الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الملك فيصل العبرة بحياته ومماته
(2)
بقية الكلام على الأمير عبد الله:
لما عزمت الدولة العثمانية على صَلْيِ نار الحرب مع ألمانية حسبت للحجاز
وسائر البلاد العربية حسابًا، وأهم ما يهمها من البلاد العربية الحجاز؛ لأنه عنوان
منصب الخلافة الذي كانوا يظنون أنهم يهيجون به العالم الإسلامي على الإنكليز
وفرنسة فطلبوا من الشريف حسين أن يرسل ولده الشريف عبد الله إلى الآستانة لأجل
التحدث معه في أمر مهم، وكان الشريف عبد الله بمكة المكرمة لتعطيل مجلس
المبعوثين وهو مبعوث الحجاز فيه عطلة الصيف، فبادر والده إلى إرساله فجاء
مصر ونزل ضيفًا على قصر عابدين كعادته، وكانت المودة قد رسخت بيني وبينه
فزرته في عابدين ضحوة يوم الجمعة 17 شعبان سنة 1332 الموافق 10 يوليو
(تموز) سنة 1914 وكتبت عقب الزيارة في مذكرتي ما نصه:
زرت الشريف عبد الله ضحوة اليوم بقصر عابدين وتكلمنا بالحرية التامة في
شئون الحجاز الأخيرة، فذكرت له أمورًا ما كان يظن أنني أعرفها كالتحدث في
مجلس الوالي وهيب بك باغتيال والده أمير مكة، وكإرسال والده كتابًا إلى
الإدريسي وغير ذلك، وقلت له: إنه بلغني عن والده أنه غير راض عن المنار
بتأثير وساوس الدجال النبهاني، فكذَّب ذلك بالتأكيد الشديد، وقال: هذا كلام الذين
يحبون التفريق بيننا، وإنه رأى والده يقرأ للناس ما كتبه المنار في مسألة بيع
الشفاعة [1] (على أن خبر انحرافه بلغني من أحد أصدقاء والده) [2]
وكتبت في اليوم التالي (السبت 18 شعبان) دخل الشريف في الجامعة
العربية وحلف اليمين الكبرى كتبتها له بورقة وقرأها على سبيل الإنشاء كما قال
اهـ.
أقول: في تفسير هذه المذكرة بالإجمال: إنني على اشتغالي الأساسي
بالإصلاح الإسلامي العام كنت أسعى مع بعض أحرار العثمانيين من الترك وغيرهم
لإصلاح الدولة العثمانية، ولما أعلن فيها الدستور تجدد الرجاء لجميع الشعوب
العثمانية بحياتها ونهضتها بالدولة وفي الدولة، فكنت أبث في الشعب العربي
العثماني أنه يجب أن يوجه استعداده ليكون عضوًا رئيسيًّا كالترك في الدولة ينهض
بها وتنهض به، ثم ذهبت إلى الآستانة للسعي لدى الدولة فيما تحيا به وبحياة
الإسلام، وتتحد بالعرب أتم الاتحاد، وبعد معالجة العمل سنة كاملة، اقتنعت بأن
هذه الدولة غير مستعدة للبقاء، وأن انحلالها بأيدي رجالها من أعضاء جمعية
الاتحاد والترقي ضربة لازب، وأن العرب إذا لم يؤسسوا بأنفسهم لأنفسهم بناء
للاستقلال القومي فلا بد من سقوطهم بسقوطها إن لم يسقطوا قبلها بسعيها.
وقد علمت من الآستانة أن زعماء الترك من الاتحاديين وغيرهم معتزمون
تتريك جميع العناصر الداخلة في محيط الدولة بالقوة القاهرة، وبدءوا بقتال
الألبانيين لمنعهم من استعمال لغتهم، ويُثَنُّون بالكرد ويُثَلِّثُون بالأرمن، وكذلك
يفعلون بسورية والعراق من الولايات العربية إلا أن يروا الأربح لهم بيع العراق
لإنكلترة وسورية لفرنسة، وفلسطين لليهود، كما قرروا بيع طرابلس الغرب وبرقة
لِإيطالية، وذلك بالسماح لكل منهم أن يتملكوا ما شاءوا في هذه الولايات بل
الممالك، ويقووا نفوذهم فيها إلى أن تسمح الفرصة باحتلالها العسكري بدون مقاومة
مخسرة، وأما البلاد المسلحة الحربية بالطبع، وهي جزيرة العرب فقد قرروا جعل
اليمن ونجد إمارتين مستقلتين في إدارتهما الداخلية تحت سيادة دولة الخلافة، إلا
الحجاز فيظل تحت حكمهم المباشر، وتلغى إمارة الشرفاء منه، ويجعل في الطائف
قوة عسكرية عظيمة كافية للسيطرة على الحجاز وغيره من جزيرة العرب لموقعه
الحربي في الوسط، وفيه المباني العسكرية الكافية التي أسسها السلطان عبد الحميد
لذلك.
وقد جعلوا وهيب بك واليًا للحجاز ليمهد السبيل لذلك؛ لأنه من كبار الضباط
الشديدي الشنآن -بغض الاحتقار- للعرب وكان صرح في خطاب له في وزارة
الحربية بأنه يمكنه اكتساح سورية بستة توابير تركية والقضاء على كل حركة
عربية في البلاد، وقد ذكرت هذا في إحدى مقالاتي التي أنشأتها في الآستانة إذ
كتبت فيها تحت عنوان الترك والعرب (تركلر، عربلر) ونشرت باللغتين، وقد
كنت علمت بنبأ جاءني من الآستانة أن الدولة سترسل وهيب بك واليًا إلى الحجاز
فذكرت ذلك للمندوب العثماني (القومسير) سليمان بك بابان وكان يهتم هنا بتحسين
سمعة الدولة وتحسين علاقتها بالعرب، وقلت له: أيصح في هذا الوقت أن ترسل
الدولة هذا المتهور إلى الحجاز وتجعله واليًا لها؟ فقال: جانم، لا تصدق، هذه من
إشاعات أعداء الدولة! ! فتأمل.
جمعية الجامعة العربية وقسمها الأول:
وأما جمعية الجامعة العربية التي أسسناها بعد عودتي من الآستانة فكان
الغرض الأول منها أمرين: (أحدهما) السعي لاتحاد حلفي بين أمراء جزيرة
العرب للاتفاق ومنع الشقاق (والثاني) التعاون على عمران البلاد والدفاع عنها،
وللتعاون بين الجمعيات العربية في سورية والعراق وغيرهما …. وهذا نص القسم
الأول الذين كان قبل الحرب، إذ كانت الجمعية خاصة بالأمراء والزعماء وكلهم من
المسلمين، وهذا:
أقسم بالله العظيم القهار، المنتقم الجبار، العالم بسري وعلانيتي، القادر على
سلبي كل ما أعطاني من المواهب والقوى، وبكتاب الله المجيد أنني أبذل جهدي
وما في وسعي لجمع كلمة العرب والتأليف بين أمرائهم وتأسيس ملك جديد لهم،
بحسب القواعد التي وضعتها لذلك جمعية الجامعة العربية التي أنتظم في سلكها اليوم،
وأنني أسعى لذلك مع أعضاء هذه الجمعية بمنتهى الصدق والإخلاص، وأنني لا
أبخل في سبيل ذلك بمالي ولا بنفسي، ولا يلفتني عنه هواي وحظي الشخصي،
ولا حظ أحد من أهلي وولدي، وأنني أحافظ على مقاصد الجمعية وأسرارها بأشد ما
أحافظ به على ديني وشرفي وعرضي، فلا أفشي لها سرًّا ولا أعارض لها عملاً،
ولا أقول قولاً، ولا أعمل عملاً يخالف مقاصدها أو يحدث فيها خللاً، أو يوقع فيها
فشلاً، لعلة من العل، ولا لسبب من الأسباب. وإنني أقوم بكل عمل يكلفني إياه
مركزها العام من مقاصد هذه الجامعة أو وسائلها بحسب استطاعتي.
على عهد الله وميثاقه لأبرنَّ بقسمي هذا بلا تأويل ولا عذر ولا كفارة، وإن
حنثت بشيء مما تضمنه أو غدرت أو أفشيت سرًّا، أو قلت أو فعلت ما يضر هذه
الجامعة أو أحدًا من العاملين لها، أو يُخِلّ بشيء من أعمالها أو يخالف شيئًا من
مقاصدها، فعلي إثم من حقّر اسم الله، ونبذ كتاب الله، وبرئ من الدين والشرف،
ومن ذمة العرب، وأستحق انتقام الله ولعنته ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وانتقام
الجامعة العربية وكل من يغار على ملته وأمته، وكان من الخائنين والملعونين إلى
يوم الدين، والله على ما أقول وكيل وشهيد. اهـ.
(أقول) هذا القسم هو الذي حلفه الشريف عبد الله ولا تزال صورته الخطية
محفوظة عندي، ثم إننا غيرنا هذا القسم بعد الحرب تغييرًا قليلاً وعندي صورة منه
عليها إمضاء بعض من انتظموا فيها معي، ثم عدلته بالتشاور مع الأعضاء وطبعته
هكذا:
قسم الجامعة العربية
أقسم بالله القهار أنني أبذل جهدي وما تصل إليه استطاعتي من السعي لجعل
بلاد العرب المؤلفة من الجزيرة وفلسطين وسوريا ولبنان وما بين النهرين (دجلة
والفرات) والعراق مملكة عربية مستقلة أتم الاستقلال على قاعدة اللامركزية،
وعلى أن تكون حكومتها شورية نيابية ينتخب أعضاء مجالسها من أهل الحل والعقد
الذين هم خواص الأمة ومحل ثقتها في الشئون العلمية والعملية بمقتضى القوانين
التي يقررونها عند العمل وإنني أقاوم بقدر استطاعتي كل ما ينافي هذا الاستقلال،
وهذا الشكل من الحكومة أو يضعفه من تدخل الأجانب ونفوذهم، أو استبداد الحكام،
وفساد أنصار الاستبداد من الجماعات أو الأفراد، وإنني أكون وليًّا ونصيرًا
للساعين والعاملين لهذا المقصد من رجال الجامعة العربية وغيرهم بمنتهى الصدق
والإخلاص، لا يثنيني استقلال بعض هذه البلاد عن ذلك السعي التام لاستقلال
سائرها، وإنني لا أفشي لفرد من الأفراد ولا لجماعة من الجماعات العاملة لهذه
الغاية سرًّا، ولا أعمل عملاً يخل بهذا الغرض والقصد، أو يضر أحدًا من العاملين
له أو يعرقل عملاً من أعمالهم له.
فإن حنثت في يميني هذه لأي سبب، وبأي تأويل فأنا بريء من الشرف
والإنسانية، مستحق للعنة الأبدية، وأن يسجل عليَّ عار الخيانة وذلها في تاريخ
أمتي العربية وفي كل تاريخ، والله خير الشاهدين.
بعد هذا سافر الشريف إلى الآستانة وعاد منها إلى مصر فبلغها في 22
رمضان الموافق 13 أغسطس وعاد معه أخوه الشريف فيصل فقابلته في قصر
عابدين وحده يوم وصوله نهارًا ثم ليلاً وأخبرني بخلاصة رحلته، وأن الدولة
راوغت ومطلت في إلغاء ولاية الحجاز وجعلها إمارة فقط كما بلغت والده، وزعمت
أنها أرجأت ذلك إلى ما بعد الحرب الكبرى، وعلم أنها عازمة على الانضمام إلى
ألمانية في الحرب إلا الصدر الأعظم (الأمير سعيد حليم) وتكلمنا في مسألة الخطر
على الدولة من دخول الحرب وما يجب على الحجاز لوقايته من الخطر إذا هي
فعلت، وأخبرني أن جميع قبائل العرب قد خضعت لوالده وعاهدته بعد حادثة
وهيب بك الوالي ومحاربة الإدريسي حتى قبيلة حرب العظيمة، ولكنه لم يخاطب
أحدًا من الأعراب المحافظين على سكة الحديد الحجازية؛ لأنهم ينتفعون من الدولة
ولا شأن لهم.
وجملة القول أنه ازداد اقتناعًا بوجوب العمل بمقتضى مقاصد الجامعة العربية
وبأن والده أخطأ بمحاربة الإدريسي بإغراء الدولة، وكان هو أخبرني من قبل أن
الدولة كلفته ذلك، أخبرني قبل وقوع الحرب منصرفه من الآستانة فحذرته من
الوقوع في هذه الورطة فوعدني بأن يبلغ والده ذلك ويجتهد في إقناعه وقد فعل كما
أخبرني ولكن والده لم يقبل منه، والسبب الصحيح لقتال الإدريسي أن الشريف
حسينًا كان يريد الاستيلاء على عسير وضمها إلى الحجاز ويعلم أنه لا يقدر على
الإدريسي بقوة الحجاز التي يقدر على القتال بها، فافترص سخط الدولة عليه
لإسقاط إمارته بقوتها النظامية مع القوة الحجازية البدوية، وعذر ولده عبد الله
وغيره من أولاده استبداده وشدة عناده معهم كغيرهم، فكان هذا أكبر مساويه
المحيطة لمحاسنه رحمه الله.
رجع عبد الله وفيصل إلى الحجاز والأول مقتنع بخطة جمعية الجامعة العربية
ومنها أن يستعد العرب لاستقلالهم واتقاء سقوطهم بسقوط الدولة العثمانية الذي أمسى
في نظرها ضربة لازب واتقاء السعي لإسقاطها بثورة لهم عليها، وكنت أقدر له
أمدًا لا ينقص عن ثلاثين سنة، وفيصل مقتنع بوجوب بقاء الارتباط بالترك
والتابعية للدولة العثمانية كما أخبرني هو نفسه بعد، وهذا هو السبب لعدم جمع عبد
الله بيني وبينه في مصر، كما أننا لم نجتمع في الآستانة.
عاد الشريفان إلى والدهما في مكة المكرمة وعبد الله أقرب إلى رأي أبيه من
فيصل فقد كانا يكرهان الترك وزادتهما سياسة جمعية الاتحاد والترقي كرهًا لهما
بسوء سيرة وهيب بك في مكة، وأما الحضر من أهل الحجاز فكانوا على رأي
فيصل كما علمت ذلك باختباري الشخصي في أثناء حجي في عهد الثورة، ولأجل
ما كان من الخلاف بين الأخوين في الرأي لم يجمعني الشريف عبد الله بأخيه في
مصر، ولم يطلعه على نبأ جمعية الجامعة العربية، عادا في آخر رمضان أو في
أيام عيد الفطر، وما جاء عيد النحر إلا وقد أعلن فيه سقوط الدولة في نار الحرب،
وما جاء عيد النحر التالي سنة 1323 إلا وأنا أطوف مع الشريف حسين طواف
الإفاضة في البيت الحرام، ثم أخطب بين يديه في مِنى تلك الخطبة السياسية
الحكيمة على أساس الجامعة العربية، وهو يصدقني في كل ما أقول، ولم يلبث أن
قلب الإنكليز رأيه بعد عودتي إلى مصر كما فصلته في المنار، ولم ألق فيصلا في
الحجاز أيضًا، وسأذكر في الفصل التالي خبر تلاقينا في بيروت ثم في دمشق بعد
بيان وجيز للفرق بينه وبين أخيه عبد الله في السياسة، وأذكر حنث الأمير عبد الله
بيمينه للجامعة العربية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) بيع الشفاعة مشروع اخترعه لجمعية الاتحاد والترقي الشيخ عبد العزيز شاويش خلاصته وضع سجلات في المسجد النبوي الشريف يكتب فيها اسم كل من يتبرع بمبلغ من المال لأجل نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ويعطى بذلك صكًّا، فقررت الدولة تنفيذه على أن ينفق منه على تأسيس مدرسة كلية لتعليم المسلمين تعليمًا دينيًّا سياسيًّا لمصلحة الدولة والجمعية.
(2) كان لنا في الحجاز والآستانة وغيرها إخوان يخبروننا بكل ما يهمنا في خدمة الأمة ومنه أن الشريف حسينًا مخالف لمشرب المنار السلفي.(33/555)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الملك نادر خان رحمه الله
أجلنا الكلام في سيرة هذا الملك العظيم إلى الجزء التالي؛ لأن ما جُمِعَ لهذا
الجزء قبله زاد عن صحائفه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/560)
رمضان - 1352هـ
ديسمبر - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مزية هذه الطبعة على الأولى
كان أول ما زدته لهذه الطبعة ما تراه بعد هذه الفاتحة، فصل خاص في
تعريف الوحي والنبوة والرسالة، وعصمة الأنبياء عند المسلمين، ووجه الحاجة إلى
الرسالة وهداية الوحي جعلته في أوله، وهو مكانه اللائق به، وأردت أن أكتب
فصولاً أخرى في بسط المسائل المطوية أو المجملة المختصرة في أثنائه، كأنباء
الغيب في القرآن، وبعض ما فيه من سنن الاجتماع والعمران، ومن المسائل
العلمية التي كانت مجهولة للبشر أو للعرب في ذلك الزمان، ومن مسائل صحة
الأبدان، وأن أجعل كل فصل منها في موضعه اللائق به من الكتاب، وأعززها
بفصل آخر في شهادات علماء الإفرنج الأحرار للإسلام، وللنبي عليه الصلاة
والسلام.
ثم بدا لي أن الزيادات الكثيرة في أثنائه تفسد على الذين يترجمونه عملهم،
وقد علمت قبل البدء بهذه الطبعة أن الترجمة الأوردية قد تمت أو كادت، فعزمت
على أن أجعل هذه الزيادات علاوات ملحقة بالكتاب. وأما الفصل الأول فقد كنت
أرسلته إلى بعض المشتغلين بالترجمة، ولكنني نقحته بعد ذلك وزدت فيه، وإعادة
ترجمته وحده أمر سهل، وزيادة هذه الفاتحة قبله أسهل.
وبدا لي أيضا في أكثر ما أزيده من إيضاح وتفصيل لبعض المسائل، أو
تفسير لبعض الغريب والمبهم أن أجعلها - كالإحالات التي في أثنائه أو التي تتجدد -
كلها حواشي له لا في صلبه، ليسهل إلحاقها بترجمتها قبل طبعها، وأن أرسل
نسخة من هذه الفاتحة والفصل الأول الذي يليها إلى كل من أذنت له بترجمته قبل
إتمام طبع الأصل العربي كله، لكي يتسنى لمن أتموا الترجمة أن يطبعوها بُعَيْد
طبع أصلها.
وما عسى أن يعرض لي في أثناء هذه الطبعة مما لم أذكره في هذه الفاتحة
فسأبينه في مقدمة التصدير، إن شاء الله تعالى.
__________(33/602)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عصمة الأنبياء
إذا كان إرسال الأنبياء إلى البشر لأجل هدايتهم إلى تزكية أنفسهم بما تصلح
به أحوالهم في دنياهم، ويستعدون به لحياة أعلى من هذه الحياة الدنيا في نشأة
أخرى، فلا يتم هذا الغرض ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان هؤلاء الأنبياء أهلا
لأن يقتدى بهم في أعمالهم وسيرتهم، والتزام الشرائع والآداب التي يبلغونها عن
ربهم، ومن ثم قال علماؤنا بوجوب عصمة الأنبياء من المعاصي والرذائل، وبالغ
بعضهم فيها حتى قالوا بعصمتهم من الذنوب الصغائر كالكبائر قبل النبوة وبعدها،
وخص بعضهم العصمة من الصغائر بما كان باعثه الخسة والدناءة.
وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمي بعض كبار
الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد،
والنصارى منهم يجعلون معاصي الأنبياء دليلاً على عقيدتهم وهي أن المسيح
هو المعصوم وحده؛ لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على
الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة له، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم
غيره؛ لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة وثنية مخالفة
لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها.
بيد أن كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم المحرفة في اعتقادنا لا تشهد
لهم برمي جميع أنبيائها بالذنوب فضلا عن المعاصي التي هي أشد من الذنوب،
فإن يوحنا المعمدان (هو يحيى بن زكريا عليهما السلام) لم يوصم بخطيئة قط،
بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح في عصمته، ففي
إنجيل لوقا (65: 1 أنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب،
ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس) .
وفيه (66 كانت يد الرب معه) وقال المسيح فيه: (متى 11: 11 الحق
أقول لكم: إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان) ثم قال
فيه: (18 جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان 19 وجاء ابن
الإنسان يأكل ويشرب فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين
والخطاة) بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وإخوته ولم يسمح
لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما
تراه في آخر الفصل الثاني عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى.
وعبارة لوقا (20: 8 فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجًا يريدون أن
يروك 21 فأجاب وقال لهم: أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها)
نعم إن اخوته لم يكونوا يؤمنون به كما هو مُصَرَّح به في موضع آخر: ولكن
هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء. والله تعالى يوصي بالإحسان
بالوالدين حتى المشركين، ويفضل أم السيد المسيح على نساء العالمين. وإهانة الأم
ذنب في جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة في شرب الخمر ذنب حتى في
الشرائع التي لم تحرمها مطلقًا، وجاء في هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه
أربعين يومًا يجربه ويدعوه إلى عبادته، كما تراه في أول الفصل الرابع من إنجيل
متى. وكذا في غيره من الأناجيل. ونحن نبرئه من كل ذلك.
وشهدت الأناجيل أيضًا بأن يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا وأنه
عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه اليصابات: وكانا كلاهما بارين أمام الله
سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم لوقا (6: 1) وهذه شهادة
بالعصمة التامة.
وهنالك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد
منهم أدنى خطيئة، وآدم عندما ارتكب الخطيئة لم يكن نبيًّا مرسلاً إلى أحد ولا كان
معه قوم يسيئون الاقتداء به، وكان قد نسي النهي عن الأكل من الشجرة، وإنما
كانت مثلا لاستعداد جنس البشر للمعصية كالطاعة، نسيانًا أو عمدًا، ولكون
المعصية تعالج بالتوبة فيغفرها الله تعالى، وقد كان ابناه قابيل وهابيل مثلا لكل من
الاستعدادين، وشهد الكتاب عندهم لهابيل بأنه كان بارًّا لم يرتكب خطيئة، وهو لم
يكن نبيًّا.
جاء القرآن وهو المهيمن على جميع الكتب الإلهية بما لخصناه من الحق في
مسألة آدم وشهد لمن قص علينا خبرهم من أنبياء الله ورسله أنهم كانوا من
الصالحين الذي يُقْتَدَى بهم في البر والتقوى، كقوله في سورتهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا
عَابِدِينَ} (الأنبياء: 73) وقال فيهم بعد ذكر أشهرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) .
وأما قوله لخاتمهم ومكمل هدايتهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ
مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: 1-2) إلخ، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19) فالذنب فيه جاء بأصل معناه اللغوي
المنقول من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة منافية للمصلحة أو لما هو أولى
وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد في الرأي المباح شرعًا كإذن النبي صلى الله عليه وسلم
لمن استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله: {عَفَا
اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة:43) [*]
وإنما العصمة للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم؛ إذ لو عصوه لكان
أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية؛ لأنه أمرهم باتباعهم، وقال في نبينا صلى
الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)
العقل والعلم البشري لا يغنيان عن هداية الرسل:
(فإن قيل) : إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزي في الفطرة البشرية
كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى في روع أفرادها عند إدراكهم، وإن بعض
الحكماء المفكرين قد ارتقوا في معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود
واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرَّر بعضهم
بقاء النفس بعد الموت وخلودها في نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول
الفضائل والتشريع والآداب التي تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع.
(قلت) : نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضي، ويشهده العصر
الحاضر، ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقًا في مصدر كل
منهما، وفي الثقة بصحته، وفي الإذعان لحقيقته، وفي تأثيره في أنفس جميع
طبقات المخاطبين.
فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة وظنون، لا تبلغ من عالم الغيب
إلا أنه موجود مجهول، وهي عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة
مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحتها
يرجحها على هواه وشهواته؛ إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها
تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد؛ لأن النوع البشري بأبى طبعه وغريزته أن
يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله في بشريته، وإن فاقه في علمه وحكمته
وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانًا غيبيًّا عليه بما يملكه من القدرة على النفع
والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون
ونظامه.
وأضرب لهذا مثلاً أنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب
بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلى الله عليه وسلم
ويتبعه وهو في رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبخه،
فاتفق أن كانا في مدينة أصفهان في ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس
خادمه في وقت السحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل،
ثم أيقظه الرئيس في وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد. حتى
إذا قال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله - قال الرئيس لخادمه اسمع، ماذا يقول
المؤذن؟ قال: إنه يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد آن
لي أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمي لا عمل لك غير خدمتي وإنك أشد الناس
إعجابًا بي وإجلالاً وتعظيمًا لي، حتى إنك على هذا كله تخالف أمري في أهون
خدمة أطلبها منك في داخل الدار معتذرًا بشدة البرد - وإن هذا المؤذن الفارسي
يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة، وهي أشد مكان في البلد بردًا، حتى
إذا لاح له الفجر أشاد في آذانه بذكر محمد العربي بعد مرور أربعة قرون ونيف
على بعثته إيمانًا وإذعانًا، وتعبدًا واحتسابًا. فتأمل هذا وتدبره في نفسك يظهر لك
الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة.
فمن أعظم مزايا هداية الوحي الدينية على العلمية الكسبية هو أن جميع
طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسي التعبدي، فبذلك تكون عامة ثابتة لا
مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحًا، والإيمان بها راسخًا، ولذلك
نرى الشعوب التي ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من
دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة في هذا العصر،
وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله في عصر آخر، وهم لا يذعنون في أنفسهم
لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأي عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مشترع
خبير، بل صاروا إلى فوضى في الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال
والأعراض وكذا الدماء، لم يعهد لها في البشر نظير، صارت بها الأمم والدول
عرضة لفتنة في الأرض وفساد كبير.
أكثر البشر يؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفون بالتعليم العصري
يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا في جهلة المتبعين لتقاليد
الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هي من أديانهم في شيء،
بل هي هادمة لأساسها الأعظم، وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة
الأولياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر
الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها، وصار أكثر البشر إما
مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإما كافرين بهم منكرين أن الدين وحي من الله
تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام.
إن الدين الذي ينتمي إليه أكثر شعوب الحضارة في هذا العصر هو النصرانية،
وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، فهو لم يبق
له سلطان روحي إلا في قلوب العوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا
الفصل بأن الشعب الألماني وهو أرقى شعوب الأرض علمًا وفنًّا وحضارة قد ثار
على هذا الدين ثورة جديدة يريد بها هدم أساسه من كتب العهد القديم، وتنقيح تعاليم
العهد الجديد، وجعل ما يبقون منه وطنيًّا ألمانيًّا خاصًّا بالجنس الآري الهندي
الفارسي الأصل، والتبرؤ من كل ما هو سامي عنه، وما أنبياؤهم ورسلهم
ومسيحهم ومعبودهم إلا من الساميين، بل يريدون تقديس شهداء الحرب وعظماء
أسلافهم الألمانيين، وإن هذه إلا وثنية كوثنية اليابانيين تذكي سعير العداوة بينهم
وبين سائر الأوربيين.
فلا سبيل إلى إنقاذ البشر في هذا العصر إلا إثبات الوحي المحمدي الموحد
لإنسانيتهم، المزكي لأنفسهم، المكمل لفطرتهم، الذي فيه السعادة الدنيوية
والأخروية لهم في جملتهم، وقد بينا في هذا الكتاب أن محمدًا رسول الله وخاتم
النبيين، هو النبي المرسل إلى كافة الناس رحمة للعالمين، وأنه هو الذي أكمل الله
به الدين، وأزال العصبيات الجنسية والوطنية، لتوحيد الأخوة الإنسانية، فاتباعه
هو الترياق المجرب لهذه السموم الروحية الاجتماعية القاتلة، راجين أن يفتح الله
تعالى به أبواب الهدى لكل من يعقله ويتدبره من مستقلي الفكر، وطالبي معرفة
الحق، وإصلاح الخلق المعنيين بقول الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ
وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16) ا. هـ.
__________
(*) تراجع المسألة في تفسير هذه الآية من جزء التفسير العاشر ص (464) .(33/609)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج
من زوائد حواشي الطبعة الثانية لكتاب الوحي
ذكرنا في الكلام على عجائب المسيح عليه السلام (معجزاته) من العهد
الجديد أن المنكرين يتأولونها حتى عجيبة إحياء الموتى الثلاثة وأن دونها عجيبة
التينة وزدنا في الطبعة الثانية هاتين الحاشيتين:
(1) وقد نقل مثلها عن بعض صوفية المسلمين والهندوس، فإن كذبوا
النقول القديمة فمنها ما رواه من شاهده من أهل عصرنا كما ترى في الحاشية التالية
لهذه وهي:
(2) خلاصة عجيبة التينة أنه جاع وهو خارج من بيت عنيا إلى أورشليم
مع تلاميذه فرأى شجرة تين مورقة، فجاءها لعله يجد فيها شيئًا يأكله فلم يجد فيها
شيئًا؛ لأنه لم يكن وقت التين (فلعنها قائلاً لها: لا يأكل أحد منك ثمرًا بعد إلى
الأبد) ولما رجعوا من أورشليم رأوا التينة قد يبست فقال له بطرس: يا سيدي
انظر التينة التي لعنتها قد يبست إلخ مرقس 11: 11 - 14 فأجابهم بما خلاصته أن
هذا آية الإيمان وأن كل مؤمن يقول لأي شيء (كن) وهو يؤمن أنه يكون، فإنه
يكون ولو كان أمرًا للجبل أن يزول من مكانه.
وفي هذه العجيبة نظر من ثلاث جهات (الأولى) أن منكر الآيات يقول: إنه
يجوز أن تكون التينة يبست بسبب مادي في أثناء وجود المسيح وتلاميذه في
أورشليم.
(الثانية) أن الروحيين من فلاسفة الهندوس وغيرهم يقولون: إن كل من
كان روحانيًّا قوي الإرادة يكون له مثل هذا التأثير فهو من خواص النفس، وهذا
بمعنى قول المسيح لهم في تأثير الإيمان، وهو ينافي أن يكون بتأييد من الله خارق
للعادات الكسبية الدالة على أن من جرت على يده على الحق.
(الثالثة) أن الناس ينقلون مثل هذا في كل زمان، ومن ذلك ما نقلته جريدة
المقطم في عددها الذي صدر بتاريخ 4 من رمضان من عامنا هذا الموافق 21 من
ديسمبر سنة 1933 مترجمًا عن كتاب لطبيب اسمه ألكسندر كانن في بلدية لندن له
منصب معروف في مستشفى الأمراض النفسية أنه ألف كتابًا في الشهر الماضي
اسمه (العالم غير المنظور) تكلم فيه عن التنويم المغناطيسي والسحر الأسود
وغيرهما من (علوم الغيب) ذكر فيه رحلته إلى الهند والتبت وما رأى فيها من
المناظر المدهشة (ومنها شجرة تين تذبل بأمر رجل وجثة فقدت الحياة مدة سبع
سنوات تعاد إليها الحياة)
ثم نقل عن هذا الكتاب في تفصيل عجيبتَيْ إماتة التينة وإحياء الإنسان الميت
نبأ قاض إنكليزي اسمه مكردي أنذره بأنه سيقتل قبل مرور سبع سنين برصاص
بندقة تطلق عليه بأمره وكان الأمر كذلك، وأن المؤلف سمع هذا الخبر من (اللاما)
أي كاهن التبت الأكبر، ثم قال المقطم ما نصه بعد العنوان:
إماتة الصوفي الهندي للتينة
كالمسيح
(ويتكلم الطبيب في كتابه عن صديقه (البروفسور....) ويقول عنه: إنه
يزور سريره كل ليلة وعمره مائة سنة، ولكن منظره منظر رجل ابن أربعين. وقد
صحبه مرة إلى شجرة تين فخاطبها صاحبها من بعد قائلا: لقد أحسنت وقاومت
عواصف الحياة وسليت نفسي وشفيتها. وقد آن وقت رحيلك عن عالم الغرور
والعدم هذا، فموتي الآن ولا تعودي إلى الحياة مرة أخرى. قال الطبيب: فذبلت
التينة حالاً وسمح لي بفحصها أنا وغيري لنتأكد موتها.
وقص حكاية الرجل الذي أعيدت حياته إليه فقال:
إحياء اللاما كاهن التبت للميت
(كان اللاما الكبير على عرشه فدخل عليه جوق من الرهبان يحملون المشاعل
فجلسوا في حلقة واسعة وهم يتمتمون أغنية. فصلى اللاما وفي تلك الدقيقة دخل
ثمانية يحملون تابوتًا من حجر فأنزلوه ورفعوا غطاءه فرأينا شخصًا منظره منظر
ميت. فسمح لي بفحصه فلم أشعر بنبضه ولا بخفقان قلبه وكان باردًا كالحجر
وعيناه عينا رجل انقضى عليه يوم كامل وهو ميت ووضعت مرآة على فمه وأنفه
فلم يظهر عليها أثر تنفسه. ثم لفظ اللاما كلمات فرأينا الميت يفتح عينيه، ثم جلس
في تابوته فساعده راهبان على الوقوف والمشي فدنا من اللاما وانحنى وعاد إلى
نعشه وهو لا يزحزح بصره عن (أعظم الحكماء) ثم لم تمض دقائق قليلة حتى
عاد ولا حياة فيه. فلم أدر أكان ميتًا حقيقة أم في غيبوبة. فقرأ اللاما أفكاري فقال
لي: إن الرجل كان ميتًا مدة سبع سنوات أخرى. وإن عمره مئات من السنين وقد
يحيا إلى الأبد إذا صح أن نعد هذا حياة) .
(يقول محمد رشيد) : وفي هذا الكتاب عجائب أخرى ذكر بعضها في
المقطم وأن المجلس البلدي عزله من وظيفته عقابًا له عليه. وأنا قد سمعت في
صغري حكاية مشهورة عند أهل بلدنا عن رجل معتقد اسمه الشيخ محمد العصافيري
أنه نظر إلى شجرة تين، وقال: مسكينة مسكينة تموت، فلم تلبث أن عراها
الذبول حتى يبست.
وجملة القول أن حكايات العجائب كثيرة في كل زمان وسيأتي تحقيق القول
فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/615)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نصيحة إسلامية خاصة عامة [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رشيد رضا منشئ منار الإسلام، ومفسر القرآن الحكيم بالبيان الذي
يفهمه الخواص والعوام، والمعارف التي يحتاج إليها جميع الناس في هذا الزمان،
ويظهر به إعجازه العلمي وتقوم به حجته على العالمين، بإثبات نبوة محمد خاتم
النبيين، وعموم بعثته وبقائها إلى يوم الدين.
إلى إخوانه مسلمي إندونيسية الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فقد سألني ولدكم النجيب الأستاذ محمد فريد معروف أن أحمله إليكم
نصيحة يبلغكم إياها بلسانه وقلمه، وهو عائد إليكم بعد طلبه للعلم في مصر وقد نال
شهادتيْ العالمية والتخصص من الجامع الأزهر، واتخذ لنفسه كناشة يحفظ فيها
نصائح كثيرة بخطوط من يعرف من المشهورين بالعلم والرأي، وطالب النصيحة
لا يرد طلبه؛ لأن مرشد الخلق الأعظم، محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، قد قال:
(الدين النصيحة) والحديث مشهور، رواه مسلم في صحيحه وله تتمة، وإن
بذل النصائح سهل، ولعله يحمل إليكم منها جل ما تحتاجون إليه في أمور الدين
والدنيا، ولكن النصائح العامة الإجمالية للشعوب قلما تحملهم على العمل، بل قلما
تبين لهم طريقه المُعَبَّد، فالوصية بالتقوى أخصر الوصايا وأجمعها للمعاني في
مصالح الأفراد والبيوت (العائلات) والأمة والدولة والاجتماع البشري في الدين
والدنيا والمال والسياسة والحرب كما يعلم ذلك من استعمالها في القرآن الحكيم،
وإننا نسمعها مجملة في جميع خطب الجمعة ونظل على ما نحن عليه كأننا لم
نسمعها.
إن أخاكم هذا قد تصدى لنصيحة الناس من سن الصبا واستقام عليها من سن
الشباب إلى الشيخوخة، ويرجو أن يلقى ربه عليها، وقد ثبت عنده بالتجارب
الكثيرة أن النصيحة المؤثرة المفيدة للمستعد لها، وهي ما كانت إرشادًا إلى عمل
معين مستطاع، في مصلحة عامة أو خاصة مسلمة لا ريب فيها ولا نزاع، وإنني
أذكر لكم من هذا النوع قليلاً يهديكم إلى كثير بعد مقدمة وجيزة فأقول:
إنكم تعلمون أن الإسلام الذي مَنَّ الله تعالى علينا به ببعثة خاتم النبيين صلى
الله عليه وسلم دين هداية روحية عقلية، ورابطة إنسانية عامة، وحضارة جامعة
بين سيادة الدنيا وسعادة الآخرة، وأن سلفنا قد نالوا بها ما كانوا به سادة العالم
وأساتذة الأمم، ثم فقدنا جل الميراث الذي تركوه لنا من علم وعمل، وهدى وثروة
وملك، بإعراضنا عن النور الذي استضاءوا به، والروح الذي أحياهم الله به،
وهو الذي بينه لنا بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ
وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) وقوله: {فَالَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) .
وتعلمون الآن أننا قد ظللنا عدة قرون لا نشعر بما أصابنا، وقد بدأنا نستيقظ
فنرى أناسًا يدعوننا إلى ترك الإسلام، دين الله الحق الموافق للعقل والفطرة، إلى
دينهم الباطل ببداهة العقل، وآخرين يدعوننا باسم ديننا إلى اتباع نبي غير نبينا،
ووحي غير قرآننا، ونرى العاملين منا في خلاف وشقاق، لا عاقبة له إلا الخيبة
والخذلان (والعياذ بالله) .
فأنا أوصيكم الآن بوضع أساس متين ثابت للإصلاح الإسلامي العام،
والتجديد الذي تكونون بالبناء عليه ركنًا من أركان الحياة الإسلامية الصحيحة التي
يرجى أن تهتدي بها شعوب الحضارة العصرية كلها كما بينت ذلك بالبراهين
الساطعة في الكتاب الجديد الذي أصدرته في يوم ذِكْرَى المولد النبوي الشريف من
شهرنا هذا في عامنا هذا باسم:
الوحي المحمدي
ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب الحضارة إلى الإسلام
دين الأخوة الإنسانية والسلام
وإني أهدي جمعياتكم الإسلامية وصحفكم نسخًا منه لنرى رأيها في المساعدة
على تتميم نشره باللغات المختلفة، أسوة بسائر الجماعات والمؤتمرات الإسلامية.
وأما الأساس الذي أقترحه عليكم للإصلاح الإسلامي فإني أذكره هنا بالإيجاز
مستعدًّا لبيانه التفصيلي بعد قبوله والشروع فيه وهو:
اقتراح صاحب المنار على الجمعيات الإسلامية
في
إندونيسية وغيرها
تأليف جماعة من رؤساء الجمعيات الإسلامية على اختلاف أنواعها والعاملين
من أعضائها، ومن علماء الدين العارفين بحال الزمان وأهله ومعارفه في الجملة
وغيرهم من الزعماء وعقلاء الأغنياء.
باسم جماعة الوحدة الإسلامية
عنوانها
أركان النجاح لكل مشروع عام: الإخلاص والتقوى والثبات والنظام
تنظر هذه الجماعة في جميع المصالح الإسلامية العامة في الأمة وتقرر ما
يجب عليها عمله فيها، وتسعى لتنفيذه من طرقه المشروعة، وأول ما يجب عليها
البدء به ما يأتي:
(الأول) تكوين رأس مال ثابت لهذه المصالح، لا يقوم عمل ويثبت إلا
بالمال، وأوسع أبواب هذا المال عند المسلمين الصدقات من زكاة محدودة مفروضة،
وصدقات مندوبة، ويجب وضع نظام دقيق لجمعها في هذا الزمان يبنى على
قواعد الشرع وأحكامه في النصاب والحول والمقدار والمستحقين للزكاة، والتشاور
في سهام الغارمين والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله وابن السبيل، ويراجع الواضعون
لهذا النظام ما كتبناه في تفسير آية الصدقات من الجزء العاشر من تفسير المنار،
ويجب أن يكون النظام مبينًا لما تطمئن به قلوب الناس وتثق أتم الثقة بأن الأموال
تحفظ وتصرف في مصارفها الشرعية.
(الثاني) النظر في توحيد التربية الإسلامية والتعليم الديني والمدني في
البلاد من نواحيه كلها - النظام والعلوم والمناهج والكتب والمعلمين.
(الثالث) النظر فيما ينشر بين المسلمين من دعوتهم إلى الإلحاد والإباحة،
أو تبديل دينهم أو الابتداع فيه، وشره ما يعد كفرًا وارتدادًا عنه بإجماع سلف الأمة
وأئمتها وفقهائها كالإيمان بنبي بعد محمد رسول الله وخاتم النبيين، ووحي بعد
الوحي الذي أنزل عليه، ويليه كل بدعة مخالفة لإجماع المسلمين وما كانوا عليه في
الصدر الأول من أمر الدين لا من أمور الدنيا، فهذه محل اجتهاد يرجع إلى
المصلحة والمنفعة وضدهما، والسعي لتنفيذ ما تقرره في ذلك.
(الرابع) النظر في وسائل تعميم لغة القرآن (1) لإحياء هدايته التي لا
تغني عنها، بل لا تغني غناءها جميع كتب الدين والأدب والحكمة و (2) لأجل
التمكن من نشر دعوته والدفاع عنه و (3) لإعادة الوحدة الإسلامية التي يعتصم
بها أربعمائة مليون مسلم الآن، وهي قوة يمكن بها توحيد الشرق كله من وجوه
كثيرة، وهذه اللغة مفروضة على المسلمين دينًا لما بيناه بالأدلة في المنار وفي
تفسيره، وقد جمع بعضه في رسالة خاصة. وأول من صرَّح من أئمة الأمصار
بوجوبها هو الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته المشهورة ولم يخالفه فيها أحد.
وقد ألممنا بالمسألة في كتاب الوحي المحمدي، فراجعوا هذا وذاك.
(الخامس) أن تتولى هذه الجماعة أمر التواصل والتعاون مع الجماعات
الإسلامية الموافقة لها في شيء من أعمالها، والمؤتمرات الإسلامية التي تعقد آنًا
بعد آن في الأقطار الإسلامية، ولا سيما مؤتمر القدس الشريف.
(السادس) أن تعنى بإصلاح ذات البين في كل ما يقع من الشقاق بين
الجماعات الإسلامية أو الزعماء في البلاد مع موادة الجميع.
(السابع) أن تعنى بمسألة الدعاية والنشر لما تقرره وتسعى إليه، وإن
كاتب هذه النصيحة وإخوانه دعاة التجديد والإصلاح مستعدون لمساعدة هذه الجماعة
في كل ما تطلبه منهم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... من أخيكم
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(*) أي سببها خاص وموضوعها عام لجميع المسلمين، وكنت عازمًا على ترك نشرها إلى أن ينشرها من حملها إلى إندونيسية، ولكن رأيت بعض إخوانه يخشى أن تصادر الحكومة الهولندية كناشته.(33/617)
الكاتب: ثابت بن عبد الله الباقي
__________
انقلاب التركستان الشرقي
(رسالة للمنار بقلم أحد أركان الثورة المجاهد ابن صديقنا الأستاذ العالم
العامل الشيخ ثابت عبد الباقي أيده الله، وأرسل معها كتابًا خاصًّا لنا تأكيدًا لكتاب
قبله اقترح علينا فيه وضع قانون أساسي إسلامي لحكومتهم الجديدة وسنفعل إن شاء
الله تعالى) .
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده ونصلي على حبيبه المصطفى، إن الله يحق الحق ويبطل الباطل ولو
كره الكافرون
إلى الأستاذ العالم الجليل والفاضل النبيل رئيس العلماء الشيخ السيد محمد
رشيد رضا أمد الله بحياته لنا ولجميع المسلمين آمين.
أهدي من جواهر التحيات وزواهر التسليمات، ثم أخبر إلى عتبتكم العلية أن
وطننا المحترم قد كان أسيرًا مقيدًا بقيود الذل وأغلال الهوان منذ ثمان وخمسين سنة
في سجن ظلمة الكفار الأشرار، وكانت ظلمة الكافرين متصرفين في أهالي
التركستان الشرقي كتصرف المولى في مواليه، بل كانوا عندهم أذل من كل ذليل،
وأهون من كل مهين، كانوا مبذرين بذور صنوف المظالم، وفنون المفاسد على
أهالي التركستان الشرقي حتى لم يبق في أيديهم لأجل ظلم الكفار شيء يملكونه
بأنفسهم، كأنه كان كل أهالي التركستان الشرقي عبيدًا لهم، وأموالهم أموالا لهم
يتصرفون فيها كيف يشاءون، يغصبون أموالهم تارة، ويأخذون البأج [1] والخراج
فوق طاقتهم أخرى، ويضربون أعيان أهاليه فضلا عن الأصاغر إن تأخر مرامهم
تأخرًا قليلا، ويشجون رءوسهم بالضرب، ويشهرون الفقراء في الأسواق في
القرى والأمصار لأجل التأخير القليل فكيف إذا كان التأخير مديدًا، وحينئذ يأخذ
أحدهم الفقراء مغلولين ويحبسهم في السجن.
وزادت هذه المظالم في المدة المذكورة خصوصًا في زمن (جينك جانكجونك
الذي كان هو والي بلدة (أورومشي) وطغى طغيانًا عظيمًا حتى ظلم أهالي الوطن
بما لا يطيقونه أصلاً، فخرج من بين أهالي التركستان الشرقي بعد ما ذاقوا من
رءوس البلايا ولم يطيقوا إلى سمومها [2] رئيس الانقلاب البطل المقدام الحاج
الغازي محمد نياز من بلدة قمل سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف، وجاهد الكفار
في سبيل الله بخلوص النية وبذل في سبيله الروح والمال والأقارب، لأجل إنقاذ
الوطن العزيز من أيدي الظالمين، وتخليص المسلمين المأمورين، وترويج الملة
الإسلامية، وإعلاء كلمة الله العليا حتى أنقذ أهالي بلدة قمل من يد الكفار في مدة
سنتين ونصف سنة، وقتل بنصرة الله ألوفًا من ظلمة الكفار وليس له في هذه المدة
معين إلا الله، وليس من طرق الفرقة التونكانية [3] أحد فضلا أن يكونوا معينين.
فلما فرغ الرئيس الغازي من مقاتلة الكفار الذين كانوا أعداء له ولجميع
المسلمين في بلدة قمل وفتحها بنصر الله جاء الخبر من طرف بلدة طرفان في
خامس عشر من رمضان سنة إحدى وخمسين وثلثمائة وألف أننا قد أهلكنا كفار
طرفان وأخذناها بأيدينا سالمة غانمة فتبارك بعضهم بعضًا، وإلى هذه المدة كانت
الفرقة التونكانية نائمين في دورهم، غير خارجين من قصورهم.
فلما شاع خبر غلبة الغازي المذكور على الكفار الكثيرة والحال أن ليس في يد
عساكره إلا المناجل والمعاول، وسيوف قليلة، وبنادق غير معتبرة خرج منهم
البعض ليرى هل الخبر صحيح أو لا؟ فبعد ما عاين حقيقة الحال رجع إلى كبيره
وأخبر الخبر فأرسل فريقًا من عساكره فجاءوا وانضموا إلى عساكر الرئيس الغازي
المذكور قائلين بأننا نعينكم في فتح البلاد وقتل الكفار، فأجاب الرئيس بقوله:
(خير) وكان عددهم ستة وثلاثين. وبعد ما خرجوا اجتمع عساكر الغازي المذكور
مع أهالي طرفان وساروا إلى بلدة قراشهر وفتحوها بنصر الله العظيم في السابع
والعشرين من رمضان من السنة المذكورة وأخذوا الغنائم.
ثم فتحوا بلدة كورلة في اليوم الأول من شوال، ودخلت بلدة بوكور أيضًا
تحت تصرف الغازي المذكور وكانت قد فتحت بسعي رجل عظيم من أهلها، وكان
هذا الرجل المتدين بعد فتحه البلدة قد جمع جميع الغنائم في مكان وانتظر إلى رئيس
يجيء من طرف قراشهر، وكان أمير أهالي قراشهر في تلك الأيام رجلاً من
التونكان كان أمَّره الغازي رجاء منه شفقة على أهلها، وبعد أيام جاء الأمير
المنتظر من التونكان ورأى الغنائم قد جمعت فأرسلها كلها إلى بيته في قراشهر لشدة
حرصه وعدم خوفه من الله ولم يفوض شيئًا منها إلى الغازي المذكور ثم قتل الفاتح
المذكور خوفًا من إخباره (أي إيصاله) خبر الغنائم إلى الغازي المذكور، قتله
بغير إثم وخان الله ورسوله والمؤمنين.
فلما سمع خبر الفتوحات أخذ يتحرك كل الناس المظلومين في كل البلاد
والقرى لمقاتلة الكفار وإنقاذ أنفسهم من يد الظلمة، ولكن انتظروا إلى مجيء رئيس
يرئسونه ويقاتلون وراءه الكفار.
وإلى هذه الأيام كانت الفرقة المذكورة المعدودة من التونكان قد تفرقت إلى
جهات شتى مثل بلاد قراشهر وطرفان وكورلة وغيرها وامتنعوا من الوقوف بين
يدي الغازي المذكور والخروج بإذنه فخرج بعضهم إلى طرف كشار، والحال أنه لا
يرضي الغازي المذكور خروجهم هذا، والغازي وإن لم يرض في الحقيقة لكنه لم
يتكلم لهم لأجل أنهم يقاتلون الكفار كيفما كان ويعدمون أعداءه ولم يشعر بما في
أنفسهم من الفسق والفساد والبغي على أهل كل بلدة دخلوها.
واجتمع من أهالي بلدة كشار إلى التونكانات الجائية رجال كثيرة وفتوحها في
الرابع والعشرين من شوال في سنة 1351 واتخذت العساكر التونكانية جميع الغنائم
لأنفسهم، وفعلوا ما فعلوا من الفسق والخيانة فيها، وكان سير الغازي المذكور بعد
فتح بلدة طرفان عساكر كثيرة إلى بلدة أورومشي وحاصرها محاصرة شديدة، وفي
أثناء المحاصرة فروا إلى أورومشي مع آلاف من جنده إلى طرف كوجونك وجلس
في مقامه واحد من أمرائه العسكرية، وأعلن الصلح فلم يجب الغازي له، بل شدد
المحاصرة.
ثم سير بعض عساكره إلى فتح بلاد موري جيطي كوجونك وكانت هذه البلاد
الثلاثة تحت تصرف الكفار، وكان أخرج أيضًا رئيس التونكان من عساكره إلى
فتح تلك البلاد فاجتمع الفريقان وجاهدوا الكفار أشد مجاهدة حتى فتحوها معًا بعد
خوضهم بحار الحرب، فلما جمعت الغنائم أخذت الفرقة التونكانية مجموع ما
غنموها من الكفار من الآلات الحربية والبنادق وغيرها من الخزائن وارتحلوا بها
في ليلة إلى رئيسهم، ولم يعطوا عساكر الغازي شيئًا من البنادق والغنائم، وخانوا
لله ولرسوله وللمؤمنين ولم يقسموه بحكم الكتاب والسنة، فبعد ما فعلوا ما هو خارج
من الشريعة قالوا لعساكر الغازي: نحن لا نخرج إلى غزاة أورومشي فالآن لا بد
عليكم أن تحاربوا أنتم فقط كفار أورومشي وتفتحوها بأنفسكم بالآلات التي في أيديكم،
قالوا هذا الكلام من غير استحياء.
هلموا يا إخواني المسلمين، هل هذا شعار الإسلام؟ أهو حكم الشريعة الغراء؟
أم هو طريق الإنسانية؟ أم هو الإنسانية؟ كلا ثم كلا!
فلما رأى الغازي ما جرى من خياناتهم في تلك البلاد الثلاثة وسمع ما فعلوه
من المظالم والبغي والفساد في البلاد التي فتحوها تيقن أنه لا يمكن الاتفاق معهم
وأن الرئيس الغازي وإن صبر على ما فعلوه لكن لا يمكنه اجتماع الكلم؛ لأنهم
منافقون خائنون سلكوا طريق الهوى ونبذوا كتاب الله وراءهم ظهريًّا. وإلا فكيف
يُجَوِّزُ مسلمٌ موحدٌ معاداةَ المسلمين ومداراة الكفار لا يجوزه قط أصلاً. وأيضًا الفرقة
التونكانية كلما دخلوا بحر الحرب انضموا على الفور إلى الخطا، واتخذوهم أبًّا
وأمًّا ورموا نحو المسلمين وجرعوا كؤوس المنايا إلى العساكر الإسلامية كما جرعوا
في بلدة ياركند من قبل، ويصبون الآن في بلدة كاشغر على أهاليها من صنوف
البلايا والمحن ما لم تره العيون ولم تسمعه الآذان، بأنهم يغصبون أموال
المسلمين ويقتلونهم ويحرقون بيوتهم ويخربون ديارهم.
هذه المفاسد التي ذكرتها هي واحد من ألف من المظالم التي جرت بيد
التونكانات من قبل، وفي الجريان الآن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (يوسف:
21) وهو على ما نقول وكيل، والسلام.
15 رجب 1352 ... ... ... ... ... ... رئيس المحكمة الاستقلالية
... ... ... ... ... ... ... ... الشيخ ثابت بن عبد الباقي
__________
(1) المنار: البأج بالهمز الضريبة تؤخذ على الغنم أو المواشي والطريقة المستوية في العطاء وتقال بألف لينة وجمعها أبواج.
(2) كذا في الأصل ولعله سقط منه شيء ورئيس الانقلاب فاعل خرج.
(3) المنار: الفرقة التونكانية جماعة مسلمي الصين الأصليين لم يساعدوا إخوانهم مسلمي تركستان؛ لأنهم يرجحون الوطنية على الأخوة الإسلامية ويرجحون منافعهم الشخصية على الوطنية لفساد
أخلاقهم.(33/621)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خسارة الأفغان والإسلام بفقد الملك الهمام
محمد نادر خان
الشعب الأفغاني من أعظم الشعوب الإسلامية استعدادًا لتجديد مجد الإسلام
وحضارته في الشرق لما هو ممتاز به من الشجاعة والبسالة والتدين وغريزة
الاستقلال ومقت التدخل الأجنبي، وخلو بلاده من الدخلاء الخونة صنائع الإفرنج
في الشرق، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون بما ينفثونه فيها من سموم
الإلحاد والفسق باسم الحضارة والمدنية، ولكن دب إليهم دبيب هذه السموم من
عاصمة الدولة العثمانية أو مدارسها، ومن تقليد بعض شبان الأفغانيين لرجالها،
وافتتانهم بالتفرنج الذي أفضى إلى استواء أمان الله خان على عرش ملكها، ووجد
من البطانة والوزراء والأعوان ما جرأه على محاولة إفساد أعظم قوة وأشرف غريزة
في هذا الشعب العزيز الكريم، ألا وهي قوة التعصب في دينه المبين، هذه القوة
التي هو أحوج إليها في عهد الحضارة العصرية التي تمهدت الأسباب لدخولها
بجميع مفاسدها فيه، من كفر تعطيل بلشفي من جهة، وإلحاد إباحة من جهة، وما
في كل منهما من تهتك النساء، واستباحة الأعراض، والانغماس في الشهوات،
والتفاني في حب الزينة والبذخ، والسرف في الترف، وغير ذلك مما يفضي إلى
تدخل النفوذ الأجنبي من مالي فسياسي فعسكري، كما وقع في جميع ممالك الشرق
الأدنى والأوسط والأقصى، إلا اليابان التي انفردت دون غيرها باتباع الحكمة فيما
اقتبسته من أوربة من العلوم والفنون الخاصة بالثروة وينابيعها، والقوة الحربية
وآلاتها، مع المحافظة التامة على دينها وآدابها وتشريعها.
كان من قدر الله أن أسرف أمان الله خان في التفرنج ومفاسده إسرافًا لا يطيقه
مزاج هذا الشعب الديني والقومي، فثار عليه ثورة أخرجته من البلاد مهزومًا
مذءومًا مذمومًا مدحورًا، أمام زعيم للثورة من أحقر أهل البلاد وأرذلهم وأسفلهم،
ثم كان من لطفه تعالى به أن قيَّض له أفضل رجال بيت الإمارة والملك (محمد
نادر خان) فقضى على الثورة ونكَّل بالثائر الحقير الشرير، وطهَّر البلاد، وأمَّن
العباد، ونهض بها نهضة الآساد، فأجمع الشعب على مبايعته بالملك فسار بسياسته
سيرة عمرية في العدل والفضل والمجد والقوة، والقيام بشئون الدين والدولة، وفي
مقدمتها تنظيم القوة العسكرية، ونشر العلوم والمعارف الدينية والمدنية، وتفجير
ينابيع الثورة والنهوض بأعمال العمران العامة من تعبيد الطرق وبناء الجسور
والمدارس وغير ذلك.
لقد قويت آمال عقلاء المسلمين في دولة الأفغان وشعبها وبلادها في عهد
الملك نادر خان تغمده الله تعالى برحمته ولا سيما مسلمي الهند وإن كان بعض
الملاحدة من كتابها لا يزالون كغيرهم يحنون إلى أمان الله خان وتفرنجه ويفضلونه
بزعم أنه كان عدوًّا للإنكليز، وأن نادر خان كان مسالمًا لهم، وهذا الزعم يدل على
جهلهم بالسياسة وأنهم لا يزالون فيها كالأطفال أو العوام، فالدولة الأفغانية في طور
تأسيس وتكوين فالسياسة المثلى فيها مسالمة جميع الدول، ولا سيما جارتيها
القويتين الإنكليز في الهند وروسية.
علق قلبي حب الشعب الأفغاني منذ أشرق عليه نور الحكمة والإصلاح من
تلك الشمس العلوية المحمدية التي بزغت من بلاده بظهور السيد جمال الدين فيها،
ثم علق قلبي حب الملك محمد نادر خان بما وفقه الله تعالى له من تطهير تلك البلاد
من فساد أمان الله خان، وغذاه وزيره المفوض بمصر محمد صادق المجددي الذي
هو خير مثل له في الجمع بين الدين والعلم والعمل الصالح للدين والدنيا، وإن ما
حدث أخيرًا في تركستان الشرقية من تأسيس دولة إسلامية فيها قد أنبت في أرض
ذلك الحب الخصبة أملاً قويًّا باتحادها بدولة الأفغان، وقرب تجديد مجد الإسلام في
الشرق الأوسط والأقصى وبلغ من قوة أملي بسياسة هذا الملك أن كاشفت وزيره
الصادق المفوض هنا بعزمي على كتابة تقرير في إصلاح دولته هنا ليرفعه إلى
جلالته وضعت النقط الأساسية له، ولم نلبث أن فجأنا البرق بما فجعنا من نبأ
اغتياله ونشرناه في الجزء السادس على أن نعود إلى الكلام في هذه الفجيعة
والمسألة الأفغانية.
وقد رأيت أن أنشر هنا مقالة لعالم هندي كبير وأستاذ شهير نشرت في جريدة
التيمس الإنكليزية، وترجمت بالعربية لجريدة السياسة المصرية وهذه ترجمتها:
تراث نادر شاه
عن التيمس للسير سيد مسعود نائب عميد جامعة عليكرة الإسلامية بالهند
إن المأساة التي وقعت في كابل يوم 8 نوفمبر الماضي (ت 2 سنة 1933)
قد لفت البلاد برمتها في ثياب الحداد؛ لأن البلاد لم تفقد بقتل الملك نادر شاه ملكًا
صالحًا فحسب، بل فقدت أيضًا أكثر زعمائها استحقاقًا لثقتها، ولقد كانت لي مقابلة
مع الملك الراحل في كابل قبيل وفاته ببضعة أيام، فاعتبرته -إذ ذاك- أعظم الحكام
المسلمين في العالم الإسلامي اليوم.
ولقد تداول على أفغانستان ملوك كثيرون كان بعضهم مرهوبًا، وكان بعضهم
مرغوبًا ومحترمًا، ولكنني أرتاب في أن يكون أحدهم اجتمع له حب الكافة
واحترامهم كما اجتمعا للملك نادر شاه؛ إذ إنه ظهر على المرسح في وقت كانت تئن
فيه البلاد تحت طغيان المغتصب باجي سقا، وكان يتهددها خطر تفكك الوحدة
السياسية التي يتوقف عليها وجودها كمملكة مستقلة، فاستطاع أن يضع حدًّا
لمنافسات القبائل فيما بينها، وسارع إلى جمع جيش غير منظم ولا تام الأهبة أنزل
به المغتصب عن العرش، وهيأ ذمته أن تستعيد كرامتها التي فقدتها لما رأت عرش
أفغانستان يجلس عليه جاهل متعصب من أصل وضيع.
ولعل المشاق التي احتملها الملك نادر شاه خلال حملته على باجي سقا في
وقت كان فيه هو نفسه ضعيفًا واهن القوى، هذه المشاهد قد ملكت ألباب مواطنيه
المقاتلين، كذلك رفضه قبول العرش الذي عرض عليه ثلاث مرات جعل القوم
يتبينون أنهم اهتدوا أخيرًا إلى رجل كانت رغبته الوحيدة أن يكون نافعًا لبلاده القلقة.
وكان الملك نادر شاه خلال الحملة كلما رجاه شيوخ القبائل أو أتباعه الآخرون
في أن يعرب عن نفسه صراحة يجيب إجابة لا تتغير، وهو أن واجبهم الضروري
أمام الأمة أن يطردوا الغاصب ثم ينظروا في أن يولوا عليهم ملكًا من تختاره
الجمعية الوطنية بالإجماع. على أن الهزائم التي أوقعها به جيش باجي سقا ما
جعلته يومًا يفقد أمله؛ لأنه كان رجلاً مؤمنًا بالله يعلم أنه يقاتل في سبيل قضية هي
حق فهو لهذا سيفوز في النهاية.
وفي أثناء السنوات الأربع التي تولى فيها الملك في كابل وفق إلى إعادة
السلام والوحدة في إرجاء البلاد. وأذكر أنني حضرت حفلة كبيرة وقف يخطب فيها
أحد الزعماء فصرح بأن أفغانستان قد أصبحت الآن بفضل ملكها الكبير القلب بلادًا
متحدة فلم يعد فيها خلاف بين الشيوخ والشبان، والذي يدل على مبلغ نجاح نادر
شاه في نشر الأمن في ربوع البلاد أن موته لم يحدث اضطرابًا في البلاد خلافًا لما
هو معروف من قبل، بل أجمع الكل على اختيار ولده وهو شاب في التاسعة عشرة [1]
من عمره خلفًا له فبايعته كل القبائل ذات الخطر.
وتعود بي الذاكرة وأنا أكتب هذا إلى صلاة الجمعة التي أديتها مع الملك نادر
شاه يوم 27 أكتوبر الماضي في المسجد الجامع بكابل، وإن أنس لا أنسى نظرة
الإخلاص والإعجاب في عيون الجمهور وهم يشاهدون ملكهم يسير متمهلاً في
صحن المسجد؛ لأنني بصفتي شرقيًّا عرفت هذه النظرة الخاشعة من الإخلاص
وشعرت ألا شيء يمكن أن يكون أصدق منها، ولا تزال ترن في أذني صيحات
الهتاف بحياة الملك التي ملأت الجو عقب صلاة الجمعة، فلما التفت الملك ليودعني
كانت الدموع تترقرق في عينيه. وكان هذا آخر العهد بيننا، فإنه مع الأسف قد
عجلت به طلقات ذلك الشاب المفتون الذي لم يلحقه منه أذى.
وكان الملك قبل وفاته مشغولاً بأمرين يحصر فيهما اهتمامه وهما: (1)
كيف ينظم ديوان التعليم و (2) كيف ينمي الموارد المعدنية لمملكته - فيما يتعلق
بمسألة التعليم أعطى للأمة القصر العظيم الذي شيده الملك أمان الله خان في دار
الأمان ليكون جامعة حديثة، وقرر الملك نادر شاه أن يبدأ في جامعة كابل بافتتاح
الكليات التي تدرس المواضيع العلمية مثل الطب والهندسة والزراعة، وقد نظمت
فعلا كلية الطب، وكان رحمه الله لا يميل إلى تشجيع العلوم النظرية مثل الفلسفة؛
لأنه رأى ظروف البلاد تجعل من مثل هذه العلوم ترفًا، كذلك كان في نيته أن
يستغل شلالات الماء المهمة في أفغانستان لتوليد الكهرباء التي تستخدم في المصالح
الصناعية.
