الكاتب: محمد توفيق علي
__________
الهمزية في مدح خير البرية
والدفاع عن الدين، والرد على المبشرين
(نظمت بمناسبة احتفال الأمة الإسلامية بالمولد الشريف لعام 1354)
بقلم (الأديب الشاعر) اليوزباشى محمد توفيق علي
النور المحمدي - الشريعة السمحة - تحريم الخمر - نجاسة الكلب
والخنزير - حكمة الطلاق - حكمة تعدد الزوجات - تبشير الإنجيل والتوراة بنبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم - المبشرون بعيسى صلى الله عليه وسلم - نقائض معقدة - مقارنة بين معجزات المسيح ومعجزات غيره من الأنبياء والرسل - وجوب توحيد الخالق جلَّ وعلا - التجاء الناظم إليه تعالى.
* * *
النور المحمدي
ذلك النور ساطعًا والضياء ... وصفه عنه يقصر البلغاء
نور من سبح الحصى في يديه ... وجرى منهما وفاض الماء
أكمل الخلق صورة يبدع اللـ ... ـه تعالى من نوره ما يشاء
مرسل جاوز السموات سبعًا ... وإليه تناهت العلياء
وارتقى حيث لا ملائكة اللـ ... ـه تعالى ارتقت ولا الأنبياء
صاعدًا في معارج القرب يحدو ... هـ السنا ضافيًا ويغشى البهاء
ذو محيا يصبو له البدر عشقًا ... وله تنتمي ضياءً ذكاء
رحمة كله وعلم وحلم ... ووقار ونجدة وسخاء
مثل من أنجبت (كريمة وهب) ... لم تلد عاقر ولا عذراء
* * *
الشريعة السمحة
ذو أتى بالنعيم ذكرًا حكيمًا ... فإذا الأرض جنة والسماء
وحيه للعقول رَوح وريحا ... ن وفيه من كل داء شفاء
آية منه تعجز الإنس والجـ ... ـن ولو أن كلهم فصحاء
لم يكذب موسى وعيسى، وبغيًا ... كذبته الشرور والأهواء
كيف تأتي على الشرائع آيا ... ت وِضاءٌ وسمحة غرَّاء
وكتاب مفصل عربي ... ليس يرضى بذلك البخلاء
كلما يرتقي الزمان يرى الخيـ ... ـر أفاضته ملة سَحَّاء
سكبت صفوة الشرائع في كأ ... س بها ترتوي العقول الظماء
* * *
الخمر
وأشهد اليوم ضجة تنكر الخمـ ... ـر وكأس عنها سلا الندماء
بؤرة الشر والجرائر والآثام ... أفتى بذلك الحكماء
رب بيت أقامت الخمر فيه ... أجفلت عن رواقه السراء
فالعقول اشتكت إلى الله منها ... والكلى والكبود والأحشاء
حرمتها دهرًا حكومة أمريـ ... ـكا ونادى برجسها الفضلاء
ثم عادت تلغي أوامرها بعـ ... ـد اهتداء وضلت الآراء
وسيأتي يوم قريب تزول الـ ... ـخمر فيه وتصرع الفحشاء
ويرى الناس أن شرع أبي القا ... سِمِ خير ونعمة وهناء
* * *
الكلاب والخنازير
أثبت الطب فضل شرعك والمجـ ... ـهر والباحثون والعلماء
فلعاب الكلاب سم زعاف ... ولحام الخنزير داء عياء [1]
* * *
الطلاق
واشتراع الله الطلاق أصبح في الـ ... ـدنيا مباحًا يقرّه الفقهاء
عانقته كرهًا محاكم أوربا ... ونادى بنفعه الأذكياء
كيف عيش الزوجين خانهما الـ ... ـحب ولج الأذى وحال الصفاء
أعدوَّان يقرنان بحبل؟ ... حالة لا يطيقها السجناء
* * *
تعدد الزوجات
(جنسهن اللطيف) يزداد عدًّا ... ذلكم ما يقوله الإحصاء [2]
فغدا اليوم الاجتماع مريضًا ... واعتناق الزوجات فيه الدواء
ليس في غيرة النساء من المحـ ... ـظور ما تستثيره البأساء
كيف تقوى فُضلى على عنت الدهـ ... ـر وما قد يجره الإغواء
فتراهن من ثلاث ومثنى ... ورباع شعارهن الإخاء
فمن العدل بينهن وفاق ... والمساواة ألفة وهناء
وهو فرض على المعدِّد لا يقـ ... ـوى على حمل ثقله الضعفاء
إن في رفق شرع أحمد بالأنـ ... ـثى لفضلاً يجلّه الشرفاء
وقديمًا حمى الضعاف ونجّا ... هن مما يخفنه الأقوياء
* * *
تبشير الإنجيل والتوراة بنبي الإسلام
(صلى الله عليه وسلم)
عظُمت تلكمو الأناجيل والتو ... راة لولا تقوُّلٌ واجتراء
أيّ عهد، لكنهم ضيعوه ... إنما يحفظ العهودَ الوفاء
بدلوا الوحي والرسالة إطفاء ... لنور ما إن له إطفاء
شهد الصادق المسيح عليهم ... في الأناجيل أنهم أشقياء
في ثياب الحملان منهم ذئاب ... خاطفات فما همو أنبياء
فاحذروهم وإن أتوا بالأعاجيب ... فليسوا مني وهم أدعياء
لست أرضى من قال يا رب منهم ... لي ولكن يرضيني الحنفاء
ذلكم ما رواه إنجيل (متّى) ... فليراجع نصوصه القراء [3]
* * *
المبشرون بعيسى
عجبًا للمبشرين بعيسى ... أمةً دينها الهدى والصفاء
بعد ما بشر المسيح بهاديها ... كما بشرت به الأنبياء
فهو (نور الحق) الذي لفت النا ... س إليه المسيح وهو (العزاء)
وليراجع من شاء إنجيل (يوحنا) ... ففيه للباحثين الرضاء [4]
وهو ذاك النبي يسأل في الإنـ ... ـجيل عنه يحيى فأين الخفاء [5]
فلقد بشرت ببعثته التو ... راة لولا جحودهم والمراء
فهو ذو من (جبال فاران) مبعو ... ث ومن تلكم الجبال (حراء) [6]
أينع الوحي وازدهى في ذراه ... وتغنى فأطرب الإنشاء
وتجلى على البسيطة نور ... وكسا الكون رونق ورواء
حِكَمٌ حين أُنزلت ختم الوحـ ... ـي وتمت على الورى النعماء
وطوت معجزاتِ كل رسول ... ولها الخلد وحدها والبقاء
* * *
نقائض معقدة
يا لها من نقائض تحرج الفهـ ... ـم عليها لَبسٌ وفيها التواء
واعتقاد مُعقد ذَنَب الضَّبِّ ... لديه محجة واستواء
يُصلَب الرب في خطيئة عبد ... كيف يرضى بذلك العقلاء
لِمَ لَمْ يغفر الخطيئة غفرا ... نًا له فيه عزة وإباء
إن يكن ربَّكم فمن كان يدعو ... ربه وهو خاشع بكّاء
أإله في وجهه يبصق الأشرار ... هزؤًا ويزدرَى ويُساء
لِمَ لَمْ يُقطِّع اليهود أبوه ... كيف تنسى حنوَّها الآباء
وبِكَمْ باع ذا الجلال يهوذا ... واشترى منه ربَّه الأعداء
(أثلاثون فضة) ثمن الله ... تخطاه بيعهم والشراء
بل أحبوك مسرفين وغالَوْا ... في ولاءٍ هُداك منه براء
***
مقارنة بين معجزات المسيح وغيره من الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام
أم لأن المسيح قد أنجبته ... ذات طهر صِدِّيقة عذراء
مثله آدم: فهل كان ربًّا ... آدم؟ أو إلهة حواء؟
أم لأن المسيح أحيا فتاة ... إذ دعا اللهَ فاستُجيب الدعاء
" حزقيال " النبي أنشر جيشًا ... عاث في البلى وجال الفناء [7]
أم مشى فوق لجة يتهادى ... فارعوى خاشعًا وقرَّ الماء
فالعصا قد علمتم انفلق البحر ... لموسى بها وحل القضاء [8]
وله البينات والجبل المنتوق ... والمن واليد البيضاء
ولخير الورى المكمل صلى ... الله ... والمتقون والأصفياء
معجزات ما أن يلم بها الحصـ ـر ولايستطيعها استقصاء
نصرته الرياح والرعب في (الخنـ ... ـدق) حتى تشتت الحلفاء [9]
وتراءى جبريل يسطع في (بد ... ر) تليه كتيبة شهباء
وله الجذع حنَّ والقمر انشـ ... ـق وظهر البراق والإسراء
ومشت أيكة إليه دعاها ... تسحب الجذع غضة خضراء
ولكَم سحّ -إذ دعا ربه- الغيث ... ولانت لوطئه صفواء [10]
ما له إن مشى على الأرض ظل ... ساطع النور ما له أفياء [11]
وظللته -بل منه ظللت- الشمس ... لزامًا غمامة وطْفاء [12]
كم دعا الله والغذاء قليل ... فنما واستفاض ذاك الغذاء
* * *
وجوب توحيد الخالق جل وعلا
آن للأرض أن تقدس ربًّا ... واحد الذات ما له أجزاء
آدم عنده ونوح وموسى ... والمسيح الذي نجلّ سواء
وغنيٌّ عن العباد جميعًا ... ما له زوجة ولا أبناء
وله الخلق أجمعون عبيد ... وله المجد كله والبهاء
ورءوس الطغاة موطئ نعليـ ... ـه [13] وتلك الجلالة القعساء
ملأ الكائنات حسنًا ولكن ... لا ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء
فهو نور سطا على كل نور ... خفيت في ظهوره الأشياء
تتلاشى الشموس فيه وتخبو ... وتغيب البروج والأضواء
أيها المشرك المعدِّد وحِّد ... إن قول المعددين هُراء
لو مع الله في السموات والأ ... رض شريك لقامت الشحناء
بل هو الله واحد ما له في الـ ... ـمُلك ثانٍ ولا له أكفاء
أيها الجاحد المعطل صدِّق ... لا يكن من هداتك الأغبياء
وانظر الأرض والسماء وفكِّر ... هل بلا صانع يقوم البناء؟
إنما الأرض ذرة في رحيب الـ ... ـمُلك فالملك شاسع والفضاء
فاعبد الله -لست شيئًا- ولا تكـ ... ـفُر وتذهب بلبِّك الخيلاء
أنت رد على جحودك قاض ... فصلته العروق والأعضاء
* * *
التجاء الناظم إليه تعالى
ما الذي تبلغ النوائب مني ... يا مليكى ولي إليك التجاء
أنت درعي وأنت سيفي ورمحي ... ونبالي وعسكري واللواء
لا أبالي وذو الجلال نصيري ... أن خصمي الملوك والوزراء
لست بالأقوياء أحفل لكن ... إن شكاني لعدلك الضعفاء
لك يا رب بطشة إن تعاقب ... عندها الأرض والسماء هباء
إن تكن غاضبًا عليّ تعاليـ ... ـت فلا ناصر ولا شفعاء
عملي سيئ وظلمي لنفسي ... ولغيري تضج منه السماء
أستحق الصليّ في النار لكن ... لي في عفوك الكريم رجاء
ليس مثلي لجنة الخلد أهلاً ... كيف ترنو لمذنب حوراء
ذلك الفضل في غنى عن طلوحي ... إنما يستحقه الصلحاء
رُب نُعمى على جحود تولَّت ... ما لنُعمى على جحود بقاء
كيف آسى على سرور تولى ... ويَسارٍ أودت به ضراء
إن من كنتَ كنزه وغناه ... يستوي الضيق عنده والرخاء
ليست الكيمياء منا بعيدًا ... إنما حمد ربنا الكيمياء
لست أخشى ضلالة ولقلبي ... بسنا وجهك الكريم اهتداء
فاهدنا للفلاح والخير والتقـ ... ـوى فمنك الهدى ومنك الحِباء
واحمنا في بلادنا من أوربا ... سيلها جارف ونحن الغثاء
(انتهى)
__________
(1) انتشر إنشاء المستشفيات للمعالجة من داء الكلب، وأثبت العلم وجود ديدان سامة في لحم الخنزير لا تقتلها درجة الغليان.
(2) ومن ذلك الإحصاء ما جاء بالصفحة السابعة بالعمود الخامس من جريدة الأهرام الغراء الصادرة في 3 - 5 - 1935 تحت عنوان (النساء كثيرات) من أنه يوجد في ألمانيا وحدها مليونان ومائتا ألف امرأة زيادة عما فيها من الرجال.
(3) جاء بالإصحاح السابع من إنجيل متّى عدد 15 و 21 و 22 و 23 قول المسيح: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان لكنهم من داخل ذئاب خاطفة ليس من يقول لي: يا رب، يدخل ملكوت السماء، بل الذي يفعل: إرادة أبي الذي في السموات، كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) .
(4) ورد بالإصحاح الخامس عشر من إنجيل يوحنا بالآيتين 26 و 27 قول المسيح عليه السلام: (ومتى جاء (المعزى) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب (روح الحق) الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضًا؛ لأنكم معي من الابتداء) وجاء بالإصحاح السادس عشر منه بالآية 6 قوله عليه السلام: (لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم (المعزي) وبالآيتين 13 و 14: (وأما متى جاء ذاك (روح الحق) فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به) .
(5) (6) يحيى بن زكريا - عليهما السلام - وهو المعروف في الإنجيل باسم يوحنا المعمدان، فإنه لما جاء قومه - كما هو مذكور بإنجيل يوحنا بالإصحاح الأول بالآيات 19 و20 و21 و22 - وسألوه: آنت النبي؟ أجاب نفيًا، وهذا نص الآيات سالفة الذكر: (19 وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت 20 فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح 21 فسألوه: إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا) وإذًا فقد كانوا يترقبون بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما هو مذكور عندهم بالتوراة من أنه يبعث رسول من جبال فاران، وهي جبال بمكة، منها جبل حراء الذي ما زال ينقطع فيه - صلى الله عليه وسلم- للعبادة إلى أن أوحي إليه.
(7) من أنبياء بني إسرائيل وقصته مبسوطة في سفره من العهد القديم وليس بثابت عندنا.
(8) المنتوق: المرفوع.
(9) الحلفاء: قريش، وغطفان، ويهود.
(10) الصفواء: الصخرة الملساء.
(11) الأفياء: الظلال.
(12) الوطفاء: المسترخية الجوانب لكثرة مائها.
(13) المنار: هذا كناية عن قهره تعالى لهم، وهو تعبير يتوقف على النص، ولم يرد، ولكن ورد لفظ (القدم) في قهر جهنم.(35/47)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الوحي المحمدي
لداعية الإصلاح العالم المستقل، والمناظر المستدل
الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
بأسيوط
وهو مما جاءنا بعد الطبعة الثانية (قال) :
نظر أبو العلاء المعري إلى نفسه فرآها وقد صفت ونجت من مزالق معظم
النفوس، وأدرك عقله نقيًّا من الخرافات والأوهام التي أضلت العقول، وألفى
روحه غنية بالفلسفة الصحيحة، التي ترى في المادة ستارًا كثيفًا يسدل على الحقائق،
ووجد شعريته فياضة بأرقِّ المعاني، في أدق الألفاظ والمباني، فهتف من أعماق
قلبه منشدًا:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
ونحن بدورنا ننظر إلى نفس السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار فنراها
وقد أشربت حبَّ الدين الإسلامي الحنيف والدفاع عنه إشرابًا، ونرى عقله وقد
أدرك أسرار الإسلام إدراكًا، ونلفي روحه صافية تقية نقية قد أنجبت أسمى الآثار
إنجابًا، ونسبَحُ في مؤلفاته فنعلمه الطود الأشم والفارس المجلَّى، والمحقق النادر
المثال، والكاتب المبخوت، الذي لا يُشَق له غبار، ثم نقع في سياحتنا على كتابه
(الوحي المحمدي) فنقف طويلاً، ونهتف مثل ما هتف المعري منشدين مخاطبين
السيد الرشيد المرشد:
وأنت وإن كنت الأخير زمانه ... أتيت بما لم تستطعه الأوائل
ولقد كنا نؤمن بأن الله تعالى أوحى إلى عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم-
ما أوحى، مستدلين بنصوص القرآن الكريم وببعض البراهين العقلية التي تخير (؟)
الوحي إلى النفوس الصافية الراقية، ولكنا ما كنا قادرين أن نقنع بهذا ذوي
العقول العصرية، وأولي البحوث الدقيقة القوية؛ فإذا دار النقاش بيننا وبين فريق من
هؤلاء لم يعجبهم كثيرًا مما ندلي به وألقوا في سبيلنا عقابًا، وافتجروا [1] حفرًا،
وأقاموا متاريس، وغرسوا أشواكًا؛ فتنتهي المناظرة ولا اقتناع ولا رضاء وينشر عنا
العجز عن بيان وجه الحق في هذه المسألة مع أهميتها ونفاستها ونفعها العظيم إذا
أحسن تبيانها، وأتقن توجيهها وعرضها على طالبيها، فكان كتاب (الوحي المحمدي)
للسيد الشريف والمصلح الكبير، أستاذنا محمد رشيد رضا، صاحب المنار - وافيًا
بالمطلب على أتم وجوهه، كافيًا في الإقناع لأكبر متشبث متعنت، حجة صادقة لا
تُدفع على صحة الوحي الرباني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد العالمين
وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
يرى قارئ " الوحي المحمدي " مقدمة وجيزة بديعة تجمل الكتاب وتبرز مغزاه
في صورة مستملحة جزلة طيبة، يعلم منها ما يحجب الإفرنج عن الإسلام: من
الكنائس المعادية، والسياسية الخادعة، وحال المسلمين الواهية، وما يعوق
الأجانب عن فهم القرآن: من جهل بلاغته، وقصور ترجمات القرآن عن إدراك
غايته، وعدم وجود دولة إسلامية تدافع عن هدايته، ويفهم منها القصد من الكتاب
على أتم وجه من وجوه الصواب.
ويجول القارئ بعد ذلك في جنة الكتاب الغنَّاء فيعرف معنى النبوة والوحي
والرسالة وحاجة الناس إليها، ويدرك عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -
ومقدار ما جنت عليها كتب السابقين بما يجرئ على الشرور والمفاسد، ويتيقن
وجوب إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتباعه هو الدواء
الناجع لأدواء الهيئة الاجتماعية.
ويتنقل القارئ من شجرة النبوة الوارفة الظلال إلى أن نبوة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - هي الممتازة، فنبوة الأنبياء الإسرائيليين كانت - على قولهم -
أشبه بصناعة تتلقى في مدارس خاصة، ونبوة موسى الكليم - عليه السلام - قد
ينكرها الملاحدة؛ لأنه تربى في بيت فرعون وهو بيت علم وتشريع، فلا عجب
إذا جاء بشريعة كالتوراة. ونبوة المسيح - عليه السلام - يعقب عليها الملاحدة
أيضًا فينقصون قدرها ويغضون من قيمتها، ويقولون إنه لم يأت بشيء جديد. أما
نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن الطعن عليها بمثل هذا؛ لأن سيدنا
محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولا يتصل ببيئة علم
أو شريعة، فمجيئه بهذا الدين دليل صدقه وحقيقة رسالته، والحقيقة أن نبوة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثبتة لغيرها من النبوات لا تصح إلا من طريقها
ومشكاة نورها.
ويمتلئ القارئ بعد هذا علمًا وتحقيقًا حين يقرأ الفصول البليغة عن الأدلة
العقلية والكونية على صدق الوحي المحمدي الإلهي فيطمئن قلبه وتستريح نفسه،
وينشرح صدره، ويشكر لله توفيق السيد رشيد حتى ألف هذا الكتاب الذي أنار
طريق الوحي بآلاف المصابيح الكهربائية الساطعة القوية، ثم يرتوي القارئ من
نهر فياض، عذب صافٍ، يجري منه التحقيق ذهبيًّا عسجديًّا، فيعرف مقاصد
القرآن الكريم وهدايته للبشر وإظهار الحق في الإيمان بالله تعالى وفي عقيدة البعث
والجزاء، ويلمس الإصلاح القرآني العظيم للنفس والروح والجسد والأفراد
والجماعات، والنهضة التي أزجاها في الدولة السياسة والاجتماع والاقتصاد
والآداب وحياة الأسرة. فإذا انتهى من الكتاب خرج منه بكنز ثمين من العلم
الصحيح النقي، وانتقل إلى جو من السعادة فسيح بما وصل إليه من هدوء في نفسه
واطمئنان في قلبه، واقتناع في عقله لا يملك نفسه أن يصيح: حياك الله أيها
السيد الرشيد، لقد سدت بإصلاحك، ورشدت بمباحثك القيمة الدالة على إشراق نور الحق في قلبك، فهنيئًا لك عملك، ومشكور لك سعيك.
ولقد استوعبت كتاب الوحي المحمدي وهنئت باغترافه وارتشافه عدة مرات
فرأيته رحيقًا من العلم، مختومًا ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وأنا
أشهد صادقًا أن السيد أدى بكتابه إلى العالم الإسلامي أجلَّ الخدمات، وعبَّد للباحثين
من الغربيين والعصريين منهج البحث الهادي الرزين، القوي المبين، وأسقط حجج
الذين كانوا يحتجون بأنهم غير واجدين من يقدم لهم المطالب سائغة ميسورة.
وسيكون له - إن شاء الله - أثر جليل في توجيه المباحث الدينية وجهة طيبة في
صالح الإسلام ومستقبله العتيد بإذن الله.
ولقد ظهر إخلاص السيد في كتابه فطبع مرتين في أشهر، وأقبل عليه الشرق
والغرب، وتُرجم إلى عدة لغات. أدام الله نفعه، ونشر شذاه وعرفه، وأطال عمر
السيد ليتحف العالم الإسلامي بدرره الغالية وتحقيقاته السامية، إنه أكرم مسئول
وعلى كل شيء قدير.
... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
(المؤلف) : فات المقرظ الكلام في دعوة علماء شعوب الحضارة إلى
الإسلام وتحديهم بمعجزات القرآن.
* * *
الوحي المحمدي
بقلم
الأستاذ العلامة المتكلم الفقيه الكاتب النظار
إبراهيم الطفيش الميزابي الجزائري
أجل كتاب في علوم القرآن، وأفخم سفر في جلال القرآن، ومعجزة من
معجزات القرآن - كتاب (الوحي المحمدي) . طالع أيها المعتز بالقرآن، ويا
طالب منهاج الهداية المحمدية هذا السفر الجليل ترَ أبدع مؤلَّف وأسنى ما جاء به
القرآن من هداية البشر أجمعين. إن (الوحي المحمدي) علم وفق الله إليه مؤلفه
العلامة الجليل السيد رشيد رضا، علم مستخرج من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لقد كُتب في علوم القرآن كتب كثيرة، ولكنها لم
تبلغ أن تأتي بما جاء في الوحي المحمدي حتى أصبح هذا الكتاب آية في الإبداع،
وغاية في كشف معاني الكتاب المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فيه
الحجة على البشر أجمعين.
إن القرآن يدعوهم إلى الانضواء تحت لوائه، ضامنًا لهم كمال السعادة
والشمول بالنعم الرحمانية وجلال العزة، إن هم أخذوا بما جاء به من عند الله الرحمن
الرحيم. كشف هذا الكتاب مناهج السعادة للأمم، وسبل الهداية الشاملة لطبقات البشر
وأجناسه، حتى أصبح عَلَمًا برأسه، يجب أن يعتنى بتدريسه بين الفنون العالية
لتخريج رجال عالميين في الهداية إلى شريعة الله التي أكملها وأتم بها نعمته
على خلقه.
لقد أخرج المصنف هذا الكتاب للأمم، وهو أحسن ما أخرج للناس من جهود
العلماء، فلا ريب أن العلماء في جميع الأمم ستتلقاه بالقبول، وسيترجم إلى جميع
اللغات؛ لأنه هو الكتاب الذي تنشده اليوم العقول السليمة في كل الشعوب،
وسيهتدي بهداه من أراد الله له السعادة من بين أولئك العقلاء الذين يسعون وراء
الحق لأنه الحق، ويدركون أن القرآن كتاب من عند الله هدى وبشرى لأولي
الألباب، لا سعادة للبشر إلا به، ولا سلام إلا باتباع هديه.
ولعلي أكون قد أديت واجبًا إذا لاحظت للمؤلف الجليل أن يعيد النظر في
مسألة الرقيق، فإن الإسلام جعلها حكمًا مستمرًّا ما فيه من حكمة اجتماعية، ولم
يوجد وضعًا لإبطال الرقيق بالتدريج السريع، ولكن الرقيق يبطل بطبيعته إذا دخل
كافة الشعوب في الهداية الربانية، فوجدوه وعبدوه واتبعوا النور الذي أنزل على
محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
* * *
أول كتاب من حضرة صاحب السعادة
هارون سليم باشا أبو سحلي
(مدير المنوفية في ذلك المعهد)
سيدي الأستاذ الأجلّ السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتاب الوحي المحمدي الطبعة الثانية يوم سفري في رحلة بحرية
إلى مرسيليا، وكانت فرصة لمطالعته كله، وقد خرجت منه بأنه خير ما أخرج
للناس في موضوعه، وقد أعطيت التعليمات لمجلس المديرية لطلب 66 نسخة
ليكون في كل مدرسة أولية وابتدائية نسخة، ولما كان واجب كل مسلم نشر هذا
الكتاب بأوسع ما يمكن أرجو أن ترسلوا باسمي 300 ثلثمائة نسخة على محطة
شبين الكوم لتوزيعها، وثمنها 30 جنيهًا حسب البيان الوارد في كتابكم، نرسلها
عند إتمام التوزيع، وأختم كتابي هذا بتوجيه واجب الشكر لكم تلقاء هذا المجهود
العظيم المضني، وإني في انتظار الجزء الثاني، ولكم وافر التحية من المخلص.
... ... ... ... ... ... ... ... هارون سليم
... ... ... ... ... ... ... في 31 أغسطس سنة 1934 م
(المؤلف) : إن هارون باشا هذا من خير رجال حكومتنا عناية بالدين علمًا
وعملاً، بل لا نعرف له في رجال الإدارة مثلاً، وقد طلب منا بعد ما تقدم مائتي
نسخة، ثم أرسل ثمنها، ولما كان المعهود من أمثاله رجال الإدارة أن يوزعوا على
وجهاء مديرياتهم كثيرًا من الكتب غير النافعة محاباة لأصحابها فيقبلها الوجهاء
إرضاء للمدير على كراهة موضوعها وغلاء أثمانها، وكان يعلم أن مثلي ينكر ذلك
عليهم - كتب إليّ أنه لم يتبع سننهم، وإنما بين للوجهاء موضوع الكتاب في إقامة
حجة الدين وبيان حقيقته، وأنه يعتقد أن قراءته واجبة عليهم وعلى أولادهم، ولا
سيما تلاميذ المدارس، ويخيرهم، وأني إذا شئت كتب إليّ أسماء من اشتروه لأسألهم،
فكتبت إليه: لا إنكار على من يدعو إلى الله فيما يتخذ من حض الناس على معرفة
عقيدتهم وأصول دينهم، فإنه يصدق على هؤلاء ما صح في حديث من (يقادون
إلى لجنة بالسلاسل) ، ثم اتفق أن رأيت نقيب الأشراف للمنوفية بمصر فأخبرني
مسلك المدير في الترغيب في الكتاب، وكيف تلقوه بالقبول شاكرين.
***
تقريظ جريدة حضارة السودان
أهدتنا إدارة مجلة المنار الغراء كتاب (الوحي المحمدي) الذي ألفه العلامة
المحقق مصباح الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء.
وقد جاءت مباحث هذا الكتاب كسائر مباحث مؤلفه الثمينة؛ سواء في تفسيره
القرآن الكريم، أو في مباحث مجلة (المنار) نورًا وهدى للناس في تبيان حقائق
الدين الإسلامي؛ فهو بلا ريب فتح جديد في الدعوة إلى هذا الدين الحنيف القويم،
وقد تمكن مؤلفه، وهو ذلك العبقري الديني الذي سيط دين الإسلام بلحمه ودمه،
من أن يوفق بين الدين والعلم بطريقة يعجز غيره عن الإتيان بها، فالرجل عالم
قوي الإيمان، وناهيك ما تنتجه قوة الإيمان إذا توافر معها العلم، والكتاب نفذت
نسخ طبعته الأولى قبل أن يحول الحول على طبعها لتهافت العوالم الإسلامية على
النهل والعلل من مورده العذب، وقد صدَّر طبعته الثانية بمقدمة استغرقت عشرة
مباحث هي وحدها تعد كتابًا، ثم أتى بعدها بفاتحة لها قد اشتملت على أربع مسائل،
ثم انتقل إلى الفصل الأول؛ وهو يشمل ست مسائل، فالفصل الثاني وفيه عشرة
مسائل، فالفصل الثالث وقد اشتمل على 17 مبحثًا، فالرابع وقد اشتمل على ستة
مباحث، فالفصل الخامس وقد اشتمل على 75 مبحثًا. وما من مبحث من هذه
المباحث يمر عليه المطلع إلا ويشعر أنه في أشد الحاجة إلى تفهمه من الوجهتين
الدينية والمدنية.
وقد ذُيلت طبعته الثانية بنحو 23 تقريظًا في مقدمتها تقريظًا للعاهلين العربيين
ملكي الإسلام: الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن، وصاحب العظمة السلطان عبد
العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد، في كتابين موجهين من لدنهما إلى المؤلف،
وتقريظ صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي المصلح
الإسلامي الكبير المعروف لدى سكان هذه البلاد، وتقريظ أمير البيان المشهور
الأمير شكيب أرسلان، وغيرهم من الأئمة الأعلام ورجال العلم والدين.
وإنا لنرى أن هذا السِّفر واجب على كل مسلم وجوبًا عينيًّا أن يطلع عليه وأن
يتفهمه ليتذوق منه حلاوة الإسلام، ويرى بمرآته بهجة القرآن ونوره ساطعًا يهدي
إلى سواء السبيل.
... ... ... ... ... ... ... ... عن حضارة السودان
... ... ... ... ... ... ... بتاريخ 29 أكتوبر سنة 1934م
***
كتاب للفاضل الغيور الشيخ
محمد عثمان
- في إِلدورت - غنيا
بسم الله
حجة الله على العالمين فضيلة الأستاذ الأفخم، والمصلح الأعظم، السيد محمد
رشيد رضا، المجدد لدين الله والناشر لوحيه، أمد الله له في الحياة منصورًا، ولا
زال لإعلاء كلمة الله ظهيرًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأرفع لفضيلتكم بأنه وافاني كتابكم (الوحي المحمدي) فخررت ساجداً لله
شكرًا عندما ظهر لي انتصار نوره الساطع، المنذر من لا يؤمن به بعذاب واقع،
ما له من دافع، وكم كان فرحي عظيمًا، وسروري جسيمًا، لا أستطيع أن
أشرحهما، فتلوته مرارًا، وكلما كررته ازداد شغفي حبًّا لتلاوة كتاب الله وتدبر
معانيه، وزادني همة ونشاطًا في تبليغه إلى أبناء وطني المهاجرين، وحضهم
على نشر الدين في هذه المستعمرة وأحيائها التي تقلص منها ظل الإسلام السائد
سابقًا، وتهدمت فيها لغة القرآن، وتقوض منها مجد الإسلام العربي الزاهر، في
العصر الغابر، بسبب تفريط مسلميه في نصرته، وركونهم إلى التوسل بأصحاب
القبور والتقرب إليهم بالقرابين والنذور، والآن بفضل الله وإرشاد مناركم الأغر،
شرعت تتلاشى البدع والخرافات، وتضمحل العقائد الفاسدة في أبناء الناطقين
بالضاد.
نعم يا صاحب الفضيلة، لقد أرهقتمونا بنعمكم الروحية، وتعاليمكم الدينية،
التي أخرستنا حيرة بأي لسان نقدم شكرًا، وجوارحنا وإحساساتنا كلها ألسنة شكر،
يا ليت شعري كيف أشكر، ويا ويح قلبي كيف أثني وأحمد بعد أن أثنت عليكم
نجوم الهدى، وكواكب الإرشاد، وشموس البلاغة، وأعلام الإسلام، وأرباب
الأقلام، وأمراء البيان، ولا يسعني والضعفاء إلا الدعاء لكم بما يحبه الله ويرضاه،
وأن أهنئكم بأصدق التهاني على نجاحكم الباهر في هذه المساعي الجليلة للإسلام
وأهله التي سيشتاقها كل سيد، ويقصر عن إدراكها المتناول، لاسيما إبرازكم لهذا
الوحي المحمدي المقدس أمام الأديان والملل نقيًّا من الخرافات والبدع التي ألصقها
بها علماء السوء المبتدعون، وكن عليه حجابًا من اهتداء العقلاء ومفكري الأمم
الراقية بهديه المبين، ووسائل لمطاعن الملحدين، ومثالب المكذبين، ولمَّا مزقت
هذه الحجب الجسام ببيانك، ودمغت حججهم ببلاغته السماوية، انقلبوا على أعقابهم
خاسئين، بتحدي آياته الكونية وعجائبه العصرية، ومعجزاته السرمدية؛ فأخرست
أفواههم عن الجدال، وبهرت أعينهم عن الاحتقار، ودككت عقائدهم عن النضال،
حتى آمنت القلوب، ولكن الألسنة والأفواه بآيات الله يجحدون ... إلخ.
* * *
كلمة الأستاذ العلامة النقادة الشيخ
محمد البشير النيفر التونسي
(من علماء جامع الزيتونة الأعلام من كتاب طويل له في رمضان سنة 1353)
وكنت في أثناء هذه المدة أطالع مناركم المنير، وما يتخلف عني من أعداده
أشتريه من إحدى المكتبات، وكان فيما قرأت من مباحث التفسير ما كتبتم عن
الوحي المحمدي، فحمدت الله أن كان في علماء المسلمين في هذا العصر مثلكم،
وكنت أقول: لو قرأ هذا منكرو الرسالة المحمدية بإنصاف وفهموه حق فهمه لآمنوا
بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم أجمعون.
وقد كنت قرأته في المنار متفرقًا، ثم أعدت قراءاته متصلاً في الجزء الحادي
عشر من التفسير، فجزاكم الله أفضل ما جزى به خادمًا لدينه، وبارك في عمركم
تخرجون للناس أمثاله، فتكون كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى.
وما أنكرت فيه إلا كلمات في آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أذكر أنني
رأيت مثلها في إحدى مقالاتكم في (شبهات النصارى وحجج الإسلام) ا. هـ.
قد اختصرت في هذه الطبعة الثالثة أكثر التقاريظ التي نشرت فيما قبلها،
وحذفت بعضها لطولها وما فيها من التكرار ونقل بعض مسائل الكتاب للتنويه بها أو
مشاركة أصحابها لنا فيها، وبهذا وجدنا مكانًا لغيرها، ولم نتصرف بشيء من ذلك
بزيادة ما، ولا باختصار يغير المعنى.
* * *
حكمة نشر هذه التقاريظ
(ختمت بها تقاريظ الطبعة الثالثة)
الغرض من نشر هذه التقاريظ إعلام قراء الكتاب من غير المسلمين (ومن
الجامدين على تقليد المتقدمين منهم، الذين إذا رأوا كتابًا في الدين لمؤلف عصري
أعرضوا عنه ولم يقرءوه لظنهم أن الأحياء لا يوثق بعلمهم) أن ما فيه من أصول
الإسلام وحكمته متفق عليه ليس رأيًا مني فيه، وإن كان فيه ما لا يوجد في غيره.
ذلك بأن الأحرار المستقلي الفكر منهم يقيسون دين الإسلام على غيره من
الأديان فيظنون أنه أكثر عقائده وأصوله مسلمات غير متفقة مع العقل والعلم
الصحيح والمصالح العامة، ويظنون أن ما يسمعون من حكماء المسلمين موافقًا لذلك
هو رأي لهم، كما قال بعضهم في رسالة التوحيد للأستاذ الإمام إنها فلسفة الشيخ
محمد عبده سماها إسلامًا، وقال لي مستر متشل أنس الإنكليزي الذي كان وكيلاً
للمالية بمصر مرارًا عندما كنت أشرح له بعض أصول الإسلام وحكمته: هذا
فلسفة لا دين، حتى قال لي مرة: إذا كان علماء الأزهر يوافقونك ويوافقون الشيخ
محمد عبده على ما تقولون فأنا أعلن أني مسلم.
وهذا كتاب فيه من حكم الإسلام في أهم أصوله وفروعه أكثر مما في رسالة
التوحيد ومما كان يسمعه مني متشل أنس وأمثاله، وفيه من شواهد القرآن ما لا
يمكن أن يقال معها إنه من رأيي، وقد اتفق على الشهادة له العلماء والأدباء والكتاب
في الأقطار ومن جميع الطبقات، وفي مقدمتهم شيخ الأزهر بما هو صريح في
تفضيله على جميع الكتب في موضوعه (إثبات الوحي والنبوة وإعجاز القرآن
وأصول الإسلام الدينية والمدنية) ، وسيرون من فائدته في دعوة غير المسلمين إلى
الإسلام وفي تثبيت المسلمين في دينهم ما هو فوق ذلك - إن شاء الله تعالى - ولله
الفضل والمنة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58) ، وصلوات الله وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وآله
وصحبه الهادين المهديين، وجميع المهتدين بهديه إلى يوم الدين، وسلام على
المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) افتجر الكلام: اختلقه لم يتبع به أحدًا ولم يتابعه عليه أحد، فلعل الأصل افتجروا شبهًا واحتفروا حفرًا.(35/55)
الكاتب: محمد زهران
__________
كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم
الحكم بين المختلفين فيه
(2)
المنكرات التسعة التي خصها بالذكر الأستاذ الشيخ
محمد زهران
أبدأ بكلام وجيز على هذه المنكرات، فأبين أنه ليس فيها شيء مما عبر عنه
الأستاذ الشيخ محمد زهران بصوادم الحجج القاطعة، التي لجأ إليَّ لاستئصال
شأفتها ببواهر البراهين الساطعة، ثم أعود إلى مسألة أحاديث المعجزات وهي أهم
وأكبر فأقول:
(1) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64:
لم أر في هذه الصفحة شيئًا يصح أن يقال: إنه من الإلحاد، ولا من صوادم
البراهين القاطعة، ولا مما هو من مخالفة أصول الإسلام ولا فروعه. وخلاصة ما
فيها أن أبرهة أجمع أمره على هدم البيت الحرام، وأن عبد المطلب ومن معه دعوا
واستنصروا آلهتهم وانصرفوا، وخلت مكة منهم، وكان وباء الجدري قد تفشَّى في
جيش أبرهة، وفتك بهم فتكا ذريعًا لم يُعهد من قبل قط، وأصابت العدوى أبرهة
ملكهم فأمر قومه بالعودة إلى اليمن، وبلغ هو صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض
حتى لحق بمن مات من جيشه. قال: (وبذلك أرَّخ أهل مكة بعام الفيل هذا وقدسه
القرآن بذكره) وذكر السورة بنصها ولم يقل في تفسيرها شيئًا، فمهما يقل فيه
فهو لا يرد عليه.
(2) أسطورة شق الصدر: هكذا عنوانه ص 72:
أخطأ الدكتور محمد حسين هيكل أن نقل خبر هذه المسألة عن مؤلف أصل
كتابه بالفرنسية، وسيرة ابن هشام، واعتمد على نقدهما له، واستشكال وقوع ذلك
في بني سعد؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة، وكان المخبر لحليمة
الخبر أخوه ابنها الرضيع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في سِنِّه.
وقد أخرج هذا الحديث عنها ابن إسحاق وغيره من طريق عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب، وهو لم يسمع من حليمة، وإنما قال الذين أخرجوه عنه أنه
قال: حُدثت عن حليمة، ولم يذكر من حدثه. وقد أخرجه ابن إسحاق من طريق
نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع الحديث. وعبد الله بن جعفر
ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها.
وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة
مخالفة للرواية الأولى في سياقها وفي موضع وقوعها، وهي التي يذكرونها في
بعض قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الغلابي وقد قال الدارقطني
مخرجه عنه أنه كان يضع الحديث، وصرح غيره بكذبه أيضًا. فمن اطلع على
هذه الروايات في تعارضها فله العذر في الطعن عليها مع استشكال متنها وكونه غير
معقول.
ولكن مسلمًا أخرج عن أنس ما يقوي معنى رواية عبد الله بن جعفر من
طريق شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه، وشيبان كان يَهِمُ،
أي يخطئ، وحماد هذا من أثبت من روى عن ثابت، ولكنّ ثابتًا تركه البخاري
وقد تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، ويقال إن مسلمًا تحرى من رواية حماد عن
ثابت ما سمعه منه قبل تغيره. على أن أنسًا نفسه كان بعد كبر سنه ينسى بعض ما
حدث به، وهو لم يرفع حديثه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أيضًا عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك
يحدثنا عن ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة
نفر قبل أن يوحى إليه - وهو نائم بالمسجد الحرام - وساق الحديث بقصته نحو
حديث ثابت البناني، وقدم فيه وأخر، وزاد ونقص، ورواية شريك أخرجها
البخاري في كتاب التوحيد برمتها، وفيها أن قصة الإسراء والمعراج في جملتها -
ومنها شق الصدر - كانت رؤيا منامية. وقد غلطوا شريكًا فيها من جهات خالف
فيها من هو أوثق منه.
وأقوى الروايات في شق الصدر حديث الإسراء والمعراج الطويل الذي
أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - وليس لمالك غيره
- وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في
الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعًا إذ أتاني آتٍ فقدَّ - قال: وسمعته يقول
فشق - ما بين هذه وهذه - أي وأشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج
قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملؤءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد
…إلخ) .
وفي رواية شريك بن أبي نمر أنه جاءه ثلاثة نفر وهو نائم، وهم الذين تعاونوا
على عملية شق الصدر، وأشرنا إليها آنفًا.
فأنى للدكتور هيكل أن يحيط بهذه الروايات وأسانيدها واختلاف متونها الدال
على روايتها بالمعنى في موضوع من الخوارق، ويحكم فيها بين ما حكاه عن
المستشرقين وغيرهم حكمًا معقولا؟ ولقد كنت سئلت عنها فلخصت الروايات بأوسع
مما هنا، واستظهرت من مجموعها أنه تمثيل لتطهير قلب النبي صلى الله عليه وسلم
وحفظ نفسه من كل ما لا يليق به من وسوسة الشيطان والشهوات والأهواء، كما
تمثل له كثير من المعاني والحقائق في تلك الليلة وفي رؤاه الصادقة بصورة مناسبة
لمعانيها، ولعالم المثال في الكشف الروحاني شأن عظيم عند أهله. ومن المعلوم
بالضرورة أن الإيمان والحكمة اللذين حشيا في قلبه - صلى الله عليه وسلم -
ليسا من المواد الجسمانية التي توضع في الطست ثم تحشى في القلب. ومن
شاء التفصيل في المسألة فليراجع الفتوى 12، من المجلد 19، ص 529 -
537، ودونها في 8، ج 4، م 33.
وجملة القول أن الدكتور محمد حسين هيكل لم يطلع على حديث يعتقد صحته
ويعبر عنه بأنه أسطورة، فإن كان مقصرًا في هذا الاطلاع فليس بمليم بأكثر مما
يُلام أكثر علماء هذا العصر، ومما تلام عليه مجلة الأزهر (نور الإسلام) بما
تذكره كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، وكذا الموضوعة أحيانًا. فلا يصح أن يجعل
طعنًا في دينه.
(3) مسألة بدء الوحي ص 95:
لا أدري ما الذي أنكره الأستاذ زهران من كلام الدكتور هيكل في هذه المسألة،
وأما أنا فإنني أنكرت عليه متابعته فيها (لإميل درمنغام) مؤلف الأصل بما يستدل
به الماديون على دعوى الوحي النفسي الذي بسطته، ورددت عليه في كتاب الوحي
المحمدي بالتفصيل، كما أشرت إليه في مقدمة المقالة الأولى وسأعود إليه، فإنني
رأيت المنكرين على كتاب هيكل والمعجبين به سواء في عدم فهم هذه المسألة
المهمة وهي أساس الدين؛ ولهذا أقول إنه يجوز أن يكون مثلهم؛ لم يفطن لكون تلك
المسائل العشر شبهات يستدل بها الماديون على أن ذلك الوحي ذكاء نفسي وعمل
كسبي استعد له محمد صلى الله عليه وسلم بما زعموه من الروايات الباطلة والآراء
المخترعة، التي فندناها في كتاب الوحي المحمدي تفنيدًا.
وأنكرت عليهما مع العلم بعذرهما الاعتماد على رواية سيرة ابن هشام في
مسألة بدء الوحي، وما صورا به جزئياتها من التخيل الشعري الذي تعارض بعضه
الروايات، ولا شك في حسن نية هيكل فيها ومراعاته للأدب الواجب، فإن كان
الأستاذ زهران ينكر شيئًا كتبه بعينه فعليه أن يكتبه لنا، لا أن يكلفنا قراءة الكتاب
كله والرد على كل ما أنكره هو منه لظنه أن رأينا فيه كرأيه، ولكننا أقدر على الرد
عليه بما (يروق الكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة) كما قال، ورب شيء
أنكره أنا من هذه السير لا ينكره الأستاذ زهران، وقد ينكر إنكاري إن لم يقف على
دليلي مفصلاً.
إنني يا أخي أُنكر كل ما رواه ابن إسحق، وما تبعه به ابن هشام مخالفًا
لرواية الصحيحين في بدء الوحي، حتى رواية عبيد بن عمير التي قال شيخنا
الأكبر في الحديث (الحافظ ابن حجر) إنه يمكن الجمع بينها وبين حديث البخاري
في أول صحيحه. وما أظن أنك أنت ولا أمثالك من المبالغين في الإنكار على كتاب
(حياة محمد) تنكرون مثلي رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي في
المنام، وتلقيه منه أول سورة العلق مكتوبة في صحيفة أقرأه إياها، وهي مرسلة
لا ندري لعل الساقط من سندها أحد زنادقة اليهود، وأُنكر كذلك جميع الروايات
التي في كتب السير ودلائل النبوة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى ويسمع
من الإرهاصات ما اعتقد به أنه سيكون نبي هذه الأمة فتعلق به رجاؤه، وأنا أعهد
أن أمثالكم يطعن على من ينكرها أشد الطعن إلا من طريق علمي: كجرح الرواية
أو معارضة المتون بمخالفة القرآن مطلقًا والضعاف منها للصحاح، كما فعلت في
كتاب الوحي المحمدي مما تلقاه كل قارئيه بالقبول.
(4) ما نسبه إلى السيدة خديجة ص 100:
يعني الأستاذ زهران بهذه المسألة قول الدكتور هيكل: إن خديجة قالت للنبي
صلى الله عليه وسلم عندما فتر الوحي: (ما أرى ربك إلا قد قلاك) أي أبغضك.
وقد تابع بهذا درمنغام، وهما لم يخترعاه اختراعًا. وكان من شأن المنكِر عليهما أن
يعلم أن ابن جرير رواه مرسلاً عن طريقين قيل إن رواتهما ثقات، ولكنهما
معارَضان بما رواه الشيخان عن جندب قال: اشتكي النبي فلم يقم ليلة أو ليلتين،
فأتته امرأة فقالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله:
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 -
3) اهـ.
وأقول إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب عدوته صلى الله عليه وسلم،
وما قيل في الجمع بينها من أن خديجة قالت له ذلك توجعًا وأم جميل قالته شماته فهو
مردود، وكان يجب على هيكل ألا يأخذ كلام درمنغام قضية مسلمة، ولو بحث
وراجع لعرف الصحيح، وعلم أن هذه الفترة القصيرة في الوحي ليست هي التي
استوحش لها النبي صلى الله عليه وسلم وكبر عليه الأمر، بل تلك الفترة هي التي
كانت بين بدء الوحي في حراء وبين الأمر بالتبليغ، وهي ثلاث سنين، كما بينته
في كتاب الوحي المحمدي وكان ينبغي للدكتور هيكل أن يتأمله ويعتمد عليه فهو لباب
التحقيق.
بل هذه الفترة مشهورة في كتب الحديث وكتب السير لا ينبغي لمن يجهلها أن
يكتب مصنفًا في حياته صلى الله عليه وسلم، يدعي أنه يتحرى فيه الحقائق؛ فماذا
فعل بالكتب التي طالعها لأجله؟
(5) ما قاله في الإسراء والمعراج ص 153:
أجمل الأستاذ زهران إنكاره على ما كتبه الدكتور في هذه المسألة، وكلفني أن
أبين ما أُنكره منها وأُثبت ما أعرفه، وهو إرهاق يتقاضاني أن أصنف كتابًا أو
رسالة طويلة فيها، وقد سبق لي أن ارتجلت محاضرة فيها استغرقت ساعتين ونيفًا
في جمعية مكارم الأخلاق؛ إذ كانت في قاعة دار السادات.
الدكتور يثبت الإسراء والمعراج، وينقل فيهما ما هو مشهور بين الناس من
الاختلاف بين العلماء؛ هل كان في النوم أو اليقظة؟ وبالروح والجسد، أم بالروح
فقط؟ وينفرد بتعليل القصة بأنها من مشاهد وحدة الوجود الخيالية، ويصف هذه
الوحدة بغير ما يصفها به أهلها من الصوفية الغلاة الذين يُعرفون بصوفية الحقائق؛
لأنه موضوع ليس من علمه، كما أن التمييز بين صحاح الروايات وضعافها
ومنكراتها واختلاف متونها وتعارضها في المعراج ليس من شأنه بالأولى، وقد
أشرت إلى بعضها آنفًا في الكلام على حديث شق الصدر، والجمع بينها متعذر
حتى قيل بتعددها وهو لا يعقل.
ومما أخطأ فيه - كما نرى - ما نقله عن (موسيو أميل درمنغام) في
وصف المعراج وقد خلط فيه بين الروايات المضطربة، فلم يميز بين صحيحها
ومنكرها.
ووصفها وصفًا شعريًّا خلب الدكتور ببلاغته الفرنسية، فعرج هو من أفقه إلى أفق
أبعد منه في التخيل الشعري وهو أفق وحدة الوجود، التي يعجز صوفية الهند
ومقلدتهم من الإفرنج أن يبلغوا فيها شأوَ محيي الدين بن عربي في نثره وعمر بن
الفارض في شعره، وقد قال الدكتور فيها بما لم يعقله من الجمع بين الأزل والأبد.
مسألة وحدة الوجود عقيدة هندية قديمة لا تتفق هي وعقيدة الإسلام في كون
الخالق تعالى فوق جميع خلقه بائنًا منهم، وخلاصتها أن وجوده تعالى وتقدس عين
وجودها، وهي مظاهر له كمظاهر الماء من جامد ومائع وبخار وغاز، كما قال
عبد الكريم الجيلي:
وما الخلق في التمثيل إلا كثلجة ... وأنت لها الماء الذي هو نابع
وأقرب مما ذهب إليه الدكتور في تصوير مسألة الإسراء والمعراج أو تقريبها
إلى الأذهان، يوافق العلوم العصرية - هو ما ثبت عند القائلين باستحضار
الأرواح من تمثل أرواح الموتى المجردة بصور جسدية من الأثير تتكاثف أحيانًا بما
تستمده من مادة الكون أو من جسم الوسيط، حتى يمكن تصويرها بالآلة العاكسة للنور
وقد قرأنا في كتاب (المذهب الروحاني) وغيره من الكتب والصحف شواهد
على ذلك، وأصل هذا معروف عند أهل الدين بما ثبت من تمثل أرواح
الملائكة والشياطين بصور البشر وغيرهم وأمثلته كثيرة في كتب أهل الكتاب
المقدسة وفي القرآن العظيم والأحاديث الصحيحة، ويحكون في كتب الصوفية أن
بعض الروحانيين منهم يتجردون من أجسادهم الكثيفة ويتمكنون من تحويلها إلى
أجساد أثيرية لطيفة أحيانًا تقطع المسافات البعيدة في طرفة عين وتنفذ من الأجسام
الكثيفة، فالمسألة معروفة مسلمة عند غير الماديين من المليين، وغيرهم من
الروحانيين.
فعلى هذا يمكن أن يقال إن روح النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت من القوة
في تلك الليلة ما كانت به كقوة روح جبريل الذي كان يتمثل له صلى الله عليه وسلم
بصورة دحية الكلبي وغيره، وتمثل للسيدة مريم - عليها السلام - بشرًا سويًّا، وفي
هذه الحالة تتصرف الروح بجسدها الأثيري اللطيف فتحمله من مكة إلى بيت
المقدس، ومنه إلى حيث شاء الله من السموات العلى إلى سدرة المنتهى، وقد
بينت هذا من قبل في المنار وفي محاضرتي الطويلة التي أشرت إليها آنفًا، وقلت
إنه مذهب الصوفية الموافق لقول جمهور المحدثين إن الإسراء والمعراج كانا
بالروح والجسد.
ولعل هذا ما أشار إليه الأستاذ الأكبر المراغي في التعريف بالكتاب بقوله:
(وعلم استحضار الأرواح فسَّر للناس شيئًا كثيرًا مما كانوا فيه يختلفون، وأعان على
فهم تجرد الروح وإمكان انفصالها، وفهم انفصالها، وفهم ما تستطيعه من السرعة
في طي الأبعاد، وقد انتفع الدكتور بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء فأتى
بشيء طريف) ا. هـ.
اشتبه بعض قراء هذه العبارة المجملة الوجيزة في فهمها فظنوا أن الأستاذ
وافق المؤلف على القول بأن الإسراء كان بالروح منفصلة من الجسم، وعلى مسألة
وحدة الوجود، ولكن قوله: (فأتى بشيء طريف) لا يدل على فهمهم هذا؛ ولذلك
لم يقل: (بشيء طريف فيه) ، بل هو يشير إلى ما قلته.
وجملة القول: أن الدكتور هيكلاً نقل بعض أقوال علماء المسلمين في مسألة
الإسراء والمعراج وقول درمنغام من غير تمحيص ولا تحقيق، كما فعل بعض أهل
السير وغيرهم من المسلمين، وزاد عليها مسألة وحدة الوجود بعبارة مبهمة تدل
على أنه لا يعتقد أنها مخالفة لنصوص الكتاب والسنة لخفائها المعروف، فلا يباح
لمنكريها عليه الطعن في دينه، ولا يصح للمعجبين به أن يقولوا: إنه محقق لروايات
السيرة.
(6) ما عقب به معجزة الغار ص 177:
يعني الأستاذ الناقد المنكر بهذه المعجزة ما نقله الدكتور هيكل عن أميل
درمنغام عن بعض كتب السير كالسيرة الحلبية: من أن النبي صلى الله عليه
وسلم حين دخل مع صاحبه الغار وجاء المشركون يبحثون عنه وجدوا شجرة تدلت
فروعها إلى فوهته، وبيتًا من العنكبوت يستر من فيه، وحمامتين باضتا عند بابه.
وذكر أن وجه المعجزة في هذه الأشياء أنها لم تكن موجودة، وإنما وجدت وقتئذ،
وأن درمنغام قال: (هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يقص التاريخ
الإسلامي الجد (كذا) ، وهي أعاجيب ثلاث، لها كل يوم في أرض الله نظائر) .
(أقول) : حديث هذه الثلاث أخرجه ابن سعد وابن مردويه والبيهقي
وأبو نعيم عن أبي مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم
والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي e ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في
وجه النبي e فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي e فسترته،
وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن
رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم … إلخ.
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان بعد ذكر حديث أبي مصعب هذا: قال
العقيلي مجهول ذكره في ترجمة عون بن عمرو. وذكر الحافظ في ترجمة عون هذا
أنه منكر الحديث مجهول، وذكر حديثه هذا عن أبي مصعب وقال إنه لا يعرف.
فهذه المعجزات لم يصح بها الخبر، بل انفرد بروايته مجهول منكر الحديث
عن رجل لم يعرف قط، فالظاهر أنه هو الذي وضعه عليه، ولو كان له أصل
لأمكن أن يقال من ذا الذي حقق أن هذه الثلاث وجدت عند دخوله e في الغار،
وأنها لم تكن من قبل، وكيف كان عبد الله بن أبي بكر وراعي غنمه مولاه عامر
ابن فهيرة يدخلان الغار في كل ليلة؟ ولِمَ لمْ يحدِّثا بها أحدًا ولا حدث بها من أكرمه
الله بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم وكذا صاحبه -رضي الله عنه- حتى حدث
بها أبو مصعب المجهول الذي أعيا رجال الجرح والتعديل أن يعرفوه أو يعرفوا عنه
شيئًا، ولم يحدث بها عنه إلا عون بن عمرو المنكَر الحديث؟ وأي حاجة إليها في
حفظ من كفل الله حفظه، وعبر عن ذلك بأنه تعالى معه ومع صاحبه؟ ههنا يظهر
الفرق بين شعور الأستاذ زهران والدكتور هيكل وأمثالهما:
الفريق الأول يرتاح إلى روايات خوارق العادات مطلقًا، ويرون أنها أعظم
الحجج على إثبات النبوة، فلا يعنون بتحقيق رواياتها.
والآخرون ينفرون منها لكثرتها عن جميع الملل ولا يرون فيها حجة قاطعة
على النبوة كالآيات العلمية والعقلية وأعظمها القرآن؛ ولذلك يميلون إلى تكذيب
روايات تلك الخوارق، وسنبين تحقيق الحق في ذلك.
(للنقد بقية)
__________(35/64)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شاعر العرب
الشيخ عبد المحسن الكاظمي
فاجأنا في ضحوة يوم شديد الحر من هذا الشهر المحرم (سنة 1354 -
مارس سنة 1935) نبأ وفاة شاعر العرب المطبوع وعلم الفصاحة المرفوع الشيخ
عبد المحسن الكاظمي بعد مقاساة أمراض طال أمدها عدة سنين، صبر عليها صبر
الكرام، ويحزنني أنه لم يتح لي تشييع جنازته، وقد قمت بكل ما استطعت من
حقوق مودته (المادية والأدبية) في أكثر من ثلث قرن، حتى إنني عرضت نفسي
لمرض طويل كاد يكون مزمنًا بزيارتي له ليلاً وأنا مصاب بنزلة صدرية شديدة،
وكان يزورني في وسط العهد بيننا في يوم الجمعة من كل أسبوع، وقد يزيد عليها
لأسباب عارضة، وإنني أنشر هنا ما كتبته في شأنه بعد تعارفنا بمصر بأيام قليلة،
وهو ما تراه في ص 328 من مجلد المنار الثالث، بتاريخ ربيع الأول سنة
1318، يوليو سنة 1900 بعنوان: (القديم في الحديث، والأول في الآخر)
وهذا نصه:
(ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي
كله ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام، وحتى صرنا نعد وجود مثل
سعادة محمود سامي باشا البارودي من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة
العربية رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها،
والظاهر أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد،
وأن النابغين فيها أكثر منهم في غيرها.
ولقد وافى هذه البلاد من أشهر رجل فاضل جدير بلقب (الأديب) وقلَّ
الجدير به في العصر، ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن الكاظمي (نسبة إلى
الكاظمية بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح والأخلاق الحسنة من
الشاعر المفلق، العذب المنطق، الذي ناهز المقدمين، وخاطر المقرمين، ومن
السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس، حتى إنك لا تشعر في أول عهدك
به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة.
قال صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب
في مصر: (إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته، فلما خبرته
علمت أنه لا تطيب مفارقته) ا. هـ.
وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير الطرابلسي:
إباء فارس في لين الشام مع الظر ... ف العراقي واللفظ الحجازي
أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة، طريقة الشريف الرضي
ومهيار الديلمي، وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود الأهم
من بلاغة القول) ا. هـ.
ونشرت بعد هذا قسمًا من قصيدته العينية، وهي أول ما سمعناه من إنشاد
شعره، ونشرت القسم الآخر منها في جزء آخر، ولعمري إن إنشاده للشعر لأبلغ
من نظمه له في إثارة الشعور، بما شاء من شجو وشجن، وحنين إلى سكن ووطن،
وشوق إلى لقاء حبيب، وحزن على فراق عشيق أو صديق، وإن أنسَ فلن أنسى
إنشاده إيانا قول الشاعر:
وارحمتا للغريب في البلد النازح ... ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا
فلئن قال ابن المنير في يائيته:
وما المدامة بالألباب ألعب من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي
فإن لنا أن نقول: ما لعب المدامة بالعقول، ولا عزف الفارابي بالقانون، بما
أضحك الثغور وأثار الشجون، وأجرى الشئون وران على العيون، ولا نعي جميل
لبثينة أمام دارها، ولا كلمتها للناعي سافرة نابذة لوقارها - بأعظم سلطانًا على
القلوب من إنشاد الكاظمي لهذين البيتين بصوته الرخيم ولهجته العراقية، وتقطيعه
للبيت بغير أوزانه الشعرية، كوقوفه على كلمة الغريب، والنازح، والعيش، فإني
لأتذكر الآن خفقات قلبي لسماعهما، فأجد الذكرى تعيدها سيرتها الأولى، ولقد
كانت كلمة بثينة أشجى كلمة سمعتها من كلام البشر، ولا بأس بذكرها هنا.
لَمَّا شعر جميل العذري بدنو أجله في مصر عهد إلى رجل أن ينعاه إلى بثينة
في حي أهلها، وأعطاه حلته آية لها، فوقف فأنشد هنالك:
صرخ النعيّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول
فخرجت حاسرة وقالت: يا هذا إن كنت كاذبًا فقد فضحتني، وإن كنت
صادقًا فقد قتلتني! ! فأخرج لها حلته فأنشدت:
وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر لا حانت ولا حين حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
هكذا كان الكاظمي يخلب ألبابنا بإنشاده العراقي الشيعي، وكل أدباء العراق
يخلبون الألباب بضروب الإنشاد، وإن كان لأشجى من سمعنا منهم، ولقد أحببناه
لإنشاده ولشعره معًا، ثم اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام وخصه بمدائحه المؤثرة،
وكان بالمدائح ضنين، فعشقناه لتنويهه بالإصلاح وإمامه، وقد ذكرته في تاريخ
الأستاذ الإمام منوهًا بما كان من عطف الإمام عليه ومواساته له، ومما لم أذكره أنه
كان له منه راتب شهري قدره عشرة جنيهات ما عدا الهدايا، وكان أنكر ما عددته
عليه من كنوده عدم رثائه له، وكان يعتذر لنا بوجده وكمده، ثم علمنا أنه إنما كان
يخشى غضب الخديوي عليه إذا هو رثاه، إذ سعى له صاحب المؤيد عند سموه
براتب من الأوقاف.
إنني كنت صدقت الكاظمي زعمه أن شدة الحزن والأسى على الإمام أخرست
لسانه، وحيرت وجدانه، وأطاشت جنانه، فأمسى عاجزًا عن رثائه لا يستطيع منه
شيئًا. وظللت سنين مصدقا له، وأرى من حق الوفاء لأستاذنا عليّ بره والوفاء
له، على أنه حدثني فيما كان يقصه عليَّ من سيرته الشخصية أن الخطوب ليس
لها على نفسه سلطان، وأن الحزن ليس له في شجون قلبه ولا في شؤون عينيه
مكان، وأنه كاد هجومها عليه يغلبه على جَلَده، مرة أو مرتين، ففطن لذلك فكان
لإرادته الغلب والرجحان، فكان عصي الدمع شيمته الصبر، ليس للحزن عليه
نهي ولا أمر.
ولقد كان يقول لي إنه لم يجد بعد الأستاذ الإمام من أخلص له الوفاء مثلي،
ويظهر لي أنه على رأيي ومذهبي فيما أدعو إليه، وأحيا لأجله من الإصلاح
الإسلامي والوحدة العربية، وكان ينشدني بعض قصائده في مدح من يرجو برهم
ويقف لي عندما تتضمنه من الإشارة إلى ما أحب من المصلحة العامة، في
تضاعيف ما أكره من المدائح الشخصية، بله ما نظمه في المسألة العربية ورجالها،
ومنه ما يخصني بزعمه دون غيري، ولم أكن لأحفل بالتصريح بشيء يخصني؛
فكيف أحفل بالتلويح والتعريض الذي لا يكاد يفهم المراد منه أحد؟ ولكن خطر
ببالي كثيرًا ما لم أذكره له ولا أشرت إليه من تقصيره في رثاء شقيقي اللوذعي
الأحوذي السيد حسين الشاعر الأديب الخطيب، وقد كان عشقه للكاظمي غرامًا،
ووده له لزامًا، وكان وكيلي في إدارة المنار مدة غيبتي في الآستانة عامًا كاملاً لم
يكد يفارقه فيه يومًا، ثم عاد إلى سورية فقتل بيد مجرم أثيم، فكان من إكبار خطبه
عندي أن قلت في تأبينه إنه ليعز علي أن أرثيه، وكنت أرجو أن يرثيني، وأكبر
المصاب فيه أهل الفضل والأدب في جميع البلاد العربية، وعقدوا له في بيروت
حفلة رثاء وتأبين تبارى فيها أدباء الطوائف الدينية بما كان أقوى مظهر لرابطة
الأدب الجامعة، فكانت حفلة نادرة في ذلك الوقت، ولكن كان صديقي وصديقه
أبخل بشعره عليه منه بدمعه، وهو الغني المليء بالشعر، الفقير الشحيح بالدمع،
وإنما يجود بالشعر حيث يرجى به النوال الجزل.
لقي الملك فيصلاً في مصر فرأى من لطفه وتواضعه وتكريمه له ما أحدث له
أملاً بأن يحيا بجوده حياة جديدة من الإتراف والسعة، أقلها أن يكون له راتب
شهري كبير وهو في مصر، أو ينقل إلى منصب كبير في بغداد، فمدحه كما مدح
أخاه الأمير عبد الله وبيتهم الشريف بقصائد غر، كان ينشدها كلها أو بعضها قبل
إرسالها، ويحاول إرضائي وأنا المنكر لسياستهم البريطانية بما فيها من التنويه
بالإصلاح والوحدة العربية، حتى إذا ما خاب أمله فيهم، وغلبهم ابن السعود على
الحجاز، وحدث له من الرجاء في جوده وسخائه ما يئس من مثله منهم، طفق
يمدح هذا وآله؛ ويعرض، بل يصرح، بهجو أولئك، ومن ذلك قصيدة في الفرق
بين الفيصلين فيصل بن عبد العزيز وفيصل بن الحسين، وكان يدعي أنه لم يكن
له من باعث على هذا وذاك إلا ما يهمنا جميعًا من مصلحة العرب والإسلام.
كذلك كان يستشيرني في القصائد التي كان ينظمها في القضية العربية، التي
يقيمها حزب الاتحاد السوري، فاللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني؛ ويكل
إليَّ السعي لما يرجوه من الجائزة عليها من الوجيه ميشيل بك لطف الله، وهي من
غر قصائده.
وكثيرًا ما كان يزيد في هذه القصائد التي نظمها ولم يكتبها، وكثيرًا ما كان
يرتجل غيرها، فقد ثبت عندنا أنه أوتي من ملكة الارتجال ما يساهم به فحول
العرب من الجاهليين والمخضرمين والمولدين، وهو يعد من فصحائهم لا من بلغائهم،
فشعره فحل في لغته وأسلوبه، دون فلسفته وتأثيره الروحي.
وما كان لي أن أطمع بإرجاعه عما يبغيه من الكسب بشعره، وهو بضاعته
الرائجة، فكنت أحمد من قصائده ما فيها من الآراء العامة، وأقتصد في الإنكار
على المبالغة الشعرية في المدح فيوافقني على ما أقول، ولا أدري ما يكتبه بعد ذلك
ويرسله، وما يثبته في ديوانه الذي يدخره لمستقبله وورثته؛ فقد كان يحفظ كل ما
ينظمه، وينشدني وينشد غيري من حفظه، وقد ينقح ما ينتقده عليه السامع في
المجلس، ويزيد فيه ما شاء وينقص منه؛ وكان يرجو أن يبذل له أحد الملوك أو
الأمراء أو الكبراء ما يكفي لوفاء ما يذكر من دَينه وطبع ديوانه، فإن لم يتح له ما
يرجو، وَكَل أمر طبعه من بعده إلى أبر الأوفياء له، الذي اختار أن يجعله وصيًّا
على كريمته الرباب، وإياي كان يعني.
هذه خلاصة ما يقال في شعره وأدبه ومودته وكسبه، ولقد علمت أنه كان له
كسب نسائي خفي من كتابة التمائم للحب والبغض، وكان أمين سره في هذا العمل
صديقه المرحوم توفيق أفندي الرافعي، وأول من أفشاه لنا امرأته الأولى التي عشق
أختها وتزوجها، حملت إلى أهل بيتنا بعض هذه التمائم فأبيت أن أنظر فيها،
وحدثتْهن عن إسرافه في النفقة، وما كان يوهمني (قبل بنته الرباب) من أن له
عيالاً ينفق عليهم، وقد سمعت منه ورأيت ما يعد من عجائب إسرافه، فلقد كان
يشتري ثمر المنجا الجيدة بالعشرات أو مائة بعد مائة وهي أغلى الثمار ثمنًا، وكان
دائمًا يشكو الحاجة أو الضرورة، ويطرق أبواب الكبراء الواسعة والضيقة، وقد
لجأ أخيرًا إلى المرحوم سعد باشا زغلول ومدحه بالقصائد الفياضة التي ذكر فيها
الأستاذ الإمام أول مرة بعد وفاته، ثم لجأ إلى زعيم الوفد من بعده، وظهر في هذه
الأثناء بشعر بنته الرباب، وقد شبت على استبدال البرنيطة بالحجاب.
وجملة القول فيه أنه كان شاعر العرب المرتجل المفلق، كما كان قال قبل
اختيار هذا اللقب لنفسه.
لتُخلِ القوافي ميادينها ... فقد عصف الشاعر المفلق
وكانت حياته الشخصية في داره ومع أصدقائه وزواره مفاكهات أدبية أكثرها
في شعره وأغراضه منه، ثم لم يكن يتحدث في السنين الأخيرة إلا عن مصائبه
وأمراضه وخُلته، حتى صار مملولاً بالطبع. نذكر هذا للعبرة والموعظة، ونسأل
الله تعالى لنا وله العفو والمغفرة والرحمة الواسعة.
ويسرنا جد السرور عناية الحكومة العراقية بإكمال تربية كريمته، وعناية
أدبائها وأدباء فلسطين وسورية بتأبينه، وهمَّ بعض أصحابنا بإقامة حفلة تأبين
حافلة، ثم أرجؤوها إلى انتهاء هجير الصيف، وما كان لمصر أن تهضم حق أدبه
وما كان ظهوره واشتهاره إلا فيها.
__________(35/72)
الكاتب: مراسل الأهرام في أمريكا
__________
تفاقم شر الطلاق في أميركا
لمراسل الأهرام في أمريكا
أشرت في إحدى رسائلي الماضية إلى القاضي بن لندسي في مدينة لوس
أنجلوس بولاية كليفورنيا الملقب بقاضي الطلاق لتساهله في تسهيل سبله على
الطالبين، ولكثرة عدد الذين أعتقهم من ربقة الزواج كما يعتق السجناء حال انتهاء
المدة المحكوم عليهم بها، وقد أعلن هذا القاضي اليوم اعتقادًا جديدًا أبداه بشكل
نبوءة مفادها إمحاق عهد الزواج بهذه البلاد في وقت غير بعيد؛ إذ قال:
(إن الزواج في هذه البلاد صائر إلى حالة توجب الأسف وتحمل على
الاحتساب، فإن لم نفتح عيوننا للحقائق، ونصرح بها غير متهيبين، ونعمل على
تغيير ما نفهمه من علائق الجنسين، تصبح الإباحة في الحب والفوضى في الزواج
والتطرف في حسبان الطلاق من ضروريات المعيشة الهنيئة شيئًا سهلاً وواجبًا،
وإن كان مخالفًا لما قررته الأديان وأوجبته قوانين الهيئة الاجتماعية) .
(فالزواج عندنا قد أصبح ألعوبة أو مهزلة بحيث لا يختلف عن شركة
تجارية يعقدها شخصان، ويبقيان فيها متعاونين ما بقيت رابحة، وما اتفق ذوقاهما
وينفصلان عندما يشعران بالخسارة أو بالنفور المتبادل. ولا ريب في أن البواعث
الطارئة على تمدننا في هذا الزمان تعمل على تقويض أركان التوازن الديني
وتشويه آداب المجتمع، وتمهد السبل للطبيعة البشرية الميالة إلى الشر في طغيانها
فتتمادى فيه بلا وازع من الدين ولا رادع من القانون. والقاضي الذي تبدو له هذه
المساوئ في القضايا المختلفة لا يرى سوى علاج واحد ناجع وهو أن تستعين
الهيئة الاجتماعية بالدين والعلم والتهذيب على استئصال ما طرأ في هذا العصر
من التطورات الغريبة العاملة على خراب الحياة الزوجية وفساد أخلاق الناشئة) .
(وقد يحسبني بعضهم من المفكرين المتفوقين في هذا الباب بالنظر إلى كثرة
عدد الذين أفلتوا من قيود الزواج في محكمتي، فأنا على الرغم مما يقال من تساهلي
في حل ما عقده الشرع، من أشد الناس تمسكًا بزي الزواج القديم القائل ببقاء
الاثنين جسدًا واحدًا إلى أن يفرقهما الموت، ولا يحل هذا الشكل إلا العمل بهذه
القاعدة، وأعتقد أن أجدادنا كانوا أسعد حالاً وأهنا عيشًا من الوجهة الزوجية مما
نحن عليه الآن) .
(ومهما كان اعتقادنا بنظرياتهم فإن تلك النظريات قد انطوت ومعها الحياة
الزوجية القديمة المبنية عليها، أو أنها تنطوي الآن بسرعة، وحل محلها جنوح [1]
لا يعترف بقيود، خالٍ من كل مسئولية ومن الحب الحقيقي في تعاقد الجنسين
بحيث أصبح الناس يعتقدون أن الزواج قضية مؤقتة يحافظون عليها ما وفرت لهم
الغبطة، وضروب الشهوات والمسرات، فإذا عدمت هذه الميزات ذهبوا إلى
المحامي) .
ويظن هذا القاضي أن الحالة الاقتصادية في الحياة العصرية التي تزاحم فيها
المرأة الرجل في الأعمال على اختلافها، والتي جعلت الزواج صعبًا أو مستحيلاً
على الشبان من سن 20 إلى 30 لقلة دخلهم - هي التي سببت هذا التشويش
والفوضى في الطلاق أيضًا؛ لأن الزوجة التي تفرك [2] ، أو يحاول زوجها
التخلص منها، قلما تعارض لانفتاح أبواب العمل أمامها بخلاف ما كانت الحال
عليه في الماضي.
وتنبأ القاضي لندسي من سبع سنوات عن أن عدد المطلقين في السنوات
العشر التالية سيضارع عدد الذين يتزوجون، وقد مضى من تلك الأعوام سبعة وبقي
ثلاثة، ومع ذلك فقد تم ما خمنه قبل انتهائها حسبما يقول. اهـ.
(المنار)
إن سوء عاقبة هذا الفساد أكبر مما يحسب هذا القاضي ويقدر، وإن له أسبابًا
وعللاً كثيرة، وإن علة العلل كلها انحلال العقيدة الدينية وما تعقبه مع الحرية
الواسعة من إباحة الشهوات، وقد كان الدين عندهم نظامًا اجتماعيًّا أدبيًّا، تكفله
التربية والتعليم، وتحميه القوانين، فضعفت الكفالة والحماية بحرية التعليم العالي
للنساء والرجال معًا، فصار من المتعذر أن يدين هؤلاء بالنصرانية المبنية على
التسليم بما يقال لهم من غير برهان معقول مقنع، وهذا الدين لا يجدونه إلا بالإسلام؛
فهو العلاج الوحيد لجميع مفاسد الحضارة الغربية، كما فصلناه في كتاب الوحي
المحمدي.
__________
(1) كذا، والجنوح الميل، ومنه ميل السفينة إلى حيث ترتطم بوحل فتقف.
(2) فركت المرأة: أبغضت زوجها، فهي فارك وفروك.(35/78)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
العقبة من الحجاز
في عهد الدولة العثمانية
حضرة الأستاذ العلامة حجة الإسلام بهذا العصر، وقائد كتيبة المحققين الذي
كُتب له النصر، السيد رشيد رضا، أطال الله بقاءه ونفع به:
قرأت في الجزء المؤرخ في 30 المحرم 1354 من المنار فصلاً وافيًا عن
العقبة، وفيه كلام نقلتموه عن أمين أفندي سعيد معناه أن العقبة أدخلت سنة 1906
ضمن الحدود العثمانية وألحقت بلواء الكرك (شرقي الأردن اليوم) وصارت
جزءًا من أجزائه.
والذي أعرفه أنا أن العقبة لم تلحق في وقت من الأوقات بلواء الكرك، وهذا
هو أصل المعترك، فإن الإنجليز يريدون أن يجعلوا العقبة من البلاد التي كانت
الدولة العثمانية ألحقتها بلواء الكرك حتى يقولوا: إنهم لم يغيروا شيئًا من الوضع
القديم، بل أبقوا العقبة تابعة للخطة التي كانت تابعة لها من قبل. والحقيقة أنه لما
تشكل لواء الكرك ألحقوا به قصبة معان وتوزيعها ما عدا العقبة، وكان ذلك من
الدولة قصدًا وعمدًا، حتى لا تجعل العقبة تخرج من أرض الحجاز نظرًا لاستثناء
الحجاز من أمور كثيرة، كان متفقًا عليها بين الدولة والدول الأجنبية، ومن جملتها
عدم جواز تملك الأجانب. وقد كنت مرة في دمشق في أيام ولاية ناظم باشا وعلمت
من المرحوم محمد فوزي باشا المعظم وكان هو عمدة مجلس الإدارة أن ولاية
سورية راجعت الباب العالي في أن العقبة باتصالها بأرض معان وبكونها ميناء
لمعان وبلاد الشراة يجب إلحاقها بمتصرفية الكرك تسهيلاً للأشغال.
فأجاب الباب العالي ولاية سورية قائلاً: (إن هذه الملاحظة لا تخفى علينا،
ولكن هناك ملاحظات سياسية أهم منها، وهي: أنه إذا ألحقت العقبة بلواء الكرك
صارت من ولاية سورية ودخلت تحت المعاهدات التي بين الدولة والدول الأجنبية،
فصار يجوز للأجانب أن يتملكوا فيها بخلاف ما إذا كانت تابعة للحجاز، فليس
للأجانب حق أن يتملكوا شيئًا في الحجاز، وهو أمر متفق عليه بين الدولة والدول،
فبقيت العقبة إذن تابعة للحجاز، ولم تتبع الكرك كما طلبت ولاية سورية، فقصدت
أن أصحح هذه الرواية التي نقلتموها عن أمين أفندي سعيد والتي لو صحت لما كان
محل للتعجب من سعي الإنكليز بإلحاق العقبة بشرقي الأردن لأنهم يكونون حينئذ
بنوا على أساس قديم. والحال أن هذا الأساس لم يوجد، وأن العقبة كانت ولم
تخرج من الحجاز لا أولًا ولا أخيرًا ووضعها الحاضر لا يستند على شيء قانوني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جنيف
(المنار)
هذا ما يقال من جهة ما يسمى التشكيلات الإدارية في الدولة. وأما من الجهة
الشرعية الإسلامية فالعقبة وما حولها من الحجاز. وبصفة أوسع نقول: من جزيرة
العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بألا يبقى فيها دينان كما بيناه مرارًا،
فاحتيال إنكلترة للاستيلاء عليها أفظع اعتداء على دين الإسلام.
__________(35/80)
الكاتب: أحد محرري المقطم
__________
وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية
خطب الأستاذ فارس بك الخوري الوزير السوري الأسبق ومن كبار مسيحيي
سوريا في إحدى الحفلات التي أقيمت بدمشق لإحياء ذكرى المولد النبوي، ومما
قاله:
(إن محمدًا أعظم عظماء العالم، ولم يَجُدْ الدهرُ بعدُ بمثله، والدين الذي
جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمدًا أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف
مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا
الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله، وبأنها متفقة مع العلم، مطابقة
لأرقى النظم والحقائق العلمية) .
(إن محمدًا الذي تحتفلون به وتكرمون ذكراه أعظم عظماء الأرض سابقهم
ولاحقهم، فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم، وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت
العالم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عينت للناس حقوقهم وواجباتهم
وأصول تعاملهم على أسس تُعَدُّ من أرقى دساتير العالم وأكلمها) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)
__________(35/81)
الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي
__________
مأساة أميرة شرقية
بقلم الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
نزيل البصرة
(2)
ونحن مع احترامنا للنبي المكرم عيسى نقول: قد أجاد الأستاذ في تنظيره
وتمثيله، ألا يعلم لويس أن شرب الدخان في النارجيلة أو غيرها إنما حدث بعد
اكتشاف كولومبوس أمريكا، ولم ينتشر إلا في الأزمنة الأخيرة، بل في هذا الزمان
نفسه لو دخلت مجلس أمير من بني تميم أهل اليمامة لم تر فيها نارجيلة فضلاً عن
الخمر؛ فهل بلغ به هوان نفسه عليه أن يزعم أن مجالس أمراء أبي بكر وعمر
كانت محتوية على الخمر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فأي رجل من زنوج إفريقية،
بل قبائل إسكيمو يلقي نظرة إجمالية على التاريخ ويتوهم وجود الخمر في مجالس
أمراء الخلفاء ولم تمضِ على انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى إلا أيام قلائل ولم
يروِ لنا التاريخ شرب الخمر في مجالس الأمراء إلا بعد ذلك بأزمان طويلة؟
وليس مقصودي أن أبرئ خالدًا من الوجهة الدينية، أو أدعي له العصمة
الواجبة للأنبياء؛ لأن الكاتب لم يتصدَّ لهذا الأمر إلا من الوجهة التاريخية والأدبية؛
ولذلك أحصر ردي عليه فيهما؛ فهل يستطيع أن ينقل لنا كلمة واحدة من التواريخ
المعتبرة يثبت بها ما افتلعه؟ هيهات ذلك.
لقد كنا نظن أن مجلاتنا الأدبية لمَّا تصل بعد إلى المستوى الأعلى من التحقيق
في التاريخ والأدب، وأن كتابنا لا تزال بضائعهم مزجاة في ذلك، ولكننا بعد ما
رأينا هذا المقال اغتبطنا أيما اغتباط بمجلاتنا وكتابنا. وكنا نظن أن كاتبًا شهيرًا قد
تصدى لكتابة سلسلة مقالات في التاريخ والشرقيين في أشهر المجلات الإنكليزية في
الهند وعرضها على علماء الشرق والغرب يربأ بنفسه أن يرتكب الخلط والخبط
والكذب البحت، ولكن أبى الله إلا أن يفضح هذا الأديب الكبير ليعلم مطايا الإفرنج
ومقلدوهم أن أدباءهم ليسوا معصومين كما يزعمون من الوهم والغلط والجهل
والكذب، بل ربما فاقوا غيرهم في ذلك، وسترى في الرد على مقاله ما يجلو كل
شك ويلاشي كل ريب.
ومن العجيب أن الأديب " كرهام " جعل من خالد خالدَيْنِ، ولرجل واحد
صورتين، فالصورة الأولى التي تقدم الكلام عليها تخالف تمامًا صورة خالد التي
نشر تحتها ترجمة خالد بن الوليد وأعماله وسيرته في المجلة نفسها، في جزء 8
أكتوبر 1933 فخالد الأول مستطيل الوجه مائل إلى الاستدارة، ذو لحية مقصوصة
قصًّا غير بليغ؛ وأما الثاني فإن وجهه صغير مخروطي، وملامحه مخالفة أشد
المخالفة لملامح الأول، ذو لحية فرنسية مخروطية منهوكة بلا عارضين، فهكذا
يكون التخبط، وإلا فلا.
* * *
الرد على مقاله
ومناقشته الحساب
(1) زعم الكاتب الكاذب أن ليلى بنت الجودي الغسانية كانت زوجًا لمالك
بن نويرة ثم تزوجها خالد بن الوليد ثم تعشقها وغنى بحبها عبد الرحمن - يعني ابن
أبي بكر الصديق - ومازال ملحًّا في طلبها إلى أن ظفر بها أخيرًا، ففتن بها حتى
أعرض عن نسائه وسراريه وجعلها سيدة البيت، ثم لم يلبث أن هجرها وفارقها
فرجعت إلى بيت والدها بدمشق، وقضت بقية حياتها فيه، هذا ملخص قصة ليلى
بزعمه.
أقول: وهذا كذب محض، وجهل فاضح؛ فإن ليلى بنت الجودي لم
يتزوج بها مالك بن نويرة، وكيف يتزوج بها وهو من أهل اليمامة في قلب جزيرة
العرب وكان وثنيًّا مشركًا، وليلى بنت الجودي نصرانية، وأبوها أحد رؤساء
النصرانية في دمشق. وامرأة مالك بن نويرة التي تزوجها خالد بعد قتل زوجها
اسمها أم تميم بنت المنهال، لم يتعشقها عبد الرحمن، ولم يتغن بحبها ولا تزوجها.
وقد التبس الأمر على هذا الكاتب المسكين لفقره في الأدب الشرقي، فمزج امرأتين
وعجنهما وجعلهما شيئًا واحدًا لحول في عين بصيرته، وسيجيء الكلام على
ليلى بنت الجودى في آخر الرد، إن شاء الله.
(2) زعم أن ليلى زوجة مالك بن نويرة وقعت مع زوجها في أسر خالد،
وهو كذب أيضًا؛ إذ لم يذكر أحد من المؤرخين (فيما نعلم) أن خيل خالد أخذت
مع مالك زوجته، والحقيقة - كما في الطبري والكامل وابن خلدون وغيرها - أن
خالد ابن الوليد نزل بالبطاح، وبث سراياه، فجاءته الخيل بجماعة من بني يربوع،
منهم مالك بن نويرة، فسأل خالد الذين جاءوا بهم: أهم مسلمون فيبقيهم أم
مرتدون فيقتلهم؟ فاختلفوا فشهد أبو قتادة ونفر أنهم مسلمون، وأنهم أذَّنوا وصلوا
معهم وشهد آخرون أنهم غير مسلمين فأمر بهم خالد فقتلوا، ولم يذكر أحد أنه
كانت معهم امرأة، مع أن الرواة ذكروا كل شيء، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكر أن
ذلك كان ليلاً، وأن البرد كان شديدًا.
(3) زعم أن امرأة مالك كانت قد وهبت قلبها لزوجها، وأزمعت أن تبذل
كل مرتخص وغالٍ في فدية زوجها، فتزينت بحليها وحللها وذهبت إلى خالد لتشفع
لزوجها؛ فلما رآها عشقها، وأصدر أمره بقتل زوجها، ودعوة إمام لعقد النكاح،
وخلق لها عباءة كثيفة، وزعم أن النساء يومئذ كن محتجبات وكان كشف وجوههن
عارًا، وهذا كله كذب وجهل، فإن الحجاب لم يكن له وجود في ذلك الزمان حتى
في نساء المسلمين؛ فكيف بنساء المرتدين؟ وإنما حدث الحجاب بعد ذلك بزمن
طويل. (انظر كتابنا: الإسفار في مسألة الحجاب والسفور) ولم يكن عقد النكاح
يتوقف على إمام المسجد في بلاد العرب في ذلك الزمان ولا في هذا أيضًا، وإنما
هي عادة من عادات المسلمين في الهند وفي كثير من البلاد الإسلامية، وليس ذلك
بمشروع في الإسلام، ويكفي لعقد النكاح أن يشهد شاهدا عدل من المسلمين، ولكن
أهل البلاد المتحضرة يحضرون القاضي أو نائبه عادة، وأما خالد فلم يكن له إمام،
بل هو القائد والإمام كما هي العادة في ذلك الزمان أن يكون الأمير هو الإمام، ولم
يدخل خالد بامرأته في تلك الليلة، بل تركها حتى تنقضي عدتها كما في ابن جرير:
مجلد 64، ص 192.
(4) لو فرضنا أن أم تميم ذهبت إلى خالد لتشفع في زوجها لما أمكن أن
يتصور متصور - حتى في هذا الزمن - أن امرأة شريفة زوج أمير تنزين بما
عندها من حلي وحلل وتذهب في الليل البهيم، فتدخل على رجل أجنبي يملك
ناصيتها، وتخلو به في خيمته، لأمور:
(أ) أن التجمل والتحلي إنما يكون وقت الفرح لا وقت الحزن، ولا سيما في
ذلك الوقت العصيب حين أحب الأحباب إليها تحت خطر الموت، ينتظر كلمة
تخرج من بين شفتي القائد تحييه أو تقتله، فتزينها في ذلك الوقت مما لا يعقله أحد
يعرف عادات العرب وأحوالهم؛ لأنها لو فعلت ذلك لقضت على نفسها وعلى خالد؛
إذ الخلوة بالأجنبية - ولا سيما في الليل - فسق موجب للعزل والتعزير، ولا يمكن
لامرأة عرفت بذلك أن تكون زوجة لسيد من سادات العرب، بل ولا من أوساطهم
ولا لرجل عرف بذلك أن يكون أميرًا لأبي بكر.
(ب) أن (الديمقراطية) عند العرب كانت في عنفوان شبابها، ولم يكن
الجنود يخضعون ولا يطيعون الأمير إذا رأوا منه منكرًا، والدليل موجود في نفس
القصة وهو شيئان:
(الأول) : أن بعض الجند - وهم الأنصار - اختلفوا مع قائدهم خالد في
التوجه إلى البطاح [1] ، فقال لهم خالد: لا أكره أحدًا منكم، أما أنا فذاهب؛ فتخلفوا
عنه وذهب، ثم بعد ذلك ندموا ولحقوا به.
(الثاني) : أن أبا قتادة أعلن إنكاره على خالد في قتل مالك وأصحابه،
حتى ذهب مغاضبًا له إلى المدينة، واشتكى لأبي بكر الصديق الخليفة ما رأى من
خالد، واستعان بعمر واجتهدا أن يحملا أبا بكر على عزل خالد فلم يفعل.
(ج) لو أن أبا قتادة ومن وافقه من الناقمين على خالد، وفيهم عمر بن
الخطاب الذي كان كالوزير لأبي بكر، وكان إذ ذاك مجتهدًا في حمل أبي بكر على
عزل خالد، وبقيت في قلبه حزازة على خالد حتى إنه حين تولى الخلافة عجل
بعزله، فلو أن قتادة رأى خالدًا قد خلا بامرأة مالك ليلاً قبل عقد النكاح، بل في
حياة زوجها، لأخبر بذلك عمر، وكانت حجته قائمة على فسق خالد، ثم لشنع
عمر بذلك على خالد، وألزم أبا بكر عزله، فلا يجد منه بدًّا.
(4) ربما تكون العادة عند الأوروبيين - قوم الكاتب - أن المرأة إذا أرادت
أن تشفع عند أمير تجملت وتزينت وتغنجت وتدللت لتسبي قلب ذلك الأمير،
فيقضي حاجتها، وأما العرب فإن العادة عندهم على خلاف ذلك، فإن المرأة إذا
ذهبت إلى رجل أجنبي ولم يكن أميرًا تذهب إليه حزينة متبذلة باكية حيية خاشعة،
وأما المرأة التي تتزين وتتبرج وتذهب للأجانب فهي في نظر العرب بغيّ فاجرة،
لا تتمكن من الدخول على الأشراف.
(5) زعم " كارهام لويس " أن تلك الليلة كانت ليلة هياط ومياط، وأكل
وشرب، وسكْر ورقص، وخلاعة وبطر؛ احتفالاً بالنصر والظفر، وقد زل
حماره في الطين في هذا أيضًا، ولو أشرف إشرافة على التاريخ الإسلامي أو ألمَّ
إلمامة به، ولا سيما في أوله لعلم أنه كاذب، ولخجل من نفسه (كما يقول الإنكليز)
قبل خجله من الناس. لو كانت الجنود المحمدية يا مستر كراهام تحتفل عند
الانتصار بالأكل والزمر والخمر والعهر، ما أكلت جنود أسلافكم وسادتكم الذين
استعبدوكم قرونًا - أعني الروم الجبابرة - في ربع قرن أو أقل على قلة
عددهم وعُددهم.
إني أرثي لجهلك يا مستر كراهام، وأتمنى أن تعلم - ولو قليلاً - سيرة محمد
وأصحابه الأبرار الأطهار. أفتظن أن أصحاب محمد كأصحاب نابليون وكجنودكم
في الوقت الحاضر: كلما انتصروا فزعوا إلى اللهو والفواحش كالدواب؟ إن
أصحاب محمد كانوا يحيون لياليهم في معسكرهم بالصلاة وتلاوة القرآن اقتداء
بنبيهم، اقرأ يا كراهام في سورة السجدة من القرآن: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 16) ثم
اقرأ في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ} (الفتح: 29) ثم اقرأ في سورة الذاريات: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 17 - 19) وكذلك كان هدي نبيهم وإمامهم كما وصفه الشاعر بقوله:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
__________
(*) نشرها (كرهام لويس) المستشرق الإنكليزي في جريدة المصور الأسبوعي للهند، صور فيها الصحابي خالد بن الوليد القائد الحربي الأعظم في فسطاط كمجالس راجات الهند تدار فيه كؤوس المُدام، واصطفت نراجيل دخان التبغ، وصور ليلى بنت جويد متزينة بأحدث أزياء نساء أوربة وحلي الشرق، تدخل عليه لتشفع لمالك بن نويرة زوجها بزعمه إذ أسرها معه في حرب الردة، فعشقها، وأمر بقتله وتزوجها. وقد نشرنا الفصل الأول في ج 7 م 34.
(1) أرض بني يربوع، قوم مالك بن نويرة.(35/82)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(تأخر عدة أشهر)
(كتاب المُحلى للإمام أبي محمد علي بن حزم)
من حسنات المطابع في هذا العصر أن يسرت لكل مشتغل بفقه الحديث أن
يقتني كتاب المحلى مطبوعًا أحسن طبع على أجود ورق في أحد عشر جزءًا، بعد
أن كان من كنوز أغنى الخزائن، وأندر الذخائر، وحسبك من فضله ونفعه شهادة
سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه هو والمغني لابن قدامة أحسن ما
كتب المسلمون في الفقه؛ فهي تغني عن وصفه وبيان إمامة مؤلفه وفضله، وثمن
النسخة منه 150 قرشًا، وهو يطلب من طابعه الأستاذ الشيخ محمد منير الدمشقي
ومن مكتبة المنار.
* * *
(كتاب الفتح الرباني
لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني
وكتاب بلوغ الأماني، من أسرار الفتح الرباني)
الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - إمام أئمة السنة حفظًا ورواية ودراية وفقهًا،
وجرحًا وتعديلاً، ومسنده أوسع الأصول في الحديث وأعمها فائدة، والمسانيد
موضوعة لحفاظ الحديث، يشق على غيرهم الاستفادة منها، فإن كان تلاميذه منهم
لم يحتاجوا إلى ترتيب أحاديثه على أبواب كتب السنن كما فعل الحافظ أبو داود
السجستاني من أعلامهم، فالفقهاء من أتباعه كانوا أحوج الناس إلى ذلك، ونحن لا
ندري هل وجد فيهم من قام بهذه الخدمة أم لا، وإنما ندري أنه ليس في الأيدي
شيء من ذلك، وكأن الله تعالى ادخرها لأحد إخواننا أصدقاء المنار وهو الأستاذ
الفاضل خادم السنة السنية الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، ولعمري
أنه قد قاسى من العناء في هذا الترتيب ما لم يكن يُظن أن أحدًا يطيقه في هذا
العصر، وسلك فيه سبيلاً لم يُسبق إلى مثله: جعل الكتاب كله اثني عشر جزءًا،
وكل جزء منه أربعين ملزمة (كراسة) من ملازم الطبع بالقطع الكامل، وعد
أحاديث كل كتاب بالأرقام، واقتصر في السند على اسم الصحابي، وطبعها بحرف
كبير مضبوط بالشكل الكامل؛ فهذا كتاب الفتح الرباني. وأما كتاب بلوغ الأماني
فهو شرح وجيز له في أدنى الصفحات بحرف أصغر من حرف المتن. يبدأ فيه
بذكر السند، فتفسير غريب الحديث، فالضروري من معناه، فتخريجه فنحث
المهتدين بالسنة على المبادرة إلى اقتنائه.
__________(35/87)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سبب تأخر هذا الجزء من المنار
وسيكون ما بعده أكبر وأحسن
أخرنا هذا الجزء، وهو الأول من هذا العام؛ انتظارًا لأجوبة المشتركين
الذين خيرناهم في الجزء الماضي بين أكرم الخصال وأشرف الخلال، ولم أرضَ
لأحد منهم إلا ما يرضاه الله - عز وجل - للذين أورثهم الكتاب من عباده
المصطفين لدينه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّه} (فاطر: 32) ويؤسفنا أن كثيرًا منهم رضي لنفسه ما لا يرضاه الله لأحد
من أهل دينه وارثي كتابه، حتى أدنى الطبقات وهم الظالمون لأنفسهم، رضوا بأن
يأكلوا حقه بالباطل سحتًا، واختاروه على أكله حلالاً عن سماح ورضا، وعفوا عما
مضى؛ كما علم كل من قرأ الجزء الماضي، ومنهم من وفّى واعتذر فقبلنا عذره،
ومنهم من وعد وطلب النظرة إلى الميسرة فأنظرناه، ومنهم من طلب العفو والسماح
فسامحناه، ولكن أكثر مشتركي هذا القطر لم يردوا لنا جوابًا، فهؤلاء لا نرسل
إليهم هذا الجزء، وإن جاز أن يكون بعضهم لم يقرأ خطاب التخيير بعد، وأما أهل
الأقطار البعيدة، ولا سيما جزائر الهند الشرقية، فموعد رجع الخطاب منهم قد صار
قريبًا.
وعَدت بتجديد حياة المنار صورة ومعنى، فأما الورق فكما يرى القراء جودة
وحسنًا، وأما الحروف فلما يتم كل ما أوصينا عليه منها، وأما الصحائف فقد زدنا
في هذا الجزء كراسة، ونرجو أن نزيد فيما بعده أيضًا حتى يعود مجلده كما كان -
إذ كانت سنته اثني عشر شهرًا أو أكثر - إن وفَّى لنا المشتركون في تجديد النظام،
وصاروا يؤدون قيمة الاشتراك في أوائل العام، ونفتح لهم فيه الأبواب الأدبية
والعلمية التي عزمنا عليها.
ونحمد الله أن الذين يعرفون قدر المنار لا يعدلون به غيره من المجلات
الدينية التي قلما يجدون فيها شيئًا إلا منقولاً من الكتب المطبوعة الرخيصة، يمكن
أن يستغنوا به عنها، وما يجدونه فيه من حقائق التفسير وحل المشكلات بالفتاوى
وغيرها لا يجدونه في غيره ألبتة، وإنما يجدون شيئًا تطمئن به القلوب، وتنشرح
له الصدور، كما تراه في تفسير أمر يعقوب - عليه السلام - أبناءه بالدخول من
أبواب متفرقة، والحاجة التي كانت في نفس يعقوب فقضاها بهذه الوصية، فاقرأ
جميع التفاسير من أقدمها إلى أحدثها، ثم ارجع إلى تفسير المنار، وكذلك سائر ما
تقدم وما تأخر من هذه السورة وغيرها، واسأل عقلك، واستفت قلبك في ذلك كله.
__________(35/88)
ربيع الآخر - 1354هـ
يوليو - 1935م(35/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سؤالان عن الربا في دار الحرب
وعن كون الإسلام دين سياسة أم لا
(س 3 و4) من صاحب الإمضاء في بنجر نقارا (جاوه) :
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأستاذ القدير السيد محمد رشيد رضا المحترم، أطال الله عمره:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن لمناركم الأغر مكانة في قلب كل
مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وبما كان للإسلام من مجد لعبت به الأهواء، لا
زال مناركم يرسل أشعته إلى أقصى بلاد الشرق والغرب؛ ليستضيء بنوره من
أضله الله وأعماه عن الحق.
وبعد فأقدم لفضيلتكم سؤالين أيها البحر الزاخر علمًا مسترحم الجواب عليهما
على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق.
(1) إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارًا لا عهد لنا به،
حتى إن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر والمقاومين للربا - خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين،
فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابونا بلسان واحد بأن صاحب المنار أفتى بجواز
الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدًا يرابي على الوطنيين أجابنا بأن موظفي
الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب. وقد أفتى صاحب المنار بجواز الربا في
دار الحرب؛ فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم نعم، فستقفل الحوانيت،
ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا، ويتوجهون إلى الربا اعتمادًا على فتواكم؛ فما
رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل
(إن الباطل كان زهوقًا) .
(2) هل الدين الإسلامي دين سياسة أم لا؟
لأن في أرض جاوا حزبين كبيرين متشاجرين أحدهما حزب المحمديين،
والآخر شركة إسلام إندونسيا، وهذان الحزبان مع اتفاقهما في المبادئ السلفية
ما زالا مختلفين في هذا الأمر.
فالمحمديون يقولون بأن الدين الإسلامي ليس دين سياسة، ولا يمنعنا عن
الاشتراك مع الحكومة والتوظيف بدوائرها السياسية وغيرها، وحجتهم قوله تعالى:
{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) إلى آخر الآية، ومدارسهم مرتبطة بوزارة
المعارف. أما حزب شركة إسلام فإنهم يقولون إن الدين الإسلامي دين سياسة، ولا
يسمح لنا بالتوظف في دائرة الحكومة والارتباط بدوائرها السياسية وغيرها،
وحجتهم قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (المجادلة: 22) إلى الآخر الآية.
ويحتجون على حجج المحمديين بأن الله نهانا عن الذين قاتلونا في الدين،
والقتال يكون بالسيف أو بالضغط والإرهاق والاضطهاد ومنع نشر الإسلام وفضائله
لهذا أرجو أن تشرحوا لنا الحق في هذا الأمر لعل الله يهدي الفريقين والذي مال
عن الطريق السوي، فيتفق الفريقان على نشر الإسلام ومبادئ السلف الصالح بدلاً
عن النزاع الذي لا نتيجة من ورائه إلا الاضمحلال.
أرجو نشر الجواب في أول عدد من مناركم والسلام عليكم.
... ... ... ... ... ... ... من تلميذكم المخلص
... ... ... ... ... ... أبو بكر بن سعيد باسلامة
جواب المنار
(1) أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب:
إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب ليس كما
ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على المنار من مدير جريدة الوفاق
(هستنبرغ جاوه) ونشر في (ج 8 مجلد 27) ، الذي صدر في ربيع الآخر
سنة 1346 (في فتوى بعض العلماء بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة
والخيانة ونحوها مما كان برضاهم وعقودهم، فهو حِلّ لنا مهما يكن أصله حتى
الربا الصريح) .
هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار كما هو مبين
بنص كلامه في السؤال؛ إذ جعل هذه الفتوى خطرًا على التوحيد ومقتضية لتحليل
جميع المحرمات. وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع
المسلمين وما قيد العلماء به عمومه. ولم يخالفنا أحد في ذلك فراجعوا فتوانا في
(ص 575 من مجلد المنار 27) ، فإن بقي في أنفسكم شبهة فيه فبينوه لنا. وقد
كتبنا في آخره (إن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد ولا تقتضي تحليل شيء
من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها) ا. هـ.
وجملة القول: أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وإن
الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم (لا دينيين) أي
كفار تعطيل وإباحة - لا يمكنهم أن يدَّعوا أن صاحب المنار أفتى بتكفيرهم ولا بأخذ
الربا منهم، ولا بجعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم، على أننا سنصدر
إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية
العصرية، التي نشرناها في مجلدات المنار بعد تلك الفتوى، فانتظروا فالمسألة
ليس من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار، وخطر الاستدانة من الإفرنج
بالربا أضعف مما تتصورون من عكسه، بل هو الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب.
* * *
(2) الدين الإسلامي دين سياسة أم لا؟
إن قول حزب المحمديين إن الإسلام ليس دين سياسة خطأ، وإن استنباطهم
من هذا القول أن الإسلام لا يمنعهم من الاشتراك مع الحكومة في وظائفها وأعمالها
غريب، فهو مبني على أصل فاسد، ولو لم يكن الإٍسلام دين سياسة لكان منعه من
الاشتراك مع غير المسلمين في أعمال حكومة غير إسلامية أشد وأقوى.
وأما احتجاجهم بآيات سورة الممتحنة {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} (الممتحنة: 8) إلخ،
فهو في غير محله، فإن موضوعها أن الإسلام لا ينهى أهله في داره عن البر
والعدل في معاملة الكفار غير المحاربين لهم في دينهم ووطنهم، وإنما ينهاهم عن
تولي المحاربين المنازعين لهم في دينهم ووطنهم، والمراد بتوليهم مساعدتهم على
أعمالهم الحربية وكل ما فيه جعل السلطان والقوة لهم على المسلمين. فإذا كان جعل
مدارسهم تابعة لمدارس الحكومة غير الإسلامية يضر الذين يتعلمون فيها بإفساد
عقائدهم وأخلاقهم ودينهم أو يؤيد سلطانهم عليهم - تكون تابعيتها لها مما نهى الله
عنه من توليهم؛ سواء سمي الإسلام سياسيًّا أم لا، فإن الحكم منوط بنص القرآن
لا بتسمية الدين سياسة أو عدمه، وإذا كان ذلك نافعًا للمسلمين بحفظ حقوقهم ويمنع
أو يخفف الأذى الذي يقع عليهم، فإنه لا يكون محرمًا، وقد يكون بمقتضى السياسة
الإسلامية مستحبًّا أو واجبًا، فهؤلاء أحوج إلى إثبات كون الإسلام دينًا سياسيًّا فيما
يعملونه ويطلبونه.
وأما قول (حزب شركة إسلام) إن دين الإسلام دين سياسي، فهو لا يبيح لهم
التوظف في مصالح حكومة بلادهم غير الإسلامية فأصله هو الصحيح، وما بني
عليه من الحُكم ففيه نظر ظاهر، فإن سياسة الملة والأمة ليست منصوصة في
الكتاب والسنة بعبارات جلية يفهمها كل أحد أو يقدر كل أحد على استنباطها
من النص، وإنما أساسها المصلحة العامة وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان
والأحوال، وأقوم وسائلها التشاور بين أهل الحل والعقد من عقلاء علماء الأمة
بمصالحها لا علماء الاصطلاحات الفقهية وحدها؛ ألم تر كيف كان سياسي الخلفاء
الراشدين بل إمام سياسة الإسلام الأعظم عمر بن الخطاب يختار أمراءه من دهاة
الأذكياء، لا من عباد الفقهاء.
وأظهر قواعد أئمة الفقه فيها قاعدة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -
المأخوذة من سياسة السنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وهي أن أحكام العبادات تُبنى
على العمل بظواهر نصوص الكتاب والسنة، وأحكام السياسة والمعاملات الدنيوية
تبنى على جلب المصالح ودرء المفاسد دون ظواهر النصوص، فإن تعارضا يؤول
النص لمراعاة المصلحة.
وعندنا من مجربات الشعوب الإسلامية في ذلك ما وقع لمسلمي الهند مع
الدولة الإنكليزية، فقد كان المسلمون هم حكام الهند، فسلبت هذه الدولة منهم الحكم
بجهلهم، فظنوا أن دينهم يوجب عليهم عدوانها عداوة سلبية بأن يجتنبوا مشاركتها
في شيء من أعمال الحكومة الإدارية والقضائية وأن يجتنبوا تعلم لغتها وعلومها
فكانت عاقبة ذلك أن أضاعوا ثروتهم وقوتهم فصاروا أفقر من الوثنيين والبرس
(أي الفرس) وأضعف؛ فهل هذا مقتضى السياسة الإسلامية التي تحفظ بها مصالح
الإسلام والمسلمين؟ كلا إن المسألة أكبر مما فهمه هؤلاء وأولئك فيجب درسها
وتمحيصها على الجامعين بين معرفة نصوص الشرع وحكمه ومعرفة شؤون العصر
على الأساس الذي وضعناه لهم.
__________(35/127)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الربا والزكاة والضرائب
ودار الحرب
(س 5 - 7) من صاحب الإمضاء في بيروت لصاحب الفضيلة الأستاذ
العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) المعظم.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فأرجوكم أن تتفضلوا بنشر أسئلتي المحررة أدناه مع الإجابة عليها في (المنار)
وتكرموا بقبول خالص الشكر ومزيد الاحترام.
(1) هل يجوز شرعًا وضع مال في أحد المصاريف الأجنبية، وأخذ ربا
عنه، ودفعه (أي الربا) إلى الحكومة عن الضرائب المتنوعة التي تفرضها وتجبر
الناس على دفعها؟
(2) هل يجوز دفع الضرائب - كأعشار الزروع وغيرها - إلى الحكومة
من أموال الزكاة؟
(3) متى يُدعى الأجنبي وأمته (أمة محاربة) بعرف الشرع؟ وما هي
(بلاد الحرب) ؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عزت المرادي
(المنار)
هذه المسائل من متممات المسألة الأولى من مسائل استفتاء جاوه الذي قبله،
ونجيب عنها بالإيجاز:
(5) أخذ الربح من المصارف الأجنبية:
إن الربا المحرم قطعًا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارًا
كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير؛ فهل الربح المسئول عنه كله من الربا
القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟
المشهور أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح
العام الذي تستغله منها، وهو أنواع أقلها ما هو من الربا الذي عرفه الإمام أحمد
وغيره من أئمة السلف، وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أنه كان
يكون للرجل على الرجل دين مؤجل فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به
زاده في المال وزاده صاحب المال في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية
وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها ولا للمودعين لأموالهم فيها.
وأما كونه بعض مالها المحرم في الإسلام، فمثله كثير من أموال الناس،
والعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر الذي قلما يوجد فيه
كسب يُلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام؛ فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟
فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم، لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في
الضرائب المحرمة - من باب دفع الفاسد بالفاسد - لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له
ذلك. ومن اعتقد أنه غير ربا شرعي قطعي لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم
الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون
بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء إنه حرام إلا إذا كان بيِّنًا
في كتاب الله بغير تفسير. ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في
ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينَّا حكم
الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل.
* * *
(6) دفع الضرائب من أموال الزكاة:
أموال الزكاة المستحقة على صاحبها لا يجوز دفعها إلا للأصناف التي
بينها الله تعالى في آيتها المعروفة] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [..
إلخ (التوبة: 60) ، وزكاة الزرع كالأعشار إذا أخذتها الحكومة تسقط عن
صاحب الزرع المستحقة عليه، ولكن لا يسقط عنه زكاة النقدين بدفعها إلى الحكومة
أداء لضرائب الظلم. وفي هذا الباب مشكلات تختلف باختلاف الحكومات:
إسلامية، وغير إسلامية.
* * *
(7) الأمة المحاربة التي تسمي بلادها دار الحرب:
دار الحرب مقابلة لدار الإسلام التي تكون فيها الحكومة الإسلامية التي تقيم
أحكام الإسلام، فكل أمة أجنبية لا تعقد حكومتها مع الحكومة الإسلامية معاهدة على
السلام والأمان وعدم الاعتداء تكون أمة محاربة، وتكون دارها دار حرب؛ لأن
الحرب فيها عرضة للوقوع في كل وقت؛ إذ لا عهد يمنعها، وللفقهاء تعريف لهما
لوحظ فيهما جريان الأحكام من الجانبين.
عقد العلامة ابن مفلح الفقيه الحنبلي فصلاً وجيزًا لهذه المسألة في كتابه
(الآداب الشرعية) قال فيه ما نصه (ج 1، ص 231) : (فكل دار غلب عليها
أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفار فدار الكفر ولا دار
لغيرهما) . وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن ماردين: هل هي دار حرب أو دار
إسلام؟ - قال: (هي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الإسلام التي يجري
عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار،
بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة
الإٍسلام بما يستحقه، والأول هو الذي ذكره القاضي والأصحاب والله أعلم) . اهـ.
وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم
إمام المسلمين من البلاد، ودار الحرب عندهم ما يجري فيه أمر رئيس الكفار
(كلمة الكفار تشمل - في الاصطلاح الشرعي - غير المسلمين من كتابيين ووثنيين
ومعطلة) من البلاد كما في الكافي، وفي الزاهدي أن دار الإسلام ما غلب فيه
المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من الكافرين. ولا خلاف
في أنه يصير دار الحرب دار إسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها. وأما
صيرورتها دار الحرب - نعوذ بالله - فعنده بشروط:
(أحدها) : إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم، ولا يرجعون إلى
قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من أحكام الإسلام، كما يأتي في الحرة.
(وثانيها) : الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد
الإسلام يلحقهم المدد منها.
(وثالثها) : زوال الأمان الأول، أي لم يبق مسلم ولا ذمي آمنًا إلا بأمن
الكفار (أي غير المسلمين) ولم يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد
الذمة قبل استيلاء الكفرة. وعندهما لا يشترط إلا الشرط الأول.
وهو يعني بقوله (فعنده) الإمام أبا حنيفة، وبقوله: (وعندهما) أبا يوسف
ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ولفقهاء المذاهب أقوال أخرى في دار الإسلام ودار الحرب وأحكامها،
والأصل فيها أن دار الإسلام ما كان أهلها من المسلمين وغيرهم آمنين بسلطان
الإسلام وحكمه العدل، وجارية فيهم أحكامه؛ ودار الحرب ما كان أمانها وأحكامها
بسلطان غير المسلمين وغير أحكام الإسلام؛ سواء كانت بينهم حرب أم لا؛
فيدخل في دار الحرب ما كان حكامها من المعاهدين المسلمين، ولهذه المسألة فروع
مشكلة في هذا، فإنَّ بعض البلاد التي تسمى حكوماتها إسلامية لا تجرى فيها
الأحكام الإٍسلامية من حيث هي إسلامية، بل لها تشريع وضعي مخالف للشرع
الإٍسلامي يسمى باسم البلد أو القطر، ويسمى رئيس حكوماتها شارعًا، وتنفيذ
الأحكام باسمه؛ بمعني أنه هو الشارع والمنفذ لها بسلطانه واسمه، لا بحكم الله
واسمه، ولا نخوض في بسط هذه المسائل.
__________(35/131)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(س8 -10) من صاحب الإمضاء بدمشق الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) .
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإن الأمر قد أشكل علينا في بعض المسائل، ولم نعثر على شيء منها،
ونريد منكم أن تبينوا أحكامها بالتفصيل التام، ولم نر أحدًا نعتمد - بعد الله تعالى -
إلا جنابكم، وهاهي الأسئلة:
1 - ما حكم استعمال الذهب في الكتب الإسلامية وغيرها (أي تذهيب
الكتاب في الكعب) ؟
2 - ما حكم طبع الكتب للأديان الباطلة وتجليدها؟
3 - هل يجوز حفر الصليب على النحاس أو على الزنك، وطبعها بالذهب
على ظهر الكتاب؟
أفتونا، وانشروها في صفحات مناركم الغراء، ولكم الأجر والثواب على الله
تعالى، ودمتم للمسلمين ذخرًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي
... ... ... ... ... ... ... ... محمد منصور نجاتي
(8) تذهيب جلد الكتب:
تزيين الكتب المجلدة بطبع أسمائها وأرقام عددها، وغير ذلك من الزينة
بالمادة الذهبية المعروفة عند المجلدين - مباح لا يدخل فيما نهى عنه النبي - صلى
الله عليه وسلم - من الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا ما زيد على
ذلك خاصًّا بالذهب كما بيناه من قبل مرارًا في باب الفتاوى فلا نعيده.
* * *
(9) طبع كتب الأديان الباطلة وتجديد كتبها:
نشر الأديان الباطلة والمساعدة عليه إقرار لها والمساعدة على الدعوة إليها أو
معرفتها والاطمئنان بها فهو حرام، على الأقل في حال إنكارها والبراءة منها. وأما
الرضا بها واستحلال نشرها والمساعدة عليه فهو كفر.
* * *
(10) حفر الصليب على النحاس أو الزنك وطبعه:
الصليب شعار لدين غير الإسلام، فلا ينبغي لمسلم أن يساعد أهله على
إظهاره، ولا أن يعارضهم فيه في دار الإسلام؛ ولكن أهله قد يتخذونه علامة
لبعض مصنوعاتهم وتجاراتهم فلا يكون فيه إقرار لشيء من عقائد أهله ولا من
عباداتهم، ففي هذه الحالة لا يعد من يحفره في المعدن لإعلان تجاري مثلاً موافقًا
لشيء من دين أهله، ولا جانيًا على دينه هو.
__________(35/134)
الكاتب: محمد مصطفى المراغي
__________
حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
عزم جماعة من طبقات الأمة العالية والوسطى إقامة حفلة تكريم عامة لشيخ
الإسلام المراغي ابتهاجًا بعودته إلى مشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية بعد فترة
خمس سنين كادت تقضي على ما كان فيه من دين قويم وخلق كريم وعلم نافع،
وتجعله بيئة دسائس ورياء وفتن وأهواء وخرافات ونزغات مادية، فكانت كسني
يوسف السبع الشداد، وكان هذا العام بعودة المراغي كذلك العام الذي أغاث الله به
الناس، ذلك العام كان غوثًا من القحط والجدب الذي كاد يقضي على الحياة البدنية،
وجاه هذا العام غوثًا من الجهل وفساد الأخلاق الذي كاد يقضي على الحياة الدينية
العلمية.
ولقد سعى الأستاذ لصرف الناس عن إقامة هذه الحفلة، زهدًا منه في هذا
الظهور والشهرة، بيد أن الأزهر - علماءه وطلابه - لم يتسن لأستاذهم
ورئيسهم صرفهم عن الانفراد بإقامة حفلة باسمهم خاصة بهم، ورياسته عليهم
إسلامية من أقوى دعائمها اتباع الإجماع، وكانوا على التكريم مجمعين، والعلم
بإجماعهم كان نطقيًّا لا سكوتيًّا؛ لأنهم محصورون، فجمعوا النفقة المقدرة للاحتفال
من أنفسهم بنظام اختياري عادل، واختاروا للاحتفال أفسح مكان في مصر، وهو
معرض الجمعية الزراعية الذي تعرض فيه نتائج زراعة القطن وصناعاته، فراعوا
النظير بعرض نتائج العقول والفنون فيه، ودعوا إلى حضوره ألوفًا من رجال
الطبقات العليا والوسطى، وفي مقدمتهم أمراء البيت المالك والوزراء العاملون
والقاعدون، وكبار رجال القصر والدواوين، وممثلو الدول الإسلامية السياسيين،
ووضعوا من موائد الشاي وما يتبعه عادة من أنواع الحلوى والفطائر ما يسع المئين أو
الألوف: منها ما وضع للمتعارفين من جمع القلة، ومنها ما وضع للمتجالسين من
جمع الكثرة، ووضع للمحتفل به ولأعضاء لجنة الاحتفال مائدة في صدر المكان مزينة
بالرياحين والأزهار بجانب منبر الخطابة، وبجانبه الآخر موائد الأمراء والوزراء،
وأمام موقف الخطابة آلة المذياع الكهربائي (الراديو) ووضع في جو المكان
أصوار أو أبواق متفرقة من مضخمات الصوت لتسمع كل من فيه ما يُلقى على
المنبر كأنه بجانبه.
