الثانية، ونطالبه بشراء المسجِّل ممن أخذه؛ لأن الشراء صحيح، وعلى هذا فولاية القاضي ببيعه كرهن ولاية صحيحة، ثم بعد ذلك نطالبه بشراء المسجل ثانية غالياً أو رخيصاً ويرده إلى صاحبه، فتبقى يد الرهن على ما هي عليه، وضُمِن الحق لصاحبه، وقُبِل الإقرار، فأُعمِلت جميع الحقوق؛ رُد إلى هذا حقه، ورُد إلى هذا حقه، وقبلنا إقراره على نفسه. ونضرب مثالاً آخر يكون فيه الحكم مختلفاً: لو قال له: أعطني مائةً ديناً، فقال له أعطني رهناً، فقال: هذا المسجِّل رهن عندك، فأخذ صاحب الدين المسجِّل، ثم تبيّن أنه ملكٌ لغيره، فادّعى زيد أن فلاناً أخذ مسجِّله ثم احتال عليه ورهنه، فطلبه القاضي، وقال له: هل أخذت من فلان مسجلاً؟ فقال: لا، ما أخذت. فأنكر، فأقام زيدٌ -الذي هو صاحب المسجِّل- البيِّنة وشاهدين عدلين على أن المسجل مسجِّله، فحينئذٍ يحكم القاضي بنزع اليد ورجوع المسجِّل إلى صاحبه، ثم يُطالَب هذا الراهن ببديلٍ عنه يقوم مقامه. إذاً: يفرَّق بين كونه مقراً؛ لوجود شبهة، وحتى لا يتخذ طريقة للتلاعب لبيع الرهن، والرهن يكون استيثاقاً لحقوق الناس التي ضمِنها الشرع بهذا النوع من العقود، وبين كونه منكراً وثبت أن المال ملكٌ للغير؛ وذلك لوجود البينة بعد الإنكار .. هذا بالنسبة لمسألة الإقرار، ومسألة الإنكار. وعليه: فإننا نقبل إقراره على نفسه فقط، ولا يكون ملزِماً لزوال يد الرهن اللازمة. ...... إقرار الراهن بجناية الرهن على غيره قوله: (أو أنه جنى). قديماً كان الرقيق ربما يجني جناية، وإذا جنى جناية ففي بعض الأحيان تكون الجناية في قيمته، ولربما استوعبت الرقيق بكامله، فدُفِع إلى من جنى عليه، وكذلك الدابة، فلو أن الدابة حصلت منها جناية على وجهٍ يوجب الضمان، فنأخذ نفس الحكم، فإذا كان قد ارتهنها، فإنه في هذه الحالة إذا أقرّ بالجناية مثلما إذا أقر بالملكية، فكل القضية في كونه يُدخِل على الرهن يداً غير اليد الأولى، وهذا بالإقرار وليس بالبينة التي هي الشهود، أما لو كانت بالبينة فقد بيّنا الحكم، وهو أنه يصير فيها مُوجِب الضمان، لكن بالنسبة لمسألة إدخال اليد الثانية على اليد الأولى، في صورة ادعاء الملكية، كأن يُقر بأنه ملكٌ لغيره، أو يُقر بأنه جنى .. مثاله: لو رهن رقيقاً، وهذا الرقيق جنى جناية تستوعب قيمته، كأن تكون قيمة الجناية عشرة آلاف ريال، وهي قيمته، فحينئذٍ يقال للمجني عليه: أتريد المال أم الرقبة؟ فإن قال: قبلت الرقبة، فإذا قبل المجني عليه الرقبة، فهذا معناه أن الرهن سيفوت، فإن وقع بإقرارٍ حُكِم كقضية الملكية السابقة، وإن وقع ببيِّنة فلا إشكال.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/438)
وجوب رد الحق الذي أقرّ به الراهن إلى صاحبه بعد فك الرهن قوله: (قبل على نفسه وحُكم بإقراره بعد فكِّه). أي: فإن سدد الدين، وفُكّ عن العين الرهن، فحينئذٍ يطالَب برد الحق الذي أقر به إلى صاحبه. مثاله: لو قلنا: استدان مائتين، ثم رهنه ساعة قيمتها خمسمائة، فادّعى رجل أن الساعة له، فأقر الراهن أنها له، فننتظر إلى أن ينتهي الأجل، فإذا سدّد الدين، فنقول: يُفك الرهن، وتُرد الساعة للراهن، ويحكم عليه بإقراره فتُنزع من الراهن وتُرد إلى صاحبها، هذا بالنسبة لقوله: (قُبل على نفسه)، وقوله: (وحُكم بإقراره بعد فكه) بعد رد الرهن وفكِّه.
حكم من رهن مال غيره إذا صدقه المرتهن قوله: (إلا أن يصدقه المرتَهِن). أي: أن بعض الناس تقبل منه ذلك، وتعلم أنه صادق ولو لم يقم بيِّنة، فالرجل الصالح التقي الورع الذي تعامله وتعرفه بالأمانة، ربما أخطأ ورهن مال غيره، وهذا قد يقع، فحينئذٍ إذا أقر لغيره، وقال: هذا المال ليس لي، فحينئذٍ يُحكم بكونه قد رهن ما ليس له، فإن رهن ما ليس له، فبعض العلماء يقول: ننظر إلى الشخص المالك، فإن قبله رهناً فحينئذٍ لا إشكال، كأن يقول له: ما دمت قد أقررت أنه مالٌ لي، فأنا أقبل أن يكون ضماناً لدينك، فكما أنه يجوز أن يضمنه بنفسه، يجوز أن يضمنه بماله، هذا إذا رضي، ويمضي الرهن على هذا، وأما إذا قال: بل أريد مالي، فحينئذٍ ينزع ويطالب ببديل عن ذلك الرهن.
الأسئلة ...... تعارض الأصل والظاهر السؤال: عند الاختلاف متى يُحكم بالظاهر ويُترك الأصل أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا سؤال جيد، وفي الحقيقة مسألة تعارض الأصل والظاهر مسألة دقيقة؛ بل تعتبر من أدق مسائل القواعد، وهذا من توفيق الله للسائل، ولا شك أن السائل أحسبه من طلاب العلم، فالسؤال قوي ومركَّز. ومسألة الظاهر ومسألة الأصل نقول فيها: إن الظاهر دائماً يستدل بدلائل وعلامات وصفات معينة، فيُحكَم بكونه ظاهراً، فمثلاً: في قضية النجاسات، إذا دخل الشخص إلى دورة المياه، فإنه يجد الماء على البلاط، فإن كان في المكان المنفصل عن النجاسات، فالظاهر أنه طاهر، وليس هنا قضية أصل وعدمه؛ لأنه توجد صفات مؤثرة ومواضع تقوي شيئاً إما الطهارة وإما النجاسة، فالظاهر يقوم دائماً على الصفات، فإذا دخلنا إلى دورات المياه، فبالنسبة لأماكن الوضوء إذا كانت مفصولة وجرى الماء فيها، فإننا نحكم بكونه طاهراً؛ لأنه ليس ثم دليل على نجاسته. ولكن إن كان الماء في داخل دورات المياه، أي: في مكان قضاء الحاجة، فإن هذه الأماكن الظاهر منها أنها نجسة، فلو طار على الإنسان رذاذ، فإن كان من المكان المحكوم بظاهر الطهارة فيه فهو طاهر، ولا يؤثر، فلو وطئ بقدمه ثم وجد على ثوبه أثر الماء الذي يكون بعد المشي أو المسير، فإنه يحكم بكونه طاهراً؛ لأن الظاهر طهارته، ولو وطئ في موضع النجاسة، أو مثلاً سقط حجر في مكان النجاسة فتطاير الرذاذ، فإن الظاهر إذا أصاب الثوب أنه نجس. إذاً: عندنا في الظاهر الدلالة والعلامة التي يُستند إليها في ظاهر الحال، وليست في الأصل، فإن الأصل له جانب آخر، ويُحكم بالظاهر في مسائل العبادات والمعاملات أيضاً، فالعبادات كما ذكرنا. والظاهر في المعاملات: مثاله: لو أن شخصين اختصما في سيارة، فأحدهم يقول: هي سيارتي، والثاني يقول: بل هي سيارتي، وأحدهما في مقعد القائد والثاني بجواره، فلمن تكون السيارة؟ تكون للذي في مقعد القائد؛ لأن الظاهر يشهد بأنها سيارته، وظاهر الحال يدل على صدق دعواه وكذب دعوى من خالفه، وكذلك أيضاً لو حُكِم بالظاهر في البيت، كرجلين يختصمان في بيت، أحدهما ساكنٌ فيه، والثاني خارج عنه، فنقول: الظاهر أنه بيت من هو ساكن فيه، حتى يقوم الدليل على اليد الخارجة .. هذه كلها تعتبر من مسائل الظاهر. أما مسائل الأصل: فإنها تعرف بالمعاني، فالظاهر -كما ذكرنا- يعرف بالمحسوسات والصفات، ولكن الأصل يعرف بالمعاني، فمثلاً: إذا جئت إلى ماء، وشككت هل هو نجس أو طاهر؟ فتقول: الأصل أنه طاهر حتى يدل الدليل على نجاسته، ولو مشيت في طريق -مثلاً- فوجدت ماءً على الطريق، ثم أصابك منه شيء، فإننا نقول: الأصل طهارته حتى تتحقق أنه نجس؛ لأن الأصل طهارة الأشياء حتى يدل الدليل على نجاستها، ولو
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/439)
كنت مثلاً في البيت، وهناك أطفال وتخشى أن تخرج منهم نجاسة فتنجس فراش البيت، وأردت أن تصلي، فشككت هل أحد منهم دخل الغرفة وهو متنجس فنجسها أو لم يدخل؟ فتقول: اليقين أنها طاهرة، حتى تتحقق أنه دخل ونجسها، ليس دخل فقط، بل دخل وفيه نجاسة وتطايرت النجاسة منه، فبعد التحقق فعليك أن تعدل عن الأصل إلى أصلٍ آخر. إذاً: مسألة الأصل غالباً تتعلق بالمعاني والتقديرات الموجودة في الأشياء، ولكن الظاهر يتعلق بالصفات. وقد يتعارض الأصل والظاهر في مسائل: فبعض الأحيان يقدَّم الأصل على الظاهر، وبعض الأحيان يقدَّم الظاهر على الأصل، وهذه المسألة الكلام فيها طويل، وتحتاج إلى شيء من التحرير، ومن الصعوبة بمكان أن نتكلم عليها في هذه العجالة، ففي بعض الأحيان يُرجَّح الأصل، وفي بعض الأحيان يرجح الظاهر، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما حمل أمامة بنت أبي العاص، وهو يصلي بالناس، فإنه قدّم الأصل، وإن كان ظاهر أحوال الصبيان أنهم لا يسلمون من وجود أشياء في ثيابهم، ولذلك قدم عليه الصلاة والسلام الأصل وهي الطهارة، ونجد كذلك في بعض السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قدم الأصل وألغى الظاهر، مثال ذلك: السباع ترد على المياه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث)، فقدّم الأصل على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال السباع في البراري أنها تأكل الجيفة والنتن وهي نجسة، والسباع في البوادي الظاهر أنها ترد المستنقعات وتشرب منها، فلما سئل عليه السلام عن الماء وما ينوبه من السباع؟ قال: (إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث)، فأبقى الأصل وهو طهوريته. وكذلك عندما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن بئر بُضاعة وما يُلقى فيه من الحيَّض والنتن، فإن الظاهر أنه لما ألقي فيه الحيض -أي: دم الحيض- وهو نجس، والنتن والقذر، والقذِر يزيل الطهورية إذا غيّر لوناً أو طعماً أو ريحاً، فرجع إلى الأصل، فهنا الظاهر أنه نجس؛ لأن الذي يظهر أنه إذا ألقيت النجاسة فإنها تؤثر، وهذا هو المعروف من الحال، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء)، فرد إلى الأصل. فهذه المسألة في الحقيقة تحتاج إلى شيء من التفصيل والتوضيح، وفي بعض الأحيان تأتي النصوص مقوية لترجيح أحد القولين، وفي بعض الأحيان يُترك الترجيح لأفراد المسائل، ففي في بعض الأحيان الصحابة رضوان الله عليهم يقدِّمون الأصل ويلغون الظاهر، كما في حديث الأعرابي لما جاء إلى المسجد ورفع ثوبه ليبول، والأصل أنه لا يجوز البول في المسجد، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر، بادروا بالإنكار، والظاهر أنه إذا سكت فإن هذا نوع من الإقرار، فلم يلتفتوا إلى سكوته، وأنكروا عليه حتى أسكتهم، فقال: (لا تزرموه)، فكان الظاهر على حقيقته من أنه لا يريد الإنكار عليه، ففي بعض الأحيان يقدَّم الظاهر، وبعض الأحيان يقدَّم الأصل، وهي مسألة في الحقيقة تحتاج إلى شيء من التحرير. وكثيراً ما يكون الظاهر داخلاً على الأصل فأشبه الاستثناء، وإذا كان داخلاً على الأصل صار كالمخصِّص لذلك الأصل، وكأنه مستثنى، وتعطيه حكم الأصل الطارئ، فكأنه بمثابة الأصلين: الأصل القديم والأصل الطارئ، وحينئذٍ نقدم الأصل الطارئ على الأصل القديم، ففي بعض المسائل يقدم الأصل الطارئ على القديم، وفي بعض المسائل يقدم الأصل القديم على الأصل الطارئ فتصحب حكم الأصل. فمثلاً: إذا رفعت رأسك من الركوع هل تقبض أو تسدل؟ تقول: الأصل الطارئ هو القبض؛ لأنه لما كبر عليه الصلاة والسلام قبض، والأصل القديم أنه في الصلاة لا أتكلَّف الحركة فأقبض، فيتعارض الأصل القديم مع الأصل الطارئ. الشاهد: أن هذه المسائل تحتاج إلى دراسة، وإعطاء قاعدة فيها أمر من الصعوبة بمكان، إلا أن بعض العلماء ذكروا هذا، فقد ذكره الزركشي في المنثور في القواعد، فيرجع إليه في مسألة تعارض الأصل والظاهر، كذلك أيضاً أشار إليها السيوطي في الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه، وكذلك ابن لجين رحمه الله في الأشباه والنظائر، فقد ذكر مسألة تعارض الأصل والظاهر، وهي مسألة جيدة وفيها نصوص، ومن تأمل شروحات الأحاديث المطوَّلة كشرح الحافظ ابن حجر، فسيجد أنه بعض الأحيان يقول: فيه دليل على تقديم الأصل على
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/440)
الظاهر، وبعض الأحيان يقول: وفيه دليل على تقديم الظاهر على الأصل. ولو تُرِكت كل مسألة كي تُبحث على حدة، فإن ذلك يكون أمعن وأدق في بيان وجه الصواب، والله تعالى أعلم.