وكان الملك ينوي في سبيل ترقية الموارد المعدنية في مملكته أن يأمر بعمل
مساحة جيولوجية للبلاد، ثم ينظم شركات تعمل تحت إشراف خبراء يستخدمهم
وكان كذلك يفكر في إنشاء طرق معبدة تم منها في حياته فعلا الطريق المؤدي إلى
الحدود الروسية، وحينما قتل الملك في كابول كان رئيس وزارته ووزير خارجيته
بعيدين عن العاصمة يتعهدان هذا الطريق قبل افتتاحه للمرور وينتظر أن يكون معدًّا
في السنة القادمة الطريق الآخر الموصل من كابول إلى بشاوار ومتى تم تنقص
المسافة بين المدينتين ثلاثين ميلاً.
ومن حسن حظ أفغانستان أن الرجال القابضين على إدارتها الآن وهي في
مفترق الطرق هم رجال ذوو مقدرة مخلصون في مقاصدهم يثق فيهم الشعب لحبهم
لبلادهم، فالسردار محمد هاشم خان رئيس الوزرة وهو أخو الملك الراحل خبير
بالعلاقات مع الدول الأجنبية، وله كل المؤهلات اللازمة لرجل يشغل مثل مركزه
الممتاز، وهو بعد ذو شخصية جذابة بارع في اكتساب مودة زائره - كما أن
السردار فايز محمد خان وزير الخارجية رجل مطلع على الشؤون الأوربية، عليم
باللغات، جم النشاط، وعلمه بشؤون الدول الغربية يسير أبدًا مع الوقت، ومحدثه
يستفيد دائمًا من حديثه. وأما شاه محمد خان وهو أخو الملك الراحل ووزير الحربية
في الوزارة الحاضرة فإن في فطرته تواضع الأكفاء من رجال الجندية، كما أنه
كريم مصقول فيه صراحة.
وقد أتاح لي الحظ أن أجتمع بوزير آخر هو نواز الله خان وزير الأشغال
العامة وهو رجل ذو نشاط لا يخمد، لعب دورًا هامًّا في حملة نادر شاه على باجي
سقا وهذا الوزير ولد في بلاد الهند، وتربى في بلاد البنجاب وهو الإخلاص مجسمًا
وقلبه يخفق بحب بلاد أفغانستان التي نشأ فيها آباؤه الأولون.
كل هؤلاء الوزراء أعرفهم تمامًا وأشعر لهم ولمثلهم العليا بأسمى الاحترام
وهم يعملون باتفاق تام لعلمهم أن السكينة والأمن هما أهم ما تحتاج إليه بلادهم، أما
فيما يتعلق بالبلاد الأخرى فلن يكون تغيير في السياسة التي وضعها الملك الراحل.
فحكومة الأفغان تود أن تعيش في صفاء ومودة مع كل جيرانها، وكل من يقول
بضد هذا لا يقول صدقًا؛ لأن القابضين على السلطة يعلمون أن أهم واجب أمامهم في
الوقت الحاضر أن يُرَقُّوا المصادر الصناعية للبلاد، كما أنهم يعلمون أن هذا
الواجب إنما يمكن القيام به إذا شمل الهدوء والسلام أنحاء البلاد.
فالعمل الذي بدأ به الملك الراحل من إنشاء مستشفى تام المعدات لمعالجة
المسلولين بالمجان كان إيذانًا ببداية عصر يعنى فيه حكام أفغانستان بتحسين الحالة
الصحية للأمة.
ومن المؤسفات أن الملك نادر شاه لم يُتَح له أن يرى بناء مدينة كابل الجديد
التي فكر في إنشائها وفق تخطيط يلائم أحدث مبادئ الصحة العامة، على أن
الوزراء الحاليين يستمرون على إتمام هذا العمل موالين للابن الشاب كما كانوا
موالين لأبيه؛ ذلك أنهم رجال محنكون يعلمون ما لا يعلم غيرهم مبلغ الضرر الذي
يحيق بالبلاد إذا اضطرب الأمن الذي ثبت نادره شاه دعائمه فيها اهـ. بتصحيح
قليل للترجمة.
_______________________
(1) أي بالحساب الشمسي، وما روي من أنه بلغ الحادية والعشرين يراد به سنه بالسنين القمرية، فلا تعارض بين الروايتين.(33/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دائرة المعارف الإسلامية
ترجمة سيدنا إبراهيم فيها
كنت وعدت بنشر ما في ترجمة سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم من
هذه الدائرة، والرد على ما فيه من الخطأ المخالف للقرآن العظيم، وما أخطأ به
الأستاذان الدجوي ووجدي في ردهما عليها. ثم رأيت كثيرًا من الكتاب كتبوا في
الموضوع ومنهم من رد عليهما في الجرائد والمجلات فاكتفيت بذلك في تنبيه
الجماهير، وإن كان ما اطلعت عليه مما نشر لم يُحِطْ بالمسألة من كل ناحية، ومن
غريب الجهل أن يعد بعض المسلمين ما في سفر التكوين من أسفار العهد القديم من
توراة موسى عليه السلام، ويرى أن أخباره أصول مسلمة يجب تأويل ما يخالفها
من آيات القرآن، والحق أن التوراة هي الشريعة التي أوحاها الله تعالى إلى موسى
عليه السلام وقد عرض لها التحريف، وإن سفر التكوين ليس منها، ولا يعرف
مؤلفه وقد ألف الأستاذ جبر ضومط من أساتذة الجامعة الأميركانية في عصرنا كتابًا
رجَّح فيه أن مؤلفه يوسف عليه السلام، وأغرب منه قول بعض المفسرين بإجماع
المؤرخين على أن اسم أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم تارح لا آزر، وزعم
بعضهم أن آزر عمه. وقد فصَّلنا هذه المسألة في تفسير المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(33/630)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
(3)
الفرق العظيم بين الشريف عبد الله والشريف فيصل في القضية العربية
يتجلى أكمل التجلي بما كان بين مبدأ كل منهما وما بعده من التباين، فالأول كان
السابق إلى التفكر فالكلام فالعمل في القضية وعداوة الترك، والثاني كان يرى أن
الخير لوالده ولبيته ولوطنه (الحجاز) بالذات، ولأمته بقاء الارتباط بالترك
ودولتهم، ثم كان كل منهما عاملاً في الثورة العربية التي تولى والدهما زعامتها،
ولكن عبد الله قاتل العرب بقتال النجديين في طربة فكان عمله هذا أول نكث لعهد
الجامعة العربية وحنث بيمينها انتهى بما علمه كل الناس من الشؤم والشر عليه
وعلى والده الذي عتله إليه، وفيصلا قاتل الترك أولاً ووادهم آخرًا وأبرم عهد
الاتفاق هو والملك ابن السعود واعترف بدولته الحجازية النجدية عملاً بعهد جمعية
الفتاة العربية التي كان المراد منها أن تكون أحد أركان الجامعة العربية، وظل
مرتبطًا بها وبحزبها إلى آخر أيام حياته حيث كانت هي المنفردة بالعمل في منطقتها،
على مشاقة ومشادة تعددت بينه وبينهم في دمشق بعد توليتهم إياه ملكًا عليها.
ومن مظاهر الفرق بينهما أن هؤلاء العاملين هم الذين سعوا لاستقدام الشريف
عبد الله إلى بقعة شرق الأردن بعد احتلال الجنرال غورو بجيشه الفرنسي لدمشق
وخروج فيصل منها؛ لأن هذه البقعة ظلت مستقلة غير تابعة لفلسطين ولا لسورية،
وأرادوا أن يجعلوها مراكز للعمل، ولم يلبث أن ناوأهم وجعلها بسعيه تابعة
للانتداب الإنكليزي في فلسطين، وجعل نفوذ الإنكليز وحقوق ملكهم فيها أقوى مما
هي في كل الممتلكات والمستعمرات البريطانية، وكذا الجزائر الإنكليزية نفسها،
وألحق بها بمساعدة أخيه الشريف علي الذي سمي ملكًا للحجاز وهو محصور في
جدة، منطقة العقبة ومعان الحجازية التي هي أمنع المواقع البحرية البرية في بلاد
العرب كلها.
وأما فيصل فجعل ملكًا على العراق في ظل الانتداب البريطاني، وقد فتح
الإنكليز العراق بالسيف والنار، فآل الأمر بسعيه وحسن سياسته إلى استقلاله التام،
فما أعظم الفرق بين الشقيقين في النسب، المشاقين في الرأي والعقل والخلق
والعمل.
لقائي الأول لفيصل:
أتيح لي في أوائل سنة 1338 هـ الموافق لخريف سنة 1919 م أن أغادر
مصر وهي في عنفوان ثورتها الوطنية إلى سورية وهي مضطربة فيما ابتليت به
من احتلال فرنسة لسواحلها وإنكلترة لداخلها، ووجود حكومة عربية عسكرية في
دمشق وما ألحق بها، مرتبطة بالاحتلال الإنكليزي فيها، وما أعطيت جواز السفر
لهذه الزيارة إلا بعد سعي طويل لدى السلطة العسكرية البريطانية هنا وأخذ العهود
والمواثيق الخطية عليَّ بأمور منها ألا أخطب خطبًا ولا أعقد اجتماعات سياسة فيها.
وبينما كنت في بيروت جاءت الأخبار من أوربة بأن الأمير فيصلا سيجيء
من أوربة قريبًا فعقد وجهاء بيروت الاجتماع بعد الاجتماع للاتفاق على ما يعملون
لاستقباله والحفاوة به وكنت أُدْعَى إلى كل ذلك وأحضره. وقد اضطررت في أثناء
ذلك إلى السفر إلى طرابلس لعمل خاص بوقف مسجدنا ومالي فيه من الحق المالي
فسافرت قبل الظهر من يوم السبت 19 من ربيع الآخر الموافق 10 من يناير سنة
1920 وأنبأتنا البرقيات الخاصة يوم الثلاثاء 13 من ينار بأن الأمير يصل إلى
بيروت صباح غد، فعدت إلى بيروت مساء ذلك اليوم والمطر الشديد متصل مع
جماعة من الوجهاء في مقدمتهم أوجه الزعماء، سليل الإفتاء، سماحة عبد الحميد
أفندي كرامي مفتي طرابلس الشام، الذي أخرجته السلطة الفرنسية بعد ذلك من
منصبه عقابًا له على وطنيته، والتاجر الوطني الغيور عارف أفندي النعماني، وقد
ارتطمت بنا سيارته في الوحل مرارًا، أذكر هذا ولا أنساه على كثرة ما أنسى
الأمور العادية، وإن كانت شاقة أو سارة ولا أكتب ما أذكره منها، وقد قطعنا
المسافة في ست ساعات وكانت تقطع في ثلاث؛ لأن مطاط عجلاتها تقطع وأصلح
أربع مرات.
وصل الأمير فيصل إلى بيروت في ضحوة يوم الأربعاء على بارجة فرنسية
يصحبه ضابط فرنسي يلازمه، واستقبله على رصيف مرفأ بيروت رئيس أركان
الحرب للجنرال غورو المندوب السامي لفرنسة مع ضباطه وفصيلة من العسكر
الفرنسي والجزائري، وقابلته وفود الوطنيين يتقدمهم أعضاء لجنة الاحتفال
البيروتية، وقابلته أنا مع وفد طرابلس في دار الاعتماد العربية وكان يشغلها من
قبل حكومة سورية العربية الضابط الشهير يوسف بك العظمة الذي استحكمت المودة
بيني وبينه مدة مكثي في بيروت.
وعدت إلى دار الاعتماد في اليوم التالي (الخميس) لأجل أن أقابل الأمير
مقابلة خاصة فعلمت أنه ذهب إلى زيارة الجنرال غورو، فقلت ليوسف بك العظمة
رحمه الله: إنني لست من الرجال الذين يرغبون في التشريفات والظهور وإنما أنا
رجل بحث وعلم وعمل فأرجو أن تأخذ لي موعدًا من الأمير بلقاء خاص، فعهد إليَّ
بأن أعود الساعة الحادية عشرة فعدت وعاد فقابل بعض الوفود المنتظرة ثم خلوت
به فأثنى أجمل الثناء، وأظهر الارتياح التام لهذا اللقاء الذي قال: إنه كان يتمناه،
وكاشفني بما جاء لأجله وبأنه سيعود إلى أوربة عاجلاً بالتفويض الذي يحمله من
البلاد ودعاني إلى الغداء معه فتغديت وتغدى معنا الضابطان الفرنسيان (كوس
وتولا) اللذان لم يفارقاه مدة إقامته في الشام أميرًا فملكًا مبايعًا إلى أن فارقها بعد
احتلال غورو لدمشق.
ودارت بيني وبينه محاورة طويلة فيما جاء من أوربة لأجله، ثم ذهب إلى
دمشق على أن يعود إلى بيروت بعد أسبوع كما قدر.
ثم عاد إلى بيروت في 13 من جمادى الأولى - 3 من فبراير (شباط)
فزرته في اليوم التالي وخلوت به ساعة كاملة قبل الظهر، وكان المرحوم يوسف
بك العظمة بلغه عني ما ذكرته من قبل، وهو أنني لم أجئ لما يجيء له غيري
من المظاهر وما يسمونه مقابلات التشريف بل للبحث في المصلحة العربية. وكان
أول ما بدأته به أنني أريد معرفة خطته في العمل لهذه الأمة، فإذا اتفقنا في الرأي
عاونته واشتغلت معه على قدر ضعفي، وإلا كنت مضطرًا إلى مقاومته، وإن لم
أكن أميرًا فإنني ناهضت السياسة الحميدية ولم أكن أميرًا، ثم ناهضت السياسة
الاتحادية التركية وهي أدهى وأمر، وأشد وأضر، ولم أكن أميرًا، فشكر لي هذه
الصراحة ودعاني إلى الذهاب معه إلى دمشق، فاعتذرت بأن لي عملاً خاصًّا في
بيروت وطرابلس لا بد لي من إتمامه. ووعدته بأن ألحق به بعده، فألح عليَّ بأن
أذهب معه بحجة أن خدمة الوطن مقدمة على كل شيء، فقلت لا تنافي ولا تعارض
بين الأمرين، وإنني سألحق بك بعد يوم أو يومين: قال أتعدني بذلك؟ قلت: نعم.
ثم دار الحديث بيننا بالحرية التامة، وكان ذا شغب فدعاني إلى العشاء معه
في ذلك اليوم لأجل أن نخلو ونتم الحديث في الليل، فأجبت، وخلوت به إلى
الساعة 10 والدقيقة 10 مساء، وكان مما قاله أن أخاه عبد الله لم يخبره بما دار
بينه وبيني في قصر عابدين بمصر لأنه كان يعلم أن سياسته تركية بمعنى أنه كان
يرى أن الأولى للعرب دوام الاتفاق مع الترك والارتباط بهم، ولكنه تحول عن هذه
السياسة لما جاء الشام قبل الحرب وبعدها ورأى قومه كلهم على خلاف هذا الرأي
على حد قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
ثم قال: إن عبد الله كان يريد تنفيذ مسألة اتفاق أمراء الجزيرة الذي اقترحته
عليه (أي بمقتضى قاعدة جمعية الجماعة العربية) حتى مع ابن السعود عدوهم
ولكنه هو كان معارضًا له في ذلك؛ لاعتقاده أن ابن السعود يريد الاستيلاء على
الحجاز، لا يصده عن ذلك عهد ولا اتفاق، وذكر ملخص عداوة ابن السعود لشرفاء
مكة: فقلت له: لو أطلعكم الشريف عبد الله على تفصيل اقتراحي لاكتفى معارضتكم،
فإنه لا يكل تنفيذ الاتفاق الحلفي إلى وفاء كل أمير واختياره بل يجعله عاجزًا عن
الغدر.
ثم بينت له موضوع الحلف وملخص نظامه، وضرورة عقده، وضرر عداوة
شرفاء الحجاز لابن السعود؛ لأن عرب الحجاز أضعف العرب وأشدهم احتياجًا إلى
الاتفاق الذي غايته جعل أمراء الحجاز رأس العرب؛ لأن مجلس الحلف العام لا
يكون إلا في مكة، وسيكون أميرها هو الرئيس له بالطبع.
فقال حينئذ: إنه مستعد لإقناع والده بذلك وضامن له، إذا وجد من ينفذه
ويضمن إرضاء ابن سعود بالحدود العادلة التي تحددها لجنة على الحياد. وذكر أن
الإنكليز يهددونهم بابن سعود، وههنا تكلمنا في علاقتهم بالإنكليز الآن وفي زمن
الحرب فإذا هو لا يزال يرجو وفاءهم بما عاهدوه عليه (هكذا كتبت في مذكرتي
عقب الجلسة أي عاهدوه هو) وخروجهم من فلسطين والعراق لتأسيس دول عربية
متحدة ورضاهم بالمنافع الاقتصادية التي لا تنافي الاستقلال على أن كلامه متناقض
فإنه اعترف قبل ذلك بأنه كان مغشوشًا بالإنكليز، وأن والده هو الذي غشه، وأنه
قد عرف بعد الاختبار كيد الإنكليز للعرب وللإسلام - أو قال عدوانهم - وأن والده
أيضًا قد رجع عن رأيه في إخلاصهم. وسأذكر في النبذة التالية ما دار بيننا في
دمشق) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/631)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
كلمتان
في الشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا
لأمير البيان الأمير شكيب أرسلان
(في الجزء الأول من كتاب حاضر العالم الإسلامي)
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
أستاذنا فريد عصره، ووحيد مصره، حجة الإسلام الشيخ محمد عبده، أكرم
الله مثواه، تعرف إليه كاتب هذه الحواشي في عهد الطلب، أيام كان هو منفيًّا في
بيروت على إثر الحادثة العرابية وذلك سنة 1886، ولازمته وأخذت عنه
واستفدت منه بقدر ما وسع فتور خاطري، واستفضت من بحر حكمته ما أمكن أن
يناله قصور عارضي، ووجدت فيه الضالة التي كنت أنشدها، والبغية التي كنت
أبحث عنها ولا أجدها، ورأيت في فهمه العقيدة الإسلامية الشكل الوحيد الذي يرجى
أن ينهض بالإسلام بعد أن آل إلى هذه الحال، وأن يقيل عثاره بعد أن ظن ضعفاء
العقول أن عثرته لا تقال. وما زلت بعد أن عاد إلى وطنه مصر إلى أن أدركته
الوفاة رحمه الله أجاذبه حبل المكاتبة، وأقف على رأيه في أكثر الأمور جزئيها
وكليها، وأستطلع منه طلع الأحوال، وهو يبث ما لا يبثه إلى غيري من سوانج
فكره، وذوات صدره، وبينما كان بعض حساده يتهمونه بمماشاة الدولة المحتلة
ومواثقة اللورد كرومر كان يكتب إليَّ قائلاً: (الأحوال هي مما يتعاظم له الألم،
ويعجز عن وصفه القلم) فكنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل
البلاء، وتمهيد طريق الجلاء، وما زال شأنه يعلو، وحقيقته تظهر وجوهره ينجلي
بالحك، وعقيدة فضله تتمحص من الشك، إلى أن اتفق الناس على كونه أحد أفذاذ
الشرق الذين قلما جاد بهم الدهر، وواسطة عقد المصلحين المجددين في هذا العصر،
وظهر أن طريقته الإسلامية العصرية ستزداد مع توالي الأيام انتشارًا، وتكون
هي طريقة المستقبل ومعول الآتي.
ولقد كان جامعًا بين العلم والعمل، فلا تجد ما يساوي فضله وبلاغته وثقوب
أفكاره، وقوة ملكته في الفلسفة، سوى علو مباديه، وبعد همته، وغزارة مروءته،
وطهارة أخلاقه، وهيهات أن يأتي الزمان بمثله.
ومن حسناته الكبرى، وأياديه التي ملأ بها طباق العالم الإسلامي برًّا، أخذه
بيد الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا في نشر مجلة (المنار) التي هي لسان
حال ذلك المصلح العظيم وترجمان أفكاره. فهي - والحق يقال - أحسن مجلة
ظهرت في باب الإصلاح الديني وتطهير الإسلام من شوائب البدع، وأعادته سيرته
الأولى في عهد السلف. وتأليفه مع المدنية الحاضرة. كما أن الأستاذ السيد رشيدًا
المشار إليه هو الأولى بأن يخلف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مشروعه.
الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا
ويطول العهد بعدُ بالأستاذ الأكبر السيد رشيد فسح الله في أجله حتى يقوم في
العالم الإسلامي من يسد مسده، في الإحاطة والرجاحة، وسعة الفكر، وسعة
الرواية معًا، والجمع بين المعقول والمنقول، والفتيا الصحيحة الطالعة كفلق الصبح
في النوازل العصرية، والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة، مما لا شك أن
الأستاذ الأكبر فيه نسيج وحده، انتهت إليه الرئاسة، لا يدانيه فيه مدان، مع
الرسوخ العظيم في اللغة والطبع الريان من العربية، والقلم السيال بالفوائد في مثل
نسق الفرائد، والخبرة بطبائع العمران، وأحوال المجتمع الإنساني، ومناهج
المدنية وأساليبها، وأنواع الثقافات وضروبها، إلى المنطق السديد الذي لم يقارع به
خصمًا مهما علا كعبه إلا أفحمه وألزمه، ولا نازل قرنًا كان يستطيل على الأقران
إلا رماه بسكاته وألجمه.
وأجدر بمجموعة (المنار) أن تكون (المعلمة الإسلامية الكبرى) التي لا
يستغني مسلم في هذا العصر عن اقتنائها، كما أن التفسير الذي وفقه الله به لكشف
أسرار كتابه العزيز هو من آياته الباهرة التي خلدت اسمه في هذه الأمة، وقرنته
بكبار الأئمة، وله من المواقف الشريفة في النضال الديني عن الإسلام، والمراماة
عن عقيدته الصافية، ومن الكتب الجدلية في رد شبهات أعدائه من أبناء الملل
الأخرى، ومن الملاحدة والمعطلة، ما لا يقدر أحد في عصرنا هذا أن يدرك فيه
شأوه، ولا يستطيع جهبذ من جهابذة الإسلام أن يبلغ فيه مُدَّه ولا نصيفه، إنه
الرجل الذي لو دعا كل مسلم بإطالة حياته حبًّا بخدمة الإسلام والمسلمين لكان بذلك
جديرًا.
وليس في كلامنا هذا شيء من الإطراء ولا ثمة ما يدعونا إليه، وإنما أمرنا
بأن لا نبخس الناس أشياءهم، وهو أمر إلهي صريح، كما أننا لسنا ممن يرى
المعاصرة حجابًا عن تقدير الفضائل قدرها، بل نرى أن المنصف يجب أن يزن
أقدار الناس في الحياة وبعد الممات بميزان واحد، وإن كان من ضرائب البشرية أن
تقسو على الأحياء، وأن تحنو على الأموات، وأن لا تعطي الإنسان حقه غير
منقوص إلا إذا فات.
ولقد حرر السيد رشيد تاريخ أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في
مجلدين كبيرين يزيدان على ألفي صفحة وسيعززهما بمجلد ثالث [1] فيكون من
الفضول أن نقول: إنه لا تاريخ للشيخ محمد عبده غير هذا التاريخ وهو الذي فيه
ترجمة حاله بتفاصيلها، وحياته من المهد إلى اللحد، مع ذكر منازعه بدقائقها،
وعقائده بحقائقها، ومنشآته بنصوصها، وأخبار الحوادث التي خاضها، والمسائل
التي راضها.
وقد دخل في هذا الكتاب تاريخ السيد جمال الدين الأفغاني، وسير أعلام
آخرين، وتلخيص الحوادث العرابية في مصر وروايات كثيرة عن الخديو السابق،
ووثائق تاريخية لا توجد في كتاب آخر، ومباحث عقلية وشرعية وسياسية وأدبية
ولغوية لا يعثر القارئ على مثلها في غير هذا الكتاب. وللفقير إليه تعالى راقم هذه
الأسطر في الجزء الأول من هذا السفر الجليل فصل عن حياة الأستاذ الإمام أيام
كان في بيروت وكنا متصلين به وهو نحو من 14 صفحة، ولهذا الفصل تتمة وعد
الأستاذ الرشيد بنشرها في الجزء الذي لم يظهر بعد.
ولما كان الأستاذ السيد رشيد من كبار المحدثين، وله في هذا الفن من الطول
ما ليس خافيًا عن أحد، فقد امتزج خلق التمحيص بدمه ولحمه، وأصبح لا ينشرح
صدره إلى الخبر إلا إذا وثق بأسانيده، وآمن بأمانة رجاله، وقد يسوق الرواية من
جملة طرق إلى أن يثلج بها الصدر، ويطمئن لها الفكر، وهذه طريقة السلف عندنا
لا يروون شيئًا لا من الأحاديث النبوية وأخبار الصحابة فحسب، بل لا يروون
شيئًا من الأشعار والآداب، وسير البشر والحكايات، إلا عَنْعَنُوه مسلسلاً، وربما
أشاروا إلى درجة رجاله، فَقَوُّوا ولَيَّنُوا كما لا يخفى على مَن طالع كتبهم، وكانت
له ألفة بطريقتهم. وهذه الطريقة هي اليوم طريقة الأوربيين أيضًا لا يروون خبرًا
ولا ينقلون جملة ولا أثرًا إلا وضعوا في الحاشية مأخذها والكتاب الذي أخذوها عنه
مع ذكر الصفحة، ومع ذكر طبعة الكتاب وتعيين المطبعة أحيانًا، وكل ذلك توثيقًا
للنقل، ونصحًا بالتبليغ، وتمهيدًا للحكم الصحيح، الذي لا يتهيأ للقارئ إلا بعد
مقدمات صحيحة، وبينات رجيحة.
ومن نفائس تآليفه السِّفْر الذي أخرجه مؤخرًا تحت عنوان (نداء إلى الجنس
اللطيف) فيه بيان حقوق النساء في الإسلام وتحقيق مسائل اجتماعية تدور أكثر من
كل المسائل في هذا العصر مثل تعدد الزوجات والتسري والحجاب والسفور والطلاق
وما يتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والحكم، وتكريم النساء،
وبر الوالدين وتربية البنات، وغير ذلك قد جاء الأستاذ في هذا الكتاب بالآيات
البينات على حكمة الشرع الإسلامي وغفلة المعترضين عليه جهلاً أو تجاهلاً،
ولا يسعني إلا توصية الخلق بمطالعة هذا الكتاب؛ إذ ذاك أحسن ما يمكن وصفه به
(إن الجواد عينه فراره) ولكني أورد شذرة واحدة من هذا الكتاب من قبيل
التمثيل ليقيس القارئ عليه. اهـ نقل الأمير عبارة عن الكلام في التسري وحكم
الاسترقاق، وقد سبق لقراء المنار الاطلاع على الموضوع كله في كتاب الوحي
المحمدي بما هو أوسع مما في نداء الجنس اللطيف.
_______________________
(1) الصواب أن الذي صدر من هذا التاريخ ثلاثة أجزاء الأول في الترجمة التي وصفها أمير البيان
هنا، والثاني في منشآت الأستاذ الإمام القلمية بأنواعها أشار إليها الأمير بكلمة واحدة، والثالث في أهم ما قيل فيه من التأبين والمراثي والتعازي التي نشر أكثرها في الجرائد والمجلات، وسيكون الرابع في آثار قلم أستاذنا علمية وأدبية، ومكاتبات بعض العلماء والأدباء والكبراء له، ومختارات مما مدحه بها الشعراء وغير ذلك إن شاء الله تعالى.(33/635)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
هذا رجل إلهي
هذه الكلمة قالها شاب وثني هندي في صديقنا العلامة ثناء الله صاحب
المصنفات والمناظرات للوثنيين والنصارى والمبتدعين، وأشهرها مناظراته لغلام
أحمد القادياني ومباهلتهما التي تبين أن القادياني دجال كذاب، وقد نشرت إحدى
الجرائد الهندية الإسلامية فيه الحكاية التالية، وجعلت الكلمة عنوانًا لها، وهذه
ترجمتها:
مولانا الشيخ ثناء الله من علماء الحديث والكلام والفقه في (أمرتسر) بالهند
له مجلة ومؤلفات في الدفاع عن الإسلام وهو مع هذا مناظر كبير، فصيح اللسان،
قوي الحجة، بليغ العبارة، يدعى لمناظرة الطاعنين على الإسلام من الهند
وخصوصًا جماعات (إرياسماج) وكذلك له مواقف محمودة مع مضللي النصارى
وكذا الأحمدية القاديانية جماعة مرزا أحمد القادياني، وقد تباهل هو مع القادياني
نفسه على أن الكذاب منهما في دعوته يموت قبل الآخر، فمات القادياني في الكنيف
شر ميتة، ولا زال ثناء الله حيًّا قائمًا على المبطلين يناظرهم ويكسر شوكتهم.
دعي مرة لمناظرة مع الهندوك وركب القطار وركب معه شاب هندوكي
فتعارفا تعارف مسافرين فقط، وكان الشيخ ثناء الله يلهج لسانه بذكر الله عند كل
مناسبة فإذا شرب بدأ باسم الله، وإذا انتهى من شرابه حمد الله، وإذا عطس حمد
الله، وإذا شمته المشمت أجابه: يهديكم الله ويصلح بالكم، وإذا سلم عليه أجابه:
وعليكم السلام ورحمة الله إلخ وكان الشاب الهندوكي يصغي إليه ويسأله عن ترجمة
كل ما سمع منه فيترجمه له إلى أن نزلا في المحطة فكانت السيارة تنتظر الشيخ
ثناء الله ولم يكن في انتظار الهندوكي أحد، فدعاه الشيخ، وأركبه سيارته معه،
ولما استقلها قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنقَلِبُونَ} (الزخرف: 13-14) فسأله الشاب عنها فترجمها له، فتأثر بها حتى
تغلغلت في سويداء نفسه.
انعقد مجلس المناظرة - ولمجالس المناظرة في الهند شأن يعرفه من حضرها
من عدل محكمين، ومدير لحفظ النظام، ووجيه سخي يقوم بنفقات الحاضرين
جميعًا من طعام وشراب، وحاجة الراحة نومًا وقيلولة وما يلزم ذلك شتاء وصيفًا
وربيعًا كل من حضر من مناظر ومستمع ومدعو وغير مدعو.
ولما انعقد مجلس المناظرة وتقدم الشيخ ثناء الله إلى منصة الخطابة، ظهر
إلى مقابلته لمناظرته الشاب الهندي الذي رافقه بالأمس وسمع من ذكره الله ما أدهشه،
أقبل الشاب الهندوكي إلى الشيخ المسلم مصافحًا، وأعلن على رءوس الأشهاد من
مسلمين وهندوكيين ومسيحيين وناظمين ورجال الإدارة وحفظ النظام، هذه الحقيقة
التي عرفها بنفسه بقوله: (هذا رجل إلهي يذكر الله كثيرًا ومناظرته جرم في
اعتقادي، إنما يناظره رجل مثله، وأنا أناظر رجلا من طبقتي، إني أذكر الله
ولكني لا ألحق شأو هذا الرجل فارفضت الجلسة والناس يلهجون بفضل الله على
الشيخ وإنصاف ذلك الشاب ولا غرو فقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) (وقال) : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت: 45) .
_______________________(33/639)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آيات الله في الآفاق
أو طريق القرآن في العقائد
مطبوع أصح طبع، على أجود ورق، في مطبعة المنار بمصر سنة 1352
هـ صفحاته 262
كتاب إصلاحي جديد جليل، مؤلفه الأستاذ الفاضل، العالم العامل، الشيخ
محمد أحمد العدوي، صاحب (كتاب مفتاح الخطابة والوعظ) ورسائل أخرى في
هداية الكتاب والسنة، أحد علماء الأزهر الذين شرفهم الله باضطهاد العلماء
الجامدين الخرافيين لهم وبمنعهم من التدريس في الأزهر لإيثارهم هدى الله على ما
يخالفه من تقاليد المتفقهين، ونظريات المتكلمين، وخرافات القبوريين.
جمع في هذا الكتاب المتين من آيات كتاب الله تعالى في عقائد الدين في
أبوابها من الإلهيات والنبوة والرسالة والبعث والجزاء، وقد فسر هذه الآيات تفسيرًا
وجيزًا بقدر الضرورة في الغالب، ومن غير الغالب إسهابه في حكم الله في أنواع
خلقه، وجعل ثمن النسخة منه عشرة قروش فقط على كون جميع الآيات فيه قد
طبعت مشكولة، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.
_______________________(33/640)
ذو القعدة - 1352هـ
فبراير - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
استفتاء في عمل يانصيب لإحياء مسلمي جاوه بالمدارس
(س35) من الفاضل الغيور صاحب الإمضاء في سربايا (جاوه)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن هداه.
حضرة الأستاذ الكبير العلامة المدقق مفتي الآفاق وناصر السنة، السيد محمد رشيد
رضا المحترم، دام ذخرًا للمسلمين، ونورًا للمدلجين، وملجأ للسائلين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن خمسين مليونًا من إخواننا
المسلمين في جاوة وجزائر المضيق سائرون في ظلمات الجهل لا مدرسة واحدة لهم
راقية ولا معلمين عندهم أكفاء، ولا دروس منتجة كما علمتم ذلك وأكثر منه مما
حملت إليكم من هنا الصحف والأخبار، وكم فاه الخطباء وكتبت الجرائد في حثهم
على فتح المدارس وتعميم دور العلم وتنظيم سير التعليم؟ ولكن ذهبت تلك
الصيحات كصرخات في واد، والمستعمرون اغتنموا هذه الفرصة ففرقوا بينهم،
ونصروا كثيرًا منهم، وسهَّلوا إدخال أولادهم في مدارسهم المنظمة الجذابة! فماذا
ننتظر؟ إن المدارس طبعًا لا تقوم إلا بالمال والمال عندنا بأيدي جهال لا يعرفون
قدر العلم ولا يريدون أن يعرفوا، ينفقون المبالغ الكبيرة في أمور خسيسة أو ضارة
ولا يريدون أن ينفقوا في مدارسهم التي بها حياة أولادهم وأمتهم شيئًا.
فبقيت مدارسنا عشرات السنين كما هي في تأخرها وفوضويتها واختلالها
وخلوها من الوسائل التي تنهض بها، وهي على قلة عددها مختلفة المشارب متباينة
الأنظمة، ضئيلة الجدوى لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأنها لا تتجاوز حدود
الابتدائية، وأكثرها لا تتعدى درجة الأولية.
هذا والأمم الأجنبية المجاورة لنا كالإفرنج والصين، بل الجاويين الذين
كانوا يتعلمون في مدارس الحكومة لهم ما يسد حاجتهم من المدارس فترقت عقلياتهم،
وتهذبت أخلاقهم، واستطاعوا أن يفكروا في شئونهم الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية والصحية وغيرها، وأنشؤوا جمعيات راقية، وأصدروا صحفًا متنوعة
كثيرة، وفتحوا دكاكين تجارية كبيرة، وأقاموا شركات مختلفة نافعة، وعلى الأقل
يستطيعون أن يتوظفوا.
وأما المسلم وبالخصوص العربي هنا، فأبواب الأعمال أمامه مسدودة حتى
الوظائف، فلا حيلة له إلا أن يشتغل سائقًا أو تاجرًا بسيطًا يشاكس صاحبه، فليس
لدى المسلمين ولا سيما العرب في هذه البلاد جمعيات نافعة، ولا مدارس منتجة،
ولا صحف منظمة، ولا تجارات كبيرة، ولا شركات مطلقًا ولا قدر ولا حرمة في
القلوب، وأما أخلاقهم فلا حاجة إلى أن أذكر لكم أنها سافلة جدًّا بفضل الجهل أيضًا!!
هكذا سيدي بلغت الحالة بإخوانكم المسلمين بجاوة! ! وما أوصلهم إلى ذلك
كله إلا الجهل، ونحن كما قلنا لكم آيسون من مساعدة أغنيائنا؛ لأنهم مع الأسف
جهال لا يعرفون قدر العلم ولا يدركون آثاره ونتائجه، والمرء عدو ما جهل فلا
نترقب أقل التفات أو مساعدة منهم ولا من إخواننا مسلمي مصر أو الشام أو الهند أو
غيرها؛ لأن كلا منهم مشغول بما يخص بلاده، ولا ريب أنهم سمعوا ويسمعون أن
في جاوة والجزائر حولها هذا المبلغ الهائل من المسلمين تحت خطر الجهل
والنصرانية، ومع هذا لم تتحرك جمعية من الأقطار الإسلامية ولا معهد من المعاهد
الدينية ولا إنسان واحد لإنقاذهم من هذا الشر المحدق.
فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لنا في نظر الشريعة السمحة أن نعمل
يانصيب أو نشتريه لتشييد المدارس وجلب المعلمين، ولكم جزيل الثواب والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفهم
(جواب المنار)
إن شعبا هبط هذا الدرك الأسفل من الجهل وفساد العقائد والأخلاق لا يمكن
أن ينقذه ويرفعه ما تصوره المستفهم المستخفي من جمع مال بقمار اليانصيب لتنشأ
به مدارس عامة للتعليم بدرجاته الثلاث: من ذا الذي يجمع هذا المال؟ ومن ذا
الذي يتولى تلك الأعمال؟ ومن ذا الذي يضع النظام والمناهج للمدارس التي يحيا
بها الشعب بعد موت، ويعز بعد ذل، ويغنى بعد فقر؟ إن إصلاحًا كهذا لا ينهض
به إلا رجال من كبار العقول والهمم والعزائم وأولي العلم والغيرة والإخلاص، فهل
وجد هؤلاء الرجال في جاوه؟ وتمهدت لهم الوسائل للتعليم المنقذ من الثقة بهم،
والمعلمين الكفاة لديهم، ومن محاولة جمع المال من الطرق المشروعة كالصدقات
والتبرعات والوقف الخيري، فلم تف بالحاجة ولم يبق في وجوههم إلا وسيلة
(اليانصيب) ؟ على وعورة طريقه وتوقف شراء أوراقه على ثقة المشترين بالبائعين
بالرجاء في نجاحهم؟ ما أظن أن شيئًا من هذا واقع.
إن جمعية الشبان المسلمين في مصر طبعت ألوفًا من أوراق اليانصيب لجمع
مال تنشئ به دارًا لها، ووجدت من الحكومة المصرية ميلاً لمساعدتها بإعطائها
أرضًا في مكان من أحسن أحياء القاهرة عمرانًا وبالسماح لها بتوزيع أوراقها في
المدارس ومعاهد الحكومة وأرسلت من أوراقها هذه عددًا كثيرًا إلى الأرياف وإلى
الهند أيضًا، وبعد التجربة الطويلة اضطرت إلى الإعلان في الصحف بأنه لم
يجتمع عندها المال الكافي لربح (النمرة) الأولى وأنها مستعدة لإعادة كل ما جمعته
من المال للذين يعيدون إليها الأوراق التي اشتروها.
إن شعبًا كبيرًا لا يمكن أن ينهض ويجدد حياته بجمع المال بهذه الطريقة
العوجاء، والسير عليها بالأرجل العرجاء، مع ضعف الأسباب لنجاح مثله فيها،
وإنما هذه طريقة دولية قلما تثمر ثمرًا كافيًا إلا بكفالة دولية أو ما يقرب منها من
الجمعيات الغنية القوية، وهي محرمة في شريعة الإسلام، ولن تنهض هذه الأمة
بارتكاب ما حرم الله عليها، والحالة التي وصفتموها ليست من الضرورات التي
تبيح المحظورات وهي كما وصفنا.
وأحيلكم على ما أوصيت به بعض الشبان الإندونيسيين بوصية حفظها في
كناشة، ونشرتها في الجزء الثامن من المنار، ولعلكم قرأتم خبر مشروع القرش
الذي نجح في مصر في العام الماضي، وتفكروا في القيام بمثله عندكم، وأدام الله
توفيقكم.
***
أسئلة من بيروت
(س36: 38) لصاحب الإمضاء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع إلى فضيلتكم ما يأتي
راجيًا التكرم بالإجابة عليه على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع به عامًّا
ولكم الشكر.
(1) هل يجوز قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة مضبوطة، وتعليمه
لتلاميذ وتلميذات المدارس أو غيرهم بغير أحكام التجويد مطلقًا أم لا؟
(2) ما السبب في عدم احترام الدين الإسلامي ودروسه وأحكامه وضعفه
في نفوس تلاميذ وتلميذات المدارس الإسلامية سواء أكانت أميرية أو أهلية؟ وهل
يجب على رؤساء المدارس أن يهتموا بهذا الأمر أم لا؟
(3) هل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد غير منسوخ يجوز العمل به أم لا
وما معناه؟ وهو (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي
(الأجوبة)
36- تجويد القرآن بالفعل دون تعلم الفن:
الواجب في قراءة القرآن أن يقرأ قراءة صحيحة بإخراج الحروف من
مخارجها، وأن يرتل بتحسين الصوت في الأداء المتبع بغير تكلف، ويكفي في
تعلم ذلك تلقيه بالفعل، ولا يشترط فيه تعلم فن التجويد المعروف، فهو لم يكن
معروفًا في خير القرون.
37- احترام الدين وما يجب في تعليمه وأدبه:
السبب فيما ذكرتم من عدم احترام الدين ودروسه إهمال التربية الإسلامية
الصحيحة، وكون التلاميذ ذكرانًا وإناثًا لا يرون في بيوتهم ومدارسهم قدوة صالحة
في ذلك، ولا شك في وجوب العناية بذلك على رؤساء المدارس الإسلامية ومديريها
ومعلميها؛ لأن أكثر آباء التلاميذ وأمهاتهم على جهل لا يشعرون معه بهذا الواجب.
38- حديث (من يرد الله به خيرًا) إلخ:
هذا حديث صحيح متفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد باللفظ الذي ذكرتموه
من حديث معاوية وروي عن غيره. ومعناه ظاهر، فالتفقه في الدين فهمُ نصوصه
ومقاصده على الوجه الذي يهدي إلى العمل به كما بيناه مرارًا.
***
أهل الفترة
وما ورد في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم
(س39-41) من صاحب الإمضاء المبهم في أسيوط:
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أما بعد) فلمناسبة تقرير أحد العلماء بمدينة أسيوط أن والدي النبي صلى
الله عليه وسلم ليسا ناجيين بل ماتا على غير ملة، رأيت أن أتوجه بالسؤال
لفضيلتكم لإفادتي في مجلتكم عما يأتي:
(1) هل يعد والدا الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة؟ ومن هم
أهل الفترة؟ وما حكمهم؟ وهل هناك ما يسمى فترة؟
(2) ما قول فضيلتكم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب
الإيمان أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده فقال له: (إن أبي
وأباك في النار) وكذلك الحديث الذي في مسلم أيضًا في باب الجنائز أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، واستأذنه في أن
يستغفر لها فلم يأذن له.
(3) هل هناك أخبار صحيحة في إحياء والديه صلى الله عليه وسلم
وإسلامهما، وهل هناك خبر يوازي في الصحة حديثي مسلم المذكورين آنفًا يدل
على غير ما جاء فيهما.
نرجو الإفادة ولفضيلتكم جزيل الشكر
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفهم بأسيوط
39-41 أهل الفترة وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم:
(ج) الفترة هي المدة بين رسول وآخر، وأصلها قوله تعالى: {يَا أَهْلَ
الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلاَ نَذِيرٍ} (المائدة: 19) الآية من سورة المائدة، وإن أبوي النبي صلى الله
عليه وسلم كانا من أهل الفترة قطعًا، وحكمهم أن من لم تبلغه منهم دعوة رسول
سابق لا يكونون مسئولين عند الله تعالى عما لم يخاطبوا به من أمر الدين المنزل،
ويؤخذ من النصوص العامة أنهم لا يكونون في الآخرة سواء، لا فرق بين موحد
ومشرك، وخَيِّر وشرير، بل تختلف أحوالهم بحسب صلاح أنفسهم وفسادها بهداية
الفطرة والعقل، وفي هذا جمع بين أقوال العلماء المختلفة فيهم بحسب فهمنا، وأما
من وردت فيهم نصوص عن الله ورسوله فهي الحق، ومنه حديثا مسلم، ولكن لا
ينبغي لمسلم أن يتشدق بمعناهما بما ينافي الأدب مع الرسول الأعظم، صلى الله
عليه وآله وسلم، ولا أن يذكره إلا في مقام التعليم أو الفتوى بقدر الضرورة.
ولم يصح حديث في إحياء الأبوين الشريفين وإسلامهما، وأقوى ما يرجى من
أسباب نجاتهما في الآخرة ما ورد من امتحان الله تعالى في الآخرة من لم تبلغهم
الدعوة ويعاملهم بحسب ذلك الامتحان فمن أطاع نجا ومن عصى هلك، بأن يكونا
من المطيعين لله فيما يمتحنهما به ويدخلهما الجنة، وهذا لا يعد معارضًا لحديثي
مسلم المشار إليهما في الاستفتاء؛ لأن الحديثين في حكمهما بحسب ما ماتا عليه،
ونجاتهما بالامتحان إنما تكون في موقف الحساب يوم القيامة، ويقوي هذا الرجاء
فوق ما نقل عنهما من كونهما كانا من أسلم الناس فطرة وخيرهم فضيلة، إكرام الله
تعالى لنبيه الأعظم صلى الله عليه وسلم بإلهامهما الطاعة في ذلك الامتحان، وقد
فصلنا هذه المسألة من كل وجه في تفسير قصة إبراهيم مع أبيه آزر من سورة
الأنعام (ص537 ج 7 من تفسير المنار) .
***
الاحتفال بليلة المعراج
(س42) من صاحب الإمضاء في جاوه:
بمناسبة معراج النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رجب تقام حفلات يخرجون
لها أبناء المدارس ويدورون في الحارات بمظاهرات عظيمة وإيقاد السرج والأغاني،
وبعد المظاهرات يجتمعون في محل مخصوص وهناك تلقى الخطب بمناسبة
المعراج، وفي هذه السنة قام من علماء المسلمين من أنكروا هذه المظاهرات وقالوا:
إنها بدعة لا يجوز فعلها، فنرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا هل هذه من الشعائر
الإسلامية التي يجب علينا إظهارها، أو من البدع التي يجب علينا محوها؟ نرجو
أن تنشروا ذلك على صفحات المنار ولكم الشكر سلفًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ا. ص. ي)
(ج) لا شك في أن ما ذكرتم من البدع، وأنه ليس من شعائر الإسلام في
شيء، وأما محوه وإبطاله فيراعى فيه الحكمة والموعظة الحسنة، واتقاء الشقاق
والتفريق بين المسلمين، وأرى الجماعات التي تعنى بصد الناس عن البدع
والمنكرات في مصر تدعو الناس في الليلة 27 من رجب كليالي الجمع وغيرها
ويخطب فيهم الخطباء مذكرين إياهم بما صح من الأحاديث في الإسراء والمعراج،
وإعلامهم بأن اجتماعهم ليس شعارًا من شعائر الإسلام الخاصة، وإنما هو من
مجامع العلم والمواعظ العامة، فيحسن أن يفعل العلماء هذا عندكم، وقد ألقيت أنا
في هذه المجامع عدة خطب ودروس مما يسمونه بالمحاضرات.
***
انتقاد وأسئلة من جدة (الحجاز)
من (43 -51)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من تلميذكم المخلص محمد بن حسين إبراهيم المدرس بمسجد عكاش بجدة إلى
جناب سيدي الأستاذ مولاي السيد محمد رشيد رضا أدامه الله ملجأ للقاصدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأله تعالى أن تكونوا وأنجالكم ومُحِبُّوكم
على أحسن الأحوال. وبعد فإني أهنئكم بهذا العيد السعيد (عيد الفطر) جعله الله
لنا ولكم وللمسلمين عيدًا ميمونًا مباركًا بمنه وكرمه.
سيدي العزيز: إني أقدم إليكم هذه الأسئلة ملتمسًا الجواب عنها على صفحات
مناركم الأغر.
(أولا) رأيتكم قد أَبَّنْتُمْ الشيخ محمود خطاب السبكي حتى ذكرتم من فضله
أنه كان من أنصار السنة، وأنه شرح سنن أبي داود فلا أدري أقلتم هذا بعد أن
اطلعتم على كتابه (إتحاف الكائنات) الذي ألفه في آخر عمره فقد أفعمه بتكفير من
يعتقد أن إلهه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، وأنه في سمائه دون أرضه،
وأنه موصوف بصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه
وسلم في صحيح سننه كاليدين والعينين، والساق والقدم، والنزول والضحك،
والتعجب والفرح والرضا والسخط، والغضب والغيرة، إلى غير ذلك من الصفات
المذكورة في القرآن وصحيح السنة، فحكم على كل من يعتقد شيئًا من ذلك أنه كافر
حلال الدم والمال ونساؤه طوالق، وأولاده أولاد زنا وسفاح، ولا يخفاكم أن هذا
كان معتقد السلف حتى ظهر المتكلمون نفاة الصفات وحقائق الأسماء، فهل كانوا
كما قال الشيخ كفارًا أولاد زنا؟ فإذا لم يكونوا كذلك فما حكم من يؤلف كتابًا كهذا؟
أيستحق التأبين ونشر فضائله؟
(ثانيًا) وصلت إلينا في أواخر رمضان رسالة من مصر لمؤلفها الشيخ
يوسف الدجوي نشرها أحد تلامذته عبد الرافع نصر قد أفظع فيها وأقذع من ذكر
مسائل منسوبة إليكم على زعمه نشهد بالله أنكم برآء من أكثرها وليست قاصرة
عليكم بل تناول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ونسب إليه أنه كان يخطب وذكر حديث
النزول ونزل درجتين من درج المنبر، وقال: ينزل ربنا كنزولي هذا، وتناول
فيها سيد الحفاظ شمس الدين الذهبي، وأنه كان يحكم على الأحاديث الصحيحة
بالوضع تحكمًا وتعسفًا، حتى لو قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) لقال: هذا حديث موضوع
إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يجوز أن تنسب إلى أسفل طبقات العالم فضلاً عن
حفاظ الإسلام وأئمته، وقد علقت عليها ما يمكنني، فهل هذه الرسالة وقعت بيدكم
حيث إنها مطبوعة في مصر سنة 1351 فإن كنتم قد رأيتموها ولا بد فلِمَ لمْ أر لكم
كتابة عنها، وقد بلغني أنكم شرعتم في تأليف كتاب سميتموه المنار والأزهر فلا
أدري هل تم طبعه أم لا؟ أعانكم الله على نشره.
(ثالثا) قد اطلعت قريبًا في كتاب الحاوي للفتاوى لمؤلفه الحافظ جلال الدين
السيوطي وقد طبع في مصر ذكر فيه رسالة سماها (القول الجلي في تطور الولي)
حاصلها أنه رفع إليه سؤال من رجل حلف بالطلاق الثلاث من زوجه أن الشيخ
عبد القادر أحد أولياء عصره كان بائتًا عنده البارحة، وحلف آخر كذلك فأرسل هو
إلى الشيخ عبد القادر يسأله عن ذلك فقال: لو حلف أربعة أني كنت بائتًا عند كل
منهم فلا يحنث، وأفتى السيوطي بعدم الحنث على أحد من الحالفين، واستند في
فتواه هذه إلى قول علاء الدين شارح الحاوي وتاج الدين السبكي والشيخ خليل
المالكي وغيره من الفقهاء.
وملخص أقوال هؤلاء: أن الولي يجوز أن يتشكل في عدة أجسام حتى إذا لم
يره أحد يحضر الجمع ولا الحج فلا ينكر عليه؛ لأنه إنما رأى جسمًا واحدًا لم
يصل ولم يحج، وهذا لا ينافي أن الأجسام الأخر حجت وصلت وصامت. وروى
أحاديث تشهد له بذلك كرفع بيت المقدس إليه صلى الله عليه وسلم حتى نعته لقريش
ورؤيته للجنة في عرض الحائط فهل هذا صحيح؟ وهل نقل عن أحد من خير
القرون ذلك؟ وهل كل ما وقع على سبيل المعجزة لأحد من الأنبياء يجوز أن يقع
كرامة للأولياء؟ فإن قلتم: هذا صحيح فما وجه من ينكر على الحنفية فيما ذكروه
في ثبوت النسب من قولهم ولو تزوج رجل بالمشرق على امرأة بالمغرب ولم يعلم
أنه اتصل بها بسبب من الأسباب المعلومة فأتت بولد لستة أشهر نسب إليه لاحتمال
طي المسافة أو أنه زيد في ذكره حتى وصل إليها؟ وإن قلتم: إن مثل هذا من
خرافات بعض الفقهاء فأخبرونا عن مكانة السيوطي ودرجة علمه ومؤلفاته فهل
يوثق بها أم لا؟ وأي كتاب فيها يصح الاعتماد عليه للأخذ منه وعليه.
المرجو بسط الجواب عن هذه المسائل بسطًا وافيًا شافيًا ولا تحيلونا على ما
كتبتموه فيما سبق فإنه يتعذر علينا الرجوع إلى مجلدات المنار لكثرتها، وعسى أن
توفقوا لوضع فهرست عامة لجميع المجلدات مرتبة إما على أبواب الفنون أو على
حروف المعجم وتطبعوها على حدة، فإن ذلك يكون مفتاحًا لما يطلب من مجلدات
المنار، ولكم منا الشكر والثناء ومن الله الثواب والجزاء.
... ... ... ... ... ... ... المخلص لكم في المحبة والولاء
... ... ... ... ... ... ... ... محمد حسين إبراهيم
(أجوبة المنار)
قدمت نشر هذه الأسئلة على عشرات من الأسئلة مر على بعضها سنة أو
سنتان أو سنون؛ لأنها في أمور حاضرة بعضها يخصني من انتقاد عليَّ ودفاع عني،
وسئلت عنها مشافهة ومكاتبة مرارًا، وبعضها في موضوع الكرامات الذي أطلت
في منكراته في الأجزاء التي قبل هذا، وإنني أجيب عنها بما يلي:
(43) الثناء على الشيخ السبكي:
اشتهر الشيخ محمود خطاب السبكي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا
سيما البدع الفاشية والحث على السنن الصحيحة قولاً وخطابة وتدريسًا وكتابة مع
العمل في زمن يقل فيه من يقوم بهذه الفريضة من العلماء، واشتهر أنه قد تاب
على يديه وانتفع به خلق كثيرون حتى صار إمامًا يتبعه ألوف من الناس ينسبون
إليه فيسمون السبكية، وأعرف أفرادًا منهم من الأزهريين وغير الأزهريين هم
سلفيون بقدر ما يعلمون من مذهب السلف، ومنهم من له عناية بنشر مذهب السلف
وكتبه كالأستاذ الشيخ منير الدمشقي الكتبي المشهور. وقد اجتمعت به مرارًا قليلة
على تواد وتعارف وتآلف، ورأيت له بعض الكتب الصغيرة في الحث على
العبادات واتباع السنة اكتفيت من النظر فيها بمعرفة موضوعها، وقد اتُّهِمَ في أثناء
الحرب الكبرى بتهمة سياسية كادت تفضي إلى إيذائه وإهانته فلجأ إليَّ فسعيت سعيًا
صالحًا لإنقاذه من الشر، وكان الذين تولوا التحقيق في أمره قد جمعوا كتبه وكلفوا
من يثقون بهم بمطالعتها للوقوف على خطته فقال لهم المشرف عليهم في إدارة الأمن
العام: إن السيد رشيد رضا شهد له بأنه نافع للناس مأمون الضرر فأطلعوه في
بعضها على مسائل مخالفة لخطة المنار في إنكار البدع والخرافات ذكرها لي ولكنها
لم تمنع قبول شفاعتي أو شهادتي له.
وقد بلغني في أول هذا العام أنه ألف كتابًا في علم الكلام وطبعه خالف فيه
مذهب السلف في مسألة الصفات وغيرها استاء منه كل من اطلع عليه من السلفيين،
وكان بعضهم يجله ويحسن الظن في اعتقاده وعلمه فتحولوا عنه ورد بعضهم عليه،
ولم أر هذا الكتاب ولكنني سألت عنه بعض تلاميذه فمنهم من وافق المنكرين
ومنهم من حاول الدفاع عنه فكان ضعيفًا. وكنت علمت أنه منذ سنين يشرح سنن
أبي داود، وعلمت في العام الماضي أنه صدر الجزء الأول منه، ولم أره ولا كتاب
الكلام الذي قبله؛ إذ لم يهدهما إليَّ وما كنت لأشتري أمثال هذه الكتب الحديثة ولا
أجد وقتًا للنظر فيها، إلا إذا حدث باعث أرى فيه مصلحة راجحة في ذلك، وقد
انتقد لي رجل ذكي سلفي هذا الشرح ولكنه ليس عالمًا يوثق بانتقاده.
لأجل هذا كله اقتصرت في ذكر وفاته على أفضل ما علمته من سيرته وهو
دعوة الناس إلى العبادة وترك المعاصي والبدع العملية، وهذا هو الواجب على كل
عالم أعني أن يكون عاملاً بعلمه معلمًا له داعيًا إليه بقدر استطاعته، فالعلم مع
العمل وتعليم التفقيه الوعظي الباعث على العمل هو هدي السلف ومذهبهم وطريقتهم
وقليله خير من كثيره بالطريقة الجدلية الكلامية والمماحكات اللفظية، لهذا ساءني
أن يبتلى بتأليف كتاب في العقائد الكلامية؛ لأنه يتعذر عليه أن يجمع فيه بين السنة
التي يحبها ويعمل بها ويدعو إليها ويعتقد أنه متبع فيها للسلف، وبين نظريات
المتكلمين وتأويلاتهم الجدلية التي تروج وتقبل عند كل من لم يكن واسع الاطلاع
على آثار السلف.
فأنا قد قصرت في تأبينه لأجل هذا الكتاب، ولم أقل فيه: إنه من أنصار
السنة كما ذكرتم، وكان والحق يقال من أنصارها المشددين قولاً وعملاً، ليس له ند
في هذا القطر، وقلما يوجد في غيره، وأما تأويلات المتكلمين المخالفة للسلف فلا
يسلم منها أحد اعتمد في طلبه لعلوم الدين على كتب العقائد الرائجة في مصر وأكثر
الأمصار وكذا أكثر كتب التفسير وشروح الأحاديث التي ألفت بعد خير القرون،
ويظهر مما نقل لي منه ومما قرظ به أنه لم يطلع على ما كتبه حفاظ السنة وأقوال
الصحابة والتابعين وأقوال أئمة الحديث والفقه المتفق على جلالتهم حتى عند
المعتزلة لا عند الأشاعرة وحدهم كأئمة الفقه الأربعة على أن تأويلاتهم للنصوص
قلما يدحضها إلا كتب المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول، وكان أقواهم
حجةً: شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
فأنا أشهد على نفسي أنني لم يطمئن قلبي لمذهب السلف إلا بقراءة كتبهما،
وأشهد أن ما يقوله بعض المقلدين للسلف من غير فهم ولا عقل قد يكون مثارًا
للتشبيه وعذرًا لأهل التأويل، كجمع بعضهم لجميع ما ورد في القرآن والأحاديث
حتى غير الصحيحة أو أكثره، وقولهم لمن يلقنونه إياها: يجب أن تؤمن بأن لله
تعالى وجهًا وعينين ويدين وأصابع وساقًا وقدمين وأنه مستو على عرشه بذاته،
وأنه ينزل ويمشي ويهرول وينادي بصوت ويضحك ويرى كما يرى البدر إلخ وأن
كل هذه صفات له لا يجوز تفسير شيء منها بطريق مجاز لغوي ولا عقلي ولا
كناية؛ لأن هذا من التأويل الذي منعه السلف، وتكذيب لكلام الله وكلام رسوله.
وتجاه هؤلاء: أهل التأويل يشوهون نقل هذا عنهم بضم لوازمه إليه أو نقله
بمعناه عند المشوهين له، فقل لي: ما يفهم جمهور العوام والخواص من هذا الكلام؟
أليس التشبيه المحض، المنافي للتنزيه المحض، الذي يجزم به العقل، وقوله
تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) ؟
ولو نقلوا كل ما ورد بلفظه في سياقه لما أثار ما يثيره سرد مفرداتها مجموعة
من التشبيه [1] ولو قالوا: يجب الإيمان به كما ورد مع تنزيه الرب تعالى واتقاء
التحكم في معناها بالرأي اتباعًا للسلف لما كان لأحد من القائلين بالتأويل شبهة
يُخَطِّئهم بها - دع تكفيره لهم- إلا بعض أشرار المنافقين، ولكن سوء التعبير من
الجانبين وجعل لوازم المذهب مذهبًا، وإن كان لازمًا غير بين وغير مراد هو الذي
ينفخ روح الشقاق والتفرق. السلف لم يجمعوها ويلقنوها للناس ولم يقولوا بمنع
المجاز والكناية في عباراتها وإن كانت متبادرة من العبارة، ويقتضيها أسلوب
البلاغة، فإن هذا من التحكم فيها بالرأي الممنوع عندهم، وإنما خلاصة هديهم فيها
أن نُمِرَّهَا كما وردت بغير تعطيل ولا تمثل ولا تأويل، فالمعطلة جعلوا الخالق رب
العالمين في حكم العدم بإنكارهم الصفات كلها والعلو المطلق، والممثلة أو المشبهة
جعلوه كعباده، صفاته كصفاتهم، والمؤولة تحكموا في صفاته برأيهم وأهوائهم،
ويلزم من تأويلهم أن بيانهم لها أصح من بيان كتابه وكلام رسوله صلى الله عليه
وسلم بل صرح بعضهم بأن من اعتقد بعض ظواهر القرآن كان كافرًا، ومنهم
الشيخ يوسف الدجوي.
هذا وإن التفرق في أصول الدين بين سلفيين وخلفيين أو مفوضين ومؤولين
أو سنيين ومبتدعين، بحيث ينتهي بهم الخلاف إلى التكفير والحكم بالمروق من
الدين، مما يتبرأ منه أئمة السلف الأولين، الذين يُِقرُّ بفضلهم وإمامتهم الفريقان.
فاختلاف الفهم للصفات والأفعال بين السلف والخلف لا يصح أن يفضي إلى
التكفير فإن الله تعالى لم يجعل صفاته فتنة لعباده المؤمنين به وبكتابه ورسوله
المهتدين بدينه فيجعل المخطئ بفهمه لضعفه كالمشرك به المكذب لرسوله، وللمحقق
ابن عقيل الحنبلي كلام نفيس في عذر العلماء بالخطأ في مثله يراجع في كتاب
(الآداب الشرعية) لابن مفلح فإن كان الشيخ محمود السبكي قد صرح في كتابه
الأخير بما نقله عنه من التكفير بنصه، فإنه من هذه الناحية لقرين عدو القرآن
والسنة، أعمى البصر والبصيرة المنكوس على رأسه، الذي صرح بتكفير من
يؤمن بظاهر القرآن، وأرجو أن يكون عزو هذا إليه كعزو السائل إليَّ أنني جعلته
من أنصار السنة، مأخوذًا من لازم الكلام بفهمه، لا صريح نصه.
(44) رسالة القذع والقذف والبهتان:
إنني اطلعت على الرسالة المذكورة قبل نشرها، وذكرتها في المقالات التي
رددت بها على مجلة مشيخة الأزهر، وذكرت فيها ما جرى بيني وبين شيخ
الأزهر بشأنها فيما كان من مخادعته إياي باسم الصلح بيني وبين مفتريها،
وتصريحي للشيخ بأنه لا قيمة لها ولا لملفق بَهَائِتِهَا ومفترياتها عندي، وأرى من
العار عليَّ أن أعده مناظرًا أو خصمًا وأعقد معه صلحًا، فسواء عليَّ أنشرت أم
منعت وأحرقت، إنها لا تعيبني ولكن تعيب الأزهر أو مشيخته أن يصدر مثلها عن
أحد علمائه ولا يعاقب عليها إلخ، وكان الشيخ يساومني على جعل منع نشرها ثمنًا
للصلح. وقد نشرت مقالاتي هذه في المنار وفي بعض الجرائد اليومية في مصر،
وعهدي بالأستاذ السائل أن يطلع على كل ما ينشر في المنار فما معنى هذا السؤال؟
وقد جاءتني رسائل كثيرة وقصائد من الأقطار المختلفة في الرد عليه فلم أنشر
شيئًا منها اهتداء بقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)
ولكن ردَّ عليه كثيرون من علماء الأزهر، وعلى شيخ الأزهر مغريه، ونُشِرَتْ
ردودهم ومطاعنهم في الجرائد اليومية. وأما طعنه في حفظ السنة فقد فنَّدته في
سياق تفنيد ما يدعو إليه من البدع والخرافات، ولو شئت أن أعاقب المسيء لرفعت
عليه قضية في محكمة الجنايات، ولكن انتقم الله من المفتري والمغري بطعون
ومَخَازٍ نشرت في بعض الجرائد اليومية لم يستطع الرد عليها أحد، ولما تنته بعد،
وينتظر من عدل الله ما هو أشد.
وأما كتاب (المنار والأزهر) المشتمل على تلك المقالات في الرد على مجلة
الأزهر وبدعها وخرافاتها، وتفنيد بهائتها ومفترياتها، فقد أرجأت نشره إلى أوائل
العام القابل، أي بعد نشر الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي في ذي الحجة
الآتي ونشر الجزء الحادي عشر من التفسير في المحرم سنة 1353 إن شاء الله
تعالى.