وكان وراء هذا المجلس الفسيح الخاص بالمدعوين مجلس آخر للألوف
المؤلفة من مجاوري الأزهر وهم مع علمائهم أصحاب الدعوة، وقد جلسوا بترتيب
ونظام تام كنظام الجيش الألماني.
ولما كمل الجمع أقبل الشيخ الأكبر فانتصب القاعدون وقوفًا إجلالاً له وتكريمًا،
وهتفت جيوش المجاورين دعاء وترحيبًا، ثم أديرت كؤوس الشاي على جميع
الموائد في وقت واحد، وتلاها الطواف بأكواب شراب الليمون والبرتقال المثلوج،
بنظام دقيق سريع، ولما فرغ الجموع مما لذ لهم وطاب أكلاً وشُربًا افتتحت الحفلة
بتلاوة أشهر القراء لآيات من الذكر الحكيم، ثم نهض رئيس لجنة الاحتفال صاحب
الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد اللبان فألقى خطبة الافتتاح، وتلاه الخطباء
والشعراء من علماء الأزهر ونابغي طلابه، وكان أولهم أشهر علماء الأزهر في
الخطابة الارتجالية والكتابة العصرية: صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور
الزنكلوني، فبدأ خطبته بما يعهد به من مراعاة مقتضى الحال، بصوته الجهوري
المعتاد، وما لبث أن هاجته ذكرى ما سامته المشيخة الساقطة من هضم، وما
أرهقته من عسر وظلم، وما انقلب إليه بانقلابها من عزة وكرامة في وقفته هذه
على أعين عظماء الأمة، ومرأى ومسمع من رجال الدولة، فإذا به وقد غلبه على
رأيه ورويته غاشية من مراقبة الله - عز وجل - شغلته عن المضي في خطبته
بمداراة خشوعه، وكفكفة دموعه، فمكث هنيهة يستنجد قلبه، ويستلهم ربه، فألهمه
حسن المخلص بتوجيه التهنئة على هذه النعمة إلى الأمة؛ لأن ظفر الأزهر ظفر لها،
وأن يكل أمر تكريم المراغي إلى الله الذي رفع ذكره، وأعلى قدره، ووضعه في
الموضع اللائق به، ومكنه من الإصلاح الذي خُلق له، وختم الخطبة بالدعاء
لجلالة الملك وولي عهده.
لا يتسع المنار لما تحيط به الصحف اليومية من وصف هذه الحفلة بالتفصيل،
ونشر ما ألقاه أعلام الأزهر فيها من الخطب والقصائد؛ وإنما الواجب عليه أن
يبدأ بنشر خطبة المحتفل به، فهي أفصحها لفظًا، وأبلغها معنى، وأصحها بيانًا لما
ينويه من الإصلاح، على منهج المصلح الأول الأستاذ الإمام - قدس الله روحه -
وجعله خير خلف له، فيما نوَّه به من رفع ذكره، وتخليد حمده وشكره.
* * *
خطبة الأستاذ الأكبر في حفلة تكريمه
حضرات السادة الأعزاء:
أحمد الله - جل شأنه - على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم،
وأشكر لحضرات الداعين المحتفلين بِرَّهم وكرمهم، وعاطفة الحب الفياض البادية
في قولهم وفعلهم، في شعرهم ونثرهم، ولحضرات المدعوين تشريفهم واحتمالهم
مشقة الحضور الذي أعربوا به عن جميل عطفهم وحبهم.
ويسهل عليَّ قبول هذه المنن كلها واحتمالها إذا أذنتم لي في صرف هذه
الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف،
الذي تُجلُّونه جميعًا وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الإسلامية في مصر وغيرها من
البلاد.
ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم فقد دل بالإشارة
والتبع على معانٍ أسمى من غرض التكريم.
دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها، ونهض يشارك الأمة
في الحياة العامة وملابساتها، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد، وهذه ظاهرة
من ظواهر تغيير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه، وعن
شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة يجب أن تدرس وتعرف،
وطرائق في التعليم يجب أن نحتذي ونهتدي بها. ومنذ أربعين سنة اشتد الجدل
حول جواز تعليم الحساب والهندسة والتاريخ في الأزهر وحول فائدة تعليمها لعلماء
الدين، ومنذ أربعين سنة قرأ لنا أحد شيوخنا كتاب الهداية في الفلسفة في داره على
شرط أن نكتم الأمر لئلا يتهمه الناس ويتهمونا بالزيغ والزندقة، والآن تدرس في
كلية أصول الدين الفلسفة القديمة والحديثة، وتدرس الملل والنحل، وتقارن
الديانات وتعلم لغات أجنبية شرقية وغربية.
ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة - والحديث حديث
الأزهر والأزهريين - ذلك الكواكب الذي انبثق منه النور، الذي نهتدي به في حياة
الأزهر العامة، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه،
ذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية والنشاط الفكري، ووضع المنهج الواضح
لتفسير القرآن الكريم، وعبَّد الطريق لتذوق سر العربية وجمالها، وصاح بالناس
يذكرهم بأن العظمة والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى ومكارم الأخلاق، ذلك
الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته، ولم تقدره قدره إلا بعد أن أمعن في
التاريخ، ذلك هو الأستاذ الإمام محمد عبده - قدس الله روحه وطيب ثراه - وقد
مر على وفاته ثلاثون حولاً كاملة، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين ونحن نتحدث
عن الأزهر أن نجعل لذكراه المكان الأول في هذا الحفل، فهو مشرق النور،
وباعث الحياة، وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتد الظمأ، والدوحة
المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير.
الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي
أوجد أممًا من العدم، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة، وكان له هذا الأثر الضخم
في الأرض، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه وأبنائه واجبات إنسانية، ويشعرهم
بفروض صورية ومعنوية، يعدون مقصرين آثمين أمام الله وأمام الناس إذا هم
تهاونوا في أدائها، وأنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم ولمعهدهم وأنفسهم
إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه، وأجادوا معرفة لغته، وفهموا روح الاجتماع،
واستعانوا بمعارف الماضين ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو
متصل بالدين، أصوله وفروعه، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال
بآراء العلماء والاستزادة من العلم، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي
لا تعرف اللغة العربية، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه، وإلى التساند التام
بين العلماء والطلبة والقوامين على التعليم، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي
مراحل السير في هدوء ونظام وجِدٍّ، وصدق نية، وكمال توجه إلى الله، وحب
للعلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله.
وللمسلمين في الأزهر آمال من الحق أن يتنبه أهله لها:
أولاً - تعليم الأمم الإسلامية المتأخرة في المعارف وهدايتها إلى أصول الدين،
وإلى فهم الكتاب والسنة، ومعرفة الفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام ورجاله، وقد
كثر تطلع هذه الأمم إلى الأزهر في هذه الأيام وزاد قاصدوه منها أفرادًا وجماعات،
واشتد طلبها لعلماء الأزهر يرحلون إليها لأداء أمانة الدين وهي بيانه ونشره.
ثانيًا - إثارة كنوز العلم التي خلفها علماء الإسلام في العلوم الدينية والعربية
والعقلية، وهي مجموعة مرتبط بعضها ببعض، وتاريخها متصل الحلقات، وقد
حاول العلماء كشفها فنقبوا عنها وبذلوا جهودًا مضنية، وعرضوا نتائج بعضها
صحيح وكثير منها غير صادق، وعذرهم أنهم لم يدرسوا هذه المجموعة دراسة
واحدة، على أن بعضها متصل بالآخر كما هو الحال في دراسة الأزهر، فإذا وفق
الله أهل الأزهر إلى التعمق في دراسة هذه المجموعة دراسة قديمة حديثة، ودراسة
المعارف المرتبطة بها، وأتقنوا طرق العرض الحديثة - أمكنهم أن يعرضوا هذه
الآثار عرضًا صحيحًا صادقًا بلغة يفهمها أهل العصر الحديث؛ وإذ ذاك يكونون
أداة اتصال جيدة بين الحاضر والماضي، ويطلعون العالم على ما يبهر الأنظار من
آثار الأقدمين، وأعتقد أن التعليم الأزهري على النحو الذي أشرت إليه هو الذي
يرجى لتحقيق الأمل، وأنه مدخر لأبنائه إن شاء الله.
ثالثًا - عرض الإسلام على الأمم غير المسلمة عرضًا صحيحًا في ثوب نقي
خالٍ من الغواشي المشوِّهة لجماله، وخالٍ مما أدخل عليه وزيد فيه، ومن الفروض
المتكلفة التي يأباها الذوق ويمجها طبع اللغة العربية.
رابعًا - العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها، فإن
الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرقة، ومعروف لدى العلماء أن
الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي يهدي إلى
الحق في أكثر الأوقات، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في
القرون الماضية لمناصرتها، ونشطت أهلها وخلقت فيهم تعصبًا يساير التعصب
السياسي، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسة وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا
على ما يصوغه الخيال وما افتراه أهلها، وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها
القرآن، وجعلتها شيعًا في الأصول والفروع، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء
يلبسان ثوب الدين، ونتج عنه سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد
الشافعي غير كفء لبنت الحنفي، ومثل ما يُرى في المساجد من تعدد صلاة
الجماعة، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة، وعذبات
العمائم، وطول اللحى حتى إن بعض الطوائف لا تستحيي اليوم من ترك مساجد
جمهرة المسلمين، وتسعى لإنشاء مساجد خاصة.
من الخير والحق أن نتدارك هذا، وأن يُعنَى العلماء بدراسة القرآن الكريم
والسنة المطهرة دراسة عبرة وتقدير، لما فيها من هداية ودعوة إلى الوحدة؛ دراسة
من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه، وتجعل المؤمن رحب الصدر هاشًّا
باشًّا للحق، مستعدًّا لقبوله، عاطفًا على إخوانه في الإنسانية، كارهًا للبغضاء
والشحناء بين المسلمين.
قد أتهم بأني تخيلت فخلت، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود،
ولفت النظر إليها، وفضل الله واسع، وقدرته شاملة، وما ذلك على الله بعزيز.
الآن - وقد أوضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر - ترون أيها السادة
أن العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل، فإنه في حاجة إلى العون
الصادق من كل من يقدر على العون، إما بالمال أو العقل، أو بالمعارف والتجارب،
وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين إذا أتت الجهود بهذه الثمرات
الطيبة المباركة.
أيها السادة:
أكرر لكم شكري، وأبعث من هذا المكان، وفي هذا الجمع المبارك، تحية
الأزهر إلى العالم الإسلامي وإلى دور العلم ومعاهده، وأتشرف برفع ولاء الأزهر
إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الجالس على عرش مصر الملك فؤاد الأول،
وصاحب الفضل العميم في الأزهر في العصر الحديث، أدام الله عزه ومتع جلالته
بالصحة التامة والتوفيق الدائم، وأقر عينه بحضرة صاحب السمو الملكي أمير
الصعيد ولي العهد المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *
خطبة الأستاذ الكبير الشيخ
عبد المجيد اللبان
رئيس لجنة الاحتفال
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرات أصحاب السمو..
حضرات أصحاب الدولة والمعالي..
حضرات السادة ...
أحييكم أطيب تحية، وأشكر لكم أصدق الشكر تلبيتكم دعوتنا، فقد برهنتم
بذلك على ما للأزهر من المنزلة الرفيعة في نفوسكم، والمكانة السامية في قلوبكم،
وضاعفتم معنى التكريم الذي أراده الأزهريون لشيخهم من إقامة هذه الحفلة الكبرى؛
إذ أعلنتم بهذا الاشتراك أن مقام المشيخة الإسلامية الذي يرقاه حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي هو هو مقام الرياسة الدينية
العظمى، الذي يحيطه المصريون بمظاهر الاحترام والإجلال، ويتوجه إليه
المسلمون في شؤون دينهم بأسمى الآمال، كما يدل اشتراككم على أن مصر ممثلة
في صفوة أولي الرأي من رجالها، تعرف ما للأستاذ المراغي من أيادٍ بيضاء على
التعليم الديني، وجهود بارزة في سبيل إصلاح المعاهد الدينية وإعلاء شأنها، وإني
باسم الأزهر وباسم لجنة الاحتفال التي شرفتني برياستها، أرحب بكم وأحيي من
قلبي تلك الرابطة الوثيقة التي تربط الأزهر بهذا الوطن العزيز وبالعالم الإسلامي
أجمع، وأحيي هذا الشعور النبيل الذي يتجلى نحو هذا المعهد الديني الأكبر في
جميع المناسبات.
حضرات السادة:
أنشئ الجامع الأزهر من نحو ألف عام وتاريخه في هذا الزمن الطويل،
يكاد يكون تاريخ الحياة العلمية والدينية والاجتماعية لمصر ولسائر بلاد العالم
الإسلامي؛ إذ كان هو مصدر العلوم ومقر الدراسات لهذه البلاد جميعها [1] ، ثم
طرأت بعد ذلك طوارئ كان من أثرها هذا التحول في الحياة العامة، وفي أساليب
التعليم واتجاهاته، وزخر تيار هذه الاتجاهات الجديدة، وزاحمت الأزهر بمالها من
قوة الشيء الجديد، وكاد الأزهر وسط هذا التطور العام ينفصل عن البيئة المصرية،
وتصبح تعاليمه السمحة مقصورة على رجاله، وأوشك - بفعل الزمن - أن
يصير وطنًا مستقلًّا في قلب هذا الوطن، وكادت فائدته تخفى على بعض الناس،
وشعر الأزهريون أنفسهم أنهم يبتعدون عن شعب مهمتهم الكبرى إرشاده وهدايته،
وينفصلون عن مجتمع عملهم في الحياة تهذيبه وتثقيفه، وإذ ذاك لاحت بارقة أمل
خلال جهود المصلحين في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ثم جاء عصر
جلالة مولانا الملك المعظم فتوجهت عنايته السامية إلى إصلاح الأزهر والمعاهد
الدينية إصلاحًا شاملاً، فوضعت له الأنظمة واللوائح الحالية، وقسمت الدراسات
العالية فيه إلى كليات تقوم كل واحدة منها بنوع من الدراسات الإسلامية والعربية
على نمط جامعي، خشي معه بعض الناس أن يتحول الأزهر عن تقاليده ومميزاته
إلى نظام المدارس المدنية، لكنهم ما لبثوا أن شهدوا معجزة الأزهر تبرز أمام
العيون واضحة جلية، فإذا العلوم والفنون الأزهرية التي استقرت في كتبنا القديمة
تتحول إلى دراسات عصرية منظمة محتفظة بطابع الأزهر في دقة البحث، وعمق
التحليل، وإذا أساتذة العلوم المستحدثة في النظام الجديد المنتدبون لذلك من الجامعة
المصرية والمدارس العالية يلقون محاضراتهم المختلفة في كلياته بجانب شيوخه،
وإذا عقول الطلاب تتسع للجديد الطريف وللقديم العتيد في ثوبه الجديد، وبهذا أخذ
الأزهر يسترد زعامته الأدبية والعلمية بعد أن نافسته معاهد استمدت حياتها منه.
وللأستاذ المراغي في تأسيس هذا النظام عظيم الفضل، ولجهوده كبير الأثر في
تكوينه.
أيها السادة:
أترك لحضرات الخطباء والشعراء بعدي تفصيل الكلام على فضل الأستاذ
الأكبر وجليل أعماله، وأختم كلمتي بالتوجه إلى الله تعالى بالحمد والثناء على
توفيقه وجميل رعايته، وأضرع إليه - جل شأنه - أن يهب الأستاذ الأكبر التوفيق
في عمله، ويرزقه السداد والحزم في رأيه؛ ليحقق بالأزهر وفي الأزهر ما ينشده
العالم الإسلامي من إصلاح بفضل ما يسديه جلالة الملك المفدى من رعاية،
ويخص به الأزهر من عطف وعناية.
أدام الله جلالة الملك ذخرًا للوطن العزيز، ممتعًا بالصحة الكاملة، وأبقاء
حاميًا للعلم والدين، وأقر عينه بسمو ولي عهده المحبوب أمير الصعيد، آمين.
__________
(1) في هذه الدعوى غلو وشطط، وقد أشرنا إلى الحق في موضوعه في كتاب (المنار والأزهر) .(35/136)
الكاتب: أحمد محمد شهاب
__________
إلى فضيلة الأستاذ الأكبر
بمناسبة خطابه في حفلة التكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ
الجامع الأزهر.
لله أنت فيما ملكت من القلوب، وما مُنحت من التوفيق، وما أُلقي إليك من
مقاليد الأمم الإسلامية وتربية ناشئتهم وكهولهم وشيوخهم، فالله حسبك، ونعم المعين.
يعلم فضيلة أستاذنا الأكبر أن قلوبنا بحبه خافقة، وعيوننا إليه شاخصة، أكفنا
بالضراعة إلى الله بتأييده منبسطة نطلب إليه تعالى دوام توفيقكم، وإطالة عهدكم،
والبركة في عمركم، حتى تجددوا للأمة الإٍسلامية شبابها، وتعيدوا إليها مجدها،
لكي تتبوأ في مشرق الكرامة مكانها، وتلقي إليها الدنيا بزمامها فتعيدها سيرتها
الأولى، فقديمًا أشرق نور الإسلام وارتفع به صوت الداعي، والأمم من ظلمات
الجهل في تداع، طمست البدعُ المعالم، وتنافست الأمم في المظالم، فهامت في
أودية الضلال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .
والآن وقد دار الفلك دورته، لقد أرسلك الله في الناس داعيا إلى الصراط
المستقيم، هاديًا من طَغَتْ عليهم أوشابُ المدنية الحديثة إلى تفهم روح الدين
الصحيح تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه (إن الله ليبعث لهذه
الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) وإن الأمة لتصيخ لقولكم
وتتهافت على إرشادكم فما من خطة تختطونها، أو حكمة ترسلونها، إلا هبطت
علينا هبوط الماء على الظمآن، والأمن والسكينة على الخائف اللهفان.
سيدي الأستاذ الأكبر: إن أحب الأمور إلى قلوبنا العمل على وحدة الدين
والقضاء على تلك الفروق الخيالية، والعصبيات المذهبية، فتلك من وساوس
الشيطان للإنسان، حتى انتهى الأمر بنا إلى ما أشرتم إليه فضيلتكم في خطابكم
البليغ في حفلة التكريم (من أن ولد الشافعي كفء) لبنت الحنفي، وما نرى من تعدد
صلاة الجماعة في المسجد الواحد، وما نسمع من الخلاف في التوسل والوسيلة،
وعذبات وطول اللحى، حتى أن بعض الطوائف لا تستحي اليوم من ترك مساجد
جمهرة المسلمين وتسعى لإنشاء مساجد خاصة) .
نعم لا يستحيون لأنه (لا حياء في الدين) إننا وأيم الله يا سيدي الأستاذ نرى
هذا بقلوبنا ونحسه بعيوننا ويحز في نفوسنا، وما شيء أحب إلينا من جمع كلمة
المسلمين والقضاء على أسباب التفرقة بينهم، وليس وراء قوله تعالى مزدجر {إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) .
هذا بيت الداء، وأنتم أخبر بالدواء، ها هي (ذي) الأمة ألقت إليكم قيادها
وها أنتم (أولاء) وضعتم يدكم المباركة على سكان السفينة لتقودوها إلى شاطئ
السلامة إنه لا شيء أغلى وأعز من الدين (دينك دينك إنما هو لحمك ودمك) ألا
وإن الدين قد ذهب، ألا وإنه لم يبق منه إلا الصلاة كما أخبر الصادق المصدوق
(آخر ما يبقى من دينكم الصلاة فمن ضيعها فقد كفر) ألا وإننا قد أضعنا الصلاة،
ومن أداها فقشر ظاهر لا لب فيه، ألا وإن البدع تفسد العلم كما يفسد الخل العسل،
هذه البدع عمت المساجد وتخللت الصلاة، وإنني لا إخال فضيلتكم إلا ذاكرين ما
حدث من ابن عمر رضي الله عنه، ففي المأثور عنه أنه كان سائرًا بالكوفة فمر على
مسجد وسمع المؤذن ينادي بالصلاة فدخل وأخذ يركع تحية المسجد، فلما فرغ
المؤذن من الأذان، ورأى الناس خارج المسجد وقف ببابه وقال: حضرت الصلاة
يرحمكم الله، فسلم ابن عمر رضي الله عنه وخف وأخذ حذاءه وانصرف من
المسجد تاركًا الجماعة، قائلاً: والله لا أصلي في مسجد فيه بدعة، رحم الله ابن
عمر ماذا كان يبدي ويعيد لو بعث اليوم ورأى صلاتنا؟
سيدي الأجلّ: ليت الأمر وقف عند ابتداع البدع في المساجد والصلاة وما
يسبقها ويلحقها ولم يمس جوهر الصلاة، ولم يهدم أركانها هدمًا، ويطمس معالمها
طمسًا: تقصير مخلّ، نقر كنقر الغراب، يسرقون من صلاتهم فهم أسوأ الناس
سرقة، هذه منكرات يجب على من رآها أن يزيلها فإن لم يستطع فليزُل عنها.
هذا ما حمل بعض المتمسكين بدينهم على الفرار بصلاتهم إلى مسجد من
أرض الله يقيمون فيه الصلاة: الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكقوله للرجل الذي صلى بين يديه مرات:
(ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ) فقال الرجل في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن
غيرها فعلمني فعلمه. فالمسيء صلاته شر من تارك الصلاة، إذ تارك الصلاة
معترف بتقصيره عالم أنه ظالم لنفسه فترجى له التوبة والإنابة ويحظى بالمغفرة
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:
110) أما المسيء صلاته والمدخل فيها البدع فإنه يعتقد عن جهل أنه يتقرب إلى
الله تعالى بصالح الأعمال وأحبها إليه، غافلًا عن إساءته فيها وضلال سعيه، فأنى
ترجى توبته من عمل هو في نظره خير الأعمال؟ فيبقي كذلك حتى يلقى الله تعالى
وقد خسر عمله {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 103 - 104) فإن لم
يشملهم النص فلا يعدوهم الوعيد.
إن الصلاة لو أُديت على وجهها المشروع كان لها السلطان الأكبر على
النفوس ورقتها وهذبتها ووقتها شر الهلع والجزع، وأعدتها للقيام بجلائل الأعمال
والتحلي بجميل الخصال، والمثابرة في سبيل الحقوق المشروعة على النضال،
وجعلت كل مصلٍّ ينصف أخاه من نفسه، ويعمل لغده ويحاسب نفسه على أمسه.
بهذا تقل الجرائم ويغلق باب السجن ويستريح القاضي، ويكون الدين بحق مستودع
القوة التي ترهب الأشرار وتصد غارة الأشقياء، وتجعل الناس يحافظون على
حقوق بعضهم البعض، ولا يحتاج الأمر إلى قانون المراقَبين والمشبوهين، إذ الكل
يشعر بمراقبة العلي الكبير، فيحافظون على أموالهم، وأرواحهم وأعراضهم،
وينقرض الفساد، وتسود الطمأنينة البلاد] إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَر? [ (العنكبوت: 45) .
والمأمول من فضيلتكم أن تبينوا كتابة وبواسطة الوعاظ والمرشدين حقيقة
الصلاة وما يجب أن تكون عليه الجماعات في المساجد وأئمتها ورؤساؤها وما يجب
عليهم من رعايتها وتطهيرها من مفاسد البدع، ومن الأدعية المبتدعة، واللغو
والتشويش على المصلين فيها.
إنك يا سيدي إن عملت ذلك - وأنت خير من يعمل - قدِمت إلى الله يوم
الدين بخير زاد {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ
تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 17 - 19) .
فالأمر الآن بين يديك ولا سلطان في الدين لأحد عليك، وما المرء بمستطيع في
كل حال أن يقوم بجلائل الأعمال: فأئمة المساجد ورؤساؤها رعاتها (وكلكم راعٍ
وكل راعٍ مسئول عن رعيته) {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162 -
163) .
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شهاب
... ... ... ... ... ... رئيس نقطة صفط الخمار ببوليس المنيا
__________(35/145)
الكاتب: عبد السميع البطل
__________
تفسير المنار
الجزء الثاني عشر
للسيد الإمام محمد رشيد رضا (رضي الله عنه)
يحزنني أن أقرظ هذا الجزء ونحن في مأتم السيد رشيد رضا، ولا نزال
مأخوذين بدهشة الخبر، وكأننا في حلم مفزع لا أمام حقيقة صادعة، ولا أمام
جرائد تفيض جداولها بالنعي والتأبين، ولا بين معزين من مختلف الطبقات يذرفون
الدمع الهتون، ويتوجعون لمصيبة المسلمين بفقد الراحل الكريم، ويتحدثون عن
الفراغ الذي تركه، وأنهم لا يجدون من يملؤه، فقد كان السيد الإمام - رحمه الله -
ملء السمع والبصر، وكان الحجة الثبت، والمفزع الذي تطمئن إليه النفوس
الشاردة من وساوسها، وتهدأ به القلوب الواجفة مما يحيك فيها؛ فتجد برد اليقين،
وتشعر ببشاشة الإيمان. يجزنني أن أقدم للأمة الإٍسلامية هذا الجزء من التفسير
وأنا في هذه الحالة النفسية التي لم أرها من قبل، على كثرة النوازل والفواجع،
ولكن كل المصائب تهون وتتضاءل أمام مصيبتنا في الراحل العزيز، أحسن الله
نزله، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وبعد:
فتفسير المنار أشهر من الشمس، وأبين من فلق الصبح، يعلن عن نفسه
بنفسه، وقد قرَّظه العلماء والفضلاء في الشرق والغرب، وأثنوا عليه بما هو أهله،
واتخذوه مرجعًا لهم، بل استغنوا به عن كل التفاسير التي تُقتنى، وهو الآن عمدة
المحققين من علماء الأزهر وغيرهم.
ولست الآن بصدد الكلام على مزاياه ومجموعة ما انفرد به عن كل كتب
(التفسير) فذلك له مقام آخر، غير أن الذي أريد أن أعجل للقراء به ونحن في هذه
المحنة القاسية - أن أذكر لهم بعض ما امتاز به الجزء الثاني عشر، وهو آخر
الأجزاء التي أنجز طبعها السيد المبرور، أحسن الله جزاءه، ورفع في الجنة
درجته؛ فقد امتاز هذا الجزء على صغر حجمه بالنسبة لسوابقه بتحقيقات انفرد بها،
كالكلام على حكمة التحدي بالسورة الواحدة وبالعشر، وهنا يفيض السيد إفاضة
يتجلى فيها روح الإلهام الصحيح، والنظر الصادق، فترى من التحقيقات في
الموضوع ما لا ترى في كتاب آخر، فإذا أنت انتقلت إلى آية الطوفان: {وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) أطلعك على ما في الآية من
بلاغة روحية تهتز لها النفس، وتلمس بصدق جانب الإعجاز في الآية الكريمة،
ويبطل عجبك من تأثير القرآن في نفوس العرب، ذلك التأثير العجيب الذي بدَّلهم
في سرعة لم يعهد لها نظير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ورفعهم من
الحضيض الأوهد إلى الذروة؛ فكانوا مشاعيل الهداية، ومعلمي الأمم، وقادة
الشعوب بالحق والعدل والعلم، نعم يبطل عجبك فالقوم كانوا مرهفي الحس،
سليمي الذوق، وكانت اللغة لغتهم، وهم أعلم بمرامي الكلام ووقعه وتأثيره، فلا
عجب أن كانت هذه البلاغة العالية الأخاذة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتأطرهم على
الإيمان أطرًا، فاستمع إليه - أثابه الله - يقول:
(ما أفظع هذا المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق
السماء انهمارًا، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارًا، ماء ثجاج، يصير
بحرًا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها
وكواكبها، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين،
كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك
التنزيل، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر
الحكيم، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرًا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئًا
مذكورًا) إلى أن يقول: (قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في
الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي
وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة: المعاني والبيان والبديع) .
وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام لا ينافي بلوغ
كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز، ولا يعد من التفاوت المعهود في
كلام أشهر البلغاء: كأبي تمام، والمتنبي، وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية، ومن
بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلى وما بينهما، فآياته كلها في الدرجة العليا
المعجزة للبشر، وإن كان لبعضها مزية على بعض، كما تراه في تكرار القصة
الواحدة من هذه القصص، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي بعشر سور مثله
مفتريات من هذه السورة.
مثال ذلك ما نراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من
سياق هذه القصص كلها، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها، وبيانه أن الله
قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة - ومنهم مكذبو الرسل عليهم
السلام - كلها معجزة في بلاغتها، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم
والوعيد عليه نوعًا لا تجده في غيرها؛ لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في
الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين، وقد علم من أول القصة أنها
عقاب للظالمين بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في
أشد مظاهر هولها، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها بما
تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد
والطرد الذي يحتمل عدة معانٍ مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى، يمثل لك
هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله
في أمثالهم من أقوام الأنبياء على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في
البلاغة وعلم الأسلوب، وإحداثها الرعب في القلوب … إلخ. ثم عقد فصلاً، بل
فصولاً في نهاية القصة كان أحدها للكلام على ما في الآية من بلاغة اصطلاحية،
وإن من يقرأ العبارتين يتجلى له الفرق بين البلاغيتين؛ هنا يشعر بأسلوب يهز
أريحيته، ويملك عليه وجدانه، ويأخذ النفس من أقطارها، وهناك تشغله العبارة
والاصطلاحات الفنية عن المقصود من الآية وهو التأثير والعبرة؛ وبذا
تعرف مبلغ أثر القرآن في نفوس العرب.
وعلى الجملة لقد كتب السيد عدة كراسات في قصة نوح تصلح أن تكون
رسالة وحدها، ولا سيما الفصل الذي عقده لبيان غضب الله على عباده وعقابهم
ببعض ظلمهم وفسوقهم في الدنيا، دع ما ختم به سورة هود من عقد خلاصة وافية
لها، وهي سُنَّة انفرد بها المرحوم السيد وحده دون باقي المفسرين؛ فقد جرت
عادته أن يعقد خلاصة لكل سورة، يبين فيها مجمل ما اشتملت عليه من الأحكام
والحِكم والسنن الإلهية في الأفراد والأمم بأسلوب لا يتيسر لغيره.
ومن مزايا هذا التفسير تحقيق الحق في مسألة الهمِّ في سورة يوسف في قوله
تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: 24)
وهنا ترى في كتب التفسير خلطًا وخبطًا وحشوًا من الإسرائيليات تنافي الذوق
والعقل والشرع واللغة، وترى السيد يجرد قلمه لدحض كل هذه الأقوال، ويبين
الحق فيها بيانًا شافيًا تطمئن إليه النفس، كما جلى القصة للناس جلاء ظهرت فيه
وجوه العبرة منها، ونقاها من كل ما دسته الإسرائيليات فيها؛ ولذلك اقترح عليه
الكثيرون من الأفاضل طبع سورة يوسف على حدة، وقد فعل - رحمه الله -
وسيراها الناس قريبًا، إن شاء الله. ولولا خوف الإطالة لنقلت إلى القراء نموذجًا
من تحقيقاته في سورة يوسف؛ ليروا كيف يدرك المتأخر ما لا يدرك المتقدم، ولا
سيما في كتاب الله الذي لا يتناهى إعجازه. رحم الله السيد، وأحسن عزاء الأمة
العربية والعالم الإسلامي فيه.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
__________(35/149)
الكاتب: عبد الله أمين
__________
نعي فقيد الإسلام والمسلمين
السيد الإمام محمد رشيد رضا - منشئ المنار
(رضي الله عنه)
ننعي إلى الإسلام والمسلمين، إمام أئمة المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين
غير منازَع، وأحذق الأئمة المحققين السابقين منهم واللاحقين غير مدافَع، زعيم
أهل السنة العاملين، وأنفذهم بصيرة، وأرسخهم عقيدة، وألد خصوم البدعة
وأبطشهم بها يدًا وأثبتهم على قتالها قدمًا، علم الهداية الخفاق، وصوتها الرنان في
الآفاق، المتفاني في تحرير الشعوب الإسلامية لا من البدع والخرافات والأوهام
والضلالات حسب، بل منها ومن أغلال الاستعباد وقيود الاستبداد، وأخلص
المخلصين للإسلام والمسلمين، وعمدة الداعين إلى هدي الرسول الأمين محمد
صلى الله عليه وسلم - السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه، وجعل
جنة النعيم مستقرة ومثواه، آمين.
اختاره الحي الباقي لجواره حوالي منتصف الساعة الثانية من مساء الخميس،
الثالث والعشرين من جمادي الأولى، سنة 1354 هـ، الموافق الثاني والعشرين
من أغسطس، سنة 1935، ونعاه من عرف وفاته من أهله وأصدقائه إلى من لم
يعرفها منهم في القاهرة والأقاليم المصرية والأقطار الأخرى، ونعوه إلى الصحف،
ونعاه محط الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة في منتصف الساعة الثامنة مساء إلى من يبلغه
صوته من سكان المعمور، وصدرت الصحف هنا وهناك ناعية باكية مؤبنة مؤرخة،
وارتجت أنحاء القاهرة بهذا النعي وأُقضت المضاجع فيها، وانساب المعزون إلى
دار المنار عدد 14 بشارع الإنشا جنوبي وزارة المعارف مساء الخميس يوم الوفاة
وصبيحة الجمعة التالية له، حتى غصت بهم ساحة الدار والطريق الفسيحة أمامها.
وفي تمام الساعة العاشرة حمل النعش أبناء الفقيد في الهداية والعلم وساروا به،
وخلفه المشيعون، وفيهم أقطاب العلم والأدب في البلاد حتى مسجد السيدة الشامية
بشارع نوبار حيث صلى عليه المصلون جمًّا غفيرًا، ثم حمل على سيارة واستقلت
جمهرة من المشيعين سيارات إلى مدفن أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده في مقابر
المجاورين حيث دفن بجواره، وأبَّنه على قبره ثلاثة من الحاضرين وهمّ آخرون
بالتأبين؛ ولكن رؤي أن الزمان والمكان لا يتسعان له فطلب الكف عنه إلى وقت
آخر، واستمر الناس يفدون على داره أيامًا للتعزية.
وقد روعي في كل مراحل هذا الخطب العظيم من ساعة الوفاة إلى نهاية
التعزية السنة الشريفة النبوية.
وقد نعي الفقيد بعض الأقطار الإسلامية على المآذن، وصلى عليه كثير منها
صلاة الغائب، ولا سيما في المساجد الثلاثة: مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت
المقدس.
ولد السيد الإمام رضي الله عنه في جمادى الأولى سنة 1282 هـ، الموافق
1 أكتوبر سنة 1865 م في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر الأبيض المتوسط
من جبل لبنان تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال، حين كان جميع
أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواتري النسب، وقد اشتهروا إلى شرف
النسب بشرف الحسب وحسن السيرة، ويمتاز بيته الكريم فيهم بأنه بيت علم
وإرشاد وتقى ورياسة، وبأنه معقِد رجاء ذوي الحاجات، ومحط رحال العلماء
والأدباء والحكام والعظماء، ولذلك نشأ السيد الإمام رضي الله عنه عالي النفس،
كبير الهمة، محبًّا للعلم والتقوى والصلاح، ضاربًا في هذا وذاك بسهام صائبات.
تعلم في كتّاب القرية قراءة القرآن الكريم والخط وقواعد الحساب الأربع، ثم
أدخل المدرسة الرشيدية بمدينتهم طرابلس الشام، وكان التدريس فيها باللغة التركية،
فأقام فيها سنة، ثم انصرف عنها ودخل المدرسة الوطنية الإٍسلامية التي كان
يديرها أحد الساعين لتأسيسها أستاذه العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري، رحمه
الله، ولما لم تقبل الحكومة العثمانية أن تعدها من المدارس الدينية التي يعفى
طلابها من الخدمة العسكرية، ألغيت وتفرق طلابها، فذهب بعضهم إلى مدارس
بيروت المختلفة، وانقطع بعضهم لطلب العلم في المدارس الدينية في طرابلس
والفقيد منهم، فخف في طلب العلوم الدينية والعربية والعقلية ووضع وتلقى على
أقطابها وهم مشايخه حسين الجسر ومحمود نشابة وعبد الغني الرافعي هناك،
ولازم أستاذه الشيخ حسين الجسر دهراً طويلاً حتى أتم دراسته وبرع في العلم
والشعر والكتابة، وكان في إبان طلبه العلم منصرفًا إلى عبادة ربه، داعيًا إلى
الإصلاح حتى علا في بلاده ذكره، وضاقت به حريتها المخنوقة وميدان العلم
والإصلاح فيها، فهمّ بالاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق الأول ولم
يوفق، فقدم مصر، وفي اليوم التالي لقدومه اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده حكيم
الشرق الثاني وبقي ملازمًا له يأخذ عنه ما كان عنده وعند أستاذه من العلم والحكمة
ووجوه الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي , وأصدر أول عدد من مجلة المنار
في العشر الأخير من شوال لسنة 1315 هـ، مارس سنة 1897 م، وأخذ ينشر
فيه ما عنده وعند أستاذيه من علم وحكمة وهدى وإصلاح، ويشد بذلك وبالكتابة في
الصحف اليومية أزر أستاذه الإمام في دعوته حتى اختاره الله لجواره وبقي هو
وحده في الميدان بعد ذلك دهراً طويلا وفيًّا لأستاذه ولدعوته حتى اختاره الله هو
الآخر لجواره رضي الله عنهم وأرضاهم بعد أن صدر من مجلدات المنار أربعاً
وثلاثين مجلدة وجزءًا من الخامسة والثلاثين، وعدة كتب من إنشائه، وعدة كتب
من إنشاء غيره من المصلحين.
توفي السيد الإمام - أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والرضوان - عن نحو
اثنتين وسبعين سنة هجرية، أو نحو سبعين سنة ميلادية قضاها إلا قليلًا منها -
وهي سنوات الطفولة- في دراسة العلم ونشره بالكلام وبالكتابة، لا سيما العلم بالكتاب
والسنة وهدايتهما وأحكامهما وأسرارهما، وفي رياضة النفس على العمل بهما،
وعلى التحلي بالخلق الكريم الذي كان عليه جده الأعظم محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وفي الدعوة إلى سبيل الله وإلى الإصلاح، وفي محاربة أعداء الدين،
وردِّ الشبهات عنه، حتى بلغ في كل هؤلاء الذروة والغارب، وأصبح منقطع النظير
لا يشق له في ميدان من ميادينها غبار، ولا يدرك له فيها شأو.
وإن أعجب لشيء فعجبي العظيم لآماله الكبار في إعزاز الإسلام والمسلمين،
التي لم يخمد لها لهب ولم يهمد لها جمر، والتي شغلته العمر كله، وأنهكت قواه،
وأقامت العالم الإسلامي وأقعدته.
وكان أكبر همه - رضي الله عنه - مصروفًا إلى رد المسلمين إلى أصل
دينهم وهو الكتاب والسنة، وإلى تحريرهم من رق البدع والخرافات، وحمايتهم
من عقارب الفتن والشبهات، وسلّ من أجل ذلك حساميه: لسانه وقلمه وكلاهما أحدّ
من الآخر، وما زال يرمي البدع والخرافات والمشكلات والشبهات حتى أصاب منها
الكُلى والمفاصل، وكاد يجهز عليها لانحراف المسلمين بها عن الدين؛ ولأن هذا
الانحراف أصل بلائهم وذلتهم واستعبادهم. وما كان رضي الله عنه يقنع بهذا - وفي
هذا وحده الكفاية - بل كان يسعى ويجاهد ويشارك في تحرير الشعوب الإسلامية
من الاستبداد قولاً وكتابة وعملاً.
ومن أجل هذا وذاك هجر وطنه الشام إلى مصر وسافر إلى الأقطار الإسلامية
الشاسعة: الهند والعراق وتركية أوربا وبلاد العرب، بل وعلى أوربا نفسها لدعوة
علماء الإسلام وملوكه وأمرائه وزعمائه لما يعتقد أنه الحق، ولمشاركته من كان
على شاكلته منهم في السعي والجهاد لإحياء الإسلام والمسلمين.
ومن أجل هذا وذاك كان رضي الله عنه مغتبطًا كل الاغتباط بالمملكة العربية
السعودية؛ لأنها متوجهة حكومة وشعبًا للعمل بالكتاب والسنة في الشؤون الدينية
والدنيوية معاً، منصرفة كل الانصراف عن المنكرات والبدع والخرافات وهو ما
يريد أن يوجه العالم الإٍسلامي كله إليه ويصرفه عنه؛ ولأنها تقيم الدليل الحسيّ
العملي في هذا العصر المادي الطاغي على إمكان حياة الأمم حكومات وشعوبًا
بالكتاب والسنة حياة منزلية اجتماعية سياسية سعيدة، وبذلك يثبت ما يدعو إليه من
أن القرآن الكريم وما يوافق روحه من السنة الصحيحة أصل لسعادة البشر في الدنيا
كما أنه أصل لسعادتهم في الآخرة، وكان لا يدخر جهدًا ولا وقتًا في تأييد هذه
المملكة السعودية السعيدة ومحاربة خصومها بلسانه وقلمه وبمساعيه الحميدة.
ومن أجل هذا وذاك كان يحب آل سعود أعزهم الله وأيدهم بروح من عنده
حبًّا جمًّا، ويقعد للفرص التي يتمكن فيها من الاتصال بهم والإفضاء إليهم بكل ما
عنده من وجوه الإصلاح كل مرصد ويفترصها ولا يدع واحدة منها تفوته.
ومن أجل هذا وذاك كان حريصاً كل الحرص على أن يحتفي بتكريم سمو
الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية حين مروره بالديار المصرية عائدًا
من أوروبا إلى وطنه العزيز، ويمضي معه أكثر أوقاته ويختلي به ليفضي إليه بما
يجيش في صدره من وجوه الإصلاح.
وكان الفقيد - تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته - مصابًا في
آخر أيام حياته بعلة تعرف في الطب الحديث (بضغط الدم) وكان يعلم علم
اليقين أن خير وقاية تُتقى بها أخطار هذه العلة اجتناب الأعمال العقلية والجسدية،
وكان مهدداً بفتكها به، وقد جاءه نذيرها وكشّر له عن نابه وألقي عليه إنذاراً مفزعاً
وهو نوبة قاسية من نوباتها، وحذره الطبيب شرها.
وأشهد أني سألته في الأسابيع الأخيرة من حياته غير مرة عن صحته سؤال
محبٍّ مشفق يعرف هو مقاصده وأنه لا يخشي شيئاً خشية فقده، فكنت أفهم منه أنه
يجد في جسمه كله فتورًا وضعفًا، وكان ذلك يقع من نفسي أسوأ وقع.
وما كان يخفى على السيد الإمام رضي الله عنه - وهو حكيم من أرجح
الحكماء عقلا وأبعدهم نظرًا - أنه يستهدف بالمتاعب العقلية والجسدية للخطر
الأكبر وهو الموت الفجائي المقض لمضاجع الأحياء، ولكن إيمانه الصادق الراسخ
بالله سبحانه وتعالى - وما أصدق إيمانه وأرسخه - القائل وقوله الحق {قُل لاَّ
أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ
سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس: 49) وتعطشه الشديد الدائم إلى بذر بذور
الإصلاح وتعهدها دائمًا بمدارسة أهل الإصلاح، وولوعه الشديد بتأييد آل سعود،
كل هذا دفعه إلى بذل جهوده العقلية والجسدية بسخاء في الحفاوة بالأمير سعود،
وفي مدارسته إياه شؤون الإصلاح حين مروره بالديار المصرية عائدًا إلى وطنه
العزيز، ولم يستطع سمو الأمير - أعزه الله وأيد ملك والده بنصره المبين - ولا
بعض من معه أن يحملوا السيد الإمام رضي الله عنه على القصد في الجهود التي
بذلها على النحو الآتي:
استقبل سمو الأمير على رصيف الميناء في الإسكندرية في منتصف الساعة
الخامسة من مساء الاثنين، الثاني عشر من أغسطس سنة 1935، ساعة قدومه
مصر من أوروبا، ثم بات في الإسكندرية ورافق سمو الأمير منها إلى بنها يوم
الثلاثاء 13 منه وحضر فيها الحفلة التي أقامها لسمو الأمير الكاتب البليغ والخطيب
المصقع الأستاذ الجليل محمد توفيق دياب صاحب الجهاد، ثم عاد إلى القاهرة
واستقبله في محطها في أواخر الساعة الحادية عشرة من مساء الاثنين التاسع عشر
من أغسطس وكان المحط ساعتئذ غاصًّا بالمستقبلين حتى لم يبق فيه موضع لقدم،
وانغمس السيد الإمام في هذه الجموع المحتشدة مكرهًا وقد قال من رآه إنه تعب
كثيراً، وما كادت عين سمو الأمير - حفظه الله - تقع عليه حتى أخذه من يده
وسار به ولكن الزحام غلبهما على أمرهما وحال بينهما، وفي هذا ما لا يخفى من
التعب والضرر اللذين تعرض لهما السيد الإمام، رحمه الله.
وفي يوم الثلاثاء العشرين من أغسطس أخذ سمو الأمير يستقبل المهنئين
فسارع السيد الإمام إلى تهنئته، وتغذى معه ثم حضر الحفلة التي أقامها حضرة
صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا لسمو الأمير، ودعا فيها سموه لزيارة دار
المنار فتفضل بإجابته الدعوة وزارها يوم الأربعاء 21 منه، وكان السيد حريصًا
الحرص كله على أن يخلو بسمو الأمير ساعة يفضي إليه فيها بأشياء في نفسه من
شؤون الإصلاح فلم تتيسر له هذا الخلوة في دار المنار، فاتفق هو وسموه فيها على
أن تكون هذه الخلوة في (الذهبية) التي يقيم فيها سمو الأمير في فجر يوم الخميس
22 منه وهو يوم سفر الأمير، وعلى أن يرسل إليه سيارته تقله من دار المنار إلى
الذهبية وكان الفجر يومئذ على الساعة الرابعة صباحاً إلا دقيقتين، فجاءته السيارة
- رحمه الله - قبيل الفجر وهو يتنفل، ثم استقلها إلى الذهبية وكان فيها مع سمو
الأمير الدكتور فؤاد سلطان عضو مجلس الإدارة المنتدب ببنك مصر، والسيد محمد
الغنيمي التفتازاني شيخ السادة الخلوتية التفتازانية، ثم حضر بعده الأستاذ الجليل
محمد توفيق دياب صاحب الجهاد، فاختلى فيها السيد بالأمير ساعة أفضى إليه فيها
بما أراد وحينئذ استراح فؤاده وطابت نفسه وقرت عينه ولكنه أبى أن يقتصر في
الحفاوة بالأمير على هذا القدر المضني لأمثاله وهو في مثل حاله، ولم ينم أكثر ليلة
الخميس وعزم أن يودع سمو الأمير في السويس، ولم يقبل رجاءه ولا رجاء بعض
من معه في إعفائه من هذا العناء، وذهب إلى السويس في سيارة مع الذاهبين -
وما أشق السفر بالسيارات، فأقل ما فيه من مشقة أن يبقى الراكب في السيارة قاعداً
في وضع واحد لا يمكنه تغييره طول الطريق وما أطولها - ووقف على الرصيف
يودع سمو الأمير حيث أقلعت السفينة التي تقله وعاد أدراجه بالسيارة إلى القاهرة
من غير أن يلوي على شيء في السويس؛ وذلك لأعمال بدار المنار لابد من
إنجازها.
وبينما هو عائد يجتاز طريق السويس إلى القاهرة بالسيارة مع رفيقيه، وهما
إبراهيم أدهم بك زوج حماة سمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك عبد العزيز سعود
وهو تركي لا يحسن العربية، وزكي أفندي محمد ثنيان شقيق حرم سمو الأمير وهو
شاب يافع، وهو منصرف إلى تلاوة القرآن الكريم في المصحف كعادته في أواخر
أيام حياته كلما خلا من عمل أو كلام نافع، إذ شعر وهو في السيارة بدوار
فاستوقفها ونزل منها، وقاء ثم ركبها وسارت الهوينى، واستأذن زميليه أن
يضطجع واضطجع وظنه رفيقاه نائمًا فتركاه، وقبيل أن يدركوا مصر الجديدة أرادا
تنبيهه فإذا به جثة هامدة، فسارعا به إلى مركز الإسعاف بمصر الجديدة، وهناك
ثبت أنه رضي الله عنه قضى نحبه، فأحضر إلى داره وكان من أمر النعي
والتشييع والدفن والتأبين والتعزية ما بيناه في صدر هذا المقال.
وبعد، فهل مات السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار حقًّا؟ نعم مات،
إذ فارق روحُه الطاهر جسده الشريف، فأودع القبر هذا الجسد العزيز أما الروح
فبقي معنا وسيبقى ما بقيت هذه الدنيا إن شاء الله تعالى. بقي روحه الطاهر
متلألئًا باسمًا في أكثر من أربعين مجلدة من مجلدات المنار، وغيره من مؤلفاته،
وفيما اختاره وقام على طبعه وتصحيحه بنفسه من مؤلفات غيره الأحياء منهم
والأموات، وفي إخوانه وأبنائه الذين اقتبسوا من علمه واهتدوا بهديه وفي سيرته
التي نسج فيها على منوال الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضي الله عنه وعنهم
أجمعين.
فمن مجموع هذه الثروة التي تركها يمكن - إن شاء تعالى - أن يبقى المنار
حيًّا يمثل السيد الإمام رضي الله عنه ولو بعض التمثيل، وينشر ولو بصيصًا من
النور الذي بعثه السيد - رحمه الله - إلى مشارق الأرض ومغاربها، ويستمد حياته
ومادته من هذا المجموع، والنية معقودة - إن شاء الله - على إصداره واستمراره.
هذا ما وسعه المقام الآن من نعي السيد الإمام رضي الله عنه، وإن لهذا اليوم
ما بعده وإن لنا لعودًا على بدء، أحسن الله عزاء آل رضا، وعزاء إخوانه وأبنائه،
وعزاء الإسلام والعالم الإسلامي فيه، وأغدق عليه ما هو - إن شاء الله تعالى -
أهل له من سحائب رحمته ورضوانه، وجعله {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقا} (النساء: 69) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله أمين
(قلم التحرير)
كتب حضرة العالم الأديب الكبير كلمته هذه من أكثر من ستة أشهر لتنشر في
المنار، وها قد صدق فأله الحسن وصدر المنار بعد استيفاء المعاملات الرسمية
لإصداره. والله نسأل أن يوفقنا للاستمرار في خدمة أثر فقيدنا وفقيد الإسلام
والمسلمين.
__________(35/153)
الكاتب: علوبة باشا
__________
كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف
في مهرجان الإصلاح الاجتماعي
أقامت (رابطة الإصلاح الاجتماعي) مساء يوم الجمعة 8 من ذي القعدة
مهرجانها في دار جمعية الشبان المسلمين برئاسة سعادة وزير المعارف الأستاذ
محمد علي علوبة باشا، وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم تقدم فضيلة الشيخ محمد
عبد اللطيف دراز فشكر بالنيابة عن جميعة الشبان المسلمين لرابطة الإصلاح
الاجتماعي عملها، وانتهز فرصة وجود سعادة الأستاذ علي علوبة باشا وزير
المعارف فشكر له حرصه على ترقية الشباب؛ لأنهم عُمُد الإصلاح، وقال: (إن
أُسّ الإصلاح هو الخلق والدين، ولا يصلح الشباب إلا بالخلق والدين) وطلب
من الوزير الجليل أن يجعل نظم التعليم مؤسسة على الدين والخلق، ولا يتم إصلاح
إلا إذا تقرر الدين مادة أساسية في جميع مراحل التعليم، وتمنى للوزارة النهوض
على أساس الخلق والدين.
فوقف سعادة الأستاذ محمد علي علوبة باشا وألقى الكلمة التالية:
إخواني، سادتي:
لم أجد فرقًا بين اليوم والأمس، ولا أعرف لي وصفًا إلا أني (محمد علي) من
قبل ومن بعد، أضيف إليّ اليوم تكليف في عنقي أرجو الله أن يوفقني للنهوض به،
ولقد دلتني التجارب وتاريخ قبل الإسلام وبعده على أنه لم ترق أمة بلا دين، ولا
فائدة من وطنية بلا دين، ولا دين بلا وطنية.
سادتي: صدق الشاعر الجاهلي الحكيم في قصيدته الخالدة، إذ يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا
والبيتُ لا يبنى إلا على عمدٍ ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
ما أصدق هذا القول على الأمم والجماعات، وما أصدقه على الأفراد أيضًا،
نعم على الأفراد.
ولا عجب في ذلك، فكما أن الأمم لا سبيل إلى نجاحها واستقرار أمورها إذا
اختلط فيها الحابل بالنابل، وتنوسيت كفاية المستنيرين، وكرامة الأكرمين، فكذلك
الأفراد، لا سبيل إلى إسعادهم إذا سادت فيهم أحط غرائزهم فخذلت أسمى مواهبهم:
العقل سيد الملكات، والخلق الفاضل سبيل السعادة، فهما وحدهما الجديران بأن
يسودا ويُهيمنا على الإنسان، كما يجب أن يهيمن أشراف القوم ومفكروهم على
عامتهم وسوادهم.
ولا سبيل إلى استقرار الأمور في نصابها إذا اختلط الأمر وتُرك الحبل على
الغارب، واستسلم كل إنسان لأهوائه ونزعاته، وتركها تستبد بخلقه وتطغى على
عقله، فإن مآل ذلك الخسران المحقق والبوار الذي لا شك فيه.
أيها السادة:
لعلكم تذكرون حكمة الرسول عليه صلوات الله وسلامة حين عاد من غزوة
بدر الكبرى فقال لصحابته قولته المأثورة: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر) يعني من جهاد الغزو إلى جهاد النفس ومغالبة أهوائها، وكبح جماحها
الثائر.
وإنما أذكركم بهذا لأبين لكم الحافز القوي الذي يحفزنا إلى تقديم هذا الواجب-
واجب الإصلاح وتقوم الأخلاق - على كل واجب آخر.
وما ذلك المهرجان الذي أقمناه بالأمس في مؤتمر الشباب الأخلاقي لنصرة
الخلق الفاضل القويم، ولا هذا المهرجان الحاشد الذي نقيمه اليوم للأخذ بناصر
الإصلاح والمصلحين، إلا مثلين من أمثلتنا التي أخذنا بها نفوسنا لنفع أمتنا وتسديد
خطواتها في طريق السعادة الحقيقية والخير العميم.
أيها السادة:
إن الإصلاح الاجتماعي غايتنا التي طوينا فيها أمانينا، وعلقنا عليها كل ما
نسعى إلى تحقيقه في إسعاد الأمة وإبلاغها أعلى درجات العزة والرفعة، وإن
الدعاية للأخلاق الفاضلة لهي أهدى سبيل يصل بنا إلى تلك الغاية المنشودة التي
تعلقت بها آمالنا ووقفت عليها جهودنا.
على أن الطرق المؤدية إلى ذلك المقصد الشريف، وتلك الغاية الموجودة
لتختلف وإن كانت لا تتناقض، والوسائل التي يتوسل بها المصلحون والدعاة إلى
الأخلاق لتتعدد وإن كانت تجتمع آخر الأمر وتأتلف تحت راية واحدة. فما أجدر
الدعاة إلى الأخلاق والمصلحين أن يجتمعوا في أول الطريق صفًّا إلى صف ما
داموا يعلمون علم اليقين أنهم متلاقون ومجتمعون آخر الأمر في الغاية والهدف.
لقد نشطت في هذه الأيام جماعات من الشباب الناهض، يروجون لأغراض
إصلاحية شريفة بوسائل شريفة، وأخذت تعقد اجتماعاتها في مختلف الأندية،
وتلقي خطبها في شتى المنابر، وتنشر آراءها على صفحات الصحف، وقد التفت
الجمهور حولها، وأنصت لقولها. فأوشكت هذه الجماعات المتباينة أن تتبوأ مقاعدها
اللائقة بشرف أغراضها، ونبل مقاصدها، ولقد ظللت أتتبع أخبار تلك الجماعات
بعين الرضا، مُكِنًّا لها في أعماق قلبي أكبر الترحيب، غير ضانٍّ عليها بكل ما
أملك من جهد؛ رغبة في تشجيعها وتقويتها، مرددًا قول شاعر إنكليزي ساغه
الأديب كامل كيلاني في شعر عربي:
قطرات المياه منها محيط ... وصِغار الحصى تُكوِّن أرضا
ودقيقاتنا تؤلف جيلاً ... بعد جيلٍ في إثره يتقضى
وقليل الجنان والحب مما ... يجعل الأرض جنة الخُلد خفضا
ثم جعلت أنعم النظر، وأطيل التأمل في هذه الجماعات المتشعبة، التي
اختلفت أسماؤها وأنصارها، واتفقت أغراضها ووسائلها؛ فوجدت أن لا مندوحة
من تضافر هذه القوة المشتتة، وتجمع تلك الروابط المتعددة؛ لتنضوي جميعها
تحت لواء واحد، فيتكون منها اتحاد قوي يوحد طريقها ويلائم بين خطاها، ويرسم
لها أعلام الطريق وسواه، فتمضي على اسم الله راشدة موفقة إلى الخير.
ولست أبغي بذلك أن تتفرق هذه الجماعات ثم تندمج في هيئة واحدة باسم
واحد، فإن هذا الاندماج يحد من نشاطها الفردي، ويفتر من عزيمتها؛ ولكني أريد
أن يكون الاتحاد لها بمثابة الأب أو القائد الأعلى، وتبقى هي على حالها؛ فلكل
جماعة نظامها، ولها استقلالها ونشاطها.
وإن ذلك ليذكي في هذه الجمعيات روح التقدم والنجاح بفض ما ينشأ بينها من
التنافس والتسابق، وهما دائماً أكبر دواعي النشاط والإقدام، وأقوى مشجع على
الاضطلاع بأنبل الفروض، وأعظم الواجبات.
ذلك - أيها السادة - رأيي، وتلك هي أمنيتي، ولست أرى هذا اليوم السعيد
الذي تتحقق فيه هذه الأمنية ببعيد، وما ذلك على إخلاص الشباب بعزيز.
أيها السادة:
إن جميع الأمم التي تقدمت في طريق الحضارة والحربية أشواطًا بعيدة لم
تصل إلى ما وصلت إليه من الرفعة، ولم تبلغ ما بلغته من المجد إلا بفضل نجاحها
الاجتماعي الذي تأسس على قوى متينة من الأخلاق، وارموا بأنظاركم نحو أية أمة
من كبريات الأمم تروا أن التفاضل بينها وبين غيرها في القوة والمنعة يمشي جنبًا
إلى جنب مع التفاضل في الرقي الاجتماعي، فإذا كانت أمنيتنا أن ننهض بهذه الأمة
نهوضًا حقًّا، فلنا بالأمم أسوة حسنة، وما علينا إلا أن نسعى لإصلاح كياننا
الاجتماعي إصلاحًا تقر به عين الخلق القويم.
أيها السادة:
إن وجوه الإصلاح الاجتماعي شتى، وليس من همي أن أفصل القول فيها
تفصيلاً بعد أن أجملته، فقد قام بذلك حضرات الأماثل الأعلام، الذين أخذوا على
عاتقهم - متفضلين - أن يحاضروكم الليلة في كثير من نواحي الإصلاح الاجتماعي،
وستكون هذه البحوث القيمة مع غيرها محل تمحيص وفحص لتكون نواة للنهضة
التي نسعى لتحقيقها وما وسعنا الجهد.
وقد عنيت في خطابي هذا أن أوجه أنظاركم إلى وجوب تنظيم جمعيات
الإصلاح التي نشطت في هذه الأيام، ووجوب اشتراك كبار القوم في العناية بها
وتشجيعها، والأخذ بناصرها؛ حتى تؤتي أكلها، وترجع على الأمة بأبرك الثمرات.
ويسرني ألا أختم كلمتي قبل أن أشكر لحضراتكم تفضلكم بإجابة دعوتنا لكم
لحضور هذا المهرجان، وأن أشكر حضرة الشاب النشيط سيد أفندي مصطفي
سكرتير رابطة الإصلاح الاجتماعي؛ فلقد كان له أكبر الأثر في تهيئة هذا
المهرجان، والله أسأل أن يهبنا الرشاد في القول والعمل، والسلام عليكم ورحمة الله.
__________(35/162)
الكاتب: محيي الدين رضا
__________
كلمة لا بد منها
بسم الله الرحمن الرحيم
رأيت أنه لابد من إصدار (المنار) ذلك الأثر الخالد الذي دوى صوته أربعين
عامًا في العالم مجاهداً في نشر الإصلاح، ومحاربة البدع والخرافات.
فتوكلت على الله وطلبت تجديد الرخصة باسم أكبر نجلي الفقيد السيد (محمد
شفيع رضا) حرسه الله، وبما أن سنه وعمره المدرسي لا يسمحان له بأن
يكون رئيسًا للتحرير مسئولاً، تقدمت أنا لهذا.
وإني أعاهد الله - سبحانه وتعالى - أن أبذل ما أستطيع من مالي ووقتي في
هذا العمل الجليل، وأدعو محبي فقيدنا العزيز من إخوانه وتلاميذه ومريديه إلى شد
أزري وإرشادي ومعاضدتي كلٌ بما يدخل في طاقته، والله ولي التوفيق.
ويرى القراء أن فقيدنا رضي الله عنه قد كتب أهم أبواب هذا العدد: التفسير
والفتاوى، فهما آخر ما خطّه قلمه، وسيرون في الأعداد القادمة كثيرًا من مذكراته
وآثاره.
وإني لأشكر سعادة رجل مصر والإسلام محمد طلعت حرب باشا فإنه -
حفظه الله - قدم للمجلة مساعدة يُشكر عليها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين رضا
__________(35/166)
الكاتب: محيي الدين رضا
__________
الوهابيون
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
همس في أذني بعض الحجاج المصريين ونحن في الباخرة (كوثر) في العام
الماضي أثناء تأديتي فريضة الحج، أن الوهابيين يمنعون الناس من الصلاة على
النبي، وإذا صلى أحد عليه أمامهم أنزلوا به عقابًا شديدًا. فقلت له: هذا وهم يود
إذاعته بعض رجال السوء من القالين للوهابيين، فقال: بل هو عين الحقيقة،
وسترى الأمر بنفسك.
ولما قابلت جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في يوم 12 مارس الماضي
لأول مرة وكان أحد العلماء يتلو على مسامعه تفسير القرآن، فلما انتهى المفسر من
التلاوة أخذ جلالته في سرد طائفة من فضائل الدين الإسلامي الحنيف، وكان إذا
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتبع اسمه بالصلاة عليه ولا يغفل عن الصلاة عليه
مرة مطلقًا.
وقابلت بعد ذلك حضرة العالم النجدي المشهور الشيخ عبد الله بن بليهد فقدم
إليَّ رسالة اسمها (جامع المسالك في أحكام المناسك) وضعها في مناسك الحج
توزعها الحكومة مجانًا، كما توزع رسالة أخرى وضعها الشيخ سليمان ابن الشيخ
عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأشرف الشيخ ابن بليهد على طبعها
فتصفحت الرسالة الأولى فلحظت أن الشيخ ابن بليهد يلتزم ذكر الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم في كل مرة يرد اسمه فيها، فقلت له: إن بعضهم يتهم
الوهابيين بإهمال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أراكم التزمتم
إيراد الصلاة عليه في كل مرة يرد اسمه الشريف فيها، بينما نرى غيركم لا يلتزم
ذلك، وبعضهم يضع حرف (ص) أو حروف (صلعم) ، فقال: إن وضع هذه
الحروف قبيح، والواجب أن يتبع اسم النبي بالصلاة عليه كما التزم ذلك العلماء
الموثوق بهم، وأورد أسماء طائفة من العلماء المتقدمين وما قالوه في هذا الباب مما
لا يحضرني الآن؛ لأنني أكتب هذه الكلمة بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على المقابلة.
ولما قابلت جلالة الملك في قصره بمكة في يوم 19 مارس الماضي مع وفد
الصحافة وتحدثنا مع جلالته وكنت أطرح الأسئلة عليه. قلت لجلالته: إنني ألحظ
أنكم تصلون على النبي في كل مرة يرد ذكره فيها ومع ذلك نرى بعضهم يتهم
الوهابيين بعدم الصلاة على النبي، فقال جلالته:
هذا أمر غريب جدًّا، كيف لا نصلي عليه؟ ومن الذي نحبه بعد الله أكثر من
نبينا صلى الله عليه وسلم، فوالله إنه أحب إلينا من كل شيء، وإنا نغار عليه
وندافع عن دينه كما نغار على حريمنا وأكثر، بل إننا نحب خلفاءه الراشدين،
ونحب كل خادم للإسلام ولا سيما الأئمة الأربعة، ونحن طلاب حق نتبعه أينما
وجدناه ونأخذ الصحيح في أي مذهب كان أو على يد أي عالم أتي به لا نفرق بين
أحد، وها نحن نحب تفسير ابن كثير ونعنى به كثيراً وصاحبه شافعي، وإذا نحن
جنحنا إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه فلأنه يعنى بحديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم أكثر من غيره من الأئمة كما هو معلوم. فهل بعد ذلك يقال عنا أننا لا
نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء بالدين الحق الذي ندين الله به؟ وتوسع جلالته في ذلك كثيرًا، وكانت أمارات التأثر بادية على محياه بجلاء تام.
وفي المدينة المنورة قابلت حضرة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم أمير المدينة،
ولاحظت أنه يلتزم الصلاة على النبي أيضًا فنوهت باتهام بعضهم للوهابيين بترك
الصلاة عليه، فانطلق يسفِّه مزاعم أولئك ويفصِّل القول بوجوب الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم، ومما قاله: إننا معشر الوهابيين نعتبر الصلاة والسلام عليه
في الصلاة ركنًا من أركان الصلاة لا تتم إلا به، بينما بعض المذاهب لا يعتبرها
ركنًا، وهذه حجة دامغة للمزاعم الباطلة.
فهذه أقوال ثلاثة من أقطاب الوهابية، بل هي أقوال جلالة الملك العظيم محيي
المملكة وحامي الجزيرة العربية كلها تقريباً، وأكبر علماء مملكته، وحاكم أشرف
إمارة من إماراته، أجمعت قولاً وكتابة على أن ما رُميت به الوهابية محض افتراء،
وإفك وبهتان.
_______________________
(1) فصل من كتاب " رحلتي إلى الحجاز " بقلم محيي الدين رضا، وقد أتمت طبعه مطبعة المنار، ويطلب من مكتبتها، وثمنه خمسة قروش صاغ، وعدد صفحاته 160 بقطع المنار.(35/167)
المحرم - 1354هـ
مارس - 1936م(35/)
الكاتب: محمد شفيع بن محمد رشيد رضا
__________
حفلة تأبين فقيد الإسلام
المرحوم السيد محمد رشيد رضا
في يوم الخميس 10 محرم سنة 1355
قالت جريدة (الجهاد) الغراء في عددها الصادر بتاريخ 11 المحرم:
أقيمت بعد ظهر أمس بدار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين المرحوم فقيد
الإسلام السيد محمد رشيد رضا برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر. وحضر الحفلة جمهور غفير من
رجال العلم والفضل والأدب، واعتذر صاحب السمو الأمير عمر طوسون لتغيبه،
وصاحب المعالي وزير المعارف لارتباطه بموعد آخر، وصاحب السعادة محافظ
العاصمة وغيرهم. وتلقت اللجنة برقيات وخطابات كثيرة من الأقطار العربية.
وافتتح الحفل بآي الذكر الحكيم، ووقف فضيلة الأستاذ الأكبر، وألقى كلمة
الافتتاح، وتعاقب بعده الخطباء على الترتيب الآتي:
الأستاذ حبيب جاماتي: حياة السيد محمد رشيد رضا.
فضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني: السيد رشيد المفسر (ألقاها
فضيلة الشيخ محمود شلتوت) .
الأستاذ محمد لطفي جمعة: السيد رشيد رضا واتصاله بالمستشرقين.
الأستاذ الحاج محمد الهراوي: قصيدة.
فضيلة الشيخ محمد العدوي: السيد رشيد رضا والإصلاح الديني.
الأستاذ عبد السميع البطل: السيد رشيد رضا ومدرسة دار الدعوة والإرشاد.
الدكتور عبد الرحمن شهبندر: الرابطة الشرقية.
الأستاذ عبد الله عفيفي: قصيدة.
كلمة الأسرة: ألقاها نجل الفقيد.
__________(35/185)
الكاتب: محمد مصطفى المراغي
__________
خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الحكمة هي الفقه في القرآن.
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها معرفة القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه
ومحكمه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه - وهي تفصيل للرواية الأولى عنه.
وروي عن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وعن غيره أنها معرفة ما في
القرآن من عجائب وأسرار.
ونحن نضم هذه الروايات بعضها إلى بعض فنقول: إن الحكمة هي الفقه في
القرآن، وذلك لا يكون إلا بمعرفة ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وحلاله
وحرامه، وما اشتمل عليه من عجائب وأسرار، وعبر وعظات، ونظم صالحة
للاجتماع، ومعانٍ سامية للأخلاق، وهذا محتاج إلى وسائل، أولها العقل الراجح،
والبصيرة النافذة، ودقة الملاحظة، وسعة الاطلاع على سنة الرسول صلوات الله
عليه، وأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، وآراء السلف الصالح، ومذاهب
الأئمة، ومعرفة أحوال المجتمع الإنساني، وأسرار تطوره، وخصائص البيئات
المختلفة، وروح العصور السابقة، ونتيجة ذلك كله هي الإصابة في القول والعمل
أو خلق يوجه الإرادة إلى أعمال الخير طبقًا للعلم الصحيح، فيصدر العمل نافعًا
موصلاً إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وقد كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطًا بعلوم القرآن، وقد رزقه
الله عقلاً راجحًا في فهمه ومعرفة أسراره وحِكمه، واسع الاطلاع على السنة
وأقضية الصحابة وآراء العلماء، عارفًا بأحوال المجتمع، والأدوار التي مر بها
التاريخ الإسلامي. وكان شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبيرًا
بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملمًّا بما في العالم من بحوث جديدة، وبما
يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة، ورزق
الخير الكثير.
وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها،
فني في خدمة دينه، وجاهد في الله حق جهاده، وأوذي في سبيل مبادئه، وصبر
وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه.
كان خصوم السيد رشيد ثلاث فرق: فريق الملحدين الذين لا يؤمنون بدين،
وفريق أهل الكتاب من غير المسلمين، وفريق من المسلمين الذين جمدوا على
أقوال الناس وابتعدوا عن معرفة السنن وعن هدي القرآن، وقد جاهد هذه الفرق
جميعها، ولقي من الفريق الثالث أشد العنت وأشد المقاومة؛ لأن بيده سلاحًا من
أشد الأسلحة خطرًا أمام العامة هو سلاح اتهام السيد رشيد بالكفر والزندقة في
الإسلام، والدليل بيد هذا الفريق قائم، وهو عدم موافقة السيد رشيد لمن يعتقدهم
العامة ويقدسونهم، وكيف يكون السيد رشيد على الحق مع أن فلانًا وفلانًا لا يقولون
قوله ولا يعملون عمله؟ وإقناع هؤلاء يحتاج إلى زمن طويل أطول من عمر السيد
رشيد، لكن الحق الذي يؤيد السيد رشيد أقوى من هؤلاء جميعهم.
لذلك ظفر السيد رشيد، وكثر أنصاره ومريدوه، بعد أن كان قليل الأنصار،
قليل المريدين، ووجد في الأوساط العلمية من اتخذ مبدأه وقفى على طريقه، ووجد
في العامة من تفتحت أعينهم للنور، وزالت عن قلوبهم غشاوات الجهل والباطل.
ولم يكن للسيد رشيد مبدأ جديد في الإسلام حتى يصح أن يقال إن له مذهبًا
ينسب إليه، بل كان مبدؤه مبدأ جميع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً
بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ،
وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضًا: تخير الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم
في مواضع الاجتهاد، وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله
سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر، فهو رجل سني سلفي، يكره التقليد،
وينادي بالاجتهاد، ويراه فرضًا على نفسه وعلى كل من قدر عليه.
من الحق أن نعد السيد رشيدًا من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في
إحياء السنة؛ ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث
والقراءة والتأليف، والفتوى والمناظرة، ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال
الصالحة قام بها احتسابًا، وأداها في سبيل الله.
فرحمة الله على السيد رشيد، وجزاه الله عن الإسلام أحسن ما يجازي به
رجلًا وهب حياته للعلم وللدين.
* * *
تعزية ملك العربية السعودية
وولي عهده
الرياض في 25 جمادى الأول سنة 1354
حكومة الحجاز
المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة
أسأله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاءكم بفقيد الإسلام والمسلمين، وأن
يعوضه عنا بجناته ورضوانه، وأن يعوضنا في الله من يقوم مقامه في خدمة هذا
الدين والدعوة إلى الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز
* * *
جدة في 25 جمادى الأولى سنة 1354
المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة
إن مصابنا ومصاب الإسلام بفقد والدكم السيد رشيد عظيم جدًّا، أسأله تعالى
أن يتغمده برحمته، وأن يعوضنا عنه خيرًا بفقده.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعود
__________(35/186)
الكاتب: محمد الهراوي
__________
قصيدة الأستاذ الهراوي
أي صرح هوى وحصن حصين ... ولواء طوته أيدي المنون
وكتاب في الرشد يهدي إلى الر ... شد وسيف مهند مسنون
مات رب المنار والأمر لله ... وما مات غير داع أمين
عاش لله مخلصًا في جهاد ... نصف قرن مبارك في القرون
ومضى باليراع يدعو إلى الحق ... وبالقلب واللسان المبين
لا يطيق السكون في حرج الديـ ... ـن ويمضي يرح أهل السكون
لم يدع راحة له أي حين ... وهو في حاجة لها كل حين
طاح بالقلب حين أودى به الجهد ... وجهد الغيور نار أتون
فقد العلم منه أي كتاب ... فقد الدين فيه أي معين
شعر الناس باحتياج إليه ... بعد أن لم يروا له من قرين
* * *
عز عن صاحب المنار حمى الشام ... وعز الأحساب في (قلمون)
بلدة في ذرى طرابلس قرت ... من طرابلس غرة في الجبين
بلدة أنجبت إلى الشرق قومًا ... هم نجوم الهدى وأسد العرين
غاب عنها منارها فتوارت ... من جوى الحزن بالسحاب الجون
بعثتني جماعة الفضل في مصر ... رسول القريض في التأبين
بعثتني لأندب العلم والدِّين ... وأبكيهما بدمع سخين
بعثتني وساقَها حسن ظن ... في ضعيف ينوء تحت الظنون
ولعمري لو لم تكن بعثتني ... لرأتني بالدمع غير ضنين
فلقد كان بي حفيًّا وكانت ... بيننا عروة الوداد المتين [1]
عقدت بيننا المودة قربى ... زاد توثيقها توالى السنين
شيبتني مواقف الحزن تترى ... ورثاء الخدين إثر الخدين
ووقوفي على الربوع الخوالي ... وبكائي المكان بعد المكين
والتياعي على أيامي تخلت ... عن حماها يد الكفيل المعين
ويتامى تذوق في العيش بؤسًا ... بعد خفض من الزمان ولين
برح الحزن والجوى بفؤادي ... قرَّح الدمع والبكا من جفوني
مَن مجيري مِن بعدها ومقيلي ... من وقوفي بطرْف باكٍ حزين
* * *
يا غريب الديار لم تفقد الأهل ... فما مصر غير أم حنون
جئتها عالمًا وطالب علم ... فتلقتك في الحشى والعيون
يا ربيب الإمام في مجلس العلم ... وفي موطن الهدى واليقين
كنتَ أوفَى بنيه حفظًا لذكرا ... هـ وأبقى على الوفاء المصون
لم تفارقه في الحياة وميتًا ... لم تفارقه في الثرى المسكون
فسلام عليك حيًَّا وميتًا ... وسلام على الإمام الدفين
الحاج محمد الهراوي
__________
(1) كان الفقيد يلقب الناظم بشاعر الشرق والإسلام.(35/189)
الكاتب: علي سرور الزنكلوني
__________
خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني
أيها السادة:
كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوي، وشخصية بارزة، امتد
صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض
الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية؛ لأن الأبحاث التي تعرض لها صاحب المنار،
وإن اتصلت بالشرق وبالإسلام اتصالاً قويًّا، فإنها متصلة بالغرب أيضًا؛ لأن
عيون الغرب لا تنام عن المسلمين ولا عن الشرقيين.
اشتغل صاحب المنار طوال حياته بقضية الإسلام وقضية العرب، وبما
يتصل بالإسلام من أمر الخلافة، وبما يتصل بالعرب من هجمات الاستعمار، ولم
تحرم مصر من زعامة السياسة في ظروفها المختلفة فكان بهذا كله لمصر، وللشرق
وللإسلام والمسلمين.
أيها السادة:
ليس في وسعي أن أوفي صاحب المنار حقه في مثل هذا الموقف، ولكني
أردت أن أساهم مع المساهمين؛ وفاء لحق الصداقة وتقديرًا لتلك الشخصية
النادرة.
عرفت المغفور له صاحب المنار منذ ابتدأ الأستاذ الإمام - رضوان الله عليه-
دروسه في الأزهر، ولم يكن صاحب المنار في ذلك العهد يدهشنا وجوده العلمي؛
لأن طلاب الشيخ جميعًا كانوا يغترفون من بحر واحد، وإن تفاوتت مراتب
جهودهم واستعدادهم.
ولم يكن لصاحب المنار ميزة في ذلك الوقت سوى أنه كان يكتب ما يلقيه
أستاذنا علينا، وقد كان مثل هذا العمل في نظر الأزهريين عملاً عاديًّا لا أثر
لموهبة خاصة، ولا لنبوغ ممتاز.
تآخينا وتآخى معنا السيد رشيد بحكم صلة الدرس العامة، وبقدرها، وكان
هذا لا يمنع بعضنا من توجيه النفس إلى السيد رشيد، توجيهًا خاصًّا كلما ظهر
السيد رشيد بموهبة ممتازة، قد يطول الحديث عنها؛ حتى هوجم الأستاذ الإمام في
آرائه الدينية والإصلاحية مهاجمة عنيفة، من كل القوى التي توافرت لها عوامل
الكيد والاستبداد، وإذا بالسيد رشيد يبرز في وجوده القوي لمناصرة خصوم الشيخ
بقلمه ولسانه، وينشر في مجلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته. وما كان يتلقاه من
دروس شيخه، وكان يعلق عليهم بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال
الفكر، وكذلك كان أمر السيد رشيد في كل ما كان يكتب من مقالات وما يدون من
أبحاث؛ لأن أسلوب الأستاذ الإمام خلق ممتازًا، وسيبقي ممتازًا.
مات الأستاذ الإمام، وللسيد رشيد في نفوس إخوان الشيخ وأبنائه منزلة سامية،
ومع سمو هذه المنزلة لم يخطر ببال أحد أن السيد رشيدًا سيرث الشيخ فيما كان
يدعو إليه، وأنه سيرتفع صوته في بلاد الإسلام الغائبة، ولكن أبى الله سبحانه إلا
أن يسير السيد رشيد بخطى واسعة إلى الأمام، وقدر الله لصوته وهو على منبر
مناره أن يدوي في بلاد الإسلام والشرق، ولم يعتر جهاده في سبيل العلم والدين بعد
وفاة شيخه مع كثرة المخاطر شيء من الوهن والفتور.
ولا جرم أن هذه الميزة هبة إلهية، لا تمنح إلا للقليل من أفذاذ الرجال؛ لأن
حياة الأستاذ الإمام كانت قوية في مصر وفي غير مصر.
لهذا كان بقاء صاحب المنار ثلاثين عامًا بعد وفاة شيخه في وجوده القوي
يصد عادية جيوش الباطل التي لم تفتر ولم تنم، دليلاً ملموسًا على أنه من الأفذاذ
الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد
رشيد العلمية لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء
والكاتبين.
أيها السادة:
إن لصاحب المنار - رحمة الله عليه - من حياته العلمية آثارًا كثيرة وجوانب
قوية، لا أستطيع أن أوفيها حقها.
وقد أردت أن تكون كلمتي فيه الآن مقصورة على علمه بالقرآن وبأسرار
القرآن؛ لأن صلتي به لم تتأكد إلا من درس التفسير على الأستاذ الإمام، ولأن
آثاره في تفسير القرآن هي أقوى الآثار وأظهرها في الإقناع والإلزام، ولأن مفسر
القرآن إذا أخلص وصدق استحق الثناء الخالد؛ لأنه بصدقه وإخلاصه يشرف
عقله على الوجود، وعلى ما وراء الوجود، وقد تحقق ذلك للسيد رشيد، رحمة
الله عليه.
فالقرآن كتاب الوجود، وكتاب ما وراء الوجود، وكل من جهله واتجه إلى
غيره مهما كان قويًّا في نظر نفسه، وفي نظر أمثاله، فحياته غير صادقة،
وسعادته لا ضمان لها، ولا استقرار، بل المسلمون إذا أخلصوا للقرآن فهمًا وعملاً،
وعرضوا جواهره السماوية على عقول البشر، فقد ملكوا كل شيء؛ لأن العقول
من مادة السماء، ومادة السماء إذا تركزت في الأرض محال أن تطغى عليها
شهوات النفس الترابية.
والإنسان إذا أهمل فهم القرآن والتبصر فيه، وقد أحاط بما في الأرض علمًا؛
فليس من الله ولا من الوجود الحق في شيء، فحصر العقل في جزء صغير من
الوجود يستخدمه في حياته المادية لا يصور الحقيقة، ولا يحقق معنى الحياة
والسعادة؛ إذ الحياة الإنسانية مسبوقة بوجود لانهائي، وبعدها وجود لانهائي.
ومن حق العقل أن يفكر طويلاً في ذلك الوجود اللانهائي، هذا لا يتم إلا بفهم
القرآن، ومن أجل ذلك يقول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ
الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7) ويقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) .
أيها السادة:
إن لأهل القرآن وأنصاره مرتبتين: المرتبة الأولى في فهم معانيه
الصحيحة وامتزاجها بالعقل والروح والنفس، فيشع منها النور والقوة بحيث يعملان
عملهما في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهذه هي مرتبة النبي صلى الله عليه
وسلم، ومرتبة الصديقين من أصحابه وأمته إلى يوم الدين.
المرتبة الثانية - هي فهم معانيه فهمًا صحيحًا، وامتزاجها بالعقل، وبالنفس
في أغلب أحوالها، وهذه هي مرتبة كبار العلماء والصالحين مع ما في كل من
المرتبتين من المنازل المتفاوتة بتفاوت الاستعداد، وصفاء الجوهر.
وإني أؤمن إيمانًا قويًّا بأن السيد رشيد قد تمت له المرتبة الثانية في أرقى
منازلها، وأرجو أن يكون له نصيب من المرتبة الأولى.
أيها السادة:
إذا علمتم أن القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب الوجود، تعلمون مقدار ما بذلته
وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم، ولا يتم للعقل استقصاء
كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائمًا، ولكن العقل يأخذ منه ما يستكمل به
وجوده، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه.
ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر؛ ولذلك كان تفسير
القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل، مع أن التفسير يجب أن يكون زبدًا
مستخلصًا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث، كما أن التفسير
الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل، لا يسمى على الحقيقة تفسيرًا للقرآن
الكريم، ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود
بالدلائل القاطعة، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس
في إنسانيتها الضعيفة المضطربة.
وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن وفي علاجه للأبحاث
الدينية، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث لا يتصل بالقرآن اتصالاً جوهريًّا إلا
بقدر ما تمس إليه الحاجة.
وكثيرًا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين، وما يستدلون به، ولكنه لم يترك
القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين، بل كان في
تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدًا للغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود.
وأول من فتح هذا الطريق وعبَّده الأستاذ الإمام رضي الله عنه، وقد سار فيه
تلميذه صاحب الذكرى شوطًا بعيدًا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة
والسلام، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءًا، وهي
أصعب أجزاء القرآن فهمًا واستنباطًا، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف
ومات على إثر تفسيره لها قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن
تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) .
ولقد فاجأته المنية والمؤمنون الصادقون، والعلماء المخلصون المستعدون لفهم
القرآن على وجهه وتذوق حلاوته وتلمس بعض وجوه إعجازه - هم وحدهم
الذين يقدرون خسارة العلم والإسلام الفادحة بفقد صاحب المنار.
وإذا كانت هذه هي منزلة السيد رشيد من تفسير القرآن الحكيم، وهو غاية
الغايات والشغل الشاغل للملأ الأعلى في السماء وفي الأرض؛ فماذا يبتغي آل
السيد رشيد له وأصحابه له من المنزلة الرفيعة؟
رحم الله السيد رشيدًا بقدر ما ضحى، وبذله من جهوده، وأفاض عليه
من كرمه الواسع ما يفيضه على المخلصين من حفظة كتابه، وأسكنه مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
__________(35/190)
الكاتب: عبد السميع البطل
__________
فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا
ومدرسة دار الدعوة والإرشاد
كلمة الأستاذ عبد السميع البطل
في حفلة تأبين الفقيد
إن طريقة الوعظ والإرشاد ليست من الصناعات التي يستطيع كل إنسان أن
يزاولها في مهارة وحذق، ولكنها ملكة من الملكات التي قد يحسنها قليل العلم،
ويتخلف عنها أكثر الناس تحصيلاً، وقد نشأ فقيدنا ونشأ معه الميل إلى وعظ العامة
وإرشادهم، بما كان يتصدى له أولاً في صدر شبابه من قراءة الدروس في قريته
القلمون من أعمال طرابلس الشام، ثم بما كان من إنشائه المنار ثانيًا، واستهدافه
بالإجابة على الأسئلة التي كانت تنحدر إليه كالسيل من الشرق والغرب، في
المسائل المنوعة، وجرأته وصراحته في تقديم النصيحة للملوك والأمراء وكبار
الحكام والعلماء - إحياء لسنة السلف - مما جعله أندى العلماء صوتًا، وأبعد
المصلحين صيتًا، وأسير المجددين ذكرًا، وأكثر الكتاب أثرًا.
وقد قويت رغبته في أن يتولى هو نفسه تربية طائفة من الشبان يصنعون
على عينه، يقوم بعضهم بواجب الدعوة إلى الإسلام، ورد شبهات المعترضين
عليه، متسلحين بما يتسلح به أمثالهم من رجال الدعوة في الأمم الراقية، من الجمع
بين علوم الدين، وما لا بد منه من علوم الدنيا، ويقوم الفريق الآخر بإرشاد
المسلمين إلى ما هو أجدى عليهم في دينهم ودنياهم، مع خبرة بحال العصر، وما
ينبغي أن يكون عليه المرشد من مسايرة الزمن.
كانت هذه أمنية تعتلج بنفسه منذ كان يتردد وهو طالب بطرابلس على مكتبة
المبشرين الأمريكيين، يقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم، ويجادل
قسوسهم.
وفي سنة 1327 كان الخلاف بين الترك والعرب مستمرًّا، فرأى أن يشخص
إلى الآستانة ليقضي على عقارب الفتنة، متوسلاً إلى ذلك باتصاله بكبار الدولة
هناك، وبما كان يكتبه من مقالات في جريدة (إقدام) وجريدة (كلمة الحق) ثم
في جريدة الحضارة، ولشيء آخر شغفه حبًّا، وكان مستهامًا به صبا، وهو تأليف
جماعة لإنشاء مدرسة للدعوة والإرشاد.
اختار إمامنا أن تكون الآستانة مشرق ذلك النور، ومبعث هذا الإصلاح،
وقبلة التأليف بين العرب والترك؛ ليكون المشروع بنجوة من مهابِّ السياسة
وأعاصير الفتنة، وفي الآستانة سلخ عامًا كاملاً، يروج للمشروع، ويقنع به كبار
المسئولين، فلقي أولاً ترحيبًا به ومعاضدة، وتقرر أن تكفله وزارة الأوقاف،
وتألفت الجماعة من كبار رجال الدولة للعمل وإعداده في تفصيل واسع لا محل
لبيانه هنا، ولكن بعض الأيدي كانت تعمل من وراء الستار للنهي عنه والنأي
عنه، فقضي عليه وهو جنين، وعاد فقيدنا من الآستانة - كما كان يعود منها كل
مصلح - ساخطًا ناقمًا، ولكنه لم ييئس من روح الله، فجدد السعي هنا بمصر،
وألف الجماعة، واختير أعضاؤها من أهل الفضل والغيرة، ووضع لها قانونًا من
أدق القوانين، وعلم بالأمر الخديوي عباس الثاني فأكبره، وأظهر رضاه عنه،
وارتياحه له، وأمدته الأوقاف بمبلغ من المال، ووعدت بمضاعفته، وتبرع له
كثيرون من ذوي الأريحية، وأجمع العقلاء على استحسانه - بله وجوبه - وفتحت
المدرسة أبوابها في 12 من ربيع الأول سنة 1330 تيمنًا بعيد ميلاد النبي صلى الله
عليه وسلم، وكان السيد وكيل الجماعة وناظر المدرسة، بل كان عقلها المفكر،
وروحها المدبر.
نجحت الفكرة إذًا بمصر، ولقيت معاضدة الأمير واستحسان العقلاء، ولكنها
لم تنجُ من إرجاف المرجفين، وأذى المفسدين، فلبس لها بعض الجرائد جلد النمر،
وترصدها دعاة النصرانية، وأنذرت القناصلُ دولَها عاقبتها، أن مدرسة أنشئت
بمصر سيكون لها من الأثر في تنبيه المسلمين ما سيكون خطره عظيمًا.
كانت المدرسة ملتقى الطلبة من جميع الأجناس الإسلامية، التقى فيها
المصري والمغربي، والشامي والفلسطيني والعراقي، والتركي والداغستاني،
والهندي والجاوي والسومطري. وكان يفضل الأجنبي لحاجة بلاده إلى المتعلمين
أكثر.
كان الطلبة فريقين، ففريق منتسب يحضر من الدروس ما يشاء، ويتخلف
عما يشاء، وفريق يحتم عليه حضور الدروس كلها، ويبيت في المدرسة مكفي
الحاجة من مطعم ومسكن وكتب، وكان لهذا الفريق نظام خاص يسلكه في معيشته
وتربيته، منه أن يستيقظ طلبته قبيل الفجر للصلاة وتدبر القرآن، ويؤدوا الفرائض
كلها في جماعة خلف إمام واحد، ويكثروا من التنفل في الصلاة، والصوم،
ويروضوا نفوسهم على آداب الإسلام بقوة فيتحرجون من فعل خلاف الأوْلى، ومن
ثبت عليه الكذب كان الطرد جزاءه، وكانت المدرسة في قصر شريف باشا بالمنيل
على ضفة النيل الغربية عند قنطرة الملك الصالح فكان الطلبة لا ينزلون إلى مصر
إلا بإذن كتابي من الفقيد، بعد أن يذكر طالب النزول كتابة سبب نزوله وموعد
غدوه ورواحه، وكان يقول: (إن الذي يكثر الاختلاف إلى القاهرة تبطل الثقة
به) لذلك كنا نظل الأسبوع والأسابيع لا نغادر جزيرة الروضة، وكان المجتمع
بالأمس غيره اليوم، بل فوق ذلك كان يكلف كل طالب أن يحمل في جيبه مذكرة
يدون فيها أعماله حسنها وسيئها؛ ليكون على نفسه حسيبًا، ولأجل ذلك كان لا بد
أن يجتاز الطالب سنة تسمى السنة التمهيدية لاختبار أخلاقه وتزويده بالعلم والعمل،
وكانت اللغة الفصحى هي لغة التخاطب كما كانت لغة الدرس، ومن وصاياه أن
التزام الفصحى يومًا واحدًا خير من قراءة كتاب.
مضى على إنشاء المدرسة ثلاث سنين إلا قليلاً، ثم اشتعلت نار الحرب
الكبرى وكانت أيامها النحسات، فأُبعد الخديوي وكان لها عضدًا، فغُلت الأيدي إلى
الأعناق، وجمدت الأكف عن العطاء، وأعطت الأوقاف قليلاً وأكدت، ثم شحت
بالجباية واعتذرت.
عندئذ اضطرت المدرسة أن تكتفي بمن فيها من الطلبة، ولم تقبل جديدًا،
وألجأتها الضرورة الملحة أخيرًا ألا تلتزم ما كانت تلتزمه من نفقة المأكل والكتب،
وظلت تجاهد في العنت في وناء وضعف سنتين، ثم ودعت الحياة تاركة آثارًا
حسانًا وميراثًا عظيمًا ممن تربوا في أحضانها وعملوا جهدهم على تحقيق بعض
أغراضها، وما أسف العقلاء على شيء أسفهم على حرمان الأمم الإسلامية من
ثمرات هذه المدرسة التي كانت موضع الرجاء في انتياش المسلمين مما تهوكوا فيه
من مفاسد البدع والخرافات والتقاليد والعادات؛ حتى لقد كان أستاذنا يقول: (لو
أني كتبت تاريخًا للمدرسة لكان فضيحة للأمة كلها) يريد أن الأمة الإسلامية
المنبثة في الشرق والغرب لم تحسن احتضان هذا العمل المجيد، والاضطلاع به
في حين تنفق الأمم الأخرى ملايين الجنيهات على جماعات الدعاة بسخاء واغتباط.
ولعلكم تحبون أن تعرفوا عمل السيد في المدرسة، ولقد كان فيها مَعقِد الأمل،
وقطب الرحى، والقبلة التي تولى الوجوه شطرها، كان لدروسه أعظم الأثر في
إصلاح النفوس، وتثقيف الألسن، كان يدرس التفسير، فتتجلى روح الإلهام
الصادق، والبصيرة النيرة ويدرس الحديث والتوحيد والكلام وحِكم التشريع، وتعلم
الإنشاء، ويمرن على الخطابة الارتجالية، ويبصرنا بالأساليب الصحيحة وما
يهجنها من دخيل أو سوقي أو مبذول، أو وضع للمفردات في غير موضعها، وقرأ
قدرًا من البلاغة، وكنا نطالع أمامه في مقالات العروة الوثقى.
ولشد ما كانت دهشتنا أول العهد به حين سمعنا لأول مرة لغة فصيحة عالية
الأسلوب مرتجلة، وغوصًا على معاني المفردات في دقة، والتقاطًا لفرائد البلاغة
في دروس التفسير وغيرها، واستخراجًا لكوامن العبر من ثنايا الآيات البينات، بل
لشد ما كان عجبنا حين كنا نراه يبكي في المواضع التي تستدر الدمع، والذين
عاشروا السيد يعلمون أنه كان أسيفًا رقيق القلب، سخيًّا بالدمع سخاءه بالمال،
وكان يقول، وكتب في (المنار والأزهر) أنه كان يقرأ وِرد سحر أول اشتغاله
بالتصوف فإذا مر ببيت المنبهجة [1] :
ودموع العين تسابقني ... تجري من جفونك كاللجج
ولم يبك، تركه ولم يقرأه لئلا يكون كاذبًا فيخجل أمام ربه.
كان السيد مغرمًا بالاستطراد الطويل في غير ملل، فبينما يكون موضوع
الدرس تفسيرًا أو حديثًا، أو حكمة تشريع مثلاً، إذا به يحتال للدخول في باب
السياسة أو الاجتماع أو تاريخ الفرق ومذاهب المبتدعين أو ما أشبه ذلك، فنخرج
من الاستطراد بكليات عظيمة تزيدنا بصيرة وثقافة.
وقد لا تعجب هذه الطريقة رجال التربية الحديثة، ويرونها معيبة بالمدرس،
مضيعة للطالب؛ ولكن هذا يرجع فيما أرى إلى عدة أسباب؛ فهو قد قرأ كتب
المتقدمين، وتغلغل فيها، وهضمها، وتمثلت فيه، فتأثر بها، وتلك كانت طريقتهم،
وكان ريان من العلم شبعان، فكانت تتدافع المسائل في صدره فلا يستطيع لها
كبحًا.
وسبب ثالث كان أحيانًا ما يصرح به، وهو أنه قليل الثقة بدوام المدرسة،
ويخشى أن يفوته شيء يريد أن يقوله فلا تواتيه الفرصة؛ لذلك كان يتلمس
الاستطراد تلمسًا، وأذكر أن بعض إخواننا من كبار علماء الأزهر حملته مرة هذا
الاستطرادات في مجلس معه - وكانت شفَتْ كثيرًا مما بنفسه - على أن يطلب إليه
أن يقدم درسًا خاصًّا في بيته ليلة في الأسبوع ففعل، وكان يحضره كثير من أذكياء
علماء الأزهر وأساتذة المدارس العالية والثانوية والابتدائية.
ثم لعلكم تحبون أن تقفوا على شيء من حال طلبتها بعد أن آل أمرها إلى ما
عرفتم، وأقول لكم: إن منهم المشتغل بالتربية والتعليم، والمشتغل بالصحافة
والتحرير، والمشتغل بالوعظ والإرشاد، والمتصل بالملوك ورجال السياسة.
وحسبكم أن تعلموا أن الناموس الخاص لجلالة ابن سعود أحدهم، بل حسبكم
أن تعلموا أن زعيم القدس الكبير السيد أمين الحسيني ممن يتشرفون بالانتساب إليها.
هذه لمحة خاطفة عن تلك المدرسة التي أصبحت كمنشئها في ذمة التاريخ،
وهناك مدرسة الفقيد الكبرى التي عكس مناره من أشعتها على العالم أربعين سنة،
تبوأ فيها بحق مقام الإمامة، وخلف ميراثًا عظيمًا يشرع للناس طرق الإصلاح،
ويبصرهم بكتاب الله وهدى رسوله، وقد أصبح له تلاميذ ومريدون يعدون بالألوف،
وصار له حزب قوي في الأزهر ممن قبضوا قبضة من أثره، وإنه لميراث عظيم،
شغل فقيدنا حياته في جمعه وادخاره، وترك ذرية ضعافًا لا سند لهم إلا الله
وإخلاصه، وأقول - والألم يحز في النفس - إن المنار قد مات بموت صاحبه أو
كاد، ولا غرو فقد كان السيد أمة وحده في علمه، ودينه، وكفايته وصبره، والثقة
به، والبذل في سبيل الله، ولسنا بواجدين من يملأ بعض فراغه في بعض ما نهدَ
له، وفي العالم الإسلامي علماء يعدهم الناس بالألوف، فيالله للأمة الفقيرة.
ولقد كان السيد جديدًا دائمًا، غير آسن، كما كان يتجلى ذلك في كتاباته
وأحاديثه، اتصلت به ما يناهز ربع قرن اتصالاً وثيقًا، طالبًا وصديقًا؛ فما أذكر
أني وردت شرعته يومًا - على كثرة الورود - إلا وصدرت بجديد في العلم أو
الأدب أو شئون الحياة، أحسن الله عزاء الأمة فيه، وبوأه منازل الكرامة مع الذين
أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
__________
(1) وكنت أود في هذا المقام لو يتسع الوقت للكلام على السيد رشيد الأديب والسيد رشيد الصوفي الناسك.(35/195)
الكاتب: محمد أحمد العدوي
__________
خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي
الأستاذ بكلية أصول الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
يرحم الله مالك بن أنس إذ يقول: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أولها) . ولقد كانت هذه الكلمة دستور أستاذنا الراحل في الإصلاح، آمن به إيمانًا
خالط قلبه، وتغلغل في نفسه. سلف هذه الأمة صلح بالعمل بدين الله، بعيدًا عن
تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
البدع والمحدثات
ومن أجل ذلك حارب البدع والمحدثات في دين الله؛ ليبقى للدين جماله،
ويحفظ له عظمته وجلاله. وأي عاقل يرى ما عليه المسلمون وهم يزورون قبور
الصالحين، من تعفير للوجوه، وتقبيل للأعتاب، وطواف حول المقاصير كما
يطاف بالبيت الحرام، والتجاء إلى صاحب القبر في كشف الكروب، وهداية
القلوب، والبركة في الرزق، وما إلى ذلك مما لا يتصل بالإسلام في قليل أو كثير؟
أي عاقل يرى ذلك ثم لا يندى جبينه لهذه البدع في دين التوحيد والفطرة؟
وهذه بدع الموالد أصبحت معرضًا من معارض الفسق، وسوقًا نافقة للتجارة
في الأعراض وانتهاكًا لحرمة الدين، وهذه بدع الأذكار ومعها الطبول والمزامير
والرقص والطرب، تصور الدين أمام الأجانب بصورة تتقزز منها النفوس،
وتجعله إلى الهزل أقرب منه إلى الجد، وهذه بدع الدجالين من محترفي الطرق،
يستغلون سذاجة الجماهير بضروب من التمويه والشعوذة: كأكل الثعابين، والنار،
وطعن أنفسهم بالسلاح وما إلى ذلك!
ولا تنسَ فعل الكلشني، وعمود الحسين، ومغارة المغاوري، وقبر أبي
السعود الجارحي، ومغطس الطشطوشي، وصناديق النذور، التي لم يأذن بها الله،
دع كتب أدعياء التصوف، وما شحنت به من أباطيل: كإيهام الناس أن هناك
حقيقة تخالف الشريعة، ووحدة الوجود التي سرت إليهم من ديانات الهند الوثنية.
فإذا جاهد الأستاذ في ذلك السبيل فإنما يجاهد لحماية دين الله من الشرك، وذرائع
الشرك، وتطهيره من الجهالات، ولا غنى لمصلح ديني عن خوض هذه المعركة
التي خرج منها الفقيد ظافرًا، فكان سيفًا من سيوف الله على رقاب المبتدعين
والمضللين.
دفع الشبهات عن الدين
وكذلك كان من أهم أغراضه أن يدفع عن الإسلام الشبهات التي يوردها
أعداؤه عليه، كما أفاض في دفع شبهات الماديين كنظرية دارون، وهناك قسم من
الشبهات منشؤه الجهل بالإسلام وما انطوى عليه من حكم: كشبهتهم على توريث
البنت نصف أخيها، وتعدد الزوجات، والرق في الإسلام، وقد تجلت عبقرية
الأستاذ في هذه المسائل، فأبان حكمة الله العليا في هذا التشريع، ووضع رسالة
سماها: (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) ، وفيها تحقيق لكل
هذه المسائل.
وكذلك عني بدفع الشبه التي تعرض بسبب تعارض بين نظريات العلم والدين،
وكبرى حسناته كتاب الوحي المحمدي، الذي ألفه لمناسبة شبهة لبعض الغربيين
على الوحي، وهو خير مؤلَّف يدعى به إلى الإسلام، ويدحض شبهات الماديين
المعطلين، قرظه علماء مستقلون، وغُرّتها تقريظ أستاذنا الأكبر المصلح العظيم
الشيخ المراغي، يقول فيه:
صديقي الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا:
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصة من
ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون، ولكم مني تحية الإخاء،
والسلام عليكم ورحمة الله.
وكذلك عني الأستاذ بشرح المسائل التي أساء المسلمون فهمها، كمسألة
القضاء والقدر، وله فيها تحقيقات علمية نفيسة تتفق وحكمة الله في تكاليف الإنسان
وجزائه على الخير والشر، فما كتبه السيد في دفع الشبه التي منشؤها جهل أو
تجاهل بالإسلام، أصل عظيم في الإصلاح الديني، ودعامة لا يستغني عنها عالم
مصلح.
إحياؤه سنة العلماء
من أبرز صفات الفقيد إحياؤه سنة علماء الصدر الأول الذين كانوا يصدرون
في فتاواهم عن كتاب ناطق، أو سنة ماضية، أو قياس على أحد هذين الأصلين،
واهتدى بهديهم الأئمة الأربعة، فَعَبَّدُوا لمن بعدهم طريق الاستدلال، ولم يقنعوا
بذلك، فنهوا عن التقليد في دين الله، وبالغوا في ذلك، وإن شئت فقل: وأسرفوا.
نُقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين
أخذناه، وقيل له: إذا قلتَ قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي لكتاب الله،
قيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال:
اتركوا قولي لقول الصحابة. ونقل مثل هذا أو ما هو أشد منه عن بقية الأئمة.
نهى الأئمة عن التقليد؛ لأنهم أدرى الناس بمقدار ضرره على الدين، وأنه
شلل يحول دون النشاط العلمي، وهو إلى ذلك كله امتهان لقيمة الحجة، وتعطيل
لموهبة العقل، ويرحم الله من قال: (التقليد إبطال لفائدة العقل) .
كانت هذه سنة العلماء؛ لأن الذي في كتب الأصول: (إن المقلد ليس معدودًا
من أهل العلم) .
ثم خلف من بعد الأئمة خلف أغلقوا باب الاستقلال في فهم الدين، وقصروه
على طائفة يحصيها العد، وكأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يصحان عندهم
شريعة دائمة! !
ولما كان أستاذنا الراحل من أئمة الإصلاح الديني، لم يكن له بد من تحطيم
السلاسل التي وضعت أمام ذلك الباب، وقد وضع كتابًا نافعًا سماه (الوحدة
الإسلامية) على شكل محاورة بين مصلح ومقلد، وله في أوله كلمة جديرة أن
تحفظ: (لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع التقليد) .
لم يقف الأستاذ في إحياء هذه السنة عند ذلك الحد، بل كان دائمًا ينوه بشأن العلماء
الذين لهم محنة وبلاء في ذلك السبيل كشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي قال فيه أحد
الأئمة: (ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله
وسنة رسوله ولا أنفع لهما منه) وشى به العلماء لدى الملوك وولاة الأمور،
ورموه بالإلحاد، فسجن أكثر من مرة، ومات سجينًا بدمشق.
وكتلميذه ابن قيم الجوزية، كان على أخص أوصاف شيخه، امتحن في سبيل
دعوته، وأوذي مرات، وحُبس مع شيخه بقلعة دمشق بعيد المحنة.
فإذا كان للاستقلال السياسي شهداء يصرعون في ميادينه، فإن الاستقلال
الديني العلمي له شهداء وشهداء، وفي مقدمتهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
أما إحياؤه لذكرى موقظ الشرق (السيد جمال الدين) و (والأستاذ الإمام)
فحدث عنها ولا حرج؛ فقد أحيا سيرتهما قولاً وكتابة وعملاً، وكان أظهر شيء فيه
شغفه بتلك السيرة حتى لا تكاد تجلس إليه مجلسًا بدون أن تسمع ذكرى للإماميين أو
أحدهما، فإن المصلح هو الذي يعنى بسيرة المصلحين فهو يعتبر بحق محيي سيرة
المصلحين، ورافع لواء المجددين على أساس كتاب الله تعالى وسنة خاتم النبيين.
دراساته العميقة
لقد عكف أستاذنا الراحل على دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة،
دراسة واسعة النطاق، فكان بذلك متمكنًا من علوم القرآن الكريم: كمعرفة المكي
والمدني منه، وتاريخ المصاحف، وأوجه القراءات، وما صح من أسباب النزول،
وما لم يصح، وما دخل على المفسرين من إسرائيليات على تفاوت بينهم في القلة
والكثرة، حتى شيخهم ابن جرير فكان من أجل ذلك تفسير أستاذنا الراحل نسيجًا
وحده في سلامته من الروايات الضعيفة في أسباب النزول، ومن الإسرائيليات التي
شوهت جمال القرآن، كما عكف على دراسة علوم الحديث، ولا سيما علم تاريخ
الرجال الذي عز في هذا العصر، فكان من السهل عليه الوقوف على درجة الحديث
في سرعة مدهشة، وما أحوجنا إلى إمام له تلك الخبرة الواسعة كفقيدنا الراحل.
أمراض المسلمين
وكذلك كان من أهم أغراضه بحثه عن أمراض المسلمين الخُلقية والاجتماعية
وفساد تربيتهم الدينية والدنيوية، فكنت تراه باحثًا منقبًا عن كل أولئك الأمراض،
وطرق الوقاية منها، وهذا كتابه (الوحدة الإسلامية) يطلعك على كثير منها، وإن
أخذ الدين من طريقه الصحيح، خير علاج لها، وقد أعانه على ذلك خبرته
الواسعة، ورحلاته المتكررة، فمن رحلة إلى الهند، إلى رحلة للأستانة إلى رحلة
لأوروبا، وذلك عدا رحلاته الثلاث إلى سورية التي اختير في آخرتها رئيسًا لأول
مؤتمر عربي، وهو الذي نودي فيه بالأمير فيصل ملكًا على سورية، ثم رحلته إلى
الحجاز مرتين، ولا شيء أعون للمصلح الديني من دراسته لأحوال المسلمين، دع
أن دار المنار كانت دائمًا غاصة بالزائرين من كبار العلماء، فكان ذلك كله خير
معين له على القيام بمهمته كمصلح ديني، فإذا دعا إلى الإصلاح، فإنما يدعو على
بصيرة، وإذا وصف العلاج، فإنما يصفه بعد أن عرف المرض.
إصلاح الأزهر
هو المعهد الديني الذي مضى على تأسيسه عشرة قرون، كان فيها مشرق
الثقافات الدينية والعربية، غير أنه قد طرأ على هذه الجامعة من أعراض
الشيخوخة ما جعلها غير وافية بحاجيات العصر من تسليح طلابها بما يكبح جماح
الملحدين، ويصد شبهات الماديين، والدعوة إلى الإسلام في المشرق والغرب،
وإعداد طائفة لهذه الدعوة مزودة بالعلم والدين.
ومن أجل ذلك كان في حاجة كبرى إلى إصلاح طرائق التعليم ومناهج
الدراسة.
وقد كان أول من أيقظ الأفكار لذلك الإصلاح السيد جمال الدين الأفغاني،
حينما وفد على مصر في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، واستفاد منه بعض
شبان الأزهر، وتولى السعي لذلك لإصلاح مريده الأكبر وخليفته (الأستاذ الإمام) ،
وغرضه الأسمى تخريج نشء جديد من جميع الشعوب الإسلامية، جامع بين
التقوى والأخلاق الفضلى، وبين العلم الاستقلالي المثمر لترقية اللغة وإحياء علوم
الدين، والتمكن من الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه.
ثم جاء الأستاذ المراغي وأمضى في الأزهر خمسة عشر شهرًا، شيخًا له
ورئيسًا لمجلسه الأعلى، فكان محط الرجاء ومعقد الآمال، ورجل الساعة، وقام
في ذلك الوقت القصير بعمل الجبابرة، ثم شاء الله أن يدع الأزهر قبيل أن يتم
الإصلاح الذي أراده، فاضطرب الحال، واختل أمر القائمين عليه من رجال
الإدارة، وروعت العلماء بما لم يروع به قطاع الطريق، وساعد على ذلك السياسة
الدكتاتورية، حتى أذن الله أن يعود للسفينة ربانها، وللإصلاح رجله، فعاد إلى
الأزهر أستاذنا (المراغي) موفور الكرامة، وضاء الجبين، ففتح لطلاب
الإصلاح باب الأمل على مصراعيه.
أما فقيدنا الراحل فقد كان خير نصير لكل أولئك المصلحين، كان نصيرًا
للسيد جمال الدين، ونصيرًا للأستاذ الإمام، ونصيرًا أيُّ نصير للأستاذ المراغي،
أبلى في سبيل هذه المناصرة بلاء حسنًا، وقام بأوفر نصيب في ذلك الجهاد.
اقرأ مجلة المنار منذ أنشئت. ثم أقرأ كتاب (المنار والأزهر) الذي ألفه
السيد في آخر حياته، وفيه أربعة وأربعون شاهدًا من دعوته الإصلاحية، إلى
عشرة مقاصد اتبع الأزهر أكثرها، ومقدمة في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله،
وجناية العهد الماضي عليه.
تلك نواح لفقيد الإسلام والمسلمين في الإصلاح الديني.
أسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين فيه خيرًا، وأن يوفقهم للسير على نهجه
وتقدير جهاده وبلائه، وأن يجزيه عن دينه كما يجزي المجاهدين الصابرين.
__________(35/201)
الكاتب: حبيب جاماتي
__________
خطبة الأستاذ حبيب جاماتي
على مقربة من مدينة طرابلس الشام قرية صغيرة تدعى القلمون، تشرف
عليها قمم لبنان الشامخة، وتكشفها صخوره البارزة، وتنشر عليها أشجار الزيتون
نفحات من عبيرها المنعش، ويخيل إليك أن القرية تزحف بيوتها وحدائقها، من
سفح الجبل إلى شاطئ البحر، لكي تغتسل في مياهه الزرقاء، سعيدة بأن تنعم بكل
ما يمكن أن تجود به الطبيعة على بلدة بالجبل والسفح والسهل والبحر.
وإذا مررت بتلك القرية الجميلة السعيدة، وكنت غريبًا عن الديار، فإن جميع
الذين يقابلونك في طريقك يمسكون بك ويلحون عليك بأن تحط الرحال، فتأخذ
نصيبك من الراحة إن كنت متعبًا، أو تأخذ مؤنتك منها إن كنت قادمًا على تعب،
ولا يسعك إلا أن تنزل على رغبتهم، حينذاك يسير بك القوم إلى بيت المشايخ،
إلى بيت آل رضا، إلى بيت الفقيد الذي نحيي ذكراه.
وكلمة (شيخ) ليست في لبنان لقبًا يطلق فقط على رجال الدين المسلمين،
بل هي لقب وراثي، يطلق أيضًا على من بايعهم الشعب بالرياسة والزعامة، فلا
فرق بين رجل الدين ورجل الدنيا، وبين المسلم والمسيحي، وبيت آل رضا من
البيوتات القليلة في لبنان، التي تحمل أبناؤها لقب المشيخة مزدوجًا، أي أنهم من
رجال العلم والإرشاد؛ ومن رجال الرياسة والزعامة.
وفي قرية القلمون، ولد محمد رشيد رضا، من أسرة تنتسب إلى الأسرة
النبوية الشريفة.
فلا غرابة في أن يكون الراحل قد اصطبغ بصبغة ذلك الوسط، وأن يكون
تلك الطبيعة التي ترعرع في أحضانها قد فرغت فيه الشيء الكثير مما أغدقته على
بلدته، فجاء شامخ الرأس كجبال القلمون، صلبًا في عقيدته كصخورها، فياضًا في
علمه كذلك البحر الزاخر الذي كان يجلس على شاطئه في ريعان شبابه، حتى إذا
ما جاء إلى مصر، أخذ من فضائها الواسع الصافي سعة الصدر وصفاءه فلعبت
السياسة دورها البشع، وأعاد التاريخ نفسه حقًّا فزحف على الدولة الفتية غزاة من
الغرب، وهرع الأحرار المجاهدون للقاء المعتدين.
وفي 24 يولية سنة 1919 كانت موقعة ميسلون، التي كتب فيها العرب
بدمائهم الزكية صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي المجيد، ولسان حالهم
يقول:
عش كريما أو مت عزيزًا ... تحت ظل القنا وخفق البنود
وبعد أن دفن الاستقلال السوري في ميسلون إلى حين قفل السيد محمد
رشيد رضا راجعًا إلى مصر، حيث استأنف جهاده المزدوج في سبيل الدين وفي
سبيل الوطن، إلى أن توفي وهو في حوالي السبعين من عمره.
أيها السادة:
إن حياة الفقيد الذي اجتمعنا اليوم لإحياء ذكراه لسفر ضخم يصعب على مثلي
أن يختصره لكم في سطور. فكل مرحلة من مراحل تلك الحياة الحافلة بالأعمال
الجليلة، والجهاد المستمر جديرة بأن يقف المرء أمامها خاشعًا مفكرًا، وكل مرحلة
من تلك المراحل سيتناولها أحد الخطباء الأجلاء بالبحث والتحليل، والخطب التي
ستسمعونها هي الحلقات التي تتكون منها تلك السلسلة الناصعة المتماسكة التي
نسميها حياة الإمام السيد محمد رشيد رضا.
وإن أنسَ لا أنس ذلك اليوم من أيام أغسطس الماضي الذي سافرنا فيه معه
إلى السويس في معية صاحب السمو الأمير سعود، كان السيد محمد رشيد في ذلك
اليوم شديد الفرح، يكثر من الحركة والكلام والضحك، وكنا نتساءل قائلين: (ما
سبب ذلك يا ترى؟) وما كنا ندري أنه - رحمه الله - يودعنا ويودع العلم، فقد
توفي فجأة في الطريق، في ذلك اليوم، قبل أن يصل إلى القاهرة كما تعلمون.
والآن أيها السادة، إن ما قلته عن حياة السيد الإمام محمد رشيد رضا ليس
كل ما يجب أن يقال عن حياته، ولكنني أديت واجبًا عن نفسي وعن إخواني
المسيحيين، نحو الراحل الكريم، ويشرفني أن يكون صوتي قد ارتفع في هذا
المجمع الإسلامي الحافل، كما ترتفع الآن رنات الأجراس والنواقيس الشرقية
العربية في الأقطار الشرقية العربية، فتمتزج بأصوات المؤذنين، داعية إلى
التآخي، إلى التضامن، إلى التكاتف، إلى التعاون في سبيل القومية العربية،
في سبيل الأوطان الذبيحة!
ومن نيلها المبارك الوفي والوفاء بكل ما فيه من قدسية وروعة، فعاش طول
حياته وفيًّا لدينه، وفيًّا لأساتذته وتلاميذه، وفيًّا لأهله وعشيرته وأصدقائه، وفيًّا
لوطنه الأول والثاني.
تلقى - رحمه الله علومه - في مدارس طرابلس والشام، وكان أشهر أساتذته
الشيخ حسين الجسر، من كبار العلماء السوريين في ذلك العهد.
وفي سنة 1897 نال شهادة العالمية، وقدم إلى مصر في تلك السنة، أي في
شهر رجب عام 1315 هجرية، تحدو به الرغبة الملحة في لقاء الإمام محمد عبده
رحمه الله.