حكم بيع الراهن للرهن دون إذن المرتهن السؤال: رجلٌ رهن مجموعة قطع من الأراضي لأحد التجار، ثم بعد مدة بدأ الراهن ببيع هذه الأراضي دون إذن المرتَهِن، علماً بأنه يخبر المشتري بحال هذه الأراضي وأنها مرهونة، وسوف يضمن له المال إذا لم يتم سداد الدين بعد سنتين، فما هي مشروعية هذا البيع، وهل يأثم المشتري أثابكم الله؟ الجواب: هذه المسألة تعرف بمسألة: التصرف في الرهن، والتصرف في الرهن في الأصل لا ينفذ، وبعض العلماء يرى أن التصرف في الرهن إذا كان من الراهن بالبيع يجعله موقوفاً، فإذا تم سداد الدين، وأراد إنفاذ البيع بعد سداده نفذ، كما لو باع مال غيره، كبيع الفضولي، فإنه يبقى موقوفاً على إجازة المالك الحقيقي، ومنهم من يلغيه ويقول: لا يصح، وهذا هو الأشبه، أن الرهن لا يدخله بيع إلا بإذن الطرف الثاني؛ لأن هذا هو الأصل، وهذا هو المقصود من حكمة مشروعية الرهن. وقد سبق بيان هذه المسائل والإشارة إليها في مسائل التصرُّف في الرهن، ويد الرهن، ويد المرتَهِن على الرهن التي تمنع من تصرُّف الراهن فيه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
شرح زاد المستقنع - باب الرهن [6] ينقسم الرهن إلى قسمين: قسم يحتاج إلى مئونة وكلفة، فللمرتهن أن ينتفع به بقدر ما ينفق عليه، ويكون ذلك في المركوب والمحلوب، وقسم لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الرهن لقاء الدين، وله ثلاث صور: - الأولى: أن ينتفع بالرهن دون إذن الراهن، فهذا لا يجوز بالإجماع. - الثانية: أن ينتفع بالرهن بدون عوض، أو بأقل من عوض المثل، فهذا أيضاً لا يجوز. - الثالثة: أن ينتفع بالرهن بعوض المثل فهذا جائز. الحالة الثانية: أن يكون الرهن لقاء ثمن المبيع، ففي هذه الحالة يجوز الانتفاع بالرهن بعوض المثل، أو بدون عوض المثل، أو بدون عوض. أقسام الرهن من حيث الكلفة والمئونة وعدمها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصلٌ: وللمرتَهِن أن يركَب ما يُركب ويحلب ما يُحلب بقدر نفقته بلا إذن]. هذا الفصل فصلٌ مهم جداً في باب الرهن. والرهون إذا أخذها أصحاب الديون فإنها تنقسم إلى أقسام: قسم يحتاج إلى مئونة وكلفة، وهذا الذي يحتاج إلى مئونة وكلفة قد يكون فيه فوائد، مثل الركوب، كالسيارات ونحوها، وبعض الأحيان تكون فيها منافع، كالأنعام التي تحلب كالإبل، والبقر والغنم، ويكون منها الصوف والوبر، فهناك منافع تكون في هذه الأعيان المرهونة. ...... الرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة فالأعيان المرهونة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون من الأعيان التي لا تحتاج إلى مئونة في حفظها، ولا تحتاج إلى كلفة. القسم الثاني: أن تكون من الأعيان التي تحتاج إلى مئونة وكلفة في حفظها. أما بالنسبة لتصوير القسمين ثم الدخول في أحكامهما، فالقسم الأول: هو الذي لا يحتاج إلى مئونة؛ كرجلٍ قال لك: بعني عمارتك، فقلتَ له: أبيع لك هذه العمارة بنصف مليون، فقال لك: قبلت، فقلت له: أعطني ثمنها، فقال: ما عندي الآن ولكن سأعطيك في نهاية السنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك أرضي التي في جدة، وهي الأرض الفلانية، وجعل الأرض بصكِّها رهناً عندك، فالأرض التي رهنها لا تحتاج إلى كلفة، فهذا مثال في العقارات التي لا تحتاج إلى كلفة. ومثاله في المنقولات التي لا تحتاج إلى كلفة: كالسيارات، فإن السيارة لا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، فإذا قال لك: أعطني عشرة آلاف ديناً إلى نهاية السنة، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك سيارتي، ويأتي بسيارته ويدخلها في مكان آمن. إذاً: هي من جنس المنقولات التي لا تحتاج إلى كلفة، وكذلك لو قال لك: أعطني مائة ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فقال لك: أرهن عندك هذا الكيس من الأرز، والكيس من الأرز لا يحتاج إلى كلفة في غالبه وأكثر أنواعه، وكذلك لو قلت له: أعطني ديناً مائة، فقال: أعطني رهناً، فقلت:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/441)
أرهن عندك هذا (البشت) أو هذا الثوب، و (البشت) أو الثوب لا يحتاجان إلى طعام ولا إلى شراب. إذاً: النوع الأول هو ما لا يحتاج إلى مئونة. ولابد من فهم هذا فهماً جيداً؛ لأن التفصيلات التي ستأتي مهمة جداً في مسألة الرهن؛ ففيها مداخل للربا، ومداخل للقرض الذي جر نفعاً، فنحن نقرر الآن القسمين ونضبطهما بالأمثلة. فالقسم الأول كما ذكرنا: أن يكون الرهن لا يحتاج إلى مئونة ولا كلفة، ومن أمثلته في العقارات: الأراضي، والدور، والعمائر ونحوها، فإنها تُقفل وتصك أبوابها ثم تترك، فهذه لا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، وهذا في العقارات، أما في المنقولات مثل: الأطعمة، والأكسية، والثياب، والأغذية مثل: البر، والشعير، فهذه كلها لا تحتاج إلى طعام ولا تحتاج إلى مئونة.
الرهن الذي يحتاج الى مئونة وكلفة القسم الثاني: ما يحتاج إلى مئونة وكلفة؛ كالإبل، والبقر، والغنم، فهذا فيه ما يُحلب ويُركب، وفيه ما يُركب ولا يحلب، وفيه ما يحلب ولا يركب، وفيه ما لا يركب ولا يحلب، فهو على أربعة أنواع: النوع الأول: أن يكون مركوباً محلوباً، فهو يحتاج إلى مئونة وكلفة، ولكن فيه منفعة الركوب، ومنفعة الحليب، ومن أمثلته: الناقة، فإن الناقة تحتاج إلى أن تطعمها وتعلفها، وهي تُركب، فله أن يركب عليها، وهي تُحلَب، فله أن يأخذ من حليبها ودرّها، هذا بالنسبة للنوع الأول من القسم الثاني. النوع الثاني: أن يكون مما لا يحلب ولا يركب، مثل: الأرقاء قديماً، ومثل: التيس من الغنم والفحل من الشياه والغنم، فإنه لا يحلب، وأيضاً لا يركب، والفحل من البقر ليس فيه حليب ولا يمكن أيضاً ركوبه في الغالب، هذا بالنسبة للنوع الثاني، أن يكون مما لا يحلب ولا يركب. النوع الثالث: أن يكون مما يحلب ولا يركب، مثل الشاة، فإذا كان فيها حليب فله أن يحلبها، لكن لا يمكن أن يركبها، وكذلك البقرة فيها حليب وله أن يحلبها، لكن لا يمكن أن يركبها في الغالب، فهذا مما يُحلب ولا يركب. النوع الرابع: أن يكون مما يركب ولا يحلب، كالفحل من الإبل، فإنه يركب عليه ولكن لا يحلب.
حكم الانتفاع بالرهن الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة إذاً: هذا هو القسم الثاني: أن يكون من جنس ما يحتاج إلى مئونة وكلفة من طعام وشراب وقيام عليه. وبهذا نكون قد عرفنا أن الرهن فيه ما يحتاج إلى مئونة وكلفة، وفيه ما لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، فنبدأ بالذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة، كالبيوت والدور والأرضين إذا وُضِعت رهناً، فإنه لا يجوز أن يأخذ صاحب الدين -الذي هو المرتَهِن- أي منفعة منها إلا بحقها، هذا من حيث الأصل، أو إذنِ صاحبها. ويرد التفصيل في هذا النوع، وهو الذي لا يحتاج إلى مئونة وكلفة: فقالوا: لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن إذا لم يأذن له صاحب الرهن، مثاله: رجل استدان خمسمائة ألف، ورهن في مقابلها عمارة، فلا يجوز لصاحب الدين أن يسكن العمارة، ولا يجوز له أن يؤجرها للغير، ولا أن ينتفع بأي منفعة موجودة في العمارة، هذا من حيث الأصل. وما هو الدليل على أنه يحرم عليه أن يأخذ ذلك؟ نقول: إن الأصل في الرهن أنه ملكٌ لك أنت أيها المديون، والأملاك لا يجوز أن يؤخذ منها -أي: من منافعها- إلا بإذن أصحابها ورضاهم، فإذا كان صاحب الرهن -وهو الذي أعطاك العمارة- لم يأذن لك بتأجيرها، ولم يأذن لك بمنفعتها، فلا يجوز لك أن تأخذ منها، وهذا بإجماع العلماء. أما لو أذن لك أن تتصرف في هذا المال، وأذن لك أن تنتفع به، فلا يخلو سبب الرهن من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يأذن بحقه، فيقول: أجِّر العمارة، ولكن الأجرة لي، وليست لك، فأذن لك بتأجيرها على أن تكون الأجرة له، فقلت له: أريد أن أستأجرها أنا، فقال لك: انتفع أنت بالعمارة على أن تدفع الأجرة، فالحكم حينئذٍ أنه انتفع بالرهن بإذن صاحبه، فإن أذِن له بعوض فلا إشكال في الجواز، وحينئذٍ تكون إجارة. لكن السؤال: هل الأصل في العمارة أنها رهن أو عين مؤجرة؟ الأصل أنها رهن، وقد ذكرنا في أول باب الرهن يكون لازماً بالقبض، فإذا قبض صاحب الدين الرهن وحازه عنده فإنه يكون لازماً. وإذا لم يقبض الرهن، وأردت أن لا تعطيه الرهن، فإن هذا من حقك؛ لأن الرهن لا يصير لازماً إلا إذا قُبِض، فمثلاً لو قلتُ لك: أعطيك سيارتي، ولم تقبِضها، فمن حقي أن أرجع عن رهن سيارتي؛ لأن الرهن لا يصير لازماً عليّ
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/442)
إلا إذا قبضتَه، وفائدة ذلك: أنه إذا صار لازماً فلن يستطيع صاحبه أن يغيِّره أو يبدِّله، لكن إذا لم يكن لازماً جاز له أن يغير ويبدل. فالعمارة إذا قُبِضت من صاحب الدين فجاء وقال للمديون: أريد أن أستأجر منك العمارة، بدلاً من أن تكون فارغة فأنا أريد أن أسكن فيها وأستأجرها، فقلنا: ذلك، وحينما قلنا بالجواز انتقلت من الرهن إلى الإجارة، فإذا انتقلت من الرهن إلى الإجارة فللعلماء وجهان: قال بعض العلماء: يزول اللزوم للرهن، وتصبح اليد يد إجارة وهي يد ضمان، بخلاف اليد الأولى فإنها يد أمان لا تضمن إلا إذا فرّطت، فإذا انتقلت إلى عين مؤجرة أُلغيت يد الرهن. وفائدة ذلك: أنه إذا استأجرها شهراً، والرهن لسنة، أنه بعد شهر إذا انتهت الإجارة، وأراد صاحب العمارة أن يمتنع من تسليمها رهناً، كان له ذلك؛ لأنه قد زال لزوم الرهن، وعلى هذا يُحكم بزواله لوجود الانتقال في اليد. الحالة الثانية: أن يأذن بغير عوض، فهذا لا يجوز؛ لأنه قرض جر نفعاً، وكذلك لو انتفع بالرهن بإذن الراهن، لكن بأجرة فيها شيء من المحاباة والمراعاة، فحينئذٍ لا يجوز؛ لأنه دخلت شبهة قرض جر نفعاً.
حكم انتفاع المرتهن بالرهن قوله: (فصلٌ وللمرتَهِن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب). شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالانتفاع بالرهن، ومن المعلوم أن الرهن تكون فيه منافع، وقد يحتاج إلى مئونة يقوم بها الراهن أو المرتَهِن، ومن هنا يرد السؤال عن هذه المنافع التي تكون في الرهن: هل يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن أو لا يجوز؟ وقد سبق أن ذكرنا أن الرهن له أحوال: فتارةً يكون من الأشياء التي لا تحتاج إلى مئونة، وتارةً يكون من الأشياء التي تحتاج إلى مئونة، ثم فصّلنا في النوع الثاني، وهو الذي يحتاج إلى مئونة، فذكرنا أنه منه ما يكون محلوباً مركوباً، ومنه ما يكون مركوباً غير محلوب، ومنه ما يكون محلوباً غير مركوب، ومنه ما يكون غير محلوب وغير مركوب؛ كالأرقاء. والسؤال في هذه المسألة يقوم على قضية انتفاع المرتَهِن بالرهن هل يجوز أو لا يجوز؟ فمثلاً: قد تضع سيارةً عند شخصٍ رهناً لقاء دين، فتقول: يا فلان! أعطني مائة ألف قرضاً إلى نهاية العام مثلاً، فقال لك: أعطني رهناً، فأعطيته السيارة، أو أعطيته أرضاً، أو أعطيته عمارةً رهناً، فالسؤال: هل يجوز أن ينتفع صاحب الدين من رهنك الذي وضعته عنده أو لا؟ وكل الذي سنتكلم عليه الآن مسألة انتفاع المرتهن بالرهن، وهناك قاعدة عامة ثم فروعٌ تفصيلية. أولاً: أجمع العلماء على أن منافع الرهن من سيارة، أو عمارة، أو أرضٍ، أو دابة، ملكٌ للراهن في الأصل، ولا يحل مال المسلم إلا بطبيب نفسٍ منه، فمن حيث القاعدة العامة، وأصول الشريعة، كلها تدل على أن منافع الرهن سواءً كان من العقارات أو المنقولات ليست من حق المرتهن، أي: لا يجوز للمرتهن أن يعتدي عليها، فينتفع بها بحجة أنها رهنٌ عنده؛ بل إن يده يد أمانة كما ذكرنا، وينبغي عليه أن يحفظ الرهن كما هو بمنافعه. أما لو استأذنك فأذنت له، كأن قال لك: هذه العمارة أريد أن أستأجرها منك مدة الرهن، ومدة الرهن شهر، أو سنة، فقال: أريد أن أستأجرها سنة، فدفع العِوض عن المنفعة، فالسؤال: هل يجوز أن يأخذ المنافع إذا أذنت له أو لا يجوز؟ والإجابة على هذا السؤال تستلزم بيان أنواع الأشياء التي تُرهن، ثم نفصِّل متى يجوز أن ينتفع المرتهن إذا أذن الراهن، ومتى لا يجوز أن ينتفع إذا أذِن الراهن أيضاً. والرهن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما لا يحتاج إلى مئونة، وهذا القسم مثل: الأرضين، والدور، فالعمارة مثلاً إذا وضعتها رهناً لقاء دينٍ أخذته، فإنها تقفل، ثم هي لا تحتاج إلى مئونة، فلا تحتاج إلى طعام ولا إلى شراب، وإنما تغلق حتى إذا جاء وقت السداد فإن أعطاك الدين وإلا قمت ببيع العمارة، صحيح أنها تحتاج إلى كنسٍ ونحو ذلك إذا كان الإنسان يريد أن ينتفع بها، هذا النوع الذي لا يحتاج إلى مئونة. مثال آخر للذي لا يحتاج إلى مئونة: كأن يقول المرتهن: أريد أن أسكن العمارة، وهو لا يريد أن يدفع العِوض، فهل يجوز؟ أو يقول: أريد أن أسكن العمارة، وهو يريد أن يدفع العِوض، فهل يجوز؟ لذلك حالتان: ...... حكم الانتفاع بالرهن بعوض وبدون عوض الحالة الأولى: كأن يقول: يا فلان! هذه العمارة التي رهنتها عندي، أريد
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/443)
أن أسكنها مدة الرهن، أو شهراً مثلاً، فهل يجوز إذا استأذنك؟ إن لم تأذن له فلا يجوز بالإجماع، لكن لو أذنت له فهل يجوز ذلك أم لا؟ الجواب: إذا استأذنك وأذنت له أن يسكن بدون عوض، ففيه تفصيل: فإن كان الرهن لقاء دين فإنه لا يجوز أن ينتفع به، وإن كان الرهن لقاء قيمة مبيع فإنه يجوز الانتفاع به. إذاً: الذي لا مئونة له إذا كانت له منفعة، وطلبها المرتهن، ولم يأذن صاحب الرهن، فلا يجوز بالإجماع. وإن استأذنه وأذن له فعلى صورتين: إما أن يكون بدون عوض، وإما أن يكون بعوض. فإن كان بدون عوض فلا يخلو سبب الرهن: إما أن يكون قرضاً، أو غير قرض، فالقرض: مثل أن تقول له: أعطني مائة ألف وعمارتي رهن عندك، وغير القرض: مثل أن تقول له: بعني أرضك هذه، فيقول: بمائة ألف، فتقول له: اشتريتها منك بمائة ألف إلى نهاية السنة، فيقول: قبلت، ولكن أعطني رهناً، فقلت: هذه عمارتي، أو سيارتي ... إلخ. إذاً: الرهن إما أن يكون لقاء دين، أو غير دين، فإن كان لقاء دين، وأذِنت له أن يأخذ المنفعة بدون عوض، فإنه لا يجوز؛ لأنه قرضٌ جرّ نفعاً، وهو من الربا، ووجه ذلك: أن العمارة إذا سكنها شهراً وقيمة أجرتها ألف ريال، فكأنه ديّنك مائة ألف وألفاً، فيكون أخذ فائدة على ذلك القرض؛ لأنك إنما أعطيته لكونك مستديناً منه، فصار قرضاً جر نفعاً. وعلى هذا فالصورة الأولى: إذا كان يريد منفعة الدار أو منفعة الشيء المرهون بدون عوض في لقاء قرضٍ فلا يجوز؛ لأنه يئول إلى قرضٍ جر نفعاً. الصورة الثانية: أن يقول لك: أنا أريد أن آخذ هذه المنفعة وأسكن في الدار بأجرتها، فإذا قال لك: بعوض، أو قلت له: لا أعطيك إلا بعِوض، فأيضاً لا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن يكون بمثلها، بمعنى: أجرة المثل، لا وكس فيها ولا شطط، فيجوز. الضرب الثاني: أن تكون الأجرة فيها شيء من المراعاة والمحاباة، فدخلت شبهة قرضٍ جر نفعاً. إذاً: مسألة الانتفاع بالرهن -سواءً كان بعوض أو بدون عِوض- إذا كان الرهن لقاء دين، فإنه لا يجوز أن يأخذ المرتَهِن العين المرهونة فينتفع بها، أو بعوض دون مثلها، فإنه في هذه الحالة لا يجوز الانتفاع بها أيضاً. أما لو أخذها في رهن الدين بعوضٍ مقابلٍ لمثلها لا ظلم فيه، فإنه يجوز. فالخلاصة: أن الرهن إذا أُعطي لقاء الدين، وكانت فيه منفعة، وطلبها صاحب الدين، فأخذها بعوض مثلها جاز، ولكن إن طلبها بدون عوض، أو طلبها بعوض دون حقها، لم يجز؛ لأنه قرضٌ جر نفعاً. هذا في الحالة الأولى وهي: أن يكون الرهن لقاء قرض.