(45) فتوى السيوطي المبنية على تطور الولي:
في أول سطر من السؤال عن هذه الفتوى غلطتان: (إحداهما) في اسم
الكتاب فإن اسمه (المنجلي ….) لا (القول الجلي …..) (والثانية) في
الطلاق الذي سئل عنه المؤلف وهو الطلاق غير موصوف بالثلاث كما ذكر في
السؤال، فهاتان الغلطتان مع الغلطة الأولى في مسألة السبكي التي بينتها في
موضعها مما يوجب عليكم الدقة في النقل ومراجعة ما يكتبه لكم من تملون عليه
لتثقوا بصحته.
وأما الفتوى فإنني أقول فيها - وإن لم أقابل ما لخصتموه منها بأصله - إن
فيها خلطًا وخبطًا كثيرًا لا يمكن بسطه إلا في رسالة طويلة لا أرى حاجة إليها إذ
يغني عنه القول بأن هذه الفتوى في تفصيلها رأي للسيوطي لا يجوز لأحد تقليده فيه،
وغير المقلد من المفتين أو المستفتين ينظر في الدليل ويأخذ بما ظهر له صحته.
وهو قد بنى الفتوى بعدم وقوع الطلاق على أحد من الأربعة الذين حلفوا به
من حيث الفقه على الترديد في إقامة البينة من بعضهم دون بعض وعدم إقامتها من
أحد منهم، وإنما تطلب البينات وينظر في تعارضها والترجيح بينها في حال إقامة
الدعاوي [2] فإن لم يكن هنالك دعوى فيفتي كل واحد بحلفه على اعتقاده. فإذا كان
يعتقد أن من بات عنده في تلك الليلة هو فلان كما حلف، فلا يضره اعتقاد غيره
أنه أخطأ، وإن كان يستحيل صدق كل واحد منهم بالفعل أو في اعتقاده، بل عليه
أن يعتقد أن غيره كاذب؛ لأن خبره الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته قد تعين عنده
أنه كاذب فيه؛ لمخالفته لما ثبت عنده هو بالحس، والأصل فيه إفادة اليقين.
أكتفي بهذا في أصل الفتوى من حيث الفقه كما قال لأنها من الخيالات
الخرافية التي قلما تقع. وألخص ما يستنبط منها من المسائل التي بنيت عليها وهي
أهم منها، والمقصودة بالذات من نشرها، وأبين رأيي فيها.
(46) تطور الولي ووجوده في عدة أمكنة في وقت واحد:
إن علماء المعقول متفقون على أن وجود الجسم الواحد في مكانين أو أكثر في
وقت واحد من المُحَال العقلي المعلوم بالبداهة أو الضرورة، ويحكمون بكذب مدعيه
قطعًا، بل يجعلونه مثالاً للمحال.
ولا يصح معارضة هذا الحكم القطعي الضرورة في عالم الشهادة باحتمال
وقوع مثله عقلاً في عالم الغيب كالملائكة والجن أو ثبوته بنص شرعي قطعي، فإن
لمن يسلم هذا أن يقول أن عالم الشهادة لا يقاس على عالم الغيب، وأن الذي رأى
زيدًا من الناس …… عنده إنما رأى جسدًا من عالم الشهادة ذا روح، والجسد
الخاص المعين لا يكون في مكانين في وقت واحد قطعًا، واحتمال تصرف روح
الإنسان في هذا العالم بجسده وظهوره في جسدين أو أكثر مخالف لسنة الله تعالى في
هذا العالم فلا يُبْنَى عليه حكم شرعي بل السيوطي يقول في هذه الفتوى: إن روح
الولي في حال تشكله في الصور تكون في جسمه الأصلي، ويكون له أجسام أخرى
من عالم المثال الذي هو عندهم وسط بين عالم الأرواح وهو ألطف منه، وعالم
الأجسام وهو أكثف منه، وروحه تتصرف في الجسم الأصلي في الأجسام المثالية
في وقت واحد.
فنقول في هذه الحال: إن جسمه الأصلي هو الذي تتحقق به حقيقته الكونية
الشرعية، وتلك الأجسام التي تصرفت بها روحه غريبة من غير عنصر الأجسام
البشرية، فلا يصح إعطاؤها حكمًا شرعيًّا من صلاة ولا حج ولا زواج ولا طلاق
ولا غير ذلك من العقود والحدود الشرعية على فرض وقوع ذلك كما قيل، وهو ما
لا يمكن إثباته بالفعل لما يعرض فيه من الاحتمالات، ومنها أن شيخ الإسلام ابن
تيمية الجامع بين علوم النقل والعقل والتصوف يقول: إن الشخوص البشرية التي
تظهر بصور بعض المشايخ وغيرهم هي من الجن، فالمتعبدة الصالحة منها لبعض
مؤمني الجن ومنهم من ظهر بصورته هو في الموصل بمظهر صالح يليق به إذ
كان هو بدمشق، والخبيثة الضارة لكفار الجن وشياطينهم كما نقلناه عنه قريبًا في
التفسير.
على أن التحقيق أن عالم المثال الذي يدعي السيوطي أن الصوفية أثبتوا
وجوده هو عالم تصور خيالي لا وجود له في الخارج، فهو كعالم الماهيات
الهيولانية في فلسفة أفلاطون فلا وجود له في الخارج، وأصح منه الأثير الذي
يقول به علماء المادة وسيأتي ذكره. وإن مسألة التجرد الروحانى والتشكل في
الصور أمر آخر يظهر أن السيوطي لم يكن يعرفه ولا أئمته الذين اتكأ على أقوالهم
في إمكان وجود الجسم في الأمكنة المختلفة واعتمد عليها فكانت كجسيم العاشق الذي
قال لمعشوقته:
إن في بردي جسمًا ناحلا ... لو توكأت عليه لانهدم
(47) وجود الشخص في الأمكنة:
قال السيوطي: (إن وجود الشخص الواحد في أمكنة متعددة في وقت واحد
ممكن غير محال كما يتوهم، فقد نص الأئمة الأعلام أن ذلك من قسم الجائز الممكن
- وسمى جماعة منهم ذكر السائل بعضهم ثم قال -: وحاصل ما ذكره في توجيه
ذلك ثلاثة أمور: (الأول) أنه من باب تعدد الصور بالتمثل والتشكيل كما يقع ذلك
للجان (والثاني) أنه من باب طي المسافة وزوي الأرض من غير تعدد فيراه كل
في بيته وهو في بقعة واحدة إلا أن الله طوى الأرض ورفع الحجب المانعة من
الاستطراق فظن أنه في مكانين وإنما هو في مكان واحد (قال) وهذا أحسن ما
يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حال
وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء. (الثالث) أنه من باب عظم جثة الولي بحيث
ملأ الكون فشُوهِدَ في كل مكان كما قرر بذلك شأن ملك الموت ومنكر ونكير حيث
يقبض من مات في المشرق وفي المغرب في ساعة واحدة، ويسأل من قبر فيهما
في الساعة الواحدة، فإن ذلك أحسن الأجوبة في الثلاثة ولا ينافي ذلك رؤيته على
صورته المعتادة فإن الله يحجب الزائد عن الأبصار أو يدمج بعضه في بعض كما
قيل بالأمرين في رؤية جبريل في صورة دحية، وخلقته الأصلية أعظم من ذلك
بحيث إن جناحين من أجنحته يسدان الأفق) اهـ المراد منه، وذكر بعده بعض
أقوال أولئك الذين سماهم الأئمة في ذلك.
أقول: (أولا) إن مسألة المحال العقلي هي من أحكام العقل فآراء من سماهم
الأئمة الأعلام وغيرهم من العقلاء فيها سواء، ولكن هؤلاء الأئمة الأعلام قد نبذوا
حكم العقل وراء ظهورهم اتباعًا لدعاوي الصوفية، كما نبذه هو تقليدًا لهم، وإن
كان قد ادعى الاجتهاد المطلق، فالصوفية قد صرَّحوا بأن كشفهم ودعاويهم مخالفة
للعقل كما قال ابن عربي
وإذا عارضك العقل فقل ... طورك الزم ما لكم فيه قدم
وقال ابن الفارض
فثم وراء العقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة
(ثانيًا) إن ما وجهوه به وقلدهم فيه يدل على أنهم قد قلدوا الصوفية بغير
عقل ولا فهم للنقل ولا لأقوالهم فإنهم يعنون به غير عالم الأجسام العنصرية، وقد
كان منهم من لا يعرف حكم الشرع في ذلك.
(ثالثًا) تقدم أن العقل والشرع يمنعان من قياس عالم الشهادة ومنه الإنسان
على عالم الغيب كالملائكة والجان، ونزيد عليه أنه لم يثبت بدليل عقلي ولا شرعي
يحتج به أن الجني الواحد يتمثل بصور كثيرة في أماكن مختلفة في وقت واحد.
(رابعًا) إنه قد أخطأ وخلط بين الأمور التي وجهها به أئمته لعدم فهمها كما
نبينه فيما يأتي:
(48) طي المسافة وزوي الأرض:
إن ما يسمونه طي المسافة غير مسألة زوي الأرض ورؤية الأماكن البعيدة
منها، فالأولى عبارة عن تشكل الروح المجردة في مادة لطيفة تقطع بها المسافات
البعيدة في مدة قصيرة، ومنهم من يفسر بها الإسراء والمعراج، والثانية عبارة عن
تمثل الأماكن البعيدة بصورها للروح أمامها في الهواء أو في حائط مثلا بصورة
مصغرة فتدركها الروح كالمرئية بالعينين وهي التي يفسر بها رؤية بيت المقدس
للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكانه بمكة، وتمثل الجنة له أيضًا.
ومنه حديث (زويت لي الأرض) أي جمعت منقبضة مصغرة، ومثال ذلك
تصغير الصور بعدسيات الزجاج من جهة كتكبيرها من جهة أخرى. وخلاصة
الحديث أنه مثلت له الأرض صغيرة مزوية فرأى منها ما يصل إليه ملك أمته لا أنه
قطع مسافتها.
وأصح ما ورد في تمثل بيت المقدس له حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين
قال: قال صلى الله عليه وسلم (لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس
قمت في الحجر فجلَّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)
فمعنى جلاَّه أظهره وكشفه له كشفًا جليًّا، وليس معناه أنه قلعه من مكانه ووضعه في
مكة، ورواية رفعه له تصوير للرواية الأولى ونحن لا ننكر على من دونه صلى الله
عليه وسلم أن تتوجه نفسه إلى شيء فينكشف لها فيراه، فإن هذا من جنس الكشف
الذي نقل عن بعض أصحاب الرياضيات، ولكنهم لم يصلوا فيه إلى مثل درجته
صلى الله عليه وسلم في الوضوح وطول المدة بحيث يتمكن من وصفه بتلك الدقة،
وأين هذا من خرافة طواف الكعبة بالولي إن يكن يراد بها التخيل المحض؟
(49) تكبير الجثة وتصغيرها:
إن ما سماه عظم الجثة بحيث تملأ الكون هو طور من أطوار التشكيل في
الصور فهما من باب واحد كما سأبين جعله بابين بابًا لتعدد الصورة وبابًا لتكبيرها؛
لعدم فهمه لمنشأ كل منها، فأخطأ في جعل الواحد اثنين، كما أخطأ في طي المسافة
وزوي الأرض فجعلهما واحدًا وهما اثنان، فكيف يصح لعالم أن يبني فتواه
الشرعية ويفسر ما ورد في عالم الغيب على ما يجهله ولا يفهم ما يقوله غيره فيه؟
(50) قياس الأولياء على الأنبياء والملائكة:
قلنا: إن قياس عالم الشهادة على عالم الغيب أو عالم الملك على عالم الملكوت
- على اصطلاح الصوفية - قياس باطل أو بالفارق، ومثله قياس الأعمال العادية
على الخوارق، ثم قياس الكرامات على المعجزات بناء على أنهما من جنسها أو
نوعها وتكون مثلها. ومن العجيب أن يقع فيه السيوطي ومن نقل عنهم واعتمد
عليهم وسماهم الأئمة، ومنهم تاج الدين السبكي الذي فرق بينهما في الرد على
منكري الكرامات من أصلها بأن الأصل فيها الخفاء والإخفاء، فلا يجوز إظهارها
إلا لضرورة وصرح بهذا المحققون من الصوفية أيضًا وبأنها لا تبلغ مبلغ المعجزة
خلافًا لقول بعضهم: إن ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون كرامة، وذكر أن
القشيري من أئمة الفريقين خالف في هذا أيضًا كما بيناه من قبل.
وأعجب من هذا أن يقيسوا هؤلاء الأولياء الخياليين أو المتخيلين على الأنبياء
في كل ما ذكروا من خصائصهم ما صح فيه النقل منها وما لم يصح حتى في أمور
البرزخ والآخرة.
وأعجب من هذا الأعجب أن يقيسوهم على الملائكة المقربين حتى جبريل
معلم الأنبياء والمرسلين، وملك الموت قابض أرواح الجميع، إن هذا لهو الجهل
العميق، إن هذا لهو الضلال البعيد، الذي يصح على قائسيه قوله تعالى:
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: 53) والله تعالى يقول لرسوله خاتم
النبيين: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ
إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام
: 50) بلى إن من يقيس هؤلاء المساكين الذين زعموا أنهم كانوا يوجدون في
الأماكن المتعددة من الأرض على جبريل وملك الموت عليهما السلام لا يتفكرون في
سنن الله في الخلق، ولا فيما خص به كل عالم وكل جنس من الفروق والخصائص
ولا في حكمته في ذلك.
ومن عجائب غفلتهم عن التفرقة بين الجنس الذي قال الله تعالى فيه:
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (النساء: 28) والجنس الذي خصه عز وجل بأعظم
القوى في العالم حتى أعظم أفراده قوة ومقامًا كجبريل الذي قال تعالى بعد القسم في
بيان تلقينه الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ
عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} (التكوير: 19 -
22) وقال في هذا المعنى أيضًا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ
بِالأُفُقِ الأَعْلَى} (النجم: 5-7) الآيات.
ثم إنهم على تجويزهم أن يكون وليهم المتخيل كجبريل يملأ الآفاق، وأن
يظهر بالصور الكثيرة في كل مكان، يحرصون أشد الحرص على جسده الضعيف
الفاني فيستثنونه من عموم قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: 26)
ويقولون: إنه يبقى في قبره كما كان في الدنيا يتعبد، ومنهم من قال: إنه يأكل
ويشرب، ويخرج فيقضي حوائج الذين يتوجهون إليه بالدعاء والاستغاثة،
ويتقربون إليه بالنذور والطواف بقبره كالكعبة، وبلمسه وتقبيله كالحجر الأسود
(أي يعبدونه من دونه تعالى) ثم يعود إليه فينجحر فيه، وهو في خارجه مالئ
للكون كله يتصرف فيه، ويوجد في كل حجر ومدر منه! ! فما معنى محافظتهم مع
هذا على هذا الجسد الذي كانت حياته كلها بالدم النجس عندهم، والذي كان يحمل
العذرة كما يقولون في مواعظهم، وعلى هذه الحفرة الصغيرة التي وضع فيها، وقد
أعطي هذه الخصائص والكرامات كلها؟
إنه لا يعجز بعض سدنة بعض هذه القبور المعبودة أن يؤلف لك رسالة أو
كتابًا في جواب هذه الأسئلة المفحمة لمن يفقهها من العقلاء وعلماء الكتاب والسنة،
فإن الذي يقلد هؤلاء المؤلفين؛ لأنه يعتقد أنهم كانوا أرقى منه علمًا وعقلاً ودينًا
وكرامة لا يتفكر ولا يعقل كما أمره الله؛ لأن عقله الفطري الخاص معطل لا حكم
له ولا يحتاج إلى فهمه وإدراكه؛ ولأن العقل الكلي العام للمكلفين وهو هدى كتاب
الله متوقف عندهم على منصب الاجتهاد وقابل لما لا يعقل من التأويلات، ورحم
الله الإمام الشافعي الذي قال: إن الرجل إذا تصوف في أول النهار فلا يأتي المساء
إلا وهو مجنون. قال هذا في صوفية عصره وفيهم العلماء الأعلام، فماذا يقول في
الأدعياء من مقلدي المتشبهين بالصوفية هبوطًا إلى بضع دركات؟
نضرب للناس الأمثال العلمية نقرب بها إلى عقولهم أنباء نصوص الوحي في
عالم الغيب؛ ليطمئن قلب المؤمن بإيمانه، ويجد بها المرتاب مخرجًا من ارتيابه،
والغارق في بحر الخرافات منجاة من أوهامه، فتأتي هذه الحكايات التصوفية بفتن
كقطع الليل المظلم يوسوس شيطانها لمستقلي العقول وحملة برهان العلم: إذا كان
الملائكة وهم أقطابُ عالم الغيب المدبرون من وراء الحجب لأمور عالم الشهادة مثل
هؤلاء الضعفاء الذين يسمونهم أقطاب البشر أو دونهم قوة وتصرفًا في ملكوت
السموات والأرض فأجدر بكم ألا تؤمنوا معهم بأولئك الأقطاب الذين لا تعرفون
عالمهم الغيبي، حتى يروكم تصرف هؤلاء الأقطاب الذين تعرفون من عالمهم
المادي ما لا يعرفون، وتتصرفون في عناصره ومركباته وقواه بما هو أعظم مما
يدعون، ولكن في ضوء سنن الله في الكون وعلى صراط حكمته في نظامه، وبما
يظهر لهم ولغيرهم عجائب صنعه وسعة رحمته بعباده، ومن حيث لا يظهر لما
يدعون حكمة ولا فائدة، فشعوب المدعين لهذا التصرف من صوفية البوذيين
والبراهمة والمسلمين أضعف من جميع شعوبكم، وقد أصبحوا كلهم عبيدًا لدولكم
المنتفعة بتصرفكم، فهل تتبعون عبيدكم في دينهم لتصيروا مثلهم؟
قلنا مرارًا في المنار وفي تفسيره: إن الصور التي يتشكل فيها الملك أو
الجني قد تكون من الأثير الذي ينفذ من الأجسام الكثيفة، وإن مثل الملائكة فيما
صرفها الله تعالى فيه كمثل هذه الكهرباء في قوتها وسرعتها وتأثيرها في مادة العالم
وهذا المثل يقرب من عقولنا تصرف الملك في تحليل مادة الكون وتركيبها كما
فصلناه في محله، ويقرب من عقولنا إمكان قبضه لما لا يحصى من الأرواح في
وقت واحد، فهو كما يطفئ الرجل ألوفًا من المصابيح الكهربائية وينيرها في
لحظة واحدة وهو في مكانه بعيدًا عنها، وقد غمز أحدهم زرًّا في أوربة فتحركت به
ألوف من الآلات في أوسترالية، فليفعل لنا هؤلاء الأولياء مثل هذا في تصرفهم
الروحاني في الكون لعلهم يؤمنون بالله فيتبعوننا أو ينتقم الله لنا منهم بتصرف غيبي،
أقوى من تصرفهم المادي، قبل أن يفتنوا جميع حكامنا وكبرائنا بعلومهم عن ديننا
فلا يبقى من المنتمين له أحد إلا هؤلاء العوام الجاهلون، الذي يصدقونهم فيما
يزعمون.
هذا وإننا قرأنا في صحفنا من أخبار الهند في هذه الأيام عن لاما التبت
(كاهنها البوذي الأكبر) الذي مات من عهد قريب وغيره عجائب وخوارق منها
الحياة بعد الموت والمشي في الهواء، والماديون كالروحيين من الإفرنج يثبتون هذه
الأخبار لصوفية الهند وكهنتهم؛ لأنهم رأوا بأعينهم ولم يروا من صوفية المسلمين
شيئًا مثلها أو يقرب منها، فإلى متى يحسب الجاهلون الغافلون من قراء هذا الكتاب
للسيوطي وما هو شر منه للشعراني وغيره أن ما فيها من هذه الحكايات من حجج
الإسلام ودلائل حقيقته، وإذا لم تكن كذلك فماذا كان من نفعها وفائدة تدوينها إلا
الفتنة في الدين وعبادة غير الله تعالى.
(51) أي كتب السيوطي خير:
كان الجلال السيوطي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع على كتب السنة والآثار
وعلماء القرون التي قبله والتي ألفت في عصره، كثير العناية بالنقل والجمع من
قديمها وحديثها، وسمينها وغثها بدون تحقيق كما هو الغالب فيمن تتوجه قواه إلى
شيء واحد هو مستعد له بمقتضى المزاج والوراثة وتركيب الدماغ، وكان شغوفًا
بتقوية ما ضعَّفه العلماء من قبل حتى المحدثين منهم مما يوافق بيئة عصره، وما
يعبر عنه في عرف زماننا بالرأي العام، ومنه المبالغة في الإطراء والمناقب،
والخوارق والعجائب وأحسن كتبه ما ينقله عن المتقدمين، وأضرها ما يجمع به
الأمشاج عن المتأخرين والمعاصرين، وخير كتبه لا يستغني عن تنقيح أو (خدمة)
كما يقول الأزهريون في الكتب غير المشروحة ولا المحشية، فمنها الدر المنثور
حشاه بالروايات الإسرائيلية والأحاديث المنكرة وكذا الموضوعة، وهو لا يستغنى
عنه، لو وجد محدث يخرِّج رواياته ويبين ما يصح منها وما لم يصح، ومن كتبه
النافعة الإتقان والجامعان الكبير والصغير ويحتاجان إلى تحقيق ما يصح من
أحاديثهما وما لا يصح أيضًا، ومنها في اللغة المزهر والأشباه والنظائر النحوية،
وقد بالغ الحافظ السخاوي في نقده والطعن فيه فيحتاج كلامه فيه إلى وزن وحكم
عادل.
وجملة القول فيه أنه خدم العلم خدمة كبيرة بقدر طاقته، فجزاه خيرًا على
ما أحسن فيه وأصاب، وعفا عنه وغفر له ما أخطأ فيه بحسن نية، وجعلنا في
كتبه وغيرها ممن قال فيهم: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
__________
(1) مثاله أن ورود الأصابع في الحديث لا يفهم منه الناس إلا كما يستعملونه حتى اليوم في التصرف الدقيق الخفي، وحديث (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط) الحديث وفي رواية (يضع عليها قدمه) يفهمون منه أنه يقرها بعزته فهو من باب قوله صلى الله عليه وسلم في دماء الجاهلية ورباها (تحت قدمي) ويقاس على هذا غيره وهو ليس بإخراج عن ظاهره، بل هو على ظاهره ولكن بدون بحث في كنهه وكيفيته.
(2) يجوز في مثل الدعاوى والفتاوى فتح الواو وكسرها واختلف أيهما أفصح وفي الحديث (لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم) إلخ وهو متفق عليه.(33/670)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النزاع الديني في ألمانيا
بعض رجال الكنيسة يتحدون النازي [*]
(الريخ الثالث لا يحتاج إلى المسيحية) للأستاذ برجمان
(المسيحية نتيجة حضارة عليلة) لمؤلف نازي
تأتينا الأنباء البرقية في الفينة بعد الفينة بلمحات من النزاع القائم في ألمانيا
بين رجال الكنيسة البروتستانتية والنظام النازي. فما هو مثار الخلاف؟ وما هي
التعاليم النازية التي يعترض عليها رجال الكنيسة؟ وهل يكون هؤلاء المتحدون
للنظام النازي في دائرة الدين نواة للمقاومين في نواحي الحياة الأخرى؟
في أواسط نوفمبر الماضي أذاع نحو (من) ثلاثة آلاف من القساوسة الألمان
وكان يوم الاحتفال بانقضاء 450 سنة على ميلاد مارتن لوثيروس بيانًا قالوا فيه:
(نحن وعاظ الإنجيل لا ينبغي (لنا) أن نستنزل على رءوسنا توبيخ النبي أشعيا
حيث يقول: (كلهم كلاب خرس لا يستطيعون النباح، مضطجعون نائمون،
ويحبون أوسن) وبعد ذلك أصدروا بيانًا آخر قالوا فيه: (إن كنيستنا تواجه يوم
الدينونة. والتهجم على الصليب ما يزال في بداءته، إن وثنية جرمانية جديدة قد
بزغت في أمتنا وقد غزت الكنيسة نفسها) .
وقد جاء هذان البيانان احتجاجًا على اتجاهات الحركة الموسومة بالحركة
الألمانية المسيحية في الكنيسة الإنجيلية الألمانية، أما السبب المباشر لإذاعتهما،
فكان اجتماع جمهور غفير ممن يسمون أنفسهم بالمسيحيين الألمان، حضره طائفة
من رؤوس الكنيسة وطالب فيه الدكتور ريتهولد كروس أحد متطرفي الحركة،
بإلغاء الصليب كشارة دينية، وحذف العهد القديم من التوراة من برامج التعليم في
المدارس، وجعل مقاومة اليهود خطة ثابتة للكنيسة البروتستانتية. وزعماء
الفريقين مصرون على السير بالنزاع إلى نهايته.
في ألمانيا نحو 22 ألفًا من قساوسة الكنيسة البروتستانتية. ومن المتعذر أن
تعرف كم قسيسًا منهم تابع للحركة المسيحية الألمانية؛ لأن هذه الحركة ليست
عقيدة أو نظامًا معينًا يُعرف المؤمن به بالانضمام إليه، وإنما هي فلسفة أو وجهة
نظر إلى الحياة، ففي الانتخابات الكنسية التي تمت في منتصف السنة الماضية،
فاز المسيحيون الألمان بنحو (من) ثلثي الأصوات ولكن خصومهم يدعون أنهم
(أي المسيحيين الألمان) أرهبوا خصومهم وقت الاقتراع. ومع أن المسيحيين
الألمان، يختلفون من حيث تطرفهم في الدعاية إلى إلغاء الصليب وحذف العهد
القديم من برامج الدراسة، إلا أنهم جميعًا نازيون، وغرضهم استعمال الكنيسة
أداة لنهضة قومية؛ ذلك أن الكنيسة الإنجيلية الألمانية المؤلفة من الكنائس الثمان
والعشرين في مختلف الولايات الألمانية لها نحو (من) أربعين مليونًا من الأعضاء.
وفي ألمانيا كذلك نحو من عشرين مليونا من الكاثوليك و800 ألف من أتباع
المذاهب الأخرى، عدا نحو نصف مليون يهودي (564 ألفًا عن التدقيق سنة
1930) وكل هؤلاء يتتبعون النزاع الديني القائم بعناية عظيمة. خذ مثلا على ذلك
ما قالته صحيفة جرمانيا الكاثوليكية: إذا كان التبشير بالمسيح في ألمانيا قد أصبح
في خطر فالمسيحيون الكاثوليك يصيبهم شيء من هذا الاضطهاد)
يعتقد المسيحيون الألمان: أن مبدأ الزعامة يجب أن يمتد إلى كل نواحي
الحياة القومية، وأن رؤساء الكنيسة يجب أن يخضعوا لزعامة وسيطرة الزعيم أو
المنقذ أودلف هتلر، والمتطرفون في هذه الحركة يقولون: إن (الدولة المندمجة)
لا يمكن أن تتم إلا إذا اندمج الألمان البروتستانت والألمان الكاثوليك في (الكنيسة
المسيحية الألمانية) التي زعيمها المستشار هتلر. أما هتلر فكاثوليكي ولا يخفى أن
إشاعة راجت من بضعة أشهر أنه ينوي أن يعتنق المذهب البروتستانتي القومي،
أي أن ينضم إلى الكنيسة البروتستانتية القومية، ولكن هذه الإشاعة كذبت.
و (المسيحيون الألمان يعتقدون كذلك أن السلالة Race يجب أن تكون
أساسًا للكنيسة كما هي أساس للدولة. وهذا أساس (الوثنية الجديدة) التي يشير
إليها القساوسة في بيانهم ويحتجون عليها، فالمثل العليا التي يرمي إليها هتلر، لا
يمكن تحقيقها إلا بواسطة شعب آري [1] كذلك يقول الزعماء المتطرفون في
(الحركة المسيحية الألمانية) لذلك يقترحون أن ينشئوا كورًا خاصة باليهود الذين
يعتنقون المذهب المسيحي، وكورًا أخرى منفصلة عنها للمسيحيين، وقد قال أحدهم:
ولما كانت المسيحية لا تستطيع أن تحول الرجل إلى امرأة كذلك لا تستطيع أن
تحول اليهودي إلى ألماني.
والمتطرفون في هذه الحركة يريدون ديانة أبطال، إنهم يريدون نوعًا جديدًا
من فلسفة الاستشهاد، تعبد فيها ألمانيا أبطالها، الممثلين في مليونين من أبنائها
سقطوا في ميادين الحرب الكبرى.
خذ مثلاً على ذلك الأستاذ أرنست برجمان، وهو من الزعماء النظريين لهذه
الحركة الجديدة، خطب في جمهور من الطبقة المثقفة في جامعة برلين فقال: ليس
للمسيحية مكان في الريخ الثالث، ومن شاء أن يوفق بين المسيحية والاشتراكية
القومية (حركة النازي) فليس مسيحيًّا حقيقيًّا ولا قوميًّا صحيحًا (نقلاً عن
نيويورك تيمس 26 نوفمبر سنة 1933) .
أما الدكتور ألفرد روزنبرج، أحد مستشاري هتلر المقربين، فيدعو إلى نوع
من التقوى أو الورع الذي يدفع أصحابه إلى مقاومة ومكافحة الماركسية (الشيوعية)
واليهودية والدعوة إلى الإسلام، يقول: (الجرمانية هبة من الله وأنت تطيع
أوامره بالذهاب إلى الحرب) وقوله: (إن سلالة الأسياد هي سلالة من المحاربين
(الصليبيين CRUSADEIS) الشقر وقد وصفت المسيحية في أحد الكتب
الجديدة التي نالت رواجًا عظيمًا، بأنها نتيجة حضارة معتلة أنشأها سكان حوض
البحر المتوسط المنهوكي القوى)
نشأت المقاومة لهذه التعاليم من الداء، واتجهت في الغالب إلى مقاومة ما
يحاوله (المسيحيون الألمان) من السيطرة على حياة ألمانيا الروحية، ولكن
النازيين كانوا قد جردوا الولايات الألمانية من حقوقها المستقلة، لكي ينشئوا منها
الدولة المندمجة أي الريخ الثالث الموحد. وكذلك نشأ القول بأنه لا معنى للاحتفاظ
بكنيسة مستقلة لكل ولاية من الولايات السابقة، فاعترضت مسألة تنظيم الكنيسة
الألمانية الموحدة، ومن يكون رأسها الأعلى؟
وجاءت المعركة الأولى في إبريل من السنة الماضية، فربحها القساوسة غير
النازيين؛ لأن المسيحيين الألمان (لم يكونوا قد نظموا صفوفهم بعد، أو لعلهم كانوا
أقلية حينئذ، ولكن لما كان لا بد من إنشاء كنيسة قومية انتخب القساوسة المعتدلون
في 27 مايو الدكتور فريديمان فون بوديشونغ أول أسقف للريخ.
واحتدمت المعركة بعد الانتخاب؛ ذلك أن حكومة هتلر رفضت أن تعترف
بانتخاب الأسقف وهو غير نازي، ونظم رجال (الحركة المسيحية الألمانية)
صفوفهم بزعامة الدكتور ملر MUELLER الذي اشتهر بتنظيمه (ردهة الشهرة)
لرجال البحرية الألمانية في مدينة (ولميز هافن) وكان في خلال الحرب قسيسًا
لأورطة (تلور) من البحارة، ومن أقوى الدعاة لحرب الغواصات، وعدوا لدودًا
للاشتراكية واليهود، وبعد الحرب عُيِّنَ قسيسًا لأحد فرق الجيش في بروسيا الشرقية.
وكذلك اضطر (فون بود لشونغ) أن ينسحب فتفوق (المسيحيون الألمان)
على خصومهم، وامتدت المعركة إلى الشوارع حيث سرح مؤيدو الأسقف المنسحب
يوزعون النشرات يدعون فيها الجمهور إلى أن يعصوا أوامر (المسيحيين الألمان)
فرد عليهم خصومهم بأنهم حملوا الحكومة على أن تعلن أنها سوف تحاكم المنشقين
وكذلك تعرفت (مضارب التركيز) التي جمع فيها خصوم النازي إلى لباس
القساوسة بين رجالها، وفي أول يوليو بعث الرئيس هندبرج برسالة إلى الهر هتلر
يطلب إليه أن يعدل بين الجميع.
ولما اجتمع السنيودس (المجمع الكنسي) الأعلى في سبتمبر انتخب الدكتور
ملر أسقفًا للريخ، ومن ثم مضى هو وأتباعه في تحقيق التوحيد أو التعاون بين
الدولة والكنيسة، وفي المجمع الكنسي المذكور وافق المسيحيون الألمان على (البند
الآري) الذي أشرنا إليه سابقًا، وفرضوا على القساوسة أن يكونوا آريين وقرروا
أن يحذفوا كلمة (آمين) و (هللويا) من الطقوس الكنسية، ولعل ذلك لأن أصلهما
عبري، وقررت كنائس بروسيا الشرقية أن تدخل الموسيقى العسكرية في الحفلات
الدينية في ولاية برنسويك، وأشير على طلاب العلوم الدينية والقساوسة بالانضمام
إلى فرق الهجوم النازية، وأصبح مرأى العلم النازي حاملاً شارة الصليب [2]
منظرًا مألوفًا على الكنائس.
ولكن المعارضة لم تلن، كما تقدم في بدء المقال، فاعترض أولا أسقفا
بافاريا وفرتمبرج ثم مجلسا إدارة كليتي الفقه في جامعتي ماربرج وكيل، ثم جاء
بيان الثلاثة آلاف أسقف، فوقف إزاء ذلك أسقف الرين، فعل (البند الآري) ولكن
الزعامة ما تزال في أيدي ملر وأتباعه، والنزاع ما يزال قائمًا.
__________
(*) نشرت في جريدة كوكب الشرق في العدد الذي صدر في 6 من شوال سنة 1352 هـ الموافق 22 من يناير سنة 1934 م.
(1) أي آري العرق والجنس وهذا العرق منبته بلاد إيران والهند ومنها انتقل إلى أوربة، ويعده الأوربيون خصمًا للعرق السامي حتى في المدنِيَّة والدين كما ذكره جبريل هانوتو الوزير الكاتب الفرنسي في مقال له ترجم بالعربية ونشر في المؤيد سنة 1316 فرد عليه شيخنا الأستاذ الإمام ردًّا بليغًا سارت به الركبان، وهذه العداوة الآرية للسامية هي التي يثيرها الألمان اليوم لعداوة اليهود والديانة المسيحية السامية.
(2) المنار: هذا الصليب الآري مخالف لأشكال الصليب المعروفة عند النصارى كلهم وسموه الصليب المعقوف، ولا يبعد أن يسموه باسم آخر أو يتركوه بعد تمكن الدين الآري الجديد بنفوذ الدولة الجديدة (الريخ الثالث) .(33/692)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ،
وشكروا لنا ودعوا، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس، والتعاون على
إذاعة دعوة الإسلام، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا، ومما نشر في
الصحف التي اطلعنا عليها.
ونبدأ بكتابين كريمين، لملكي الإسلام الكبيرين، الإمامين الجليلين:
إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون، وإمام أهل السنة
والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية،
وخادم الحرمين الشريفين، أدام الله توفيقهما، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما
وتعاونهما، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما.
كتاب الإمام يحيى
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الختم
(أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، الإمام يحيى حميد الدين)
إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله.
لقد ظفرت العيون بما تشتهيه، وحظيت من الأماني بما تبتغيه، بعد إرسال
رائدِ لحظها، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة، وينابيع التحقيق الغزيرة،
التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى (بالوحي المحمدي) فإنه -
والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا، واستدلالاً وسياقًا، يهدي إلى القلوب
ما يرفع عنها الرين والكروب، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع، ويستطيبه
القارئ والسامع، وتثلج له الصدور، وتنبعث من حقائقه أشعة النور، فجزاك الله
خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح، والمتجر الرابح، والقصد
الناجح، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا
مائة نسخة على حسابنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352
كتاب جلالة الملك عبد العزيز
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل
إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى، السلام
عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم، المؤرخ في 23 رمضان سنة
1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم. لقد اطلعنا على كتابكم (الوحي
المحمدي) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان
على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا. فكان كتابكم من أبلغ القول
في إظهار حجة الله القائمة على عباده، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق،
ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا. وأخذ
بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية، ونشر عقائد السلف الصالح، ووفقنا وإياكم لما فيه
نصر لدينه، وإعلاء لكلمته، إنه على كل شيء قدير. والسلام.
في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... (الختم)
***
كلمة من كتاب لإمام
طائفة الإباضية الهمام
كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب
خاص فجاءنا كتاب منه (من نزوى - عمان) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه
قال في أوله بعد البسملة:
من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا
السيد محمد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم
فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف
منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … (ثم قال بعد بيان العذر)
(أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح، وإعجابنا به لا
يحد، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم،
وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون، وسلام الله
عليكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء)
كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل
ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم
صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا:
أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم
وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون، ولكم مني تحية الإخاء
والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي
تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة
الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر
كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار، وآية كبرى من آيات الله
في التأليف، وحسنة من حسنات صاحب المنار (وحسناته كثيرة) تقرأ هذا السفر
فترى فيه حججًا دامغة، وإحاطة بمقاصد الإسلام، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق،
ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها
علاجها، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا
سيما الماديين منهم، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات، وحاجة الذين يهمهم نشر
الدين والدعوة إليه أشد، أفاض في مباحث الوحي، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي
لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه
(حياة محمد) وغيره، وإنما هو نازل من السماء.
ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث
الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة
عليه لينة له، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه
يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم
ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها.
وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه، وأنه بَزَّ علماء
التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة، وهداية عامة شاملة،
وسعادة لهم في دينهم ودنياهم، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن
من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن
صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه
الحياة، وأعظم رزق ساقه الله إليك، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من
دوائر المعارف الإلهية الكبرى.
وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما
يغذي أرواحهم، وينمي معارفهم، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان، ورواء
في الأسلوب، وتنسيق لطرق الاستدلال، ودقة في المأخذ؛ كل ذلك تجده في
مؤلفات صاحب المنار، وتراه أوضح وأجلى في (كتاب الوحي المحمدي) وما
سبقه من كتاب (نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام) .
وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم، ويعرفوا للعاملين قدرهم، فيكافئوهم
على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم
تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم، وأن يمده بروح
منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال.
وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته:
فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم
... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء
كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء
لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
أطال الله حياتك يا مرشد الحيران، ويا خليفة حكيم الإسلام. حتى تصير
الأمة الإسلامية (رشيدية) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله، رغم أنف الحاسدين أمثال
صاحب سجود الشمس تحت العرش، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين.
يا صاحب الفضيلة:
قرأت كتابكم (الوحي المحمدي) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله، وقبس
من ضيائه، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف
في هذا الموضوع، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره
بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء
وجهه الكريم.
... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد أحمد القصير)
... ... ... ... ... في كَفْر المندرة
طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام
أيد الله بهم الإسلام
-1-
للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1]
إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم، وأن تتحقق أنه أفضل
تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه، وأولاهم به، وأنه لا يسد
مسده تفسير آخر؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه، ويدفع ما تجدد من
الشبهات والشكوك، ويقيم الأدلة القاطعة، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على
أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله.
إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا، فاقرأ كتاب (الوحي المحمدي) للسيد
الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره،
فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن،
فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم، وكتاب (الوحي المحمدي) منها هو تفسير لقوله
تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2) في أول
يونس من الجزء الحادي عشر [2] .
ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب، فقد أثبت نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة، وأورد الشواهد التاريخية
الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج،
ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين.
وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في
السيرة النبوية شيئًا حسنًا، وبسطوا لأممهم حقائق منها، لولاهم لطمسها الجهل
والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام، فحسبوا الوحي الإلهي
النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا، ضربًا من الاستعداد النفسي، والفيض
الذاتي، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله.
وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه، وأبرزها بأوسع معانيها، وصورها بأجلى
صورها، ثم كر عليها بالنقض والإبطال، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه
لا تحتمل الرد ولا المراء.
ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته. وقوة تأثيره وهدايته. بما
لم يؤثر مثله أي كتاب آخر. ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى
الإنسانية. فشرح أصول السعادة الخالدة. ومطالب الحياة الراقية. ودل على
مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى
منها أبدًا.
ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا
بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم، وكونهم صفوة البشر وأكملهم
وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع، والقيام بعهدة التبليغ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) .
ثم إن من أمعن النظر فيما كتبه عن المعجزات نفسها، وما أقامه من ميزان
العدل والنصفة بينها، أدرك أن ليس فيما ظهر على يد المسيح عيسى بن مريم منها
ما يعلو به عن مقام النبوة والرسالة أبدًا {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} (المائدة: 75) ثم أدرك أن
القرآن هو الآية الإلهية الكبرى، والمعجزة الدينية العظمى، بل هو معجزة
المعجزات، وآية الآيات، ولولاه لانمحى رسم تلك الخوارق من الأذهان.
ألا ليت دعاة النصرانية المبشرين الذين يسعون لتنصير مسلمي الأرض وهم
مئات الملايين، ويبغون زوال القرآن (وقد تولى الله حفظه) من الوجود، ليتهم
يعلمون أن أمة القرآن التي دانت به وأذعنت لحكمه، ولم تلتفت إلى شيء غيره، قد
شهدت ببراءة العذراء البتول، وابنها المسيح الرسول، من مفتريات أعدائهم اليهود،
وآمنت عن طريق القرآن وحده بكل ما ورد من معجزات الرسل وآياتهم، وأن
القرآن لو زال لا قدر الله تعالى من الأرض فإن أمة القرآن لا تؤمن لأحد بعد
(الوحي المحمدي) بنبوة ولا رسالة، ولا تعتقد بنزول وحي من السماء على أحد من
الأنبياء، فإيمانهم بالقرآن إيمان بسائر كتب الله، وتصديقهم بخاتم النبيين تصديق
بسائر رسل الله، وكفرهم بالقرآن كفر بجميع الكتب والرسل، فأي الفريقين من
المؤمنين والكافرين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) .
وإنك لتجد هذه الحقائق كلها وأضعافها واضحة في كتاب (الوحي المحمدي)
وإني لمعترف بأني عاجز عن وصفه، وبأني لم أحط علمًا بكنهه، ولكني أختم
كلمتي بما قاله أحد خطباء الشرق الأستاذ يوسف اصطفان الشهير في المؤلف نفسه
على إثر محاضرة كان ألقاها السيد الإمام بدمشق الشام في عهد الحكومة العربية قال
لا فض فوه: إن كان لهذا الرجل (يعني السيد الإمام) نظير في رجال الدين في
الغرب، فنحن لا نستحق الحياة أو قال الاستقلال في الشرق.
ثم ختم الكتاب بدعوة الشعوب المتمدنة إلى ما ينجيهم من غوائل المدنية
الفاسدة، ويمتعهم في ظلال الإسلام والسلام.
والكتاب قد ترجم إلى لغات كثيرة شرقية وغربية وتقرر تدريسه في بعض
الممالك الإسلامية، أفليس العرب وفيهم أنزل القرآن، ومنهم أرسل الرسول صلى
الله عليه وسلم أولى بذلك؟ بلى، وإن قلمي ليعجز عن الإحاطة بوصف كتاب
(الوحي المحمدي)
وحسبي أن أوجه نظر كل من يهمه أمر دينه ولا سيما شبابنا المثقف وطلاب
المدارس العالية أن يجعلوه عمدتهم في دراستهم ودروس قراءتهم، فهو يغني عن
كل كتاب في موضوعه، ولا يغني عنه غيره.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
-2-
للعلامة الأستاذ الشيخ محمد ظبيان الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستوجب الحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الداعي إلى
الخير الهادي إلى الرشد، وآله وصحبه وتابعيه وحزبه، أما بعد فقد مَنَّ الله تعالى
عليَّ بالاطلاع على كتاب الوحي المحمدي الذي أخرجه للناس العلامة الكبير
والأستاذ الشهير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر فأدهشني ما رأيت من
بدائع ذلك البناء الشامخ، والطود الراسخ، وما حواه من الآيات البينات،
ومعجزات العلم الباهرات، وإني لا أريد أن أتوسع في تقريظ هذا الكتاب، وأن
أبالغ في مدحه كما يفعله كثير من العلماء والكتاب، ولكني أريد أن أقول كلمتي عما
حواه من الحقائق التي أتى بها المؤلف حفظه الله على ضوء العلم فأقول:
إنه لما أخبرني أخي وصديقي العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار أحد
علماء دمشق بصدور هذا الكتاب، وأخذ يصف لي ما اشتمل عليه من الحقائق
العلمية والأسلوب الجذاب، داخلني الريب فيما قال، وعددت ذلك غلوًّا في الدعاية
أو ضربًا من الخيال، ولكني ما كدت أتناوله وأتصفح عباراته، وأتذوق طلاوة
أسلوبه الحكيم، حتى انقلب ذلك الريب يقينًا، وأصبح عندي ذلك الخيال حقيقة
ملموسة، وإذا بهذا السفر يتدفق حججًا استمدها المؤلف (أدام الله إرشاده) من نور
القرآن، واقتبسها من مشكاة العرفان، فكأنه وحي من الوحي، فقلت: {ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 54) .
جاء هذا الكتاب في وقت اشتدت الحاجة إلى مثله، وتطاولت الأعناق إلى
وجود مُؤَلَّف جامع على شكله؛ إذ نشأ اليوم الجهل وكثر الفساد، وهجمت على
المؤمنين جيوش الزيغ والإلحاد، فكادت تجتاح الفضيلة، وتقضي على البشرية
بسموم الرذيلة، وتجتث الاعتقاد بوجود الخالق، وتقذفه من حالق.
فجاء الأستاذ المؤلف يدعو الأمم أجمع إلى هداية القرآن بالحكمة والموعظة
الحسنة، يخاطب كل أمة على قدر عقولها، وينوع الأساليب الحكيمة بتقريب الحق
إلى أفهامها، ليمحو ظلمة شكوكها وأوهامها، وليكون ذلك أوقع في النفوس وأبلغ
في تأثير الحجة.
إننا اليوم في عصر كَثُرَ فيه طلاب العلوم الكونية، فلا يذعنون إلا لما كان
مؤسسًا على الحقائق العلمية، فها هم اليوم قد وجدوا ضالتهم المنشودة، وبغيتهم
المقصودة، فهو كترجمان حكيم يخاطب كل واحد منهم بلغته، ويناجي كل فريق
على قدر عقله ودرجة استعداده ومعرفته، فما أجدر طلاب العلوم الكونية، وعشاق
الحقائق في كل أمة أن يعكفوا على اقتنائه، ودراسته وتدبر آياته، ليستضيئوا بنور
مشكاته، فينالوا السعادتين، ويفوزوا بالنعمتين.
أما علماء الإسلام فإنهم إذا ولوا وجوههم شطره، وقرءوه لإخوانهم، ازدادوا
إيمانًا مع إيمانهم، وكان لهم منه سلاح جديد يدفعون به هجمات أعداء الإسلام من
المبشرين والملحدين، ويدحضون به دعاويهم الباطلة، وكان لهم منه أيضًا مادة
غزيرة يستعينون بها على الدعوة إلى الله.
وأنا أرجو من الأستاذ (أدام الله نفعه) أن يسعى في ترجمة هذا الكتاب القيم
إلى اللغات الأجنبية، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية؛ لأنها أكثر انتشارًا في الأرض،
وليطلع عليه الأمم التي لم تقف على حقيقة الإسلام حتى اليوم كالأمتين اليابانية
والأميركية، وليكون عونًا لجمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية في طوكيو عاصمة
اليابان؛ لتفهيم القوم حقيقة الإسلام، وأنه لم يكن دينًا تعبديًّا فحسب، بل هو دين
اجتماعي، جاء لسعادة البشر، جمع بين خيري الدنيا والآخرة والله يهدي من يشاء
إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
دمشق ... ... ... ... محمد علي ظبيان الكيلاني
-3-
(للعلامة الأستاذ الشيخ محمد مسلم الغنيمي الميداني)
نور سطع في سماء جزيرة العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا فأضاء الكون لجدير
بأن يكون موضع الإعجاب وتوجه الأنظار، وإن جزيرة العرب في ذلك الزمن
كانت مجدبة من كل علم وفن لا يرى في سمائها بارقة نور.
أخذ هذا النور يتلألأ في سماء الجزيرة وما تزيده الأيام إلا ضياء وامتدادًا،
والمعلوم أن مصدر هذا النور العظيم هو ذلك القرآن الحكيم، والنبي الكريم،
العربي الصميم، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ولقد شهد عظماء الإفرنجية وفلاسفتهم كدروي وإبرفنج وسديو وإسحاق طيلر
وغوستاف وتولستوي وتومس كارليل وهنري كاستري وغيرهم أن المدنية الغربية
مقتبسة من الحضارة الإسلامية، ولو أخذنا نبسط أقوالهم لطال بنا المقام وخرجنا
عن الموضوع.
وممن كتب في السيرة النبوية من مفكري الغرب درمنغام ومنتيه وغيرهما
فوصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان للخلاء والعزلة يفكر في طريق النجاة
من هذه المخازي والضلالات التي عم ظلامها البشر، ولكنهم حسبوا الكتاب الذي
أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي النفسي والإلهام الذاتي: أي أنه عليه
الصلاة والسلام صفت سريرته على رءوس الهضاب وبين الشعاب في غار حراء،
فأوحت إليه نفسه كتابًا أرشد الأمم وجميع الشعوب بتعاليمه كما ذكر مونتيه في
مقدمة ترجمته للقرآن الكريم بعد ذكره لأنبياء بني إسرائيل فقال: فتحدث فيه (أي
الفكرة الدينية) كما كانت تحدث فيهم ذلك الإلهام النفسي.
فهذا أقصى ما وصلت إليه أفكار فلاسفة الغرب في الوحي الإلهي، لذلك قام
علامة الإسلام السيد الإمام محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، فكشف اللثام
عن حقيقة الوحي وماهيته وكيفيته، وأبطل مزاعمهم ورد شبهاتهم بأدلة عقلية
وبراهين حسية مفسرًا قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2)
كتاب لم يُنْسَج على منواله، ولم يُسْبَق المؤلف لمثله، فهو كتاب لا يستغني
عنه المسلم ولا غير المسلم، فالمسلم يعلم كيف يقيم الحجة على صحة دينه، ونبوة
نبيه وكتاب ربه، وغير المسلمين يرون الفرق واضحًا بين الوحي السماوي والإلهام
النفسي، فجزى الله السيد المؤلف خيرًا، وأدامه للمسلمين ذخرًا، آمين.
دمشق ... محمد مسلم الغنيمي الميداني
-4-
للطبيب النطاسي والعالم العصري الدكتور سعد عيد عرابي
لقد تقهقر البشر في هذا العصر في الأخلاق والآداب، ومحقت الفضيلة،
وحلت مكانها الرذيلة، التي انحطت به إلى أقصى درجات البهيمية، وما ذلك إلا
لأن تقدم الحضارة والعلوم الكونية كان ماديًّا، وكان البشر آليًّا متجردًا عن الروح
في كل حركاته وسكناته، ومتى سلب الشيء روحه كان باهتًا لا لذة فيه ولا طعم،
هذا ما دعاهم أن يسرفوا في ألوان الرذائل وأشكالها علهم يجدون بها متعة جديدة
تنسيهم آلام هذه الحياة، وهذه الحضارة الزائفة، وما كان ذلك إلا ليزيدهم شقاء
وبلاء.
لئن فكّر بعض عقلاء أوربا وغيرهم في اللجوء إلى الدين، وبأنه العلاج
الوحيد لأدواء هذه الحضارة، وتمنوا لو يبعث في الشرق أو في الغرب نبي جديد
يصلح بهدايته فسادها، فقد نادى منادي (الوحي المحمدي) بأن حي على الفلاح ها
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وها إن الإسلام دين البشرية والسلام
كفيل إن اتبعتموه أن يهديكم صراطًا مستقيمًا، وأبان فضائل الدين الإسلامي ومزاياه
على ما جاء في الأديان الأخرى، وما حواه من التشريع الديني والمدني، وأماط
اللثام عن الحجب التي بين الإفرنج وحقيقة الإسلام وعددها: فمن عداوة الكنيسة
وتداعياتها المشوهة الباطلة، إلى كذب رجال السياسة وطمعهم في استعباد الشعوب
شعوب الإسلام إلى سوء حال هؤلاء في القرون الأخيرة وجهلهم حقيقة دينهم وأمور
دنياهم.
مع أن الغاية الأساسية لهذا الكتاب دحض مزاعم درمنغام وغيره من الإفرنج
الذين يدعون أن الوحي المحمدي وحي نفسي لا إلهي، ومع أنه أفاض في
الموضوع، وأيد بالبراهين العقلية والأدلة القطعية وبمعجزة القرآن المجيد فساد
مزعمهم هذا، وأن الوحي المحمدي أثبت وأكمل وأعم من كل وحي جاء قبله فقد
جاء هذا الكتاب من مقدمته إلى خاتمته جامعًا شاملاً لم يترك شاردة أو واردة تعلي
كلمة الله تعالى وتنصر الحق المبين إلا وذكرها، كما وأن هذا السفر النفيس يروي
غليل من كان للحقيقة من المستطلعين، فقد عرَّف النبوة وأبان الفوارق بين
المعجزات والكرامات، وشرح مقاصد القرآن المجيد شرحًا دقيقًا: من دينية
واجتماعية وسياسية ومالية (وأستأذن أن أذكِّرَه بالقواعد الصحية وهي كثيرة)
والخلاصة أن هذا الكتاب قد جمع شمل ما في الإسلام من حكم، وقد وفَّى
الموضوع حقه، بأن قدمه للجمعيات الإسلامية في العالم داعيًا رجالاتها إلى ترجمته
إلى لغاتهم لتكون فائدته أعم، وقد دعا في خاتمته شعوب المدنية إلى الإسلام، دين
الإنسانية والسلام؛ لإنقاذ البشر من هذا الشقاء العام.
ومن جمل ما قال لهم في دعوته هذه: (قد بينا لكم أيها العلماء الأحرار
بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل
والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى، والتشريع المدني الأسمى،
والحكمة الأدبية المثلى، نابعًا من استعداده الشخصي، وما اقتبسه من بيئته ومن
أسفاره، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً، وعلمتم أن بعض ما قالوه
افتراء على التاريخ وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه، وعلمتم أنه في جملته
مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر، وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ، ونحن
نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى
وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه: علل يقبلها ميزان العقل
المسمى بعلم المنطق، فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول،
وتؤيدها النقول، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته، وبكاتبه المُنَزَّل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر، وأن تتولوا
الدعوة إلى هذا الإيمان ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به)
ومما قاله حفظه الله: (أما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار فالمرجو
منكم أن تسمعوا وتبصروا، وأن تعلموا فتعملوا، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم
حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر لأنكم لم
تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء؛ ولأن
الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تبث دعوته، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ
حضارته، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون نوره،
فأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في إبلاغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا
العصر، فإن ظهر لكم الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها، وإن
عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم، وحرصكم على استبانة الحق أن
تشرحوها لنعرض عليكم جوابنا عنها، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون) .
حقًّا قليلون وقليلون جدًّا (كذا) العلماء الذين يحذون حذو صاحب الفضيلة
العالم العلامة حجة الإسلام الأستاذ السيد رشيد رضا في إظهار الإسلام في صورته
الحقيقية العلمية العقلية، وقد أظهر في دعوته شعوبَ المدنية إلى الإسلام، كما
أثبت في مقاصد القرآن المجيد، أن الإسلام دين البشرية والسلام، دين العقل
والفكر، دين العلم والحكمة، دين الحجة والبرهان.
إن ظهور السفر النفيس (الوحي المحمدي) خدمة جلى أسداها للدين وللبشر
وللحقيقة وللتاريخ، جديرة بأن تسطر له بأحرف من نور على صفحات الفخار
وليتفضل المؤلف الإمام بقبول شكري
دمشق ... ... ... ... ... ... ... الدكتور سعد عيد عرابي
... ... ... ... ... ... ... خريج جامعتي باريز وبرلين
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الأستاذ جامع بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة وبذلاً مما يملك من مال قليل فقد علمنا أنه اشترى من كتاب الوحي المحمدي نسخًا كثيرة من دمشق ووزعها على مَن يظن بهم الفهم والانتفاع، حتى من ملاحدة الأغنياء، فنسأل الله أن يخلفه عليه ويجزيه خير الجزاء.
(2) سيصدر الجزء الحادي عشر في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى.(33/697)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
(4)
أحاديثنا في دمشق:
ذكرت أنني وعدت الأمير فيصلا في بيروت أن ألحق به إلى الشام بعد سفره
بيوم أو يومين، وقد وفيت بوعدي وتركت عملي في بيروت وطرابلس الخاص
بمسألة حقي في الوقف السلطاني الذي آل إليَّ ببراءة سلطانية وكان رجال السلطة
الفرنسية مساعدين لي على أخذه فلما مكثت في الشام مع عدوهم فيصل انقلبوا عليَّ.
سافرت من بيروت يوم الأحد 18 جمادى الأولى سنة 1328 - 8 فبراير
(شباط) سنة 1920 تحرك بنا القطار من محطتها (س7 ق 20) صباحًا ووصل
إلى الشام (س4 ق 20) مساء فأدركت صلاتي الظهر والعصر مجموعتين
وزارني في الليل صديقي الأستاذ الشيخ كامل قصاب وخالد أفندي الحكيم وقالا:
إن الجمعية الوطنية تقوم نهار غد بمظاهرة كبيرة في المزة (من ضواحي المدينة)
يحضرها الأمير وإنهما سيذهبان بي إلى المزة قبل الظهر ونبقى فيها إلى المساء،
والشيخ كامل هو الرئيس المحرك للجمعية وكانت صلته وصلة صديقيه خالد أفندي
الحكيم والدكتور عبد الرحمن الشهبندر بالأمير غير ودية، أذكر هذا لأن له شأنًا
بسيرة الأمير، فالملك فيصل رحمه الله تعالى من أولها إلى آخرها، ومنه سعيي
للتقريب بينهما.
وقد بدت الصلة بيني وبينه من ضحوة اليوم الأول (الإثنين) لوجودي في
الشام إلى ما قبل نصف الليلة التي خرج منها بعد الاحتلال الفرنسي، فأنا أعتمد
فيما أثبته في هذه الفصول على مذكراتي التي كنت أكتبها بعد الجلسات معه:
يوم الإثنين 19 جمادى الأولى 9 فبراير (شباط) :
زرته ضحوة هذا اليوم وتكلمنا خلوة في المسائل الثلاث: السورية والعربية
والإسلامية كلامًا إجماليًّا هو مرتاح لذلك، وقال إن الأخيرة (أي الإسلامية) لم
يسبق له تفكر فيها، وأما الثانية فكان يريد أن يسعى لجمع كلمة زعماء العرب
واتفاقهم ما عدا ابن سعود لأنه عدوهم، وإذا كنت أرى أن اتفاقه معهم ممكن فهو
يرى رأيي في الاتفاق كما تكلمنا في بيروت (قال) ولكنني متحير في اختيار
الرجل الذي يمكن جمع كلمة العرب على تمثيله للوحدة العربية.
هذا ما كتبته وأزيد عليه أنني قلت له: إن الأمة غير مستعدة للخضوع لزعيم
واحد يجمع كلمتها، وإنني فكرت في هذه المسألة عدة سنين فانتهى بي التفكير إلى
وضع نظام الجامعة العربية التي عرف خبرها مما فصلته له في بيروت أي نظام
الحلف بين أمراء الجزيرة وتأييد الجمعيات السياسية في سورية والعراق لذلك،
فإن من أصول هذا الحلف أن يكون له مجلس حلفي يجتمع مرة في كل سنة للنظر
في المصالح المشتركة، وأن يكون هو الذي يقرر كل ما يعززه ويختلف ذلك
باختلاف الزمان والأحوال، والمعقول أن يكون المكان الذي يختار لهذا المجلس في
الغالب هو الحجاز فهو يمهد السبيل لاتفاقهم على جعل الشريف أمير مكة المكرمة
هو الرئيس الموقت فالدائم له، وإننا على هذا لم نبلغ والده خبره ولا دعوناه إليه إلا
بعد أن بلغناه لجميع أمراء الجزيرة وقبولهم إياه قبولاً مبدئيًّا مقيدًا لا مطلقًا، ثم بلغته
لأخيه الشريف عبد الله فبلغه والده كما تقدم , وقد أظهر لي في مكة قبوله وتأجيل
تنفيذه إلى أن يظهر على الترك ويخرجهم من الحجاز، ولكنه صرح لبعض من
يأمن لهم بأنه يوجد اليوم شيء اسمه إمام اليمن وشيء اسمه ابن سعود، ولا يوجد
غدًا شيء من هذه الأسماء، بل تكون البلاد العربية كلها مملكة واحدة خاضعة لملك
واحد، وقد أفشى لي قوله هذا من سمعه منه؛ لأنه كان ممن قبلته في الجمعية،
وخلاصة ما قلته له أن جمع الكلمة قد يرجى بنظام يُتَّبَع، لا برئيس يُطَاع.
وبعد فراق الأمير ذهبت إلى المزة مع بعض أعضاء الجمعية الوطنية وكانت
الريح شديدة العصف والبرد قارسًا والجو تتكاثف فيه السحب، ولم يلبث الجو أن
بدأ ينثر درر الثلج أو يبث قطنه المنفوش فكان هذا سببًا لإحجام الألوف من الأهالي
عن الذهاب إلى المزة لحضور المظاهرة، على أنه قد وافاها كثيرون ولا سيما
رجال الحكومة والأغنياء أصحاب المركبات المختلفة، وكانت الخيام مصفوفة في
ذلك الميدان الفسيح كالمعسكرات وكلها مفروشة بالطنافس العجمية، فأوى إليها
الناس.
وأما الغرض من هذه المظاهرة فهو أن يرى الأمير فيصل أن الأمة كلها متفقة
على طلب الاستقلال المطلق من كل قيد لا ترضى بما دونه بديلاً، وكان الشيخ
كامل وأركان الجمعية علموا أن الأمير جاء من أوربة متفقًا مع فرنسة على نوع من
الوصاية، وقد كنت كتبت إليه من بيروت ما فهمته من حديث فيصل في هذه
المسألة وأنه يعتقد أنه يقدر أن يأخذ من زعماء البلاد تفويضًا إلخ.
وبعد أن تمَّ الاجتماع حضر الأمير فيصل ومعه أخوه الأمير زيد ورجال
حكومته والأمير نوري شعلان شيخ عرب الرولة وكان يكثر التردد عليه، والأمير
محمود الفاغور، وألقى الأستاذ الشيخ كامل خطبته الحماسية الضافية الذيول،
المتدفقة السيول، فأجابه الأمير عنها بأنه يؤيد الأمة في طلب الاستقلال المطلق،
وأنه لا ينال إلا بجيش قوي منظم، وهذا يتضمن الرد الخفي على الخطبة من غير
أن يؤخذ على الأمير شيء تفهم منه الأمة أنه يريد أو يرضى دون ما تريده أو
ترضاه.
ثم وضعت موائد الطعام فأكل الأمير والمدعوون ولم تقبل نفسي أن آكل شيئًا
بل خفت ضرر البرد فعدت إلى البلد (دمشق) مع علي رضا باشا الركابي الحاكم
العام في سيارته.
(يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 10 فبراير) :
كان الأمير فيصل دعاني أمس الاثنين إلى الغداء معه اليوم لأجل أن نتكلم بعد
الغداء في سياستنا التي افتتحنا الحديث فيها، ثم عرض له بعد الغداء شغل فأخر
الحديث إلى الليل فسهرت معه وتكلمنا أولا بحضور أخيه الأمير زيد وقد بسطت
لهما ما دار بيني وبين والدهما في مكة وأهمه إقناعه بترك مسألة الخلافة (كما
نشرتها المنار من قبل ولا حاجة إليها هنا)
ثم تكلمنا في أمور أهمها ثلاث (إحداهما) اقتراحي عليه أن يسعى لجلب
عزيز علي بك المصري من أسبانية فوافقني على ذلك (والثانية) اختيار من نرسله
إلى ابن السعود بعد أن اتفقنا على أن يكتب إليه كل منا كتابًا (والثالثة) مسألة
ارتيابه في بعض زعماء الحركة العربية وارتيابهم فيه وما في ذلك من الضرر.
وكنت عرفت هذا من قبل عودته من أوربة وتلاقينا في بيروت، وازددت به علمًا
في دمشق، ولما رأيت ما أوتيه من اللين والمرونة والاقتناع بالمعقول واغتباطه بأن
أعمل معه بالتعاون حاولت أن أوفق بينه وبينهم كما مهدت لهذا في بيروت.
فصرحت له في هذه الجلسة بأن الشيخ كاملا والدكتور شهبندر وخالدًا أفندي الحكيم
من المخلصين في الخدمة الوطنية ويجب أن يكونوا موضع ثقته، ولم أكتم عنه ما
يُنْتَقَدُ على الثلاثة (هذا ما كتبته عقب الجلسة ولكني نسيت الآن ما قلته له في هذا) .