وصلات السيد رشيد رضا بالإمام معروفة مشهورة، وقد ظلت وثيقة لم
تعتورها شائبة، إلى أن توفي الإمام في سنة 1905م.
وكان المرحوم السيد رشيد رضا قد أنشأ (المنار) في شوال سنة 1315،
أي في مارس 1898م.
ومنذ أن وطأت قدماه أرض مصر إلى أن توفاه الله فيها، ظل يجاهد ويناضل
في سبيل دينه، دون أن ينسى وطنه الأول: فقد عاد إلى سورية بعد الحرب
العظمى مباشرة، ونظرًا إلى مكانته السامية في النفوس، انتخبه السوريون رئيسًا
لمؤتمرهم الوطني، الذي اجتمع في دمشق سنة 1919، وقرروا إعلان استقلال
سوريا كدولة عربية، ونادى بالمغفور له فيصل بن الحسين ملكًا على السوريين،
وكان لآراء السيد محمد رشيد رضا ونصائحه وإرشاداته، فضل كبير في نجاح
تلك الحركة المباركة.
ولكن الأقدار لم تلبث أن قلبت لسورية المجاهدة الناهضة ظهر المجن.
__________(35/208)
الكاتب: إسماعيل الحافظ
__________
قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ
في تأبين السيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله
داعٍ إلى الحق غالت صوتَه النوبُ ... أصيب في فقده الإسلام والعرب
وكوكب من سماء الفضل حين هوى ... هوى منار الهدى وانثالت الكرب
وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى ... من ثكله شرف الأعراق والنسب
قضى الإمام فوجه الحق مكتئب ... مما دهاه وطرف الهدي منتحب
والحزن مستعر النيران متصل ... والصبر منقطع الأوصال منقضب
والزهد والرفد والإرشاد في ترحٍ ... والبر والدين والأخلاق والأدب
ومعقل العلم والعرفان مضطرب ... يكاد من برحاء الهول ينقلب
والشرق يندب والأقطار واجفة ... كأنما دب فيها الويل والحرب
يا ناعي الحي حق ما رويت لنا ... أن الإمام حواه الترب أم كذب
ويح الردى كيف أخبى نجمَه ومتى ... كن المنايا من الأفلاك تقترب
كادت تضل عقول فيه من جزع ... تقول: هل مات أم دارت به الشهب
أم راح يبغي سماء عن سماوته ... أم استسر فقامت دونه الحجب
لا تنكروا رقدة الهادي الرشيد فقد ... أعيا وقد يستريح الدائب الدرب
دعاه ومذ لبت الألباب دعوته ... هفا بها لمغاني قدسه الأرب
والبدر مهما تناهى في تنقله ... في الفلك فهو إلى مغناه منقلب
لئن طوت فضله أيدي الردى فطوت ... مساعيًا لم تزل تُرجى وتُرتقب
فرُب ليل طواه كله نسك ... ورُب يوم قضاه كله قُرَب
ورُب خافية الأعلام نائية ... يعيى بها الفكر إدراكًا ويضطرب
ألقى عليها شعاعًا من بصيرته ... بدت به وهي في عين النهى كثب
ورُب سنة هدى قد تكنفها ... وهمٌ ورانت على أنوارها الريب
أعادها برزة للناس هادية ... كما انجلت عن سنا أقمارها السحب
ورُب آيات تنزيل سرائرها ... ظلت زمانًا عن الألباب تحتجب
سما إليها وعانى سترها فبدا ... للمستريبين من تفسيرها عجب
يعنو لها العلم منقادًا ويأخذه ... من روعة الحق سلطان فيتئب
وغارة في سبيل الله ظافرة ... يهفو لها المجد والإسلام والحسب
قد شنها منه ماضي العزم ينجده ... من حزمه وحجاه جحفل لجب
دارت على محور البرهان دورتها ... حتى تجلت وهو في أرجائها قطب
ثم انثنى وهو مخفوض الجناح تقي ... والحق مرتفع الرايات منتصب
في ذمة الله نفس ما ألم بها ... رضا لغير رضا الخلاق أو غضب
وهمة ما نأى عن باعها أمل ... ولم يفتها من العلياء مطلب
لهفي على القائم الهادي إذا خفيت ... معالم الحق أو ضنت به العصب
ومن إذا نابَتِ الإسلامَ نازلة ... علا به الجد والإقدام والدأب
وإن دجا الخطب واسودت جوانبه ... بدت لنا فيه من آرائه شهب
القانت العف والأطماع دانية ... والمقدم الندب والأهوال تصطخب
والمؤثر الجد يقضي ليله سهدًا ... فيه إذا جد بالمستهتر اللعب
والقائل الصدق لا يدنو به رغب ... في قوله لا، ولا ينأى به رهب
فما أطبت قلبه الدنيا بزخرفها ... ولا ثنى عزمه مال ولا نشب
غايات مبدئه الإيمان في عمل ... وروح نهضته الإقدام والغلب
سائل به الليل هل شقت غياهبه ... عن مجاهد مثله لله يحتسب
وسائل العلم والعرفان: هل رفعت ... لمثله في ذرى عليائهما الرتب
وهل شكا الوطن المحزون نكبته ... إلا ولباه ذاك المشفق الحدب
يا صاحب القلم الكافي بفتكته ... يوم التناضل ما لم تكفه القضب
إذا انبرى فهو طورًا في الحشا ضرم ... وإن جرى فهو حينًا في المها ضرب
(أما وقتك ظبى الأقلام مشرعة) ... أما توافت لك الآثار والكتب
أما إقالتك أيام محجلة ... يبلى المدى وهي في آثارها قشب
لك المواقف يختال الزمان بها ... والباقيات على الأيام والخطب
السائرات مسير النيرات هدى ... والساطعات وآفاق النهى كهب
والخالدات فما إن فاتها زمن ... والدائبات فما إن مسها نصب
والملقيات على سمع الورى عبرًا ... تمشي على ضوئها الأجيال والحقب
منار هديك برهان يقوم على ... أشكله عمد الإصلاح والطنب
وغيث تفسيرك المأثور سلسلة ... من منبع الوحي والإلهام ينسكب
ذخران للدين والدنيا إذا جليا ... للناس حفهما الإعجاب والعجب
قم وانظر الشرق يصغي السمع ملتمسًا ... هداهما وعيون الدهر ترتقب
هيهات قد خمد النور الذي يرتقبوا ... وقد مضى ذلك العهد الذي طلبوا
تبكيك أبناء عدنان وإخوتهم ... والمسلمون إذا مستهم النوب
كنت الرجاء لهم إن عوزت عدد ... تحمي العقيدة والأخلاق أو أهب
وكنت سيفا على الإلحاد ذا شطب ... من الجهاد على أفرنده ندب
يبكون نعيك في تأليف وحدتهم ... تقيم في نظمها طورًا وتغترب
ركبت في مبتغاهم كل سابقة ... واليوم بعدك لا سرج ولا قتب
فدتك من عثرة الأيام شرذمة ... راموا علاك فما نالوا ولا قربوا
جروا وراءك حتى حُزتها رتبًا ... أوفت سموًّا على هام السهمي انقلبوا
مقصرين فلم يقضوا حياتهم ... كما قضيت، ولم تذهب كما ذهبوا
ذهبت كالغيث ولَّى بعدما رُويتْ ... منه البطائح واهتزت به الهضب
ذهبت برا بأوطان وفيت لها ... تكاد إثرك عن أوطانها تتب
غادرتها وهي أوزاع ممزقة ... يعيث منتدب فيها ومغتصب
تدعوك للنجدة الغراء رازحة ... يؤدها المضنيان الهم والوصب
إذا رأت بعدك الآمال مخفقة ... طغى من الوجد في أحشائها لهب
تؤم قبرك مثوى رحمة وهدى ... للبر في لحده مغنى ومضطرب
كنز من الحكمة العلياء قد ضربت ... من الجلال على أركانه قبب
يكاد حين تحييه ضمائرنا ... يصبو إليها صدى منه وينجذب
إذا أطافت به أوحى لها مثلاً ... من الثبات وشملاً ليس ينشعب
وإن شكَت خطبها كادت جوانبه ... تئن للخطب إشفاقًا وتنتحب
يا أكمل الناس إيمانًا وأخلصهم ... ودًّا وأكرمهم جزمًا إذا انتسبوا
من لي بأيامك اللاتي نعمت بها ... دهرًا يظللني من دوحها عذب
أيام أرشف من صفو الرسائل أو ... نجوى الحديث كئوسًا ما بها لغب
واهًا لها، قد مضت فاليوم لا رسل ... تفي أمانة نجوانا ولا كتب
أحس أن نميز الماء في كبدي ... يحيله الحزن جمرًا فهو يلتهب
وأن سوداء قلبي حين أذكرها ... تفور من مقلتي دمعًا وتنسرب
سأحفظ العهد، فاحفظه، وأنثر من ... فيض الشؤون رثاءً ليس ينقضب
ولو نظمت الثريا في رثائك ما ... قضيت للحق إلا بعض ما يجب
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ
* * *
تاريخ هذا العدد
الحق أننا طبعنا هذا العد في أوائل ربيع الأول سنة 1355 وأواخر شهر مايو
سنة 1936؛ وذلك لنعوض للقراء ما فاتهم من أعداد لإكمال المجلد الخامس
والثلاثين.
* * *
العدد القادم
سنجعل العدد القادم خاصًّا ببحث إسلامي عظيم هو (المستشرقون والإسلام) ،
وقد تولى تحريره حضرة النطاسي البارع الدكتور حسين الهراوي مفتش صحة
مصر القديمة، وهو المسلم العالم الغيور. وسيصدر بعد هذا العدد بعشرة أيام،
بإذن الله.
__________(35/211)
الكاتب: محيي الدين رضا
__________
فقيد العرب والإسلام
المرحوم السيد محمد رشيد رضا
كلمة سريعة [1] بقلم ابن أخيه الحزين
(1)
سألَنا كثير من الأصدقاء والمحبين من مريدي فقيدنا الكبير أسئلة شتى،
فرأيت أن أكتب ما يلي ردًّا على ما حضرني من تلك الأسئلة حتى يطلع عليه
الجميع، ولا يزال القلب كسيرًا والحزن عامًّا، فمعذرة من القراء الكرام إذا وجدوا
شيئًا غير ممحص، والله يتولانا برحمته ويحسن عافيتنا جميعًا، إنه خير مسئول
وأكرم مجيب.
كيف بُلِّغت الخبر؟
قرع باب مسكني في نحو الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم الخميس 22
أغسطس الماضي، وكنت ممددًا في سريري بعد ما تغديت ففتحته القرينة،
وسرعان ما دخلت علي تقول: (قم حالاً وكلِّم عبده) فظننت أنها تقصد ابن
عمي السيد عبد الغني رضا، فقلت: (ولماذا لم تدعيه للدخول عليَّ؟) . فقالت:
(قم فكلمه) . فنهضت مسرعًا إلى الباب فوجدت عبده بواب دار المنار، فأخذتني
رعشة الوجل؛ لأنه حضر في ساعة غير مألوف حضوره فيها، وقد سبق أن
حضر في مثلها يوم أخبرني بوفاة جدتي. فقلت: (ماذا تريد يا عبده؟) . قال:
(السيد عبد الغني عاوزك) ورأيت دموعه تترقرق في مقلتيه، وصوته يتهدج،
فقلت له: (قل، أسرع، ما الذي حصل؟) . فقال: (مات السيد!) .
وهنا انهمرت دموعه، وأصبت أنا بذهول، فدخلت غرفة النوم لألبس،
فقالت القرينة: (ماذا حدث؟) . قلت: (مات عمي) . وصرت لا أعرف ماذا
أصنع، فأردت التوضؤ، فصرت أبحث عن القبقاب وهو أمامي فلا أجده، وبعد ما
توضأت صرت أنتقل في المنزل مفتشًا فيه عن الذي ألبس وأين أجد البذلة والحذاء
وما إليهما، ولقد لقيت في ذلك عناء كبيرًا.
وفي أثناء ذلك كانت القرينة قد فهمت من عبده أن الوفاة حدثت وهو عائد من
السويس، وأنه لا يزال في مصر الجديدة. سرت في الشارع وأنا أحس أني على
وشك السقوط أتهادى يمينًا وشمالاً.
في دار المنار
صعدت إلى الدور العلوي في المنزل فقابلت قرينة عمي وقلت لها: (نحن
إخوتك وأولادك فصبِّري نفسك) . وأرسلت على إثر ذلك تلغرافات للسيد محمد
شفيع نجل الفقيد - وكان لا يزال في سورية - بوجوب حضوره حالاً، وأخبرته
الخبر، وأرسلت تلغرافًا لصهري محمد أفندي السيد بالإسماعيلية ليحضر للمساعدة
في الأمر، وأرسلت رسولاً إلى الأستاذ عبد السميع أفندي البطل فسرعان ما حضر،
وحضر صهري في الليل ومعه الصديق مصطفى أفندي إبراهيم أحمد، وانتشر
الخبر بسرعة مدهشة في القطر المصري فحضر بعض الأصدقاء من طنطا وغيرها
وانهالت علينا البرقيات.
وفي الساعة 7.30 أذاع الراديو النعي في العالم كله، فقوبل الخبر بذهول
ولم يستطع الناس تصديقه بسرعة فشرعوا يستفهمون تلفونيًّا من دار المنار.
في مصر الجديدة
عندما حضرت إلى دار المنار كان ابن عمي السيد عبد الغني لا يزال في
مصر الجديدة متنقلاً ما بين الإسعاف والقسم؛ لإجراء اللازم بنقل جثمان الفقيد،
وحضر فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية إلى دار
المنار فجلس منتظرًا - وأمارات الحزن بادية عليه - وهمَّ بالذهاب إلى مصر
الجديدة ولكننا لما اتصلنا تليفونيًّا بمصر الجديدة فهمنا أن كل الإجراءات تمت ولم
يبق على الحضور إلا القليل من الزمن.
وصول الجثمان
جلسنا نتكلم في وقع المصيبة واستغراب ما حدث إلى أن وقفت أمام دار
المنار سيارة من سيارات نقل الموتى، وحمل الناس نعشًا فيه جثمان ذلك العالم
الكبير الذي طبقت شهرته العالم أجمع، فانهمرت الدموع من العيون، وكان يرافق
النعش جمهور من المحبين وبمقدمتهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني -
وكانت دموعه قد بللت لحيته وعيونه قد احمرت من شدة البكاء والنحيب - واشتد
البكاء من جميع الحاضرين ولا سيما فضيلة المفتى.
فضل التفتازاني
وللسيد التفتازاتي أفضال كثيرة؛ فهو الذي حمل معظم المصاب على أكتافه،
فقد أسرع إلى دار الإسعاف وإلى القسم وبذل مجهودًا عظيمًا في كل منهما، ولما
وصل إلى دار المنار عمل كل ما في قدرته للحصول على الإذن من ورثة المرحوم
الشيخ محمد عبده بدفن عمي بجواره ففاز، وسرعان ما أحضر التُّرَبية والحانوتية
واتفق معهم على بناء التربة في الليل حسب الشريعة الإسلامية، وفاز أعظم فوز،
وبالجملة فالسيد التفتازاني أسدى لصديقه الراحل أعظم خدمة بعد وفاته ولا يزال
يعمل لخدمة أولاده بصدق وقوة مما يسجل له بمداد الشكر الجزيل، حفظه الله
وأبقاه عونا للملهوف فهو أهل خير وفضل ومعدن معروف [2] .
الأستاذ الطاهر
وفي أثناء ذلك كانت حديقة الدار قد امتلأت بالكراسي وازدحمت بالزوار،
وحضر الأستاذ محمد علي الطاهر على غير علم بالذي حصل، فظن نفسه أخطأ
المنزل، ولمَّا أخبره بعضهم كاد يصعق وأخذ يقول: (لقد جئت لأزور رب الدار
محدثًا نفسي أنه إذا قدَّم إليَّ الشاي فإنني سأعتذر عن شربه، وأنه على إثر ذلك
سيقوم إلى الثلاجة فيحضر لي فاكهة من التي تعود أن يتعشى منها) .
وبعد ذلك أخذ يحوقل ويتأسف، ثم انصرف إلى التليفون يخبر الذين يرى
أنه يحسن إخبارهم بالفجيعة، فجزاه الله خيرًا.
الميت المجهول! !
ومما يصح التنويه به هنا أن المرحوم كان يركب سيارة مع تركيين - في
عودته من السويس - لا يجيدان العربية، وفي الطريق كان يحمل مصحفًا صغيرًا
يتلو آيات الله طوال الطريق، إلى أن أحس بتعب فطلب من السائق أن يوقف
السيارة فأوقفها، وقاء بعدما وضع المصحف في جيبه، واستسمح اللذين معه
بالاضطجاع قليلاً؛ لأنه متعب فاضطجع، ولمَّا وصلت السيارة إلى مصر الجديدة
حاولا إيقاظه فوجدا جسمه لا حياة فيه وكانت روحه صعدت إلى الملأ الأعلى
فعاجلا به على الإسعاف، ثم ذهبا إلى دائرة البوليس فكتب البوليس محضرًا بوفاة
(شخص مجهول) في أول الأمر ثم تدارك الخطأ.
ماذا وُجد معه؟
وكتب البوليس محضرًا بالذي كان معه وسلموه إلى حسين رضوان الموظف
في مطبعة المنار، وقد حضر وسلمني ما أمضى على تسلمه وهو محفظة فيها جنيه
واحد ونظارتان ونظارة كبيرة مقرِّبة وعمامته ومصحف وفك أسنانه، ولم تصل يد
البوليس إلى كيس نقوده ولا إلى قلمه ففقدا ولسنا ندري أين كان فقدهما؟
وقع المصيبة على حرمه
ويظهر أنني كنت سريعًا في إخبار حرم عمي بالمصاب - وكنت أظنها علمت
به من ابن عمي قبل وصولي - وكان غرضي أن أصبِّرها، وبعدما كلمتها بما
قدَّمت نزلت لإرسال التلغرافات ولتدبير ما يلزم، فحضر إليَّ الخادم وقال: (إن
الست أغمي عليها) فوقعت في مشكلتين، ولما صعدت وجدتها في حالة حزن
شديد وبكاء وليس ثمة إغماء - والحمد لله - فهدأت نفسها بما حضرني من كلمات -
وكانت عندها الغسالة وقد تركت الغسيل وهي تنتحب، وعلى إثر ذلك
حضرت قرينتي فاشتد البكاء منهما فزجرت قرينتي وقلت لها: (يجب أن تتحملا
المصيبة بصبر عملاً بوصايا الفقيد) وتركتهما ونزلت لعمل ما يلزم.
سمو الأمير سعود
وكان عمي - رحمه الله - قد دعا سمو الأمير سعود إلى دار المنار في مساء
يوم الأربعاء 21 أغسطس الماضي لشرب شيء من المثلجات لما لم يتيسر أن يقبل
الأمير دعوة للغداء أو العشاء لارتباطه بمواعيد سابقة. وقد خاطبه في ذلك عند
سفره إلى أوربا ويوم حضر منها - وكان في طريقه إلى فلسطين والشرق العربي -
فوعده بالقبول وترك التدبير لسيادة الشيخ فوزان السابق معتمد المملكة العربية
السعودية في مصر.
ولقد عني - رحمه الله - بإصلاح مكتبه ومدخل داره استعدادًا لاستقبال الأمير،
وألحَّ على أولاده بسرعة الحضور من سورية لاستقبال الأمير؛ ولكن مرض ابنه
المعتصم أخَّر حضورهم، وقد عاد من سورية قريبًا وهو في دور النقه، والحمد لله.
وحب عمي لآل سعود يعرفه كل الذين يترددون على دار المنار، وحبه
للأمير سعود عظيم جدًّا فقد كنت كلما أزوره يحدثني عن مقابلته للأمير وشغفه بأدبه
وخلقه وحيائه وصلاحه وتقواه وجمال وجهه، وإذا سمعته يتحدث عن كل ذلك
أحسست بأن لعابه يسيل متحركًا بالشهد ولا سيما إذا حدثك عن الحفاوة التي لقيها
الأمير في أوربا وأجوبته لملوك أوربا ورؤساء جمهورياتها وكبار رجالها، وكيف
كان يفاخر بالإسلام وما امتاز به من المزايا.
يود الانفراد بالأمير
وكان - رحمه الله - يود الانفراد بالأمير للتحدث معه في بعض الشؤون؛
ولكن الأمير اعتذر بضيق وقته وبأنه يود سرعة العودة لتغيير ثيابه والوضوء
والصلاة، ثم هو يود حضور حفلة وفاء النيل تلبية لدعوة سعادة المحافظ، وعلى
ذلك قال للسيد: (إذا بقيت مصممًا على السفر غدًا فتحضر إلى الذهبية في الساعة
الرابعة صباحًا ونجلس معًا في تلك الساعة الهادئة، وسأرسل إليك سيارة خاصة) .
لم يذق طعامًا
وقد جرت عادة المرحوم أن يستيقظ قبل الفجر للتهجد ثم يصلي الصبح في
أول وقته وينام بعد ذلك قليلاً؛ ولكنه في صباح الخميس انتظر السيارة بعد الصلاة
فحضر الشيخ فوزان السابق فركب معه إلى الذهبية، وخرج ولم يذق طعامًا في
داره.
ولما اختلى بالأمير وأفضى إليه بما رآه لازمًا طلب منه الأمير بأن لا يسافر
معه إلى السويس وطلب مثل ذلك من السيد محمد الغنيمي التفتازاني وألحَّ في طلبه
حتى كاد - رحمه الله - يغضب منه؛ ولكن ذلك كله لم ينفع وركب السيارة إلى
السويس، وفي السويس اختلى مع الأمير مرة ثانية مدة طويلة، وبعد تحرك
الباخرة فضَّل الرجوع حالاً إلى عمله في دار المنار، وفعلاً ركب السيارة عائدًا
فوصل إلى داره محمولاً على النعش - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
استأذن القرينة
ولا يفوتني أن أقول أنه أستأذن قرينته بالسفر فأذنت له في ذلك، ولو استأذن
طبيبه الدكتور أحمد عيسى بك لما أذن له؛ لأنه يعلم أنه مصاب بتصلب الشرايين
والروماتيزم وضعف القلب وكان قد نهاه عن إجهاد نفسه مدة طويلة؛ ولكنه سمح له
بالعمل بعد ذلك، وأما السفر بالسيارة عن طريق السويس فإنه ما كان يأذن له به
ولكن هكذا شاء الله ولا رادَّ لمشيئته.
كيف قضى ليلته؟
ولما حضر إلى الدار جثة هامدة وأنزلناه من النعش في الدور العلوي، رأيته
كأنه لا يزال حيًّا، ومدَّدناه في غرفة الاستقبال وكنت أظن أنه ربما يستيقظ قريبًا؛
لأن شكله لم يتغير مطلقًا، وفي الليل دعوت حضرتي الدكتورين الفاضلين الدكتور
شهبندر والدكتور حسني أحمد لفحصه، ولمَّا فحصاه نصحا لنا بوضع الثلج حول
جثته خشية الحر ورفع السجاجيد التي تحته وحوله، فصدعنا بالأمر حالاً، ويا
سبحان الله، لقد كتب له أن يحاط بالثلج وهو الذي كان يحب الثلج في الشتاء.
الديون باهظة
ولقد تبين أن الديون التي عليه باهظة وكان الناس يظنون أنه غني جدًّا
وكنت أنا أيضًا أظن فيه ذلك، ومجال الظن متسع فكتبه رائجة، وهذا كتاب
(الوحي المحمدي) طبع ثلاث مرات في عام واحد ولقد نفد من طبعته الأخيرة نحو
ألفي نسخة في زمن وجيز، وهكذا الحال في كتبه وكتب الأستاذ الإمام رحمهما
الله. وإذا راجت الكتب فإن دخلها لا يستهان به؛ ولكن يظهر أن عدم توفقه في
الإدارة وكثرة كرمه أفضى به إلى هذه الحالة، هذا إذا لم نقل غير ذلك. فاللهم
وفقنا لوفاء دَينه، وألهم الذين له عليهم ديون وفاءها سريعًا.
دعاء مستجاب
ولقد أتم - رحمه الله - تفسير سورة يوسف إلى نهاية الآية 101 التي هي
خاتمة القصة، وهي قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف - عليه السلام -: {رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ
وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)
فقال رحمه الله:
(تحول - عليه السلام - عن خطاب والده في بيان هذه العاقبة المثلى في
مقام الشكر لربه وحمده، وبما يناسب المقام من صفاته، إلى مناجاة ربه في
الاعتراف بها والشكر عليها، وسؤاله حسن الخاتمة في الدنيا الرافعة إلى منتهى
السعادة في الآخرة؛ لشعوره بأن ما خلقه له من الخير والنعمة قد تم كما فهمه أبوه،
وكل شيء بلغ حده في هذه الحياة انتهى، فقال:] رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ [
أقصى ما ينبغي لمثلي ويصلح له في غير قومه ووطنه، فجعلتني متصرفًا في ملك
مصر العظيم بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم والرسم، فكان تصرفي مرضيًا له
ولقومه، ولم يُثر عليَّ حسد حاسد ولا بغي باغٍ مما ذقت مرارته بمجرد تصور وقوعه
على تقدير صدق الرؤيا الدالة عليه] وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [ما أعبر به عن
مآل الحوادث ومصداق الرؤى الصحيحة فتقع كما قلت] أَنْتَ وَلِيِّي [الذي توليت
ولا تزال تتولى أموري كلها في الدنيا وفي الآخرة لا حول لي في شيء ولا قوة
] تَوَفَّنِي مُسْلِمًا [لك إذ تتوفاني بما تتم لي وصية آبائي وأجدادي، وهي المشار إليها
بقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [منهم واحشرني
معهم. فهذا الدعاء العظيم، بمعنى قوله تعالى في فاتحة القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ
المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6 - 7) ، أي من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، فنسأله - تعالى - أن يجعل لنا خير حظ منه
بالموت على الإسلام.
انتهى كلامه - رحمه الله - وأجيبت دعوته، فظل يتلو القرآن إلى آخر نسمة
تنسمها من الحياة.
(المنار)
وهذا آخر ما نشره في الملازم التي طبعت من الجزء الثاني من المجلد
الخامس والثلاثين من مجلة المنار التي نرجو الله أن يوفقنا لإصدارها ثانية ذكرى
لعلمه وآثاره.
__________
(1) نشرت في جريدة (ألف باء) الدمشقية 10 - 17 أكتوبر سنة 1935.
(2) وقد توفي - رحمه الله - ولا بد لنا من كتابة كلمة عنه، والله الموفق.(35/215)
الكاتب: محيي الدين رضا
__________
فقيد العرب والإسلام
كان دائم العمل
(2)
إن كثيرين من شبان اليوم - وغير اليوم أيضًا - يكثرون من التحدث عن
كثرة أعمالهم إذا كان للواحد منهم عمل منتظم في الحكومة أو في دائرة من الدوائر
الأهلية، وقد لا يتجاوز عمل الواحد منهم ست ساعات يعمل فيها ببطء وتؤدة وهو
يستطيع إنجاز عمله كله في نصف هذا المقدار من الزمن إذا أجهد نفسه قليلاً.
وأما السيد رشيد فقد عرفته من عام 1907 وكنت مقيمًا في منزله إلى أواخر
عام 1922، فكنت أدهش من عمله المتواصل: يستيقظ في الصباح مبكرًا جدًّا
فيصلي الصبح حاضرًا ويكون قد تهجد قسمًا من الليل قبل حلول وقت الصلاة، ثم
يستريح قليلاً وبعد ذلك يجلس في مكتبه فيقرأ ويكتب ويظل على ذلك إلى أن
يحضر له الفطور فيجلس إلى المائدة، وفي أثناء الفطور تتاح له فرصة قراءة
الصحف الصباحية وبعد ذلك يرجع إلى مكتبه إلى أن يحين وقت الغداء فيتغدى ثم
يأوي إلى فراشه قليلاً، وبعد ذلك يصلي العصر ثم يذهب إلى مكتبه للعمل، وقد
يستمر في عمله إلى ساعة متأخرة من الليل، وفي أثناء الليل يصحح كثيرًا من
المسودات التي جمعت من مجلته (المنار) أو مؤلفاته المختلفة أو ما يطبع في
مطبعة المنار من كتب النجديين أو ما شابهها مما يحتاج للدقة في المراجعة من جهة
سند الأحاديث أو صحة النقل أو وجاهة الرأي.
قلت: إنه ينام بعد صلاة الفجر والواقع أنه ينام أحيانًا، وأحيانًا يخرج إلى
النزهة في تلك الساعة الهادئة، وكثيرًا ما يذهب إلى مسافات بعيدة جدًّا ويصل
أحيانًا إلى الأهرام والناس نيام ثم يعود ماشيًا أو راكبًا، وقد اتخذ هذه الخطة
ولا سيما عندما سكن بجوار كوبري الملك الصالح، ويسير في تلك الساعة حاسر
الرأس وقد يكون الجو باردًا.
وفي نزهته هذه يصطحب معه مصحفًا أو مسبحة فيتلو ما تيسر له من القرآن
أو يسبح الله كثيرًا. ولقد اشتهرت فسحته هذه وجعلت كثيرين من أهل الأحياء
المجاورة يقلدونه فيها.
ولقد كان نشيطًا في عمله في مكتبه وفي نزهته وكان يسير بقوة يعجز عنها
الشبان، وأذكر أنني كنت أسير معه أحيانًا - وهو في الكهولة وأنا في أول مراحل
الشباب - فما كنت أستطيع السير بجواره، فكنت أسير وراءه بكل مشقة وعناء،
ولو أنه - رحمه الله - نظم عمله ووظف من يريحه من قراءة المسودات واشتغل
في الوقت الذي كان يشغله بالمسودات بالتأليف، لزاد عمله نحو النصف، ولكان
محصوله العلمي أكثر مما خلَّفه، مع كثرته وعظيم فائدته العلمية وحسن تنظيمه
وإتقانه وإبداعه.
الإتقان في العمل
وله ذوق مشهور في إتقان كل شيء، ويتجلى ذلك في مؤلفاته وحياته العامة
والخاصة. وقراء مجلته المنار يعرفون له الفضل العظيم في وضع تلك الفهارس
المتقنة للموضوعات والأعلام، ولم يقصر فهارسه المنظمة على المجلة، بل
وضعها لتفسيره فوضع لكل جزء من التفسير فهارس منظمة تسهِّل على الباحث
العثور على طلبته بسرعة.
وعمل هذه الفهارس يأخذ قسمًا كبيرًا من وقته، لو تيسر له العثور على من
يعملها له لوفر جزءًا من وقته.
وأذكر أنني عندما كنت في داره في شارع درب الجماميز - وكنت لا أزال
مراهقا - كنت أساعده في عمل تلك الفهارس مساعدة آلية، فقد كان - رحمه الله -
يكتبها متتابعة وكنت أتسلمها منه وأقصها ثم أضع ظروفًا عليها حروف الهجاء
فأضع في كل ظرف الموضوعات التي تدخل في حرفه، ثم أرتب كل حرف
ترتيبًا منظمًا وألصقها مرتبة ثم نقدمها للطبع.
وقبيل وفاته أراد أحد الأصدقاء عمل فهرس لمجلد المنار الأخير وعمله بالفعل؛
ولكنني سمعت المرحوم ينتقد عمله بأنه غير وافٍ بالموضوعات المهمة كلها؛
ولذلك لم يعتمد عليه فلم يطبع.
هذا ولكثرة عمله كانت الفهارس تتأخر؛ لأنه ما كان يعتمد على أحد في
عملها، وهذا يرجع إلى عظم دقته وإتقانه في عمله رحمه الله.
ولم تقتصر دقته على أعماله العلمية، بل إنه كان يحب الإتقان والدقة في
مأكله ومشربه وملبسه إلى درجة يعرفها كل من خالطه عن قرب أو بُعد، وأما إتقان
مطبخه فذلك حديث الجميع، حتى إن السيد محمد الغنيمي التفتازاني طالما كان
يتفكه بقوله: (إن الواجب على وزارة المعارف العمومية أن تعهد إلى بعثة من
البنات بالتخصص في فن الطبخ في منزل السيد رشيد رضا) .
وكان كرمه مضرب المثل - ولا يزال كذلك - في جميع البلدان الشرقية؛ فقد
كان حريصًا على إضافة كل قادم إلى مصر، وأما أصدقاؤه فقد كانوا يذهبون إلى داره
من غير كلفة؛ غير أنه في أواخر أيامه كان يواظب على صيام أيام مخصوصة منها
الأيام البيض؛ ولذلك كان أصدقاؤه يعنون بمعرفة أيام صيامه حتى إذا ما حضروا
استطاعوا أن يأكلوا معه فيشبعوا أجسامهم بطعامه وأنفسهم بعلمه ومعارفه.
عطفه وكرمه
ولا زلت أذكر عندما كنت يافعًا وكنت في داره بشارع درب الجماميز، وكان
الوقت وقت شهر رمضان، فكان إذا أحس أن الوقت أشرف على الفجر ولم يبق
مجال للأكل فكان يسرع إلى إيقاظي ويحضر لي اللحم المحمر وما أشبه، ويقف
فوق رأسي يحثني على الأكل بسرعة، قالت مرة جدتي - والدته -: (إن محيي
الدين يجزع من رمضان كثيرًا) فقال لها ضاحكًا: (الله يحفظك يا والدة، أنت
سمينة تتغذين من شحوم جسمك، وأما هو فنحيف يحتاج للغذاء حتى يستطيع
النهوض والعمل) .
وكان كريمًا جدًّا بالمال ولا سيما في الأعياد والمواسم؛ فكان يعطيني في العيد
ما لا يقل عن نصف جنيه ذهبًا - طبعًا عندما كنت صغيرًا - فلما كبرت صار
ينفح أولادي بالنقود، وكنت أراه يعطي كثيرين من الشبان الشرقيين وطلاب العلم
نقودًا، ولا زلت أذكر مرة أنه دفع لشاب عراقي جنيهًا ذهبًا في أيام الحرب وكان
بائسًا، فامتنع عن الأخذ فألح بقوة، وقال له: (إنني لا أتصدق عليك، وإنما
يمكنك أن تحسبه سلفة من محيي الدين، وعندما توسر ترده إليه) وبذلك أخذ
الجنيه، وهو الآن محامٍ وكان موظفًا بالحكومة العراقية في بغداد.
ولطالما مد إليه كثير من العظماء أيديهم فردها مملوءة، ولم يكن يذكر ذلك لأحد
ما؛ وإنما سمعت هذا من الخادم الذي كان واسطة الدفع، وهنا أنقل للقراء كتابًا
ورد إليَّ من الشيخ محمد بن سياد أمين مكتبة الحرم المكي، قال - حفظه الله -:
عزيزي السيد محيي الدين:
حزني على الأستاذ السيد مثل حزن الولد على الوالد، فإنا لله وإنا إليه
راجعون.
كان سمع نبأ وفاته - رحمه الله ورضي عنه - ليلة الجمعة التي قبض فيها
في جدة في الراديو، وبلَّغنا الخبر الأخ محمد أفندي نصيف صباحًا بالتلفون
فأحسست بالمصيبة ودب الحزن في نفسي، غير أني كابرت الناس فيه وأنكرت
وقع ذلك الخبر وكذَّبت الخبر بادئ بدء، ثم جعلت أتمنى أن يكذب الناس معي هذا
الخبر، وهيهات أن يفعل الناس ما تمنيته وقد أرغمتهم الحقيقة على الاعتراف بالواقع، فإذا هم يكتبون به في جرائدهم ويتحدثون في أنديتهم ويصلون على المرحوم في
مساجدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظِم اللهم لنا الأجر وأحسن لنا العزاء
وألهمنا السلوان يا سيد محيي الدين في هذا العالم الكبير والأستاذ الجليل والمرشد
العظيم، وتغمده الله وأخاه الوالد المرحوم برحمته، وقابلهما برضوانه، وجعلهما
في فسيح جناته.
أذكره - رحمه الله - حين كان يمدني وأمثالي من طلبة العلم المنقطعين في
أثناء الحرب العمومية بشيء من ماله الخاص، وكان - رحمه الله - يمثل بعمله
الصالح هذا ما قيل في جده الأكبر صلى الله عليه وسلم: (إنك لتحمل الكل وتكسب
المعدوم) وأذكره رضى الله عنه حين أنقذني من السجن بكفالته الشخصية - ونعمت -
يوم اعتقلني الإنكليز في أوائل الحرب العمومية اعتقالاً سياسيًّا، ولولاه رضي
الله عنه لامتد اعتقالي إلى أواخر الحرب كما وقع لكثيرين أمثالي، وكذلك كان يمثل
بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأعظم صلى الله عليه وسلم (وتعين على نوائب
الدهر) وكان - رحمه الله - يعمل حسبة لله لا عن إيعاز من أحد ولا عن مسألة
وتعرض، فواحسرتاه على هذا البر المجسم الذي فقدناه وواحسرتاه، وكان - رحمه
الله - ذا الجناحين يعلم علوم الدين ويفقه في أمور السياسة، وما أعظم فقر العالم
الإسلامي إلى مثله وما أشد الخطر على الثغر الذي كان - رحمه الله - مرابطًا عليه
يدافع عن بيضة الإسلام بعد فقدانه.
* * *
هذا ما كتبه عالم صوفي جليل، وهو يكشف لنا عن ناحية كانت مخفية من
نواحي عظمة فقيدنا، وما إنشاء دار الدعوة والإرشاد إلا غرة في جبينه، رحمه
الله؛ فقد جمعت طائفة من طلاب العلم من بلدان الشرق أحدثوا أثرًا محمودًا في
النهضة الإسلامية العربية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحزين
... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
__________(35/222)
الكاتب: عبد الله عفيفي
__________
قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي
مكانك لا يلج بك العثار ... تراخى الليل وانطفأ (المنار)
وغابت في مغاربها الدراري ... وحجب طلعةَ القمر السرار
أردد في ديار الحي صوتي ... وقد أعيت فلم تجب الديار
أطاف بأهلها الساقي فمالوا ... وأذَّن فيهم الحادي فساروا
وفرَّق بينهم صدع الليالي ... وليس لصدعة الزمن انجبار
أخِلاي الذين سروا تباعًا ... أما لليل بعدكم نهار
برغمي أن يهز الشوق جسمي ... وقد عز المزار فلا مزار
فراقد عالم كانت مناه ... أحالت نورها البيد القفار
نعمر ما نعمر ثم نطوي ... وأهون ملبس ثوب معار
ونسلك للغنيمة كل صوب ... ونخرج لا شعار ولا دثار
رويدك يا زمان وما رويد ... تهاوى الدوح وانتهت الثمار
ثوت بالكوكب الهادي العوادي ... وطال بكاتب (الوحي) السفار
فوالهفاه هل بين المنايا ... وبين حماة هذا الدين ثار؟
* * *
رشيد! وكنت إذ تدعي يلبي ... يراع فيضه نور ونار
حسام من سيوف الحق تلقي ... إليه قيادها البيض القصار
من الفردوس يسطع من شباه ... سنًا ينهل أو نقع يثار
كريم لا يجور ولا يماري ... رشيد لا يحور ولا يحار
تجرد للجهاد فلم ترعه ... كتائب للضلالة تستثار
تلقاها بعزم أحوذي ... فلا وهن ولا قلب مطار
فصال موفقًا ومضى حميدًا ... ولم يلحق به دنس وعار
* * *
رشيد تفجع الإسلام حزنًا ... وناحت يعرب وبكت نزار
قوى قد كنتَ مِن أمضى شباها ... وكان لها بمغناك ازدهار
إذا جئت (الإمام) فقل سلام ... من القوم الذين عليك ثاروا
همو عرفوك بعد هوى مضل ... وهم بعد الثلاثين استناروا
ومن تثبت شريعته تساوى ... لدعوته التلبث والبوار
وأفضل مصلح رجل حلاه ... بلاء واصطبار وانتظار
وما يخزى المجاهد أن يجازى ... بسوء إنما العار الفرار
سلام يا محمد من وفي ... له من ذكرك النخب المدار
__________(35/227)
الكاتب: بسان رفائيل
__________
تعزية الجمعية السورية العربية
بسان رفائيل
ولاية مندوسة الأرخنتين
لقد شق على هذه الجمعية خبر وفاة العالم العلاَّمة الشيخ محمد رشيد رضا،
فكان لهذا الخبر المشئوم أشد تأثير في نفوس كافة مناحيها؛ لما كان للفقيد من
المنزلة السامية في عالم الثقافة والأدب العربي. إن هذه الخسارة أحدثت فراغًا قل
أن يسد؛ نظرًا لعلو المقام الذي كان يتسنمه الفقيد بين أبناء أمته. بناء عليه فإن
جمعيتنا هذه تقدم تعزيتها الحارة إلى كافة أبناء العرب في جميع الأقطار، وبقلوب
ملؤها الأسى نشاطر عائلة الفقيد بهذا المصاب الفادح، سائلينه - تعالى - أن
يعوض على الأمة العربية ما فقدت، ويسكن الراحل الكريم فسيح جنانه.
... ... ... ... ... ... ... رئيس الجمعية السورية العربية
... ... ... ... ... ... ... ... ... سان رفائيل
... ... ... ... ... ... ... (الأرجنتين)
__________(35/228)
الكاتب: محمد علي إبراهيم لقمان
__________
مصاب المسلمين في أعظم علمائهم
وأعقل حكمائهم
أمات السيد رشيد؟ ! أقضى نحبه وتولى؟ ! أتزلزل ذلك الطود الراسخ؟ !
أطوى ذلك العَلم الشامخ؟ ! أيموت العلم وتتضاءل الحكمة؟ ! أتدري أيها الناعي
من نعيت؟ أتعلم أنك تنعي حجة الإسلام وعلامة الزمان وفخر الأمة المحمدية بين
الأنام، يا لهول المصاب، ويا لفداحة الخطب، فقد جار الزمان واستبد، وعبثت
الأيام بهذه الأمة التي أناخت عليها الويلات بكلاكلها، أفي كل يوم تُمنى برُزْء جسيم
وبموت رجل عظيم؟ ! أفي كل يوم نصاب في الصميم؟ !
أيها الدهر الخؤون، لقد جرت في حكمك اليوم واشتدت قسوتك، أطفأت
سراجًا وهاجًا كان يهتدي به المسلمون في ظلمات هذه الحياة، ويسيرون على
ضوئه في دياجي الليالي الحالكات، أتعمد إلى ذلك النور فتخمد أواره وتشاهد هذا
الحال فتهتك أستاره؟ ! تولَّ أيها الموت، كيف تجاسرت على اختطاف تلك
الروح الكبيرة والاقتراب من ذلك الجسم المتأجج بحب الإسلام؟ ! ألم يخيفك ذلك
الاشتعال؟ ! ألم تقف ولهانًا حائرًا أمام تلك النفس التي تسيل جزعًا على تقطع
المسلمين أوصالاً، فتنفث في كل طرفة عين من الحكم البالغة ما لو وعاه المسلمون
لاستعادوا مجدهم الداثر وحظهم العاثر؟ ! ألم تستهوك تلك الحكم النيرات؟ ! ألم
تتريث لتأخذ درسًا في الرحمة والإخلاص؟ ! ألم ترهبك تلك النفس التي كانت
تغلي مراجلها في ذلك الصدر الفسيح الذي لم يتسع لغير الدين الصحيح فوعى
أصوله وضبط فروعه؟ ! ألم تفزعك تلك الحشرجة وكلها نيران ألم وصدى
أوصاب على تقهقر المسلمين وتأخرهم؟ ! بالله كيف استطعت أن تحمل تلك الروح
وقد ناء بحملها العالم الإسلامي بأجمعه؟ !
تالله إني لم أكن يومًا لأشعر بفراغ في جانب المسلمين لا أرى من يسده، كما
أشعر في هذه الساعة، وكل من يعرف إلى أي درك وصل المسلم إليه في
الانحطاط الديني والأخلاقي والأدبي والسياسي، وكيف أضاع حيثيته ومركزه -
يدرك أن السبب الجوهري في هذا التأخر المشين هو جهل المسلم بحقيقة دينه القويم ,
ويفهم أن العالم الإسلامي لم ينجب عالمًا دينيًّا منذ أربعين سنة يصل إلى درجة
حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا، ولذا فلا بدع أن تتقرح الجفون حزنًا،
وتسيل الدموع أودية على نبراس الفضائل، وسراج المعرفة ومنار السنة ونصير
الحقيقة والصادع بالحق في وجه الباطل، وستثبت الأجيال القادمة من هو السيد
رشيد رضا.
لا أدري من أين أبدأ في سرد أعماله الخالدة، ولا ماذا أقول! وإني لفقير من
المعاني وعاجز عن التعبير أن يوفى الفقيد العظيم حقه، غير أن الواجب يقضي على
أن أقول كلمتي التي إن دلت على شيء فلا تدل سوى على تقديري لخسارة
العالم الإسلامي بموت هذا العلامة القدير والحبر الجليل.
ولا أستطيع أن أحدد أعظم عمل قام به الراحل الكريم وكل أعماله عظيمة،
فالمنار مجلة العلم والدين والحكمة والأخلاق والإرشاد والسياسة والتاريخ والإصلاح
والدفاع عن حقوق المسلمين المهضومة والأدب، مجلة كافحت تيارات الزمان
واستمرت تفسر من القرآن ما أشكل على المسلمين من آياته، وتحمل من حِكمه
وبيناته، وتنشر إعجازه وغريبه، وتقرر أحكامه التي وضعها الله لعباده، وتأتي
بفصول من أحاديث القرون الغابرة للذكرى والاعتبار، كم استورى الناس زنادها
فأورت، وطلبت الارتشاف من معينها فأروت، أفادت جميع المسلمين لا فرق بين
العرب والهنود والإيرانيين والأتراك والجاويين والإفريقيين والإفرنج والصينيين،
عرَّفتهم أصول دينهم، وأفهمتهم واجباتهم، وأنارت طرقهم، ومهَّدت لهم السبل للسير
في نور الهداية، وذكَّرتهم بعظمة رجالهم، وترجمت حياة الكثيرين منهم فخدمت العالم
الإسلامي من أول يوم صدورها إلى اليوم الذي أغمض الموت فيه عيني صاحبها، فمن لنا بمن يستمر في إصدارها. أليس الخطب - بربكم - جسيمًا؟ !
من سيدافع عن المسلمين إذا ما وصمه أعداؤه بالتعصب الذميم، ونسبوا إليه
السخافات المرذولة والخرافات المشئومة؟ من سيحيي لنا ذكر عظماء المسلمين،
ويحل مشاكلنا الدينية من غير أن يعتصم بمذهب دون مذهب ويتقيد برأي دون رأي؟
من هو المفتي اليوم وقد تولى رشيد وانقضت أيامه، وفي الليلة الظلماء يُفتقد
البدر؟
لا أدري أأبكي موت رشيد أم أندب إيصاد أبواب المنار؟ فقد مات بموت
السيد رشيد علمان، ورشيد عالم يتدفق علمًا كالسيل الجارف في اندفاعه من أعالي
الجبال، وقد وعى كتاب الله وفهم أسراره، ودرس درسًا تحليليًّا سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعرف صحيحها ونبذ غثها، فشرع يبحث عن أمراض المسلمين
حتى شخصها وأخذ يصف لهم الأدوية، فمنهم من واظب على الدواء فشفاه الله،
ومنهم من أهمل فأخزاه، كم ناضل وجاهد، كم جالد وكابد، وأخيرًا مات فقيرًا، لم
يأخذ من هذه الدنيا الفانية سوى الذكر الخالد والعمل الصالح؛ ولكنه خلَّف للمسلمين
تركة كبيرة وتراثًا ثمينًا ضخمًا؛ خلف لهم أعداد المنار لجميع ما مضى من سني
حياتها، وخلَّف لهم تفسير القرآن، ذلك التفسير الذي اتبع الفقيد في أبحاثه القيمة
فيه أساليب العلم الصحيح، فأثبت أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وما تفسير
" عبده " إلا نتيجة البحث والتنقيب في معاجم العلوم وكتب المعارف واستنتاجات
العلماء الدينيين في جميع العصور الماضية مقرونة بالآراء القويمة والأفكار السليمة،
حذف منه الإسرائيليات، وأثبت المحمديات، وأحيا به سنة سيد المرسلين، فاستوجب
من الله الرضوان وفسيح الجنان.
يا ليت شعري، أي تلميذ في هذا الوجود أخلص لأستاذه كما أخلص السيد
رشيد للشيخ محمد عبده؟ فلم تكن تخلو رسالة من رسالاته من نسبة الفضل فيها إلى
الأستاذ الإمام حتى توج كل ذلك في تاريخ حياته في كتابه الضخم الذي سيطغى
على الأيام ويجتازها إلى القرون القادمة شاهدًا إلى الأبد على مروءته النادرة
واعترافه بالفضل والجميل، وأين التراجم التي عهدناها من ترجمة السيد رشيد
لحياة أستاذه الإمام، فليست هذه الترجمة بتاريخ حياة فرد من أفراد الأمة؛ ولكنها
خلاصة لتاريخ أمة تمثلت في شخص الشيخ محمد عبده، خاض فيها فقيدنا البحث
وطرق المواضيع العلمية والأخلاقية، والفلسفية والدينية والتاريخية، وأتى في
المقدمة بكلمة عن موقظ الشرق أستاذ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، وكأنه
وضع للناس حديث النهضة الحديثة في الشروق، ورجالها وأسبابها وصورهم
في شخص الرجل الذي لا يفتر عن ذكره، ولا يمل التفكير في آرائه الصائبة
واستنتاجاته البقية ببقاء الزمان.
ولقد كنت أقرأ هذا التاريخ يومًا في بربرة الصومال وعندي صديق يستمع،
فوقفت فجأة وانحدرت دموع عيني كالوابل الهطل، بعد لحظة سألني الصديق عن
سبب بكائي، فأجبته: (إنما بكيت كيف تصل يد الموت إلى عالم كهذا لا يستطيع
الزمان أن يبقى حتى تنفذ مادته؟) اقرأ بربك كتابه (نداء الجنس اللطيف)
فتعرف عظمة الفقيد؛ إذ أثبت ما للمرأة في الإسلام من مركز ومقام، وأفهم العالم
أن الإسلام لا يهضم حقوقها بل جعل لها من حماية الرجل وحماية الشرع ما
تستطيع أن تعيش معهما سعيدة موفورة الكرامة، يالك من كاتب قوي الحجة،
سريع الخاطر، حاضر الذهن، لا تعيقك عن إثبات الحق البراهين المعقدة، تدلي
بالآراء القوية والحقائق العقلية والنقلية حتى ترجع النفوس الظامئة إلى الحق وقد
ارتوت بما أفهمتها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستدلالات المنطقية
التي لا تقبل الجدل ولا النقض، ولكن واهًا لك يا رشيد واهًا؛ فقد ذهبت وأخليت
الديار، وأصبحت مع الأخيار في دار الأبرار، وأين نحن منك وقد بعد الدار وشط
المزار، واأسفاه على ذلك الرجل العظيم، ذلك العلم الخفاق، فقد خَفَتَ ذلك
الصوت الداوي الذي طالما رنَّ رنينه في الآفاق، فاستفز الأرواح بعد خمولها،
وبث فيها نشاطًا وأوجد فيها حياة، ويشهد أبناء النيل أني في قولي لصادق، وتشهد
الجزيرة العربية وتشهد جاوا والهند، ويشهد العالم الإسلامي بفضل عالم قلمه السيال
طالما صر فوق الطروس، فحفز النفوس، وزلزل العروش وهذَّب المبادئ، وكوَّن
الأخلاق، وطيب الأعمال وأرشد إلى حسن المآل.
ولو لم يؤلف السيد رشيد إلا كتابه (الوحي المحمدي) لكفاه ذلك فخرًا واجبًا
له إلى الأبد ذكرًا، ولكن مؤلفاته أكثر من أن تحصى وهي أكثر من كثير أو تذكر
في كلمة تأبين كهذه أكثر كلماتها زفرات، وجل جملها أنات من قلب حزين يندب
حظ المسلمين، ويعرف أنه كما اختفت جريدة المؤيد في مصر ستختفي المنار،
وكما لم يقم أحد بديلاً عن عبد الكريم الريفي ولا عن محمد عبد الله حسن الصومالي،
ولا عن المهدي، ولا عن عرابي باشا، ولا عن جمال الدين الأفغاني، ولا عن
مصطفى كامل وسعد زغلول والشيخ محمد عبده، فكذا لن يقوم أحد مقام السيد
رشيد رضا.
ولست أقول: إن العالم الإسلامي لا يكتف رجالاً أعلامًا ونباريس أولي فهم
وإدراك، ولكني أقول: إن النفوس متضائلة والأحلام حقيرة، وأنه لا يوجد رجل
يضحي بنفسه في سبيل مبدئه الديني ويعرِّض صدره لسهام الانتقادات المُرة الكَرَّة
تلو الكَرَّة كما فعل السيد رشيد رضا، ونحن في عدن كنا نستنير بمناره ونسترشد
بعلمه، وطالما كتب - رحمه الله - المقالات وحبَّر الفتاوى لإرشادنا، ولا يسعنا إلا
أن نستمطر الرحمات من لدن العلي الأعلى على روحه الطاهرة - آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي إبراهيم لقمان
... ... ... ... ... ... ... رئيس نادي الإصلاح العربي بعدن
__________(35/229)
الكاتب: عبد الرحمن شهبندر
__________
تعزية جمعية الرابطة العلوية
في بتافيا بجاوة
لقد انهلعت القلوب جزعًا وامتلأت الجوانح أسًى وحزنًا لمَّا أن بلغنا نعي
صاحب السيادة العلاَّمة الكبير المرحوم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار،
فقد العالم الإسلامي فيه علاَّمته الكبير وحبره النحرير وحاميًا عظيمًا عن ذماره،
وذائدًا عن حياض دينه وفناره، ومفخرة علمية كبرى بل تاج فخاره - رحمه الله
رحمة الأبرار وأخلفه علينا بخير خلف - وعليه فلا عجب إذا اهتزت البلاد
الإسلامية أسفًا وروعًا، وبكت الأفئدة والعيون جمعًا.
ونقدم رقيق تعازينا في الفقيد لشعوب الإسلام والعرب عامةً، ونخصص عائلة
الفقيد الشريفة المصونة بأرقها، راجين من المولى جل وعلا أن يمطر على ضريح
الفقيد العظيم شآبيب رحمته ورضوانه، ويسكنه فسيح جناته، ويخلفه على العالم
الإسلامي خلفًا صالحًا، ويلهم الجميع - لا سيما ذويه - الصبر والسلوان.
... ... ... ... ... ... عن الهيئة المركزية للرابطة العلوية
... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الأول
... ... ... ... ... ... السيد أحمد بن عبد الله السقاف
__________(35/233)
الكاتب: عبد الرحمن شهبندر
__________
كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر
في حفلة التأبين
ابتدأت النهضة في سورية دينية كما ابتدأت في معظم الأقطار الأخرى؛ لسبب
بديهي، وهو اعتقاد الناس أن بلاءهم من أنفسهم، فهم يخطئون ولكن دينهم الذي
يقدسونه لا يخطئ، وهم ينحطون ولكن العقائد التي توارثوها عن أئمتهم لا تنحط،
فلابد لهم - والحالة هذه - من أن يرجعوا إلى دينهم إذا أرادوا أن يعودوا سيرتهم
الأولى من الرقي والنجاح، ففيه الكنوز المخبوءة التي تحقق لهم رغباتهم.
وكانت الحلقة التي سارت أبعد شوط في هذا المضمار في سورية مؤلفة من
الأساتذة المرحومين: الشيخ طاهر الجزائري، والسيد سليم البخاري، والشيخ عبد
الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي والسيد علي مسلم وغيرهم، وكان من
حظي ومن حظ الأستاذ محمد كرد علي أن نلتحق بهذه الحلقة المباركة، فكان يُطلق
علينا للتشهير بنا أسماء مختلفة آخرها أننا (وهابية) وهي كلمة لم تعن في نظرنا
يومئذ إلا ما تعنيه اليوم في كثير من الأوساط في أنها طريقة الرجوع إلى السلف
والاعتماد على كتب المؤلفين أمثال ابن تيميه وابن القيم ومن حذا حذوهما من الأئمة.
معرفتي بالسيد رشيد سماعًا: وفي تلك الغضون طلعت علينا من القاهرة مجلة
(المنار) فعرفنا أن لنا في مصر إخوانًا ينطق بلسانهم الراحل الكريم، فكنا
ننتظر وصولها بلهفة وشوق؛ لنطلع منها على أخبار الأستاذ الإمام محمد عبده
وإخوانه السلفيين المجددين.
ومع كل المقاومات التي لاقيناها في الدولة العثمانية ولاقاها إخواننا في مصر
فلابد لنا من الاعتراف بأنها لم تكن شيئا مذكورًا بجانب ما لقيه رجال الإصلاح
الديني في أوروبا، ولعل من أسباب ذلك أننا ليس عندنا (إكيروس) منظم له
جيوشه وقواده ومصالحه الخاصة.
أما معرفتي بالسيد رشيد عيانًا: فهي عقب الدستور العثماني في سنة 1908؛
فقد جاء سورية زائرًا بعد غيبة طويلة عنها، ودعي إلى إلقاء درس في
الجامع الأموي فتآمر عليه الحاقدون على التجديد الديني والحرية والدستور، وتألبوا
عليه بصورة كادت تنتهي بسفك الدماء، فما لفقوه واختلقوه عليه وزوروه أنهم
نسبوا إليه تحليل بعض المحرمات وتحريم بعض المحللات، ولولا تدخل كبار
الأحرار لكانت ثورة رجعية حمراء، وهذا درس بليغ يجب ألا ينساه من وضع
الإصلاح الديني الاجتماعي نصب عينيه مثلكم أيها السادة؛ لأنه يدل دلالة واضحة
كيف أن أعداء الإصلاح لا يتورعون عن الاختلاق والتزوير في سبيل مآربهم،
وكيف أنهم يتذرعون بالدين للوصول إلى شهواتهم، وعلى كل حال فليس من
الضرورة في شيء أن يكون أكثر الناس تشدقًا باسم الدين بأفواههم هم أقرب الناس
إلى الله بقلوبهم.
وعالج السيد رشيد رضا الشؤون السياسية في حياته، فكان في إبان الحكم
العثماني من أنصار اللامركزية، وقارع الاستعمار مقارعة يشهد له بها كل من
عرفه معرفة صادقة، وإن الخدمات الجلَّى التي قدمها في الموضوعات الدينية
متعددة وجوهرية؛ فمنها سعيه المتواصل لإظهار الصلة القائمة بين المعقول
والمنقول وأنهما حليفان لا يجوز أن يفترقا، ومنها نشر الأخبار الصحيحة عن
أخلاق السلف الصالح التي كانت سبب عزته ومناعته، ونقص هذه الأخلاق في
الخلف الحاضر، ومنها اهتمامه بالأخلاق الإيجابية - وهي الأمر بالمعروف - كما
كان يهتم بالأخلاق السلبية؛ وهي النهي عن المنكر. ومتى عرفنا أن هناك تفاعلاً
شديدًا بين العقائد الدينية والعقائد السياسية واتصالاً وثيقًا، أدركنا شأن الخدمات التي
أداها السيد رشيد في النهضة العربية الوطنية، وستبقى مجلة المنار التي أنشأها
بجده وغذاها بعقله وعقل أساتذته وإخوانه سجل النهضة الدينية الحديثة، وإذا كان
الموت درجات: موت يفرح له الناس وموت لا يتأثر به أحد من الناس، فموت
السيد رشيد رضا هو موت تهلع له قلوب الناس.
__________(35/234)
الكاتب: عبد الحميد كرامي
__________
تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا
بقلم سماحة السيد عبد الحميد كرامي
زعيم طرابلس الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا كانت الأعمال مرآة تنعكس فيها صورة أصحابها.
وإذا كانت الآثار تنطق بقيمة أربابها.
وإذا كانت الصفات الحميدة والمبادئ السامية والعقيدة الثابتة والإيمان
الصحيح تدلك على الرجل الموهوب صاحب الشخصية البارزة والعظمة الحقيقية -
فإن فقيد الأمة العربية المرحوم الشيخ رشيد هو ذلك الرجل العظيم والموهوب
الحكيم، وإني أستشهد من الوقائع بأمرين:
أما الأول: فتلك الأبيات التي تركت دويًّا في جميع الأوساط، وقد نفثها صدر
المجدد الكبير والفيلسوف الشهير الشيخ محمد عبده - رحمه الله - ومنها هذا البيت:
فبارك على الإسلام وامنحه مرشدًا ... (رشيدًا) يضيء النهج والليل قائم
فقالت جماعات إن الإمام يعني بالرشيد فقيد اليوم، وقالت جماعات إن الرشيد
تعود الاشتقاق العقلي فهي فعل بمعنى الفاعل، وكيف ما كان الحال فإن الفقيد لو لم
يكن ذلك الرجل لما تبادر إلى أذهان الجماعات أنه الرشيد المرجو!
وأما الأمر الثاني: فهو آثار الفقيد وتآليفه وإظهاره التعاليم الإسلامية الحقة
بمظهرها الصحيح ووقوفه المواقف المشرفة في سبيل العروبة والإسلام، فإذا ما
كتب ففي عقيدة، وإذا جادل فليقنع أو ليقنع، فهو إذن رجل اجتمعت فيه مزايا
الرجل وحلاَّها بغزارة العلم ونبالة الخلق وسمو المبدأ وشدة الإخلاص وأصالة الرأي
حتى كاد يتهمه البعض بالشدة، وما ذلك إلا لعدم محاباته لأحد في ما يعتقد أنه حق.
وقد امتاز الإمام الرشيد في ثقافته وعلمه، وتفوق بالوفاء والإخلاص، وكلكم
يعرف أكثر مني كيف كان وفيًّا بارًّا أمينًا لأستاذه الشيخ الإمام محمد عبده على
الأخص، فعنده يتلاقى العقل بالأدب ويجتمع المنطق وسداد الرأي، ويتفق العلم مع
الدين، ويكفيه فخرًا أنه وضع حدًّا لما علق من الريب في أذهان الناشئين، ولكل
ما كان يلفقه الفرنجة خاصة من أعداء الدين، وأن السيد - رحمه الله - قد عرف
وهو غريب الدار في مصر أن يجعل الأمة المصرية الكريمة تجمع على حبه
واحترامه وتقديره، وها هي حفلتكم اليوم ناطقة بذلك الاحترام، معلنة هذا التقدير
الذي أذكره بالخير والفخر لمصر قلب العروبة النابض، ومصر المضيافة الآخذة
بمن يهبط بها من رجال الأدب ورجال السياسة إلى الذروة العليا فتغذيهم وتقويهم
وتلهمهم بما هو كامن فيها من سحر وقوة وجمال.
وإذا كان أبناء العروبة والإسلام مدينين للفقيد العظيم بما ألف وكتب ونشر،
فإن السيد - رحمه الله - مدين بعظمته لمصر الخالدة العاملة على تشجيع ذوي
الرغبة في خدمة أمتهم وبلادهم بما قدمت له وبما نفحته به، ومدين أيضًا للعالم
الإسلامي بما أحاطه به من رعاية وتقدير وبحسن استفادته من علمه وفضله.
إن العروبة والإسلام المفجوعين بفيقدهما الخالد وبولدهم الأمين الأبر؛ ولكن
تعزيتنا أيها السادة هي في بقاء رجالات مصر وكواكبها المنثورة في سماء العبقرية،
فذلك يخفف عنا أعباء المصيبة بفقيدنا الذي نسأل الله له الرحمة الواسعة، والجنة
اليانعة، كما نرجو للبلاد العربية جمعاء وحدتها الشاملة ولمصر استقلالها الكامل
لتعيد مجدها الغابر وعزها الدابر، وفي ذلك أكبر عزاء وأفضل رجاء.
والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد كرامي
... ... ... ... ... ... ... ... ... طرابلس الشام
__________(35/236)
الكاتب: عبد الرحمن بن زيدان
__________
عواطف ابن زيدان
نحو فقيد الفضل والعرفان
لقد فقد الهدى أسمى فقيد ... بعصر ليس فيه سوى (رشيد)
فماد لفقده الإسلام حزنًا ... وفقد (مناره) الزاهي المشيد
وود (فؤاده) لو كان يُفدى ... فقيد بالطريف وبالتليد
ولو يعطى سواد العين فيه ... ليرجع هان في حق الفقيد
فقيد ما له خلف يضاهي ... جلالة علمه الهامي المديد
إمام كان منه الشرع يُجلى ... ودين الله يسمو في صعود
إمام كان للإسلام حصنًا ... حصينًا صار رمزًا للخلود
إمام فاز بالقدح المعلَّى ... وحصل السبق والشأو البعيد
إمام لا يجارى في المعالي ... وما له في المعارف من نديد
لقد أحيا الأنام حياة علم ... وأرشدهم إلى القصد السعيد
(بنبل) علومه الفياض روَّى ... عطاشًا في الصدور وفي الورود
فأصبحت المذاهب منه ثكلى ... تقول لعينها بالدمع جودي
وتعلن أنه قد كان فردًا ... يعز نظيره في ذا الوجود
وأن له على الفقهاء طرًّا ... أيادي جددت خير العهود
وأن له على الأفكار فضلاً ... يرد به أخا الفكر الشرود
وأن له لدى العظماء ذكرًا ... يرجع مثل ترجيع النشيد
إذا ذكرت ذوو الإصلاح يومًا ... فإن فقيدنا بيت القصيد
رسا بثباته فوق الرواسي ... وفي وثباته حتف العنيد
ولم يعبأ بما قد كان يلقى ... من الأزمات والدهر الشديد
أيُجهل فضله في الناس يومًا ... وفضله ما عليه من مزيد
وهل بعد الرشيد يطيب عيش ... ويغتر المميز بالوجود
فآه ثم آه ثم آه ... على طود تغيَّب في اللحود
ولكن لا مرد لحكم مولى ... مضى طبق المشيئة في العبيد
وهل يجدي سوى التسليم عبدًا ... يفر لدى المصاب إلى السجود
ويرجع عند ذاك إلى التأسي ... بمثل فقيدنا الركن العميد
عليه رضا المهيمن ما تجلت ... على مثواه أنوار الشهود
وفي دار النعيم يقر عينًا ... بما يرجوه من غانٍ مجيد
ورحمة الله ربنا تُلقى عليه ... أتم مطارف الذكر الحميد
ابن زيدان ... ... ... قاله وأمر بكتابته خديم العلم والتاريخ
... ... ... ... عبد الر حمن بن زيدان
... ... ... ... ... نقيب الأسرة المالكة في المغرب الأقصى
... ... ... ... عن مكساس في 25 رمضان عام 1354
__________(35/238)
الكاتب: محرر جريدة المقطم
__________
وصف المقطم لحفلة التأبين
أقيمت أصيل أمس في دار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين المرحوم السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار برئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى
المراغي شيخ الجامع الأزهر.
وكان في مقدمة الذين شهدوا هذه الحفلة أصحاب الفضيلة الشيخ عبد المجيد
اللبان والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ علي سرور الزنكلوني والشيخ عبد الوهاب
النجار وغيرهم من شيوخ الأزهر ورجال الدين.
وحضر الحفلة أيضًا حضرات الشيخ فوزان السابق معتمد الحكومة السعودية
وعبد القادر بك الكيلاني القائم بأعمال المفوضية العراقية وحمد الباسل باشا والدكتور
نمر والسيد الثعالبي والوجيه ميشيل بك لطف الله وأنطون بك الجميل وخليل بك
ثابت والدكتور خليل مشاقة والأساتذة خير الدين الزركلي وأسعد داغر وأمين سعيد
وتوفيق بك هولو حيدر وغيرهم من أعيان السوريين واللبنانيين.
وجلس على المنصة فضيلة الأستاذ الأكبر رئيس الحفلة ومهدي بك رفيع
مشكي سكرتيرها العام، وبقية الخطباء مع آل الفقيد.
__________(35/239)
الكاتب: محمد أمين الحسيني
__________
كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الوطني المفضال الأستاذ محمد علي الطاهر المحترم القاهرة - مصر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد تلقيت كتابكم الكريم المؤرخ في
24 رجب 1354 الموافق 22 أكتوبر سنة 1935، والمتضمن قيام فريق من
إخواننا الأكارم بتأليف لجنة لتأبين فقيد الإسلام الكبير منشئ المنار المرحوم السيد
محمد رشيد رضا.
إني أشارككم في القيام بهذا الواجب اعترافًا بفضل الفقيد العظيم ومآثره الجليلة
وجهاده المتواصل في سبيل الإسلام والعروبة.
وأشكر لحضرتكم اهتمامكم في إقامة هذه الحفلة التأبينية الكبرى لإيفاء الفقيد
الجليل حقه من الرثاء والتأبين، وتخليد ذكراه الحافلة بشتى المآثر والصفات.
وأسأله - تعالى - أن يعوض الإسلام والمسلمين خير العوض، ويجزي
الراحل الكريم على ما قدم وبذل خير الجزاء.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
... ... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني
... ... ... ... ... ... ... ... 8 شعبان سنة 1354
__________(35/240)
الكاتب: محمد لطفي جمعة
__________
السيد رشيد رضا
كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة
كل من قرأ الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف
المرحوم السيد محمد رشيد رضا ووصل إلى صفحة 791 لابد أن يكون اطلع على
النبذة الآتية تحت عنوان (إحالة الأستاذ محمد عبده بعض المستفتين على مريده
المؤلف) قال - رحمه الله -:
(وأذكر من الأحياء المعروفين محمد لطفي جمعة كان كتب إلى الأستاذ الإمام
وهو تلميذ في المدرسة الثانوية مكتوبات، وأنه حضر ولقي الأستاذ وأراد البحث
معه في المسائل التي كانت تشغل باله وهو طالب ثانوي، وقد وجدت كتابين للطفي
جمعة رأيت أن أنشرهما لما فيهما من الدلالة على بحثه في زمن التعليم في مسائل
فلسفية وعلاقتها بالدين، ومعرفته بمكانة الأستاذ وفضله وإلهامه والرجوع إليه فيما
يهم، ووصفه التعليم في المدارس الثانوية، وقد قابلته ولا أذكر ما دار بيننا
بالتفصيل) وبرجوعي إلى الكتابين المذكورين رأيت تاريخهما 24 فبراير سنة
1904، وإذن تكون علاقتي بالمفتى الإمام وتلميذه الرشيد ترجع إلى 32 سنة،
وفي الخطابين تصوير لخواطري في عهد الدراسة الثانوية، وفيهما بحث في الله
والمادة والكون وخواطر في النفس البشرية وخلق آدم وحواء.. إلخ.
وإذن وجب علي بوصفي من أسبق الأحياء إلى معرفته أن أفيه حقه من
التأبين، وقد وقع حظي على موضوع علاقة المرحوم السيد رشيد بالمستشرقين
وهو بحث غريب طريف؛ لأن السيد لم تكن له علاقة حقيقية بأحد من علماء
المشرقيات إلا فيما يتعلق ببحثه أحيانًا نادرة في آرائهم، وكان يقر بعضًا منهم على
النتائج الباهرة التي وصلوا إليها ولا سيما جولد زيهر في كتابته على السنة المحمدية،
وأقول إن دراستي لمؤلفات معظم المستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام والتقائي
ببعضهم في أوربا ومصر جعلتني أكوِّن عقيدة ثابتة في أن الذين بحثوا في الإسلام
منهم أثناء القرون الوسطى أمثال أديسون وباكون كانت تتأجج في صدورهم نيران
الحقد أو الكراهية، واستمرت هذه النار في صدور بعض الذين بحثوا منهم في
جانب كبير من أعوام العصر الحاضر وهم أهل تعصب وحقد على الإسلام، ثم
استجد عهد ادعى فيه بعض المستشرقين التزام الحياد، وفيما كتبوه وقالوا إنهم
خالو الغرض وبريئون من سوء النية ولم يعودوا يوجهون إلى الإسلام ونبيه شيئًا
من الذي أثبته أسلافهم في كتبهم الخاطئة.
وينبغي أن أقول إن المستشرقين الحسني النية أدوا أعظم خدمة للإسلام وألقوا
بمؤلفاتهم وجهودهم أضواء جديدة على أصول الدين الإسلامي الذي قلب العالم رأسًا
على عقب، وفي مقدمة هؤلاء نولدكه وسنوك هيرجرونيه وهما هولنديان
ونيكولسون وإدوارد براون الإنجليزيان وجولد زيهر النمسوي وليون كايمي
الإيطالي ورينان ودي سلمى الفرنسيان.
أما الآخرون الذين لم يتوفر فيهم النية الحسنة ولا الغيرة الصادقة الواجبة على
كل باحث علمي، فقد أتاح الله أقلامهم لنشر فضائل الإسلام على الرغم منهم وفي
مقدمة هؤلاء مرغليوث الذي لطخ وجه العلم والتاريخ والأدب بكتابه في حياة النبي
لما حشره فيه من الأكاذيب والباطل، ويسرني أن أذكر أن بعض المستشرقين أمثال
هوبروسيرنجر وكايتاني قد سلكوا في النقد العلمي طرقًا تختلف جد الاختلاف عن
طرق البحث عند علماء المسلمين فوصلوا إلى التسليم بصدق محمد وخلوص نيته،
وإلى التأكيد بصحة استعداده للوحي فعمدوا إلى تفسير خفاياه ولكنهم عجزوا.
أما المتأخرون من المستشرقين، فقد استخلصوا أصول العقيدة الإسلامية
وبحثوا أطوار نشوئها وترقيها، وقالوا بأن بعض ما يعتقد المسلمون أنه منزل من
الله لم يكن غير نتيجة تطور بطيء أو تفسير لمسائل غامضة لم تكن واضحة في
فجر الإسلام، ونزعوا عن صورة النبي جميع ما أضيف إليها من الأساطير،
والروايات التي بدلت حقيقتها أو شوهتها.
ثم تناولوا بالنقد الدقيق أقوال النبي وأعماله وحركاته وسكناته، ووضعوا حدًّا
فاصلاً بين ما أوحي إليه - وهو ثمرة الإلهام - وبين ما وصفوه بالمدارك التي
نشأت في عقله على إثر اتصاله بالحياة اليومية، وبعد أن استن السنن واشترع
القوانين ووضع القواعد لتسيير الدولة الضخمة التي أنشأها.
فعلوا ذلك، وهم يظنون أنهم يفصلون العنصر الإلهي بمعناه الواسع عن
العنصر الإنساني فقصروا العنصر الإلهي على أعمال لا تحتمل الشك ولا الجدل في
نظرهم ورَدّ العنصر الإنساني إلى أعمال الدولة وفي أثناء حياة المرحوم الإستاذ
الإمام كتب جبرييل هانوتو مقالاً في جريدة جورنال عن الإسلام فرد عليه المفتي
ردًّا مفحمًا ألزمه الحجة وأرغمه على الاعتذار والتقلب في اعتذاره كالأفعى، ثم
نقل الأستاذ فرح أنطون نبذًا من تاريخ ابن رشد من كتاب أرنست رينان ونسب فيها
إلى الإسلام أنه ضيق الفطن حيال الفلسفة وأن غيره من الأديان أوسع صدرًا
للحكمة، فانبرى الشيخ محمد عبده للرد على رينان بأدلة تاريخية، وبراهين
محسوسة حتى أزال أثر ما نسب إلى رينان ومعظمه راجع إلى أخطاء في الترجمة
وقع فيها الناقل بحكم العجلة وقلة الخبرة.
ومن غرائب المصادفات أن السيد رشيد وفرح كانا من بلد واحد وصلا إلى
مصر في يوم واحد.
أما الموقعة الكبرى بين المرحوم السيد رشيد رضا المستشرقين فهي رده عليهم
في درسهم للسيرة المحمدية وتفسير الوحي، وهو يسلم بأن علماء الإفرنج
درسوا تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده على طريقتهم في النقد والتحليل، ودرسوا
السيرة النبوية المحمدية وفلوها فليًا ونقشوها بالمناقيش وقرءوا القرآن بلغته وقرءوا
ما ترجمه به أقوامهم، وكانوا على علم محيط بكتب العهدين القديم والجديد وتاريخ
الأديان - ولا سيما الديانتين اليهودية والنصرانية - وبما كتبه المتعصبون للكنيسة
من الافتراء على الإسلام والنبي والقرآن، فخرجوا من هذه الدروس كلها بالنتيجة
الآتية:
إن محمدًا كان سليم الفطرة، كامل العقل، كريم الخلق، صادق الحديث،
عفيف النفس، قنوعًا بالقليل من الرزق، غير طموع بالمال ولا جنوح إلى الملك،
ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر،
وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية، ويحتقر ما يتنافسون فيه
من الشهوات كالخمر والميسر وأكل المال بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت بعد النبوة
جزموا بأنه كان صادقًا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من عمره من رؤية ملك
الوحي وإقرائه القرآن وإنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر الناس.
أما المستشرقون الماديون فرأيهم أن الوحي إلهام يفيض من نفس النبي
الموحى إليه لا من الخارج، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي وراء عالم
المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس، فإن هذا شيء لم يثبت عندهم وجوده،
وهذا التصوير الظاهر للوحي قد سرت شبهته في كثير من المسلمين المرتابين الذين
يقلدون الماديين.
وقد أخذ المرحوم السيد رشيد على عاتقه الرد على هؤلاء الماديين في
الصفحة 788 من المجلد السادس من المنار سنة 1321، أي منذ أربع وثلاثين
سنة، فردَّ على من شبهوا النبي محمدًا بالآنسة الريفية الجميلة جان دارك راعية
الغنم بأنها لم تقم بدعوة إلى دين أو مذهب، وأنها كانت مصابة بنوبة عصبية
قصيرة الزمن معروفة السبب وهو بغضها لأعداء وطنها الإنجليز وتعيينها قائدة
لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي ضباطهم ملكيون على عسكر الإنجليز
الذين كانوا يحاصرون أورليان فدفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع
وذلك سنة 1429، ثم زالت خيالاتها الحماسية فهوجمت في السنة التالية 1430
فانكسرت وجرحت وأسرت وحوكمت وأحرقها رجال الكنيسة الذين قدسوها بعد ذلك
بخمسمائة سنة بالتمام، فصارت سنة 1930 القديسة جان دارك.
قال السيد جمال الدين الأفغاني لبعض مجادلي النصرانية: إنكم فصلتم قميصًا
من رقاع العهد القديم وألبستموه للمسيح، عليه السلام. وقال رشيد رضا
للمستشرقين الماديين: إنكم فصلتم قميصًا آخر مما فهمتم من تاريخ الإسلام لا من
نصوصه وحاولتم خلعه على محمد.
وألف السيد رشيد كتاب الوحي المحمدي ليرد على موتيه ودرمنجهم
وأضرابهما فنفى أسطورة اجتماع النبي ببحيرا الراهب في مدينة بصرى بالشام
الذي قيل إنه علَّم النبي.
وأثبت بأن محمدًا لما خرج إلى الشام مع عمه كان عمره تسع سنين، وكل ما
جاء فيها ضعيف الأسانيد إلا رواية الترمذي.
وهذه ليس فيها اسم بحيرا وفيها غلط في المتن، وليس في شيء منها أن
النبي سمع من بحيرا شيئًا من عقيدته أو دينه.
وتناول مسألة ورقة بن نوفل أحد أقارب خديجة وحاول بعضهم إيهام القراء
أن محمدًا أخذ عنه شيئًا من علم أهل الكتاب، والحقيقة أن ورقة كان عند بدء
الوحي أعمى ولم ينشب أن مات، وتناول المرحوم هذه النقطة في تفسير آية:
{الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) وإسلام سلمان الفارسي وغيره.
ولكن نار العقيدة ونورها تشتعل وتضيء في صدر المرحوم عندما يرد على
المستشرق الذي قال: إن محمدًا كان يجد في التحنث طمأنينة لنفسه فكان ينقطع كل
رمضان طوال الشهر في غار حراء بجبل أبي قبيس. وهذه النجوم في ليالي
الصيف في صحراء كثيرة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها
وكأنه نغم نار موقدة. ومحمد في ريب من حكمة الناس ويريد أن يعرف الحق
الخالص. قال جولد زيهر في كتاب (السنة المحمدية) المكتوب باللغة الألمانية
والمترجم إلى معظم لغات أوروبا:
ليس الإسلام سبب انحطاط الشعوب المتمسكة به، ولكن سبب انحطاطها
ضعف عقولهم وأخلاقهم وخطأهم في فهم أحكام دينهم، فقد أخطأ المسلم في فهم
معنى التوكل والقدر فوكَّل الأمور إلى الحوادث، وأخطأ علماؤهم في فهم ما جاء
من أنهم خير أمة أخرجت للناس فظنوا الخير مقرونًا باسم الإسلام ولفظه لا بروحه
ومعناه، وفي هذا مخالفة صريحة لأوامر الدين وأمثلة السنة المحمدية المفادة من
أقوال النبي وأعماله.
وكذلك أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لهم فسلم جميع
أموره للحكام وتركهم يتصرفون في أموره، وظن أن الحكومة يمكنها القيام بجميع
شؤونه بدون معاونته أو اشتراكه.
وهذه العيوب وغيرها راجعة إلى طبائع الشعوب التي تدين بالإسلام وما
ورثته من الأجيال الوثنية السابقة، وقد مرت بها اليهودية أو المسيحية وتركت
بعض آثار فيها.
وبالجملة فالأمة المنتسبة للإسلام وتكون منحطة أو مغلوبة ليست أمة مسلمة
إلا لفظًا، وهي في الغالب وثنية تلبس ثوب الإسلام؛ لأن بحوثنا المستفيضة أثبتت
لنا أن الإسلام يرفع شأن المنتسبين إليه ولا يمكن أن يخفضهم، بل تخفضهم
أخلاقهم وعقولهم.
كل مطلع على آداب الإفرنج يعلم أن علماء المشرقيات عنوا بغرس
دوحة يانعة للعلوم العربية فلما أينعت استثمرها النابهون منهم أمثال: ديجوجيه،
وجرِيمِه، ونولدكِه، وساسي، ورينان، وكايتاني، ونيكلسون وبراون وجلودزيهر
ووينهاوزن وقد شادوا للعلوم الشرقية والآداب العربية مجدًا لا يدانيه في مجال
التأليف إلا جلال مباحثهم، هؤلاء كلهم علماء انطوت مواهبهم العقلية على حذق
النقاد ودقتهم، وقد أطاف كل منهم سجية تطيعه حول جميع الأمور من عال ودون
حتى كشف لنفسه منها مبدأ.
واتفق نولدكه، وليون كايتاني، ودى جوجيه، وويلهاوزن، وجولدزيهز
ونيكلسون على صحة سيرة رسول الله التي ألفها ابن إسحق ورواها ابن هشام، ولم
يكن هذا التصديق اعتباطًا إنما نتيجة بحث واستنباط واستقراء، وقد ظهر لهم أن
ابن إسحق المتوفى في منتصف القرن الثاني كان ثبتًا في الحديث والمغازي،
ودرس على أعظم العلماء المعروفين في زمنه، وألف سيرته واتبع فيها طريقة
الأسانيد.
وقد رأينا كتابًا خاصًّا بأخبار الرجال الذين روى عنهم ابن إسحق مطبوعًا في
هولندا سنة 1890، أما السيرة ذاتها فقد طبعت في أوربا سنة 1860 وترجمت إلى
بعض اللغات الأوروبية، وابن هشام الذي روى عن ابن إسحق كان مشهورًا بعلم
النسب والنحو وتوفي في مصر في أوائل القرن الثالث.
إن فريقًا مهمًّا من المستشرقين يستعملون علمهم وأدبهم لأغراض سياسية في
الممالك الإسلامية والشرقية، فهم يتقنون اللغات ويندسون بين ظهرانيهم ويقفون
على أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم وأسرار دولهم، فمن هؤلاء: هيرجرونجيه الذي
أقام في مكة وفي جاوة مسلمًا، وجورج سيل أقام في مصر ومكة مسلمًا، وشارل
بيرتون حج وألف في كُتاب العرب وشعائر الإسلام كتابًا، ولين مؤلف كتاب
(المصريون المحدثون) .
وكانت الحاجة إلى هؤلاء الناس ماسة وأعمالهم لأوطانهم مثمرة عندما كان
أهل هذه البلاد الشرقية والإسلامية متمسكين بآدابهم حريصين على حياتهم القومية.
أما الآن فقد أصبح كل شيء معروفًا ومعلومًا ومباحًا، بل أصبح المسلم في
هذه الأيام حجة لغيره من أهل الأديان والملل الأخرى وفتنة له يضل بها عما أقام
الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله جاء في أكمل
صورة ببعثة خاتم النبيين وأيدنا هذا القول بألف دليل، رأينا علة واحدة تهدم كل ما
بني من الأدلة وهي (لو كان الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به في
زعمهم على ما نرى من فساد الأخلاق وسقوط الهمم وضلال العقول) حتى
أصبحنا فتنة لغيرنا.
فلما كانت سنة 610 كانت الحال النفسية التي يعانيها محمد على أشدها
فأبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرًا جوهريًّا ينقصه وينقص قومه. ونسي النهار والليل
والحلم واليقظة وقضى ستة أشهر في هذه الحالة ثم جاءه الملك! !
(وقد حنق المرحوم السيد رشيد على هذا التصوير لبداية الرسالة فقال: إن
هذا المستشرق أرخى لخياله العنان ونزع من جواده اللجام، ونخسه بالمهماز فعدا
به سبحًا، وجمح به جمحًا، وقدحت حوافره له قدحًا وأثارت له نقعًا، وأذن
لشاعريته أن تصف محمدًا عند الغار بما تحدثه في نفسه مشاهد نجوم الليل، وكل
ما كتبه أوجلَّه غير صحيح) وتصل حمية المرحوم وحماسته عندما يكتب: (فمن
أين علم هذا الأفرنسي أن محمدًا نسي الليل والنهار، والحلم واليقظة، وأنه كان
يقضي الساعات الطوال جاثيًا في الغار أو مستلقيًا في الشمس، وأنه قضى ستة
أشهر في هذا الحال، قد افترى في الأخبار ليستنبط منها أنه صار - صلوات الله
عليه - مغلوبًا على عقله، غائبًا عن حسه، وإننا ننقل هنا أصح الأخبار في خبر
تحنثه في الغار الليالي ذوات العدد من شهر رمضان في تلك السنة لا فيما قبلها
لتفنيد مفترياته وللاستغناء بها عما نقله من الخلط في صفة الوحي) .
وخلاصة رأي الشيخ رشيد في الوحي، وهو أهم مسألة عالجها في حياته
حتى جعلها آخر ما ألف ونشر، قال:
إن استعداد محمد للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله روحه الكريمة كمرآة
صقيلة حيل بينها وبين كل ما في العالم من التقاليد الدينية والآداب الوراثية والعادات
المكتسبة إلى أن تجلى فيها الوحي الإلهي بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه
لتجديد دين الله المطلق، الذي كان يرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة بما يناسب
حالهم واستعدادهم، وجعل بعثة خاتم النبيين به للبشر عامة دائمة لا يحتاجون بعدها
إلى وحي آخر، فكان في فطرته السليمة وروحه الشريفة، وما نزل عليها من
المعارف العالية، وما أشرق فيها من نور الله الذي تلوته عليك من آخر سورة
الشورى هو مضرب المثل في قوله - تعالى - في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: 35) .
فزيت مصباح المعارف المحمدية يوقد من زيتونة لا شرقية ولا غربية، ولا
يهودية ولا نصرانية، بل هي الهبة العلوية.
__________(35/241)
الكاتب: محمد عز الدين باشا الحلبي
__________
كلمة المجاهدين السوريين في الصحراء
بوادي السرحان
أرسلها المجاهد الكبير سعادة محمد عز الدين باشا الحلبي من النبك
حضرات أصحاب السعادة رئيس وأعضاء اللجنة الموقرة لتأبين الأستاذ الكبير
المرحوم الإمام العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا - القاهرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإنا نشاطركم الأسى على رزء الفقيد
العظيم العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله، فلقد فقدنا به ركنًا عظيمًا
من أركان العرب والإسلام، وعلمًا فذًّا من أعلام العلم والتقوى، وبطلاً مقدامًا من
أبطال نهضتنا الذائدين عن حياضها والمتفانين في سبيل إعلاء شأنها ورفع كلمتها،
وكيف لا يكون رزؤه عظيمًا وهو العلم المفرد بعلمه وصلاحه وإخلاصه لأمته
ووطنه وهيهات أن يجود الزمان بمثله؟ ! إن الزمان به لبخيل.
فلو يمكننا فداؤه لفديناه بالنفوس وبكل غالٍ ورخيص وبكل جبان لم يحذ حذوه
في الجهاد الوطني الصحيح ولم يكن على غراره بعزة النفس وحب الحرية والكرامة،
ولئن كرمته الأمة فإنما تكرم به البطولة والصدق والإخلاص.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجعل خلفه خير خلف السلف، وألهمنا جميل
الصبر والسلوان، وحيّا الله القائمين بحفلة تأبينه من عظماء الأمة، وكرامها
الشاعرين بشعوره الحي، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
... ... ... ... ... عن النبك - وادي السرحان 7 و 1 و 936
... ... ... ... ... باسم مجاهدي الصحراء وأحد أصدقاء الفقيد
... ... ... ... ... ... ... محمد عز الدين الحلبي
__________(35/248)
المحرم - 1354هـ
مارس - 1936م(35/)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
المستشرقون والإسلام
بقلم الدكتور حسين الهراوي
مفتش صحة مصر القديمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى
آله وصحبه وسلم.
من أحمد نسيم الشاعر إلى الدكتور حسين الهراوي:
قف وقفة بين إجلال وإكبار ... واحمد دفاع طبيب الحي والدار
جلى (حسين) بشوط راح ينهبه ... شأن الجواد إذا جلى بمضمار
ما انفك يهدي إلى الإسلام منكره ... والحق أبلج لا يخفى بأنكار
يقظان ما هدأت يومًا شقاشقه ... كالفحل يتبع تهدارًا بتهدار
في كفه قلم لو شاء أترعه ... سم الأساود أو شهدًا لمشتار
مرقق الحد مبري له جدل ... يرضي النبي ويرضي الخالق الباري
يراعه كقناة الخط يرهبها ... سنان كل أصم الكعب خطار
تجري على الطرس آيًا حين تقرأها ... يجرى دم الرشد بالبادي وبالقاري
قويمة في ارتياد الحق أشرعها ... للأخذ بالحق لا للأخذ بالثار
تدفع الصدق من حيزومها ضببًا ... دفع الخضارم تياراً بتيار
من عترة برسول الله مشرقة ... ملء النواظر من زهر وأقمار
الله أنزل في الأحزاب أنهم ... من أهل بيت كرام الخيم أطهار
فما ارتضوا نزعات الإصر مأثمة ... ولا ارتدَوا بُرد آثام وأوزار
ولا تقطع أمر الله بينهم ... ولا أصيب بنقص بعد إمرار
أعظم بهم في مجال الدين من نفر ... مهاجرين ذوي عزم وأنصار
قم يا حسين فأطفئ كل مشعلة ... من الضلال تلظى زندها الواري
عجل لهم قطهم خزيًا إذا حسروا ... عن أوجه سفرت سوداء كالقار
مدوا بأيد تخط البطل فاندحروا ... قهرًا أمام متين الأيد قهار
لولاك لانغمست في الكفر ناشئة ... كادت تغل بجحاد وكفار
سر في طريقك وادمغهم بمحرقة ... تبقي ندوبًا ذات آثار
مستضعفون إذا ذلوا فإن قدروا ... جاءوا بمكر خفي الكيد كبار
شريعة الله والمختار هازئة ... بمفترين على الإسلام أغرار
مستشرقين أثاروا نقع حملتهم ... حتى كأنهم طلاب أوتار
يخفون تحت ستار البحث كيدهم ... وهم على دين قسيسين أحبار
قوم أحق بلبيس النعل مشركة ... ولبس منطقة شدت بزنار
تعصب وأكاذيب ملفقة ... من مقذعين وقاح النقد أشرار
ما بالهم نقدوا القرآن وانصرفوا ... في نقدهم عن أصاحيح وأسفار
وأجهل الناس من يبني عقيدته ... على شفا جرف من زيغه هار
وكيف تطلب منهم رشدة وهم ... في الدين عمي قلوب عمي أبصار
إن أبصروا الخير أخفوه وإن ظفروا ... بالشر أبدوه في جهر وإسرار
وللذين استباحوا البغي ساهرة ... مشبوهة الوقد من ناس وأحجار
في كل يوم ترى منهم أخا خطل ... يقول أذعن غير مختار
ضلت يراعته في نفس باطله ... كما يضل السرى في ظلمه الساري
بشراه بالخزي في دنياه ممتطيًا ... متن الضلال وفي أخراه بالنار
لا نضر الله دارًا بات ساكنها ... ولا سقاها حيا وطفاء مدرار
إن كان للعلم تضليل وشعوذة ... فالعلم أقبح مدعاة إلى العار
حسين هل لك في حمد يردده ... فم الزمان إذا أدلى بأخبار
كأنه باقة في روضة أنف ... شتى الأزاهير من ورد ونوار
جادت عليها العزالى فهي زاهرة ... وكل ناضرة الأكمام معطار
قصيدة تضرب الدنيا بسنبكها ... فتنبه الذكر في بيد وأمصار
أنَّى تسر تترك الآفاق مشرقة ... ككوكب مستفيض الضوء سيار
ضعها بعروتك الوثقي معطرة ... كأنها وردة من ورد آذار
حسبي بمدحك إعلاء وتزكية ... فبالشريف تعالى شعر مهيار
جزاك ربك في آلائه نعمًا ... موصولة بعشي بعد إبكار
أعدك الدين للجلى إذا اشتجرت ... إعداد ليث قوى الزند زآر
دين من الله جلى كل واجبه ... يوم استهل بأضواء وأنوار
كالشمس ما أشرقت بيضاء مسفرة ... تختال ما بين أشراق وأسفار
وبعد فانظر إلى نفسي وما احتملت ... من حاسدين لأهل الفضل أغمار
عمرت فيهم فضاعت مدة سلفت ... عددتها بينهم من شر أعماري
صدوا عن الشدو آذانًا مصلمة ... ليست تصيخ لورق فوق أشجار
إن أنكروك فلا تحزن فقد نكروا ... من قبل فضلك آياتي وأشعاري
أحمد نسيم
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(35/249)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل الأول
أسباب ونتائج
يحدثنا التاريخ أن جزيرة العرب عامة ومكة خاصة، لم تكن قبل الإسلام
مستعمرة لأحد، ولم يفتحها فاتح قط [1] ، وكان العرب مدى تاريخهم أحرارًا،
وكذلك يحدثنا التاريخ أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم ثقافة، أو دور تعليم، ولم
تكن لهم مدينة ولا تاريخ مكتوب غير ما كانت تتناقله الألسن راوية عن راوية،
وتلك هي ثقافة الفطرة.
ولم يكن للعرب هيئة اجتماعية، أو نظام حكومي بالمعنى الذي نفهمه الآن،
وجل تفاخرهم كان بانتصار قبيلة على أخرى، أو بتحديها، فكانوا أشتاتا من القبائل
لا تجمعهم إلا ميادين الحروب، أو أسواق التجارة، أو مواسم الحج.
ومن البيِّن أنه لم تكن هناك أية فكرة أو ظن بينهم لجمع شتاتهم وتوحيد
مجتمعهم قبل الإسلام.
ومن وسط هذه القبائل المفككة أو من أسحق الأمكنة فيها سطعت أشعة الإسلام،
وفي مدى عشرين عامًا من حياة النبي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم،
تكونت أمة تشعر بوجودها الأدبي وتقوم برسالتها في الأمم المجاورة، فتكتسح
المعتقدات البالية، وتقضي على ملك الفرس والرومان وترثه.
وليس لهذه النهضة الكبرى والثورة الفكرية العظمى سوى مصدر واحد هو
القرآن، وأداة واحدة في تأدية الرسالة هي شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم، ومهما يكن من الظروف التي ظهر فيها الإسلام، وأحوال العالم في ذلك
الوقت، فإن ظهور الإسلام من أجدب وسط في العالم، ومن أوحش صحراء، ومن
أبعد الأمكنة التي يظن أن العالم ينقذ على يدها - هذا كله يعد معجزة لا شك فيها.
وإذا كانت النهضة العربية ومصدرها الإسلام وحده تعد آية، فإن اكتساحها
للعالم والمعتقدات وتكوين دولة ترث الرومان والفرس في مدي ثمانين عامًا يعد سرًّا
ليس من السهل أن يعود، ومن المستحيل أن تجد له مثلاً في التاريخ [2] ، خصوصًا
إذا لاحظت أن هذه الثقافة الجديدة قد هضمت الدول كلها وطبعتها بطابع خاص هو
الطابع الإسلامي.
بل المثير للدهشة والعجب أن تظل هذه الثقافة إلى الآن راسخة ثابتة رغم
العواصف التي واجهتها، والحروب التي عملت على فنائها.
والتاريخ يحدثنا عن تنازع البقاء الدولي بين الشرق والغرب، ويصف لنا من
الحوادث مدّها وجزرها، وكيف بسط الشرق سلطانه وساد، ثم كيف قاومه الغرب
ورده واكتسحه أو كاد.
وعلى الرغم من كل هذه التقلبات، فالإسلام دينًا وقانونًا وثقافة اجتماعية
وأخلاقية، ثبت لكل هذه الموجات والعواصف والتقلبات ثبات الصخر على الشاطئ،
فذهبت كلها كذهاب الزبد على سطح الماء.
والواقع أن أعداء الإسلام لم تهدأ ثائرتهم، ولم يفت في عضدهم بقاء الإسلام
قويًّا مكينًا على الرغم من الحروب والدسائس في البلاد الإسلامية التي أثاروها، بل
كان ذلك مما زاد المسلمين يقينًا وثباتًا واستمساكًا بدينهم ومحافظة على يقينهم؛ لأن
الإسلام يحفظ القومية، ويشعر الناس بواجبهم نحو أنفسهم، ويجمعهم في دائرة
واحدة من العاطفة، ويوجههم كلهم إلى قبلة واحدة، هذه القبلة التي تفني إزاءها
القوميات والشعبيات ويتساوى فيها الناس أجمعون من جميع الأجناس والأوساط.
أضف إلى ذلك أن الإٍسلام هو أول مطلع للتفكير الحر، والتحلل من قيود التقاليد،
وهو الذي يحث على الأسفار وجوب القفار والمشي في مناكب الأرض ابتغاء
الرزق. وهو في تعاليمه ينافي الاستعمار، وينافي الخضوع لكائن مَن كان إلا
للواحد الديان.
وفضلاً عن ذلك فإن الإسلام عطف على الأديان الأخرى، وطبع الشعوب
التي انتشر فيها بطابع آخر هو الطابع العربي. فترى معتنقي الأديان السابقة له
والذين يعيشون في البلاد الإسلامية تجمعهم بالمسلمين رابطة الطابع واللغة،
ويعطفون على الإسلام بداعي العروبة، والعروبة هي الطابع الثاني للإسلام لغير
أهله - بما سنه من المعاملة الحسنة ومصاهرة أهل الأديان الأخرى وتقوية روابط
الأسر، ونشر روح الوئام بين الجماعات؛ ولذلك اختلطت الأنساب وتنوسيت،
ولكن الشائع في البلاد الإسلامية هو الأصل العربي، سواء كان الشخص مسلمًا أو
غير مسلم. فأصبح المؤرخون في حيرة من تسمية هذا الامتزاج وتلك الثقافة،
فطورًا يسمونها الإسلامية وطورًا يسمونها العربية.
تلك حقيقة، وذلك واقع، ولم يخف عن الغرب، وليس في حاجة إلى دليل
وليس من المستطاع انتزاع تلك العواطف من أفئدة الناس، وليس من الممكن
استئصالها بحملة عسكرية، أو إنشاء محكمة تفتيش أندلسية جديدة لمحاربة آراء
الناس ولغاتهم وضمائرهم وعلاقاتهم.
فالمسألة كلها فكرية وعلمية، ومحاربتها يجب أن تكون على أسلوب نشأتها،
ثقافة وغزوة فكر.
من أجل هذا نشأ الاستشراق في بلاد الغرب، وأخذ جماعة من الغربيين
يعكفون على لغات الشرق وتاريخه ودينه دراسة واستذكارًا وحفظًا وتحقيقًا وتغلغلاً
في البحث.
هذا هو منبع المستشرقين، وهذا هو مصدرهم، وتلك هي الغاية التي يعملون
لها.
والباحث في هذه الموضوعات لا يعدم موضوعًا جديدًا علميًّا، ولا يعدم كتابًا
قيمًا مدونًا، يعيد نشره، ويحيي ذكره؛ ليصبغ نفسه بصبغة العالم البريء، ومنها
اصطبغ اسم المستشرقين بصبغة علمية.
غير أن النواحي الأخرى التي عكفوا عليها وهي غزوة الفكر الشرقي في
قوميته ولغته ودينه كانت واضحة جلية في أعمالهم؛ لأنها الهدف الأول والغاية
القصوى.
والمستشرقون هم من أساتذة اللغات الشرقية في الجامعات، وطلبتهم من أبناء
وطنهم، وهؤلاء الطلبة يعدون أنفسهم للعمل في المستعمرات في الشرق، وكان
لابد من المحافظة على قومية هؤلاء الطلبة. ولابد للعناية بتربيتهم أن لا يكونوا أداة
عطف على الشرق أو مصدرًا لإذاعة محاسن الإسلام، ولإدراك ذلك لابد من
تصوير الشرق بصورة بشعة قبيحة في أخلاقه وعاداته وآرائه، ولابد من تصوير
الإسلام في صورة منفِّرة، وأن يكون هؤلاء الطلبة حربًا على الشرق والإسلام.
كما لابد من أن يقوم هؤلاء المستشرقون بدورهم في تغذية جمهور أممهم بمثل تلك
التعاليم بنشر مؤلفات يصفون الشرق فيها بصورة مشوهة. ويصمون الإسلام بكل
المخازى التي هو منها براء.
ولذلك أصبحت الهوة بعيدة بين عواطف الغربيين والشرقيين، وأصبح التفاهم
أبعد منالاً مما يجب.
وقد تأثر الشرق نفسه بتلك الدعاية، وكأنه من هذا التجريح والتشنيع شعر
بضعفه أمام الغرب، وألقى فريق من ضعفاء النفس سلاحهم، فاعتقد الشرقيون
أنفسهم أن عاداتهم وأخلاقهم وقوميتهم وشعوبهم في مستوى أدبي وعقلي أقل من
المستوى الأوربي، وأصبح الشرقيون لا يثفون بأنفسهم في التفكير ولا في العمل
الحر ولا في إدارة الأعمال، وأصبحت تراهم إذا قرؤا في الجرائد أي جريمة عادية
أو خبرًا صغيرًا ثاروا وقالوا إن ذلك مستحيل حدوثه في الغرب؛ ولذلك أخذوا
يقلدون الغربيين في كل شيء؛ في المعنويات وفي الماديات.
أما في المعنويات فقد شاهدنا اختلاط الألسن في الأسر والبيوت، ونبذ اللغة
القومية في الطبقات المتفرنجة، وكذلك في الزي النسائي، واستحالت الأخلاق،
وضاعت تلك المودة القويمة وصلة القربى، وأصبح الشخص ينظر إلى أسرته
المصرية الصميمة من أعلى إلى أسفل، يحاول خدع نفسه بأنه غربي، وأنهم
شرقيون، ورأينا تيارًا جارفًا من الأدب الغربي يكتسح التفكير الشرقي والقومية
الشرقية، انتشرت القصة المعربة، وهي قصص لا تخرج عن معاني الحب الساقط،
وألفاظ الخنا، وخيانة الزوجة، وتهوس الشباب، وسقوط المرأة التي يقابل
الزوج زلتها بالعفو والصفح والغفران.
كان هذا من أثر الدعاية أن العربية ينقصها أدب القصة، فملأ المعربون هذا
الفراغ بقصص لا تلتئم والشرق الشرقي، ولا الغيرة الإسلامية، ولا الآداب القومية،
ثم هجم جماعة المبشرين على معاقل الإسلام، مزودين بالمال والعلم والرجال،
فأصبحنا نرى المخازي والإغراء والقبائح ترتكب باسم الأديان، وأصبحت الأسرة
الإسلامية يقتنص بعض أفرادها بالمال، أو بالإغراء، أو الاستهواء، أو التنويم
المغناطيسي باسم الدين. وترى ذلك متجليًا في دور التعليم الأجنبية، وفي
المستشفيات الأجنبية التي تحمل على بابها بالخط العريض أنها بيئة ووكر للمبشرين
في ثوب علمي شفاف. طرق لا يقرها عقل أو ذمة أو ضمير أو وجدان.
أضف إلى ذلك أن كل بلد شرقي استعمر كان لابد له من طلائع تجوس الديار،
وتستكشف الآثار، وتكتب التقارير.
وكان لابد لهذا الجاسوس أن يلبس ثوب العالم بلغة البلاد، وأن يصطنع
البحث العلمي.
وفي حالة دخول الجيش الفاتح لابد لقيام صلة بين الأهالى والجيش المهاجم،
والتاريخ يحدثنا أن هؤلاء كلهم من المستشرقين.
أما في حالة السلم فلابد من وضع سياسة لمعاجلة هدم الإسلام وتفريق كلمة
أهله، وإعداد النفوس لقبول التغييرات التي تدخلهم تحت النير.
هذه مسائل علمية محضة، ويقوم بها المستشرقون.
فلتغيير الدين يجب أن يقال إن الإسلام دين مخترع ملفق، ولهذا الرأي شيعة
من المستشرقين، وللسخرية من الإسلام يجب مهاجمة شخصية النبي الكريم ولهذا
أيضا شيعة من المستشرقين، ولتفكيك روابط العرب يجب أن يفهم الناس أن
العربية الفصحي لا تصلح لشيء، وأنها لغة قديمة، وأن اللغات الدارجة أنفع منها.
ولتفكيك روابط القومية والهيئة الاجتماعية الشرقية يجب أن يعتزي كل شعب
إلى أصله؛ لأن العرب لم يكن لهم فضل في ثقافة أو تاريخ.
ولإضعاف الروح القومية وقتل الاعتماد على النفس يجب أن يفهم الشرقي أنه
غير مؤتمن الجانب، وأن الاختلاس غريزة فيه، وأن الشرف بعيد عنه، وأن
بلاده وتربيته لا تصلح إلا للزراعة، وأن عقله غير مكون تكوينًا تجاريًّا، وهذا كله
ليحتكروا التجارة والصناعة ويتركوا للبلاد المستعمرة العمل الزراعي الشاق الذي لا
يدر إلا الخير القليل.
* * *
كل موضوع من الموضوعات التي ذكرناها تخصص لها فريق من
المستشرقين، وقد أصبحنا نعرف وجهة تخصص كل واحد منهم، ويمكننا أن نعد
أسماء المخصصين لكل موضوع من هذه الموضوعات كما سيمر بك في هذا الكتاب،
وكل هذه الموضوعات ذات مرمى سيئ، وليست من الحقائق العلمية في شيء؛
ولذلك فإن هؤلاء الناس قد ألبسوا موضوعاتهم الثياب العلمية، غير أنه لم يتعرض
لهم أحد بنقدها وإظهار ما فيها من غش وخداع وتلبيس، حتى إن كثيرًا من القراء
قد خدعوا بها ودخلت الحيلة عليهم.
ولذلك يجب تحرير الفكر الشرقي من تلك الغزوة التي طال أمدها وسئمنا
تكرارها، ويجب أن نبرهن لهؤلاء الناس أنهم خادعون، وأن الأخلاق الغربية لم
تبلغ إلى الآن المستوى الشرقي، وأن الزخرف البراق من المعاملة والطلاء
الخارجي للمعاملات العادية لا يغير الواقع، فالبلاد الغربية كالبلاد الشرقية فيها أحط
الأخلاق وأشنع الجرائم من كل نوع.
وليس الفكر الشرقي بأقل في مستواه من الغربي، وإنما في استقلال المواهب
نتيجة التربية الاستقلالية التي امتاز بها الغرب، ونتيجة لازمة للحرية الشخصية
والمساعدة الحكومية التي حرمتها الشعوب الشرقية، إلا أن أول دعامة في تحرير
الفكر الشرقي أن يعرف أسرار استعباده فيقف دونها حائلاً، ويطلع على الصواب
فيستزيد من مناهله، ولا يقبل التغرير، وأن يواجه هؤلاء المستشرقين بحقيقتهم
ويعلم أن بضاعتهم مغشوشة ولأغراض غير بريئة، وهي بضاعة زائفة صنعت في
معامل التغرير؛ ولذلك عمدنا إلى الرد على بعض المستشرقين في هذا الكتاب،
وجعلنا الرد في أسلوب علمي ليعرف القارئ الحقيقة.
والذي دعانا إلى وضع هذا الكتاب هو تلك الحادثة المشهورة التي اضطرب
لها عقلاء المصريين، فإنه لما صدر المرسوم الملكي بتأليف المجمع اللغوي الملكي
بالقاهرة، ووجدنا اسم فنسك من ضمن أعضائه نشرنا شيئًا من مباحثه، ورددنا
عليه، وانبنى على ذلك خروجه أو إخراجه من المجمع اللغوي وحلول غيره مكانه،
وبذلك انفضح جانب عظيم من أعمال المستشرقين وحقيقتهم مما سيتجلى عند
قراءة هذا الموضوع في الصفحات المقبلة.
أضف إلى ذلك أن هذا المبحث الذي خرج من أجله فنسنك كان بعض الناس
سرقه ونسبه لنفسه في كتاب ادعى أنه بحث في الشعر الجاهلي، وبذلك اتضحت
آفة أخرى من آفات المستشرقين هي أن بعض الناس من المسلمين يجارونهم في
تفكيرهم ويقتبسون آراءهم بغير نسبتها إليهم؛ ليقال إنهم من العباقرة.
وفوق ذلك فقد عثرنا على بعض سفسطة المستشرقين من أن محمدًا كان على
علم بالأديان السابقة، وأنه اتصل في سياحته للشام بأهل العلم مما دعاه إلى وضع
قرآنه، وتلك الفرية قد اتخذت سبيلها في التفكير الشرقي ورددنا على ذلك في حينه
كما سنزيده شرحًا في الفصول القادمة.
والخلاصة: أننا نريد تنبيه الناس إلى طلائع الاستعمار، ومصدر تغذية
المبشرين، وأدوات إذلال الشعوب الشرقية وتفريقها، وتشتيتها، ونثبت أن هذا كله
من المستشرقين.
ولا ندعي أننا ندافع عن الإسلام بهذا الكتيب فنحن أهون أن تكون لنا هذه
المنزلة الرفيعة؛ ولكننا نريد أن نهتك سترهم، ونظهر حقيقتهم دفاعًا عن قوميتنا،
وعقولنا، وقديمًا قال عبد المطلب: (أما الجمال فسأدافع عنها، وأما البيت فله رب
يحميه) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مواقف حاسمة الفصل الأول لعنان.
(2) فتوحات الإسكندر ونابليون استغرقت زمنًا يسيرًا، ولكنها ماتت بموت أبطالها.(35/253)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل الثاني
محمد قبل البعث
من البيّن أن مجيء القرآن وأثره في النهضة الفكرية العالمية - كما رأيت -
مسألة مدهشة حقًّا.
وقيام شخص واحد هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة الناجحة
التي اكتسحت العالم مسألة موجبة للحيرة ومعجزة بلا مراء.
والمستشرقون يقفون أمام هذه الحقائق ذاهلين، ويحاولون الدخول إلى هذا
الصرح العالي من باب التشكيك والتضليل، أو باب الاستنباط والقياس.
والتاريخ يعلمنا ويعلمهم أن حياة العظماء لها طريق في البحث والدرس ولها
طريق مألوف وهو الابتداء بدراسة الوسط الذي نبغ فيه الرجل العظيم والظروف
المحيطة به، ثم دراسة طريقة انتزاعه للسلطة أو قيامه على قيادة الأمة.
ثم يأتي بعد ذلك دور تكوين الشخصية وأثر الثقافة المحلية والعالمية في نفسه،
وأثر هذه الثقافة في أعماله.
وقد أرادوا أن يطبقوا كل هذه النظريات والمباحث على حياة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم، كما يدرسون مثلاً حياة نابليون والإسكندر وغيرهما.
وأول ما صادفهم من الخيبة والفشل أن الوسط الذي عاش فيه سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم كان وسطًا فطريًّا ساذجًا؛ ولكن هناك في محيط ذلك الوسط
وجد بعض النصارى واليهود.
ووجدت ظروف بسيطة في حياته صلى الله عليه وسلم من سفره مرتين إلى
الشام يمكن أن يبنوا عليهما القصور العالية من الأوهام.
ولا بأس من أن يجعلوا من هاتين المسألتين - وجود نصارى ويهود في
الحجاز وسفره إلى الشام مرتين ثانيًا - موضوعًا للتشكيك والتضليل.
ولذلك نقتبس لك أسهل طريقة وأبسط تضليل من كتاب درمنجهام الذي نشر في
السياسة الأسبوعية ورددنا عليه؛ لأنه كان أول مثار للبحث [1] :
والواقع أن محمدًا منذ الساعة الأولى بل قبل أن ينزل عليه جبريل بالوحي
كان أشد ما يكون نفورًا من الوثنية التي نشأ ونشأ أهله من قريش فيها، وأشد ميلاً
لهذه المعاني الروحية التي يتحدث عنها النصارى واليهود من أهل الكتاب في أنحاء
شبه جزيرة العرب ممن كان يتصل بهم في أثناء ذهابه إلى الشام وإلى اليمن في
القوافل قبل أن يقوم بتجارة خديجة وبعد أن قام بها.
وهذه المعاني الروحية في اتصالها بنفس محمد صلى الله عليه وسلم المتوثبة
منذ صباها للكمال هي التي دفعته إلى تحنثه بغار حراء شهرًا أو أكثر من شهر.
إن الله - تعالى - رضي للناس الإسلام دينًا مع بقاء الأديان السابقة للقرآن
وحده مندمجة في هذا الكمال الروحي - أي الإسلام - اندماجًا أشار إليه القرآن في
قصص أصحاب هذه الأديان وما جاءوا به من الحق من عند ربهم، وأشار إليه
حين أراد أن يثبت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمر ما جاءه كما جاء في سورة
يونس: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ
لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (يونس: 94) .
وفي هاتين الفقرتين ملخص لآراء المستشرقين الذين يظنون أنفسهم أهلاً
للبحث والاستنتاج دون أن نرميهم بشيء من سوء النية. ولعل ذلك أهدأ أنواع
ضلال المستشرقين.
ولما تسربت هاتان الفقرتان في الصحافة المصرية وعلى أيدي باحثين مسلمين
رأينا توضيح هذه الطريقة وإظهار ما فيها من خطأ في تطبيق ما يقال عن عظماء
الغرب على حياة نبي عربي عاش في بيئته خاصة وفي محيط لا زال يتمسك بعادته
وأخلاقه إلى اليوم.
ولسنا نتهم هذا الرأي بأقل من أنه استنباط غير موفق ورأي خاطئ نتيجة
الجهل والخطأ في الحكم.
فأنت ترى من هاتين الفقرتين أن سيدنا محمدًا تعمّق في درس الأديان وتلقي
مبادئها على الرهبان في سياحاته، وأن ذلك العلم هو الذي دفعه إلى التحنث.
أما أنه خالط الرهبان وتشبع بمبادئ الأديان السابقة فذلك ظن ليس له من مؤيد،
ولو أنه كان كذلك لكان في كل عمل من أعماله دليل على ذلك، وقد أحصى
القرآن الكريم كل ما وجهه أعداء الإسلام وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم له من
التهم، ومنها الكذب والسحر والشعر وكل ما شئت من صنوف السب والشتم والتهكم
والضرب بالحجارة والتحدي للقتال، كل هذا قيل ولكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن
يقول له إنك تعلمت هذا العلم على فلان، ولو كانت هذه الجملة قيلت لكنا على
الأقل وجدنا عليها ردًّا في القرآن.
ولو أن نفس محمد - عليه السلام - اعتنقت دينًا أو مالت لأي دين قبل
الإسلام لوجدنا لذلك أثرًا واضحًا في الحديث، وقد سأله الناس كل أنواع الأسئلة بلا
خجل، وكان يرد عليهم بالصدق والأمانة التي اشتهر بها، ولم يرد ما يؤيد هذا
الزعم؛ ولذلك استنبطنا - وكنا محقين في هذا الاستنباط - أنه عليه السلام كان
خالي الذهن من جميع الأديان، وأنه اشتق طريقًا في العبادة لنفسه كما سنبين ذلك
في التحليل النفسي لحياته.
أما الرحل والأسفار في التجارة أو مع عمه فقد كانت رحلته [2] الأولى مع
عمه إلى الشام وهو ابن تسع سنين، ولم يكن هناك مجال ما لتلقي هذه العلوم فليس
ثمة جامعات وليس للرهبان حلقات درس، كما أنه لم يكن يومذاك جماعة من
المبشرين الذين نراهم اليوم يغررون بالناس، وكل ما حصل من الراهب بحيرا أن
تنبأ لهذا الغلام بمستقبل ديني، وتوسم فيه استعدادًا خالصًا لهذه الرسالة الكبرى.
والرحلة الثانية كانت وهو ابن خمس وعشرين من مكة إلى بصرى ومدة هذه
الرحلة كانت ثلاثة أشهر.
إذن فلنمش في هذا الطريق نفسه، ولنر ولنستنبط ما يمكن استنباطه،
ولنتعرف عادات العرب وأخلاقهم.
فأول ظاهرة خفيت عن المستشرقين من عادات العرب أن صغارهم لا
يجالسون كبارهم، ولا يمكن شاب حديث السن أن يجلس في مجلس الكبار ولا
يناقشهم، ولا يباح له أن يتحدث في مجالسهم.
ولم يخبرنا التاريخ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شذَّ عن هذه القاعدة، وهذا
دليل على أن كبار الرهبان وغيرهم لم يكن لهم من وسيلة لقلب عقيدة هذا الفتى كما
يفعل المبشرون من أذناب المستشرقين في هذه الأيام.
وأما الرحلة نفسها فيجب أن نلم بعمل التاجر الذي تكون مهمته من نوع عمل
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والعادة الجارية في بلاد العرب إلى يومنا هذا
هي أن يقوم التاجر ببضاعته حتى يصل إلى المدينة التي سيبيعها فيها.
ثم يذهب إلى منزل وسيط التجارة فيمكث في منزله بضعة أيام حتى يصرفها
الوسيط ويعطيه الثمن، ثم يعود قافلاً.
فعمل التاجر في هذا السبيل ينحصر في المحافظة على التجارة في أثناء
الطريق، ومساومة الوسيط، وحمل الثمن إلى أصحاب البضائع.