حكم الانتفاع بالرهن لقاء ثمن المبيع الحالة الثانية: أن يكون الرهن لقاء ثمن مبيع، مثل أن يبيعك قطعة من الأرض في مخطّط ويشترط رهناً، فتعطيه عمارةً رهناً، فهذه العمارة أعطيت رهناً لقاء قيمة مبيع، فإذا كانت لقاء قيمة مبيعٍ فالمشهور أنه يجوز أن يأخذ المنفعة بدون عوض، وأن يأخذها بعوض مثلها أو دونه؛ لأن شبهة الربا في هذا منتفية، ومن هنا قالوا: كأنه باعه بالثمن المؤجل، ودخول المنفعة لا يضر على أصل الاستحقاق. هذا بالنسبة لحالة ما إذا كان للرهن منفعة وأراد المرتهن أن يأخذها. إذاً: الخلاصة: أنه إذا طلب صاحب الدين منفعة الرهن، فإن طلبها بدون عوض أو بعوض دون حق مثلها في قرضٍ لم يجز، وإن طلبها بعوض مثلها في قرض جاز. وأما في رهن غير القروض، فإن طلبها بعوض مثلها، أو بدون عوض مثلها، أو بدون عوضٍ أصلاً؛ فإنه يجوز.
انتقال العقد من الرهن إلى الإجارة وإذا كنا نقول: إنه يجوز له أن ينتفع بالرهن بعوض بعوض مثله في حالة القرض، فمثال ذلك: رجل أعطاك مائة ألف ديناً فأعطيته عمارة، فطلب منك أن يأخذ منفعتها في الموسم، وأجرة هذه العمارة إذا أجِّرت في الموسم على من يريد استغلالها مثلاً خمسون ألفاً، فإذا أعطاك خمسين ألفاً فإنه يجوز؛ لأنه أخذ الرهن لقاء إجارة، وقد ذكرنا في أول باب الرهن أن يد المرتَهِن تكون يد أمانة، فهو الآن أراد أن يستأجر الرهن، فهل تنتقل يده من يد الأمانة إلى يد الضمان؟ الجواب: نعم؛ لأنه بالإجارة حينئذٍ يصبح ضامناً، فتخرج يده من يد أمانة إلى يد ضمان، فلو تلف شيءٌ في العمارة فإنه يضمنه. هذا بالنسبة إذا قلنا: إنه تنتقل بالإجارة، ويجوز أن يستأجره، وهناك عقدان: العقد الأول: الرهن، والعقد الثاني: عقد الإجارة، سواءً استغرق عقد الإجارة مدة الدين، كأن يكون
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/444)
مدة الدين سنة، وعقد الإجارة سنة، فلا إشكال، أما دون السنة كشهرين، أو مدة الموسم، أو ثلاثة أشهر، ففي هذه الحالة، عندما أخذها إجارةً انتقلت اليد وزالت يد الرهن، وأصبحت عيناً مؤجرة، وإذا انتهت المدة فهل تعود رهناً؟ الجواب: لا، إذا انتهت المدة فإن صاحب العمارة بالخيار، فإن شاء ردها رهناً، وإن شاء رهن غيرها، وفائدة ذلك: أنه ربما ترهن العمارة وقيمتها مثلاً خمسمائة ألف، وخلال الشهرين تصبح قيمتها مثلاً مليوناً، ويكون من الضرر أن تجعلها رهناً، وقد ترهنها وأنت لا تحتاج إلى أن تستغلّها، ثم لما صار الشهر والشهران بانتفاعها بالإجارة طرأ استغلال لك عليها أو حاجة لك عليها، فحينئذٍ بعد انتهاء المدة أنت بالخيار، فإن شئت أن تعيد العمارة أعدتها، وإن شئت أن تدخل عيناً رهناً بدلاً عنها كان لك ذلك، فكأن صاحب الدين هو الذي ضيّع حقه بزوال اليد، وحينئذٍ يزول لزوم الرهن؛ لأننا اشترطنا أن اللزوم يستديم فيه ببقاء اليد. فإذا كانت اليد دخلت عليها الإجارة، وانتقل الرهن من كونه رهناً إلى إجارة؛ فحينئذٍ يزول لزوم الرهن، هذا هو معنى لزوم الرهن. لزوم الرهن: لو أنك رهنت العمارة وقيمتها مثلاً مائة ألف، والدين لثلاث سنوات، وبعد شهر أو شهرين أصبحت قيمتها مليوناً، فتبقى لازمة عليك، أي: تبقى رهناً، ولو أصبحت بالملايين، لكن إذا أدخلت الإجارة عليها ورضي صاحب الدين، فحينئذٍ انفك اللزوم؛ لأنه قد سبق أن ذكرنا أن المذهب -وهذا مذهب طائفة من العلماء- على أن الرهن يلزم إذا قُبِض واستديم القبض، لكن عندما دخلت الإجارة رفعت استدامة اليد، وحينئذٍ ينتقل من كونه لازماً على المديون، إلا أنه بعد انتهاء مدة الإجارة فهو بالخيار، إن شاء أدخله رهناً مرة ثانية، وإن شاء امتنع عن إدخاله، وأدخل عيناً أخرى مكانه، على ما يتفقان عليه. هذا بالنسبة إذا كانت العين لا تحتاج إلى مئونة كالعمائر والأرضين، فخلاصة ما فيها: أن الأصل العام أنه لا يجوز لصاحب الدين أن يأخذ منفعة من الرهن إلا بإذن صاحبه، فإذا اعتدى على ذلك ضَمِن، ويتفرع تفرّع على هذا لو أنه استأذنه بعوض وكان العوض لمثل العين جاز، سواءً كان في رهن القروض أو غيرها. وإن استأذنه بعوض دونه، أو بدون عوض في عينٍ مرهونة لقاء دينٍ لم يجز؛ لأنه قرض جر نفعاً، وأما إذا كان في غير رهن القروض، فإنه يجوز؛ لزوال الشبهة الموجبة للتحريم، والقاعدة: أن الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فقد منعنا انتفاعه بدون عوض أو بدون عوض المثل إذا كان في القرض؛ لخوف الربا، وذلك منتفٍ في رهن غير القروض، فيصبح جائزاً على الأصل.
انتفاع المرتهن بالرهن المحتاج إلى مئونة إن أنفق عليه القسم الثاني: أن يكون الرهن يحتاج إلى مئونة، فمثلاً: عندك من هذه الدواب: من الإبل، أو البقر، أو الغنم، فهذه تحتاج إلى مئونة، فهي تحتاج إلى طعام، وتحتاج إلى شراب، ففي هذه الحالة هل يجوز لصاحب الدين أن ينتفع بها؟ هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كانت العين المرهونة تحتاج إلى نفقة، وقال صاحبها: أنا أنفق عليها، وقام بالنفقة على عينه، فلا إشكال، مثلاً جاء وقال لك: أعطني ألف ريال، فقلت له: أعطني رهناً، فقال: هذه الناقة رهن حتى أسدد، فأخذت الناقة وأصبح كل يوم -كأن يكون جارك- يقوم على الناقة ويعلفها، أو تكون الناقة عنده ورضيت له بذلك على أن يعلفها ويقوم عليها، فهذا لا إشكال فيه، لكن المشكلة إذا كانت العين تحتاج إلى مئونة وصاحبها غير موجود، أو يتعذر على صاحبها أن يقوم بالنفقة عليها، فأنت تريد الرهن أن يكون عندك، وصاحبها في بلد غير بلدك، فغير معقول أنه كل يوم يأتي ويعلفها أو يقوم عليها، وقد يكون في البلد الواحد، ومن المشقة أن يأتي فيعلفها ويقوم عليها، فحينئذٍ إذا كانت العين المرهونة عندك تحتاج إلى نفقة من طعام أو شراب أو نحو ذلك، فلها أربع حالات: الحالة الأولى: أن تكون محلوبة مركوبة، مثل الناقة. الحالة الثانية: أن تكون محلوبة غير مركوبة، كالشاة فإنها تحلب ولكن لا يمكن الانتفاع بالركوب عليها، وكذلك البقرة تحلب ولكن لا يركب عليها. الحالة الثالثة: أن تكون مركوبة غير محلوبة؛ كفحل الإبل، فإنه يُركب ولا يحلب. الحالة الرابعة: أن تكون غير محلوبة ولا مركوبة، مثل فحل الغنم، فإنه غير محلوب ولا مركوب، وكذلك الأرقاء. فهذه أربعة أحوال
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/445)
وفيه هذه المنافع. ويرد السؤال: إذا كان صاحب الدين يُنفق على هذه العين المرهونة وهي الناقة، فهل يجوز له أن ينتفع في حدود نفقته أو لا يجوز؟ ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الرهن إذا كان يُركب أو يحلب، أو يجمع بين منفعة الركوب والحليب، فإن من حقك إذا أنفقت عليه أن تركبه وتحلب منه بقدر ما أنفقت عليه. مثال ذلك: لو قال لك: هذه الناقة رهنٌ عندك مقابل الألف التي لك عليّ، فقمت على الناقة وعلفتها بما قيمته مثلاً خمسون ريالاً، فحينئذٍ يجوز لك أن تشرب من حليبها بقدر الخمسين، وأن تركب على ظهرها بقدر الخمسين، ويجوز أن تجمع بين الحليب وبين الركوب بقدر الخمسين، فتجعل -مثلاً- ثلاثين للحليب وعشرين للركوب، فتقدر أن ذهابك على ظهرها إلى داخل المدينة والرجوع بعشرين، عشرة ذاهباً وعشرة آيباً؛ وهذا يتقدَّر بالعُرف، ثم حليبها هذا الذي احتلبته في اليوم الذي أنفقت عليها، قيمته ثلاثون، فحينئذٍ تكون الثلاثين مع العشرين مساوية لنفقتك عليها. فتُقدِّر ما أنفقته وتركب وتحلب على قدر ما أنفقت، فإن كان مركوباً تمحّض انتفاعك بالركوب، وإن كان محلوباً تمحّض انتفاعك بالحليب، وإن كان محلوباً مركوباً جمعت بين الأمرين، أو أخذت منفعة من المنفعتين بقدر حصتها من النفقة، هذا من حيث الأصل الذي ذكرناه. والدليل عليه ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)، أي: عليه أن يعلف الدابة، ويقوم عليها في حدود ما أنفق، وهذا هو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، لا يُظلم صاحب الرهن، ولا يُظلم صاحب الدين، ولا تتلف العين؛ لأنها لو تُركت بدون طعام ولا شراب لتلفت. وعلى هذا أخذ المصنف رحمه الله هذا الحكم، فبيّن أنه يجوز للمرتَهِن ومن له الدين أن يركب الرهن وأن يشرب منه بقدر ما أنفق عليه في طعامه وشرابه.
جواز الانتفاع بالرهن المحتاج إلى مئونة بدون إذن الراهن وقوله: (بقدر نفقته بلا إذن). الفائدة هنا أنه لا يحتاج إلى إذن؛ والسبب في ذلك: أن الإذن موجودٌ من الشرع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً)، فهذا إذنٌ شرعي، والله عز وجل يملك العباد وما ملكوا، فالله ملّكنا ذلك، وبيّن أنه إذا رهن أحدٌ عندك عيناً تُركب وتحلب، وأنفقت عليها، وركبت وحلبت بقدر ما أنفقت؛ فقد عدلت وأقسطت، والله يحب المقسطين، ولا تحتاج في ذلك إلى إذن المالك، هذا بالنسبة للشرب والركوب.
حكم انتفاع المرتهن بالرهن غير المحلوب يبقى السؤال: غير المركوب وغير المحلوب إذا احتاج إلى نفقة، فهل يُقاس على المركوب والمحلوب؟ جماهير العلماء على أنه لا يُقاس ولا يُلحق، وحتى الإمام أحمد رحمه الله لما قال بهذه السنة وعمل بها، سُئِل عن غيرها، فخصّص الحديث بما ورد؛ لأن الأصل يقتضي أنه لا يجوز لك أن تنتفع بمال غيرك إلا بإذنه، وبحقه، فلما جاءت السنة تستثني هذا الأصل فيما يُركب ويحلب، بقي ما عداه على الأصل الذي يوجب عدم ملكية المنافع إلا لأصحابها، ولا يجوز لمن له الدين أن ينتفع إلا بإذن المالك الحقيقي .. هذه خلاصة ما ذُكِر. فالحاصل: أنه يجوز في القسم الثاني إذا كان الرهن يحتاج إلى مئونة وكان مركوباً محلوباً، جامعاً بينهما، أو فيه إحدى الخصلتين يجوز لمن له الدين أن ينتفع في حدود ما أنفق. فإن كان غير محلوبٍ ولا مركوب، فإنه لا يجوز أن ينتفع به، وحينئذٍ يفصل فيه من ناحية إذا أنفق فإنه يحتسب قدر ما أنفق على ذلك المرهون، ثم يطالب المالك الحقيقي بنفقته، كما سيأتي إن شاء الله.