ومما قاله هو لي: إنه يود أن أبقى في الشام للعمل معه، وأن أكون الحجر
الأساسي في المسألتين الإسلامية والعربية لا العربية فحسب، وذلك أنني أقنعته بأن
هاتين المسألتين متلازمتان فلا يمكن تأسيس الوحدة العربية وإعادة مجد العرب
وحضارتهم إلا بالإسلام، ولا يمكن إعادة هداية الإسلام وإصلاحه للبشر إلا باللغة
العربية والأمة العربية.
وكلمني في نقل إدارة المنار والأسرة من مصر إلى الشام. فقلت له: إن هذا
ليس من المصلحة الآن وهو يقتضي نفقة كبيرة وإضاعة مركز عظيم ثابت إلى
مركز مضطرب حاضره، مجهول مستقبله، ولكنني أترك الإدارة والدار والأعمال
الخاصة والآل في مصر وأبقى الآن في دمشق إلى أن يتم ما اعتزمناه ثم نرى ما
تقتضيه المصلحة بعد. وأعني بما اعتزمناه جمع المؤتمر العام وإعلان الاستقلال
التام، وكنت أول من اقترح هذا على خواص إخواننا من حزب الاستقلال.
(يوم الأربعاء 21 جمادى الأولى 11 فبراير)
تفارقنا أمس على أن نعود قبل ظهر اليوم (الأربعاء) للمضي في الحديث
الذي ابتدأناه، وقد عدت في ضحوة النهار، وزاره وأنا معه كاتب أميركاني يراسل
بعض الجرائد وسأله عدة أسئلة أحسن الجواب عنها.
ثم شرعنا في الحوار وكان الأمير زيد حاضرًا فسألني عن رأيي في المذاهب
الإسلامية فبينت له معنى كلمة المذهب وحكم التقليد والاجتهاد، وما يدخل فيه وما
لا يجوز فيه، سألني هل يمكن إزالة الخلاف الديني وتوحيد المذاهب؟ قلت: إن
الخلاف طبيعي لا يمكن إزالته وإنما الواجب إزالة ضرره ولا سيما التعادي في
التفرق الذي ذمه القرآن ونهى عنه وتوعد عليه، وذكرت له الآيات فيه، وبينت له
طريقة تلافيه، وسهولته إذا وجدت حكومة رشيدة تنفذ رأي المصلحين فيه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/711)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بيان من المعرض العربي العام في القدس
إلى الأمة العربية الكريمة
كان المعرض العربي الأول الذي أقيم في بيت المقدس خلال شهر (تموز)
الماضي حجر الأساس للنهضة الاقتصادية العربية الحديثة ووسيلةً للتعارف وتوثيقًا
لمعاملات المحلات التجارية بين الأقطار العربية الناهضة، وقد افتتح المعرض في
جو من الشك بنجاحه وكانت الظروف التي سبقت افتتاحه والمدة التي تم الاستعداد
فيها لهذا الافتتاح باعثًا على الشك في النتائج المرجوة منه، غير أن الأمة العربية
الكريمة خرجت ظافرة من هذه التجربة الاقتصادية وظهرت بوادر النجاح منذ
الساعات الأولى للافتتاح، ولم تمض أيام حتى برز المعرض حقيقة ناطقة بكفاءة
البلدان العربية وتبريزها في ميادين الفنون والصناعات، وقيض الله لهذه الأمة أن
ترى راياتها خافقة على شرفاته تثير في النفوس الأبية أسمى العواطف التي تثيرها
المظاهر القومية وتعلن للملأ أن هنا وطنًا عربيًّا خالدًا وأن هنا أمة عربية ناهضة
ستملك على الدهر أمره وتعود سيرتها الأولى.
وقد ترك هذا المعرض أبلغ أثر في حياة البلاد الاقتصادية العامة وخلَّف نتائج
كثيرة منها:
(1) تعميم استعمال المصنوعات والمنتوجات الوطنية.
(2) تنمية الأموال العربية فقد ربح المعرض 53 في المئة بنسبة رأسماله
المدفوع.
(3) إنهاض المشاريع الوطنية ومؤازرة الأعمال الخيرية إذ قد وزع
المعرض من أرباحه 5، 28 في المئة على المساهمين 25 في المئة على اللجان
والنوادي الوطنية، وهذا بلا شك ربح كبير بالنسبة لرأس المال ومدة العمل.
(4) تنشيط العامل العربي بتقوية المصانع العربية.
(5) توثيق الروابط الاقتصادية بين الأقطار العربية.
(6) إفهام الشعب أن كيانه السياسي مرتبط بكيانه الاقتصادي.
على أثر نجاحه وتحقق مقاصد الهيئة القائمة به نشأت فكرة تأسيس معرض
عربي دائم لعرض المصنوعات والمنتوجات العربية وتغذية الأسواق التجارية بها،
والعمل لتشجيع أصحاب الأموال للإكثار من المصانع والمعامل المفتقرة البلاد إليها
وفسح المجال أمام العامل العربي وتمهيد السبل لنجاحه في مختلف ميادين العمل،
وها هي الفكرة تبرز الآن من مكمنها فتنبعث شركة عربية جديدة غاياتها:
إيجاد معارض تجارية وصناعية وزراعية دورية ودائمية وأسواق تجارية
دائمية في فلسطين وسائر الأقطار العربية، وشراء الأراضي والعقارات اللازمة
لذلك واستئجارها وتأجيرها، والقيام بجميع أعمال المعارض والأسواق التجارية
على اختلاف أنواعها، وتأسيس جريدة أو مجلة باسم المعرض وشراء المطابع
والآلات والأدوات المقتضاة لها واستغلالها.
هذه صورة عامة لنتائج المعرض الأول ولمشروع المعرض الدائمي وغاياته
نعرضها على أنظار الأمة العربية الناهضة واثقين أن كل عربي يغار على أمته
وبلاده غيرة صحيحة ويود أن يكون عاملاً من عوامل الخير لهذا الوطن لما يحسن
من عمل في زمن لا مأمل لنا فيه إلا بالأعمال المجدية والمثابرة عليها وإجادتها
يناصر هذا المشروع بالاكتتاب والتأييد ونشر الدعوة له وحض الوطنيين على
الإقبال عليه حتى يأتي موفقًا كما جاء المعرض العربي الأول. حقق الله الآمال ... ...
المديرالعام ... ... ... ... ... رئيس مجلس الإدارة
نبيه العظمة ... ... ... أحمد حلمي عبد الباقي
قيمة الأسهم تدفع أو ترسل للبنك العربي وفرعيه بيافا وحيفا وفرع البنك
الزراعي في طول كرم.
مدة الاكتتاب تنتهي 31 كانون ثاني (يناير) سنة 1934.
يفتتح المعرض في 6 نيسان (أبريل) سنة 1934 في القدس.
__________(33/715)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنشور القانوني
الصادر من شركة المعرض العربي (المحدودة)
1- محتويات عقد التأسيس
(1) اسم الشركة: شركة المعرض العربي المحدودة.
(2) غايات الشركة: إيجاد معارض تجارية وصناعية وزراعية دورية أو
دائمية وأسواق تجارية دائمية في فلسطين وسائر الأقطار العربية وشراء الأراضي
والعقارات اللازمة لذلك واستئجارها وتأجيرها، والقيام بجميع أعمال المعارض
والأسواق التجارية على اختلاف أنواعها وتأسيس جريدة أو مجلة باسم المعرض
وشراء المطابع والآلات والأدوات المقتضاة لها واستغلالها.
(3) مسئولية الأعضاء: محدودة.
(4) رأس مال الشركة: ثلاثة آلاف جنيه فلسطيني مقسمة إلى ثلاث آلاف
سهم قيمة كل سهم جنيه فلسطيني واحد.
نحن المدونة أسماؤنا وعناويننا أدناه، نرغب في تأليف شركة طبقًا لعقد
التأسيس هذا، ويتعهد كل منا بأن يأخذ عدد الأسهم في رأس مال الشركة كما هو
مبين تجاه اسمه.
أسماء وصفات وعناوين الموقعين: ... ... ... ... عدد الأسهم
أحمد حلمي باشا عبد الباقي. رئيس مجلس إدارة البنك العربي - القدس ... 100
نبيه بك العظمة ... ... ... ... ... ... ... القدس ... 30
عبد الحميد أفندي شومان مدير البنك العربي ... ... القدس ... 100
الشيخ عبد الباري أفندي بركات. تاجر ... ... ... القدس ... 30
فؤاد أفندي سابا. فاحص حسابات ... ... ... ... القدس ... 30
جميل أفندي وهبه. مدير شركة صناعية ... ... ... القدس ... 10
عبد الله أفندي جوده مدير شركة تجارية ... ... ... القدس ... 30
علاقة الأسهم بأموال وأرباح الشركة
إن جميع الأسهم عادية لها نفس الحقوق في أموال وأرباح الشركة.
2- مؤهلات ومرتبات عضوية مجلس الإدارة
يشترط في عضو مجلس الإدارة أن يكون مخصصًا لضمان إدارته ثلاثين سهمًا
من أسهم الشركة على أن تبقى هذه الأسهم غير قابلة للنقل ومودعة في خزانة
الشركة مدة عضويته وإلى انتهاء وكالته وإخلاء طرفه بالتصديق على الحساب
الختامي.
(المادة 19 من نظام الشركة)
توزع الأرباح الصافية بعد تنزيل جميع النفقات والاستهلاكات كما يأتي:
(1) عشرة في المائة للرأسمالي الاحتياطي.
(2) عشرة في المائة يوزعها مجلس الإدارة على الجمعيات والنوادي.
(3) عشرة في المائة لهيئة مجلس الإدارة، ثلاثون في المائة منها تخصص
لرئيس المجلس وسبعون لباقي الأعضاء على التساوي.
(4) سبعون في المائة للمساهمين كل بنسبة أسهمه (المادة 52 من نظام
الشركة) .
3- أعضاء مجلس الإدارة
يقوم بإدارة الشركة مجلس مُؤَلَّف من ثلاثة أعضاء على الأقل وسبعة أعضاء
على الأكثر تنتخبهم الجمعية العمومية بالاقتراع وقد عين المؤسسون أول مجلس
إدارة من السادة الآتية أسماؤهم:
أحمد حلمي باشا عبد الباقي ... رئيس مجلس إدارة البنك العربي القدس
نبيه بك العظمة ... ... ... مدير المعرض القدس
الشيخ عبد الباري أفندي بركات تاجر القدس
عبد الحميد أفندي شومان ... مدير البنك العربي القدس.
جميل أفندي وهبة ... ... ... تاجر وصاحب مصنع القدس.
لمدة أربع سنوات اعتبارًا من تاريخ المباشرة بالعمل.
4- الحد الأدنى للاكتتابات
تعتبر الشركة مؤسسة عندما يكتتب بربع رأس المال على الأقل (المادة 7 من
نظام الشركة) .
5- كيفية تسديد الأسهم
رأسمال هذه الشركة ثلاثة آلاف جنيه فلسطيني مقسمة إلى ثلاثة آلاف سهم
قيمة كل سهم جنيه فلسطيني واحد يدفع منه النصف عند الاكتتاب والنصف الآخر
عند طلب مجلس الإدارة بشرط أن يعلن مجلس الإدارة طلبه في جريدتين عربيتين
في فلسطين على الأقل، وأن يعطي مهلة لا تقل عن خمسة عشر يومًا لدفع القيمة
(المادة 5 من نظام الشركة)
6- عمولة الاكتتابات
لا تدفع الشركة أية عمولة عن الاكتتابات.
7- المصاريف التأسيسية
تقدر النفقات التأسيسية التي هي عبارة عن رسوم تسجيل للحكومة وثمن
طوابع ولوحات وأختام ودفاتر وقرطاسية وخلافه نحو خمسين جنيهًا، مع العلم بأن
المؤسسين لن يتقاضوا أجورًا مقابل أتعابهم في تأسيس الشركة.
8- فاحصو حسابات الشركة
السادة سابا وشركاهم. محاسبون. وفاحصو حسابات القدس.
9 - حق التصويت
لا يقبل في الجمعية العمومية إلا المساهمون الذين يملكون خمسة أسهم على
الأقل، ولكل مساهم تتوفر فيه الشروط اللازمة لحضور الجمعية العمومية أن ينيب
عنه عند الضرورة مساهمًا آخر يكون عضوًا من أعضاء الجمعية (المادة 38 من
نظام الشركة) لكل عضو من أعضاء الجمعية ولكل واحد من موكليهم صوت واحد
عن كل خمسة أسهم. أما الكسور فلا يعول عليها (المادة 39 من نظام الشركة) .
القدس في 15 رمضان سنة 1352 ... 1 كانون الثاني سنة 1934.
... ... ... ... ... ... ... ... رئيس مجلس الإدارة
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد حلمي عبد الباقي
ملاحظة: مدة الاكتتاب تبتدئ من تاريخ هذا المنشور، وتنتهي 31 كانون
الثاني سنة 1934. والاكتتابات تدفع أو ترسل إلى البنك العربي بالقدس أو فرعيه
بيافا وحيفا، يفتح المعرض أبوابه في 22 ذي الحجة سنة 1352 موافق 6 نيسان
سنة 1934.
__________(33/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار
من كان عاجزًا عن أداء ما عليه من حق المنار عجزًا لا يرجى زواله فليعتذر
إلينا نجعله في حلٍّ منه، ومن أنظرنا إلى ميسرة ننظره، ومن صالحنا على بعضه
دون بعض نقبل منه، ومن طلب تقسيطه عليه أجبناه، ومن لم يجبنا إلى شيء من
ذلك شكوناه إلى الله عز وجل وسألناه وحده أن ينتقم منه في دنياه قبل آخرته
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 4)
إن قراء المنار لأحق المسلمين بالوفاء وأداء الحقوق ولا سيما حق من وقف
حياته ويبذل نفسه وماله في خدمة دينهم بما لم يقم بمثله غيره كقيامه، بل هم أولى
المسلمين بأن يبذلوا في تأييد هذه الخدمة فوق ما هو حق عليهم، وإنهم ليعلمون ما
ينفقون في سبيل شهواتهم، وإنهم ليعلمون ما يتبرع به أصحاب الأديان الباطلة من
الملايين في دعوتهم إلى دينهم، والطعن في دينهم أفضل الأديان، وفي كتابهم أصح
الكتب المنزلة وأهداها، وفي سيدهم بل سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين
ورحمته للعالمين صلى الله عليه وسلم، أفليس من العجيب أن يهضم أحد منهم حقه،
وتلجئه ضرورة العسرة أن يذكرهم بربهم وكتابهم ووجدانهم فلم يستجب له إلا
أقلهم؟ فمنهم من استبرأه فأبرأه ومنهم من شكا العسرة فأنظره ومنهم من حط عنه
بعض ما عليه وقضى بقيته، فأي عذر للآخرين، إلا إملاء الله للظالمين.
__________(33/720)
ذو الحجة - 1352هـ
أبريل - 1934م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
سؤال أو أسئلة
عن خلافة آدم ونبوته ومعصيته
(52-56) من صاحب الإمضاء:
حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الحجة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الغراء بمصر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أخ أو ابن يعتقد فيكم الصراحة في القول
والإخلاص في العمل، والصدع بالحقيقة متى استبانت، لذا يحفزني إلى الكتابة
إليكم اليوم سؤال طالما جشأت به نفسي وجاشت، عَلَّنِي أجد لديكم ما يشفي
اضطرابها (وبعد) فإني أفهم من الآيات التسع الواردة في خلافة آدم بسورة البقرة
من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:
30) إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38) أن خلافة آدم كانت في
أرضنا التي نعيش عليها (كوكب الأرض) وأنها كانت ملكًا عظيمًا قائمًا بسياسة
الناس إذ ذاك وتدبير شؤونهم على وفق قانون سماوي مقدس، وأن إسكانه الجنة
عقب تعيينه خليفة دليل على أن المراد منها دار الخلافة ومظهرها، وأن إخراجه
من الجنة دليل على سقوط خلافته) .
كل هذا تؤديه الآيات المشار إليها، وكله ظاهر ومفهوم منها، وهو ما أعتقده
الآن وأجزم بصحته، وعندي عليه من الأدلة الصادقة ما هو مقنع، ولكن الذي
أشك فيه، وأرجوكم توضيحه وكشف غموضه هو ما يأتي: -
1- أكانت خلافة آدم كخلافة أبي بكر الصديق وزملائه، أي ليست متضمنة
لنبوته ورسالته؟ وإذًا لم يكن عصيانه بالأمر القادح في الأنبياء إذ لم يكن منهم؟
ولا يرده ظاهر قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) لأنه من قبيل {عَلَّمَ
الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) ولا ظاهر قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) و {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} (البقرة: 35) إذ هو من
باب: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} (الأعراف: 26)
ونحوه.
2- أم كانت خلافته كخلافة نبي الله داود وإخوانه، أي تنطوي على نبوته
ورسالته؟ وإذًا كيف الجمع بين معصيته وتأسي المحكومين بجميع أقواله وأفعاله؟
والتأسي بالأنبياء أمر لازم بالشرع، الذي لم يندب الناس لعصيان الخالق {وَمَا
خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) ؟ وكيف تؤولون سقوط
خلافته جزاء لمعصيته لو كان في الخلافة معنى نبوته ورسالته؟
3- وهل من نصر الله لرسله الذي أكده في قرآنه إذ قال بسورة الصافات:
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 173) أي للشيطان وحزبه، وقوله في
سورة المؤمن: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (غافر: 51) أي
على المخالفين لهم: إسقاط آدم من سلك المرسلين لو كانت خلافته رسالة للخلق أم
هو خذلانه؟ وباطل أن يكون آدم من أنبيائه ورسله الأكرمين.
4- ولم قال الله تعالى من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى: 13) ؟ ومن سورة النساء {إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163) فسكت عن آدم ولم
يذكره قبل نوح ومحمد ومن بينهما لو كان من سلكهما، مع أنه جدهما.
5- ولم بدأ الله بقوم نوح ثم الأحزاب من بعدهم في كل مقام ذكَّر فيه أهل
القرآن بالأمم قبلهم كقوله في سورة المؤمن: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (غافر: 30-31) ولم يبدأ بآدم لو كان ذا أمة وكان نبيًّا مرسلاً؟
هذا ما عَنَّ لي عرضه على سمعكم، وأملي كبير في أن تكتبوا عنه مطولا
على صفات مجلتكم انتصارًا للحق، فهو بالاتباع أحق، ... ... وكتبه
... ... ... ... ... ... ... ... محمد مقبول حلاوة
... ... ... ... ... ... المدرس بمدرسة كفر ربيع الابتدائية
(52و53) معنى خلافة آدم ونوعها:
الخليفة من يخلف من قبله في أمر كان عليه، جمعه خلفاء وخلائف ومنه قوله:
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} (النمل: 62) وقوله في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) ومثلها آيات. وخلافة آدم فيها
وجهان: أحدهما أنه هو وذريته يخلفون أمة من الخلق كانت قبلهم. والثاني أنه خليفة
لله تعالى في أرضه يظهر هو وذريته حكمه وأحكامه وسننه في خلقه بجعلهم مستعدين
لمعرفة كل نوع من أنواع المعلومات، وهذا خاص بهم في جملتهم لا يشاركهم
فيه جنس آخر من العوالم الظاهرة ولا المغيبة. وما قصه الكتاب علينا من قصة آدم
وتوبته أحد هذه المظاهر والاستعداد للأمور المتعارضة.
فخلافة آدم لم تكن كخلافة أبي بكر رضي الله عنه لمحمد صلى الله عليه وسلم
في إقامة شرعه، ولا كخلافة داود عليه السلام للحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
(54-56) معصية آدم ورسالته:
إن جميع الأسئلة مبنية على أن آدم كان نبيًّا رسولاً إلى قوم بشرع ينفذه فيهم،
وأن معصيته تنافي رسالته على ما هو مقرَّر في كتب العقائد من عصمة الرسل
عليهم السلام، والواقع أنه لم يكن مع آدم في جنته قوم، ولم يكن له شرع، وإنما
امتحنه الله وهو وزوجه بالنهي عن الأكل من شجرة معينة؛ لإظهار استعدادهما
البشري لكل من المعصية والطاعة كما قلنا آنفًا.
ولم يكن آدم في ذلك الطور مرسلاً إلى أحد فيكون قدوة سيئة له في المظهر
الأول. وإنما أرسل الله الرسل إلى الأمم بعد طور الحضارة وفساد الفطرة وظهور
الشرك فيها، وأولهم نوح عليه السلام. وقد فصَّلنا كل ما يتعلق بقصته في مواضع
أبسطها ما في سورة البقرة من ص 258-280 ج أول تفسير وص 338-357 ج
8، وحققنا مسألة معصيته في ص 513 وعدم رسالته في ص 602 كلاهما في ج
7 طبعة ثانية منه.
فنحن لا نزيد شيئًا من تلك التفصيلات هنا، وإنما على السائل الفاضل أن
يراجعها في مواضعها التي بيناها، فإن رأى بعد ذلك حاجة إلى استفتاء آخر في
موضوعها فليتفضل به.
قارون وما قاله المفسرون فيه
(س 57) من سعادة صاحب الإمضاء في فم الخليج بمصر
حضرة صاحب الفضيلة العالم الجليل الأستاذ الشيخ السيد رشيد رضا حفظه
الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فقد ورد في التفاسير عن قارون أنه
كان تابعًا لموسى عليه السلام وكان يحفظ التوراة، وكان من السبعين الذين اختارهم
للميقات وغير ذلك مما جاء عنه كما هو معلوم لحضرتكم، ولكن أظن أن التعبير
بأن قارون كان من قوم موسى ليست له الدلالة الكافية على إيمانه نظير قوله تعالى
في سورة الممتحنة: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (الممتحنة: 4) الآية وقد جاء في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: 23-
24) وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد أن ذكر عادًا وثمود وقارون وفرعون
وهامان {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} (العنكبوت: 40) .
قال بعض المفسرين: قُدِّمَ قارون على فرعون وذُكِرَت عقوبته قبل عقوبة
فرعون لسبق حادثته، وإذا صح هذا فكيف جاوز البحر مع موسى وحضر الميقات
وحفظ التوراة وآمن بموسى. أرجو التكرم بإفادتنا عما ترونه في ذلك؛ خدمة للعلم
نفع الله بكم الإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد شكري باشا
(ج) إن قصة قارون مثل ضربه الله للباغين الطاغين بغناهم ودثورهم
وموضوعه من أخبار الغيب الماضية، والذي نراه أن ما ذكره المفسرون عنه كله
من الإسرائيليات التي لا يُعْتَدُّ بشيء منها، فلا ينبغي أن نزيد في قصته على ما
جاء في التنزيل شيئًا. ومنه أنه كان كافرًا باغيًا ضالاًّ فانتقم الله منه، وجعله عبرة
لغيره.
* * *
الطلاق الثلاث باللفظ الواحد
(58) من مستفت في فلسطين وأجيب عنها بكتاب خاص في العام الماضي.
ما قول فضيلتكم في رجل قال لامرأته إثر مشاجرة وهو يعي ما يقول: (أنت
طالق ثلاثًا) هل يقع عليه بذلك ثلاث طلقات أم يقع عليه طلقة واحدة؟ أفيدونا ولكم
الثواب من الله تعالى.
(ج) إن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين
السلف والخلف، فظاهر قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة: 229) أن حل
عقدة الزوجية الذي يملكه الرجل ويملك الرجعة بعده مرتان، أي مرة بعد مرة،
وبيَّن حكم الثالثة بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة:
229) فالمرة من الشيء هي الفعلة الواحدة فوصفها بالكثرة لغو باطل لغة وشرعًا
وعرفًا، فإن التعدد من الفعل أو القول تكراره مرة بعد أخرى. وفي صحيح مسلم
وغيره أن الطلاق الثلاث باللفظ الواحد كواقعة السؤال كان يُعَدُّ طلقة واحدة في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ثم أمضاه عمر
على الناس، والظاهر أن إمضاءه عقوبة لهم ليكفوا عنه لمخالفته للمشروع، والله
أعلم.
وأخذ جمهور العلماء بهذا وبقي فيهم من يفتي بالأول وهو الأصل، وقد
اعتمدته الحكومة المصرية في محاكمها الشرعية في هذا العصر، وهو الذي أعتقده
وبسطت أدلته في تفسير الآية من جزء التفسير الثاني، وفي مواضع من مجلة
المنار. فمن وقع له ذلك، وكان من أهل النظر والفهم فعليه أن ينظر في أدلة
المسألة التي بسطناها نحن وغيرنا ويعمل بما يراه الأرجح من جهة الديانة، ومن لم
يكن من أهل النظر استفتى من يثق بعلمه ودينه وعمل بفتواه. وأما من جهة
القضاء إذا اختلف مع مطلقته في ذلك فالواجب اتباع ما يقضي به قاضي بلده فإن
حكم الحاكم الشرعي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية دون القطعية.
* * *
(95) الصفات المستحيلة على الخالق تعالى:
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
منشىء مجلة المنار بالقاهرة.
مقدمه لفضيلتكم عبد الله أوانج القطاني الطالب برواق الجاوه بالأزهر
الشريف، وبعد فإنني تلقيت خطابًا من جدي وهو من العلماء المدرسين في بلدنا
(فطاني بسيام) وأمرني فيه أن أرفع السؤال الآتي إلى علماء مصر لأنه حصل
نزاع فيه بين العلماء الموجودين هناك لعلهم يجدون من الجواب مخلصًا وقاطعًا لذلكم
النزاع، أرفع إلى فضيلتكم ملتمسًا أن تفتوا في هذه المسألة إليَّ مباشرة برواق
الجاوه بالأزهر لأرسل ذلكم الفتوى إلى هناك.
(استحالة المستحيلات) هل هي من الصفات الواجبة لله تعالى من الصفات
السلبية أو لا؟ هذا هو السؤال فالرجاء من فضيلتكم أن تفتوا بأدلة صريحة مقنعة
ولفضيلتكم جزيل الشكر، وتفضلوا بقبول فائق التحيات ووافر الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... المقدم: عبد الله أوانج الفطاني
(ج) قوله: (استحالة المستحيلات) ليس صفة لله تعالى ولا لغيره،
وليس كلامًا له معنى يسأل عنه، لكن المفهوم بالقرينة أنه أراد به ما اصطلح عليه
بعض المتكلمين من تقسيم الصفات إلى وجودية وسلبية، وواجبة ومستحيلة،
فصفات الكمال هي الواجبة لله تعالى كالقدم والبقاء والعلم والقدرة، وصفات النقص
هي المستحيلة كالحدوث والفناء والجهل والعجز.
والقاعدة: أن ما يجب له من صفات الكمال وجودية كانت أو سلبية فضدها
يستحيل عليه، وقد خلط السائل بعضها ببعض فلا يعرف مراده من عبارته، على
أن هذا الاصطلاح لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه
وسلم ولا في أقوال الصحابة وأئمة السلف فهو مُبْتَدَعٌ لا يجب على أحد من
المسلمين علمه، ولا يحرم عليه جهله، وإنما الواجب عليه أن يصف الله تعالى بما
وصف به نفسه في كتابه وبما صح عن رسوله وصفه به، وأن ينزهه عما نزهاه
عنه، وأن يسكت عما سكتا عنه، مع اعتقاد اتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل
نقص. وأن يتبع جمهور السلف الصالح دون ما خالفهم به المتكلمون بفلسفتهم
ونظرياتهم الكلامية، وقد بينا هذا بالتفصيل مرارًا كثيرة في التفسير، وفي المنار
وغيره.
_______________________(33/739)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ويل للعرب من شر قد اقترب
(أفلح من كف يده) (حديث نبوي صحيح)
يالله العجب، ماذا أصاب العرب؟ ما لهم يخربون بيوتهم بأيديهم؛ ليمكنوا
أعداءهم من نواصيهم؟
هل عمرت بلادهم وكملت قواهم، ولم يبق شيء ينقصهم من عظمة الملك
وعزة السلطان، إلا فتح البلاد، واستعمار الأقطار، وعجزوا عن أعدائهم الطامعين،
فعاهدوهم ووادوهم ليفرغوا لقتال إخوانهم المؤمنين؟
كان شر مساوي العرب وأضرها التفرق والتعادي حتى هداهم الله إلى الإسلام
فطهرهم من هذا الخزي والجهل الذي جعلهم منبوذين في جزيرتهم كوحوشها
وضواريها، وامتن عليهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) وامتن على رسوله الذي شرَّفهم به بقوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62-63) وإنما ألف
بينهم بهداية هذا الدين لا بالمعجزات وخوارق العادات، وكان من أثر هذا التأليف
واجتماع الكلمة أن فتحوا نصف العالم في مدة نصف قرن، وصاروا أئمة العالم في
الهدى والعدل والعلم.
ثم عادوا إلى التفرق والتعادي بترك هداية هذا الدين الذي أزالهما وأدال
منهما الولاء والأخوة، وبالتفرق فيه نفسه بما أحال الدواء داء، والقوة ضعفًا،
فكانوا فرقًا وشيعًا ومذاهب دينية وسياسية، وهم يتلون كتاب الله ويدعون الإيمان به،
وينبذ كل فريق منهم الآخر بأنه هو المخالف للكتاب النابذ له وراء ظهره،
ويتلون فيه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وقوله لهم: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:
105) وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . فهل يدعي
المتفرقون المشاقون أنهم ممتثلون أمر الله تعالى في هذه الآيات المحكمات التي هي
بمقتضى دينهم ومذاهبهم فوق سائر كتبهم وأئمتهم وعلمائهم؟
كانوا إلى ما بعد حدوث التفرق السياسي والديني يسودون العالم من شاطئ
المحيط الغربي في أوربة إلى حدود الصين في الشرق الأقصى، ثم نفثت سموم
الشعوبية في العالم الإسلامي فأفسدت وحدة الخلافة، وحل محلها حكم ملوك
العصبيات المتغلبين من عرب وعجم، وحدث في أثناء ذلك أن سلط الله عليهم
هجوم التتار المفسدين من جهة الشرق، ثم هجوم الإفرنج المتعصبين من الغرب،
وما زال الجلاد بين هؤلاء وبين العالم الإسلامي حتى دالت الدولة للإفرنج في أكثر
الأرض، وبقي لمسلمي الأعاجم منهم ثلاث دول صغيرة قد بينا حالها في فاتحة
المجلد الثالث والثلاثين من المنار، وأما العرب فلم يبق لهم إلا هاتان الدولتان
الضعيفتان في اليمن والحجاز ونجد، وقد أحاط بهم الإفرنج من البر والبحر.
فهل كان يدور في خَلَد أحد يؤمن بكتاب الله تعالى وبمحمد رسول الله أن
يكونوا كاليهود الذين قال الله تعالى فيهم في عهد البعثة المحمدية: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ
شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) في
الوقت الذي يؤسس فيه اليهود بإنفاقهم وحزمهم ملكًا جديدًا بنزع قطر عظيم من
الأقطار العربية من أهلها العرب يجلونهم عنه كما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم
ثم خليفته الثاني رضي الله عنه أجدادهم من الحجاز ثم من خيبر وسائر جزيرة
العرب، وأن يخيب السعي لعقد محالفة بينهما من حيث يفوز الإنكليز بعقد معاهدة
مع (أحدهما) يقرهم بها على تسع مقاطعات من عقر مملكة اليمن تكاد تبلغ الثلث
العامر في أطرافها، ومن حيث يفترصون وقوع هذه الفتن الشاغلة لملك العربية
السعودية ومواتاة الأمير عبد الله وموالاته لهم لتحصين خليج العقبة، وتمكين قدم
اليهود في فلسطين وشرق الأردن بما ألصق بها من الحجاز؛ لِيَنْقُضُوا وصية
المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا يبقى في جزيرة العرب دينان) .
سبحان الله: اليهود يؤسسون لهم ملكًا في قلب بلاد العرب، وصاحبا جزيرة
العرب يمهدان لهم السبيل باشتغال كل منهما بقتال أخيه؟ في عهد الإمامين الجليلين
العاقلين التقيين الغيورين على الإسلام العارفين بحال الزمان؟
لو كان الزمان مواتيًا، والعدو لاهيًا، وحاول أحد عاهلي الجزيرة أن ينتزع
من الآخر بعض ما في يده من عسير أو نجران، أو القضاء عليه للانفراد بالملك
في هذه الجبال والأودية لهان الخطب، ولتمنى رجال السياسة العربية الجامعة أن
يقضي الأقوى أو الأصلح على الآخر ويريح الأمة من هذا الشقاق إن كان ممكنًا،
ولكن كل عارف بحال هذه البلاد وأهلها وقواتها يعلم أن هذا الأمر غير مستطاع
الآن، ولا مصلحة فيه لهذا ولا لذاك، فإن الأجانب الطامعين واقفون لهما بالمرصاد،
بيد أن هذا العلم إجمالي لم يترتب عليه ما يجب من صيانة البلاد.
إن كاتب هذه السطور ربما كان من أعلم الناس بحالة العرب عامة، وحالة
الإمامين العظيمين خاصة، وهو أصدق ناصح لكل منهما، يسعى للتأليف بينهما
منذ ثنتين وعشرين سنة، وتواتر السعي والمكاتبة لكل منهما منذ اشتد الخلاف،
وقد كتبت إلى كل منهما أخيرًا أن جزيرة العرب إرث محمد صلى الله عليه وسلم
لأمته، ومعقل دينه ومأرزه، لا ليحيى حميد الدين ولا لعبد العزيز آل سعود، وإنما
هما الأمينان على هذا الميراث، فيجب عليهما التعاون على حفظه والدفاع عنه.
ويؤسفني أن أرى الذين تصدوا لمثل هذا السعي في مصر، قلما يعلمون شيئًا
من حقيقته، وكنه الأخطار التي تخشى من عاقبته، وقد دب إليهم دبيب الشقاق
والتنازع فيما يفاخر بعضهم بعضًا بالسبق إليه، وحق الأولية أو الأولوية فيه،
ولسان الحال يصيح بهم أصلحوا ذات بينكم، قبل أن تحاولوا الإصلاح بين من هم
أقرب إلى الصلاح والإصلاح منكم، وهما الإمامان العظيمان يحيَى وعبد العزيز،
فإن الرجاء في أن يفيئا إلى أمر الله لم ينقطع منهما، وإن وقعت الحرب بفساد
الحزب الحجازي الخبيث بينهما، وإيهامه قائد جيش اليمن بأن جميع قبائل عسير
والحجاز وغيرهما ستثور على الملك السعودي في الشمال والشرق في إثر مناجزته
له في الجنوب، وتوجيه قواه إليه، ونحن نقرأ في جرائدنا مقالاتهم الناطقة بذلك
من مصادرها في اليمن وعدن ومن مصر أيضًا. ومنهم من يدافع عما نال الأجانب
من الغنيمة في اليمن، وقد شغلوا الجمهور الإسلامي عما يعملون في العقبة،
وجيوش اليمن ممتدة على طول خطوط الحدود كلها، وقد واجهتها الجيوش
السعودية فيها أو كادت.
لقد أبصر العُمي، وسمع الصم، ونطق البكم، ولم يبق خفيًّا على أحد يعقل
ما يكيد أعداء الإسلام الطامعون لمهد الإسلام، وقبلة الإسلام، ومعقل الإسلام
ومأرز الإسلام، وروضة نبي الإسلام، سيد البشر، ومصلح البشر، محمد عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وَهَبَ الشريف علي ملك الحجاز (بالأمس) وأمير شرق الأردن (اليوم)
أعظم ثغور الحجاز ومعاقلها وحصونها البحرية البرية لأخيه الشريف عبد الله، ألا
وهو خليج العقبة، وما يتصل به من سكة حديد الحجاز المتصلة بالمدينة المنورة،
فجعلاه تابعًا لإمارة شرق الأردن الواقعة تحت سيطرة الإنكليز؛ ليتمكنوا به من
السيطرة على جزيرة العرب في قلبها، كما أحاطوا بها من أطرافها، وليكون البحر
الأحمر العربي الإسلامي بحيرة إنكليزية لا يمكن لدولة بحرية ولا برية أن تنازع
الإنكليز سلطانهم عليه، ولا على ما يحيط به من مصر والسودان من ناحية، ومن
فلسطين والحجاز واليمن والعراق من سائر النواحي، إذ كانوا معتصمين في هذا
المعقل المنيع (خليج العقبة) الذي سيتصل بشط العرب وخليج فارس فيكون
أقرب الطرق الحربية التجارية إلى الهند، ولا تنس اتصاله بثغر حيفا على البحر
الأبيض المتوسط، بل الأمر أعظم من ذلك.
إن خليج العقبة لأمنع معقل بحري في العالم كله، وإنه لهو الذي يمكن
الإنكليز من السيطرة على جزيرة العرب المقدسة وعلى بقية بلاد الأمة العربية من
العراق وسورية الجنوبية، والبقاء في مصر والسودان المحتلة بالجنود الإنكليزية
والطيارات البريطانية، واشتهر أن الإنكليز قد شرعوا في نزع أرضه من أصحاب
الأيدي عليها لامتلاك رقبة الأرض كلها من المسلمين لتكون خالصة لهم مِلكًا
(بالكسر) ومُلكًا (بالضم) .
علم الإنكليز دهاة البشر أن هذه الهبة من علي بن حسين ملك الحجاز بالأمس
والطامع في عرش سورية في الغد - لأخيه عبد الله بن حسين أمير شرق الأردن
اليوم والطامع في لقب ملك فلسطين في غد - هبة غير صحيحة في الشرع
الإسلامي ولا في القانون الدولي، وأن لملك الحجاز الحق كله في مطالبتهم هم
بردها إليه، فراودوا الملك عبد العزيز ابن السعود عنها، وطلبوا منه إقرارها من
أول العهد باستيلائه على الحجاز إلى اليوم فأبى، أظهروا له الود فما انخدع وما
ونى، وكادوا له الكيد بعد الكيد فما عثر جواده ولا كبا.
ثارت في وجهه فتنة الدويش في نجد بإغراء حدود العرق، فظهر عليها بعد
إهراق دماء غزيرة كانت من أعظم قواته في نجد فاضطروا إلى موادته في خاتمتها.
ثم ثارت في وجهة فتنة ابن رفادة في الحجاز بتحريش الدسائس من ناحتي
شرق الأردن ومصر، فلما رأوا ما قابلها به من حزم وعزم، وأنه بطش بها
بسرعة فقضى على الفتنة القضاء المبرم، اضطروا إلى إظهار الوداد له، ورضوا
بعجزه عن الزحف على العقبة، وإبقاء مسألتها معلقة.
وقد ثارت في وجهه اليوم الفتنة السوءى، الطامة الكبرى، وهي استجماع
قوى جزيرة العرب الجنوبية كلها في اليمن، وتوجيهها إلى قتاله في عسير فالحجاز
ونجد، وتوجيه قواه كلها إلى مكافحتها ومقاتلتها، ودبت عقارب الدسائس لإثارة
الفتن في الحجاز والعراق مرة أخرى، حتى إذا اشتجر في الجنوب الأقران والأقتال،
واستحر بين القوتين الكبريين القتال، تم للإنكليز اقتحام العقبة في الشمال، ويقال:
إن فتنة ابن رفادة عادت سيرتها الأولى، وإن رسولاً تسلل من شرق الأردن إلى
زعيم أو زعيمين من قبائل الحجاز سراء ولا تزال الأراجيف تترى.
إن أفضل ما يعمل الآن هو السعي لإصلاح ذات البين، وعقد المحالفة بين
الإمامين، على الأساس الذي اتفقا عليه وعقدا مؤتمر أبها لأجله، وقد سبق إلى ذلك
بالقول والفعل وفد المؤتمر الإسلامي العام، فخاطب السيد أمين الحسيني كلا من
الإمامين في عيد الأضحى، وجاءتني منه برقية بالخير كلفني فيها الإبراق إليهما
بتأييد وساطة المؤتمر الإسلامي، ووصلت إليَّ هذه البرقية يوم الخميس 29 مارس
ونشر خبرها في جريدة الجهاد الغراء، ثم نشرت الجرائد برقيات أخرى من
سماحته إلى بعض الأمراء والكبراء في مصر وغيرها، (وقد ألف الوفد بالفعل
فسافر بعد كتابة ما تقدم للمنار وقبل نشره) وأيده بالبرقيات أشهر أمراء مصر
وزعمائها.
فالواجب على المخلصين ممن أظهروا الرغبة في إرسال وفد أو وفود أخرى
أن يؤيدوا ذلك الوفد ويضعوا ثقتهم فيه وحده؛ إذ لا حاجة إلى إرسال غيره،
فرجاله ثقات معروفون بأنفسهم لا ببرقياتهم وألقابهم، ولا يخالفهم إلا من يريد
إحباط عملهم، و {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} (يونس: 81) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/745)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحرير محل التنازع بين الإمامين
ومصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة في عاقبته
مرت بضعة أشهر على اشتداد النزاع بين الإمامين وخوض الجرائد فيه، ثم
انقضى الشهر الذي سُلَّ فيه الحسام واشتعلت نار القتال بين الطائفتين فراعت الأمة
العربية والشعوب الإسلامية، وكانت أخبار هذه الحرب غير المتوقعة عند الجماهير
من أكبر ما شغل الناس، وكثر الذين خاطبوا الإمامين بالبرق والبريد داعين إليهما
أن يحقنا الدماء ويجنحا للسلم ويقبلا تحكيم الشرع وخواص المسلمين في النزاع،
فكان منهم محبو الصلح ومحبو الشهرة، ولكنني لم أر لأحد ممن نشروا آراءهم في
الصحف المنشرة قولاً في بيان محل التنازع الواقع كما هو، ولا في مصلحة
المسلمين عامة والعرب خاصة ولا كُنْهِ مطامع الأجانب فيه، ولا في عاقبته على
كل تقدير ينتظر، فأكثر الذين كتبوا في الجرائد وخطبوا في المجامع حتى الذين
تصدوا للسعي إلى الصلح لم نسمع منهم ولا عنهم ما يدل على أنهم على علم مما
ذكرنا، بل قال رئيس جمعية في محفل جامع: إننا لا نريد أن نعرف المحق من
المبطل ولا المتعدي والمعتدى عليه، وإنما نريد السعي إلى الصلح، أي بغير علم! !
لمحل التنازع وجهة حقيقة واقعة، ووجهة نظرية طامعة، ووجهة مصلحة
إسلامية عامة، ووجهة مصلحة عربية خاصة، فأما الحقيقة الواقعة فهي أن ملك
العربية السعودية قد سبق إلى وضع اليد على عسير بقسميها، ولم يكن لإمام اليمن
يد قبله عليها، ولكنه كان يطمع فيها، وإن الإمام سبق إلى وضع يده على نجران
بقوة السيف وكانت مستقلة بنفسها، كما سبق الملك إلى عسير بالاتفاق مع حكامها
والملك لا يطمع في نجران، ولكنها متصلة بحدوده، ولها سابق عهد وولاء له،
ولبعض قبائل (يام) من أهلها علاقة تَابِعِيهِ به وتدفع الزكاة له، وهو يرى أنه
يجب أن تبقى على ما كانت عليه من استقلالها لتكون فاصلا بين المملكتين حتى لا
تكون مثارًا للاعتداء.
وسبب هذا الحذر من الاتصال أن الملك يطلب منذ بضع سنين عَقَدَ معاهدة
سلمية بينه وبين إمام اليمن والإمام يأبى هذا، وقد كان هجوم جنده على نجران
واحتلالها عقب رجوع الوفد السعودي الذي مكث في عاصمته صنعاء عدة أشهر
يبغي عقد المعاهدة وعاد أدراجه خائبًا، فعدها الملك تمهيدًا للاعتداء على ما وراءها
من بلاده.
وكان قد سبق جند الإمام فاحتل جبل العرو من أمنع جبال عسير فجهز الملك
جيشًا لاستعادته وكادت تقع الحرب ولكن الإمام يحيى حكَّم الإمام عبد العزيز في
الأمر رضًا بحكمه، فحكم له على نفسه، وترك له هذا الجبل المنيع، فهو يقول
الآن: إنه لا يأمن سير الإمام معه على هذه الخطة، ويقول أيضًا: إنه قد حرَّض
آل الإدريسي على ثورتهم الأخيرة التي سفكت فيها دماء غزيرة، وأنفقت ألوف
كثيرة، وهو الآن يحرضهم على القتال، ويمدهم بالذخائر وبالمال، وإن قيل: إن
المال الذي يمد هذه الفتنة هو من أفراد الحزب الوطني الحجازي المقيم في اليمن
وهو الذي كان يمد الثورة التي قبلها.
ومن الحقيقة الواقعة التي لا مراء فيها أن المفاوضات الكتابية بين الإمامين
بالبرق والبريد انتهت إلى الاتفاق بينهما على بقاء عسير على ما هي عليه بيد
الدولة السعودية وعلى تسليم الإمام من عنده من آل الإدريسي إلى الملك، وعلى
حل مشكلة نجران بالمفاوضة في مؤتمر أبها وكان المرجو أن يتساهل الملك فيها لو
أن وفد الإمام لم يطلب إعادة النظر في مسألتي عسير وآل الإدريسي بعد الاتفاق
عليهما، فهذا الطلب هو الذي أوجب قطع الوفد السعودي للمفاوضة وصيرورة
الدولتين في حالة حرب. هذه خلاصة الأمر الواقع الذي عرفه كل أحد.
وأما مسألة المصلحة العامة للعرب وللمسلمين في هذه المشكلة فالرأي الصحيح
فيها من جميع نواحيها، يتوقف على العلم بظواهرها وخوافيها، وقوادم أجنحتها
وخوافيها.
وأما شرفاء الحجاز فقد ظهر في أحدهم الاستعداد للملك فأوتيه وهو الملك
فيصل رحمه الله تعالى، وقوى المتنازعين فيها، والخطر الأجنبي عليها، فأما
الخطر البريطاني فقد بيَّناه في المقالة التي قبل هذه، وأما الطلياني فلم يظهر لنا منه
شيء في هذه الفتنة. وأما المتنازعان الظاهران فهما الإمامان الحاكمان، ومن
دونهما بقية آل الإدريسي وهم يجهزون على أنفسهم بجهلهم، ولم يظهر بعد السيد
محمد الكبير أدنى استعداد للإمارة في أحد منهم، وقد عرف جميع المشتغلين
بالسياسة ما فعل علي وعبد الله في اقتطاع منطقة العقبة ومعان من الحجاز ووضعها
في قبضة الإنكليز، وعرفوا ما كان من عرض الملك عَلِيٍّ الحجازَ كله على
الإنكليز باسم الحماية كما دونه الريحاني في كتابه، وعرفوا كيف وضع عبد لله
إمارة شرق الأردن تحت السيادة الإنكليزية باسم الانتداب ورضي منهم بلقب
الأمير، وراتب حقير، ويعرفون كيف يستخدمونه الآن وسيعلمون ما هو شر منه،
كما يعلمون أن هذين الشريفين اللذين يعتقدان أنهما خلقا ليتحلى كل منهما بلقب ملك
من دولة أجنبية عدو للعرب وللإسلام ليس لهما عصبية قومية ولا ثروة ولا نفوذ
شخصي في الحجاز ولا في غيره، وأنهما يطلبان ملك الحجاز وغيره من الأجانب
فكيف يكون أمر الحجاز إذا ولي أحدهما أو غيرهما من أسرتهما أمره، إن خرج
منه ابن السعود بما يكيدون له؟ لا جرم أنه يكون مجالا للثورات والفتن، وتبطل
فريضة الحج والعياذ بالله تعالى فالحق أنه لم يبق في جزيرة العرب إلا قوتا الإمامة
الزيدية، والمملكة السعودية فأيهما أرجى لمصلحة الشعوب الإسلامية، والأمة
العربية؟
إن الجواب الصحيح عن هذا السؤال يتوقف على العلم بحقيقة قوة إمام اليمن
في بلاده وبصفة إدارته، وإخضاعه لزعمائها وعشائرها، ومعاملة قومه الزيدية
للشافعية في تهامتها وبقدر استعداده لحفظ الحجاز وتأمينه للمسلمين، إن قدر على
إخراج ابن السعود منه وحل محله دون الحجازيين، أنا لا أصف لهم ما أعلم من
ذلك. وإن كثيرًا منهم ليعلمون ما أعلم وأكثر مما أعلم، وإني قد عنيت بخدمة ملك
الإمام يحيى وإمارته بما يعلمه هو وقليل من الناس، وإنني لا أقول في هذا
الموضوع شيئًا الآن، وإنما أدع القول للزمان، وربما قال كلمته الفاصلة قريبًا في
قوته الحربية، وطال بعد المدى في انتظار قوته الإدارية، ولا يعلم إلا الله ما
يحدث فيما بين الكلمتين مما أشار إليه الحديث (ويل للعرب من شر قد اقترب)
كذلك لا أقول شيئًا في استعداد ابن السعود لأمن الحجاز وعمرانه فوق ما عرفه
العالم كله بالتواتر عن مشاهدة مئات الألوف من حجاج الأقطار كلها، فما هو
معلوم من تأمين الدولة السعودية للحجاز باليقين تعجز اليمن عن مثله باليقين عند
العارفين، وإن شك فيه غيرهم، واليقين مقدم على الشك والظن.
وأما مصلحة الأمة العربية في جزيرتهم فالقضية القطعية فيها الآن أن يحفظ
كل من الإمامين قوته لنفسه في بلاده لإبقاء ما كان على ما كان، وعقد محالفة
بينهما على السلم والأمان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(33/750)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصدير كتاب الوحي المحمدي
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر
ونحتسب، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي، فإنه لم يكن إلا خلاصة
عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير
جميل؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية، وقوة
سياسية وحربية، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة، بله ما يلزم ذلك من الفوائد
السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من
استذلالهم لشعوبهم.
في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر، ولا يطلبونه منه، ومنهم
من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم، ويوجد
فيهم من يطلبها من غيره (كالأوراد والأحزاب) بناء على أنها مستمدة منه ويقل
فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم؛ لأن
لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله
القرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص:
29) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ
سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (محمد: 24-25) .
إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية
والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها، ويجهلون البرهان العقلي
المقترن بالشعور الوجداني، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله، وأن في اتباعه
سعادتهم في دينهم ودنياهم، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في
بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه، لا
يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا، والمجهول المطلق لا
تتوجه إليه النفس، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره.
إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير، ولكنه لا
يدرس في المدارس، ولا يعتمد عليه في التربية، ولا يخطر في بال من لم يقرأه
أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها، ولا لدفع الغوائل
عنها، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من
الإصلاح والهدى، وتجديد ثورته الأولى، (وإنما لكل امرئ ما نوى) .
كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم
على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله
عنهم له، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه
الله، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن، وقل
منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب، حتى أهابت بهم صيحة
هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا
العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية: وتحدي علماء الإفرنج بعلومه
وإصلاحه، ودعوتهم إلى الإسلام به؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من
تياره، فكانت أول صيحة صخت الأسماع، فأصغت الآذان، وأشخصت الأبصار،
وأهطعت الأعناق، بالقرآن للقرآن، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من
اللغات، وبث دعوته في الأقطار، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب
إلى هداية القرآن، وروح القرآن، وإن اشترك فيه العربي والعجمي، والسني
والشيعي والإباضي، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان، ومن
آياته المحكمات: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل عمران: 105) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) .
وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية
التي يفهمها كل قارئ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد
مؤيدة بالشواهد، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني
في الأرض، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة
الغربية، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها، وتدارك خطرها بعبارة
مختصرة، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة، تشير إلى ما تحتها من كنوز، وما
وراءها من ركاز إسلامي مركوز، فلا تتعب القارئ الكسول، ولا تنفر السامع
الملول.
من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ
الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل
القبلة، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره، فأما إمام أهل السنة فإنه
أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت، وأما إمام العترة
والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه
فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول
التقاريظ.
وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ
عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة
وغيرها، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في
مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في
الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب. دع
من انتدبوا للترغيب فيه، وبيعه لمن يشتريه، احتسابًا لوجه الله عز وجل.
وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب
من الطبقات المختلفة، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن،
اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام، وما
يدحض شبهات المعطلين الماديين، والملاحدة المتفرنجين، وما يفند تضليل دعاة
التنصير، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير، وما يلبِّسون على
غيرهم من إفك وتغرير. فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات
أصل دينهم، ولا معجزات نبيهم (لا ربهم) إلا بثبوت هذا القرآن، وأنه وحي من
الرحمن.
وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة،
ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية (الهندية) قد أتم عمله، وهو
تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة (هند الجديد) في كلكتة،
وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة، وإن
مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة.
وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية (أحدهما) الشيخ بدر الدين الصيني
المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ (الهند) وصاحب المقالات المشهورة في
الصحف العربية. (وثانيهما) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير
المنار في بلده (قبودان) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين، وسنرسل إلى
كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها.
وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا
أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن
(رفيوا سلاميك) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها، بيد أني سأرسل
إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها.
كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح
مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير
الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل، أو الاضطرار إلى استئناف العمل، ولهذا
وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها (ص21) ولكن
رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب
الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها.
وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا
على وعدي بها، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على
ثلث الأصل، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل، وقد ختمت الكتاب
بدونها، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به،
والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه، وإنما تكون تلك الملحقات
تعزيزًا له، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها، ومع زيادة يجوز أن يتبعها
غيرها.
علاوات كتاب الوحي:
(1) أنباء الغيب في القرآن، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام، مما
ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده، ولا يزال يظهر منها ما
يدل على صدقه، حتى يأتي أمر الله عز وجل.
(2) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر، وقد أتينا في هذه الطبعة
بالأصل فيها.
(3) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع، وقد ألممنا بها بعض الإلمام.
(4) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت
بعده بقرون، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب.
(5) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها
الطب.
(6) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في
علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع.
(7) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه
وشمائله، الدالة على نبوته.
(8) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين، وأمراء الصحابة وقوادهم
الفاتحين، وهدي السلف الصالحين، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره.
(9) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون
القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها.
(10) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة
والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد
الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى.
(11) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي
فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل.
(12) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها
بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب، ما لا يفهمون من
الإجمال في الإيجاز، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب
الأربع الأولى؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله
عليه وسلم الكسبي، واستعداده العقلي، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي،
ولكنهم طالبونا بها، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها.
ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب،
ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا، وكثَّرناها عدًّا،
فجعلنا الأول منها ثلاثًا، والخامس بعدد جمله عشرًا.
وحينئذ يمكن بسط علوم القرآن الدالة على أنه من عند الله في عدة أسفار كما
صرَّحنا بذلك في الصحفة 128 منه.
هذا وإنني قد بيَّنت في آخر مقدمة الطبعة الأولى (ص 11) أنني كتبته في
أوقات متفرقة، وزمن هم وعسرة، وأشرت إلى ما أراه يفتقر إلى الإصلاح من
عبارته، ككثرة الإحالة فيه على تفسير المنار؛ لأنه كان في الأصل استطرادًا فيه،
وإلى بعض التكرار فيه.
وقضى الله أن أعيد طبعه في زمن قصير، وعسير غير يسير، وقد وفقني
فيه بفضله لحذف كثير من الإحالات غير الضرورية منه، وجعل أكثر ما بقي منها
في حواشيه حتى لا تشغل قارئه، وأما أكثر ما يراه في صلبه من الإحالات، فهو
على ما سبق فيه لا على ما في غيره.
وأما ما في الطبعة الأولى من التكرار فقد أشرت في مقدمتها إلى أن منه ما
هو مقصود لذاته اقتداء بالقرآن، وهذا الصنف منه قد أبقيته وزدت فيه، وقد
حذفت من خاتمته مقدمات إثبات الوحي المحمدي الست، وما يتلوها من الدلائل
الثمانية على كون هذا القرآن من كلام الله ووحيه، وخلاصة المقاصد العشر من
علومه الإصلاحية؛ لأن أكثر ما أوردته منها مختصر مما قبله، وقد أستغني في
هذه الطبعة عن أكثره.
هذا وإنني أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يوم ذكرى مولد النبي
صلى الله عليه وسلم من هذا العام (1352) على المشهور بين الناس [1] لتذكيرهم
فيه بأظهر الدلائل على نبوته ودحض أقوى الشبهات على دعوته، فيكون خير ما
يذكرون من نعمة الله تعالى به. وها أنذا أصدر الطبعة الثانية منه في يوم عرفة
من هذه السنة نفسها؛ تذكيرًا بما نزل عليه فيه من قول الله عز وجل: {اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3)
لأن موضوع الكتاب بيان إكماله تعالى لهذا الدين، وإتمام نعمته على العالمين،
واستمرار حاجة جميع البشر إلى هدايته أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو الثاني عشر من ربيع الأول، والأرجح عند المحدثين أنه التاسع أو العاشر منه.(33/753)
الكاتب: عبد المتعال الصعيدي
__________
مريم أم عِيسَى عليه السلام
أخوتها لهارون بُنُوتها لعمران [*]
(1) {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ *
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ
إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران: 33-36) .
(2) {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياًّ * يَا أُخْتَ
هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 27-28) .
(3) {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التحريم: 12) .
يسوقنا إلى الكتابة في هذه الآيات تطاول بعض المسيحيين على القرآن الكريم
فيها؛ إذ يقولون: إن مريم لم تكن بنت عمران، ولم يكن هارون ابنه ولا أخو
موسى أخاها، فقد كان من بين موسى وبين عيسى ابنها ألف وخمسمائة سنة فلا
يصح أن يكون أبوه عمران أباها، ولا أن يكون أخوه هارون أخاها، ونحن نتلطف
في إيراد اعتراضهم هذا على هذه الآيات الكريمة، وندع ما يصحبه منهم من تهكم
واستهزاء، وتبجح وافتراء، وهم يقولون: إن مريم كانت بنت هالي أو عالي
وهي من نسل داود ومن سبط يهوذا، وموسى وهارون من سبط لاوي فنسبها بعيد
عن نسبهما ونسب أبيهما ولا تجتمع معهم إلا في إسرائيل الذي تجتمع فيه كل
أسباطهم.
وإنه ليقنعنا معشر المسلمين أن نقول: إن عمران والد مريم غير عمران والد
موسى وهارون وقد أخبر بذلك القرآن المُنَزَّل من عند الله فيجب علينا تصديقه،
ولكن هل يقنع هذا أولئك المعترضين الذي يصعب عليهم أن يتركوا بمثل هذا ما
ألفوه من أن والد مريم كان يسمى هالي ولم يكن يسمى عمران وهو عندهم أقرب
إلى أن يجعلوه حجة على القرآن، وطعنًا من الطعون التي يوجهونها إلى الإسلام.
وقد يمكننا أن نشككهم في أن والد مريم كان يسمى هالي أو عالي بما ورد في
إنجيل يعقوب من أن مريم كانت بنت يهوياقيم، وإن كان إنجيل يعقوب من
الأناجيل غير المُعَوَّل عليها عندهم، ولكن ماذا يفيدنا هذا في إقناعهم بأن والد مريم
كان يسمي عمران لا هالي ولا يهوياقيم.
ويجب إلى هذا أن نذكر أن أقرب الأقوال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) هو أن آل
عمران فيه يراد بهم موسى وهارون وعمران أبوهما، وقال الله تعالى عقب ذلك في
والدة مريم: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} (آل
عمران: 35) والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، فالظاهر أن
عمران هنا رجل والدة مريم هو عمران هناك والد موسى وهارون، وقد قال الله
تعالى في سورة مريم يخاطبها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: 28) وأقرب الأقوال
فيه أنه هارون أخو موسى فليكن عمران المنسوب إليه مريم ووالدتها أبا موسى
وهارون أيضًا، وهنا تتجلى معجزة من معجزات القرآن الكريم ويصير بنا البحث
إلى دقائق التاريخ الإسرائيلي فيهتدى في ذلك إلى دقائق منه ما كان النبي صلى الله
عليه وسلم ليصل إليها في أميته لولا أن أخبره الله تعالى بها فيما أنزله عليه من
كتابه ومحكم آياته.
ذكر بعض المفسرين أن والدة مريم كانت تسمى حنا بنت فاقوذا وهي أخت
إيشاع (أليصابات) زوج زكريا عليه السلام وقد جاء في إنجيل لوقا (ص 1-5)
إن امرأة زكريا أليصابات كانت من بنات هارون، وقد جاء في هذا الإنجيل أيضًا
ما يؤكد تلك القرابة بين أليصابات ومريم ووالدتها ص 36-1 فتكون حنا والدة مريم
من بنات هارون أيضًا، وتكون مريم من بناته أيضًا من جهة أمها إذا كان أبوها من
نسل داود ومن سبط يهوذا على ما يقوله المسيحيون ويوافقهم عليه كثير من
المفسرين وتكون إيشاع (أليصابات) على هذا خالة مريم وقيل: إنها كانت أختها
والذي أرجحه أنها كانت تَمُتُّ إليها بقرابة من جهة أمها، ولم تكن أختها [1] لأن
أليصابات كانت من سبط لاوي ومريم كانت من سبط يهوذا وقد تكون أمها مع ذلك
أخت ألصيابات وقد تكون من بنات عمها ويرجع هذا إلى أن إنجيل لوقا لم يعين
هذه القرابة ولا ضير علينا في أن نرجع إليه في ذلك وأشباهه.
وكانت حنة قد أمسك عنها الولد حتى أيست وكبرت فدعت الله أن يهب لها
ولدًا ونذرت أن تتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه فحلمت بمريم
ومات أبوها قبل أن تضعها فلما وضعتها لفتها في خرقة وحملتها إلى بيت المقدس
ووضعتها عند أحباره من أبناء هارون عليه السلام، وكانت كهانة بني إسرائيل لهم
متوارثة فيهم فكانوا يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة، فتنافس
الأحبار في هذه النذيرة الصغيرة أيهم يكفلها وقد فاز بها منهم زكريا عليه السلام
زوج قريبتها أليصابات، وكان زكريا مثل أولئك الأحبار من أبناء هارون وهم من
سبط لاوي ولم يكن من نسل داود كما يزعم بعض المفسرين بعد أن ذكر أن أحبار
بني إسرائيل كانوا من أبناء هارون، وهذا الاضطراب منشؤه عدم الإلمام الكافي
بدقائق تاريخ بني إسرائيل، وذلك مما يجب توفره في مفسري القرآن الكريم
فضم زكريا مريم إليه ورباها في بيته الهاروني واهتم بأمرها اهتمامًا بالغًا
حتى يقال: إنه بنى لها بيتًا واسترضع لها مراضع غير أمها وكانت شيخة كبيرة لا
يغذيها لبنها التغذية التي تصل بها إلى حد الكمال في جسمها وغيره، ولا غرو أن
يهتم بها زكريا هذا الاهتمام فإنه كان قد كبر وشاخ ولم يرزق بولد، لأن امرأته
كانت عاقرًا لا تلد مثل قريبتها حنا والدة مريم، فتبنى زكريا هذه اليتيمة الصغيرة
واهتم هذا الاهتمام بها حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بَنَى لها محرابًا في المسجد
وجعل بابه في وسطه فلا يرقى إليه إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره، وكان كل يوم هو
الذي يقدم لها طعامها وشرابها.
فإذا أردنا أن نستخلص شيئًا من تاريخ مريم إلى أن بلغت هذا السن من شبابها
أمكننا أن نستخلص منه هذه الأشياء: -
(1) أن مريم ولدت نذيرة الرب وابنة البيت المقدس، وانقطعت في ذلك
نسبتها إلى أبيها وأمها ولا يزال الناس ينذرون أولادهم إلى بعض من يعتقدون فيهم
فينسبونهم إليهم ويجعلونهم أبناءهم وتسمعهم يقولون عن أحدهم: إنه ابن السيد وهو
ليس ابنه، وعن الآخر: إنه ابن الرفاعي وهو ليس ابنه، وهكذا.
(2) أنها تربت في بيت من بيوت هارون وهم من سبط لاوي فاتصلت
نسبتها بهذا البيت وانقطعت نسبتها إلى سبط يهوذا قوم أبيها الذي مات قبل أن تولد،
ويظهر أن أمها ماتت وهي في سن الرضاع فشبت لا تعرف لها أبًا غير زكريا
ولا أما غير زوجه أليصابات.
(3) أنها عاشت بين الأحبار أبناء هارون كأنها واحدة منها تشاركهم في
وظيفتهم الدينية وتقضي وقتها في عبادة ربها ولا ينظر قومها إليها إلا أنها راهبة
من راهبات بيتهم يقيسون بذلك أعمالها ويزنون به ما تفعله منها ويخاطبونها كما
يخاطبون واحدًا من أولئك الأحبار، فإذا قالوا له: يا أخا هارون؛ لأنه واحد من
أبنائه قالوا لها: يا أخت هارون؛ لأنها أصبحت واحدة منهم، وهذا كما يقال في
العرب للتميمي مثلا: يا أخ تميم وللتميمية يا أخت تميم، فإذا جاور شخص تميما
وطال عيشه بينهم قيل له أيضًا يا أخا تميم بحكم الجوار وقيل لزوجه أو غيرها من
نسائه يا أخت تميم مثله، وكان اليهود يوزعون أنفسهم على أسباطهم كما كان
العرب يوزعون أنفسهم على قبائلهم [2] وتتشابه في ذلك عيشة هذين الشعبين اللذين
يَمُتَّان إلى أصل واحد، ويتفرعان من أرومة واحدة.