والمسافة بين مكة وبصرى تقطع على ظهور الإبل في نحو أربعين يومًا ذهابًا
ومثلها إيابًا، ومدة إقامة التاجر في بيت الوسيط هي المدة التي تبقى من ثلاثة
الأشهر التي قضاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة.
فالوقت كله يقطع في الطريق وكانت رحلة واحدة، فأي عقل إنساني أو غير
إنساني يمكنه أن يستنبط أن سيدنا محمدًا يمكنه أن يتعلم كل ما أتى به، أو كل
العلوم التي وردت عنه في وقت كهذا؟
وأي سخف أدعى للسخرية من مثل هذا الاستنباط الملفق القائل أن سيدنا
محمدًا في أسفاره تعلم من الأحبار.
أضف إلى ذلك ما استنبطه فريدرك شولنهنس عندما جمع ديوان أمية بن أبي
الصلت وطبعه سنة 1911 [3] ، وأظهر في مقدمة هذا الديوان مقدار ما بذله من
الجهد في جمعه من كتب السير ومن شوارد أخبار الكتب، ورأى أن أمية هذا كان
قد ترهّب ولبس المسوح ونظم قصصًا مصدرها التوراة والإنجيل، وكان يطمع في
النبوة إذا أشيع وعرف أنه سيبعث نبي في زمنه.
وبعد ذلك بعث محمد - عليه السلام - وأخفقت آمال أمية، فناوأ الإسلام
وجاهر بعداوة نبيّه.
ليس في الأمر غرابة فليس أمية بأول رجل في مكة أو بلاد العرب عرف
شيئًا عن التوارة والإنجيل، وليس هو أول من عادى الإسلام والتوراة والإنجيل
والقرآن بين أيدينا شاهد بذلك، وفي هذه الكتب توافق في بعض النواحي التاريخية
واختلاف في نواحٍ أخرى؛ فليس من المستغرب أن يعرف شاعر عربي شيئًا عن
التوراة والإنجيل وينظمه شعرًا؛ ولكن المستغرب حقًّا أن يقول شولنهنس هذا إن
محمداً عليه السلام استقى تلك المعلومات من المصدر نفسه الذي استقى منه أمية.
وليس أدل على الجهالة والتضليل في هذا القول، وعلى التعصب الأعمى
وقلة الخبرة من أن القرآن ليس بقصصه؛ ولكن بأحكامه وبقانونه وبإعجازه،
وبأثره الاجتماعي والفكري؛ فهل اجتمع كل هذا في أحد؟ كلا، ولكن مستشرقًا
يظن نفسه في منزلة علمية يطلق لنفسه العنان ويصدر الأحكام، فيتلقفها طاعن من
طاعن، ومبشر عن مستشرق للتشكيك في مصادر القرآن.
ولو طاوعنا هؤلاء فيما زعموا، وبحثنا عن كل حكم من أحكام القرآن
ومصدره ورأينا حكمًا منها من السند والآخر من الهند والآخر من فارس ومن مصر
ومن أثينا وروما للزم لهذا النبي الكريم آلاف الأسفار والاشتغال بالجامعات عدة
قرون قبل أن يأتي بكتاب لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
مثل هذا التفكير المزري يقول به المستشرقون وتهضم عقولهم أن محمدًا أتى
بما أعجز الإنس والجن في سفره إلى الشام ثلاثة أشهر، منها ثمانون يومًا ذهابًا
وإيابًا وعشرة إقامة.
ولكنها طريقة من طرق التشكيك وضرب من الهوى لا نشك أن القارئ عرف
مغزاه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) طبع باسم حياة محمد للدكتور هيكل.
(2) تحقيق الطريق ومسافته، وعادة العرب هذه رجعنا فيها إلى فؤاد باشا الخطيب وزير خارجية الحجاز سابقا ورئيس ديوان شرق الأردن الآن.
(3) أدب اللغة العربية لمحمد هاشم.(35/261)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل الثالث
التحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث
نحن ننكر إنكارًا تامًّا أي أثر للأديان السابقة للإسلام في نفس سيدنا محمد،
وسواء سمع بها ورآها أو خالط أهلها وتعرف بهم، فإن ذلك لم يترك في نفسه
الشريفة أي أثر، ولم يعلق بذهنه من مبادئها وتعاليمها ما يجعله يفكر فيها، أو
يفضل أحدها، أو يقلدها.
وليس أدل على ذلك من أنه لم يرد في القرآن الكريم الذي أحصى كل التهم
التي وجهها أعداء الإسلام لنبيه الكريم ما يؤيد هذا الزعم [1] .
ومسألة التحنث في الغار، والطواف بالكعبة، وتوزيع الصدقات هي نوع
التعبد الذي كان يتخذه عليه السلام قبل بعثه.
فإذا قلنا: إن التحنث في الغار له ما يشبهه في الأديان الأخرى، فالطواف
بالكعبة لا علاقة له بأي الدينين النصراني أو اليهودي الذي يتعمل جماعة
المستشرفين الأسباب ويخترعون الوسائل للقول باقتباس الدين منهما.
ولقد طبقنا حياته الشريفة على علم النفس الحديث لنتعرف أي سبب دعاه إلى
هذا النوع من العبادة إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي الأكبر في توجيهه إلى هذه
الوجهة.
ولكي يمكن فهم هذا الموضوع سنقدم للقارئ مقدمة وجيزة في علم النفس
والتحليل النفسي لكي يتفهم معنا تطبيق حياته على علمي النفس والوراثة.
لقد قسم فرويد العقل ثلاث مناطق:
1 - العقل الظاهر أو الواعي أو منطقة الوعي.
2 - الذاكرة.
3 - العقل الباطني أو غير الواعي أو منطقة اللاوعي.
فالعقل الظاهر أو منطقة الوعي تحتوي الأشياء التي يدركها العقل في وقت
معلوم، وهي التي تهيمن على الإنسان في حالة صحوه وعلمه.
والذاكرة تحوي الذكريات الماضية أو ما مر على الإنسان أو حفظه.
والعقل الباطني يحوي الأشياء الممنوعة من الظهور بوساطة الرقيب العقلي،
وفيها جميع الغرائز الموروثة ورغبات الإنسان التي تدفعه إلى رغباته المتعددة؛
ولكن يمنعها من الظهور قوة حاجزة تسمى بالرقيب؛ لأن كثيرًا من رغبات الإنسان
لا تتفق والوسط الاجتماعي.
والغرائز الموروثة في الإنسان تتجلى فيه من السنة الثانية من عمره بإظهار
رغباته ككل الأطفال؛ ولكنه يجد المقاومة لتلك الرغبات من الوسط المحيط به
والذي يختلف باختلاف السن والوسط.
فإن الوالدين أو المربين والأساتذة هم الذين يتولون إرشاد الطفل في مدى سنيه
الأولى وبذلك يبتدئ التصادم بين غريزته الاجتماعية والغرائز الأخرى كالبهيمية
والأنانية، فبطبيعة الحال يصبح مضطرًّا - حبًّا في استمرار الألفة بينه وبين
الجميع - إلى اتباع خطة مواجهة للواقع فيتنازل قهرًا عن الأشياء التي يريدها هو
ويستهجنها الناس.
ومن العناصر الأساسية لنظرية فرويد أن الرغائب والميول التي تقمع وتبعد
إلى العقل الباطني أو غير الوعي لا تُمحى بل تبقي حية ولها أثرها في حياة
الشخص، وتؤثر تأثيرًا واضحًا من مظاهر الوعي بطريق غير مباشر، فإذا كانت
هذه الغرائز المقموعة سيئة أمكن تهذيبها بالقوة الدافعة المرافقة لتلك العناصر
الفطرية التي في العقل الباطني، وتوجيهها إلى طريق نافع يساعد على تقدم
الشخص، ويكون تأثيرها في الوعي نافعًا، هذا ما يحصل في الأحوال العادية،
ولكن لنقص في التربية - وخصوصًا المنزلية - قد لا يحصل التهذيب في تلك القوة
الدافعة، وقد تستعمل في الإضرار بالتطور العقلي من الطفولة إلى المراهقة، مثل
ذلك إذا تعلق الطفل بوالديه - خصوصًا إذا كان وحيدًا - فيكبر وليس لديه أي
اعتماد على النفس، وتكون النتيجة رسوخ هذا الميل عنده، فلا يقوى على احتمال
صعوبات الحياة وحده، فإذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا أصابه الحنين وكانت عملية
القمع - أو تخفيف لوعة فراقه - مسألة شاقة ومؤلمة؛ وذلك لأنه بعد أن تعود
الاعتماد على والديه يرى نفسه قد كبر وأصبح في سن خاصة لا تتفق ومركزه
وكرامته أن يكون عالة، ويتسبب عن ذلك ظهور أعراض مرضية في العقل
الظاهر كالبكاء والحزن.
وكذلك قد تصيب الشخص في حياته وهو صغير صدمات مؤلمة يضطر إلى
قمعها في العقل الباطني؛ ولكنها تبقي فيه طول الحياة، وقد تظهر أعراضها في
ظروف مختلفة؛ إذ لم يستطيع الرقيب قمعها تمامًا، فإذا فشل الرقيب في قمع هذه
الصدمات تمامًا ظهرت بشكل أفكار تجول في خاطر الشخص، أو أعمال لا فائدة
منها.
هذه مقدمة سطحية جدًّا في علم النفس يمكنك أن تتفهم منها النتيجة الباهرة
التي وصل إليها فرويد، وهي أهمية الغرائز في إحداث ظواهر عقلية خاصة في
تصرفات الشخص في الحياة.
وبنظرية العقل الباطني وأثره تفسر الأحلام وتحلل نفسية الأشخاص، ومهما
يكن من تنافر الآراء بين علماء النفس فإن الجميع (فرويد وينج وأولر) يعترفون
بأن العوامل الخلقية والوراثية لها كل الأثر في الأمراض النفسية وكفايات الشخص.
أما قوانين الوراثة فلم يوضع لها إلى الآن حدود وقواعد ثابتة يمكن تطبيقها
بسهولة، وهي وإن كانت تفسر لنا الأحوال النفسية التي بين أيدينا، إلا أن اختلاف
طرق الوارثة في سلالة واحدة لا زال محتاجًا إلى تفسير وشرح؛ كأن يكون
الأخوان الشقيقان مختلفين في الأخلاق.
إلا أن ذلك لم يمنع المشتغلين بتأصيل الحيوان من تتبع سلالة الهجين وإمكانهم
أن يستخلصوا منها بالتناسل سلالة نقية، فإنه من الممكن ومن الأمور العادية جدًّا
أن تحصل على جواد عربي أصيل من أم وأب هجينين بتقوية الدم العربي في كل
سلالة، وذلك بانتقاء الأقرب إلى الأصل الذي تريده.
هذه مقدمة لبحث التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد قبل البعث، وسترى أنه
يستنبط منها أنه كان في ذاته وشخصيته وحدة كمال مستقلة، ولم يكن في نفسه أي
أثر للأديان الأخرى، وأنه كان نسيجَ وحده.
فقد رأيت مما شرحناه لك أن العوامل النفسية في العقل الباطني هي الغرائز
النفسية الكامنة، أوالتي قمعت، وأن لها أكبر الأثر في تصرف الشخص.
فلنطبق ذلك على حياته الشريفة:
فسيدنا محمد كان يعيش في وسط عبادة الأوثان، أو ما تقدم الإسلام من
الأديان، فكانت هذه هي القاعدة الأساسية في المجتمع الذي كان يعيش فيه، فإذا
كان محمد صلى الله عليه وسلم قد ورث في نفسه عوامل نفسية تحرضه على
كراهيتها، كان له أن ينتقم أو يعبث بها، ولكن عمليات القمع بوساطة الرقيب
العقلي وغريزة الاجتماع وآداب العشرة نهته أن يعادي الناس؛ فماذا كان شأنه مع
نفسه؟ هذا ما سوف ننتظره من نتيجة التطبيق العلمي على ما أثر من حياته
الشريفة في كتب السير المعتمدة.
* * *
الحمل والطفولة
إن سلسلة نسبه الشريف تنتهي إلى إسماعيل وإبراهيم من جهة الوالدين وهو
نسب معرق في النبوة والعمل على تطهير العقائد، وسئل النبي عن نفسه فقال:
أنا دعوة أبي إبراهيم (ابن هشام ص 155) .
ونسبه صلى الله عليه وسلم بانتهائه إلى إسماعيل وإبراهيم ونوح المعترف
بنبوتهم من الأديان الأخرى يجعلنا نطبق قوانين النفس والوراثة الأخلاقية على
شخصه الشريف، ولو كانت قوانين الوراثة واضحة تمامًا ومحدودة في حدود علمية
تامة - لكان في تطبيقها أكبر لذة علمية، ولكن الناس يعرفون منها اليوم قوانين
ونتائج لا شك في صحتها، فيقولون عن السبع أنه يموت عطشًا ولا يلغ من ماء
ولغ فيه الكلب.
وينقلون عن أبناء الملوك المعرقين قصصًا طويلة ونوادر عن الألفة واحترام
النفس، فلا ننتظر من مثل ذلك النسب إلا وراثة غرائز أرقى من مجموع مستوى
الناس، على الأقل مما كان يتجلى في آبائه وأجداده، فإنهم لم يشتهروا بالثروة والغنى ولقد ولد عليه السلام في إملاق؛ ولكن آباءه اشتهروا بالشرف والنخوة، وعرف عن
أهله شدة المراس والصلابة فيما يعتقدونه حقًّا، ولم يرث عليه السلام من آبائه إلا
شرف النفس، وهو ما نعبر عنه باللسان العلمي بالغرائز والإلهامات الراقية العالية.
يدلنا على ذلك أخلاقه قبل البعث: وقار وحشمة، واحترام لنفسه، ولم
يرتكب زلة أدبية مما كانت تبيحه عادات الجاهلية؛ فلم يسكر ولم ينهب ولم يقتل
إلى غير ذلك مما كانوا يعدونه من ضروب الشهامة.
وكانت أخص صفاته احترام النفس والغير؛ فلم يعتدِ على أحد ولم يُطلب عنده
حق لغيره.
كان هذا قبل النبوة وقبل أن توجد عداوات وحزازات، شهدت بها وفود
أعدائه عند ملك الروم.
وهذا أرقى أنواع الغرائز والإلهامات.
ولنتمش قليلاً بعد ميلاده، فنراه ولد يتيم الأب، ولم يلتصق بأمه بل بعث به
إلى الصحراء.
مسألة غريبة في هذه الحياة الحافلة، فقد علمت أن الالتصاق بالوالدين فيه
مضيعة للاعتماد على النفس، وفيه معنى من معاني الرخاوة في الطباع، وقد يكون
في الالتصاق بأحدهما مفسدة للأخلاق.
ولقد تيتم من أمه طفلاً، فلم يكن له أمل في الاعتماد على أحد من الناس
اعتمادًا قد يقتل من عزمه، أو يفسد من طباعه.
ولننظر إلى اليتم وأثره في النفس:
أنا شخصيًّا جربت ذلك؛ فقد ولدت يتيم الأب وفي كفالة الأم، وقد أورثني
ذلك عوامل نفسية مؤلمة، ما تحدثت بها إلا أمضني الحزن والألم.
إن أول ما يشعر به اليتيم متى شبّ هو الإقرار بالواقع والاستسلام للقضاء
والقدر، والرضا بما قسم له من نصيب محزن لفقدان عطف الآباء، والمرشد
الخبير في أوقات حرجة من ظروف الحياة التي تحتاج إلى قرار حاسم من مطّلع
خبير، ويكون الدافع النفسي موجهًا إلى الخضوع والوحدة، لا إلى حب السلطان
والمظهر البراق، كما تتعود النفس الخشونة وعدم العطف، فلا يتعود اليتيم التدلل
ولا المرح وهما أهم خواص الطفل في سن الصغر، وذلك كله نتيجة الإخفاق في
إشباع رغبات الطفل، والفشل المتوالي في نوال كل شيء يطلبه أو يتطلع إليه.
أضف إلى ذلك نوعًا من الشفقة المؤلمة، ونوعًا من العطف أقتل للنفس من
العقاب الصارم، ذلك هو الحنان الذي يستجدى كأنه حسنة أو نافلة؛ إذ ترى قومًا
يظنون أنفسهم على شيء من حسن الصفات يعطفون على اليتيم عطفًا هو أشبه
بالصدقة منه بالعطف، ويشفعون عطفهم بالإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك ليتم الشخص.
دُعيت مرة إلى مهرجان زواج وأنا غلام صغير، فوزعت الحلوى على
الرجال والغلمان، وكان كل والد يحضر لنجله نصيبه من الحلوى، وخرجت من
الاحتفال وليس معي غير دمعة تترقرق؛ فلم أصب من الحلوى قليلاً أو كثيرًا، ولم
يلاحظ إخفاقي إنسان، فآليت على نفسي بعدها ألا أذهب إلى مهرجان [2] .
وتوفيت إحدى قريباتنا وأنا غلام، وكانت تحبني لقرابتها من المرحوم والدي،
وكنت في نحو العاشرة من عمري، فانسللت وحدي من المنزل لأمشي في
جنازتها اعترافًا بهذا الحنان الذي كانت تظهره نحوي، وبكيت عليها كثيرًا؛ لأنها
ما كانت تراني حتى تذكر والدي وتبكيه، وكانت هذه السيدة أصيبت بشلل، فكانت
تهتز في بكائها إلى درجة أني كنت أشعر أن نوبة إغماء تعتريها، فإذا أفاقت قبلتني
فيتبلل وجهي من دمعها.
رأيت وفاء لها أن أسير في جنازتها وأن أشيعها إلى مقرها الأخير بتلك
الدموع التي أرهقتها لذكرى أبي.
ودفنت، ووقفت على قبرها أبكي، وكنت ألاحظ أن الناس ينصرفون في
مركبات أعدت لهم ولم يدعني إنسان لمركبته، وبعد قليل - وكانت الشمس قد
قاربت المغيب - وجدتني وحيدًا بين المقابر، لم يعرني أحد اهتمامه، ولم يسأل
عني سائل.
هناك عرفت أن لا نصير لي في الدنيا، ولا من يسأل عني، وضربت يدي
إلى جيبي فوجدتني خالي الوفاض، فافترشت الأرض أنتظر ما قدره لي الله، لولا أن
أسعفت بمُكارٍ له حمار أعرج، يسوقه أمامه وسط القبور، وهو يغني بصوت
متهدج، فأوصلني إلى البيت على أجر اتفقنا عليه.
بعد تلك الحادثة لم أكن أذهب إلى مكان إلا بعد أن أفكر في طريق العودة
وحدي.
هذه العوامل كلها تورث في الطفل شيئًا كثيرًا من الحسرة والاعتماد على
النفس، وتعلمه الحياة ومعناها وهو طفل، فيعوض بنفسه ما فاته من عون والده؛
ولذلك لم أشك في رواية بحيرى حين قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي
لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا) لأن مثله يجب أن يكون أستاذ نفسه ولا فضل لأحد
عليه.
على أن هناك عاملاً نفسيًّا قويًّا يختلج في نفس اليتيم، وهو ذلك الشعور الذي
يتولاه بأنه ضحية القدر، وأنه بريء مظلوم في العالم، فقدَ مرح الطفولة وابتسامتها
العذبة، وسرورها المستمد من عطف الوالدين وإرشاد الوالد، فينظر إلى العالم
بالمنظار الأسود، ويفكر في الانتقام من العالم لو استطاع إلى ذلك سبيلاً.
هذا سر من أسرار بعض النفوس، فغريزة التخريب والهدم كامنة في النفس،
ولكن عوامل الضعف قد تكبر هذه الغرائز ولا يجمحها غير التربية والوسط، ولم
يكن محمد صلى الله عليه وسلم في وسط يساعده على تكوين نفسه؛ ولكن الظروف
هيأت له أن يكون رقيق القلب، وكأني بهذه الظروف ليست بنت المصادفة؛ ولكنها
إلهام وتوفيق من قدرة أقوى، فكيف تهذبت نفسه؟ وكيف صار بارًّا بالعالم والفقراء
واليتامى؟ وكيف استطاع أن يعرف نفسه؟ وكيف تربت نفسه على العظمة، ولم
تفقد كبرياءها مع اليتم والإملاق؟
إن نشأته (راعي غنم) هي السر في انتصاره على أفكار ثورية تمليها
الطبيعة البشرية، وغرائز الهدم والتخريب، وشعوره بظلم الحياة بفقد والديه.
فلما كان غلامًا تحمل مسئولية رعاية الأغنام التي هي مضرب المثل في
الوداعة، وهي لا تملك لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، وهي أحوج ما تكون لرعايته من
الذئب الذي يهاجمها.
ولقد توافرت في هذه الصناعة كل العوامل التي يحبها اليتيم - كما أسلفنا -
من العزلة عن الناس اتقاء ما يصيب اليتيم منهم من إهمال وعدم عطف، والزهد
والاعتكاف؛ حتى لا تتأثر النفس بضعفها في الحياة، فهي نوع من التربية النفسية
لنمو غريزة المسئولية، ورعاية الضعيف والعطف على الوداعة والشعور بالسلطان
والاعتماد على النفس.
وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليشعر وهو يرعى الأغنام بأنه ملك صغير له
رعيته وعليه واجبه، وأهم هذا الواجب هو حمايتها من الذئب أو من اللص، وهو
في أثناء ذلك يمشي في الأرض ويفكر في الطبيعة بين السهل والوادي، والجبل
والصحراء؛ ليبحث عن رزق أغنامه ورزقه؛ أليس ذلك يصرفه عن البطش بها؟
أليس يعرف أنه مسئول عن ضياعها؟ أليست هذه مسئولية تربي في نفس كنفسه
الشريفة كل تقدير للواجب، وتعده أن يكون راعياً كبيراً، يرعى الناس فيما بعد؟
* * *
حياته وهو غلام
في حياته - عليه السلام - أثر واضح للغرائز النبيلة، وأن عقله الباطني كان
أنشط من عقله الواعي، وإلهامه الطبيعي أشرف من إلهامات الناس كافة.
لقد عاش في وسط ليس للتربية القويمة أي أثر فيه، وقد يكون الوسط العربي
في بلاد العرب اليوم مشابهًا له، أي أن الغلمان لا يجالسون الكبار، فلم يكن له
فرصة التربية والعملية تلقينًا أو مشاهدة؛ ولكنه كانت تربيه غرائزه الخاصة، إذا
صرفنا النظر عن القوة الإلهية التي نعتقد أنها كانت مشرفة على إعداده.
يتجلى لك ذلك في حوادث جمة نسوق لك منها حادثتين: الأولى ما ذكره ابن
هشام وغيره نقلاً عن الحديث الشريف:
(لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، وكلنا
قد تعرّى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأُقبل معهم كذلك
وأدبر إذ لكمني لاكمٌ - ما أراه - لكمة وجيعة [3] ، ثم قال: شُدّ عليك إزارك، قال:
فأخذته وشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين
أصحابي) .
والحادثة الثانية هي الحادثة المشهورة؛ إذ أراد أن يسمر بمكة، وتتمتها كما
جاء في قوله عليه السلام: (فخرجت لأدنى دار من دور مكة فسمعت غناء
وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان زوّج فلانة لرجل من
قريش، فلهوت بذلك حتى غلبتني فنمت) .
فما هو التعليل النفسي لهاتين القصتين إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي
الأكبر؟ فإن هذا الهاتف وهذه الكلمة هما نشاط العقل الباطن نشاطًا غير معتاد
نتيجة الغرائز الشريفة التي أخفاها الرقيب العقلي على حكم البيئة التي يعيش فيها
عليه السلام، فسمعه صوتًا وشعر به لكمة وهذا كثير الحصول في الأمراض
العصبية؛ إذ يرى الشخص أو يسمع أو يشعر بأشياء لا وجود لها نتيجة العقل
الباطني، وكذلك تعلل الحادثة الثانية بمغالبة دافع السمر بغريزة الاقتصار والرضا
بالواقع، ومواجهته، فشغل حتى نام.
وليس هناك فرق بين العقل والجنون إلا قوة الرقيب، فإذا ظهرت القرائن
التي لا تلائم المجتمع سمينا ذلك مرضًا، وإذا ظهرت الغرائز التي ترقي المجتمع
وتسمو بالشخص إلى منزلة رفيعة ومثل أعلى سمّينا ذلك شخصية فذّة وعبقرية،
وعزونا ذلك إلى الغرائز الشريفة الراقية التي لم يستطع الرقيب التغلب عليها بحكم
الوسط، فالوسط الذي كان فيه عليه السلام يبيح للأطفال تعرية سوءاتهم، أما غريزته
فكانت أرقى من ذلك؛ ولذلك نشط عقله الباطني ونهاه عن العري.
ويمكن أن تؤول كل تصرفاته وهو طفل على هذا النحو، فلا تجد هناك إلا
تعليلاً واحدًا وهو أن غرائزه كانت نبيلة غاية النبل مما اشتهر به من الأمانة
والكياسة إلى غير ذلك من جميل السمات.
* * *
محمد تاجر
هذه الصناعة هي ألصق الصناعات بأخلاق الناس ودراسة نفوسهم، وفضل
السياحات عظيم في تربية الشخص الخلقية، وقد ظهرت لك غرائزه في أمانته،
ولنذكر الآن العناصر الجوهرية في هذا البحث وهي صلة محمد صلى الله عليه
وسلم بالأديان الأخرى، وهل هي التي أثرت فيه في التحنث بالغار أم لا؟ يقول لنا
جماعة المستشرقين: إن صلة محمد صلى الله عليه وسلم في سياحاته بالأديان
الأخرى عرفته الشيء الكثير عن تلك الأديان ودراستها، ويخيّل إليك أنها كانت
دراسة عميقة كدراسة الطالب الذي يتخصص في علم الطب والحقوق مثلاً ومثل
هذه الدراسة لابد أن يلزم الطالب فيها باب أستاذه مدة طويلة جدًّا من الزمن توازي
على الأقل مدة دراسة تلاميذ سقراط، ولكن ظهر لك أنه لم يصرف في الرحلة
الثانية غير ثلاثة أشهر، منها نحو ثمانين يومًا في الطريق، ويلوح لنا أن هذه
الرحلة لم يكن الغرض منها سوى التربية النفسية، وتحمل مشاق السفر،
والمحافظة على الأمانة التي عهد إليه القيام بها وهي توصيل التجارة والعودة بالثمن،
كما بيّنا ذلك مفصلاً في الفصل الثاني الذي مر بك.
ولقد ادعى درمنغام وغيره أنه عليه السلام ذهب إلى اليمن، ولم تؤيد كتب
السير هذا الزعم، ولكنها أضيفت فقط للتهويل.
* * *
دين محمد قبيل الوحي
فلننظر ما ذكره ابن هشام ونستنبط منه دين محمد قبيل الوحي، وهل تعبده له
صلة بالأديان الأخرى أم لا؟
لم يروِ لنا أحد من المسلمين وأعداء الإسلام شيئًا عن دين سيدنا محمد قبل
الوحي، بل كل ما قالوه هو أنه صلى الله عليه وسلم (ابن هشام: صفحة 224)
كان يجاور في حراء في كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنثت به قريش في
الجاهلية، والتحنث لغةً هو التحنف.
وقال عبيد - صفحة 225 -: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور
ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه، فإذا قضى صلى الله عليه وسلم جواره
من شهره ذلك كان أول ما يبتدئ به إذا انصرف من جواره إلى الكعبة فيطوف بها
قبل أن يدخل بيته.
هذا هو كل ما كان يفعله عليه السلام من التعبد قبل بعثه، ولنطبق ذلك على
علم النفس أيضًا.
لقد نشأ محمد عليه السلام في الجاهلية التي كانت تحترم الكعبة، وقد أوجدت
الظروف التي طرأت على بناء الكعبة فرصة انقسام القبائل على حمل الحجر
الأسود، فكانت فرصة ساخنة له أعطته ميزة الفصل بينهم وأن يكون رداؤه محمل
الحجر، وأن يكون له ميزة وضعه بيديه الشريفتين مكانه، فإلهامات محمد صلى
الله عليه وسلم الطبيعية وغرائزه لم تجعله ينفر من الكعبة وهو يجهل ما سيكون لها
من الشأن على يديه مستقبلاً وليس في التوراة والإنجيل ما يدل على أن هذا هو
بيت الله الذي بناه إبراهيم، فهو على حكم البيئة التي نشأ فيها لم يشذ عن احترام
الكعبة؛ ولكنه نفر مما حوت من أصنام مما كان المجموع يدين به.
نقف هنا وقفة قليلة لنتأمل هذا الفرق الهائل بين احترامه للكعبة ونفوره من
الأصنام: فالكعبة كما رأيت لا تمت بصلة لليهودية ولا للنصرانية؛ ولكن العرب
كانوا يحترمونها احترامًا متوارثًا، وكانوا يعرفون أنها بيت إبراهيم.
ولقد روى الكلبي في كتابه (الأصنام) أن منشأ هذه الأصنام هو شدة تعلق
أبناء إسماعيل بالكعبة، فكانوا كلما كثروا ورحلوا إلى جهة أخذوا حجرا من الكعبة
ووضعوه في مكانهم الجديد وطافوا به تبركًا.
ثم دار الزمن بهم فعبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه.
فأنت ترى من هذا أن احترام الكعبة موروث في أبناء إسماعيل ومنهم محمد
صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه نَفَر من الأصنام، وهذا فارق كبير.
وتاريخه عليه السلام يكاد يحوي كل صغيرة وكبيرة من تعبده، بل كان يُسأل
بعد الإسلام عن كل شيء، ولم نجد في عمل من أعماله دليلاً على اتصاله بالأديان
الأخرى.
ولكن هناك أمر واحد تمحّك فيه جماعة المبشرين بعد أن غذاهم به فريق
المستشرقين، تلك هي القبلة الأولى، وزعيم هذه الفرقة هو ستوك هرجرونيه
وفنسنك طريد المجمع اللغوي الملكي، وسنبين هذه الشعوذة عند الكلام عن هذا
الرجل الذي وقفنا معه موقفًا خالدًا في هدم المستشرقين، على أن ذلك كان بعد
البعث ولا شأن له بموضوعنا الآن، وعلى أن الأعمال الثلاثة التي كان يدين بها
قبل البعث هي المجاورة في الغار، وإطعام المساكين والفقراء، فإذا انتهى ذلك
الشهر طاف بالكعبة سبعًا.
فهل هذه الأعمال تمُت بالصلة لأي دين من الأديان السابقة؟
إذا كان هذا التعبد - إن صحت تسميته بهذا الاسم - مصدره الغريزة والإلهام
وحدهما، فهو - على حكم الوراثة من جده الأعلى إبراهيم وإسماعيل - قد شق له
طريقًا وحده.
ولم يقل لنا المستشرقون ومن جرى مجراهم أنواع هذه الصلة التي قالوا عنها،
بل اكتفوا بهذا الوضع للتشكيك لا غيره، وإلا فإني أتحدى من يقول بأن هذه
الأعمال التي كان يقوم بها محمد صلى الله عليه وسلم متخذة من الأديان السابقة،
اللهم إلا دين الحنيفية دين الإسلام وملة إبراهيم، ومحمد بغرائزه وإلهامه شق له
طريقًا وحده ولم يتشيع لدين ما قبل بعثه، وإلا لكان الكافرون من أهل زمانه حاجّوه
بما كان يعترف به أو يعمله، وليس في القرآن إشارة ما إلى ذلك مع أنهم حاجّوه
بكل أنواع الحجج، وطعنوه بجميع أنواع المطاعن إلا هذا، فهل ما خفي عن
معاصريه اكتشفه المستشرقون في آخر الزمان؟
... ... ... ... ... ... سبحانك هذا بهتان عظيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) بل وجد فيه وصفه بالأمي ووصف قومه بالأميين، ووجد فيه (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ) (العنكبوت: 48) .
(2) ولعل أمثال هذه الحادثة هي التي جعلته - عليه السلام - يرضى بالواقع فلم يذهب إلى سمر ولم يحضر ناديًا.
(3) يظهر أن الرواية بالمعنى، وإلا ففي استعمال وجيعة نظر.(35/267)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل الرابع
محمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث
رأيتَ في الفصل السابق أن دين محمد صلى الله عليه وسلم وتصرفاته قبل
البعث كانت كلها من منبع الغرائز والإلهامات العالية.
وقديمًا قال الحكماء: إن السر في عدم إنجابه ذكرًا أن أي ولد يخرج من صلبه
كان محتومًا أن يكون في درجة من النقاء يصل بها إلى درجة النبوة، وموت أولاده
الذكور كان قضاء وقدرًا؛ لأنه معد لتلك الرسالة العظمى التي ختمت به.
ويقول لنا درمنجهام إن موت أبنائه قد زعزع عقيدة زوجته السيدة خديجة في
الأصنام وأتى لنا بقصص كلها خرافية جديرة بأن نهملها [1] .
والآن نقف وجهًا لوجه مع جماعة المستشرقين كلهم الذين كتبوا ويكتبون عن
حياته كرجل عظيم، ونريد أن يتمشى معنا القارئ في هذا الفصل لنرى هل كان
محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب أم نبيًّا ورسولاً؟ ولو وجدت عبقرية
عظماء الرجال في عصره وفي بيئته كانت تقوم بما قام به أم لا؟
رأى الباحثون من المؤرخين أن العالم كان في وقت البعث في حالة انحلال
أدبي وسياسي عمّ الكرة الأرضية.
ففي الشرق كانت الصين والتبت تمزقهما الحروب الداخلية، والهند كانت في
فوضى أخلاقية نتيجة انتشار المذهب البرهمي الذي يعد من أركانه هبة البنات
الأبكار للآلهة وأن يقوم البرهمي في دور الآلهة في الاستمتاع بالعذارى مما لا
يزال له أثر حتى اليوم، بهبة البنات للاستمتاع الديني في المعابد ويطلق عليهن
اسم فتيات المعبد.
وكان شمال غربي آسيا في حاله ركود وغموض، وشمال إفريقية في حالة
يرثى لها من الظلم الفاضح على أيدي فلول الرومان التي فقدت سمعتها الأدبية ولم
يبق منها بقية أنفاس تتردد كما تتردد آخر أنفاس المشرف على الموت.
وكانت اليونان تعاني ما تعانيه بقية البلدان لتبعيتها للدولة البيزنطية التي كانت
مشتبكة في حروب مع الفرس الذين كانت جنودهم تعيث في أرض الروم فسادًا حتى
انحلت أمة الفرس نفسها.
* * *
ومن هذا يتضح لك أن العالم كان في غمرة انحلال أدبي وسياسي ومادي
وأخلاقي ولا يمكن نجدته إلا بقوة خارقة تهديه سواء السبيل، على أن العالم لم يكن
خاليًا من بذور الإصلاح فقد كانت اليهودية معروفة، والنصرانية لها بابوية روما،
ومازال هذان الدينان منتشرين للآن كما توجد أنقاض المدنيتين اليونانية والرومانية.
هنا نقف بالقارئ قليلاً لنستعرض الآراء التي يقول بها منكرو رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم ونتمشى معهم قليلاً في استنباطاتهم لنرى إذا كانت تهيئ لهم مثل
تلك الدعوى.
قال المستشرقون ومن لف لفهم: إن محمدًا كان على اتصال علمي بالأديان
الأخرى، وإنه استقى معارفه ومعلوماته من سياحته في الشام وباحتكاكه بمن
يحضرون إلى مكة للتجارة، وقد زاد الغامزون اللامزون بأنه يحسن القراءة
والكتابة (مرجوليث) بدليل الآية الكريمة: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 3)
وادّعوا أن هذا اعتراف بأنه كان يعلمها، وأنه قرأ عن كل شيء.
إن تصديق مثل هذا الكلام فيه كل العبث بالعقل البشري، أما سياحاته في
الشام فقد سبق عنها الكلام في الفصلين السابقين.
وهناك رأي آخر يقول به بعض المستشرقين وهو أن محمدًا كان يقتدي
بموسى عليهما السلام، وأن دعوته كانت لحب السلطان.
يقول هذا القول المستشرق مرجوليث في كتاب تاريخ العالم العام ونقول ردًّا
على هذا: إن غرائزه وإلهاماته كانت واضحة تمام الوضوح، ولتصرفات الشخص
في صغره دليل على غرائزه وميوله، ولم يكن في غرائزه - عليه السلام - ما
يؤخذ منه حب السلطان وحب المال والتملك، أو غرائز الهدم والإفساد وحب
الظهور وهي أظهر الغرائز في حياة الأطفال الذين يرجح أن يكون لهم شأن في
المستقبل، بل بالعكس كانت غرائزه العاملة هي التواضع والوحدة ونفي الخلاف،
ولم يعرف عنه أنه استغل سلطانه في الاستفادة المادية وهي أهم ما يطمح إليه
العظماء.
كذلك لم يشتهر بالشعر ولا بالدعاية لنفسه وهما أقوى المؤثرات في عصره
وفي كل عصر مما كان يهيئ له أن يجمع حوله جماعة الأنصار يعد بها العدة
للمستقبل الذي يتهيأ له لو أنه شخص ذو مطامع.
هذان هما الرأيان السائدان في كتب المستشرقين، وهناك رأي ثالث يستنبطه
بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة وهو أن محمدًا - عليه السلام - كان على علم قليل
بالأديان السابقة، غير أنه رأى أن العالم محتاج للإصلاح المعنوي والنفسي، وأن
لا وسيلة لإصلاح المجتمع إلا بهدم الخرافات والمعتقدات الزائفة فبدأ بالدعوة لهدم
كل هذا.
وإنك لتجد في هذا الرأي أثرًا واضحًا للثقافة والتعليم الراقي، فأصحاب هذا
الرأي ما حكموا هذا الحكم إلا بعد الاطلاع على تاريخ العالم الذي لخصناه لك في
أول هذا الفصل، ثم درسوا المعتقدات التي كانت شائعة في ذلك العهد وكذلك تعلموا
الموازنة بين الأديان، ثم درسوا التاريخ السياسي والاقتصادي للأمم كلها حتى
القرن العشرين؛ ولذلك كان هذا الاستنباط لا يعد استنباطًا بل يعد تقريرًا لما حصل
ووليد الاطلاع على الأسباب والنتائج، وهو تفسير لسر الدعوة التي قام بهم الإسلام.
فهل كان يتسنى لرجل عاش في الجاهلية الأولى أن يعلم كل ذلك على غير
معلم في صحراء قاحلة؟ وهل من الممكن لعقل بشري أن يسع كل هذا التحصيل
والإنتاج والتشريع وحده من غير معين من الأساتذة أو الجهابذة، مع ما علَّمنا علم
النفس اليوم أن للعقل طاقة وللذاكرة احتمالات لا يمكن تجاوزها من غير أن يختل
توازنها اختلالاً عصبيًّا.
فأصحاب هذا الرأي يعرفون المقدمات والنتائج بأجمعها، فينسبون له - عليه
السلام - قوة لا يتسنى لأحد من البشر إدراكها في ذلك الوقت الذي بدأ فيه الوحي،
وهنا سر اختلال هذا المنطق وهذا الرأي؛ ففرق كبير بين أن تدرك الأمر من أوله
وبين أن تعرفه بعد نهايته بأربعة عشر قرنًا، وأن تعرف أسباب نجاح الدعوة
وتضيف إليها استنباطًا من عندك بعد أن تقرأ كل ذلك في كتاب واحد مأخوذ من
آلاف المصادر.
ولو أدت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة عكس ما أدت إليه لما عدم
أصحاب هذا الرأي ألف حجة على خطئها وعدم ثقافة الداعي لها مما سنشرحه فيما
بعد.
وهنالك رأي أخير وهو - على ما فيه من تهاون - جدير بالذكر والتمحيص،
وهذا رأي أصحاب الفلسفة الحرة أيضًا، وهو: أن ليس لعظماء الرجال حاجة إلى
التعليم، وإن أكثر العظماء لم يكونوا من المثقفين، بل يكفي للنجاح فكر صافٍ،
وقلب طاهر جبار، وعزيمة صادقة، وإخلاص حر عميق، وإيمان ثابت.
وإنا لنقف برهة أمام هذا الرأي لنقلبه ونقف على كنهه؛ لأن نواحي عظمة
الرجال متعددة، فإذا صدق هذا القول عن رجل سياسي يقيم ثورة، أو يهدم عرشًا،
أو يفتتح دولة، أو يستأثر بسلطة - فإنه لا ينطبق على صاحب دين أساسه قوة الحجة
وسلامة المنطق، ويتناول التاريخ القديم والحديث في زمنه فينفي ويثبت ويناقش
ويجادل، ولابد لهذا كله من ثقافة واطلاع لا وسيلة للإلمام بهما.
فإذا كانت الإلهامات والإخلاص والإيمان وحدها هي مصدر كل هذه
المعلومات فإننا لا نشك أن مسافة الخلاف بين منكري النبوة والمؤمنين قد قربت
إلى أدنى حد؛ لأن الإلهامات التي تتحدث بالغيب، وتعلم المجهول، وتحيط بتاريخ
الأوائل والأواخر، وتنفي وتثبت بطريق القطع والصواب، هذه الإلهامات هي
فيض من فيض الرحمن، ورسالة من الملأ الأعلى.
وليس الصدق الصرف والإخلاص الحر والإيمان الثابت الذي لا يتحدث به
صاحبه، ولا يكتسب به شيئًا من حطام الدنيا، بل احتمل مرارتها لهداية البشر
وإنقاذ البشرية - ليس ذلك كله إلا مرتبة من مراتب النبوة.
وهناك مسألة جديرة بالنظر والتفكير، وهي أن الإسلام ليس للزهد والآخرة
فحسب، بل نظم أعمال الإنسان في الدنيا لتكون وسيلة إلى الآخرة، وشرّع من
القوانين في الحياة المدنية ما ينظم الهيئة الاجتماعية وعلاقات الأفراد والأمم، وهذه
ليست طريقة عظماء الرجال رجال الدول أو رجال السيف، بل المعروف عن كل
عظيم أنه استعان بالأحكام العسكرية ليمنع حرية الناس في حدود القوانين التي
يضعها لصالح الدولة أو الفكرة التي يقيمها، وهذا هو الأمر الشاذ في دعوة الإسلام
فلقد كانت مبادئه عامة.
ولننتقل الآن إلى مسألة أخرى جديرة بالنظر والبحث، وهي أننا لو فرضنا
محمدًا صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب هل كان يتّبع تلك الخطة التي اتبعها
في نشر دعوته؟ وهل كان ينتخب لها ذلك الوسط والزمن اللذين قام فيهما؟ وهل
كان من صالحه أن يقوم بهذا النوع من الدعوة لله؟
لقد أجمع المؤرخون أن مكة كانت وثنية حقًّا، ولكن ما الضرر الذي يصيب
العالم من عبادة الأوثان أو الأحجار ما دام ذلك لا يؤثر في حياتهم ومعاشهم، وهذه
أمة اليابان مثلاً تغلغلت في الوثنية إلى العهد الحديث ومع ذلك طفرت إلى المجد
طفرة واحدة، فالضرر الذي يحصل من عبادة الأوثان إن هو إلا ضرر في نوع من
أنواع التفكير الصحيح، وإذا كان الدين هو معرفة حقيقة الله فقط من غير أن يكون
وراء هذه الحقيقية مبادئ أخرى تنقذ البشرية من براثن الأوهام واستغلال العقول
لتساوت جميع الأديان، وهناك أديان تكاد تلمس التوحيد ولكنها خالية من روح
المنطق، فترى في هذه الأديان أن البقر معبود يقدس ويعد روثها بركة وتشرب
أبوالها، في حين تعد فريقًا من الناس نجسًا لا يصح لمسه وتجعل هذا الفريق من
الناس محكومًا عليه أن يعمل في الأقذار والأوساخ، فما الفائدة التي تعود على العالم
من مثل هذا غير العبث بالإنسانية.
وهناك بعض الفرق التي اخترعت لها مذاهب في الأديان السماوية ورجعت
بالإنسان القهقرى إلى أنواع عبادة الأصنام والأشخاص، فيوزن صاحب المذهب
بالذهب كل عام ويؤخذ هذا الذهب من أتباع مذهبه، ومن هذا يتضح لك أن التوحيد
هو تحرير الفكر من كل شيء، ولنرجع إلى ما كان سائدًا في مكة:
فالمهم والواضح أن اليهود - اتباع الدين الإلهي الأول - كانوا يستغلون
أموال هؤلاء الوثنيين بالربا الفاحش إلى حد استعباد الناس، ودفعهم ببناتهم للبغاء
تسديدًا للديون الباهظة التي جرها الربا الفاحش.
وقد كانت حالة العرب الوثنيين من الفقر والإملاق والبؤس والتشريد مما
يستوقف النظر العادي، وكانت مصيبتهم الاقتصادية والأدبية مما يبعث على التفكير
في هدم اليهودية لا الوثنية، فإذا أضفت إلى ذلك أن مكة ليست بلدًا زراعيًّا بل وادٍ
غير ذي زرع تكتنفه الجبال والصحاري، علمت أن كل أرزاق الناس كانت من
التجارة ورعاية الماشية في الأماكن البعيدة.
ومكة على حالها الآن أهون بكثير من مكة قبل الإسلام؛ فمورد مياهها الآن
متوفر من (عين زبيدة) الذي جر إليها بعد الإسلام وكانت قبل بلقعًا جافًّا.
وإذا عرفنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان تاجرًا، فإن هناك مسألة لا بد
أنه كان يعرفها، وهي أنه رأى بعينيه وسمع بأذنيه مصدر ألم الناس وفقرهم هذا
الفقر الذي يقاسيه أهله وعشيرته من الربا والإملاق نتيجة طغيان أصحاب
رؤوس الأموال من اليهود الذين استأثروا بتشريع القوانين بمكة، فأذلوا بهذا التشريع
أعناق العرب، ودفعوهم دفعًا إلى استثمار أعراضهم في البغاء [2] .
فالرجل العظيم الذي يوجد في مثل هذه الظروف لو كان غير محمد صلى الله
عليه وسلم ونصب نفسه للدفاع عن المظلوم ونصرة الضعيف فإنه كان يتخذ طريقًا
مباشرًا للقضاء على أصل الداء من منابته، والتاريخ يدلنا على أن عظماء الرجال
الذين عاشوا في مثل تلك العهود وجهوا جهودهم لأقصر الطرق فقاموا بالدعوة
للاشتراكية ومحاربة أصحاب رؤوس الأموال، أو البلشفية أو غير ذلك مما تراه
مفصلاً في كتب التاريخ عندما يستأثر بعض الناس بالأمر ويستبدون بالنفوس، ولعل
دراسة أعاظم الرجال تدعونا إلى تأييد هذا الرأي، فنابليون مثلاً لما رأى الثورات
تمزق فرنسا لم يقم بالدعوة إلى الزهد، بل عمل على حصر السلطة في يده من
طريق الحرب والقيادة، وانتظم في سلك الجنود حتى وجه الأنظار إلى مهارته كقائد،
وأظهر نفسه وكبر من شأن عبقريته بفتح إيطاليا، ثم عمد إلى كل الطرق التي
تجعله قنصلاً فإمبراطورًا.
ومحمد علي باشا عمل مثل هذا أيضًا.
وكان أسهل طريق أمام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يستغل عبادة
الأوثان ولم يكن فيها وفي مبادئها شيء عن الربا، فإذا جمع القلوب حوله وقبض
على ناصية السلطة ضرب نفوذه على ما حوله واستغله في الإصلاح، وأول ما
يوجه نظره هو الحالة الاقتصادية والأدبية من طريق مباشر يمنع كل ما كان يشكو
منه الناس.
والمطلِّع على تاريخ العرب في الجاهلية يرى أن الدعوة كانت ممهدة لمثل هذا
الرأي، وما كان عليه إلا أن يستثير عواطف الناس في سوق من أسواق العرب
ويدعوهم إلى دعوة اقتصادية صرفه فيلتف حوله جماعة من أشداء السواعد ومفتولي
العضل ويهاجم بها بيوت اليهود فيأخذ أموالهم ويطردهم ويحرر الناس من رقهم
المادي. ويدلنا على صحة هذا الرأي ما نراه متجلّيًا من روح الكراهية لأصحاب
رؤوس الأموال، وانتشار الدعوة إلى الرفق بالمظلوم، فقد كانت الشعراء والخطباء
مهدت فعلاً الطريق إلى مثل هذه الدعوة، وتألَّف فعلاً أنصار لمن يقومون بمثل
هذه الدعوة، يدلك على ذلك أشتات من قصائد وأشعار جاهلية في وصف هذه الحالة،
كقول بشر بن المغيرة عن اليهود:
وكلهم قد نال شبعًا لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
وقال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
كما يدلك على ذلك عادة وأد البنات في طبقة الأشراف ضنًّا بهن أن يكن في
يوم من الأيام موضع استغلال للبغاء.
فمن من عظماء الرجال يكون في مثل تلك الظروف ولا يقوم بحرب مباشرة
ويستغل هذا الشعور الملتهب ويضرب في الصميم بنهب اليهود وقتلهم، هذا هو
الرأي الذي توحيه الظروف، معاداة اليهود وكراهيتهم وطردهم، ولكن جماعة
المستشرقين يقلبون الحقائق ويقولون إن محمدًا أراد استغلال اليهود، وهذا هو
المنطق المعكوس والكلام الهراء الذي لا يقوم عليه برهان، فالعلل التي كانت
تشكو منها الإنسانية لم تكن متجهة إلى العقيدة بل إلى أنواع المعاملات المدنية
والاجتماعية.
أما أن يقوم محمد صلى الله عليه وسلم ويفكر في طريق شاق ملتوٍ ويبدأ بمعاداة
أهله في عقائدهم، يسفِّه جيرانه وقومه في آرائهم ويهزأ بعقليتهم - فأول ما يقابل به
هذا النوع من التفكير في تلك الظروف هو تلك التهمة التي اتهموه هم أنفسهم بها
أنه مجنون؛ لأن هذا يثير الرأي العام عليه وما كان يقول به عاقل حكيم لو كان -
عليه السلام - مستسلمًا لنفسه وحدها من غير قوة عليا تؤيده، وتوحي إليه،
وتدفعه دفعًا إلى هذا الطريق الشائك المملوء بالمخاطر.
كما أن مكة البعيدة السحيقة لم تكن أصلح مكان لمثل هذه الدعوة؛ لأن
الشخص العادي الذي ينظر إلى إصلاح العالم لا ينتخب أقل البلدان عمرانًا لدعوته،
وماذا يكون رأي العقلاء لو قام رجل في أقل قرى الصعيد شأنًا ليدعو دعوة
إصلاح سياسي أو عمراني في مصر كافة، أو في العالم أجمع؟
ومن المدهش أن الدعوة من أولها انبثت على مبدأ واحد هو الدعوة لله وحده،
أليست هذه طريقة ملتوية؟ وما الذي جعله يتمسك بدعوته هذه بعد أن سعى إليه
زعماء العرب وأهله يولونه رياستهم ويعرضون عليه السلطان المطلق في الأمر
والنهي، فأبى ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره؟
لقد كان في استغلال شعورهم هذا ملكًا كبيرًا، ودولة يطرد بها مصادر
ألم العرب وشقائهم، وكانت فرصة ذهبية لجمع القلوب حوله وضرب المرابين
وأصحاب رءوس الأموال ومفسدي الأعراض.
لنقف قليلاً ولنتدبر، ألم يستغل كل عظماء الرجال مثل هذا الظرف؟ ألم
يخلق نابليون ومحمد علي وكرومول، وغيرهم مثل هذا الظرف؟ وإن تاريخ
عظماء الرجال يخبرنا أن أول عمل يقومون به هو استغلال عواطف الناس لا
معاداتهم في عقائدهم وأخلاقهم.
أما أن يبدأ شخص ما بمعادة الناس وتحديهم كلهم، وضرب كرامتهم وعزتهم
وعقولهم فضرب من السياسة لم يعرف قبل سيدنا محمد ولم يعرف بعده.
وهذا تاريخ سيدنا موسى، وسيدنا عيسى أمامنا وإنا لنرى أن دعوتهما تخالف
هذا كل المخالفة، ولكل نبي ظروف وآية.
والخلاصة:
(1) أن نفسية أي رجل عادي عاش في ذلك الزمن ما كانت لتتخذ من
وسائل الإصلاح مثل هذا الطريق الشاذ.
(2) أن أسهل الطرق لاستغلال الشعور لم يكن قاعدة، بل كانت القاعدة
تحدي الناس أجمعين، وهذا ضرب من الإعجاز.
(3) إن الذين يعترفون بالإلهامات العالية في نفسية سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم يقتربون من الحقيقة لو عرفوا أن هذه الإلهامات فوق مستوى البشرية.
(4) الذين يحكمون اليوم على السيرة الشريفة بأسبابها ونتائجها لو عاشوا
في ذلك الزمن لكان لهم رأي آخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يقول درمنجهام: إن سبب زعزعة عقيدة السيدة خديجة في الأصنام أنها كانت تقدم النذور والحلي لتلك الأصنام طلبًا لحياة أبنائها الذكور من سيدنا محمد، ولما لم تفلح هذه القرابين تزعزعت ثقتها وأغرت سيدنا محمدًا بهدم كيانها على أن الواقع أن أولاده الذكور كلهم ماتوا بعد الإسلام، فلو كان استنتاج درمنجهام حقيقيًّا وينطبق على نفسيته - عليه السلام - لكان موت إبراهيم آخر أنجاله سببًا في ثورته - عليه السلام - على العالم أجمع، ومع ذلك فكل ما قال معاصرو النبي عند موت أولاده الذكور أن الله قلى محمدًا، فنزلت سورة: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى: 1 - 3) .
(2) نعم، إن البغاء كان فاشيًا في الإماء، وكن يُشترين للاتجار بأعراضهن، لذلك نزل النهي في القرآن: (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور: 33) وقلما كانت تزني حرة.(35/280)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل الخامس
التوحيد هو روح الحرية
كان بودي أن أجعل مقدمة البحث في التوحيد ملخصًا لنشأة فكرة الأديان في
العالم وأن أتناول بالتحليل كل دور من أدوار التفكير الإنساني الأول على ثقافته
الضئيلة ليعثر على سر الوجود، ويتفهم تلك القوة المسيطرة على العالم فتسير به
على هذا النمط المحكم الذي أدهش عقل الإنسان منذ تكوينه إلى الآن.
إلا أن هذا البحث يعد من قبيل المعلومات العامة في التاريخ القديم وكثير منها
معروف، وفيه الدليل على أن فكرة الإنسان في وجود قوة أكبر من قوته تكاد تكون
في قدمها وعهدها كعهد الإنسان على ظهر البسيطة، وأن العقل أدرك بفطرته أن
هذه القوة موجودة، ولما أعيته الحيل في حسها ولمسها جهد أن يدركها من مظاهرها
وأثرها في الحياة، فعبد النيل لأنه يقوت الشعب ويعود بالخير والبركات، وعبد
النار لأنها مصدر قوة عظمى ويشعر بضررها فعبدها خوفًا منها، وعبد الحيوانات
المائية كالتماسيح لأنه ظن أن الروح القوية أو روح القوة تحل فيها، وقدس الأبقار
لأن في لبنها قوة له، ثم عبد أشخاص الأبطال في صور من تماثيلهم؛ لأنه رأى
فيهم قوة إنسانية تفوق قوة الإنسان العادية، ثم فكر في أقوى المؤثرات في الكون
فعبد الشمس وحدها.
كان الإنسان في كل هذه الظروف يتلمس إيجاد سر الوجود، والعثور على
معرفة الحقيقة لروح الحياة.
يقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة: إن الإنسان لم يبحث بغريزته عبثًا عن
مصدر تلك القوة إلا لأنه ضعيف في كثير من أوقات حياته، وقليل الحيلة فيما ليس
من قدرته، وقليل الإدراك لظواهر الطبيعة التي تبهر نفسه؛ فهو في حال المرض
لا يقوى بنفسه على محاربة الداء، وفي حال الجدب لا يقدر على إنزال الماء من
السماء، فلجأ من ضعفه أن يستمد العون من قوة أخرى تخيلها أنها أكبر منه سلطانًا
على الوجود، ورمز لها بتماثيل يسجد بين يديها يستمد العون منها ولو تمشينا قليلاً
مع هذه النظرية والفرض لخرجنا منها بنتيجة لا تقبل الشك، وهي اعتراف
الإنسان اعترافًا صريحًا بعجزه منذ القدم إلى يومنا هذا في حل سر الوجود بعقله
المطلق وفكره الشخصي مهما علت ثقافته ومهدت أمامه أسباب العلم.
وهذه نتيجة هامة فليتذكرها القارئ؛ لأننا سنعود إليها فيما بعد، غير أننا
نشير الآن إلى أن اعتراف الإنسان صراحة بعجزه وضعفه جعله ينظر إلى العالم
نظرة فلسفية من غير أن يشعر، فقد اعتقد أنه لم يوجد لا ليكون ضعيفًا ذليلاً
فتناهى في طلب الذل والتقشف والزهد والخنوع، فأخذ يتلمس طرق إرضاء خياله
عن القوة المسيرة للعالم من طريق إذلال النفس وقتلها بأنواع شتى من التعذيب،
ترى صورًا منها في الأديان القديمة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، كفقراء
الهنود الذين يتعبدون بالجلوس على المسامير، أو رفع أيديهم إلى أعلى حتى تجف
أو تتقدد، أو غرس شص من الحديد في ظهورهم، أو يعلقون على الأشجار، وقد
تغالى الإنسان في زعمه هذا منذ القدم حتى قدم الدم الإنساني قربانًا لاستجلاب
الرضا.
وقد يقال: إن العالم تطور كثيرًا، ووجد فيه من العلماء والفلاسفة من أرشدوه
إلى معرفة شيء عن النفس الإنسانية، ومع ذلك لا نشك أن فطرة الإنسان قد جعلته
يفكر في القوة التي أوجدت هذه الكائنات، وكانت فكرة الدين جزءًا من عقلية
الإنسان، ونرى ذلك متجليًا عند استكشاف (كورتس) لأمريكا الوسطى وتوغله في
بلاد المكسيك لأول مرة؛ حيث حدثنا عن وجود ديانات فيهم لا تختلف كثيرًا عن
ديانات العالم القديم، ووصف لنا المذابح البشرية قربانًا للآلهة مما يدل على أن
فكرة الدين واحدة في العالم القديم والجديد متأصلة وجزء من تكوين الإنسان، وإن
كان الطريق للعبادة مرسومًا على قدر تفهم الإنسان معنى الحياة كما يوحيه إليه
ضعفه وعجزه، والتماس معرفة تلك القوة العظمى التي أوجدته وصيرت العالم بذلك
النظام البديع الذي بهر نفسه.
وإذا تتبعت تاريخ هذا التطور وجدت أنه حتى بعد ظهور أديان سماوية استمر
تعذيب النفس واحتمال الأذى، وكانت منتشرة في أوربا في البلاد التي يفتحها
المسلمون؛ حيث يحدثنا التاريخ أن بعض المتقشفين أخذوا يعذبون أنفسهم تقربًا لله
بأنواع من العذاب كربط الساق حتى يتغنغر ويفسد ويتساقط منه الدود، وكعدم
الاستحمام وعدم تغيير الملابس حتى تتساقط من نفسها، وكالجوع المستمر حتى
الإشراف على الموت، أو غير ذلك من ضروب الاحتمال للآلام [1] .
وفي كل ظرف من هذه الظروف نرى ظاهرة أخرى في تفكير الإنسان،
وهي أن هناك واسطة بين الإنسان وتلك القوة القادرة التي تخيلها، فاستغل قديمًا
جماعة الكهنة في مصر ذلك حتى نازعوا الملوك سلطانهم، وفي البلاد التي ما زالت
في الوحشية الأولى أقامت أمثالهم مقام السحرة، أو غير ذلك مما يطول شرحه.
وفي الهند نرى سلطان كهنة المنبوذين يكاد يشاطر الرجل رزقه، وأنهم يعيشون
عالة على الناس من قبيل الاستهواء الديني.
بعد هذه المقدمة الوجيزة لتاريخ فكرة الدين نعتذر عن عدم الإطالة؛ لأن هذا
الموضوع من المعلومات العامة التي يستطيع الباحث أن يجدها في الكتب المتعلقة
بهذا الموضوع، ولعله يستطيع إذا اطلع عليها أن يلم بها إلمامًا تامًّا، وأن يعرف
أن التوحيد في الله كان معروفًا حتى قبل ظهور الإسلام؛ لأن هناك أديانًا سماوية
سبقت، ولكن كبار عقول الفلاسفة حتى بعد ظهور الأديان أخذوا يتلمسون أسبابًا
منطقية ليقنعوا أنفسهم بوجود خالق.
ويطول بنا أيضًا شرح هذا، إلا أننا نشير إلى أنهم انقسموا ثلاث فرق:
(1) فريق نظر إلى الأديان بفكره الفاحص فقط ثم اقتنع.
(2) وفريق فرض الشك وأراد أن يقنع نفسه من طريق التشكيك في كل ما
أمامه من الأديان.
(3) وفريق ترك كل هذا وأراد أن يبحث عن سر الوجود بنفسه.
فأما الفريق الذي اقتنع بنفسه ببحث الأديان التي أمامه فلا مناقشة لنا معه.
وأما الفريق الذي أخذ يتشكك ليقنع نفسه من طريق الشك فعلى رأسه
(ديكارت) وهذا مذهب أقل ما فيه أنه مبني على زعزعة المنطق، وأن الرجل
يفرض نفسه مثلاً أعلى في الكمال العقلي فيريد أن يقنع نفسه بنفسه لا من طريق
تفهم الشيء بذاته بل طريق التشكيك فيه، وهنا لابد أن تعترض الشخص أمور
أكثر تعقيدًا من أن يحلها بنفسه، ولنضرب لك مثلاً: ديكارت نفسه لا يعرف شيئًا
من العربية فلا يمكن أن يعرف إعجاز القرآن، وديكارت لا يعرف شيئًا من علم
الفلك فلا يمكنه أن يفسر الآيات التي تعد إعجازًا في علم الفلك، كما توجد آيات
أخرى تعد إعجازًا في الطب لا يمكنه فهمها.
ومن عيوب العقل الإنساني أنه كثير الزهو بنفسه وإن الفيلسوف يظن نفسه
بطلاً في كل شيء، مع أن دينًا كالدين الإسلامي تناول كل أنواع التفكير والتشريع،
وهذا أكثر من أن يحكم عليه إنسان واحد.
أما فريق الماديين فليس من موضوعنا مناقشتهم؛ لأننا نرى في القرآن
إعجازًا يقنعهم، وأن الإسلام يتمشى مع العلم جنبنًا إلى جنب، وأن في آيات:
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 2) و {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام:
2) و {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) لأدلة إذا تفهمها هؤلاء الناس
لخروا ساجدين، إلا أننا لا نتكلم في هذا البحث الآن؛ وإنما نقتصر على الإعجاز
النفسي في الإسلام، على أننا نرى من وجهة أخرى أن الموضوعات العلمية الفنية
تتمشى جنبًا إلى جنب مع الإسلام، فأول آية من آيات القرآن الكريم: {اقْرأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *
عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1 - 5) .
فأنت ترى أن أول نداء للإسلام كان على دعامتين: الله والعلم، وترى كثيرًا
من آيات القرآن أحالت على تعلم وتفهم دقائق الحياة وعناصرها، وتركت للعقل
البشري حريته في البحث والاستقصاء، وتركت للفكر والسمع والبصر والأفئدة
سبيلاً لمعرفة الله عن طريق العلم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ... } (فصلت: 53) ولقد قامت الدعوة الإسلامية على مناقشة الحجة بالحجة والبرهان
بالبرهان.
والظاهرة الغريبة جدًّا أن الإسلام لم يجعل فاصلاً بين المرء وربه، وجعل
الناس كلهم سواسية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) وهو إنسان
كجميع الناس لولا أنه نبي كريم، وبهذا ترى أن التوحيد ضرب الحجر على العقول
ضربة قاضية، وضرب استضعاف المرء لنفسه ضربة قاتلة، وساوى بين الناس
جميعهم، كما هدم كل أساس للأفكار الخيالية في التقرب من الله بطريق تعذيب
النفس (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق) كما ضرب الوساطة بين العبد
وخالقه ضربة لا قيام لها.
انظر وتأمل هذا النبي الكريم على جلاله وعظمته، وعلى مكانته عند الله
والناس لما رأى رجلاً مقبلاً يرتعد رهبة قال - عليه السلام -: (خفّض عليك،
أنا ابن امرأه كانت تأكل القديد بمكة) .
في هذه الحادثة وحدها، وفي هذا الحديث وحده كل معاني الحرية وكل معاني
المساواة وكل معاني حكمة الإسلام في الحرية الشخصية.
ولنذكر لك أثر التوحيد في تكوين النفس، وكيف تطور الفكر الإنساني بمبدأ
التوحيد، ونبتت عند الناس فكرة الحرية الشخصية والدينية منذ الساعة الأولى التي
قرع سمع العالم هذا النداء الإسلامي.
لقد كان طبيعيًّا أن تصادم هذه الدعوة الحرية - بكل معانيها - بالعقائد
التقليدية التي سبقت الإسلام، وهي عبارة عن اعتراف الإنسان بضعفه اعترافًا
صريحًا - كما تقدم - وإقراره بحدود ضيقة لعقله لفهم تلك القوة الهائلة المسيطرة
على العالم، وعبادة البطولة والأبطال والقوة في رموز من التماثيل يستلهمها وقت
الضيق، ويتقرب منها عند الحاجة، فقام نزاع شديد بين هذه التقاليد الموروثة في
الجمود الفكري.
ورأى الناس الدعوة الله والعلم عن طريق الفهم والحجة والبرهان والعقل،
فنشبت معركة هائلة بين العقل والقوة، ومظاهر القوة مادية محصنة فلجأ المكذبون
إلى إيذاء النبي وصحبه وإنزال العذاب بهم مما يشيب لهوله الولدان، بالضرب
وبالحرق، والكي، بكل أنواع الوحشية.
ذلك لأن عقول هؤلاء الناس لم تكن في أدمغتهم؛ ولكن في أيديهم وفي أدوات
اعتداءاتهم، كما رباهم على ذلك هؤلاء الناس الذين استعلوا ضعفهم الفكري،
فاستغلوا عواطفهم لاستدرار الأموال منهم.
ولقد صبر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الأذى والعذاب، وهذا
الصبر والثبات في موضعهما ضرب من ضروب تطور الفكر الإنساني من حال
إلى حال؛ فالناس قبل الإسلام كانوا يحتملون العذاب تقربًا من الله، ويحتملون
الأذى الفكري من غير فكرة معينة عن الله، ولكن إصرار المسلمين على عقيدتهم،
واحتمالهم الآلام في سبيلها، هو دفاع عن حرية الرأي والعقيدة، دفاع عن حرية
التفكير، دفاع عن الحرية بكامل معانيها، فصاروا يقبلون العذاب في مقاومة
العادات والأخلاق الموروثة، وفي سبيل تحرير الفكر.
وهناك ظاهرة غريبة أغرب مما يتصوره العقل، فقد مضت ثلاثة أعوام على
دعوته صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه إلا ثلاثة عشر شخصًا، وهذا يدلك على مقدار
جمود الفكر في تلك الأيام، وإذا قست ذلك بما يحصل في زمننا هذا لوجدت فرقًا
كبيرًا؛ فإن حرية التفكير الآن تجعل كثيرًا من الناس يعتنقون المبادئ الحديثة أيًّا
كانت، حتى المبشرين والمستشرقين تجد لهم أتباعًا وأنصارًا.
على أن الغريب في هذه الظاهرة - في ثبات أصحاب النبي على الأذى - أنه
لم يكن بيديه شيء ما من حطام الدنيا، ولم يكن لديه من المغريات ما يغريهم لهذا
الاحتمال، ولو كان رجلاً عظيمًا فقط كما يدعي المستشرقون لغيّر من خطته،
وحبب دعوته إلى الناس بتغيير وجهتها لأقرب طريق إلى عقولهم.
ولكن هكذا كان، فالأديان التي سبقت الإسلام كان لها زعماء من رجالاتها قد
استغلوا العقول، فقضوا على التفكير قضاء يكاد يكون مبرمًا؛ ولذلك كانت رسالة
محمد صلى الله عليه وسلم شاقة في بناء التفكير الإنساني من أساسه على مبادئ
صحيحة هي توحيد الله، وأما ما بقي من الدنيا فقد صار مباحًا للعقل والفكر في
حدود المنطق الحكيم.
ولقد رأيت فيما قدمنا من أحوال العالم وقت البعثة أن العالم كان في حالة
جمود فكري وركود سياسي، وأن المرأة كانت في الدرك الأسفل، وأن الرأسمالية
كانت قد طغت على العالم وملكت أزمته، ولم يكن هناك وسيلة لإنهاض العالم من
عثرته.
ولما وردت كلمة التوحيد والعلم والتفكير، عرف العقل مكانه ومقامه ومركزه
في الوجود، وعرف الناس أنهم كلهم سواء لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى،
وأن لا سلطان على العقل ولا رياسة للعقائد، وأن الثواب والعقاب ليس بيد إنسان
كائنًا من كان، والجنة لا تباع ولا توهب، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة (اطلبوا العلم ولو بالصين) .
وهكذا تحررت العقول وعرف الناس قدر أنفسهم، وأنه لا فارق بينهم ولا
شيء يسيطر على أفهامهم غير العلم ووحي الضمير عن طريق الفهم والحجة.
هذه هي المبادئ التي لا توافق الاستعمار، التي يعمل المستشرقون منذ القدم
على مقاومتها، وهي التي قال عنها (سيكارد) : (إن الإسلام في روحه الخاصة
ينافي مصلحتنا فيجب التقليل منه بين الشعوب الخاضعة لنا) .
هذه هي المبادئ التي جعلت للإسلام أعداء من المسيطرين على البلاد الإسلامية،
فربوا فريق المستشرقين لكي يناهضوها.
وهذه المبادئ هي الحرية والإخاء، والمساواة التي تمخضت عنها الثورة
الفرنسوية بعد عشرات السنين من الهول والمذابح البشرية، وبعد اثني عشر قرنًا
من ظهور الإسلام، وبعد أن قررها القرآن حقًّا من حقوق الإنسان، وجعلها أساس
العقيدة، وفرضها على الناس دينًا وإيمانًا قبل أن تكون مبادئ.
ثم انظر إلى قرارة الآلام البشرية التي ولدت في الثورة الفرنسوية ما سموه
حقوق الإنسان في الوجود والحرية الشخصية والفكرة.
على أن هذه الثورة لم تكن إلا لانتزاع حرية الناس من أيدي العابثين بها
ووازن بين ذلك وبين المبدأ الأسمى الذي وضعه القرآن في الحرية الشخصية
والمساواة بين الناس، حتى النبي نفسه لم يدع سلطانًا ولا سيطرة، ولا يملك لنفسه
شيئاً إلا ما شاء الله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) .
أليست هذه هي مبادئ المساواة بأوسع معانيها خصوصًا إذا أضفنا إلى ذلك آية:
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (هود:31) .
قلنا: إن الإنسان الأول اعترف صراحة بضعفه، وتمثل القوة العليا في الأشياء
البارزة القوة والفائدة كالشمس وفي الأبطال فصورهم تماثيل يتذكرهم بها ويتقدم إلى
هذه التماثيل بالقرابين والخشوع والاستذلال، وكان أول معجزات التوحيد محو هذا
أيضًا ليكون الفكر حر من مؤثرات الأشباح التي تلوح دائمًا للعين فتؤثر في العقيدة
وحرية الفكر، ولئن كان في الأديان الأخرى شيء من ذلك فإن من قاموا بعداوات
التماثيل [2] سموا أبطالاً للإصلاح الفكري الديني، وهذا جزء قليل من أجزاء
التوحيد وعنصر من عناصره، أفلا ترى بعد ذلك التأثير النفسي للتوحيد وأثره في
حرية الفكر والصراحة في تحرير الفكر من كل قيد يؤثر فيه؟
وهلا ترى معي أثر تكريم بعض الأشخاص بإقامة أضرحة وقباب عالية من
قبيل الذكرى التاريخية فقط بين المسلمين قد جر السذج والهمل من الناس إلى
الاعتقاد بأمور تتنافى ودينهم؟ .
إذن فالتوحيد الصريح أساس المساواة بين الناس، وجعلهم كلهم طبقة واحدة
وهذا هو الإخاء الإنساني للشعوب جمعيها، ولم تتمخض الأجيال كلها عنه إلا بعد
الحرب العظمى في جمعية الأمم وإن كانت هذه الفكرة لم تبد صريحة للآن إلا أن
التربية والتهذيب والرقي الفكري سيجر العالم إلى المبادئ الإسلامية على رغم من
يتبجحون بإنكاره، وعلى رغم أنف الجمود الفكري الذي طغى على العالم بتأثير قوم
يستفيدون ويستمدون نفوذهم من تقييد العقل وتضليله وعدم تحريره.
ويقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة: لماذا يعتمد الإنسان على الدين في
فهم الفضيلة والإخاء؟ ولماذا لا يبلغ ذلك بالتعليم وأن يعمل الخير لأنه عمل إنساني
وأن يأنف من الشر لأنه عمل وحشي؟
وهذا القول على ظاهره مسحة من العقل ولكن منطقه ناقص وغير سليم؛ لأن
العقول البشرية تتفاوت في تقديرها للخير والشر، وما تراه بعض الأمم خيرًا يراه
غيرها شرًّا في العادات البسيطة، وقد مر بك أن الأمم التي لم تتمدن جعلت الذبائح
البشرية قربانًا للآلهة عملاً خيرًا، وقد تدهش إذا علمت أن الرقي والتعليم مهما كان
تقدمًا لم يغيرا شيئًا من عقائد البوذيين في الهند، وأن أكبر الزعماء كغاندي على
علمه وفضله يقول: (إن الزلازل غضبة من الله) ولا مانع من الاعتقاد بذلك -
وإن كان لها أسباب طبيعية معروفة - وقد يكون ذلك من باب موافقة أقدار لا قدر،
ولا زالت المرأة التي في حالة النفاس قذرة تعامل بالإهمال في أقذر مكان، ولا
زالت القابلة التي تولدها تدخل عليها بأقذر الثياب، ولا يزال للكهنة على كل شيء
ضريبة حتى أصبح ربع السكان من الكهنة الذين يعيشون على هذه الأموال، وكذلك
نرى في حياة المرأة حتى في اليابان أمرًا لم تألفه النفوس في جميع أصقاع الأرض،
وهو تقديم صاحب البيت زوجته هدية لضيفه إذا بات في منزله [3] ، مع أن
اليابان من أرقى البلاد مدنية وتعليمًا، وهذا يدلنا على أنه لا يوجد ضابط للتعليم ولا
حد للعادات.
ومن هذا كان الدين الإسلامي عالميًّا، يضع حدود الغرائز والعادات، ويضع
قوانين لمعنى الإنسانية ومعني البشرية، وإن العالم الآن مدين بنشاطه الحاضر إلى
تحرير الفكر الذي أوجده الإسلام ولو كره المبطلون.
وهنا قد يعترضنا إنسان فيقول لنا: إن تحرير الفكر كان جزءًا من الفلسفة
اليونانية ومن ضمن تعاليم سقراط وأفلاطون وأرسطو. ثم يكرر أن الأقوال التي
نقرأها دائمًا في الكتب الغربية من أن العالم مدين بحرية الفكر لليونان، وأن فضل
العرب لم يكن إلا نقل الثقافة اليونانية وتسليمها إلى أوروبا الحديثة وأن العرب
أنفسهم مدينون للفلسفة اليونانية، ونحن نعلم ذلك حق العلم ولكننا نقول إن حرية
التفكير شيء ومبادئ العلوم الطبيعية والمنطقية شيء آخر، وأن دساتير اليونان
القديمة ومناقشاتهم الجدلية كانت ضربًا من التجارب الأولى، كان بعضها ناجحًا
وكثير منها كان خطأ صريحًا كما ترى في علوم العناصر المكونة للعالم، والأمزجة
البشرية، فالفلسفة اليونانية هي مبادئ العلوم، ولكن حرية الفكر وتحديد الإيمان
على وجهة واحدة، وجعل العلم مرتبطًا بالإيمان، وأن لا حرج على العقل أن
ينشط من عقاله، وأن تكون هناك شريعة بالقدر الذي يكفل الفضيلة ويمحو الضعف
ويساوي بين الناس في حقوقهم المدنية والدينية، فهذه أمور لم تكن معروفة من قبل
في أي شريعة أو دين.
أضف إلى ذلك أن الفلسفة اليونانية قد خدمتها أوروبا، وخدمها العرب قبلهم
خدمة جليلة؛ فمباحثها مستفيضة، ولها الكتب الكثيرة المؤلفة بروح الإنصاف
والتضخيم والتكبير والشرح والتفسير، فكانت هذه دعاية لتلك الفلسفة قد غطت
على سمعة فلسفة أجل منها، وسأعطيك مثلاً ترى معه أثر هذه الدعاية:
فأنت تعلم أن الإسلام وإن كان دينًا تامًّا إلا أنه في الحقيقة تشريع يعامل
الغرائز الطبيعية ونزعات النفس في حدود العقل والحكمة، وترى أن مدارس
الحقوق في العالم العربي تدرس القوانين الرومانية ونظام التشريع الدستوري في
اليونان والرومان درسًا مستفيضًا، وأما التشريع الإسلامي على ما فيه من جلال
فليس موضوع دراسة علمية فنية، ولا يعرفه أحد من المتشرعين الأجانب، أفلا
ترى معي الآن أن الدعاية للقانون الروماني والدستور اليوناني أكبر من قيمتها
بالقياس على القانون الإسلامي المدني، والجنائي، ودستور الشورى، والحكومة
الديمقراطية؟
أليس هذا من قبيل تعصب أوربا لأصلها اللاتيني حتى في الدراسات الحرة؟
وقل لي كم متشرع في مقارنة القوانين يعرف ما في الإسلام من قانون مدني وجعله
موضوع بحث في رسالة خاصة.
ألست ترى معي أن دراسة حرية الفكر الإسلامية على مبادئ التوحيد موضوع
جدير بالنظر والبحث المستفيض؟ ألم يكن للتوحيد ذلك الفضل العظيم في جمع
القلوب فيكون وحدة بشرية بين الممالك المختلفة التي دخلها العرب ولا زالت هذه
الوحدة باقية إلى اليوم على رغم تلك الخلافات التي يوقد لظاها المستشرقون
والمبشرون، وخلق مشاكل للأقليات الدينية؟ ولم يكن الفضل في كل ذلك إلا لفكرة
التوحيد التي - متى اقتبستها الأفهام واستوعبتها الأفئدة - كانت كلها في اتجاه واحد
نحو الوحدة الإنسانية، والنهضة العقلية التي لا تفهم رجعية.
إن المستشرقين والمستعمرين يفهمون ذلك حق الفهم؛ ولذلك هم يعملون على
مقاومة الإسلام.
ولنتحدث لك الآن عن طرق تضليلهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) جاء في صحيفة 603 من كتاب دنيانا الغربية - أن المسيحية في القرنين الأولين منها كانت تعد تعذيب الجسم أرقى صفات التقى، فالقديس هيلاريون لم يحلق إلا مرة في العام في عيد الفصح، ولم يغتسل أبدًا حتى صار جسده كالحجر الخفاف، ولم يغير ملابسه حتى تتساقط من نفسها والقديس مكاريوس كان يحمل دائما ثمانين رطلا من الحديد، وينام في مستنقع لكي تلدغه الهوام، والقديس يوزيس عاش ثلاثين سنة في بئر جافة، وكان يحمل مائة وخمسين رطلاً من الحديد، إلى غير ذلك من أنواع التعذيب ـ wonderful world p 603 والحكيم العربي يقول: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، وجاء في الأثر: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تُبغِّض لنفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
(2) مارثن لوثر صاحب مذهب البروتستنت.
(3) وأبطلت هذه العادة حديثًا من كثرة نقد الأوربيين (جولة في ربوع الشرق) لمحمد ثابت.(35/290)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل السادس
أثر التوحيد الاجتماعي
لم يكن الفضل في مبادئ الإسلام لشخص معين، قد علمت أن محمدًا - عليه
السلام - كان يضع نفسه موضع الإنسان، لا موضع صاحب السلطان، وكان
وحده المثل الكامل في البذل وفي العدل؛ فلم يستغل يومًا مركزه ودعوته العظمى
لنفسه ولا لشيء من حطام الدنيا، بل كانت دعوته خالصة لله ولتحرير الفكر، فلم
يأخذ نصيبًا من غنيمة يزيد على نصيب سواه، ولم يدِّع لنفسه شيئًا خارقًا، ولم
يقل أن صلته بالله - تعالى - تزيد على صلة العبد - وكلنا عبيد لله - ولم يفضل
الناس إلا بأنه رسول الله، وهذه منزلة اختاره لها الله، سبحانه وتعالى.
وكان أصحابه - عليه السلام - ينظرون إليه هذه النظرة أيضًا؛ ولذلك قال
أبو بكر حين توفي - عليه السلام - ودهش الناس للخبر: (من كان يعبد محمدًا
فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) .
وفي حياته - عليه السلام - لم يكن مستبدًّا برأيه في أمور الدنيا، بل كانت
أمور المسلمين شورى، وكان أصحابه يختلفون معه في الرأي، والتاريخ يدلنا على
أن سيدنا عمر اختلف في الرأي مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين
مسألة وعزز الوحي رأي عمر دون رأي رسول الله، أشهرها: مسائل قتل أسرى
بدر، ومسألة الحجاب، ومسألة الخمر، ومسألة الاستغفار للمنافقين، إلى غير ذلك.
هذه الحقيقة ترشدنا إلى مغزى كبير، وغاية كبرى من مغازي التوحيد والنظر
إلي أن الإسلام لا يجعل سلطانًا على النفوس والعقول والأفهام إلا الله وحده، وما
دون ذلك فالجميع سواء وآراء الناس كلهم قابلة للشورى والفحص ولو كان الرأي
لرسول الله نفسه.
وليس بعد ذلك وضوح لتقديس حرية الفكر، التي هي دعامة من الدعامات
الأصلية في الإنسان وهذا هو أظهر معنى من معاني الإسلام.
ولكن جماعة المستشرقين يعمدون إلى القاموس ويتفهمون منها معنى كلمة
الإسلام، ويقولون عنه ما قال مرجوليث إن معناه (الذل والخضوع) ومع ذلك لا
يقولون أنه استسلام لله، بل يقولون أنه الخضوع فقط.
ولقد رأيت في فصل التوحيد أن المعنى الذي تعبر عنه كلمة الإسلام هو معنى
تضيق به صفحات الكتب الضخمة، وأن له معني روحيًّا أو اجتماعيًّا كما سبق ذلك.
ولذلك كان أول أثر من آثار توحيد الله وترك المعتقدات القديمة هذا التوحيد
بين القلوب في قبائل العرب، وهذا التوحيد في الإخاء بين الشعوب المتفرقة،
وهذه النهضة الكبرى التي جمعت الأمم كلها تحت طابع واحد حين افتتح العرب
الأقطار وورثوا ملك الفرس والرومان.
وإنك إذا تصفحت التاريخ لعلمت أن الأمم الفاتحة الغازية لا تخرج عن واحدة
من ثلاث:
1 - أمة تتخذ الحرب صناعة وحرفة وموردًا للرزق كالأتراك الأقدمين في
فتوحاتهم؛ فلا يعمرون ما يفتحون.
2 - أمة تجارية كالفينيقيين وإنجلترا تغزو الممالك لفتح أسواق لتجارتها.
3 - أمة تطلب السعة من الأرض لضيق أهلها بها؛ فتغزو البلاد طلبًا لمنفذ
جديد يعيش أهلها فيه.
وهناك من الأمم من يفتتح الممالك حبًّا في الفتح، كالإسكندر، ونابليون
وأمثالهما، وهؤلاء تموت فتوحاتهم بموتهم.
ولم يحدثنا التاريخ أن أمة من الأمم فتحت الممالك لأجل بث فكرة، أو نشر
مبدأ غير العرب بعد الإسلام، فالعرب قاموا بفتوحاتهم لنشر المبدأ والفكر،
وتعميم الوحدة البشرية.
يتجلى لك ذلك من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للملوك والأكاسرة،
ولم يكن في هذه الدعوة غير نشر فكرة التوحيد، ولم يكن - عليه السلام - من
زخرف الدنيا بحيث يحاكي من كاتبهم في الأرستقراطية والعظمة؛ ولكنه كان
يدعوهم دعوة ديمقراطية متواضعة.
يقول مرجوليث: (إن الإسلام هو الدين الحربي) مشيرًا بذلك إلى
الغزوات، وإلى مبدأ القتال في الفتح الإسلامي، وإلى تخيير الأمم غير الإسلامية
بين القتل والجزية.
وليست المسألة في غموض يدعو إلى كل هذا الغمز واللمز، فالجزية هي
نوع من الزكاة على غير المسلم [1] ، والإسلام دين فيه كل معاني الديمقراطية
الاشتراكية والحرب وسيلة.
ليس من ينكر أن للجهل عقوبة، وليس من ينكر أن الجمود الفكري
والاستسلام للتقاليد نوع من الرجعية العالمية، وليس لمستشرق أن يلوم الإسلام على
هذا، وليس له أن يضع رأيه في كفة ميزان ورأي عقلاء العالم أجمع في الكفة
الأخرى.
فها نحن أولاء قد عرفنا أن دعوة الإسلام لله وللعلم، وليس في هذه الدعوة
عار على الإنسانية.
وقد رأيت أن الزكاة فرض على كل مسلم، فكيف يعيش غير المسلم في هذا
الوسط من غير زكاة؟
وليس بيت مال المسلمين بمقصور على معاونة المسلم فحسب، بل وغير
المسلم بلا قيد ولا شرط.
وليس أدل على تفسير هذا المعني من مبادئ الإسلام التي شرحها النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده، وقد رأينا من أعمالهم المساواة المطلقة بين
المسلم وغير المسلم، وفي قصاص سيدنا عمر من ابنه لأجل حق امرأة مسيحية
قبطية ألف دليل ودليل.
وفي قوله رضي الله عنه: (متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)
كل مبادئ الإسلام من الحرية والإخاء والمساواة.
وفي وصايا سيدنا علي للأشتر النخعي الذي ولاه على مصر ما يزيد الشرح
ويجلي البيان، ولقد قال له:
(اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل
وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة
قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.. . ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم
أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) .
إلى قوله: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين،
وأهل البؤس، والزمْنَى فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا، واحفظ لله ما استحفظك
من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلات صوافي الإسلام
في كل بدل، فإن للأقصى منهم مثل ما للأدنى، وكلٌ قد استرعيت حقه، فلا
يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذربتضييعك التافه لإحكامك بالنظر في الكثير المهم) .
ومن هذا ترى أن الجزية والخراج هما تنظيم للإحسان، بلا فرق بين الأديان؛
لأنهم متساوون في نظر الإسلام من جهة الخلق، وليس جعل الإحسان قانونًا بعارٍ
على الإنسانية، وقد رأينا أن استجداء الضمائر للإحسان أخفق ولم يثمر في كثير
من البلاد المتمدنة، والارتكان على العاطفة الإنسانية وحدها لم يكف منذ هجر
الناس مبادئ الإسلام إلى اليوم.
ولعمري إنك لو اتخذت رسالة سيدنا علي هذه على حقيقتها لوجدتها تفسيرًا
واضحًا للسياسة الإسلامية، ويكفي قوله لعامله: (إن الناس إما أخ له في الدين أو
نظير له في الخلق) أن يعرف الناس جميعًا أن الإسلام لا يفرق بين الأديان في
المعاملة، والأخص في الإحسان، والحق في بيت مال المسلمين.
والتفسير النفسي لكل ذلك هو أن الإسلام يعامل الغرائز البشرية بميزان العقل
والحكمة، والتشريع الأوروبي يعامل الناس بالتجارب والاختبار، ولم يهتد إلى
الآن إلى أن الإسلام مبني على معرفة أدق بعلم النفس، فالله الذي خلق النفوس حدد
عقوباتها وحدد معرفتها، إذا علمت ذلك فلا اعتراض، ومن يقل: إن هذا ليس من
عند الله - فليأت ببرهانه المنطقي الذي لا شعوذة فيه، ويكفي أن مبدأ تحريم الربا أخذ
الآن يتطور في أوربا الحديثة إلى شكل الإفلاس في الدفع بتغيير أسعار العملة
وتخفيض قيمتها فلا يدفع المدين لدائنه شيئًا، ويكفي أن ألمانيا قللت من سعر عملتها
إلى الصفر لتجمع ذهب العالم، ثم ألغت هذه العملة.
وليس من المجهول أن عقوبة الجمود لازمة.
فالتعليم إجباري في كل بلاد أوربا له قوانين تحميه، وعقوبة الحبس توقع
على من لا يعلّم أولاده، وعقوبة السجن لمن يزوِّر في إيراده حتى لا يدفع ضريبة
الدخل، وضرائب الدخل والربح أصبحت مبدأ أوربيًّا بعد أن قررها الإسلام بشكل
أدق منذ أربعة عشر قرنًا في ركن من أركان الإسلام وهو الزكاة.
فهذه المبادئ التي تتقدم إليها أوربا نتيجة الاختبار والتجارب هي المقررة في
الشريعة الإسلامية، فطلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، والنظام
الاجتماعي في الشورى، والسياسة العامة في الأمن، والعلاقات الشخصية كلها من
تعاليم القرآن.
ولعل أبلغ رد على تعامل أوروبا بالربا - وهي المعاملة التي حاربها الإسلام
وحكم عليها بالموت - هي تلك الظاهرة الغريبة التي تبدو في أوربا اليوم من قيام
حكومات اشتراكية محضة تحرم الرأسمالية وجمع الثروة في أيدي فئة خاصة وهو
سر تحريم الربا؛ لعدم استئثار فئة من الناس بالسلطة المالية والاستبداد بالعالم.
فهناك لما وقعت أوروبا في الأزمة المالية التي تنبأ بها الإسلام من التعامل بالربا،
لجأت أوروبا وأمريكا إلى طرق الحيلة بفصل العملة عن الذهب فهبط ثمن النقود،
وأخذت تراود في دفع الفوائد بعد أن نقصت رأس المال تخلصًا من ذلك الكابوس
الاقتصادي.
أفليست بهذه الطريقة تتلمس طريقها في الظلام لتهتدي إلى طريق الخلاص،
وشعاع واحد من أشعة الإسلام يجلو عن العالم ذلك الظلام الدامس وهو عدم التعامل
بالربا، ثم انظر إلى الخراب الذي حل بمن استدانوا من المصارف المالية وبيعت
أطيانهم بأبخس الأثمان، وما في ذلك من العبر.
إن العالم يسير اليوم على نظام اقتصادي أصبح ثابتًا، وليس من السهل
زعزعته بين يوم وليلة، ولكنه على أي حال نتيجة اعتماد الناس على تكفيرهم،
ولكنهم أيضًا يلجئون إلى التخلص منه من طريق التجارب، وهم يقتربون نحو
الحقيقة بخطوات وئيدة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لأجل حماتيه ومعاملته بما يعامل به المسلمون، له ما لهم، وعليه ما عليهم، فإن عجز المسلمون عن حماية الذمي لم يكن لهم الحق في أخذ الجزية.(35/302)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل السابع
تعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد
لقد رأيت في الفصول السابقة أثر التوحيد في تحرير الفكر، ومنع الوساطة
بين الله وبين الإنسان، وأن من مبادئ الإسلام كفايته وقدرته العقلية على الفهم
والمساواة بين الناس أجمعين، وتحديد العلاقة بين الناس، وواجب صاحب
السلطان نحو رعيته، وواجب الرعية نحو الراعي، كما يتجلى في كتاب سيدنا
علي كرم الله وجهه (وقد تقدمت نبذة منه) .
هذه المبادئ لا ترضي المستشرقين، وليس من صالح الأمم الغربية أن يعرفها
أهلها حتى لا يندفعوا أيضًا نحو تلك المبادئ، ومن هنا كان عمل المستشرقين
مزدوجًا به تشويه الإسلام، وتنفير أوروبا وحمايتها منه.
ولذلك رأينا من فلاسفة أوربا آراء أقل ما نقول فيها أنها عربدة في قالب
مزخرف وجهل في ثوب منمق.
فانظر إلى رينان في كتابه عن ابن رشد ومذهبه إذ يقول: (إن خواص
النفس السامية - أي التي منها العرب - تتجلى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من
جهة الدين وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية، أما النفس الآرية
- التي منها أوربا - فيميزها ميل فطري إلى التعدد وانسجام التأليف) .
وكثير من المستشرقين على هذا النمط المضحك من الاستنتاج ويريدون بذلك
أن يقولوا إن دين العرب على قدر عقولهم.
وليس أدل على عدم المنطق وإغفال الحقائق في هذا القول من أن العرب قبل
الإسلام كانوا مشتركين غاية في الشرك، فكيف اتفق ذلك من ميولهم؟ ولماذا قاوموا
الدعوة الإسلامية في مبدئها، وكيف وُصفوا في القرآن بقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) .
وكان من شرك الجاهلية أن تلبيتهم في حجهم كانت الشرك المجسم، فكانت
قبيلة نزار تقول:
لبيك لا شريك لك ... إلا شريكًا هو لك
تملكه وما ملك
(راجع كتاب الأصنام)
ثم ارجع معنا إلى الفصل السابق من التوحيد، وتدبر معنا سر الوحدة العربية،
وأن الإسلام طبع الأمم التي انتشر فيها بالطابع العربي وإن لم يكونوا من
المسلمين، وليس أدل على العدل المطلق من أن يتكافأ الشخصان على تباين دينهما
أمام الإسلام في القضاء، وأن لا يكون للمسلم ميزة على غيره كما سبق.
هذه المسألة - وهي التوحيد في المعاملة، والتوحيد في النظر إلى الأجناس
المختلفة في ظل الإسلام - لا ترضي جماعة المستشرقين؛ لأنهم طلائع التفريق
وتشتيت الوحدات العربية والبلاد الإسلامية.
فاستغلوا علومهم في البحث والتنقيب واختراع النظريات الملفقة والدعاوى
المشعوذة، فهاجموا أسماء قواد المسلمين وعظماء الفاتحين وأخذوا ينسبونهم إلى
غير العرب وغير الإسلام.
وبذلك أصبحنا نقرأ من نفثات أقلام المستشرقين مباحث علمية عويصة - اقرأ
واعجب - أن أهالي مراكش من البربر ما عرفوا الإسلام وما آمنوا به في يوم من
الأيام، وأنهم لا زالوا غير مسلمين، وأن العرب الذين فتحوا الأندلس وغزوا
فرنسا وإيطاليا كانوا مسيحيين، وأن طارق بن زياد القائد العظيم، والذي رفع منار
الإسلام في الأندلس لم يكن عربيًّا، ولا مسلمًا ولكنه كان بربريًّا مسيحيًّا، وقد استعار
جيرو هذه النظرية للإصلاح القانوني في مراكش (راجع تقرير لجنة العمل
المغربي المقدم للمؤتمر الإسلامي ببيت المقدس صفحة 4) .
وليس من غرضنا أن نتكلم في موضوع السياسة والاستعمار ولكن هذه
النظريات ليس الغرض منها سوى تشتيت الأمم وتمزيقها وخلق عصبيات متعددة
فيها مما أصبح مألوفًا لدى كل من له أقل إلمام أو اطلاع على تاريخ الاستعمار
وطرق استثمار الخلافات في الجنس والدين.
أما وحدة اللغة العربية فقد عمل الستشرقون كل ما يمكن عمله لتشويهها وإظهارها في
مظهر أضعف لغات العالم، وأن اللغات واللهجات العامية خير منها استعمالا.
وصار يعدها المستشرق بريغو اللغة اللاتينية للعربي، ويقول عنها في مقدمة
كتابه الذي يدرسه الطلبة الفرنسيون باللغة العربية.
إلى أن يقول: لا تظن أنني سأعلمك لغة القرآن؛ فهذه اللغة قد ماتت ولا
يتكلم بها أحد فهي لاتينية العربي، وهي اللغة المستعملة في جنة محمد وسأحبب إليك
دراستها في المستقبل إذا أردت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحور العين.
وبهذه الطريقة أصبح المستشرقون يناصبون اللغة العربية الفصحى العداء،
فيتشككون في النثر الجاهلي والشعر الجاهلي، ويلقون الشك في كل شيء يتصل
باللغة العربية، ولهم في ذلك مباحث أقرب للتهريج منها إلى العلم الصحيح،
ولموسيه في ذلك آراء منقوضة وأفكار مردودة (راجع كتاب النثر الفني) .
بقيت مسألة القرآن الكريم الذي هو الدعامة الثابتة التي عجز العالم عن
التحرش بها والصخرة العظيمة التي إذا أراد أكبر مستشرق أن ينطحها تكسرت
جمجمته قبل أن يصل إلى حرمها؛ ولذلك رأينا آراءهم في ذلك تهريجًا وشعوذة.
هاك المستشرق مرجوليث أستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد لم يترك
نقيصة في العالم إلا نسبها لسيدنا محمد، ولم يترك فحشًا من القول إلا نسبه للقرآن،
وإليك أمثلة من ذلك:
قال في صحيفة 2364 من تاريخ العالم العام ما يأتي:
(وإن كان محمد لم يترك تاريخًا مفصّلاً لحياته إلا أن في القرآن كل عواطفه
وإحساسه، والقرآن كسجل تاريخي ليس مرتبًا حسب الحوادث والتاريخ) ثم
يقول: (ربما كان الكثير منه مما لم يتذكره الرواة تمامًا عند روايته، وقد يكون
بعضه دخيلاً في عصر متأخر، وبعضه مسلَّم به أنه في عصر الرسول ولو أنه
نسب إليه خطأ) .
ثم يستفرغ مرجوليث من فِيه كل أنواع المطاعن فيقول (من المشكوك فيه
أننا لا نعلم اسم والد النبي؛ لأن لفظة عبد الله معناها في العهد الأخير الشخص
المجهول وربما كان لها هذا المعنى عند إطلاقها على والد النبي وقصة يتمه التي
وردت في القرآن لا يلزم أن نأخذ بها على معناها الأدبي.
والعلاقة المفروضة بين أمه وبين أهل يثرب مسألة مشكوك فيها، كالقصص
التي جعلت الإسكندر الأكبر فارسيًّا أو مصريًّا بالنسبة لوالدته) .
إلى هذا الحد بلغ ذوق وأدب المستشرقين عند كلامهم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإن الحياء ليمنعني أن أذكر المعنى العادي الذي قصده مرجوليت من
قوله (ابن عبد الله) نسبه إلى الأب المجهول، ومع ذلك يعجب بعض الناس
بالمستشرقين وهم لا يعرفون من أمرهم شيئًا.
وانتقدنا طريقة مرجوليث في هذا النوع من التهريج العلمي من غير سند أو
دليل وإلقائه الكلام على عواهنه من غير إثبات، فهذا الخواجة قال إن القرآن ملفق،
وقال إن سيدنا محمدًا على أبسط تعبير لا يُعرف له أب أو أم.
ونشرنا هذا الرد في مجلة المعرفة، فأرسل مرجوليوث خطابًا يعلق فيه على ما قلنا
هذا نصُّه [1] :
(أما ما كتب الدكتور حسين الهراوي في ذمِّ المستشرقين، فلو كان ما أودع
مقاله من الشخصيات تلق بالآداب، لم يكن ما يمنع من الخوض في الموضوع
والتمييز بين الخطأ والصواب، أما المسائل التي ذكرها فلست أرى فائدة في
مداخلتها؛ لأنها أقرب إلى منابر الخطباء منها إلى مجالس الأدباء) .
* * *
د. س مرجليوث
وردًّا على ذلك نقول: إننا تناولنا من آراء مرجوليث مسألتين مما كتبه في
تاريخ العالم العام في الفصل التاسع والثمانين:
الأولى: أنه ذكر عن سيدنا محمد أنه مجهول الأب والأم.
والثانية: قوله إن إعجاز أسلوب القرآن يفسَّر إما بأنه لا يمكن تقليده، أو
الإخبار بأمور يمكن التحقق منها، ولم يكن للنبي وسيلة لمعرفتها، وأننا نعلم من
القرآن أن كلاًّ من هذين الادعاءين - عندما أُذيع - لم يسلم من النقد، فالأمر الأول
أن الذوق الكتابي يختلف كباقي الأذواق، وعن الأمر الثاني - لو أنه وُجدت وسيلة
للتحقق من صدق النبي - فهذا يُفهم منه أنه أمكنه - بنفس هذه الوسيلة - معرفة
الأمر الذي ذكره.
وكذلك قال مرجوليث، إن محمداً اعترف في مبدأ رسالته بمعرفة القراءة
والكتابة.
ولنناقش مرجوليث الحساب في هذه المسائل التي يرى أن ردنا عليها فيما
مضي أقرب إلى منابر الخطباء منه إلى مجلس الأدباء، أي بعبارة أخرى ليس له
علاقة بالأدب العربي ولا بعلم من العلوم، فأما عن والد سيدنا محمد، فنحن ننكر
على أدب أستاذ في جامعة أكسفورد أن يوجه مثل هذا الطعن في نبي يدين بدينه
ملايين المسلمين، وأن يتفوَّه بتهمة تترفع أبسط قواعد الآداب الاجتماعية العامة عن
أن توجهها لأقل الناس مركزًا.
وثانيًا: إن مرجوليث لا يعرف شيئًا عن الأدب ولا الأدب العربي، وإلا لعلم
أن العرب كان فيهم نسّابون ولو أنه تكلم أولاً عنهم وعن مصادر الشك في أقوالهم
وتنسيبهم، لكان لنا أن نناقشه بالأدلة العلمية، أما وهو لم يذكر شيئًا من هذا فدليل
على أنه لا يعرفه.
وثالثًا: لأن جد محمد - عليه السلام - وعمه هما اللذان كفلاه صغيرًا، ولو
كان مجهول الأب ما عرف له عم ولا جد، وهذا يدل على أن مرجوليث لا يعرف
شيئًا من تاريخ سيدنا محمد، عليه السلام.
ورابعًا: أن عصبية محمد - عليه السلام - حمته في مبدأ رسالته، ولو كان
مجهول الأب ما كانت له عصبية.
فإذا كان مرجوليث لا يصدق شيئًا من ذلك - ولابد أن يكون قرأه - فليقل لنا
هو كيف يريد أن نصدق كلامه، وكيف أمكن وجود أشخاص تربطهم بالنبي الكريم
صلات العصبية حتى بعد الإسلام، إذا كنا ننكر كل ذلك لأن مرجوليث قالها، إذن
فعلى العقول السلام.
ثم فليفسر لنا مرجوليث كيف مكَّنته نفسه، وكيف مكَّنه ضميره أن يقول هذا؟
وعلى أي المراجع الموثوق بها عوَّل في بحثه؟ فهو إما لا يعرف شيئًا مطلقًا،
وإما يريد التشهير والتشنيع! وهذا ما لا يشرف الباحثين.
ثم فليجبنا: أليست الأنساب والنسابون جزءًا من صميم التاريخ والأدب
العربي أو هي ضروب من خطب المنابر؟ !
وإذا كانت ضروبًا من خطب المنابر فكيف حفظ التاريخ أنساب قومٍ لم يكن
لهم مرتبته - عليه السلام - من الوجهة الاجتماعية والأثر الخالد.
وكيف أمكن معرفة نسب والدته وزوجه خديجة؟ ثم كيف أمكن تنسيب شعراء
مشهورين مثل امرئ القيس وغيره؟
أما القول في مسألة إعجاز أسلوب القرآن بأنها مسألة ذوق، فإني أرى أن
مرجوليث - كما يُستدل من أسلوب خطابه - ذو أسلوب ملتوٍ ركيك يجعله آخر
شخص يؤخذ برأيه في مسألة الذوق الكتابي، بعد أن تحدّى القرآن نفسه الناس كلهم
بل الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا، فلم يبق في نظر
صاحبنا مرجوليث إلا نقد الأسلوب بميزان الأذواق التي تختلف دقة ورقة.
ونحن معه على أن يكون الشرط الأساسي أن تكون هذه الأذواق سليمة تتفهم
روح العربية. والمستشرقون هم أبعد الناس عن تفهُّم تلك الروح؛ ولهذا فإنهم
ينشرون مؤلفاتهم باللغات الأجنبية وإن كانت بعض مقدمات الكتب التي طبعوها قد
كتبت باللغة العربية، إلا أن الحكم على أساليبهم قد لا يرضيهم من الأدب الكتابي
الفني. وإذا كان مرجوليث حصر إعجاز القرآن في الأسلوب والإخبار بالغيب،
فقد فاته أن ضروب الإعجاز في القرآن كثيرة ومنوعة، وليس من موضوعه شرحها.
على أننا نسائل أستاذ الأدب الأكبر! ما قوله دام فضله في أنواع الإعجاز
العلمي التي أثبت العلم الحديث مدى صدقها، ونذكر منها على سبيل المثال:
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) و {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق:
2) أي دور الحيوانات المنوية {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) وهي
تتمشى مع العلم جنبًا إلى جنب.
فهل كشف العلم عن إعجاز هذه الآيات إلا حديثًا؟ وهل كان الميكروسكوب
(المجهر) وعلم تكوين الأجِنَّة معروفًا من قبل عند نزول القرآن الكريم؟
ولا يفوتنا أن نتكلم عن النقد فالنقد هو أسهل شيء في العالم وبابه هو أوسع
الأبواب، فقد ينقد شخص ما الخلقة البشرية بأن عيني الإنسان في وجهه وليس له
مثلهما في قفاه لينظر من خلف كما ينظر من الأمام؟
وقد ينتقد البهلوان طريقة السير على الأقدام ويستحسن أن يمشي الإنسان على
يديه رافعًا قدميه في الهواء. كل هذه أنواع من النقد قد يراها أهلها صحيحة، ولكن
الذوق السليم والعقل السليم بصفة خاصة يأبيانها على الناقد.
وهذا هو النقد الذي يوجه إلى تجاهل نسب النبي العظيم وأسلوب القرآن، لا
يقصد به إلا مجرد تشهير وتشنيع.
وكيف يفسر قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 3) بأنها اعتراف
من النبي الكريم بمعرفة القراءة، وهل هذا يدل على أنه يفهم روح القرآن؟
وقد أطيل البحث إذا استقصيت آراء مرجوليث في مصادر القرآن التي يقول
بها ويقول بها معه المستشرقون الذين ينحون نحوه، فقد ادَّعوا أن النبي - عليه
السلام - قد درس كل الفلسفة اليونانية، ثم حفظ التاريخ الفارسي، ثم عرف كل
الأديان الهندية القديمة، كما اطلع على كل حِكَم الصين، وأخرج من كل هؤلاء
كتاب سماه القرآن.
ومعنى ذلك أن الدراسات التي استنفدت القرون الأولى حتى القرن العشرين
وتخصص لها العلماء الذين عكفوا على دراسة لغاتها المتعددة والجولان بين آثارها
البالية، كل هذا قد تعلَّمه محمد - عليه السلام - في سياحته للشام.
فإذا رجعت إلي التاريخ، وجدت أن هذه السياحة لم تكن إلا ثلاثة أشهر، كما
تقدم.
فهل في هذا منطق يناقش؟ وهل هذا أسلوب المنابر أم في صميم الأدب
العربي والتاريخ؟
ولما نشرت المعرفة هذه المقالة للرد على مرجوليث قطع اشتراكه من المجلة،
ولم يعد يراسل صاحبها، وكان هذا هو الجواب، فتأمل! !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المعرفة: فبراير سنة 1933.(35/308)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل الثامن
حكاية فنسنك
والمجمع اللغوي الملكي
سنوك هرجرونيه [1] هو رئيس أكاديمية هولندا، مكث سبعة عشر عامًا في
جاوة مستشارًا للحكومة في الشئون الإسلامية، وقيل لنا أنه أتقن العربية وادَّعى
الإسلام وفرَّ إلى مكة، ومكث فيها خمسة أشهر وكان يأتم به المسلمون في صلاتهم.
وفنسنك تلميذه وساعده الأيمن الآن في هولندا، وفنسنك رئيس تحرير دائرة
المعارف الإسلامية التي ملؤها الطعن الجارح في الإسلام، والحشو بأقذر المثالب،
يحررها جماعة المستشرقين ومنهم مبشرون وقسس، وخصوصًا الأب لامانس،
وتصور قسيسًا مبشرًا يكتب عن حياة سيدنا محمد، أو عن القرآن، أو التاريخ
الإسلامي. وأي روح تملي عليه، وأي مبلغ من المال يأخذ أجرًا؟ !
ونحن نعرف الشيء الكثير عن المبشرين وطرقهم وأساليبهم، وطالما تمنيت
هذا اليوم الذي أقابل فيه سنوك هذا أو فنسنك لأقول لهم رأيي فيهم في صراحة
وجرأة، وليس الإسلام بخافٍ عن أحد، وليس القرآن بغريب في العالم، وليست
العقول التي تفهم بمعدومة.
إن عصابة فنسنك في تحرير دائرة المعارف الإسلامية تكتب على أسلوب
القرون المتوسطة، وتفرض على الناس فرضًا أن تعلمهم كل شيء ضد الإسلام،
وأن تشعوذ في التاريخ وتخترع أساليب التهريج، كما شرحناه لك في الفصول
المتقدمة من هذا الكتاب.
واسم فنسنك دائمًا يتردد على لساني، وأعتقد أن هذا الرجل قضى الشطر
الأكبر من عمره يعمل على السخرية من الإسلام، ولم يفضح عمله إنسان، ولم
ينتقد سلوك هرجرونيه. ولطائفة المستشرقين تلاميذ تعلموا في أوروبا وسرقوا
مطاعنهم في الإسلام وروَّجوها باللغة العربية في أثواب مباحث علمية، فكان مقتي
لهذه الفئة أشد من مقتي للخواجة فنسنك.
وصدر المرسوم الملكي ووجدت فيه اسم فنسنك فنشرت في أهرام 11 من
أكتوبر سنة 1933 المقال الآتي:
لما اشتدت وطأة المبشرين في الإغواء والتضليل، وغزو عقل المسلمين
بمختلف الطرق، عكفنا على دراسة شيء غير قليل من طرقهم ومؤلفاتهم،
وخرجنا بنتيجة رسخت في عقيدتنا رسوخًا قويًّا، هي أن المستشرقين هم طلائع
المبشرين، وأنهم هم الذين يمهدون السبيل لتشكيك المسلمين في عقائدهم، وأنهم هم
الذين يمهدون للمبشرين سبيل الطعن في الإسلام وفي نبيِّه الكريم وأنهم هم الذين
يزودونهم بأنواع شتى من الشعوذة العلمية باسم الاستنتاج التحليلي، وحرية الفكر،
والمباحث العلمية الحرة.
وخرجنا من كل مباحثنا هذه إلى أن المستشرقين يتعمدون - عند البحث في
كل ما يختص بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام - أن يلغموا استنتاجاتهم العلمية
بآرائهم الشخصية على ما فيها من خطأ وما فيها من غرض بما تمليه عليهم روح
الاستعمار ومقاومة الإسلام في شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو في القرآن
نفسه.
وقد قسَّمنا المستشرقين ثلاث فرق: قسم يختص بمباحث القرآن، وقسم
يختص بمباحث سيدنا محمد، وقسم يختص بالتاريخ العربي الإسلامي.
على أن من واجبنا أن ندرس كل مستشرق من جميع نواحيه، وندرس كل
مؤلفاته، خصوصًا إذا كان ممن يبحثون في القرآن، أو حياة سيدنا محمد؛ لأن
الخطأ اللفظي في كلمة عربية قد يجر إلى البحث في العقائد الإسلامية، وقد يكون
له أثر شديد في الإسلام نفسه.
ولقد فكرنا هذا التفكير عندما أردنا أن نباحث أحد المستشرقين أو أشباه
المستشرقين، ورأيناه يقلب قواعد اللغة العربية رأسًا على عقب لكي يدخل شكًّا في
الإسلام، وإليكم مثلاً من ذلك:
كان أحدهم يدَّعي أن الأسماء لا بد أن يكون لها معنى. فقلنا له: إن الاسم ما
دلَّ على مسمًّى وليس من الضروري أن يكون له معنى يُشتق منه أو أصل معروف،
والمسألة بسيطة هكذا تعلمنا في المدارس الابتدائية، وهكذا تراها في القاموس.
فأصرَّ على رأيه؛ ولكنه أعطانا مثلاً غريبًا هو أصل كلمة (حراء) وهو
اسم الغار الذي تعبَّد فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فقلنا: لم يرد في اللغة
العربية ما يجعلني أعرف مصدره أو معناه. فقال: إن (حراء) أصلها (هيرا)
وهو لاتيني، ومعناه المقدس.
قلت: إنني أعرف ما تريد أن تستنتج، إن (هيرا) - وهو الجبل المقدس-
هو اسم أطلقه الرومان على هذا الجبل الذي تعبَّدوا فيه، فأنت تجعله في مكان (جبل
الأوليمبيا) في اليونان، ويتأتى من هذا الاستنتاج أن محمدًا - عليه السلام -
اتبع الأديان الأخرى، فأعطني الدليل المساوي على استنتاجك؛ لأنك تتكلم بلسان
تحركه عواطف ضد الإسلام؛ فسكت.
والحق أن عقلية هؤلاء المستشرقين وأشباههم مدهشة، فأي لفظة عربية لها
مشابه في اللغات الأخرى قالوا إن العربية استعارتها، وإذن فما قولهم في لفظة
(نبل ونبيل) التي توجد في كثير من اللغات، والعربية أيضًا بنفس المعنى.
نقول: هذا مقدمة البحث الذي سنكتبه عن فنسنك، وهو الاسم الذي ورد في
ضمن أعضاء المجمع اللغوي. وسنناقش رأيه الحساب؛ لأن استنتاجاته ستؤخذ
علينا وقد أصبح عضوا رسميًّا علينا أن نحترم رأيه.
قالت دائرة المعارف الإسلامية تحت لفظة إبراهيم:
كان إسبرنجر أول من لاحظ أن شخصية إبراهيم كما وردت في القرآن مرت
بعدة أطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسِّسة الكعبة.
وجاء سنوك هرجرونيه بعد ذلك بزمن فتوسع في بسط هذه الدعوى، فقال:
إن إبراهيم في أقدم ما نزل من الوحي (في الذاريات: آية 24 وما بعدها، الحجر:
آية 5 وما بعدها، الصافات: آية 81 وما بعدها، الأنعام: آية 74 وما بعدها،
هود: آية 72 وما بعدها، مريم: آية 42 وما بعدها، الأنبياء: آية 52 وما بعدها،
العنكبوت: آية 15 وما بعدها) هو رسول من الله، أنذر قومه كما تنذر الرسل،
ولم تذكر لإسماعيل صلة به. وإلى جانب هذا يشار إلى أن الله لم يرسل من قبل
إلى العرب نذيرًا (السجدة آية 2، سبأ: آية 43، يس آية 5) ولم يذكر قط أن
إبراهيم هو واضع البيت ولا أنه أول المسلمين.
أما السور المدنية فالأمر فيها على غير ذلك، فإبراهيم يدعى حنيفًا مسلمًا.
وهو واضع ملة إبراهيم، رفع مع إسماعيل قواعد البيت المحرم. (البقرة: آية
118 وما بعدها، آل عمران: آية 60.. إلخ) .
وسر هذا الاختلاف أن محمدًا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن
اتخذوا حياله خطة عداء، فلم يكن بدٌّ من أن يلتمس غيرهم ناصرًا، هناك هداه
ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم، وبذلك استطاع أن يخلص من
يهودية عصره ليتصل بيهودية إبراهيم، تلك اليهودية التي كانت ممهدة للإسلام،
ولما أخذت مكة تشغل جل تفكير الرسول أصبح إبراهيم أيضًا المشيِّد لبيت هذه
المدنية المقدس.
والذي يكون خالي الذهن عن المستشرقين وأعمالهم يظن لأول وهلة أن هذا
بحث جليل مستفيض، استقصى أصحابه - إسبرنجر وسنوك وفنسنك - كل
آيات القرآن واستخرجوا منها مواضع الضعف، ويخيل إلى الناظر في هذا الموضوع
أن الإسلام قد زعزعت أركانه وأنهم اكتشفوا اكتشافًا من الخطورة بمكان حين يدَّعون
أن محمدًا - عليه السلام - أراد استغلال اليهود ثم أخفق، ثم هداه ذكاؤه المسدد
لشأن جديد لأبي العرب.
أما اليهود، فقد سبق أن شرحنا مركزهم في الكلام عن الوسط والبيئة التي
سبقت الإسلام، وأما هذه القائمة الكبيرة من الآيات التي تخدع الناظر إليها، فهي
في نظرنا دليل على الضعف المطلق، وهم بهذا أشبه بما يفعل الممثلون؛ إذا
وجدوا الرواية ضعيفة جعلوا المناظر أخَّاذة، وأكثروا من أشخاص الرواية ودفعوا
بين الجماهير قومًا مأجورين للتصفيق.
كل هذا فكرنا فيه قبل أن نتقدم لنقد هذا البحث؛ لأننا نعرف طريقة
المستشرقين الملتوية وشعوذتهم العلمية.
وما علينا إلا أن نراجع السور المكية جميعها، والسور المدنية جميعها
ونوازن بينها لنعرف إذا كانت السور المدنية هي وحدها التي انفردت بذكر نسب
سيدنا محمد إلى سيدنا إبراهيم بأبي البيت العتيق أو لا؟ وفيما إذا كانت الحقائق
التاريخية التي في متناول يدنا تتفق مع استنباط فنسنك أم لا؟ وما غرضه في
التعريض بسيدنا محمد إلى هذه الدرجة؟
علينا إذًا أن نراجع كل ذلك لنتمشى معه في بحثه، فإن كان ما قاله حقيقيًّا،
كان لنا أن نبحث في استنباطه أيضًا وعن السبب في عدم ذكر تلك الصلة في السور
المكية؛ إذ ربما كانت من المعترف بها ولا توجد مناسبة لتوكيدها في القرآن، أما
إذا كان ما نقل من الآيات خطأ كان الرجل قد عثر من أول الطريق، فلنتركه في
تلك الحفرة التي وقع فيها، ولننظر إليه كيف يجاهد في الخروج منها؟ !
ونحن لا يخامرنا شك في أن هذا الدين متين، وأن فنسنك وإسبرنجر وسنوك
أقل علمًا بفهم روح القرآن، فضلاً عن نقده.
إذن فلنسر في البحث على بركة الله.