الإنفاق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكان الرجوع إليه قال رحمه الله: [وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع]. قوله: (وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه) إذا استأذنه فلا إشكال، وقد ذكرنا المحلوب والمركوب، فالمحلوب والمركوب لا يحتاج إلى إذن، وغير المحلوب والمركوب -كما كان في الأرقاء في القديم ونحوهم- إذا احتاج إلى نفقة، فإنه إذا أنفق عليه بدون إذن صاحبه مع إمكان أن يستأذنه، فإنه لا يُعطى نفقته؛ والسبب في ذلك: أن المطالب في الأصل هو المالك، فكونه لم يستأذن ولم يأمره أحد أن يُعطي بل أعطى
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/446)
تلقائياً، دلّ على أن العطية محض تبرّع، وهذا يسمونه: الاستناد إلى الظاهر؛ لأن المالك الحقيقي موجود، فكونه موجوداً ويمكنه أن يتصل به أو يرسل إليه، أو يأتيه بنفسه ويقول له: إني سأنفق على الرهن فهل تأذن لي؟ فكونه لم يفعل ذلك، هذا يسمونه: دلالة الظاهر، وقد سبق أن ذكرنا الظاهر والأصل، فهذا من الظاهر فيُعمل به، ويقال: هذا محض تبرّع. وقال بعض العلماء: يرجع إلى نيته، فإن كان نوى أنها تُحتسب احتسبت، وإن كان نوى أنها لا تحتسب فإنها لا تحتسب، وتكون محض التبرع. والمراد بقوله: (لم يرجع)، أي: ليس من حقه أن يرجع على المالك الحقيقي فيطالبه، فيقولون: رجع، لم يرجع، وعليه أن يرجع، هذا هو المراد به، أنه إذا دفع مثلاً ما قيمته خمسمائة ريال نفقة، وكان بإمكانه أن يستأذن المالك الحقيقي ولم يستأذنه، فحينئذٍ ليس من حقه أن يرجع ويطالب المالك الحقيقي بالنفقة. ...... النفقة على الرهن عند تعذر الرجوع إلى الراهن قال رحمه الله: [وإن تعذّر رجع ولو لم يستأذن الحاكم]. قوله: (وإن تعذر) أي: إن تعذر عليه أن يرجع إلى المالك الحقيقي، وإن لم ينفق صارت الدابة معرضة للموت، والوقت ضيق، فتعذّر عليه أن يرجع؛ وذلك لصعوبة الاتصال به، أو سافر الراهن، وتعذر أن يتصل به أو يجد وكيلاً عنه، فقام وأنفق، فإنه يرجع؛ لأن الشبهة هنا قائمة، والأصل أن نفقته محسوبة، وقد قلنا هنا: إنه يرجع؛ لأنه لما أنفق هذا المال، فالأصل أن يرجع في ضمانه، هذا هو الأصل، ولما تعذّر عليه الرجوع سقط تأثير الظاهر؛ لأن في الظاهر ما يدل على الشبهة لوجود العذر، وحينئذٍ لا نلزمه، ولا نقول له: يسقط حقك؛ بل نقول: إن من حقك أن ترجع عليه بقدر النفقة. فلو أنفق عليه مثلاً في حدود خمسمائة ريال، وقيمة الرهن عشرة آلاف ريال، والدين تسعة آلاف ريال، فلما انتهى الوقت جاء وسدد تسعة آلاف ريال، وقال له: أعطني الرهن، فقال: بقي خمسمائة تكفّلتُها نفقة على الرهن، فإن قال: لا أعطيك، فحينئذٍ من حقه أن يطالبه، ويقول له: أعطني هذه الخمسمائة وهي تابعة للدين، فيُلزم بإعطائه، ويجب عليه أن يعطيه، سواءً استأذن الحاكم أو لم يستأذنه. وبعضهم يقول: عليه أن يستأذن الحاكم والوالي، والمراد بالحاكم هنا القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فالسلطان ولي من لا ولي له)، فجعل القضاة والحكام إنما يُرجع إليهم إذا تعذّر الرجوع إلى الأصل، فهم يقومون مقام الناس في القيام على مصالحهم، وعلى هذا قالوا: إنه يرجع إلى الحاكم فيستأذنه أولاً ثم ينفق، ولا شك أن الرجوع إلى القاضي متى أمكنه الرجوع إلى القاضي أحوط.
النفقة على الوديعة مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه قال رحمه الله: [وكذا وديعة]. أي: إذا أنفق على وديعة، ومثاله: رجلٌ أعطاك وديعة، فإذا احتاجت هذه الوديعة إلى نفقة، وأمكنك الاتصال به، فإنه يجب عليك أن تتصل به وتستأذنه، وإن لم يمكنك الاتصال به على التفصيل الذي ذكرناه في الرهن، فمن حقك أن تطالبه بنفقتك على وديعته، سواءً قلنا باستئذان الحاكم أو بدونه، وأما إذا أمكنك أن تستأذنه ولم تستأذنه، فإن نفقتك على الوديعة تعتبر محض التبرّع، وليس من حقك أن تطالب بالنفقة. ...... النفقة على العارية مع إمكان الاستئذان من المالك وعدمه قال رحمه الله: [وعارية]. أي: إذا استعار شخصٌ شيئاً، واحتاج هذا الشيء إلى نفقة، فإنه يرجع إلى مالكه الحقيقي ويستأذنه، فإذا لم يستأذنه مع إمكان الاستئذان، فإنه يتحمل مسئولية النفقة، وأما إذا لم يمكنه وتعذر عليه الاستئذان وقام بالنفقة، فإنها تضمن على التفصيل الذي ذكرناه في استئذان الوالي وعدم استئذانه. ...... النفقة على الدواب المستأجرة الهارب صاحبها قال رحمه الله: [ودواب مستأجرة هرب ربها]. وذلك مثل الإبل في القديم، فإذا أستأجرها الإنسان من أجل الركوب، ثم هرب صاحبها، فهذه الدواب ستبقى عندك، وتكون يدك عليها قائمة، يد حفظ، فتحفظها لأخيك المسلم، وبعض العلماء يُلزمك بالحفظ هنا، ولا خيار لك، تُلزم بحفظها، وتقوم عليها حتى يأتي ربها وصاحبها، ثم تنفق عليها منها، فإذا أنفقت عليها منها فلا إشكال، وأما إذا لم تجد منها شيئاً وقمت أنت بنفسك وأنفقت من مالك، فحينئذٍ يكون من حقك الرجوع على مالكها الحقيقي إن جاء يطالبك يوماً من الأيام؛ لأنه تعذر عليك أن تتصل به
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/447)
وتطالبه، فيجوز لك حينئذٍ أن تؤاخذه بضمان؛ لأن هذه العين التي هي الإبل أو الدواب التي تُستأجر للركوب أو نحو ذلك مثل الثيران، فقد كانت في القديم تستأجر للحراثة، وفي زماننا لو كانت السيارة مستأجرة، ثم حصل ظرف لصاحبها وغاب فجأة، وأصبحت السيارة عندك واحتاجت إلى نفقة، أو إلى رعاية، فأنفقت عليها مع تعذر الاتصال بصاحبها، فإنه حينئذٍ إذا رجع طالبته بضمان ذلك الشيء الذي أنفقته على عينه؛ ووجه ذلك: أن هذه العين غُرمها وغنمها على مالكها الحقيقي؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (الخراج بالضمان)، فغرمها وغنمها لمن يضمن، أي: يأخذ الغنم وعليه الغرم، فلما كان ربحها له، كذلك أيضاً غرمها ونفقتها وخسارتها وأعباؤها وتكاليفها على مالكها الحقيقي، أما يدك فإنها يد حفظ. ففي هذه الحالة -في العارية، وفي الرهن، وفي العين المستأجرة- إذا لم يتيسر الاتصال بمالكها الحقيقي وكنت معذوراً، جاز لك أن تقوم بالمعروف بالنفقة عليها، ثم تطالبه بضمان ما أنفقت. ...... تعمير المرتهن لخراب الدور والأراضي المرهونة ونحوها قال رحمه الله: [ولو خرِب الرهن فعمّره بلا إذن رجع بآلته فقط]. الخراب: ضد العمار، فلو أن العين المرهونة -كالمزارع، والأرضين ونحوها- أصبحت خراباً، أو اخترب بعضها، فقام المرتهن باستصلاحه، فإنه في هذه الحالة العين والرقبة موجودة، ويمكن أن تبقى وتبقى ماليتها بحالها، بخلاف الإبل والبقر والدواب، فإنه إذا لم تنفق عليها فستموت وتتلف وتذهب ماليتها، فهناك فرق بين الاثنين، ثم في هذه الحالة يكون الدفع هنا دفع إجارة، وفيه مبايعة من جهة المئونة، فيلتزم به فقط بقيمة الآلة التي تم بها الاستصلاح، ولا يطالبه بالفضل، وليس له أن يقايضه على ذلك منفعة، وذلك بالعرف، فتكون مثلاً بناء هذه الدار واستصلاحها بخمسين ألفاً، وتكلفتها بالعرف أربعون ألفاً، وعشرة آلاف تكون ربحاً لمن يقوم باستصلاحها، فهنا ليس له أن يربح، وإنما يكون له فقط أجرة الآلة التي استصلح بها، فيملك فقط المئونة، وليس من حقه أن يقايض على ما فيه مصلحة ونماءٌ زائد. وهذا بالنسبة لمنفعة الاستصلاح، بخلاف منفعة النفقة التي تبقى بها العين، فهنا محض تبرع فيه نوع من الفضل؛ فأرضي إذا انهدمت فإن من حقي أن أبنيها أو لا أبنيها، لكن الدابة إذا ماتت ففي الغالب أنني لا أرضى بموتها، فكونه في هذه الحالة عندما خربت الأرض أتى وعمرها، فأنا قد أرضى أن تسقط وتخرب وتبقى على حالها، لكن الإبل والبقر والغنم التي حياتها وماليتها موقوفة على النفقة لا أرضى بتلفها. فهناك فرق بين الحالتين، فالنفقة في الأولى مستحقة ولازمة، وتبقى المالية عليها، وكأنه محض التصرف الرشيد، وفي موضعه، أن تنفق لبقاء الإبل والغنم والبقر ونحوها من الرقاب المرهونة أو المستعارة أو المؤجرة، لكن في حالة ما إذا كانت العين داراً فانهدمت، أو مزارع مثلاً فعطشت، فأصلح آبارها أو نحو ذلك، فإنه لا يأخذ إلا نفقة الآلات التي بها تحققت المنفعة، وليس من حقه أن يقايض أو يطلب الربح أو النماء الزائد. أما لو استأذن فإنه يملك مطالبته بجميع ما أذن له به، وذلك في حدود الإذن، فلو قال له مثلاً: ابن هذا دورين، فبناهما دورين على نفس الصفة المتفق عليها، فله أن يطالبه بالنفقة كاملة. ...... الأسئلة ...... جواز إدخال الإجارة على الرهن ومباينته لعقد البيعتين في بيعة السؤال: أشكل عليَّ انتقال يد الراهن من الأمانة إلى الضمان، وذلك إذا استأجر الرهن، فهنا ابتدأ بعقد الرهن وانتهى إلى الإجارة، فوسع هنا في هذه المسألة، وحرم في البيوع عن بيعتين في بيعة، وتردد العقد بين البيع والإجارة، فهل من حكمة في التوسيع هنا، والتضييق هناك؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأما بالنسبة لمسألة الرهن وانتقاله إلى الإجارة فليس هو على سبيل التشريك، فينبغي أن يُفرّق بين هذا وبين عقد البيعتين في بيعة، وعقد الإجارة الذي ينتهي بالتمليك عقدان في عقد. أما الرهن مع الإجارة فعقدان منفصلان: الرهن عقد منفصل له شروطه وله ضوابطه، والإجارة عقد مستقل له شروطه وله ضوابطه، فإذا تعاقدا على رهن وأبقيا يد الرهن على ما هي عليه فرهن، وإن رفعا الرهن باختيارهما ورضاهما فهذا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/448)
جائز، فمثلاً: لو أنني أخذت رهناً منك، ثم جئتني وقلت: يا فلان! أنا محتاج للرهن وأريد أن أنتفع به، فهلا سامحتني وأقلتني، فقلت لك: قد سامحتك، وأخذتَ الرهن، فإنه يجوز بالإجماع. فانتقلت يد الرهن من الرهن إلى عقد آخر، دون أن يجتمعا. لكن العقد في بيعتين في بيعة هنا اجتمع العقدان في عقد واحد، كأن يقول لك: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف حاضرة، أو بعشرين إلى نهاية السنة، وتفترقا قبل التحديد، أما لو حددتما فليس هناك إشكال، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما -كما روي عنه في مصنف ابن أبي شيبة وغيره-: أما إذا بت فلا إشكال. فجمهور السلف رحمهم الله على أنه إذا قال له: بعني بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، وأخذ بإحدى البيعتين، فإنه خرج عن بيعتين في بيعة، وليس هناك خلاف إلا قول سماك ورواية عن طاووس رحمهما الله؛ وذلك لأن العقدين لا يدخلان في عقد واحد إلا إذا افترقا، فإن افترقا، وقد أعطاه البيعتين ولم يحدد، فقد أدخل العقدين في عقد، أما هنا -في عقد الرهن والإجارة- فإنه لم يدخل العقدين في عقد؛ لأن عقد الرهن على حدة، ثم اتفقا على انتقاله من الرهن إلى الإجارة، كما لو اتفقا على أن يعود على صاحبه. إذاً: ليس هناك أي إشكال، فهذا شيء وهذا شيء، ولا يعتبر هذا من تداخل العقود. وهكذا لو قال لك: استأجِر العمارة عشرين شهراً بعشرة آلاف كل شهر، ثم بعد سنة تملكها، فهو ليس بعقد إجارة، وليس بعقد بيعٍ محض، وإنما أدخل البيعتين في بيعة، أو أدخل العقدين في عقد، على القول بأن الإجارة بيع، ولا شك أنها نوع من البيع الذي هو بيع المنافع، فأدخل البيعتين في بيعة من جهة بيع منفعة، وبيع عين، أدخلهما في عقد واحد، وقد استأجرتَ العمارة وفي نيتك أن تملكها، والتزم لك أن يملكَك في نهاية العام، فأدخلتما عقدين في عقد واحد، فالغرر في هذا واضح. وهكذا لو قال له: أبيعك بعشرة حاضرة وبعشرين إلى أجل، وافترقا قبل التحديد، فقد أدخلا الصفقتين في صفقة واحدة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في تتمة حديث البيعتين في بيعة: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)؛ وذلك لأنه إذا قال له: بعني بمائة حاضرة وبمائتين إلى أجل، وفارقك قبل أن يحدد، فإما أن يعطيك الوكس وأنت ترجو المائتين إلى أجل، فيقول لك: أريد أن أشتريها بمائة حاضرة، فضيّع عليك المائتين إلى أجل، وأنت تحب أن تكون إلى أجل، وهذا هو أوكسهما، أو أخذها وهو يريد أن يدفعها مائة، ثم قال: هلا خففت عليَّ فجعلتها إلى أجل، فوقع في الربا، فعاوض عن المائة التي في نيته أن يشتري بها إلى المائتين في أجل، فتحقق فيه ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، أما لو بتَّ، واشترى بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، كما هو موجود في بيع التقسيط، فليس هذا ببيعتين في بيعة؛ لأنه ليس له أوكسهما ولا الربا؛ ولأن العقد تم على سعرٍ معيّن، فالسلعة قيمتها حاضرة بمائة، وقيمتها إلى أجل بمائتين، ستشتريها بمائة حاضرة أو بمائتين إلى أجل، فهذا ليس من بيعتين في بيعة في شيء. ولو قلنا: إن كونه يعرض عليه القيمتين في الصفقة يدل على أنه بيعتين في بيعة، لدخلت جميع البيوعات في المساومات؛ لأنه في المساومة يقول له: بعني بعشرين، فيقول: لا، بل بثلاثين، كما لو قال له: بعني بعشرة حاضرة أو بعشرين إلى أجل، فالمعنى في هذا واضح. وعلى هذا لا يُعتبر إدخال الإجارة على الرهن كالبيعتين في بيعة، ولا يعتبر هذا موجباً للإشكال؛ لأن الرهن مستقل وعقدٌ قصد به الاستيثاق على وجه شرعي معتبر، وتم وبت على الصفة المشروعة، ثم اتفق الطرفان على إلغائه وإنشاء عقد الإجارة، وليس هذا من التداخل في شيء، وعليه فإنه يزول الإشكال، والله تعالى أعلم.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/449)
حكم تلف الرهن عند المرتهن السؤال: إذا رهن عندي رجلٌ بعيراً، ثم مات هذا الرهن عندي قبل السداد، ثم طالبني به، فما الحكم أثابكم الله؟ الجواب: إذا مات البعير، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يموت بدون تفريط منك، فليس من حقه أن يطالبك، ويدك يد أمانة. الحالة الثانية: أن يموت بتفريطٍ منك، فإنك تضمن، وعلى هذا يفصّل في مسألة ضمان الرهن. مثاله: قال لك شخص: أعطني مائة ريال ديناً، فقلت له: أعطني رهناً، فأعطاك ساعة أو مسجلاً أو كتاباً، فتلفت الساعة، أو تلف الكتاب، أو تلف المسجل، فإنه لا يضمن إلا إذا فرّط، فإن كان تلف هذه الأعيان بسبب تفريط منه فإنه يضمن، وأما إذا لم يفرِّط في ذلك فإنه لا ضمان عليه، وحينئذٍ تكون يده يد أمانة على التفصيل الذي سبق بيانه، والله تعالى أعلم.