فكان لهذه العوامل الثلاثة ذلك الأثر في انقطاع نسبة مريم إلى بيت أبيها من
سبط يهوذا إذا صح أنه كان من ذلك السبط، وفي اتصال نسبتها ببيت هارون من
سبط لاوي إذ تربت في بيت أحد أحباره، ثم وفت نذر أمها فترهبت في البيت الذي
نذرتها له، وكان بيت هارون هو الذي يقوم بشأنه وينسب كل شي فيه له وكان ذلك
حقهم الذي أعطتهم التوراة إياه من عهد أبيهم هارون إلى ذلك العهد كما ورد ذلك في
الإصحاح العاشر من سفر التثنية (هناك مات هارون وهناك دفن فكهن العازر ابنه
عوضًا عنه) .
فلما حملت مريم بابنها وأتت به قومها تحمله بعد وضعها له خاطبوها هذا
الخطاب الذي تخاطب به كل مترهبة مثلها {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ
سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 28) وقد آثروا خطابها بذلك على غيره ولم
يقولوا لها: يا مريم أو نحو ذلك؛ ليشيروا بذلك إلى أن ما أتت به إلا يليق بمترهبة
مثلها قضت حياتها بين الأحبار حتى صارت كواحد منهم وعدت أختًا لهم، فقولهم
يا أخت هارون في قوة قولهم يا أخت الأحبار سواء بسواء.
فالمراد بهارون في الآية هارون أخو موسى قطعًا، وقد قال كعب الأحبار
لعائشة رضي الله عنها: إن هارون فيها ليس أخا موسى فقالت له: كذبت، فقال
لها: يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا
فإني أجد بينهما ستمائة سنة فسكتت والحق مع عائشة رضي الله عنها. وهذا
خطاب تسوغه العربية وإن كان بين مريم وهارون أكثر من ستمائة سنة، وأين من
هذا القول المبني على دقائق التاريخ الإسرائيلي ما يقوله الذي يذهب إلى أن هارون
في الآية غير هارون أخي موسى من أن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون،
وأن هارون هذا كان رجلاً صالحًا في عهدها، قيل: إنه يوم مات تبع جنازته
أربعون ألفًا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس، فمن يصدقنا
في هذا الغلو؟ ومن هو هارون هذا الذي لا يعدو أمره إلا أن يكون هيان بن بيان،
ولو تبع جنازته ثمانون ألفا يسمون هارون لا أربعون، وقيل: إنه كان أخًا لمريم
من أبيها وهو قول مثل سابقه من تلك الإسرائيليات التي اخترعت لتفسير بعض
آيات القرآن الكريم ولم يخف أمرها على كثير من محققي المفسرين ولكنه كان لها
أثرها في صرف المفسرين عن الرجوع إلى غيرها مما صح من أخبار بني
إسرائيل والانتفاع به بدلها في علم التفسير.
وإني الآن في حالة من هذا الرأي الذي أذهب إليه في تفسير تلك الآيات بعد
الرجوع إلى تاريخ هذه النذيرة لا أشك معها في أن شعب بني إسرائيل كان لا
يخاطبها إلا هذا الخطاب المحبوب (أخت هارون) فأصبح هو الغالب عليها
وأصبحت لا تُعْرَف إلا به، ونسي الناس نسبها الجسدي إلى أبيها وآثروا عليه هذا
النسب الروحي إلى هارون أب الأحبار الذين ربوها هذه التربية الروحية التي
صرفت قلوب الشعب إليها وجعلتهم يلهجون بذكرها، وما أخالهم كانوا يعنون بأبيها
في قولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} (مريم: 28) إلا زكريا عليه السلام فهو
الذي تولى تربيتها وكان الأب الروحي لها.
وإني لا أشك أيضًا في أنهم كما كانوا ينادونها هذا النداء المحبوب (أخت
هارون) كانوا ينادونها نداء آخر محبوبًا (ابنة عمران) عمران أبي موسى وهارون
الذي جعل من الآباء الأولين للأنبياء والمؤمنين مع آدم ونوح وإبراهيم {إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33)
ولماذا لا تكون مريم ابنة روحية لعمران وهي أخت روحية لابنه هارون؟ اللهم إني
لأعجب من هذه النسبة إلى عمران. كيف لا يلتفت إليها أحد من المفسرين فيذهب
بعضهم في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ} (التحريم: 12) إلى أن عمران
فيه هو أبو موسى ويؤول فيه بتأويل من تأويلاتهم كما ذهب بعضهم إلى مثل هذا
في قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: 28) وقد كان عمران أقرب أولئك
الآباء السابقين إلى اليهود وهو والد موسى صاحب شريعتهم ومنشئ أمتهم. فمن
المعقول جدًّا أن ينسبوا إليه هذه النسبة التشريفية كل من يتعلقون بحبه منهم مثل
هذه النذيرة أو غيرها من نسائهم أو رجالهم.
وأما قوله تعالى في حق والدتها: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} (آل عمران:
35) فالإضافة فيه على معنى من، والمراد امرأة من عمران وقد كانت حنا والدة
مريم من بنات هارون بن عمران مثل أليصابات، وهذه الإضافة يقصد منها في
القرآن الكريم تشريف والدة مريم بإضافتها إلى عمران عقب ذكره اصطفاءه له
ولآله على العالمين، وهي أيضًا من آله من جهة إيمانها ومن جهة نسبها، وهذا كما
قصد من إضافة ابنتها إلى هارون وعمران تشريفها فكلها إضافات تشريفية لا
تقتضي نسبًا حقيقية، وقد تكون حنا من غير سبط عمران ولكنها تنسب إليه؛ لأن
أبوته المذكورة في القرآن الكريم لكل المؤمنين من بني إسرائيل فيدخل فيها كل
الأسباط ولا يختص بها سبط دون سبط.
وإذ بعدنا بالقرآن الكريم عن مجال الطعن وهو ما يمتاز به تفسيرنا لتلك
الآيات مع ما يقوم عليه من تلك الأسس التاريخية واللغوية فلا نحب أن نترك هذا
البحث بدون أن نختمه بذكر رأينا في اسم والد مريم الذي جاءت بها أمها حنا منه
فقد يكون اسمه هالي أو عالي، وقد يكون اسمه يهوياقيم وقد يكون اسمه عمران
بهاتين النسبتين التشريفيتين (أخت هارون وابنه عمران) نسي الناس فيهما نسبتها
الحقيقية، وساعد على ذلك موت أبيها قبل أن تلدها أمها، ولا يوجد الآن نص
صريح في القرآن الكريم أو الأناجيل الموجودة لدى المسيحيين يمكن أن يؤخذ منه
اسم أبيها بيقين. فأما القرآن الكريم فقد جاء فيه: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ} (التحريم:
12) ولكن هذا شأنه ما لو كان قيل فيها ابنة إسرائيل أو ابنة إبراهيم أو غيرهما
من آبائها الأولين الذين يصح نسبها إليهم على طريق التشريف والتعظيم، وأما
إنجيل يعقوب الذي سمي فيه أبوها يهوياقيم فهو ليس من الأناجيل الموثوق بها
لدى المسيحيين [3]
وأما إنجيل لوقا الذي ورد فيه اسم هالي فإن هذا الاسم لم يرد فيه مضافًا
صريحًا إلى مريم، وإنما ذكره مضافًا إلى ابن عمها يوسف النجار فيما ذكره من
نسب المسيح وقد قال: إنه كان فيما يظنه الناس ابن يوسف هذا خطيب أمه مريم،
وهذا هو نصه في ذلك من الإصحاح الثالث (ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين
سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي بن منثات) فهو في صريح هذا
النص والد يوسف لا والد مريم، ولكن إنجيل متى ذكر في نسب المسيح من
إصحاحه الأول أن رجل مريم التي ولد منها المسيح يوسف بن يعقوب بن متان إلخ
فوالد يوسف في هذا النسب يعقوب لا هالي وهذا تناقض ظاهر فاضطروا في دفع
هذا التناقض إلى أن يقولوا: إن هالي كان والد يوسف من جهة مريم؛ لأنه لم يكن
لأبيها ولد ذكر فنسب إليه يوسف على ما كان مقررًا عند اليهود في ذلك، ولكن
التناقض بين الإنجيليين في نسب المسيح لا يقف عند هذا التناقض، وقد ذكر لوقا
في نسب المسيح إلى إبراهيم عليهم السلام أربعة وخمسين أبًا، وذكر متى واحدًا
وأربعين أبًا، فمن الجائز أن يكون هالي من آباء يوسف الذين تركهم متى أو نحو
ذلك، وليس أبا لمريم، وليس عندهم نص غير هذا النص قيل فيه صريحًا إن مريم
كانت ابنة هالي حتى يمكننا أن نجزم به في نسبتها إليه، وغاية ما عندهم في ذلك
أن اليهود كانوا يسمونها مريم بنت هالي ولكن في أي كتاب وفي أي زمان سمى
اليهود بذلك مريم وزنًا عليها السلام؟
... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بكلية اللغة العربية
__________
(*) بقلم الأستاذ البحاثة الفاضل الشيخ عبد المتعال الصعيدي.
(1) المنار في بعض روايات حديث المعراج (فإذا أنا بابْنَيِ الخالة يَحْيَى وعيسَى) .
(2) المنار: بل نرى علماءنا ينسبون موالي العرب من الأعاجم إلى قبائلهم (أي قبائل العرب) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مولى القوم منهم) .
(3) المنار: نحن المسلمين لا نقيم وزنًا لمجمع نيقية الذي رفض أكثر الأناجيل وعدها غير قانونية.
(أبو كريف) فإنه كان يدار بإرادة القيصر قسطنطين ويتبع هواه في سياسته التي كون بها المسيحية تكوينًا رومانيًّا وثنيًّا كما حققناه في المنار وفي تفسيره.(33/760)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
(تابع لما نشر في العدد الماضي)
(2)
- 5 -
للعلامة الأستاذ الشيخ سعدي يس الدمشقي
تكرم علامة دمشق الشام الشيخ محمد بهجة البيطار فأهداني كتاب
(الوحي المحمدي) كما هو شأنه مع أصحابه ومعارفه في كل كتاب نفيس يصدر،
وذلك خُلُق طبعه الله عليه.
وما أن اطلعت على هذا الكتاب العظيم العديم المثال حتى علمت علم
اليقين أن كتاب الوحي المحمدي هو خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر،
بل لم يؤلف قبله في بابه نظيره، ولقد ارتفع عن كل مؤلف كما ارتفع مؤلفه
عالم الإسلام الإمام الهمام السيد الشيخ محمد رشيد رضا عن كل عالم ومؤلف
في هذا العصر. ولقد سما به وايم الله لمكان لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه
العقبان.
تأملت شُبَهَ درمنغام التي بسطها المؤلف الإمام قبل الرد عليها فإذا هي
جبال تتصاغر أمامها دوامغ الحجج، وبحار زاخرة تكاد تغرق الحق في
اللجج، وتمتلئ منها قلوب المؤمنين رعبًا، وما إن كرَّ عليها ذلك الغضنفر
الضرغام، بسيف الحق الصمام، حتى ذلت بعد جبروتها، وصغرت بعد
كبريائها، كما ذل وصغر الثعلب بين يدي القسورة الأغلب، وإذا بها ريش
وهباء، أمام زعزع نكباء {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) .
وكتاب الوحي المحمدي ليس رد مفتريات وإبطال أخطاء فحسب، بل هو
كتاب جمع فأوعى، فيه إثبات أن القرآن وحي الله الذي أوحى به لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي الهاشمي، وأنه آية الله الكبرى
التي أيد بها دينه ونبيه، وأنه معجزة باقية ما بقي النيران، وتعاقب الملوان،
وأنه أتى بجميع ما يحتاجه البشر لمعادهم ومعاشهم.
وفيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ونبوة جميع
الأنبياء بوجه عام، أثبت ذلك بأدلة أنصع وأمتع وأرفع من أدلة كتب دلائل
النبوة، إثباتًا اعتمد على الأدلة العلمية العقلية التي يذعن لها المخالف المنصف
والخصم المعاند. وفيه أصول العقائد الإسلامية بل فيه ملخص الشريعة
الإسلامية: أحكامها وحكمها.
وإنك لتجد أن السيد الإمام، أمتع الله بطول حياته المسلمين ونصر به
الإسلام، تجد أنه قد قسم الإصلاح الإلهي للبشر في القرآن إلى عشرة مقاصد،
لا أحسب أن مخالفًا منصفًا يقرؤها متدبرًا لها ويبقى عنده أدنى ريب أو أقل شبهة في
أن القرآن أعظم كتاب منزل، على أشرف نبي مرسل، دعم المؤلف الإمام هذه
المقاصد بشواهد حية، وآيات ناطقة، وحجج ليست براهين ساطعة ولكنها شموس
طالعة، ولئن سمي كتاب فتح البارئ قاموس السنة فكتاب الوحي المحمدي ترجمان
القرآن.
وليس هذا بكثير على سليل بيت النبوة ومن يمت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بنسب النبوة. ولقد خطر لي وأنا أقرأ كتابه كلمة ذلك الأعرابي
الذي سأل أبا جعفر محمد بن علي ابن سيدنا الحسين إذ سأله فقال: هل رأيت
الله حين عبدته يا أبا جعفر؟ فقال: لم أكن لأعبد من لم أره. قال فكيف رأيته؟
قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك
بالحواس ولا يشبه بالناس معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور
في القضيات، ذلك الله الذي لا إله إلا هو. فقال الأعرابي: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) ألا وإن هذا وذاك من ينبوع واحد، وإن
أقول إلا ما قاله ذلك الأعرابي.
بيروت ... ... ... ... ... ... ... سعدي يس الدمشقي
***
- 6 -
للأديب الفاضل الشيخ محمد نعيم البيطار
ما هذه الأشعة التي انبعثت من غار حراء فأشرقت بنورها الجزيرة
العربية ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا بهجة وضياء؟
من ذلك الرجل الذي ظهر للوجود فأنقذ العالم مما كانوا فيه من البؤس
والشقاء وقادهم جميعًا إلى طريق السعادة والهناء.
ما هذه الدعوة التي لم يمض على ظهورها ربع قرن حتى احتلت قلوب
العالم فكانوا لا يخالفون مبادئها قيد شبر.
ترددت هذه الأسئلة في خواطر المطلعين على أحوال الأمم والمنقبين عن
تواريخ الشعوب لما شاهدوا من آثار تلك المدنية الباهرة التي ما زالت آثارها
موضع الإعجاب رغم مضي مئات السنين على أصحابها.
فشرع كل منهم يضعها بقالب موافق لما يريد، ويملي على قلمه ما
يوحيه إليه فكره من آرائه التي اكتسبها من البحث والتنقيب، فكان بينهم
المخطئ والمصيب، غير أن المخطئ يحتاج إلى تنبيه؛ لأن خطأه إذا شاع بين
العوام، كان مدعاة لدفن الحقائق والتمسك بالأوهام.
لذلك الأمر الخطير قام صاحب كتاب الوحي المحمدي السيد الإمام،
علامة الإسلام، الأستاذ محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. فأبان
أغلاطهم التي تطرأ على كل من لم يكن ضليعًا بالأمر الذين يقدم عليه. فكان
من أكبر أغلاطهم أن حسبوا الوحي الإلهي إلهامًا فطريًّا من نفس الرسول
محمد عليه الصلاة والسلام، بمساعدة البيئة والذكاء والانفراد، إلى غير ذلك
من الأسباب التي أيدوها بآرائهم الفاسدة فأغوت كثيرًا من المتعلمين الذين لم
يطلعوا على حقائق السيرة النبوية فذكر السيد الإمام مصدر تلك الشبهات
ودحضها بالحجة والبرهان، وأقام الشواهد الكثيرة على أن الوحي الكافل لإصلاح
جميع البشر لا يمكن إلا أن يكون وحيًا إلهيًّا.
وقد أفاض في ذكر إعجاز القرآن في بلاغته وبيانه وتأثير هدايته
ومقاصده العليا من تنظيم شئون الحياة الاجتماعية، تنظيمًا يتفق وحاجة بني
الإنسان، على اختلاف الأزمان والبلدان.
ثم احتج بجميع ما ذكر على أن الدين الذي يكفل ذلك كله هو أحق أن
يتبع فدعا جميع شعوب الأرض إلى التمسك بهدايته والعمل بتعاليمه الربانية،
ليعرفوا كيف يستفيدون من حضارتهم التي أصبحت مهددة بخطر الزوال،
فكان كتابه كتابًا قيمًا، جدير بكل طالب علم أن يطلع عليه ويجعله من مقتنياته
النفيسة التي يرجع إليها وينقل عنها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نعيم البيطار
***
-7-
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد رشيد ميقاتي مفتي طرابلس الشام
أخي العزيز السيد عاصم آل رضا حفظك الله
سلامًا واحترامًا (وبعد) قرأت (كتاب الوحي المحمدي) الذي أهديتنيه
فلا تسل يا أخي عما حصل لي من المسرة، في الحظوى بما هو لعيون
المؤمنين قرة، ووقفت موقف الحائر، فيما أقول عن هذا السيف الباهر، المزري
بالدرر والجواهر، والسهل الممتنع، الجامع المانع، في بيان حقيقة دين الإسلام،
لكافة الأنام، فلم يسعني إلا أن أجهر بكلمة الله أكبر، فتح ونصر، وشعرت كأن
مناديًا ينادي من علوة يا أمة محمد، أمة الإجابة والدعوة، ويا طلاب الحقيقة
والخلاص والإخلاص في هذا العالم، هاكم كتابًا اقرءوه، فتعلموا منه بالوجدان
والضمير الحي، حقيقة الدين الإسلامي بأنه دين الحضارة والعقل، والترقي
والعدل، والتسامح والفضل، والعز والمجد، والسيادة لكل فرد، والكفالة
لكل خير في معاشكم، والسعادة في معادكم، وإنكم إن علمتم به وعملتم
فزتم بسعادة الدارين، وإن لم تعملوا، وعلمتم ظاهرًا من الحياة الدنيا فزتم
بها وحدها، وإن لم تعلموا ولم تعملوا خسرتم الدنيا والآخرة كحال بعضكم،
وذلك هو الخسران المبين، وتعلموا حقيقة الوحي المحمدي أنه من الله رب العالمين،
نزل به روح القدس جبريل الأمين، على قلب النبي الأمي محمد ختام المرسلين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فمن هذا السرور، ومن هذا الشعور، تراني يا أخي داعيًا إلى الله أن
يكافئ مؤلف هذا الكتاب الجليل، العلامة النبيل، الفهامة لدين الإسلام، ابن
عمك الرشيد الإمام، بخير ما كوفئ محسن بإحسانه من الخير والإنعام آمين،
راجيًا إبلاغ أزكى سلامي وفائق احترامي لحضرة المشار إليه، أدام الله فضله
عليه، والسلام عليكم , ورحمة الله تهدى إليكم
10 رمضان سنة 1352 ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
***
طائفة من التقاريظ التي رأيناها في المجلات والجرائد
تقريظ الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
(محرر مجلة الضياء الهندية في لكنهؤ، ونشر فيها)
هدية ثمينة وتحفة نفيسة وثمرة علمية يانعة، أنتجها قلم إمام هذا العصر
وحكيمه الأكبر، مولانا السيد محمد رشيد رضا. لا زال بحر بره زاخرًا
يقذف بالدرر، ووابل علومه يحيي القلوب الميتة، وظله الوارف حماية
للإسلام والمسلمين.
هذا الدرة اليتيمة فكرة خطرت لحضرة السيد حين اشتغاله بتفسير كتاب
الله القرآن، واستخراج نفائس كنوزه، وأين منها الياقوت والمرجان، وهي
بلا شك من التحديث الرباني، والإلهام الرحماني، قدمها حضرته للعالم
الإنساني، في شهر ربيع الأول الذي كان فيه مولد المنقذ الأكبر للنوع
الإنساني محمد صلوات الله عليه. فكانت خدمة جليلة وتكريمًا لذلك الجناب
المقدس، ولعمري إن بمثل هذا العمل المبرور يكون التكريم والتعزيز، وهو
الآية المحكمة على المحبة العلمية الإيمانية، لا التمسح على الأحجار أو تعليق
الخرق المزوقة، وإيقاد الأنوار الكهربائية الملونة، والفقراء ذات اليمين وذات
الشمال يتضورون جوعًا ويموتون بأمراضهم ولا معالج لهم ولا آس، وراية
الإسلام منكوسة، وأحواله معكوسة، وشرع النبي الأكرم منبوذ ظهريًّا،
وسنته الشريفة متخذة سخريًّا، ولا غرو {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ
الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر: 19-22) .
افتتح الإمام الكتاب بمقدمة بيَّن فيها بحكمة عالية واضحة نيرة على ذلك
ارتقاء البشر في الأمور المادية في خدمة هذا الغلاف الجسمي وبلوغهم في
ذلك الغاية التي انعكست وصارت شرًّا على الأجساد التي اخترعت لتنعمها
وتسعدها، وبيَّن انحطاطهم الروحي، وإفلاسهم الأدبي وما سبب لهم من
الشقاء والعذاب الجسمي الذي منه يحذرون ويفرون، وبرهن على أن السعادة
البدنية يستحيل الوصول إليها بدون الكمال الروحي، والرقي النفسي ببراهين
لا تبقي للشك مجالاً، وراش سهام التأنيب للدول الآخذة بأزمة الأمم في هذا
الزمان، وحمل عليها تبعة الخزي والشقاوة الذين تجلبهما على العالم بتكالبها
على المادة، وتنافسها في التطاول وحب العلو والفساد في الأرض بإهلاك
الحرث والنسل في حروبها المتنوعة من سياسية واقتصادية وأدبية وغيرها.
ثم ذكر اعتراف حكماء الغرب بهذا الفساد وتمنيهم أن يبعث نبي يحدث
انقلابًا روحيًّا ينقذ الإنسانية من نصبها وشرورها، وإطباقهم على أن أديانهم
لا تنجع في علاج هذا الداء، بل ربما كانت إحدى عوامله، فأراد هذا الإمام
الحجة أن يريهم أن الذي يطلبون بين أيديهم، وأن الدواء الناجع على طرف
الثمام، ويرفع عنهم حجب الجهل والتعصب التي حرمتهم من اقتباس أنوار
الدين الأصلي الخالد، دين الفطرة، ويضع أيديهم على محاسنه وفضائله
ليتفقهوا فيه باتخاذهم (الوحي المحمدي) دليلاً وهاديًا، ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
ولا جرم أن السيد - أيده الله- جمع ما كتبه الحكماء والأطباء النطاسيون
لأمراض النفوس في هذا العصر وفيما قبله وزاد عليه بأوجز عبارة وأوضحها،
وفتح بابًا جديدًا للدخول إلى خزانة كنوز القرآن استعصى فتحه على من حاوله
قبله من المصلحين بالنسبة إلى طب أدواء عصرنا هذا، وأتى في هذا السفر
الصغير الحجم بالأدلة القاطعة عقلاً ونقلاً من الكتب المنزلة والسنن النبوية
التي يتضاءل أمامها كل معاند بما يشفي الغليل، ويبرئ العليل في أمهات
المسائل التي تشغل أذهان علماء العصر وعامته. فمنها نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وإثباتها بالحجج التي تجبر مثبتي الوحي ونُفَاته على الإذعان
والبحث الوافي الشافي في الوحي والمعجزات عند النصارى وعند المسلمين
والفلاسفة مما لا تجده في غيره. ومن خواصه أنه أورد في جميع الشبهات
القديمة والجديدة التي وجهت للوحي العام والخاص وأجاب عنها بأحسن
جواب. ثم خرج إلى المقصود بالذات وهو القرآن مبينًا أسلوبه، وحكمة
تكرار الآيات فيه، وما أحدثه هذا الكتاب العظيم من تأثير وانقلاب في العالم،
ثم حصر مقاصده الأصول نذكرها آسفين إجمالاً لضيق المقام.
(وهنا لخص الأستاذ مقاصد القرآن العشرة وخاتمة الكتاب فجزاه الله
عن نفسه ودينه وأخيه المؤلف أفضل الجزاء) .
***
تقريظ مجلة الشبان المسلمين لكتاب الوحي المحمدي
لرئيس تحريرها الأستاذ النحرير الدكتور يحيى الدرديري
الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا ليس بغريب على القارئ حتى نقدمه
إليه بمقدمة تشرح تاريخه وماضيه في الجهاد القلمي للإسلام. وبحسب القارئ
أنه يعلم أنه منشئ مجلة المنار، وأنه وارث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده، ومذيعه على الناس إذاعة لولاها ما كتب له هذا الذكر الخالد العريض.
وقد أخرج للمكتبة الإسلامية العربية في هذا العام كتابًا قيمًا في إثبات الوحي
المحمدي بالقرآن، ودعوة شعوب المدنِيَّة إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية
والسلام.
وقد تعرض فيه للشبهات التي تحوم حول نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم وردها وبين رأي الكنيسة المسيحية في النبوة وتعرض لبيان المعجزة
والكرامة والخوارق وتأثيرها في الأفراد والأمم، وبيَّن أن الوحي المحمدي ليس
وحيًا نفسيًّا كما يعتقد بعض علماء الفرنجة، وبين قيمة القرآن في إثبات معجزات
الأنبياء وتفرد الإسلام بنوع من الإعجاز ليس في غيره من الأديان إلى غير ذلك من
المباحث والقضايا الدينية التي قد لا يُعْثَرُ على حل لها إلا في منتوج قلم الأستاذ الشيخ
رشيد.
ويقع الكتاب في مائتي صفحة وهو مطبوع طبعًا جيدًا في مطبعة المنار
فنحث القراء على اقتنائه.
***
تقريظ
(بقلم الأديب الكبير الكاتب النحرير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري)
نشر في جريدة البلاغ الغراء
شغلتي أشغال عن مطالعة هذا الكتاب أول مظهره. حتى إذا تفرغت وتهيأت
لي الأسباب تجردت في قراءته وتدبره. ولقد تناولته والظن معقود بأنه من جنس ما
خرج من الكتب في بابه، على أنني ما كدت أسترسل فيه حتى جعل يتعاظمني
شأنه، ويتكاثرني خطبه، وكلما أمعنت فيه زادني إعجابًا به، وإجلالاً لموضعه،
حتى خرجت منه ولا يكاد كتاب في بابه يبلغ مداه، أو ينتهي منتهاه.
ولقد يتداخلك العجب من أن أطلق أنا مثل هذه الشهادة في كتاب يخرجه
السيد رشيد رضا، وبيننا ما أعلم ويعلم، وما الله تعالى به أعلم، فإن للدين
والعلم حقًّا يجب أن تكبح له الشكائم، وتسل دونه السخائم، وللحساب الغليظ
مقام آخر إن شاء الله [1] .
كتاب الوحي المحمدي يرجع موضوعه أو موضوعاته في الجملة إلى
إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها خاتمة رسالات الرسل عليهم
الصلاة والسلام. وأن شريعته هي الشريعة الجامعة لكل ما فيه صلاح العالم
وحضارته ويسره وأمنه وسعادته في كل مكان، وإلى غاية الزمان، وإن
شأنه عليه السلام مع شأن من تقدمه من الرسل الكرام لعلى حد قول المتنبي:
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
ولقد اتكأ المؤلف في تدليله أكثر ما اتكأ على القرآن الكريم، وفي إحسان
وإبداع أثبت السيد أنه لولا القرآن ما انتهضت حجة قاطعة على نبوة من تقدم
من الأنبياء.
ولقد جعل المؤلف كلما تحول إلى باب أو انحرف إلى مطلب في أسباب
الموضوع يتقرى فِرَى عدو الإسلام من الداعين إلى حربه، ومن الملحدين
عامة، وشبه الشاكين من أهله، ومن المتطرفين منهم بالتشكيك في بعض
قضاياه، فيفريها بالحجة فريًا، ويضغمها بالدليل الحاسم ضغمًا! فما يدع
لأصحابها متنفسًا، ولا يجيز لمتنزي الإلحاد مضطربًا.
ولقد قال الكتاب في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الوحي وفي القرآن
وفي أثره في العالم. وفي معجزات الأنبياء وفي حاجة العلم إلى الدين. وفي
كثير غير ذلك مما ينسق للغرض، ويتجلى به وجه الحجة، فكفى وشفى،
وبلغ من الإحسان والإجمال غاية المدى.
وليس من شأن هذا المقال أن يدل على مواضع الإجادة في أبواب الكتاب،
بله كل فصل من كل باب. فذلك مما يخرج عن طوق سابغ المقالات، على
أن في الكتاب مقامات صلصل فيها البيان الديني أي مصلصل، ولقد يكاد
يتحول حسك وأنت تطالعها من البصر إلى السمع، حتى يخيل إليك أنك تسمع
صرير القلم. ويحضرك في هذا المعنى قول المتنبي أيضًا:
كالحظ يملأ مسمعي من أبصرا
ولا شك في أن من هذه المقامات الرائعة قول الكتاب في أسلوب القرآن
الخاص وإعجازه به، وحكمة التكرار فيه. ولقد وقع في هذا الغرض على
حِكَمٍ لم أقع عليها في كتب من تقدمه. على أن المؤلف على عادته. لقد أسرع
فَكَاثَرَ بهذا في الفهرس؛ إذ قال عند الإشارة إلى هذا الفصل (وهو ما لم يسبق
لأحد بيانه) .
ومن المقامات البارعة في الكتاب القول في معجزات الأنبياء، والفرق
بينها وبين كرامات الأولياء، والحد بينهما وبين شعوذة المشعوذين، وآثار
رياضة المرتاضين، فلقد جمع في هذا الباب بين ما أثر في الشرع وما يجري
به سنن الكون، في لباقة وحسن تعليل، وجودة تفسير وبراعة وتأويل.
ومن هذه المقامات التي تخلب وتروع ما أقام هذا الكتاب من ناصع الحجة
على إيفاء الشرع المحمدي على الغاية في تقرير أعلى القواعد وأضبطها للإصلاح
الاجتماعي والمالي والسياسي. ويدخل في هذا الباب العلاقات الدولية، ونظم
الحروب وغير ذلك مما يكفل صلاح البشر كافة، ويتضمن رقي المجتمع الإنساني
وبلوغه في أسباب الحضارة تلك المنزلة التي تخيلها أئمة الحكماء ودعاة الإصلاح
من قديم الزمان.
ولقد عرض الكتاب غير هذا لمزايا الإسلام وحكم أحكامه سواء في
العبادات أو في الأسباب الدائرة بين الناس، وبين جهة ارتفاعها على أن تكون
من شرع البشر، وأنها أجمع وأكفى، وأكمل وأوفى من كل ما سن الخلق من
النظم. بل من كل ما تنزل من الشرائع على جميع الرسل السابقين، عليهم
صلوات الله أجمعين.
وكل ذلك أجراه المؤلف على أسلوب منطقي سليم خال من الإسراف ومن
الشعر والتخييل.
ومما يزيد من قدر هذا الكتاب أن كثيرًا مما جلا واستظهر من القضايا مبتكر
لم يسبق. على أنه لم يكن أقل براعة فيما نقل أو اقتبس. فلقد كان حق لبق في
إلحاق كل شيء ببابه، وإقرار كل أمر في نصابه، إلى حضور الشاهد من كتاب
الله تعالى وما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وما أثر عن الثقات من
أئمة الإسلام ومن شهادات علماء الإفرنج أيضًا. ومهما يكن من شيء فالكتاب في
الجملة مما لا يطاول في بابه، بل لا أحسبني مسرفًا إذا زعمت أنه يمكن أن يعد
بحق من إحدى حجج الإسلام.
ولقد بدت لي وأنا في بعض الكتاب طائفة من الملاحظات يرجع بعضها إلى
الطبع، وبعض إلى شيء من الغموض في قليل من المواضع، ويرجع بعض إلى
كثرة الإحالات إلى المراجع المختلفة ونحو ذلك، على أنها كلها ثانوي لا يحط من
شأن الكتاب ولا يغض من قدره، على أن من دلائل التوفيق أن التقيت مصادفة
بالأستاذ السيد رشيد، وأفضيت إليه بهذا الذي عددت على كتابه، فوعدني راضيًا
مغتبطًا بأنه مستدرك كل ما يجمل استدراكه إن شاء الله في الطبعة الثانية [2]
ولعلها قائمة الآن فليس لي إلا أن أشكره. وإلا (سقط ههنا بعض حروف
الأصل المطبوع) أن أري من التجني المحقور بعد ذلك بسط ما بدا لى من تلك
المآخذ المبينة في مقال منشور.
وبعد: فليس يعني أن أختم هذا الكلام دون أن أبادي المؤلف الفاضل
وجمهرة قارئي الوحي المحمدي بأمرين: الأول أنني أتحفظ عن إبداء الرأي -
إذا صح هذا التعبير - عما أصاب في الكتاب من حديث الاجتهاد والتقليد، ولو
قد فصَّل الكلام في هذا الباب لما تعذر عليَّ إبداء الرأي بمشايعته أو إظهار
الخلاف له فيما عسى أن يذهب إليه من الأحكام.
أما الثاني فلقد هتف المؤلف في بعض الكتاب بالعلماء (الرسميين) وغلا في
الزراية عليهم. ومن الواضح أنه يريد (بالعلماء الرسميين) علماء الأزهر. وإني
لأكره هذا من أي كان في رجال الدين، هذا إلى أنهم قومي ومعشري وهم الذين
أعتز بهم، وأدين بكل ما أفاء الله عليَّ من النعم لهم. وإن أنس لا أَنْسَى أن ممن
أصحر لهم السيد رشيد بالخصومة من جلست بين أيديهم، وأخذت عنهم. وتخرجت
في التعليم عليهم. فأصبح لهم بهذا حق في دمي فإذا اعتذر السيد الفاضل بأنهم
يقارضونه هذا الأذى فما أجدر علماء الدين جميعًا بغير هذا اللون من الحوار
ففي الجدال بالحسنى كفاية، وفي الحجة وحدها المقنع، ما دامت غاية الجميع
إفشاء حكم الله وإعلاء كلمة الإسلام اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز البشري
(المنار)
أما الأمر الأول مما بادأني وقراء الوحي به وهو حكم الاجتهاد والتقليد فإن
شاء أن يعرف رأيي التفصيلي فيه فإن لي فيه كتابًا مدونًا طبع المرة بعد المرة،
وبحثًا فياضًا في مقدمة طبع كتاب المغني الكبير فليرجع إليهما، وليقل فيه ما يشاء
فإني أنشره له إن أحب، وما كتبته في كتاب الوحي المحمدي كاف فيه؛ لأنه مبني
على الاختصار، ولم ينكر عليَّ أحد من كبار علماء الأزهر الرسميين ولا من
غيرهم ممن ذكروا لي رأيهم في الكتاب كلمة منه.
وأما الأمر الثاني [3] وهو ما عبر عنه بالهتاف بالعلماء الرسميين والغلو في
الزراية عليهم فقد ظلم علماء الأزهر - وهم قومه ومعشره - به، فلفظ العلماء
الرسميين لا يدل على علماء الأزهر، ولا أنا بالذي عنيتهم به، وإنما عنيت به ما
كان يعنيه الإمام الغزالي وغيره بعلماء الرسوم، وما يعنيه أهل هذا العصر بعلم
حملة الشهادات التي عبر عنها بعضهم بجلد الحمار، وهم يوجدون في جميع
الأمصار، وكذلك استعماله مادتي الوضوح والإصحار بالخصومة فقد وضعهما في
غير موضعهما على ما أعهد من حسن فهمه للغة وحسن أدائه فيها، فكتاب الوحي
المحمدي بمعزل من الإصحار بالخصومة أو إسرارها لطائفة من العلماء بأعيانهم أو
صفاتهم أو مكانهم، وإنما تلك صيحة تنبيه لمن يصدون المسلمين عن هداية
القرآن، زاعمين أنه لم يبق له من الفائدة إلا التبرك به والتعبد بألفاظه من
غير فهم ولا تدبر ولا اتعاظ، فهل يعد الكاتب شيوخه منهم؟ إن كان كذلك فهو
أشد مني زراية عليهم، وإذن لا يغني عنهم دفاعه عنهم ولا اعتزازه بهم، ولا
منتهم عليه.
وإني على كل حال أحمد الله أن كان نظره إليَّ بعين السخط قد انقلب خاسئًا
وهو حسير دون رؤية شيء من المساوئ في كتاب الوحي المحمدي يمكن جعله
تشويهًا لجمال تقريظه، إلا هذه الكلمة التي كان فيها من الخاطئين، فكانت هذه
الواحدة كواحدة أبي سفيان في حديثه مع هرقل، وقد كاشفته بخطئه في سوء ظنه
مشافهة فسره أن كان نفيي للزراية على شيوخه والإزراء بهم خيرًا لهم من إثباته
ودفاعه عنهم، وإنني وإياه لنقسم شرف تقريظه في سخطه فهو بيننا شق الأبلمة.
* * *
تقريظ الكاتب الكبير
عباس محمود العقاد
نشر في جريدة الجهاد
أكثر من قرأت لهم من كتاب المباحث الدينية الأحياء اثنان: هما السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار والأستاذ محمد فريد وجدي صاحب التواليف
والتصانيف الكثيرة المعروفة باسمه.
فأما السيد رشيد فهو أوفر نصيبًا من الفقه [4] والشريعة والدراسات الموروثة
ومزيته على الكتاب الدينيين في العصر الحاضر أنه خلا من الجمود الذي يصرفهم
عن لباب الفقه إلى قشوره، وسلم من تلك العفونات النفسية التي تعيب أخلاقهم
وتشوه مقاصدهم، فهو أدنى إلى الصواب وأنأى عن العوج وسوء النية.
وأما الأستاذ وجدي فهو أوفر نصيبًا من الحرية والعلم العصري والأذواق
المدنية للتأويلات والتماسه في الدين مستمد من شعوره باللياقة، أو بما يخالفها
كما يشعر الرجل الذي يعيش في بيئة الحضارة من المصريين المثقفين [5] .
قرأت المنار ومباحث السيد رشيد؛ لأنني كنت أقرأ كل ما كتب الأستاذ الإمام
محمد عبده، وكل ما أوصى بقراءته مما تتناوله طاقتي في سني الدراسة.
وقرأت الأستاذ وجدي؛ لأنني اتجهت إلى هذه الوجهة فأحببت المزيد
فيها وكان أول ما وصل إليَّ من كتبه (الإسلام في عصر العلم) فكانت أدلته
عندي كافية للإقناع في سن النشأة الأولى.
ولا أزال كلما احتجت إلى بحث مستنير في الفقه والشريعة رجعت إلى كتب
السيد رشيد، وكلما احتجت إلى تفسير مثقف لعقدة من العقد الدينية رجعت إلى رأي
الأستاذ وجدي فيها، وقد أجد في كليهما معًا ما ينفعني في كلا الأمرين.
وكتاب (الوحي المحمدي) الذي أظهره صاحب المنار في الأشهر
الأخيرة هو من أفضل ما كتب في مباحثه الدينية: توخى فيه كما قال: (أن
يكون أمضى مُدْيَة لقطع ألسنة الطاعنين في الإسلام من دعاة الأديان الأخرى)
وأراد به أن يكون كتابًا (يصلح لدعوة شعوب المدنية الحاضرة إلى الإسلام
ببيان البراهين العقلية والتاريخية على كون القرآن وحيًا من الله تعالى لا وحيًا
نفسيًّا نابعًا من استعداد محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض المتأولين
لإعجازه منهم، وبيان ما فيه من الأصول والقواعد الدينية والاجتماعية
والسياسية والمالية والدفاعية السلمية التي يتوقف على اتباعها صلاح البشر
وعلاج المفاسد المادية وفوضى الإباحة وخطر الحرب العامة التي استهدفت
لها جميع الدول والشعوب في هذا العهد) .
وعندنا أن الأستاذ يستجمع الكثير من أسباب الكفاءة الضرورية بتأليف كتاب
في هذه الموضوع للغرض الذي أبانه، فهو يعلم من أسرار الأصول الإسلامية ما لم
يتيسر في العصر الحاضر إلا للقليلين بين علماء المسلمين، وهو مسموع الرأي في
العالم الشرقي، كثير القراء والمريدين في بلاد الإسلام، وهو أسلم فطرة من جميع
من سمعنا بهم من المتصدين لهذه المباحث بين الشيوخ والفقهاء.
وقد درست بعض فصول الكتاب وتصفحت بعضها فبدا لي أنه ينهج في
الاستدلال العقلي منهجًا كفيلاًَ بإقناع العدد الأكبر من قراء هذه المباحث ولا
سيما المسلمين، ولا أشك في سعة انتشاره وفلاحه في تفنيد المزاعم والريب
التي قد تساور الأذهان بين أولئك القراء، فإن لم يبلغ الكتاب كل غرضه
المفصل في فاتحته فهو بالغ من ذلك الغرض ما يستحق تأليف كتب شتى لا
تأليف كتاب واحد، وحسب المؤلف أن يظفر بهذا ليظفر بشيء كثير.
إلا أننا نأخذ على المؤلف نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في مثل هذا
المبحث إلى جانب المزايا التي توجب عليه طرقه وترجيحه على غيره، وقد
يتلخص النقصان في نقص واحد وهو قلة البصر بأصول (المنطق النفسي) أو
منطق الدراسات النفسية الذي هو وحده عدة البحث في جميع الحقائق العالية
دون المنطق الدارج المألوف في المناقشات اليومية والوقائع الصغيرة.
فالأستاذ رشيد يحسب أن إثبات المسائل التي تناط بالضمير والفكر
وأطوار النفوس والشعوب هو من قبيل إثبات الأشياء المادية التي لها حجم
ووزن ولون ومكان، وقل أن يختلف في مقياسها شاهدان، وعنده أنه يستطيع
أن يبت بجواز حالة في النفس أو استحالتها كما يبت بوجود كرسي أمامه أو
عدم وجوده، فيجزم حيث لا يستطاع الجزم، ويخيل إليه أن قد انتهى من
الرأي وهو لا يزال فيه على عتبة البداية.
هذا من جانب. وأما الجانب الآخر فهو ضيق ملكة (الاحتمال والفرض)
عنده، وهي في باطن الأمر لباب المنطق كله؛ إذ ليس التفكير الصحيح إلا أن
تحتمل الفروض الجائزة ثم تمنعها بالأدلة القاطعة. والأستاذ رشيد يدع نصف
الاحتمالات مغلقًا لا يقترب منه ثم يغلق النصف الآخر بأدلة ضعيفة تدع الباب
في معظم الأحيان مفتوحًا على مصراعيه.
فلقد كان الواجب الأول على الأستاذ رشيد في كتاب (الوحي المحمدي)
أن يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه
من الوجوه الإنسانية المعهودة، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا
بإقامة ذلك الحد على أساس مكين.
مثال ذلك: إذا قام رجل فقال للناس: إن الألمان انتصروا على الفرنسيين
ولكنهم سينهزمون بعد زمن قريب فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى
يترجح أحدهما على الآخر.
فإذا كان صاحبه صادقًا فربما هداه إليه الوحي والإلهام، وربما هداه إليه
الحساب الدقيق والتقدير الصحيح، وربما هداه إليه العلم من المطلعين على
أسرار الدول العارفين بما تستطيعه وما تنويه، وربما هداه إليه التمني
والرغبة كما يتمنى المرء النجاح فيعتقد أنه سينجح ويأبى أن يصدق ما عدا
هذه الأمنية.
وربما كان صدقه مصادفة لا أثر فيها للإلهام أو للحساب أو للعلم أو
للتمني والرغبة وربما ظهر صدقه للناس؛ لأن عبارته تقبل التأويل، فيفسر
بعضهم المقصود من النصر والمقصود من الهزيمة والمقصود من المنتصرين
والمنهزمين على تفسيرات يجوز فيها الخلاف.
أما إن كان الخبر كاذبًا ففي العلم بكذبه مجال للاحتمال يشبه هذا المجال
فإذا جعل الباحث كل خبر صادق دليلاً على نبوءة فهو لا يخدم النبوءة بهذا
البرهان، ولكنه يفتح الباب لمن يخبرون ببعض الأشياء فيصدق خبرهم من
طرق المصادفة او من طريق آخر غير طريق الوحي والإلهام.
وإنما السداد في الأمر أن ينفي الكتاب كل احتمال غير احتمال الوحي،
وأن يكون نفيه مدعومًا بالبرهان الذي لا شبهة فيه عند المصدقين وغير
المصدقين، ومن ثم يقيم الحد بين الحقيقة والدعوى وبين الإيمان والإنكار.
والشيخ رشيد قد فاته أن يصنع هذا في مواضع كثيرة، فليته يعقد العزيمة على
تدارك ما فاته في طبعة ثانية، ولو استعان عليه بمن يقدرون على عونه،
وليس اقتراحًا أن يتدارك النقص يمانع شكره على ما بلغ من تمام وأسدى من
فائدة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عباس محمود العقاد
***
الرد على العقاد
(المنار)
إن الأستاذ العقاد، كاتب أديب سياسي نقاد، غلبته على العلم ملكة الخيال
الشعري والجدل السياسي، وعلمه بالدين ضعيف، واطلاعه فيه قليل جدا كأمثاله
ممن تعلموا في المدارس العصرية كفريد أفندي وجدي، بل هو يستمد من هذا على
ما حكم به على مبلغ علمه، وهو على هذا لم يقرأ كتاب (الوحي المحمدي) كله،
ولو قرأه بدقة وتأمل لكان حكمه عليه أصح مما كتبه أو لما انتقص مؤلفه بغير علم،
وإن كان قوي الجرأة على النقد بمجرد الشبهة، والحكم بغير حجة، والاستدلال
بالقضايا الجزئية والمهملة التي لا يصح تأليف البراهين المنطقية منها على الكليات،
كما فعل في انتقاده لكتاب (تاريخ الأستاذ الإمام) وقد بينت هذا في مقال حللت فيه
علمه وآراءه وأخلاقه تحليلاً أصح وأعدل مما حكم به عليَّ في نقده هذا وفي نقده
لتاريخ الأستاذ الإمام، وسأنشره في جزءٍ آخر إن اقتضت الحال.
لو أنه قرأ الكتاب كله قراءة إمعان لعلم أنه ليس من موضوعه بسط كل
مسألة تذكر فيه، ولا شرح كل شاهد من شواهده وجعلهما غرضًا للنضال،
والدفاع عنهما بفرض الفروض الجدلية وضروب الاحتمال، وإنما موضوعه إثبات
النبوة بالقرآن ودفع ما زعمه بعض منكري عالم الغيب من أنه وحي فائض من
النفس لا من الله تعالى.
وخلاصته أن القرآن فاق كلام العرب وأعجز البشر بمزايا لفظية ومعنوية
يستحيل أن تكون من مقدور محمد الأمي بعد استكمال الأربعين كديوان (وحي
الأربعين) الذي هجس به شيطان الشعر للأستاذ العقاد بعد استكمال هذه السن، وسائر
ما نظم الشعراء وألف العلماء فيها، فإن العقاد (مثلاً) تعلم مبادئ علوم العصر
ودرس الأدب وظهر فيه الاستعداد للشعر، وكذا النثر في سن الصبا، وقويت ملكته
فيه نظمًا ونقدًا في سن الشباب، وكان يعدو في أثر شوقي حتى خرج من الإهاب،
وماذا فعل في وحي الأربعين؟ إنه لم يأت بمعجز لم يسبق إلى مثله، ولم يحدث أدنى
تأثير صالح في قومه ولا في أمته، ولم يقل المعتدلون فيه: إنه لحق شوقي ولا حافظًا
فيه.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتعلم شيئًا ولم يحاول بيانًا ولم ينتحل
علمًا، حتى جاء بهذا القرآن في سن الكهولة وهو ما وصفنا في كتاب الوحي
في إعجازه العلمي والبياني وفي تشريعه، ولا في التأثير الذي قلب نظام العالم،
وما ذكرته فيه من آياته العلمية الدالة على أنه من عند الله لا من علم محمد
صلى الله عليه وسلم قسمان: (أحدهما) المقاصد العشر التي جعلتها من
موضوع التحدي (وثانيهما) ما جاء في عرض الكلام كأنباء الغيب المستقبلة
في بحث امتياز نبوة محمد على نبوة أنبياء بني إسرائيل، فهي لم تكن
موضوعًا مستقلاًّ سيق لإثباته بالدلائل، والرد على ما يرد عليه من منكر أو
مجادل، والأستاذ العقاد لم يفرق بين القسمين، ولم يتذكر ما لا يخفى عليه من
أن الشواهد والأمثال لا تقرن بالاستدلال عليها، والرد على ما يحتمل من
وقوع الشك فيها، بل اشتهر عند علماء المناظرة وآداب البحث قولهم: (البحث في
المثل ليس من دأب المحصلين) .
ولكن كبر عليه أن يكتب عن هذا الكتاب شيئًا ويتركه بدون انتقاد، وأن
يكون انتقاده خلوًّا من الانتقاص والاستعلاء، كدأبه في انتقاد الشعراء
والأحزاب، أو كل من لم يأخذ علمه عن الفرنجة حتى علم القرآن، الذي يعلو
على علومهم بما يقاس بسنيِّ النور لا بالأمتار أو الأميال.
نظر إلى كتاب الوحي المحمدي ومؤلفه بالعين التي نظر بها إلى أحمد
شوقي وشعره من قبل، وأين أودية الشعر من سماء الوحي؟ وأين تشميره في
قرض الشعر من تقصيره في علوم الوحي؟ نظر بتلك العين الخاسئة فرأى فيه
نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في هذه البحث، قال: وقد يتخلصان في
نقص واحد وهو قلة البصر بالمنطق النفسي، ونقول: إنما صوَّره أو سوَّله له
حسر بصره بالمنطق العقلي.
إن اختراع النقائص وقَذْف الناس بها أمر سهل على الشعراء وكتاب
السياسة، ولكن إقامة الدليل المنطقي عليها حَزَن أي حَزَن إلا أن يكون كدليلي
الأستاذ العقاد على ما أنكر في تاريخ الأستاذ الإمام أعني عليه لا له [6] وانظر
ماذا قال في بيان نقيصتيه اللتين تجرم علينا فقذفنا بهما:
قال: (كان الواجب على الأستاذ رشيد في كتاب (الوحي المحمدي) أن
يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه من
الوجوه الإنسانية المعهودة، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا بإقامة
ذلك الحد على أساس مكين) .
إن هذه العبارة مبهمة مجملة تحتمل عدة تأويلات أقربها أن عقيدة كاتبها
أو فهمه للنبوة والوحي وعلم الغيب غير عقيدة الموجهة إليه، ولا يتسع هذا
النقد الوجيز لتفصيل هذا، فننتقل منه إلى المثال الذي فسره به، وخلاصته أنه
إذا قام رجل فقال للناس: إن الألمان انتصروا على الفرنسيس ولكنهم
سينهزمون بعد زمن قريب، فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى يترجح
أحدهما على الآخر، وذكر لاحتماله للصدق وجوهًا أولها الوحي والإلهام (؟)
وآخرها المصادفة.
ونحن نقول (أولا) : كان يجب على الأستاذ عباس أن يطلع قبل هذا الحكم
على ما كتبه محمد رشيد في تفسيره ومناره وغيرهما في مباحث علم الغيب
وتقسيمه إلى غيب حقيقي وغيب إضافي، وحكمه بأن من الثاني ما يمكن أن يعرفه
بعض البشر بالطرق العلمية والتجارب ومنها التنويم المغناطيسي أو الرياضة
النفسية كمكاشفات الصوفية إلخ، ومنها ما يمكن تأويله من أخبار القرآن الغيبية وما
لا يمكن تأويله كالذي تراه في تفسير سورة التوبة في بيان أحوال المنافقين. وإذن
لعلم أن ما عده عليه من الجهل هو عنده من البديهيات.
و (ثانيًا) إن الخبر الذي قال العلماء: إنه يحتمل الصدق والكذب قد قيدوه
بقولهم: (لذاته) أي بصرف النظر عما يقترن به من الدليل على أحدهما، فخبر
الأنبياء عند المؤمنين بهم لا يحتمل إلا الصدق، وقد أقمنا الدليل على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بغير إخباره بالغيب فوجب حمل خبره به الثابت عنه على
الصدق فقط، على أن أصل كلامنا في أخبار الغيب في كتاب الوحي المحمدي
خاص بما جاء منه في القرار، وهو كلام الله تعالى وأقمنا الدلائل على كونه كلامه
عز وجل من عدة وجوه غير إخبار الغيب فلا يصح أن يقال بها مصادرة لأن إثبات
كل منهما متوقف على الآخر.
(وثالثًا) إذا كان الأستاذ العقاد يرى أن مثل قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ *
فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 2-
4) يحتمل مثل ما ذكر من الفروض والشكوك عند غير المؤمن بالقرآن، فسيعلم
أن من أخبار الغيب فيه ما لا يحتمل مثل ذلك إلا بضرب من مكابرة العقل أو
الوجدان ومنها زعم المادي أن كل ما وراء المادة لا يدخل في حدود الإمكان، فكل
ما يعجز عن تعليله بالفروض المادية والاحتمالات المخترعة، فعليه أن يرضى
بعجزه عن فهمه، لا يجوز له أن يؤمن بأنه من الله عز وجل.
ومهما يكن من شيء بعد، فإن من الغريب من مثله أن يطالب مؤمنًا بالغيب
والأنبياء أن يقيم حدًّا فاصلاً بين علم الأنبياء وعلم غيرهم أو علم الخالق وعلم
المخلوق بالصفة التي وصفها، وهو ما يعجز عن مثله الفلاسفة وعلماء المادة في
علمهم الذي لا قنون بشيء منه.
وأما الممكن من ذلك فقد بينته في مواضعه بما قضته المناسبة ووسعه السياق،
وقد وعدت بعقد فصل خاص في الشواهد عليه من الآيات والأحاديث النبوية في
الجزء الثاني من كتاب الوحي المحمدي؛ إذ عجز الجزء الأول عن العلاوت التي
كلفته حملها.
* * *
كلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي
الكاتب الخطيب المصنف الشهير
نشرت في جريدة البلاغ في23 جمادى الأولى سنة 1352 الموافق 13
سبتمبر سنة 1933.
الوحي المحمدي كتاب من تأليف العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ
المنار الأغر، وغاية المؤلف ثبوت النبوة بالقرآن، ودعوة شعوب المدنية إلى
الإسلام.
وقد صدرت الطبعة الأولى منه في يوم المولد النبوي الشريف سنة 1352
الموافق يوليو (تموز) سنة 1933 م وهو في مئتي صفحة من القطع الكبير.
وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت الأنظار بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة
العقلية والحجج النقلية بوضوح وجلاء على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في
المسائل الدينية إلا للأستاذ العلامة محمد فريد وجدي مما دلنا على تطورٍ مُبارك في
أسلوب السيد رشيد الذي كان يجاري المؤلفين القدماء كنقله قول أحد علماء
النصارى للمؤلف:
(أنت تعجب بمحمد وتعتقد بأنه نبي مرسل، وأنا أعجب به وأعتقد أنه
رجل عظيم فتقديري له أعظم من تقديرك)
وقد حاول الأستاذ الفاضل إثبات الوحي بالمعجزات بأدلة منطقية فجاء موفقًا
في كثير من بحوثه وتكلم في درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه
ونفي شبهة منكري عالم الغيب على الوحي، وأظهر أن نبوة محمد ورسالته قائمتان
على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وموضوعها؛ لأن البشر في عهد النبي قد بدءوا
يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع
من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون، بل لا يكمل
ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك بل هو من موانعه، فجعل حجة نبوة خاتم الأنبياء عين
موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي،
ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال.
ثم خلص الأستاذ إلى الكلام على القرآن فتكلم عن إصلاح أركان الدين التي
أفسدها الغير، وهي الإيمان بالله وعقيدة البعث والجزاء والعمل الصالح. ثم جعل
لبحوث القرآن عشرة مقاصد كلها منطبقة على المنطق والعقل وحسن التعليل
وسلامة التدليل مما يجعل الكتاب مقبولاً لدى الشبان المنورين والميالين لحرية الفكر.
ويقول الأستاذ: إن الكتاب يشمل دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام ولم يقل لنا
أية مدنية يريد ففهمنا أنه يقصد إلى أوربا وأمريكا وليسمح لي أن أقول: إنه جاء
متأخرًا جدًّا وكان يجب عليه أن يؤلف هذا الكتاب من عشرات السنين، وأن ينقله
إلى لغات أوربا، وأن يطبعه بالملايين ويوزعه مجانًا، لأنه لا ينتظر أن أهل لندن
ونيويورك وبرلين يشترون الكتاب من مطبعة المنار. ونحن نعلم أن هذا العمل
يتطلب مالا كثيرًا ووقتًا أكثر فينبغي للسيد رشيد أن يدعو إلى هذا، لا أن يكتفي
بالتأليف العربي وحده، يدعو إلى نقل الكتاب إلى اللغات وترجمته وإلا فإن مجرد
الكتابة على الغلاف أنه دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لا تكفي) .
(المنار) كان كل ما انتقده الكاتب بقوله: ويقول الأستاذ إلخ ما نشرناه وما
لم ننشره مثارًا للعجب من مثله سببه أنه انتقد ما لو قرأه لم ينتقده، وقد بينت خطأه
فيه في مقالتين نشرتا في البلاغ فلم ينكر منهما شيئًا وهو من محرريه.
* * *
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو ريه
من العلماء في المنصورة
(نشره في المقطم)
كنت أحسب يوم أن قرأت في الصحف نبأ كتاب (الوحي المحمدي) أنه
رسالة صغيرة وضعها الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا ليمحص فيها أمر
الوحي، وحقيقته بعدما كثرت فيه أقوال بعض علماء الوحي وأنكروا إمكانه بما
يعرف المسلمون كما يفعل في مسائل كثيرة مما يثور حولها الجدل فيضع فيها
رسائل خاصة تطلع من قلمه منيرة كفلق الصبح فتكون الحكمة وفصل الخطاب.
كنت أحسب الأمر كذلك حتى أتيح لي الاطلاع على هذا الكتاب فإذا بي أجد
الأمر أكبر مما حسبت وأعظم مما توهمت وإذا أنا بإزاء كتاب متعدد النواحي متسع
الأرجاء لا يقف عند الكلام على الوحي، وإنما يمتد فيحيط بكل ما أوحي به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن لا نحاول هنا أن نظهر للقارئ الكريم ما بين دفتي هذا الكتاب من
بحوث؛ لأن ذلك يحتاج إلى مقالات طويلة، وإنما نشير إلى بعضها وحسبنا ذلك.
تكلم الأستاذ الكبير عن الوحي وفنَّد بأدلة قوية مسددة ما يزعمه الذين يقولون: إن
الوحي المحمدي إنما كان وحيًا نفسيًّا ولم يكن وحيًا إلهيًّا.
وعقد فصلاً رائعًا عن آية الله الكبرى (القرآن الكريم) وعن أسلوبه وإعجازه
جاء ولا ريب آية في البلاغة والتحقيق العلمي وقد كشف فيه عن معنى دقيق في
حكمة التكرار في الكتاب العزيز فأبان أنه لم يأت عبثًا وإنما هو أسلوب عجيب من
أساليب القرآن العجيبة المعجزة في تربية الشعوب بحيث لو خلا كتاب الله منه لما
بلغ في نفوس العرب ما بلغ من غرس تعاليمه القويمة وحكمه العالية وأغراضه النبيلة
في نفوسهم واجتثاث ما في هذه النفوس من عقائد باطلة وعادات فاسدة.
وقفَّى على ذلك ببحث قيم عن الثورة والانقلاب الذي أحدثه القرآن الكريم في
العالم وكيف فعل في نفوس العرب مشركين ومؤمنين.
وأنشأ بعد ذلك يتحدث عن مقاصد القرآن الكريم فجعلها عشرة مقاصد وجعل
تحت كل مقصد مسائل كثيرة، وقد شاء له حبه للتحميص أن يمسك بطرفي التحقيق
في كلامه عن هذه المقاصد فلم يقف عند إثباتها بالأدلة النقلية بل ظاهرها بالبراهين
العقلية.
وختم هذه المقاصد بخلاصة وافية في مسألة الوحي وجعل خاتمة الكتاب في
دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لإنقاذ البشر وإصلاح فسادهم.
هذا بعض ما جاء في كتاب (الوحي المحمدي) ولا غرو فإن مؤلفه هو
الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا الذي قال فيه بحق زعيم الإسلام الكبير
ومجدده العظيم شيخ البيان الأمير شكيب أرسلان في معلمته الإسلامية الكبرى
(حاضر العالم الإسلامي) .
(قد انتهت إليه الرياسة في الجمع بين المعقول والمنقول والفتيا الصحيحة
والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة مع الرسوخ العظيم في اللغة ... إلى أن
قال: وهو الرجل الذي إذا دعا كل مسلم بإطالة حياته لكان بذلك جديرًا) .
وإذا كان لنا من كلمة عامة في هذا الكتاب نختم بها هذه الكلمة الصغيرة، فإنا
نقول: إنه كتاب لا يستغني عنه مسلم ويجب على كل من يريد من أهل الأديان
الأخرى معرفة أمور الإسلام على حقيقتها أن يقرأه ويتدبره.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو رية
* * *
تقريظ الأستاذ عبد السميع البطل
المدرس بمدرسة رقي المعارف الثانوية
ونشر في جريدة الجهاد مختصرًا
استهدف الإسلام منذ فجر التاريخ، لكثير من الشبهات التي كان يصوبها نحوه
خصومه من الملاحدة، وأعداؤه من السياسيين، وكان العلماء في كل عصر
يتصدون للرد على هذه الشبهات ويجدعون أنوفها، فيظل واضح الطريق، نيِّر
الدليل، ثم يسير الزمن بالناس، وتتلقح أفكارهم بعلوم ومعارف جديدة فتتجدد لهم
شبهات، وتعصف بهم أعاصير، فإذا بالعلماء المستقلين يكرون على المهاجمين،
يجدلونهم بشباة أقلامهم، وقواطع حججهم، فما هو إلا أن نرى الباطل منكسرًا،
والحق منتصرًا.
وقد تجددت في العصر الحاضر شبهات على الإسلام كثيرة، وهُوجِمَ من
أعدائه في إحكام وقوة، ولم يدعوا منفذًا يأتي على بنيانه من القواعد إلا سلكوه،
ولا سلاحًا يجهز عليه إلا صوَّبوه، ولولا حصانة الإسلام الطبيعية ومنعته الذاتية،
لَخَرَّ مضرجًا بدمائه، ولأصبح أثرًا بعد عين.
ذلك أن علماء الإسلام وهم ورثة النبوة، والقوامون على حراسة الدين، قد
شغلتهم المناصب الدنيوية فأعطوها كل أنفسهم، ومكنوا لها من قلوبهم، وانصرفوا
عن النظر في القرآن وعلومه، مخلدين إلى أرض التقليد، عاكفين عليه، فلم
يسايروا الزمن، ولم يتمشوا من الرقي الفكري، وأصبحوا يعيشون في عالم وحدهم،
لا يدرون ماذا يقال عن الإسلام، ولا بم يهاجم وكيف يهاجم، ولئن سألتهم ليقولن:
(إن الإسلام بخير، وله رب يحميه) وهو جواب العجزة ومن لا حيلة لهم.
ولكن الله لا يذر الإسلام بغير سيف يحميه، ولم تخل الأرض من قائم لله
بحجة، فهذا معقل الدين وسنده عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا قد أخرج لنا في
هذا العام كتابه (الوحي المحمدي) يثبت فيه النبوة بالقرآن، ويدعو شعوب المدنية
إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام فكان خير كتاب أخرج للناس في بابه.
افتتحه المؤلف الكبير بمقدمة فياضة في بيان موضوع الكتاب، وحاجة البشر
إلى الإسلام، وبيان الحجب التي تحول بين الإسلام والإفرنج، ثم أفاض في
الموضوع بما أفاء الله عليه من علم غزير، وعقل منير.
والسيد رشيد دائرة معارف إسلامية واسعة، وهو حين يكتب في الإسلام، لا
يدع قولاً لقائل، ولا يترك استدراكًا لمستدرك، وأشهد لقد كنت أقرأ مقالات (الوحي
وهي لا تزال تنشر تباعًا في (المنار) فيأخذ مني الإعجاب بها كل مأخذ ويسبق
لساني بالدعاء لصاحبها بطول العمر والسلامة كفاء خدمته للإسلام.