قال فنسنك: إنه لم تذكر في السور المكيَّة صلة لسيدنا إسماعيل بسيدنا
إبراهيم. فهل هذا حقيقي؟ وذكر لنا سورة الأنعام بالنص، فهل هذا حقيقي؟ لقد
ذكر الآية الرابعة والسبعين بالنص أيضًا، فانظر إلى الآية السادسة والثمانين حيث
ذكر إسماعيل صراحة: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى
العَالَمِينَ} (الأنعام: 86) نعم إن أسماء الأنبياء وردت جملة؛ ولكن لكل واحد
منهم نسبه المعروف، والمسألة الجديرة بالنظر هي لماذا حذف فنسنك رقم هذه الآية
من تلك القائمة الطويلة التي استقصاها، مع أنها في نفس السورة التي ذكرها؟
الجواب سهل وهو أنها تهدم نظريته من أساسها؛ ولأن هذه الآية نسبت هؤلاء
الأنبياء إلى إبراهيم ثم إلى نوح.
ثم انظر إلى سورة إبراهيم وهي مكيَّة إلا آيتي 28 و29، وانظر إلى الآية
37 وما بعدها حيث يقول إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ} (إبراهيم: 37) إلى قوله تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ
لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيل} (إبراهيم: 39) .
إذن فقد ورد في السور المكية التي اعتمد عليها فنسنك أن إسماعيل هو ابن
إبراهيم، وأن إبراهيم دعا ربه عند بيت الله المحرم، وقد ذُكر هذا البيت في السور
المكية التي أنكر وجودها فنسنك.
نحن لا ندهش من اكتشاف الحقيقة فما كنا نشك فيها؛ ولكننا ندهش أن قومًا
ينتسبون للعلم ويخدعون الناس جهلاً أو تجاهلاً.
المسألة الثانية:
هل ورد في الآيات التي ذكرها فنسنك أن الإسلام دين قديم يمت إلى ملة
إبراهيم؟ وإذا كانت هذه الحقيقة وردت، فلماذا لم يذكرها فنسنك؟
ارجع إلى نفس السور التي ذكرها فنسنك، ففي الذاريات في الآية 23 وما
بعدها تجد حديث ضيف إبراهيم المكرمين يبشرونه بابنه، ويقصُّون عليه قصة
لوط ومدينته، وفي الآية 35 يقول: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} (الذاريات: 35 - 36) .
إذن ففي هذه الآية اعتراف صريح أن الإسلام هو دين قديم وهو ملة إبراهيم؛
حيث يحدثه ضيفه عن بيت المسلمين.
إذن فدعوى فنسنك كلها خطأ. واستنتاجه كله خطأ.
المسألة الثالثة:
يقول فنسنك إن آيات السجدة وسبأ ويس تشير إلى أن الله لم يرسل من قبل
للعرب نذيرًا، ولم يذكر قط أن إبراهيم هو واضع البيت، ولا أنه أول المسلمين.
يريد فنسنك أن يقول - بعبارة أخرى - إن التاريخ المأخوذ من الأناجيل هو
الحقيقة، وإن إبراهيم لم يذهب إلى مكة، وإن هذه الدعوى لم تذكر في القرآن إلا
بعد الهجرة إلى المدينة.
وسياق هذه السورة من الآية 35 وما بعدها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ
فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 35 - 37) .
هذا يدل دلالة واضحة على أن إبراهيم كان أول من أسس هذا المكان المنعزل
السحيق في وادٍ غير ذي زرع لا تهوي إليه أفئدة الناس ولا رزق فيه، فدعا ربه
فاستجاب له.
على أنه يؤخذ من ذلك أيضًا أن هذا كان أول عهد هذا المكان بالأنبياء
وبتأسيس البيت، ولم يذهب إبراهيم ليقيم دينًا جديدًا بين الناس في بلد آهل، وهذا
يستقيم مع معني آية 44 من سبأ في قوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا
وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} (سبأ: 44) .
يكفي أن نذكر لفنسنك أنه لم يذكر الحقائق ولم يستقص مبحثه. وأنه يستنبط
قبل أن يبحث.
أما الغرض من ذلك فواضح؛ لأن الاستشراق مهنة ضد الشرق، وضد
الإسلام.
* * *
تاريخ هذا العدد
وضع تاريخ العدد الثالث نفسه على هذا العدد وصحة التاريخ أنه: 9 صفر
سنة 1355 - 30 إبريل سنة 1936.
* * *
فرصة لمشتركي المنار
رأينا أن نخفض لمشتركي المنار قيمة الاشتراك إذا سددوا اشتراك المجلد
الخامس والثلاثين، وذلك لنهاية رجب القادم، فجعلناه خمسين قرشًا للمشتركين في
خارج القطر المصري، وثلاثين للمشتركين في مصر، فعلى الذين يحبون المنار
أن يعملوا بالسداد انتهازًا للفرصة، ومساعدة لنا إذا أرادوا حياة المنار، ولهم الشكر
سلفًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ولد في 8 فبراير سنة 1857 وتوفي في 4 يوليو سنة 1936.(35/316)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
الفصل التاسع
حكاية فنسنك [1]
(المقال الثاني)
إذا قلبت أي كتاب اجتماعي أو عمراني باللغات الغربية يتكلم عن مصر أو
الشرق أو الإسلام، وجدت أشياء لا يقرها عقل ولا يستسيغها المنطق، وليست من
الحقيقة في شيء.
ويوجه نظرك بصفة خاصة ما يوصف به الإسلام من الصفات التي لا تنبو
عن قواعد الذوق السليم والحقيقة فحسب، بل إن الكُتَّاب الأوروبيين يصورون
الإسلام بصورة بشعة قبيحة لا تكاد تقرؤها حتى يقشعر بدنك من هول ما تقرأ.
فإذا كنت شرقيًّا صميمًا أولت ما يكتب في تلك الكتب الاجتماعية بأنه جهل
من المؤلفين بأحوال الشرق وعاداته، وإذا كنت مسلمًا أسفت كثيرًا أن يوصف
الإسلام بصورة بشعة بعيدة عن الواقع، وأسفت على أن الأوروبيين لا يعرفون
شيئًا عن حقيقة الشرق بصفة عامة وعن الإسلام بصفة خاصة، فليس حقيقيًّا ما
ذكره مارشال في كتابه (الزواج) أن الأم في مصر لا يباح لها أن ترى وجه ابنتها
بعد سن الرابعة عشرة من أثر الحجاب في الإسلام.
وليس صحيحًا ما جاء في هذا الكتاب أيضا من أن الفتاة الريفية المصرية
يباح لها أن تعرِّي جسمها كله أمام الرجال، أما وجهها فلا يراه إنسان.
وليس صحيحًا ما وصف به الحجاب، وما ذكره عن تعدد الزوجات كما جاء
في كتاب (نسبت) عن الزواج والوراثة.
وليس صحيحًا أن سيدنا محمد كان رجلاً شهوانيًّا محضًا، يشبع شهوات
الشيخوخة بزواجه بالشابات، كما جاء في هذا الكتاب.
فأول ما نلاحظه في تلك الآراء أنها مجرد تشنيع خالٍ من الحق ومن العدل،
ويتجلى فيها سوء النية تجليًا لا يقبل تأويلاً أو تعليلاً، ولا يمكن الدفاع عنه.
ومن محاسن الكتب الإفرنجية أنها تكتب المصادر التي اعتمدت عليها في إبداء
رأيها، وتشير إلى المراجع التي استقت منها تلك المعلومات، وكنت أتتبع تلك
المراجع فأجدها راجعة إلى بيئة واحدة هي جماعة المستشرقين.
وفي الأدب الإفرنجي الحي كتب قيمة جدًّا تبحث في التاريخ العام والخاص،
وتاريخ الأمم والنهضات العلمية. وهذه الكتب محترمة عند الأوروبيين، فكنت
أطالع فأجد فرقًا كبيرًا فيما تكتب من التاريخ القديم أو الحديث بلباقة ودقة علمية؛
كوصف مصر القديمة وآثارها وسوريا وتاريخها، بل رأيت في تلك الكتب تاريخ
بلدان ورسوم أماكن لا تستطيع أن تعرف موقعها على الخريطة ما لم ترجع إلى
معجمات مطولة - وبين ما تكتب عن الإسلام ونبيه.
فإذا تكلمت عن الإسلام والمسلمين، أو عن حياة سيدنا محمد أجد تحريفًا
ظاهرًا وكذبًا واضحًا، وتهريجًا قبيحًا.
وانظر إلى مرجوليث حيث يقول: (ربما كانت الطبيعة الجغرافية أو المناخ
الإقليمي هو السبب في تأخر المسلمين، ولكن نظرية وجود رجل واحد - أي سيدنا
محمد - يكون هو وحده الرسول بين الله والناس، ويكون هو وحده آخر طريق لهذه
النظرية هي ثاني سبب لتأخر المسلمين) .
فمرجوليث لا يقول هذا لإنهاض المسلمين؛ ولكنه يقول هذا تشنيعًا وهو الذي
لم يترك نقيصة إلا ألصقها بالإسلام من غير سبب وها هو ذا كما ترى يتخيل نفسه
على الأقل موزونًا أو معقولاً فيتكلم عن الإسلام؛ ولكي تفهم مقدار تحصيل
مرجوليث هذا للغة العربية نأتي لك بالمثل الآتي الذي ساقه صديقنا الدكتور زكي
مبارك:
فقد تعرَّض مرجوليث لشرح هذه الأبيات:
يقول لي الواشون كيف تحبها؟ ... فقلت لهم: بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قط أمثالي
وكم من شفيق قال ما لك واجمًا ... فقلت أني مالي وتسألي مالي
والشطرة الأخيرة من هذه الأبيات فيها خطأ كتابي فقط وصحته (فقلت ترى
ما بي وتسأل عن حالي) ولكن مرجوليث العالم الضليع الذي ينتقد القرآن
وأسلوبه ويتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ويحقق تاريخ آبائه فيقول: إنه ابن
عبد الله، يعني الرجل المجهول، هذا العالم العلامة والحبر الفهَّامة يقول إن
الشطر الأخير صحته:
(فقلت أنا مالي وإن تسألي مالي)
وليس هذا التصحيح هو المضحك وحده - وإن كان أشنع من الغلط الأول -
ولكن المضحك حقًّا أن يكون المصحِّح أستاذ لغة عربية ويتعرض لأسلوب القرآن
أو يدَّعي نقده! !
ولسنا في مقام الرد على أسباب وعوامل تأخر الأمم الإسلامية فلدى
المستشرقين أنفسهم الأسباب.
والظاهر أن المستشرقين جمعية دولية حتى إذا ألَّف مستشرق كتابًا أو كتيبًا
ظهر في ثلاث لغات حيَّة دفعة واحدة، في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مع أن طبع
هذه الكتب قد يستنفد كل ثروة المستشرق في الطبع، والمدهش أنك ترى في مقدمة
كل كتاب مستشرق قائمة بأسماء الذين عاونوه وساعدوه في البلدان الأخرى.
وإني لأعلم أن المستشرقين تنقصهم في مباحثهم عن الإسلام الروح العلمية،
وأن لهم في الاستقصاء طريقة لا تشرف العلم؛ وهي أنهم يفرضون فرضًا ثم
يتلمسون الدليل عليه، فإذا وجدوا في القرآن ما يهدم نظريتهم تجاهلوه والتمسوا
الآيات التي تتناسب والمعنى المراد، ولا مانع من بترها إذا اقتضى الحال، أو
تحريف معناها - حسب الرغبة - فيخرج القارئ من كلامهم وهو يتهم الإسلام
بالتلفيق - كما يقولون - كما سبق شرحه في كلام مرجوليث.
بمثل تلك النواحي التي أسلفناها أصبحنا لا نقرأ للمستشرق شيئًا إلا ونحن
نحرص على تفكيرنا، وأن نعنى بتعرف الغرض الذي يرمي إليه قبل أن نثق بما
يكتب، وأن نقتفي أثره فيما يبحث وفي مستنداته؛ لأنه دائمًا يبتر الحقائق؛ فيقول:
إن القرآن فيه آية لا تقربوا الصلاة.
وسنعطيك مثلاً آخر فيما قال فنسنك تحت كلمة " كعبة " في دائرة المعارف
الإسلامية، صفحة 587، النسخة الإنجليزية:
(نحن لا نعلم شيئًا عن شعور محمد الشخصي في شبابه نحو الكعبة أو
العبادات المكيَّة؛ ولكن المفروض أنه لم يشذ عن الجماعة) .
(وإن ما ذُكر في سيرته عن هذه المسألة مدة وجوده في مكة لا يوثق من
جهة القيمة التاريخية) .
(وإن الآيات المكية لم تخبرنا شيئًا عن هذه العلاقات في تلك المرحلة الهامة
من حياة النبي، على أنه لم يظهر حماسته في حادثة نحو الحرم المكي، وفي
المرحلة الأولى بعد الهجرة كان محمد في شغل بمسألة أخرى مختلفة عن هذه جد
الاختلاف؛ ولكن أخفقت العلاقات الطيبة المنتظرة مع اليهودية واليهود، وهناك
حصل تغيير؛ حيث إنه - بعد مضي عام ونصف عام على الهجرة - ذكرت الكعبة،
وذكر الحج في الوحي) .
(وأول مظهر من مظاهر التغيير كان وجهة القبلة، فلا يتجه المؤمنون في
صلاتهم إلى القدس، بل إلى الكعبة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (البقرة:
144) الآيات.... ومن الوجهة الأمرية فإن هذا التغيير في القبلة برر بأنه
استئناف ملة إبراهيم، وهي - أي ملة إبراهيم - اخترعت خصيصًا لهذا الظرف
السورة 129 - آية - و3 - 19 - كما بيَّن سنوك هرجرونيه) .
(وقيل إن ملة إبراهيم هذه كان اليهود قد أخفوها ثم أظهرها محمد، ومن ثم
أدمجت فيها عبادات مكة) .
وبعد فقد انتهت الفقرة التي ننقلها من دائرة المعارف الإسلامية بقلم فنسنك،
فلنتعرف أغراضها ومراميها وحقيقتها.
وأول ما يعترضنا عند النظر إلى هذه الفقرة أن فنسنك رجل مقلد في السب
والشتم والهجاء، وأن تقليده أعمى يقوده عكاز ضعيف من الاطلاع السطحي،
والظاهر أنه في هذه المسألة يتبع آراء سنوك هرجرونيه، ويتلمس أدلة جديدة
ليضيفها إلى أدلة أستاذه السخيفة.
والمدهش أن هؤلاء المستشرقين يختلفون في كل شيء إلا في هجاء محمد
عليه الصلاة والسلام.
فهذا فنسنك يقول: إنه لا يعرف شيئًا من شعور محمد عليه الصلاة والسلام
نحو الكعبة في شبابه وبعد رسالته إلا بعد الهجرة بعام ونصف عام، وإن ما لديه
من تاريخ حياته - عليه الصلاة والسلام - لا يصح أن يؤخذ أساسًا تاريخيًّا.
وزميل له في الاستشراق هو إميل درمنغام يزعم أن محمدًا كان يتعبد على
مبادئ اليهودية أو النصرانية.
ومرجوليث يقول ما قاله مالك في الخمر.
__________
(1) ملخص مقال 30 أكتوبر في الأهرام وأول يناير سنة 1934 في الهلال.(35/324)
جمادى الآخرة - 1358هـ
يوليو - 1939م(35/)
الكاتب: محمد مصطفى المراغي
__________
تصدير
بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر
كانت مجلة المنار مرجعًا من المراجع الإسلامية العالية، تُحل فيها مشاكل
العقائد، والفقه، وتحيط بالمسائل الاجتماعية الإسلامية، وأخبار العالم الإسلامي
وما فيه من أحداث، وأمراض، وعلل، وكان صاحبها السيد رشيد رضا - رحمه
الله - رجلاً عالمًا عاملاً غيورًا مخلصًا للإسلام، محبًّا لكتاب الله وسنة
رسوله وآثار السلف الصالح. وقف حياته لخدمة دينه والأمم الإسلامية، وكان
شجاعًا في الحق، لا يهاب أحدًا، ولا يجامل، ولا يحابي.
نشأ على هذا واستمر فيه إلى أن لقي ربه واحتجبت بعد ذلك مجلة المنار،
فأحس العالم الإسلامي بفداحة الخطب وشدة وقع المصاب؛ فإنه لا يوجد - فيما
أعلم الآن - ذلك الرجل الذي له من سعة الاطلاع، وحسن التدبير، وحكمة الرأي،
وقوة الإدراك في السياسة الشرعية الإسلامية ما يضارع به المرحوم السيد رشيد.
ذلك ماضٍ جليل نودعه من الفخر به والأسى عليه، والآن قد علمت أن الأستاذ
حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيده سيرته الأولى، فسرني هذا؛ فإن الأستاذ
البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع
الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً
وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على
الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة.
(وبعد) فإني أرجو للأستاذ البنا أن يكون على سيرة السيد رشيد رضا،
وأن يلازمه التوفيق كما صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين، عليه نتوكل،
وبه نستعين.
روائع
من قطعة للرافعي - رحمه الله - في وصف الصحابة يفتحون مصر:
إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق
والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وإنهم جميعًا ينبعثون من حدود
دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإذا سلوا السيف سلُّوه بقانون،
وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون… ولأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من
أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب، وواجبات
العقل، والضمير الإسلامي في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحًا يضرب صاحبه إذا
همَّ بمخالفته.
__________(35/1)
الكاتب: حسن البنا
__________
في الميدان من جديد
بعونك اللهم وفي رعايتك وتحت لواء دعوتك المطهرة وفي ظل شريعتك
القدسية وعلى هدي نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف
هذه المجلة (المنار) جهادها وتظهر في الميدان من جديد.
رحمة الله ورضوانه ومغفرته (للسيد محمد رشيد رضا) منشئ المنار الأول
ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع
عنه وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي
الأغراض التي وضعها أهدافًا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت
المنار أربعين عامًا كانت فيها منار هداية ومنهج سداد.
ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعًا فسيحًا وقضى وفي نفسه آمال جسام
وشاهد قبل وفاته تطورًا جديدًا في حياة الأمة الإسلامية فاستبشر بهذا التطور الجديد
وشام منه خيرًا وأمل فيه كثيرًا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة
المنار، وأن يجعل منها في عامها الجديد (الخامس والثلاثين) لسان صدق لجماعة
جديرة (بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين) تخلف جماعة الدعوة والإرشاد
وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد
كتب - رحمه الله - في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (سيكون المنار
منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف
جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي
منه الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولي النهوض به فتركه لمن يعده
التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته،
ولا يصلح له غيرهم …) .
ثم ذكر بعد ذلك طرفًا من تاريخ مدرسة الدعوة والإرشاد وما لقيت من عقبات
ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة، ثم قال بعد ذلك: (وجملة القول
إنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى
ما أقرّ به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى
دخولي في سن الشيخوخة وضعفها لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول
الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته
وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقًا
لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (لا يزال في أمته طائفة ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة) رواه الشيخان في الصحيحين
وغيرهما بألفاظ من عدة طرق.
وهذه الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب
عناوين خيار الرجال المتفرقين في الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على
اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم، لمخاطبتهم في الدعوة إلى العمل، وأرجو من
كل من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب
إلينا عنوانه وما هو مستند له من العمل معهم إلى أن ننشر دعوتهم الرسمية، وأهم
ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر الذي تقارب فيه
البشر بعضهم من بعض فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها
على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذي يرجى أن
تثق به، فهي لا ينقصها إلا هذا وقد طال تفكيري فيه وعسى أن أبشرها قريبًا بما
يسرها منه.
وأعجل بحمد الله - تعالى - أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي
ولشيخنا الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر، وهو الذي
يعبر عنه في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد
أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم. كان الأزهر كنزًا خفيًّا أو جوهرًا
مجهولاً عند أهله وحكومته وعقلاء بلده، لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان
إصلاح العالم الإسلامي كله به والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية في الدين
والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه؛ ولكن تعليم الأستاذ الإمام - رحمه الله -
وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في طائفة من شيوخه والاستعداد في جمهور
طلابه ولم يبق إلا الجد، ولله الحمد. انتهى.
هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون
المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة
من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه
الجماعة وتشد أزره فيكون من تعاونهما الخير كله.
ولقد كان السيد - رحمه الله - صادق العزم مخلص النية في آماله هذه
فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار (جماعة الإخوان
المسلمين) وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها ويحمل
للناس دعوتها.
يا سبحان الله، إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها
السيد رشيد رحمه الله. ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ولقد كان يثني عليها في
مجالسه الخاصة ويرجو منها خيرًا كثيرًا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها
بخطه: من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد
ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من
أمانيه الإصلاحية وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة
التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد أي ما عدا التعليم
المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضًا، وستحقق جماعة الإخوان
المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص
مقاصدها وإن أثرها في طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية
وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية - إن شاء الله - ويصبح
التعليم كله مركّزًا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام
وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده، والله المستعان.
ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأتْ دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء
المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا وأصبح لهم - بحمد الله - عدد عظيم من كل قطر
يعطف على فكرتهم ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس
أفندي الشيخ من وجهاء بيروت أن نعمل ما عمله السيد رشيد فنجمع عناوين ذوى
المكانة من عقلاء العالم الإسلامي ونتصل بهم ونكتب في جرائدنا عنهم حتى
يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذي وجهه
صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي
والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التي يؤمل أن
يعمل فيها، وحبذا لو تكرم فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية وسنفرد
لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها (صحيفة التعارف)
بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا في
الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار.
ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية،
وأنه أعظم القوى أثرًا في الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونًا له
في مهمته وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء
الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر في نشر دعوة الإخوان
وخدمة فكرتهم التي هي في الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل.
وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظًّا من صاحب المنار - رحمه الله - في حسن
معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة مهما كثر قليل بالنسبة لنواحي نشاطها
وتشعب أعمالها فليقدِّروا هذه الحقيقة وسيجدون ما ينفقون في هذه السبيل عند الله هو
خيرًا وأعظم أجرًا.
ستعود المنار - إن شاء الله - إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان،
وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع
كلمة المسلمين والعمل للإصلاح الإسلامي في كل نواحيه الروحية والفكرية
والسياسية والمدنية. ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما
أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم
بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم
معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لخدمة هذه
الحنيفية السمحة.
لم يكن الشيخ رشيد - رحمه الله - معصومًا لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر
يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك وما من أحد إلا ويؤخذ من
كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال
ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق ومتى كان ذلك رأينا جميعًا ومتى كان شعارنا أن
نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أُمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة
متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزمًا زهوقًا.
على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعًا إلى التعاون معنا،
سائلين الله - تبارك وتعالى - أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
* * *
روائع
(إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة
الجرداء. طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي
ظلالها، وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد
كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر ... شتان بين عمل وعمل وإن كان لون
يشبه لونًا) .
* * *
الرافعي في وحي القلم
(لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي
تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها
فقط تأخذ كل شيء) .
__________(35/3)
الكاتب: حسن البنا
__________
بين طائفتين من المؤمنين
حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف
سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :
فلعلكم قرأتم ما دار من الحوار بين كتَّاب مجلة الإسلام ومجلة الهدي النبوي
حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف، فما وجه الحق في هذا
الخلاف؟ وهل يجوز شرعًا أن يتقاذف الفضلاء من المسلمين بهذه التهم على
صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع مثل هذه البحوث على العامة؟ وهلا يمكن أن
تعملوا على التوفيق بين الفريقين حتى تنصرف القوى إلى ما يعود على المسلمين
بالخير؟ أفيدوا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد حلمي نور الدين
... ... ... ... ... ... ... ... بتفتيش ري الجيزة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة على سيدنا محمد، وعلى آله
وصحبه:
(1) قرأت ما دار بين الكتاب الفضلاء على صفحات المجلتين المذكورتين
وكثير من حضراتهم أصدقاء لنا، وكلهم يعمل لخدمة الدعوة الإسلامية ويرجو
للمسلمين النهوض من كبوتهم والإقالة من عثرتهم مخلصًا من قلبه، والحق أني أنا
شخصيًّا لا أفهم معنى لإثارة هذا الموضوع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى
الوحدة والتآزر على إحياء تعاليم الإسلام في نفوس المسلمين.
إن الفريقين مؤمنان أعمق الإيمان بأن ما جاء من هذه الآيات وما صح من
الأحاديث التي تعرضت لصفات الباري عز وجل كلها حق لا جدال في صدقها ولا
خلاف، فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) و {يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: 88)
و {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وكل ما نحا هذا المنحى من الآيات
والأحاديث التي تثبت صحتها فنيًّا، كل ذلك موضع إيمان وتصديق وتسليم من
الفريقين كليهما.
الفريقان كذلك مؤمنان أعمق الإيمان بأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 4) كل ذلك حق لا مرية فيه، فلا يشبه الباري أحدًا من خلقه في
شيء من صفاته، ولا يشبهه أحد من هؤلاء الخلق كذلك. وحقيقة ثالثة يؤمن بها
الفريقان أيضًا وهي أن ذات الباري - جل وعلا - وصفاته فوق متناول إدراك
العقل البشري الصغير الذي يعجز عن معرفة حقائق ما حوله من عالم الحس فضلاً
عن عالم الروح فضلاً عن الملأ الأعلى فضلاً عن ذات الله - جل وعلا - وصفاته.
وأسوق هنا قول شارل ريشيه المدرس بجامعة الطب في فرنسا سابقًا في
مقدمة كتاب (الظواهر النفسية) .
(لماذا لا نصرخ بصوت جهوري أن كل العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد
ليس إلا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا. إن
حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد معها يفلت من شعورها الوجود كل
الإفلات) .
بل قول الله - تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين - {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ
العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
هذه الحقائق المقررة والمسلَّم بها من الطرفين تجعل الخلاف لا معنى له،
فماذا على كل منهما لو قال (استوى الله على عرشه استواء تعجز عقولنا عن
إدراك حقيقته مع علمنا بأنه لن يكون كاستواء الخلق) وبذلك نرد علم الحقائق لله
- تبارك وتعالى - ونُصيب بذلك الحق؛ لأن الحق هو أننا في هذا جهلاء أتم
الجهل، وماذا علينا لو سلكنا هذه الطريقة في كل ما ورد على هذا النحو (فيد الله
التي ذكرها في كتابه بأنها من صفاته تعذر عقولنا عن إدراك حقيقتها مع علمنا التام
بأنها لن تكون كأيدينا) وهكذا.
وقد أرشدنا الله - سبحانه وتعالى - إلى الواجب في مثل هذه المعاني،
ووضع لنا أساس النظر فيها، فقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) فتأمل
قوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل
عمران: 7) لتعلم هل لنا أن نخوض ونفيض، أم أن الرسوخ في العلم أن نقول
آمنا به كل من عند ربنا؟
استطراد:
لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم
حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي
فريضة ربه ويراقب دخيلة نفسه ويقيم من نفسه حارسًا يحاسبه على كل عمله ثم
يمضى في البلاد مجاهدًا في سبيل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة
فلا يظفر إلا بالحياة العزيزة، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل،
فيودع الدنيا شهيدًا سعيدًا، حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع
بمظاهر دنياهم الجديدة، والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع، والاستفادة من ثمار
هذه الحضارات والمدن التي اتصلوا بها ودخلت عليهم آثارها من كل مكان عمرانية
واجتماعية وثقافية وعلمية، فترجموا العلوم الأجنبية وتوسعوا في البحث فيها
ومزجوا كثيرًا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة، فسلكوا بدينهم مسلكًا فلسفيًّا قياسيًّا
وقد جاءهم فطريًّا ربانيًّا نبويًّا فوق العلوم والفلسفات يخاطب الفطرة من غير وساطة
ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه.
في هذا الدور وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين:
معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما،
وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة، فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي
وسماحة الفطرة، وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة فتنزل بذلك عن أخص
خصائصها؛ وإنما الفلسفة تفكير دائم متواصل فيه الخطأ وفيه الصواب، وفيه الشك
وفيه اليقين، والخطأ فيها سلم للإصابة والشك عندها باعث من بواعث الإيمان،
وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابًا كثيرة؛ فهم أهل الرأي
وهم أهل القياس وهم النظار وهم المتكلمون على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي
مدى تطبيق هذه الآراء، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدًا عن كل هذا يؤخذ
من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة
التي فهمه عليها السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وليتناول العقل بعد ذلك ما
شاء من البحوث، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت، وليخطئ العلماء الكونيون
أو يصيبوا ولكن في ثوب نظري بحت، قياسي بحت، لا يتناول عقائد الناس ولا
يمس عبادتهم ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها
وصدقها، وأطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث أو
السلفيون أو أهل السنة أو أهل الأثر على تفاوت كذلك في هذه الألقاب وفي مدى
الأخذ بهذه الفكرة، ولا شك أن الحق مع هؤلاء، ولا شك أن المسلمين لو سلكوا
هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة ودرجوا
على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكان لهم في ذلك الخير
كل الخير، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم
وتوزيع ملكهم ومجدهم، ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته
الآن يدعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه، وندعو إليه، ونسأل
الله المعونة فيه، وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه.
كان الأخذ والرد والجذب والشد قويًّا عنيفًا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا
الخلاف، وأنت خبير بأن خلافًا كهذا في صدر الإسلام أو قريبًا منه - ولما يمض
على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان، وهو
يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان - لابد أن يصحبه من مظاهر
العنف الشيء الكثير وذلك ما كان؛ فقد تنابز الفريقان بالألقاب واشتد بينهما
التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة، ورمى بعضهم بعضًا بأعظم ما يتصور
من التهم، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة.
فأهل الرأي والنظر جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة لا يعرفون لهم ربًّا
ولا يثبتون له صفة، وأهل الحديث والأثر مشبِّهون مجسمون جامدون متعصبون لا
ينزهون الله ولا يقدرون عظمته قدرها ويضعونه في صفة خلقه.
وأُلقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة، وأُلفت كتب، وانتصر كل فريق
لرأيه، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف؛ لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات
الخلاف.
كان ذلك في هذا الدور الذي ذكرت لك، ثم نقلت إلينا نحن الآن بعض هذه
الآثار والحال غير الحال، والموقف غير الموقف، والفرق غير الفرق.
ليس فينا أهل رأي وأهل حديث، وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل
خلاف بيني وبين بعض القارئين، فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق،
فما معنى هذا النفي؟
ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي
شجر فيه هذا الخلاف بين المسلمين، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الآن غير
تلك المشاكل والأفكار، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد
يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات، حتى الأزهر نفسه - وتلك
مهمته - مشغول عن هذا الخلاف.
الأمة الآن معسكرات مختلفة، لكل معسكر فكرته التي يدعو إليها وينادي بها،
فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء الأفكار والمظاهر الغربية في كل
شيء، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس ويريد أن يجعله
أساسًا للنهوض، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل
السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل وحفظ الكرامة في الخارج
ولا يعنيه إلا هذا، وهناك معسكرات غير هذه، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي
قرآني يهيب بكل هؤلاء إن الإسلام كفل لكم من السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا
إليه.
أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين: الأولى أننا ليس بيننا في
حقيقة الأمر خلاف كالذي بين الفلاسفة والسلفيين في القديم فلا معنى للاحتجاج كذلك
بما قال هؤلاء وأولئك، وأولى لنا جميعًا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه وما كان
من أهله في ذمة التاريخ ونرجع جميعًا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي ما زال
وسيظل صافيًا نقيًّا، لا تكدره الحوادث، ولا ينال منه الزمن، ولا يزعزعه
الخلاف، ذلك هو كتاب الله وسنه رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم.
(والثانية) أن ننصرف - في صف مؤمن قوي موحد - إلى معالجة مشاكل
عصرنا، ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر
المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي، فيعود
للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال.
وبعد - فذلك رأيي أيها السائل في موضع الخلاف.
2 - أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد
السيارة، وأن تذاع هذه البحوث على العامة - فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما
فيه، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون
بين أهل العلم في حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة، وأذكر الفريقين بما رواه
البخاري في صحيحه عن علي - كرم الله وجهه -: (حدِّثوا الناس بما يعرفون،
أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟ !) .
وما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قومًا
حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) فإن كان ولا بد من الكلام في هذه
المباحث فليكن ذلك في قول لين وفي بحث هادئ، حتى لا تسرى عدوى الخلاف
والتهاتر من الخاصة إلى العوام وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي
تشتد فيها العصبية لبعض الآراء، أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من
أن العقيدة أساس كل إصلاح وأن دين الله - تبارك وتعالى - جلي واضح لا خفاء
فيه، ولا يليق أن يكتم فيه شيء عن جميع الناس، وبأن هذه خصومة في الحق
وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله وهو فضيلة، وهذا هو الدفاع عن دينه وهو
واجب، وهذا من الجهاد بالقول والقلم والقعود عنه إثم، فكيف يراد منا بعد هذا أن
ننصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة؟ وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام
خاصًّا ودين الله عام للناس جميعًا؟
وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول: احترس
أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء؛ فالعقيدة شيء، والخلاف في بعض
المسائل التي لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شيء آخر، وأحكام الدين التي هي
عامة للناس جميعًا شيء والأسلوب الذي تؤدى به وتقدَّم للناس شيء غيرها،
والخصومة والغضب للدين شيء وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها شيء ثان،
ولم لا يكون هذا من الجدل المنهي عنه، ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد
الغضب على المتمارين، حتى جعله يقول:
(1) (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: {مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} (الزخرف: 58) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال
الترمذي: حسن صحيح.
(2) ويقول: (من ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في ربض الجنة،
ومن تركه وهو محق بُني له في وسطها، ومن حسن خلقه بُني له في أعلاها)
رواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي، وغيرهم، وحسنه الترمذي.
(3) وروى الطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه،
قال: كنا جلوسًا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر، ينزع هذا بآية
وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما تفقأ في وجهه
حب الرمان، فقال: (ما هؤلاء، أبهذا بعثتم أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارًا
يضرب بعضكم رقاب بعض) .
(4) وعن أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك - رضي الله
عنهم -، قالوا: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتمارى
في شيء من أنباء الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال:
(مهلاً يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره. ذروا
المراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا
المراء فكفى إثما ألا تزال مماريًا، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة،
ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن
ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة
الأوثان - المراء) رواه الطبراني في الكبير أيضًا، وقد يقال: إن المراء شيء وما
نحن فيه شيء آخر، فأقول: إن لم يكنه فهو نوع منه، ومن حام حول الحمى
أوشك أن يقع فيه، واتقاء الشبهات استبراء للدين، والورع أن تدع ما لا بأس به
مخافة الوقوع فيما فيه بأس، فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان؟
(3) وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعمَّا هو، وما أحبه إلى النفس،
وما أعظم فائدته، وإنا لمحاولون ذلك - إن شاء الله - وأعتقد أن كثيرًا من
المختلفين لو التقى بعضهم ببعض وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم
الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرًا كثيرًا، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات في
هدوء وفي توفير للوقت والمجهود، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى
جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة فيؤدي ذلك إلى الوحدة المنشودة - إن شاء الله -
وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الاجتماع فنعمل على تحقيقه - إن شاء الله -
والله حسبنا ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
مَنْ هم الإخوان المسلمون؟
وسائلٌ من هم الإخوان؟ هم فئة ... باعوا النفوس لباريها عزيزات
هم غضبة ضرمت لله سورتها ... فأرسلوها لظى للغاصب العاتي
هم ثورة حميت في الحق جذوتها ... فجاهدت باطلًا حم الكتيبات
هم فيلق من جنود الله قد حملوا ... لواءه فغدوا نور الدجنات
عزت أخوتهم في الله فانقطعت ... من السرائر أسباب الخلافات
يوحدون قلوب المؤمنين لكي ... تزداد أمتهم بالله قوات
حتى إذا استمسكت أوصالها ... وغدا بنيانها محكمًا صلب العلاقات
تقدموها إلى اليوم الرهيب وللقر ... آن في يدهم لمع المضيئات
... ... ... ... ... ... ... عن ديوان البواكير لعابدين
__________(35/19)
الكاتب: عبد الله أمين
__________
نشأة المنار والحاجة إليه
للأستاذ عبد الله أمين
المدرس بمدرسة المعلمين بعبد العزيز بالقاهرة
(1) حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار.
(2) حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار.
(3) دعاة الإصلاح قبيل ظهور المنار.
(4) صاحب المنار قبيل ظهور المنار.
(5) البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره.
(6) وجهة صاحب المنار في تحريره المنار.
(7) بقاء البواعث على إصدار المنار.
(8) المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها.
(9) حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته.
(10) محاولة لإحياء المنار.
(11) محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى.
* * *
(1) حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار:
كان العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار لأربعين سنة هجرية خلت يهيم في ليل
دامس وظلام طامس من الضعف والاضمحلال في حياته العلمية، والفنية، والأدبية
وفي مرافقه الزراعية، والصناعية، والتجارية، وفي نظمه الاجتماعية والمنزلية
والحكومية، وفي تقاليده وعاداته وآدابه، وفي أخلاقه وعقائده وشعائره الدينية،
وكان يرسف في قيود الاستبداد وأغلال الاستعباد، وقد قطعت السياسة والمذاهب
الدينية أواصر شعوبه فتفرقوا طرائق وتمزقوا حذائق، وبسط الأجانب عليهم
سلطانهم الاقتصادي والأدبي والعلمي والفني والسياسي، وأصبحوا عبيداً أرقاء بعد
أن كانوا سادة أعزاء.
* * *
(2) حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار:
وكان الدين الإسلامي نفسه مبتلى بشر المحن وأقساها:
(1) منها البدع والخرافات والأوهام، والضلالات التي ابتدعها المسلمون
بالاستحسان والاستقباح على مثال ما ورثوه عن آبائهم السابقين الأقدمين، فغيرت
مظاهره، وحجبت أنواره، وكانت شرًّا عليه من كل شر؛ إذ نفَّرت منه كثيرًا من
أنصاره وأعانت عليه كثيرًا من أعدائه.
(2) ومنها مطاعن خصومه من السياسيين الذين حكموا عليه ظلمًا وعدوانًا
بأنه دين تأخر وانحطاط لتأخر المسلمين واضمحلالهم، والحقيقة أنه دين قوة ورفعة
وعزة، وما ابتلي المسلمون بالضعف والاضمحلال إلا لانحرافهم عنه وتنكبهم سبيله
القويم وصراطه المستقيم.
(3) ومنها حرب المبشرين بالمسيحية، الذين تؤيدهم دول الاستعمار العاتية
القوية بساستها وبجنودها وبأموالها؛ لأن الإسلام - وهو دين سيادة وعزة - أكبر
عائق لهم عن الاستعمار.
(4) ومنها قعود علمائه حينئذ عن رد المطاعن والشبهات عنه، وعن تحريره
من البدع والخرافات، بل ومشاركتهم العامة في كثير منها.
(5) ومنها شبهات الملحدين الخارجين على الأديان، وهؤلاء منهم الجاهل
الذي غلبته شهوته وشقوته وسئم قيود الدين وتكاليفه فأخذ يحاربه ليتخلص منه،
ومنهم المفتون بأمور ظنية في العلوم يخيل إليه أنها لا تجتمع هي والدين، على
حين أنها لو صارت يقينية ما زعزعت أركان الدين.
* * *
(3) دعاة الإصلاح قبل ظهور المنار:
وفي هذا الظلام الحالك وفي إبان هذا النوم العميق الذي يشبه الموت تألق في
سماء العالم الإسلامي قمر الإسلام المنير حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني،
ثم ما لبث أن تلألأ بجانبه نجم الإسلام الثاقب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
المصري، وأخذا يجاهدان أعظم جهاد في حرب الاستبداد والمستبدين، والاستعمار
والمستعمرين، والضلالات والمضلين، والغفلة والغافلين، ويهزان العالم بصوتيهما
على المنابر وفي مجلة العروة الوثقى حتى انقشع الظلام، واستيقظ النيام، وذعر
المستعمرون والمستبدون، وأيقنوا أن للإسلام نورًا لا يطفأ، وحمى لايوطأ، وحماة
غلابين لا تلين لهم قناة، ولا تهزم لهم كتيبة:
فإن نغلب فغلابون قدمًا ... وإن نغلب فغير مغلبينا
* * *
(4) صاحب المنار قبيل ظهور المنار:
وكان السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه حينئذ عالمًا ناشئًا تقيًّا
غيورًا متحمسًا شجاعاً حاد الذهن كثير العلم والأدب سليم الفطرة لم يبتل بما ابتلي
به أمثاله من التورط في الضلال والخبل، بل نشأ محبًّا للإصلاح بصيرًا به
وبالحاجة إليه، وأخذ يجول ويصول في ميدانه بسوريا جولات صادقات، وما بلغته
دعوة الإمامين الحكيمين الإصلاحية إلا ملكت عليه قلبه وعقله جميعًا؛ إذ كانت هي
ضالته المنشودة، فما أطاق بعدها صبرًا على السكوت، وأخذ ينظر يمينًا وشمالاً
فلا يجد للعالم الإسلامي كله صحيفة إسلامية إصلاحية بعد مجلة العروة الوثقى.
* * *
(5) البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره:
فكانت كل هذه الأمور مجتمعة؛ وهي ما انتاب العالم الإسلامي من اضمحلال
وما أصاب الإسلام من عدوان خصومه وخذلان أنصاره، وقيام الإمامين الحكيمين
بالدعوة إلى الإصلاح، وما فطر عليه السيد الإمام صاحب المنار من الغيرة على
الإسلام، وما تعلق به من حب الإصلاح، كانت هذه الأمور هي البواعث التي
دفعت صاحب المنار إلى القدوم إلى مصر، وكانت تزدان حينئذ بالأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده - قدس الله روحه ونور ضريحه - وكانت أكفل للحرية،
وأخصب للدعوة، وأرحب صدرًا من سوريا وإلى إنشاء المنار فيها ومواظبته وجده
واجتهاده في تحريره ونشره حوالي أربعين سنة هجرية لم تفتر له فيها همة، ولم
تلن له فيها قناة، ولم ينثن له عزم حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا.
* * *
(6) وجهة صاحب المنار في تحريره المنار:
ولما كان الاضمحلال الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب وليد فساد أخلاقهم
وعقائدهم، وكان فساد أخلاقهم وعقائدهم وليد انحرافهم عن أصل دينهم، وكان الله
لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لما كان كل ذلك ما لبث جهد السيد الإمام
محمد رشيد رضا رضي الله عنه أن انصرف كله إلى رد المسلمين إلى أصل دينهم
لتصلح بذلك عقائدهم وأخلاقهم، وبصلاح عقائدهم وأخلاقهم تصلح كل أمورهم
الدينية والدنيوية.
وذلك الإصلاح لا يكون إلا بإشهار حرب عوان على الفساد والمفسدين،
والبدع والمبتدعين، والإلحاد والملحدين، والمشتبهات والمشتبه عليهم، وسد أبوابها
على المسلمين بالاعتماد في بيان أحكام الدين وفضائله على الكتاب والسنة، وعلى
تأويل الأئمة المجتهدين، وعلى نقد ما خالف الكتاب والسنة من تأويلهم وتأويل
غيرهم، وبما فتح الله له من أبواب الفهم السديد الصائب المنقطع النظير، فأبلى في
هذه الحرب بلاءً عظيمًا ولبث يجاهد فيها كل هذا الزمن الطويل، ولقي فيها عنتًا
وأذى كثيرين فما وهن ولا استكان، حتى استشهد في ميدان الجهاد بعد أن أصدر
من المنار أربعًا وثلاثين مجلدة وجزءًا من المجلدة الخامسة والثلاثين وليس بجانبه
صحيفة واحدة إسلامية إصلاحية تشد أزره وتشركه في أمره، وبعد أن انتصر على
أعيان الابتداع والإلحاد والهدم، وبعد أن أصبح المنار أداة لا غنى عنها للدفاع عن
الإسلام والمسلمين وحمياتهما من عدوان المعتدين.
* * *
(7) بقاء البواعث على إصدار المنار:
فإذا كان الإمام السيد محمد رشيد صاحب المنار - رضى الله عنه وأرضاه -
قد مات، فهل ماتت بموته الحاجة إلى المنار؟ هل ماتت البدع ومات المبتدعون؟
هل مات الإلحاد والملحدون؟ وهل ماتت المشتبهات ومات المشتبه عليهم؟ وهل
ماتت الرذائل والمنكرات ومات أنصارهما؟ كلا. ما مات هؤلاء ولا هؤلاء، بل
لا يزالون أحياء يحاربون الله ورسوله والإسلام والمسلمين، وما ماتت البدع
والمنكرات وغيرها، بل لا تزال في تناسل وتكاثر ونماء وقوة، فلم يكن لدولة
المنكر في أي عصر مضى من الأعوان الأقوياء الأعزاء المسخرين مثل ما لها الآن.
أكان للخمر والملاهي من الأنصار ومن الموائد والأندية والحفلات والمنازل
والدعاية الطويلة العريضة في الصحف على اختلاف ألوانها ومنازعها - إلا القليل
النادر منها - مثل ما لها الآن؟ أكان تهتك النساء وفجورهن من مظاهر الخيالة
والمسارح والشواطئ وغيرها مثل ما لها الآن؟ أكانت الصحف - إلا القليل منها - لا
تصدر إلا إذا فخرت وتاهت بتحلية صدورها بصور العاريات الخليعات من النساء
الفواجر؟ أكانت دور الخيالة تملأ الرحب من الأرض وتعرض فيها مثل ما يعرض
الآن من مناظر مغرية بالفسق والفجور وارتكاب عظائم الأمور كما انتشرت الآن؟
أكانت الصحف تتبارى وتتنافس في الدعاية الطويلة العريضة للممثلات كما تفعل
الآن؟ ألم يكن كل ذلك وما هو شر من ذلك آلاف المرات في حاجة إلى صحيفة
كصحيفة المنار؟
* * *
(8) المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها منه:
ليس في العالم الإسلامي كله مجلة إصلاحية يظن أنها تحل محل مجلة المنار
إلا مجلة الأزهر , وهذه - لسوء الحظ، قبل عهد مولانا الأستاذ الإمام المصلح
الشيخ محمد مصطفى المراغي - كانت حربًا على المنار لا عونًا له، ثم هي الآن لا
تغني عنه لأنهم مرآة صادقة لمعهد لا يزال في طور انتقال من عهد اضمحلال مضى
عليه قرون إلى عهد قوة ورفعة بسعي مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ المراغي،
فهي مجلة رسمية وفي عهد انتقال لا قبل لها بالحرية المطلقة التي لمجلة المنار
المطلقة من كل قيد إلا قيود الكتاب والسنة، ولو قدر لمجلة الأزهر والمنار في
عهدهم الحديث أن تكونا فرسَيْ رِهان في نصرة الإصلاح الديني والاجتماعي ما
كانتا كبيرتين على العالم الإسلامي، بل ولا عشرات المجلات من نوعهما، فأهلاً
وسهلاً بهما.
* * *
(9) المسئولون عن إصدار المنار:
وإذن لم يكن العالم الإسلامي ولا الإسلام نفسه في غنى عن المنار، فإن
المسئول عن إصداره وإحيائه هم أنصاره وأحباؤه، فقد أصبح أمانة في أعناقهم دون
غيرهم من المسلمين، لا تبرأ ذمتهم منه إلا إذا أحسنوا القيام عليه وأصدروه، فإذا
قام بذلك ولو واحد منهم فقد سقط عن الباقين لأنه من فروض الكفاية. وإن صاحب
المنار ومناره فينا كرجل قوي البنية مفتول الساعدين حفر لنا بئرًا عذبًا ماؤها وليس
لنا ما نستقي منه غيرها وبقى طوال حياته يخرج لنا ماءها بسواعده، أفإن مات
طمسنا البئر، وحطمنا الدلاء، وأمسكنا عن الاستقاء حتى نموت عطشًا لأننا لا نجد
فينا رجلاً مثله قوة جسم، وقوة إرادة، وعزيمة، أم يجب علينا حفظًا لحياتنا أن
نحرص كل الحرص على سلامة البئر، وأن نتعاون على إخراج مائها والارتواء به؟
* * *
(10) حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته:
يقول بعض الأنصار إن المنار مجلة ذاتية؛ حيت بحياة صاحبها الذي استقل
بتحريرها حوالي أربعين سنة هجرية نسجها فيها على منواله، وصبغها بصبغته،
وقدها على مثاله، فأصبحت لا تصلح لغيره ولا يصلح لها أحد من بعده، فلا بد أن
تموت بموته ويجب أن ندعها تموت. وهذا ليس من المنطق السليم في شيء؛ إذ
أن الحياة - ولو كانت ناقصة - خير من الموت، فإن الأطباء لا يمكن أن يدعوا
إنسانًا فقد بعض أعضائه أو كُسِرَها يموت وفي إنقاذه أمل حتى ينقذوه ولو كانت
حياته بعد ذلك شرًّا له ولآله من موته، فكيف ندع المنار صحيفة العالم الإسلامي
يموت ونحن موقنون أن في حياته خيرًا محققًا لا لشيء إلا لأن هذا الخير دون ما
كان له من الخير في حياة منشئه رضى الله عنه وأرضاه؟ كيف ندعه يموت على
مرأى ومسمع من العالم الإسلامي وفيه من يستطيع أن يحييه، ولو بعض الحياة؟
كيف ندعه يموت وقد سن له صاحبه طريق الحياة من بعده؛ إذ فتح في العدد
الأخير من المجلدة الرابعة والثلاثين - وهي آخر المجلدات - أبوابًا جديدة له،
ودعا إلى الكتابة فيها أنصاره؟ وفي مصر وحدها مئات القادرين على الكتابة في
هذه الأبواب بإتقان وإجادة.
* * *
(11) محاولة لإحياء المنار:
لن يموت المنار ولن ينسى - إن شاء الله تعالى - مادام وراءه أنصاره
ومحبوه، ولقد حاولت دار المنار جاهدة إحياء المنار، وعهدت بذلك إلى حضرة
السيد محيى الدين رضا ابن أخي الفقيد العزيز والمحرر في المقطم الأغر؛ غير أن
هذه المحاولة كانت عسيرة لأن المنار أصعب من أن ينهض به إنسان واحد كالسيد
محيى الدين أفندي ليس في جهده ولا في ماله ولا في أوقاته فضل ينفقه في إحياء
المنار وإصداره؛ ولذلك لم يلبث أن مات مرة أخرى.
* * *
(12) محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى:
ولقد سُرت الدار سرورًا عظيمًا حينما تقدمت جماعة الإخوان المسلمين وعلى
رأسها الأستاذ الكبير حسن البنا طالبة منها أن تتولى إصدار المنار؛ وذلك لما تعهده
في هذه الجماعة من الإخلاص والجد في خدمة الدين والفضيلة، وما تتوسمه فيها
من القدرة على إصدار المنار - إن شاء الله تعالى - في ثوب قشيب نافع، وما تؤمله
من استمرار صدوره.
وإني لأرجو - وقد حيَّ المنار ومات ثم حيَّ ومات - أن يحيا - إن شاء الله
تعالى - هذه المرة، وألا يموت بعدها أبدًا، وأن يثبت الله - سبحانه وتعالى -
أقدام جماعة الإخوان المسلمين ويهديهم وإيانا سبل الرشاد، وأن يوفقهم لأصلح
الأعمال، ويقدرهم على إصدار المنار ونشره، وعلى إبقائه حيًّا أبد الدهر، إنه
سميع مجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله أمين
_______________________(35/27)
الكاتب: حسن البنا
__________
موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم
وواجب أصحاب الجلالة ملوك المسلمين وحكوماتهم
نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامي كله منضوٍ تحت اللواء التركي،
مستظل بظل الخلافة العثمانية، إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية
الغربية من قبل.
كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، ثم صارت بإعلان الحرب تحت
الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقًا لوعودهم
وانخداعًا بالأماني المعسولة التي وضعوها أمام الأمة العربية.
ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب في هذا كله
فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم في ذمة التاريخ
يحكم لها أو عليها.
وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغُلبت تركيا على أمرها، وسُلبت حق
سيادتها على الولايات التابعة لها.
وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها في
الحياة العزيزة الحرة الكريمة.
كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول، وانتهت بتكوين تركيا الحديثة
هداها الله وألهمها الرشد.
وكانت الثورة المصرية في وادي النيل، وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936
التي حققت جزءًا ضئيلاً جدًّا من الأماني المصرية، ولازالت مصر تكافح لاستكمال
الباقي.
وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التي حققت كذلك
جزءًا من الأماني العراقية، ومكَّنت العراق من السير سريعًا إلى استكمال ما بقي،
واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمَّه إلى نجد وكون منهما
المملكة العربية السعودية.
وكافحت سورية وناضلت، وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذي تم
في مصر والعراق مثلاً، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته وقلبت للسوريين
ظهر المِجَنِّ ولا زالت في موقفها هذا إلى الآن.
وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعًا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا
خداع الإنكليز في تضليل الشعب الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة وعن المطالبة
باستقلاله الكامل في أرض الآباء والأجداد التي رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت
أولئك الأحفاد البررة.
واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالي الظالم حتى قبض على المجاهد
المؤمن السيد عمر المختار، وضُيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفي من
نفي، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية،
وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس.
وقامت ثورات في بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور،
كان من أظهرها ثورة الريف المغربي بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم، وانتهت
كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين.
هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلام من نفسه، ومن غيره من الأمم التي
ظلمته وتدخلت في شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن.
* * *
اختل التوازن الأوربي وجرت الأحداث سراعًا تسابق الدقائق والساعات
وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات. وانجلت تلك الغمرة عن وجود
معسكرين قويين في أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما
من دويلات أوربا ومن ورائهما اليابان في الشرق، ومعسكر الدول الديمقراطية
ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوروبا ومن ورائها أمريكا في القارة
الجديدة.
وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب - كما يقولون - قائمة على
أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربي والإسلامي ويود أن يكسبه
إلى جانبه، فذلك هو الذي يرجح إحدى الكفتين على الأخرى في آسيا وإفريقية على
الأقل، وإذا رجحت الكفة في هاتين فقد رجحت في أوربة كذلك.
إن دول الشرق الإسلامي قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة
أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل
هذه إلى حد كبير، هذا الوضع - إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين في
أوربا - كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب
والمسلمين اكتسابًا نهائيًّا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك في
وسعها ولا يكلفها عناء وعنتًا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله،
وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه، فهل فعلت هذا؟
العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تمامًا، كأنهما
تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين في كل أنحاء الأرض؛ فأما فرنسا فقد
أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم
الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية في هذا اللواء، وتنكرت
لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر في داخلية البلاد
استبدادًا أدَّى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى
أخيرًا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التي رفعها لمجلس النواب
السوري:
إلى رياسة المجلس النيابي السوري الفخيمة:
(منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبني في أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية
على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف
والمودة؛ وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التي تسعى إليها من الاستقلال
والسيادة القومية. وقد تعاقبت حكومات في سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها في
سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوي على الخطة الوحيدة
التي تعزز جانب الوطن السوري وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين
الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى
هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع؛ غير أن الجهود التي بذلت لم تسفر
عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التي تعاقبت في
فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعًا تلك الآمال التي توجهنا بها إلى
سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا العودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض
ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه. على أن حوادث الماضي وقرائن
الحاضر لا تترك مجالات للشك في أن هذه الخطط - التي يراد اتباعها واستئناف
العمل بها - تؤدي إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه
البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها. ولذلك لا أرى بدًّا من الاستقالة من المنصب الذي
عهدت إليَّ الآن في القيام به وتحمل أعبائه، راجيًا أن يكون في الأيام المقبلة ما
يخفف عنها الآلام والعناء، وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد) .
وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع،
فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم؛ ولكن المندوب السامي تحدَّاها في هذا،
فأصدر قرارًا بتدخل السلطة الفرنسية فورًا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء،
وعين مجلسًا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره:
(قد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية في سوريا فقدان تام
للسلطة التنفيذية مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلاً فوريًّا أمرًا لابد منه، وفي
هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق
بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر في نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة
منظمة طبيعية.
بناء على ذلك قرر المفوض السامي أن يعهد في السلطة التنفيذية - تحت
مراقبته - إلى مجلس مؤلف من مديري مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير
الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامي، ويجوز له أن يتخذ
قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأي المجلس أن يصدر
مراسيم لها مفعول القوانين ولا سيما في الشئون المتعلقة بالميزانية، وتتخذ المراسيم
التشريعية بعد موافقة المندوب السامي التي تجعلها نافذة) .
هذا هو موقف فرنسا في سورية، فأما موقفها في بقية مستعمراتها الإسلامية
فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفي للأحرار وتعذيب للوطنيين، وهؤلاء
شباب المغرب وعلى رأسهم الآن محمد بن عبد الكريم لا زالوا في أعماق المنافي
والسجون، وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء في حل قضية فلسطين، وانتهى
مجهودها وخداعها بإصدار الكتاب الأبيض الذي لم يُرض أحدًا من الأمم الإسلامية،
حتى أن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط في التوسط لدى عرب فلسطين
الباسلين لقبوله.
ولم تكتفِ بهذا بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضًا يمانية بحتة كإقليم
شبوه، وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما
أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتجاجًا صارخًا هذا نصه:
(من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج
السادس المعظم بلندن.
بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم
تأثراتي العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمي الحكومي وادعائها أن
شبوه ومناطقها داخلة في الأراضي العدنية المحتلة، مستندة في ذلك إلى معاهدة
سنة 1940 (كذا من أصل البرقية) .
وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقًا بشأن شبوه ومناطقها كلها، وأنه لم يكن لأحد
شأن فيها في أي وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم
طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للاطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا
الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع،
وعارٍ عن كل إثبات، فحكومتي مجبورة للاحتجاج، ولا يمكن لليمن السكوت عن
عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى.
ومعلوم لجلالتكم أن شبوه ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة
اليمن لم تزل عليها ولا هي افترقت يومًا واحدًا عن أمها اليمن، وكل قرار غير
شرعي بشأنها نرده بلا شك، ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها
وملكها، وهل يمكن - يا صاحب الجلالة - بيع أو إهداء أي أرض أو زراعة ممن
لا يصح تصرفه فيها؟ ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا شبوه
ومنطقتها، فلم يتصرفوا بشيء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة
بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادي هو الذي عمر الحصون
قبل ألف سنة وأن سلفنا الإمام أقام في شبوه. فنحن متسلسلون في شبوه، وسكانها
متعلقون بحكومتنا من جملة إخوانهم بني جابر.
وفي سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين، ولم
يبق للدولة العثمانية وجود في العالم، وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن
وتعمل لليمن شيئًا، فهل يمكن - يا صاحب الجلالة - أن تجيز القوانين الشرعية
والمدنية العالمية الاعتداء على بلاد دولة مستقلة واغتصابها؟
وهل يستطيع أي يمني كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التي حافظوا عليها
إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟ فأرجو من عدالتكم - يا صاحب الجلالة - أن
تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالي وحكومتكم الجليلة
عقدا برضائها وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن.
وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أي حال بين
عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية،
وأن تبقى الحالة التي كانت قائمة في تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول، فهل - يا
صاحب الجلالة - يرضى عدلكم؟ وهل ترضى القوانين الدولية والحقوق السياسية
والإنسانية بعد تلك المعاهدة والشروحات المذكورة الودية، وبعد مرور ست سنوات
من عهدها أن يعتدى على شيء من أرضنا وحقوقنا الطبيعية؟ وهل يمكن موافقتكم
على هذه الاعتداءات والتجاوزات؟
وإني - بكامل احترامي وتعظيمي لذات جلالتكم المعظمة، وبتمام تقديري
لحكومة جلالتكم السنية ولشعبكم المنصف الكريم - أرجو من جلالتكم تحقيق وتدقيق
هذه المعاملة، وإصدار أوامركم العادلة إلى من يلزم بأن يتفضلوا باحترام حقوقنا
وشعبنا بلا جرح قلوب أمتنا، وبلا استحقار أصدقائكم اليمنيين الذين هم ثابتون حالاً
ومستقبلاً في صداقتكم، وبأن لا يكون أي إجحاف بحقوق بلادنا، ولا مخاصمة بين
الدولتين المتضامنتين المتحابتين المتعاهدتين، إن شاء الله.
وتفضلوا يا صاحب الجلالة بقبول عواطف حسن نيتي وصداقتي
وتقديراتي الخالصة الفائقة.
في 11 جمادى الأولى 1358 - 29 يونيو سنة 1939) .
فهل بمثل هذا الاستفزاز تريد الدول الديمقراطية أن تحصل على صداقة
المسلمين والعرب؟
إن الموقف الحالي يستدعي من العالم الإسلامي أشد الاهتمام، وإن الفرصة
سانحة للمسلمين والعرب - لو أرادوا - أن ينتهزوا.
وحضرات أصحاب الجلالة ملوك المسلمين - وبخاصة جلالة الملك فاروق،
والملك عبد العزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله الوصي على
عرش العراق، وجلالة الإمام يحيى حميد الدين - هم موضع الرجاء في إفادة
شعوبهم من مثل هذه الحوادث، والله - تبارك وتعالى - سيسألهم عما استرعاهم،
وكل راعٍ مسئول عن رعيته.
ومن واجب الحكومات الإسلامية أن تتفق جميعًا على خطة حازمة تعلن بها
إنجلترا وفرنسا - في اجتماع وفي حزم وإصرار - أن تبرم المعاهدة السورية على
غرار معاهدة العراق، وأن يكون بين إنجلترا وفلسطين معاهدة تستقل بها الأرض
المقدسة وتظل عربية مسلمة، وأن يكفل استقلال الأوطان الإسلامية الحالية ولا
يتعدى على أي جزء من أرضها.
وأن يكون بين فرنسا وتونس والمغرب معاهدات سياسية كذلك تكفل لهذه
الشعوب المسلمة العريقة أن تصل إلى استقلالها وحريتها، فإن وافقت الحكومات
الديموقراطية على ذلك فهو الخير لها وللناس، وإن أبت إلا الإصرار على الموقف
الظالم فليعمل المسلمون لأنفسهم وحسبهم ما فات.
لقد بدأت العراق والحجاز العمل وقامت مفاوضات بين الحكومتين
الهاشمية والسعودية أغلب الظن أنها تناولت فيما تناولته هذه النواحي الحيوية
للممالك الإسلامية، ولكن كل ذلك لا يكفي فإنا نريد أن يكون الصوت إجماعيًّا
من الحكومات الإسلامية جمعاء أو من معظمها على الأقل، وأن تكون
الخطوات واضحة بيِّنة، والوسائل صريحة حازمة، وفق الله العرب والمسلمين
لما فيه خيرهم وسعادتهم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
__________(35/34)
الكاتب: محمد حبيب العبيدي
__________
بين الشرق والغرب
أيها الغرب إن للشرق شأنًا ... وعلى غابر الزمان العفاء
هبَّ من نومه وكان خليقًا ... أن يجافي جفونه الإغفاء
تلك صحف التاريخ تشهد أنَّا ... خير نسل أقلت الغبراء
كم عمرنا الديار وهي خرابٌ ... وملأنا القفار وهي خلاء
وركبنا البحار وهي طوام ... وألفنا الأسفار وهي عناء
يوم لا دق بالحديد تراب ... لا ولا شق بالبخار الماء
وملكنا بالسيف ملكًا جسامًا ... لم يشد قبل ركنه بناء
أيها الشرق حدِّث الغرب عما ... أيقظت من سباتك الأرزاء
وإليك الأبصار من كل قطر ... شاخصات وللأمور انتهاء
أنسام الهوان دون المنايا؟ ... إنما الموت والهوان سواء
ليس دار الهوان للحر دارًا ... إنما الحر داره الجوزاء
قد تلونت يا زمان علينا ... فحنانيك أيها الحرباء
قرع الدهر نابنا وقرعنا ... نحن والدهر لو درى أكفاء
من تفانى في المجد نال بقاءً ... وطريق البقاء هذا الفناء
ولقد آن أن يلم شتات ... وتسوى أرض ويعلو بناء
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حبيب العبيدي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (بتصرف)
__________(35/41)
الكاتب: محمد أحمد جاد المولى
__________
ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن
بقلم الأستاذ الكبير محمد أحمد جاد المولى بك
كبيرمفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية
قد وضح للمنصفين من العلماء والباحثين أن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق
هذا الخلق عبثًا، ولم يتخذه لهوًا ولعبًا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
لاعِبِينَ} (الأنبياء: 16) ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ
بِالْحَقّ} (الحجر:85) ، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) ، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ،
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) .
وسواء أريد بالعبادة ظاهرها، أم معرفة الله - كما ذهب ابن عباس رضي
الله عنهما - فالمعرفة لا تكون بدون عبادة، والعبادة لا تكون بدون معرفة.
لذلك كانت حاجة الناس إلى اهتداء بشريعة الذي فطرهم ضرورية وفوق
حاجتهم إلى كل شيء. ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب؟ ! مثلاً: فأهل
البدو كلهم، وأهل الكفور جميعهم، وعامة بني آدم لا يحتاجون إلى طبيب، وهم
أصح أبدانًا وأقوى طباعًا ممن هو متقيد بالطبيب من أهل المدن الجامعة.
ولقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل
قوم عادة وعرفًا في معالجة ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إن كثيرًا من أصول
الطب إنما أخذت من عادات الناس وعرفهم وتجاربهم.
أما الشريعة فقائمة على معرفة الإنسان مواقع رضا الله وسخطه في أعماله
الاختيارية، ولا طريق لهذه المعرفة إلا الوحي المحض، بخلاف الطب فمبناه على
تعرف المنافع والمضار التي للبدن وعليه، وأساسها التجارب والاختبار، وغاية ما
يقدر في جهل تلك المنافع والمضار موت البدن وتعطيل الروح عنه، وأما ما يقدر
عنه فقدان الشريعة ففساد النفس، وتنكبها الصراط السوي، وانغماسها في حمأة
الرذائل؛ مما يودي بها وبالمجتمع الذي تعيش فيه، وشتان بين هذا وهلاك البدن
بالموت.
فالناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم،
والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه،
وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز
الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر، وتاريخ الأمم الإسلامية أيام اعتصامها بحبل
الدين وتهاونها به، وما نراه في الأمم الغربية من الأمراض الاجتماعية والخلقية
المستعصية - مع سبقها وعلو كعبها في شئون المادة - شاهد على ذلك.
وما جاء به الرسول هو الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، وذلك هو الإسلام
وهو دين الله وشريعته في جميع الأمم منذ بدء الخلق حتى تقوم الساعة، وقد أخبر
الله بذلك في غير موضع من القرآن {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:
19) فدين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والرسل، وقوله -
تعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم
ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريين كلهم دينهم الإسلام، وهو عبادة
الله وحده لا شريك له والاستسلام له ظاهرًا وباطنًا، وعدم الاستسلام لغيره، كما
قد بيَّن ذلك القرآن، فدينهم كلهم واحد وإن تنوعت شرائعهم. قال تعالى: {لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاًَ} (المائدة: 48) .
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: 18-19) .
ولقد جاء القرآن الكريم والسنة الصحيحة بشرائع الإسلام الظاهرة وحقائق
الإيمان الباطلة، ففي مسلم عن عمر رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله
إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،
وتحج البيت؛ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن
بالقدر خيره وشره؛ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
فمن لم يقم بشرائع الإسلام الظاهرة امتنع أن يحصل له حقائق الإيمان الباطنة،
ومن حصلت له حقائق الإيمان الباطنة فلا بد أن يحصل له حقائق شرائع الإسلام
الظاهرة، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده؛ ومتى استقام الملك وصلح استقامت
جنوده وصلحت. في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن
في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد
ألا وهي القلب) .
وإن أصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله أجمعين، وملاك ذلك الإيمان
بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؛ فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله
ورسله.
وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، وذلك يستوجب
العذاب الأكبر. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) ، {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (القصص:
59) .
فالقانون السماوي سبب السعادة، ومن الخطأ الاعتياض عنه بالقانون الأرضي
الإنساني الذي لا يخلو - وإن توافقت عليه الآراء - من أغلاط وأخطاء، لا سيما
إذا كان ممن لا علم عندهم بمعاني كتاب الله، وسنة نبيه الداعي إلى الله على
بصيرة.
حقًّا، إن الاعتياض عن القانون السماوي بالقانون الأرضي من أعظم أسباب
المقت والحرمان، وأكبر موجبات العقوبة والخذلان؛ إذ هو اتخاذ لدين الله هزوًا
ولهوًا ولعبًا، وتبديل النقمة بنعمة الله، والكفران بالشكران. وشرع دين لم يأذن به
الله واتباع لغير سبيل المؤمنين مشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ورسوله، وعشو
عن ذكر الرحمن، وإعراض عنه، إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا
تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكتاب. قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ} (إبراهيم:
28-29) .
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21)
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . {أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ} (التوبة: 63) ، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) .
فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام الذين شقوا
عصا الجماعة؛ فما بالك بمن دعا الناس كافة عربًا وعجمًا، مؤمنهم وكافرهم، إلى
قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة، فخرج هو - وأخرج به -
عن طاعة الله وطاعة الرسول، وحاربهما وحادهما وشاقهما بمخالفه أمرهما؟ بلى
وربك، فإنه رأس الفساد، وأم الشرور والخبائث، وما يعقله إلا العالمون.
وقد وسم الله من خالف أحكامه واتبع غيرها في أحكامه وأعماله بالظلم والكفر
والفسق، قال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1)
{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229) ، {وَمَن لَّمْ
يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ
صُدُوداً} (النساء: 60-61) .
قال أهل التحقيق من المفسرين: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من
معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله،
أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه به فيما
لا يعلمون أنه طاعة الله. فالقرآن يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما
عداه إما تصريحًا وإما تلويحًا، وله جاهد من جاهد، ويجاهد من يجاهد من عباد الله
المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم تقوم الساعة. فقد
صح عنه أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خذلهم ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فبتحكيم ما أنزل الله يقوم العدل،
ويؤيد الملك، ويستقيم أمر المعاش والمعاد، وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية
التامة.
ومن شك فيما تقدم فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة
التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت
هي شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأوعى لها فإنه واجد الفرق كما بين
الثرى والثريا، وكما بين الأرض والسماء.
ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم
فتحوا ما فتحوا من الأقاليم، ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في نحو مائة سنة مع
قلة عدد المسلمين وعددهم وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عُددنا
وهائل ثروتنا لا نزداد إلا ضعفًا وتقهقرًا وذلاًّ وحقارة في عيون الأعداء؛ وذلك
لأن من ينصر الله يُمكِّن له في الأرض، ويمده بنصر من عنده. قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وقد بين
الذين ينصرون دينه بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) .
__________(35/42)
الكاتب: أديب غير معروف
__________
تطور الإسلام
لأديب غير معروف
كان نشاط الإسلام الغريب مدعاة دهشة لعقول البشر منذ تلك الأيام الممعنة في
الزمن، التي حملت لواءه من فرنسا إلى الصين , ولكن هذه الشعلة الروحية المتقدة
ما لبثت أن أخذت تخمد على الأيام، حتى ظهر الإسلام في القرن الثامن عشر في
حال من الاحتضار، فأخذ العلماء يلتمسون المعرفة في آفاق محدودة من الدين، لا
كما نزل به القرآن وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، مشرقًا بالنور، سمحًا إلى
أبعد الحدود، بل كما فهموه، هزيلاً ضيقًا، بل على أكثر ما يكون عليه الدين من
الهزال والضيق حين يبدأ فيسمح لظل آدمي أن يقوم بين العقل البشري والله. إن
الإسلام دين الفكرة المتحرر، الذي استطاع أن يطرد الخرافات الكهنوتية من
البلدان التي استظلت بظله، انتهى إلى أن يكون هو نفسه مثقلاً بأنواع العبودية
والخرافات.
فرض الإسلام على معتنقه أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد، ونقل عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العلم أفضل من العبادة) ولكن هذا
الفرض أهمل في عصور انحلال الثقافة العربية إهمالاً مخجلاً اطّرحت معه دراسة
العلوم الطبيعية من زمان، فكان ذلك من أهم الأسباب لتأخر الإسلام في العصر
الأخير.
قال المستعرب الفرنسي الشهير (كازانوفا) : منذ أن خبت شعلة الثقافة العربية
زمن الغزو العثماني، ومنذ أن أخذ الإسلام الأول تنقله ربقة (أرثوذكسية) متحرجة،
ونحن ننظر إلى عقل العرب الحديث كشيء يختلف عن عقولنا، ونعتقد أن المسلمين
ليسوا بقادرين على أن يفهموا فكرنا ويمثلوه، ناسين كلمة نبيهم الرائعة، التي كانت
مصدر الهدى لحضارتهم الأولى، والتي تقول: (فضل العلم أفضل من العبادة) . إني لأتساءل: أي رئيس ديني، أو أي مبشر عظيم جرؤ في يوم أن يتلفظ هذا الكلام
الجسور، الذي يكون (دستور الإيمان) لعالمنا الثقافي اليوم؟ في حين أن كلامًا كهذا
كان يعد لزمن غير بعيد كفرًا عند الجمهرة الكبرى من العقول المثقفة، بل أستطيع أن
أتساءل: أي أوربي في عصر محمد استطاع أن يفكر بإمكانية فظاعة كهذه؟ !
وعلى هذه فأصح البديهيات عن حرية الفكر، هذه البديهيات التي تدع وراءها
أجرأ آراء (لوثر) و (كالفن) ، وأمثالهما، إنما فاه بها عربي من أهل القرن السابع،
هو مؤسس ذلك الدين الذي يزعم كثير منا أنه منحط انحطاطًا لا يرجى له علاج،
وفي الحق أن تذوق العلم، والتأملات الفكرية في شتى الميادين، وأن حب الفكر
الإغريقي والإعجاب بمآثره، وهذا الفضول المُلِحّ لمعرفة ما في الطبيعة، والرغبة
الجادّة في رفع النقاب عن هذه الطبيعة، كل أولئك كان يمثل المزايا الصحيحة للروح
العربية، إن هؤلاء العرب العظام الذين فقناهم في الأربعة القرون الخالية كانوا
الأساتذة الكبار للفكر الحديث قبل عصر النهضة) .
بيد أن العلماء الذين كان عليهم أن يرعوا تعاليم الإسلام الصحيحة ما لبثوا مع
الزمن أن وقفوا كل اهتمامهم على الفرعيات الصغرى من العبادات، فكانت بذلك
مفارقة خطرة لعمود الشرع الأول، وكانت أن نشأت في البلدان الإسلامية رجعية
متحرجة، وتعصب مخالف لروح الإسلام، وطغت على مراكز الثقافة العربية
مدرسية متطرفة كالتي عرفت في القرون الوسطى، وبها طائفة من الخرافات
الفارغة، فمد الجهل رواقًا على الطبقات الدنيا، فرغبت عن كل تجديد، وأصبح
المجتمع الإسلامي فاسدًا على الجملة.
إن روح الإسلام لا تعني على أي حال الاطمئنان إلى هذا الوضع الذي يسود
العالم الإسلامي، أو القناعة به؛ لأن الجبر (أي الاعتقاد بالقضاء والقدر على أنهما
إجبار) لا يؤلف قممها من العقيدة الدينية، أما العامة، فقد تملكتها - بسبب الجهل
والعبودية السياسية فيما بعد - روح قناعة وتسليم تكفي لإحداث ركود عام، فكان
بذلك سبب رئيسي من الأسباب التي عاقت التقدم السياسي والاقتصادي للدول
الإسلامية.
لقد تقدمت الدول النصرانية في ميدان الحياة المادية، كما تقدم المسلمون زمان
كانوا يخضعون لتعاليم الشرع التي نادت بحرية الفكر، وحضَّت على طلب العلم،
ودرس ما خلق الله. لقد أطرح الأوربيون الأصفاد الأكليركية والمدرسية الضيقة
فكان تقدمهم في الحقل المادي مدعاة للدهشة بقدر ما كانت الفتوح المادية والروحية
التي قام بها المسلمون الأولون.
وضعف آخر عانى منه الإسلام كثيرًا في تاريخه، هو نفوذ الأوتوقراطية
السياسية السيئ؛ فإن قيام الأوتوقراطية المستبدة على رأس الإسلام قد أضر به
كثيرًا في الحقبة التي سبقت الحروب الصليبية بقليل؛ إذ كان جو الفساد الذي خلقته
هذه الاوتوقراطية المستبدة عائقًا لنمو الإسلام، فتفسخت الأمصار الإسلامية إلى
وحدات يسيطر عليها طغاة منهمكون في منازعاتهم وحربهم التي يستغل فيها الدين
ويسخَّر لأغراض غريبة عنه، فما طال الزمان حتى كان الشرق المسلم غارقًا في
ظلام عميق، ضيَّق من أفقه الثقافي، وانتهى به إلى عقم أدبي عام.
وعامل هام آخر ساعد على تأخر المسلمين، هو نشوء شعور بالتسامي مزور
قام على التبجح بالفتوح العظيمة، والتغني بمآثر الإسلام في العصور الأولى،
وحمل المسلمين على أن ينظروا إلى المخترعات الحديثة التي ولدها العقل الغربي
نظرة استحقار واستخفاف.
إن المسلمين في عصور انحطاطهم لا يشبهون المسلمين الأول إلا قليلاً، فلم
يعملوا بما قضته شريعتهم، ولا عنوا بتتبع سنن نبيهم، لقد قطع المسلمون شوطًا
بعيدًا في الحقول العقلية، والسياسية، والاجتماعية، والأخلاقية أيام استمسكوا بأمر
دينهم ونهيه، ولكنهم لما رغبوا عن حبلهم هذا المتين فقدوا روح البطولة وأسقط في
يدهم، فأهملوا تثقيف أولادهم، كما أهملوا تثقيف بناتهم بخاصة، لقد ناءوا بهذه
الحضارة وهذه الثقافة التي بناها أسلافهم بتأثير القرآن والتأسي الشريف بالنبي
صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا لها صونا، وضعفت روح التكتل، وأخذ التفسخ
يظهر واضحًا.
وكان الغزو المغولي في القرن الثالث عشر ضربة أخرى شديدة على الثقافة
الإسلامية؛ إذ عطلت جيوش جنكيز خان أعظم مراكز العلم، وأودت بمعظم العلماء،
كان كل ذلك في يوم كانت فيه الحدود الشرقية للإمبراطورية الإسلامية غير
مصونة إلا قليلاً، وهنا نلاحظ أن فرضًا من فروض الشريعة قد نُسي أو أهمل،
هو الجهاد، فانتهى الأمر أخيرًا إلى سقوط بقايا الإمبراطورية الإسلامية في أيدي
دول الاستعمار الأوروبية.
لقد عاقت الحروب الصليبية نمو الإسلام، في حين أن اكتشاف طريق الهند
التجارية الشرقية، واكتشاف أميركا، مع ما دعا إليه من اتجاه التجارة العالمية ناحية
الغرب، إلى جانب ازدهار الحركة الصناعية والمواصلات عبر المحيط، كل ذلك
كسف أخيرًا عالم الإسلام، فما آذن الزمن بالقرن الثامن عشر حتى كان العالم
الإسلامي غارقًا في سبات، بينا شهد القرن التاسع عشر سقوط الدول الإسلامية -
الواحدة بعد الأخرى - في قبضة الدول الغربية المغيرة.
ولكن السبات والركود ليسا من مبادئ الإسلام، إن هما إلا نتيجة لأحداث
سياسية واقتصادية، وهكذا أخذت تقوم في ذلك الحين محاولات في الإصلاح الديني
أظهرت واضحًا أن خلف الرماد حياة للإسلام صحيحة فذة، هذه الحركات
الإصلاحية نشطت لإحياء مجد الإسلام الأول، وطمحت إلى إعادة الدين إلى شكله
الصافي الخالص قبل أن تثقله المعتقدات الدخيلة والبدع المفسدة.
وكان ابن تيمية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) العدو
الأول لهذه البدع، ولكن أربعة قرون تصرمت قبل أن تؤتي آثاره أكلها يانعًا، ففي
القرن الثامن عشر تأثر محمد بن عبد الوهاب من أهل نجد بدراسة مؤلفات ابن
تيمية، فحاول كما حاول أستاذه من قبله أن يرجع للإسلام حيويته الأولى وصفاءه
الأول، وأن يجتث الرذائل ويبطل البدع المخالفة لتعاليم الدين الفطرية، مجردًا
حملته في سبيل هذا الإصلاح الديني حوالي سنة 1740، بعد أن حز في نفسه ما
رآه من التفسخ الأخلاقي، وذيوع الخرافات بين المسلمين، وفي سبيل هذا بشر
محمد بن عبد الوهاب بالرجوع إلى مصدري الإسلام الأولين كتاب الله وسنة رسوله.
وقد عمل هذا المصلح الطهري - مؤسس الوهابية - كل ما في وسعه ليعيد
للإسلام بساطته الشديدة الأولى، فكانت الحركة الوهابية في الواقع بشير الانتعاش
للإسلام الحديث، ولا نستطيع هنا - بداعي ضيق المجال - أن نعرض بكلام
مسهب لنمو هذه الحركة، إنما يكفي الذكر أنها نشأت في جزيرة العرب في ظل
البيت السعودي، وانتشرت في نجد ثم في الحجاز زمنًا قصيرًا، تقلصت عنه بعده،
إلى أن قام عبد العزيز بن سعود ببضع حملات ناجحات استعاد بها الحجاز،
وضرب بسلطانه على القسم الأعظم من بلاد العرب.
امتدت الحركة الوهابية إلى ما وراء الجزيرة، وعملت على إثارة حركات
مشابهة مستوحاة منها في الهند وإفريقية وجزر الملاي، بل إن حركة السنوسي
الشهيرة نفسها مدينة في منشئها للإيحاء الوهابي.
ففي منتصف القرن التاسع عشر حمل السير سيد أحمد خان لواء حركة
تحريرية إصلاحية في الهند، كان من ثمارها تأسيس جامعة إسلامية في عليكرة
يتلقى فيها الطلاب - إلى جانب التربية الدينية - ثقافة عصرية عميقة، ولقد اتجه
السير سيد علي في المسائل الفقهية اتجاهًا حديثًا، محاولاً أن يلائم بين حياة الشعوب
الإسلامية وبين العصر الجديد، وأن يؤلف بين الثقافة والتقاليد الإسلامية، وبين
الآراء الحديثة والعلم الحديث.
وبعد وفاة السير سيد تعهد الحركة مولاي شيراغ علي، ومن بعده سيد أمير
علي، الذي عبر عن آراء المجددين في كتابه المعروف: (روح الإسلام) ،
وتطورت الحركة من بعده، جامعةً بين (العقلية) والتحرر، وكان لها ممثلها في
شخص (س خودا بخش) صاحب كتاب (رسائل هندية وإسلامية) .
ويجب أن نذكر بصدد هذه الحركة العمل الذي قام به حكيم أجمل خان، من
دلهي، إذا وقف نفسه على تدريب الطلبة المتأخرين من الجامعة في عليكرة،
وبعثهم إلى الخارج مبشرين، لينشروا بين شباب الطبقات المثقفة، ثقافة إسلامية
حديثة مؤسسة - قبل كل شيء - على القرآن.
أما أعظم مصلح في الهند الإسلامية غير مدافَع، فهو المرحوم السيد محمد
إقبال الفيلسوف الشاعر الكبير، الذي ألفت آراؤه ومؤلفاته (مدرسة) من المفكرين
الدينين والسياسيين في الهند، ومن أبرز آثاره كتابه الممتع عن (تجديد التفكير
الديني في الإسلام) ، الذي كان يريد فيه كما يقول (أن يلبي ولو جزئيًّا هذه الرغبة
الملحة في إيجاد شكل علمي للمعرفة الدينية عن تجديد طريقة الفلسفة الدينية
الإسلامية على أساس من تقاليد الإسلام والتطورات الأخيرة في مختلف ميادين
المعرفة الإنسانية) ، ولكي نقدم فكرة صادقة عن قيمة مؤلف السير محمد إقبال هذا
لا نجد أفضل من أن نقتبس ههنا الفقرة التالية من مراجعة له بقلم عالم (غربي)
ممتاز؛ لما فيها من (إشارة) إلى العلاقات الغربية الإسلامية:
(إن العالم الغربي لا يعرف السير محمد إقبال - إذا استثنينا طبقة من
الخاصة صغيرة - المعرفة التي يستحقها. قد لا يكون محمد إقبال مؤرخًا؛ ولكنه
فيلسوف لاهوتي ديني من الطبقة الأولى، بعقل معجز جبار، إدراك هذه الحقيقة لم
يكن بالسهل على الغرب - بسبب إسلامية إقبال - كما كان في شأن طاغور الشاعر
الغامض، وغاندي الذكي الغريب. إن من الجميل أن يكتشف الغرب مسلمًا مجددًا
حقًّا، هو في الأقل صنو لأعظم مفكري الغرب في كل ناحية.
كم يكون من المؤسف أن نسلب القارئ الغربي لذة الاكتشاف الشخصي
بتقديمنا هذا الرجل إليه ملخصًا، فليس هناك رجل في العالم المسيحي يحق أن
يدعى عصريًّا - أو ما شئت من النعوت - إذ لم يكن قد (اكتشف) بعدُ محمد
إقبال، وليس هناك كتاب للسير محمد أجدر من هذا كأداة وصل في هذا التعرف) .
فإذا انتقلنا إلى تركيا كان علينا أن نشير إلى حركة إصلاحية سايرت ثورة
سنة 1908، فحزب (تركية الفتاة) نادى بالأخوة والمساواة بين رعايا السلطان
جميعًا، وكان أحد مقدمي الزعماء في (جمعية الاتحاد والترقي) المصلح والسياسي
الأمير سعيد حليم باشا، الذي كان يعتقد أن الإصلاح لا يقوم على اقتباس ما هو
غربي، بل بالعودة إلى الإسلام، وكان يعمل لإمبراطورية إسلامية مستقلة، ويؤيد
الخلافة، فعل الكثرة المطلقة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، مسترشدًا بغايته
الأولى، وهي بناء الدولة الإسلامية الصحيحة على قواعد حديثة. ولكن مؤثرات
مغايرة كل المغايرة لأهداف الأمير سعيد حليم باشا ما لبثت أن ذرت قرنها، فقامت
فكرة الوحدة الطورانية، رامية إلى خلق ثقافة تركية قومية حديثة.
بيد أن أبرز المصلحين في القرن التاسع عشر كان السيد جمال الدين الأفغاني،
الذي كان له الأثر الأعمق على الحركات الإصلاحية في شتى الأقطار الإسلامية
ومصر بخاصة؛ حيث قضى ثماني سنوات (1871 - 1879) ، وحيث تتلمذ
عليه الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية , الذي توفي سنة 1905.
لقد شملت أعمال هذا الرجل العظيم أمصار الإسلام على التقريب , فخضعت
أفغانستان وإيران , وتركية، ومصر، والهند جميعًا , وفي فترات متباينة
لأثره البعيد.
إن غاية جمال الدين القصوى كانت توحيد الشعوب الإسلامية في ظل دولة
إسلامية واحدة، يمارس فيها الخليفة سلطة مطلقة، كالتي كانت للخلفاء في أيام
الإسلام الغرر , قبل أن تنهك من قواه الفتن والتفسخات , وقبل أن تغرق البلدان
الإسلامية في ظلام من الجهل والمسكنة , فتصبح فريسة الاعتداء الغربي. كان يعتقد
أن هذه الدول الإسلامية إذا تخلصت يومًا من وباء الاستعمار الغربي والتدخلات
الغربية، وجددت نظرتها إلى الدين بحسب مقتضيات العصر، استطاعت أن
تخلق لنفسها أوضاعًا جديدة باهرة، دون تقليد للدول الغربية، أو اعتماد عليها.
وعنده أن الدين الإسلامي في جوهره دين دنيا , وأنه قادر إلى أبعد حد - لما له من
قوة روحية - على أن يساير اختلاف أحوال الحياة، ويرى أن الثورات
السياسية هي أسرع وأضمن سبيل يوفر للشعوب الإسلامية الحرية التي لا
تستطيع هذه الشعوب أن تنتظم أمورها الداخلية بدونها. وقد وصف مؤرخ
مصري احتكاك جمال الدين بالشئون المصرية بهذه الكلمات:
(لقد ولدت بنزول جمال الدين مصر حركة جديدة، قالت بوجوب تحديد
التدخل الأجنبي والحكم الأوتوقراطي , وحاولت تحضير عقول الشعب لإنشاء نظام
قومي متحرر , كما بذلت جهود لإصلاح الحالة الاجتماعية للجماعات، عن طريق
تفسير جديد لتعاليم الدين التي أفسدت من روحها الخرافات والتقاليد والتفصيلات
الفقهية في عصور الظلام.
قادت هذه الحركة إلى يقظة صحيحة تمظهرت في الإسلام الديني , كما
تمظهرت في البعث الثقافي والأدبي , وفي التطورات السياسية، التي دلت على
نمو في الروح القومي. لقد كان جمال الدين أعظم شارح لفكرة الجامعة الإسلامية) .
وأخذت الحركة الإصلاحية والتجديدية في مصر في الربع الأخير من القرن
التاسع عشر شكلاً محددًا على يد الشيخ محمد عبده , قاصدة إلى تحرير الإسلام من
القيود التي كبله بها التقليد المتحجر , وإلى الإصلاح الذي يجعل هذا الدين قادرًا
على مسايرة الحياة العصرية , وهكذا نشر محمد عبده في مصر روح أستاذه جمال
الدين ومثله العليا، وعمرت هذه الحركة في مصر إلى وقتنا الحاضر , تاركة
آثارها في شتى الميادين , كما لاقت آراء الشيخ محمد عبده أذنًا صاغية بين
الطبقات المثقفة في مصر وغيرها من الأقطار الإسلامية , فتقبلوها بقبول حسن.
وكان السيد محمد رشيد رضا - السوري الأصل - مقدم تلاميذ الشيخ محمد عبده،
فلما قبض الشيخ الإمام ظل رشيد رضا الأمين على رسالته , والشارح لتعاليمه ,
وهو مؤسس مجلة (المنار) المشهورة، التي أصبحت بعدُ لسان الدعوة لآراء
الشيخ محمد عبده , ومعقل الكفاح لتحقيق إصلاحاته. وهناك مدرسة ثانية من
المجددين تأثرت بعيدًا بحركة الشيخ محمد عبده بين رجالها , أمثال قاسم أمين ,
وفريد وجدي , وعلي عبد الرزاق (مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكم) وغيرهم
من كبار الرجال.
وإنا لنلمس آثار جمال الدين الأفغاني في الأجزاء القاصية من العالم الإسلامي ,
كروسيا مثلاً؛ حيث هبَّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مصلح مشهور ,
هو إسماعيل جاسبرنسكي محرر جريدة (ترجمان) الصادرة في بلاد القرم،
والذي دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي عالمي لبحث المسائل المتعلقة بالحركة
الإصلاحية الإسلامية.
إذا نظرنا إلى الحال اليوم، رأينا الإسلام يواجه أزمة اختلف في تأويلها
المفكرون المسلمون والغربيون، قال السير محمد إقبال:
(إن الملاحظ السطحي للعالم الإسلامي الحديث هو وحده الذي يعتقد أن
الأزمة الحالية في هذا العالم الإسلامي إنما ترجع إلى أيدي القوى الأجنبية) .
(إن مسألة ما إذا كان الفرد مسلمًا، هي من وجهة النظر الإسلامية مسألة
شرعية صرفة , يحكم فيها على أساس المبادئ الرئيسية للإسلام , وما دام الفرد
مؤمنًا بالمبدئين الرئيسيين: وحدانية الله ورسالة نبيه، فلا يستطيع أحد - حتى
أكثر الملوية تحرجًا - أن يخرجه من حظيرة الإسلام، على الرغم من فهمه
للشريعة أو لنص القرآن فهمًا يُعتقد فيه الخطأ. لقد عانى الإسلام جحودًا كبيرًا ,
وآن للمسلمين أن ينظروا إلى الحقائق، إن المادية سلاح خطير ضد الدين؛ ولكنه
ناجع مستحب إذا جُرد على الطرق الملوية والطرق الصوفية التي تشعوذ على
الرَّعاع، مستغلة جهلهم وسرعة تصديقهم. إن روح الإسلام لا تخشى شيئًا من
احتكاكها بالمادة، وفي الحق إن القرآن يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77)) .
(إن من الصعب على غير المسلم - إذا اعتبرنا تاريخ العالم الإسلامي خلال
القرون الأخيرة - أن يدرك أن التقدم في النظرة المادية لا يعدو أن يكون ضربًا من
تحقيق الذاتية) .
ومن ناحية أخرى نجد روم لاندو يصف تأثراته حيال الروح الحية التي
تسري في مصر اليوم:
(إن مصر الحديثة تقتبس اليوم عن أوروبا بسرعة تواقة , طامحة إلى أن
تلحق بالغرب في مضمار المدنية الحديثة , ترى في الوقت عينه - وعند الشباب
بخاصة - قومية متطرفة , تتخذ في بعض الأحيان شكل العداء لكل ما هو أجنبي،
وما كان هذا النوع من القومية داعيًا إلى الأسف، فذلك شيء طبيعي عن شعب حاد
المزاج، يطمح أن يرى بلاده مستقلة بعد مئات السنوات من السيطرة الأجنبية) .
(إن معضلة الطالب المصري تكاد تكون عين معضلة الروح المصرية
الحديثة، كلاهما يجتاز الآن مرحلة انتقال، وفي كليهما اللهفة، والنزق، وغرور
الشباب، وحساسيته. إن العناصر الروحية والمادية والدينية والقومية تختلط جميعًا
إلى درجة لا يرجى معها حل للمعضلة عن طريق نوع بعينه من هذه الإصلاحات،
ورجال السياسة المصرية لم يعتمدوا في يوم على معاونة زعماء الدين والفكر
معاونة فعالة اعتمادهم في يومنا هذا؛ لأنه ليس من ناقد نزيه يعتقد أن معضلة
الشباب المصري يمكن حلها دون إصلاح روحي عميق، يشمل تأثيره الشبان
ويعدوهم إلى الزعماء السياسيين) .
فإذا عرفنا أن التطور في البلدان الإسلامية كان دائمًا على أساس الدين (ولا
يمكن أن يكون إلا كذلك) اتضح أن إصلاحًا روحيًّا كالذي يتكلم عليه روم لا ندو لا
يتوفر إلا عن طريق تثقيف شباب الإسلام تثقيفًا دينيًّا صحيحًا.
إن نشوة القومية في البلدان الإسلامية يجب أن ينظر إليه (كرد فعل) دفاعي
ضد الاستيلاء الغربي , وكنتيجة للاعتقاد بأن التحرر الكامل من الغرب سياسيًّا ,
واقتصاديًّا , واجتماعيًّا شرط أساسي لنهوض الإسلام. وهكذا كان من الطبيعي
للأقطار الإسلامية في هذا الدور من نشوئها أن ترى في القومية مصدر قوة وسلطان،
ومهما كان فإن هذا المظهر الانتقالي من القومية لا بد أن يفسح المجال يومًا
لضرب من (جامعة أمم) إسلامية , مؤسسة البنيان على قواعد روحية. إن
المسلمين لا يستطيعون أن يفرطوا بتراث ثقافتهم الروحية العظيمة لمجرد تقليد
القومية الأجنبية في مظهرها الحالي , فالنتائج المضرة لهذا النوع المتطرف من
القومية أوضح من أن تؤكد.
بيد أن بلدان الإسلام - بالرغم من هذه القومية التي تطغى عليها - تظل في
الحق أكثر تجانسًا , وأبعد وحدة ثقافية من دول أوروبا , ففي شطر كبير من العالم
الإسلامي - أعني في الشرق العربي - تسود لغة واحدة للتخاطب والكتابة , ذات
تراث أدبي وفلسفي غني جدًّا , ويستطيع أن يدرسها بسهولة المثقفون في العالم
الإسلامي كله، تلك هي اللغة العربية، اللغة المشتركة لستين أو سبعين مليونًا من
الناس من مراكش إلى الخليج الفارسي , وهي تحتل اليوم في الأهمية المرتبة
الرابعة بين لغات العالم , كما أنها اللغة الدينية للعالم الإسلامي قاطبة، على حين أن
اللاتينية - وقد كانت في العصور الوسطى لغة مشتركة بين العلماء الأوروبيين -
لم تعد منذ زمان واسطة التعبير، وليس بين اللغات الحية واحدة لها حظ في أن
تصبح اللغة المشتركة في أوربا , بيد أننا لا يجب أن ننسى أن الدعاية القومية -
مع تأكيدها على الفروقات اللغوية - تجعل هذا التطور بعيد الاحتمال في الوقت
الحاضر.
أما الفروق في النواحي الأخرى - أعني في نسيج المجتمع، والمثل العليا
السياسية - فالفروق بين مختلف أجزاء أوروبا أكبر بكثير منها بين مختلف أجزاء
العالم الإسلامي , فالعالم الإسلامي أقرب إلى أن يكون وحدة - وبخاصة في مزاياه
الاجتماعية والثقافية ومؤسساته - من أوربا كلها.
إن من الخطأ أن نزعم أن المثقفين من المسلمين، والطبقات الرفيعة في
المجتمع الإسلامي قد أخذت في الابتعاد عن الدين، أو عدم الاكتراث به بداعي
الإقبال على الحضارة الأوروبية والنسج على على منوالها، بل إننا ليمكننا أن
نذكر دليلاً واحدًا يؤيد العكس، وذلك في مصر حيث تزدهر حركة عظيمة للإحياء
الديني إلى جانب حركة اقتباس الحضارة الغربية، فمجلة (الرسالة) - وهي
مظهر التقدم للفكر العربي الحديث، والثقافة العربية الحديثة - تنشر في كل عام
عددًا خاصًّا بذكرى العام الهجري الجديد، يمده زعماء الفكر - وبينهم رجال
المدرسة الجديدة - بمقالات في الموضوعات الإسلامية تظهر بوضوح روح
احترامهم لشخص النبي وللقرآن، وهكذا فالتوفيق الظاهر بين الحركة الإصلاحية
الدينية وبين النظريات القومية، هذا التوفيق الذي يكون اليوم عاملاً قويًّا في نهوض
الأقطار الإسلامية، يجب أن ينظر إليه - كما ألمحنا - كظاهرة زائلة لا تتعارض
مع النزعة إلى إحياء ديني خالص. وفي الحق أن في العالم الإسلامي اليوم جهودًا
فردية تحاول أن تنظر إلى الدين نظرًا صحيحًا، ولكن أصحاب هذه الجهود جميعًا
يدركون ضرورة الإخلاص للقرآن والحديث , وليس هناك مسألة إصلاح ديني على
أساس مذاهب أو (كنائس) مستقلة كما كان الحال في الغرب؛ لأنه ليس في
الإسلام مكان لعقيدة (الكنيسة) هذه، إن الإسلام اليوم - وغدًا - لن يقف في وجه
التطور الإسلامي فحسب، بل سيكون هو ملهم هذا التطور، وبكلمة ثانية، فإن
الصبغة الدينية تطبع التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية كلها. إن الرابط
الديني، وهو أعمق ما يشد بين الشعوب الإسلامية على رغم الفروقات العنصرية
واللغوية، سيظل الأساس لتطور البلدان الإسلامية الاجتماعي، وهكذا تزداد
المعتقدات الدينية قوة على قوة لدى الأفراد، ولدى الأمة كمجموع.
(المحرر)
ننشر هذا المقال، وندع للكاتب رأيه الخاص في الأشخاص والحوادث التي
ورد ذكرها فيها، ولكنا نستخلص منها هذه الحقائق، التي نريد أن ينعم النظر فيها
دعاة النهوض والإصلاح.
(1) إن المسلمين الآن قد خالفوا تعاليم الإسلام الصحيحة.
(2) إنهم بذلك ليسوا على نهج أسلافهم.
(3) إن طبيعة الإسلام تأبى السبات والركود، فلا يأس من الإصلاح.
(4) إن فكرة القوميات في بلاد الإسلام - أنى كانت - رد فعل للتعصب
الأجنبي.
(5) إن التطور في البلاد الإسلامية كان دائمًا على أساس من الدين (ولا
يكون إلا كذلك) .
(6) إن الإتجاه الديني اليوم قوي، حتى بين من تثقفوا ثقافة أوربية بحتة.
(7) إن الرابط الديني سيظل دائمًا هو الأساس والملهم للنهضة الحديثة.
... ... ... ... ... ... نقلا عن مجلة (الإيمان) البيروتية
* * *
من خطبة لمستر ماكدونالد وزير المستعمرات الإنجليزية
(إن العالم الإسلامي دخل في مرحلة جديدة، بقوته المتزايدة، وبكل ما
يتضمنه الدين الإسلامي العظيم من قوة مضافًا إلى التعاليم الحديثة، إن تطورًا
جديدًا قد طرأ على العالم الإسلامي، وهو تطور يجب أن نحسب له حسابًا دقيقًا) .
_______________________(35/49)
الكاتب: عبد السميع البطل
__________
صاحب المنار
السيد محمد رشيد رضا
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ
مُّبِينٍ} (يس: 12) .
مات السيد رشيد رضا، فمات بموته المنار، ونعاه الناعون مع نعيه، وأبَّنه
المؤبنون في حفلة تأبينه، واقترن الأسى على حرمان المسلمين من المنار، بالأسى
على منشئ المنار، وقد مضى أربع سنين خفت فيها ذلك الصوت المدوي الذي كان
يملأ طباق الأرض، وخبا النور الذي كان يشع في الشرق والغرب، أربع سنين
عسعس ليلها، وحار دليلها، ومل حذاقها، حتى إذا استيئس الركب، وظنوا أنهم
قد أحيط بهم، لمع لهم نور (المنار) من مشرق جديد، يبدد الظُّلَم، ويكشف الغمم،
ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيط قلوبهم.
ولقد طالما قال القائلون إن أعمال المسلمين يقضى عليها بالفشل، تموت
بموت أصحابها فلا تحس لها وجودًا، ولا تسمع لها ركزًا، مات (المؤيد) بموت
الشيخ علي يوسف، ومات أمين الرافعي فماتت (الأخبار) بموته، ومات السيد
رشيد فوُدع المنار يوم وداعه، ومات صاحب (الأهرام) فهل أثر موته في انتشار
الأهرام؟ ومات جورجي زيدان منشئ (الهلال) فلم يحُل موته دون ذيوعه واطراد
نموه، ومات الدكتور صروف أحد أصحاب المقطم والمقتطف فلم يفتَّ الوهن في
عضد شريكه، وظل في مده وفراهته.
ألا فليطمئن هؤلاء بالاً، فقد شذت القاعدة، وانخرقت العادة، وانبعث
(المنار) من مرقده، وعاد إلى الظهور وضَّاح المحيَّا، باسِم الثغر، يستأنف جهاده
ويتمم رسالته، ويحتضنه جماعة الإخوان المسلمين المنبثين في العالم الإسلامي
بحرارة إيمانهم، ودافع غيرتهم، متكئين على ماضي (المنار) المجيد وسمعته
الغراء، مترسمين خطا منشئه العظيم في إخلاصه وبلائه، وصبره وأناته،
مغترفين من فيض حكمته، مقتبسين من أنوار معارفه؛ فلقد كان - رحمة الله عليه-
أمة وحده، وكان حجة من حجج الله على عباده، حتى لقد أتعب من بعده، وظل
الفراغ شاغرًا فلم نجد من يسد مسده، وأحجم كل من تقدمنا إليهم في المعاونة على
استمرار (المنار) ، معتذرين بعظم المسئولية، وعدم استكمال الأدوات، يستوي
في ذلك علماء مصر الأعلام، وغيرهم من علماء الإسلام، وأذكر هنا كلمة
المرحوم الشيخ حسين والي - من كبار علماء الأزهر المشهورين - التي قالها لنا
أيام المأتم ونحن نتذاكر الأمر: (إيتوني برجل اجتمع فيه علم السيد رشيد وصلاحه،
وإخلاصه، وصبره، وثقة العالم الإسلامي به، وأنا أضمن لكم استمرار المنار) .
وقال نحو ذلك الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار، وكان الذين
يتمنون هذه الأمنية، إنما قصارى أمنيتهم أن يكون المنار الجديد صدى المنار القديم،
حتى لا يسكت ذلك الصوت الصارخ، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة.
ولا شك أن المؤمنين سيفرحون بنصر الفكرة، وتحقيق الأمنية، وسيتقبلون
المنار بقبول حسن، وسيرحبون بمبادئ الإسلام الصحيحة قبل أن تتناولها أيدي
التحريف، وتلعب بها رياح التضليل، وسيحملهم ذلك الحرص على الرجوع إلى
مجلدات المنار القديمة، بل الرياض النضيرة، يتفيئون ظلالها. ويقطفون ثمارها،
وإن جناها لدانٍ، وإنه لمستساغ في اللها.
ولما كان المنار الجديد سيعرف قراء جديدين، وستتناوله أيدٍ جديدة، وسينضم
له أعضاء جدد، كان من المستحسن أن نقدم لهم ترجمة مختصرة عن صاحب
المنار: نشأته، وإصلاحه، وآثاره، وسائر ما يتصل بذلك؛ لتكون نورًا بين يدي
القراء، فإلى اللقاء.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
_______________________(35/61)
الكاتب: أحد علماء الأزهر
__________
فلسفة النفاق
المنافقون في فلسطين وحكمهم
بقلم أحد علماء الأزهر الفضلاء
{بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ
المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) .
تنادى الناس في فلسطين إلى الدفاع عن أنفسهم، والذود عن بلادهم، والجهاد
في سبيل الله، فنفر فريق بنفسه، وأعان فريق بماله، وساهم فريق بجهده،
وقعد المخلفون.
والمخلفون عن الأمة في كل زمان هم المنافقون فيها، يتخلفون عن جماعتها،
ويخرجون على أمرها، ويقعدون عن نصرتها، ويعملون على خذلانها، ويتولون
أعداءها؛ ذلك أن الإيمان لم يدخل قلوبهم، والإخلاص لا يجد سبيلاً إلى نفوسهم،
والخير بعيد عنهم، والشر قريب منهم، فهم أعداء الله والناس وأعداء أنفسهم لو
كانوا يعلمون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون: 4)
هؤلاء المخلفون هم الثلمة التي ينشدها أعداء الأمة في صفوفها المتراصة،
يبصرون منها عوراتها، ويستطلعون أخبارها، ويستكشفون أسرارها، وينفذون
منها إلى معاقلها الحصينة، وحصونها الأمينة، وهم مطايا الاستعباد، ونذر السوء،
وأبواق الشر، وعون العدو؛ ينال بهم ما لا يقدر على نيله بقضه وقضيضه،
وعدته وعديده.
لقد هب الناس جميعًا في فلسطين لدفع كارثة التهويد والاستعمار عن بلادهم،
ورفع الظلم النازل بهم، ونفروا خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يبق
منهم من لم يساهم في هذا السبيل بنصيب كثير أو قليل، إلا أولئك المخلفون
الخائنون، الذين طبع الله على قلوبهم، واستحوذ الشيطان على عقولهم، فانحازوا
إلى العدو، وقعدوا عن نصرة بلادهم، وفرحوا بمقعدهم وراء العاملين المجاهدين
من أمتهم، يتربصون بهم الدوائر، ويترقبون بهم النوائب، وإن تمسسهم حسنة
تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها، تقر أعينهم بما تفيض له أعين الناس
بالدمع، وتُسر أنفسهم بما تذهب أنفس المؤمنين عليه حسرات، يرون - وقد أعمى
الله بصائرهم، وأمات الفسق ضمائرهم - في ضعف أمتهم قوة لهم، وفي ذلها
عزهم، فهم دومًا يسلكون سبيلاً غير سبيلها، وهم أبدًا يعملون مع عدوها.
هذا هو حال أولئك المخلفين المنافقين في فلسطين اليوم، وكذلك حالهم في كل
زمان، وكذلك يكونون في كل أمة، يدخلون في عدادها وهم أعداؤها، وينتمون
إليها وليسوا منها، وكما في الحيوان والنبات طفيليات تعلق بجسمه وتلصق به
فتأكل غذاءه، وتتنفس هواءه، وتزاحمه في معايشه، وتعوق نموه، فيؤدي ذلك
إلى ضعفه ففنائه.
كذلك في البشر طفيليون هم هؤلاء المنافقون، يعملون في الإنسان عمل ذلك
الحيوان والنبات، حذوك النعل بالنعل.
وكما يعمد صاحب البستان في تعهد نباته إلى المبادرة بإزالة هذه الطفيليات
عنه، والمسارعة في إفنائها استبقاء له، وحفظًا لثمره، كذلك يفعل الناس بالمنافقين
الخائنين منهم، يعمدون إلى إزالتهم، ويعملون على إبادتهم؛ كيما يحفظوا أممهم،
وتسلم لهم نفوسهم وجهودهم.
ولئن كان الناس منذ القديم يرون في أعمال هؤلاء أعظم الضرر وأسوأ
الجريمة، ويعدون فعلتهم خيانة عظمى لا تعدلها أية خيانة، ويجعلون جزاءها
الموت، فكذلك كان حكم الله عليهم، وكذلك كان قوله فيهم إذ يخاطب رسوله بشأنهم،
فيقول: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً*
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 60-
62) . فالله سبحانه حين ينذر هؤلاء بإغراء رسوله بهم، وبإخراجهم من البلاد فلا
يجاورونه فيها، ولعنهم وطردهم من رحمته، فهو يطالب بتعقبهم داخل البلد
وخارجها، وأخذهم أينما وجدوا، وأن يقتلوا تقتيلاً؛ ذلك أنهم حيث ما كانوا لا
يدخرون وسعًا في أذية أمتهم، والكيد لقوتهم، وموالاة أعدائهم.
وتلك سنة الله في الخائنين من خلقه من قبل ومن بعد، وذلك حكمه في كل
زمان على المنافقين، وعلى الذين في قلوبهم مرض من فجور وفسق يصدهم عن
رضاء الله، وصالح قومهم؛ حبًّا لذاتهم، واتباعًا لشهواتهم، وذلك حكمه أيضًا على
الذين يرجفون حول المؤمنين، فيشيعون أخبارًا سيئة عنهم، ويقومون بالدعايات
المضلة ضدهم؛ لإضعاف شأنهم وتوهين قواهم، وتثبيط عزائمهم كما يفعل
الخائنون المنافقون في فلسطين اليوم.
وما أشبه حال المنافقين اليوم حين أدلى كبيرهم بحديث لبعض الصحف
المصرية، يقول فيه: (لو كنا نعلم أن هذه الثورة تقوم ضد الإنكليز واليهود
لساهمنا فيها؛ ولكنها تقوم ضد العرب أنفسهم) . ما أشبه ذلك بحال المنافقين في
عهد رسول الله فيهم {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ
بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) .
بل ما أشبه هؤلاء الخائنين في فلسطين إذ تخلفوا عن المؤمنين في قتالهم
وجهادهم، وقعدوا من ورائهم يعوقون الناس عن الجهاد بشتى الوسائل، ويخوفونهم
بأس العدو وقوته، ما أشبههم بأسلافهم المنافقين الأولين، الذين يقول الله فيهم حين
تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله والمؤمنين: {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ
رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي
الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: 81-82) ، إلى أن يقول تعالى في الحكم عليهم:
{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي
الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 84-85) .
وكما أصدر أحد أئمة النفاق بيانًا أسماه الناس (الورقة الصفراء) لما فيه من
صفرة الخيانة، تودد فيه إلى اليهود، وتغنى بمحاسنهم، ورحب بهم أن يكونوا
أصحاب البلاد، في حين يريد المؤمنون إخراجهم منها، ومَنَّاهم بانتصار حزبه -
حزب الشيطان - لهم، وأغراهم بأن يكون عونهم ليشبع جشعه من أموالهم، فكذلك
قال أسلافه المنافقون لليهود السالفين حين عمل المؤمنون على إخراجهم من المدينة،
وكذلك وعدوهم ومنوهم، فقال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} (الحشر: 11-12) .
ذلك بعض ما يقوم به في فلسطين المنافقون الخائنون، الذين يتولى زعماؤهم
بأنفسهم أكبر أعمال الخيانة لقومهم، والتجسس للعدو عليهم، والإغراء بالمجاهدين
العاملين، والدلالة على معاقلهم ومواطنهم، والإرشاد إلى أماكن أسلحتهم وذخيرتهم،
والمساعدة على قتلهم وتعذيبهم مع أولادهم ونسائهم، وهدم مساكنهم، وإتلاف
مؤنهم وأموالهم، كما صنعوا في قرى بيت فجار، وكفر مالك، وحلحول،
والمزرعة الشرقية، وبيت ريما، وغيرها من القرى والمدن العربية؛ يبتغون بذلك
العزة عند العدو، ويطلبون الرفعة لديه {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) .
إن ما يقوم به هؤلاء المنافقون من فساد في الأرض وحرب لله ورسوله،
فليأذنوا إذن بحرب من الله والمؤمنين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ
أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) .
ذلك حكم الله على المنافقين المخلفين الخائنين، وذلك قوله فيهم ومن أصدق
من الله قولاً؟ ! ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون؟ !
فليحذر المؤمنون في فلسطين هؤلاء المنافقين، ولينفذوا حكم الله فيهم، من غير
أن تأخذهم بهم رأفة أو تعصمهم منهم صلة وقربى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَ تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 20-22) .
__________(35/63)
الكاتب: محمد عبده
__________
كلمة الأستاذ الإمام في المنار
وقد شكا المغفور له صاحبه من قلة الإقبال عليه
الناس في عماية عن النافع، وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم
يشرعوا بالاشتراك في المنار، فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير
الحاضر بما هو أصلح للآجل، وأعونه على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك
الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا
يضعف الأمل في نجاح العمل.
_______________________(35/67)
الكاتب: عبد الظاهر أبو السمح
__________
المنار والإصلاح
بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الظاهر أبو السمح
إمام الحرم المكي
كانت مجلة المنار مجلة إصلاح إسلامي لا يجاريها في مضمارها مُجَارٍ، ولا
يسبقها في حلبتها سابق، كانت تُعْنَى بتفسير القرآن الكريم وشرحه من السنة
المحمدية على طريقة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه بالله؛ فبعد أن
تُقَرِّر المعنى تفضِي بما في الآيات من العبر، مقارنةً بين ما كان عليه المسلمون
الأولون وتمسكهم بالقرآن وعملهم به، وما عليه مسلمو هذا الزمان، مهيبةً بهم،
منذرةً لهم، مبينةً ما يحدثه المبتدعون في الدين من البدع، مجليةً شُبه الضلال
والملحدين من الأمة بالأدلة الواضحة والحجج الساطعة، وكان صاحبها أستاذنا
العلاّمة السيد رشيد - رحمه الله - لا يخشى في الحق لومة لائم ولا سطوة حاكم،
ولا يجامل صديقًا، ولا يصانع عدوًّا، ولا يرعى غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره،
وكانت خاتمته الحسنى ما علمه الخاص والعام مما انتهى إليه تفسيره {رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) يا لها
من خاتمة حسنى! وموقف جميل! لم يكن إلا بتوفيق من الله لعبد رضي الله عنه
وتولاه، وأدخله في عباده الصالحين وأوليائه، ولما توفي السيد - رحمه الله - قلت
وقال الناس معي:
شعلة أطفئت وشمس توارت ... وكأن الحياة لمع سراب
ووقف المنار , وتوارى عن الظهور وخلا الكرسي , ولم نجد من يملؤه بعده ,
ولا من يسد مسده ذبًّا عن الإسلام , ودرءًا لشبهات , وبيانًا لحقيقة الإسلام , حتى
مضت ثلاث سنين أو أكثر ونحن ندعو الله أن يهب الإسلام مرشدًا رشيدًا يضيء
النهج وليل الجهالات قاتم , وكأن الله سمع دعاءنا , فقيض لمجلة المنار من يبعثها
بعثًا جديدًا، مصقعًا إذا خطب، مدرهًا إذا كتب، ذكي الفؤاد , قادرًا على حمل
الأعباء، عالمًا ألمعيًّا وشجاعًا عبقريًّا , ذلك هو الأستاذ المرشد الجليل الشيخ حسن
البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين - حفظه الله، فنهنئه بهذا التوفيق،
ونهنئ مجلة المنار وقراءها بتولي حضرته رياسة تحريرها , ونسأل الله له التوفيق
والسداد والعون على القيام بها.
وقد انتدبني حضرته للكتابة فيها بحسن ظنه، وما كنت لأخالفه، لولا أشغال
كثيرة وأعمال متواصلة تستنفذ الوقت كله؛ ولكن لا بد من تلبية الطلب كلما وجدت
إلى ذلك سبيلاً بحول الله وقوته - وإن كنت مزجى البضاعة عاجز اليراعة، والله
المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسيكون موضوع كتابتي - إن شاء الله - الكتاب والسنة، والدعوة إلى الله،
والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا
بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو السمح
__________(35/68)
الكاتب: حسن البنا
__________
لماذا تأخر المسلمون
ولماذا تقدم غيرهم؟
هذا سؤال طالما ردده المصلحون , وكثيرًا ما حاروا في الإجابة عنه وعظمت
دهشتهم حين رأوا المسلمين ينحدرون إلى هوة الضعف والاستكانة مع كثرة عددهم
وخصب أرضهم وتعدد وسائل النجاح عندهم.
وقد أجاب على هذا السؤال عطوفة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر
المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) إجابة شافية جامعة مانعة , وأبان بأنصع برهان وأقوى
دليل أسباب نجاح المسلمين الأولين وفشل المسلمين الآخرين , وكشف عن سر تقدم
الغربيين واليابانيين. والكتاب في بابه حجة دامغة، وصفحة مجيدة، وليس لمسلم
غناء عنه، فنشكر لعطوفة الأمير عمله العظيم، ونحض جميع المسلمين على قراءة
كتابه النافع، وهو يباع بمكتبة الحلبي بجوار المشهد الحسيني، وثمنه خمسة قروش.