حكم استصلاح الدور المؤجرة من قبل المستأجر السؤال: من كان مستأجراً لدار، وأراد أن يصلح فيها ما خرب، فهل لا بد أن يستأذن من المالك عموماً، أم يصلح مرافقها ويحتسب ما أنفقه من قيمة الإيجار؟ الجواب: إذا استأجرت داراً فليس من حقك أن تتصرف في عين الدار، فتغير فيها أو تُحدث فيها إلا إذا استأذنت مالكها، أما ما يكون من جنس المنافع ومن حقك عرفاً أن تفعله، فإنك تفعله، فإذا كان هذا الذي تفعله فيه ضرر أو فيه زيادة أو نقصاً أو تغيير لصفة العين المؤجرة، فلابد أن تستأذن. فلو استأجرت داراً مكونة من أربع غرف، وكان بالإمكان أن تفتح كل غرفتين على بعضها، فلابد أن تستأذن، ولا تنقل الجدار الحائل إلا بإذن، وكذلك أيضاً لو أردت أن تحدث أشياء، كوضع المسامير في الجدار أو نحوها، فلابد أن تستأذن، فإن لم يأذن لك وفعلت ذلك من عندك، فإنه يجب عليك شرعاً إذا فرّغت الدار أن تسلمها بالصفة التي استلمتها عليها. وهذه مسألة من أعظم المسائل التي يعظم فيها الضرر، وأحبِّذ للخطباء وأئمة المساجد أن يذكِّروا الناس بالله عز وجل، فإن حقوق العيون المؤجرة -في هذا الزمن- ضائعة بين الناس إلا من رحمهم الله، فالمستأجر إذا انتهى وخرج من البيت، أو خرج من الدكان أو العين المؤجرة، فإنه يخرج منها بحالة قد تحتاج إلى استصلاح يقارب نصف قيمة الأجرة، ومما لا يخفى أنه قد تكون هذه العين أو هذه العمارة ملكاً لأيتام، وقد تكون ملكاً لأرامل وقفاً عليهم، ولذلك يعتبر هذا المال الذي أفسده المستأجر في ذمته ورقبته يوم القيامة، فلو أفسد العين المؤجرة، وأحدث وغيّر وتصرّف فيها، فإنه يجب عليه أن يعيدها على الصفة التي استلمها بها، حتى ذكر العلماء الكنيف الذي هو محل قضاء الحاجة، فقد كان في القديم ينزح وينظف، فقالوا: إذا استلمه نظيفاً، فلابد أن يخرج وهو نظيف، بمعنى أنه لا يبقيه بفضلته، وذلك كله من باب التشديد في الحقوق. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن الناس في عرصات يوم القيامة تطيش عقولهم من الذنوب والمظالم؛ لأنه يؤتى بالمظالم مثل الخردلة وأدنى من ذلك: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، والله عز وجل قد أمر العباد برد الحقوق إلى أهلها، فهذا حق، فإذا استأجرت العين كاملة فتردها كاملة، وإذا استأجرتها سليمة فتردها سليمة، أما لو أضر بأرضيتها، أو بسقفها، أو بجدارها، أو بأي شيء فيها، فإنه يضمن ذلك ويرده كاملاً إلى صاحبه. فينبغي تنبيه الناس في هذا الأمر؛ لأنها من الحقوق التي تضيع بين الناس، ويُنبَّهون على الأمور التي ينبغي أن يراعيها المسلم مع أخيه المسلم في مثل هذه العقود؛ من ضمان الحقوق، وعدم الظلم، وعدم الأذية، وعدم الإضرار، فليتق الله المسلم في حقوق إخوانه، خاصة الأوقاف المؤجرة؛ لأنها تكون ملكاً لأناس مستحقين؛ كالضعفة والعجزة، وتصرف غلّتها عليهم، فإذا أُفسِدت هذه الأوقاف وضُيِّعت، فحينئذٍ تضيع حقوق من تصرف لهم. والناظر هو المسئول أمام الله عز وجل؛ لأن تساهل الناظر وسكوته يمكِّن المفسد من إفساده، فإذا جاء الناظر ليستلم العين المؤجرة، فعليه أن يطالب المستأجر أن يسلمها كما استلمها، أما أن يتركه يفسد فيها ويغيّر فيها ويعبث على مرأى منه ومسمع، فإذا سلمها سلمها ناقصة، ثم صرف من غلة الوقف لاستصلاحها؛ فهذا ظلم
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/450)
لأصحاب الحقوق، وينبغي التنبه لمثل هذه الحقوق والتنبيه عليها؛ لما فيها من الأذية والإضرار الذي نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، نسأل الله العظيم أن يجنبنا الزلل، وأن يعصمنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.
جواز انتفاع المرتهن بصوف البهيمة إن أذن له الراهن السؤال: هل يدخل في الانتفاع صوف الشاة، فله أن يجزّه ويبيعه أثابكم الله؟ الجواب: ظاهر النص الانتفاع بالحليب والركوب، هذا الذي ورد به النص، سواءً أذن أو لم يأذن، ويبقى فيه الحكم على التفصيل الذي ذكرناه، أما صوف البهيمة وشعرها، فليس من حقه أن ينتفع به بدون إذن إذا أنفق عليها؛ بل يبقى على الأصل من وجوب الاستئذان على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.
حكم القراءة في الكتب المرهونة بإذن وعدمه السؤال: إذا كان الرهن كتباً للعلم، فهل القراءة فيها من باب الانتفاع، ويدخل في مسألة القرض الذي جر نفعاً أثابكم الله؟ الجواب: مسألة قراءة الكتب، بعض العلماء يرى أن العلم لا يُملك، فكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً لأحد، ولذلك قال تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57]، فقالوا -بناءً على هذا الأصل-: يجوز أن تقرأ في كتاب الغير ولو لم تستأذنه. ومن ذلك: القصة المشهورة بين سحنون وهو عبد السلام الفقيه المالكي المشهور، وبين أسد بن الفرات، وأسد بن الفرات من الفقهاء الأجلاء الذين ارتحلوا إلى ابن القاسم في مصر، وكان أسد بن الفرات يريد أن يلقى الإمام مالكاً بنفسه ويسأله، فتوفي الإمام مالك وهو في مصر، فسأل عن أعلم أصحابه، فقيل: ابن القاسم، فجاء إلى ابن القاسم، وقال: إني سائلك، فما كان عندك من قول مالك فأخبرني عنه، وما لا قول لمالك فيه فأخبرني عن الأشبه بقوله، -ويسمَّى: التخريج على القواعد والأصول-، فأفتاه وبيّن ما يُسمى: بالمدونة، ثم رجع إلى المغرب، فجاء سحنون، وهو عبد السلام، ويقال: سُحنون و سَحنون، قال الناظم: وسين سَحنون بفتح قد ترام وقد تضم واسمه: عبد السلام الشاهد: أن سحنون جاء إليه وقال له: أعطني مدوّنتك أنقل ما فيها، فقال له: لا أعطيك، فقال: إنه لا يجوز لك أن تخفي هذا العلم عني، فقال له: كتابي، ولي الحق أن أعطيه من أشاء وأمنعه ممن أشاء، فقال: لكن العلم ليس ملكاً لك، فاختصما إلى القاضي، فقال أسد بن الفرات: الكتاب كتابي، والمداد مدادي، والقلم قلمي، يعني: أنا الذي كتبت، وهذا الشيء المكتوب ملكٌ لي، فأنا لا أدعي ملك العلم، ولكني أدعي ملكية الكتاب، والكتاب يُملك، الذي هو الصفحات والأوراق والجلد، والمداد ملكٌ لي، والقلم الذي خط ملك لي، وهذا هو الذي يفرِّعون عليه الآن حقوق الطبع. فقال سحنون: إن العلم لا يُملك، فقال القاضي: إن الكتاب كتابه -ولكن هذا لحكمة من الله، وقل أن يبخل إنسان بالعلم إلا محق الله بركته-، فلما قضى القاضي لأسد بن الفرات، ارتحل سحنون إلى ابن القاسم في مصر، فأخبره القصة، فدوّن له مدوّنة أخرى، ورجع عن مسائل في مدوّنة أسد،وسأل الله أن ينزع البركة من مدوّنة أسد، فتلِفت وضاعت وما بقيت إلا مدوّنة سحنون إلى يومنا هذا. إذاً: العلم ما يبخل به أحد إلا محقت بركته، نسأل الله السلامة والعافية. فالشاهد: أن مسألة ملكية الكتاب بذاته، إذا قلنا: إن العلم لا يملك؛ كان من حقه أن يقرأ، ويقرأ باستحقاق شرعي خارج عن العين المرهونة، وإن قلنا: إن الكتاب يُملك، فحينئذٍ تكون العين مملوكة، وليس من حقه أن يفتحها ويقرأ إلا بإذن من المالك. وفي الحقيقة: النفس تميل أكثر إلى أن العلم لا يُملك، وهذا هو الذي تقرِّره النصوص وتدل عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/451)
شرح زاد المستقنع - باب الضمان لقد جاء الإسلام بحفظ الكليات الخمس: الدين والمال والنفس والعرض والعقل، ومما يحفظ به المال ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه من الرهن والحوالة والضمان، فهذه كلها عقود يستفاد منها الرفق واستيفاء الحقوق، والضمان هو أحد هذه العقود، والذي يكون بإضافة ذمة إلى ذمة في دين أو عين، ولكي يثق الإنسان من رجوع حقوقه؛ فإنه لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف؛ لأنه لو ضمن غير جائز التصرف لضاع المال. والضمان له أحكام ومسائل عدة بينها أهل العلم. مشروعية عقود الاستيثاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: قال رحمه الله: [باب الضمان] هنا ثلاثة أبواب مهمة، الباب الأول: الرهن، الباب الثاني: الضمان، الباب الثالث: الحوالة، وإذا تأملت الأبواب الثلاثة حيث جاءت وراء بعضها، ذكر المصنف الرهن، والرهن متصل بالقروض، فالمناسبة واضحة، وبعد أن فرغ من أحكام الرهن دخل في الضمان، وباب الضمان من أهم الأبواب، وتعم به البلوى، والناس دائماً يسألون عن أحكامه، وهو موجود إلى زماننا اليوم، وهو ما يسمى: بالكفالة: كفالة مال، وكفالة وجه، وكفالة حضور، كل هذه مما تعم بها البلوى حتى في زماننا. فباب الرهن، وباب الضمان، وباب الحوالة، ثلاثة أبواب توصف في الفقه الإسلامي بأنها عقود استيثاق، يعني: يتوثق بها في الحقوق. ففي الرهن يستوثق صاحب الحق -المال الذي دفعه، أو العين التي باعها- من حقه بالرهن، وفي الضمان يستوثق صاحب الحق أيضاً بالرجل الكافل، أو الضمين أو الضامن، أو الحميل أو الزعيم، أو الغارم، كلها بمعنىً، يستوثق من حقه، فيقول لك مثلاً: أنا أعطيك مائة ألف، ولكن أعطني كفيلاً، مثلما قال لك: أعطني رهناً، فهنا يقول: أعطني كفيلاً، فهناك استيثاق بالعين، وهنا استيثاق بالأشخاص والذمم، كذلك أيضاً الحوالة فيها نوع استيثاق؛ لأنه إذا عجز عن السداد، فإنه يحيلك على شخص له دين عليه، وقد يكون ليس له دين عليه، فيحيلك لكي تستوثق من حقك وتصل إليه، فهذه ثلاثة أبواب مرتّبة على ترتيب المصنف رحمه الله. فالضمان والكفالة والزعامة والحمالة، كلها بمعنىً، والضمين والحميل والكفيل والزعيم كله بمعنىً، وإن كان في بعض الأحوال يقع تفصيل، فالضمين الغالب أن يكون ضميناً في الأموال، والكفالة تكون في الأموال وتكون في الوجه وفي الأبدان، فتتكفل بإحضار الشخص، وقد تكون في قصاصٍ أو نحو ذلك، هذا بالنسبة للكفيل، وأما بالنسبة للزعيم، فهو الذي يتحمل الأموال الباهضة، فلا يقال: زعيم إلا إذا كان في شيء باهضاً، مثل شيوخ القبائل، وشيوخ العشائر إذا أصلحوا بين الناس في الخصومات، يقول: أنا زعيم، يعني: أنا أضمن ما وقع من الخطأ من طرف على آخر، هذا بالنسبة للزعيم، ومنه قوله تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، يعني: أنا به ضمين، وأنا به كفيل، وأنا أتحمّله، هذا بالنسبة للكفالة. أما فيما يتعلق بالحمالة، فالحميل في لغة العرب في القديم -ولا زال إلى عهد قريب- هو الذي يتحمل الديات، فالحمالة تكون في الديات، وهناك ألفاظ مثل: الصبير، والقبيل، فالصبير والقبيل يشمل هذا كله، يكون صبيراً في الأموال، يكون صبيراً في الأنفس، فيقول: أنا صبير، يعني: الصبير أصله من الشاة المصبورة المحبوسة، كأنها مصبّرة، فكأنه حبس نفسه ورهن نفسه لقاء هذا الحق. والقبيل يكون نداً ويتحمل، وكان هذا موجوداً ولا يزال إلى زماننا هذا -وإن كان بصورة أقل في زماننا- فحينما كان الخير منتشراً بين الناس كانوا يتحملون، ولا يكون للحمالات ولا للضمانات إلا أهلها الذين عُرِفوا بالكرم وبقوة النفس، وهذا فضل من الله يعطيه من يشاء، ويعتبر مثل هذا من السؤدد. لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فالسيادة والزعامة في الناس لا تكون إلا ببذل الثمن والتضحية، فكان في الناس من يتحمل ويتكفّل، وتجد فيه شهامة وقوة نفس، وجلَداً من أجل أن يتحمل هذه الحقوق، ولا شك أنها مخاطرة، ولذلك يقولون: أولها ملامة: أي: الناس تلومك، وأوسطها ندامة: أي: إذا انتصفت المدة يبدأ الإنسان يندم، عندما يتكفّل على أحد، وآخرها غرامة: أي: أنه بتحمله وضمانه وكفالته
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/452)