بل أشهد ويشهد معي جميع الذين اطلعوا على كتاب (الوحي المحمدي) أنه
لم يكتب مثله كاتب في الإسلام، وأنه خير كتاب في الدعوة إلى الإسلام وبيان
مزاياه، لا يستغني عنه مسلم، ولا يسد غيره مسده في هذا العصر ولا أستثني
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، فإنها على طرافتها، وقوة حجتها، وبلاغة عبارتها،
قد يقال فيها: إنها رأي لصاحبها وصل إليه بعد دراسة للإسلام عميقة، بل قيل:
(إن رسالة التوحيد فلسفة لا دين) ذلك أن الآيات التي استشهد بها المؤلف رحمه الله
كانت قليلة جدًّا، اكتفاء بالإحالة على الحجج العقلية، ووقائع التاريخ الصادق، أما
(الوحي المحمدي) فإنه يثبت كل شيء بالقرآن، ويضع يد القراء على موضعه من
السور، في سيل أتي، ونور محمدي.
وجملة ما يقال في الكتاب أنه أحسن ما ألف في العقيدة الإسلامية في هذا
العصر، وأنفع كتاب في الدعوة إلى الإسلام وصد غارات المبشرين، وأقرب إلى
عقول المتعلمين المدنيين، وإني لأرجو أن يترجم إلى اللغات الحية، وحينئذ أرتقب
أن تقوم ثورة فكرية في العالم الغربي تتكشف عن فوز الإسلام ورجحان كفته،
جزى الله المؤلف خير الجزاء.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ذنبي عند الكاتب أنني هضمت حق والده الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رحمه الله في تاريخ الأستاذ الإمام، بلغه هذا من كاشح فصدقه وأحفظه، وهو منكر من القول وزور، فالكتاب لم يغمط حق والده في شيء مما اشتهر به من سعة العلم، وقوة الفهم، وحسن الإلقاء، وإنما بيَّن ما يجب بيانه من وقوفه موقف المعارض لما سعى إليه الأستاذ الإمام من الإصلاح، والشيخ عبد العزيز يعرف هذا كما نعرفه، فإن استطاع إقناعنا بخطأ في شيء منه رجعنا عنه شاكرين.
(2) يعني بهذا ما أشرنا إليه في آخر مقدمة الكتاب، ومنه أن سبب ما كان من كثرة الإحالة على تفسير المنار أن مباحث الوحي كانت فصلاً فيه وأكثر المسائل المحالة عليه مقتبسة منه، وقد اجتنبنا هذا في الطبعة الثانية إلا قليلاً مما وضعناه في الحواشي.
(3) الصواب في أما الثانية هذه أن تعطف على الأولى المقابلة لها كما فعلنا، وهو ما يغفل عنه جمهور الكتاب حتى المتأنقين المدققين في هذا العصر.
(4) المنار: الفقه الشرعي خاص بأحكام الشرع العملية من العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات، فلا يدخل في مفهومه العقائد وما عدا الأحكام والحلال والحرام من علوم التفسير والحديث، ولعل الكاتب يعني ما هو أعم من المعنى الشرعي.
(5) وصفه هذا للأستاذ وجدي من أدق تحريره للمعاني فهو صريح في أن كلام وجدي في المسائل الدينية غير مستمد من القرآن ولا من السنة ولا من العلوم الإسلامية المدونة بل من شعوره المدني العصري، فهو كذلك لا يعرف أصول الإسلام بأدلتها، ولا بمدارك أئمتها، وقلما انفرد بمسألة إلا هو مخطئ فيها.
(6) استدل هنالك بالاشتباه في اسم رجل من رجال الحملة الفرنسية على أن مؤلفه لم يعرف من تاريخ مصر الحديثة شيئًا ما! ! على أن المؤلف قد صحح هذا الاسم في الصحيفة التي صوب فيها الخطأ، وفي فهرس الأعلام - واستدل بنقله مسألة انتقدها بعض الناس على الأستاذ الإمام على أن هذا المؤلف لم يفهم سياسة أستاذه ولا نفسه، وهو الذي أرخه ونشر آراءه وإصلاحه وكان رحمه الله يصرح بأنه ترجمان أفكاره على أنه قد بيَّن حقيقة نفسية الأستاذ وسياسته في هذه المسألة بما لا ينتقده الأستاذ العقاد لو رآه.(33/768)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
(5)
يوم الجمعة 23 جمادى الأولى 13 فبراير
خلوت البارحة بالأمير فيصل ساعتين فصَّلنا فيهما الكلام في المسائل الثلاث،
السورية والعربية والإسلامية، فسمع مني في حقائق سياسة أوربة وخفايا مسائل
الأحزاب في الشام ومنها حزب جمعيته ما لم يكن يظن أنني أعرفه كما صرح لي
بذلك، وبأنه يعترف بأنه ليس كثيرًا على شهرتي … وذكرت له في هذا السياق
خلاصة تقريري الذي أرسلته إلى وزير إنكلترة الأكبر لويد جورج في رمضان العام
الماضي (1337) وما حدثت به موسيو مرسيه مدير السياسة الفرنسية في بيروت
بمعناه قبل مجيئي إلى الشام (وموضوعهما سياسة الدولتين وعلاقتهما بالعرب
وبالإسلام) فتعجب وقال: إنه خاطب الإنكليز بهذا المعنى كأننا كتبنا عن تشاور
واتفاق.
ثم فصل لي رأيه في المشتغلين بالسياسة العربية وخلاصته أن الشيوخ
والأكابر المحافظين لا يعتد بهم في شيء، وأن أكثر الشبان مغرورون ومفترقون
في الرأي، فمنهم من يرى وجوب الاتفاق مع الإنكليز على فرنسة أو ضدها وإن
سمحنا لهم بما في أيديهم من العراق وفلسطين، ومنهم من يرى العكس وهم أقل،
ومنهم من يرى أن نحارب الدولتين معا، وقال: إنه متحير بينهم، ولم يبد رأيه
بالتفصيل لأحد منهم، وأقنعته بأن يبديه لي ففعل … ورأيت أهمه أنه صار على
رأيي فيما رجع فيه عن رأيه اهـ وقد (اتفقت معه قبل الانصراف على الاجتماع
به مع أصحابنا الثلاثة غدًا)
هذا ما كتبته يومئذ ولم أره بعد ذلك إلا عند كتابته لأجل نشره في هذه الأيام،
وعبارتي الأخيرة مبهمة، ومما رجع فيه إلى رأيي الاتفاق مع ابن السعود،
واستمالة أصحابنا الثلاثة، وأما السياسة الخارجية فقد كان من رأيي الذي كاشفته به
أنه لا يجوز أن يعطي لأحد من الأجانب حقًّا في البلاد العربية باسم الأمة، ولا أن
يُوئِسَ واحدة من الدولتين في إمكان الاتفاق معها على ما يحفظ مصالحها ومنافعها
الاقتصادية والأدبية إذا اعترفت لنا بحقنا في الاستقلال الحقيقي إلخ، وأما التفكر
في محاربة الدولتين فهو من الجهالة التي يعذر صاحبها إن لم نقل: إنه من الجنون،
وأما ما يجب أن يفعل في البلاد فهو إعلان استقلال سورية جهرًا، وإحداث إدارة
جديدة للدفاع الوطني بتنظيم العشائر والقبائل كلها، وسيأتي ذكره في هذه الفصول.
يوم السبت 24 منه 13 فبراير
لقيت الأمير فيصل البارحة بعد المغرب (من يوم الجمعة) حسب الوعد
وتعشيت معه وبعد العشاء جاء أصحابنا الشيخ كامل قصاب وخالد أفندي الحكيم
والدكتور شهبندر حسب الطلب، وسهرنا معه إلى انتهاء قرب الساعة الحادية عشرة،
ودار الحديث في المسألة العربية فذكر لهم موقفه الرسمي بين أبيه والأقطار العربية
التي وكلته، وسألهم رأيهم فيما يجب أن يفعل فحيرهم ولم يستطيعوا أن يجيبوه
جوابًا مقنعًا ولم يتفقوا على شيء، وحلفوا له على الكتمان وانصرفنا.
ولقيته ضحوة هذا اليوم فأطلعني على الكتاب المطول الذي كتبه لأبيه (الملك
حسين) عن الحالة السياسية الأخيرة وعلى خواطره الملحقة بالكتاب المؤيدة لرأيه
السياسي الأخير.
وأهم ما ذكَّر به والده فيه أنه بنى ثورته على الثقة التامة بالإنكليز والاندفاع
في تيارهم وأنه وصاه عند سفره إلى أوربة بأن لا يخالف رأي مندوبيهم ومعتمديهم
في شيء وأنه لم يطلعه على ما بينه وبينهم من العهود الرسمية.
وأهم ما ذكره له من الأخبار فيه ما كان من معاملة الإنكليز له في أوربة وما
أجابوه به في لندرة عندما كلمهم في مسألة ابن سعود، وهو أنه حليفهم مثل والده
(أي خلافًا لأمل والده فيهم) وذكر له سياسته الجديدة في سورية.
وقد ثبت لي من هذه الكتابة أنه كان يعتقد بالتبع لوالده أن إنكلترة تساعدهم
على تأسيس دولة عربية تضم إليها سورية وفلسطين والعراق وأن ثقته بهذا كانت
تابعة لثقة والده إذ كان يخبره مشافهة أن بينه وبين الإنكليز عهودًا مكتوبة في ذلك
لم يطلعه عليها (ثم تبين له أن ليس هنالك إلا رسائل خادعة كما شرحنا ذلك في
المنار) وقد صرح لي من قبل أنه علم بالاختبار أنهم مخادعون وبما هو شر من
هذا. ……
ومما ذكره لي في أخبار هذه الأخبار والخواطر أن الإنكليز استاءوا منه (أي
من فيصل) عندما ظهر لهم أن أكثر أهل سورية طلبوا عند الاستفتاء المشهور
مساعدة الولايات المتحدة وصرحوا بأنه كان يجب أن يكون أكثر الأصوات لهم
وعاتبوه على ذلك.
وأقول الآن: إننا نعلم أنه لم يقصر في مساعدتهم فقد كان اتفق مع الحزب
على طلب الولايات المتحدة قبل أن يكلمه الإنكليز في المسألة فلما كلموه جمع من
كان في دمشق من الأعضاء أولي التأثير ليلاً وبلغهم أنه قد تغير رأيه الأول فجأة.
وقد كتبت في مذكرتي بعدما تقدم:
(ولقد عجبت أشد العجب من كتابته إلى أبيه أنه ينتظر كتابًا منه ويبشره بأن
إمام اليمن أجابه بأنه يرضى ويقبل أن يكون تابعًا لعرشه، فيا لله من هذا الجهل
والغرور الذي لم أكن أظن أن الولد على ذكائه واختباره يشارك والده فيه) اهـ.
***
استطراد في إمامة الزيدية ومذهبهم
وأزيد هنا الآن أن الملكين رحمهما الله تعالى لم يكونا يعلمان أصول عقيدة
الزيدية وتاريخهم، ولا أن يحيى حميد الدين يعتقد هو وقومه أنه هو الإمام الأعظم
للأمة الإسلامية وأمير المؤمنين الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه والخضوع
لحكمه، وأنه يجب عليه عند الإمكان قتال الخارجين والعاصين له … على هذه
القاعدة كان يقاتل الدولة العثمانية على قوتها وادعائها لمنصب الخلافة، نعم إنه كان
يقابلها دفاعًا، ولكنه لو استطاع أن يهاجمها وينتزع منها جميع سلطنتها لفعل وكان
مصيبًا.
ولما هاجم النجديون الحجاز وخرج الملك حسين منه وبايع الحزب الوطني
فيه ولده عليًّا وسموه ملكًا كاتب علي الإمام يحيى وعرض عليه أن ينقذ الحجاز
ويضمه إلى مملكته اليمانية على أن يكون هو وأهل بيته أمراء للحجاز من قِبَله
تابعين له، فامتنع الإمام من قبول هذا الاقتراح؛ لأنه قدر بل علم أنه لا يستطيع
تجهيز جيش قوي يمكنه الوصول إلى الحجاز والتغلب على النجديين، وإدارة البلاد
وحكمها بقوته وبمقتضى مذهبه، وبلاد عسير تحول بين بلاده وبلاد الحجاز وهي
معادية له وموالية لسلطان نجد وهو ما زال يستدل بهذا على موادته ومحاسنته للملك
عبد العزيز آل سعود كما نوَّه بذلك في مكتوباته إلينا وإلى غيرنا.
على أنه بلغنا أنه لما قرأ نبأ سقوط ملك علي بن الحسين واستيلاء عبد العزيز
بن فيصل السعودي على المدينة المنورة وجدة صلحًا فر الدمع من عينيه كلتيهما
كأنه سهم خرج منهما، وما هذا إلا أثر وجدان شريف، وما ذاك إلا نتيجة رأي
حصيف، فعسى أن يرجح عنده الرأي الحصيف في هذه الأيام على الوجدان فهو
لسان كفتي الميزان، والمصلحة الإسلامية تقتضي ترجيح العقل على الشعور،
وإلى الله تصير الأمور.
(تنبيه) إنني لم أكتب في مذكرتي شيئًا في بقية أيام الأسبوع إلى يوم
الجمعة 30 جمادى الأولى ولا أذكر الآن ما شغلني عن ذلك على أنني كتبت أنني
قابلت الأمير في الصباح من يومي الخميس والجمعة وأنني كلمته في صباح الجمعة
في مسألة الجزئيات (وأعني بها وجوب ترك الاشتغال بالأمور الجزئية الصغيرة)
يوم الجمعة 30 جمادى الأولى 20 فبراير
ألقيت اليوم بعد الظهر خطابًا أو محاضرة في مدرسة الحقوق في الموازنة بين
(المدنية العربية الإسلامية والمدنية الأوربية) وكان قد دعاني إلى ذلك ناظر هذه
المدرسة منذ أيام فعارضه الدكتور أمين معلوف محتجًّا بأن المدرسة تابعة لحكومة
غير دينية، فلا يجوز أن تُلْقَى فيها محاضرة في المدنية الإسلامية، فلم يلتفت
الناظر إلى معارضته، فكلمني الدكتور محاولاً إقناعي بوجوب تركها فأقمت عليه
الحجة، ومما أذكر من ردي عليه على تقدير التسليم له بأن حكومة الشام غير دينية
: أنه لا يوجد في الدنيا مدرسة علمية حقوقية تأبى أن يلقى فيها محاضرة علمية
تاريخية في المدنية والتشريع الديني أو غيره، فكيف تأباه مدرسة أكثر طلابها
ورجال حكومتها يدينون بهذا التشريع الإسلامي؟
وقد حضر الأمير هذه المحاضرة وكتبت أن الدكتور أحمد قدري أخبرني
بمناسبة الكلام بإعجاب الأمير بالمحاضرة وغيرها من المذكرات أنه يقول عني:
(رجل ناضج) .
وذكرت أيضًا أنني حضرت في مساء هذا اليوم (الجمعة) جلسة حزب
الاستقلال العربي، وبحثنا في تقرير أحد الإخوان وفي مسألة المؤتمر والوفد.
فأما مسألة المؤتمر فهي ما تقرر من جمع أعضاء المؤتمر السوري العام
لتقرير استقلال البلاد السورية ونصب الأمير فيصل ملكًا عليها، وأما الوفد فهو ما
يبغيه الأمير من اختيار وفد يسافر معه إلى أوربة للبحث والمفاوضة مع دولتي
فرنسة وإنكلترة في علاقة البلاد بهما.
يوم السبت غرة جمادى الآخرة 21 فبراير
كلفني الأمير اليوم أن أكتب له بيانًا في صفة أو كيفية إبراز المسألة الوطنية
الحاضرة (كذا) والأصول التي تبنى عليها.
وذكر لي سبب اختيار الرجلين اللذين سيرسلهما بعد غد إلى مصر ومهمتهما
فيها ثم إلى مكة يحملان كتبه إلى والده، ومنها أن يكون (أحدهما) فؤاد الخطيب
بعيدًا عن الشام عند إعلان الاستقلال. …
(أقول الآن: أعني بهذه النقط بأن الشيخ فؤاد أفندي الخطيب كان يطمع أن
يكون ذا منصب كبير في حكومة الشام الجديدة بما يحمل من الوصية من الملك
حسين، والأميرُ فيصل لا يرغب في هذا، وهو يعلم أن حزب الاستقلال العربي لا
يرغب فيه ولا يقره)
وقد أعدت على الأمير النصيحة السابقة بوجوب ترك الاشتغال بالجزئيات
والوظائف فأظهر لي الاقتناع. قال: ولكن تنفيذها يتوقف على وضع نظام له
ووجود رجال من أولي الكفاية والثقة ينفذونه، فكان هذا الاعتذار كاعتذار والده من
قبله حين نصحت له بمثل هذا في مكة المكرمة.
رأست في المساء جلسة الإخوان (أي أعضاء حزب الاستقلال العربي)
فوافقنا على إرسال فؤاد الخطيب إلى مكة؛ لأنه لا يتوقع منه هنالك زيادة ضرر
عما قد يعمله هنا (ومما حسبوه أن يفشي للإنكليز في مصر بعض أسرارهم، وأن
يصور للملك حسين ما سيقومون به من الاستقلال بصورة تسوؤه أو لا ترضيه) .
يوم الأحد 2 جمادى الآخرة (22 فبراير)
أطلعني الأمير على الكتاب الذي كتبه إلى اللورد اللنبي ليحمله الوفد المسافر
إلى مصر فمكة، فوجدته موافقًا للغرض والأسلوب الذي اقترحته وقد رأيت اليوم
أن أكلم فؤاد الخطيب وأنصح له بعد أن صددت عنه وتركت مكالمته حتى رد
السلام عليه إن سلم على جماعة أنا فيهم عدة سنين.
سألته أولا على مسمع من صفوت بك العوا: أتحب أن أنصح لك؟ فدهش
واصفر لونه وأظهر السرور والاهتمام، فخلوت به في حجرة من دار الإمارة
باقتراحه وأغلق الباب علينا.
بدأته بالتذكير بشيء من سيئاته، وقلت له: إنه لا يوجد فرد من الأفراد الذين
يشتغلون بالسياسة العربية ولا حزب من الأحزاب راض عنك ولا محسن للظن بك
قال: أنا أعلم ذلك، قلت: وإنهم قادرون على إيذائك بكل نوع من الإيذاء (أي
السياسي) قال: أنا أعلم ذلك.
قلت: يجب إذًا أن تعمل عملا تكفر به عما مضى من السيئات.
قال مثل ماذا؟ فذكرت له بعض الأمور التي يسندونها إليه وأهمها توسطه
للإنكليز لدى الملك حسين وإقناعه إياه بما اقترحه السر مارك سايكس من إرضائه
لموسيو جورج بيكو والموافقة على معاهدة سنة 1916.
حاول الإنكار فقلت له: لا تنكر فالسر مارك سايكس نفسه أخبر أصحاب
المقطم وغيرهم بذلك، وعرف هذا وسمعه منهم رفيق بك العظم وآخرون كثيرون،
ولأجل هذا وأمثاله أعطاك الإنكليز وسامًا بريطانيًّا … دع ما كنت تأخذ منهم من
الرواتب المالية من مالية السودان وغيرها وأنت في مكة. وذكرت إساءته بالوشاية
عليَّ للملك حسين أيضًا، وأردت أن أمنعه من الاعتذار، وأكتفي منه بما يكفر عن
ذلك في المستقبل فقال:
لا بد أن أذكر لك الحقيقة في مسألة سايكس وبيكو، وحلف بالطلاق أنه
يصدق فيما يقول، وملخصه: أن الملك حسينا كان راضيًا بما اقترح سايكس من
المعاهدة المعلومة، وأنه هو الذي عارض في ذلك، وبلغهم الملك لا يرضى بها،
وبعد أن عجز عن حمل الملك على المعارضة ورفض المعاهدة أوهم الإنكليز أنه
هو الذي أقنعه بها.
ثم قال: أنا موظف نهاية أمري طاعة آمري لا تقويم خطئه، وإنما أنصح،
ولست زعيمًا مثلك فأعارض وأقاوم (هذا ما كتبته وقد بسطه هو فاختصرته) .
(أقول) سافر الشيخ فؤاد إلى مصر مع رفيقه (وقد نسيت اسمه لأنني لم
أكتبه وليس ممن أعرفهم) يحملان كتاب الأمير فيصل إلى اللورد اللنبي، ثم سافر
منها إلى مكة، وشرعنا بعد سفره نعقد الاجتماعات أنا وجماعة الحزب ووضع
الأسس لإعلان الاستقلال بعد جمع المؤتمر العام، فعقدناها في أماكن متفرقة كدور
توفيق بك الناطور ورفيق بك التميمي وعلي رضا باشا الركابي وأرسلت الدعوة
إلى جميع الأعضاء في سورية الشمالية والجنوبية (فلسطين) ولبنان وكنت مع
الأمير فيصل في أثناء هذه المدة كلها على أتم الاتفاق في مسألة سورية والمسألة
العربية العامة، وما أجددت له من الفكر والنظر في المسألة الإسلامية وعلاقتها
بالمسألة السورية، ولم يكن قد سبق له تفكر فيها كما نقلت عنه.
إلا أنني كنت مرتابًا في سياسته الباطنة في مسألة الاتفاق مع فرنسة وما يريده
من تفويض الزعماء إياه في ذلك، واختيار وفد يسافر معه، فإنه لم يصرح برأيه
فيها لأحد ممن كلمهم أمامي، وإنما أخبرني في بيروت أنه خيَّر من كانوا معه في
أوربة كما خير أصحابنا الثلاثة المعارضين له فيما ذكرته آنفًا وفاقًا لما رد به على
خطبة الشيخ كامل في مظاهرة الجمعية الوطنية في المزة، وكنت أناقشه فيما أسمعه
منه كلما خلوت به، ولم أكن على ثقة من كل ما أراه يقبله مني؛ لأنه لم يكن
صريحًا في كل وقت، وكان كثيرًا ما يرجع عن رأيه بادئ الرأي، وقد اشتهر بهذا
وذاك، وبما هو أنكر منهما لدى جميع الذين اشتغلوا معه، وقد قيل: إن هذا من
حذق السياسة، ويجاب عنه بوجوب التفرقة في أحاديث السياسة بين الأولياء
والأعداء.
وسأذكر في المجلد 34 ملخصًا من مذكراتي في ذلك كله، وأختمها بخلاصة
مهمة في العبرة بسيرة الملك فيصل في الشام رحمه الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/792)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الثالث والثلاثين من المنار
بحمد الله أختتم هذا المجلد كما افتتحته به، وله الحمد في كل أمر وعلى كل
حال، من خواتيم السنين والأحوال، وفواتحها وفواتح الأعمال، فما من عمل ولا
زمن إلا وله فيه نعمة ظاهرة أو باطنة، ورحمة بارزة أو كامنة، ومن فضله
ورحمته، وأعظم نعمه ومننه أن أقدرنا في هذا المجلد على إتمام ما وعدنا به في
خاتمة ما قبله من مباحث (الوحي المحمدي) فكان كتابًا مستقلاًّ، نفدت طبعته في
أثناء سنته الأولى، وجدد فيها مرة ثانية كما تراه في هذا الجزء مفصلاً تفصيلاً.
وأما وعدي بإنجاز مباحث الربا فيه وقد طال عليها الأمد، فقد شرعت فيها
بالتحقيق لمسألة الحيل، واتفق أن حاورنا في تحرير ربا النسيئة القطعي بعض
كبار الفقهاء فطال الحوار والجدل، فأرجأت كتابة بحث التطبيق العملي منه إلى أن
نتفق على القواعد التي وضعتها له، وعسى أن يكون هذا قريبًا فنتم هذه الفصول
في المجلد الرابع والثلاثين، ونصدرها في كتاب مستقل تَقَرُّ به أعين الناظرين
وكذلك مناظرة حقوق النساء ومناظرة التجديد والمجددين، وكتاب (المنار والأزهر)
كلها أرجو إصدارها في هذا العام بتوفيق الله تعالى وفضله.
وقد علم قراء الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي أنني وعدت في
تصديرها بكتابة علاوات لها تبلغ اثنتي عشرة أو أكثر، تصدر في جزء آخر،
وسيكون فيه تفنيد مدعي الوحي من الدجالين المتأخرين كما وعدنا أن يتم في العام
الجديد أيضًا.
وأما هاضمو حقوق المنار فحسبي ما وجهت إليهم من إنذار وإعذار، وتفويض
أمر المستحلين إلى عدل المنتقم الجبار، ولقد تبين لنا أن بعض الماطلين غير
مستحلين، فإن منهم من قضى فوفَّى، ومن قضى البعض وعفونا له عما بقي، ومن
أحللناه من كل ما عليه، لاعتذار صحيح قبلناه منه، ومنهم من طلب النظرة إلى
الميسرة فأنظرناه، وما ياسرنا أحد فأعسرناه، ولا استماحنا معذِّر فرددناه، ومن بخل
علينا بعد ذلك بالمال وبالقال، بعد طول هذا المطال، فلا يسر الله عسرته، ولا أبرأ
ذمته، ولا أقال عثرته، وإنا لنستحي أن نشهرهم لقراء المنار الأخيار بأسمائهم فنعدهم
ممن كانوا منهم، ونذكر القراء على عادتنا بالنصح لنا كما ننصح لهم، وبتذكيرنا بما
يرونه منتقدًا؛ لنتعاون على إحقاق الحق، ومن تأخر نشر ما ينتقده فليصبر، فإن
طال الأمد فليذكر، والحمد لله أولاً وآخرًا.
__________(33/799)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار
من كان عاجزًا عن أداء ما عليه من حق المنار عجزًا لا يرجى زواله فليعتذر
إلينا نجعله في حلٍّ منه، ومن أنظرنا إلى ميسرة ننظره، ومن صالحنا على بعضه
دون بعض نقبل منه، ومن طلب تقسيطه عليه أجبناه، ومن لم يجبنا إلى شيء من
ذلك شكوناه إلى الله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 4) إن قراء المنار
لأحق المسلمين بالوفاء وأداء الحقوق ولا سيما حق من وقف حياته ويبذل نفسه
وماله في خدمة دينهم بما لم يقم بمثله غيره كقيامه، بل هم أولى المسلمين بأن
يبذلوا في تأييد هذه الخدمة فوق ما هو حق عليهم، وإنهم ليعلمون ما ينفقون في
سبيل شهواتهم، وإنهم ليعلمون ما يتبرع به أصحاب الأديان الباطلة من الملايين في
دعوتهم إلى دينهم، والطعن في دينهم أفضل الأديان، وفي كتابهم أصح الكتب
المنزلة وأهداها، وفي سيدهم بل سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين
ورحمته للعالمين صلى الله عليه وسلم، أفليس من العجيب أن يهضم أحد منهم حقه،
وتلجئه ضرورة العسرة أن يذكرهم بربهم وكتابهم ووجدانهم فلم يستجب له إلا
أقلهم؟ فمنهم من استبرأه فأبرأه ومنهم من شكا العسرة فأنظره، ومنهم من حط عنه
بعض ما عليه وقضى بقيته، فأي عذر للآخرين.
__________(33/800)
المجلد رقم (34)(34/)
المحرم - 1353هـ
مايو - 1934م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الرابع والثلاثين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى:
1-3) أحمده وأصلي وأسلم على محمد رسوله المصطفى، وخاتم أنبيائه المجتبى،
وعلى آله الطيبين، وخلفائه الراشدين، وسائر أصحابه الهادين المهديين، وأوليائه
الأئمة الوارثين، الذين استخلفهم في الأرض لإقامة أمر الدنيا والدين، ومن
اتبعهم إلى يوم الدين {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:
165) .
أما بعد فإنني أُذَكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الرابع والثلاثين بفاتحة المجلد
الذي قبله إذ عرضت عليهم فيها حال شعوب الإسلام كلها بعد حرب الأمم الكبرى،
ليجعلوا نُصْب أعينهم ما وقع على بعضها من الغبن والخسار، وما أصاب بعضها
من الربح والانتعاش، وما هي عرضة له من الأمرين تجاه دول الاستعمار، إذا
وقعت الواقعة، وجاءت الطامة الكبرى بالحرب الثانية المتوقعة، وما يجب عليهم
في دينهم ودنياهم، وما لكل منهما من الصلة والتأثير في الآخر؛ فإن أكثر
المسلمين عن هذا غافلون {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .
لقد عرفوا من تلك الفاتحة أن وطأة دولتي الاستعمار الكبيرتين على الشعوب
العربية التي نصرتهما في الحرب، وجاهدت معهما بأموالها وأنفسها، كانت أشد
وطأة منها على الشعوب الأعجمية التي قاتلتهما والتي سالمتهما، وكذلك تكون في
الحرب الآتية المتوقعة؛ لأن هذه الدول مادية، قد فقدت جميع الفضائل الإنسانية.
وقد انقضى العام وحال الشعوب الإفريقية معهما على شر ما كانت عليه من
مصر إلى مراكش، ولهي في آسية أشر، وأدهى وأمر.
إن إنكلترة لا تزال ممعنة في إرهاق عرب فلسطين، وانتزاع وطنهم منهم
وإعطائه لليهود الصهيونيين، لتجدد لهؤلاء ملكًا في قلب البلاد العربية، حاجزًا بين
مصر وبين الحجاز وفلسطين، وإن فرنسة لا تزال جادة في جعل عرب سورية
مللاً متعادية في الدين، وشعوبًا متفرقة في الدنيا، ومصرة على إبقاء الأكثرين من
مسلميهم محصورين في سجون المدائن الأربع داخل البلاد لا منفذ لهم إلى البحر،
ولا متسع أمامهم في طلب الرزق، ولا حرية لهم في عمل ولا علم ولا حكم.
ولم تكن إنكلترة في وقت، ولا في مكان شرًّا من فرنسة وأظلم مما هي الآن
في فلسطين، فقد لانت فرنسة في إرهاقها للمغرب الأقصى بعض اللين، إلا قتالها
لقبائل السوس التي لم تخضع لها باسم حماية المخزن، ولا تزال (إنكلترة) بارزة
أمام الأمة العربية بروز الفاتح الظافر، المستعمر القاهر، تنازعها حقها القومي
والديني في جزيرتها المقدسة، بأساليب دسائسها وكيدها المعروفة، فهي قد ربحت
في العام المنقضي أن خدعت الإمام يحيى حميد الدين حتى غلبته على طبعه في شدة
الحذر من الأجانب، وفي صلابته في السياسة السلبية، فأمضى لها معاهدة أقرها
فيها على حمايتها للمقاطعات اليمانية التسع، إلى مدة جيل اجتماعي كامل هو
أربعون سنة كاملة كمدة تيه بني إسرائيل يمكنها أن تنشئ جيلاً جديدًا في هذه
المقاطعة بجميع وسائل التمكين، يكون بينه وبين سائر إخوانه في المقاطعة اليمانية
الأمامية بُعد الشرق والمغرب: عقيدة ورأيًا وذوقًا ... إلخ.
هذا ما فعلته في الجنوب، وإنها لتفعل في الشمال ما هو أشد خطرًا على
الأمة العربية في دينها ودنياها: إنها لتمكن لنفسها النفوذ في منطقة شرق الأردن
بحيلة الانتداب، وفي العقبة الحجازية التي سُلبت من الحجاز بعد عقد صك
الانتداب، وهي حبل الوريد للجزيرة العربية، ومجرى دمها، ودهليز حياتها
الحربية والسياسية والمدنية، لكيلا تتجدد لهذه الأمة حياة مستقلة؛ فتعجز الدولة
البريطانية عن خنقها متى شاءت. وقد تواترت الروايات من فلسطين وشرق الأردن
أنها افترضت الشقاق بين ملك السعودية العربية، وإمام اليمن فعادت إلى ما كانت
بدأت به في أثناء فتنة ابن رفادة من تحصين خليج العقبة المنيع وامتلاك رقبة
أرضه؛ لأن صاحب الحجاز أيضًا لا يستطيع أن يعارضها في ذلك (وقد بينا هذا في
الجزء الماضي من المنار) .
إن إنكلترة لا تجهل أن عجز صاحب الحجاز عن معارضتها اليوم أو غدًا لا
يُسقط حق الحجاز، وحق الأمة الإسلامية، وحق الدين الإسلامي نفسه في هذا
الحصن الحصين من سياج الحرمين الشريفين، بل لو فرضنا أن ملك العربية أجاز
- لا سمح الله - هبة علي بن حسين هذا المُوَقِّع لأخيه عبد الله بن حسين إجازة
رسمية لما كانت إجازته لهذه الهبة إلا مثل بدء إنشائها أو أضعف منها، فالإنكليز
يعلمون أنها هبة باطلة في الشرع الإسلامي، وفي أصول القوانين الدولية، فهي لا
تفيدهم إلا فرصة عجز الحجاز المؤقت عن منع ما يعملون فيه، وأنه متى سنحت
الفرصة لأية حكومة حجازية إلى استعادته فلا يمكنها أن تضيعها، ولا سيما إذا قام
الشعب العربي بتأييد العالم الإسلامي لمطالبتها به، وإن ذلك لقريب واقع، ما له من
دافع.
هذه الجرأة من الدولة البريطانية على عداوة العرب والإسلام، ستكون من
أكبر أسباب زوال سلطانها من الشرق الأدنى والشرق الأوسط أيضًا، وإن خليج
العقبة لهو أكبر هذه الأسباب، كما بيناه في الجزء الماضي وغيره، وماذا تفعل
الأمة العربية والشعوب في طغيان هذه الدولة القوية؟
الأمة العربية في طور يقظة وسعي حثيث للوحدة والاستقلال، والشعوب
الإسلامية كلها على استعداد نفسي وعملي لتأييدها، وناهيك بمحافظتها على مهد
دينها، وتنفيذ وصية نبيها مصلح البشر الأعظم صلى الله عليه وسلم في مرض
موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وهذا التفرق بين البلاد العربية
والشعوب الإسلامية لا يدوم، وبشائر الفوز والفلاح تبتسم له بجميع الثغور في
جميع النواحي، فعلى الأمة الإنكليزية إن كان فيها بقية من تلك العقول الناضجة
والأخلاق الحكيمة الماضية، لم تسلبها منها الأفكار المادية كما قال حكيمها الأكبر
(هربرت سبنسر) أن تفكر في هذا الخطر عليها قبل وقوعه وتَعَذُّر تداركه.
ماذا تجدد في العام الماضي من وسائل النجاح للعرب وللإسلام، ويجب عليهم
أن يوجهوا إليه أفكارهم وأفعالهم في هذا العام؟
أما في جزيرة العرب فقد تبين أن التنازع بين إمامي الجنوب والشمال الذي
خشينا أن يكون هادمًا أو مضعفًا لما كان فيها من بقايا القوة القديمة، قد أثبت لنا
دلالته على قوة عصرية جديدة، وأن القتال الذي نشب بين جيوشهما سيكون فصدًا
يخرج به ما في عروق الأمة من الدم الفاسد الذي ولدته الجهالة والتقاليد المذهبية
والموضعية، التي فرقت الأمة وجعلت أقوامها شيعًا متعادية، فمن الجهل أن نحزن
لخروج هذا الدم وإن كرهنا سببه، وأن نبرم الصلح قبل خروجه فيكون صلحًا على
دخن، لا يعقبه إلا عدوان شر منه، ربما يتجدد في وقت يكون فيه الطامعون في
الأمة العربية أقدر على الاستفادة منه مما هم الآن، فلقد كان أخوف ما خفنا من العاقبة
أن يتذرع به الأجانب لإضعافنا والدخول فيما بيننا، فظهر أن هذا الوقت غير
مواتٍ لهم ولله الحمد، وأمنا هذا الخطر الآن فيجب أن نقطع عليه الطريق فيما بعده.
وظهر لنا من خلال هذه الفتنة أن القوة العربية السعودية حية صحيحة المزاج،
سليمة من الأمراض والآفات، وأنها على درجة من النظام العسكري والمدني فوق
ما كان يتصوره الأقارب والأجانب، وإن كانت لا تزال دون الواجب، كما ظهر
من قبل ذلك قدرة إمامها ومجددها على حفظ الأمن في الحجاز كنجد على أكمل
وجه، وعلى إيجاد أسباب الحضارة العصرية وأنواع المواصلات والصحة بأعظم
ما تخوله إياه الموارد المالية والرجال العاملين، فثبت بهذا وذاك أن الأمة العربية
مستعدة أتم الاستعداد لتجديد دولة إسلامية مدنية في مهد الإسلام ومنبت أرومة
العرب، فهل طلاب الوحدة العربية والتجديد الإسلامي الذي يعيد الحياة الإسلامية
المادية والمعنوية سيرتها الأولى من حيث أشرق نورها، وأتم الله ظهورها، أن
يؤيدوا هذا التجديد ويمدوه ويعلموا أنه مصداق قول رسول الله خاتم النبيين، الذي
فضلهم الله باتباعه ما صدقوا فيه على جميع العالمين، (إن الإسلام ليأرز إلى
جزيرة العرب، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويَّة من رأس الجبل) .
وأما القوة اليمانية العربية فإنها على قدم تأسيسها، وكثرة عَددَها وعُددها
وسعة ثروة إمامها وقائدها، وكثرة ما نوه به العرب والإفرنج من وصفها، قد ظهر
أنها ملتاثة بعلل من التربية الإدارية والسياسية في بلادها، واختلاف التقاليد
المذهبية بين شيعة الزيدية الحاكمة، والسنة الشافعية المحكومة فيها، وتجلت للأمة
العربية الحقيقة التي يجب أن تعرفها من هذا القسم المهم من قومها ووطنها؛ لتكون
على بصيرة من علاجه، وإعداده للاتحاد بغيره، بدلاً من وقوعه موقف العداء له
وتربص الدوائر به، كما عُني الدعاة المفسدون بتصويره، بل لم يستح بعضهم أن
ينشر في الصحف بعد هزيمة جيشه أن يذيع أن الإمام ينظم جيشًا لجبًا يقوده بنفسه
لفتح نجد واحتلال الرياض، كما أذاعوا في أول الفتنة أن سيفتح الحجاز! ! ولعلنا
ننشئ مقالاً خاصًا نبين فيه حقيقة حال الزيدية، وما ينبغي أن يكونوا عليه لإصلاح
شأنهم، وتأمينهم والأمن منهم، مع النظر في شروط إمامتهم، وحكم قتال البغاة
عندهم، وكنا منذ سنين قد كتبنا تقريرًا أرسلناه إلى مولانا الإمام الهمام مع وفد
خاص فيما يجب عليه من الإصلاح والإدارة، فشكر ذلك لنا، ولم ينفذ منه شيئًا.
هذا وإن من بشائر الاستعداد للوحدة العربية القريبة أن لاح لنا من جانب
حكومة العراق بارقة أخرى صغيرة في صورتها كبيرة في معناها، هي قصة
تمثيلية في بث الدعوة إلى الوحدة العربية، أطلق عليها اسم (مثلنا الأعلى) كانت
وضعت في آخر مدة المرحوم الملك فيصل وحضر تمثيلها أول مرة معجبًا به، ثم
طبعت منذ شهر أو شهرين في مطبعة الحكومة العراقية بإيعاز وزارة معارفها،
وتوجت بإهدائها إلى (روح فيصل بن الحسين) ونشرت في هذا الشهر (المحرم
سنة 1353 هـ 1934 م) فكانت بهذا وذاك دعاية رسمية أو شبه رسمية للوحدة
العربية، عرفنا بها ما كنا نجهل من رأي هذه الحكومة في الوحدة من بعد فيصل
رحمه الله تعالى.
فهذه خلاصة ما تجدد في سبيل الوحدة العربية وحياتها الجديدة في العام
الماضي نستقبله في هذا العام راجين مستبشرين.
وقد حدث فيه من الأحداث المؤسفة أن كلاًّ من دولتي العراق والأفغان قد
خسرت ملكها المحبوب المحنك، بيد أنه حل محل كل منه نجله الشاب المثقف،
فسارت الدولتان معهما سيرتها الأولى مع والديهما بحنكة رجالهما واستقرار النظام
فيهما.
ومن الأنباء السارة أن حكومة الجمهورية اللادينية التركية قد رجعها الاختبار
عن بعض الأعمال التي خالفت بها شريعة الإسلام وهدايته، وأن رئيسها مصطفى
كمال حضر صلاة العيد مع رجال دولته الرسميين في المسجد، وإنها لفاتحة خير
تدل على ما يرجوه كثير من عقلاء الترك وغيرهم من رجوع هذه الحكومة إلى كل
ما هو قطعي من هداية الإسلام.
وحدث في أحد الشعوب الإسلامية التي كانت مستعبدة للأجنبي أن استقلت في
إثر ثورة حامية الوطيس، ألا وهو شعب تركستان الصينية، وإنها لقوة إسلامية
حربية، تدل على أن المسلمين لم يفقدوا هذه المزية القديمة، وأنهم لا ينقصهم في
هذا العصر إلا السلك الجامع ينتظمون فيه كما قال حكيمهم السيد جمال الدين قدس
الله روحه، ولن تعيده لهم إلا هداية القرآن، ولتأطرنهم عليه موقظات الزمان أطرًا،
بدعاية المصلحين المجددين، وبالرغم من أنوف الملحدين والجامدين.
رب رجل مستشرق من رجال الدول القاهرة لألوف الأنوف من المسلمين،
ورب رجل شرقي متفرنج يائس من حياة الشرق والشرقيين، يقرآن هذه الجوائب
التي تبتسم للعرب والأعاجم من المسلمين، وتبشرهم بوحدتهم وجامعتهم فيضحكان
من غرور كاتبها وتغريره بقومه وأهل ملته (التغرير والتغرَّة بالشخص أو الشيء
تعريضه للهلاك) بزعمهما أنه يخيل إليهم إمكان تأسيس الوحدة العربية، والجامعة
الملية بالرغم من الدولة البريطانية التي تقطع جميع سبل الحياة في وجوههم بل
بالرغم من أنوف الدول الثلاث الكبرى المتعاونة على استعبادهم مستعينات بجميع
وسائل القوة الحربية والعلمية والمدنية والسياسية التي عندهن، وجميع وسائل
الضعف الموروثة التي ما زالت تفرق بين المسلمين، من المذاهب والأوطان
والزعامات والآراء الإلحادية، والشهوات الحيوانية، فلئن قضى ابن السعود السني
الحنبلي على قوة ابن حميد الدين الشيعي الزيدي، فليزيدن قضاؤه هذا سعير
الشقاق بين السنة والشيعة ضرامًا، ولتكونن رواية (المثل الأعلى) للوحدة العربية
في العراق مهزلة من المهازل المضحكة لأهل الآفاق، ولتجدن من حزب الشرفاء
آل الرسول صلى الله عليه وسلم من يزداد إيمانًا بفضل السيطرة الإنكليزية على
هذه الوحدة العربية الإسلامية، ويستعين بالوطن اليهودي، على الوطن السعودي
فلا تكون هذه الوثبة السعودية التي تجددت بها آمال العرب والمسلمين في نجد
والحجاز، وخفقت لها القلوب وشخصت إليها الأبصار في مصر والشام، إلا حافزة
للهمم، ومغرية للدول، وصنائعهم من العرب باليد لها، والإسراع إلى القضاء عليها.
مهلاً أيها الإفرنجي المستشرق، والشرقي المتفرنج، ما أنا بجاهل لقوى
الدول المعادية للعرب وللإسلام، وما أنا بمغرور بما نوَّهت به من المبشرات
الجديدة لقومي وأمتي، ولا بغافل عن مساويهما الراسخة بطول العمر فيهما؛
ولكنني أنظر إلى الشرق والغرب نظرًا جديدًا، فأرى أن الشرق كان مريضًا،
فدخل في طور الشفاء فأرجو له سرعة الإبلال، وإنه ضعيف نفخت فيه روح
القوة الصورية والمعنوية، فأتمنى بلوغها أوج الكمال، وأرى أن الغرب كان
صحيحًا سليم المزاج فدبت في بنيته سموم الانحلال، وبلغت قواه ما قُدِّر لها من
وسائل الكمال، ثم عرض لها من ضعف القوى الروحية والهرم ما ينذرها الزوال
من حيث تتجدد قوى الشرق المادية والروحية، وتدخل في سن الشباب.
أما القوة المادية من حربية ومالية فقد نبغت في الشرق الأقصى دولة سبقت
بها دول الغرب كلها، ووقفت في وجهها وقفة المضارع المنازع لها، فوجل منه
قديمها وجديدها، وصفعت عصبة أممهم المنافقة صفعة على وجهها أضحكت منها
أمم الأرض كلها، وإنما ينقص هذه الأمة (اليابان) أن تعزز قوتها المادية التامة
من جانبيها الحربي والمالي بالقوة المعنوية من طرفيها السياسي والروحي، في هذا
العهد الذي فقدتهما فيه أوربة بشدة تعاديها، وتربص دوائر السوء بينها، وانفصام
عرى الدين والفضيلة التي كانت تستمسك بها، وإن اليابان لفاعلةٌ ذلك إن شاء الله
تعالى.
وأما القوة المعنوية فحسبنا من آيات تجددها في الشرق شعور شعوبه كلها
بالآلام وما يزيلها، وبالآمال وما يقيلها، ألا وإن في الشرق قوة هي فوق جميع
قوى العالم الجامعة لكل ما تحيا به الأمم الحياة المعنوية والمادية من جميع جوانبهما
وأرجائهما، ألا وإنها روح الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين من السماء،
فألقاها إلى محمد الأمي في غار حراء، فأحيا به الأمة العربية الأمية، فأحيت به
جميع الأمم الأعجمية، وفتحت به نصف العالم في النصف الأول من القرن الأول
من ظهوره، ثم شمل نوره العالم كله،، حتى حجبه المسلمون عن أنفسهم وعن
سائر الناس، ووضعوا مصباحه المضيء بنور الله تحت المكيال - كما قال المسيح
عليه السلام - ولكن قد سخر الله المصلحين في هذا العهد لكشف المكيال عنه،
وتوجيه أبصار العقلاء إلى اقتباس النور منه، وسيرى جميع المسلمين بأشعته أن
الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا إخوانًا متعاونين على نشر هذا الدين، وأن أئمة أهل
البيت النبوي كزيد بن علي وجعفر بن محمد بن علي عليهم السلام، وأئمة السنة
من حفاظ الحديث ومستنبطي الفقه الأعلام، ما كانوا إلا إخوانًا متحابين، وأن
المفرقين بين المسلمين لأجل الملك، والمتفرقين في الدين تعصبًا لبعضهم على
بعض، هم أعداؤهم وأعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب
عليهم أن يقطعوا على دعاة التعصب المذهبي ما يحملهم عليه من المنافع، ويتفقوا
على ما أجمعت عليه الأمة، ويعذر بعضهم بعضًا فيما اختلف فيه الأئمة.
ألا وإن هذا القرآن شمس الله المشرقة لهداية جميع الأمم، ومأدبته المنصوبة
لتغذية جميع البشر، وإن بعض علماء الإفرنج المستقلين في العقل والرأي ليقولون
في هدايته ما يدعون به قومهم إليه، وإن دولة اليابان الشرقية كانت آخر من فطن
له، وستكون العاقبة في سيادة الأرض لمن سبق إلى الاهتداء به، كما بيَّنا ذلك
مفصلاً بالبرهان في كتاب (الوحي المحمدي) وإنا بهذا لموقنون، وقد سبقنا إليه
حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني وشيخنا الأستاذ الإمام، وصرح به برناردشو
الكاتب الإنكليزي وغيره من الأعلام، وقد تطلع الشمس من مغربها، وإنما العاقبة
للإسلام {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ
اهْتَدَى} (طه: 135) ، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى} (طه: 47) .
__________(34/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتمان القرآن عن أهل الكتاب
وسورة يوسف عن النساء
(س1 - 3) من صاحب جريدة الوطنية بمصر نُشر في العدد 427 منها
وتاريخه 28 ذي الحجة سنة 1352 هـ، و12 أبريل سنة 1934 م ووجه إلى
علماء الإسلام كافة، وقد أرسله صاحبه مع كتاب بخطه يخصني به بالسؤال، وقد
ذكر في مقدمته أن أستاذًا من الشيوخ المعلمين في المدارس الأميرية، وخطباء
بعض الجمعيات الإسلامية، قال له (وقد سأله عما بلغه من إنكاره لقراءة القرآن
لتبليغه بالمذياع - أي: آلة الراديو - ما يأتي بنص الجريدة وهو:
(إن في القرآن آيات ضد أهل الكتاب كان لها وقت نزولها ما يبررها، أما
وقد أصبحوا بعد ذلك ذوي ذمتنا فلا يجوز أن يسمعوا تلك الآيات) .
ثم تجاوز هذا وقال: إنني أمقت قراءة سورة يوسف في البيوت حتى لا
تسمع النساء حديث يوسف مع زليخة فيفهمنها بما يثير الريبة في عفاف النبي
الكريم سيدنا يوسف (وزاد على هذا قوله) إنني لا أسمح أن يُقرأ القرآن في حفل
عام من رجل لا يفهم معانيه ... إلخ.
(فأنكرت عليه رأيه في هذا كله؛ ولكني جئت أستفتي علماء الدين في رأيه
هذا فماذا يقولون؟) اهـ. بحروفه بدون مقدمته، وذيله الذي رد به صاحب
الجريدة على الأستاذ.
(جواب المنار)
إن هذا الذي عُزي إلى هذا الأستاذ رأي باطل، لا يوافقه عليه مسلم عالم ولا
جاهل، بل هو بدع من الرأي الأفين، لم يبلغنا عن أحد من الأولين ولا من
الآخرين، وما علل به إنكار إسماع أهل الكتاب للآيات التي سماها ضدهم،
وإسماع النساء سورة يوسف باطل مثله، وكل تعليل يراد به الاحتجاج على كتمان
شيء من القرآن فهو باطل، فالقرآن كلام الله الحق، وحجته الكبرى على جميع
الخلق، وكل ما فيه هداية صالحة لكل زمان وكل مكان، وتبليغه واجب، وكتمانه
فسق، واستحلاله كفر {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160)
فعسى أن يكون ما عُزي إلى الأستاذ الفاضل قد نقل على غير وجهه الذي
ذكره السائل في جريدته، وبيَّنه في كتابه، وعسى أن يتوب ويصلح ويبيِّن إن كان
قد نقل بنصه أو بمعناه، وقد كتمنا اسمه تكريمًا له، وانتظارًا لما نرجو من تأويل
أو تفصيل له فيه مخرج؛ ولكن في الكلام ثلاث شبهات تعلق بأذهان القراء، فيجب
أن نكشف عنها الحجاب على كل حال؛ لأنها طُبعت وانتشرت بين الناس:
(1) منع قراءة القرآن في المحافل بشرطه:
أما منع من لا يفهم معانيه من قراءته في المحافل فهو باطل محرم، وهو
يقتضي منع أكثر المسلمين الحفاظ له وغيرهم من تلاوته فيها، وتخصيص
تجويزها بالعلماء الذين يفهمون معانيه وقليل ما هم، ولا ندري ما الفرق بين
المحافل وغيرها إذا كانت علة المنع عدم الفهم للمعاني، فإن كانت العلة إسماعه
للجمهور كتعليل منعه لقراءته في المذياع فما الفرق بين من يفهم المعاني، ومن لا
يفهمها؟
(2) ما نزل في شأن أهل الكتاب:
وأما ما نزل في شأن أهل الكتاب فكله حق وعدل محكم يجب إظهاره في كل
وقت، حتى ما نزل في الأعداء المحاربين منهم، دع ما هو خاص بالذميين
والمعاهدين، وقد قال تعالى فيهم: {لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: 113) وأثنى
على بعضهم بالحق وذم أكثرهم بحق، ولا يزال فيهم من هم أشد عداوة للمسلمين
من سلفهم في عصر التنزيل وما يليه، وكان أهل الذمة في الصدر الأول أشد
محافظة على شروطها من أهل زماننا، وقد قال تعالى فينا وفيهم: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119) ... إلخ بل
قال في المشركين الذين كانوا أشد عداوة للإسلام من أهل الكتاب، ولا سيما
النصارى الذي كان فيهم من هم أقرب مودة للذين آمنوا {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ... إلخ، فما الذي يريد هذا الأستاذ كتمانه من
القرآن أن يسمعه أو يقرأه أهل الكتاب وغيرهم؟ وهو يعلم ما يقولون ويكتبون من
الطعن بالكذب والبهتان على الله ورسوله وكتابه ودينه، وما يكيدون لرد أطفال
المسلمين عنه إلى دينهم، وإن من يسميهم الذميين كالمعاهدين في هذا، ولا يراعي
شروط الذمة والعهد أحد منهم، فهل يجد في سفهاء قومه من لا يفضل أعلم قسوسهم
وكتابهم في التنزه عن مثل هذا، أم يريد أن يقول: إنه يشرع لنا نسخ بعض القرآن
حتى في التلاوة لإرضائهم وهو يعلم ما قال الله تعالى في الغاية التي لا يرضيهم
دونها شيء؟ والله أعلم منه بهم والقرآن لا يُنسخ بالرأي، ولا يصح إطلاق
القول بكتمانه لمصلحة راجحة فكيف يكتم بمثل هذا الوهم؟ على أن هذا الكتمان
متعذر في هذا الزمان، ولله الحمد.
(3) سورة يوسف وسماع النساء لها:
وأما سورة يوسف عليه السلام، فهي منقبة عظيمة له، وآيات بينة في إثبات
عصمته، وأفضل مثل عملي يقتدى به في العفة والصيانة يجب أن يهذب به النساء
والرجال، فكل منهما يعلم بشعوره الطبيعي قوة سلطان الشهوة الجنسية على نفسه،
ويسمع ويقرأ من أخبار الناس ولا سيما أهل هذا العصر في مثل هذا المصر ما في
طغيانها على غيره، من الفضائح والخيانات والجنايات وتخريب للبيوت، وإضاعة
المال والعيال والدماء والشرف، أفلا يكون أفضل مثل للعفة والصيانة، وأحسن
أسوة في الإيمان والأمانة، أن يتلى على النساء المؤمنات والرجال المؤمنين،
وعلى غيرهم من الملحدين، قصة شاب كان أجمل الرجال صورة، وأكملهم بنية،
يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان، هي سيدة له وهو عبد لها، فيحملها الافتتان
بجماله وكماله على أن تذل له نفسها، وتخون بعلها، وتدوس شرفها، وتراوده عن
نفسه، والمعهود في أدنى النساء وأسفلهن تربية ومنزلة أن يكن مطلوبات لا طالبات،
فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعصمته، ما هو أفضل قدوة في الإيمان
بالله والاعتصام به، وفي حفظ أمانة السيد الذي أحسن مثواه وائتمنه على عرضه
وشرفه، فيقول لها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23) فتشعر بالذل والمهانة، والتفريط بالشرف والصيانة، وتحقير مقام
السيادة والكرامة، فتهم بضربه أو قتله، ويهم هو بالدفاع عن نفسه، ويكاد يبطش
بها لولا أن رأى برهان ربه، وعصمه من فحشاء الشهوة الطبيعية المضعفة للإرادة،
ومن سوء ثورة القوة الغضبية التي تذهل صاحبها عن عاقبة الجناية، ففر منها
وهو الشجاع فرار الجبان، فكان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا
أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) وهو المتبادر من التعبير اللغوي في هم
الشخص، وبيَّناه بالشواهد في الرد على من أنكره، وقلنا: إنه المعهود بين البشر
في مثل هذه المخالفة المذلة ولما نقرؤه في القصص والصحف في هذا العصر،
والمناسب لقوله تعالى بعده: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
المُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) .
وإنني ما اخترت هذا المعنى لتبرئته عليه السلام مما ينافي العصمة؛ فإن الهم
من حديث النفس الذي لا يؤاخذ الله الناس به، وإن الهم بإيقاع السوء كالهم
بالمواقعة كلاهما هم بمعصية، إلا أنه في الأول دفاع عن النفس، وقد عصمه الله
منه، وإن عصيان النفس فيما اشتدت الداعية الجنسية له أدل على العصمة، وأحق
بحسن الأسوة.
ولما انهتك - والعياذ بالله - الستر، وعرف ذلك الإصر، خاض نساء
المدينة في أمرها، ولجوا في عذلها، لعلها تفضي إليهن بعذرها، فتريهن طلعة هذا
المملوك الذي استعبد مالكه، وسلب منه عقله وكرامته وشرفه، ولم يجزه على هذا
كله بنظرة عطف، ولا بلمسة كف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ
لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ
الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 31-32) فلما هددته بالسجن، وهو يعلم أن بيدها الأمر
والنهي {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: 33) أي: أكن من سفهاء الأحلام،
الذين يتبعون شهواتهم الحيوانية كالأنعام، ولا يستطاع الهرب من كيد النساء وهو
عظيم، ولا ما يغري به وهو دونه من كيد الشيطان الرجيم، إلا بالاستعاذة بالله
السميع العليم، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200) وكل من استعاذ به تعالى مؤمنًا مخلصًا أعاذه، فكيف إذا كان
من رسله لهداية عباده، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ} (يوسف: 34) ... إلخ.
وهكذا امتحن الله يوسف، وفتنه بجماله فتونًا، فلبث في السجن سبع سنين
وخرج منها كما يخرج الذهب من بوتقة الصائغ إبريزًا خالصًا، وجزاه الله في
الدنيا قبل الآخرة على صبره: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ *
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: 50-51) .
طلبه ملك مصر ليستعين بعلمه ورأيه على الخروج من المخمصة التي أنذرته
إياها رؤياه، وكان يظن أنه مسجون بجريمة؛ ولكنه احتاج إليه، فاشترط لإجابته
أن يسأل النسوة اللائي تواطأن مع مولاته على الكيد له ليعيش في وسطهن عيشة
اللهو والخلاعة: هل آنسن منه صبوة إليهن، فجرأتهن على ما كان من مراودتهن؟
فاستعذن بالله أن يلمزنه أو يغمزنه دفاعًا عن أنفسهن، وشهدن بأنهن ما علمن عليه
من سوء، أي: أدنى شيء وأقل نقص يسوءه، ولم يبق إلا شهادة مولاته امرأة
العزيز، فبم شهدت؟ {قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن
نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) أي: قالت: (الآن حصحص الحق)
أي: ظهر أجرد أمرد، لا تستره شبهة ولا تهمة كما يحص ويسقط الشعر أو
ريش الطائر، وثبت واستقر من قولهم: حصحص البعير؛ إذا ألقى مبازكه للإناخة،
فالكلمة بمعنييها أبلغ ما يعبر به عن المعنى المراد في هذا المقام، وإنما كانت
هذه الحصحصة بما ظهر من وقائع القصة الثانية، وهي فرار يوسف منها (أولاً) ،
ومن كيد جماعة النسوة (ثانيًا) ، ومن إيثاره عيشة السجن البائسة في خشونتها
ومهانتها على عيشة القصور العالية في نعمتها وزينتها (ثالثًا) ، ومن شهادة النسوة
اللاتي تصبينه (رابعًا) ، وقد علم من ذلك كله أن يوسف كان فوق أفق البشر في
حسنه وجماله، ولا يقل عن الملائكة الكرام في عصمته وكماله وجلاله فكأنها تقول:
{أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} (يوسف: 51) مغلوبة على نفسي، فاقدة لعقلي وشرفي
وحسي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن
نَّفْسِي} (يوسف: 26) .
ثم ذكر يوسف عليه السلام سبب امتناعه عن الخروج من السجن إلى أن تبين
لملك مصر وملئه براءته مما اتهم به، فقال: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ
اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ
رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 52-53) أي: ذلك الذي اشترطته للخروج
من السجن ليعلم عزيز مصر أنني لم أخنه في حال الغيبة عنه؛ إذ غلَّقت امرأته
الأبواب، وقالت ما قالت، وقلت ما قلت {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ} (يوسف: 52) فيما يكيدون به للأمناء الصادقين، بل يجعل العاقبة للمتقين، وما
أبرئ نفسي مما هممت به من دفع صيال السيدة عليّ بمثله، لولا أن رأيت ما
صرفني عنه من عصمة ربي، ولا من الميل الطبيعي إلى الجمال، وأمرها
الفطري بالاستمتاع، إلا ما رحم ربي من الأنفس؛ فصرف عنها السوء والفحشاء
بهداية الإيمان، إن ربي غفور رحيم، فأسأله أن يغفر لي ما لا أملكه من نزغات
النفس، وغرائز الطبع.
هذه خلاصة مختصرة من قصة يوسف عليه السلام، هي ما يتبادر إلى
الأفهام من بلاغة القرآن، دون ما شيبت من دسائس الروايات الإسرائيلية المخالفة
لذوق اللغة، ومقام الأنبياء عليهم السلام.
فهل هي إلا أفضل هداية من الله تعالى تمثل للنساء والرجال أكمل المُثل العليا
لفضيلة العفة والصيانة التي لا تتم لبشر إلا بصدق الإيمان بالله تعالى ومراقبته في
الخلوات والجلوات، فليوازن قارئها بينها وبين ما تقرؤه النساء في القصص
الغرامية، وفي صحف الأخبار اليومية، من الحوادث المناسبة لموضوعها، ومما
يجب تدبره وتذكره من العبرة بها، ومنها أن خلوة الرجل بالمرأة مهما تكن صفتهما
من أقوى ذرائع الفتنة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها في عدة وصايا
حتى من أقارب الزوجين فقد قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من
الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) رواه الشيخان في الصحيحين،
ولنمسك عنان القلم فقد جمح في الموضوع بما زاد على عزمنا عليه عند البدء في
الجواب، والحمد لملهم الصواب، ومؤتي الحكمة وفصل الخطاب.
__________(34/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جزيرة العرب والوحدة العربية
وسعينا لعقد الاتفاق بين الإمامين، وفقهما الله تعالى
قد اضطررنا في السنة الماضية أن نصرح ببعض ما كنا نخفيه تارة، ونشير
إليه تارة، أو نجمجم به آونة بعد آونة، من أنباء سعينا إلى وحدة الأمة العربية
وجعل جزيرتها مركز القوة وأساس الدولة، وما يليها من الأرض المقدسة والمباركة
موطن الحضارة ومورد الثروة، وهو ما بدأت بوضع النظام له، وتأسيس جمعية
(الجامعة العربية) التي كانت خاصة بالأمراء والزعماء، وكنت المتولي لجميع
الأعمال فيها، ومكاتبة أمراء الجزيرة وزعماء الأمصار في سورية والعراق بإمضاء
(الناموس) ، ويرى المطلعون على مذكرات جمال باشا سفاح الترك كتابًا منها وجده
في أوراق أحد شهداء الظلم بسيفه محمد المحمصاني (رحمه الله تعالى) . وأما إمام
اليمن وملك العربية السعودية فهما أعلم الناس بهذه الجمعية وناموسها منذ 23 سنة
كاملة، وقد نشرنا يمينها في ترجمة الملك فيصل - رحمه الله - في المجلد 33 من
المنار.
كان أساس النظام الأول لهذه الجامعة عقد معاهدة حلفية بين أمراء الجزيرة
كما بيناه في العام الماضي، وقد انحصر هذا الحلف بعد استيلاء ابن السعود على
الحجاز في جلالته وجلالة إمام اليمن المستقلين، وأخرنا ضم سلطنة مسقط،
وعمان إليهما، لما كان بين سلطانها وبين إمام الإباضية هنالك من الخلاف، الذي
سعيت إلى تلافيه، واستقلال البلاد بما عرضته على السلطان فيصل بن تركي رحمه
الله في مسقط عند زيارتي له فيها أثناء منصرفي من الهند سنة 1330 هـ
(الموافق سنة 1912 م) فتعذر عليه تنفيذه، ثم وقع بعد ذلك بسنة واحدة من الحرب
الأهلية ما توقعته بالفكر والفراسة، وأنذرت ذلك السلطان وقوعه، كما يعلم ذلك
شقيقه السيد نادر وبطانته في ذلك الوقت.
وكان الملك فيصل الهاشمي رحمه الله آخر من بلغته إياه وأقنعته بتوقفه على
الاتفاق مع ابن السعود صاحب نجد، فوافقني على ذلك كما تقدم في ترجمته، وستأتي
تتمتها.
ولقد كان الإمام يحيى أول من كاتبته وعرضت عليه مشروع الجامعة العربية
وكان ذلك قبل تأسيس جمعيتها التي أشرت إليها بالفعل، ثم تكررت الكتابة إليه
بعدها، ومن بعده كتبت إلى السيد محمد الإدريسي في عسير وإلى الأمير فالسلطان
عبد العزيز السعودي إمام نجد بالأمس، وملك العربية اليوم، وقد كان الإمام يحيى
أول من أجابني مستحسنًا ما اقترحت معتذرًا عن تنفيذه بالشكوى من السيد الادريسي
الذي عبر عنه بالجار بالجنب، ولمزه بالغدر ونقض العهد، ورفض دعوة الود،
وبأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا اللفظ - ولكنه هو عاد بعده فحالفهم محالفة
رسمية مكتوبة، والإدريسي لم يفعل هذا، فأدع الكلام في التاريخ الماضي في مسألة
الجزيرة والوحدة العربية بالحلف وغيره، وأقول كلمة في سعيي للاتفاق بين إماميها
المستقلين بعد استيلاء ابن السعود على الحجاز.