__________(35/69)
الكاتب: عيسى عبده
__________
اتجاه محمود في الشرق العربي
بقلم الأستاذ عيسى عبده
المدرس بمدارس التجارة المصرية وعضو بعثة المعارف بمنشستر
أرى في أيامنا هذه اتجاهًا طيبًا يتخذه بعض إخواننا في مصر وغيرها من
البلاد العربية، وسيلتهم فيه البحث العلمي المستنير، وغايتهم خدمة السواد من
أممنا العربية. هذا السواد هو من غير شك أولى الناس بجهودنا نبذلها في سبيل
التخفيف عنهم اليوم، وإسعاد أبنائهم في الغد القريب، على أننا لا نزال في أول
الطريق؛ فقد بدأنا بدراسة شئون العامة دراسة تمهد للإصلاح المرتجى، من ذلك
ما يقوم به الأستاذ عمار بجامعة منشتستر، والدكتور الشافعي بجامعة فؤاد بالقاهرة،
والبروفسور تود بجامعة بيروت، والمستر بتلر رئيس المكتب الدولي للعمل
بجنيف، وكلهم تناول شئونًا شرقية أو مصرية بحتة. ولكن الناظر في الشئون
الشرقية والعربية من نواحيها الاجتماعية يجد ظواهر مشتركة بين الأقطار جميعًا،
وهذا أمر طبيعي في بلاد جميع بينها منذ ثلاثة عشر قرنًا أو تزيد وشائج لا تهن ولا
تضعف، أساسها وحدة الدين واللغة، وبعض آثارها هذا الذي نرى من وحدة الألم
والأمل، فمن وصف بعض هذه الأقطار فقد عرف عن بعض ما دام وصفه يتصل
بالنظم الاجتماعية.
وحديثنا اليوم يتناول فريقًا كبيرًا من سكان مصر، ولي منه غرضان: أولهما
أن يكون دعوة إلى الشباب المثقف في الأقطار العربية كافة أن يقوم بعض القادرين
منهم بمثل البحوث التي قام بها الغرب من زمن، والتي بدأتها مصر مؤخرًا.
وثاني الغرضين أن أبين ما ينتظر منا - نحن المتعلمين - من مساهمة في
حركة الإصلاح. حين درست أحوال العمال منذ عامين تقريبًا تكشفت أمور قد
تغيب عن بعضنا، وقد يتجاهلها بعض آخر، سأذكر بعضها تزكية للدعوة التي
أوجهها إلى كل عربي، فالحال في بلادنا كما قدمت واحدة.
طبقة الأُجراء في مصر تشمل العامل الصناعي والعامل الزراعي ومن عداهما
من الأُجراء، وتكوِّن الغالبية العظمى من الشعب، ولئن كانت البيانات التي اعتمدنا
عليها في كلمتنا هذه قد جمعت من نحو (800) ثماني مائة أسرة من أسر العمال
المقيمين في القاهرة، فإنها تعين على تكوين صورة صحيحة عن حال الأجير بوجه
عام، مع تحفظ واحد هو أنها أشبه بالحال في المدائن دون القرى , فإذا أردنا أن
نرى خلالها بيت العامل الزراعي وعيشه وجب أن نزيد من ألوانها القاتمة.
حياة العامل:
يبدأ الكثير من العمال في سن مبكرة هي الخامسة عشرة , هذا إذا تجاوزنا
عما هو سائد في القرى من استغلال الأحداث في أعمال لا تتطلب جهدًا كبيرًا؛
ولكنها رغم بساطتها تعوق نموهم , وتفوت عليهم فرصة تحصيل المبادئ الأولية
التي لا غنى عنها لأبسط طبقات الشعب, على أن هذه الحال تتبدل اليوم إلى ما هو
خير منها فلنتركها جانبًا , ولنحصر القول فيمن تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر
عامًا وستين عامًا , هؤلاء موزعون كما يلي:
نسبة من لا تبلغ أعمارهم 20 عامًا من العمال 8 في المائة , ومن السكان 16
في المائة.
ونسبة من لا تتراوح أعمارهم بين 20 و39: من العمال71 في المائة , ومن
السكان 56 في المائة.
ومن تتراوح أعمارهم بين 40 و 49: من العمال 16 في المائة، ومن السكان
18 في المائة.
ومن تتراوح أعمارهم بين 50 و 59: من العمال 5 في المائة، ومن السكان
10 في المائة.
أما الذين يتخطون الستين من بين العمال فلا يزيدون على اثنين من كل ألف ,
ونظيرهم من السكان خمسة من كل ألف , ولقد حسبت هذه النسب على عدد
الذكور دون الإناث؛ فما يزال العرف في مصر والشرق يجري على أن كسب
العيش من وظائف الرجال.
لبعض هذه الأرقام دلالة قوية جدًّا , فنسبة الشباب الذي تتراوح سنه بين
العشرين والأربعين والذي يستأثر به العمل أكبر من نظيرتها في سائر نواحي
النشاط الاقتصادي، كوظائف الدولة والمهن الحرة؛ من أجل ذلك جاز لنا أن نقول
: إن ما يصيبه هؤلاء من عيش ضنك له أسوأ الأثر في القوى الحيوية للشعب كله.
انظروا إلى الباقين منهم بعد سن الخمسين في معترك الحياة، تجدوهم خمسة من كل
مائة، إذن هذا العدد الضخم من الشبان الأجراء البالغين واحدًا وسبعين في المائة
من عدد العمال , والذين تتراوح أسنانهم بين العشرين والأربعين عامًا يخرجون من
ميدان العمل خلال الحلقة الخامسة من أعمارهم إلا عددًا منهم قليلاً , ولقد أثبت
البحث أن عدد من يخرج منهم بالترقي إلى مصاف أرباب الأعمال، أو مستندًا إلى
ثروة جمعها , أو إلى ولد قادر يكفيه مشقة العمل في سن متأخرة قليل جدًّا، وأنه
أولى بالإغفال، وهكذا تبقى أسباب الخروج من العمل منحصرة في الموت والعجز.
هذه الظاهرة المحزنة إنما هي نتيجة طبيعية لظروف العامل في حياته الخاصة،
وسنرى أنه في حياته القصيرة يرزح تحت عبئين مرهقين من إجهاد وحرمان.
تزايد السكان:
ربما بدا غريبًا بعد هذا الذي قدمنا أن يتزايد عدد الطبقات العاملة رغم عوامل
الفناء المحيطة بهم؛ ولكن للتزايد أسبابًا قوية؛ منها أن نسبة الزواج بين العمال
تبلغ 76 في المائة، وهي للسكان عامة 66 في المائة، ويبكر العامل بالزواج حتى
أن نسبة المتزوجين قبل سن الخامسة والعشرين تبلغ 10 في المائة، وهي نسبة
عالية لسن مبكرة في طبقات أجورها لا تفي الفرد فضلاً عن الأسرة، وهنا يجدر
أن نلاحظ ظاهرة تميز الشرق بصفة عامة عما عداه، تلك أن الزواج في معظم
الحالات لا يكون نتيجة لحاجة الرجل إلى من يدبر شأنه أو يهيئ له حياة منزلية
هادئة، فبين المتزوجين من العمال ستون في المائة يعولون قريبات لهم كوالدة أو
عذارى وأرامل من ذوي القربى، وقد كان لهؤلاء العمال من قريباتهم غنى من
ناحية الخدمة ودافع من ناحية النفقة على ألا يفكروا في الزواج في سن مبكرة،
ولكنهم يفعلون بدافع ديني، وهذه حال لا يمكن أن تستتبع اللوم؛ وإنما تستحق
العطف والتهذيب.
أما عدد الأطفال فكثير، ولما كان الزواج مبكرًا، فالعمال تبعا لذلك آباء في
سن مبكرة كذلك، فمثلاً بين العمال من سن العشرين نجد اثنين في المائة لكل منهما
ولد أو ولدان، فإذا بلغ الوالد سن الخامسة والثلاثين كان عدد الأبناء كما يلي:
من كل مائة من الآباء:
عشرون لكل منهم ولد واحد
وستة وعشرون لكل منهم ولدان
وسبعة عشر لكل منهم ثلاثة أبناء
وثمانية لكل منهم أربعة أبناء
واحد له خمسة أبناء
وواحد له ستة أبناء أو أكثر
أما إذا تمشينا معهم إلى آخر العمر فطبيعي أن تتزايد النسب الأخيرة , فتصبح
من كل مائة والد:
أربعة وأربعون لكل منهم ثلاثة أبناء
وأربعة وعشرون ... لكل منهم أربعة أبناء
وعشرة لكل منهم خمسة أبناء أو أكثر
كل هذا رغم ارتفاع نسبة الوفيات بينهم , واستئثارهم بموتى المواليد، ولولا
هذان العاملان لتزايدوا بأسرع مما ترى رغم الظروف القاسية التي تحيط بهم.
أشرنا فيما تقدم إلى أن 60 في المائة من أرباب الأسر يعولون إلى جانب أبنائهم
وزوجاتهم أقارب لهم عاجزين عن الكسب , هؤلاء من طرحتهم أمواج الحياة
صرعى جهاد ظالم يبعثون فيه بغير سلاح , آباء قضوا ربيع الحياة في خدمات لا
تعود عليهم إلا بما يمسك الحياة , فإذا أقبلت سنو المشيب - وهذه تبكر لأمثالهم -
أقعدهم العجز عن كل كسب , ونساء فقدن العائل بالموت أو بسواه، وورثن عنه
البنين دون المال. هكذا ينشأ الجيل الجديد مرهقًا بتبعات ثقال تنوء بالعصبة أولي
القوة , فيلتمس السلوى فيما يحط من قواه ولا يصلح له شأنه , ثم يدفع بولده جاهلاً
هزيلاً إلى معترك الحياة وهو بعد في مقتبل العمر، عساه يلتقط بعض الفتات فيعين
أسرته , وكذلك ينشأ نشأة أبيه , وإذا بالمأساة تتصل، وتتسق فصولاً من جديد , وقد
تبدل اللاعب وما أسدل الستار.
ساعات العمل:
يندر أن تقل عن ثماني ساعات في كل يوم , ونسبة ذلك 1 على 3 في المائة
من مجموع الحالات، وهي:
ثماني ساعات في 15 في المائة من الحالات.
وعشر ساعات في 70 في المائة.
وأربع عشرة ساعة في 5 في المائة.
وست عشرة ساعة في 10 في المائة.
على أن من هذه الحالات الأخيرة ما يبلغ 17 وأكثر.
الأجور:
منخفضة جدًّا، تبدأ بقرش واحد في اليوم للأحداث في بعض الصناعات،
وتزيد كلما تقدمت السن بنسبة لا تكاد تبلغ الثلث مما يجب أن تكون عليه الحال،
ونتيجة ذلك أن تتزايد التبعات ولا تنمو الموارد بالدرجة الكافية.
ولا يمنح العامل أجرًا عن يوم راحته , ولا مرضه، وأكثر الفئات شيوعًا هي
فئة العشرة القروش والخمسة عشر؛ إذ يتقاضى أجورًا تقع بين هذين الحدين 30
في المائة من العمالة. وعقود الاستخدام كلها رهينة الظروف، وأكثرها عقد يومي
يتجدد كلما تجددت الحاجة، ولهذا أثر سيئ.
فالعامل لا يرتبط بجهة معينة , وكل خدماته موزعة بين الناس، ومجهوده
السابق نَهْب الظروف المتقلبة من حوله، فإذا ما بلغ القمة من حياته أتقن عمله
وشارف أجره رقمًا عاليًا - يبلغ ثلاثين قرشًا في ثلاث حالات من كل ألف، ويبلغ
25 قرشا في 22 حالة من كل ألف - لم يستطع أن يحافظ على ما وصل إليه من
أجر عالٍ نسبيًّا؛ لأن رب العمل يتبدل، وقوى العامل تنحط مع الزمن، وله في
كل يوم سوق أصولها منبتة؛ ولذلك نرى الأجور العالية التي ذكرنا لا تكون إلا ما
بين العشرين والخامسة والأربعين من العمر، ثم تنحدر بعد ذلك، حتى إن أعلى
الأجور لمن تبلغ أعمارهم 50 عامًا أو يتخطونها عشرون قرشًا.
ولقد يلقى العامل من عنت رب العمل ضعفًا آخر، فيؤخر أجره ضمانًا
لمواظبته، أو يؤخره حتى يتوافر لديه مال حاضر.
المساكن:
هذه الأنقاض التي يزدحم فيها العمال إنما تسمى مساكن من باب التجوز،
ومن كانت حاله ما قدمت فأنى له المسكن الصحي؟ بحسبنا أن نذكر في هذا الصدد
أن إيجار المسكن يتراوح بين 30 قرشا و60 في معظم الحالات، وأن 35 في
المائة من الأسر تسكن كل منها غرفة واحدة أو أقل من غرفة؛ إذ تشترك أسرتان
أو أكثر في واحدة، وأن 65 في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفتين أو أقل،
أما الشمس والهواء والماء وسعة المسكن وأثاثه فلا محل لذكرها فضلاً عن بحثها.
آثار هذه الحال:
هي الآثار الطبيعية لمثلها؛ حياة قصيرة معتلة، وموت مبكر يخلف للأحياء
أعباء تعجل بدورهم، وإنتاج يدوي ضعيف، ومقدرة فكرية أضعف.
وأما المستوى الخلقي فتؤذيه هذه الحال أشد الإيذاء، وكيف تستقيم الحال في
أسر لكل منها مخدع واحد يضم الزوجين وخمسة أبناء أو سبعة منهم شباب وفتيات؟
وكيف نرجو طيب الخصال إذا انعدمت أسباب الثقافة والتربية والتهذيب، وثقلت
أعباء الحياة في وقت معًا؟
الذي أراه أن هذه الحال التي تعالج أخطر من أن نتناولها بالبحث النظري
لنقف عند حد البحث، ربما جاز هذا إذا كان الباحث لا تربطه بهؤلاء الناس
أواصر الأخوة وروابط أخرى لا تنفصم، أما وهم قومنا وإخواننا وأبناؤنا وآباؤنا
فعلينا ما هو أجدى من القول والبحث؛ علينا أن لا نكتفي باقتراح رفع الأجور
والموارد باقية على حالها، أو إدخال نظم التأمين والعامل لا يملك أسباب العيش
الخشن فضلاً عن نفقات هذه النظم، علينا - نحن معاشر المتعلمين - واجبان أحب
أن ننهض بهما اليوم راغبين، فهذا خير وأبقى، وهو أولى بنا من أن يضطر
إليهما أبناؤنا في غد كارهين؛ فأما الأول: فهو أن ننزل عن بعض نعيمنا
الشخصي في سبيل هؤلاء الذين طال حرمانهم صابرين.
فمثلاً إذا زيدت الضرائب على دخلنا من أجلهم دفعنا مغتبطين، وإن لم تزد
دعونا إلى هذا بما أوتينا من علم وبيان، وإن قلَّت رواتبنا من أجلهم كذلك قبلنا في
غير ضيق ولا حرج. وأما واجبنا الثاني: فهو أن ينبث بينهم القادرون منا على
معالجة الشئون الاجتماعية، ينظمون صفوفهم، ويرشدونهم إلى ما فيه خيرهم،
وهذا يتطلب تضحية بالوقت والمال في سبيل الدعاوة، والمعونة الأدبية والمادية.
ولنذكر جيدًا أن منا - نحن المتعلمين - من سينتظم في هذه الصفوف إن
عاجلاً أو آجلاً، وهذه بعض آيات الرقي في الأمم، فلنهيئ إذن الجو لصغار
إخواننا ولأبنائنا، وهذا دافع شخصي يضاف إلى ما تقدم من إيثار كريم.
كذلك فلنذكر أن هذه الجموع التي بدأنا اليوم نفكر فيها هي التي تمد الدولة
بأكبر عدد من الرجال، فتنتظم بهم صفوف الدفاع، وفي السلم كلما زادت كفايتهم
زاد الإنتاج الأهلي، وارتفع المستوى للخاصة والعامة، غير أن الخطوات الأولى
تتطلب كثيرًا من جهاد النفس وشجاعة الرأي، ولقد تخطت الحركة طور البحث
وتجاوبت أصداء الدعوات ... فلنكن ممن يبادرون بتلبية النداء.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عيسى عبده=
__________(35/70)
الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
__________
ظهور المنار ودلالته
لما توفي المغفور له السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار خشى المصلحون
أن يذهب المنار بذهاب صاحبه , ويخبو ضياؤه الذي لبث ثلث قرن يشع على العالم
الإسلامي علمًا , وثقافة , وفضلاً , وخيرًا , وبركة , ويضع العلامات في طريق
الجهاد الإسلامي ليسلك المجاهدون على بصيرة وعلم ونور.
وقد حدث ما خشي المصلحون , فإنه صدر من المنار بعد وفاة صاحبه بضعة
أعداد , ثم توقف عن الصدور , وخفت صوته المعروف الذي كان يملأ آفاق
الأرض , وخلا مكانه من الصف , وطويت أعلامه , وظن الناس أن لن يعود.
وكنا نخاطب عنه محبي الإصلاح ليتعاونوا على إصداره , ويجتمعوا على
إرجاعه سيرته الأولى؛ ولكنهم كانوا يعتذرون بأن هذا الأمر فوق طاقتهم , وأن
قوتهم وحالهم لا يسمحان بتحقيق هذه الأمنية العزيزة المرجاة.
وبينما الفضلاء في يأس من عودته؛ إذ تقدم رجل شاكي السلاح مدرع، قد
جمع في نفسه المؤهلات الكافية لخدمة الإسلام والحق والإصلاح، تقدم هذا الرجل
ورفع راية الإصلاح المناري , ونادى بأعلى صوته قائلاً:
أيها الناس إني - على بركة الله وبتوفيق من الله - أخذت على عاتقي إصدار
المنار الأغر؛ حتى لا يحرم المسلمون منه , ولا تنقطع عنهم فيوضاته , ولا
ينضب معين إصلاحه.
فتلفت الناس إلى المتكلم , فإذا هم يجدون الأستاذ حسن البنا المرشد العام
للإخوان المسلمين , والمصلح الذي وقف نفسه على نصرة الإسلام والمسلمين ,
فاطمأنت نفوسهم، وانشرحت صدورهم , وحمدوا الله - عز وجل - على فضله
ونعمته وآلائه.
وهكذا ظهر المنار بعد اختفاء , وأسفر بعد احتجاب , وكتب الله له الحياة على
يد من لا يريد لقومه إلا الحياة.
وإن لظهور المنار دلالة نحب أن نسجلها هنا بإيجاز , حتى يعرف القراء
الحقائق , ويكونوا على بينة من الأمر , ولا تأخذهم الحيرة مما يشاهدون , أو
يقرءون , أو يسمعون.
لما توفي صاحب المنار - رحمه الله تعالى - حزن محبو الإصلاح وأصابتهم
الحسرة على إغماد سيف كان يجاهد في سبيل الله ولا تأخذه في الحق لومة لائم؛
ولكن فريقًا آخر طرب وصفق وتبادل التهاني والتبريكات لزوال من كانوا يظنونه
عدوًّا لهم؛ لأنه يحارب تخريفهم ودجلهم وجمودهم , وقد جهروا فيما بينهم بانقطاع
المنار إلى الأبد , وأقاموا الحفلات لضعف أخلاقهم؛ فرجوع المنار يسر المصلحين
المخلصين , ويكبت الشامتين الضعفاء اليقين. ومن المشهور عندنا أن العمل
العظيم إنما يقوم به فرد , فإذا أفلت منه ذهب في طي النسيان , وهذا صحيح إلى
حد ما؛ ولكن حظ المنار كان طيبًا فكتب الله له البقاء , ولما هوت رايته، كان
هويها استنادًا وارتكازًا للراحة والاستجمام، تقدم فضيلة الأستاذ حسن البنا ورفعها
على القمة ليراها الغادي والرائح، فعلم الجمهور أن عمل الفرد المخلص لا يضيع
أبدًا , بل يقيض الله له من يحييه ويمده بما يعيد إليه الشباب ويقويه.
وكنا نسمع من كثير من الناس أن دعوة صاحب المنار لا تتعدى أفرادًا معينين،
ولا تصل إلى مدى يصح معه أن نقول بوجود الإصلاح في الأمة , ولكن الرغبة
الملحة في إصدار المنار وقيام رئيس الإخوان المسلمين بهذا الإصدار يدل دلالة
قوية على أن الإخوان - وهم ألوف كثيرة - يؤمنون بهذا الإصلاح ويفدونه
بالأرواح، وإذا عرف القراء أن الإخوان جمهرتهم من الشباب المثقف، علم علم
اليقين مقدار تغلغل الإصلاح الإسلامي العتيد في النفوس التي نرجيها لرفع شأن
الأمة، والدفاع عن ذمارها، وإعلاء مكانها.
هذه بعض أوجه الدلالة في ظهور المنار، يعلم منها أهمية العمل الذي أخذه
على عاتقه الأستاذ الكبير رئيس الإخوان المسلمين.
ونحن نقترح هنا ما يجب على القراء وعلماء المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها، ليؤدي المنار مهمته العليا النقية، ولينجح النجاح المرتقب له من كافة
المؤمنين المخلصين.
أما القراء، فالواجب عليهم أن يعاضدوه حسًّا ومعنًى , ويعاونوه بما في
جهدهم ليصول في ميدان الجهاد ويجول، ويشتد عوده في مقاومة كل ما يلحق
الأذى بالإسلام والمسلمين، ويرسل الجنود تلو الجنود تصرع أعداء الله، وتخذل
الذين يريدون الإسلام بسوء.
وأما العلماء المخلصون الذين أحبوا المنار وأشربوا في قلوبهم مبادئه السامية
وطريقته المثلى، فعليهم أن يحبوا المنار بعطفهم، ويمدوه بآرائهم الصائبة،
وأفكارهم المنيرة، ويستخدموا علمهم النافع في تقويته، وإنجاحه، وإكثار أركان
حربه.
ونحن نعلم أن محبي المنار الفضلاء الكاتبين منبثون في أنحاء العالم الإسلامي
من الصين شرقًا إلى مراكش غربًا، ومن التركستان شمالاً إلى جنوب إفريقية
جنوبًا، وهم - بتوفيق الله - في مكنتهم خدمة المنار الخدمة الجلى ليكون صحيفة
الإسلام العالية في الدين، والاجتماع، وشتى ما يحتاج إليه المسلمون.
ونعود فنهنئ فضيلة المرشد العام بما ندب نفسه إليه من خير وإصلاح، كتب
الله له النجاح، وأمده بروح من عنده، وأعانه على الجهاد في سبيل الله، والله
قوي عزيز.
... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
__________(35/77)
الكاتب: حسن البنا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني
(وكتاب بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني)
الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - إمام أئمة السنة حفظًا ورواية ودراية وفقهًا،
وجرحًا وتعديلاً.
ومسنده أوسع الأصول في الحديث وأعمها فائدة، والمسانيد موضوعة لحفاظ
الحديث، يشق على غيرهم الاستفادة منها، وقد كان الناس في حاجة إلى من يرتب
أحاديثه على أبواب كتب السنن؛ فوفق الله خادم السنة السنية الأستاذ الفاضل الشيخ
أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، فرتبه وسلك فيه سبيلاً لم يسبق إلى مثله.
وقد جعله أربعين جزءًا، كل جزء أربعة أقسام، وعد أحاديث كل كتاب
بالأرقام، واقتصر في السنة على اسم الصحابي، وقد صدر من الكتاب أحد عشر
جزءًا في أربعة وأربعين قسمًا، بحرف مشكول. وذُيل بشرح وجيز يبدأ فيه بذكر
السند، فتفسير غريب الحديث، فالضروري من معناه، فتخريجه.
فنحث المهتدين بالسنة على المبادرة إلى اقتنائه، وثمن الجزء منه 12 قرشًا.
* * *
الدين والعقل (أو) برهان القرآن
تأليف الأستاذ أحمد حافظ هداية
في استنباط براهين عقائد الإسلام من القرآن الكريم، مثبتة بأحدث النظريات
العلمية، يحتوي على مقدمة وسبعة أجزاء فيها نحو أربعمائة فصل، وقد قرظه
كبار علماء العصر. فنحث الجميع على اقتنائه، وهو ثلاثة مجلدات، قيمة الاشتراك
في المجلد الواحد 10 قروش قبل الطبع. وفي الكتاب جميعه 25 قرشًا. والثمن
بعد الطبع 45 قرشًا، وترسل الاشتراكات باسم المؤلف بدار الرسالة شارع المبدولي
رقم 34 بعابدين بمصر.
______________________(35/80)
رجب - 1358هـ
أغسطس - 1939م(35/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار منذ عشرين سنة
رجب سنة 1338 هـ
عاقبة حرب المدنية الأوربية
بقلم السيد محمد رشيد رضا
رحمه الله
كتبنا في أثناء هذه الحرب مقالات، بينا فيها أسبابها، وعللها، وحكمة الخالق
فيها، وفظائعها، وشرورها، والمقابلة بينها وبين الحروب الإسلامية، التي
امتازت بالرحمة وبجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، وبتحريم القسوة والفظائع
فيها، والمقابلة والمقارنة بين الدول المتحاربة في الاستعداد والمزايا، وصرحنا فيها
بأن عاقبتها ستكون انفراد إحدى الدولتين الرئيسيتين في الحلفين الكبيرين الجرماني
والإنكليزي - وهما: ألمانية، وإنكلترة - بالسيادة والعظمة في العالم، وفاقًا لقول
الفيلسوف هربرت سبنسر الشهير للأستاذ الإمام: (إن ضعف الفضيلة، وتغلب
الأفكار المادية في أوربة سيدفعان دولها إلى حرب عامة طامة؛ ليعلم أيها الأقوى
ليسود العالم) .
ومما بيناه في بعض تلك المقالات أن ألمانية أتقنت الاستعداد للحرب إتقانًا
يمكنها من محاربة أوربة كلها، وأنها فاقت جميع الدول في السلاح والنظام، وأن
أعداءها يفوقونها بالكثرة، التي تعد من أعظم أسباب الغلبة، كما قال الشاعر
العربي:
ولست بالأكثر منهم حصا ... وإنما العزة للكاثر
وقد كان من أمر هذه المكاثرة أن إنكلترة ألبت على ألمانية أكثر دول الأرض
في الشرق والغرب من العالمين القديم والجديد؛ وإنما كان ذلك بعلو كعبها على
الألمان وغيرهم في الدهاء السياسي، الذي هو أدق علوم البشر وأصعب أعمالهم
مركبًا وأوعرها مسلكًا، وقد قلت مرة لصاحب لي من الألمان المستشرقين كان
يحاورني وأحاوره في المقارنة بين قومه وبين الإنكليز وما بينهما من المناظرات:
(وإنني مقتنع بأنكم فقتم الإنكليز في جميع العلوم والفنون والأعمال حتى التجارة؛
إلا ما هو أهم من ذلك كله وأعظم، وهو السياسة، فإنني أرى أن الإنكليز يفوقونكم
فيها) . فقال: (صدقت) .
وقد ذكرتني هذه الكلمة التي قلتها منذ بضع سنين بكلمة في معناها قلتها منذ
بضع عشرة سنة في مجلس بدار أحد أصدقائنا بمصر مات من حاضريه لطيف باشا
سليم، وحسن باشا عاصم، وجرجي بك زيدان؛ وبقي صاحب الدار وأحد
الباشوات. قال صاحب الدار في ذلك المجلس إنه بلغه أن ألمانية عقدت مع روسية
محالفة سرية على إنكلترة، وسيترتب على هذه المحالفة إخراج الإنكليز من مصر،
ومن الهند أيضًا. فقلت له: لا تغتر بهذا الخبر فإن إنكلترة كانت ولا تزال تضرب
بعض الأمم ببعض، وتكون هي الرابحة، فهي - كما قال مسلم بن الوليد -
كالسيل يحذف جلمودًا بجملون.
إنني لم أصدق هذا الخبر في ذلك الوقت، ثم تبين في أثناء هذه الحرب مما
اكتشف من أسرار القيصرية الروسية أن له أصلاً، وأن مشروع المحالفة وضع ثم
عرض ما حال دون إتمامها، فإن كان هذا وقع بعد ذلك الزمن الذي أخبرنا فيه ذلك
المخبر به فمن الجائز أن تكون مقدماته ووسائله قد سبقته بسنين، والذي نقصده من
العبرة في هذه السياسة هو أن الإنكليز غلبوا ألمانية على روسية، فحالفوها على
الترك والفرس، ثم جعلوها باتفاقهم مع حليفتها فرنسة فدية لهما في هذه الحرب،
فكانت مصب نقمة ألمانية الحربية في ريعان قوتها، وعنفوان أسرتها، وكذلك
تعبث الأمم العليمة الحكيمة بالأمم الجاهلة الخرقاء، فتجعلها فدية لها كما فعل
الحلفاء بأمم أخرى، وكما فعل الألمان بالترك.
وقد كان أعجب مظاهر قدرة إنكلترة السياسة تسخير دولة الولايات المتحدة
الأمريكية لإنقاذها وإنقاذ حلفائها من جحيم الألمان العسكري بعد أن عجزت أوروبا
كلها ومن ظاهرها من أمم آسيا وإفريقية وأمريكا الجنوبية عن فل حدهم وإيقاف
طغيان مدهم، وهي الدولة التي جعلت من قواعد سياستها ترك مشاكل العالم القديم
لأهله وعدم مشاركتهم في شيء منه. رقتها إنكلترا رقيتين استخرجت بهما حيتها
من جحرها، وزحزحتها عن قاعدة سياستها، إحداهما دعوتها إلى إنقاذ حرية الأمم
والشعوب من السيطرة الألمانية التي تهدد العالم بالاستعباد، والثانية دهاء اليهود
ونفوذهم المالي في تلك البلاد؛ وقد وعدتهم إنكلترا بأن يكون جزاؤهم إعادة ملك
إسرائيل إلى مملكة سليمان في الأرض المقدسة بالرغم من أنوف العرب أصحاب
البلاد، ومن الملتين الإسلامية والنصرانية، وسكت لها على هذا الوعد أشد ذوي
التحمس الديني من البروتستنت والكاثوليك حتى الجزويت منهم.
وأما المسلمون فلم يصدهم ذلك عن مساعدتها على فتح البلاد المقدسة
بالجيوش التي جهزوها باسم شريف مكة سليل الرسول صلى الله عليه وسلم
وصاحب الحجاز بقيادة بعض أبنائه؛ فهل كان باستطاعة أحد من دول الأرض أن
يفعل مثل هذا أو يفكر في إمكانه؟ لا! ولكن الإنجليز فعلوا ما لم يكن يخطر في
بال بشر، فاستردوا هذه البلاد وما حولها من المسلمين الذين غلبوا قلب الأسد ملك
الإنجليز وسائر ملوك أوروبا في الحرب الصليبية بمساعدة الجيوش الإسلامية.
طوَّع المستر لويد جورج وزير إنجلترا الأكبر هذه الدولة بالرقيتين اللتين
ذكرتا، فجعلت ثروتها الكبيرة ومواردها الغزيرة وجنودها الكثيرة وقفًا على إنقاذ
الحلفاء من ألمانيا، بل هاجمت ألمانيا بقوة أكبر وأعظم من كل هذه القوى - قوة
الدعوة إلى الصلح المبني على اتفاق الأمم والشعوب على العدل العام والحرية
الشاملة لجميع الأنام، وإبطال ما جرت عليه الدول القوية في العصور الخالية من
المحالفات السرية على هضم حقوق الأمم المستضعفة، وغير ذلك من أصول الحق
والعدل التي ما زال الأقوياء يهدمونها بمعاول القوة، ومنها وجوب حرية البحار،
وجعل الإنجليز وغيرهم فيها سواء. قام الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات
يحارب ألمانيا بهذه القوة الأدبية المعززة لتلك القوى الحربية والمالية ففاه بتلك
الخطب الطنانة الرنانة ووضع للصلح تلك القواعد الحذابة الخلابة، ففعلت في زمر
الاشتراكيين والعمال الألمانيين فعل السحر، ولا سيما قاعدة حرية البحار في زمني
الحرب والسلم، فخرجوا على حكومتهم السياسية، وثاروا في وجه قوتهم العسكرية
وهي في أوج انتصارها، وذروة فخارها:
أمرت أسطولها بأن يهاجم الأسطول البريطاني، فاعتصب بحارته وأبوا
الامتثال، وهدد زعماء الاشتراكيين قواد الحرب باعتصاب جميع العمال، أو
يطلب عقد الصلح على قواعد الرئيس (ولسن) العادلة؛ إذ هي أفضل من نصر
عسكري يورث الأحقاد ويورث السياسة الجائرة؛ وإنما أسست جمعياتهم وتحزبت
أحزابهم لمقاومتها، وقد سنحت لهم الفرصة فقالوا لا نضيعها، ولم يقنعهم القول بأن
هذا خداع؛ لأن الأمريكيين غير متهمين بالكيد ولا بالأطماع، فاستمهلتهم الحكومة
ريثما تسحب جيوشها وكراعها وذخائرها من قلب فرنسا فأمهلوها، وكان ما كان
من أمر طلب الهدنة واشتراط الحلفاء فيها إضعاف جميع قوى الألمان الحربية في
البر والبحر والجو؛ حتى لا يستطيعوا العود؛ فمن المنتصر؟ أميركا في الظاهر
وإنجلترا في الباطن؛ بل المنتصر إنما هم رجال السياسة الإنجليزية وحدهم فهم
الذين أقنعوا الولايات المتحدة بوجوب مؤازرة القضية المشتركة، فسقطت على يدها
ألمانيا، وساعدهم على ذلك صلف الألمان وغرورهم واحتقارهم الولايات المتحدة.
وهم الذين والوا شريف مكة فكان عاملاً قويًّا لسقوط الترك، وهم المتصدرون
لإدارة دفة سياسة العالم بعد التهميد لها واقتحام ما يقوم أمام هذه الإدارة من العقبات.
ومن ذلك إقناع الولايات المتحدة باسم خدمة الإنسانية وتأييد المدنية بالإشراف
على تركيا، والنهوض بالجمهورية الأرمنية.
ويتولون هم إدارة البلاد العربية من برقة إلى العراق فعمان ما خلا سوريا
الشمالية فإن إدارتها جعلت لفرنسا تنفيذًا لمعاهدة سايكس - بيكو من جهة وحتى لا
تؤوب فرنسا بصفقة المغبون وترضى من الغنيمة بالإياب من جهة أخرى، والبلاد
الفارسية المتصلة ببلوخستان فالهند فالتبت.
الإنكليز يحتلون سورية الجنوبية (فلسطين) ، ويعملون فيها عمل الحاكم
المطلق، ويمهدون السبيل لمهاجرة الصهيونيين إليها ليكونوا حكامًا فيها تحت
حمايتهم، ويحتلون العراق، ويعملون فيه عمل المالك بلا معارض، وقد أسسوا
للسواحل الحجازية واليمنية محافظة سموها (محافظة البحر الأحمر) وأرسلوا بعثة
إلى الإمام يحيى ولكنها أسرت قبل الوصول إليه، وأرسلوا بعثه أخرى إلى السيد
الإدريسي للاتفاق معه، وعقدوا اتفاقًا مع حكومة إيران نُشر في الجرائد فشكت منه
الصحافيون ورجال السياسة، واحتجوا بأنه مخالف لعهد (عصبة الأمم) ؛ إذ كانت
المسألة السورية معلقة بأنواط تلك الوسائل المشار إليها، كما تحدث أولئك الرجال
وتلك الجرائد بالمسألة المصرية وبما للمصريين من الحق في المطالبة باستقلالهم
وحريتهم، ولم تفتر تلك الشقشقة حتى تم الاتفاق على العود إلى تنفيذ معاهدة سنة
1916.
وقد ظهر رجحان السياسة الإنكليزية على السياسة الفرنسية في البلاد التي
كانت تظن فرنسة أن سياستها فيها أرجح لما لها فيها من الصنائع والوسائل. فقد
كان طلاب المساعدة الأمريكية فالإنجليزية من أهالي البلاد أضعاف طلاب المساعدة
الفرنسية، فلم يبق لفرنسا بد من اللجأ إلى إرضاء إنجلترا والرضا منها بتنفيذ
معاهدة سنة 1916 بمقابلة تصرفها المطلق في مصر وسائر بلاد العرب والعجم.
جرى كل ما ذكر على طريقة السياسة الأوروبية المعروفة المألوفة من
تصرف الأقوياء في الضعفاء والعلماء في الجهلاء، بعد أن ذهبت جعجعة خطب
الرئيس (ولسون) في الهواء، وهو ما كنا نتوقعه من وراء هذا النصر، وتحدث
به من كلمناه في عواقب الحرب، وخاصة إخواننا العرب المغرورين من السوريين
والعراقيين، ولا غرابة في غرور أطفال أغرار في مهد السياسة والحركة العربية
الحجازية في بدء ظهورها تكبرها في أعينهم بعض الجرائد.
فإن قال قائل: إن كتاب الله قد أثبت أن العاقبة للمتقين، وقد فسر علماؤنا
التقوى بأنها عبارة عن أداء المأمورات وترك المنهيات؛ فهل كان الإنكليز - بهذا
المعنى - هم المتقون، حتى كانت عاقبة هذه الحروب لهم بنفوذ الكلمة وعلو
المنزلة والتصرف في أرض الله الواسعة؟ نقول: إن قول الله تعالى لا ريب فيه،
وإن كلام العلماء في تفسير التقوى صحيح، ولكنه مجمل؛ فمن فهم منه أن المراد
بفعل المأمورات الوضوء والصلاة والصيام ولو على غير الوجه الذي شرعه الله
تعالى، وإن ترك المنهيات خاص بترك الخمر والزنا والسرقة وما أشبه ذلك - فهو
قصير النظر، ضعيف الفهم، التقوى أعم من ذلك، وهي تختلف باختلاف ما
تطلب فيه ما بيناه في مواضع من تفسير المنار، ونبهنا أهل العصر إلى تقصير
المفسرين وغيرهم من علمائنا في بيان ما في الكتاب والسنة من الأصول الاجتماعية
ومسائل السياسة والعمران.
فالتقوى المكررة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (المائدة: 93) الآية غير التقوى في معاشرة
النساء المكررة في سورة الطلاق، وغير التقوى في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة: 96) ، فلكل
مقام خصوصية هي المقصود الأول من المعنى العام، والتقوى في قوله تعالى:
{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128)
غير ما ذكر كله. فالأولى والثانية في أحكام الطعام والصيد؛ وهما من الأحكام
الشخصية الفردية، والثالثة في أحكام الزوجية؛ وهي منزلية (أو عائلية) ،
والرابعة في شئون الأمم والعمران؛ وهي ما يعبر عنه في عرف هذا العصر
بالاجتماعية وكلامنا فيها.
والثابت عندنا أن الإنكليز أشد الأقوام عناية باتقاء الخيبة والفشل في هذه
الأمور، والألمان كذلك، إلا أن الألمان فاقوا الإنكليز بالقوى الحربية، فلم يَدَعُوا
شيئًا من أسباب اتقاء الانكسار فيها إلا وأحكموه؛ ولذلك كانت العاقبة لهم في
المعارك الحربية، ولكنهم لم يتقنوا كالإنكليز اتقاء التنازع الداخلي، فوقعت الثورة
الاشتراكية في أمتهم، وصدق عليهم قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ، ولم يتقنوا كالإنكليز اتقاء سخط الأمم والشعوب عليهم،
فأسخطوا الأمة الأمريكية على حين صارت أعظم الأمم ثروة، واشتدت حاجة
جميع الأمم إليها، فكان ذلك عونًا للإنكليز على تسخيرها لهم.
ولم يتقوا خروج العرب على الترك باستمالة العرب وتوثيق الرابطة بينهم
وبين الترك، وتحذيرهم من خطر انتصار الإنكليز عليهم، بل سمحوا لأوليائهم
سفهاء الأحلام من زعماء (جمعية الأحمرين) - الدم والذهب - بإرهاف العرب
والتنكيل بهم تقتيلاً وتصليبًا وتذليلاً وتغريبًا ومصادرة وتعذيبًا وهتكًا للأعراض
وإفسادًا للأخلاق، على حين كان الإنكليز يجدون في استمالة كل أمير وزعيم منهم
بما يروج عنده من ضروب الاستمالة، فمال إليهم بعض دون بعض، وكان فيمن
مال وشايعهم مشايعة فعلية أو سلبية الأمير عبد العزيز بن سعود صاحب نجد،
وبعض شيوخ عرب العراق، ووالاهم شريف مكة (الملك حسين) ، وساعدهم
على محاربة الترك بجيش مؤلف من بدو الحجاز وحضر سوريا والعراق، بقيادة
أبرع أبنائه في الغزو والقتال الأمير فيصل (ملك سوريا) ، وقد اعترفوا له ببلائه
وإخلاصه في إعانتهم على فتح القدس الشريف، وعلى إيقاع الفشل والخذلان في
جيش الترك المدافع عن سوريا حتى انهزم وتركها غنيمة باردة لهم، وصرحت
جريدة التيمس الشهيرة بأن الأمير فيصل سل حسامه في نصر الخلفاء من غير أن
يحصل على أي وعد منهم بشيء؛ ولكنه أعطى بعض الوعود بعد ما أخذ في
النجاح، وقالت إن الأمير فيصل كان يرغب في الاستقلال التام للحجاز وحده،
وأما لسائر الشعوب العربية فإنه يرغب لها في الاستقلال عن الترك فقط، وأن
تطلب كل البلاد العربية وصاية دولة واحدة عليها - وتعني دولتها إنجلترا - (ا.
هـ ملخصًا من عددها الأسبوعي، المؤرخ في 14 فبراير سنة 1919) .
بل كانت موالاة الشريف أكبر مما ذكر في فوائدها السلبية والمعنوية، ولا
محل لشرح ذلك هنا، ولو كان للألمان مثل دهائهم لسبقوهم إلى استمالة العرب -
وكانوا على ذلك أقدر -، وإذًا لاستطاعوا أن يجندوا منهم خمسمائة ألف أو ألف
جندي، ولا أبالغ إذا زدت على ذلك، ولا سيما إذا شملت هذه الاستمالة اليمن
وعسير، ووصلوا إلى شواطئ البحر الأحمر، وبحر العرب - ولم يكن ذلك
عليهم بعسير.
فإن قال ذلك القائل: فهمنا معني التقوى في السياسة والحرب، ومعنى كونها
من سنن الله - تعالى - في النجاح؛ ولكن خفي علينا ما بينت في تلك المقالات من
أن هذه الحرب انتقام إلهي عادل من الدول والشعوب الظالمة لنفسها والظالمة لغيرها،
الباغية على عباد الله، التي لم تشكر نعمة الله - تعالى - باستعمالها فيما يرضيه
من إقامة الحق والعدل، وإننا نرى ألوف الألوف من البشر تئن من سلطة تلك
الدول وحكمها، وإذا كانت مصيبة صادقة في شكواها لأنها مهضومة الحقوق
بضعفها، فلماذا كانت عاقبة الحرب استمرار عقاب الله لها بالاستذلال والحرمان من
الاستقلال، ورفع العقاب عن أولئك الباغين، وتحكيمهم في بلاد قوم آخرين؟
إن قال ذاك القائل هذا القول وأورد علينا هذا الإشكال، فإننا نرى أن الأمم
المستضعفة الظالمة لنفسها، المظلومة من قبول الأقوياء المسلطين عليها بما كان من
تفريطها، لم يمحصها ما حل بها ويرجعها إلى رشدها، وإن الدول الباغية الظالمة
قد ذاقت من الشدائد التي تعامل المستضعفين بها ولم تنب وترجع إلى ربها، وكذلك
شأن الدول والأمم التي غلبت بهذه الحرب على أمرها، فالعقاب الإلهي لكل أمة
ودولة لم ينته بهذه الحرب، ولا هي انتهت بما وضع من معاهدة الصلح مع بعض
المتقاتلين دون بعض.
وما ذكرنا من فوز بعضهم وعلو كلمته بما بيناه من سببه لا دليل على ثباته
ودوامه، وإذا طال العهد عليه بحثنا عما اقتضى ذلك من أسبابه وسنن الاجتماع
فيه، وإنما نرى هذا الفوز والفلاح يكاد يجر وراءه أسباب خسار وخذلان، أهمهما
خسران الإنجليز ذلك الصيت الحسن الذي غرسوا فسيله، وزرعوا بذوره،
وتعاهدوا زرعه بما ينميه عدة أجيال، حتى كانت الشعوب المتململة من سلبهم
استقلالها تفضلهم على غيرهم، والشعوب المتألمة من غيرهم تتمنى لو تتفيأ ظل
حكمهم، ولكن لا يزال في الشعب الإنجليزي ذي العرق الراسخ في مكارم الأخلاق
وبعد الرواية وطول الأناة وحب العدل والإنصاف رجال يرجى أن يرجحوا القوة
المعنوية على القوة المادية، ويراعوا الانقلاب الاجتماعي الجديد الذي فجرت هذه
الحرب قواه التي جمعت في عهد بعيد، كما تتفجر البراكين من الأرض بآخر نقطة
أو دفعة من الغازات المولدة للضغط.
فإذا قدر هؤلاء الرجال على مقاومة الأطماع الاستعمارية ووضعوا لدولتهم
سياسة جديدة تتفق مع مصالح مصر والهند والعرب والفرس وسائر الشعوب ببقائها
على مراعاة ما أشرنا إليه من الانقلاب الاجتماعي الأكبر، إذا قدر هؤلاء الفضلاء
العقلاء على ما ذكرنا، وتركوا لهذه الشعوب استقلالها في إدارة بلادها وسياستها،
وحالفوها على أن يكونوا هم المقدمون على جميع أمم المدنية في مساعدتها العلمية
والفنية التي تقرر استقلالها وتعمر بلادها، ورضوا من المكافأة على ذلك بالمنافع
الاقتصادية والأدبية التي تكون بالتراضي لا بالقوة الاحتلالية، فإنهم يؤسسون
لشعبهم السكسوني المجيد مجدًا طريفًا إلى مجده التليد، بحيث يرجى أن يكون خالدًا
لا يبلي ولا يبيد مما لم يرجع عن هذه الطريقة أو يحيد، وحينئذ تكون له العاقبة
المحمودة، ويسترجع أضعاف ما فقد من ثروته الهالكة من غير نفقات كبيرة،
كالنفقات التي لا يزال يتكبدها باحتلال البلاد المغلوبة. ويكون سببًا لإصلاح الكون
وعمران الأرض.
أكتب هذا بإملاء العقيدة الثابتة المؤيدة بالدلائل الاجتماعية الناهضة لا بباعث
الأغراض القومية، أو قصد الإبهامات السياسية، تاركًا تصديقه للزمان، وتفسيره
لحوادث الأيام وسنن الله في الأنام، لا مبدل لسنته ولا معقب لحكمه ولا راد
لمشيئته.
(المنار)
من تأمل هذا المقال رأى كيف أن التاريخ يعيد نفسه، وكيف أن ضعف
الفضيلة وتغلب الأفكار المادية في أوربا الآن سيدفعان - بل قد دفعا فعلاً - دولها
إلى حرب عامة طامة، ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم كما وقع ذلك من قبل، وكيف
أن إنجلترا كانت ولا تزال تضرب بعض الأمم ببعض وتكون هي الرابحة، وكيف
أن دهاء اليهود ونفوذهم المالي يعمل عمله دائمًا وراء الستار في كل فتنة، وكيف
أن جعجعة خطب الرئيس ولسن قد ذهبت في الهواء بعد انتصار الحلفاء وجرف
السياسة الأوربية على سنتها من الاستغلال والاستبداد، وكيف أن إنجلترا لم تأخذ
بهذه النصيحة الذهبية التي أسداها إليها صاحب المنار منذ عشرين سنة ولم يوجد
فيها بعد أولئك الرجال الذين يقاومون الأطماع الاستعمارية، ويضعون لدولتهم
سياسة جديدة أساسها العدل والإنصاف.
__________(35/450)
الكاتب: محمد علي بن حسين
__________
دعوى علم الغيب
ومنابذتها لأصول الإسلام
لا ريب أنه قد جاءت آيات وأحاديث في إفراد الله - تعالى - وحده بعلم
الغيب، وهي كثيرة، ونقتصر هنا في الآيات على ما في سورة الأنعام والنمل
والجن، قال - تعالى -: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام:
59) {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65)
{عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن:
26 - 27) .
ومن الأحاديث حديثي ابن عمر في البخاري، وعائشة في مسلم؛ فالذي في
البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: عنده
علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا،
وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ، والذي في مسلم هو قول
عائشة - رضي الله عنها -: (ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله
الفرية) إلى أن قالت في بيان الثالثة: (ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد
أعظم على الله الفرية، والله - تعالى - يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65)) .
وقد بسط ابن العربي في أحكام القرآن القول في هذه المسألة أول سورة الأنعام،
وحكم بكفر من ادعى علم واحدة من الثلاث المذكورة في كلام عائشة - رضي الله
عنها -، وحكى ابن الحجاج في حاشيته على (صغير ميارة) الاتفاق على كفر من
يقول إن الأنبياء يعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ونقل ابن حجر في
الإعلام بقواطع الإسلام، وابن عابدين في حاشية الدر المختار، وغيرهما من
الفقهاء في المذاهب الأربعة كفر من ادعى علم الغيب.
قال الشاطبي في الموافقات، جزء 4 صحيفة 84: (وقد تعاضدت الآيات
والأخبار، وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك
الظواهر - حسب ما مر في باب العموم من هذا الكتاب -، فإذا كان كذلك خرج من
سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء - صلوات الله عليهم - في العلم بالمغيبات.
قال بعض العلماء ويراد بعلم الأنبياء بالغيب ما كان عن طريق الوحي - كما لا
يخفي -، وقد ذكر ابن قتيبة مبتدعي علم الغيب للمخلوق مع الحكم بكفرهم،
فقال في رسالته الاختلاف في اللفظ غلت الرافضة في حب علي وفي علم الغيب
للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل التي جمعت إلى الكذب، والكفر إفراط الجهل
والغباوة) . انتهي، صحيفة 47 باختصار على موضوع البحث.
قلت: وقد سرت هذه البدعة في الرافضة إلى متأخري الصوفية، وقد ظهر
شيخ جديد من الأكراد اسمه الشيخ نوري البرفكاني، أخذ يدعو الناس منذ خمسين
سنة بلسانه وبكتب ألفها إلى قواعد وأصول تتنافى مع الروايات والأحاديث،
بدعوى أنها كرامات، وسلك بذلك مسلك الغلاة من متفلسفة الصوفية؛ حيث جعلوا
دعوى علم الغيب وما هو أفظع منها من قبيل الكرامة، وجهلوا أن شرط الكرامة ألا
تصادم أساس الدين؛ ولذلك قيد النووي في بستان العارفين الكرامة بألا تؤدي إلى
رفع أصل من أصول الدين، نقله ابن علان في شرح رياض الصالحين، مجلد
7، ص 361، وهو قول أبي إسحاق الشاطبي في الموافقات؛ حيث قال: (لا
يصح أن تراع وتعتبر - أي الكرامة - إلا بشرط ألا تصدم حكمًا شرعيًّا؛ فإن ما
يصدم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال، أو
وهم من إلقاء الشيطان) . ذكره في الجزء الثاني، ص 266.
وقد كثرت الكتب التي تقرر هذه الدعاوى وتذيعها في الناس من مؤلفات
المحدثين والقدامى من غلاة الرافضة ومتفلسفة الصوفية، وعم خطرها، وزاد
شرها وضررها.
وقد تداولتها الأيدي أكثر من تداول صحيح البخاري، وعمل بها الكثير من
الناس في أكثر البلاد، على رغم ما فيها من الأحداث المبتدعة الهادمة للدين أصولاً
وفروعًا؛ فمحت آثار الإيمان من قلوب العاملين بها إلا قليلاً ممن صانه الله وحماه
وأبعده عنها؛ وذلك لغلبة الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسله.
فالله الله يا أمة الإسلام، ويا علماء الدين أن تدعوا هذه الكتب من غير إنكار،
وتحذير منها، وبيان لما فيها من الضلال البعيد، فضلاً عن أن تدافعوا عنها
وتروموا بقاءها مندمجة في كتب الدين الإسلامي الحقيقي، فإنكم والذي لا رب
غيره، إن تفعلوا ذلك لابد أن تستوجبوا مقت الله وغضبه، وأن تلاقوا الصغار
والهوان في هذه الدار وتلك الدار، فنحن نطالب كافة العلماء أن يقوموا بما أوجب
الله عليهم من إنكار تلك الكتب ونحوها من كل كتاب فيه مصادمة لكتاب الله في
دعوى علم الغيب لغير الله وأنبيائه، ونحو ذلك من الأمور المبتدعة التي هدموا بها
عماد الدين وقوامه.
فإذا فعلوا ذلك، ونصروا الله ودينه، واغتاروا الله ولأنبيائه مما وقع في تلك
الكتب من الإلحاد العظيم رجوا حينئذ نصر الله لهم، قال - تعالى -: {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة: 40) ، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِن
تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) ، فإما أنهم يرجون النصر من غير نصر الله
والغيرة على دينه، بل بمجرد المحافظة على الوحدة والوفاق بما يوجب خذلان الله،
ومقته، وتسليطه الأعداء على المسلمين، فذلك غرور وأماني باطلة؛ لأن الله -
تعالى - قد علق نصره بنصر العباد لدينه وأكد ذلك في غير ما آية، ومعلوم أن ما
ربط الله به حصول المسببات عند تعاطي أسبابها لا يمكن تخلفها، فضلاً عن أن
يوجد عكسها، وهو أن ينصر سبحانه وتعالى من يخذل دينه؛ فإن مفهوم مخالفة
آية {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) إلا تنصروه لا ينصركم، وقد
أشار إلى هذا المفهوم منطوق آية {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} (آل عمران: 160) .
وهذه الآية تدل على أن ما عدا نصر الله لا يكون سببًا لنصره هو سبحانه
لعباده، وعلينا أن نتأمل في حالة النبي صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه وما
شجر بينه وبين قومه من الحروب والخلاف لأجل إقامة الدين وإزاحة البدع،
وكيف جعل الله عاقبة ذلك النصر المبين، ثم من بعد ذلك لما حدث هجر العمل بما
كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد لإعلاء كلمة الدين، كيف أن
المسلمين من ذلك الحين لازالوا في انحطاط ورجوع إلى الوراء؛ وما ذلك إلا لأنهم
وضعوا أسبابًا اخترعوها من قبل أنفسهم، وهي أن الوفاق وترك الجهاد وعدم إقامة
أحكام الدين واستبدالها بالقانون الوضعي، كل ذلك يوجب لهم الراحة والاتحاد
والوفاق وعدم الاضطراب، وهب أن ذلك يحصل لهم الراحة ونحوها مدة من
الزمان استدراجًا ومكرًا في حياتهم الدنيا، فأني لهم الملخص والنجاة من يوم يجعل
الولدان شيبًا.
هذا ما رأيت إبداءه لإخواني المسلمين؛ لما رأيته من كثرة تطلبهم للوحدة
والوفاق، ونفرتهم عما يوجب التفرق والشقاق ولو بإنكار أعظم المنكرات التي
يترتب على إنكارها نصر الله نصرًا عزيزًا؛ وما ذلك إلا من عدم تمسكهم بالكتاب
العزيز مشيًا منهم مع مبادئ النظر، وعدم التفاتهم إلى وعد الله عباده المؤمنين،
فإن كنت غالطا فيما أبديته نصيحة لعامة المسلمين، فالمرجو من الإخوان إرجاعي
إلى الصواب، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والسلام عليكم -
أيها المسلمون - ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي بن حسين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... العراق
__________(35/463)
الكاتب: علي بن أبي طالب
__________
وصف الدنيا
وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة، وليست بدار نجعة، قد تزينت بغرورها،
غرت بزينتها، هانت على ربها. فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها
بموتها. وحلوها بمرها، لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضن بها على أعدائه،
خيرها زهيد، وشرها عتيد، وجمعها ينفذ، وملكها يسلب. وعامرها يخرب،
فما خير دار تنقض نقض البناء وعمر يفنى فيها فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع
السير؟ اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقه ما سألكم،
وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعي بكم. إن الزاهدين في الدنيا تبكي
قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن فرحوا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمام علي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... في نهج البلاغة
__________(35/466)
الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود
__________
الشيخ محمد عبده
(1)
الآن تعود (المنار) إلى الميدان بعد ما اختار الله مؤسسها السيد رشيد رضا
إلى جواره في عنفوان جهاده، وفورة نتاجه - مع ما كان عليه من كبر السن وتقدم
العمر - أحوج من نكون إليه في عصر اختلفت فيه المقاييس، وقلبت فيه الأوضاع -
تعود قوية نشيطة، تزخر بالحياة، وتنبض بالحرارة، وتتدفق حيوية، وتفيض
إيمانًا، على أيدي فتية الشباب من خيرة المسلمين متبعي السلف الصالح، قد وهبوا
الله أنفسهم وأرواحهم خالصة لوجهه، مستبسلين في ميدان الجهاد، غير هيابين ولا
وجلين، مولين وجوههم شطر كتابه العزيز، يذيعون تعاليمه ودعوته، دعوة
القرآن الكريم، دعوة القوة والمجد والعز الإسلامي الذي لا يعرف الذل، ولا يلتقي
والخور في قرن. وينتشرون قواعده التي عرفها الناس صالحة نافعة، وأسسه التي
جربها العالم، وعرف أن فيها سعادته التي لا تعرف الشقاء، وهناءته التي لا
يشوبها الآلم.
أجل، تعود (المنار) إلى الميدان جادة لتواصل السعي، وتداوم الجهاد
والكفاح الذي من أجله أنشئت، وفي سبيله عملت، وتحقق الغرض الذي طالما
استشرف إليه المخلصون المؤمنون، حتى كانت مثلاً أعلى في الدفاع عن بيضة
الدين، والذود عن حياته، وفي أسلوب يساير المدنية ولا يتعارض والعلم، ولا
يضعف بجانبه فينزل على تعاليمه ونظرياته الدائمة التحول والتبديل والاضطراب،
بل يجعل من نظرياته وآثار حضارته دليلاً على حكمة الله من خلق السموات
والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس لو تفكروا وتحررت منهم العقول!
تعود لترفع الراية وتحمل اللواء وتتقدم الصفوف، حيث التضحية التي لا
تعرف جبنًا، والشجاعة التي لا تقل من صلابتها في الحق شدة، ولا يضعف من
عزمها كارثة مهما تأزمت حلقاتها.
وأعتقد أنه من الوفاء لرجل كان له أكبر نصيب في تأسيس (المنار) ، وهو
الإمام الشيخ محمد عبده أن نخصه ببضع مقالات، نتناول فيها بالتحليل شخصيته
مع بعض النواحي التي تعني قراء المنار، ونتبع دعوته بالنظر الدقيق؛ لننظر
كيف أثرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي، وكيف هزت صلد القلوب فألانتها،
وغزت جامد الأفئدة فحركتها، وطرقت مقفل الآذان ففتحتها، وكيف وقف التاريخ
يسجل لهذا الرجل في إنصاف وإعجاب.
وإليك من تاريخ الإمام ما يحدثك عن نشأة المنار:
جاء السيد رشيد رضا إلى مصر وقد وضع نصب عينيه صحبة الإمام، ثم
إنشاء صحيفة إصلاحية ينشر فيها حكمته وخبرته، فوصل إلى الإسكندرية مساء
الجمعة 8 رجب 1315 هـ، فأقام فيها أيامًا، ثم انتقل منها إلى طنطا،
فالمنصورة، فدمياط، ثم عاد إلى طنطا، ومنها إلى القاهرة قبل الظهر من يوم 23
رجب، وفي ضحوة اليوم الثاني ذهب إلى زيارة الأستاذ الشيخ محمد عبده في داره
بالناصرية، واستشار السيد أستاذه في إنشاء الصحيفة التي يريدها، وشاوره في
تسميتها، وذكر له اسم (المنار) مع أسماء أخرى، فاختار الأستاذ الإمام اسم
(المنار) ، ثم شرع السيد في تحريره، وكتب فاتحة العدد الأول بالقلم الرصاص في
جامع الإسماعيلي المجاور لدار الأستاذ بالناصرية، وكان ذلك في منتصف شوال
1315 هـ وذهب بها إلى داره وعرضها عليه؛ فأعجب بها كل الإعجاب،
ورضي كل ما ذكر فيها من المقاصد والأغراض إلا كلمة واحدة هي تعريف الأمة
بحق الإمام وتعريف الإمام بحق الأمة. قال ما معناه: (إن المسلمين ليس لهم اليوم
إمام إلا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضرره، ولا يرجى نفعه
الآن) ، فحذف السيد هذه الكلمة عن رأي أستاذه وإشارته.
فهذا الرجل الذي عرف قيمة جهاده الخاص والعام، وسادت آراؤه بعد محاربة،
وفشت نظرياته بعد مدافعة وإنكار، وطعن في دينه وإيمانه ويقينه، وحورب في
غير هوادة، وتسمم الجو حوله؛ حتى سرت كراهيته في النفوس بفضل ما كان
يذاع عنه ويلفق ضده. وإليك الأستاذ الشيخ مصطفي عبد الرازق يحدثك عن
صورة من هذه الكراهية في مقدمته لكتاب (الإسلام والتجديد في مصر) :
(وفي بعض سنوات الحرب شهدت الجامعة المصرية قبل ضمها إلى وزارة
المعارف حفلة جمعت جمهرة من شباب العلم وخطب فيها طائفة من كبار الأدباء
وكبار الأساتذة.
وكان يجري على ألسنة الخطباء ذكر أئمة النهضة الحديثة في مصر في
فروعها المختلفة من سياسية واجتماعية وعلمية؛ فتهتف الجموع، ويبلغ حماس
الشباب أقصاه، حتى إذا جرى ذكر الشيخ محمد عبده خفت هنالك صوت الشباب،
وفترت حدة الهاتفين.
انصرفت يومئذ حسيرًا محزونًا، أكاد أتهم بقلة الوفاء بلدًا ينسى فيه فضل
الشيخ محمد عبده بعد سنين؛ لكن عتبى على شبابنا كان ممزوجًا برحمة؛ لأنهم لم
يعرفوا من أمر الرجل شيئًا يغريهم بأن يحبوه ويقدروه حق قدره.
ولعل قصارى ما كان يعرف طلاب العلم في ذلك العهد في أمر الإمام أنه كان
شيخًا مكروهًا هو وآراؤه من الشيوخ، كما يكره الشيوخ المنار وصاحب المنار
تلميذ الإمام) .
وأكتفي بهذه الصورة الآن؛ لأن بسط هذا العنصر له مكانه في الكلمات
المقبلة - إن شاء الله - وكل ما أريد أن أخلص إليه أننا في حاجة قصوى إلى
دراسة هؤلاء الذين استشهدوا في ميادين الجهاد، وراحوا ضحية بريئة لشهوات
متضاربة وأغراض متناحرة، تفتك بالأمم، وتقوض الشعوب.
ومحمد عبده عَلَم من أعلام هؤلاء المجاهدين؛ فجدير بنا أن نعني بآثاره،
وأن نعرف قراء (المنار) حقيقة هذا الرجل؛ حتى يغيروا تلك الصور القديمة عنه،
ويأخذوا عنه صورة صحيحة واضحة المعالم، بينة التقاطيع، صورة أعاهد الله
ألا يكون للشهوة فيها إصبع، ولا لحظ النفس منها نصيب، وستكون صورة هذا
الرجل أول صورة من صور كثيرة اعتزمت بمشيئة الله رسمها على صفحات
(المنار) في عهده الجديد، وكل غايتي من هذه التراجم الإسلامية إنما هي القدوة
الحسنة، وترسم خطى العاملين الذين لم يألوا جهدا في سبيل الدعوة إلى الله ورفعة
دينه وإعلاء كلمته؛ ليجد النشء غذاءه النافع. جعل الله عملنا خالصًا لوجهه، إنه
سميع مجيب.
(يتبع)
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ أبو السعود
__________(35/467)
الكاتب: علي بن أبي طالب
__________
من كلام الإمام
علي رضي الله عنه
لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذًا لخرجتم إلى الصعدات تبكون
على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا خالف
عليها، ولهعت كل امرئ نفسه لا يلتفت إلى غيرها؛ ولكنكم نسيتم ما ذكرتم،
وأمنتم ما حذرتم؛ فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نهج البلاغة
__________(35/470)
الكاتب: حسن البنا
__________
انتقاد المنار
حول فتوى آيات الصفات وأحاديثها
جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي، ننشره مع رده فيما
يلي:
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن احتجاب المنار بموت صاحبه -
عليه رحمة الله تعالى - كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا، بل حزنهم
العميق، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط، بل كان ذلك لما علمه قراء
المنار من الميل مع الحق أينما كان، وعدم المبالاة بكائن من كان في سبيل كلمة
الحق وبيانها وإيضاحها، ولا أظنك تجهل مواقف صاحب المنار - عليه رحمة الله -
مع كثير من أخص أصدقائه؛ فإنه لم يكن يعرف إلا الحق ولو أغضب الحق
صديقه أو جميع الناس، ولم نعهد فيه - رحمة الله عليه - مداهنة ولا محاباة،
وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التي تعرفونها في نفوس جميع أهل الملة
المحمدية. فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها - إن شاء الله
تعالى - ستحيي حياتها الأولى، وإلا فاسم المنار وحده لا يغني شيئًا.
لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدي النبوي والإسلام،
فماذا افتيتم؟ إن رأي المنار في موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور
في أعداد المنار السابقة، فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه، وينسى
برنامجه؟ لقد قلتم يا سيدي الأستاذ إن كلتا المجلتين على الحق! ! ! ولا يعقل فيما
نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال أنهما جميعًا
على الحق! لا، ليس هذا شأن المنار الذي عرفناه وبكيناه لما احتجب. نرجو أن
تصارحونا بالحق في أي الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار، إن كنتم تنصرون
الحق لله وفي سبيل الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قارئ
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه،
وبعد، فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته، وكنت
أود أن يتكرم بإظهار اسمه حتى نتعارف في سبيل البحث عن الحقيقة، ولعله -
وفقنا الله وإياه - رأى في ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق، بدون نظر إلى
الصلات الخاصة بين المتباحثين، فنحن نحسن الظن، ونشكر للأخ الفاضل خطابه،
مؤكدين دعوتنا الأولى بجميع إخواننا في انتقاد ما يرونه مستحقًّا للانتقاد في المنار؛
حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه
الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلاً لا هجر فيه، ولا إقذاف، ولا تجهيل، ولا
تضليل؛ ولتكمل به أنفسنا، فإن الكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه - صلوات الله
وسلامه عليهم - ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك فهذا عين النقص، ونسأل
الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا، ويحملنا على الصواب والسداد، وإلى الكاتب
وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد في هذا الخطاب:
(1) نسب إلينا الأستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق،
وبني على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما
ويثبته الآخر، ثم يقال أنهما جميعًا على الحق؛ وحضرته لهذا يرجو أن نصارح
بالحق في أي الجهتين هو؟
ولا أدري من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذي نسبه إلينا، إن كان قد
جاء به من تصريحنا بأن الفريقين في نظرنا أصدقاء لنا وممن يتصدون للدعوة إلى
الخير، فليس معني هذا تصويب رأي أحد منهما ولا كليهما في موضوع نزاع بعينه،
والذي صرحنا به في موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق، وأن موضوع
الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين
أحدهما محق والآخر مبطل، بل قد يكونان مخطئين جميعًا هو ما صرحنا به
بوضوح، فإن فريقًا تغالى في التأويل، وفريقًا تغالى في الجمود، ورأى السلف في
ذلك - وهو رأي المنار الذي يشير إليه حضرة الكاتب، وهو رأينا الذي أوضحناه
في مقالنا - أن مذهب السلف ترك الخوض في هذه المعاني، مع اعتقاد تنزيه الله-
تبارك وتعالى - عن أمثالها المنسوبة لخلقه وإمرارها كما جاءت، وتفيوض علم
حقائقها إلى الله، فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط في التأويل، وألزم نفسه
غير ما ألزمه الله به، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط في التشبيه، وأوهم سامعه
جواز نسبة صفات المخلوفين إلى الخالق.
فإن قال (هو استقرار يليق بجلاله) فهو إذن لم يأتِ بشيء، والأولى أن
يقف عند النص، والحق في هذا وأمثاله أن يقال استوى استواء يليق بجلاله، مع
اعتقادهم عدم المشابهة، وتفويض الحقيقة إلى الله، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع
تصرف اللفظ عن ظاهره، فنقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه كما ذهب
إليه السلف في معية الحق - تبارك وتعالى - بعلمه لا بذاته. تلك أمور فصلناها
وقررناها، ولمنا الفريقين على أنهما طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذي خاضوا
به، فبها وبذلك حققنا رجاء الكاتب، وصارحناه بأن الحق ليس في أحد الجانبين،
فأين القصور إذن؟
(2) هذا من حيث موضوع النزاع ورأي المنار فيه بالذات، وأظن أن فيما
نقلنا في باب التفسير في هذه المعاني كفاية، ومن أراد الاستزادة زدناه؛ حتى يعلم
أن المنار لا يتنكر لماضيه في الحق، ولا ينسى برنامجه من الصدع به، ولا
يناقض نفسه في الصواب، وبقي بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب بعض ما فاته
معرفته من برنامج المنار الذي سارت عليه في ماضيها ونريد أن نسير بها عليه في
حاضرها:
صرح صاحب المنار بقاعدة، وأسماها قاعدة المنار الذهبية، فقال: (نتعاون
فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) ، فمواطن الخلاف يا سيدي
يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن، وذلك ما سنسير عليه - إن شاء الله -.
وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتحرر من الجمود، وينعى على
أهل التقليد الأعمى الذين يقدمون أقوال الناس التي لم يقم عليها دليل على الأدلة
الواضحة بغير برهان بين أيديهم، إلا أن هذا قول فلان وفلان، فهل يريدنا حضرة
الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله؟ أم يريدنا متبعين للدليل
والحق، ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار؟ وأظن أن حضرة الكاتب
يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك - رضي الله عنهما - وكلاهما في
جلالة قدره ورسوخه في علمه وتقواه لله بالمنزلة التي لا تتسامى إليها القوادح،
ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا، وأن يكون له رأيه ومذهبه.
فنحن مع المنار وصاحبه - عليه رحمة الله ورضوانه - في الأصول
الأساسية التي لا خلاف فيها في منهاج الإصلاح العام وخطته، وفيما وضح الحق
فيه واستبان وجه عليه الدليل في الشئون التي فيها مجال للتفكير والنظر، ولا
يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار - رحمه الله - في الأمور التي لم يقم عليها
الدليل أن ينبهنا لما فاتنا، والله الموفق للصواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
__________(35/471)
الكاتب: حسن البنا
__________
موقف العالم الإسلامي السياسي
انتهت حرب الكلام بين الدول الأوربية المتناحرة، وتغيرت الأوضاع الدولية
في أوروبا؛ فأخفق اتفاق إنجلترا وفرنسا مع روسيا، وحل محله ميثاق روسي
ألماني، وكانت مفاجأة غير منتظرة وأمر أدهش له العالم أن يتفق الهر هتلر - وهو
الذي بنى دعوته الأولى على مكافحة الشيوعية الروسية، وانطوى لها على أشد
حالات الخصومة والبغض - مع زعماء هذه الشيوعية التي ندد بها ونال منها؛
ولكن القوم في أوروبا لا يعرفون إلا المصلحة المادية، وسرعان ما ينسون المبادئ
والعقائد والأفكار مهما كانت سامية نبيلة، وتبع ذلك أن تشددت عزيمة ألمانيا
فأقدمت على غزو بولونيا واجتياحها بالقوة المسلحة، وردت إنجلترا وفرنسا على
ذلك بإعلان الحرب على ألمانيا، وسوق الجيوش إلى الميدان الغربي، حيث
رابطت أمام خط سيجفريد الألماني، وكانت مفاجأة أخرى أن تقدمت روسيا
بجيوشها تجتاح القسم المجاور لها من الأرض البولونية، وبذلك تم للجيوش
الألمانية والروسية أن تقضي على استقلال بولونيا، وتتوزع فيما بينها أرضها،
وتضطر حكومتها إلى الفرار حيث تألفت في باريس من جديد، ومهما كان من
حلاف بين الروس والألمان على خط الحدود فإن الأمر الواقع الآن أن بولونيا قد
قسمت مرة أخرى بين روسيا وألمانيا.
والذي نحب أن نلفت إليه أنظار الشعوب الإسلامية أن بولونيا تضم ستين ألفًا
من المسلمين، غالبيتهم في أنحاء فيلنو ونوجرديك، وقد أقاموا في بولونيا منذ
القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت الجمهورية البولندية تسمح لهم بإقامة شعائر
دينهم بتمام الحرية، فأخلصوا لها كل الإخلاص، وحاربوا في صفوفها واشترك
عدد كبير من ضباطهم - وهم معروفون بالشجاعة والإقدام شأن المسلم المجاهد -
في الحرب الأخيرة، ودافعوا كثيرًا عن المدينة المعدودة مركز الإسلام في بولندا،
وفيها يقيم المفتي الحاج الدكتور يعقوب سليمان شينكيفتش.
والآن وقد صار هذا القسم تحت حكم البلشفية الروسية، فهل تدع حكومة
السوفيات المسلمين فيه يتمتعون بشعائر دينهم وحريتهم كما كانوا في عهد الحكومة
البولونية؟ أم أنهم سيعملون على بلشفتهم ويحاربونهم في عقائدهم ويهدمون ما بقي
لهم من مساجد ومعابد، كما فعلوا بهم ذلك من قبل حين اقتسمت روسيا وألمانيا
بولندا في أواخر القرن الثامن عشر؟ من واجب الحكومات الإسلامية - وبخاصة
الحكومة التركية التي هي على صلة بالروس، والتي هي أقرب حكومات المسلمين
إلى بولندا - أن تتحرى ذلك، وأن تعمل على حماية هذه الجالية الإسلامية الشديدة
المتمسكة بدينها القديم، ولا ندري هل تصغي حكومة تركيا إلى هذا النداء، أم
تعتبره شأنًا إسلاميًّا خاصًّا يتنافى مع ما اختارته لنفسها من أن تكون حكومة (لا
دينية) ؟
كان اجتياح بولندا سببًا في تخوف دول البلقان، وفي تردد تركيا بين
المعسكرين المتخاصمين محور موسكو برلين تارة، ومحور فرنسا وإنجلترا تارة
أخرى، ووقفت إيطاليا موقف المترقب المنتظر، ولم تحدد موقفها تحديدًا صريحًا
بعد، وأخذت اليابان ترقب هي الأخرى مجرى الحوادث، وأعلنت أمريكا سخطها
على عمل ألمانيا، ولم تعترف بالحالة الواقعة في بولندا الآن، واعتبرت الحكومة
البولونية القائمة في فرنسا حكومة شرعية، واعترفت بها، وارتفعت صيحات
بوجوب الصلح ووضع الحسام والاتفاق على ما يريح العالم من عناء الحرب، ولا
ندرى ماذا ستلقاه هذه الدعوة من الإصغاء، وما سيكون لها من النجاح - وإن كان
أغلب الظن أن هذه النفوس الظمأى الداوية بالأطماع والأهواء سوف لا يرويها إلا
الدم المتفجر من البشرية الذبيحة.
ذلك هو الموقف الدولي عامة، فما موقف العالم الإسلامي خاصة؟ ! لقد قدمنا
أن العالم الإسلامي قضت عليه ظروف وأوضاع ان يرتبط بالدول التي تسمي نفسها
ديمقراطية وهي إنجلترا وفرنسا ارتباطًا وثيقًا، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها
اشتباكًا قويًّا، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه
المصالح، مقدرة للموقف تمام التقدير، منزهة عن العبث والكيد الرخيص
والاستغلال الذي لا يتفق مع الشرف الدولي والنزاهة النبيلة، وأخذت الحكومات
المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص.
ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلاً واحدًا على تقديرها لهذا
الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح
والإطراء في الخطب والمقالات التي لا تقدم ولا تؤخر، فسوريا الجنوبية (فلسطين)
لا تزال قضيتها حيث هي، لم يؤثر فيها تصريح المفتي الأكبر بالثناء على فرنسا،
ولا كتابه للحاكم البريطاني، ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا
إنجلترا من الخلف، ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية في الاتفاق مع
خصوصها أو التقرب إليهم، وكان أقل مقتضيات رد الجميل في مثل هذا الموقف
أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالاً بالإفراج عن المعتقلين، والتصريح بالعودة
للمبعدين، والعفو الشامل عن المسجونين، وإعادة النظر في سياستها بالنسبة
للحقوق العربية الواضحة.
وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه، ولم تظفر إلى الآن
من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل، بل حوكم كثير من
رجالاتها، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين.
وسوريا الوسطى (لبنان) تغير فيها نظام الحكم تغيرًا تامًّا ولو إلي حين كما
يقول المندوب الفرنسي، وأوقف دستورها، وحكمت حكمًا أجنبيًّا مباشرًا أو ما
يقرب منه.
وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع
هذا القطر الشقيق وبخاصة فرنسا التي شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع
عن حدودها أمام خط ماجينو إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائريين
والسنغاليين.
إن شعوب العالم الإسلامي قسمان، قسم تحت سلطان الحكم الأجنبي المباشر،
وهذا لا يملك أمر نفسه ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقًا خاصة، فهو تحت رحمة
الأقدار، ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته.
وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية، فمن واجبه في هذه الظروف العصبية -
حكومات وشعوبًا - أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفآجات، فلا يتورط
في خطوات وخصومات هو في غنًى عنها ولا تعود عليه بشيء، وليلتزم الحدود
التي رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع في
إعداد العدة وتقوية نفسه تقوية تنفعه في المستقبل وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد
أن تضع الحرب أوزارها، وعليه كذلك أن يكون مطمئنًا هادئًا، فإننا إن لم نستفد
من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا، والصلح خير لنا،
والحرب ليست بضارة بنا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة:
216) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
__________(35/475)
الكاتب: حسن البنا
__________
تعليق
تحدث إلينا الأخ المفضال السيد عبد الرحمن عاصم وكيل المنار السابق ببعض
ملاحظات حول العدد الماضي وقد ضاق عنها فكان هذا العدد، وسنتحدث عنها في
العدد القادم - إن شاء الله.
__________(35/479)
الكاتب: عبد الرحمن عاصم
__________
السيد محمد رشيد رضا
بقلم وكيله وابن عمه السيد عبد الرحمن عاصم
ولد السيد محمد رشيد رضا في 27 من جمادى الأولى سنة 1282، وتوفي
في 23 من جمادى الأولى سنة 1354.
وتربى تربية عالية، لم تتحكم في نفسه عادة من العادات السيئة المضرة
كالتدخين وإدمان شرب القهوة والشاي، وَأَخَذَ أَخْذَ الإمام الغزالي بكتابه الإحياء من
أول بدئه بطلب العلم.
وراض نفسه عليه، واتخذ له خلوة بالغرقة المشرفة على البحر من جامع جده
في قرية القلمون لدرس العلوم، والتعبد بالصلاة بتدبر القرآن الحكيم.
وتصدى من ذلك الحين للوعظ والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، فالسيد
رشيد طلب العلم بالإخلاص وتوجيه الإرادة ليكمل به نفسه، ويؤهلها للإصلاح
الديني الاجتماعي، فكان من أشجع دعاة الإصلاح وأشدهم جرأة في مواطن الحق
على الحكام والعلماء، غير هياب ولا وجن، ولولا أنه كان راسخًا في إيمانه،
واثقًا بصحة علمه، ومخلصًا في وعظه وإرشاده لما تجرأ على نقد حكام الدولة
العلية في العصر الحميدي والاتحادي، وقد أصابه أذى كثير منهم في والده وأسرته
من بعد ما عرضوا عليه أوفى وأحسن ما تصبوا إليه نفوس طلاب الدنيا من رتب
ومناصب وغيرها؛ ليسكت عنهم ويسخر قلمه في خدمتهم.
هذا ولم يتهيب بريطانيا العظمى وطعن في تعسفها في حكم قومه وأهل ملته،
وألبهم على مخالفتها بوسائل مختلفة، وحذرهم من مصادقتها لأنها خداعة مكارة
وهو مقيم في مصر تحت سلطانها.
ومن الأدلة على ذلك خطبته المشهورة أمام المرحوم أبي الثورة العربية الملك
حسين في جموع (منى) ، سأذكر خبرها، وخطبته في دار وجيه من وجهاء
(بيروت) في القاهرة في حفلة جمعت رجال السياسة العربية من أقطارها تحت ستار
الترحيب بضباط عراقيين وسوريين قدموا إلى مصر؛ ليتقابل المجتمعون ويروجوا
اتفاق سايكس بيكو على تقسيم بلاد العرب فيما بينهم؛ ولكن السيد رشيد عارض
ذلك معارضة عنيفة حملت مستر كلايتن باشا فيما بعد - وكان كالحاكم بأمره بمصر-
على معاتبة السيد رشيد على قوله في الإنجليز، ومما أجابه به السيد: (هل من
العدل أن تمنع أمة ضعيفة من الدفاع عن نفسها إذا اعتدت عليها أمة قوية، كفوا
عن الهجوم علينا لنكف عن الدفاع عن أنفسنا) .
وكم حاول سمو الخديو السابق أن يفرق بين السيد رشيد والأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده بالترغيب والترهيب لهذه مرة ولذاك مرة، ولم تنجح محاولاته عندهما،
وكان جواب الأستاذ الإمام لبطرس باشا غالي الموفد من الخديو: (أحب أن تعلم
ويعلم الخديو أنني أفضل أن أعيش أنا والسيد رشيد ههنا في رمل عين شمس على
البقاء في منصب الإفتاء وعضوية مجلس إدارة الأزهر؛ لأن هذا الرجل متحد معي
في العقيدة والفكر والرأي والخلق والعمل) ، وأجاب الأستاذ الإمام أيضا فضيلة
المرحوم الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر على رسالته من الخديو: (كيف أرضى
بإبعاد صاحب المنار وهو ترجمان أفكاري) .
ومن كلام السيد رشيد للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، جوابًا عن رسالته
الخديوية: (ولكن لي غرضًا من تعظيم قدر (الشيخ محمد عبده) وتفضيله هو
فوق فائدة انتشار المنار بكثير، وهو أن الإصلاح الإسلامي الذي أدعو إليه لا
ينهض إلا بزعيم تثق به الأمة، ولا أعرف أحدًا أجدر منه أو يساويه في استحقاق
هذه الزعامة) ، ولما لم تلن قناة السيد لسمو الخديو، أراد إخراجه من مصر، وبلغ
ذلك رياض باشا الشهير، وخاطب السيد في هذا الشأن بقوله: (هل تغير شيئًا من
خطة المنار؟) . قال السيد: (حاشا لله، ما كنت لأغير عملي النابع لعقيدتي
وخلقي، وكل فضيلة لمصر عندي أنني أستطيع فيها خدمة ملتي وأمتي بما أعتقد
أنه الحق النافع، فإذا زالت هذه الحرية منها فلا يحزني الخروج منها وأنا لا أملك
فيها شيئاً) . قال الباشا للسيد: (كده أريدك) .
هذا وقد ألف السيد كتابًا في نقد بعض أكابر علماء الأزهر سماه المنار
والأزهر، والمال والرتب والوظائف عند الشيخ أبي الهدى والاتحاديين في الدولة
العثمانية وعند الأزهر والخديوي والإنجليز بمصر، وقد حالوا صرف السيد عن
خطته الإصلاحية بشتى طرق الإغراء بالمال والمناصب، وبترهيبه أيضًا بفنون
الترهيب، وصبر على أذاهم، ولم يفتن بالمال، ولم يغتر بالرتب، ولم يرهبه
الوعيد؛ لأنه كان مخلصًا في توجهه لخدمة أمته وملته.
ومما عرف من صلابته وإخلاصه لقومه أن الإنجليز لما عرضوا عليه أن
يكتب مقالات أسبوعية في صحيفة (الكواكب) التي أنشئت بالقاهرة لخداع العرب
اعتذر في كتاب إلى نائب الملك ونجت باشا، جاء فيه:
لو بذلتم لي المال، أو استللتم لساني، أو قطعتم أناملي على أن أقول أو أكتب
ما يخالف ديني وكرامة قومي العرب، فإني لا أفعل. وجاء رد بالإعفاء من ذلك
التكليف، واعتذر بأنه كان بخطأه كتكليف رئيس تحرير التيمس الكتابة بجريدة
هزيلة.
ولما عزم السيد على أداء فريضة الحج في أثناء الثورة العربية دعي إلى
قصر عابدين، وقدم إليه رئيس الديون شكري باشا صرة نقود، قائلاً: (بلغ
مولاي السلطان عزمكم على السفر إلى الحجاز، وأمرني أن أقدم هذه النقود إليكم) .
أجاب السيد: (الحج على المستطيع، وقد تهيأت لأدائه بصحبة سيدتي الوالدة
والشقيقة) . قال الباشا: (خذها ثمن دعاء) .
أجاب السيد: (الدعاء لا يقوم بثمن، وسأدعو لمولاي السلطان، ولخاصة
المسلمين وعامتهم بما يلهمني الله - عز وجل -) . قال الباشا: (خذها وتصدق
بها، فإن الصدقة في الحجاز بعشرة أضعافها) . أجاب السيد: (ذلك صحيح؛
ولكنى أحتار فيمن أعطي القليل الذي أتصدق به وقصور الملوك والسلاطين مفتحة
الأبواب للقصاد والوراد) . قال الباشا: (بما أعتذر إلى مولاي السلطان وعطايا
الملوك لا ترد) . أجاب السيد: (أرجو أن تذكر لمولاى السلطان ما عرفه به
الأستاذ الإمام من أني لا أقبل عطاء بدون مقابل) .
ولما كان السيد على عرفات تحققت عنده صحة الإشاعة بأن الحجاج سيدعون
في (منى) لمبايعة (الشريف) بالخلافة، فذهب إلى مخيم الشريف وذكر له ما
بلغه، وذكَّره بوعيد الحديث (إذا بويع خليفتان ... ) ، فقال (الشريف) رحمه الله:
(إن تلك المساعي من رغبات أحد أنجاله والأتباع) . ولما اجتمع الحجيج في
(منى) ، وتهيأ العلماء والخطباء والشعراء لتهنئة (الشريف) بالعيد، جاء
الشريف عبد الله والشيخ عبد الملك الخطيب باشا إلى السيد، وطلبا منه أن يقول
كلمته.
وكان (الشريف) يقف في المناسبات في أثناء الخطبة ويقول للسيد:
(صدقت) . وبعد ذلك حضر إلى السيد من يقول له: (إن الخطبة ينقصها أن تكون
مقدمة لدعوة الناس لمبايعة سيد الجميع بالخلافة) . ولكن السيد حول الحديث من
سياسي إلى أدبي، وأجاب: (أخشى أن يقال لي عندئذ ما قيل لذلك الشاعر الذي
وهب الكرى إلى العشاق، وهبت ما لا تملك إلى من لا يقبل) .
وسأقص على القارئ الكريم نبذًا أخرى من رسائل السيد إلى بعض ملوك
العرب؛ ليقف منها على مقدار صراحته في الحق، وإخلاصه في النصح، غير
مداج ولا مراء، فمن ذلك قوله في كتاب إلى جلالة الملك عبد العزيز: (ولا أزال
كذلك أجاهد معكم ما دمتم تجاهدون في سبيل الله وإعزاز دينه) ، وفي آخر
(وموضع العبرة أن الله - تعالى - قد استخلفكم في الأرض التي فضلها على كل
أرض لينظر كيف تعلمون) .
ومن كتاب آخر (وقد عاهدناكم على أن نؤيدكم ونخدمكم في إقامة السنة،
وهدم البدع، وإحياء الإسلام على منهاج السلف في أمور الدين ومستحدثات الفنون
العصرية في أمور الحرب والعمران) .
ومن أحسن ما كتب السيد الإمام إلى إمامي الجزيرة العربية صراحة وإخلاصًا
في النصيحة، لما وقع الشقاق بين الحكومتين اليمنية والسعودية، قال - رحمه الله
ورضي عنه -: (مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية
من حق سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين،
فكل منهما واسع الأطراف قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد
منكما بتعريضه للخراب لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل) .
ثم قال يخاطب كلا من الإمامين: (إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول
الله وخاتم النبيين للإسلام والمسلمين لا لعبد العزيز السعودي ولا ليحيى حميد الدين،
فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له
قائمة في غيرها، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله، وتحرصا على حسن
الخاتمة) .
وقد كان للإخلاص بهذه النصيحة وللوفد الذي أرسله السيد رشيد إلى الإمامين
أثر طيب لديهما، وكان مولاي السيد يطلعني على رسائله تربية لي وتعليمًا، ولعلي
أجد فيها حرفًا ناقصًا أو زائدًا لأصلحه، وإذا وجدت فيها ما يستحق المراجعة فإنه -
رحمه الله - كان يسمعها ويمضيها إذا أقرها، وإن أنس لا أنسى أني وجدت شدة
في خطاب منه إلى جلالة الملك عبد العزيز، وراجعته فيها، فغضب وقال لي:
(يا عاصم أتريد أن تعلمني المداجاة والجبن؟ ! اقفل المكتوب وأرسله إلى البريد،
واعلم أن مزيتي عند الملك إخلاصي، وصراحتي في النصيحة، ومزيته عندي أنه
يقبل النصيحة) .
والسيد الإمام ما كان ليترك فرصة تفوته بدون تذكير طيب نافع، ومن ذلك ما
جاء في كتاب منه إلى المرحوم الملك غازي (.. . معتصمين بحبل الهداية
الإسلامية التي اشتدت إليها في هذا العصر حاجة شعوب المدنية كلها؛ إذ هددت
الأفكار المادية دولها بالانحلال والإباحة الإلحادية حضارتها بالزوال، ولم يبق لها
منقذ إلا الهداية الروحية والجامعة بين المصالح الدينية والمدنية) ، وقال: (فإن
تحرص على هداية دينك القويم، ولغة قومك، وحضارة أمتك، وشرف بيتك،
وتضم إليها الفنون العصرية المرقية للزراعة والصناعة والتجارة والنظم المالية
والقوى العسكرية تكن - إن شاء الله - من الملوك المجددين، الجامعين بين سيادة
الدنيا وسعادة الدين) .
كان - رحمه الله - مضيافًا مواسيًا بماله القليل أهل الحاج من الأسر
المستورة، مساعدًا العاملين في سبيل أمته وقومه؛ فكم ساهم في نفقات الوفود
والجمعيات والمؤتمرات العربية السياسية، ولولا الأزمة المالية التي أصابته مؤخرًا
لكان رزقه كفافًا كافيًا لنفقاته؛ ولكن توفي - رحمه الله - وعليه أكثر من ألفي جنيه
مصري، خلافًا لما كان يحسب كثير من الناس.
نعم، خلف مؤلفاته ومطبوعاته وهي أكثر من دينه، بل هي ثروة علمية
إصلاحية عظيمة، تركها السيد الإمام ذكرًا وشرفًا له ولقومه وأمته.
كان السيد مشغول البال دائمًا بأمته، يفرح بما ينفعها، ويحزن لما يضرها،
وكانت السيدة والدته تسأله إذا رأته مكتئبًا: (هل أحد من مسلمي الصين يشتكي من
شيء؟) ، تريد أنه يكتئب إذا أصاب مكروه أحدًا من إخوته في الدين مهما بعدت
داره، ولو في الصين.
كان هم السيد المستولي على شعوره إصلاح شأن العرب والمسلمين بالتأليف
والتعليم، وقد كتب في التفسير والفتاوى وسائر ضروب الإصلاح ما لم يسبق إليه
في المقدار والفائدة، وكان - رحمه الله - يقول لي: (أخشى أن يحاسبني الله -
عز وجل - على عمري فيما أنفقته وأكون مقصرًا فيما وجب علي بيانه من أسرار
الشريعة وحكمها) ، وكان يأمرني أن أغنيه بقدر الإمكان عن مقابلة الزائرين؛
ليبقى منصرفًا إلى التأليف، وقد فرح فرحًا عظيمًا حين أتم أنفس كتبه تأليفًا وطبعًا،
أعني به كتاب (الوحي المحمدي) .
وأنشأ منذ ثلاثين سنة مدرسة دار الدعوة والإرشاد عملاً برأي الأستاذ الإمام
في تعليم طائفة من مختلفي الأقطار العلوم الدينية مصفاة من الآراء والأهواء،
وكذلك العلوم الأخرى القديمة والحديثة بقدر ما يكفي لتثقيفهم وإعدادهم للدعوة
والإرشاد {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) .
وقد نجح في ذلك جماعة من الطلاب وفي مقدمتهم السيد أمين الحسيني، الذي
انتهت إليه الزعامة الدينية والسياسة في فلسطين، والشيخ يوسف ياسين أمير سر
جلالة ملك المملكة العربية السعودية، والشيخ عبد الرزاق المليح آبادي صاحب
المؤلفات والصحافي المشهور في الهند، وقد سجن مع مولانا أبي الكلام الزعيم
الهندي الكبير لمشاركته إياه في جهاده، والشيخ محمد بسيوني عمران في جاوة
ومواقفه مشهورة بالتعليم والإرشاد، والشيخ محمد عبد الرازق حمزة والأستاذ عبد
السميع البطل وهما من خيرة العلماء المصريين في الأخلاق والوعظ والتعليم، تلك
نبذ من كلام السيد في رسائله الخاصة والعامة، وطائفة من أخباره تدل على نفس
ذكية همها الإصلاح بإخلاص؛ ولذا كان عزيزًا كريمًا، لم تدنسه الأطماع، ولم
تمله الأهواء، ولا يخاف إلا من الله - عز وجل.
كان السيد رشيد مدرسة في كل وقت من أوقاته في الدار وخارج الدار، وقد
أقمت معه في داره ستًّا وعشرين سنة تلميذًا وأمينًا لسره، وقلما يخلو مجلس من
الجد، أتم الثانية والسبعين من عمره المبارك وهمته همة الشباب، وقلما يضيع وقتًا
من أوقاته بدون عمل أو تفكير مهيء للعمل الطيب.
كان السيد رشد رضا يستيقظ مبكرًا قبل الفجر، ويتوضأ ويتنقل بالصلاة
ويتلو القرآن، ثم يؤذن أذان الفجر من شرفة الدار ويوقف أهله للصلاة، وكان
يغلبه البكاء حينما يجهر بالقرآن، ثم إن كان عنده ما تدعو الضرورة لإنجازه من
كتابته انصرف إليه، أو يخرج للرياضة مشيًا على الأقدام، يسير بقوة ونشاط
ويعود إلى الدار بعد طلوع الشمس، فإن كان صائمًا أخذ بعمله الكتابي، ويتقيل
غالبًا وينام مبكرًا، وهو على كثرة تفكيره وكثرة سمنه فإن نومه كان خفيفًا، وقلما
يصيبه الأرق.
بلغ مران السيد على التأليف والتصحيح أن يكتب في أثناء محادثته مع الناس
ولا تقطع المحادثة عند سلسلة فكره، وقد زاره مرة هندي من المتعلمين في جامعة
كمبردج، وقدم إليه عشرة أسئلة مكتوبة، وسأله عن موعد العودة إلى دار المنار
لأخذ الجواب عنها، فقال له السيد: (أذكر أسئلتك سؤالاً سؤالاً) ، وكان العالم
الهندي يذكر السؤال والسيد يجيبه، حتى أتى على آخرها والسيد لم يترك عمله
تركًا، كان السيد لا يراجع ما يكتب في التفسير إلا من بعد أن يكتب فهمه في الآية
حذرًا من تأثير أقوال المفسرين في نفسه.
وكان يكتب أصول المنار في أثناء أسفاره إلى الشام والآستانة والهند
والجزيرة العربية وأوروبة من تفسير وغيره، ويرسلها إلى المطبعة في مصر،
وليس لديه مرجع من الكتب غالبًا إلا (المفردات) في غريب القرآن للراغب،
وإذا أتاه الله فهمًا في القرآن لم يسبق إليه أو لم يطلع عليه إلا بعد كتابته من عنده،
فإنه يتحدث به إلى إخوانه حامدًا شاكرًا، وقد يقصه على أهل بيته مغتبطًا مسرورًا.
كان السيد يدرك من أسرار السياسة وغوامضها ما يقصر عنه كثيرون من
المشتغلين بها، وآراؤه المنشورة في عهد السلطان عبد الحميد والاتحاديين وفي أيام
غيرهم مؤيدة لذلك، وقد تحمل الأذى في سبيل نصحه إياهم، وطعن فيه رجال من
إخوانه، ثم تبين لهم بعد سنين أن رأيه هو الصواب، وكتبوا منتقدين الذين كانوا
يدافعون عنهم، فالسيد لغلبة الصدق والإخلاص والصراحة عليه كان يصلح أن
يستشار في السياسة.
إن انصراف السيد كل الانصراف إلى التفكير والعمل فيما ينفع الناس صرفه
عن استيفاء أساليب المجاملة في التحية والتسليم عند المتحببين المتشوقين، فالذين
لا يقدرون حياة الاختصاصيين الدائبين على التفكير فيما انصرفوا إليه كانوا يرمون
السيد بما هو براء منه، ولو أن السيد جرى على سننهم واتبع أهواءهم لما وفق أن
يخرج للناس تلك المؤلفات الممتازة بما انفرد به من التحقيق والتحرير، وقد غبطه
عليها أناس، وحسده آخرون، وجمعوا جموعهم مرات لنقدها، وكان السيد يقول
حينما يبلغه اجتماع العلماء لنقد المنار: (أرجو أن يكون هذا تسخيرًا من الله - عز
وجل - لتمر به المنار مما عسى أن يكون فيه من أخطاء، فإن أصاب النقاد نشرت
لهم نقدهم، وشكرت لهم صنيعهم) .
وللسيد قاعدة دعا إليها وجرى عليها، وهي: أن نتعاون على ما نتفق عليه،
ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه، وكان يسميها قاعدة المنار الذهبية.
هذا ما وفقت لتسطيره ونشره من سيرة السيد الإمام بمناسبة مرور أربعة
أعوام على وفاته - رحمه الله ورضي عنه -؛ لعلها تشحذ أذهان الخاملين، وتنبه
أفكار الغافلين، وتهدي إلى الإخلاص أولئك العاملين، وما التوفيق إلا بالله رب
العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن عاصم
... ... ... ... ... ... ... ... ... القلمون
__________(35/480)
الكاتب: حسن البنا
__________
(4) استحضار الأرواح
جاءنا من الدكتور محمد سليمان المدرس بكلية الطب ما يأتي:
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير المنار الغراء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد , فقد أكثر الناس القول في موضوع الأرواح ما بين نافٍ له ومثبت إياه،
فما القول الحق في ذلك؟ وهل الأرواح التي ستحضر هي أرواح الموتى أنفسهم؟
وهل يصدق ما يأتي على لسانها من أقوال , أفيدونا مشكورين , والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص دكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد سليمان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
الجواب
يتطلب الجواب على ما تقدم الكلام في عدة مباحث نلخصها فيما يلي:
أولاً - كيف نشأت مباحث الاستحضار في الغرب:
حدث في سنة 1846 الميلادية في قرية هيد سفيل من ولاية نيويورك بأمريكا
أن أسرة رجل اسمه جون فوكس أزعجتها عدة طرقات كانت تحدث في البيت الذي
تسكنه، فتجرأت مدام فوكس ذات يوم وسألت ذلك الفاعل المستتر قائلة هل أنت
روح؟ واتفقت معه على أن يكون علامة الإيجاب طرقتين، وعلامة السلب طرقة
واحدة، فأجابها بطرقتين ثم مازالت تسأله، وهو يجيب بواسطة الطرق، حتى
علمت منه أنه روح ساكن كان بهذا البيت , فقام جار له، ودفنه فيه , ثم سلبه ماله ,
ولم تهتد الحكومة إليه , فأسرعت المرأة إلى إنذار البوليس والنيابة , فحضر رجالها
وأخذوا كل حيطة , وتسمعوا الطرقات على طريقة صاحبة البيت , وفهموا منها ما
فهمته , وعمدوا إلى الحفر في المكان الذي دلت عليه الروح فوجدوا جثة القتيل،
وكان من أثر ذلك اهتداؤهم إلى القاتل.
وظلت الروح بعد ذلك تزور بنتي جون فوكس هذا حتى أنستا بها , وحضرت
أرواح أخرى ادعت أنها أرواح موتى آخرون , وتحسنت طريقة التفاهم بينهما وبين
هذه الكائنات فصارت بالحروف الهجائية , وذلك بأن تقرأ إحدى الفتاتين الحروف
الهجائية فتطرق الروح عند الحرف المراد كتابته طرقة فتكتب الفتاة الأخرى ذلك
الحرف وهكذا , ثم تجمع الحروف المكتوبة وتقرأ.
وقد رجت الروح الأختين في أن تعلنا أنها على استعداد لإشهاد الناس خوارق
تثبت لهم وجود الأرواح في أكبر مكان للمحاضرات في نيويورك , فأبت البنتان
ذلك خشية سوء القالة والاتهام بالشعوذة , وأصرت الروح على ذلك؛ لأنها تريد أن
تنتهز هذه الفرصة لتثبت للناس صحة خلود النفس , وقالت إنها ما تجشمت
الاستئناس بهما إلى هذا الحد إلا لهذه الغاية , وأنذرتهما بأنها لن تعود إليهما إن بقيتا
على إصرارهما , فلم يسعهما أخيرًا إلا القبول , ولكنهما اشترطا أن يكون بدء
العمل في الصالونات الكبيرة لبعض البيوت , ثم تتدرجان من ذلك إلى قاعة
المحاضرات الكبرى , وتم ذلك فأخذت البنتان تحضران في بعض تلك الصالونات
أمام جمهور من العلماء والمفكرين فتحدث خوارق عديدة رغمًا عن كل ما يتخذ من
الاحتياطات , ثم أعلنتا التحضير في قاعة المحاضرات الكبرى , فشهد هذه
الخوارق جم غفير من الناس , وكثر التحدث بها في كل مكان.
وكان القاضي أدموندس رئيس مجلس الأعيان بأمريكا من أسرع الناس إلى
بحث هذه الخوارق , فاعتقد صحتها وكتب فيها بحثًا مستفيضًا , فحملت عليه
الجرائد حملة عنيفة , ففضل أن يستقيل ويخدم البحث على أن يبقى في وظيفته
مقيدًا بتقاليدها , وكان من أكبر العاملين على نشر هذه المباحث.
وتلاه الأستاذ (مابس) معلم علم الكيمياء بالمجمع العلمي , فانتهى أمره
بتصديقها ونشر مباحثه على رءوس الأشهاد , وحذا حذوه الأستاذ (روبيرت هير)
وأطال البحث والتنقيب , فظهر له صدق صاحبيه المتقدمين , فوضع كتابًا حافلاً
أسماه (الأبحاث التجريبية على الظواهر النفسية) , وكان من أثر هذه الكتابات أن
انتشرت الفكرة وتعدت أمريكا إلى غيرها من بلدان العالم الغربي.
ثانياً - اختلاف الآراء في صحة هذه البحوث:
كان طبيعيًّا أن تختلف آراء الناس في نتائج هذه البحوث , وأن يكون هناك
المصدقون المتشيعون والمنكرون المتشككون، وكان طبيعيًّا أن تثير هذه الناحية
حربًا كتابية وعلمية وذلك ما حدث فعلاً , وكان من المصدقين بصحة هذه البحوث
وصدق نتائجها كثير من أعلام العلم الكوني في بلدان أمريكا وأوروبا المختلفة ,
وكثير منهم كتب كتابات في غاية من القوة والدقة التحليلية، مما يدل على اقتناع تام
بما يقول , وكثير منهم ألف فيها الرسالات والكتب القيمة ولم يبالوا بما يتعرضون
له من هزء المتقدمين وسخريتهم , وكثيرًا منهم كان ملحدًا صميمًا فعاد مؤمنًا بالحياة
الروحية كل الإيمان، وهذه نماذج من كتابات هذا الفريق:
(1) العالم الكيماوي (وليم كروكس) ، وقد ألف كتابًا دعاه (مباحث على
الظواهر النفسانية) ، قال فيه: (بما أني متحقق من صحة هذه الحوادث، فمن
الجبن الأدبي أن أرفض شهادتي لها بحجة أن كتاباتي قد استهزأ بها المنتقدون
وغيرهم ممن لا يعلمون شيئًا في هذا الشأن، ولا يستطيعون بما علق بهم من
الأوهام أن يحكموا عليها بأنفسهم، أما أنا فسأسرد بغاية الصراحة ما رأيته بعيني
وحققته بالتجارب المتكررة) .
(2) العالم الكبير (ألفرد روسل) ، وقد وضع في هذه المباحث كتابين:
أحدهما (خوارق العصر الحاضر) ، والثاني (الدفاع عن الأسبرتزم) ، وقد قال في
الأول ما نصه: (لقد كنت ملحدًا بحتًا مقتنعًا بمذهبي تمام الاقتناع، ولم يكن في
ذهني محل للتصديق بحياة روحية، ولا يوجد عامل في هذا الكون كله غير المادة
وقوتها؛ ولكني رأيت أن المشاهدات الحية لا تغالب؛ فإنها قهرتني , وأجبرتني
على اعتبارها حقائق مثبتة قبل أن أعتقد نسبتها إلى الأرواح بمدة طويلة , ثم أخذت
هذه المشاهدات مكانًا من عقلي شيئًا فشيئًا، ولم يكن ذلك بطريقة نظرية تصويرية،
ولكن بتأثير المشاهدات التي كان يتلو بعضها بعضًا على صورة لا يمكن تعليلها
بوسيلة أخرى) .
(3) العالم الإيطالي الكبير (سيزارلومبروز) ، وقد رمى المصدقين بهذه
المباحث بالجنون، وكتب عنهم فصولاً انتقادية في مؤلفاته، ثم عاد فبحث هذه
الخوارق مع الأستاذ (كاميل فلامريون) الفرنسي، والأستاذ (شارل ريشييه)
مدير الجريدة العلمية والمدرس بجامعة الطب الباريزية، ثم انتهى به الأمر إلى أن
ألف كتابًا قال في مقدمته: (لم يكن أحد أشد مني عداء للاسبرتزم بحكم تربيتي
العلمية وميولي النفسية , وكنت أعتبر من البديهيات العلمية أن كل قوة ليست إلا
خاصة من الخواص المادية , وأن كل فكر وظيفة من الوظائف المخية، وكنت أهزأ
دائمًا من الأخولة المتكلمة؛ ولكن غرامي بإظهار الحقيقة وتجلية الحوادث المشاهدة
قد تغلب على عقيدتي العلمية) .
وكثير غير هؤلاء لا يحصيهم العد درسوا هذه المباحث وتشيعوا لها من
الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكان وغيرهم , وشايعهم على ذلك كثير من
الكتاب والأدباء وأصحاب الصحف والمجلات التي اقتنعت بفكرتهم , وتأسست
للدفاع عن هذا الرأي الصحف والمجلات الكثيرة في كل بلد من بلدان أوروبا
وأمريكا , وقد انتدبت الجمعية الملكية بإنجلترا لجنة من ثلاثين عالمًا في الفنون
المختلفة، عهد إليها بحث هذا الأمر، فعكفت على ذلك ثمانية عشر شهرًا، وعقدت
للبحث والتجربة أربعين جلسة، ورفعت تقريرًا مطولاً في مجلد ضخم ترجم إلى
أكثر اللغات، وقد جاء فيه:
(عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها في البيوت الخاصة بالأعضاء؛ لأجل نفي
كل احتمال في إعداد آلات لإحداث هذه الظواهر أو أية وسيلة من أي نوع كانت،
وقد تحاشت اللجنة أن تستخدم الوسطاء المشتغلين بهذه المهمة أو الذين يأخذون أجرًا
على عملهم هذا؛ لأن واسطتنا كان أحد أعضاء اللجنة، وهو شخص جلل الاعتبار
في الهيئة الاجتماعية ومتصف بالنزاهة التامة، وليس له غرض مادي يرمي إليه
ولا أي مصلحة في غش اللجنة. كل تجربة من التجارب التي عملناها بما أمكن
لمجموع عقولنا أن تتخيله من التحوطات عملت بصبر وثبات، وقد دبرت هذه
التجارب في أحوال كثيرة الاختلاف، واستخدمنا لها كل المهارة الممكنة لأجل
ابتكار وسائل تسمح لنا بتحقيق مشاهداتنا وإبعاد كل احتمال لغش أو توهم.
وقد اكتفت اللجنة في تقريرها بذكر المشاهدات التي كانت مدركة بالحواس
وحقيقتها مستندة إلى الدليل القاطع، وقد بدأ نحو أربعة أخماس اللجنة تجاربهم وهم
في أشد درجات الإنكار لصحة هذه الظواهر، وكانوا مقتنعين أشد اقتناع بأنها كانت
إما نتيجة التدليس أو التوهم، أو أنها تحدث بحركة غير اعتيادية للعضلات، ولم
يتنازل هؤلاء الأعضاء المنكرون أشد الإنكار عن فروضهم هذه إلا بعد ظهور
المشاهدات بوضوح لا تمكن مقاومته في شروط تنفي كل فرض من الفروض
السابقة، وبعد تجارب وامتحانات مدققة مكررة، فاقتنعوا رغمًا منهم بأن هذه
المشاهدات التي حدثت في خلال هذا البحث الطويل هي مشاهدات حقة لا غبار
عليها) .
ولقد سرى أثر هذه المباحث الغريبة إلى مصر، فتناولها كثير من الكتاب
المعتنين بهذه الناحية بالبحث والكتابة والتجربة، وفي مقدمة هؤلاء الكاتب الأستاذ
محمد فريد وجدي، الذي تحمس للفكرة أشد التحمس، ولا زالت كتبه أهم المراجع
العربية للباحثين في هذا الشأن فيما نعلم، ومنهم كذلك الشيخ طنطاوى جوهري -
رحمه الله -، والأستاذ أحمد فهمي أبو الخير، الذي مازال يوالي تجاربه الروحية
بحماسة شديدة.
ولقد كتب الأستاذ محمد فريد وجدي منذ شهر تقريبًا في جريدة الأهرام اليومية
يسوق إلى القراء نبأ عناية جامعة كمبردج بهذه المباحث، واعتبارها علمًا رسميًّا
مقررًا يدرس في الجامعة، وإنشاء قسم خاص بهذه المباحث يتقدم إليه من يشاء من
الطلاب إلى شهر مايو من هذا العام 1940 الميلادية.
وإلى جانب هذا الفريق المتحمس قام فريق ينكر صحة هذه الظواهر ويحملها
على خداع الوسطاء، أو تدليس المجرمين، أو انخداع المشاهدين، أو غلبة
الوهم والخيال، وقد نقل المقتطف في بعض مجلداته كلامًا في هذا عن بعض
العلماء الأوربيين الكونيين كذلك، ومن هؤلاء:
(1) الدكتور مرسير من أطباء الأمراض العقلية بمستشفى تشريح كروس
ببلاد الإنكليز، وقد ألف كتابًا في الرد على السير أوليفرلودج فيما ذكره عن
المباحث النفسية، وقال إن الاشتغال بهذه المباحث يؤدي إلى اختلال العقل،
ويعرض أصحابه للجنون.
(2) والدكتور (روبرتصن) مدير المستشفي الملكي بأدنبرج، الذي رمى
المشتغلين بهذه المباحث بأن فيهم ضعفًا خلقيًّا في الإرادة يجعلهم مستعدين للتصديق
بالاسبرتزم ومناجاة الأرواح وما كان هذا القبيل.
ولكن المتتبع لهذه الحركة العلمية وخصوصًا بعد مضي هذا الزمن الطويل
عليها وهي لا تزال تضم إلى جانبها كثيرًا من أساطين رجال العلم المادي حتى
انتهى الأمر باعتبارها علمًا رسميًّا يدرس في جامعة محترمة كجامعة كمبردج، لا
يسعه إلا أن يصدق بكثير من نتائج هذه البحوث، ويؤمن بوجود قوى روحية تظهر
حقيقة للذين يزاولون هذه التجارب ويتعرفون عليها، وليس هناك من حرج عقلي
أو ديني على المسلم أن يؤمن بوجود هذه القوة الروحية وظهورها للناس وتخاطبها
معهم؛ فإن هذا الكون لا زال مملوءًا بالأسرار المادية والروحية التي لم يصل العقل
الإنساني بعد إلى معرفة كنهها وحقيقة أمرها، وهذه الكشوف التي وصلنا إليها من
أعجب العجائب التي لو ذكرت للناس من قبل لخيل إليهم أنها فوق المستحيل، وقد
أصبحت الآن فيما بينهم أمورًا عادية صرفة.
ولكن الذي يحتاج إلى إمعان النظر حقًّا هو الحكم على شخصية هذه القوى
التي تدعى أنها أرواح الموتى، أهي حقًّا أرواح الموتى، أم هي قوى روحية
أخرى تنتحل هذه الصفات؟ هذا هو الأمر الذي يعنينا نحن المسلمين أن نتعرف
خلاصة القول فيه، وهو ما سنتناوله بإيجاز.
(2) شخصية الأرواح:
يذهب معظم الباحثين في هذه النواحي النفسية والمؤمنين بها إلى أن هذه
القوى الروحية التي تخاطبهم هي بنفسها أرواح الموتى، ويستدلون لذلك بأمور منها:
(1) تكلم الروح بلغة المتوفى، واستخدامها عبارته المألوفة، وتذكير أهله
بحوادث قديمة كانوا نسوها لبعد العهد بها ولا يدرِ بها أحد سواهم.
(2) دلالتها على أوراق ومستندات ضائعة وضعها المتوفى في تلك الأماكن
قبل موته بدون إطلاع أحد عليها.
(3) كتابتها بخطه والتوقيع بتوقيعه والتعبير بأسلوبه حتى ولو كان كبار
الكاتبين، بحيث عرض ذلك على الخبيرين في الخطوط فحكموا بتشابه الخطين
والإنشاءين.
(4) ظهورها متجسدة على صورته التي كان بها على الأرض، وتكلمها
بصوته ولهجته.
(5) إجماعها في كافة بقاع الأرض على التأكيد بأنها أرواح الموتى، وأنها
ليست من الملائكة ولا من الجن ولا هي أرواح أخرى ذات طبيعة مجهولة.
(6) حبها لأهلها وتوصيتها الحضور بهم وتكليفهم البحث عنهم ومساعدتهم.
ومع هذه الأدلة فإن كثيرًا من المؤمنين باستحضار الأرواح يرى أنها لم تصل
بعد إلى حد اليقين، وليست ملزمة أو محدودة لشخصية الروح وإن كانت ترجح
ذلك.
أما نحن فننظر إلى هذه المسألة على ضوء التعاليم الإسلامية الروحية، وذلك
يدعونا إلى أن نلخص موقف الإسلام من عالم الأرواح.
موقف الإسلام من الروح:
نستطيع أن نوجز الكلام في هذا البحث الخطير في عدة نقط:
(1) الروح مجهولة حقيقتها؛ فهي من أمر الله ولم يتعرض القرآن ولا
السنة لبيان هذه الحقيقة.
(2) الروح هي أصل الحياة والتفكير والإدراك في الإنسان، وانفصالها
عن هذا الجسد هو الموت.
(3) الروح بعد الموت (في مستقر يعلمه الله - تبارك وتعالى -، وهي
في مستقرها هذا إما منعمة إن كانت ممن عمل الصالحات في حياته الدنيا، وإما
معذبة إن كانت ممن ارتكب المعاصي والآثام أو لم يعرض بالرسل والأنبياء -
صلوات الله وسلامه عليهم - بعد بعثهم.
(4) يجوز أن تتصل الروح وهي في مستقرها هذا بالأحياء أهل هذا الكون
اتصالاً جزئيًّا؛ فهي تعلم كثيرًا من شئونهم، ويزيدها سرورًا في حياتها البرزخية
هذه أن تعلم من أهلها خيرًا، ويؤلمها أن تعلم عنهم غير ذلك، كما أنها ترد السلام
على من سلم عليها إن كانت من أهل النعيم والصلاح، كما أنها قد تراءى لهم في
بعض الرؤى والحالات، وقد ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة النبوية.
(5) إن الروح هي في العالم البرزخى، وبعد أن تجردت من ظلمات هذا
الجسد لا سلطان لأحد عليها إلا الله، وهي لا تخبر بغير الحق، ولا تقول إلا
الصدق، ولخروجها عن قوانين هذه الحياة الأرضية وبُعدها عما فيها من آثام، ولا
أعلم أنه ورد في ذلك نص صريح من كتاب أو سنة، بل هو مقتضى الخروج من
هذه الدار إلى تلك الدار.
(6) إن كثيرًا من القوى الروحية (أعني الخفية) الأولى تتصل بهذه
الروح في هذه الحياة الدنيا، وقد تسلط عليها بالوسوسة والإيحاء، وقد تشكل بها
بعد هذا الانتقال إلى حياة البرزخ، وقد ورد شيء من هذا في الأحاديث الصحاح.
هذا مجمل ما يمكن أن يقال في نظرة الإسلام إلى عالم الروح.
فإذا نظرنا على ضوئه إلى شخصية القوى التي تظهر في الاستحضار وعرفنا
أن هذه القوى تخبر بأنها في نعيم وقد يكون أصحابها معروفين بالكفر أو الآثام في
الدنيا وهي مع هذا تسوق كثيرًا من الآراء التي تناقض تعاليم الأديان، رجحنا أن
تكون هذه القوى الروحية عوالم أخرى من عوالم الكون غير المادي تقدر على
التشكيل بما تشاء من الصور، وتتصل بالإنسان في حال الحياة فتعلم كثيرًا من
شئونه وما يحيط به، ثم تخبر بذلك حين الاستحضار وليست هي أرواح الموتى
حقيقة، وإلى هذا القول تطمئن النفس.
وبذلك نجمع بين التسليم بوجود عالم وراء عالم المادة وهو ما ينهدم بوجوده
مذهب الماديين من أساسه، ونخلص من الحرج الاعتقادي الذي نقع فيه إذا سلمنا
بأنها أرواح الموتى، وحقائق الأمور عند الله.
(وبعد) : فلا شك أن هذا البحث من أدق البحوث وأولاها بالعناية وطول
التفكير، وقد اشتجرت فيه الأقلام جيلين من الزمان إلى الآن، ومن واجب العلماء
في الأمم الإسلامية أن يسابقوا علماء الغرب في هذا المضمار، وأن يكثروا من
التجارب الدقيقة لمعرفة حقيقة هذه الأمور بأنفسهم؛ إنهم حراس أضخم ميراث
روحي عرفته الإنسانية، وهم أولى الناس بتعرف حقائق هذه البحوث، والله يتولى
الحق وهو يهدي السبيل.