سيغرم، ولذلك لا يقوى على هذا إلا من أعانه الله. وهذه الأعمال من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي من الشيم المحمودة التي يرفع الله عز وجل أصحابها ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة، ولذلك كم مِن أناس ماتوا وما ماتت مكارمهم، وهم أحياء في مجالس الناس، مع أنهم قد قبروا وماتوا ربما من قرون، ولكن أبقى الله لهم جميل الذكر والثناء الحسن، وبقيت أخبارهم ومآثرهم في قلوب الناس وعلى ألسنتهم جزاءً وفاقاً، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. والعلماء رحمهم الله، ينصون على فضل الكفالات والضمان، لكن على تفصيل في الحقيقة، ففي بعض الأحيان تكون محمودة ومشكورة، ويكون صاحبها مأجوراً، خاصة إذا قصد بها وجه الله عز وجل، ففي بعض الأحيان يعطيك الله الدنيا ويبسط لك من الرزق فتنظر إلى من هو محتاج قد غرِم في دينٍ معقول ومقبول، كإنسانٍ مثلاً استدان من بقالة لطعام أولاده، ثم حضر وقت القضاء، فتحمل مثلاً خمسمائة ريال، وأنت قادر على السداد عنه، فتقول لصاحب البقالة: أنا ضمين لك بهذا المال، أو أنا كفيل، فإن فعلت ذلك فإن الله يأجرك، خاصة إذا كان على أيتام أو على أرامل أو على ضعفة أو نحو ذلك، فإن الأجر في ذلك عظيم، والدين الذي استدان به الغريم دينٌ شرعي، ومقبول من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية، وهذه الكفالة وهذه الحمالة من أحب القربات إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمن كان في حوائج الناس في مثل هذه الأمور، وعلم أن فلاناً تحمل الحق فأدى ذلك فهو على خير عظيم، وثوابٍ من الله كريم، لكن إن كان هذا الدين على سفَهٍ وطيشٍ، أو كان على حرام، فإنه إذا تاب إلى الله وأناب إلى الله، وأردت أن تتحمل عنه لاستصلاحه واستقامته، وإرادة الخير له في آخرته، فإن الله يأجرك؛ لأنه إذا تاب وندم فقد عفا الله عما سلف، ومن تاب تاب الله عليه، وحينئذٍ إذا غرِم للناس ديوناً، وكان قد أنفقها في حرام ثم تاب ورجع، وأردت أن تتحمل عنه، فإن هذا فيه تفريج كربة يُقصد منها الخير والإحسان. وتارةً لا يكون لك بها أجر، وصورتها أن تكون حميَّة وعصبية، وليست حمية دينية، وإنما من أجل أنه قريب لك، أو من أجل أنه أحرجك أو نحو ذلك، فإذا كان من أجل المحاباة والرياء والسمعة، فهذه لا أجر لك فيها ولا وزر، فإذا كان الإنسان يريد بها المفاخرة في الدنيا، أو نحو ذلك، فإن الله عز وجل يعطيه متاع الدنيا، وهذه ليست مما يدخل في التعبديات، ولذلك لا أجر له ولا وزر، ولذلك لا ينال فيها أجر الآخرة لعدم قصد الآخرة، بل ينال فيها عاجل الدنيا؛ لأنه أراد الدنيا. أما لو كان إنفاقه على وجه أُحرِج به، فمثلاً لو أن قريباً لإنسان جاءه في دين، وأحرجه بأُناس، أو جاء المديون وأدخل عليك بعض القرابة، وأُحرِجت، فأعطيت وأنت مكره، فأنت مأجور وإن كنت مكرهاً، لكن أجرك وأنت راضٍ ليس كأجرك وأنت مكره، لكن تنوي الآخرة، ومن هنا تقاد إلى الجنة بالسلاسل، يعني: بالكره الذي تعرضت له. وعلى هذا فإن الإنسان إذا أُحرج وهو يحب هذا الخير، لكنه في بعض الأحيان تميل النفوس إلى حب الأموال، فإذا أُحرِج من قبل قريب أو نحو ذلك فدفع فإنه في هذه الحالة يكون أجره أقل ممن يدفع بطيبة نفس، لكن إذا دفع في حال الإحراج من أجل تطييب خواطر من أحرجه، فإنه لا أجر له، فيُفرَّق بين كونه ينفق لله عز وجل، حتى قال الحسن البصري رحمه الله، لما سئل عن الرجل يخرج في جنازة رجل لا يحبه، وإنما خرج من أجل أهل حيه، ومن أجل أن يطيب خواطرهم لما أحرجوه، قال: له أجران، أجر الخروج، وأجر تطييب خواطر جيرانه، فأنت إذا أحرجك قريب، فما فعلت هذا إلا من أجله، وما فعلت هذا إلا من أجل صلة الرحم، ففي مثل هذه الصورة يحصل الخلط والغلط عند بعض الأخيار؛ لأنهم يظنون أن هذا من الرياء، والواقع إن كان السبب الحامل في الأصل المودة والقرابة، فهذه محاباة ولا أجر فيها، لكن كونك أنت تحب هذا العمل الصالح وتفعله وأنت ترجو الثواب من الله، ولكنك أُحرجت ودُفِعت إليه فعجّلت هذا الخير لوجود الإحراج، فإنك تؤجر من الوجهين، أجر العمل نفسه، وأجر تطييب خاطر ابن عمك
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/453)
الذي جاءك في وجهه، أو جاءك في شفاعته، فأحببت أن تكرمه وتصل الرحم، فإنك تؤجر على ذلك، وتكون كفالتك من هذا الوجه أجراً لك في الآخرة. ...... حقيقة الضمان والأحكام المترتبة عليه وقوله رحمه الله: (باب الضمان)، الضمان يقوم على إضافة ذمّة إلى ذمة في دين أو عين، وهذا في المطالبة، والمراد بذلك أنه إذا تحمّل رجلٌ ديناً وقال صاحب الدين: ائتني بمن يكفلك، وأتيت وقلت: أنا كفيلٌ له، أو أنا ضمينٌ له، فمعناه أنك تضيف ذمَتك إلى ذمة المديون، وأنت تتحمل سداد الدين إذا لم يسدد المديون، ومن هنا أصبح باب الرهن وباب الضمان متقاربين من حيث المعنى، في كون كلٍ منهما تحفظ به الحقوق ويستوثق به في الديون، فكأن الكفيل يطمئن صاحب الدين، ويتحمل مع المديون وتنشغل ذمته مع ذمة المديون، ولذلك نجد العلماء يقولون: الكفالة ضم ذمةٍ إلى ذمة، فأنت تضيف ذمّتك إلى ذمة المديون، وتعطي صاحب الدين ثقة أنه إذا امتنع المديون من السداد؛ إما لعجزٍ أو لمماطلة أنك تقوم بالسداد عنه، هذا إذا كان الضمان في الدين. وقد يكون الضمان في العين، فمثلاً: لو أن رجلاً قال لرجل: أعطني سيارتك، أريدها لمصلحةٍ معيّنة، أو أريد أن أذهب بها إلى موضع كذا، أو أريدها عارية إلى غد، أو بعد غد فقال صاحب السيارة: أعطني كفيلاً، فتقول: أنا أكفله بأن يرد لك السيارة، وأتحمل ذلك، هنا ضمنته في عين، فالكفالة تكون في ضمان الدين، وتكون في ضمان العين، وقد تتكفل بإحضار الشخص، كأن يقول صاحب الدين للشخص المديون: أعطني كفيلاً يكفل حضورك إذا حضر الأجل، فتقول: أنا أتكفّل بحضور فلان حال المطالبة، أو يوم المطالبة، وقد يكون الضمان بالحضور في الحقوق كالقصاص ونحو ذلك، كما كان يفعله وجهاء الناس، كأمراء القبائل، ومشايخ القبائل إذا وقع على أحد ضمان بحق، فيقول: أنا أتكفل بحضوره، فهذه كفالة. فيقع الضمان في الأموال وغير الأموال، وتقع الكفالة في الأموال وغير الأموال، إلا أن فقهاء الحنابلة رحمهم الله جعلوا الضمان في الأموال خاصة، ولذلك لا يتكلم المصنف هنا إلا حول مسألة الضمان في الأموال، وتركوا باب الكفالة وجعلوها في ضمان الوجه، حينما تقول: في وجهي، أنا آتي به، أو أنا أتحمل إحضاره، ونحو ذلك، وجعلوها في باب الجنايات. يقول رحمه الله [باب الضمان]. أي: في باب الضمان سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام، التي تتعلق في ضم الذمم بعضها إلى بعض، عند المطالبة بالديون، بناءً على هذا إذا تكفّل رجلٌ أو ضمِن الكفيل المكفول، فمعناه أنه إذا حضر الأجل فمن حقك أن تطالب المديون، ومن حقك أن تطالب الكفيل، فأصبحت هناك ذمتان، ذمة المديون، وذمة من كفله، فأنت بالخيار، إن شئت أن تطالب المديون، فحينئذٍ تطالبه ولك الحق؛ لأنه أصيل، وإن شئت أن تطالب الكفيل، أو الضمين، فأنت بالخيار بين الأمرين، أو طالبتهما معاً. ...... عدم صحة الضمان إلا من جائز التصرف قال رحمه الله: [لا يصح إلا من جائز التصرف] لا يصح الضمان إلا من جائز التصرف، ففي الضمانة هناك كفيل وهناك مكفول، والمكفول: وهو الشخص الذي ضممت ذمتك إلى ذمته، وهناك مكفولٌ به: وهو الشيء الذي تكفّلت به وهو سداد الدين، أو إحضار المديون، فهناك كفالة غرم، وهناك كفالة حضور، فإذا جيء وقيل لك: هذا مديون هل تكفله؟ تقول: نعم، يقولون لك: تكفله كفالة غرم، أو كفالة حضور، تقول: أكفله كفالة غرم، بمعنى: أنه إذا لم يسدد أسدد عنه، فهذا نوع من الكفالة، أو تقول: أكفل حضوره، فهذه كفالة حضور، أو تقول: أكفل التعريف به، يعني علي أن أعرِّفك من هذا الشخص الذي أعطيته الدين، أعرِّفك به وباسمه وبأهله، وكذلك موضعه إلى آخره، فإذا قلت ذلك، فمعناه: أنه لابد وأن تتوفر الأهلية في الشخص الضامن والشخص الكفيل، فلا يصح الضمان إلا من جائز التصرف. ...... معنى قول العلماء: جواز التصرف وصحة التصرف ترد كلمتان عند العلماء وهما: جواز التصرف وصحة التصرف، فما معنى جواز التصرف وصحة التصرف؟ كثيراً ما ترد هذه الكلمة خاصة في باب المعاملات. التصرف: بذل الشيء وإعطاء الشيء، وتصرّفك في الشيء يكون إما ببذل عين الشيء، أو يبذل منافعه. أما بذل عين الشيء فهو على حالتين: إما أن تبذله بعوض، كأن تقول: أعطيك هذه السيارة بعشرة آلاف فهذا بيع. وإما أن تبذلها بدون عوض على قصد مرضاة الله عز وجل فهذه
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/454)
صدقة، كأن تقول: هذا الطعام لك، فتكون قد بذلته بدون عوض. وإما على سبيل المحبة، فهذه هدية. أما بذل منفعة العين، فلا تخلو من حالتين: إما أن تبذلها بعوض، كأن تقول: أجرّتك داري، فهذه إجارة، أو تبذل المنفعة بدون عوض، كأن تقول: خذ سيارتي واقض بها غرضك، فهذه عارية. فهذه كلها تصرفات: بعضها تصرفات في الأعيان، وبعضها تصرفات في المنافع، فإذا قال العلماء: لا يصح إلا من جائز التصرف، أي: لا تصح الكفالة إلا من شخص تجوز تصرّفاته المالية، فالناس على قسمين: منهم من أجاز الله تصرفاته المالية، فيبيع ويشتري ويتصدق، ولا أحد يعترض عليه، وهذا هو البالغ العاقل الرشيد غير المحجور عليه. فالبالغ: يخرج الصبي، فالصبي لو جاء وأعطاك ألف ريال هبة منه لا تصح؛ لأنه محجورٌ عليه، والله تعالى يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5]، وقال: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6]، فأمرنا بالحجر على الأيتام، واليتيم: هو الذي لم يبلغ، فدل على أنه لو تصرف اليتيم كأن تصدق بماله، أو وهبه وأعطاه للغير لم تصح هبته ولا صدقته ولا تبرعه. العاقل: فيخرج بذلك المجنون، فلو جاء مجنون نقول: إن المجنون لا تصح تصرفاته كما لو باع أو اشترى. الرشيد: فيخرج بذلك السفيه المحجور عليه، فإن السفيه المحجور عليه في حكم المجنون واليتيم؛ لأنه محجور عليه لحق نفسه، والمحجور عليه يشمل المفلس، على خلافٍ في المفلس هل يكفل أو لا يكفل. توضيح هذه المسألة: فلو كنت قاضياً أو مفتياً وجاءك رجل وقال: فلانٌ يريد أن يكفل فلاناً، فعليك أن تسأل أهذا الكفيل بالغ؟ فإن قالوا: نعم، تقول: يصح، وإن قالوا: ليس ببالغ، بل هو صبي، تقول: الصبي لا يكفل؛ لأنه ليس له حق التصرف في ماله إلا بإذن وليه، وأنتم تعلمون أن الكفالة فيها شيء من التبرع، لأنك حينما تكفل رجلاً بعشرة آلاف ريال، فمعناه أنك ستدفع هذا المبلغ إذا عجز عن السداد، والصبيان والمحجور عليهم لا يصح تبرعهم، كما سيأتي إن شاء الله، فإذن لابد وأن يكون بالغاً، وأن يكون عاقلاً، فلو أن رجلاً مجنوناً سكران، أو خدره رجل، فجاء وكفل إنساناً، وثبت عند القاضي أنه كفل في حال جنونه أو سكره، أو حال كونه مخدراً، فكل ذلك لا يصح فيه الضمان؛ لأن من شرط صحة الضمان أن يكون الضمين وأن يكون الكفيل بالغاً عاقلاً رشيداً غير محجورٍ عليه. هذا بالنسبة للشخص الذي يكفل، فإذا توفرت الشروط فكان رجلاً بالغاً عاقلاً رشيداً غير محجور عليه، فمعناه أنه يدخل على الكفالة بأهلية، وهذه الأهلية تجعله ينظر بها إلى المصالح والمفاسد، فإن علم من نفسه أنه يقدر على تحمل هذه الكفالة أقدم عليها، وإن علم من نفسه أنه لا يستطيع تحمّلها أحجم عنها، فإذن لابد وأن تكون عنده الأهلية التي لا يدخل بها الضرر على نفسه وأهله؛ لأنه لو تحمّل حمالة وكفالة لا يطيقها لربما أضر بأولاده، فلو رأيت رجلاً قليل المال تحمّل كفالة بعشرة آلاف، وهو ليس عنده دخل، ولا يستطيع أن يسدد المبلغ كاملاً، فمعنى ذلك أنه إذا تحمل العشرة آلاف فسيغرم، وحينئذٍ يتعرّض أولاده وأهله للضرر، وهذا لا شك أن فيه مفاسد، والشريعة جاءت بدفع المفاسد وجلب المصالح. وعلى هذا قالوا: يشترط في جواز الكفالة أن تكون من شخصٍ صحيح التصرف، أو جائز التصرف والمعنى واحد.