سعينا الجديد للاتفاق بين الإمامين:
لما تم للإمام عبد العزيز الاستيلاء على الحجاز أظهر رغبته في عقد مؤتمر
إسلامي في مكة المكرمة في أثناء موسم الحج، وأرسل إليّ مكتوباته إلى ملوك
المسلمين وأمرائهم وكبار زعمائهم في الدعوة، لأرسلها من مصر، وكان منهم إمام
اليمن بالطبع، ففعلت إلا جلالة ملك مصر فأرسلها هو إليه مباشرة، وظهرت في
إثر ذلك بوادر الجفاء بينه وبين دولة مصر، فبادرت إلى السفر إلى مكة في شوال
لأجل السعي لدى الملك عبد العزيز في تلافي هذا الجفاء، وتمهيد سبيل المودة
والإخاء، لما لي من لسان الصدق والإخلاص الإسلامي في اعتقاد جلالته، وكان
من ذلك ما كان، وبسطته بوقته في المنار كما وقع، لا كما يحرفه الآن بعض
الكتاب.
ولما انتهى المؤتمر الإسلامي بعد أداء المناسك كلها رغب إليّ الملك أن أرجئ
سفري إلى مصر مدة للمحادثة معه فيما أراه من وسائل الإصلاح، فأجبت بل
امتثلت، وكان أهم ما اقترحته مرارًا، وأوسعته إلحاحًا وإلحافًا وجوب عقد المعاهدة
الحلفية بينه، وبين الإمام يحيى، وهو ما كان تكرر مني اقتراحه عليهما، فكان
يظهر لي قبول الاستحسان بشيء من الفتور وقلة الاهتمام، أتأوله بضيق الوقت
وسعة النطاق في موضوعات الكلام، حتى إذا ما سنحت فرصة سمر لنا على سطح
قصره - حيث كنا نسهر - عدت إلى إلحاحي لقرب موعد سفري؛ فأجابني بما هو
ملخص ما تقدم من الكلام متفرقًا.
وقال: إنني والله وبالله وتالله لا أنوي التعدي على بلاد الإمام يحيى، وإنني
أرغب أصدق الرغبة في مودته ومحالفته، وإذا قَبِل اليوم أن نعقد محالفة هجومية
دفاعية بيننا فلا أُرجئ عقدها إلى غد. وأذن لي أن أبلغ وكيله في المؤتمر السيد
محمد عبد القادر هذا عنه، وقال إنه مستعد للتصريح له إذا اقتضت الحال.
ثم قال ما فحواه: وأما إذا كنت تخاف أن يعتدي الإمام يحيى علينا فكن
مطمئنًا بأن وبال ذلك يكون عليه، فنحن بفضل الله وعنايته أقوى منه. بل قال إنه
يستطيع أن يطارده في بلاده من جهتين أو ثلاث، وإنه إن شاء وجد من أهل البلاد
التابعة له من يخرجون معه عليه؛ لأن أكثرهم ساخطون لا راضون منه.
وإنني قد بلغت الشق الأول من هذا الحديث لوكيل الإمام السيد محمد عبد
القادر الذي كان عامله على الحُديدة، وكتبت إلى الإمام به كتابًا أعطيته لوكيله هذا
بيده.
ثم تركت ذلك إلى الإمامين حتى إذا ما خاب الوفد الأخير الذي أرسله الملك
إلى صنعاء في العام الماضي، وتجدد الشقاق، ورأيت من خلل الرماد وميض نار
ما خشيت أن يكون له ضرام، عدت إلى السعي للاتفاق من أوله، بما يعلم تفصيله
من المكتوبات الآتية (ومنها تعلم قيمة ما يدعيه محبو الشهرة من السبق إليه بإرسال
البرقيات، ومحاولة تأليف الوفد بعد فوات الوقت) .
أقتصر من هذه المكتوبات على أكثر ما دار بيني وبين جلالة الإمام يحيى
الذي كنت أشك في إقناعه؛ لما أعلم من طباعه وسياسته السلبية، ومن كون الخطر
عليه من الحرب أقوى؛ ولأن المكاتبة بيني وبين الملك عبد العزيز فيها من الحرية
والصراحة التامة في جميع المسائل ما لا يجوز نشره، إلا أن يكون بإذنه بعد العلم
بالمصلحة فيه؛ ولأنني أعتقد أن إقناعه سهل إذا قنع الآخر بالوفاق، لتصريحه لي
بعد إعلامي بتجهيز الجيوش وزحفها في شهر رمضان؛ بأنه لا يبغي بذلك إلا إقناع
يحيى بقوته، وإنها الوسيلة الأخيرة لإقناعه بعقد المحالفة إذا كان مثله يكره الحرب
كما يظن به، حتى إذا ما يئس من إجابته، وأعلن له الحرب بقطع مفاوضة أبها،
علمت أن قد بطل قول الألسنة والأقلام، وأعطى القول الفصل للحسام، فلن يقبل
الملك لأحد قولاً إلا من بعد حكمه، هذا هو الرأي كما بيَّناه في الجزء الماضي،
وسيعلم الإمام وأنصاره بما يضر ولا ينفع من الكلام، من نصح له عن إخلاص
وعلم، ومن غشه بالدهان وقول الإثم.
***
المكتوبات بين صاحب المنار وجلالة الإمام يحيى
في
التنازع الأخير بينه وبين جلالة الملك
عبد العزيز آل سعود
المكتوب الأول في 24 ربيع الأول سنة 1352
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سليل
الأئمة الأعلام، عليهم السلام.
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد
أزعجنا وأمضنا نبأ مرضكم، وما كدنا نبتهج بنبأ نقاهتكم، إلا وتلاه النبأ الصادع
بوقوع الشقاق بين حكومتكم والحكومة السعودية، المنذر بقرب وقوع الحرب،
وبخيبة الأمل الذي كان ينتظره كان عربي مخلص لأمته وكل مسلم لملته،
وحريص على سلامة مهد دينه، من عقد الحلف بينكم وبين الدولة العربية السعودية
بمساعي الوفد السعودي الذي كان في رحابكم منذ أشهر؛ إذ تجاوبت الأنباء بأن
الوفد كان في صنعاء كالمحجور عليه، وأنكم أذنتم له بالرجوع أدراجه بعد
إلحاح ملكه بالطلب؛ فانقلب خائبًا مخذولاً، إلى ما أنتم أعلم به، ولا يعنينا تفصيل
جزئياته، ولا تحقيق مقدماته، وإنما تعنينا النتيجة، وهي تسوء كل عربي وكل
مسلم، إلا الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولو علمتم بسوء تأثيرها في
مصر، وسورية، وفلسطين لهالكم، ولتجافى بجنبكم عن مضجعكم، ولعلمتم أنه
لولا عذر الناس لسيادتكم بمرضكم لخسرتم بهذه الحادثة ما لكم في القلوب من السيرة
الحميدة في العقل والرأي والتقوى، والحرص على حفظ سلطان الإسلام وحكمه،
واستقلال الجزيرة العربية، وسد ذرائع تسرب النفوذ الأجنبي إليها، وخطره على
بلادكم أشد، ولا شك أن حرم الله تعالى ورسوله عليكم أعز، ولكن الأمل فيكم لم
ينقطع، ولن ينقطع إن شاء الله تعالى، وقد تضاعف الإعجاب بأخيكم الملك
السعودي: دينه وعقله وحكمته؛ إذ علموا بما أبرق إليكم في الخطب المدلهم.
أيها الإمام الحكيم، التقي الحليم: لقد علم الرأي العام الإسلامي، ولا سيما
العربي، أنه لو فُجعت الأمة بكم في هذا المرض، لقضى ولي عهدكم الشاب على
جزيرة العرب، فهو - أي: الرأي العام - يرجو أن تبادروا قبل كل عمل إلى
الاتفاق مع أخيكم الملك الحكيم، على التحالف والتعاون على حفظ هذه الجزيرة
المقدسة من دسائس الأجانب والمفسدين، وعلى عمران المملكتين اللتين وكل الله
أمرهما إليكما، وتعزيز قوتهما في حياتكما الشريفة العزيزة قبل أن يؤول أمرها إلى
أنجالكما، الذين لا تضمن أمتكما وملتكما أن يكون لهما من الحكمة والخبرة والروية
مثل ما آتاكما الله تعالى، إلا أن يتربوا في كنفكما، وظل ما تضعان من النظام، وما
تنفذانه منه لإعزاز الإسلام بعز العرب في جزيرتهم ومنبت أرومتهم ومهد دينهم
و (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) كما قال الصادق المصدوق عليه وعلى آله السلام،
ولا ذل للعرب إلا إذا ذلوا في جزيرتهم، وحصن دينهم، ومأرزه الوحيد
في هذا العهد - عهد تداعي الأمم عليهم - كما نطقت به الأحاديث النبوية الصحيحة
الصريحة وسيادتكم أعلم بها.
أيها الإمام العليم، الحكيم الحليم
مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية من حق
سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين، فكل منهما
واسع الأطراف، قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد منكما
بتعريضه للخراب؛ لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل، وأما إذا اتفقتما وتحالفتما
تحالفًا صريحًا، وعاهدتم الله تعالى والأمة على الإخلاص في الولاء والتعاون، فإن
كلاًّ منكما يأمن على حدوده، ويخلو له الجو لعمران بلاده، وجعل استعداده الحربي
موجهًا إلى أعداء الله وأعداء قومه، وذلك ربح لا يعلوه ربح، وهو ما يطالبكم به
الدين وأهله أجمعون.
أيها الإمام: إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله، وخاتم النبيين،
للإسلام والمسلمين، لا لعبد العزيز الفيصل السعودي ولا ليحيى حميد الدين،
فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له
قائمة في غيرها، فجميع المسلمين تحت سلطان الأجانب، إلا قليلاً من الأعاجم،
أنتم تعلمون حالهم، وما ينتظر من مآلهم، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله،
وتحرصا على حسن الخاتمة والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
(حاشية) قد كتبت إلى الإمام عبد العزيز ملك العربية السعودية بهذا المعنى
أيضًا.
* * *
جواب الإمام يحيى عن المكتوب الأول
(ختم إمارة المؤمنين)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
السيد العلامة الأستاذ محمد رشيد رضا حفظه الله، وأدام عليه نعمه، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد تناولنا كتابكم الكريم، وشكرنا ما أظهرتموه من الغيرة المحمودة بإزاء ما نفخ
به الشيطان في مناخر من لا خلاق لهم، ولقد عجبنا واستغربنا جدًّا ما يشيعه خدمة
الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة الذي هو أجلى من شمس النهار من
توتر العلاقات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن حرسه الله،
وحصول مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام مجال الطعن والضرب مع
ما ينسبونه إلينا من إرادة ذلك، وما ينسبونه إلى ولدنا العلامة سيف الإسلام أحمد
ابن أمير المؤمنين حفظه الله من التشوق لإضرام نار الحرب، وكل ذلك محض
الافتراء، وقد خاب من افترى، فإنه ولله الحمد لم يحدث ولم يتجدد الآن بيننا وبين
حضرة الملك عبد العزيز ما يقدح زند العدوان، فما حدث إلا الجميل وحسن
الرعاية من الطرفين، وحتى الآن المراجعات الودية بيننا مستمرة، والأحوال كما
هي عليه مستقرة، وكيف يكون من مثلنا سعي يخالف صالح المسلمين، وإقامة
شريعة سيد المرسلين؟ وهل يقبل العقل السديد أن يكون منا الآن إثارة فتنة تخالف
صالح الإسلام والمسلمين؟
والحال أنا ما زلنا ولا نزال نسمع من شعبنا السعيد ما يثير الحفيظة مما كان
بتنومة من قتل نحو ثلاثة آلاف مسلم آمين بيت الله الحرام، لأداء فريضة الإسلام،
ويرفعون بذلك عقائرهم، ولم نزل نصبرهم بحسن العبارات، وألوان الاعتذارات،
ولم يمكن لنا أن نصدع حضرة الملك بذلك، مع أنا حكمناه في ذلك عقيب الواقعة
وأجاب بكل إنصاف، أفهذا السكون يكون من مريد لتأجج جحيم الهيجا، يا ذوي
الحجى؟ كلا.
ولقد علم من تحت أديم السماء ما كان من فصل قطعة من اليمن الميمون عن
أمها اليمن الخضراء مع علم كل ذوي العقول أن قطعتي عسير وما إليها، وجازان
وما إليه، هما من اليمن جغرافية ونسبًا، ومع ذلك فلم يصدر منا غير الجميل، بل
كان منا السعي الكامل للإصلاح في الفتنة الناشئة بين السيد حسن الإدريسي وبين
حضرة الملك عبد العزيز ولم نقل جآن لما عندي مزاجًا، أفيكون هذا من مريد لبذر
البوس، واقتباس نار أحر من نار حرب البسوس؟ كلا ولكنها الأهواء عمت
فأعمت.
وأما ولدنا سيف الإسلام أحمد ابن أمير المؤمنين فلم يكن من أعلاج الأغتام،
وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء العاملين، وإنه
لأشد الناس رعاية للصداقة بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإنا نعلم يقينًا
ردوده على المحرشين بأعظم رد، فليكف المفترون عن أقوالهم المزورة،
وليستحيوا من العالم بأكمله لافتضاح لهجاتهم الكاذبة مرة بعد مرة، إن كانت لهم
ديانة ورعاية لمكارم الأخلاق، فقد أوضحنا لكم الحقيقة برمتها حيث شاهدنا في
كتابكم، وفي غيره ما يوحي إلى اعتقاد أن المنشور في الجرائد من قبيل الحقائق،
وما كنا نؤمل أن تخفى عليكم مصادرها، ومن هو الملوم فيها، وثقوا بأنه لا يكون
أي اندفاع إلى خصام، ولا امتشاق حسام، مهما استمرت الحالة على ما كانت من
قبل، سواء كان إسعافنا بإنصاف، أو بقيت الحالة على ما هي عليه لم ترع لنا فيها
الحقوق، والحامل على هذه الطريفة هو رعاية ما فيه صالح الإسلام والمسلمين،
هذا والدعاء مستمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، 22 جمادى الأولى سنة
1352 هـ.
* * *
المكتوب الثاني إلى الإمام
في 6 جمادى الآخرة سنة 1352
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سلالة
الأئمة الأعلام، عليه وعلى آله السلام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد
فقد تشرفت أمس بكتابكم الجوابي، فسررت جد السرور ببشارتكم إياي بما شرح
الصدر في مسألة العلاقة بينكم وبين أخيكم في الدين، وصنوكم في حراسة جزيرة
العرب، وتنفيذ وصية جدكم خاتم النبيين، وكون الخلاف من الهيئة العارضة، لن
يكون ذريعة لسفك الدماء، الذي يتمناه أعداؤنا الأجانب، وسفهاؤنا الغوغاء، وهذا
ما كنت أعتقد في دينكم وعلمكم وعقلكم وحلمكم وتجاربكم، ولكنني لا أنكر أنني
كدت أصدق ما يقوله الكثيرون في مشرب نجلكم سيف الإسلام أحمد عليه السلام،
على أنني كنت أقول لهم: إنه إن صح ما يقال في رأيه ومشربه، فلن يصح أن
يخالف أمر أبيه وإمامه، وطاعته واجبة عليه لوصفيه كليهما، وانحصر طوقي في
المستقبل، كما أشرت إليه في كتابي الأول. وأقول الآن: إنني مستعد كالأول أو أشد
لإعادة السعي لما سبقت جميع الناس إليه من شد أواخي الإخاء، وإتمام مقدمات
الحلف بينكما، وأتمنى أن تجدوا لي طريقًا وسطًا في تعديل الحدود بين المملكتين
أدنى إلى العقل والشرع مما صرحتم به في كتابكم من عد قطعتي العسير وجازان
وما إليهما من عقر دار اليمن الميمون جغرافية ونسبًا وأمًّا وأبًا؛ فإن في هذا القول
مقالاً، ولعل التساهل فيه والحال كما تعلم خير مآلاً، ولو قلتم هذا أولاً لكان عذركم
أظهر عند الأكثر، أما وقد أقررتم ما كان، فقد قامت عليكم الحجة والبرهان، ولا
يزال الوقوف في الوسط مع التواد في حيز الإمكان، فإذا عهدتم إلى هذا الداعي
بالسعي إليه، بذل جهده في الحصول عليه.
وأما مسألة التعويض على أهل القتلى من الحجاج فلكم فيها كل الحق [1]
وتعلمون أنني كنت أول الساعين إليه، ولما تم التواصل بينكم وبين الملك عبد
العزيز تركت ذلك إليكما، وقد بدأت اليوم بالتذكير به بما كتبت إليه قبل هذا، فإن
كنت أعلم أن تنفيذ الطلب في هذه الأيام متعذر، فإنني لا أشك في أنه يكون بعد
زوال الغمة أول متيسر، وإني منتظر أمركم، وقد جربتم كتماني لما يجب كتمانه
ولما لا يجب، لا كالذين يتبجحون بنشر كل ما تكتبون إليهم، وما يكتبه إليه كل
عظيم وإن كان دونكم.
هذا وإنني قد سررت من الوجهة العلمية الدينية أشد مما سررت من الوجهة
السياسية بما تفضلتم به عليّ من البشارة باستحسانكم لكتابي (الوحي المحمدي)
واحتمال توجه عزمكم إلى إعادة طبعه، وأبشر جلالتكم بأنه قد نال استحسان
العلماء والعقلاء في جميع الأقطار الإسلامية، ولا تزال تأتينا المكتوبات منها
بتفضيله على كل ما كتب في إثبات النبوة المحمدية وإعجاز القرآن والدعوة إلى
الإسلام من الوجوه اللغوية والعقلية، والاجتماعية السياسية، وقد شرعوا بترجمته
بعدة من اللغات الشرقية والغربية ... إلخ [2] .
والسلام عليكم، وعلى نجلكم، وولي عهدكم سيف الإسلام، وسائر أنجالكم
الكرام عليهم السلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
***
جواب الإمام عن المكتوب الثاني
(الختم الإمامي المعروف)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة السيد العالم الفاضل، والجهبذ الفذ الكامل، صاحب المنار محمد رشيد
رضا المحترم حفظه الله، وشريف السلام عليه ورحمة الله وبركاته.
وصل كتابكم الكريم، وأحسنتم بما أفدتم، واعلموا - عافاكم الله - أنا صرحنا
لحضرة الملك عبد العزيز أن يكون ربط الأواصر، مع إبقاء الحالة في عسير على
ما هي عليه، فإنا نكره تجزئة اليمن، وفصل قطعة منها عن أمها الطبيعية، وأن
مثل هذه المسألة هي التي أخرت المعاهدة بيننا وبين إنكلترا، وآخر الكلام كان
البناء مع إنكلترا على تأخير البت في شأن الأراضي التي يدعونها تحت الحماية إلى
المستقبل وتكون المذاكرة عنها، ثم إن كراهيتنا لعدم الخوض في الأراضي
العسيرية بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز، وإبقائها كما هي عليه الآن، ليس
المراد به أنا سنهاجم، كلا، بل صرحنا لحضرة الملك عبد العزيز في جملة برقيات،
أن من المحال أن يحصل منا عدوان قطعًا حتى الممات، ولا نعلم بعقد كلام في
شأن تلك الأراضي.
وفي شأن السيد الحسن الإدريسي. كتبنا لحضرة الملك أنا حاملون بوجهنا
وذمتنا أنا لا نساعده على عدوان، ولا نرضى له، وهو عدونا ليس بيننا وبينه
صداقة، وإنما حملنا على الخوض في مسألته محبة صلاح الشأن بينه وبين حضرة
الملك، وتسكين الثورة الشيطانية التي حدثت بتلك الجهة، ثم تعويل الحسن علينا،
وأشار إلينا حضرة الملك أن بعض الناس من الذين يريدون بذر الشقاق في البلاد
العسيرية يترددون بين مصوع وبعض مراسينا فأمرنا بمنعهم من الدخول إلى بلادنا،
وطرد من كان منهم في بلادنا [3] وأشار حضرة الملك إلى أن قرب السيد الحسن
الإدريسي من تلك الجهات ربما يكون مصدر شر، فكان منا إقناع السيد الحسن
بحسن انتقاله إلى جهة في بلادنا تبعد عن تلك الجهات بمسافة ثلاثة أيام، وعلى
الجملة فاعلموا يقينًا أنه لا يكون منا أدنى عدوان ما دمنا على الحياة.
وولدنا سيف الإسلام حفظه الله هو من أحرص الناس على حفظ الصداقة بيننا
وبين حضرة الملك، وإذا بلغكم ما يخالف هذا فكذبوه، ثم كذبوه.
وإنا لنعجب لما تنشره بعض الجرائد مما نظنه كذبًا كما هي عادة الجرائد من
التجنيد والتجيش والتجهيز من جهة حضرة الملك عبد العزيز؛ إذ ليس لذلك من جهتنا
ما يحمل على ذلك غير ما عرفناكم ههنا من الكتابة الودية، وكامل التأمينات
لحضرته بعضها مؤكد بالأيمان، على أنا نعلم أن بالشقاق بيننا وبين حضرته كل
بؤس وضرر على العرب عمومًا، بل وعلى المسلمين، وإنا نستعيذ بالله من ذلك،
ومن أن يكون لنا سبب لما هنالك، هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... حرر في 21 جمادى الآخرة سنة 1352هـ.
***
المكتوب الثالث أو الرابع إلى الإمام في 25 رجب
من محمد رشيد رضا إلى حضرة الإمام الهمام، سليل الأئمة الغر الميامين،
جلالة الإمام يحيى حميد الدين، عليه وعلى آله السلام.
السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد
حظيت بكتابكم الكريم المؤرخ في 4 رجب، وبتقريظكم الشريف لكتاب الوحي
المحمدي فسررت بهما، ولكن ساءني أنني لم أجد في الكتاب ما يفتح لي باب
الخدمة لما عرضته من رغبتي في السعي للصلح بينكم وبين أخيكم الملك عبد
العزيز آل سعود، على أساس تعديل ما بين المملكتين من الحدود، لعقد المحالفة
التي تحول دون الخلاف في الحال والمآل، وتكون بها قوة كل منكما يدًا واحدة على
من عداكما، إذا عاداكما أو عادى واحدًا منكما.
ولكنني رأيتكم تعدون العسير برمتها كنجران من عقر دار اليمن، وأن بقاء
حكمه في أي جزء منها مانعًا عن عقد حلف بينكما، وأن قصارى الأمر أنكم لا
تقصدون الآن نزعها بالقوة الحربية.
وهو لا يعترف لكم بهذه الدعوى، وتعلمون ما يتهمكم به [4] ، وبقاء هذا الحال
غير ممكن، لهذا ساق جيوشه إلى الحدود؛ ولأنه يعتقد أن سبب رفضكم لإمضاء
العهد، وما عاملتم به الوفد، وبقاء قواتكم على الحدود، إنما سببه كله اعتقادكم أنه
ضعيف، وأن ضعف قوته سيلجئه إلى الاعتراف لكم بالبلاد العسيرية كلها جبالها
وسواحلها، وكتب إلي أنه يرجو بإرساله قواته إلى الحدود ومواجهتها لقواتكم أن
تجنحوا للسلم، وتفضلوها كما يفضلها على الحرب، وتجيبوه إلى ما يدعوكم إليه
من عقد العهد، واشتداد الود، ولكن فاجأتنا البرقيات اليوم من رومية باشتعال نار
الحرب، فوجلت القلوب، واضطربت الأفكار، وبتنا لا نهتدي إلى الوساطة سبيلاً،
إلا أن تهدونا إليها مما تجدونه معقولاً، وما هو في رأينا إلا الاعتراف بالحال
الحاضرة في عسير، مع تحديد عادل في نجران، يبقى فيها حد نجد كما كان،
ويعترف لكم بما كان مستقلاًّ منها قبل الحوادث الأخيرة، إن لم يكن مرتبطًا فيها
بعهد سابق يحتاج إلى المفاوضة. هذا ما خطر ببالي اليوم أنه لا يزال ممكنًا، كتبت
به إلى جلالتكم، ولم أكتب إليه شيئًا جديدًا، وإني منتظر لأمركم بالبرق والبريد؛
لأنهض بما أقدر عليه من خدمة للإسلام، ولميراث محمد صلى الله عليه وسلم
لقومه وأمته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
***
جواب الإمام عنه وهو الأخير
(الختم)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة السيد العلامة المحقق، بحر العلوم المتدفق، محمد رشيد رضا
الحسيني منشئ مجلة المنار الغراء، حفظه الله من بين يديه ومن خلفه، وأتحفه في
جميع مواقفه بالمعين من لطفه، وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قد تناولنا كتابكم الكريم على الحقيقة، لما يحويه من البيان الجميل والإشفاق
بتلك الحمية على مُثْلَى الطريقة، فشكرنا لكم ذلك النصح وذاك التطوع، ودعونا
لكم بدوام التوفيق وحسن التشيع، وقد عرفنا من كتابكم أن مصدر ما استحوذ به
القلق ليس إلا تلك المنابع المعلومة، وهي عن التحري فيما تنقل بمعزل، ولا يوجد
ما يحملها على تحري الصدق في النقل، بل دواعيها محصورة في ترويج بضاعة
الكذب، وربما كان الكذب مقصودًا لذاته، وإذا عرفتم أن الحالة السابقة هي الآن
كما كانت لم تتغير، والمراجعات بيننا وبين حضرة الملك عبد العزيز مستمرة،
والاتجاه فيها إلى السلم أوضح مما سواه، وأنه لولا وجود شرذمة من شذاذ الأقطار
يلقون فيما نظن إلى الملك عبد العزيز ما يثير الحفيظة لما تغير من الوضعية التي
استمرت طوال السنين شيء يذكر، اتضح لديكم مقدار ما في الأخبار المفتعلة من
الكذب والتقول بما لا أصل له، وقد أوضحتم ما لأجله كان حشد الجنود، من الملك
عبد العزيز بن سعود.
وكان يكفي لدفع تلك التوهمات، ونفي اتخاذ الحالة الراهنة فرصة تذكر
الحالات الماضية، وهي كثيرة الصور دالة على أنا لا نتحين فرصة، ولا نبغي له
غصة، وإلا فما الحامل على ترك إعانة ابن عايض ومخالبه ناشبة فيها من أقصاها
إلى أدناها، ولم تطأها قدم نجدي إذ ذاك، وعلى ترك إعانة الأشراف في الحجاز
بعد التوسل إلينا في كلتا الحالتين بما هو فوق المرغوب.
وكذلك رأينا فيما جرى بعدها من الأطوار، وحتى الآن لم يتجدد شيء سوى
التأديب لقبائل يام، الذين ضررهم على المنتمين إلى الملك عبد العزيز من القبائل
الذين وراءهم، أكثر من الضرر على من ثبتت أقدامهم على طاعتنا من القبائل
المجاورة لهم من جهة الجنوب، وقبائل يام يمنية، ولم يكن التعرض لهم إلا بعد أن
كتبنا إلى حضرة الملك عبد العزيز أنهم يمنيون، بل هم مصاصة قبائل اليمن، وإنا
لم نتركهم إلا خشية أن تتشوش الأفكار، فرجع منه الجواب بأنه لا كلام له منهم،
وغاية الأمر أن بينه وبين أهل وادي نجران الذين هم بعض قبائل يام بعض تملقات،
ثم بعد هذا وصل منه ما هو أصرح، والبرقيات لدينا محفوظة، وليت أنكم
تصلون إلينا لعرض كل المكاتبات عليكم؛ فسيظهر لكم منها ما لم يكن في حسبانكم
من إنصافاتنا.
أما المعاهدة فإننا أفدنا الوفد أنه لا بأس بها غير أنه لا يمكن لنا أن نقرر
انفصال جزء من اليمن عنه؛ لكنها تكون المعاهدة مبنية على إبقاء بلاد عسير وما
إليها على حالتها التي هي عليها الآن، وإذا كان من الوفد كلام بأنه كان منا أدنى
جفاء فسنرجع أمره إلى الله؛ فإنه لم يعزم إلا على غاية من الرضا والشكران
ومحرراته لدينا محفوظة، غاية الأمر أنها طالت مدة لبثه ههنا، فهل في المرض
الذي كاد أن يقضي علينا عذر يوجب تأخر تسريحه؟ إنا لا نظن أيًّا كان لا يعذر
في مثل ذلك المرض، وإنا لنظن أن الذي غير نهج حضرة الملك عبد العزيز، إنما
هم خَدَمَةُ الإفرنج الذين يتلذذون بإهراق دماء المسلمين، وهدم عزهم، وانحطاط
علو شأوهم تقربًا بذلك إلى أعداء الإسلام، مع فرار داعي الباطنية المكرمي
ومنصوبه من بدر إلى أبها عسير لدى أمير حضرة الملك عبد العزيز بأبها.
ولا يخفى عليكم ما عليه الباطنية، وارتباط باطنية الهند بهذا الداعي،
وإمدادهم إياه، ولو كان الإمعان بإنصاف، لكان العلم بأنه لا حق لأحد غيرنا في
الكلام عن بلاد يام؛ لأنه لا راية فيها منصوبة، ولا هي من غير بلاد اليمن
محسوبة، وقد رأينا في منشورات الجرائد عن المصادر المعلومة والمجهولة كذبًا
صراحًا، بأن المصادمات بين الجيش اليمني والنجدي قد وقعت، وأن الجيش
اليمني زحف إلى بلاد الدواسر وبلاد نجد، والحقيقة أنه لا شيء من ذلك أصلاً، لا
صدام ولا التحام ولا زحف، بل الواقع أن الولد سيف الإسلام بعد أن بلغ إليه قرب
الجيش النجدي من الحدود أمر الجيش اليمني بتخلية بعض المواقع التي كان يحتلها،
بعدًا عن التحاك الموجب للاشتباك، وهو بصفته تقهقر اختياري أريد به ما أوضحناه
من التباعد عن موجبات تحقق أحلام المفسدين، والمتوسم عند تحرير هذا
أنه لا يكون شيء من التشاجر إن شاء الله، فلا يوجد لذلك من الدواعي والأسباب
ما يقتضي تبرير وقوعه، وبالله المستعان، والدعاء مستمد، والسلام لتاريخه
18 شعبان سنة 1352.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أعني الحق في تطييب القلوب، بما يوضع في الجيوب، ولكن تكرير الإمام للتذكير بهذه
المسألة كان محركًا للأضغان، مثيرًا للأشجان، مانعًا من الأداء بالإحسان.
(2) بقية هذا الكتاب خاصة بكتاب الوحي، وقد رجوت من جلالة الإمام أن يبين لي ما يراه فيه
منتقدًا، فقرظه بما نشرته بنصه في أول التقاريظ من الطبعة الثانية مستقلاًّ، ولم ينتقد منه شيئًا.
(3) المنار: المراد بهؤلاء المفسدين دعاة حزب الشرفاء المسمى بالحزب الوطني الحجازي، وكان لهم تأثير في ثورة عسير الماضية في زمن فتنة ابن رفادة، وقد تبين أن مولانا الإمام لم يطردهم في هذه المرة كما قال أو أن أمره بطردهم لم ينفذ فقد نشرت لهم رسائل في بعض الجرائد جاءت من
بلاده، كما أن إبعاده للسيد حسن الإدريسي لم يتحقق للملك السعودي.
(4) أعني أنه يتهمه بالمراوغة، وبما هو شر منها، ويقول إنه كالشريف الحسين.(34/39)
الكاتب: عبد الحميد السائح النابلسي
__________
تقريظ الأستاذ الشيخ
عبد الحميد السائح النابلسي [*]
منذ مدة وأنا أفكر في كتاب يصلح أن يكون هاديًا وبشيرًا للأمم غير الإسلامية
بأسلوب مألوف لديهم، وعلى نمط يكون في متناول جمهرتهم، حتى يُنَادى في
الأوساط الأوربية والأميركية بالدعوة إلى دين الإسلام بالحجة والبرهان وامتلاء
النفس قناعة وطمأنينة، ومع هذا يتيسر لنشئنا المثقف ونابتتنا الزاهية، أن تتصفحه
وتطالعه، ويزيل ما يترددها من شبهات، ويزيح ما يعتورها من اعتراضات، فلم
أعثر على ذلك الكتاب إلى أن اهتديت إلى كتاب (الوحي المحمدي) للعلامة المحقق
السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، ذي الآراء الإسلامية الناضجة، والأبحاث
الدينية الموفقة، فوجدت فيه الضالة وتحققت فيه الرغبة.
إني قانع كل القناعة أن القرآن كفيل بحاجة مطالعه، قمين بأن يملأ نفس قارئه
إيمانًا وحكمة وعلمًا وأدبًا وسياسة وخبرة، ولكن هذا يتوقف على أن يكون القارئ
خبيرًا باللغة العربية، ملمًّا بعلومها، متضلعًا من بلاغتها وفصاحتها، ولا ريب أن
هذا غير متيسر لكثير من أبناء العربية وعلماء المسلمين، فكيف بغير العرب وغير
المسلمين؟ خصوصًا وأن المسلمين أعرضوا عن الاستفادة من هذا الكتاب المقدس
الاستفادة اللائقة به، وأصبحوا لا يعتنون إلا بمظاهر ختمه فقط ومراسمه الشكلية.
من أجل هذا كانت حاجة المسلمين إلى كتاب يبشر بدينهم - على الوجه الذي
بينا - ماسة وشديدة.
وليس من شك في أن هذا العمل يتطلب تفكيرًا عميقًا، وخبرة واسعة، ووقتًا
غير قصير، حتى يخرج إلى الملأ مستكمل النواقص وافيًا بالحاجة، وإن الأستاذ
السيد محمد رشيد هو أجدر من يقوم بهذا العمل، وأحق من يتحمل هذا العبء،
وإن مبادرته إلى إخراج هذا المؤلف مسارعة إلى أداء فرض محتم عليه، وقيام
بواجب لا مناص منه، لكفاءته النادرة، وشهرته في العالم الإسلامي بشهرة فائقة،
والاعتماد على آرائه، والاستفادة من نتائج قريحته، والوثوق من خبرته وسعة
اطلاعه.
بدأ المؤلف كتابه في البحث بموضوع الوحي، والاستفاضة فيه، ومناقشة
القائلين بإثباته من أهل الأديان السماوية، وبحث آراء نفاته من الماديين، وأفاض
في نفيها، وإقامة الحجة على إبطالها، ثم قفى على ما ذكر بمقاصد القرآن، في
ترقية نوع الإنسان، شارحًا أركان الدين، وأنواع الإصلاح التي يحتاج إليها
الإنسان في حياته، وتخلل ذلك بحث مسألة المعجزات، وخوارق العادات التي هي
مدار اشتباه الكثير من المثقفين والمتعلمين، وقد صور الدين بصورته الحقيقية،
فأطلع القارئ على كثير من قواعد الدين الإصلاحية الاجتماعية والمالية والسياسية،
مستندًا في ذلك كله على آي القرآن ونصوص الإسلام، ثم ختم المؤلف كتابه في
بحث تحرير الرقاب ومنعه، وأزاح ما يخفى على كثير من المتعلمين من الشبهات
في هذا الموضع وغيره.
وبالجملة فإن الكتاب بالنسبة لأبحاثه الاجتماعية والمالية والسياسية لا ريب أنه
وافٍ بالمقصود من هذه النواحي على شكل يسر كل مسلم، ويحفز كل غيور على
دينه أن يُقْبِل على مطالعته وتصفحه.
وليس من شبهة في أن المقصود الأول من هذا الكتاب جعله في متناول العلماء
غير الإسلاميين، وخصوصًا غير العرب كما ذكر المؤلف نفسه (النتيجة المقصودة
بالذات دعوة شعوب المدنية: أوربة، وأمريكة، واليابان، بلسان علمائها إلى
الإسلام، لإصلاح فساد البشر المادي وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنساني العام)
ولا يتيسر هذا إلا إذا ترجم للغات الأجنبية من قبل متضلعين بتلكم اللغات
عارفين بأسرارها، فينبغي - والحالة هذه - على الهيئات الإسلامية أن تقوم بهذا
الواجب، ونرجو أن يسارع مكتب المؤتمر الإسلامي العام بالقدس وغيره من
الهيئات الإسلامية إلى هذا؛ فإنه عمل منتج، ويُرْجَى أن يكون له أثر خطير في
العالم، وإن هذا العصر عصر طغت فيه المادية، واعتز المبشرون فيه بتشكيلاتهم
وأموالهم، فعلى الأقل يجب على علماء المسلمين وهيئاتهم أن يقوموا بنشر مبادئهم
الدينية الحقة، وإذاعتها في الملأ؛ لتكون سلاحًا يوجه إلى كل من أراد هذا الدين
بسوء وقصد تشويه تعاليمه ومبادئه.
وإن هذا الكتاب رغمًا عما يؤخذ عليه يفيد مطالعه فائدة جليلة جدًّا، ويعود
على قارئيه بنتائج لا يتيسر الوقوف عليها من غيره، ويعطي صورة عظيمة القدر
لتعاليم الإسلام خالية من تلك الأغشية التي وضعها عليها بعض العلماء، ويوصل
إلى معرفة حقائق إسلامية بشكل ينثلج له الصدر، وعلى وجه تطمئن له النفس،
وإني أدعو بني قومي وإخواني إلى المسارعة لمطالعته واقتنائه، والاستفادة من
أبحاثه ومحتوياته.
وإن ما يؤخذ على الأستاذ المؤلف قد شعر هو به فيما قال: على أنني لم
أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض (وضع مصنف في إثبات الوحي المحمدي)
وإنما بدأت منه بفصل استطرادي لتفسير آية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى
رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2) ... إلخ، ثم قال: ولو إنني قصدت هذا منذ بدأت
بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار،
... إلخ، فأكثر ما يؤخذ عليه يرجع إلى استطراد في البحث يكاد أن يكون مملاًّ
وخصوصًا في فصل إقامة الحجة على مثبتي الوحي ونفاته [1] .
وقد أبدى معذرته في قوله: ولكني كتبته في أوقات متفرقة، وحالات بؤس
وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله ... إلخ، وبيان المأخذ وذكر المعذرة
لا يعني التقليل من أهمية هذا الكتاب وشخصية مؤلفه، بل على العكس يجعلنا
نرجوه أن يوالي تصنيفاته في تلكم المواضيع باذلاً الجهد في مجانبة ما لاحظه على
نفسه، جزاه الله عن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وضاعف له الأجر على
مجهوداته التي لا تنكر والله ولي التوفيق.
نابلس ... ... ... ... ... ... عبد الحميد السائح
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نشره في جريدة الجامعة الإسلامية في 15 جمادى الآخرة سنة 1352 15 أكتوبر.
(1) من الغريب أنني عنيت بالاستطراد بحث الخوارق، كما قال هذا الأستاذ الذكي حتى إنني استشرت بعض كبار العلماء أولي الرأي في اختصاره في الطبعة الثانية، فلم يوافقني أحد، بل قال الأستاذ العلامة الشيخ المراغي: إنه من أهم المباحث فلا ينبغي حذف كلمة منه.(34/53)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان
إن المسلمين على بينة من أمرهم، لا يحتاجون إلى دعاية، ولا إلى التماس
الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور
هذا الكون بدونه، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه، والذي ما زال
ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة
حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين؛
لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه، ويرون جميع
براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى
دليل، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند
الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل
لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ
نشأة أوربية؛ أي: خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها
مبادئ الإسلام مع لبن أمه، فيقال: إنها رسخت فيه من الصغر. ولما كان جميع من
يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية
الحاضرة، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا، كان هذا
الكتاب موجهًا أيضًا إليهم؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية،
أو على ما يقرب من ذلك.
فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين
أيضًا، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع
الأوربي؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة، والمغلوب مولع
بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون. فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين
الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه
السلام يقول:
إن محمدًا كان أميًّا، لم يقرأ سفرًا، ولم يكتب سطرًا، وهذا القرآن العظيم
بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة، وأوجز عبارة،
لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل
علمًا من قبل، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع
إخوته في الرضاع، ثم إنه نشأ يتيمًا، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية،
واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين، ولم يكن أحد يماري في استقامته، وكانوا
لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم، فيستحيل أن يكون رجلاً
موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين،
ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها،
ويقول: إنه سمع صوتًا، ولو لم يسمع صوتًا، وشاهد ملكًا، ولو لم يشاهد ملكًا،
إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من
الدعوة لنقول: إنه كذب على الناس؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا، فكل أحد يعلم
أنه لم يكن ينشد ملكًا، ولا مالاً، ولا ثروة، ولا جاهًا. فلأي شيء يقوم بدعاية
غير صحيحة، ويضع أشياء من عند نفسه، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية، ثم
البغضاء والشنآن، ثم الاضطهاد والانتقام، ويتعرض لخطر القتل، وهو لا يريد
رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة
هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد
مبدع هذا الكون لا إله إلا هو.
قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم،
ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى، وكان من
مزاياه أنه لا يقول الشعر، ولا يخطب في الأندية، ولا يتصدى لشيء من مظاهر
الرياسة ولا الشهرة، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى
التوحيد وإلى مكارم الأخلاق، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا، ويتجشم من العذاب ما
يتجشم، ويتعرض لآلام أمر من العلقم، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له
على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها.
يقول السيد رشيد: إنه من المقرر عند علماء النفس، وعلماء الاجتماع أن من
بلغ سن الخامسة والثلاثين، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد
ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا (بضمتين) أي: جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع
بينهما، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد
العرب مثله وذلك بعد الأربعين، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء، ولا
وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل.
قلت: وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو
لم يتعمد الكذب تعمدًا، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات، ويرى
تلك الخيالات، فيظن ما سمعه وحيًا، وما رآه ملكًا، والجواب على ذلك أن هذا
الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على
نفسه، وطالما خاف [1] أن يكون به جنون، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه
لم يتعمد النبوة تعمدًا، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء، وأنه قد فاجأه الوحي
مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية
كما يقول السيد رشيد، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية
والمدنية والاجتماعية، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ.
ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد [2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه
الناس له، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة، وتكلم بعد البعثة، ولا شك أنه
كان من أفصح البشر وأبلغهم، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول؛ ولكنه
لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد، فلا كلامه الخاص
ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل، وكل من تأمل في
القرآن العظيم، وكان بصيرًا بالبلاغة، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير.
لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه، وشدة تأثيره علوًّا
كبيرًا عن جميع كلام العالمين، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا؟
فقول بعض الناس: إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه
يوحى إليه. ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام
الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها
ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام
إنسان واحد.
ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا
عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي، وكونه قولاً ثقيلاً؟ ولماذا يأبون
إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من
أمراض الجسم، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل؟ فأي استحالة في كون
بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة
عصبية يضطرب لها، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام،
وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء
الصرع، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات، والحال أن النبي عليه
السلام كان سليم الجسم، ولم يكن مريضًا، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من
أعدائه، ولا من أصحابه: إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن،
والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل، وإنما هي افتراضات مبنية على
غير أساس، وتخرصات بغير الواقع، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من
الأوربيين، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند
نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي، لم تكن لتحدث لولا ذلك، ولكن
محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا؛ إذ قد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق
الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد
كان موزونًا لا شائبة فيه، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له
مجال إلا التعنت.
وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال: إن أعداء الرسول من الإفرنج
وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية،
وتشنجات هيستيرية، وما أبعد الفرق بين حالته تلك، وحالة أولي الأمراض
العصبية في المزاج، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً، ولعله إلى
الدموي العضلي أقرب، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف
والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت، وأما صاحب تلك الحالة
الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من
القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي ... إلخ.
قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد
اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء
النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا، وإنه إنما
أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق، فهذا أمر
قد اتفقوا عليه تقريبًا؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه،
ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن،
وأنها حالة لم يكن يتعمدها، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ
بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية، وذهب آخرون أنه من قبيل
الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد، وعلى كل حال قد اجتاز
الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد، فقد لبثوا طوال
القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا، فرجعوا الآن
عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا، وإن هذا القرآن كان
ينزل عليه، وكان يعتقد هو أنه من عند الله، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه، ولكن
هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم، أو التخيل بقول الآخرين، فادِّعاء الكذب
على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية، وقد اجتيزت المرحلة الأولى
فبقيت المرحلة الثانية، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له
الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى، لا بمجرد التخيل ولا
من قبل المرض، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب
عليهم الاعتقاد بالغيب، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس؛ ولكنهم لو تأملوا
لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً، إلا
وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة
خارقة للعادة، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات
الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية، ويلجئهم الأمر في
أكثر الأحيان إلى تلمس الافتراضات المبنية على غير أساس.
إن كتاب الوحي المحمدي الذي جاء به الأستاذ السيد رشيد رضا في هذه الأيام
قد أتى عصره على قَدَر؛ لأنه زمن صار يجب فيه التعليل حتى في الأمور التي
هي معدودة إلى اليوم من البديهيات، وما دمنا نقفو الأوربيين صاعدًا، ونازلاً، ولا
مناص لنا من هذا الاقتداء، كان لابد لعلماء المسلمين من إعداد الأسلحة العقلية
اللازمة لمكافحة الشبهات التي هي من أصل أوربي، فكتاب الأستاذ وافٍ بهذا الغرض
لا يخطر في البال معنى من المعاني التي يقتنع بها القارئ بعلو مزايا الإسلام، إلا وقد
أشار إليه.
نعم قد فات هذا الكتاب موضوع جليل، ربما كان أدل على إعجاز القرآن
وعلى صحة الوحي به، وكونه من عند الله حقًّا من سائر الموضوعات، وهذا هو
ما في القرآن من الآيات المطابقة للقواعد العلمية التي انتهى إليها تحقيق الأوربيين
في هذا العصر من جهة التحولات الكونية، فمن المعلوم أن محمدًا عليه السلام
فضلاً عن أنه كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في مكة حيث لم تكن علوم، ولا
معارف، ولا جامعات، ولا مدارس، وكذلك لم يكن في المدينة، وإن قلنا: إنه كانت
علوم، ومعارف، ومدارس تقرأ فيها العلوم الكونية، وذلك في غير جزيرة العرب
كالشام أو كالإسكندرية أو كأثينة أو كرومية مثلاً؛ فإن محمدًا كان بعيدًا عن ذلك
المحيط العلمي كله، لا صلة له به، ثم إن العلوم الكونية التي كانت في ذلك العصر
لم تكن فيها هذه النظريات الحديثة كالرأي السديمي مثلاً، الذي يقتضي أن تكون
الأجرام السماوية كلها في الأصل دخانًا، ثم تتجمد كتلة واحدة، ثم ينفصل بعضها
عن بعض أجرامًا متفرقة، وإنك لتجد هذا في القرآن صريحًا {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) فلو لم يكن القرآن وحيًا، ما كان يمكن محمدًا أن ينطق بحقيقة
علمية لم تتقرر فعلاً إلا في هذا العصر، وكذلك كون مبدأ الحياة في الماء، قيل: إنه
قال به بعض فلاسفة اليونان، ولكنه لم يكن قاعدة علمية كما هي اليوم، وكذلك
كون الزوجية منبثة في الممالك الثلاث الكونية، الحيوان، والنبات، والجماد، لم
يكن ذلك معروفًا في عصر محمد عليه السلام، وإنما كانوا يعرفونه في المملكة
الحيوانية، وشيء من المملكة النباتية المشابهة للحيوانية، والحال أن القرآن جعل
هذا المبدأ عامًّا {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49) وغير ذلك من
الآيات التي جاء فيها مثل {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) ، و {مِن كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: 7) ، وكذلك حركة الأجرام الفلكية، فقد كان الفلكيون
في القديم يعتقدون بوجود سيارات وثوابت، ولم يتغير هذا الاعتقاد إلا بحسب علم
الهيئة الجديد، والحال أن في القرآن ما يدل على أنه ليس من جرم غير متحرك
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) وغير ذلك مما أحصاه المرحوم الغازي أحمد
مختار باشا نحوًا من تسعين آية فيما أتذكر، وفسره تفسيرًا علميًّا، أثبت ما فيه من
المطابقة للنظريات العلمية الحديثة، وكان مختار باشا من أفذاذ الدهر في علم الهيئة
والرياضيات والطبيعيات، فلا يقدر أحد أن ينكر ضلاعته في هذه العلوم، ولقد
أشرت على الأستاذ الحجة السيد رشيد بأن يلحق بكتابه هذا ليكون مستوفيًا جميع
شروط الإفادة خلاصة كتاب مختار باشا الغازي المسمى (سرائر القرآن) ؛ لأن
الذي يؤثر في عقول الأوربيين، وعقول النشء الجديد في الشرق من مطابقة
القرآن للنظريات العلمية الحديثة، هو أعظم مما تؤثره البراهين العقلية والأدبية
والاجتماعية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
(المنار)
كتب أمير البيان هذا التقريظ بعد قراءته لكتاب الوحي المحمدي ببضعة أشهر
وكان قد نسي - على ما يظهر - أن الموضوع الذي قال هنا: إنه قد فاتنا - لم يفتنا؛
فإننا قد أشرنا إليه في مواضع، كان آخرها ما يراه القارئ في آخر صفحة من
خاتمة الكتاب، وفيها ذكر هذه المسائل التي مثل بها، لما في القرآن من المسائل
العلمية التي في القرآن وزيادة عليها، وقد وعدنا في هذه الخاتمة، كما وعدنا في
تصدير هذه الطبعة بأننا سنعقد لها فصولاً في ملحقات الكتاب التي ستكون في الجزء
الثاني منه، مع أمثال لها في سنن الكون الاجتماعية، والأخبار الغيبية، والوصايا
الصحية.
وفات الأمير - حفظه الله تعالى - ما كنا اقترحناه عليه عندما كتب إلينا أنه
سيكتب تقريظًا للكتاب بأن يجعله استدراكًا على كلام له في كتاب (حاضر العالم
الإسلامي) النفيس مضمونه أنه لم يوجد في هذا العصر كتاب يصلح لدعوة الإفرنج
إلى الإسلام.
وأما ما ذكره في أول التقريظ من استغناء المسلمين الصادقين عن هذا الكتاب
أو كونه غير موجه إليهم؛ فغرضه خاص بصحة عقيدتهم في أصل الإسلام؛ ولكن
السواد الأعظم منهم عرضة للتشكيك بالشبهات العلمية العصرية، أو دعاة التنصير:
لأنهم أسرى التقليد، وأشرنا إلى حاجتهم إلى براهينه على إعجاز القرآن، والنبوة
في مقدمة التصدير لهذه الطبعة.
وقد وصل هذا التقريظ إلينا في 2 من ذي الحجة سنة 1352 بعد طبع ما
اخترناه من التقاريظ، فجعلناه مسك الختام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الصواب أن يقال: وربما خاف أولاً إلخ فإن الخوف على نفسه إنما عرض له صلى الله عليه وسلم في بدء الوحي.
(2) الرُّوع بالضم: الخاطر والخلد، والنفث فيه عبارة عن إلهام يلقى فيه، وهو دون وحي القرآن.(34/56)
الكاتب: حسين الهراوي
__________
كتاب الوحي المحمدي
نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن [*]
سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي
عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد، فيشيرون إلى مباحثه بين
تقريظ وانتقاد، وأخذ ورد، ويكشفون عن محاسن الكتاب، وعن المآخذ التي
يرونها فيه.
وهذه الطريقة قديمة، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين:
إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب، وإما تنفيرًا منه، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ
مظلومًا.
وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ، فليس من شأني أن أجامل
المؤلفين، أو أخدع القارئين، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي
يحدثه في نفسي ذلك المؤلف، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة.
ولعل أصوب طريق للنقد في نظري، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له
موضوعًا لتبدي رأيك، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب.
ولعلي لا أجامل إذا قلت: إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً
للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي، إن لم يكن في العالم أجمع.
فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي، وبحث علمي في المعجزات
والدعوة إلى الإسلام.
أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة
فيها نظر؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته،
ولكن المسألة ليست مسألة إثبات، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة
من المستشرقين والمبشرين، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة
بالحجة، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق، وكبله حتى تلاشت تلك
العواصف التي أثارها هذا المستشرق، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين
واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة
إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم.
ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات
التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي.
غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا
آية الإعجاز في القرآن، فأسلوب القرآن البياني، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل
هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين، إلا
أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن
القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} (فصلت: 53) فأشار إلى العلم وأنه
سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن [1] .
فالذي يقرأ مثلاً الآية {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3-4) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي،
إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع.
ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي
تحدد شخصيته، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية
وأنه تقام لها الإدارات الخاصة، وتعتمدها المحاكم، كل هذا يجعلك تدهش لسر
إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا، ويكون تفسير الآية أنه
سيجمع عظام الإنسان، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية.
هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن، وما زال محتاجًا إلى
الدراسة والتفسير؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر
ودراسة القرآن من هذه الوجهة [2] .
وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن، فلا يصير ذلك كتاب
الأستاذ رشيد؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم
والعلم للطعن في الإسلام؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ
رشيد للمقارنة بين الأديان.
أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام، وذم
التقليد، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل، تلك الفصول التي دمجها
الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث.
والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين، ولقد أتى على المسلمين
حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون
المذاهب لأغراض سياسية، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية، ولا زلنا
نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم، ويفرضون على أتباعهم زنات من
الذهب كل عام؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا
مشرفًا، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع
ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو، لا كما صوره الواهمون المغرضون،
وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم، فالناس في البلاد
الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب
الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام، وعدَّدها واحدًا واحدًا، ولكنه لم يذكر
المستشرقين في فصل خاص، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام، ولم يفرد في
كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده، وإن كان
لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] .
ونحن لا زلنا نقول: إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير
حقيقته، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق، ومهما
تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه
أحلامهم.
أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين
باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من
الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق، والإسلام الصميم الذي
لا يُستغل لمآرب دنيوية، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك
المسألة الجوهرية، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى
الأمة في عهد النور والعرفان.
والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة
للعادة موضوع بحث، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا، ولكن على أي حال لا
صلة بين هذه الأعمال وبين الدين؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان
المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن، وحتى في الأديان
التي لا زالت تعبد الأصنام، وتقدس الإنسان.
على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة (جان دارك) وكتب عنها بما وسعه
علمه الواسع؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو
سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية، وأن شاراتها كانت
تمتاز بالشعار الملكي.
والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث،
وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع.
وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن
نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين، واستنتجت
من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده، ولعل الأستاذ السيد
رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه
المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير
الإسلامي.
وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى
ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ
ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور
الكتاب، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين.
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) بقلم الدكتور حسين الهراوي بمصر، ونشر في جريدة الجامعة الإسلامية بيافا، ولم ينشر في خاتمة الطبعة الثانية لكتاب الوحي.
(1) المنار: قد بينا هذا في كتاب الوحي، واستشهدنا بهذه الآية في خاتمته.
(2) إنه ليس بكرًا فقد بُحث فيه، ولكن عجائب القرآن لا تحصى كما ورد في الحديث.
(3) إن كتاب الوحي ليس بكتاب تاريخ، فلذلك اكتفينا في هذه المسألة بالتلميح.(34/64)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(6)
(إعلان استقلال سورية)
كان جل اشتغالنا في دمشق وأهمه في الأسبوع الأول من جمادى الآخرة، أو
الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) سنة 1920 محصورًا في الاستعداد لإعلان
استقلال سورية المتحدة، فلم يدر بيني وبين فيصل أحاديث خاصة في غير هذا،
فأكتبها بعد إرسال وفده إلى مصر فالحجاز.
ولقد كنت على ما أعلم أول من اقترح على الإخوان في دمشق، ثم على
المرحوم يوسف بك العظمة في بيروت أن تعلن سورية استقلالها التام المطلق،
وتجعل دول الحلفاء معها أمام أمر واقع - كما يقال - ولما عاد الأمير فيصل من
أوربة ليقيم أسبوعًا واحدًا يأخذ فيه تفويض البلاد إياه أو توكيلها له في المسألة
السورية، وأبى عليه الزعماء وجمهور الإخوان هذا التوكيل رأوا أن خير ما يشغله
أو يصرفه عن العودة إلى أوربة للاتفاق مع فرنسة وإنكلترة على شكل الانتداب الذي
رضيه أن يقنعوه بإعلان الاستقلال، ونصبه ملكًا على البلاد، فاقتنع ظانًّا أن ما
يرون أنه هو الصارف له عن ذلك هو أقوى ما يمكنه منه، وهو يرى أنه لا مندوحة
عنه.
وكان أول عمل لحزب الاستقلال بالاتفاق مع الأمير دعوة أعضاء المؤتمر
العام إلى دمشق، ثم وضع الأساس الذي يبنى عليه الاستقلال، فعقدوا لهذا جلسات
في دار علي رضا باشا الركابي، ودار رفيق بك التميمي وغيرها كنت أحضرها
إلى أن قرروا بموافقة الأمير أن أذهب إلى بيروت لإقناع زعمائها، والمجيء بهم
إلى دمشق؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن إجابة الدعوة، فسافرت إلى بيروت في أول
مارس، ولم أتمكن من جمع كلمتهم المتفرقة إلا في مدة أسبوع كامل، كانت آخر
ليلة منه آخر جلسة لنا معهم في دار الاعتماد التي يشغلها باسم حكومة الشام يوسف
بك العظمة، وقد كتبت عنها في مذكرتي ما يلي:
يوم الأحد 7 مارس (16 جمادى الآخرة)
اجتمع مندوبو بيروت البارحة بدار الاعتماد، وتذاكروا في مسألة السفر
فاختلفوا، وكان رأي الأكثرين عدم السفر حتى يجيء من الشام نبأ رسمي بتحديد
جلسة المؤتمر المنتظرة، ورأي أبي علي سلام السفر، فوافقته، وأصررنا فاقتنعوا
وسافرنا صباح اليوم.
وصلنا إلى الشام الساعة 4 و35 ق مساء، فوجدنا المؤتمر مجتمعًا، فصليت
الظهر والعصر جمع تأخير، وحضرت الجلسة فوجدت البحث دائرًا على خطاب
المؤتمر إلى الأمير فيصل، فطلبت أن يقرأ علينا كتابه إلى المؤتمر - وكان قد
قرئ - فأعيدت قراءته، واقترحت شيئًا من التعديل والإصلاح في جواب المؤتمر
له فقبل.
ثم قرئ في الجلسة قرار المؤتمر (ونوقش فيه) وعُهِدَ إليّ أخيرًا تصحيح
عبارته. اهـ ما كتبته بعد الجلسة من تلك الليلة لأجل الذكرى، وهذا القرار حُرر
في أثناء غيبتي في بيروت بعد تلك الجلسات التي عُقِدَت للبحث في موضوعه،
وأشرت إليها آنفًا.
وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص
في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض
المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة
إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه
الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم
منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن
لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها
عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء
باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك.
وإنني بهذه المناسبة أذكر ما كتبته في مذكرتي عن الجلسات الأخيرة التي
حضرتها قبل سفري إلى بيروت، لما فيها من تفصيل هذه المسألة، والعبرة بل
العبر الكثيرة فيما يسمونه الحالة الروحية في ذلك المؤتمر، بل في سورية كلها،
وهذا نصها:
(يوم السبت 8 جمادى الآخرة 28 فبراير)
دعاني الإخوان إلى جلسة بدار رفيق التميمي للمذاكرة فيما يبنى عليه إعلان
الاستقلال فقرأ عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر شيئًا كتبه في معنى ما كنا بيناه في
جلسة عند توفيق بك الناطور؛ ولكنه ترك فيها أهم ما اقترحته عليهم في تلك
الجلسة، وهو بناء التقرير على قاعدة كون الاستقلال السياسي حقًّا طبيعيًّا للشعوب،
كما أن الحرية الشخصية حق طبيعي للأفراد، وقاعدة قيام العرب من السوريين
وغيرهم بثورة على حكومتهم التركية ونجاحهم فيها، وذكر النص المؤيد لذلك من
القانون الدولي، وقاعدة اعتراف مؤتمر الصلح العام لبلادنا بالاستقلال، وإيداعه في
المادة 22 من عهد عصبة الأمم ... إلخ، نعم إنه ذكر فيما كتبه اسم الثورة، ولكن
بغير هذه الصورة والقوة، فقال رفيق التميمي: إن هذه الصورة حسنة؛ ولكنها تشبه
المقالة. (قلت: المراد الموضوع لا الأسلوب)
وسألت عوني بك عبد الهادي عما كلفته إياه وأمره الأمير به بناء على اقتراحي
من استخراج الشهادات الرسمية (من قبل الدولة البريطانية) للجيش العربي، فإذا
هو لم يأت إلا بعبارة اللورد كرزون منها.
يوم الأحد 9 جمادى الآخرة 29 فبراير (شباط)
اجتمعنا البارحة بالإخوان في دار الركابي باشا، وتناقشنا في عدة مسائل مما
يتعلق بقرار إعلان الاستقلال، وتأليف حكومة جديدة ملكها فيصل، ودينها الإسلام،
منها مسألة العلم السوري، ومن يعلن الاستقلال؟ الأمير أم المؤتمر؟ وغير ذلك
مما سبق البحث في جلستين سابقتين، وكان ترجح أن يكون لسورية علم مستقل
غير علم الحجاز المرفوع الآن في الشام وملحقاتها، وتقرر هذا ولكن لم يتقرر شكل
العلم، ثم إن بعضهم قال في هذه الجلسة: إن الأمير فيصلاً لم يقل ذلك بحال،
وقال: إنه يسوء والده الملك جدًّا؛ ولكنه يقبل أن يوضع في العلم الحجازي علامة
إجبارية كصورة نجم في المثلث الأحمر، أو في غيره، واختلف الرأي في تبديله،
أو إبقائه مع علامة فيه. فتقرر الثاني بأغلبية ضعيفة هي واحد أو اثنين. اهـ.
(يوم الإثنين أول مارس قبل سفري إلى بيروت)
اجتمعنا بالإخوان ليلة الإثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في
المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضًا، وكان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون
للحكومة (شيخ إسلام) أو وزير للأمور الشرعية أم لا؟ وعلى الأول؛ هل يكون من
أعضاء مجلس الوكلاء أو الوزراء أم لا؟ فقال بعضهم بالسلب (أي: لا حاجة إلى
وزير ديني أو إسلامي) ! وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم
الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني بيان رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه:
(1) مكان العرب من الإسلام، وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم
ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين.
(2) كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا لا يمكننا الاستفادة منه
إلا إذا كان لحكومتنا صفة إسلامية.
(3) ما استفاده الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم
الإسلام من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار عليهم، وانتصارهم لهم إلى
الآن، وكون هذا من أسباب بقاء ملكهم على اختلاله إلى اليوم [*] .
(4) كون العرب في الجزيرة لا يمكن جمع كلمتهم، وتكوين وحدتهم إلا
بدعوة دينية - كما حققه ابن خلدون من قبل - ولا يمكن لسورية أن تبقى مملكة
مستقلة، إلا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها.
(5) كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام اعتقادًا
وإيمانًا، فإذا جعلنا حكومة سورية مجردة من الصفة الإسلامية يوشك أن يقلبوها
بدعوة دينية في أول فرصة.
(6) ما تقرر في علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحًا
للأمة، إلا إذا كان مراعى فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها، وعلى هذا يجب أن
تكون الشريعة هي المستمد الأعظم للقوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين
حكومتنا بالإسلام، وعدها أئمة الفقه كعلماء القوانين، فإذن لا بد لنا من وزير
شرعي، ومن رجال آخرين من علماء الشرع لهذه الحكومة.
(7) كون شريعتنا صالحة لهذه الزمان كغيره، وليس فيها ما ينافي المدنية
إذا لم تتقيد بمذهب الحنفية أو غيره، وذكرت أمثلة في ذلك وقواعد شرعية،
فاعتمدوا رأيي وقرروه. اهـ.
هذا ما كتبته من خلاصة تلك الجلسة الطويلة في ذلك الوقت القصير، وقت
السفر، ولكن ما تقرر بعد سفري لم يُبن عليه، ولم يمنع أن يقترح بعضهم أن
يكتب في نص قرار الاستقلال جعل الحكومة السورية لا دينية.
وقد ظهر بعد ذلك من العبر في المؤتمر نفسه ما قد نبينه عند سنوح الفرصة
له، وأغربه ما نجم من رؤوس الإلحاد والإباحة في أثناء المناقشة في القانون
الأساسي للدولة السورية.