_______________________(35/504)
ربيع الأول - 1359هـ
أبريل - 1940م(35/)
الكاتب: حسن البنا
__________
الأحمدية
(القاديانية واللاهورية)
سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد طالعنا في بعض الجرائد الإسلامية مقالات حول طائفة القاديانية، وحول
وجود بعض من ينتسبون إليها بالأزهر الشريف لطلب العلم، وأن فضيلة شيخ
الأزهر قد ألف لجنة من بعض كبار العلماء للتحري عن مذهب هذه الطائفة , ولم
نعلم نتيجة هذا التحقيق بعد، فنرجو التكرم ببيان موجز عن عقائد هذه الجماعة ,
وعن الفرق بين القاديانية والأحمدية، وعن نشأتهم، وعن واجب المسلمين إزائهم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فهمي أبو غدير
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كلية الحقوق
الحمد لله، وصلى الله علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم:
(1) رأس هؤلاء الجماعة رجل هندي اسمه غلام أحمد، ولد عام 1839م،
ومات عام 1908 م بقاديان من أعمال بنجاب الهند، ادعى أنه المسيح الموعود
به , وأن روح الله قد حلت فيه، وأنه المهدي المنتظر، وأنه أوحي إليه بكثير من
اللغات ومنها الإنكليزية، وخلط ذلك بكثير من الدعاوى الفارغة التي تتناقض مع
أصول الإسلام كل المناقضة، وقد وجدت السياسة الإنكليزية فيه مطية من مطاياها
في التفريق بين الشعوب، وأغرته، وأمدته بالمال والجاه، حتى كان قضاة المحاكم
الإنكليز يتساهلون معه في الأحكام في القضايا التي وقعت عليه وعلى أتباعه في
جرائم كثيرة، وفي نظير هذه المساعدات من الدولة الإنكليزية أصدر هذا المدعي
فتاوى صريحة بسقوط أحكام الجهاد، بل وصرح بأن من يرفع السيف في وجه
إنجلترا آثم مرتكب لأكبر الجرائم، وقد وقعت بينه وبين علماء الهند الفضلاء
مناظرات ومجادلات عدة، ووقعت بينه وبين صاحب المنار السيد محمد رشيد
رضا - رحمه الله - محاورات، وتناول السيد هذا الموضوع في كثير في أعداد
المنار، وترى بعض هذه المقالات في الأجزاء الخامس، والسادس، والسابع من
المجلد الحادي والثلاثين.
وقد كان من عادات هذا المسيح المدعي أن يدعو مناظريه إلى المباهلة، وأن
يجعل موت خصمه قبله دليلاً على انتصاره وبالعكس، وقد مات سنة 1905 بعد
أن زعم قبل ذلك أن أجله قد انتهى، فمكث بعد هذا الزعم ثلاث سنوات، وقد بنى
مقبرة بقاديان وادعى أن من دفن بها سيدخل الجنة بشرط أن يتبرع بربع ماله.
وأبقى الله فضلاء العلماء الذين قاموا ببيان زيفه وغلطه، فما كانت هذه التمويهات
لتكون دليلا ً على حق، أو هادمة لباطل، ولكنه الإفلاس من الدليل، وقد قام
برياسة جماعته من بعده ابنه بشير محمود، ومقره الآن قاديان من البلاد الهندية،
وتنسب الطائفة إلى أبيه فتسمى الطائفة الأحمدية.
(2) وقد انقسمت هذه الطائفة الأحمدية إلى فريقين: فريق اعتقد النبوة
لغلام أحمد وصدق بكل ما قاله، وهؤلاء هم أحمدية قاديان، ورئيسهم ابنه بشير،
وفريق اعتقد فيه أنه مصلح مجدد، وأخذ ببعض مزاعمه دون البعض على حد
اعترافهم وقولهم - والله أعلم بحقيقة ما يضمرون، وإن كانت كل أعمالهم تدل على
أنه لا فرق بينهم وبين إخوانهم السابقين - وهؤلاء هم أحمدية لاهور، ولسانهم
الناطق السير محمد علي صاحب ترجمة القرآن، وهو غير مولانا محمد علي
رحمه الله. وكلام الفريقين بعيد عن أصول الدين؛ فإنه إذا كان غلام أحمد قد
صرح بأنه نبي، وبأنه يوحى إليه، وصرح بغير ذلك من الطوام والفظائع، فهل
يغني شيئًا عن اللاهوريين أن يقولوا إننا نعتقد أنه مجدد؟ وأي القولين يصدق
الناس، قول المتبوع الذي يصرح بنبوة نفسه، أم قول التابعين الذين لا يبلغون به
هذه المرتبة؟ لو كان هؤلاء صادقين لرجعوا إلى الحق، ولوافقوا جمهور أئمة
المسلمين، ولبرءوا إلى الله من هذا الرجل براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
(3) والغريب في أمر هذه الجماعة أنها تلبس على المسلمين بأمرين: أولهما
نشاطها في الدعوة إلى نحلتها بزعم أنها دعوة إلى الإسلام، وتشجيع الإنكليز
وإغراؤهم من وراء ذلك، وإلا فلما لا يبرز هذا النشاط قويًّا إلا في بلاد الإنكليز
وما يلحق بها؟ والثاني مجادلتهم للمبشرين وهدمهم لمزاعم دعاة النصرانية، وهم
في هذا مهرة مجيدون، وهدم الباطل سهل ميسور، وهم يستغلون هذا الانتصار
ليقولوا للمسلمين إننا أخلص الناس للإسلام، وها أنتم ترون كيف نهزم دعاة
النصرانية، ويخفون عنهم أنهم إن هدموا عقائد النصرانية فهم لا يبنون عقائد
إسلامية؛ ولكن عقائد خيالية لعل النصرانية خير منها، وفيما يلي نموذج من أقوال
رئيس هذه الطائفة في كثير من المسائل، وفي إسقاط الجهاد وتحريم رفع السيف
في وجه الإنكليز:
(1) قال غلام أحمد في رده على صاحب المنار بكتاب أسماه (الهدى
والتبصرة لمن يرى) يذم العلماء لأنهم لم يؤمنوا بمسيحيته الموعودة، ويعلن أن
رفع السيف على الإنكليز جرم عظيم:
(وقد أمروا أن يتبعوا الحكم الذي هو نازل من السماء، ولا يتصدوا له
بالمراد، فما أطاعوا أمر الله الودود، بل إذا ظهر فيهم المسيح الموعود فكفروا به
كأنهم اليهود، وقد نزل ذلك الموعود عند طوفان الصليب، وعند تقليب الإسلام كل
التقليب، فهل اتبع العلماء هذا المسيح؟ كلا، بل أكفروه وأظهروا الكفر القبيح،
وأصروا على الأباطيل، وخدموا القسوس، فأخذهم القسوس، وشجوا الرءوس،
وأذاقوهم ما يذيقون المحبوس فرأوا اليوم المنحوس. سيقول العلماء إن الدولة
البريطانية أعانت القسوس، ونصرتهم بحيل تشابه الجبل الركين لينصروا
المسلمين في جميع العالمين.
والأمر ليس كذلك، والعلماء ليسوا بمعذورين، فإن الدولة ما نصرت القسوس
بأموالها، ولا بجنود مقاتلين، وما أعطتهم حرية أكثر منكم ليرتاب من كان من
المرتابين، بل أنشأت قانونًا سواء بيننا وبينهم، ولها حق عليكم لو كنتم شاكرين.
أتريدون أن تسيئوا إلى قوم أحسنوا إليكم، والله لا يحب الكفارين الغامطين،
ومن إحسانهم أنكم تعيشون بالأمن والأمان، وقد كنتم تخطفون من قبل هذه الدولة
في هذه البلدان، وأما اليوم فلا يؤذيكم ذباب ولا بقة ولا أحد من الجيران، وإن
ليلكم أقرب إلى الأمن من نهار قوم خلت قبل هذا الزمان، ومن الدولة حفظة عليكم
لتعتصموا من اللصوص وأهل العدوان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ! وإنا
رأينا من قبلها زمانًا موحشًا من دونه الحطمة، واليوم بجنتها عرضت علينا الجنة،
نقطف من ثمارها، ونأوى إلى أشجارها؛ ولذلك قلت غير مرة إن الجهاد ورفع
السيف عليهم ذنب عظيم، وكيف يؤذي المحسن من هو كريم؟ ! من آذى محسنه
فهو لئيم) .
هذا كلام المسيح الموعود عن طغاة الاستعمار المنكود، فهل يدافع الإنجليز
عن أنفسهم في كل مكان بأكثر من هذا الهذيان، اللهم إن هذا هو البهتان، وانظر
إليه كيف ينفي عن الإنجليز مساعدة المبشرين وهم أعضادهم في كل وقت، لا
ينكرون ذلك ولا يخفون ما هنالك، بل يساعدونهم في كل حين بأوقاف المسلمين،
وما أنباء التبشير في السودان الآن وفي غير السودان من قبل ببعيد عن هذا المسيح
الموعود؛ ولكن الغرض يعمي ويصم.
وقد نشرت مجلة الفتح الغراء في العدد 664 بتاريخ 10 جمادى الآخرة سنة
1358 استفتاء لعلماء الهند، جاء به كثير من أقوال هذا المدعي المكفرة، مثل قوله:
(إني نبي، وأنا المخصوص بالنبوة في هذه الأمة) من كتاب حقيقة الوحي،
ص 391 له.
وقوله: (خاطبني الله بقوله: اسمع يا ولدي) من كتاب البشرى، ص 94
له.
وقوله (كان المسيح متعودًا على الكذب والافتراء) من كتاب ضميمة أنجام
آتهم، ص 17.
وهكذا من هذه التخريفات وقد أفتى علماء الهند الفضلاء بكفره لهذه الأقوال
الشائنة، وذيلت هذه الفتيا بتوقيعات كثير من الأفراد والطبقات العلمية في جميع
بلاد الهند تقريبًا، وفي كثير من بلدان الإسلام.
(4) أما حادثة الأزهر، فخلاصتها أن طالبين ألبانيين ممن ينتسبون إلى
هذه الطائفة، اندرجا في سلك طلبة القسم العام، وتنبه لهما بعض اليقظين من
الطلبة، فأبلغوا أمرهما إلى الجهات المختصة في الأزهر، فأُجري تحقيق بمعرفة
شيخ القسم العام، ثم ألفت لجنة للكشف عن حقيقة هذا المذهب، وقد أمد بعض
الغيورين هذه اللجنة بكثير من كتب هذه الطائفة، التي تصرح بضلالها ومِحالها.
وكلمتنا لحضرات أصحاب الفضيلة علماء الأزهر الأجلاء - وعلى رأسهم
فضيلة الأستاذ الأكبر - أن الأمر أهون من ذلك كله، والحق واضح بيِّن، ووجود
هذين الطالبين بين الطلبة فيه خطر محقق، ذلك إلى أنهما يستخدمان نسبتهما
للأزهر وحملهما لاسم طلب العلم فيه استخدامًا خبيثًا في تأييد نحلتهما الضالة الهدامة.
وقد ذاع الأمر الآن في مصر وفي غير مصر من بلاد الإسلام، وعلى يد هذين
الطالبين وأمثالهما ممن يشايعهما في ألبانيا ذاع السفور والتحلل من عقدة الإسلام،
ورأي الأزهر رأي رسمي، يتخذه الناس حجة في كل أقطار العالم، فتبعة فتواه في
هذا كبيرة عظيمة، ومسئوليته في هذا لا يعلم مداها إلا الله.
نرجو أن تضع اللجنة نصب عينها هذه الحقائق، وأن تقذف هذه الفتنة بالحق
الواضح فتدمغها، فإذا هي زاهقة، وأن تأخذ بالحزم فتقصي عن حرم الأزهر كل
طالب لا خير فيه للإسلام، والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
(في العدد القادم)
ورد علينا سؤالان: أحدهما خاص باستحضار الأرواح، والثاني خاص بما
قيل في خطيئة آدم عليه السلام، نرجئ الكلام فيهما إلى العدد القادم.
__________(35/443)
الكاتب: جمعية الشبان الإندونيسيين والملايويين بالقاهرة
__________
ماذا في إندونيسيا
في أقصى الشرق، بين أمواج البحار المتلاطمة والجو المملوء بالأعاصير
يسكن إخوان منكم مسلمون، يوحدون بالله وبرسوله وبالكتاب المبين.
هؤلاء إخوانكم الإندونيسيون، الذين يبلغ عددهم في إحصاء سنة 1930
(59.143.775) نفس، منهم 85 % من المسلمين، وهناك أيضًا عدد من
العرب يبلغ 52000.
ومن ثلاثة قرون مضت من يوم أن دخل الهولنديون تلك البلاد وأمسكوا أَزِمَّة
أمورها، واستولوا على جمع منابع حياتها الاقتصادية، وأخذوا يدسون سم الدسائس
في تشتيت شمل الأهالي بوساطة الظلم والاستبداد والاستعانة بالمبشرين.
* * *
نتائج جهود المبشرين
للمبشرين سلاح قوى وطرق عديدة في القيام بدعوتهم؛ ومن طرقهم فتح
المدارس وإنشاء الجمعيات والكنائس والمستشفيات والملاجئ وتأليف كتب تدخل في
مناهج التعليم في المدارس الحكومية.
ذكر في البيان السنوي لسنة 1938 أن النصارى الكاثوليكيين قد نشروا
دعوتهم واستولوا على معظم بقاع إندونيسيا، ولهم نفوذ في أربع عشرة مدينة كبيرة،
ولهم من الأعضاء 489.400 نفس، ومن المدارس 1.404، وتلاميذها
129.208 ولهم قسس، والقائمون بأمر الدين يقدرون بنحو 3.592، ولهم
جمعيات من كل طراز يبلغ عددها 23 جمعية، ومجلات عددها 42 مجلة بلغات
مختلفة.
وللبروتوستانت حركة عنيفة أيضًا، فقد ذكروا في بيانهم بعد مرور 40 عامًا
من تاريخ حركتهم، أن عدد المنتمين إليهم قد زاد؛ ففي جزيرة جاوة بعد أن كان
15.000 صار 60.000، وفي بانك من 40.000 إلى 400.000، وفي نياس
من 5.000 إلى 120.000، وفي تهاما 60.000، وفي الغانة الجديدة 70.000،
وفي جزيرة تيمور من 3.000 إلى 150.000، فبلغ عددهم الآن 860.000 نفس.
بينما هي لا تساعد، بل عاقت الطريق لكل مسلم يريد الخروج من وطنه
لطلب العلم، فَلَكَمْ لاقى طلبة العلم الإندونيسيون المتاعب والويلات في سبيل الدين
حينما أرادوا النزوح إلى مصر أو الحجاز.
* * *
كيف يُضْطَهَد الإسلام؟!
تزرف الأعين دمًا إذا رأت تلك الحوادث الجسام التي تتمثل في نفوس طاهرة
آمنة لا تؤذي أحدًا، بل هي لربها خالصة ولقانون الشريعة خاضعة.
فهناك المسلمون أيها السادة - مع أغلبيتهم - مضطهدون، لا تزال حقوقهم
مهضومة ضائعة؛ إذا ما جاءت أوقات الصلاة يحال بينهم وبين المساجد، وإذا ما
تفوهوا بآيات الذكر الحكيم يحاسبون عليها، ولم يسمح لهم أن يقرأوا باب الجهاد في
الفقه ولا الآيات الحاثة على ذلك، وما أكثر عدد الذين ذهبوا ضحية قضية الإسلام،
ومنهم طالبان من مصر وهما الحاجان مختار لطفي وإلياس يعقوب، ولا تزال
أسماؤهما مقيدة في سجل الأزهر كطالبين.
هذا إلى أنهم يسدون الطريق في وجه كل مسلم يريد الخروج من وطنه لطلب
العلم، فكم لاقى طلبة العلم الإندونيسيون المتاعب والويلات في سبيل الدين حينما
أرادوا النزوح إلى مصر أو الحجاز.
هناك جزيرة كبيرة وهي الغانة الجديدة قد ملئت بالمجاهدين المنفيين من
الأبرار الأطهار، أدامهم الله للإسلام خيرًا، وجعلهم مثالاً يحتذى، فهذا المنفى
هو مثال حي لتلك المظلمة، ألا ساء ما يعملون.
* * *
نظام الضرائب
أنواع الضرائب في إندونيسيا كثيرة جدًّا؛ فهي حوالي خمسة عشر نوعًا:
1 - ضريبة الرأس: تفرض على كل شخص حي؛ غنيًّا كان أو معدمًا -
بلغ السن القانونية، سواء أكان يكتسب أم لا، سيما من ينضم إلى الحكومة في
خدمة والسعي لمصالحها، هذه الضريبة في غاية من الشدة تجبى رغم الأنوف،
فمن لم يستطع دفعها يحبس مدة مع الأعمال الشاقة، فإذا ما نازع الحكومة أو وقف
أمامها وقفة المستفهم يطرد من الرحمة، وينفى إلى إحدى الجزر البعيدة التي يسكنها
آكلو لحوم البشر، ويباع في سبيل الضريبة كل ما يملكه المرء من منزل وأثاث،
حتى أحيانًا يجرد من ثوبه الكمالي.
2 - ضريبة المشي: هي ضريبة لم يسمع ما يضارعها في أي أمة مضت؛
فهي تجبى من كل شخص بحجة إصلاح الطرق؛ حتى لا توجد فيها وعور تعطل
حركة المشي والسير!!
3 - ضريبة الأطيان والأملاك: هذه مثلها كمثل الضريبة المفروضة على
عامة الشعب في فرنسا قبل الثورة؛ ولكنها أسوأ حالاً من تلك، خصوصًا بعد
تأسيس بنك التسيلف كالذي وجد في مصر في هذه الأيام وعلى طريقته أيضًا.
4 - ضريبة المواصلات: ضريبة لا بأس بها، ولو أنها ثقيلة العبء جدًّا
لكثرة قيمتها، وقد تضايق منها العمال الذين يستعملون الدراجات في القيام بأعمالهم.
5 - ضريبة الذبائح: تفرض على كل ذبيحة تذبح، سواء كانت للأضحية أو
العقيقة، وقدم المسلمون احتجاجًا طالبين إعفاءهم من ضريبة العقيقة فقط، وإلى
الآن لم نسمع من أمرها شيئًا.
* * *
إدارة البلاد
ومن جهة الإدارة؛ فيرأس إندونيسيا حاكم هولندي من طرف الحكومة العليا
بهولندة ليمثلها في تلك البلاد، أما من جهة نظام الحكم السياسي؛ فهي مقسمة إلى
قسمين، قسم مستقل استقلالاً داخليًّا، وهو سبعة بلاد (جكياكرتا وسوراكرتا في
جزيرة جاوة، ودلي ولنجكت، وسروانج وأساهن في سومطرة، وكوتاي في
بورنو) .
ويحكم هذه البلاد سلاطين وطنيون؛ ولكن نفوذهم يسلب شيئًا فشيئًا وينمحي
بالتدريج، حتى أصبحوا كصور متحركة، والقسم الآخر أكبر مساحة من سابقه،
وهو يقدر 90 في المائة من مساحة البلاد، وهو مستعمر استعمارًا تامًّا.
هؤلاء السلاطين وإن كانوا من الوطنيين إلا أنهم قد تشبعوا بروح العصاة
فخرجوا عن إرادة الشعب، بل عكروا صفو دينهم بمعاكستهم إياهم في جميع منافذ
الحياة العامة؛ لأنهم يخافون أن تضيع مراكزهم إذا تحققت رغبة الوطنيين في
الاستقلال، ولا سيما إذا ما صارت إندونيسيا جمهورية كما ينبغي أن تكون.
* * *
المجلس النيابي
في سنة 1918 لما طلب الإندونيسيون البرلمان في أثناء الحرب العظمى
أنشئ مجلس نيابي إرضاء لخاطرهم، في هذا المجلس 60 عضوًا، منهم 30 من
أبناء الجنس الأهلي، 20 منهم بالانتخاب، و10 بالتعيين، و25 من الهولنديين،
و5 من الأقطار الشرقية كالعرب والصين.
طريقة الوصول إلى عضوية هذا المجلس هي طريقة الانتخاب بوساطة
المجالس البلدية التي تستعين بها الحكومة، وبعد هذا الانتخاب تختار منهم الحكومة
نصيرها، ومنهم أيضًا من تعينهم الحكومة بمطلق إرادتها.
وليس لهذا المجلس تصرف - وإن قل - بل هو عبارة عن مجلس
استشاري لا أكثر.
* * *
طلب البرلمان
لما تحرك العالم في هذه الأيام الأخيرة، وبدا في سماء السياسة الدولية ارتباك
شديد، وخافت كل دولة على نفسها من الضياع وخصوصًا الصغيرة منها؛ فلذلك
طلب الإندونيسيون من الحكومة الهولندية أن تمنحهم نوعًا جديدًا من الحكم فيه شيء
من الحرية، حتى يتنفسوا الصعداء بعد تلك القرون العديدة التي لاقوا في أثنائها
متاعب كثيرة بدون رحمة ولا شفقة.
وجد الإندونيسيون أنهم بهذا البرلمان يمكنهم حل المشاكل الدينية التي طالما
يسكت عنها فتكبر وتترعرع فتزيد الطين بلة، فاتحدت الآراء وكون أعضاء
المجلس النيابي من أنفسهم كتلة توجهوا جميعًا بها لتحقيق هذا الغرض السامي؛
ففي يوم 23 ديسمبر سنة 1939 طلبت الجبهة الوطنية الإندونيسية المكونة من 24
حزبًا من الحكومة الهولندية عن طريق مجلس النواب الهولندي بمدينة لاهاي، أن
تمنح الإندونيسيين (برلمان) ، فيه يتشاورون على أساس النظام الديمقراطي
ويسهرون فيه على مصلحة البلاد، ولا سيما في الحالة الحاضرة مع، محافظتهم
على الصداقة الودية للحكومة الهولندية.
مثل هذا المطلب البسيط الذي يرجو ذلك الشعب الإسلامي أن يتحصل عليه لا
تهتم به الحكومة الهولندية، فجاء على لسان وزير المستعمرات الرفض التام بدون
حجة مقبولة.
علمنا أن مصر زعيمة الإسلام ومنبع المدنية الشرقية، وساداتكم أكبر ممثلي
الدين فيها، قد دافعتم عن الإسلام كثيرًا في مواقف مشرفة؛ فلذلك لا نحثكم على
شيء، بل أنتم أدرى بما يجب أن تعملوه في مثل هذا الوقت ولهذه الأمة الشرقية
المسلمة.
ليس لنا غير أن نقدم لحضراتكم بعض المطالب، علكم توافقون عليها
وتحبذونها:
أولاً: تكوين جبهة إسلامية من جميع الجمعيات الإسلامية بمصر، ولو
موقتة.
ثانياً: إرسال عريضة إلى البرلمان الهولندي، وعريضة أخرى لعصبة الأمم،
يطلب فيها النظر في تحقيق رغبة الإندونيسيين في البرلمان، وطلب محو منفى
الغانة الجديدة، وإرجاع المنفيين من منفاهم.
ثالثا: طلب تحرير العقول الإسلامية بفك القيود من مناهج التعليم في المدارس
التي ما زالت الحكومة الهولندية تسيطر عليها السيطرة الكاملة.
هذه المطالب مبنية على رغبة الشعب الإندونسي في الأيام الأخيرة. ونحن -
أبناء إندونيسيا في مصر - كبيرو الأمل في أن يوفقكم الله في العمل لقضيتنا حتى
يوفقنا جميعًا لخير الإسلام والمسلمين.
إليكم هذا، مع شكر دائم، ودعاء مستمر.
... ... ... ... جمعية الشبان الإندونيسيين والملايويين بالقاهرة
__________(35/516)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار منذ عشرين سنة
(ربيع الأول سنة 1339)
الاتحاد والاقتصاد
بقلم السيد محمد رشيد رضا
رحمه الله
كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم
ونظام الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما وشرح الكُتَّاب
لفوائدهما، ولمَّا يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لمَّا يُحِط أكثر العلماء والزعماء منا
خبرًا بهما؛ لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في
الحوادث، والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على
سلوك الصراط المستقيم.
كنا منذ أنشأنا المنار في أواخر سنة 1315 للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو
إليه القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جُلَّ عنايتهم في إصلاح شئونهم
بالتربية المالية التي تكوِّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف
بثروتها في القيام بمصالحها كما تشاء. بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك
العهد؛ إذ كنا نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ر) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في
(الجريدة) في أول العهد بظهورها، في مقالة عنوانها (إلى أي شيء أنت
يا مصر أحوج) نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار، الذي
صدر في صفر سنة 325، ونحمد الله - تعالى - أن رأينا في هذه السنين آيات
الاتحاد في هذه البلاد العزيزة، ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال
الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال
بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود،
فالواجب الآن على كل مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل
الذي وقع منه على نيل الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع؛ فإن الاتحاد إذا ثلم
وانفصمت عروته قبل بدو صلاح ثمرته، نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة
شيصًا لا غَنَاء فيها، وإذا انتكث فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال
ابتداء ولا بقاء إلا بالاتحاد.
ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة
إلا بالاقتصاد، وإن الاستقلال السياسي متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن
مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين.
إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقها في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛
لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برزت
بها الأمم الشمالية الغربية فاستعمرت أو استعبدت بها الأمم الشرقية والجنوبية،
حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية أعظم
استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما
هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال
المترتبة عليها أينما وجدوا وحينما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي
محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى
الغربيين فيها من عهد قريب.
ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا
يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها،
وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي
يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزال بيدهم فما
ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛ لأنهم
أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم والفنون
المالية وغيرها وأكثرها نفقة عليها، تراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع من
يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في
العلوم والفنون المالية والاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي
الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون
المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال
الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون
على كتابهم في إدارة ثروتهم، على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذيرًا
للأموال منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها.
من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإٍسلامي هو
السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول عن
الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم
وجبروتهم، والحق أن كلًّا من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص
كتابه في الأمرين؛ فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع
والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السموات،
والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد كما بينا ذلك
وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله - تعالى - في أوائل
سورة النساء: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء:
5) ، أي جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في
صفات المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ونهى في وصايا سورة الإسراء
عن المبالغة في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين
إخوان الشياطين، وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي
تشمل الوصايا العشر التي في التوراة - ما عدا بطالة يوم السبت - وتزيد عليها،
وفي السُّنة وصايا وأحكام كثيرة في ذلك.
فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا
كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات، ولا سيما
الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة، المخربات للديار: السكر والزنا والقمار؟ وهم
على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم
أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في
الاجتماع البشرى كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده
من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من
كسب وقرض ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم
من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري
الشيء بأضعاف ثمنه وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء في
نظره؛ ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين،
فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء
الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء للأجانب؛ لأن
جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المسارب المالية وسائر المرابين وجيوب
أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة
أخرى إن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية.
ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها
إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الإحصاء في علم
الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية ولا سيما الغزل
والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال
المنتظر يزيل - إن شاء الله - ما كان من الموانع دون مثل هذا العمل، وإنني
رأيت في الهند معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية
الخاصة بأهل البلاد - وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في
معمل كبير في بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج.
ويكون أهم أعمال هذه الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد،
وتأليف الشركات للمشروعات الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد
جمهور الأمة إلى الاقتصاد، وجعل ثروة البلاد قوة لها وضامنًا لاستقلالها بنفسها
وحريتها في التصرف بثروتها.
_______________________(35/521)
الكاتب: حسن البنا
__________
أسرار البلاغة في علم البيان
أصدر (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفه الإمام (عبد القاهر
الجرجاني) مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد صقيل، والكتاب ومؤلفه غنيان عن
التعريف، وقد وضع في وقت تحكمت دولة الألفاظ واستبدت على المعاني، وهو خير
ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوبًا وإيضاحًا للمسائل وبسطًا للدلائل، وقد امتاز
بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس وتأثير الكلام البليغ في العقل والقلب، وقد
عني بتصحيحه عالما المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد عبده) والشيخ
محمد محمود الشنقيطي، وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد رشيد رضا) .
وثمن النسخة 25 قرشا.
__________(35/526)
الكاتب: محمد الغزالي
__________
في محيط الدعوات
تحليل ومقارنة
العقل الباطن - حقيقة التدين الزائف - الصابئة قديمًا وحديثًا
في نفوس البشر ركام كثيف من الغرائز المرسلة والنزعات المشبوبة
والشهوات الجامحة، تأتلف جميعًا لتصوغ العمل الإنساني فيما تشاء له من قوالب،
ولتلونه بما تحب له من صبغة.
وليست النفس حين تتحرك لإدراك غاية قصدت إلى تحقيقها باذلة جهدًا يكلفها
العنت أو يشعرها ألم السعي، ما دامت حرارة الرغبة تمدها بالوقود فتدفعها،
وطلاب اللذة يحدوها مزخرفًا لها الغرض البعيد حتى تظفر به وتطمئن إلى مناله.
ذلك هدى العقل الباطن وحده - كما اصطلح علماء النفس - حيث لا جديد في
فطرة الإنسان العتيدة على ما ذرأها الله وقبلما تدركها قيود الدين فتكبح من جماحها،
وتعاليمه فتهذب من ميولها، وأنظمته فتمحق من فوضاها وتكفكف تأبيها على الخير.
ثم تسير بها وجهة أخرى، أو ذلك عمل الإنسان لذاته وتفانيه في عبادة هواه،
ونسيانه المطلق لله الكريم، وانبعاثه في الدنيا كائنًا طياشًا أحمق، صفرًا من كل
غاية يمجده الانتهاء إليها والاكتمال في جوارها {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .
هذا النفاذ البالغ إلى كل شيء، والذي تضحمل أمامه الحواجز وتذوب
الأسيجة، وهذا الاندفاع العنيف الدائب يتعجل النهاية ويتجشم إدراكها، هو مرد
السلوك كله عند كثير من علماء النفس، حتى قال (فرويد) مكتشف العقل الباطن:
(إن العقل المفكر لا يقوم إلا بخدمة اللاشعور، ولا يمكن أن يستجيب لغير ندائه،
ولا أن يستمع لغير أوامره) .
قد يكون هذا القول صحيحًا على إطلاقه في كل نفس لم يزكها الإسلام، ولم
تسمُ بها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ
كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 19) .
ولكنه قلما يصدق على النفس المسلمة التي يحرق إيمانها خبث العقل الباطن،
حتى إذا أتى عليه استقام مع طبيعة النفس في مظهر ديني بحت. ألم يكن عمر بن
الخطاب رضى الله عنه غضوبًا في جاهليته ثم في إسلامه؛ ولكن شتان ما بين
غضب تستخفه الحمية الطائشة لأوهى الأسباب، وبين غضب غالٍ يثور لحق الله
وإعلاء دينه وليلعن الكفر ويستذل أهله، والواقع أن جوهر النفس الأصيل يبقى كمًّا
ويبقى كذلك كيفًا إن لم نحسب تغير البواعث وتغير الأهداف، وهو ما يتناوله الدين
من أساسه وتجهد الرسالات كلها في تحقيقه.
وقبل أن نقرر نصيب النفس المسلمة من هذا التغيير المنشود، نقف لحظة
لنلمح خلالها النفس اليهودية والنفس المسيحية، ولنرى مقدار تأثر النفسين في
حياتيهما بالدين.
* * *
لأمر ما كانت (النفس اليهودية) مرتعًا للدعوات المشينة والدسائس الساقطة،
وكانت حياتهم بين الأمم التي رماها القدر بهم تشبه حياة الطفيليات التي تعيش على
حساب الجسم لتسرق منه غذاءه وتمنع عنه نماءه، ويبدو أن نقمة الله التي حاقت
بشعوب إسرائيل حرمتهم للأبد عناصر الحياة الإنسانية العالية رغم ما تزعمه هذه
النفوس وتدعيه من علائق وثيقة بالله.
ذكرت إحدى الصحف اليومية منذ شهور نبأ مظاهرة قام بها العمال اليهود في
القدس، كانوا يهتفون في أثنائها طالبين الخبز، ويهددون - إن لم تجب مطالبهم -
بترك اليهودية! ! قد يدعو إلى العجب أن يهون دين على أتباعه حتى يبيعوه
برغيف؛ ولكن الأمر لا يستدعي دهشة، فاليهودي لا يحس بأنه منقاد لعقيدة مقدسة
لها حرمتها ولها جلالها، وليس ثمة إلا لقب يورث يحمله وهو على أهبة تركه إن
عارض شيئًا من متاع الدنيا الذي يجتذبه كل حين، وإذا كان الدين قد هزمه انفعال
الجوع هنا، فقد انهزم من قبل أمام سورة الحقد المضطرم في نفوس آبائهم لما
سألهم الأميون من العرب عن دين محمد، فزعم الأحبار المؤمنون! أن الوثنية خير
منه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51) ولما جحدوا
الرسالة الكريمة وقد استيقنتها أنفسهم {حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ} (البقرة: 109)
كيف يستقيم سلطان الدين على نفوس من يعتنقونه إذا كانت هذه النفوس
صريعة لكل نزوات الهوى وأعراض الحياة ومفاتن الرياسات الفارغة؟ وأي شيء
مما يطلبه العقل الباطن قد منع عنه بل اقتصد في إجابته؟ وأين مكان التغير الذي
يفرضه الدين حتمًا على دوافع العمل وغاياته ليكون عملاً دينيًّا لا شيء قط؟
* * *
ولنهبط إلى أغوار النفس المسيحية لنسبرها، إنني في " شَبْرَا " أشهد كثيرًا من
حفلات الصلاة أيام الآحاد، وكيف يثير القسيس انفعال المصلين بالترنيمات الحزينة
والأنشدة الحنون، على حين ينعكس اللهب الخافت المسترسل من مئات الشموع
على صدور التماثيل الخرساء الجامدة، وتردد جدران الكنيس أصداء جرسه الثائر
الذي يطغى أحيانًا على هينمة الشمامسة وترجيع الجمهور المسحور.
هذا النوع من السيطرة على النفس غير جديد، ولم تزل الغابات منذ آلاف
السنين تدوي بطبول الكهنة وتعاويذ السحرة ممن يمثلون الديرة بين الزنوج الأغبياء،
ولا تزال معابد الهنود حافلة بهذه المظاهر الأخاذة التي نقلها المسيحيون بأمانة
بالغة إلى مذابحهم ومحاريبهم، ولكن ما جدوى هذا كله؟ ومتى كان الدين جوقة
موسيقى وبضعة ألحان يندس بينها قليل أو كثير من التعاليم والوصايا التافهة؟
لذلك كانت النفس المسيحية في ساعات الكنائس غيرها في مواجهة شئون
الحياة، عندما تبرز في حقيقتها المجردة وطبيعتها الأصيلة، وقد طاش سحر
النواقيس والشموع وارتدت إنسانًا ضعيفًا تستبد به نوازعه القاسية، وهل يظن أن
المرأة المسيحية جاهدت عواطفها كثيرًا عندما عرضت في مباريات الجمال،
وكانت تود ألا تُعرض؟ أو أن الرجل المسيحي جاهد شهواته كثيرًا قبل أن يحتضن
امرأة غيره في صالات الرقص، وكان يود أن يبتعد؟
إنما تحيا النفس المسيحية في جو طليق مما تريده من حرية تستبيح كل شيء،
لا ظل فيها لرهبة ولا سلطان، وليست شهادة (كارل ماركس) للإسلام إلا ضربًا
من التفكير الحر، ولا تخرصات (فولتير) إلا مثلاً للتقليد الأحمق، ولا كلمات
(جبران) عن نبي العرب إلا فنًّا من الخيال السمج، ولا عدد (الشرق والإسلام)
الذي أصدرته إدارة الهلال إلا مظهرًا للثقافة التي يتاجر بها الأدباء، وهؤلاء
المسيحيون أبعد ما يكونون عن التقيد بغير حاجات نفوسهم، ورغائبها المادية
والمعنوية، وقد رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وغفلوا عما بعد ذلك من حقائق
لو أنهم التفتوا إلى شيء منها لأثار في نفوسهم على الأقل ميلاً إلى التطلع
والاكتشاف.
فماذا يقول الإنسان مثلاً في بابا روما الذي زعموا أنه يعرف تقريبًا سبع لغات
ليس بينها العربية؟ ! ما هذا النكوص عن البحث وراء الحقيقة، وأي معنى تردد
في نفس الرجل فقعد به عن تعلم دين كان له مع دينه تاريخ رائع وهو الذي لم
يكسل عن تعلم أدنى اللغات، ولكن لله سرًّا في تكوين بعض النفوس.
لعل فيما سبق ما يفسر حكم القرآن الصارم على أهل الكتاب؛ حيث لم
يعترف بهذه المراسيم التي تنسب النفس إلى الإيمان وهي منه خواء، فتحت أردية
الكهنوت الفضفاضة وما تشعر به من زهد وعزوف تتوارى نفوس خطرة {إِنَّ
كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34) ولمَّا كان لزامًا على المسلمين أن لا يتركوا دين الله يلتبس بأهواء
الناس؛ حتى لا يختلط كذب الأرض بوحي السماء وفي هذا ما لا يخفى من الإساءة
إلى الدعوة الحقة وما يوقف انتشارها - أمر المسلمين بإعلان الحرب عليها حتى
يكشفوا زيفها {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) وكذلك طرحت الفوارق الشكلية التي تميز
الكتابيين عن الوثنيين، وأطلق أسم الكفر الصريح عليهم ليشمل الجميع على السواء
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ
شَرُّ البَرِيَّةِ} (البينة: 6) .
على أنها قلة من الناس تلك التي لا تزال تخلص للكنائس المسيحية على
تفاوت مذاهبها، وليس بين مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا إلا عدد يسير
من المسيحيين الأقحاح يتعارفون على دينهم كما يتعارف اللصوص على كلمة السر،
أما الكثرة العظمى منهم فقد ثارت على هذا (النفاق الديني) وآثرت أن تبقى
بعيدة عنه، ولم تر أي حرج في أن تعيش مجاهرة بإلحادها، معلنة حقيقة طواياها.
والحياة التي تجاهر بعداوتها للأديان - صحيحها وزائفها - ليست وليدة هذا
العصر، بل هي متغلغلة في القدم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 24) ولكنا لا نظن هذا النوع السافل من الحياة
صادف الشيوع الذي وجده في القارتين المسيحيتين، وجدير بنا أن نطلق اسم
(الصابئة) على هؤلاء الذين ارتضوا الحياة الدنيا فَحَسْب أقصى نهايات آلامهم
وآمالهم، ونظموا شؤونهم وصِلاتهم ومشروعاتهم على ذلك الأساس، وفي الوضع
اللغوي والاستعمال العرفي ما يبرر هذا الإطلاق.
ولقد شهدت أوربا معركة عنيفة بين المسيحيين والصابئة منذ قرون تحت
ستار النزاع بين العلم والدين، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمسيحية كانت بدء
تقوض النظام الكنسي وانهيار سلطانه، ومن يومئذ لبس الصابئون ثياب العلماء
وتقدموا في ميادين العلوم الطبيعية تقدمًا مشهودًا، وقبع القساوسة في الأديار لا
يستطيعون مطلقًا المساهمة في الحياة العامة بنصيب طائل؛ ذلك أن العالم أنكر
عليهم أكثر من معيشة الانزواء والوحدة والاعتزال، ولا ريب أن الصابئة هم رسل
الحضارة الحديثة ومناصروها، وقادة العالم بها إلى سوء المصير، تلك الحضارة
الغربية التي لم تعرف الدنيا شرًّا منها؛ فلقد كان خيرًا للناس أن يعيشوا في أكواخ
تضاء بمشاعل الزيت وهم أطهار أبرار، من أن تفرقهم أضواء الكهرباء بين
المسارح الضخمة والمراقص الفخمة، ولكان خيرًا للناس أن يسيروا على الأرض
وهم أشراف من أن يطيروا في الهواء وهم لصوص، ولكان خيرًا للناس أن
تستغرق أسفارهم الشهور الطويلة يقطعون مراحلها على أرجلهم أو على دوابهم وهم
قانعون راضون، من أن يستخدموا هذه السيارات وغيرها من وسائل النقل وهم
على اتصالهم الميسور تقطعهم المطامع وتباعد بينهم شر بعد.
تلك لمحة عن حال الصابئة، وهم - كما ينبغي أن نعتقد - أخطر أعداء
الإسلام وأشدهم شكيمة، وليس بنافع في تطهير الأرض منهم إلا جهاد تتمثل فيه
عظمة الثورة الإسلامية الأولى وبطولتها وجراءتها، وإذا كانت النفوس غير
المسلمة كما وصفنا مهما تقطع أمرها شيعًا ومهما تفرقت سبلها شرودًا، لا تزال
آصرة تربط بين شيعها وسمة تجمع بين طرائقها، هي آصرة الضلال المشترك
وسمة البطلان البعيد، أو هي كما قدمنا أول البحث هذا الركام الكثيف من الغرائز
المرسلة والنزعات المشبوبة والشهوات الجامحة، فإن في هذا خير تفسير
للاضطراب الاجتماعي والسياسي الذي نشهد انقلاباته في أوربا دائمًا، والثورات
البيضاء والسوداء والحمراء التي تهز كيانها حينًا بعد حين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الغزالي
... ... ... ... ... ... ... ... ... كلية أصول الدين
_______________________(35/527)
الكاتب: محمد المهدي
__________
مشكلة المرأة في مصر
ورد علينا هذا الخطاب من حضرة كاتبه الفاضل، ولأهمية الموضوع سنوالي
الكتابة فيه ابتداء من العدد القادم، إن شاء الله.
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة المنار:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فلقد سرنا وسر المسلمين كثيرًا أن توليتم إصدار مجلة المنار بعد أن توقفت
حينًا بوفاة منشئها المرحوم السيد محمد رشيد رضا، ولا مشاحة في أنه لا غنى
للمسلمين عن هذه المجلة التي ناضلت أعظم نضال عن دين الله تعالى، وأزاحت
عن وجهه المنير حجبًا كثيفة من بدع وخرافات وأوهام وجهالات وتقاليد
وعادات لا تمت به بصلة قريبة أو بعيدة، وإعادة إصدارها على يد فضيلتكم جعلنا
نرقب عودة ذلك العهد الذي ازدهرت فيه أيما ازدهار، فجزاكم الله عن الإسلام
والمسلمين خير الجزاء.
والآن أوجه نظر فضيلتكم إلى مسألة اجتماعية خطيرة أصاب منها المسلمين
شر عظيم، تلك هي: علاقة الرجل بالمرأة؛ فلقد ترتب على جهل الكثيرين من
كل من الجنسين حقوقه وواجباته قِبل الآخر أن وقعنا في هذه الفوضى التي كادت
تقضي على كيان الأسر، وتوقع البلاد في شر مستطير. ومن لا يبكي ويتحسر
عندما يرى بوجه عام الرجال يقضون أوقات فراغهم في المقاهي وفي غشيان أمكنة
اللهو والفجور، وقد هجروا منازلهم فلا يكادون يعودون إليها إلا للنوم، والنساء وقد
أطلقن لأنفسهن العنان في إبداء زينتهن للرجال الأجانب فلا حجاب ولا حياء، وقد
نسين واجباتهن نحو أزواجهن وأولادهن وبيوتهن، وصار القول قولهن في كل
شيء والأمر أمرهن، قد يكون لكثير من الرجال والنساء بعض العذر لجهلهم أوامر
دينهم، خصوصًا وقد انتشرت بين الناس آراء وأفكار في علاقة الرجل بالمرأة
صادرة عن الملحدين، ينكرها الدين ويمجها العقل السليم.
فأنا أدعوكم باسم الدين أن تبينوا للناس في أول عدد يصدر من مجلة المنار
الغراء واجبات كل من الرجل والمرأة قِبل الآخر، وحقوق كل منهما بيانًا تفصيليًّا
لا لبس فيه ولا خفاء، وبذلك تكونون أصبتم غرضين، أحدهما وضع حد للملحدين
من هذه الناحية الدقيقة والوقوف في تيار دعايتهم الذي كاد يجرف الأخلاق والدين،
وثانيهما تعريف المستعدين للإصلاح بواجبات دينهم وإقامة الحجة على الآخرين.
إن الأمر جد خطير، ومن أحق من فضيلتكم - وقد تصديتم للدعوة إلى الدين-
من بيان أوامر الله ورسوله في علاقة كل من الرجل والمرأة بالآخر؛ فقد ضج
العقلاء بالشكوى من هذه الحال ولا مجيب، واستفحل الداء ولا طبيب، وعسى أن
يساعد هذا البيان العقول والقلوب على حل مشكلة إحجام الشبان عن الزواج، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... محمد المهدي
... ... ... موظف متقاعد - شارع مدرسة ولي العهد بالعباسية
__________(35/535)
ربيع الثاني - 1359هـ
مايو - 1940م(35/)
الكاتب: حسن البنا
__________
احتجاب المنار
تأخر صدور المنار عن موعده هذه الشهور الماضية لأسباب رسمية كانت بيننا
وبين وزارة الداخلية المصرية، وقد زالت والحمد لله، وها هي المنار تعود إلى
الظهور لتقوم بواجبها في ميدان الدفاع عن الإسلام الحنيف والدعوة إليه.
ولغلوِّ الورق غلوًّا عظيمًا وصل إلى أكثر من الضعف، اضطررنا إلى جعل
العدد ثمانٍ وأربعين صفحة بدلاً من ثمانين، ونحن نأسف لهذا أسفًا شديدًا، ولكن
للضرورة حكمها.
وسيصدر العدد التاسع - إن شاء الله - في أوائل شهر جمادى الأولى، والعاشر
في أوائل جمادى الثانية بحول الله وقوته، وبذلك يتم المجلد الخامس والثلاثون
ويبدأ السادس والثلاثون، والله الموفق والمستعان.
__________(35/552)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار منذ عشرين سنة
ربيع الآخر سنة 1339
دعوة عرب الجزيرة إلى الوحدة والاتفاق
بقلم السيد محمد رشيد رضا
رحمه الله
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ
فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل
عمران: 103 - 105) .
ثبت في القرآن المجيد ثم في التواريخ التي دونها علماء العرب وغيرهم من
الأمم قديمًا وحديثًا ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة،
أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى أنهم
استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة
والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم
فروعًا منهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم من قبل أن يمزجها الإسلام بهم في
الدين واللغة والنسب بألوف السنين.
فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: 7 - 8) كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم
بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 128 - 130) وقوله في نسلهم وزرعهم
وضرعهم: {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 133 - 134)
وبيانه لهم أن هذه النعم يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء
وقوة {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً
إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: 52) وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في
تذكيره بنعم الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61) ، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء: 146 - 149) وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين
والشمال، واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات،
وحفظ الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى
الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل
شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد.
ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة ملكهم
حمورابي، من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك
البِرّ والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم - عليه الصلاة
والسلام - أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته، وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على
أن إبراهيم - صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا.
ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة
المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين: إما أن
العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر
وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان
للغتهم الأثر الخالد في لغتها.
هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ
ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة
المناهج، واضحة المسالك.
قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب
معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ
مَّشِيدٍ} (الحج: 45) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ومر على الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن الظانون
أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها شباب.
ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها
وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان، وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من
ظلمات الجاهلية والأمية إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها المكانة
الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلمة العليا في الحكم والسياسة،
فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن الأول من
حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يُعرف من اليابسة في الغرب،
وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة،
وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها جميع
اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب.
ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب وعاد
أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية أو ما يقرب منها، بل صاروا دون
الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة؛ فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في
هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة، التي جعلت
لكتاب الله المعجز تلك المكانة من عقولهم وقلوبهم، حتى إن كان أحدهم ليسمع
السورة أو الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى
ضدها.
عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية؛ يضرب بعضهم رقاب بعض، بعد أن ألف
الإسلام بينهم فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم، بعد أن كانوا
يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تُكفِّر كل
شيعة منهم الأخرى أو تُفَسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول
ربهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ
فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وما في معناه من الآيات والأحاديث.
إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم
في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل، في إثر
إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي
والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ولكن وحي شياطين التفريق قد
زين بزخرف القول لكل فريق أن كل شيعة تجمعها رابطة مذهب فإنما الواجب عليها
أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب الله وسنة رسوله وإن
اختلفوا في الرأي وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله - عز وجل -: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) وشُبهتها على هذه المخالفة إلى
الاهتداء بكتاب الله المنزل فتح لباب الاجتهاد المقفل، فاختلفوا في أصل الاهتداء
بالكتاب الذي أنزله الله - تعالى - لإزالة الاختلاف.
من غُص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يفعل من قد غُص بالماء
إن الله - تعالى - أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) فكيف يؤخذ بقول العلماء والأمراء الذين
يبغى بعضهم على بعض فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر إذا لم يرجعوا إلى
الأصل الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء:
59) ثم يعلل ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59)
أي أحسن عاقبة ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم في
تحكيم آرائهم والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم؟ على أن هذا الرد إلى كتاب الله
وسنة رسوله وذلك الاهتداء بهما لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا
بابه؛ فقد كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا
في استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلماء الأعلام.
نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع
الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وكادت تنتشر دعوته في جميع
جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد
أمر الإسلام في جميع أقطار المسلمين؛ ولكن حال دون ذلك فتنتان:
(أولاهما) مقاومة السياسة لها، والأخرى غلو الكثير من القائمين بها،
فالأولى إذاعة الساسة في العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه
الإذاعة بما اشتهر عنهم من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه
التهمة أصل، وقد بينا الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام
بذكرها الآن بيان استعداد العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان إذا قام بها من
يدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن،
وتذكير الغلاة من المتدينة بأن لا يغلوا في دينهم، ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا
يُحرِّموا ما لم يُحرِّم الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف
لهداية الدين بالتأول أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به
على قاعدة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وأن لا
يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الكفر بشيء مما يجب
الإيمان به عن جهل - وإن عدَّ بعضه الفقهاء كفرًا وردة - وكفر العناد وتكذيب
الرسول الذي كان عليه مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به
لا تلبث الدعوة أن تعم الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على
الزعامة وحب الرياسة.
هذا، وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً - وراء الخلاف
الديني - للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين
عارضين: وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية
القريبة المنال، وإنما الشقاء كل الشقاء في الشقاق الناشئ عن حب الرياسة والعلو،
وخطره المنذر بالهلاك والزوال.
إن في بلاد العرب من ينابيع الثروة ما يكفي لجعل أهلها من أغنى شعوب
الأرض؛ كمعادن الذهب والحديد والحجارة الكريمة والأملاح والزيوت المعدنية
وغير ذلك، وفي كثير من أرضها قابلية لخصب الزراعة يعز نظيره في غيرها،
وناهيك بقهوة اليمن ونخيل المدينة وفاكهة الطائف، وأهلها أذكى الشعوب، وأقواها
استعدادًا للتجارة، حتى أن عوام الحضارمة قد زاحموا بها أرقى شعوب هذا العصر
علمًا وتجربة في بلاد الهند وجاوة ومصر، فبقليل من العلم والنظام تدخل جزيرة
العرب في حياة جديدة من الثروة والعمران، وتحفظ نفسها من الخطر المحدق بها
الآن، ولكن ذلك يتوقف على إزالة العداء الذي طرأ على أئمتها في هذا الزمان.
إذا زال الشقاق وأديل منه الاتفاق بين أئمة اليمن والحجاز ونجد، زال في
أثره ما منيت به البلاد من الجهل والفقر، وما يتهددها من فقد الاستقلال والذل،
وإذا حل بالجزيرة ما جعله الله - تعالى - بسنته في البشر عقابًا لازمًا لأهل التنازع
والفشل، يذل الإسلام ويزول سلطانه عن رؤوس سائر الأمم، وتكون تبعة ذلك
على أمراء الجزيرة وأئمتها، وما يظن بأحد منهم أنه يحسب أن بلاده بمأمن من
سيطرة الأجانب بقوتها أو بحرها ووعورتها، إذا لم يبق (فيما أظن) منهم من
يجهل أن الأجانب قد استولوا على ما هو مثلها أو أشد منها قوة وألذع حرًّا وأصعب
وُعورة، على أنه ليس مثلها في كونه جزيرة أو شبه جزيرة، فهذه البلاد يمكن
للدول البحرية حصرها من البحر، ومنع السلاح عنها، وقطع موارد الرزق، ولا
سيما إذا ثبتت سيطرتها على بلاد سوريا والعراق، التي يسهل حصرها أيضًا إذا
هي نجت من تلك السيطرة، وليتذكروا جميعًا ما أوصى به النبي صلى الله عليه
وسلم في مرض موته بشأن جزيرتهم، وحكمة ما أشار إليه من أن الإسلام سيأرز
إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، وتطبيق ذلك على ما صار إليه أمر المسلمين
الآن.
إن بقاء عز الإسلام يتوقف على استقلال العرب وإصلاح شئونهم كما ثبت
عندنا بالنظر الصحيح المؤيد لحديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح، وهو قوله
عليه الصلاة والسلام: (وإذا ذلت العرب ذل الإسلام) ولا عز بغير استقلال،
ولا استقلال إلا بالقوة والمال، ولا قوة ولا ثروة مع الشقاق والفرقة، وإنما القوة
كل القوة بالاعتصام والوحدة، فإذا اتحد أمراء الجزيرة وأئمتها حفظوا استقلالهم،
وأمكنهم نشر العلم وتفجير ينابيع الثروة في بلادهم بمساعدة أهل البصيرة والقادرين
على تنظيم الإدارة والقوة وتدبير الثروة من أمتهم، وتسابقت الشعوب الغنية القوية
إلى موادتهم أو مصانعتهم للاستفادة من قوتهم وثروتهم، بل هي على وشك الاحتياج
إليهم مذ الآن؛ لما بين غربي أوروبا وشرقيها من المقارعة والصدام الذي يتوقف
على نتيجته ما يكون عليه الشرق من حكم ونظام، ولا سيما شعوب الإسلام من
العرب والترك والفرس والتتر والأفغان.
هذا ما أحكيه لهم عن رأي أهل البصيرة والدين من عقلاء العرب وعلماء
المسلمين، الذين يتنفسون الصعداء حزنًا ويحرقون الأُرَّم غيظًا وأسفًا كلما صخ
أسماعهم نبأ تقاتل أئمة الجزيرة للتنازع على بعض الجبال والأودية [1] ، مع خراب
البلاد وفقر العباد، اللذين يزيلهما الاتفاق والاتحاد، ويزيدهما الافتراق والجلاد،
وإنني أسأل صفوة المخلصين من عقلاء العرب وغيرهم من المسلمين أدعوهم
إلى عقد الاتفاق والحلف بينهم على الأصول الآتية:
(1) إبطال الحرب والغزو بين عرب الجزيرة بعضهم مع بعض، وحل
مشكلات الخلاف بالتحكيم ولو بصفة هدنة مؤقتة إلى أن يوضع للبلاد نظام حلفي
ثابت.
(2) حفظ الحالة الحاضرة باعتراف كل حكومة مستقلة في قسم الجزيرة
باستقلال سائر الحكومات الموجودة فيها اليوم، وترك مسائل الحدود إلى مجلس
التحكيم، بحيث لا يعد اعتراف بعضهم باستقلال بعض متضمنًا للرضا بالحدود
المختلف عليها.
(3) حرية المذاهب الدينية الموجودة في البلاد في التعليم والعمل والدعوة،
بشرط عدم طعن أحد في مذهب غيره أو تكفير متَّبعيه، بل يتبع في ذلك قوله تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ، فلكل أحد أن يبين بالدليل أو بنصوص المذاهب المعتمدة أحكام
الدين والكفر والحلال والحرام؛ ولكن ليس له أن يطبقها على طائفة معينة من أهل
القبلة؛ لأن التطبيق له شروط ولا سيما في شأن الطوائف والجماعات التي تقيم
الشعائر الإسلامية، بل ليس لغير الحاكم الشرعي في الدعوى الشرعية أن يحكم
بكفر شخص معين يدعي الإسلام ويقتله بذلك كما ينقل عن بعض الغلاة في بعض
البوادي، فرب قائل قول أو فاعل عده بعض العلماء كفرًا لدلالته عندهم على عدم
تصديق الرسول، وقائل القول أو فاعل الفعل من المؤمنين الموقنين ولكنه جاهل أو
متأول، ولو ظهر له الحق في المسألة لقبله مذعنًا، ورجع عما كان عليه تائبًا
مستغفرًا.
(4) حرية التجارة، وحفظ الأمن في البلاد، وتسهيل طرق المواصلات
بينها، وتنظيم مصلحة البريد والبرق، والمبادرة إلى إنشاء تلغراف لا سلكي في
البلاد ولا سيما عواصمها.
(5) إرسال كل حكومة معتمد إلى عاصمة الأخرى يكون وكيلاً لها عندها،
كما هو المعهود بين جميع الحكومات التي بينها عهود ولها مصالح في البلاد
الأخرى.
(6) بعد حصول هذه التمهيدات يتألف لهذه الحكومات مجلس حلفي، يكون
هو المرجع في حل جميع مسائل الخلاف ووضع الحدود بين البلاد، وجميع ما
يتعلق بحفظها وترقية شؤونها، وإننا متى رأينا من أئمة اليمن والحجاز ونجد
شروعًا في تنفيذ هذا العمل الذي دُعوا إليه جميعًا قبل أن تشتد الحاجة إليه بوقوع
الحرب العظمى وكثر الحديث فيه، فإن عقلاء الأمة العربية في سائر البلاد وأهل
الغيرة من مسلمي الأعاجم يمدونهم بآرائهم السديدة ومساعداتهم الرشيدة في تنفيذ
الاتفاق الحلفي، ونظام مجلسه، وسائر ما يحتاجون إليه في ذلك وفيما يترتب عليه
من إيجاد وسائل الثروة في البلاد.
فيا أيها الأئمة المتَّبعون في بلادكم، إنكم تعلمون أنكم مسئولون عند الله -
تعالى - عن كل ما يتعلق بأمر البلاد وأهلها، ولعلكم لا تعلمون حق العلم قدر
اهتمام الشعوب الإسلامية الأخرى بأمركم، وما يقولون عنكم كلما بلغهم شيء من
أنباء اختلافكم وتقاتلكم، ألا فاعلموا أن جميع العقلاء منهم ومن غيرهم يعلمون علم
اليقين أن اتفاقكم خير لكل منكم، وأن بقاء هذا الشقاق بينكم أكبر مصاب عليكم
وعلى شعبكم وأمتكم وملتكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال: 1) ،
والسلام على من اتبع الهدى ورجَّح المصلحة العامة على الهوى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
_______________________
(1) كجبل سعفان الذي يتقاتل عليه صاحبا اليمن وعسير، ووادي طربة الذي يتنازع فيه صاحبا الحجاز ونجد.(35/573)
الكاتب: حسن البنا
__________
المرأة المسلمة
كتب إليَّ كاتب فاضل يطلب أن أكتب عن المرأة وموقفها من الرجل،
وموقف الرجل منها، ورأي الإسلام في ذلك، وحث الناس على التمسك به
والنزول على حكمه.
لست أجهل أهمية الكتابة في موضوع كهذا، ولا أهمية انتظام شأن المرأة في
الأمة، فالمرأة نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير؛
لأنه المدرسة الأولى التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي
يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة، وهي بعد ذلك المؤثر
الأول في حياة الشباب والرجال على السواء.
لست أجهل كل هذا، ولم يهمله الإسلام الحنيف وهو الذي جاء نورًا وهدى
للناس، ينظم لهم كل شئون الحياة على أدق النظم وأفضل القواعد والنواميس،
أجل لم يهمل الإسلام كل هذا، ولم يدع الناس يهيمون فيه في كل واد، بل بيَّن لهم
الأمر بيانًا لا يدع زيادة لمستزيد.
وليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل وعلاقتهما
وواجب كل منهما نحو الآخر، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس؛ ولكن المهم
أن نسأل أنفسنا، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟
الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية
من حب التقليد الأوربي والانغماس فيه إلى الأذقان.
ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون
أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم
الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالاً سيئًا يخرجها عن
صورتها الإسلامية إخراجًا كاملاً، ويجعلها نظمًا أخرى لا تتصل به بحال من
الأحوال، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي وكثيرًا من النصوص التي
لا تتفق مع أهوائهم.
هذا خطر مضاعف في الحقيقة، فهم لم يكفهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون
المخارج القانونية لهذه المخالفة، ويصبغوها بصبغة الحِلّ والجواز، حتى لا يتوبوا
منها ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام.
فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى، وأن نعد
أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله - تعالى - ونواهيه، وبخاصة في هذا الأمر الذي
يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة.
وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكر الناس بما عرفوا وبما يجب أن يعرفوا
من أحكام الإسلام في هذه الناحية.
أولاً: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات،
وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها،
واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته، هي منه وهو منها: {بَعْضُكُم مِّنْ
بَعْضٍ} (آل عمران: 195) وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية
كاملة، وبحقوقها المدنية كاملة كذلك، وبحقوقها السياسية كاملة أيضًا، وعاملها
على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب، يُشكر إذا أدى واجباته،
ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا
المعنى وتوضحه.
ثانيًا: التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة
التي لا مناص منها بين الرجل والمرآة، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل
منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما.
وقد يقال: إن الإسلام فرق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال
ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن
يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئًا في ناحية فإنه قد عوضها خيرًا منه في
ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر،
وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي
كتكوين الرجل سواء بسواء؟ وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن
الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به
الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؟
أعتقد أن الكونين مختلفين، وأن المهمتين مختلفتين كذلك، وأن هذا الاختلاف
لابد أن يستتبع اختلافًا في نظم الحياة المتصلة بكل منهما، وهذا هو سر ما جاء في
الإسلام من فوارق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.
ثالثًا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة
بينهما، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها هي التعاون على حفظ النوع
واحتمال متاعب الحياة.
وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكاه، وصرفه عن المعنى
الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي يعظم غايته ويوضح المقصود منه،
ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام، ولنسمع قول الله-
تبارك وتعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .
وعلى ضوء هذه الأصول الثابتة ننظر إلى ما وضع الإسلام من نظم وطرائق.
... ... ... حسن البنا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(35/550)
الكاتب: حسن البنا
__________
خطيئة آدم
حضرة المحترم رئيس تحرير المنار:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد ...
فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطيئة آدم عليه السلام، وكيف يوسوس إليه الشيطان؟
وكيف يتفق ذلك مع العصمة؟ مع بيان توبته، وهل ما يقال من أنه أمر في الباطن
ونهي في الظاهر صحيح؟ وهل جاءت هذه القصة في القرآن على سبيل التمثيل
كما قال بعض المفسرين؟ وما معنى التمثيل عند من يقول به؟ أفيدونا، أثابكم الله،
وغفر لنا ولكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود عسكر
... ... ... ... ... ... ... ... معلم بملجأ بنها قليوبية
والجواب، والله أعلم:
قص الله علينا في القرآن الكريم قصة آدم - عليه السلام - وأنه خلقه
وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أمره ألا يأكل من
الشجرة {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) فوسوس لهما الشيطان
وخدعهما وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فاغترا بنصيحته، ونسي آدم ما عهد به
إليه ربه، فأكلا من الشجرة - مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده - ثم علما ما
كان من أمرهما فندما، وألهمها الله - تبارك وتعالى - صيغة التوبة، فقالا:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف:
23) فقبل الله توبتهما، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى
الأرض حيث استعمراها ونسلا فيها، واستمرت الحرب سجالاً بين ذريتهما وبين
الشيطان إلى يوم يبعثون؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين، ومن حذره
وخالفه فهو من المهتدين الناجين، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين،
ويكون بينه وبينهم ما قصَّه الله علينا من نبأه في سورة إبراهيم.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (إبراهيم: 22 - 23) .
هذا مجمل ما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مواضع عدة، ومنه تعلم:
(1) أن خطيئة آدم - عليه السلام - هي حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى
أكل من الشجرة.
(2) وأن توبته إنما كانت بإلهام الله - تبارك وتعالى - إياه أن يدعوه بما
جاء في الآية الكريمة في سورة الأعراف: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وقد كان عن هذه التوبة أن
غفر الله له وتاب عليه، كما قال - تبارك وتعالى -: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى} (طه: 122) .
أما كيف يوسوس له إبليس؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر
جِبِلِّيّ خِلقي فيها، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية وإن كان الشيطان بعيدًا
عنها كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه؛ ولهذا لا
تقدح الوسوسة نفسها في العصمة، فكل بني آدم قابلون لها معرضون إليها بأصل
الخلقة، وإنما يعصم عن ذلك من عُصم منهم برعاية إلهية وحفظ رباني من الله -
تبارك وتعالى - مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر، وسد مداخل الشيطان
إلى القلب وتضييق مجاريه، وشغل القلب بذكر الله - تبارك وتعالى - {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: 65) . على أنه قد
ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا مانع من أن يكون إبليس قد
دخل الجنة بعد أن طُرد منها، مخالفًا بهذا الدخول أمر الله - تبارك وتعالى -
عاصيًا له، وما زال يزين له الأكل من الشجرة (ويفتله في الذروة والغارب،
ويمنيه بمعسول الأماني، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه، وأنساه أنه
عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر) .
وأما كيف يعصي آدم وهو نبي، والأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب؟
فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه:
الأول - أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وسمي خطيئة أو معصية
وغواية لعلو منزلته، وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه، وكلما قرب العبد
من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه.
وقد صرحت الآية بلفظ النسيان، ويؤيد هذا قراءة {فَنُسِّيَ} (طه: 115)
بالتشديد على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله - تبارك وتعالى. وبهذا قال بعض
المفسرين، وإن كان الجمهور على أن " نسي " هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها.
والثاني - أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهي الإرشاد فقط لا
الإلزام، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب ولا
إثم في تركه، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة
في الآية الكريمة {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) .
والثالث - أن ما حصل من الذنب صغيرة. ويرد على هذا أن القول بعدم
عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصغائر قول مرجوح، ويرد عليه
كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب
وتوبة وإخراج من الجنة.
والرابع - أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية. وإلى هذا
ذهب أبو بكر بن فورك، قال: بدليل ما في آيات (طه) من ذكر المعصية قبل ذكر
الاجتباء والهداية. وهو كلام حسن؛ لولا أن ورود الأمر والنهي من الله - تبارك
وتعالى - لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها، وقد كان ذلك قبل الأكل
قطعًا، ومن جهة أخرى فإن النفس أمْيَل إلى أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه
عليهم - معصومون من المعصية على كل حال، وإن لم يكن ذلك رأي جمهور
علماء العقائد وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة.
والخامس - أن الله - تبارك وتعالى - أمر آدم بعدم الأكل من شجرة وأراه
إياها، فظن آدم أنه منهي عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها، فأكل من شجرة
أخرى من جنسها ولم يأكل من التي انصبَّ عليها النهي بالذات، وهذا تأويل حسن
وإن كان عليه مسحة التحايل.
وهناك تصوير تطمئن إليه النفس، وذلك أن يقال إن حقيقة المعصية مخالفة
أمر الله - تبارك وتعالى - قصدًا، وحقيقة الطاعة هي امتثال أمر الله - تبارك
وتعالى - قصدًا كذلك، فمناط المؤاخذة أو المثوبة في الطاعة والمعصية النية
والقصد، مصداق قوله - تبارك وتعالى -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا
وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) .
ولا شك أن آدم - عليه السلام - حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى
المخالفة ولم يكن يسر العصيان، بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة في طاعة الله -
تبارك وتعالى - بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه، وقد خدعه قسم
إبليس له، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير، وإلى هذا المعنى أشار ابن
قتيبة، فقال: أكل إبليس من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه،
والقسم له بالله إنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذلك عن اعتقاد
متقدم ونية صحيحة، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه
ربه، كما قالت الآية الكريمة: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل
لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: 22) ، وحينئذ ألهمهما التوبة
فجأرا إلى الله - تبارك وتعالى -: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وهذا المعنى واضح مفهوم
في سياق الآيات كلها تقريبًا.
وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخداعه مؤاخذة شديدة حتى تاب
عليه، على حد القاعدة المعروفة حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر كلام مردود، ولا دليل عليه،
والأخذ به هدم للتكليف في الحقيقة، وقد جاء في كلام بعض الصوفية شيء من
هذا في التفريق بين معصية الولي والفاسق، وأفضل ما قالوه في ذلك أن الولي لا
يقصد المعصية ولا يفرح بها ولا يُصر عليها، وهذا كلام لا غبار عليه، وأما ما
زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل.
وأما القول بأن هذه القصة وردت في القرآن الكريم على سبيل التمثيل، فهو
قول مردود كذلك، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل، وإذا
جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها، فقد صار ذلك ذريعة
للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية
شيئًا، وليس هناك ما يقتضي العدول عن الظاهر.
وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الإفرنجية،
أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التي جاء بها (دارون)
وأمثاله من علماء الحيوان والبحث في أصل الأنواع، وهذا كلام لا تدقيق فيه،
ودعوى لا صحة لها؛ فإن دارون نفسه لم يدَّع أن الإنسان فرع عن غيره من
الحيوان، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره.
كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًّا
يُثلج الصدر، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس
الانتخاب الطبيعي في تنويع الأحياء؛ فقد قال في كتابه أصل الأنواع: (أنا مقتنع
بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع؛
ولكنه لم يكن العامل الوحيد في إحداث ذلك التغير) فهو هنا يشير إلى أمرين
هامين: الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي في رأيه السبب الرئيسي لحدوث
التنوعات في الأنواع لا في حدوث الأنواع نفسها، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد
في ذلك.
وقد كتب دارون إلى المستر هيات يقول له: (اسمح لي بأن أضيف إلى هذا
بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان
أصل الأنواع) فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة؟ على
أن هذا ليس كل ما في الأمر؛ فقد هبَّ كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية
دارون تخطئة تامة وينتقضونها من أساسها، ويؤلفون في ذلك الكتب الضافية،
ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد، وإليك بعض الشواهد
من كلام هؤلاء الناس أنفسهم:
(1) قال الأستاذ فون باير الألماني، وهو من أقطاب الفزيولوجيين
والحفريين والبيولوجيين وأستاذ علم الأميريولوجيا (علم الأجنة) في كتاب أسماه
(دحض المذهب الداروني) بالنص: (إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من
القردة السبماتية هو بلا شك أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان،
وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد،
يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي) .
(2) وقال الأستاذ فيركو الألماني موافقًا الأستاذ دوكانزفاج الفرنسي في
كتابه (النوع الإنساني) بالنص: (يجب عليَّ أن أعلن بأن جميع الترقيات الحسية
التي حدثت في دائرة علم الأنترويولوجيا - علم التاريخ الطبيعي للإنسان - السابقة
على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقرد تبعد عن الاحتمال شيئًا
فشيئًا، فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع وهو الذي يجب أن يكون
الإنسان فيه أقرب إلى أسلافه، نجد إنسانًا مشابهًا لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع
الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة بأنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا
للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء
إذا كان لهم رأس مثله.
وإذا قابلنا مجموع الرجال الحفريين الذين نعرفهم للآن بما نراه في أيامنا هذه
استطعنا أن نؤكد - بكل جرأة - بأن الأشخاص ناقصي الخلقة هم بين الرجال
العصريين أكثر منهم بين الرجال الحفريين، ولا أتجاسر أن أفترض بأننا في
اكتشافاتنا الحفرية لم نصادف غير أصحاب القرائح السامية من أهل العهد الرابع،
والعادة أننا نستنتج من تركيب هيكل عظمي حضري تركيب معاصريه الذين عاشوا
معه في وقت واحد، ومهما كان الأمر فيجب عليَّ أن أقول بأنه لم توجد قط جمجمة
قرد تقرب حقيقة من جمجمة الإنسان! ! على أنه يوجد بين الإنسان والقرد خط
انفصال نهائي آخر؛ فإننا لا نستطيع فقط أن نعلم الناس بأن الإنسان يتولد من القرد
أو من أي حيوان آخر، بل لا نستطيع أن نعتبر ذلك من الأمور العلمية) .
(3) وقال الأستاذ إيلي دوسيون من العلماء الفيزيولوجيين عن مذهب
دارون في كتابه (الله والعلم) ما يأتي: (بعد أن قاوم المذهب الداروني عشرين
سنة تلك المكافحات الحقة التي قصده بها خصومه، قضي عليه قضاء غريبًا بأن
يهلك تحت ضربات أشد أشياعه غيرة عليه) ثم ذكر بعد ذلك ما كتبه هربرت
سبنسر في هدم ناموس الانتخاب الطبيعي، وما كتبه (ويسمان) في هدم ناموس
انتقال الصفات والخصائص المكتسبة، وقد كانا عماد مذهب دارون.
هذا قليل من كثير جدًّا جدًّا من أقوال العلماء الأوروبيين في كتبهم ومجلاتهم
في نقض رأي يعتقده جامدو مقلدة الأوربيين عندنا كل شيء في العلم الحديث،
ويتشدقون في الكلام عنه والذهاب إليه، وليس ذلك كل ما في الأمر، بل تغالى
بعض العلماء الأوربيين، فأخذ يحاول إثبات عكس هذا المذهب.
فهل يحق لنا أمام كلام كهذا - مهما تغالينا في قيمته علميًّا، فهو لم يخرج عن
أنه فرض من الفروض العلمية - أن نؤول كلام العليم الخبير ونصرفه عن
الظاهر إلى التأويل والتمثيل؟
ويعجبني كلام تقدم في هذا المعنى في تفسير المنار في سورة البقرة، عند
قوله - تبارك وتعالى -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) جاء هناك ما نصه: (كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو
الأصل فيُرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا، والحق كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلاًّ من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي،
فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب
ترجيح القطعي مطلقًا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول
على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما
ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا الضئيلة التي يكثر فيها الخطأ جدًّا، فظواهر الآيات
في خلق آدم مثلاً مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين
في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع)
ا. هـ.
على أنه أورد بعد ذلك وقبله كلامًا طويلاً في الآيات، وذكر الرأي القائل
بالتمثيل على أنه رأي الخلف، ورأي الأخذ بالظاهر ونسبه للسلف، وأكد في عدة
مواضع أنه يقول بهذا الأخير. ونسبة القول بالتمثيل للخلف قول فيه نظر، فمن
المقصود هنا بالخلف؟ ومن الذي قال منهم بهذا الرأي؟ سؤالان يحتاجان إلى
الجواب. على أن الذي يعنينا أن نتفق على الاعتقاد بأن الآيات على ظاهرها،
وأن القصة حقيقة واقعة كما قصها الله - تبارك وتعالى - علينا في كتابه، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
__________(35/553)
الكاتب: محمد الغزالي
__________
في محيط الدعوات
(2)
الكمال المزعوم - المذاهب العلمية السائدة - تقليد أعمى
ولأمر ما وقف تقدم الإسلام، وانحصر النور الإلهي الكريم بين أقوام لا
يقدرونه، ونام المسلمون في النور واستيقظ غيرهم في الظلام، ولم يكن بد لغير
المسلمين من التفكير في قواعد تصح عليها أمورهم بعد أن اتضح قصور الأديان
الباطلة وعدم غنائها في هذه الشئون، وبعد أن عجزت أيدي المسلمين عن التلويح
بالضياء الهادي ليسترشد على شعاعه المدلجون الشاردون، وابتدأ التفكير الإنساني
يخبط في تفهم الحقائق العليا ومدارج ارتقاء النفس، فخلق المجال خلقًا للفلسفة
العملية، وصحيح أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى ينحدر تاريخ الفلسفة وينبت
جذع الشجرة التي تطل الآن علينا فروعها.
وحقًّا أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى يمتد جذر الشجرة الفارعة، شجرة
الفلسفة الحرة التي تظلل فروعها اليوم أكثر بقاع العالم، وسواء أكانت هذه
الأغصان لعوسجة غليظة مؤذية أم لدوحة مورقة فينانة، فإن ما ينبغي أن نطمئن
إليه هو قلة احتمال البشر قديمًا بتطبيق شيء مما وصلت إليه الفلسفة البعيدة عن
روح الأديان تطبيقًا عامًّا شاملاً، بينما نجد اليوم - كأثر حقيقي لوقوف الإسلام في
حدود أوطانه - أن بعض الآثار الفلسفية قد وجدت من الأشياع من يخلصون لها
ويجاهدون لتحقيقها، ويؤسسون لها الحكومات القوية، وينادون بوجوب سيادتها في
أنحاء العالمين، تلك المبادئ - وأكثرها نبت في أودية أوربا المقفرة إلا من أشواك
الوثنية المسيحية - لها شأن عجيب؛ ذلك أنها ظهرت في بيئات أشد ما تكون حاجة
إلى الحرية والانطلاق، وأبعد ما تكون تأثرًا بما عدا ذلك، فهي تسعى وراء ما
تشعر بأن فيه طمأنينتها وسعادتها، وقلما يعنيها بعدئذ أن يوصف ما تظفر به بأنه
حق أو باطل، منكر أو مألوف، إيمان أو إلحاد، وليس من شك في أن النضال
الدموي المروع الذي سوَّد وجه أوربا عصورًا، له أثر بعيد في هذه الحالة.
وفي هوجاء هذه الفتن الخبيثة، وفي مهب أعاصيرها التي لا تكاد إلى اليوم
تهدأ لها ثائرة أو تؤمَن لها غائلة، قامت الماسونية والشيوعية والاشتراكية
والديمقراطية.... . وغير ذلك، ومن ثم نادى أقوام - ممن ذاقوا مرارة الخصام
بين المذاهب المختلفة - بوجوب الإخاء بين جميع المذاهب، أو لو كان إخاء بين
الحق والباطل؟ هذا شيء لا يفكر فيه الماسون، وصاح أقوام ممن عضتهم البأساء
والضراء بوجوب تقسيم كل شيء على الأمة، أو لو كان في ذلك الفوضى
والإباحية؟ هذا شيء يستسيغه الشيوعيون.
وكذلك أسس الفاشيون نظام النقابات أو دولة العمال، ووضع الديمقراطيون
قواعد الحريات العامة للناس؛ كما يقولون. ولكن هل هناك غاية يخدع بريقها
المسلم في ثنايا هذا الغموض والإيهام؟ كلا، إنما هو تهريج عالمي تمخض عنه
حجاج العقل الإنساني أثناء شروده وجحوده، ولا ريب أن توفير حاجات الجسد مما
تنادي به الضرورة، وتكثير أسباب المتع مما تتطلع إليه الرفاهية، ثم إشباع
مطامع بعض النفوس الجياشة بحب التزعم، ثم ذلك التعاون في أي أشكاله بين
شتى العناصر لنيل خير حياة دنيوية ممكنة، لا ريب أن كل هذا هو لباب المذاهب
المتكبرة السائدة هناك، والتي تحاول أن تغزو ميادين الشرق المريض، بل إنها
وجدت فعلاً طريقها إلى بعض النفوس المنحلة في هذه الديار، ولا عجب أن تلقى
بعض النجاح المؤقت إذا كانت قد دعمتها الدراسات المجردة للفلسفة النفسية
والخلقية، هذه الفلسفة التي ادعاها علماء تحرورا من قيود الأديان هزيلها
وخطيرها، واستقامت آراءهم على أسس من تفكيرهم الخاص و (عقولهم الباطنة)
أو الباطلة.
وسنناقش الآن - في إيجاز - أهم المسائل التي قررت في علم النفس كمنهج
للسلوك البشرى الفاضل، ثم نقفي على إثر ذلك بتحليل كامل للمقاييس الخلقية
الموضوعة؛ إذ إن سر الحياة التي تسود اليوم كثيرًا من الطبقات الدعية في كل شيء
إنما يرتد إلى هذه المناهج المصنوعة، وسوف تقر أعين المؤمنين إلى أن الإٍسلام
وحده منهج الحق الواضح، وأنه بحسب المسلم الاعتصام بدينه ليستوى على
صراط تندق دونه أعناق الشياطين {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 53) .
يرى علماء النفس أنه لكيما يستقيم سلوك الإنسان على نهج واضح ينبغي أن
تكتمل عواطفه ثم تدور كلها في فلك، محوره (احترام الذات) تخضع فيه
استعداداته الموروثة والمكتسبة إلى كل ما يسمو بكرامته كإنسان كامل، وعبارة
الإنسانية الكاملة وضعها أناس ينظرون للحياة خلال عدسة سفسطائية تسخر من
الحقائق، وما دمنا قد وصلنا إلى اعتبار الرأي الشخصي وتقريره أساسًا حرًّا
لاكتساب الإنسانية الكاملة، فقد تنكبنا الحق وفقدنا معه الخير المنشود؛ ذلك أن من
الناس من يقوِّم ذاته على أساس اعتناقها مبدءًا ديكتاتوريًّا، ومنهم من يقومها على
أساس اعتناقها مبدءًا ديمقراطيًّا وكلا الرجلين قد حشد استعداداته الموروثة
والمكتسبة لخدمة مذهبة وركزها عند غاية واحدة، وارتضى أن يموت دونها، فهل
معنى هذا أن كليهما ظفر بالكمال الإنساني المزعوم، مع ما في نظريتهما إلى الدنيا
من تناقض يؤكد بينهما الخصام، بل ينشب بينهما القتال.
على أن لنا نحن المسلمين ما نلاحظه على هذه القضية النفسية التي تريد أن
تخلق من أنانية الفرد مذهبًا عامًّا؛ فإن المسلم الذي محق ذاته في ذات الله ووزن
نفسه بنصيبها من دينه يجب أن ينمي عواطفه كلها، ثم يسيرها في نظام يبتدئ
وينتهي عند تمجيد الله، أما ما يقرر لنفسه هو من احترام وتزكية فهو فضل الله
يضفيه على من شاء، والمسلم الذي يستشعر في قرارة نفسه كل معاني العبودية
لمولاه العلي لا يأذن أبدًا لهذه النفس أن ينسب إليها مجدًا ويُشار إليها بأي ضرب
من ضروب الكبر المفتعل، ونحن نحارب بهذا أناسًا معينين، فيهم الكافر وفيهم
المؤمن المدخول العقيدة.
أولئك قوم زعموا أن السمو بالنفس الإنسانية مستطاع في غير جوار الله،
مستطاع في ظلال هذه العواطف المكتملة، فذهبوا يتلمسون الكمال المنشود في
مبادئ يتوارث الناس احترامها وإكبار أصحابها، حتى إذا اصطبغت نفوسهم بما
وهموه من فضل ومجد راحوا يقررون لها حقوقًا من التوقير والإعظام، وكان لزامًا
على الناس أن يتقدموا إليهم بها، ثم يستقر هذا الضلال المبين، فإذا المفتونون أبعد
ما يكونون عن الله، وإذا هم - على ما بهم من ثقة واعتداد - لا يقيم لهم الدين أي
وزن، ولا ينزلهم أبدًا إلا في أمكنتهم من الرغام.
لهؤلاء وأضرابهم نوع من السلطان المادي والمعنوي في هذه البلاد، وهم -
كأقرانهم من الصابئة الغربية - ممثلو الحملة على الأديان ورسالتها الكريمة في
الحياة، وإذا كان ضجيج القوم قد تعالى هنا وهناك وترددت أصواتهم في أنحاء
كثيرة، فما تعدو هذه الصيحات في قيمتها نقيق الضفادع، وربما أطفأت أنفاسهم
اللاهثة شموع الكنائس، ولكنهم - ولو استحالوا عواصف - لن يطفئوا للإسلام
مشعلاً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) .
ولا عجب، فالأمور التي توضع ألغامًا في بنيان المسيحية المتداعي لا يمكن
مطلقًا أن تشعر بها دعائم الإسلام المكينة، وإذا كان صابئة الغرب قد قالوا ما قالوا
فردد المقلدون الحمقى هنا ما قالوا من نظريات انفصال الدين عن السياسة وعن
العلم وخرافة تآخي الأديان أو الدين لله والوطن للجميع، فإن مصير الفريقين
سيختلف حتمًا، وهزيمة المسيحية هناك هي هزيمة الصابئة هنا تمامًا، ولقد أدرك
المسلمون حقيقة دينهم غير منقوصة، وعلموا أن دينهم كما أنه هو دين النفس هو
دين الدولة، بل إن الإسلام لم يتجه للفرد من حيث أنه (شخصية مستقلة منعزلة)
وإنما اتجه إليه من حيث أنه (وحدة من مجموعة مؤلفة متناسقة) وإلى هذا
يرجع السر في أن الخطاب الإلهي يرد دائمًا بطريق الجمع لا الإفراد {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا
فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 77 - 78) ثم كيف يكون بين الإسلام وبين العلم
عداء والعلم نفسه لم يصل إلى الدرجة التي بلغها من التقدم إلا في جو إسلامي
خالص، إن العلم الطبيعي يعتمد على عنصرين خطيرين في جميع بحوثه وكشوفه
هم الملاحظة والاستنتاج، وليس يوجد في الدنيا كتاب أوصى بالتدبر في ملكوت
الله الرحيب واستطلاع بدائعه واستكناه روائعه كما أوصى القرآن {وَفِي الأَرْضِ
آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20 - 21) .
ومهما أظهر المغرضون من عطف ماكر على استقلال العلم، فإنهم لن ينالوا
من الإسلام أي نيل، كذلك ضل من يزعم أن الوطن ليس لله، أي غباوة هذه
تحاول أن تنسب الشيء لغير صاحبه، بل لغير خالقه {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأعراف: 128) {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة:
115) ولقد مهد هؤلاء لهذا الخطأ الفاضح بكلمة لم يفهموها، الدين لله حقًّا،
ولكن ماذا بقي لله على زعمهم إذا كان للأوطان أول ما في الفؤاد وآخر ما في الفم؟ !
ماذا بقي لخالق الفؤاد وما يجول فيه، ولخالق اللسان وما ينطق به؟ ! كلا،
الدين لله والوطن لله، ومصر ومن عليها فدى للإسلام وحده، و {لِلَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (النحل:
60) .
إن الشيء الذي يبوء بأشد معاني الاحتقار والذي نجعله محيط عداوتنا الدائمة،
هو هذا الضلال الوقح الذي يحاول - في غير ما حياء - أن ينتظم الإسلام -
وهو دين الله الكريم - والمسيحية واليهودية في سلك واحد، فكيف يرتفع مبدأ من
المبادئ ليضم إلى أحضانه هذه الأديان المختلفة المتئاخية (كذا) ويجمعها في صعيد
واحد؟ ! حدث مرة أن كنت أتصفح إحدى المجلات الأسبوعية، فعثرت على
تصريح سكرتير الماسون الأعظم - وهو رجل مسلم كما يشير إلى ذلك اسمه -
قال: (إن قراراتهم التي تذاع لا يراد بها إلا خير المجتمع من الناحيتين الإنسانية
والاجتماعية، دون تعرض للسياسة ولا للدين) ونحن نتساءل: كيف يجوز
لمسلم أن يلقي كلامًا أو يصدر أعمالاً بعيدًا عن دينه وعن رعاية قيوده وحدوده كلها،
إلا أن يكون مسلمًا يجهل الإسلام، أو منافقًا يبرأ منه دين الله؟ ! ونحن نتساءل
كذلك: أي إخاء عجيب أوى إلى سلامه ووئامه أعضاء المحفل الماسوني المكرمين
وفيهم أحد موظفي الأزهر وأحد أعيان اليهود؟ ! إنه إخاء فرض نفسه على حساب
نكبة أحدهما في عقيدته، أو على الأصح على حساب تنازل المسلم عن دينه جملة.
هناك ما لا يقل خطرًا عن الماسونية العالمية مسخًا للإيمان وتلويثًا للنفس
المؤمنة وهبوطًا بمستواها الذي ينبغي أن تحتفظ به، ومن أمثلة ذلك جميع المبادئ
التي تحمل لقبًا عالميًّا؛ فالرياضة العالمية، والثقافة العالمية، والديمقراطية العالمية،
والأدب العالمي، والفن العالمي، والتمثيل العالمي.... إلخ مما يسير في ظلال
معنى الإخاء الإنساني ووحدة البشرية، والكلمات التي أجاد الأوربيون صناعتها
ودسها محترفو الاستعمار بيننا؛ لينالوا بها ما لا تناله مناشر الأسلحة، وليتوسلوا
بها إلى إفناء العصبيات الإسلامية، وتحطيم فضائلها وتمزيق مقوماتها.
(يتبع)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الغزالي
_______________________(35/561)
الكاتب: حسن البنا
__________
براءة من القاديانية
كتبنا في الأعداد السابقة في فتاوى المنار عما وصل إلى علمنا عن طالبين
ألبانيين أحمديين ينتسبان إلى القسم العام بالأزهر، وقلنا: إن من واجب المشيخة أن
تتحرى أمرهما وأن تبادر بفصلهما؛ حتى لا تسري منهما عدوى الفكرة الخاطئة إلى
غيرهما من الطلاب.
ويسرنا الآن أن نقول: إن زميلتنا (الفتح) الغراء قد نشرت براءة لهذين
الطالبين من المذهب القادياني، صرحا فيها بتوبتهما توبة نصوحًا ورجوعهما إلى
عقيدة الإسلام الصحيحة، وبراءتهما كل البراءة من المذهب الأحمدي بقسميه
اللاهوري والقادياني معًا.
ولقد كان لأخينا الداعية المسلم الموفق محمد أفندي توفيق أحمد في إقناعها أثر
صالح، فجزاه الله خيرًا.
وسننشر نص هذه البراءة في العدد القادم، إن شاء الله.
__________(35/566)
الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود
__________
الشيخ محمد عبده [*]
(2)
عهد الطفولة
في عام 1266 الهجري، الموافق 1849 الميلادي، نزل إلى الوجود مولود
جديد، ارتفعت صيحاته وصرخاته معلنة قدومه إلى عالم الدنيا، ومبشرة باندراجه
في صفوف الناس.
ونفذت هذه الصيحات إلى مسامع الناس من أهل القرية فتناقلوا الخبر، وجاء
الريفيون من هنا وهناك يهنئون الشيخ الوقور (عبده بن حسن خير الله) بهذا
المولود الجديد، الذي أنار هذه القرية الصغيرة من قرى مديرية الغربية - كما
يقولون - ويتمنون له من كل قلوبهم السعادة والهناءة؛ فهم يحبون هذا الوالد الكريم،
الذي لا يعرف كرمه البخل، ولا يشوبه الحرص والشح، وكم كان تفاؤلهم عظيمًا
عندما علموا أن اسمه (محمد) ؛ فهذا هو الاسم الحبيب لدى كل مسلم، والعزيز عند
كل مؤمن، فخير الأسماء ما عُبد وحُمد.
وامتلأت نفس الشيخ غبطة وهناءة وسرورًا، وراح يدعو الله أن ينظر إليه
ويوفق وليده إلى خير السبيل وأقوم الطرق، وأن يجعل هذا الرضيع سيفًا من
سيوفه المصلتة، ووليًّا من أوليائه المقربين، ناصراً للحق وأهله، خاذلاً للباطل
وأعوانه.
وذكر حينذاك كيف خرج هاربًا من قريته فرارًا من ظلم الحكام الأتراك
واستبدادهم في مديرية البحيرة أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، فعلت وجهه
كهومة واكفهرارًا، وأنكر نفسه؛ إذ أنه تركي الأصل، نزلت أسرته بأرض
البحيرة واستوطنتها حتى انطبعت بطابع الفلاحين المصريين، وأصبحت وكأنها
منهم الجزء الذي لا يتجزأ، والصنو الذي لا يختلف عن صنوه، فكيف إذن يناله
الظلم ممن يمت إليهم بصلة، ويرتبط بهم بوشيجة؟ هذا لعمر الله غريب وعجيب!
ولكنه سرعان ما استبشر وانفرجت أسارير وجهه؛ إذ تذكر حرصه الشديد
على أن يكون له نسل قوي سليم، وذرية صالحة تحمل اسمه مع الزمان، وولد
يخلد اسمه في سجل الخالدين، ويكون له نعم الخلف ونعم الذكرى، فتمنى لو
اتصل حبله بفتاة لها من المزايا الجميلة والصفات الحميدة ما يكون خليقًا أن ينحدر
إلى ذلك المولود الجديد الذي ينحدر من أصلابه.
(يتبع)
... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ أبو السعود
__________
(*) اعتمدنا في هذه الترجمة على مجموعات المنار، والضياء لليازروجي، ومشاهير الشرق، ومصنفات الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وكتاب الإسلام والتجويد في مصر، وغير ذلك مجلات وصحف كثيرة، منها العروة الوثقى والهلال والأهرام.(35/567)
الكاتب: حسن البنا
__________
انتقاد المنار
حول ما نُشر في آيات الصفات وأحاديثها أيضًا
جاءنا هذا الخطاب بتوقيع مبهم، ونحن نتسامح بنشره إيثارًا لتجلية الموضوع
تجليةً تامةً - بحول الله وقوته - مع ردنا عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الشيح حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار: السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد اطلعنا على ما نشر في العدد الأخير من
المنار تحت عنوان نقد المنار، ردًّا على رسالة أحد القراء الكرام، وشجعنا ذلك
على الكتابة إليكم في شيء من الصراحة.
لما اطلعت على عدد المنار الذي بدأتم بإصداره وبادرنا إلى تصفحه، حاك
في نفسي ما جاء في رسالة القارئ إليكم، وفهمت من كلامكم فيما بين المجلتين
(الهدى والإسلام) من الخلاف نفس ما فهمه الناقد، ولعلي أخطأت الفهم أنا أيضًا،
إلا أنكم في ذلك المقال لم تقولوا بخطأ المجلتين، ولم تشيروا إلا إلى إخلاصهما
وجهادهما، وكان من العجب في رأينا ما ذكرتم في العدد الأخير من خطأ المجلتين
فيما ذهبتا إليه.
وبالرجوع إلى أقوال المجلتين ومقالات كتابهما ظننا أن حكمك بخطأ المجلتين
يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما، فقد أجهدنا أنفسنا في مطالعة المجلتين فلم
نعثر على عقيدة تفسير الاستواء بالاستقرار، كما لم يجزم الفريق الآخر بتأويل
الاستواء إلى الاستيلاء وحده.
فلعلكم تأثرتم في حكمكم هذا بما يقال ويشاع فقط، وهذا ما نرجو أن يكون
المنار بعيدًا عنه.
ولذلك نرى - إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها - أن ترجعوا إلى كلام
المجلتين، وتحكموا عليهما بما تقولان لا بما يقول بعضهم على بعض، ولا بما
يشاع عنهما بين العامة والدهماء.
وملاحظة أخرى في العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها، وهي ما
نسبتموه لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في باب التفسير، ذلك الكلام
العجيب الذي لا يشبه في أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه رضي الله
تعالى عنه، ففي أي ديوان من دواوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا
الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد في شيء منها، فهل ترون أن أمثال
هذه (الحواديت) التي ملئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل نهج البلاغة
وغيره، تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟
وإني وإن كانت بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أني أحب أن أكون - إلى
حين - مستترًا والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار
ملاحظة: فاتنا أن نذكر لفضيلتكم أن خصوم الهدي النبوي اليوم هم بذواتهم
وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه، عليه رحمة الله.
الجواب
هذا الخطاب يتناول أمورًا أربعة:
أولها - أننا في المقال الأول لم نقُل بخطأ المجلتين.. إلخ، ونحن نعتقد أن
هذا المعنى إن لم يصدر في كلامنا تصريحًا فقد كان واضحًا كل الوضوح، ونحن
نؤْثِر دائمًا أدب القول والكتابة وعفة اللسان والقلم، في عصر أغفل الكاتبون فيه
هذا المعنى، وعلى كل حال فكلامنا في المقال الثاني قد أوضح ما أبهمه المقال
الأول - إن كان ثمة إبهام - فلا نطيل القول في أمر قد وضح، والحمد لله.
وثانيها - أن ما نسبناه إلى المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما
... إلخ، ونحن نقول إن ما كتبناه هو ما فهمناه من مجموع ما كتب الكاتبون فيهما،
فإذا لم يكن كذلك فليتكرم حضرة الكاتب علينا وعلى القراء ببيان ما فهم هو من كلام
كل منهما، وبيان وجه الخلاف بينهما، وليؤيد ذلك بنصوص الكاتبين مستوفاة،
وليحكم بينهما إن شاء ذلك، ونحن على استعداد لنشر ما يكتب، وللرد عليه
إن كان فيه ما يستحق الرد، وموافقته إن كان مما نرى أنه الحق، على أن يكون
هذا آخر ما نكتب في هذا الباب، نقول هذا ونستحسن لأنفسنا ولحضرة الكاتب
وللقراء كذلك أن نغلق هذا الباب من الآن، وخصوصًا بعد أن انصرف الجانبان
إلى ما هو أجدى وأنفع، وفيما كتبناه في بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون في
هذا المعنى كفاية.
وثالثها - استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - في باب
التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سورة قلمه وعفا عنا
وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائمًا على غير هذا الأسلوب؛ فهو أعف وأبر،
ولو أن حضرته التفت إلى أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج
والاستدلال، وهذه واحدة، ونسبناه إلى نهج البلاغة ولم ننسبه إلى الإمام - كرم
الله وجهه، وهذه الثانية، وعلقنا في حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا
الكتاب موضع خلاف بين الأدباء، وهذه الثالثة. لو أن حضرته التفت إلى هذه
النواحي الثلاث لأعفى نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذي لا مبرر له.
رابعها - يذكر الكاتب أن خصوم اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصومُ المنار
وصاحبه - عليه رحمة الله -، يا سبحان الله! إن الزمن - يا أخي - يدور،
والمدارك تتطور بدورانه، وإن تجارب الناس ودرجة معرفتهم بالأمور تزداد
وتتسع يومًا عن يوم، وإن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء، وإن كثيرًا ممن حمل
السيف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته كانوا بعد ذلك من أشد الناس
حماسةً في مناصرتها وتفانيًا في محبته صلى الله عليه وسلم، وسبحان مَن أعز
الإسلام بقاتل حمزة وجعله قاتل مسيلمة، وأين أنت من خالد وعكرمة، ولا
تجعلني أقول لك أكثر من هذا، ففي مكان القول متسع؛ ولكن ما كل ما يُعرف يُقال،
وجميع الناس متفقون على أن الحق لا يُعرف بالرجال، فهَبْهم لا زالوا في
خصومتهم أفلا نتبع الحق إذا جاء على أيديهم، ونكون أول مَن يناصرهم فيه؟
إنني أعتقد أن ما يمر بنا من هذه الحوادث الجسام سيوحد الكلمة، وسيجمع
الرأي، ويقرب شقة الخلاف، ويسوِّي صفوف العاملين للإسلام إن شاء الله،
فاصبر إن وعد الله حق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
__________(35/569)
الكاتب: حسن البنا
__________
السيد الكامل آل رضا
رحمه الله
لبى نداء ربه السيد الكامل آل رضا، رحمه الله، وهو عم السيد محمد
رشيد رضا منشئ المنار، ووالد صديقنا المفضال السيد عبد الرحمن عاصم رضا،
نفع الله به، عن عمر مبارك قضاه في طاعة الله والمبادرة إلى الخيرات.
وكان السيد رشيد - رحمه الله - يقول عنه إنه حجة الله على أهل هذا العصر؛
إذ كان - أفسح الله له في جنته - رغم كبر سنه وضعف بدنه حريصًا كل
الحرص على المبادرة بالأعمال الصالحة، بعيدًا كل البعد عن كل ما يؤدي إلى
الشبهة - فضلاً عن الحرام - لا نرى في مجلسه إلا ذكر الله وما والاه، والتذكير
بالخير، والنصح لعباد الله، وقد ورث عنه هذه الخصال نجله المفضال السيد عبد
الرحمن حفظه الله؛ فما علمنا عليه إلا خيرًا، ولا نزكي على الله أحدًا.
وإنا لنتقدم بالتعزية إلى آل رضا، ألهمهم الله الصبر، وأجزل لهم الأجر،
وعوضهم الخير، ونسأل الله للسيد الراحل المغفرة والرضوان.
وقد حال احتجاب المنار عن أن يصدر هذا العزاء في حينه، ولعل صديقنا
السيد عبد الرحمن عاصم يوافي قراء المنار بترجمة مفصلة لحياة السيد الوالد -
عليه الرحمة - لتكون لنا وللقراء عظة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
__________(35/572)
جمادى الآخرة - 1359هـ
أغسطس - 1940م(35/)
الكاتب: حسن البنا
__________
(6) حكم الدخان والتنباك.. إلخ
الأستاذ رئيس تحرير المنار الأغر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :
فقد اختلف العلماء في حكم (شرب الدخان) ما بين محرِّم ومجوِّز؛ فما القول
الحق في ذلك؟ وما دليل كل من الفريقين فيما ذهب إليه؟ أفتونا ولكم من الله
المثوبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور الصناديقي
... ... ... ... ... ... ... ... ديروط المحطة قبلي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله (وبعد) :
فالدخان شجرة لم تُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في القرون
الإسلامية الأولى، ولم يُعرف استخدامها هذا الاستخدام تدخينًا أو مضغًا.. إلخ،
والقاعدة العامة في المحدثات من هذه الأمور أن يُحكم عليها بآثارها ونتائجها؛ فما
كان منها نافعًا استحب وطلب الانتفاع به، وما كان منها ضارًّا كُره وحُرِّم بقدر
ضرره، وما جرى مجرى العادة ولم تعرف له فائدة ولا ضرر فهو على الإباحة
الأصلية، وهذا وجه اختلاف العلماء في شرب الدخان.
ومن الذين قالوا بحرمته من استدل بحديث أبي داود: (أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن كل مُسكر ومُفتر) قالوا: والدخان مفتر، فإن من شربه على
غير اعتياد شعر بدوار وفتور، فهو حرام بالنص، ومن قال بالإباحة نازع في هذا
الأثر، ولم يسلم مما ذهبوا إليه من أنه يحدث الفتور.
وقد أورد صاحب (الروض النضير شرح المجموع الكبير) بحثًا طيبًا قد
يتصل بهذا المعنى عند الكلام على أنواع المسكر في الجزء الثالث، كما أن
للإمام الشوكاني فُتيا في هذه المسألة، ولعل من تمام الفائدة أن نذكر هذين البحثين،
ثم نقف عليهما بما نرى أنه يتفق مع الحق في هذه المسألة:
قال صاحب الروض النضير: (فائدة) قال في البدر التمام: وكذا يحرم ما
أسكر وإن لم يكن مشروبًا كالحشيشة وغيرها.
وقد جزم النووي وغيره، وصرح بذلك الإمام المهدي في الأزهار بأنها
مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة وليست بمسكرة. قال ابن حجر: وهو مكابرة؛
لأنها تُحدث ما يُحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإسكار فهي
مفترة.
وقد أخرج أبو دواد (أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر
ومفتر) . قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخَدَر في الأعضاء.
وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن
استحلها فقد كفر، قال: وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمنهم؛
وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التنار.
وذكر المازري قولاً أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد، وكذا ذكر ابن
تيمية في كتاب السياسة أن الحد واجب في الحشيشة كالخمر، قال: لكن لما كانت
جمادًا وليست شرابًا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد
وغيره.
وقال ابن البيطار -وإليه انتهت الرياسة في معرفة خواص النبات والأشجار -: إن الحشيشة - وتسمى القِنَّب - توجد في مصر مسكرة جدًّا إذا تناول الإنسان منها قدر
درهم أو درهمين، ومَنْ أَكَثر منها أخرجته إلى حد الرعونة، وقد استعملها قوم
فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت.
قال بعض العلماء: وفي أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية. وقبائح
خصالها موجودة في الأفيون، بل وفيه زيادة مضار، وكذا قال ابن دقيق العيد في
الجوزة إنها مسكرة. ونقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه.
وحكى القرافي عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إسكار الحشيشة بين
كونها ورقًا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر، قال:
والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون
والبنج، وهي من المسكرات والمخدرات.
وذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة، وقال الزركشي: إن هذه
المذكورات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي تدخله في حد السكران، فإنهم قالوا
السكران الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وقال بعضهم: هو
الذي لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ثم نقل عن القرافي
أنه خالف في ذلك.
والأولى أن يقال: إن أريد بالإسكار تغطية العقل، فهذه كلها صادق عليها معنى
الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع نشوة وطرب فهي خارجة عنه، فإن
إسكار الخمر يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية، والسكران
بالحشيشة وغيرها يكون فيه ضد ذلك، فيتقرر من ذلك أنها تحرم لمضرتها للعقل
ودخولها في المفتر المنهي عنه، ولا يجب الحد على متعاطيها؛ لأن قياسها على
الخمر قياس مع الفارق مع انتفاء ببعض أوصافه. اهـ.
وقوله: (كالحشيشة وغيرها) يدخل فيه نوع من القات الموجود في بلاد اليمن
والحبشة، يكون منه اختلاط العقل وتغيره، ومن بعضه خروج آكله عن حيز
الاعتدال في طبيعته. وقد روي في ذلك حكايات، فما بلغ منه هذا التأثير حرم
تناوله، ويؤدب من تعمده بعد علمه بالتحريم، وكذلك القدر المخرج عن الاعتدال
أيضًا من الزعفران والأفيون والعريط وكل نبات مساوٍ لها في الصفة والتأثير،
والله أعلم.
وجاء في رسالة إرشاد السائل إلى أجوبة المسائل للشوكاني:
السؤال الحادي عشر عن شجرة التنباك: هل يجوز استعمالها على الصفة
التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟
أقول: الأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما في
الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص: كالمسكر، والسم القاتل،
وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه؛ وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال
استصحابًا للبراءة الأصلية وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي
الأَرْضِ جَمِيعا} (البقرة: 29) ، {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} (الأنعام: 145) الآية.
وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء
منها إلا بدليل يخصصه: كذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، والكلب أو
الخنزير، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه، إذا تقرر هذا علمت أن هذه
الشجرة التي سماها بعض الناس التنباك وبعضهم التوتون، لم يأت فيها دليل يدل
على تحريمها، وليست من جنس المسكرات ولا من السموم ولا من جنس ما يضر
آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل.
ولا يفيد مجرد القال والقيل، وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله
تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)
وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، وقد
غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النزاع،
والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب مصادرة على المطلوب، والاستخباث
المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل.
فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة
إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد منهم من استخبث العسل وهو من أطيب
الطيبات، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب، وقال:
أجدني أعافه؛ فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومن
أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها أو
كانت حلالاً بالبراءة الأصلية وعموم الأدلة، في هذا النوع الإنساني من يستخبث
بعضها وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض
مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر
والدجاج من المحرمات؛ لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه، واللازم باطل،
فالملزوم مثله، فنقرر بهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه
غلطًا أو مغالطة. اهـ كلام الشوكاني في هذه المسألة.
والمعروف أن الدخان يسبب أضرارًا صحية كثيرة نتيجة التسمم
(النيكوتيني) ومن هذه الأضرار - كما قال الأطباء - ازدياد ضربات القلب وعدم
انتظامها، وسوء الهضم، وتهييج الغشاء المخاطي للشعب الرئوية فيورث السعال
المزمن وسوء حركة التنفس، فلا يمكن للشخص إجهاد نفسه من غير أن يعتريه
الإنهاك، وضعف النظر عادة يكون من بعض هذه النتائج، وربما أدى إلى عمى
جزئي، وكذلك تصاب الدورة الدموية بآفات أهمها سرعة حركة القلب وتصلب
الشرايين، وقد يورث ذلك القلب ضعفًا مستمرًّا يؤدي إلى السكتة القلبية بغير ألم أو
سابقة إنذار، وكما تحدث هذه الأضرار الصحية بالتدخين، تحدث كذلك بالمضغ،
بل هي في المضغ أشد وأوضح؛ لشدة تأثير النيكوتين الذي يتخلف معظمه في الفم
بالمضغ، وقد حدثت الوفاة لبعض الناس الذين مضغوه، وكذلك توفي رجل أراد
تهريب الدخان (من الجمرك) بأن خبأه تحت ملابسه ملاصقًا لجلده، والتدخين
يرفع ضغط الدم وينبه العصب الرئوي المعدي فيهبط القلب، وهذا هو سبب الأرق
بعد الإكثار من التدخين.
وهو بعد هذه الأضرار الصحية إسراف في المال بغير سبب، فهو إضاعة له
وتبذير، وقد نُهينا عن التبذير وإضاعة المال، وقد أثبتت الإحصائيات أن المدخن
ينفق في الدخان أربعة أمثال ما يصرفه في الملبس، وهو عبث فارغ لا فائدة ترجى
من ورائه، والعاقل بله المؤمن ينزه نفسه عن أن يضيع وقته في العبث، فهو
ضار ولا شك، وقد نفى الإسلام الضرر والضرار.
وقد يقال: إن هذه الأضرار جميعًا إنما تحدث حين الإفراط لا حين الاعتدال فيه
والتقليل منه، والجواب على ذلك أن يقال وأين ضمان الاعتدال، وقد أثبتت
الإحصائيات الدقيقة أن الاعتدال نادر بين المدخنين، فسهولة تناول اللفافة وتحكم
العادة وما يتخيله المدخن من لذة التدخين كل ذلك يجره إلى الإفراط، حتى أنه
ليشعل اللفافة من الأخرى بشكل ميكانيكي من غير أن تكون في نفسه حاجة إلى
التدخين، وكثير من المدخنين من هالته كثرة أعقاب اللفائف التي استهلكها بعد أن
ينتهي من عمله أو وحدته.
وإذا تقرر هذا فالذي يظهر لي أن تعاطي الدخان تدخينًا بأية كيفية أو مضغًا
أو سعوطًا بأية كيفية كذلك: حلال بأصله - إذ الأصل في الأشياء الإباحة - حرام
لغيره، وهو ما يترتب عليه من الأضرار، والقليل منه يلحق بالكثير سدًّا للذريعة
ومنعًا للقدوة الفاسدة، وأما التداوي بتعاطيه فجائز بالقدر الذي يتم به الغرض،
ومثله في هذا التنباك والقات وما جرى مجراها.
ولهذا أنصح للمدخنين من المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة ولو بالتدريج،
والذين لم يعتادوا هذه العادة أن يحذروها ما استطاعوا.
ذلك ما ظهر لي في هذه المسالة، وأنا على استعداد للرجوع عنه إذا ما نبهت
إلى غيره مما هو أولى بالاتباع، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
* * *
فائدة لغوية
يطلق بعض الناس على (الدخان) الطباق، والمعروف لغةً أن الطباق نبات
بري تتغذى به الظباء وأبقار الوحش، وقد ورد ذكره في شعر أبي العلاء، فهو
يقول في وصف غانية وتشبيهها بالظباء:
ومن العجائب أن حليك مثقل ... وعليك من سرق الحرير لفاق
وصويحباتك بالفلاة ثيابها ... أوبارها وحليها الأرواق
لم تنصفي غذيت أطيب مطعم ... وغذاؤهن الشث والطباق
__________(35/550)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار منذ عشرين سنة
(رجب سنة 1339)
مختارات من الجرائد الغربية في حل المسألة الشرقية
وتعليق بقلم السيد محمد رشيد رضا
رحمه الله
جاء في جريدة الباقري (الوطن) في 17 مايو سنة 1919:
نهاية الدولة التركية - عدم عقد شروط صلح معها - تقسيم الولايات العثمانية
تقسيم الدولة
قالت النيويورك هرالد في عددها الصادر هذا الصباح: إن من المرجح عدم
عقد شروط صلح مع تركيا - وإن كان ذلك غير مطابق للقواعد المرعية - لأن
المؤتمر يفكر بكل اهتمام في هذا الأمر، مرتكنًا على أن تركيا لم يعد لها حكومة
دولة حقيقة، وأنه لم يبق للعالم المدني إلا الانتفاع بتركيا الدولة العثمانية.
ستنال اليونان أكبر جزء من تركية أوروبا، وأما الآستانة مع مضايق البحر
فتتبع لعصبة الأمم تحت وصاية أمريكا، التي تعطى في هذا الإبان نفسه الوكالة
على أرمينية إلى أن تصير هذه البلاد صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها.
ثم إن اليونان سيصيبها جزء ليس بقليل من آسيا الصغرى، وأما باقي
ولايات هذه الجهة فتكون تحت وكالة فرنسا وإيطاليا بالنيابة عن عصبة الأمم في
الأستانة.
كان لدى الدول فرصة وحيدة لوضع تركيا تحت سيطرة دولية، ثم رؤي
اتباع طريقة أخرى وهي تقسم البلاد وتجنيسها بجنسية الحكومات التي لها عليها
حق الوكالة أو الوصاية لا حق التملك الحقيقي.
إننا بتضحية تركيا وبتشريح هذه المملكة أوجدنا أوجهًا للنزاع وللشقاق بين
دول أوربا في المستقبل؛ إذ أن الرجل المريض سينقل عدوى مرضه إلى أوروبا،
ولأجل تعميم العدوى دخلت أيضًا أمريكا في المرسح، ولنا أن نتساءل ما شأن
أمريكا في تركيا؟ ولماذا لم تكلَّف الدول صاحبة الشأن حماية مضايق البحر؟ هل
تدخلنا في مراقبة ترعة بناما؟
إن الحل الوحيد هو عدم تخصيص الآستانة لدولة معينة من الدول، وإذا
كان لا بد من وضع مراقبة على تركيا فليس ثمت أحسن طريقة من جعل هذه
المراقبة دولية مشتركة، وكل طريقة أخرى تكون مخالفة للعدالة وللروح العصري
والصوالح الأوربية في الشرق.
* * *
وجاء في جريدة الفيغارو في 18 مايو سنة 1919:
الإرث العثماني
بعد انكسار ألمانيا العسكري وانهزام دولتي تركيا والنمسا والمجر أصبحت
هاتان الدولتان الأخيرتان مزعزعتي الأركان، وتولد عن ذلك مسألة من أصعب
المسائل وأعقدها، ألا وهي تسوية الإرث العثماني.
إن سقوط الدولتين المذكورتين أنقذ الشعوب التي ليس لها رغبة، ولم يعد لها
صبر على احتمال نير الحكم الاستبدادي الذي رزحت تحته أجيالاً طويلة.
فالذين تؤول إليهم تركة تركيا هم أولاً اليونان، الذين بعد أن تخلصوا من
ذلك الملك الخائن انضموا إلى قضية الحلفاء، ثم الأرمن، الذين بسبب السياسة
الخرقاء الموعز بها من عمال الألمان قاسوا أشد أنواع العذاب وأوشكوا أن ينقرضوا،
ويليهم السوريون إلخ.
وإنجلترا تأخذ بلاد العراق، وفرنسا تأخذ سوريا، أما العرب فقد قرر الحلفاء
منحهم الاستقلال.
* * *
وراثة الخلافة
إن انحلال تركيا أوجد مسألة أيلولة الخلافة، كما أنه وضع حدًّا لنهاية نفوذ
فرنسا في الشرق - لقد كان عدة قرون أكبر نفوذ بسياستنا الودية مع تركيا، وقد
حلت ألمانيا محلنا عندما أهملنا المحافظة على هذا النفوذ، وكان في إمكاننا
استرجاع مكانتنا الأولى على إثر صولة النصر، إلا أننا لم نغتنم هذه الفرصة بل
قبلنا تسوية مجحفة بمصالحنا - فما يكون نصيب فرنسا بالنسبة إلى البلاد المتسعة
التي وضعت تحت وصاية إنجلترا وأمريكا؟ إن ما خصص لنا إنما هي سوريا بعد
استثناء تليسيا وفلسطين منها، وحرمانها من البوغازين المهمين، أعني بهما
ثغري إسكندرونة وحيفا.
* * *
وجاء في جريدة لافنير (المستقبل) في 18 مايو سنة 1919:
تعديل الخريطة
إعادة نظام النمسا وانحلال تركيا
عزم المؤتمر فحص المسألة التركية، وقد بدأ هذا الفحص بإرسال مدرعات
وجيوش دولية لاحتلال أزمير التي تقرر ضمها إلى اليونان، وتم ذلك فعلاً.
تقرر أيضًا ضم سوريا إلى فرنسا - ولكن لم ينفذ هذا القرار - وجعْل
العراق وفلسطين تابعتين لإنجلترا، وقد تم ذلك، ثم ينتظر إلحاق أضاليا وقونية
بإيطاليا، والأستانة وأرمينية بأمريكا.
أما التركي فإنه بحسب تخويل الشعوب حق تقرير مصيرها قد صار إزالته
من الخريطة، والمأمول أن هذه المخالفة لمشروع عصبة الأمم لا تتم؛ لأنه ليس
من حسن السياسة تحريك عواطف الوحدة الإسلامية في أنحاء العالم وإضرامها.
فاليونان القاطنون في تركية أوربا سينضمون إلى دولتهم التي ستتسع كثيرًا
على إثر هذا الانضمام، كما أن ولاية أزمير - حيث يكون العنصر اليوناني -
ستنضم أيضا إلى دولة اليونان بناء على التوكيل المعطى لهذه الدولة، وبحسب
الشروط المعينة لذلك.
وأما مشروع إنشاء أرمينية الكبرى مع ضم أطنة ومرسين إليها ليكون لها
منفذ على البحر المتوسط، فالمنظور أن أمريكا تكون الوصية على هذه البلاد كي
تساعدها على ارتقائها ونموها، كما أنها ستكون على الراجح هي الوصية على
الأستانة وعلى المضايق التابعة لها أيضًا، فإذا قبل الرئيس ويلسون هذه الوكالة
باسم الشعب الأمريكي لا يكون قبوله نافذًا ونهائيًّا إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ
الأمريكي عليه.
وفرنسا تكون الوصية على سوريا بالنظر لعلاقتها القديمة بها؛ لكن لا بد أن
تكون هذه الوصاية شاملة للبلاد السورية بأكملها وليس على سوريا مقسمة.
ولا ريب في أن المخابرات التي جرت في ذلك كان فيها بعض التراخي من
قبل فرنسا، لكن من الضروري أن تؤيد حقوقنا بكل حزم وعزم.
بلاد الأناضول ستعطى لإيطاليا مع ميناء أضاليا، ثم إن فلسطين والعراق
يكونان تحت مراقبة إنجلترا.
هذا هو التقسيم الذي تم الاتفاق عليه بادئ بدء، وبقي في آسيا الصغرى
جزء مأهول بسكان أتراك يحتوى على بروسة وأنقرة، وقد طلب من فرنسا حماية
هذا الجزء؛ لأن بروسة - حيث يقيم السلطان - تكون عاصمة المملكة العثمانية
الجديدة، ونتمنى أن لا يتبع الحلفاء سياسة التجزئة في آسيا الصغرى، والذي نراه
هو أن تكون دولة تركيا المقبلة تحت إشراف مستشارين أوروباويين وبمعاونتهم.