الخيار لصاحب الحق في مطالبة المديون أو الضامن ولو بعد الموت قال رحمه الله: [ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت] قوله: (ولرب الحق) أي: لصاحب الدين أن يطالب من شاء منهما في الحياة وبعد الموت. إذا جاء رجل إلى مؤسسة واشترى منها سيارةً أو أرضاً، وقيمة السيارة أو الأرض عشرة آلاف ريال، وجئت وكفلت هذا المديون، وقلت: أنا كفيل لفلان أنه إذا لم يُسدد أسدد عنه، وثبتت الكفالة من جائز التصرف، فإنه إذا حضر الأجل إلى نهاية السنة -لو فرضنا أن المؤسسة أعطت فرصة للسداد إلى نهاية السنة- فلما انتهت السنة تُخيّر المؤسسة ويُخيّر صاحب الدين بين أمرين، إن شاءت خاطبت المديون وطالبته بالسداد، وإن شاءت خاطبت الكفيل، فلو خاطبت الكفيل فقال الكفيل: اطلبوا من المديون فإن هذا ليس من حقه، بمعنى أنه ليس من حق الكفيل أن يقول: طالبوا فلاناً. بل إن المؤسسة بالخيار إن شاءت طالبت هذا أو طالبت هذا، فإنّ تحمل
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/455)
الكفيل والتزامه للكفالة معناه أنه إذا حضر الأجل فعليه أن يسدد، بشرط أن لا يكون المديون قد سدد وأبرأ عن نفسه. قوله: (في الحياة والموت) أي: من حقهم أن يطالبوا ورثة الكفيل إذا حل؛ لأنه دينٌ مستحق عليه، وحينئذٍ من حقهم أن يطالبوا المديون والكفيل سواءً كانا حيين أو ميتين؛ فالحقوق لا تتغير ولا تتبدل بالحياة والموت؛ لأن ذمته مرهونة ومشغولة بهذا الحق، فلو اتجهت المؤسسة إلى ورثة الميت وطالبتهم بالكفالة التي تحمّلها مورثهم، فإنه من حقها ذلك، كما أن من حقها أن تطالب المديون في حال حياته. ...... براءة ذمة الضامن ببراءة ذمة المضمون عنه لا العكس قال رحمه الله: [فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمت الضامن لا عكسه] (فإن برئت ذمة المضمون عنه) هنا مسألة: الكفالة مبنية على السداد، وحينئذٍ نقول: عندنا أصل وعندنا فرع، فالعلماء رحمهم الله يجعلون المديون -الذي تحمل الدين- أصلاً، وجعلوا الكفيل والضمين -الذي تحمّل أن يسدد- فرعاً مبنياً على الأصل، وبناءً على ذلك قالوا: إذا برئت ذمة المديون الذي هو الأصيل، برئت ذمة الكفيل، وإذا برئت ذمة الكفيل لم يستلزم ذلك براءة ذمة الأصيل. توضيح ذلك: البراءة هنا لها حالتان: الأولى: أن تكون بسبب السداد، فمثلاً لو أن شخصاً استدان عشرة آلاف ريال، فقلت: أنا أكفل هذا في العشرة آلاف التي عليه إلى نهاية السنة، قبل نهاية السنة قام المديون بالسداد، فمعناه أن ذمته قد برئت، فإن برئت حكم الشرع ببراءة ذمتك أنت، لأن ذمتك مضمومة إلى ذمته، فإن كان الدين باقياً وذمته مشغولة به، فأنت ملزمٌ به، وإن برئت ذمته بسداد الدين سقط الالتزام منك، بمعنى أنك لست بملزم، وحينئذٍ تبرأ ذمتك ببراءة ذمة الأصيل. الحالة الثانية، أن تكون بسبب العفو، فمثلاً: لو أن صاحب الدين قال للمديون: عفوت عنك، والمال الذي لي عليك قد أبرأتك منه. فإنه عندما عفا عنه برئت ذمة المديون، فإذا برئت ذمة المديون برئت ذمة الكفيل؛ لأن الفرع مبنيٌ على أصله، وإذا برئت ذمة الأصل برئت ذمة الفرع، وعلى هذا نقول: ليس من حق صاحب الدين بعد ذلك أن يقول: أنا سامحت صاحب الدين وأطالب الكفيل؛ لأن الكفيل لا يُطالب إلا بعد ثبوت الدين واستقراره على الأصيل، فإن برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل لا العكس. قوله: (لا عكسه). مثال ذلك: لو أن رجلاً جاء يستدين منك مالاً، أو يشتري منك أرضاً، فقلت له: أعطني كفيلاً فأحرجك، وجاءك بابن عمك، أو جاءك بقريبٍ لك، واضطررت أن تديّنه على أن قريبك هو الكفيل، وأنت لا تريد الإحراج مع قريبك، فلما تم الدين، قلت لقريبك: أنت في حل من كفالتك، إذا قلت هذا الكلام، فإن هذا لا يستلزم أن المديون تسقط وتبرأ ذمته، وبناءً على ذلك فلك أن تبقي الحق والمطالبة على المديون، ومن هنا قال: إذا برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل لا العكس. أي: إذا برئت ذمة الكفيل لا تبرأ ذمة الأصيل. الخلاصة: أنه إذا برئت ذمة الفرع لا يستلزم هذا براءة ذمة الأصل، وإذا برئت ذمة الأصل استلزم ذلك براءة ذمة الفرع. ...... جواز الضمان مع عدم معرفة الضامن للمضمون عنه أي: لا يشترط معرفة الكفيل للشخص الذي كفله، وبالإمكان أن يكفل شخصاً لا يعرفه ومثال ذلك: لو أنك دخلت على صاحب البقالة فوجدت رجلاً مسكيناً لا تعرفه، ولكن ترى من حاله وسمته ودله ما يدل على الفقر والحاجة، فوجدته يقول له: ادفع حقي، فقال: ما عندي شيء أدفعه، أنظرني إلى نهاية الأسبوع، فقلت له: يا فلان! أنظره، فقال لك: تكفله إلى نهاية الأسبوع وإذا لم يسدد تسدد. قلت له: نعم، أنا أكفله إذا لم يسدد نهاية الأسبوع أسدد عنه. فأنت في هذه الحالة تكفل شخصاً لا تعرفه، فهل يصح ذلك؟ وهل يشترط في الكفالة أن تعرف المكفول؟ الجواب: نعم يصح ذلك، ولا يشترط في الكفالة معرفتك للمكفول؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتِي برجلٍ ليصلي عليه فقال: (أعليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ) يعني: أنا أتحمل هذين الدينارين أن أعطيهما لصاحب الدين، فانظر إلى أبي قتادة كفل من لا يعرفه، فقبل منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكفالة، وحينئذٍ فرّع العلماء: أنه لا يشترط في الكفالة معرفتك للشخص الذي تكفل عنه، وأنه يجوز أن تكفل الشخص الذي لا تعرفه، وعلى هذا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/456)
قالوا: إذا لم يسدد تُلزم بالسداد سواء كنت تعرفه أو لا تعرفه. ...... جواز الضمان مع عدم معرفة المضمون عنه للضامن قال: [ولا له] أي: ولا يعتبر أيضاً معرفة المضمون لك، فهذا الشخص الذي تضمنه لا يشترط أن يكون يعرفك، فلا يشترط أن تعرفه، ولا يشترط أن يعرفك، فبينكما أخوة الإسلام، خاصة إذا قصدت من هذه الكفالة التيسير على المعسر، وتفريج عن كربة المكروب، فإن الله يأجرك، وهذا من أعظم ما يكون من الأجور في الكفالة، بشرط أن لا يدخل الإنسان على نفسه الخطر والضرر والغرر، أما إذا كان على سبيل الرفق بالناس والإحسان إلى الناس، فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بصاحبه، ويكون من أعظم ما يكون في الكفالة؛ لأنك تكفل إنساناً دون قصد المحاباة، ولا يدخل عليك على سبيل الإحراج، فأنت لا تعرفه وهو لا يعرفك، ولكن تعلم أن هذا العمل الذي تفعله إنما هو من صالح الأعمال وأجلِّ القربات لذي العزة والجلال، فتقدم عليه رغبة فيما عند الله من الثواب، ورهبة مما عند الله من العقاب؛ لأنك تخشى أن الله يسألك عن هذا المكروب، لماذا لم تفرِّج كربته؟! وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: يا رب! كيف أُطعمك وأنت رب العالمين، فيقول الله تعالى: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه -يعني وأنت قادر على إطعامه- أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي). فإذا وجد الإنسان إنساناً لا يعرفه، وهو يرى عليه أثر الضعف، وأثر الفاقة والفقر، وأقدم على ذلك فإنه يؤجر. وهكذا لو جاء إلى صاحب بقالة، وقال له: أي شخص تراه محتاجاً أو ضعيفاً أو كبيراً في السن، أو من هذا الحي من جيراني لا داعي أن تذكر لي اسمه، أريد الأجر والثواب، إذا علمت أنه يستدين منك وفيه فاقة وحاجة، فديِّنه واجعل سداده علي، فأنا كفيلٌ له. فأنت تكفل المجهول؛ لأنك قلت له: أي شخص، فهذه كفالة بالمجهول، فحينئذٍ لا يعرفك المدين؛ لأنك قلت له لا تخبر أحداً. فتسدد عنه لله وفي الله، إذاً: كَفِلتَه وهو مجهول لا تعرفه ولا يعرفك، فلا يشترط معرفته لك، ولا معرفتك له، فيجوز لك أن تكفل من يجهلك ومن تجهله. ...... عدم صحة الضمان بدون رضا الضامن قال رحمه الله: [بل رضا الضامن] أي: يشترط رضا الضامن، وعلى هذا لا تصح الكفالة بالإكراه، فلو أن شخصاً أُكره على كفالة شخص وثبت عند القاضي أنه مكره لا تصح الكفالة، بل يشترط الرضا؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فحرّم الله عز وجل أكل المال بالباطل، واشترط الرضا في حل مال المسلم، فأنت إذا كفلت يُشترط أن تكون راضياً بهذه الكفالة، وعلى هذا فإنك إذا كفلت بالرضا أُلزِمت بما تحمّلته والتزمته للناس. ...... صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم قال رحمه الله: [ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم] المجهول: ضد المعلوم، وضمان المجهول أن تقول: هذا الدين الذي يأخذه فلان منك أنا أتحمله، أو تقول: دَيِّن فلاناً، أو أعطِ فلاناً، أو بِع من فلان، وأنا متحمِّلٌ به، فهو مجهولٌ يئول إلى العلم، وقالوا: إن الدليل على ذلك قوله تعالى: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، فإن حمل البعير مجهول؛ لأن حمل البعير كما هو معلوم مجهول النوع ومجهول الصفة، ولكنه يئول إلى العلم؛ لأنه يتقدر بالعرف، ومن هنا قالوا: يجوز أن يضمن المجهول الذي يئول إلى العلم. ...... جواز ضمان العارية قال: [والعواري] والعواري: جمع عارية، فالضمان كما يقع في الدين، يقع في العواري، كما لو جاء شخص يريد أن يستعير سيارة، أو يريد أن يستعير أمتعة، كما يقع في بعض الأحيان، يكون عند الشخص مثلاً أمتعة تصلح لقضاء الأغراض والحوائج، مثل: الأواني للطبخ، أو المفارش للجلوس عليها، فجاء شخص عنده زواج أو عنده مناسبة، وهذا الشخص لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه يعرف أن عندك هذه الأشياء، فقال لك: يا فلان! أعطني هذه المفارش، أو أعطني هذه الأواني، فتقول له: لا أعرفك، ولكن ائتني بشخص يتكفّل بضمان حقي، أو برد هذه العارية إذا أعطيتها لك، فحينئذٍ إذا جاء بشخص يعرفه، فقد ضمن العارية. والعارية: هي بذل المنفعة بدون عوض، وتقع أيضاً
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/457)
في المنائح، كما في الإبل والبقر والغنم، كأن يكون عند الشخص الفحل من الإبل والبقر والغنم، فيحتاجه جاره، أو يحتاجه أحد فيقول: أعطني الفحل للضِّراب، فيقول: أعطني كفيلاً، أو أعطني حميلاً، أو أعطني ضامناً، فيضمن المنيحة. وبهذا تُضمن العواري، وكل ذلك جائزٌ ومشروع؛ لأنه كما ضُمنت العين تضمن المنافع. ...... جواز ضمان المغصوب قال: [والمغصوب] أي: يجوز ضمان المغصوب. مثاله: لو أن شخصاً غصب سيارة، فخاصمه صاحب السيارة إلى القاضي، فحكم القاضي بأن على فلان أن يرد الغصب، فقال الغاصب: سأحضِرُ المغصوب بعد يوم أو بعد أسبوع، فقال صاحب الحق: لا أرضى حتى يعطيني كفيلاً، هذا رجل كذاب، أو رجل مماطل، أُريد كفيلاً، فجاء بكفيل يضمن أنه يحضر المغصوب بعد يوم أو بعد أسبوع، فهذا جائز في المغصوبات. ...... حقيقة المقبوض بسوم وصحة الضمان فيه قال: [والمقبوض بسوم] أي: تصح الكفالة في المقبوض بسوم، وهذا يقع في المزادات، كما لو رسا المزاد على عشرة آلاف ريال في شيء من الألبسة، أو الأغذية أو نحوه، مثال ذلك: لو كان من لباس النساء، والرجل ليس معه أهله، فقال: أنا أقبض هذا اللباس، وأريه لأسرتي -لزوجته أو أخواته- فإن أعجبهم أخذته، وإن لم يعجبهم رددته، فهذا قبضه بسوم؛ لأن قيمته حُدِّدت بسوم، وعلى هذا إذا التزم بهذه القيمة، ورضيت أسرته بالملابس فعليه أن يدفع القيمة، وإذا كان الشخص لا تعرفه، فقلت له: أعطيك هذا الفستان أو هذا اللباس، أو هذا الشيء الذي أنت رضيت أن تعرضه على أهلك، ولكن بشرط أن تعطيني كفيلاً، فالمقبوض بسوم ثبتت قيمته والدين فيه ثابت متى ما رضي، وحينئذٍ يصح ضمانه، لكن إذا كان غير معلوم القيمة، ولم يثبت على قيمة فإنه لا يصح ضمانه، إذاً لابد من ضمانه بعد ثبوت قيمته حتى تصح الكفالة بالمعلوم؛ لأنه لو لم يقبض بسوم لم يتحدد ولم تتبين قيمته، بل يكون من ضمان المجهول الذي لا يئول إلى العلم؛ لأنه يحدث فيه نوع من الغرر، وعلى هذا قالوا: لا يُضمَن إلا إذا ثبتت قيمته وعُرِف استحقاقه، فيقول الكفيل لصاحب السلعة: أعطِه هذا الثوب يريه أهله، فإن أعجبهم ورضوا به، فأنا أتحمّل لك أن يعطيك عشرة آلاف قيمته، فإن لم يحضرها لك غداً، أو إن لم يحضرها لك بعد غد، فأنا كفيله أحضِرها عنه، وبناءً على ذلك كفلت، وكانت الكفالة في مقبوضٍ بسوم، وتكفّلتَ على أن تدفع المبلغ الذي ثبت استحقاقه، لكن لو كان غير معلوم القيمة، تكفَل ماذا؟ وكيف سيطالبك؟ وبناءً على ذلك قالوا: لابد أن يكون مقبوضاً بسوم حتى تُعلم قيمته، يعني: يتحدد قيمته. فالمقصود من كلمة: مقبوض بسوم، أن تتحدد القيمة، فخرج المقبوض الذي لم تثبُت قيمته بعد بأن يكون متردداً؛ لأنه يحدث فتنة، فلربما قال له: نعم، هذا قيمته عشرة آلاف، فيقول الكفيل: لا، بل قيمته ثمانية آلاف، فيحدث مثلما يحدث في بيع الغرر، فإذا لم تثبت قيمته وثمنه على شيءٍ معيّن، فإنه لا يصح ضمانه، إنما يصح ضمان المقبوض بسوم وهو الذي حُدِّدت قيمته. ...... حقيقة عهدة المبيع وجواز الضمان فيه قال: [وعهدة مبيع] مسألة العهدة في القديم من صورها أنهم كانوا يبيعون الدواب ويبيعون الأرقاء، ويحتاج هذا المبيع إلى تجربة، فلربما ظهر العيب فيه، فكانوا يعطون العهدة ثلاثة أيام، تأخذ هذا المبيع وتجرِّبه، فإن ظهر به أي عيبٍ رددته عليه ويضمنه، وهذا معروف في زماننا بما يسمّى: بالضمان، فالسيارة إذا اشتريتها تتعهد المؤسسة أنها تضمنها سنة، أنه لو ظهر فيها عيب، مثلاً في محرِّكها، بحيث يكون العيب راجعاً إلى ذات السلعة المبيعة، وناشئاً من ذات الرقبة المبيعة، وليس من تصرُّفِك أنت. فمثلاً يعطيك سيارة، ويقول لك: أنا أضمن لك هذه السيارة سنة كاملة، أنك تقضي عليها مصالحك، وتقودها بالصفة المعتبرة، فإن حدث فيها أي عيبٍ في محرِّكها، أو في هيكلها، راجعاً إلى سوء الصنعة لا إلى سوء الاستخدام، فإنه على هذا الوجه يضمن، وحينئذٍ يصح الضمان، ويتحمّل المسئولية بحيث أنه إذا ظهر بها عيب على هذا الوجه، يستحق أن يُرد المبيع، ويضمن الشخص الذي تحمّل بالضمان. هذا بالنسبة لمسألة الضمان في عهدة المبيع. فرَّع العلماء في زماننا الحاضر على مسألة عهدة المبيع، عهدة السيارات سنة، لكن بعض أهل العلم من المتأخرين ينازع، ويقول: إنما تُعرف العهدة بالمدة التي لا