(المنار)
هذا نموذج مما كان ينشر في جرائد الحلفاء منذ عامين بيانًا للرأي العام في
بلادهم عقب الحرب التي كانوا فيها هم المنتصرين، وكان أكثر الناس من جميع
الأمم يظنون أن ما تقوله هذه الجرائد هو القول الفصل الذي لا مرد له؛ لأنه صدى
سياسة دولهم المنتصرة التي لها الدهر عبد والزمان غلام، وقد وضعوا المعاهدات
لجعل تلك الأماني حقوقًا ثابتة؛ ولكن الزمان جاء بما لم يكن في حسبان أحد من
الخطوب والمشكلات التي عجز جميع دعاة السياسة من حل عقدة واحدة من عقدها
الكثيرة، وقد جف ريقهم من كثرة ما نفثوا فيها، ودميت أظفارهم من تكرار
محاولتهم لها، فكان ذلك حجة بالغة على جهل المغرورين بالقوة والعظمة الباطلة،
الذين يرتكسون في اليأس عند سماع كل صيحة هائلة: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي
الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
(المنار 1359)
لم يقف الأمر عند حد هذه المشكلات، بل قامت الثورات في كل جهات العالم
الإسلامي؛ فقد ثارت مصر، وثارت العراق، وثارت سورية، وثارت فلسطين
ثوراتها المقدسة، وثارت المغرب مرات متتابعة، ولا زالت كل بقعة من بقاع
العالم الإسلامي تطلب الحرية والاستقلال بكل وسيلة، وستنتصر في النهاية،
ولعل هذه الحرب الحالية هي المعول الذي يحطم من الشرق الإسلامي القيود
والأغلال.
__________(35/700)
الكاتب: عبد الرحمن عاصم
__________
السيد الإمام محمد رشيد رضا
ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر
بقلم وكيله وابن عمه السيد عبد الرحمن عاصم آل رضا
أشهر رجال الإصلاح في العصر الحديث ثلاثة: حكيم الشرق السيد جمال
الدين، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والسيد الإمام محمد رشيد رضا،
وغرضهم الذي سعوا له إصلاح أمتهم بما صلح به سلفهم، وقد كثر - والحمد لله -
مؤيدوهم، ينقلون ما يؤثر عنهم، ويشيدون بهم وبأعمالهم، ويدعون إلى الاقتداء
بهم في جميع المعاهد العلمية وغيرها.
فأما السيد جمال الدين الأفغاني فكانت خطته الإصلاحية سياسية تبعًا لميله
واستعداده، وأما الشيخ محمد عبده فكان همه الإصلاح والتجديد من طريق التربية
والتعليم، وقد استفاد السيد رشيد مما ذهبا إليه، ومضى على سَننهما، وجمع بين
خطتيهما، وبنى على أساسهما، فله رأي صائب في السياسة وأثر محمود فيها،
فنبه الأفكار إلى معرفة حقوق الأمة، وأيقظ الهمم لأخذها، وسعى أيضًا لتجديد أمر
هذه الأمة من طريق التعليم والوعظ والإرشاد والتربية الدينية التي هي قوام
الفضائل، وصار بذلك أشهر من نار على علم.
وإني مبين هنا جهاده في سبيل مدرسة دار الدعوة والإرشاد في مصر وفي
الآستانة، ثم في مصر ثانية، وثمرته ونفعه، وقد صبر صبرًا جميلاً على ما لاقى
من أذى الحاسدين والمارقين.
وكانت مدرسة الدعوة والإرشاد هذه داخلية، تنفق على طلبتها الداخليين
وتكفيهم كل شيء حتى الكتب والأدوات المدرسية، وكانت تعنى بتربيتهم على
الفضيلة والنظام، وبمراقبة أخلاقهم وآدابهم، وفيها قسم خارجي يتعلم فيه الطلبة.
والغرض منها تخريج طائفتين من العلماء، طائفة منهم للدعوة إلى الله والدفاع
عن دين الله بحسب ما تقتضيه حال الزمان، وتعد الطائفة الثانية بالتربية والتعليم
لإرشاد المسلمين وتعليمهم ما يرجى أن يقلل الفواحش والمنكرات والبدع والخرافات،
وقد وعد صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية
الذي كان رئيسًا لجماعة الدعوة والإرشاد، بأن يستعين بهؤلاء المرشدين على
إصلاح الطرق، والتوسل بذلك إلى إرشاد أتباعها إلى حقيقة ما كان عليه سلف
الأمة الصالح في عباداتهم وآدابهم.
وكان نظام التعليم في المدرسة جامعًا بين حقائق الدين وحكمته وموافقته لما
يقتضيه التطور الاجتماعي وسنن العمران، وبين ما يحتاج إليه علماء الدين من
العلوم العصرية والكونية.
وأول ما بدأ السيد رشيد رضي الله عنه نشر أفكاره الإصلاحية في التربية
والتعليم أن وجَّه إلى الأزهر الشريف في سني مجلة المنار الأولى رسائل تتضمن
أصول الإصلاح الذي يراه واجبًا، ومنها ما نحن بصدده وهو الوعظ والإرشاد
والعلم والدعوة إلى الإسلام، وقد اقتنع الأزهر في السنين الأخيرة بها، وأخذت
كلياته في تنفيذها على قدر كفاءة رجالها.
وأما بدء السيد السعي لتأليف جماعة الدعوة والإرشاد فكان في مصر في عهد
الوزير الأكبر المرحوم رياض باشا، واقتنع الباشا بصلاح المشروع، وأن يكون
رئيسًا للجمعية، ولكن حالت أحوال دون تنفيذه.
ثم قصد السيد إلى الأستانة سنة 1327 - وكانت تلقب بدار الخلافة ودار
السعادة، بعد الانقلاب الدستوري الذي فرح به الأحرار، وبنوا عليه العلالي
والقصور - ليؤسس فيها جمعية الوعظ والإرشاد.
وقد استقبله رجال الانقلاب السياسي وشيخ الإسلام ووزراء الدولة أحسن
استقبال، وشاركوه في تأسيس الجمعية وإنشاء دار الدعوة والإرشاد، وقرر مقدار
المال، ووضعت القوانين والأنظمة، وبقي السيد في الأستانة سنة كاملة يعلل النفس
بتحقيق الأمل وإنجاز الوعد وتنفيذ الأمر وإجرائه؛ ولكن لما تكشفت له الحقائق
بالمراوغة والمخادعة عاد إلى مصر القاهرة، وإنما قصد السيد تنفيذ المشروع
بكفالة الدولة العثمانية ليسهل تعميمه في العالم الإسلامي بدون ضغط أجنبي.
ثم في سنة 1329 أسس السيد جمعية الدعوة والإرشاد ومدرستها الكلية دار
الدعوة والإرشاد في مصر، وهو يراها أكبر همه ومن أعظم ما يتقرب به إلى ربه،
كيف لا والأصلان اللذان سميت المدرسة باسميهما وقامت بهما هم أهم مقاصد
الإسلام الكافلان لنشر هدايته، وتعميم دعوته، وإعادة مجده بالوعظ والإرشاد العام
للمسلمين في مساجدهم ومجامعهم بالخطب، ونشر الرسائل المحتوية على ما يحتاج
إليه من حسن المعاملة والمعاشرة وحفظ الصحة، وبالدعوة إلى الإسلام، وأخذت
المدرسة في تربية طائفة من التلاميذ وإعدادهم لذلك الأمر العظيم، وهو أمر أوجبه
الإسلام وقصر أهله عن نشر هدايته وعن الدعوة إليه والدفاع عنه، وقد أبدى
بعض سفراء الحكومات تخوفًا من هذا المشروع لسمو الخديو عباس حلمي،
وأجاب سمو الأمير أنه لا يُخشى منه شيء من الضرر، وأنه يضمن بشخصه كل
تبعة.
هذا ولا بد من التصريح بأن سمو الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر طلب
السيد رشيدًا إليه بعد عودة السيد من الأستانة، وطلب منه أن يشرع بتنفيذ مشروع
الدعوة والإرشاد في مصر؛ لأن سموه يرى أن وجود مدرسة الدعوة والإرشاد
وجمعيتها في مصر سيقنع الدولة بإنشاء مثلها في الأستانة، ويمكن حينئذ توحيد
المشروع في العاصمتين، وبذلك يصير تعميمه في البلاد أضمن وأوفى، ومعنى
رغبة سمو الخديو هذه أن الأزهر الشريف لم يكن يغني المسلمين غناء مدرسة
الدعوة والإرشاد في ذلك الحين.
والذي حمل سمو الخديوي على ذلك حرصه على خدمة الإسلام وحسن ظنه
بالسيد الإمام، وقد نقل عنه رئيس ديوانه المؤرخ الشهير أحمد شفيق باشا أن سموه
قال: (إن السيد محمد رشيد هو لسان الإسلام في هذا العصر) ولذا صار كثير
التحبيذ للمدرسة وزارها مشجعًا وهي في أول نشأتها، ثم أمر مدير الأوقاف أن
يضع لها مبلغًا من المال ابتداء من سنتها الثانية، وأوصى أن تقرر الأوقاف في
ميزانية السنين التي تليها كل ما يقدره مجلس إدارة المدرسة لنفقاتها.
ثم سافر سمو الخديو إلى الآستانة، ووقعت الحرب العامة وكان من أمرها ما
كان مما لا فائدة من ذكره الآن.
واستمرت المدرسة عامرة بالتعليم بعد ذلك عامين آخرين، نضب في أثنائهما
معين الإعانات من الأوقاف وأصحاب المروءات، وتحمل السيد من تلك النفقات
وصبر عليها حتى عجزت ثروته عنها، وانقضت حياة التدريس فيها بعد أن كانت
عامرة بها أربعة أعوام، ولكن آثارها الطيبة في نفوس طلابها ومن يتصل بهم لا
تنقطع بِكَرّ الأعوام؛ لأنها مؤسسة على تقوى من الله ورضوان.
هذه خلاصة تاريخ جهاد السيد في تأسيس المدرسة التي كانت موضع أمله في
إصلاح المسلمين وإرجاعهم إلى ما كانوا فيه من عز وكرامة، ولم يهن ولم يصبه
الملال، بل جدد سعيه - لتجديده حياة المدرسة - لدى عظمة السلطان حسين كامل،
وكان وعده وهو أمير بالمساعدة المعنوية والمادية، وقال الأمير: (إنني طالما
فكرت في هذا المشروع، وفي حاجة المسلمين إليه، وإنه لولا الموانع لكنت أشتغل
وأعمل فيه بنفسي) وكان عظمة السلطان في مقدمة كبراء المسلمين الذين
يجزمون بأن الإصلاح الإسلامي الديني والدنيوي يتوقف على العمل الذي يراد من
دار الدعوة والإرشاد؛ ولكن شؤون السلطنة وغيرها حالت دون مساعدة
السلطان حسين، رحمه الله وأحسن ثوابه.
هذا ولشدة حرص السيد رشيد على نجاح دار الدعوة والإرشاد - لاعتقاده
بأنها حاجة ماسة للإصلاح الإسلامي المنشود - وجه سعيه إلى حضرة صاحب
الجلالة الملك فؤاد لعله يحقق غرضه، ومما كتب السيد في مذكرة قدمها إلى رئيس
الديوان ليعرضها على جلالة الملك قوله - رحمه الله تعالى -: (ولما كنت أعلم
بالدليل المؤيد والاختبار وشهادة عقلاء المسلمين أن هذه المدرسة ضرورية لخدمة
الإسلام في هذا العصر، وأن مصر أولى بها من غيرها من أمصار الإسلام؛ لأنها
في مقام القدوة لها وهي مرتبة لا يعقل أن ترضى مصر بالتخلي عنها، على أنها
أحوج إليها من غيرها؛ فإنه لا يوجد قطر إسلامي فيه من الفوضى الدينية والأدبية
في عامته مثل القطر المصري، فأكثر أفراد الطبقات العامة الدنيا ليسوا على شيء
من الوازع الديني ولا الأدبي كما يعلم من كثرة الجنايات، ويستحلون كل منكر إذا
غلب على ظنهم الأمن الحكومة، وهم عرضة لقبول كل دعوة إلى عصبية من
عصبيات المدنية المادية، فمستقبل البلاد من هذه الجهة حالك الظلام، ولا عاصم
من شرها كالدين إذا قام بهدايته مَن عَقَله واهتدى به فعلاً بتربية صالحة، ولا
يُرجى مثل هذا لمن يتعلم العلم على أنه حرفة يعيش بها.
وأما مدرسة دار الدعوة والإرشاد فإنها تربي تربية روحية أخلاقية؛ حتى
يكون الباعث على الإرشاد من أعماق سائر طلابها ووجدان قلوبهم، لا يبتغون عليه
أجرًا إلا من الله الذي فرضه عليهم، وهي على قلة زمن الدراسة فيها قد أخرجت
أفرادًا من المصريين، والمغاربة، والهنود، والجاويين، والقوقاسيين، والشاميين،
ومن الجزيرة، لا هَمَّ لهم من حياتهم إلا إرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم ومصالح
معايشهم) .
ومن أولئك الأفراد في تلاميذ دار الدعوة والإرشاد فضيلة أبي السمح الشيخ
عبد الظاهر محمد الإمام والخطيب في بيت الله الحرام، ومنشئ مدرسة دار الحديث
في مكة المكرمة، ومن علامات اعتزازه بالانتساب إلى دار الدعوة والإرشاد أنه
عتب عليّ لما لم أذكر اسمه بين أسماء بعض تلاميذ السيد في مقالة سابقة عنه،
رحمه الله. وقال إنه يفخر بأن السيد كان يخاطبه برسائله إليه (بولدنا الروحي) .
ومن صفات الأستاذ أبي السمح أنه صالح في سيرته وأخلاقه، ومجيد تلاوة
القرآن الكريم بخشوع يؤثر في سامعيه أحسن التأثير، ومجيد الخط أيضًا ولذا
اختاره السيد أن يكون مراقبًا للطلبة في أخلاقهم والقيام بعباداتهم في الليل والنهار،
ومعلمًا ترتيل القرآن الحكيم وتحسين الخط.
وفي مقدمة الذين ينسبون إلى المدرسة ما عندهم من مزايا أخلاقية وفضائل
نفسية حضرة الزعيم المجاهد مفتي الديار القدسية السيد أمين الحسيني، وكذلك
المسلم العربي الكريم السيد يوسف ياسين، وإنْ أَنْسَ لا أنسى كلمة كتبها من بحرة
وهو في معية جلالة ملك المملكة العربية السعودية منتظرين فتح جدة في أشد حرارة
القيظ التي تكاد تغلي الأدمغة من شدتها، قال: (حينما يكاد يستولي علي الضعف
ويصيبني الوهن كنت أتذكر درس التفسير للسيد في المدرسة، وكأني أسمع صوته
ينفث في قلوبنا روح الفضيلة يقوي إرادتنا، ويربي أرواحنا، فتشتد عزيمتي
وأنقض غبار الوهن عني) .
والمجال يضيق عن ذكر كثيرين من المريدين، وقد سبق لي أن ذكرت طائفة
منهم.
وبذل السيد سعيه لتجديد عهد المدرسة أيضًا لدى ملجأ السلفيين حضرة
صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، ولما لم يتيسر ذلك اقترح السيد على
جلالته إيفاد طائفة من أبناء الشيوخ ليتفقهوا في الدين برعاية السيد وإشرافه، وكان
من المتوقع أن يعمل بهذا الاقتراح.
ولما قام مصطفى كمال باشا قومته - وكان موضع آمال المسلمين - أرسل
إليه السيد كتابًا مع رسول، ومما رجَّى فيه أن يكون لمدرسة الدعوة والإرشاد من
عنايته أوفر نصيب؛ لأنها أساس لكل ما يحتاج إليه المسلمون في هذا العصر من
إصلاح، وإنما ذكرت هذا لاستيفاء أدوار المدرسة.
والسيد - رضي الله عنه - كان لا يألو جهدًا في نشر أفكاره الإصلاحية
بالتعليم كما ينشرها بالقلم، وكان يجتمع عليه في دار المنار كثيرون من خيرة
المعلمين المربين من الأزهر والقضاء الشرعي ودار العلوم ومدارس المعلمين
ونبهاء الموظفين يسألونه العلم، وكانوا إذا وجدوا في مباحثهم مسألة مشكلة معقدة لم
يستطيعوا حلها بعد البحث والتنقيب والمراجعة في الكتب، فإنهم يرجعون إلى السيد
الإمام لحل الإشكال وبيان الحق والصواب فيها، وحينما يجتمعون لذلك بعد مغرب
يوم الخميس فإن السيد يسألهم عن موضوع الليلة، فيجيبون المسألة الفلانية، ثم
يأخذ السيد في بحث ما ورد وقيل فيها، ثم يخلص إلى الحكم بأن الصواب في
المسألة كذا، فينحل الإشكال وتزول الغشاوة التي كانت حاجبة الحقيقة، وكأنما
حطت عن المستمعين أثقالاً.
رحم الله السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومفسر القرآن الحكيم وناظر
مدرسة دار الدعوة والإرشاد؛ فقد خدم أمته داعيًا إلى الله، ومدافعًا عن دين الله،
ومرشدًا إلى ما ينفع الناس على بصيرة، أفنى في ذلك أربعين عامًا صابرًا ثابتًا
شأن الراسخين في العلم والمؤمنين، لا تأخذه في الحق لومة لائم، غير هيَّاب ولا
وجل على كثرة ما كاد له الحاسدون والدجالون والملحدون بضروب الأذى، ولم
ينالوا منه منالاً؛ لأن الله لا يهدي كيد الخائنين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن عاصم
... ... ... ... ... ... ... ... ... طرابلس - لبنان
__________(35/705)
الكاتب: حسن البنا
__________
من مشكاة النبوة
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول:
يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله،
فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب
بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (المائدة: 78 -
81) ثم قال: كلا والله، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهُونَّ عن المنكر، ولتأخذن
على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو
ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) .
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
عن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:
(استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة
فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على
المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على
العمل فيما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس
في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا
بغير حقه إلا لقي الله - تعالى - يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله
يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي
بياض إبطيه، فقال: (اللهم هل بلغت) (متفق عليه) .
__________(35/713)
الكاتب: أحمد محمد شاكر
__________
في الإسراء والمعراج
محاضرة فضيلة الأستاذ أبو الأشبال الشيخ محمد شاكر
القاضي الشرعي بقاعة المحاضرات في جمعية الشبان المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
أيها السادة:
يجتمع حفلنا هذا المبارك الليلة إشادة بذكرى آية من أعظم آيات النبوة،
اختص الله بها عبده محمدًا صلى الله عليه وسلم من دون سائر الأنبياء عليهم السلام،
وأمره أن يصلي بهم في بيت المقدس، موطن النبوات الأولى، وأمرهم أن يقتدوا
به، تشريفًا لقدره وتعظيمًا؛ ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد
آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن
سواه إلا تحت لوائي) وإشارة إلى عموم بعثته، كما قال الله - تعالى - في كتابه
الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وتعليمًا لأممهم وأتباعهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويقتدوا به كما
اقتدى أئمتهم الأنبياء، ودخلت إمامتهم في إمامته إلى يوم القيامة، فهو إمام الأئمة،
وهو الإمام الأعظم، فمن آمن به من أتباع الأنبياء فقد آمن بهم، ومن لم يؤمن به
فلم يؤمن بواحد منهم، ومصداق ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ
لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ
الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) . وقوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه عمر
بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه: (والذي نفسي بيده، لو أن
موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني) .
أيها السادة:
إن الإسراء والمعراج حادثان من أبرز الحوادث في السيرة المحمدية الشريفة،
وقد دُعيت لأن أتحدث إليكم في شأنهما، وما أراني أهلاً لهذا المقام الخطير،
ولكني على ثقة من إغضائكم عن قصوري وتقصيري عفوًا منكم وفضلاً.
والكلام في شأنهما يدور على أنحاء شتى من القول، أوقن أني عاجز عن
الإحاطة بها واستيعابها، وحسبي أن أقصر قولي على النحو الذي أرجو أن يكون
لي به علم، والذي أظن أنه لي به علم شيء من الاختصاص، وهو البحث في
إثباتهما من الوجهة التاريخية، وأعني بذلك الوجهة الحديثية، إذ أن نسبة أي قول
أو فعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يدخل على المحدث، وهو الذي يرجع
إليه في إثباته أو نفيه، بعد تحديد موضوعات العلوم وخصوص كل صنف من
العلماء بما أحسنوه من العلم.
والقواعد التي سار عليها علماء هذا الفن - فن الحديث - هي أصح القواعد
للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها وإن أعرض عنها كثير من الناس وتحاموها
بغير علم ولا بينة، بل إنا لنجد بعض الباحثين يعرضون لإثبات الأحاديث ونفيها
بآرائهم وأهوائهم، ومهما رأوا من شيء نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان
موافقاً لرأي ينصرونه فهو الحديث الصحيح عندهم وإن كان مكذوبًا موضوعًا،
ومهما رأوا من حديث صحيح ثابت وكان مخالفًا لما تنصره أهواؤهم، فهو الحديث
الضعيف أو المكذوب، وإن كان إسناده من أقوى الأسانيد وأصحها وأثبتها عند
العارفين بها، ولعلهم لم يقرءوا طول حياتهم إسنادًا صحيحًا أو ضعيفًا، ولم يعلموا
قليلاً ولا كثيرًا مما بذله علماء الحديث من الجهد في التحري والتوثق والتتبع
لأحوال الرواية وألفاظ الأحاديث ومعانيها، وما ألفوا في ذلك من الدواوين الكبار
والمعاجم الموسوعة من منتصف القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن العاشر.
أيها السادة:
قد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعنَ به أمة
قبلهم؛ فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترًا، آية آية،
كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف،
حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في الصحف، وألفوا في
ذلك كتبًا؛ لو حدثتكم عن شيء منها لأخذكم العجب، ولعل بعضكم يكون أعلم بها
مني، وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان
للقرآن.
وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة، اسمعوا قوله - تعالى - في صفته:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 - 4) وقوله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)
وقوله أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) .
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول، فقال: (اكتب فوالذي
نفسي بيده ما خرج مني إلا حق) ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن
يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا
الأحاديث عنه، وبعضها متواتر، إما لفظًا ومعنى، وإما معنى فقط، وبعضها
مشهور، وبعضها بالأسانيد الصحيحة الثابتة، مما يسمى على قواعد المصطلح
الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا
يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر.
وقد بين الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم هذه الأنواع في كتاب المِلَل والنِّحَل،
وقال عن النوع الأخير - المسمى عند علماء المصطلح الآحاد - إنه هو ما رواه
الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم
باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان،
على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكوافّ، إما إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وإما إلى
الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع، يعرف ذلك من كان من
أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لرب العالمين.
وهذا نقل خص الله - تعالى - به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه
عندهم غضًّا جديدًا حديثًا على قديم الدهور منذ أربعمائة وخمسين عامًا، في
المشرق والمغرب والجنوب والشمال، يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا
خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده، قد تولى الله - تعالى - حفظه
عليهم - والحمد لله رب العالمين - فلا تفوتهم ذلة في كلمة فما فوقها في شيء من
النقل إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقًا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى
الشكر.
أيها السادة:
هذه صورة مصغرة، بل لمحة خاطفة على المجهود الهائل الذي بذل سلفنا
الصالح - رضوان الله عليهم - للمحافظة على آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم
طاعة لما أمر به أصحابه في حجة الوداع (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع) .
أفيجوز بعد ذلك لكل من ركب رأسه، وأعجبه عقله، ورضي عن نفسه، أن
يقول هذا حديث صحيح وهذا حديث غير صحيح؟ أولا يعلم أنه حين يرد حديثًا
صحيحًا - إما بنفي ثبوته وإما بتأويله عن غير وجهته - يرمي رجالاً من الثقات
الأثبات والعلماء الحافظين بأنهم كاذبون أو جاهلون وهو لا يعرف شيئًا من أخبارهم
ولا أحوالهم، وأنه يرميهم في دينهم وأمانتهم وصدقهم، وأنه حين يرضى عن
حديث مفترى فيزعم أنه صحيح ثابت، يشارك من افتراه في فريته، ويدخل
تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو
أحد الكذابين) .
أيها السادة:
أرجو أن تعذروني إذا أطلت القول في ذلك؛ فإنه بسبيل مما نعرض من
إثبات حديث الإسراء والمعراج، ولأن الجراء من الناس استرسلوا في العبث
بالسنة الشريفة عدوًا وبغيًا.
فلم يكتفوا بتكذيب الرواة الثقات والأئمة الإثبات، بل زادوا عدوانًا وطغيانًا،
اجترءوا على تكذيب بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم رسله إلى
من بعدهم، والأمناء على دينه وشريعته، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن بما
لم يثن على غيرهم من أصحاب الأنبياء، وهم السابقون المقربون، رضي الله
عنهم ورضوا عنه.
أيها السادة:
إن حديث الإسراء والمعراج من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وقد جاء
بروايات كثيرة متواترة، منها المطول ومنها المختصر، ألفاظه مختلفة، وكلها تدل
في مجموعها على صحة هذه الحادثة وعلى ثبوتها التاريخي، مما يسميه العلماء
(التواتر المعنوي) وقد ورد من حديث أنس بن مالك، ومن حديث غيره من
الصحابة، ونقل الحافظ ابن كثير في تفسيره (5 / 243) عن الحافظ ابن
الخطاب عمر بن دحية أنه ذكره من حديث أنس، ثم قال: وقد تواترت
الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر
ومالك بن صعصة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي
ابن كعب وعبد الرحمن بن قرظ وأبي حبة وابن ليلى الأنصاريين وعبد الله بن
عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة، وسمرة بن جندب وأبي
الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق،
رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع
في المسانيد.
وإن لم تكن رواية بعضهم شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون
وأعرض عنه الزنادقة والملحدون {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ
إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) فهؤلاء ستة وعشرون
صحابيًّا رووا حديث الإسراء، وقد جمع الحافظ ابن كثير أكثر رواياتهم بأسانيدها
في تفسيره (ج 5 ص 197 - 243) على معرفة مواطنها من كتب الحديث
الصحاح الستة وغيرها، وسأحدثكم ببعض الروايات الصحيحة فيها.
روينا بالإسناد الصحيح المتصل عن إمام المحدثين أبي عبد الله أحمد بن محمد
ابن حنبل في مسنده قال: حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت
البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق،
وهو دابة أبيض، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه،
فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط بها
الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر
وإناء من لبن، فاخترت اللبن، وقال جبريل: أصبت الفطرة. ثم عرج بنا إلى
السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن أنت. قال: جبريل. قيل: ومن معك؟
قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم،
فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن
أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال:
قد أرسل إليه. قال: ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا ودعوا لي
بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال:
جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. فقيل: وقد أرسل
إليه؟ قال: وقد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام، وإذا هو قد
أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة،
فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد.
فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: وقد أرسل إليه. ففتح الباب، فإذا أنا بإدريس، فرحب
ودعا لي بخير، ثم يقول الله - عز وجل -: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل.
فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا،
فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج إلى السماء السادسة، فاستفتح
جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد.
فقيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإذا هو مستند إلى البيت
المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى
سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر
الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها، قال:
فأوحى الله - عز وجل - إلي ما أوحى، وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين
صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمتك. قال:
قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن
أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى
ربي - عز وجل - فقلت: أي رب خفف عن أمتي، فحَط عني خمسًا،
فرجعت إلى موسى، فقال: ما فعلت. قلت: حط عني خمسًا، قال: إن أمتك
لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: ولم أزل أرجع بين ربي
وبين موسى ويحط عني خمسًا، حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم
وليلة وبكلٍّ عشر، فتلك خمسون صلاة، ومَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، فإن
عملها كتبت عشرًا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها
كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فأخبرته، فقال: ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لقد رجعت إلى ربي حتى لقد استحييت.
هذه الرواية إحدى روايات الحديث، وهي أجودها وأنقاها، وقد رجحها كثير
من الحفاظ على غيرها، وإن كان فيها من الاختصار في بعض المواضع، وقد
رواها مسلم بن الحجاج في صحيحه (1 - 99) حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا
حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك، وإسنادها من الأسانيد التي
نص أئمة الحديث على أنها أصح الأسانيد، وروى الإمام أحمد أيضًا عن عبد
الرازق عن عمر عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي
بالبراق ليلة أسري به ملجمًا ليركبه، فاستصعب عليه، وقال جبريل: ما يحملك
على هذا؟ والله ما ركبك أحد قط أكرم على الله - عز وجل - منه. قال: فارفضَّ
عرقًا. وروي أيضًا بنفس هذا الإسناد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، ورقها مثل
آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل،
ما هذان؟ قال: أما الباطنان في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، وهذان
أيضًا حديثان صحيحان روتهما أئمة ثقات إثبات.
أيها السادة:
ومما ورد من الأحاديث الصحيحة ما رواه الإمام أحمد، ومسلم في صحيحه من
طريق معمر بن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال:
قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فنعته
النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل مضطرب، رجل الرأس كأنه من رجال
شنوءة، قال: فلقيت عيسى، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ربعة أحمر
كأنما خرج من ديماس - يعني حمامًا - قال: ورأيت إبراهيم - صلوات الله عليه -
وأنا أشبه ولده به، قال: فأُتيت بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخرة خمر،
فقيل لي: خذ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربته، فقال: هديت للفطرة - أو أصبت
الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وروى الإمام أحمد من طريق عوف الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي
وأصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلاً حزينًا،
قال: فمر به عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، وقال له كالمستهزئ: هل
كان من شيء؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: ما هو؟ قال: إنه
أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين
ظهرانينا ! قال: نعم. قال: فلم يُرد أن يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا
قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي. فانفضت إليه
المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدِّث قومك بما حدثتني. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قلت: إلى بيت
المقدس. قالوا: ثم أصبحت بين ظَهْرَانَيْنَا. قال: نعم. قال: فمن بين مصفق، ومن
بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب زعم. قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا
المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت،
قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وضع دون دار عقال أو عقيل، فنعتُّه
وأنا أنظر إليه قبل. فقال القوم: أما النعت، فوالله لقد أصاب.
وهذا أيها السادة حديث صحيح أسنده رجال ثقات إثبات، رواه أيضًا ابن أبي
شيبة والنسائي والبزار والضياء في المختارة وغيرهم، وجاء هذا المعنى عن
جابر بن عبد الله مختصرًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما
كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر، فجلا الله لي
بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه) رواه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبري في تفسيره.
وقال الحافظ الثقة محمد بن سعد في كتاب الطبقات الكبير (ج - ق 1 -
144) وأخبرنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن
عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء
من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله إلي أنظر
إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا
موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب، جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى
ابن مريم قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم
قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما
فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار فسلم عليه،
فالتفتُّ إليه فبدأني بالسلام.
وهذا أيضًا حديث ثابت، رواه في صحيحه عن زهير بن حرب عن حجين
بن المثنى شيخ ابن سعد فيه.
هذا قليل من كثير مما ورد من الأخبار الصحيحة في الإسراء والمعراج، وكلها
تدل دلالة صريحة واضحة عن أن الإسراء والمعراج كانا بشخصه الكريم صلى الله
عليه وسلم، أي بجسده وروحه، ولا يفهم منها سامعها غير ذلك، وقد بدا لبعض
المتأولين من المتقدمين والمتأخرين أن يتأولوا كل النصوص، ويفهموا منها أن
الإسراء والمعراج كانا بروحه فقط، وزعم بعضهم أن ذلك كان رؤيا في المنام، ولا
تجد لواحد من هذين الفريقين دليلاً يعتمد عليه في نقل دلالة الأخبار عن ظاهرها
وصريحها، وهو مدلولها الحقيقي في وضع اللغة، فإنما التأول نوع من المجاز الذي
لا يصار إليه في الكلام إلا بدليل أو قرينة واضحة، نعم، قد تجد حديثين عن
عائشة ومعاوية، يفهمان أن الإسراء لم يكن بجسده الشريف، وهما حديثان ليسا مما
يحتج بمثلهما أهل العلم بالحديث، وقد رواهما ابن اسحاق في السيرة، قال:
حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.
وقال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي
سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا
من الله صادقة. قال ابن إسحاق عقيب ذلك: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن:
هذه الآية نزلت في ذلك، قول الله - عز وجل -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي
أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) ولقول الله - عز وجل - في الخبر
عن إبراهيم عليه السلام، إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102) ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء
أيقاظًا ونيامًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول: تنام عيني
وقلبي يقظان، فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله،
على أي حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق صدق. هذا كلام ابن إسحاق الذي
نقله عنه ابن هشام في تهذيب سيرته، وهو ظاهر في أن ابن إسحاق لما رأى
كلمتي عائشة ومعاوية تردد في أنه كان في اليقظة أو في النوم، ولم يستطع أن
يجزم بشيء، ولكنه لم يستطع أيضًا أن ينفي ما دلت عليه الأخبار أن ذلك كان
يقظة عيانًا بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم.
أيها السادة:
إن كلمة ابن إسحاق واستدلاله بخبري عائشة ومعاوية - في غالب رأينا - هي
أول ما نقل عن العلماء المتقدمين من الخلاف في هذه المسألة، ثم جاء بعد من جَزم
بما تردد فيه، واستدلال ابن إسحاق بهذين الخبرين غير جيد، فإنهما خبران
ضعيفان ليس لهما إسناد صحيح، وقد أطلت البحث عنهما فلم أجد لهما إسنادًا غير
ما ذكر ابن اسحاق، أما خبر معاوية، فإنه منقطع؛ لأن راويه يعقوب بن عتبة بن
المغيرة بن الأخنس لم يدرك معاوية، ولم يدرك أحدًا من الصحابة أصلاً، وإنما
يروى عن التابعين فقط، ومات سنة 128، ومعاوية مات سنة 60، وأما حديث
عائشة فإنه كما ترون لا إسناد له، لأن قول ابن إسحاق حدثني بعض آل أبي بكر
إيهام للراوي، فلا نعرف منه من الذي حدثه، وهل هو ثقة أو ليس بثقة؟ وهل
أدرك عائشة أو لم يدركها؟ فكلا الحديثين منقطع الإسناد، مجهول الراوي، لا
يحتج بمثله عند أهل العلم.
وقد نقل الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري في تفسيره قول ابن إسحاق، ثم
رده أبلغ رد، فقال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى
بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر
الله، حمله على البراق حتى أتاه وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه
من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان
كذلك لم يكن فيه ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته ولا حجة له على رسالته، ولا
كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم
يكن منكَرًا، ولا على أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي
منهم في المنام على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل.
وبعد فإن الله أخبرنا في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح
عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره، ولا دلالة تدل على أن
مراد الله من قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء: 1) أسرى بروح عبده، بل الأدلة
الواضحة والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به
على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه، لم تكن الروح محمولة على
البراق؛ إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام، إلا أن يقول قائل إن معنى قولنا
أسرى بروحه، رأى في المنام أنه أسري بجسده على البراق، فيكذب حينئذ بمعنى
الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن جبريل حمله على
البراق؛ لأن ذلك إذا كان منامًا - على قول قائل هذا القول - ولم تكن الروح عنده
مما تركب الدواب، ولم يحمل على البراق جسم النبي صلى الله عليه وسلم، لم
يكن النبي صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق، لا جسمه ولا شيء
منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل وما
تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن
الأئمة من الصحابة والتابعين.
أيها السادة:
هذا ما قاله الطبري في الرد على ابن اسحاق، وقد رأيتم وهن حجته فيما
روى عن عائشة ومعاوية، وقد جاء عن عائشة ما يخالف رواية ابن اسحاق،
فروى الحاكم في المستدرك من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي عن محمد بن كثير
الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي
صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس
ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى
صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا:
نعم. قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق. فقالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت
المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك،
أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقد رواه البيهقي، والحاكم فيما نقله الحافظ ابن كثير، ورواه أيضًا ابن
الأثير في أسد الغابة، بإسناده من طريق المفضل بن غسان عن محمد بن كثير
الصنعاني، وهذا إسناد صحيح صححه الحاكم ووافقه الحافظ الذهبي، وهو ينقض
رواية ابن إسحاق المجهول إسنادها؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - ترى أن خبر
الإسراء كان من أثره أن كذب من كذب، وارتد من ارتد، وأن أباها الصديق
رضي الله عنه صدق الخبر وأبان عن حجته في التصديق، فلو كانت ترى أن ذلك
كان بالروح أو أنه كان منامًا لما كان هناك معنى عندها للتصديق والتكذيب، ولا
فتنة يفتن بها من ضعف يقينه فيرتد عن دينه؛ إذ كان لا غرابة فما يراه النائم، وإذ
كان العرب يصدقون الكهان فيما يخبرونهم به عما غاب عن أبصارهم، فلم يكن لهم
أن يكذبوا رجلاً يحدثهم عن رحلة روحية تكون أقرب إلى خيالات الأوهام إذا فهموا
من كلامه أنه إنما أسري بروحه ثم عرج بها إلى السماء، وإنما المفهوم الواضح
أنهم يكذبون من يحدثهم بشيء يرونه غير داخل تحت قدرة البشر، وشيء يعجز
الإنسان بجسمه وعقله وبروحه أن يقوم به وحده.
أيها السادة:
قد اجترأ بعض الباحثين من المتقدمين والمتأخرين فجزموا بما تردد فيه ابن
إسحق، وزعموا أن الإسراء كان بالروح، أو كان منامًا، ولم ينتبهوا إلى أنه لو
كان ما زعموا صحيحًا لما جعله الله سبحانه من آيات النبوة لنبيه، ولما أثنى على
نفسه بهذه المعجزة الباهرة، إذ قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ
الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
ومن الغرائب أنهم احتجوا بما نقله من غير إسناد عن عائشة، ثم أخطأوا في
نقلهم خطأ ينقض حجتهم، فإن رواية ابن إسحاق عنها: ما فُقد جسد رسول الله،
بالبناء للمجهول، فنقلوها: ما فقدت جسد رسول الله، فجعلوا حجتهم تحمل معول
هدمها؛ لأن الثابت الصحيح أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول
قبل الهجرة بسنة، ولم تكن عائشة إذ ذاك تزيد سنها على السابعة، ولم تكن في
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يدخل بها إلا في المدينة بعد الهجرة،
فليس من المنطق السليم أن يحكى عن لسانها أنها تقول: ما فقدت جسد رسول الله.
أيها السادة:
نقل بعض المؤلفين عن الحسن بن أبي الحسن البصري القول بأن الإسراء
كان منامًا، وهذا أيضًا نقل خاطئ؛ فإنه لم يرو عنه هذا القول بأي إسناد، والذي
يبدو لي أن الذين نقلوا عنه هذا القول قرؤوا كلام ابن إسحاق وفهموه على غير وجهه؛
لأنه نقل روايتي عائشة ومعاوية ثم احتج لتأييدهما بأنه لم ينكرهما أحد؛ لأن
الحسن قال: إن قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) أنزل في ذلك، أي الإسراء والمعراج، فهو يريد الاحتجاج
بكلمة (الرؤيا) لغلبة استعمالها فيما كان منامًا، وبأنه إذا كانت الآية نزلت في هذه
الحادثة كان ذلك لا ينفي قول من زعم أن الإسراء والمعراج لم يكونا في اليقظة،
ففهم بعض من قرأ قوله أنه ينقل عن الحسن ما يوافق كلمتي عائشة ومعاوية،
وهذا فهم خطأ يظهر خطؤه واضحًا لمن تأمل سياق الكلام ومعناه.
وقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) نزل في شأن الإسراء والمعراج على القول الراجح عند العلماء،
ولكن احتجاج ابن إسحاق بذلك لتأييد كلمتي عائشة ومعاوية غير جيد؛ لأن الرؤيا
تستعمل أيضًا في الرؤية بالعين، ففي لسان العرب: قال ابن بري: وقد جاءت الرؤيا
في اليقظة:
قال الراعي:
فكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر نفساً كان قبل يلومها
وعليه فسر قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) وعليه قول أبي الطيب:
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وقد روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس في تفسير هذه الآية:
هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت
المقدس، وليست برؤيا منام، وفي لفظ: شيء أريه النبي صلى الله عليه وسلم في
اليقظة، رآه بعينه حين ذُهب به إلى بيت المقدس. وليس أصرح من هذا نص ولا
أقوى منه حجة؛ لأن ابن عباس - وهو ترجمان القرآن - يفسر به الآية، ويرى
أن الإسراء كان في اليقظة، وينقل - وهو العربي القرشي الهاشمي الفصيح - أن
كلمة الرؤيا تكون وهي لغة القرآن بمعنى الرؤية.
أيها السادة:
لما طغت على أوروبا موجة الإلحاد، وارتكس أهلها في عبادة المادة، بعد أن
كانوا في ظلمات من الجهالة في دينهم ودنياهم، حتى سموا الحقبة الماضية من
تاريخها - حقبة القرون الوسطى - بالعصور المظلمة، ثم ملكوا زمام الصناعات
بما فتح لهم من زهرة الدنيا وزينتها، وكانت الأمة الإسلامية قد تخاذلت شعوبها
ودب فيها الضعف والانحلال بما تركت من دينها، وما نسيت من مجدها، وكانت
أوروبا لم تنس هزيمتها أمام المسلمين في الحروب الصليبية - انتهزت هذه الفرصة
وزحفت على بلاد الإسلام تفتحها بالسيف والمادة، وتفتح عقول أبنائها بعلوم الدنيا،
وتنزع منها علوم الدين، وتتغلغل في معتقداتهم لتسلَّها من قلوبهم بما ملك رجالها
من السلطان على تربية أبناء المسلمين، وبما وضعوا عليه أيديهم من شئون
الحكومات، وبما احتكروا من طرق التكسب الحر، واستغلوا الضعف الإنساني
بالحاجة إلى طلب العيش فأخرجوا لنا من صنع أيديهم رجالاً مسلمين تأبى نفوسهم
أن تسلم بكثير من عقائد الإسلام وما ورد في الكتاب والسنة، ويستنكرون بعض
التشريعات الإسلامية بخصوصها في الحدود والربا وحجاب النساء والزواج
والطلاق والمواريث والأوقاف، وهم يوقنون بأنهم مسلمون ولا ترضى قلوبهم
وضمائرهم أن ترتطم في لجة الردة من الإٍسلام، فترى فيهم حالة نفسية شاذة،
وحيرة روحية غريبة، لا مخلص لهم منها ولا نجاة، ويمنعهم الكبر العلمي أن
يخضعوا تفكيرهم لما يخالف ما نشأ عليه معلموهم خطوة خطوة، فلا يجدون أمامهم
ليقنعوا أنفسهم ويرضوا ضمائرهم، إلا أن يتأولوا مخالف آرائهم من نصوص
القرآن وظواهره، سواء احتملت التأويل أم لم تحتمل، وكان شأنهم في السنة عجبًا،
فمنهم من يرفضها كلها ويريد أن يقنع الناس - قبل أن يقنع نفسه - بتكذيب كل
الرواة وبوضع كل الأحاديث، ومنهم من يتأول ما أمكنه تأوله ثم يرفض سائرها.
أيها السادة:
كان من آثار هذه التعاليم ومن نتائج هذه الحيرة في كثير من المتعلمين ما
ترون من التهالك على التجديد في الدين - زعموا - ومن محاولة إنكار وجود
الملائكة والجن وتأول النصوص الواردة في ذلك، ومن محاولة إنكار الخوارق
الكونية التي جعلها الله - سبحانه - معجزات أيد بها أنبياءه ورسله إلى الناس،
بتأويلها إلى ما يخرجها عن وجه الإعجاز ويدخلها تحت مقدور الإنسان، ومن إنكار
كل المعجزات الكونية التي أيد الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، والتي
ثبتت عند المسلمين بالتواتر طبقة عن طبقة مما لا يحتمل الشك أو التردد فضلاً عن
تكذيبه كله تحكيمًا للعقل فيما يظنون.
أيها السادة:
إن العالم ليس محصورًا فيما يقع تحت الحس الإنساني فقط، ومن زعم ذلك
فقد حد من قدرة الله، بل إنه لم يؤمن به؛ ولذلك وصف الله المتقين بأنهم {الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} (البقرة: 3) أي يؤمنون بما أخبرهم به الأنبياء مما خرج عن
إدراك البشر بقواهم المحدودة، وقد أخبرنا الله - سبحانه - في كتابه بصريح القول
أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأخبرنا الرسول صلى
الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السموات، وأشار الله - سبحانه - إلى ذلك في
القرآن، اقرءوا قوله - تعالى -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى
* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى
إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى
* مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 1 -
18) .
فليس للمؤمن الذي يؤمن بالغيب مندوحة عن تصديق ما أخبر الله به رسوله،
وإن عجز عقله من إدراك حقيقة ما آمن به وكَّل علمه إلى عالمه، كالشأن في
المتشابه من القرآن، يقول الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) ،
فمن حاول تأويل آيات الله التي أيد بها أنبياءه، فما زاد عن أنه يكذب بها وهو يظن
أنه يستر تكذيبه.
أيها السادة:
إن الذين زعموا أن الإسراء والمعراج كانا بالروح أو منامًا من المتقدمين،
إنما زعموا ذلك استدلالاً بأخبار رأوها في ذلك، وقد بينت لكم أنها أخبار ضعيفة
وأن الاستناد إليها خطأ، وأما الذين يزعمون ذلك من المعاصرين، فإنما يدعون أن
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن له معجزة غير القرآن، وينكرون كل
الأخبار المتواترة في المعجزات، ويظنون أن الإسراء والمعراج ينافيان ما اصطلحا
على تسميته في هذا العصر (بالعلم) لأن العلوم المادية لم تثبت قدرة الإنسان
على نقل الأجسام بمثل هذه الصورة التي حكيت في حديث الإسراء والمعراج، وما
أنا بمتعرض الآن لما يثبته العلم وما ينفيه، ولكني أسألهم: هل يؤمنون بما حكى
الله في القرآن من قصة سليمان مع ملكة سبأ؟ فقد أخبرنا الله - سبحانه - بما دار
بين سليمان وبينها من المراسلة، ثم قال - تعالى -: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ
يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي
أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:
38 - 40) .
فهذه حادثة لا تحتمل تأويلاً، استطاع فيها رجل من أصحاب سليمان - عليه
السلام - بما علمه الله من الكتاب، أن ينقل عرش الملكة من اليمن إلى الشام في
مثل لمح البصر، ويؤمن بصحتها كل مسلم يصدق القرآن، وهي من نوع الإسراء
والمعراج في نقل الأجسام، فماذا تسمون من يؤمن ببعض الآيات وينكر بعضها.
أيها السادة:
قد فشت بدعة منكرة في هذا العصر، وهي بدعة تأويل نصوص القرآن
لتطابق ما يسمونه (العلم الصحيح أو العلوم الكونية) تقربًا إلى متعلمي هذه العلوم،
أو تملقًا إلى أساتذتهم المستشرقين، وهم طلائع المبشرين، وسواء عليهم أكانت
هذه النظريات العلمية ثابتة بثبوت اليقين، أم كانت من الظنون التي يفترضها العلم
افتراضًا ويرجحها لأنه لا يوجد فرض آخر أرجح منها، وإنما الذي يهم هؤلاء
المتأولين أن يسميهم الناس مجددين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها السادة:
لقد أطلت الكلام فيما عمدت إليه، وأحس أني قد أمللتكم، ومجال القول ذو
سعة، وحسبي أن قد تفضلتم بالإصغاء إليَّ، وأستغفر الله لي ولكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو الأشبال
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي
__________(35/714)
شعبان - 1359هـ
سبتمبر - 1940م(35/)
الكاتب: حسن البنا
__________
أسرار البلاغة في علم البيان
أصدرت (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفة الإمام (عبد
القاهر الجرجاني) مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد صقيل. والكتاب ومؤلفه غنيان
عن التعريف. وقد وضع في وقت تحكمت دولة الألفاظ، واستبدت على المعاني،
وهو خير ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوبًا، وإيضاحًا للمسائل، وبسطًا للدلائل؛
وقد امتاز بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس، وتأثير الكلام البليغ في العقل
والقلب؛ وقد عني بتصحيحه عالما المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد
عبده) والشيخ (محمد محمود الشنقيطي) ، وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد
رشيد رضا) .
وثمن النسخة 25 قرشًا.
__________(35/646)
الكاتب: حسن البنا
__________
(7) حكم الصلاة في النعلين
(هل يصح تأدية الصلاة في الأحذية ومعاملتها معاملة الخفين، وإن صح
ذلك فما هي شروطه؟ وهل جميع المذاهب تجيزه؟ أفيدونا مشكورين، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته) .
... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل محمد سالم
... ... ... ... ... ... ... ... ... شبين القناطر
في هذا السؤال أمران: حكم الصلاة في النعلين، وحكم اعتبارهما خفين
يجوز المسح عليهما.
فأما عن الأمر الأول فالصلاة في النعلين الطاهرين جائزة بإجماع المذاهب
لورود الأحاديث الصحيحة بذلك: (فعن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنسًا
أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم) (متفق عليه) وقد
ورد ذلك في كثير من الأحاديث الصحيحة، وهل الصلاة في النعلين من العزائم
والمستحبات، أم هي من الرخص والتيسيرات، أم هي من المباحات فقط؟
أقوال واردة لاختلاف الأدلة.
وممن ذهب إلى الاستحباب: الهادوية، وروي عن عمر - رضي الله عنه
- بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال، ويشتد على الناس في ذلك، وكذا عن
ابن مسعود، وقال ابن بطال: الصلاة في النعال والخفاف من الرخص - كما قال
ابن دقيق العيد -: لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من
الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها
النجاسات، قد تقصر عن هذه الرتبة، وقال القاضي عياض: الصلاة في النعلين
رخصة مباحة؛ فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - وذلك
ما لم تعلم نجاسة النعل، وممن كان لا يصلي في النعلين عبد الله بن عمر وأبو
موسى الأشعري.
وكل هذا إذا كانتا طاهرتين أو لم تعلم النجاسة عليهما، أما إذا كانتا نجستين
فالإجماع على خلعهما ما لم تطهرا؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري
- رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى فخلع نعليه، فخلع
الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، رأيناك
خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم
المسجد فليقلب نعليه، فلينظر فيهما، فإن رأى بهما خبثًا فليمسحه بالأرض، ثم
ليصل فيهما.
وهل تطهران بالدلك بالأرض، أم لا بد من التطهير بالماء؟ في ذلك تفصيل
قال القاضي عياض من المالكية: إن علمت النجاسة، وكانت متفقًا عليها لم
يطهرها إلا الماء، وإن كانت مختلفًا فيها كأرواث الدواب وأبوالها ففي تطهيرها
بالدلك بالتراب قولان: الإجزاء، وعدمه؛ وأطلق الأوزاعي والنووي إجزاء الدلك
لحديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إذا وطئ أحدكم
الأذى بخفيه فطهورهما التراب) ويرى أبو حنيفة إجزاء الدلك إلا في البول
ورطب الروث، ولا يرى الشافعي الإجزاء إلا بالغسل بالماء، وعند الحنابلة هذه
الأقوال جميعًا.
ومن متممات هذا البحث أن يلفت النظر إلى هذه الأمور:
(1) إذا تعذر خلع النعلين لمانع قهري - كما يكون ذلك للضباط والجنود
ومَن في حكمهم - فعلى المفتي أن ييسر الأمر عليهم، ويجيز لهم الصلاة في
النعلين، ويحملهم على أيسر الأمور، وحسبهم الدلك بالأرض.
(2) يلاحظ في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالنعال أن
المسجد لم يكن فيه فراش حينذاك، وأن النجاسات المغلظة لم تكن قد أحاطت بحياة
الناس هذه الإحاطة، وأن كثرة المشي في الرمال كفيلة بالتطهير، وأن الأمر لا
يعدو أن يكون رخصة جائزة، فالتشبث بهذا المظهر - بحجة أنه إظهار سنة مهملة -
فيه نظر، والأولى إيثار الخلع، وخصوصًا وقد تغيرت كل هذه الاعتبارات
جميعًا، والله أعلم.
__________(35/654)
الكاتب: حسن البنا
__________
موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم
عرضنا لهذا الموضوع في الجزء الخامس من هذا المجلد بعد ثبوت هذه
الحرب الطاحنة بشهور قلائل، وقد جرت الحوادث مسرعة، وتطورت الأمور
تطورًا عظيمًا، فقد فاجأت ألمانيا الدول المتحالفة باحتلال الدانيمرك، ثم بغزو
النرويج وهولندا ولوكمسبرج وبلجيكا، والاستيلاء عليها بعد مقاومات لم تستغرق
طويلاً من الوقت، ثم وجهت بعد ذلك قوتها إلى فرنسا، فهزمتها في أسابيع قليلة،
واحتلت باريس مع قسم عظيم من الأراضي الفرنسية، واستقرت الحكومة الفرنسية
في فيشى بعد سقوط باريس، وعقدت هدنة بين فرنسا وألمانيا، تخلت بها فرنسا
عن حليفتها إنجلترا تخليًّا تامًّا.
ومن عجائب القدر أن توقع شروط هذه الهدنة في نفس غابة دكا بيبان التي
وقعت فيها شروط الهدنة السابقة بين الألمان المنهزمين والحلفاء المنتصرين، وأن
يكون ذلك في عربة القطار ذاتها التي وقِّعت فيها شروط الهدنة السابقة، ولقد بين
الماريشال بيتان رئيس الحكومة الفرنسية والقائد العام لجيوش فرنسا حينذاك عن
أسباب انهيار فرنسا بكلمات قلائل، ولكنها عظيمة المرمى حقًّا، فقال: (لقد دمرت
روح اللهو والملذّات ما شيدته روح التضحية) ثم خاطب الفرنسيين فقال: (أدعوكم
إلى أن تهتموا بأخلاقكم قبل كل شيء) وكذلك يريهم الله آياته في الآفاق وفي أنفسهم
حتى يتبين لهم أنه الحق، وكذلك يصدق قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي
كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام
: 123) .
وبهذا التحول في شئون السياسة العالمية سقطت ثلاث دول من دول الاستعمار
الكبرى وهي: فرنسا وبلجيكا وهولندا، إن فرنسا تبسط سلطانها على الهند الصينية
وعلى سورية وعلى المغرب بأقسامه: تونس والجزائر ومراكش، وعلى المستعمرات
الإفريقية الأخرى، ومعظم سكانها من المسلمين، وبانهزامها يكون لهذه الأمم الحق في
تقرير مصيرها، ويكون من واجبها أن تعمل لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي كله
أن يساعدها على التحرير وعلى أن تنال حقوقها التي طال عليها الأمد، وأن هولندا
تحكم أكثر من سبعين مليون من المسلمين في أندونسيا وما يجاورها، ومن حق هؤلاء
- وقد أصبحت هولندا نفسها محتلة - أن يتحرروا وأن ينالوا حقوقهم، ومن واجبهم
أن يعملوا لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي أن يعينهم على العمل، ولقد أخذت
اليابان تتطلع إلى هذه الأجزاء من الممالك الإسلامية في آسيا، وأخذت ألمانيا وإيطاليا
تمهدان للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من ذلك في سورية، وفي المغرب
الأقصى، وتطلعت أسبانيا من جانبها إلى اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من جسم المغرب
الذي اغتصبته فرنسا لتحل محلها فيه.
هذه أماني باطلة، وهذا ظلم لا بد أن تكون له عاقبه، فعلى هذه الدول أن تفكر
في أساس جديد حقًّا يصلح لإقامة سلام إنساني، ولن يكون هذا إلا بالعدل والإنصاف،
ومنح الشعوب حريتها واستقلالها ومعاملتها بروح التعاون على خير الإنسانية كلها،
ومن واجبنا نحن المسلمين أن نعمل لذلك ما استطعنا.
ثم دخلت إيطاليا ميدان القتال وقد قاربت فرنسا الهزيمة وإيطاليا تجاور مصر
قلب العالم الإسلامي في إفريقية، وبذلك وقع الالتحام بين القوات الإيطالية
والإنجليزية على الحدود المصرية، وتوغل الإيطاليون فعلاً في أرض مصر حتى
وصلوا إلى سيدي براني، وعسكرت قواتهم هناك، وأخذوا يهددون البلدان والمدن
المصرية بالغارات الجوية في كثير من الأحيان.
وبدا لإيطاليا أن تنذر اليونان باحتلال أرضها، فقاومت اليونان ووقعت
الحرب، فعم وحمي وطيسها، ونحن نكتب هذه الكلمات والمعارك على أشدها بين
القوات اليونانية والإيطالية في ميدان كوريتزا بألبانيا وأبيدوس وغيرها، ولا تزال
القوات اليونانية صامدة للغزاة صمودًا باسلاً أخلف ظن إيطاليا التي ما كانت تقدر أنها
ستلقى هذه المقاومة على ما يظهر، ولقد شدت إنجلترا ظهر اليونان، وأمدتها
ببعض المساعدات من الطائرات والرجال، وانتهزت الفرصة السانحة فأخذت تغير
على الأسطول الإيطالي والسواحل الإيطالية وتلحق بها أضرارًا جمة.
ولقد بدا لألمانيا من قبلُ أن تُحدِث انقلابًا في رومانيا، فتم لها ما أرادت،
وخلع الملك كارول، وتنازل لابنه الملك ميشيل عن العرش، وطبقت النظم النازية
في شئون الحكومة تحت رياسة الجنرال أنتونسكو رئيس حزب الحرس الحديدي
النازي المبادئ، وتولت أمر الجيش الروماني بعثة عسكرية ألمانية، وبذلك انتقل
مسرح الحوادث إلى البلقان.
وفي هذه الأثناء وقعت اليابان مع ألمانيا وإيطاليا تحالفًا عسكريًّا كان الرد عليه
من جانب إنجلترا فتح طريق بورما، الذي تستمد منه الصين حاجتها من الذخائر
والأسلحة، ووقعت الانتخابات الأمريكية لرياسة جمهورية الولايات المتحدة، ففاز
بها الرئيس روزفلت للمرة الثالثة، وكان لذلك مغزاه في تقرير المساعدات لإنجلترا.
هذه هي الصورة الموجزة المجملة للحوادث التي مرت بالناس خلال هذه
الفترة، وهي حوادث غيرت وستغير أوضاع الأمم وأنواع الحكومات والدول،
وعجيب أو طبيعي أن يكون العالم الإسلامي كله إلى الجمود أقرب منه إلى الحركة
والعمل.
فأما أن ذلك عجيب فلأن كل شيء في الحياة الآن يتغير ويتجدد ويتبدل
ويترقب، وأما أنه طبيعي فلأن المسلمين حرموا التفكير، أو بعبارة أدق حرية
العمل لأنفسهم زمنًا طويلاً، ولا زالت القيود الثقيلة التي وضعها الغرب في أيديهم
وأعناقهم شديدة الوطأة ضيقة الحلقات، ولكن واجبهم المُلِحّ الآن أن يعملوا على
تحطيم هذه القيود، وأن يجدُّوا فيما فيه خيرهم وسعادتهم.
إن مصر والعراق واليمن والحجاز وإيران والأفغان وتركيا وفلسطين
وسورية والهند والمغرب وغيرها كلها في موقف المترقب المنتظر، ولا يدري
كثير منها عن موقف الآخر شيئًا، ولقد قالوا إن هناك سعيًا جديًّا لإنشاء وحدة
عربية بين العراق والحجاز واليمن ومصر وسورية وفلسطين تعمل على استنقاذ
هذه البلاد جميعًا، وتوحيد خطتها أمام الخطر الداهم الذي يهدد الجميع، ولكنا لم نر
بعد بوادر سعي جدي لهذه الغاية، وقيل إن هناك تفكيرًا في تكوين وحدة عربية
تركية تشمل هذه الدول، ومنها تركيا وإيران والأفغان، ويضم إليها بقية البلدان
الإسلامية، فتعود بذلك الجامعة الإسلامية من جديد، ولم نر كذلك بوادر سعي جدي
كذلك.
لعل من خير العالم الإسلامي الآن أن يقف وقفته هذه حتى يتبين له وجه العمل
المنتج المثمر النافع، ولا غضاضة في الانتظار ما لم نستبن الطريق؛ ولكن من
واجبه مع هذا أن يستعد كل شعب من شعوبه بأسرع وأقوى ما يمكن لمواجهة
الأحداث الطارئة، وليست منه ببعيد، ومن واجبه كذلك أن يتواصل ويتحد، فقد
انتهى عهد الدويلات الصغيرة، ولم يبق صالحًا للبقاء إلا الإمبراطوريات
العظيمة بعددها وعددها ومبادئها، وحق قول الشاعر العربي القديم: (وإنما العز
للكاثر) ومن واجبه كذلك أن يقدر نعمة الله عليه بنظام الإسلام الحنيف ومناهجه
في إصلاح المجتمع، ومن واجب العالم الإسلامي الآن أن تقدر كل أمة من أممه
هذه الحقائق فتهب لتأسيس نهضة جديدة، يكون شعارها النظام الإسلامي الاجتماعي
في الداخل والتحرر من كل سلطان أجنبي في الخارج، والتعاون التام بين الأمم
الإسلامية في جميع أنحاء الأرض، فإلى أمراء المسلمين وملوكهم وزعمائهم وإلى
الشعوب الإسلامية يوجه القول، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
__________(35/747)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار منذ عشرين سنة
آخر رمضان سنة 1339
الحقائق الجلية في المسألة العربية
من مقال: للعبرة والتاريخ
للسيد محمد رشيد رضا
رحمه الله
نصيحتنا للإنكليز والفرنسيس ومذكرتنا للويد جورج:
نصحنا للإنكليز قولاً وكتابة فيما نعتقد أن فيه الخير لنا ولهم وللإنسانية،
وكان آخر تلك النصائح مذكرة أرسلناها إلى مستر لويد جورج رئيس الوزارة
البريطانية منذ سنتين كاملتين، بينَّا له فيها أن ما كنا نصحنا به لرجالهم بمصر قد
ظهر صدقه، وأن ما جروا عليه مع حكومتهم في المسألة العربية مخالفًا له كان هو
الخطأ بما وقع في العراق وسورية ومصر والهند، وأن إنجلترا ستكون هي
المغبونة بقسمة تراث العالم الإسلامي بين الحلفاء بعداوة الشرق وحسد الغرب لها،
وأن عداوة أكثر من ثلاثمائة مليون من المسلمين احتقارًا لهم بضعفهم ليس من العقل
والحكمة؛ لأنهم لا يكونون أضعف من ميكروبات الأمراض والأوبئة، وأنهم
سيكوِّنون به اتحادًا إسلاميًّا يساعدهم فيه الروس والألمان يكون خصمًا لهم في زمن
هم مستهدفون فيه لعداوة أكثر شعوب أوربا، وأن الخير لأمتهم في تأسيس الصداقة
بينها وبين العالم الإسلامي باستقلال الشعوب العربية (وفي مقدمتها الشعب
المصري) والتركية والفارسية جميعًا.
ونصحنا لرجال فرنسا في بيروت بمثل ذلك بعد أن ذكرنا لهم ملخصه، ولم
نطلب منهم إلا استقلال سوريا، وربح صداقة الأمة العربية كلها بذلك، واتقاء ما
يقع عليهم من الغبن بعداوتها، ومنه أن سوريا لا تسلم لهم في المستقبل، وقد قال
لنا موسيو ربيردوكيه سكرتير الجنرال غورو إن هذا الرأي جيد، وهو من
الممكنات دون الخيالات، ولكنه يحتاج إلى تمحيص وتفصيل بين عقلاء الفريقين
بكثرة البحث، ولا سيما في طريقة تنفيذه في الحال الحاضرة.
الشريف فيصل في عهده الأخير بسورية [1] :
ونصحنا للشريف الأكبر كما تقدم - ثم لنجله الأمير فيصل - فأما الأول فله
خلق مطبوع معروف، فسهل على مخاطبه أن يعلم ما يقبله ويجازي عليه، وما لا
يمكن أن يقبله، وأما الثاني فقلما يُعرف له رأي مستقر أو يثق مختبره بأنه أقنعه
بشيء، وإن كان غير المختبر له يظن أنه أقنعه بكل شيء؛ للين عريكته، ولطف
معاشرته، وكثرة مواتاته، وقلة معارضته، وكراهته مواجهة أحد بما يكره إلا إذا
غلبه الغضب، وهو سريع الفيئة بعد الغضب، وقد عاشرته زهاء نصف سنة كنت
ألفاه في أكثر أيامها، ولم أقف له على عقيدة راسخة في السياسة إلا استحالة إخراج
فرنسا وإنجلترا من البلاد العربية الآن، ووجوب العمل مع إحداهما وخدمة البلاد
بمساعدتها في ظل وصايتها، والاستعانة بموادتها على تخفيف وطأتها، على أنه لا
يصرح بهذا تصريحًا جليًّا، وهذه نظرية كل من واتوا الأجانب هذا الطور، الذي
نحن فيه كحقي بك العظم وداود بك عمون، فلا أرى فرقًا بينهما وبين الأمير
فيصل والأمير عبد الله، وإن كان أتباع الأميرين يعدون هذين من الخائنين لأمتهم
ووطنهم والأميرين من المحررين لها، ولعلنا نكتب مقالاً في ترجمة الشريف فيصل
وسيرته في سوريا يجعل حقيقته ماثلة لكل قارئ.
جاء الأمير فيصل سوريا من فرنسا (في 23 ربيع الآخر سنة 1338) ،
14 يناير (سنة 1920) وهو يعتقد أنه باتفاقه مع كليمنصو على قبول
الوصاية الفرنسية مع تخفيف شروطها قد خدم سوريا أجل خدمة؛ ولكنه لم يستطع
أن يقنع حزبه الخاص بذلك، وهو الذي عمل له كل شيء، وحاول أن يؤلف حزبًا
من المحافظين يستعين به على ذلك، وكان ذلك حزب عبد الرحمن بك اليوسف
الفرنسي النزعة، الذي سمي بالحزب الوطني؛ ولكنه لم يستطع مساعدته
والاستعانة به بعد أن تعرف إليه وتنكر لحزبه، وظل سلطان الحزب الأول عليه
أقوى من سلطانه على الحزب على ما أوقع فيه من الشقاق، فالحزب هو الذي منعه
من العودة إلى أوربا، وحمله على قبول إعلان استقلال سوريا، وجعله ملكًا عليها،
وأرضاه بجعل ملكها إرثًا في ذريته، وبجعل الراية الحجازية راية لسوريا، مع
زيادة نجم أبيض في الزاوية الحمراء التي هي رمز علم شرفاء مكة فيها، وجعل
القواعد التي بنى عليها المؤتمر السوري إعلان الاستقلال قائمة على أساس
الاعتراف بأنه قد حارب الترك من قبل والده مع جيوش الحلفاء لأجل تحرير البلاد
العربية وتحقيق استقلالها الذي كان ينشده أحرارها، وأرادوا أن يكون هذا حجة
على الحلفاء؛ ولذلك عززوه بتصريحات وزراء الحلفاء التي كانوا يفوهون بها في
أيام الحرب كما تقدم بيانه من قبل، وقد كان الواضعون لقرار المؤتمر من أعضاء
حزب الاستقلال السوري قد عرفوا الحقائق في هذه الشئون؛ إذ زالت تلك الظلل
والغواشي التي كانت تحجبها عن أبصارهم، ثم عرفوا كل أحد بعد رفض الحلفاء
التصديق على الاستقلال وما كان من أعمالهم العسكرية والإدارية في سوريا
الجنوبية والشمالية، يدل على ذلك ما كان يلقى في المؤتمر السوري العام بدمشق من
الخطب في إنكار تلك الأعمال والطعن فيها، وما كان بين المؤتمر وبين الملك
فيصل ووزارتيه مما علم به بعد.
ولقد علم الذين قاموا بدعوة إعلان الاستقلال وتهيئة أسبابها ومقدماتها بعد
ممارسة الحوادث أن فيصلاً قائد الحلفاء موكول إليه حفظ الأمن في المنطقة الشرقية
إلى أن يفرغوا من إبرام ما يريدون من أمر مستقبل البلاد، وأنه قوة رسمية ومالية،
فإن الإنكليز كانوا يدفعون له راتبًا، وكانوا يعطونه حصة المنطقة الشرقية من
جمرك حيفا، وصار الفرنسيس يعطونه مثل ذلك من جمرك بيروت بعد الموادة،
وقطعوه عند المحادة، وأنه يائس من الاستقلال التام الناجز وإن كان أولى من غيره
بحبه، وأنه لين سلس، كان في أول العهد يسير في البلاد كما يشاء البريطانيون،
ثم جاءها أخيرًا من فرنسا يدعو إلى الاتفاق مع الفرنسيس، فأرادوا أن يستفيدوا بما
أوتي من قوة وضعف بما أرادوا من اغتنام فرصة الحرية التي نالتها المنطقة
الشرقية باسمه وتحت قيادته بإعلان الاستقلال التام لسوريا المتحدة بجميع مناطقها؛
ليجعلوا الحلفاء تجاه أمر واقع بصفة مسالمة لهم، معترفة بفضلهم وملكية قائد من
قواد حلفهم، فإن ساعد القدر على قبولهم ذلك فهو المراد وإلا فإن حال البلاد معهم
بعده لا يخشى أن يكون شرًّا مما كان قبله، وذلك أنهم حينئذ ينفذون الاستعمار الذي
سموه انتدابًا بالقوة العسكرية، فيكون وجودهم فيها مخالفًا للحقوق الطبيعية
والأساسية ولمعاهدة الصلح الكبرى وما فيها من عهد عصبة الأمم المصرح فيه بأن
البلاد المشروط في استقلالها قبول الانتداب يجب أن يكون لأهلها الحق الأول في
اختيار الدول المنتدبة وشكل الحكومة التي ترضاه، وبهذا يكونون غاصبين،
ويكون للبلاد الحق الذي لا يرد في معارضتهم عند كل فرصة ممكنة، وأما إذا قبل
الانتداب باختياره فإنه يكون قد قتل نفسه بيده.
مجمل ما كان بعد إعلان الاستقلال:
أعلن الاستقلال بصفة نادرة المثال، وبلغ أمر إعلانه للدول فجعله الخلفاء
محلًّا للنظر وكان جواب إنجلترا لفيصل أنها تعترف له بصفته حاكمًا على رأس
حكومة مستقلة؛ لكن يجب أن تقرر الصفة الرسمية في مؤتمر رسمي، ودعته إلى
حضور مؤتمر (سان ريمو) فتردد أولاً؛ لأن الرأي العام لم يرتح إلى سفره،
وفي مقدمته المؤتمر السوري الذي كان يلح عليه بوجوب الاستعداد للدفاع عن البلاد
وتؤيده جميع الأحزاب، ثم اقتنع الأكثرون باستحسان السفر بعد إلحاح إنجلترا به
وقد طلب من الجنرال غورو في 8 يوليو (تموز) تعيين سفينة تقله إلى أوربا،
فأجابه بأنه يجب عليه قبل سفره أن يجيبه إلى مطالب طلبها منه، من أهمها:
إباحة استعمال الخط الحديدي من رياق إلى حلب لنقل الجنود الفرنسية والذخائر
الحربية، وأنذره أنه إذا سافر قبل تنفيذ هذه المطالب من طريق آخر فإن فرنسا
تكون حرة في أعمالها، ولم يقبل تفويض النظر فيها إلى لجنة مختلطة من العرب
والفرنسيس والإنجليز حسب الاتفاق مع الرئيس (كليمانصو) .
إنذار الجنرال غورو للملك فيصل:
ثم أرسل إليه الجنرال غورو في 14 يوليو إنذاره المعروف، الذي صرح
فيه بمطالبه الخمسة، وهي: الاعتراف بالوصاية الفرنسية على سوريا بلا شرط
ولا قيد، وتسليم الخط الحديدي المذكور آنفًا للسلطة العسكرية الفرنسية، وإلغاء
الخدمة العسكرية الإجبارية وجعل عدد الجيش المتطوع كما كان في العام الماضي،
وتسريح سائر الجنود ومعاقبة المجرمين المؤسسين للعصابات والمحرضين على
فرنسا، وقبول ورق البنك السوري الذي أسسته فرنسا بجعله نقدًا وطنيًّا رسميًّا،
وجعل آخر موعد لإجابة هذه المطالب نصف الليل الذي ينتهي به اليوم 18 من
الشهر.
لم يكن في وسع الملك فيصل المبادرة إلى إجابة المطالب؛ لأن المؤتمر
السوري العام والأحزاب السياسية كلها كانت غير راضية منه ولا من حكومته لعدم
قيامها معه بما يجب من الاستعداد لحفظ الاستقلال والدفاع عنه؛ ولذا اضطروه إلى
إسقاط وزارة علي باشا الركابي، ثم رأوا أن وزارة هاشم بك الأناسي التي خلفتها
لم تكن أقوى منها فحاولوا إسقاطها، ولما شعروا بهذا الإنذار الذي أعقبه الضعف
والإهمال وسوء الإدارة اشتد هياجهم وسخطهم، وسرى الهياج إلى سائر طبقات
الأهالي الذين اندفعوا إلى الاستعداد للدفاع عن البلد، وصاروا يطعنون في الملك
فيصل جهرًا، ويتحدثون بالإيقاع به حتى أنه وضع من كان لديه من الجند
الحجازي حول داره لحمايتها، وسعى إلى الجنرال غورو ملتمسًا منه تعديل مطالبه
فأبى.
وفي غرة ذي القعدة - 17 يوليو كتب إلي رئيس الوزارة بأن الملك يرغب
أن ألقاه مع جميع أعضاء المؤتمر في داره مساء، فأجبنا الطلب وقابلناه مع وزرائه،
فشرح لنا الحرج الذي وصلت إليه حال البلاد، وتهيج العوام بغير عقل، وخذلان
إنجلترا له حتى لا يرجو منها أقل مساعدة، كما أبرق إليه محمد بك رستم من لندن،
وأن للحكومة حججًا على الجنرال غورو لا تستطيع الإدلاء بها في أوربا، وله
عليها حجج بعضها حق وبعضها باطل ينشرها حيث شاء. ثم طلب من الأعضاء
أن يكتب إليه كل منهم برأيه على حدة في كتب مختومة، وعاهدهم على أنه يعمل
بها ولا يُطلع أحدًا عليها، فانصرفوا وهو يحسب أن سيكتبون، ولكنهم لم يكتبوا
إليه، وعدوا اقتراحه خداعًا يريد أن يحتج به على قبوله للمطالب الفرنسية،
ويجعل التبعة على المؤتمر.
ثم إن المؤتمر عقد في (3 من ذي القعدة 19 يوليو - تموز) اجتماعًا سريًّا
غير رسمي، تبارى فيه الخطباء في الطعن في الحكومة؛ لاعتقادهم أنها قررت
التسليم بمطالب الجنرال غورو، ثم عقدوا جلسة رسمية اكتظ مكان المستمعين
بحاضريها من الوجهاء ورؤساء الأحزاب وأعضائها، وقرروا فيها بالإجمال أن
قرار المؤتمر التاريخي المتضمن لاستقلال سوريا ووحدتها ورفض الهجرة
الصهيونية وملكية فيصل قرار واحد إذا نقض بعضه نقض كله، وأن كل حكومة
تقبل الوصاية لا تكون حكومة شرعية، وأنه لا يعتد بمعاهدة لا يقبلها المؤتمر وقد
طبع هذا القرار ونشر في العاصمة.
وفي اليوم التالي (4 من ذي القعدة 20 يوليو) أصدر أمره بتأجيل عقد
المؤتمر شهرين؛ لأن المجالس النيابية تقفل في مثل هذه الحال الحربية، وقد قرأ
وزير الحربية الأمر على منبر المؤتمر، وكان معه رئيس الوزارة، وانصرفا
واجمين ممتقعين. وكان بعض الأعضاء يريد عدم امتثال هذا الأمر فأقنعتهم بأن
هذا خير للمؤتمر، وأني سررت به، ولولاه لاقترحت على الأعضاء أن يقرروا
ذلك من تلقاء أنفسهم؛ ذلك بأن دمشق كانت في أشد الهياج والسخط على ملكها
ووزارته؛ سواء في ذلك الأحزاب والجماعات والأفراد، وكلهم يرجون من المؤتمر
ما لا قبل له به، وما ثم إلا إلزام الملك والوزارة برد إنذار الجنرال غورو والدفاع
عن البلد إن هوجمت بغيًا وعدوانًاK، أو إسقاطهم وإقامة حاكم عسكري مفوض
(دكتاتور) يدافع عن البلاد بكل الوسائل الممكنة، ولا يوجد في البلد من هو أهل
لنوط ذلك به، والثورة الداخلية غير مأمونة، وكل ما يترتب على ذلك من الغوائل
يكون حينئذ في عنق المؤتمر الذى لم يأت إثمًا، ولا ادخر في الخدمة وسعًا، وقد
أصبحت الأمة كلها راضية عنه بعد أن كادت الدسائس تغيرها عليه، وإنني علمت
أن التجنيد الإجباري الذي قررته الحكومة بضغط المؤتمر وإلحاحه قد كان عملاً
سوريًّا، وأنها لم تقصد به إلا إيهام الأمة ما يرضيها وإيهام فرنسا ما يحملها على
التساهل فيما تطلبه ويطلب منها!
انفض المؤتمر، وكانت المراسلة بين الملك فيصل والجنرال غورو على
قبول مواد إنذاره متصلة، فلما أصر على قبولها كلها أمر الملك قبل كل شيء
بتسريح الجيش السوري من ثكناته ومواقعه الحربية، وأهمها مضيق مجدل عنجر
الحصين في طريق جيش الجنرال غورو الزاحف على الشام، فسرح الجيش بغير
نظام، فترتب على ذلك نهب الأسلحة والذخائر وإحداث ثورة في شوارع دمشق،
وهاج الشعب هياجًا شديدًا، وكثر التصريح في الشوارع بالهتاف للمؤتمر، وبسب
الملك فيصل وأبيه، والتحدث بخيانته ووجوب قتله، وقد اضطرت الحكومة بمن
بقي عندها من الجند لحفظ الأمن أن تقاوم الثورة بالسلاح، حتى إنها استعملت
المدافع الرشاشة في ذلك، وقتل كثيرون، قيل 50، وقيل 70، وجرح كثيرون،
قيل 150.
قبلت الحكومة برياسة الملك فيصل جميع مطالب الجنرال غورو، ومنها
قبول الوصاية بلا شرط ولا قيد، فأصبحت بذلك ساقطة مع ملكها غير شرعية
بقرار المؤتمر المذكور آنفًا، ثم إنها علمت في اليوم التالي لتسريحها الجيش (وهو
21 يوليو) أن جنود الجنرال غورو زاحفة على دمشق، وعلمت بعد المراجعة بين
الملك وبينه أن حجته على الزحف أن جواب القبول تأخر عن موعده، وهو الساعة
الثانية عشرة من نصف الليل، وكان قد أصدر أمره للجيش بالزحف، ولا يمكنه
إيقافه بعد، وقد احتل المواقع الحصينة كمجدل عنجر، وهي تقول إنما كان الذي
تأخر وصوله إليه هو ما طلبه من التفصيل لأمر التسليم بعد أن وصل إليه البلاغ
الرسمي بقبول الشروط في عاليه، وأن سبب تأخر برقية التفصيل إقطاع السلك
البرقي باستعمال الجيش الفرنسي له.
عظم الخطب على فيصل ووزرائه لما رأوا أنهم سلموا بقبول الوصاية مع
تلك الشروط المخزية؛ ليدفعوا الاحتلال عن دمشق، ويبقوا فيها متمتعين في ظل
الوصاية وخدمتها بما كانوا عليه بعد أن قالوا في عدم إمكان قبولها ما قالوا من
المبالغات ونبز فيصل من يقبلها بأقبح الألقاب، وعلموا أنهم خسروا كل شيء،
وظهر لهم أن العقل والكياسة في التسليم أن يكون آخر ما ينفذ من الشروط تسريح
الجند، فصدر الأمر لباقي الجيش بالتوقف عن الانسحاب، فوقف غربي (خان
ميسلون) ووقف الجيش الفرنسي الزاحف وراءه على بعد مرمى القنابل منه،
وجعلت هذه فرصة لاستئناف المفاوضة في إيقاف الزحف على دمشق، وتولى ذلك
ساطع بك الحصري (وزير المعارف) فسافر إلى الجنرال غورو، فلم يلق
نجاحًا.
وفي يوم الخميس (6 من ذي القعدة - 20 يوليو) زار فيصل وزارة
الحربية، وكلم جموع المتطوعة، وحثهم على الجهاد، وكلم جميع الزعماء
ورؤساء الأحزاب، وبلغهم أنه أعلن الحرب رسميًّا، ونشر ذلك في الجرائد،
وصلى الجمعة في يومها في الجامع الأموي، وصعد المنبر بعد الصلاة، وحث
الناس على الجهاد معه لحماية الدين والوطن، فقال كثير من الناس: إنه يريد بهذا
استعادة مكانته، وكان الناس في هياج عظيم وإقبال على التطوع، وبذل كل ما
يلزم للمدافعين من طعام وذخيرة، ولكن الوقت لم يعد يتسع لعمل مفيد.
ثم ذهب فيصل مساء الجمعة (إلى الهامة) وجعلها مركز قيادته، وبلغنا
أنه أرسل أمتعته الخاصة وذخائره إلى (درعا) وأن الحكومة أرسلت أوراقها
ودفاترها إليها أيضًا، ثم إنه ذهب في مساء السبت إلى محطة الكسوة بمن معه من
وزرائه وخواصه، ومنهم بعض الشبان، وأرسل إليه طعام العشاء من دار عبد
الرحمن بك اليوسف، وذلك بعد انتهاء معركة خان ميسلون التي قتل فيها وزير
حربيته يوسف بك العظمة، وفرقت الطيارات شمل من كان معه من العسكر
النظامي ويقال إنهم كانوا زهاء خمسمائة جندي، وعاد في المساء جميل بك الانشي
حاجبه الأول، وكان ذهب مع موسيو كوس، الذي كان ضابط الارتباط الفرنسي
في دمشق، وصار بعد الاحتلال رئيس البعثة الفرنسية للانتداب مدة من الزمن إلى
الجنرال غورو للاتفاق معه باسم الملك على صفة دخول دمشق، وقد عاد معه في
سيارته مبتهجًا مسرورًا.
وفي صباح يوم الأحد (9 من ذي القعدة - 25 يوليو) رأيت نوري باشا
السعيد فأخبرني أن الجيش الفرنسي يدخل الشام بين الساعة 9 والدقيقة 10،
ويعسكر في (المزة) من ضواحي البلد، وأن الملك يدخلها الساعة 10 ونصف،
ولكنه لم يدخلها إلى منتصف ليلة الاثنين، وألف وزارة جديدة من الموالين أو
الميالين إلى فرنسا، رئيسها علاء الدين بك الدوربي، وقد كانت عودته إلى دمشق
من الغرائب. ورأيت نوري باشا في صباح الاثنين أيضًا فأخبرني بأن القائد
الفرنسي قبل الوزارة الجديدة، وأنهم لا يعترفون بالملك، فقلت له: وكيف عدتم به
إلى العاصمة؟ قال: لم يكن هذا برأيي، وإنما هو رأي جماعته الذين ورطوه،
وفي مقدمتهم الدكتور فلان - وفي يوم الثلاثاء بلغته السلطة المحتلة وجوب
الخروج من الشام قبل نصف الليل. بلغني ذلك بعد العشاء، فذهبت إلى داره
لوداعه على ما كان وقع من الجفاء بيننا من قبل الإنذار الفرنسي، الذي لا علاقة له
بالمودة الشخصية، فوجدت في الدار أفراد من الشرطة، بلغني أنهم حرس على
أثاث الدار؛ لئلا يؤخذ شيء منها! ومكثت معه نصف ساعة أعجبني فيها صبره
وأمله، وكان ذلك في الساعة الحادية عشرة ليلاً، وقد خرج بعد وداعي له بنصف
ساعة، وحمله قطار خاص بمن معه إلى درعا.
يوسف بك العظمة:
ولا بد لي من كتابة كلمة في هذه الخلاصة التاريخية بشأن يوسف بك
العظمة، الذي كنت معجبًا بما أوتي من الذكاء والنظام والهمة والنشاط والوطنية
وحسن السلوك، منذ عرفته معتمدًا للحكومة العربية في بيروت إلى أن عين وزيرًا
للحربية باقتراحي وسعيي مع بعض الإخوان:
استبد يوسف بالعمل في وزارة الحربية، وكان يكتم أعماله حتى عن
رئيس الوزارة، بل يعمي الأمر إلا على الملك فيما أظن، ولما اشتدت الأزمة سألته:
هل هو مستعد للدفاع؟ قال: نعم! إذا وافق الملك، وإذا خالفناه نخشى أن يلجأ إلى
الأجانب. ولما عين يس باشا الهاشمي قائدًا لموقع العاصمة عقب الإنذار، أظهر
للوزارة ما فيها من النقص، أي على خلاف ما كان يقول، ثم إنه وافق الوزارة
على قرار التسليم بما طلب غورو. بعد هذا كله رأيته في بيت الملك مع الوزراء
فكلمته وحده كلامًا شديدًا، وذكرته ببعض كلامه، فقال ووجهه ممتقع كوجه الميت:
إنني مذنب، وأتحمل تبعة عملي، وكدت البارحة أنتحر من الغم، فلا تزد علي.
ولما خرج إلى الدفاع بمن بقي معه من بقايا جيشه تزين ولبس ملابسه الرسمية،
ووطن نفسه على الموت، فكان شرفه الذي امتاز به أنه لم يقبل أن يعيش ذليلاً،
بل أراد أن يكفر بدمه عن ذنب التقصير المبني على الثقة والغرور.
كان فشل هذه المدافعة بخان ميسلون أمرًا جليًّا لا يجهله مثله ولا مثلي ممن
لا يعلم من الحرب شيئًا؛ ولذلك رغب إليَّ الكثيرون أن أخطب في المتطوعين وفي
بعض المساجد في الحث على الدفاع، فامتنعت، كما أبيت مرارًا أن أخطب في
الاحتفالات السياسية، وقلت لبعض الخواص: إنني لا أغش أحدًا، ولا أستطيع أن
أقول في هذا المقام ما أعتقد؛ لأنه يضر الآن ولا ينفع، وقد نصحت للعاملين في
كل شيء في وقته، فلم يفد. على أن ما اندفعت إليه الأمة من أمر الدفاع شريف
ولا بد منه.
خلاصة آراء فيصل والأمة وغورو:
وخلاصة الخلاصة أن فيصلاً كان يعتقد أن الوصاية على البلاد أمر مقضي،
وأنه لا يمكن إيجاد قوة وطنية تحفظ الاستقلال، فكان لذلك يجتهد في إرضاء كل
ذي مكانة وتأثير إلى أن يضع الحلفاء القرار الأخير الذي كان يرى أنه قادر على
السعي إلى جعل وطأة الوصاية فيه خفيفة؛ ولذلك لم يهتم بأمر الاستعداد للدفاع
بتنظيم قوى العشائر ولا بالجيش النظامي، ولم يكن يعتقد أنه يهاجَم هذه المهاجمة،
فلما هوجم لم يجد بدًّا من الخضوع، فهو لم يستعد للقتال ولو دفاعًا، وما اضطر
إليه من إيجاد جيش دفاعي جيش منظم بادر إلى تسريحه عند الحاجة إليه، وقد
أعلن الحرب في الوقت الذي كان يفاوض في أمر التسليم، وهو لا يزال يرى أن
رأيه كان هو الصواب، وأن كل ما خالفه خطأ، وأنه أخطأ بعدم الاستعداد لتنفيذ ما
كان يراه بالقوة. وقد صرح بخطته وعمله مرارًا في أوربا، وبلغنا أنه يريد أن
ينشر فيه كتابًا رسميًّا.
وأما زعماء الأمة الذين خالفوه فقد بينا أنهم علموا بعد طور الاختبار أن
الدولتين شرعتا في تنفيذ ما اتفقنا عليه من استعمار بلادهم، فالأولى أن تقاومهم
الأمة بالحجة وبالدفاع عن نفسها إذا هاجموها بالقوة؛ ليكون مركزهم فيها مركز
المغتصب، وقبول الانتداب يجعله شرعيًّا.
وأما الجنرال غورو فكانت سياسته إخراج الشريف فيصل من سوريا مهما
تكن حاله؛ لأنه ناصبهم، وأغرى العصابات والعشائر بهم، وصار له نفوذ في
البلاد يمكن أن يكون خطرًا عليهم في كل وقت، ولا سيما إذا اشتد الخلاف بينهم
وبين إنجلترا التي يعدونه من صنائعها المخلصين لها، فهو قد حارب الأمير
فيصلاً، القائد الحجازي الذي يعده أجنبيًّا عن سوريا لإنقاذ سوريا من نفوذ دولة
الحجاز، ولو باسم الانتداب والوصاية الفرنسية، وعد ما أخذه من السلاح والذخائر
الحربية غنيمة حربية، وكل ذلك بين ظاهر في الأقوال والمكتوبات الرسمية.
الطور الأخير للمسألة العربية:
إن ما تفاقم على الدولة البريطانية من معضلات المشكلات المالية والسياسية
والاستعمارية والاجتماعية وأعبائها دون حل عقدها أو عقدة منها قد اضطرها إلى
ترك جزيرة العرب لأمرائها، مع اصطناع ما أمكن اصطناعه منهم، والتمهيد
للتدخل الاقتصادي والفني بالتدريج، ثم الاستعانة بأوليائها - ملك الحجاز وأولاده -
في سوريا وفلسطين والعراق، بعد الإعراض عنهم، وعدم المبالاة بصراخ جريدة
القبلة بمكة بالاستعطاف والاستعانة والتذكير (بالعهود والوعود والنجابة والحسيات
البريطانية) وعدَّ حليفها الملك الخروج عن مرضاتها مساويًا للردة والخروج من
رحمة الله تعالى، وتمثله في ندائها بقول الشاعر:
فإن كنتُ مأكولًا فكن أنت آكلي
والغرض الأول من هذه السياسة والإدارة المؤقتة تخفيف النفقات عن كاهل
دافعي الضرائب في بريطانيا العظمى إلى أن تنحل عقد المشكلات وتؤسس وسائل
القوة في داخلية البلاد العربية بأقل ما يمكن من النفقة، والثاني دفع إغارة العرب
من وراء الأردن على فلسطين، ومساعدتهم لأهلها على اليهود الصهيونيين،
والثالث إخضاع العراق والاستعانة بحكومته الجديدة على مقاومة الترك وحلفائهم من
مسلمي الشرق وبولشفيك الروس إذا أصروا على تنفيذ فكرة الجامعة الإسلامية
ومقاومة الاستعمار الإنجليزي في البلاد العربية والعجمية. وبلغنا أنهم أعادوا
الراتب الشهري لملك الحجاز بعد دعوة ولده فيصل الأخيرة إلى لندن، فجعلوه 18
ألف جنيه أو20.
عمل وزير المستعمرات بمصر وفلسطين:
جاء مستر تشرشل وزير المستعمرات البريطانية مصر في شهر مارس
الماضي، ونظر في مسألة حظائر الطيران فيها، وقابل فيها الوفد العراقي
الإنجليزي، الذي استحضر لأجل الاتفاق معه على أمور العراق المالية والعسكرية،
ثم سافر إلى فلسطين فآذن أهلها بدوام السلطة الإنجليزية على البلاد، وتنفيذها
لوعد بلفور بجعلها وطنًا قوميًّا لليهود، وقابل الشريف عبد الله بن الحسين ملك
الحجاز، وجعله حاكمًا لشرق الأردن بالتبع لحكومة فلسطين، واستمداد السلطة من
معتمدها السامي، وأعطاه من القوة العسكرية والطيارات ما يمكنه من إخضاع كل
من يشذ من عرب تلك البلاد عما يراد بها، وتأمين ما تنشئه السلطة البريطانية فيها
من أسباب المواصلات ووسائل القوة، وأولهما محطة التلغراف اللاسلكي وحظيرة
الطيارات، ويلي ذلك مد السكة الحديدية العسكرية من فلسطين إلى العراق، وقد
قرروا إعطاءه حصة جمرك حيفا للداخلية، وهي 120 ألف جنيه في السنة.
ختم المقال بالتفاؤل بالمآل:
وأختم هذا المقال بقولي: إنني مؤمن يرى اليأس من روح الله والقنوط من
رحمته كفرًا، وإنني لا يمنعني التشاؤم وسوء الظن في الطامعين من عمل ولا سعي،
فأنا لا أزال أرجو إقناع الدولتين المقتسمتين لبلادنا الهاضمتين لحقوقنا بأن الخير
لهما وللمدنية وللإنسانية أن يتركونا أحرارًا في بلادنا حاكمين في شعوبنا، وأن
يساعدونا على ما نريد من عمران بلادنا بما نطلب المساعدة عليه، ويكتفوا منا
بالمنافع الاقتصادية والأدبية. ومن سوء الحظ أن كان سعيي السابق مع غلاة
المستعمرين منهم، وأرجو أن أوفق للسعي مع أحرار المنصفين منهم، وهم ولله
الحمد كثيرون.
وأود لو يعلم هؤلاء الأحرار حقيقة أمور الشرق من أحرار أهله، ولا
يكتفوا ببلاغات السياسة الاستعمارية وما يختزله أهلها من أقوال مديري المخابرات
لهم.
أود لو يعلم أحرار فرنسا الكرام أن ملك الحجاز وأولاده لا يمثلون الأمة
العربية، بل السواد الأعظم من العرب ومن مسلمي الأعاجم غير راضين عنهم،
وأنه ليس من مصلحة فرنسا معاداة هذه الأمة في هذا البيت منها، ولا بجعلها
خصمًا للترك، وأنه لا يمكن أن تنال دولتهم عطف العالم الإسلامي مع مقاومتها
للعرب.
وأود لو يعلم أحرار إنجلترا ومنصفوها المستقلون ذلك فلا يغتروا باستخدام
مستعمريهم لأهل هذا البيت، ويظنوا أنهم هم الذين يخضعون لهم هذه الأمة
ويرضونها باستعمار بريطانيا لبلادهم، على أن الأيام ستعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
وأود لو تعلم الشعوب العربية أن الانتداب الذي فهموا معناه لم يصر أمرًا
مقضيًّا، وأن عصبة الأمم لن تكون ألعوبة بيد المستعمرين، وأن الرجاء في
استقلالهم واستقلال أمثالهم وبناء قواعد الصلة بين الشرق والغرب على أساس
العدل وتبادل المنافع من غير سيطرة ولا سيادة للمستعمرين على المستضعفين رجاء
قوي يزيده العلم به والسعي إليه قوة، ولا بقاء للعمران بدونه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد:
17) .
وأود لو يعلم قادة الأمة العربية وكبراؤها أنهم لو جمعوا كلمتهم في هذه
الفرصة لأسسوا لأنفسهم وحدة حلفية يحفظ بها استقلال كل منهم، ويعود به مجد
الأمة العربية، وتحيا حضارتها الشريفة التي فاقت حضارة جميع الأمم بجمعها بين
الرفاهة المقصودة من الحضارة وبين الفضيلة، ولكنهم أجابوا داعي شيطان التفريق
وتعزيزه لهم بالمال والمآل: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: 120) ولم يجيبوا داعي الوحدة وهو داعي الله تعالى، الذي يدعوهم
باسم الله تعالى لما يحييهم، فهذا وقت الوحدة الداخلية أمام الدواهي الخارجية، لا
وقت فضّ مشكلات حدود البلاد، ولا تحكيم العصبية الدينية والمذهبية، وليعتبروا
بإخوانهم الترك، الذين قضت عليهم معاهدات الحرب بالزوال والمحق، كيف
تحولت حالهم بجمع الكلمة والدفاع عن البيضة، إلى أن صار الحلفاء القاهرون
لهم ولأحلافهم الذين كانوا أقوى وأعز منهم يعدونهم خطرًا عليهم، ويتسابقون
إلى الاتفاق معهم أو التزلُّف إليهم، ولكن الترك قد وُجد فيهم الزعيم الذي جدد
لهم الفخار، ولم يوجد في العرب إلا الزعيم الذي سهل عليهم الخزي والعار
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} (الحشر: 2) .
__________
(1) إنما لقبناه هنا بالشريف؛ لأنه اللقب المشهور الثابت له، وقد صار أميرًا مؤقتًا لقسم من سوريا من قبل الخلفاء، ثم ملكًا عليها بنصب المؤتمر السوري العام وموافقة أعيان الشام ثم مهاجرًا راسيًا في أوربا، ثم مرشحًا من إيطاليا العظمى لدولة العراق.(35/751)
الكاتب: حسن البنا
__________
المرأة المسلمة
(2)
أشرت في الكلمة السابقة إلى أصول ثلاثة قررها الإسلام في شأن المرأة:
(1) فهو يرفع منزلتها، ويجعلها من الرجل وشريكة له في الحقوق
والواجبات الإنسانية العامة.
(2) وهو إذا فرق بينهما في شيء من هذا فإنما ذلك نزولاً على حكم
الخصائص التي يمتاز بها كل منهما عن الآخر في تكوينه وفي مهمته.
(3) وأنه ييسير للغريزة الجنسية بين الرجل والمرأة تيسيرًا حكيمًا،
فيصرفها إلى النافع، ويضع لها الحواجز حتى لا تتعدى إلى الضار.
هذه هي الأصول التي راعاها الإسلام وقررها في نظرته إلى المرأة، وعلى
أساسها جاء تشريعه الحكيم كافلاً للتعاون العام بين الجنسين بحيث يستفيد كل منهما
من الآخر ويعينه على شئون الحياة.
والكلام على المرأة في المجتمع في نظر الإسلام يتلخص في هذه النقط:
أولاً: يرى الإسلام وجوب تهذيب خلق المرأة، وتربيتها على الفضائل
والكمالات النفسانية منذ النشأة، ويحث الآباء وأولياء أمور الفتيات على هذا،
ويعدهم عليه الثواب الجزيل من الله، ويتوعدهم بالعقوبة إن قصروا. وفي الآية
الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) .
وفي الحديث الصحيح: (كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، الإمام راعٍ
ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية
في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن
رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) أخرجه الشيخان من حديث عبد الله
ابن عمر رضي الله عنه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم له بنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو
صحبهما إلا أدخلتاه الجنة) رواه ابن ماجة بسند صحيح وابن حبان في صحيحه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن
واتقى الله فيهن فله الجنة) رواه الترمذي واللفظ له وأبو داود، إلا أنه
قال: (فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة) .
ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن:
كالقراءة، والكتابة، والحساب، والدين، وتاريخ السلف الصالح، رجالاً ونساء،
وتدبير المنزل، والشئون الصحية، ومبادئ التربية، وسياسة الأطفال، وكل ما
تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها. وفي حديث البخاري رضي الله
عنه: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) وكان كثير
من نساء السلف على جانب عظيم من العلم والفضل والفقه في دين الله
تبارك وتعالى.
أما المقالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل
تحته، فليست المرأة في حاجة إليه، وخير لها أن تصرف وقتها في النافع المفيد.
ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة.
وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة
للمنزل أولاً وأخيرًا.
وليست المرأة في حاجة إلى التبحر ودراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن
تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس.
كان أبو العلاء المعري يوصي بالنساء فيقول:
علموهن الغزل والنسج والرُّد ... ن وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخلا ... ص تجزئ عن يونس وبراءة
ونحن لا نريد أن نقف عند هذا الحد، ولا نريد ما يريد أولئك الغالون
المفرطون في تحميل المرأة ما لا حاجة لها به من أنواع الدراسات، ولكنا نقول:
علموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير
المنزل، ورعاية الطفل.
ثانيًا: التفريق بين المرأة وبين الرجل:
يرى الإسلام في الاختلاط بين المرأة والرجل خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما
إلا بالزواج؛ ولهذا فإن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادي لا مجتمع مشترك.
سيقول دعاة الاختلاط: إن في ذلك حرمانًا للجنسين من لذة الاجتماع وحلاوة
الأنس التي يجدها كل منهما في سكونه للآخر، والتي توجِد شعورًا يستتبع كثيرًا من
الآداب الاجتماعية من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطباع.. إلخ.
وسيقولون: إن هذه المباعدة بين الجنسين ستجعل كلاًّ منهما مشوقًا أبدًا إلى الآخر؛
ولكن الاتصال بينها يقلل من التفكير في هذا الشأن، ويجعله أمرًا عاديًّا في
النفوس (وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنع) وما ملكته اليد زهدته النفس.
كذا يقولون ويفتن بقولهم كثير من الشبان، ولا سيما وهي فكرة توافق أهواء
النفوس وتساير شهواتها، ونحن نقول لهؤلاء مع أننا نسلم بما ذكرتم في الأمر الأول
نقول لكم: إن ما يعقب لذة الاجتماع بحلاوة الإنس من ضياع الأعراض وخبث
الطوايا وفساد النفوس وتهدم البيوت وشقاء الأمر وبلاء الجريمة، وما يستلزمه هذا
الاختلاط من طراوة في الأخلاق ولين في الرجولة لا يقف عند حد الرقة، بل هو
يتجاوز ذلك إلى حد الخنوثة والرخاوة، وكل ذلك ملموس لا يماري فيه إلا مكابر.
كل هذه الآثار السيئة التي تترتب على الاختلاط تربو ألف مرة على ما ينتظر
منه من فوائد، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة أولى، ولا سيما إذا
كانت المصلحة لا تعد شيئًا بجانب هذا الفساد.
وأما الأمر الثاني فغير صحيح، وإنما يزيد الاختلاط قوة الميل، وقديمًا قيل إن
الطعام يقوي شهوة النهم، والرجل يعيش مع امرأته دهرًا، ويجد الميل إليها يتجدد
في نفسه؛ فما باله لا تكون صلته بها مذهبة لميله إليها، والمرأة التي تخالط الرجال
تفتن في إبداء ضروب زينتها، ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها،
وهذا أيضًا أثر اقتصادي من أسوأ الآثار التي يعقبها الاختلاط، وهو الإسراف في
الزينة والتبرج المؤدي إلى الإفلاس والخراب والفقر. لهذا نحن نصرح بأن المجتمع
الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي، وأن للرجال مجتمعاتهم وللنساء مجتمعاتهن. ولقد
أباح الإسلام للمرأة شهود العيد وحضور الجماعة والخروج في القتال عند الضرورة
الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحد واشترط له شروطًا شديدة من البعد عن كل مظاهر
الزينة، ومن ستر الجسم، ومن إحاطة الثياب به فلا تصف ولا تشف. ومن عدم
الخلوة بأجنبي مهما كانت الظروف، وهكذا.
إن من أكبر الكبائر في الإسلام أن يخلو الرجل بامرأة ليست بذات محرم له،
ولقد أخذ الإسلام السبيل على الجنسين في هذا الاختلاط أخذًا قويًّا محكمًا.
فالستر في الملابس أدب من آدابه.
وتحريم الخلوة بالأجنبي حكم من أحكامه.
وغض الطرف واجب من واجباته.
والعكوف في المنازل للمرأة حتى في الصلاة شعيرة من شعائره.
والبعد عن الإغراء بالقول والإشارة وكل مظاهر الزينة، وبخاصة عند
الخروج - حد من حدوده.
كل ذلك إنما يراد به أن يسلم الرجل من فتنة المرأة وهي أحب الفتن إلى نفسه،
وأن تسلم المرأة من فتنة الرجل وهي أقرب الفتن إلى قلبها، والآيات الكريمة
والأحاديث المطهرة تنطق بذلك.
بقول الله - تبارك وتعالى - في سورة النور: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ
آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ
مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 30-
31) .
وفي سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) .
إلى آيات أخرى كثيرة.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني
عن ربه عز وجل -: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من
مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه) رواه الطبراني والحاكم من حديث
حذيفة.
وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتغضن أبصاركم
ولتحفظن فروجكم أو ليكسفن الله وجوهكم) رواه الطبراني.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صباح
إلا وملكان يناديان: ويل للرجال من النساء، وويل للنساء من الرجال) رواه ابن
ماجة والحاكم.
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم
والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو
الموت) رواه البخاري ومسلم والترمذي، والمراد بدخول الأحماء على المرأة:
الخلوة بها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا
كان ثالثهما الشيطان) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ومسلم.
وعن معقل بن يسار قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في
رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه
الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح، كذا قال الحافظ
المنذري.
وروي عن أبي إمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياك والخلوة
بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما. ولأن
يزحم رجل خنزيرًا متلطخًا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبيه منكب امرأة
لا تحل له) رواه الطبراني.
وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عين زانية،
والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني زانية) رواه أبو داود
والترمذي، وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في
صحيحهما، ولفظهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت
على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) أي كل عين نظرت إليها
نظرة إعجاب واستحسان.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه
البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني، وعنده: (أن امرأة
مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسًا، فقال: لعن الله المتشبهات
من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه
وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه أبو داود والنسائي
وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات
والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، فقالت له امرأة في ذلك،
فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله
قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها
مرضت فتمعط شعرها، فأرادوا أن يصلوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) وفي رواية: أن امرأة من الأنصار
زوَّجَت ابنتها فَتَمَعَّطَ شعرُ رأسها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت
ذلك له وقالت: إن زوجها أمرني أن أصل شعرها فقال: (لا؛ إنه قد لُعِنَ
الموصولاتُ) رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة
أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها) رواه
البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وفي رواية للبخاري ومسلم:
(لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس،
ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن
الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه
مسلم وغيره.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها
إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) رواه أبو داود، وقال: هذا مرسل،
وخالد بن دريك لم يدرك عائشة.
وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي - رضي الله عنهما - أنها جاءت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، قال: قد
علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في دارك،
وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاة في مسجد قومك خير
من صلاتك في مسجدي. فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه،
وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل) رواه أحمد وابن خزيمة وابن
حبان في صحيحها.
وليس بعد هذا البيان بيان، ومنه يعلم أن ما نحن عليه ليس من الإسلام في
شيء، فهذا الاختلاط الفاشي بيننا في المدارس والمعاهد والمجامع والمحافل العامة،
وهذا الخروج إلى الملاهي والمطاعم والحدائق، وهذا التبذل والتبرج الذي وصل
إلى حد التهتك والخلاعة - كل هذه بضاعة أجنبية لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولقد
كان لها في حياتنا الاجتماعية أسوأ الآثار.
يقول كثير من الناس: إن الإسلام لم يحرم على المرأة مزاولة الأعمال العامة،
وليس هناك من النصوص ما يفيد هذا، فائتوني بنص يحرم ذلك. ومثل هؤلاء
مثل من يقول إن ضرب الوالدين جائز؛ لأن المنهي عنه في الآية أن يقال لهما أفٍّ،
ولا نص على الضرب.
إن الإسلام يحرم على المرأة أن تكشف عن بدنها، وأن تخلو بغيرها، وأن
تخالط سواها، ويحبب إليها الصلاة في بيتها، ويعتبر النظرة سهمًا من سهام إبليس،
وينكر عليها أن تحمل قوسًا متشبهة في ذلك بالرجل؛ أفيقال بعد هذا إن الإسلام
لا ينص على حرمة مزاولة المرأة للأعمال العامة؟ !
إن الإسلام يرى للمرأة مهمة طبيعية أساسية هي المنزل والطفل، فهي كفتاة
يجب أن تُهيَّأ لمستقبلها الأسري، وهي كزوجة يجب أن تخلص لبيتها وزوجها،
وهي كأم يجب أن تكون لهذا الزوج ولهؤلاء الأبناء، وأن تتفرغ لهذا البيت، فهي
ربته وملكته، ومتى فرغت المرأة من شئون بيتها لتقوم على سواه؟ فإذا كان من
الضرورات الاجتماعية ما يلجئ المرأة إلى مزاولة عمل آخر غير هذه المهمة
الطبيعية لها، فإن من واجبها حينئذ أن تراعي هذه الشرائط التي وضعها الإسلام
لإبعاد فتنة المرأة عن الرجل وفتنة الرجل عن المرأة، ومن واجبها أن يكون عملها
هذا بقدر ضرورتها، لا أن يكون هذا نظامًا عامًّا من حق كل امرأة أن تعمل على
أساسه. والكلام في هذه الناحية أكثر من أن يحاط به، ولا سيما في هذا العصر
الميكانيكي الذي أصبحت فيه مشكلة البطالة وتعطل الرجال من أعقد مشاكل
المجتمعات البشرية في كل شعب وفي كل دولة.
وللإسلام بعد ذلك آداب كريمة في حق الزوج على زوجه، والزوجة على
زوجها، والوالدين على أبنائهما، والأبناء على والديهم، وما يجب أن يسود الأسرة
من حب وتعاضد على الخير، وما يجب أن تقدمه للأمة من خدمات جلى، مما لو
أخذ الناس بها لسعدوا في الحياتين ولفازوا بالعبادتين.
__________(35/765)
الكاتب: حسن البنا
__________
إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم
من تحرير المنار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فلا يسع تحرير المنار إلا شكركم أجزل الشكر على موالاتكم إياه بإرشاداتكم
القيمة كرجلٍ خبر مهمة تحرير المنار زهرة عمره.
ويطلب إليكم مع هذا الشكر أمورًا أنتم خير من يعمل على إجابتها:
أولاً: مواصلة هذه الإرشادات والكتابات النافعة المفيدة.
ثانيًا: مراجعة هذه الأعداد التي صدرت، وإبداء ملاحظاتكم عنها جملة؛
لتُنشر- إن شاء الله - في أول عدد من السنة السادسة والثلاثين وما يليه.
ثالثًا: موافاتنا بترجمة السيد الوالد، رحمه الله.
ونعتذر إليكم لضياع ما بعثتم به من ذلك لظرف قاهر، والسلام عليكم
ورحمة الله.
__________(35/773)
الكاتب: حسن البنا
__________
بيان الحكومة المصرية
عن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة
ووفاة رئيس مجلس الوزراء المصري حسن صبري باشا
كان يوم الخميس الرابع عشر من شهر شوال موعدًا لافتتاح دار النيابة،
فاجتمع النواب والشيوخ، وأخذ رئيس الحكومة يلقي بيانه عن سياستها الداخلية
والخارجية أمامهم وبين يدي (الملك) وفجأة أغمي عليه، وأسلم الروح بعد قليل،
وتوفي مأسوفًا عليه من جميع عارفيه.
ولقد كان (حسن صبري باشا) معروفًا بالتمسك بأهداب الدين الحنيف،
حريصًا على أداء فرائضه، لم يتهاون بأمر الصلاة، ولم يتذوق طعم الخمر، ولم
يصرف أوقاته فيما يصرفها فيه كثير من المترفين في هذا العصر، وكان معروفًا
بالصراحة وصفاء النفس، لا يضمر لأحد كيدًا، ولا يحقد على أحد، فنسأل الله
تعالى له الرحمة والمغفرة. وفيما يلي بيان الحكومة المصرية المعروف بخطبة
العرش، وقد أتم إلقاءه رئيس مجلس الشيوخ.
* * *
خطاب العرش
حضرات الشيوخ، حضرات النواب:
أحييكم أجمل تحية، ونسأل الله لكم في مهمتكم توفيقًا تزداد به الأمة قوة،
وتعتز به اتحادًا يكفل خير الوطن واستقلاله وأمنه وسلامته.
حضرات الشيوخ، حضرات النواب:
لقد وقفت مصر من الحرب التي تستعر نارها، ويمتد لهبها الآن غربًا وشرقًا
موقفًا أرادته الأناة، واقتضه الحكمة، وأدى إليه الحرص الأكيد على سلامة البلاد
والوفاء بالعهد، فنفذت معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا العظمى بنصها
وروحها تنفيذ إخلاص وصدق، وعملت على أن تكون علاقاتها مع سائر الدول في
غير ما أثرت فيه الحرب علاقات مودة وصفاء، وأقامت تنظر إلى تطورات
الحوادث بعين اليقظة، واثقة بنفسها، مطمئنة إلى حليفتها، حريصة على سيادتها
واستقلالها، محتاطة لدرء كل ما يمسها، عاملة على أن تظل - رغم تقلب الأحوال
الدولية - آمنة محتفظة بكيانها.
ولا تزال هذه السياسة التي أقررتموها خلال الدورة البرلمانية السابقة، والتي
اتجهت إليها إرادة الأمة سياسة حكومتي، وهي عظيمة الرجاء في أن تؤتي هذه
السياسة خير ثمراتها، وأن يتم لمصر بفضلها كل ما ترجوه، وتصبو إليه.
وقد رأت حكومتي أن معالجة ما نشأ عن الحرب من اضطراب في شؤون
البلاد الاقتصادية خير كفيل بنجاح هذه السياسة، فواجهت الحالة بكل ما استطاعت
من وسائل، وأَلْفَتْ في حليفة مصر العظمى العون الصادق على ما أرادت، واتفقت
معها على شراء محصول القطن الجديد، ونظمت معها السوق المالية، وبذلك
استقرت المعاملات، فلم يكن للتقلبات - التي حدثت في الخارج - كبير الأثر في
مصر.
واتجهت حكومتي إلى صيانة الاقتصاد الأهلي، وتشجيع الإنتاج الداخلي في
شتى نواحيه، فكان من أثر ذلك كله أن عادت دورة التعامل في أنحاء البلاد على
نحو اطمأن الجميع إليه، وزاد في طمأنينتهم ما أبدته حكومتي من حرص على
تموين البلاد بكل ما هو ضروري لها في الظروف الاستثنائية الحاضرة.
ولم تصرف ظروف الحرب حكومتي عن العمل لاستكمال استقلال البلاد،
ولا عن اضطلاعها بأعباء الاصطلاح فيها، فلقد أقر البرلمان في الدورة الماضية
الاتفاق الذي ألغى صندوق الدين، كما عاون الحكومة بتأييده لها فيما نهضت به من
أعباء الإصلاح في حدود طاقة الخزينة التي تأثرت تأثرًا محسوسًا بالأحوال العالمية
الحاضرة.
تجري الحكومة في المستقبل على الخطة العملية التي جرت عليها حتى الآن،
وهي واثقة من معاونتكم وتأييدكم؛ كي يتصل الإصلاح بمرافق الدولة كلها، وتظل
البلاد آمنة مطمئنة في هذا الدور الدقيق من تاريخ العالم.
حضرات الشيوخ، حضرات النواب:
لقد كانت الحكمة رائد الأمة المصرية في جميع أحوالها، وكان حرصها على
استقلال الوطن واستمساكها به واتحادها في سبيله أمنع سياج له وأعز ذائد عنه،
وأنتم ممثلو الأمة، أولتكم ثقتها، وحملتكم أمانتها، فانهضوا بالأمانة، وحققوا الثقة؛
عاملين بحكمة الأمة وحرصها؛ حتى يستقيم ميزان العدل والأمن والطمأنينة في
البلاد.
لقد وفت مصر بعهودها، وحافظت على طيب العلاقات مع سائر الدول في
الخارج، فتخطت البلاد خلال الشهور التي انقضت منذ كانت الحرب الحاضرة أدق
الظروف وأعصب الأوقات.
ولي عظيم الرجاء في أن تظل الحكمة رائدنا، وأن يصبح العزم الصادق
عدتنا.
حفظ الله وطننا العزيز بعنايته، وشمله برعايته، ووفقنا جميعًا في خدمته؛
ليعز جانبه، وتعلو كلمته، إنه سميع مجيب.
وقد أسندت مقاليد الحكومة المصرية إلى صاحب الدولة حسين سري باشا،
فشكل الوزارة، وقد ألقت في دار النيابة بيانًا لم يخرج عن سابقه، وفيما يلي نصه:
بيان الوزارة في البرلمان
ألقى صاحب الدولة حسين سري باشا رئيس الوزراء في مجلس الشيوخ
والنواب مساء الإثنين 25 نوفمبر البيان الخاص بسياسة الوزارة، وهذا نصه:
حضرات النواب المحترمين:
استطاعت الوزارة السابقة أن تتغلب على دقة الأحوال التي تحيط بنا، وعلى
الظروف العصيبة التي يجتازها العالم وتجتازها بلادنا؛ لأنها اعتمدت في رسم
السياسة التي أدت إلى هذه الغاية، والتي حازت إقراركم وتأييدكم، على ما اختص
به شعب مصر المجيد من أناة ووفاء وصدق عزم، وعلى ما أخذتم به حضراتكم
في هذا المجلس من حكمة وبعد نظر وحسن تقدير.
ثم كانت الوطنية المصرية - التي أثبتت على الأيام سموها وقوتها - خير
كفيل بتعاون أبناء الأمة وأحزابها جميعًا (خارج البرلمان وداخله) تعاونًا صادقًا في
توجيه البلاد إلى ما يحقق مصلحتها ويحمي سلامتها واستقلالها. وإني لأرجو أن
توافق الوزارة التي أتشرف برياستها في تنفيذ سياسة الوزارة السابقة، كما رسمت
في خطاب العرش الذي تُلي على حضراتكم، فهذا الخطاب برنامجنا، وهو البيان
الذي نقدمه إليكم، آملين معاونتكم لنا على تنفيذه، فلا تزال دقة الأحوال الدولية
تقتضينا اليقظة والحزم، ولا تزال سلامة الوطن بحاجة إلى وحدة الأمة واجتماع
كلمتها.
سدد الله خطانا، وألهمنا جميعًا الحكمة والرشاد.
ونحن نسأل الله أن يلهم حكومات الشعوب الإسلامية في هذه الظروف الدقيقة
رشدها، وأن يوفقها لخير البلاد والعباد.
__________(35/774)
الكاتب: حسن البنا
__________
من كلام الإمام علي في نهج البلاغة
اعلموا عباد الله، أن عليكم رصَدًا من أنفسكم، وعيونًا من جوارحكم، وحفاظ
صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة داجٍ، ولا يكِنَّكم منهم
باب ذو رتاج، وإن غدًا من اليوم قريب.
يذهب اليوم بما فيه، ويجيء الغد لاحقًا به، فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من
الأرض منزل وحدته ومخط حفرته، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد
غربة، وكأن الصيحة قد أتتكم، والساعة قد غشيتكم، وبرزتم لفصل القضاء، قد
زاحت عنكم الأباطيل، واضمحلَّت عنكم العلل، واستحقت بكم الحقائق، وصدرت
بكم الأمور مصادرها، فاتعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنذر.
__________(35/778)