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/458)
غرر فيها، فلا غرر في المدة الطويلة والأجل الطويل، كالسنوات ونحوها، ولكن الحقيقة هذا النوع من الضمان الموجود في السيارات في العصر الحاضر له وجهٌ من الصحة، وأنه إذا التزم بأن السيارة يستخدمها سنةً، فإن ظهر فيها عيبٌ من الصنعة لا من الاستخدام ضَمِنه، فإن هذا له وجه، ويُعتبر من الضمان الشرعي. الخلاصة أنه لو قال له: أنا أضمن أن هذه السيارة إن ظهر بها عيب تردها لي، هذا إذا كانت مؤسسة أو شركة تتحمل هذا الضمان، وليس عندنا إشكال، لكن في بعض الأحيان يبيعك فرد أو شخص فيقول لك: خذ هذه السيارة وأضمنها لك شهراً، على أنه إذا ظهر فيها عيب من سوء الصنعة تردها لي، لكن أنت لا تثق به، فتقول له: أعطني كفيلاً يضمن أنه إذا ظهر بها عيب أردها عليك. فحينئذٍ يعطيك الكفيل وتصح الكفالة على هذا الوجه. ...... حكم الضمان في الأمانات قال رحمه الله: [لا ضمان الأمانات] يقول رحمه الله: (لا ضمان الأمانات) الأمانات: جمع أمانة، وقد قدّمنا أن اليد تنقسم إلى قسمين: يد ضمان، ويد أمانة، ويد الضمان: أن تأخذ الشيء وتتحمل المسئولية عنه غنماً وغرماً، وإذا حدث بذلك الشيء ضرر فأنت المسئول عن هذا الضرر، فهذا مفهوم يد الضمان، وأما يد الأمانة: فهي أنك لا تضمن إلا إذا فرّطت، وبناءً على ذلك ذكرنا: أنه إذا أخذ شيئاً وكان من جنس ما يُضمن صح الضمان، وإن كان من جنس ما لا يضمن لا يصح الضمان، فالعارية لو أتينا بصورتها في مثال: هي أن يأتي ويقول لك: أعطني سيارتك أذهب بها إلى مكان كذا، أو أستخدمها يومين أو شهراً أو أسبوعاً، هذه عارية، والعارية فيها قولان: الأول: أن اليد فيها يد أمانة، الثاني: أن اليد يد ضمان، والمصنِّف رحمه الله رجّح أنها يد ضمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لصفوان بن أمية رضي الله عنه لما قال له: (أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مؤداة) هذا عندما أخذ منه أدرعه ومتاعه لغزوة حنين، وقال في خطبة حجة الوداع: (العارية مؤداة، والمنيحة مردودة، والزعيم غارم، والدين مقضي)، فلما قال: (العارية مؤداة)، يعني: مضمونة، فلو أخذ شيئاً عارية فعليه أن يضمنه، أما الودائع فقلنا: إن الوديعة أمانة، فلو أن شخصاً جاء وأعطى شخصاً ساعة، وقال: هذه الساعة ضعها وديعة وأمانة عندك، قال له: لا بأس قبلتُها أمانة عندي. فلما رضي الشخص الآخر أن يضعها أمانة عنده، فإنه ليس من حق صاحب الساعة أن يقول له: أعطني كفيلاً؛ لأن الكفيل لا يقع في الأمانات؛ لأن يد هذا الرجل يد أمانة وليست بيد ضمان، إلا إذا كان من جنس الأمانات التي تئول إلى الضمان، فهذا استثناه بعض العلماء رحمهم الله حيث قالوا: إن الأمانات التي تئول إلى الضمان يصح فيها الضمان، وذلك في حال ما إذا صارت إلى الضمان أو إذا آلت إلى الضمان. ...... التعدي في الأمانات يوجب الضمان قال: [بل التعدي فيها] قوله: (بل التعدي فيها) فما معنى التعدي فيها؟ يعني: من حقك أن تقول له: هذه الساعة ضعها أمانة عندك، قال: قبلت. فقل له: لكن أحتاج إلى كفيل يكفلك بأنك إذا تعدَّيت فإنك تضمن، فالأصل أن يده يد أمانة، لكن تنتقل إلى الضمان متى؟ إذا تعدَّى فيها، ومثال آخر: إذا أعطيته مائة ألف ريال وديعةً عنده، أو أعطيته كيلو من ذهب وديعة عنده، فقال لك: أنا قبلت أن نضع هذا الذهب وديعةً عندي. فتقول له: أعطني كفيلاً أنك إذا تعدَّيت وتصرّفت فيها فإنك تضمنها، حينئذٍ صارت ضماناً وذلك بعد خروجها من يد الأمانة إلى يد الضمان؛ لأنه إذا تعدى في الأمانة ضمِن، ومن هنا قالوا: لو أعطاه صندوقاً مقفولاً فإنه أمانة، لكن لو فتش الصندوق المقفول انتقل من الأمانة إلى الضمان، فحينئذٍ أنت من حقك أن تقول: هي أمانة، والأمانة لا تضمن، لكني أريد كفيلاً بحيث لو تعدّيت أو فرّطت فيها فهو يكفلك أو يكون ضميناً عنك، فحينئذٍ يصح ويجوز الضمان. ...... الأسئلة ...... جواز ضمان المجهول الذي يئول إلى العلم السؤال: أشكل علي اشتراط تحديد القيمة في المقبوض بسوم مع جواز ضمان المجهول أثابكم الله؟ الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن سؤالك جيد واستشكالك في محله، لكن ينبغي أن تتنبه لمسألة ضمان المجهول، حيث قلنا: يُضمن المجهول إذا آل إلى العلم، ولم نقل: المجهول المطلق، فالمجهول
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/459)
الذي يئول إلى العلم هو الذي يُضمن، صحيح أننا لو قلنا: يُضمن المجهول مطلقاً لما صح ذلك، أما كوننا نقول: المجهول الذي يئول إلى العلم، فهو مجهول ابتداءً لكنه يئول إلى العلم انتهاءً ومآلاً، وعلى هذا فالجهالة فيه مغتفرة؛ لأنها ليست بمستديمة، وإنما يتقيد الحكم بوجود الجهالة المستديمة، أما الجهالة التي تزول فإن وجودها وعدمها على حد سواء؛ لأنها تئول إلى العلم، وعلى هذا لا يستقيم الإشكال إلا إذا كان المجهول لا يئول إلى العلم، وتبقى الجهالة مستصحبة إلى أن تثبُت الكفالة ويُحكم بها، أما إذا آل إلى العلم فإن الجهالة مرتفعة، والله تعالى أعلم.
حكم تصرف المرأة في مالها ومتى يحجر عليها السؤال: هل المرأة تعتبر من المحجور عليهم، وهل لها التصرف في مالها دون استئذان زوجها أثابكم الله؟ الجواب: اختلف أهل العلم في حكم تصرف المرأة بمالها إذا كانت بالغة، فجمهور العلماء وجمهور السلف والخلف على أن من حق المرأة أن تتصرف في مالها، والنصوص دالة على هذا، ولكن خالف في هذه المسألة بعض السلف، كما روي عن شريح وهو قاضي أمير المؤمنين عمر، وكان قاضياً لثلاثة من الخلفاء، لعمر وعثمان وعلي. أبو أمية شريح الكندي رحمه الله برحمته الواسعة، من أجلاء القضاة وأهل العلم، وهو الذي قضى على علي بن أبي طالب، فآمن اليهودي لما رآه قضى على أمير المؤمنين، وكان ممن لا تأخذهم في الله لومة لائم. هذا الفقيه يقول: عهِد إليّ عمر أن لا أُجيز لامرأة عطيّتها حتى تحول حولاً أو تلد ولداً، فأخذ منه بعض الفقهاء كما هو مذهب المالكية قالوا: المرأة يجوز لها أن تتصرف في حدود الثلث، والزائد عن الثلث ينظر فيه زوجها، إن كان مصلحة أجازه، وإن لم يكن ثم مصلحة لم يُجِزه، ولذلك يقول بعض فقهائهم في هذه المسألة: وزوجةٌ في غير ثلث تُعترض كذا مريض مات في ذاك المرض حينما بين أصناف المحجور عليهم. فذكر المحجور عليهم في حدود الثلث، فقسموه إلى قسمين: المريض مرض الموت يُحجر عليه فيما زاد عن الثلث، إذا تصرّف فيه بالهبة، والمرأة فيما زاد عن الثلث إذا تصرّفت بالهبة، والسبب في هذا -وقد يستغرب البعض هذا القول، وقد يكون مدخلاً لبعض أمراض النفوس، والواقع أن من نظر في حال السلف يعرف مدخل هذا القول وسببه- أن المرأة في القديم كانت لازمة لبيتها، لا تعرف الخروج ولا تخالط الناس، حتى قالت أم عطية: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نُخرِج العواتق وذوات الخدور). فالمرأة التي لم تتزوج كانت لا تعرف شيئاً، ماكثة في بيتها، بل منهن من لا تخرج من بيتها إلا إلى بيت زوجها، لا تعرف كيف تبيع، ولا تعرف كيف تشتري، ولا تأخذ ولا تعطي، إنما جاهلة بدنياها عالمة بدينها، إذا ربّت ربّت رجالاً على الصلاح والدين والاستقامة، حتى أُثِر عن بعضهن أنها خرجت ذات يومٍ لحاجة فبكت أنها رأت رجلاً؛ وذلك دليل لما كن عليه من العفة والصلاح والديانة، فكانت المرأة في بيتها ربة بيت تملأ العين، تقوم على حقوق بعلها، وبيتها على أتم الوجوه وأكملها، لا تعرف الرجال، ولا تخالطهم، ولا تخاطبهم، ولا تعرف لا بيعاً ولا شراءً، فمن هنا كانت المرأة غالباً لا تُحسن التصرُّف، ولذلك كانوا يجدون الحرج في اختبار اليتيمات، لقد كانوا يختبرونهن بالغزل وبيع ما يغزلن، فإذا باعت غزلها نُظِر كيف تتصرف في البيع، هل تبيع بمثل القيمة أو بأقل، ثم يُحكم برشدها؛ لأن الله يقول: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، فشمل الذكور والإناث. الشاهد أن المرأة كانت على هذه الصفة من الجهل في التعامل، ولذلك تجد بعض من لا يعرف أحكام الشريعة يتمسك بهذا الحكم والقول، ولا يعرف مغزاه، ولا يعرف البيئة التي نشأ فيها هذا القول، فالنساء كنّ لا يعرفن هذه الأمور ولا يخالطن الرجال، ولا يتعاملن بالأخذ والعطاء إلا النزر القليل، وكانت المرأة إذا جاءها المال يُصبح عندها ويمسي وقد جعلته في آخرتها، تتصدق به، وتصل به الرحم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه أتاها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية ستين ألف درهم وهي صائمة، فوزّعتها من ساعتها، ثم أرادت أن تفطر فلم تجد شيئاً تفطر به، فتقول لها إحدى إمائها: هلا أمسكتِ شيئاً مما جاءك فقالت رضي الله عنها: لقد نسيت هلا ذكرتني. الله أكبر، الله أكبر، كنّ جاهلات بالدنيا، ولكنهن
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/460)
عالمات بالدين، وكانت المرأة عن أُمّة، رضي الله عنهن وأرضاهن، من الذي ثبّت قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الله عز وجل، إنها خديجة بنت خويلد، تلك المرأة العاقلة الحكيمة، فكانت المرأة عن أمة من الناس. وسفيان الثوري رحمه الله برحمته الواسعة لما توفي والده وهو صغير نشأ يتيماً، فقالت له أمه: يا بني اطلب العلم. فقال: إني أريد أن أسعى لطلب الرزق. يعني أكفيك الرزق، قالت: لا، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. فكانت تغزل وتسهر وتكدح، كل هذا من أجل أن يتعلم ابنها العلم، فصار الإمام سفيان الثوري من أئمة السلف ومن دواوين العلم، فهو الحجة الثبت الذي كان آية في العلم والعمل والصلاح أن المعرفة، هذا الإمام العظيم حسناته في ميزان حسنات أمه الصالحة، فكانت المرأة عن أُمَّة. فالمرأة إذا تصرفت في مالها بالرشد فإن المال مالها والحق حقها، وليس من حق الرجل والزوج أن يتدخل في راتب زوجته، وليس من حقه أن يحجر عليها، ولا يجوز له ذلك؛ لأن المال مالها ولا يجوز أن يضيق عليها ولا أن يظلمها، وبالمناسبة، أنبِّه على أن بعض الأزواج يجرؤ على مال زوجته، حتى إن بعض النساء تعمل في تدريسها وتعليمها، ويطالبها زوجها بمالها كاملاً، وهذا من أكل المال بالباطل، فلا يجوز ذلك إلا إذا كان كما قال الله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، أما ما لم تطِب به النفس، أو جاء عن إكراه، أو جاء عن إحراج، فإنه الحرام الذي حرّم الله ورسوله، ولا يجوز الاعتداء على أموالهن، والأذية والإضرار بهن، وينبغي على المرأة أيضاً أن تتقي الله في إنفاقها، وأن تكون رشيدة في تصرُّفها في المال، وبالمقابل فإنه من حق الزوج إذا نظر من زوجته أنها لا تحسن التصرف في المال أن يأخذ على يدها، مثلاً عندما يكون راتب المرأة خمسة آلاف ريال، ولا يأتي نصف الشهر إلا وهي تستلف وتقترض، وتتحمل الديون، ويجد أن هذه الخمسة الآلاف تصرف في المظاهر والملابس، وكل يوم لها ملبس، وكل يوم لها شيء تتجمل به، فهذا فيه سرَف ومن حقه أن يحجر عليها، أما إذا تصرفت تصرفاً رشيداً، فهذا مالها ولا يجوز أكله بالباطل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
شرح زاد المستقنع - فصل في الكفالة الكفالة لها تعلق بمسألة إحضار الغريم، وتسمى: كفالة الأبدان، وإحضار الغريم إما لتسليم ما عليه من حقوق، وإما لمثوله أمام مجلس القضاء. وتكون الكفالة فيما يتعلق بالحدود والقصاص ممن لديه القدرة على إحضار من عليه الحق، كرؤساء العشائر وأشباههم، والكفالة مشروعة كالضمان؛ لما فيها من حفظ الحقوق للناس، وفي مشروعية الكفالة حكم عظيمة وفوائد جليلة، وبها تجلب المصالح وتدفع المفاسد. وتصح الكفالة في العواري والمغصوبات كما تصح في الأبدان، ولها أحكام عدة تتوقف عليها صحتها كرضا الكفيل وغيرها من الأحكام. الكفالة معناها ومشروعيتها وما يتعلق بها من أحكام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن المصنف رحمه الله تعالى يقول: [فصلٌ: وتصح الكفالة بكل عين مضمونة وببدن من عليه دين] شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالكفالة، والعلماء رحمهم الله كما تقدم، منهم من جعل الضمان والكفالة والقبالة والزعامة والحمالة بمعنى واحدة، فيقولون: الكفيل والضمين والحميل والصبير والقبيل كلها بمعنى واحد. وعلى هذا قالوا: لا فرق بين الكفالة والضمان، لكن فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله يفرِّقون بين الكفالة والضمان، فيجعلون الضمان للأموال. ومن كان عليه دين أو لآخر عليه حق فإنه يمكنك أن تضمن عنه وذلك بأن تضيف ذمتك إلى ذمته. وأما الكفالة، فإنهم في الغالب يجعلونها للحضور، أي: تكون متعلقة بالأبدان والأعيان، وإن كان في بعض الأحوال يُلزَم فيها بالضمان، ولكنهم في الأصل يجعلونها متعلقة بالعين وبالبدن. والكفالة في لغة العرب تطلق بمعانٍ، يقال: كفل الشيء وتكفَّل بالشيء إذا قام به وضمّه إليه، قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، أي: ضمّها زكريا إليه فقام عليها، وقال تعالى:
(يُتْبَع .. اقلب الصفحة)
(80/461)