هذا وإن ما كان من الجلسات الخاصة بيني وبين الملك فيصل بعد إعلان
الاستقلال قد انحصر في صباح يومي الجمعة والأحد؛ إذ لا تُعْقَد فيهما جلسات
المؤتمر، وقد نفذ ما كنا قررناه من إرسال وفد إلى ابن السعود بكتاب منه، وكتاب
مني، ثم تجددت أمور اختلف فيها رأيي مع رأيه، وسألخص ما أراه مفيدًا من ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) هذه المسألة يمكن كغيرها بسطها بمقال طويل يفند فيه خطأ متأخري الترك الذين ألغوا منصب الخلافة تقربًا إلى أوربة، وزعمهم أن الإسلام وخلافته لم تفدهم بل أضرتهم، وأن الحجة البالغة على هذا عدم ثورة العالم الإسلامي على الخلفاء في الحرب الأخيرة، فهذا جهل طالما بيناه في المنار ويمكن الزيادة فيه.(34/68)
الكاتب: عن جريدة المقطم
__________
حركة النازي اللادينية
وشجاعة الفاتيكان وصراحته
منقولة عن المقطم
الذي صدر بتاريخ 21 ذي القعدة سنة 1352 - 7 مارس 1934
لما شجر الخلاف في الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا، وكثر التحدث عندهم
بالكنيسة الألمانية الرسمية، أو النازية، وبالطائفة التي تُسمي نفسها بالألمانيين
المسيحيين، لم يدر الناس في الشرق كثيرًا ولا قليلاً عن هذا الخلاف في الكنيسة
البروتستانتية الألمانية، وظنوه خلافًا وطنيًّا عارضًا لا يلبث أن يسوى بينهم، وأنه
لا يمس جوهر المسيحية بشيء.
ولكننا ما لبثنا أن سمعنا باشتداد الخلاف، وبأنه خلاف على جوهر حتى
ذهبت الأكثرية المعارضة إلى مدى القول أن النازي يريدون أن يمزجوا جوهر
المسيحية بشوائب الوثنية. ولم نفهم المراد بالوثنية حتى أفهمنا إياه النازي أنفسهم؛ إذ
وكلوا إلى اثنين من أساطين كُتابهم - فيما يظهر - فكتبوا كتابين في جوهر هذا
التغيير الذي يُقَرِّب المسيحية من الوثنية، وأحد هذين الكاتبين اسمه روزنبرج،
واسم كتابه (خرافة القرن العشرين)
ونحن لم نر الكتاب، ولكن نقلت إلينا الأنباء نبذًا منه، وقيل لنا: إن النازي
سيتخذون هذين الكتابين قانونًا لإيمانهم الجديد، ينشرونه فيما بينهم ويُحَفِّظونه
أولادهم في المدارس، ويعلقون آياته على أبواب عملهم، وفي منازلهم، ويعصبون
بها رؤوسهم لو كانوا يلبسون عصابات.
وفي تلك النبذ التي قرأناها ما فهمنا منه أن النازي ينكرون المسيح قاعدة
المسيحية، ويحسبونه معلمًا دينيًّا إن كان إنجيله ملائمًا لعصره، فهو لا يلائم هذا
العصر؛ ذلك لأنه بَشَّر في ذلك الزمان بالسلام، والسلام لا يلائم فطرة الخلق، وقد
جرب كل التجارب في مدة ألفي السنة التي مرت، فما احتمل تلك التجارب؛ لأن
الناس المسالمين الودعاء لا يرضى الواحد منهم إذا لُطم على خده أن يحول الآخر
لضاربه، وإذا سئل ثوبه أن يعطي رداءه فوقه، وإذا سُخِّرَ ميلاً أن يمشي مع
مُسَخِّرِه ميلين.
لا يرضى الرجل الوديع المسالم ذلك، فما بالك بالألماني الشديد المراس في
معاملة الغريب السلس القياد في أيدي حكامه مهما يكن مبلغ استبدادهم به، وبنظام
الحكم والدستور والبرلمان في بلاده.
ألا ترى أن الألماني لا يغفر لأجنبي أقل هفوة يهفوها، ويعدها إيذاء لشعوره
القومي، وهو قد اغتفر للنازي حل البرلمان، وإلغاء الدستور، وإنشاء دكتاتورية
مطلقة، وليس الفرنسوي ولا الإنكليزي مثل ذلك؛ إذ لا يتصور أحد من الذين
يعرفون أخلاقهما وتربتيهما الدستورية أنهما يرضيان بانقلاب دستوري مثل الذي
رضيه الألماني.
إن الذين قالوا: إن النازي يريدون مزج المسيحية بالوثنية. قالوا شيئًا كثيرًا؛
فإن إنكار قاعدة المسيحية يعيد القوم إلى العصور السابقة لانتحالهم المسيحية، وقد
كانوا فيها يعبدون - مثلما كان العرب يعبدون في عصور الجاهلية - اللات والعزى
ومناة الأولى، فلينعموا بأصنامهم وأوثانهم.
وهذا الحنين إلى عهود الوثنية يبعد النازي عن أديان التوحيد الثلاثة، وهو
شذوذ لهم يختلف عن شذوذ إمبراطور ألمانيا السابق، فقد كان يعتقد أن الشعب
الألماني شعب الله الخاص، وأنه هو ملك هذا الشعب المختار بحق إلهي، ولعل
هذه الفكرة ورثها النازي عنه، وهي التي تجعلهم ينقمون من اليهود ما ينقمون.
وكاتب هذه السطور ليس كاثوليكيًّا؛ ولكنه يرى من العدل والإنصاف ألا
يترك هذه العجالة من غير أن ينوه بفضل الفاتيكان ويده على المسيحية في رد هذا
الكيد لها، فقد أبدى في هذا الحادث ما اشتهر عنه من الغيرة والسهر على الوزنات
الخمس التي عهد إليه فيها، فكان بينه وبين النازي مفاوضات على عقد
(كونكرداتو) يتقرر به موقف الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فلما درى بحركة
النازي هذه، والتي هي في جوهرها لا دينية قطع المفاوضة، ولم يمنعه من ذلك
كون رئيس الوزراء ووكيلها كاثوليكيين؛ لأنه إن كان لا حياء في الدين، فهنا موضع
إبداء الشجاعة والجرأة، وعدم الحياء في المجاهرة بالضمير، وإن كانت المجادلة
والمداورة والمناورة تصلح أساسًا للسياسة؛ فإنها لا تصلح أساسًا للديانة، وكل من
يبني عليها فهو (يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فنزل المطر، وجاءت
الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت؛ فسقط وكان سقوطه عظيمًا)
وعندنا أن هذه الحركة النازية شقيقة البلشفية من الوجهة الدينية، وأنه إن
كانت ألمانيا قد سلمت من البلشفية السياسية، لم تَسْلَم من البلشفية الدينية، والفرق
بين البلاشفة والنازي، أن الأولين صريحون في مروقهم من الدين، وأن الثانين
يعملون من وراء ستار.
ومما يدل على أن النازي يريدون أن ينفوا عن الأذهان فكرة الله والألوهية
قولهم في القسم الذي أقسموه لزعيمهم منذ أيام: (أقسم لأدولف هتلر وللحق الأبدي)
فما هو هذا الحق الأبدي؟
وجاء في التلغرافات التي نشرت في الأسبوع الماضي أن قداسة البابا خطب
في جمع من كبار رجال الدين أمس بمناسبة العزم على تطويب ثلاثة من القديسين
فحمل على (العقائد الوثنية) الحديثة في ألمانيا، وقال: (إن حياة أولئك القديسين
كانت مثالاً باهرًا من المحبة المسيحية، وإنذارًا من مثل الحركة التي تريد العالم
على العود إلى الوثنية، والشعب الألماني النبيل هو الآن في مأزق من تاريخه،
والآراء والأعمال السائدة بينه ليست مسيحية ولا إنسانية، فإن الزهو القومي لا
ينتج إلا زهوًا بالحياة، وهو بعيد عن روح المسيحية والإنسانية معًا) .
... ... ... ... ... ... ... ... (ن. ش)
__________(34/73)
الكاتب: عن مجلة الطان الفرنسية
__________
المعارك الدينية في ألمانيا
بين طوائف البروتستانت
ترجمة كوكب الشرق عن الطان الفرنسية في 12 إبريل سنة 1934
لا تزال المعارك الدينية تزداد خطورة بين الطوائف التابعة للكنيسة الإنجيلية
في ألمانية.
وقد اجتمع السينودس الإنجيلي الحر، وهو مؤلف من رجال الدين، ومن
التابعين قبلاً لثلاثين سنودس من ثلاثة وثلاثين سنودسيًّا، أعني من المصلحين
واللوثريين وأعضاء الكنيسة المتحدة، وهم من اللوثريين والمصلحين الذين انضموا
معًا في عهد حكم فردريك الأول، ووافق السنودس المشار إليه على إصدار منشور
جاء فيه ما يلي:
إن الأسباب التي أحدثت الاضطراب الشديد في الكنيسة الإنجيلية الألمانية
ترجع إلى الحملات التي أثيرت ضد معتقدات هذه الكنيسة، ويقع القائمون بالأمر
فيها في أغلاط تنافي ما جاء في الإنجيل المقدس.
ولم تعد لمجالس القساوسة ورجال الدين والسنودس الوطني سلطة روحية منذ
انتخابها في صيف 1933، والروح التي تسيطر على هذه الهيئات الدينية وإرادتها
هي روح التدمير والهدم، حتى إن الأوامر التي صدرت في 4 يناير و 26 يناير
و3 فبراير سنة 1934 هي أوامر لا تتفق والعدالة ودستور رجال الدين.
ونحن نهيب إذًا بإخواننا وزملائنا من القساوسة ألا ينفذوا هذه الأوامر، ولا
يعملوا بها؛ لأنها ضد تعاليم الإنجيل المقدس، ونهيب بأبنائنا التابعين لنا
وبقساوستهم الذين عُزلوا من مناصبهم ظلمًا وعدوانًا ألا يأبهوا لهذه الأوامر، وأن
يحتفظوا بقساوستهم؛ لأن عصيان حكومة دينية تحكم بما يخالف كلام الله سبحانه
وتعالى يعد طاعة له جل جلاله.
وإذا علمنا أن الطاعة من القواعد الأساسية التي تتمسك بها الكنيسة البروسية
أدركنا أن هذه العبارات التي جاءت في المنشور هي عبارات تدل على الثورة
والعصيان والتمرد، ويُحْتَمَل أن الذين كتبوها يعتقدون بأنهم لا يشتغلون بالأمور
السياسية، ولا دخل لهم فيها، ولكن من المحال أن الحكومة الحالية في ألمانيا لا
تتهمهم بالوقوع في الخطأ، وتقف مكتوفة اليدين فلا تعمل بشدة ضد هذا القرار.
وقد وافق السنودس الحر على هذا المنشور، وكان مؤلفًا من 320 قسيسًا من
المصلحين ينتمون إلى 127 أبروشية، ووافق اتحاد كنائس المصلحين في ألمانيا
بإجماع الآراء على هذا المنشور في 5 يناير سنة 1934، وصرح الاتحاد في
الوقت ذاته بأن الذين ينضمون إلى جماعة المسيحيين الألمانيين يعدون خارجين
على اتحاد كنائس المصلحين وغير تابعين له.
وفي 21 فبراير أنشأت الحكومة مكتبًا لرجال الدين للنظر في الشئون
الخارجية، وعينت الأسقف تيودور هيكل لإدارته، ومن أعمال هذا المكتب توثيق
العلاقات مع البروتستانت في البلاد الأجنبية، ومع الكنائس التي تصادقهم، وكذلك
توثيق العلاقات بين كنيسة بلاد الريخ، ودعاة الحركة المسكونية.
ومما لا ريب فيه أن جميع هاته القرارات كانت سببًا للنزاع الذي قَسَم الكنيسة
الإنجيلية في ألمانيا على نفسها، وجعلها شطرين.
ولم تمض ستة أيام على إصدار ذلك المنشور الذي أشرنا إليه حتى فاه الأسقف
هيكل بتصريح قال فيه: (إن منشور السنودس الحر عمل رجعي لا يتفق مع مبادئ
حكومة الرخ الثالثة، بل ينافي النظام ويتحدى سلطة الكنيسة الألمانية، وإن
المسيحيين الألمانيين لم ينفصلوا عن اتحاد الكنائس في ألمانيا، إلا لموقفه ضد
المذهب الوطني الاشتراكي لا لاختلاف في العقائد، ولا يغرب عن الأذهان أن
القساوسة ورجال الدين قد أكدوا ولاءهم وإخلاصهم للحكومة الحالية، وأنهم لا دخل
لهم في الشئون السياسية، فكان منشورهم هذا الذي أصدروه موضع دهشة في
الدوائر الدينية) .
وفي أول مارس الماضي عين أسقف حكومة الرخ رجال دين لم يشتركوا في
المعارك الدينية الأخيرة، وفي 2 مارس تجددت الوسائل التي تقرر اتخاذها ضد
عمل البروتستانت، وإغرائهم الشبيبة الألمانية، فازدادت الحالة خطورة.
فانضمت إدارة كنيسة بروسيا وهي التي تعد أكبر إدارة كنسية في ألمانيا؛ إذ
يتبعها 18 مليونًا من الأنفس إلى كنيسة الرخ، وفي 25 يناير استدعى المستشار
هتلر، يعاونه الهر جويرنج، والهر فريك وزير الداخلية مندوبي الكنائس، وبعد
اجتماع المستشار بهم صدر تصريح بعد يومين جاء فيه أن جميع زعماء الكنيسة قد
تضمنوا وانضموا إلى الأسقف ملر ووعدوه بتأييد سلطته.
وفي 2 فبراير صرحت لجنة اتحاد المصلحين بأن التصريح الذي نشره
رؤساء الكنيسة بتضامنهم وانضمامهم إلى الأسقف ملر، ووعدهم بتأييد سلطته
يناقض ذلك التصريح الذي أذاعوه من قبل، وأرسلت اللجنة إلى زعماء الكنيسة
رسالة في 31 يناير قالت فيها:
(لقد اشتد تأثرنا، وحارت عقولنا في ذلك التصريح الذي أقدمتم على إذاعته
ولا يسعنا غير القول إنه يناقض أقوال الإنجيل المقدس، ولا يتفق مع تعاليم
الكنيسة) .
وبعد شهور قدم أسقف هامبورج استقالته من منصبه، واقتفى أثره جميع
رجال الدين في كنيسة هامبورج، وفازت حكومة الرخ ببغيتها وأصدر الأسقف ملر
أوامر بتعيين قساوسة آخرين، وعزل الذين لم يريدوا الخضوع له دون محاكمة أو
سؤال، وألغى استقلال كنيسة بروسيا وجعلها تابعة لكنيسة الرخ، وعدل دستور
الكنائس المتحدة , وأبطل حق السنودس العام في التشريع، وسن القوانين لمجامع
السنودس الفرعية في الأقاليم، وقد أصبحت حكومة الرخ قابضة على ناصية الحالة
الآن، أما المستقل ففي يد الله وحده) اهـ
(المنار) نشرنا هذه المقالة وما قبلها لأجل الرجوع إليها من أطوار هذا
الانقلاب الديني في هذا الشعب الجرماني، الذي هو أرقى شعوب أوربة، بل العالم
البشري كله في جميع العلوم الكونية وفنون الحضارة، فحكومته تحاول التفلت
والتفصي من هذه الديانة الملفقة المخالفة حقائق العلوم، وبدائه العقول على إحكام
عقلها، وشدة قيودها، ونظم كنائسها، وسعة ثروتها، وعصبية أساقفتها وقسوسها،
ونفوذهم المعنوي في الشعب، ولكن نفوذ حكومته النازية الجديدة أقوى وأعظم،
وقد سبقه مصطفى كمال فأطلق حكومته التركية دون الشعب من قيود الإسلام في
مرحلتين أو ثلاث، ولم يلق معارضة شديدة، والترك أعرق في التدين من الألمان؛
ولكنه ليس لهم نظام ديني إلا عند الخرافيين من رجال طرق المولوية وأمثالهم،
وسبقهما الشيوعيون فهدموا جميع الأديان من روسية كلها حكومتها وشعوبها.
__________(34/76)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نتيجة حرب الجزيرة
وما تجب مراعاته في الصلح
لقد تجلت نتيجة الحرب بسرعة لم يكن أحد ينتظرها، على اختلاف الآراء
فيها فقد انهزمت الجيوش اليمانية أمام الجيش النجدي السعودي في كل من الميدانين
الذي يقوده فيهما نجلا الملك: الأمير سعود ولي العهد في جهة نجران التي احتلها
كلها، والأمير فيصل في تهامة فاحتل الحُدَيْدَة وما حولها، ودان له بقية أهلها،
وأمسى الأميران يهددان عاصمة اليمن (صنعاء) من طرفيها.
ثبت عندنا في هذه الحرب أمور متعارضة، أظهرها أن ضلع الرأي العام
الإسلامي العام مع الملك السعودي، وأنه لم تبث له دعاية رسمية، ولا غير رسمية
لا بتكبير قوته، ولا بإطراء فوزه، ولا بالدفاع عنه؛ ولكن أحد محرري الصحف
زعم أن حكومته هي التي أتقنت هذه الدعاية بجميع وسائلها دون خصمه، وما زال
يكرر هذا حتى صدقه غيره وهو لم يصدق نفسه، وصار من القضايا المسلمات.
وأما الإمام يحيى فقد بثت له دعاية واسعة بدون سعيه، منها أن قوته الحربية
أعظم عددًا وعدة، وبأسًا ونظامًا، وقوادًا ومالاً، وأن قبائل الحجاز وقبائل شمر في
نجد والعراق وقبائل شرق الأردن ستثور على خصمه الملك ابن سعود بله قبائل
عسير الثائرة بالفعل، حتى إذا ما دارت المعارك، وانهزم الجيش اليماني في كل
ميدان صاروا يكذبون أنباءها، ويعدونها من الدعاية التي صارت مسلمة عندهم
وعند غيرهم، وما زالوا بالإمام على جلالة قدره حتى أنزلوه إلى ميدان تكذيب
الحسيات المجمع عليها، وأخيرًا فسروها بما فسرها هو به، وهو حب السلم
وكراهة الحرب، فإذا سلمنا هذا وجب أن يبنى عليه الصلح الدائم، فتجعل قوة
الدفاع عن الجزيرة إلى المملكة السعودية القوية الحربية، فهل يقبل الاعتراف بهذه
النتيجة لتلك المقدمات المنطقية؟
حقًّا إن الإمام يحيى قد جنح للسلم، وإنه قد آن له أن يقبل ما طالما دعي إليه
من إبرام العهد، وإن أدنى الدرجات لذلك ألا يعقد الصلح على دخن، ولا تتخذ
المعاهدة دخلاً بين الفريقين، فتكون هدنة يستعد بها كل منهما لإعادة الكرة والأخذ
بالثأر، في وقت ربما تكون الحرب وبالاً عليهما وعلى الأمة كلها، بل يجب
استئصال جذور العداوة من أعماقها، ويجب أن يتدبر وفد الصلح الآيات الآتية،
ويقيموا بناء الصلح وحصن المعاهدة على أساسها.
وهي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى
مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا
صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91-94)
بل أصرح بأن شر ما تنتهي به هذه الحرب أن يكون كل من الفريقين كفؤًا
للآخر، قادرًا على استئنافها عند سنوح الفرصة، ففي هذه الحالة تجعل الدسائس
الأجنبية كلاًّ منهما خصمًا للآخر تهدده بإمداده وتأليبه بالمساعدة عليه عند الحاجة،
وإن من شرار المسلمين لَمَنْ هم شر من الأجانب، وقد كان كل البلاء في هذه الفتنة
منهم، فكل من أظهر الميل والانتصار للإمام يحيى فيها سرًّا أو جهرًا كان شرًّا له
من كل من ظن أنهم عدو له، ولم يكن أحد منهم مخلصًا له، وإنما كانوا يتبعون
أهواءهم.
وأما الدرجة العليا للملة الإسلامية والأمة العربية، فهي أن تكون لجزيرة
العرب حكومة واحدة، بل للأمة العربية كلها إذا أمكن، فهذه سياسة الشرع
ومقتضى العقل وتجارب الأمم، فإن لم يمكن خضوعها أو إخضاعها لحكومة واحدة
من غير فتنة ترجح فيها المفسدة على المصلحة، فالواجب أن يكون التعدد في
الصورة والشكل مع الوحدة في السياسة والقصد، كالمعروف في الوحدات الغربية
كلها، وسويسرة والولايات المتحدة في شمال أمريكة.
وأما اختلاف الحكومات في تكافؤ القوى، ومحاولة منع العدوان بينها
بالتوازن، فهو مثار كل شقاق وشقاء كما نراه في دول أوربة، فعسى أن يوفق وفد
الصلح بين الإمامين لسد ذرائع الفساد، وإحكام بناء الصلاح والاتحاد، هداهم الله
سبيل الرشاد.
__________(34/79)
صفر - 1353هـ
يونيه - 1934م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة في طبع مصحف شريف بالرسم العرفي والترقيم الحديث
(س4) من صاحب الإمضاء في الزقازيق
حضرة صاحب الفضيلة صاحب مجلة المنار الغراء، الأمل إفادتنا عن رأيكم
فيما يأتي: هل هناك مانع شرعًا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية:
(1) أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف، وفروعه، وجميع
معاهد العلم بالديار المصرية، وبغيرها من البلاد العربية، وغير العربية.
(2) أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات، بدلاً من وضعها فوق
الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته،
وكثير ما هم.
(3) أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد بمعرفة
لجنة من كبار العلماء، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من
عامة الناس وخاصتهم، ومنعهم من الخطأ في التلاوة بسبب تعقيد الكتابة طبقًا
لقواعد مضى عليها كثير القرون، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال
ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم، وذلك تنفيذًا
لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) .
هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة.
ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة، ولكم الشكر من المخلص.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود عفيفي
... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بالزقازيق
(ج) من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف
الشريف (أي: رسمه) سماعي توقيفي يجب فيه اتباع الكِتبة الأولى (بالكسر: أي
هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم، ونشروها بالمصاحف
الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ولهذا الاتباع فوائد ودلائل
مبسوطة في محلها، أولها: أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته
ولهجاته ورسم خطه، وإنه بهذا كله حُفِظَ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان
حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم، ودوّن عددها في الكتب، ومن فروع ذلك أن
لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابًا تتعلق بقراءته، ويدخل في هذا ترك
نقطه، وشرح ذلك كله يطول.
وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية والحفظ
من الألواح التي يكتبونها، ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ليكتبوا غيره فيها، ثم رأوا
أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ؛ فاستحدثوا
النقط لمنع ذلك، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط، ثم وضعوا
علامات الوقف للحاجة إليها، وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطًا بالفهم،
وما كل قارئ يفهم، وجعلوا لهذه العلامات أشكالاً بحسب درجاتها، ثم وضعوا
لضبط التلاوة وتجويدها فنًّا، وللوقف والابتداء فنًّا، أفردوا كلاًّ منهما بالتدوين،
وجروا عليهما في التلقين، وفي كتابة المصاحف، فالغرض من كل هذه
المستحدثات ضبط تلاوة القرآن، واتقاء الخطأ فيها.
ولكن لا يزال فيه كلم كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة
حروف ونقص أخرى، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد
وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين، فكثر الخطأ في القراءة، وفي الوقف
والابتداء، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف
وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة إلى التلقين، فاستغني بها عن علامات
الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم
فهم الجمهور لها، ولاستغناء الحفاظ عنها؛ ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون
بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي، فإنني أستنكر وضعها في المصاحف أشد
الاستنكار.
ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بتفسير
المنار على التزام رسم المصحف الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع
علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء تفسيرها بالرسم العرفي الذي
يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها، وأخالف الطريقة المتبعة في
وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة، فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما
كانت ألفًا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في
بنائه للمعلوم والمجهول.
فعُلم بهذا أنني لا أرى مانعًا شرعًا يمنع مما سأل عنه السائل، بل أرى أنه
واجب؛ ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن، فإن الخط والطبع
صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداءً صحيحًا، وتصحيح أداء القرآن واجب شرعًا،
وتحريفه بالنطق محرم شرعًا، وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم
على كتابة القرآن بالرسم العرفي، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه
به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين لكثرة المصاحف فيه،
بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها
الجمهور منذ قرون لم أقف على تاريخها، وهذا ليس بحجة؛ وإنما الحجة وجوب
صيانة القرآن من الخطأ في قراءته، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر
الجمع بينهما، ولا تعذر.
وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة، مناسب لحاجة العصر
فهو واجب لا معارض له، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي
المصحف، وهو تفسير دقيق وجيز وُضِع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر
التفاسير، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخلٍ قلما يستفيد منه الدهماء، وقد
تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات الفنية والعلمية في تفسير المنار، ولكنه
مطول، وقد كثر اقتراح الناس عليَّ أن أختصره أو أكتب تفسيرًا مختصرًا،
فشرعت وعلى الله توكلت.
***
أسئلة في أهل السنة
(س5-8) من صاحب الإمضاء من علماء الشيعة في جبل عامل (سورية)
حضرة الأستاذ العلامة الجليل السيد رشيد رضا وفقه الله لما يرضيه آمين.
سلام عليك ورحمة الله وبركاته، إنني أرجو من واسع فضلك، وزخار علمك
أن تذكر لنا في مجلتك الغراء رأيك في الجواب عن هذه المسائل مع ذكر الدليل.
1- ما تعريف الحديث الصحيح الذي تثبت به الحجة، وينقطع العذر عند
علماء السنة؟
2- ما تعريف الصحابي؟
3- هل الصحابة كلهم عدول أم لا؟
4- ما العدالة عند علماء السنة؟
وبالختام أسأل الله سبحانه لك حسن الختام، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب الكلمات
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحسين نور الدين
(جواب المنار)
(5) الحديث الصحيح:
الحديث الصحيح عندهم ما كان متصل الإسناد من أوله إلى آخره بنقل العدل
الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة.
(6) العدالة في الرواية والشهادة:
العدالة مَلَكَة تحمل صاحبها على التقوى بأداء الواجبات، واجتناب كبائر
المعاصي، وصغائر الخسة، وزاد بعضهم الرذائل المخلة بالمروءة.
(7) الصحابي في عرف المحدثين:
الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، واشترط بعضهم
طول الاجتماع به، والرواية عنه، وبعضهم أحدهما، وقال بعضهم: هم كغيرهم من
الناس.
(8) عدالة الصحابة عندهم:
أكثر أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وقال بعضهم:
إنما كانت العدالة عامة قبل حدوث الفتن من قتل عثمان رضي الله عنه وما بعده،
واستثنى بعضهم من قاتل عليًّا كرم الله وجهه.
والذي أراه أن القول بعدالة جميع الصحابة على اصطلاح من لا يشترط في
الصحبة طول العشرة، وتلقي العلم والتربية النبوية إفراط يقابله في الطرف المقابل
له تفريط الشيعة في تعديل نفر قليل منهم ولا سيما السائل، وطعنه على السواد
الأعظم من جماعة نزل فيهم قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل
عمران: 110) الآية، وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة:
100) وغير ذلك من الآيات، وورد من الأحاديث النبوية في تعديلهم والثناء
عليهم، والنهي عن سبهم، وحظر بعضهم ما لا محل لذكر شيء منه في هذا
الجواب الوجيز
ثم كان من سيرتهم المتواترة في نشر الإسلام في العالم، وإصلاح البشر به ما
هو أكبر حجة علمية تاريخية على تفضيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على
جميع أصحاب الأنبياء والمرسلين، وتفضيل أمته على جميع الأمم، وهذا لا يمنع
ارتكاب أفراد منهم لبعض الكبائر أو الإصرار على بعض الصغائر، الذي يسلب
صاحبه وصف العدالة، ولا يقول منصف أن مثل بشر بن أرطاة الذي رأى النبي
طفلاً عدل أو مجتهد متأول فيما فعله من استباحة دماء من كانوا خيرًا منه، وهذا لا
يبيح هتك حرمة أولئك الأخيار في جملتهم، كما فعل الأستاذ السائل في كتابه
الكلمات الذي يُعَرِّف به نفسه حتى في إمضائه، والظاهر أنه يريد فتح باب هذه
الفتنة بهذه الأسئلة الآن، كما طرقه منذ سنتين باقتراح المناظرة التي لم ينسها قراء
المنار، وأنه بناها على زعمه أن كلاًّ من أهل السنة والشيعة يعتقد في الآخر أنه
غير متبع سبيل المؤمنين! !
فأقسم عليك يا عبد الحسين بالله عز وجل، وبحق رسوله الأعظم صلى الله
عليه وسلم وآله عليهم السلام عليك من الاتباع والأسوة الحسنة، أن تكف عن إثارة
الشقاق بين عباد الله من هذه الأمة، فكفاها ما هي مبتلاة به من مهاجمة المستعمرين
والملحدين لها في دينها ودنياها، وأسال الله تعالى لي ولك التوفيق لجمع الكلمة على
ما أجمع عليه سلفها في خير عصورها، وجعل مسائل الخلاف مما يعذر فيه العلماء
بعضهم بعضًا بالاجتهاد، وأن يجعل خير أعمالنا كلها خواتيمها، وخير أيامنا يوم
لقائه، وما كان ينبغي لك أن تدعو لي وحدي بحسن الخاتمة، كأنك مستغنٍ عن
الدعاء بها لنفسك، والسلام على من اتبع الهدى.
***
أسئلة عن بدع طالما كُرِّرت
بسم الله الرحمن الرحيم
(س 9 - 13) من محمد محمد فاضل إلى السيد محمد رشيد رضا،
حفظه الله للإسلام والمسلمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد)
فنعرض على فضيلتكم ما يأتي لتفتونا فيه بالحق الذي تودون أن يدين الله به
المسلمون.
(1) ما حكم صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة إذا تعددت المساجد؟ وهل هي
واجبة أو سنة أو مستحبة؟ وهل قولهم (الجمعة لمن سبق) حديث صحيح يجب
على المسلمين العمل به؟
(2) ما حكم صلاة ركعتين بنية سنة الجمعة القبلية؟ وهل فعلها النبي
صلى الله عليه وسلم أو أمر بها؟ وهل يقال في فعل لم يفعله النبي صلى الله عليه
وسلم ولا أمر به أنه سنة؟ وعلام يعتمد من يقول ذلك؟
(3) ما حكم الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان
جهرًا بالكيفية المعروفة؟ وهل هي سنة أم بدعة؟ ومن أول مَنْ أحدثها من المسلمين؟
(4) ما حكم الذكر برفع الصوت في تشييع الجنازة؟ وهل هو سنة أم بدعة؟
(5) ما حكم قراءة سورة الكهف برفع الصوت في المساجد يوم الجمعة
بالكيفية المعروفة؟
وأملنا في فضيلة السيد أن يبين لنا الحق في هذه المسائل بما آتاه الله من العلم
النافع، والاطلاع الواسع، هدى الله بكم المسلمين للحق آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد محمد فاضل
(المنار)
سبق لنا بيان هذه المسائل مرارًا تارة بالتطويل، وتارة بالاختصار، والسائل
يعلم هذا، وإنما أعاد السؤال؛ لأنه يريد إقناع بعض المخالفين في هذه الأيام، فنعيد
الجواب عن كل منها.
(9) صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة:
الذي أعتقده أن ما يفعله من يسمون أنفسهم شافعية من صلاة الجمعة في
مساجد الأمصار، وإتباعها فيها بصلاة الظهر يقيمونها جماعة بعدها زاعمين أن الله
أوجب عليهم في هذا اليوم فريضتين في وقت واحد - هو بدعة - وقولهم: الجمعة
لمن سبق. ليس بحديث نبوي يجب العمل به؛ وإنما هو عبارة اجتهادية من فقه
الشافعية مبنية على عدم جواز تعدد الجمعة إذا أمكن التجميع في مسجد واحد، فإن
خالفوا وعددوا صحت جمعة من سبق منهم، وكانت جمعة الآخرين باطلة، فإن
جهل السابق وجب على جميع المسلمين صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وهذا ما
يفعلونه الآن في جميع مساجد مصر وغيرها، معتقدين أن هذا مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله، وأن الواجب على كل من يوصف بأنه شافعي أن يفعله، وإلا كان
عاصيًا لله تعالى، وإن هذا لحواب كبير لو كان الشافعي حيًّا لأنكره وتبرأ منه،
وإن كان يعتقد أن التجميع في مسجد واحد واجب، فهذا الاعتقاد لا يستلزم ما ذُكِرَ.
وفي هذه المسألة مباحث اجتهادية (منها) أنه لا يقوم دليل شرعي على أن
التجميع في مسجد واحد شرط لصحة الجمعة، قل الناس أو كثروا، وإن عسر ذلك
عليهم بأن كانوا في مدينة كالقاهرة يزيد أهلها على ألف ألف نسمة ومساحتها عدة
أميال، وأما تجميع المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فقد كان
واجبًا قطعًا، بحيث تعد جمعة من خالفه باطلة من أصلها لا يجوز الشروع فيها
مطلقًا، فقد كانت جمعته صلى الله عليه وسلم بمن معه هي الصحيحة وحدها، وإن
فرضنا أنها تأخرت، وكذلك حكم التجميع مع خلفائه وغيرهم من أئمة المسلمين،
فإذا جمع الإمام بالمسلمين في مسجد واحد لإمكان ذلك بدون عسر ولا مشقة شديدة،
وجب اتباعه والتجميع معه، وحرم مخالفته بالتجميع في مسجد آخر بدون إذنه؛
لأنه شقاق بين المسلمين ومعصية للإمام الواجب اتباعه في الطاعة.
وأما إذا كبرت الأمصار، وأذن الأئمة بتعدد المساجد، وتعدد التجميع فيها فلا
يُعَدّ المعددون مشاقين، ولا مفرقين بين المسلمين، ولا عاصين لأئمتهم، بل متبعين
لهم في مسألة اجتهادية تجب طاعتهم فيها؛ إذ لا دليل قطعيًّا على أن التجميع في
مسجد واحد فرض مطلوب لذاته، وأنه شرط لانعقاد صلاة الجمعة، والشرط أخص
من الواجب المطلق، فلا يثبت إلا بدليل خاص.
(ومنها) أن اليسر في الدين ورفع الحرج منه قاعدتان أساسيتان من قواعده
ثابتتان بنص القرآن القطعي، فلا مجال فيها لاجتهاد أحد، وهي تقتضي وجوب
تعدد الجمعة لا جوازه فقط، ومن المأثور عن الإمام الشافعي قوله بناء على هذه
القاعدة: (إذا ضاق الأمر اتسع)
(ومنها) أن من شروط صحة الصلاة صحة النية، ومن شروطها الجزم
بالمنوي، فمن كان يشك في صحة جمعته لا تنعقد بإحرامه بها، ويكون عاصيًا لله
تعالى بشروعه فيها؛ لأنها عبادة فاسدة، فإن قيل: إن الأصل عند أهل كل مسجد من
مساجد الجمعة أن جمعتهم صحيحة لعدم علمهم بسبق أحد لهم في جمعتهم؛ وإنما
تجب صلاة الظهر بعدها احتياطًا لاحتمال سبق غيرهم لهم. قلنا: إن احتمال سبق
غيرهم كافٍ في حصول الشك المبطل لصحة النية، وقد يرتقي في بعض المساجد
إلى الظن الراجح لأهلها بسبق غيرهم، فقد علم بالاختبار والتجارب أن بعض أئمة
الجمعة يطيلون الخطبة، وبعضهم يقصرونها حتى إن أهل هذه ينصرفون من
صلاتهم، ويمرون بالأخرى؛ فيرون أنهم لم يشرعوا فيها بالصلاة أو لم ينتهوا منها،
ومن المصلين من يتحرى هذه، ومنهم من يتحرى تلك.
(ومنها) أن من علم أنه يمكنه السبق والحال ما ذكر وجب عليه، وذلك بأن
يؤذن المؤذن عند الزوال بدون تطويل، ويلقي الإمام خطبة مختصرة يقتصر فيها
على الأركان الواجبة من حمد الله تعالى، والشهادتين، والأمر بالتقوى وقراءة آية
أو آيتين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب: 70) وما بعدها، والدعاء للمؤمنين في الثانية بالمغفرة، ثم يصلي
فيقرأ في الركعة الأولى سورة العصر أو الكوثر، وفي الثانية الإخلاص، ولم يقل
أحد بوجوب مثل هذا ولا فعله أحد.
(ومنها) أن الاحتياط في مسألة اجتهادية كهذه لا يصح أن يكون بإيجاب
الجمع بين فريضتين من شعائر الإسلام جهرًا في المساجد بصفة دائمة، فإن مثل
هذا لا يثبت في الدين إلا بنص قطعي الرواية والدلالة لا يصح فيه الخلاف
بالاجتهاد، والمعروف عن جمهور من يسمون أنفسهم شافعية أنهم يعتقدون أن الله
تعالى فرض عليهم يوم الجمعة في هذه الأمصار المتعددة المساجد أن يصلوا فيها
فريضتين كل منهما صحيحة؛ لأنهم شافعية، أخشى أن يكون هذا من الافتراء على
الله والقول عليه بغير علم؛ فإن المسائل الاجتهادية لا تسمى علمًا بإجماع المجتهدين.
(ومنها) أن هؤلاء الذين يدعون التعبد بمذهب الإمام الشافعي قلما يوجد في
دارسي كتب هذا المذهب منهم من يعرفه، وإنما هم عوام، والعامي لا مذهب له،
وهم كغيرهم قلما يحفظون من فروع المذاهب إلا ما فيه الخلاف بينهم وتفريق
كلمتهم، ولا شيء أضر على المسلمين بعد الكفر من الشقاق والتفرق، ولو كانت
لهم دولة إسلامية لأزالت هذا الشقاق بما يجمع الكلمة، ولو في الشعائر الظاهرة فقط،
وأرى أن إزالة هذا التفرق ممكن بسرعة إذا اقتنع به جمهور علماء الشافعية،
على أنه سيزول بانتشار أنصار السنة والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة،
وهم فاعلون إن شاء الله تعالى.
(10) دعوى سنة جمعة قبلية:
لم يرو أحد من المحدثين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين
قبل الجمعة، ولا أنه أمر بذلك بهذه الصفة؛ وإنما صح أنه أمر من دخل المسجد
وجلس وهو يخطب أن يقوم فيصلي ركعتين، وهما تحية المسجد المستحبة لكل من
يدخله قبل أن يجلس فيه، وقد بينا من قبل أنه لا يقوم دليل على سنية راتبة قبل
صلاة الجمعة وبعد الأذان لها، وأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان
يخرج من بيته إلى صلاة الجمعة، فيبتدر المنبر، فيؤذن المؤذن، فيقوم صلى الله
عليه وسلم، فيخطب خطبتيه، فينزل، فيصلي.
وحكم صلاة الركعتين المسئول عنهما أنها صحيحة؛ وإنما الغلط فيها تسمتيها
سنة راتبة مأثورة، وهذا يزول بالعلم، فمن علم معنى السنة حتى في عُرف
المذاهب التي يقول مقلدوها بهذه الراتبة، وعلم أنه لم يصح فيهما ما يسوغ لهم أن
يسموها سنة ترك ذلك، إلا إن يقول له علماء المذاهب المقلدون عنه: إنه ثبت عند
أئمتنا أنها سنة، وصدقهم بغير استبانة.
(11) زيادة بعض المؤذنين في بعض الأمصار:
هذه الصلاة والسلام في آخر الآذان بدعة في شعيرة من شعائر الإسلام بيَّنا
تاريخ حدوثها، واسم الجاهل الفاسق الذي أحدثها، وجهل من استحسنها من أنصار
البدعة، وأعداء السنة في الفتاوى، ثم في مقال طويل فندنا فيه شبهات الشيخ
يوسف الدجوي فيها؛ لأنه نشرها في مجلة الأزهر الرسمية، وقد نشر مقالنا في
الرد عليها في بعض الجرائد اليومية، واقتنع به الناس، وفيه أن أول من ابتدعها
محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي بعد سنة 760.
(12) قراءة سورة الكهف يوم الجمعة في المسجد:
أهل بلدنا (القلمون) كلهم شافعية، وقلما يوجد في الدنيا بلد يقام مذهب
الشافعي في مسجده كبلدنا، ولعلي لا أذكر أنني صليت فجر الجمعة فيه إلا والإمام
يقرأ فيه سورتي: الم السجدة والإنسان، ولما اشتغلت بطلب العلم في مدينتنا
(طرابلس الشام) رأيت الحنفية يقولون: إن المواظبة على قراءة هاتين السورتين في
فجر الجمعة مكروهة، وعللوا هذا بأن فيه هجرًا للقرآن، فرأيته من أنكر ما يردون
فيه السنة الصحيحة بالرأي، وبعد عشرات السنين طبعت كتاب الاعتصام للإمام
الشاطبي فرأيت فيه أن بعض السلف كانوا يتركون بعض السنن أحيانًا؛ لئلا يعتقد
العوام فرضيتها إذا التزمت، وإن بعض العوام في الأندلس وقعوا في هذا حتى قال
بعضهم: إن فرض الصبح في يوم الجمعة ثلاث ركعات، فظهر لي أن للحنفية وجهًا
في الجملة، ولكن لا ينبغي أن يدخلوا السنة الصحيحة في حكم المكروه شرعًا،
وإنما يقال: يحسن أن يُقرأ في فجر الجمعة في بعض الأيام غير هاتين السورتين،
لئلا يظن بعض العامة فرضيتهما.
ثم رأيت هذا المحقق قسم البدعة إلى حقيقية وإضافية، وعرَّف الإضافية بأنها
الإتيان بعمل مشروع في أصله بصورة غير مشروعة من التزام زمان أو مكان أو
صفة أو اجتماع، بحيث يعتقد العوام أن هذا القيد الملتزم مطلوب شرعًا، قال: ومنه
اجتماع المصلين عقب الصلاة، وقراءتهم للأذكار المشروعة برفع الصوت ... إلخ
وقراءة الكهف في يوم الجمعة في المسجد من هذا القبيل، هو في أصله قراءة
مشروعة؛ ولكن التزام قراءته في المسجد برفع الصوت قبل صلاة الجمعة غير
مشروع، وورد حديث ضعيف في قراءتها يوم الجمعة رواه الحاكم، والبيهقي عن
ابن مسعود بلفظ (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين
السماء والأرض) وله عند الثاني لفظ آخر بقراءتها ليلة الجمعة، وبإضاءة النور له
ما بينه وبين البيت العتيق وحسَّنه السيوطي.
دع ما في قراءتها في المسجد برفع الصوت، والناس يصلون تحية المسجد
وغيرها من فائتة ونافلة من التشويش المنهي عنه، وقد فصلت هذا من قبل تفصيلاً
***
نصيحة لدعاة السنة
وإنني أوصي نفسي وإخواني محبي السنة، ومنكري البدع أن يسلكوا طريق
اللين واللطف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أمثال هذه المسائل التي
يقلد فيها الجمهور علماءهم ظانين أنها من بقايا الدين، واتباع السلف الصالحين،
ومذاهب الأئمة المجتهدين؛ فإن الغلظة في الأمر والنهي تزيد المقلد جمودًا على
التقليد، فلا يصغي سمعه إلى قول محمد فاضل، ولا قول مفتيه محمد رشيد، ولا
يغرنهم أنهم على حق، وأنهم يأمرون وينهون على علم، وليذكروا قول الله تعالى
لمن شهد له بالخلق العظيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) الآية،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (يسروا ولا تعسروا) متفق عليه.
بهذه الآداب الإلهية تنتصرون أيها الإخوان على أعداء السنة وأنصار البدع
من بقايا المتفقهة الجامدين، وشيوخ الطرائق المرتزقين، وسدنة الأضرحة
الخرافيين، ولا يفوتكم أن تُذَكِّروا العامة بأنهم لا يفتونهم بالبدع، ويتأولونها لهم إلا
لأجل أكل أموالهم بالباطل، وأنكم تدعونهم إلى الكتاب والسنة لوجه الله وابتغاء
مرضاته، وأن حجتكم اتباع خير القرون بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم
وإجماع المسلمين، وهي الحجة العملية التي لا تحتمل التحريف والتأويل {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
__________(34/114)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحرب في جزيرة العرب
إطفاء نارها، وفوائدها وغايتها
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) .
ظهرت أمارات الحرب بين الدولتين الإسلاميتين العربيتين، فساور العالم
الإسلامي الروع مما يخشاه من سوء عاقبتها، وكتبنا في ذلك مقالنا الأول الذي
عنوانه الحديث النبوي (ويل للعرب، من شر قد اقترب، أفلح مَن كف يده)
ونشرناه في بعض الصحف اليومية بغير إمضائنا، ثم في المنار، واتصلت المكاتبة
في موضوع شر الحرب المقترب بين الكاتب والإمامين فكان جواب كل منهما أنه لا
يريد الحرب، ولن يكون هو المضرم لنارها باختياره، وكان كل منهما يكتب واثقًا
من نفسه بما يقول عنها راجيًا أن يكون أخوه مثله، بيد أنه كان من المشكوك فيه
أن يكون أمر الإمام يحيى بيده، كما أن أمر الإمام عبد العزيز بيده؛ إذ كان يُقال
ويُكتب ويُنشر أن قوة اليمن الحربية بيد ولي عهد الإمام وقائدها العام، الأمير أحمد
سيف الإسلام، وأنه مخالف لوالده في الرأي، وأنه حربي بالطبع، وأنه كان هو
المعتدي على جبل العرو من قبل وعلى نجران من بعد، وأنه هو المحرض لآل
الإدريسي على الانتقاض على الملك عبد العزيز في الثورتين السابقة واللاحقة،
وأنه هو المؤوي للمفسدين من أعضاء الحزب الحجازي، ومحل الرجاء للمفسدين
في القطر المصري، وأنه هو المتصل بالدساسين من أصحاب الطمع الأجنبي،
ولولا ذلك لم يُسَيِّر صاحب المملكة العربية السعودية الجيش في إثر الجيش إلى
حدود المملكة الشرقية والغربية.
أما والجيوش قد حُشرت، والمفاوضات البرقية بين الإمامين قد عُطلت،
والنُذر قد تواترت، والقسي قد أوترت، وأعصاب الأوتار (الثارات) قد وترت،
فالحرب قد وقعت، وكان وقوعها أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. وكان سببه الباطن دم
فاسد في بنية الأمة العربية هو علة مرضها، والمانع من اتفاقها واتحادها، ولا
شقاء لها إلا بخروجه منها، وإنما كان يُخشى أن يخرج معه دم حياتها، باعتداء
الأجانب على استقلالها، ونقص أرضها من أطرافها.
كنت أخشى من شر اشتعال الحرب خطرًا واحدًا، هو التدخل الأوربي
باحتلال جيش إيطالية لثغور تهامة اليمن، وإحداث إنكلترة لحدث شر منه لحفظ
الموازنة، وهو الاستيلاء النهائي باسم شرق الأردن على خليج العقبة، فلما أعلن
كل من الدولتين الحياد اعتقدت أن ما كنا نكرهه من هذا القتال، هو مصداق لقول
الله تعالى الذي جعلته عنوانًا لهذا المقال، وأنه لا خير في منعه إلا بعد خروج الدم
الفاسد الذي هاج فأحدثه، وإمكان جعل جزيرة العرب في حالة استقرار ثابتة، كما
أشرت إلى هذا في مقالاتي السابقة.
الإمامان مسلمان تقيان شديدا الحذر من الطمع الأجنبي؛ ولكن بين شعبيهما
خلافًا في المذاهب: هؤلاء سنية سلفية، وهؤلاء شيعة زيدية اعتزالية، بل يقال
إن أكثرهم جارودية غالية، لا كما نعرف في الكتب عن الزيدية المعتدلة، وبين
حكومتيهما خلافًا في السياسة والحدود الدولية في العسير، ونجران. هؤلاء
يقولون: إن كلاًّ منهما يمانية لحمًا ودمًا، ويؤيدهم الإمام نفسه، وما كان يماطل
ويماحل في عقد المحالفة إلا لأجله، وهؤلاء يقولون: إنها سعودية في الحق الواقع
والتاريخ الحديث، وزد على ذلك أن الإمام يحيى يقول ويكتب وينشر أن كل بيت
في اليمن يحمل ثأرًا دمويًّا على الدولة السعودية يطالبه بالإذن له بأخذه بالقوة
الحربية، وقد بدأ اليمانيون بالاعتداء المرة بعد المرة، وكل من الفريقين يعتقد أنه
أقوى من الآخر، وقد أعقب ذلك كله أن زحفت الزحوف، وتقابلت الصفوف،
وبدأت المعارك بالفعل، والمفسدون ينفثون فيها؛ فيزيدونها ضرامًا، أفيعقل كفها
بدعوة محبي الصلح، وأن يكون عقده على دخل ودغل، وعلم بما هنالك من غل
وسخيمة، خيرًا للعرب، ولجزيرتهم، ولجامعتهم الإسلامية والعربية؟ لا لا.
كلا، إن صلحًا كهذا إن أمكن، ووقع كان هدنة مؤقتة يخشى أن ينقض في
وقت يكون فيه خطر الحرب أكبر، وأن تكون معاهدته مما نهى الله عنه بقوله:
{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} (النحل: 92) الآية كما
بيناه في الجزء الماضي.
فالواجب إذًا أن تكون هذه الحرب شفاء من مرض الأمة بالفعل، أو بالإعداد
والتهيئة على الأقل، وأن ينبني الصلح على أساس قوي، ولن يكون إلا بعد ظهور
تفوق قوة على أخرى، وأن يكون الأقوى حكيمًا حليمًا لا يبغي عظمة ولا إرهاقًا
للآخر، وهذا عين ما وقع، وقد عرض ملك العربية السعودية إلى إمام اليمن
شروطه التي لا يغمد السيف بدونها فقبلها، وأرسل مندوبه إلى الحجاز لوضع
المعاهدة المطلوبة؛ فوُضعت في هذا الشهر، وعسى أن تكون كافلة لما أشرنا إليه
مما يغسل أدران الماضي، ويضع الأساس للوفاق والإخاء الدائم في المستقبل.
ذكرنا في الجزء الماضي ما يراه ويصرح به بعض أولي الرأي من توحيد
الحكم والدولة في الجزيرة، وقلنا: إنه منتهى الكمال الشرعي والسياسي إن أمكن.
وكان يجب توخيه إذا أراد الفريقان السير بالحرب إلى آخر طاقتها كالحرب
الأوربية الكبرى، وهو ما كان يُظن بالملك عبد العزيز السعودي بالقياس على
حروبه السابقة، وصرح به أحد الكتاب العارفين بشؤون البلاد وزعمائها في جريدة
يومية مشهورة؛ ولكنني قلت لهذا الكاتب ولغيره مشافهة في مكتبي إن الذي أعلمه
من اختباري الشخصي لعبد العزيز أعزه الله أنه لا يريد الاستيلاء على اليمن، ولا
إزالة حكم إمامها، ولو كان يريد ذلك لكان كما قيل لا يصده عنه صد، ولا يقف
دونه عند حد، وقد فتح له بابه، وتمهدت له أسبابه بالوصول إليه (كما فعل في
الحجاز) أو بالعجز النهائي عنه.
أما كونه قد تمهد له سبيل هذا، ويسرت له أسبابه، فهو ما عرفه الشرق
والغرب.
وأما كونه لا يريده، وإن اعتقد أنه قادر عليه، فله سبب معقول هو عين
السبب الذي صرفه عن محاولة الاستيلاء على قطر آخر مهد له طريقه من قبل،
وهو أن أعباء ملكه تثقل عليه، فتنوء به أن يحملها، ويقوم بما يجب لها من حفظ
الأمن وتعميم العدل، وإقامة العمران ونشر العلم، وما يقتضيه ذلك من كثرة
الرجال والمال، وهو يصرح بهذا على مسامع الناس.
ومن المعلوم أنه أقام الركن الأول من هذه الأركان في جميع مملكته على أكمل
وجه، وهو حفظ الأمن الذي يتوقف عليه غيره، وأن الرجال الذين يعتمد عليهم فيه
هم أهل نجد وحدهم، وليس فيهم من أهل الكفاية العلمية والمرانة العملية من يقوم
بسائر مصالح الدولة، فقلة الرجال هي العائقة عما يعوز البلاد من ضروب
الإصلاح، وحسب أهل نجد الآن حفظ الأمن، وإطفاء الفتن في داخلها، وحمايتها
من الاعتداء على حدودها، وأهل نجد لا يَفْضُلون غيرهم من عرب الحجاز،
وعسير، والشام إلا بعقيدتهم السلفية، واعتصامهم بما يعلمون من أحكام الإسلام
الشرعية إيمانًا وإذعانًا، وطاعة لربهم، ثم لإمامهم سرًّا وجهرًا، فشجاعتهم وثباتهم
مستمدان من عقيدة التوحيد الخالص من شوائب النفاق والوثنية والمنافع الشخصية.
ومن أركان سياسة هذا الإمام فيهم المحافظة على عقيدتهم وأخلاقهم وآدابهم في
محيط بيئتهم، وليس من المصلحة تفريقهم في مملكة واسعة الأطراف، مختلفة
المذاهب والآداب والآراء، وهم في حاجة إلى تعليم جديد يرشحهم لما اشتدت حاجة
بلادهم إليه في هذا العصر من تنظيم القوى الحربية الفنية التي لا ينفع في رد
العدوان الخارجي عن البلاد غيرها، ومن تنظيم القضاء والإدارة، وتفجير ينابيع
الثروة، مع هذه المحافظة على عقائدهم وأخلاقهم التي يفسد بدونها كل شيء.
قد استولى الجيش النجدي على تهامة اليمن بدون عناء كبير؛ لأن أهلها
ساخطون على حكومة الزيدية، فكانوا إلبًا واحدًا معه عليها، ويمكنه أن يحفظها
بقوتهم ومالهم من اعتداء جيش الإمام عليها، وأن يهاجم صنعاء بها؛ ولكن ذلك
يعقب ازدياد التعصب المذهبي بين السنة والزيدية، والمصلحة الإسلامية العربية
تقتضي إزالته، أو تخفيفه تمهيدًا لإزالته، وتحقيق الوحدة الإسلامية العربية في
موضعه، فمراعاة هذا في الصلح أدنى إليها من طلبها بالغلب والقهر، وهذا هو
الذي يريده الملك عبد العزيز الفيصل ويحاول إقناع الإمام يحيى به، فإذا كان قد
اقتنع به كما يظهر لنا، وزالت ضغائن الخلاف التي صرحنا بها آنفًا، فستبنى
قواعد الصلح على أساسه، ويكون وسيلة إلى ما كنا نسعى إليه ونمهد له منذ ثلث
قرن ونيف، وقد أشرت إلى قوة الرجاء فيه، والله هو المسؤول وحده في إتمامه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/125)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى المولد النبوي
أحمد الله أن وفق المسلمين منذ سنين معدودة لإحياء ذكرى منة الله تعالى على
البشر ببعثة محمد رسول الله وخاتم النبيين، وإرساله رحمة للعالمين، ونشر بعض
المطوي في الصحف، والمحفوظ في ألواح القلوب من مناقبه الكثيرة، وسنته
المنيرة، وآياته البينات، من مرويات ومرئيات، في مثل يوم مولده على المشهور
في التاريخ، والتذكير بها في الجرائد والمجلات، والتنويه بها في الخطب التي
تلقى في المساجد والمحاضرات التي يحتفل لها في الجمعيات، والرسائل المترجمة
بأشهر اللغات، بعد أن كان مبدأ هذا التاريخ المجيد - الذي غير نظام الاجتماع
البشري فدخل به العالم في طور جديد - لا يكاد يُذكر إلا في قصص مؤلفة من
الروايات المعروفة والمنكرة، والحكايات المكررة في عجائب الحمل به، وصفة
ولادته، وعجائب طفولته وشبيبته، وصفات خلقه ومعيشته، وما فيها من
إرهاصات نبوته، مما يقل فيه الحديث الصحيح المرفوع، ويكثر فيه المنكر
والموضوع، ولا يخلو من مثار الشبهات، ولا يسلم من توليد الاعتراضات، بل
يكثر في بعضها الأخيلة الشعرية، والأناشيد الغرامية، التي تشغل سامعها بتصور
الجمال الخَلْقي الجسدي، عن تمثل الجمال الخُلُقي الروحاني، والجلال الملكي في
الكمال الإنساني، والمثل الأعلى للتجلي الإلهي، والمظهر الأكمل لكلام الله ووحيه،
والوسيلة العظمى بين الرب تعالى وخلقه.
طالما أنكرت في مجلة المنار احتفال المولد الرسمي الذي تتولى تنظيمه في
القاهرة مشيخة الطرق الصوفية كل عام، ووصفت ما يجرى فيه من المعاصي
والبدع، ولشد ما انتقدت قصة المولد التي تقرأ في محفله على مسمع من ولي أمر
البلاد ووزرائه وخواص دولته من رجال الدين والدنيا، وسفراء الدول الأجنبية فيها،
وقد أفاد الإنكار والانتقاد فمنع من الاحتفال بعض المنكرات والبدع، وفي سنة 1334
أُلغيت قراءة قصة المولد المنكرة، واستبدل بها قصة كتبتها لأجلها، إذ وعدني رئيس
الاحتفال (السيد البكري) أن يجعلها هي الرسمية، فتحل محلها فوفى، فكان لها ما
كان من حسن القبول والتأثير اللائق بالموضوع والزمان والمكان والسلطان.
اختصرت هذه القصة من رسالة في أنفع ما يقال في هذه الذكرى من السيرة
المحمدية، مبتدئًا فيها بأصح ما روي في قومه صلى الله عليه وسلم ونسبه وحكمة
ظهوره في العرب، وما اصفطاهم الله به على الأمم، ما اصطفى به قبيلته
وعشيرته وأهل بيته عليهم، وهو خلاصة من تاريخهم والتاريخ العام - وأعقبتها ما
صح من نسبه، ومن خبر زواجه، والحمل به، وولادته، ورضاعته، وحضانته
وكفالته، ومعيشته وكسبه، ثم ارتقيت من ذلك إلى خبر بعثته وجملة سيرته قبلها،
وتبليغ الدعوة وخلاصتها، وفيها ما امتاز به دينه على جميع الأديان، ثم إلى الكلام
في آية الله الكبرى على نبوته وهي القرآن الحكيم، وما اختص به من الإعجاز في
لغته وعلومه وتأثيره في العالم، وقفيت عليه ببيان مناهضة قومه ووطنه للدعوة،
وإلجائه إلى الهجرة، وذكر خلاصة من أخلاقه وسيرته بعد الهجرة مع المؤمنين،
وحاله مع أهل الكتاب والمشركين، وجعلت خاتمتها في إكمال الدين، وأثر نبوته
صلى الله عليه وسلم في العالمين، وما أسسه من تشريع وأمة ودولة، وما بشر به
أمته من فتح قريب، وملك كبير، وما تركه فيها لحفظ دينها ودنياها من كتاب الله،
وهو الروح المحيي للأمم، والنور الأعظم المضيء للعالم، وسنته في بيان هدايته
وتنفيذ شريعته، وعترته آل بيته، الذين هم الذكرى لشخصه الكريم، وهديه القويم.
انتشرت رسالة ذكرى المولد النبوي ومختصرها في العالم الإسلامي انتشارًا
بطيئًا، فكان تأثيرها في إصلاح العادات السابقة ضعيفًا، حتى نهض إخواننا مسلمو
الهند منذ خمس سنين بجعل ذكرى المولد النبوي موسمًا إنسانيًّا عامًّا، يعنون فيه
بتعريف جميع الأمم بما كان لذلك المولود العظيم من التأثير بتغيير التاريخ البشري
كله، وتبرع الحاج فاروق (لورد هدلي) بمبلغ من المال لنشر بعض رسائل في
المناقب والمآثر المحمدية النافعة لجميع الناس باللغات الكبرى للأمم؛ فنُشرت مئات
الألوف من أول رسالة بعدة لغات في أول مرة.
وقد اقترحت عليّ اللجنة العامة أن أكتب لها رسالة في ذلك لنشرها في مولد
سنة 1350؛ فأرسلت إليها (خلاصة السيرة المحمدية) ؛ فترجمتها، ونشرت
مئات الألوف من نسخها بعشر لغات هي أشهر اللغات الشرقية والغربية، منها لغتها
العربية الأصلية، وكانت اقترحت عليّ كتابة رسالة أخرى في حقوق النساء في
الإصلاح المحمدي؛ لتنشر في ذلك العام؛ فكتبت الرسالة، بل الكتاب الذي سميته
(نداء للجنس اللطيف، في يوم المولد النبوي الشريف، أو حقوق النساء في
الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي العام) وأذنت للجنة باختصاره - إن
شاءت - ونشرته في يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي 12 من ربيع الأول سنة
1315 فكان له تأثير كبير في العالم الإسلامي، وقرَّظه كثير من العلماء والأدباء
وأصحاب الصحف بما شهدوا له به أنه لم يُؤلَّف مثله في موضوعه.
ثم إنني نشرت في مثل هذا اليوم العظيم من العام الماضي (1352) كتاب
(الوحي المحمدي: ثبوت النبوة بالقرآن، ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام، دين
الأخوة الإنسانية والسلام) الذي لم يحظ مصنف في حقيقة الإسلام ببعض ما حظي
به من حسن التأثير، وحسن التقريظ والترجمة باللغات المختلفة، وسرعة انتشاره
وإعادة طبعه مزيدًا فيه، وصدروه قبل انتهاء سنته الأولى.
ولا يزال إخواننا من مسلمي الهند وغيرها، وأصحاب المجلات والجرائد في
مصر، والعراق، وفلسطين يقترحون علينا في كل عام أن نكتب لهم رسائل
خاصة لتُنشر في يوم ذكرى المولد النبوي الشريف، وإنما يطلبون شيئًا جديدًا لم
يُنشر بعد، وأنى لي أن أستجيب لكل طالب، فإذا كانت المناقب المحمدية لا تنفد
دررها، ولا تبخل على الغائص عليها بفرائدها، فأنى يتاح لمثلي على ضيق وقته،
وضعفه وكثرة أعماله، أن يكرر الغوص عليها في وقت واحد لأجل طلاب
كثيرين (من الرأسماليين لا الاشتراكيين) وإذ كان هذا غير مستطاع، ولا مرجح
لتفضيل بعضهم على بعض، وكان رد الجميع يسوء الجميع، فما عليّ إلا أن
أرجح جمهور قراء صحفهم عليهم، فأرسل ما أكتبه إلى كل منهم، وهذا مقام تقديم
المصلحة العامة على الخاصة، وقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة
بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:
107) وهذا ما كتبته لذكرى يوم محمد سنة 1353.
* * *
يوم محمد صلى الله عليه وسلم
أو ذكرى مولده سنة 1353
ماذا فعل محمد؟
ماذا فعل محمد؟ كلمة قالها شاب حجازي في مكة المكرمة لأستاذ مصري
مشهور، فلم يره أهلاً للرد عليه، ولا للصفع بنعل الإحرام الخاصة بتربة تلك
الأرض المقدسة، ولا بالحذاء المعد لدوس الأرض المدنسة، فظل مغمولاً لا يعرفه
أحد بوصفه، كما لا يعرفه أحد بشخصه، وما يدريك لعله يقول كلمة مثلها أمام
بعض النجديين الذين لم تألف أسماعهم ما ألفه سمع الأستاذ المصري من الجهر
بالكفر والتعطيل؛ فتكون عاقبته شهرة، وعقوبة شرًّا من عاقبة الذي كسر قطعة من
الحجر الأسود فيما كان من تشهيره وعقابه؛ لأنه شر منه.
وأما أنا فرأيته أهلاً لأن أذكره في فاتحة هذه الذكرى لمحمد، وما فعل محمد
في يوم محمد صلى الله عليه وسلم لعلل ثلاث، (إحداها) ما كان لرواية هذه الكلمة
الجاهلة الغبية عن شاب مكي من لذعة الألم، وعميق الأسى في قلبي، لما لمكة
عندي من الحسب والكرامة، ولما أحبه لأهلها من العلم بعظمة الإسلام، وإفاضتهم
ذلك على حجاج بيت الله الحرام، فعسى أن يعتبر ويزدجر ويتوب، ولا نسمع مثل
هذا من أحد يقيم في البلد الأمين.
(الثانية) تنبيه أذهان قارئيها بدهشة هذا القول وغرابته إلى ما في البشر
من التفاوت البعيد في الجهل والغباوة، والعلم والفطنة، وأعتقد أنه لم يكن أحد منهم
يظن ولا يتوهم أنه يوجد في البشر نصراني ولا يهودي ولا وثني ولا معطل مادي
يسفه نفسه، ويطوع له تعصبه أن يقول: ماذا فعل محمد؟
و (الثالثة) وهي العليا المقصودة بذاتها الجواب عن هذا السؤال ببعض ما
فعل محمد، وما عُللت به أعمال محمد، أو فُسرت به معجزاتها من أجانب يعلم
أجهلهم وأضلهم من أعمال محمد العظيمة التي لم يعمل مثلها أحد من عظماء خلق
الله ما لا يعلم بعضه هذا الشاب الذي يُنسب إلى أمة محمد، ويعيش في بلد محمد،
ويرى بعينيه عشرات الألوف ومئات الألوف يفدون في كل عام على بلد محمد، من
جميع أمم الأرض في جميع أقطارها، شعثًا غبرًا، ناسكين، طائفين ساعين،
راكعين ساجدين يتقربون إلى الله تعالى باتباع ملة محمد، ويسمعهم بأذنيه يهتفون
بالصلاة والسلام على محمد، والدعاء لمحمد بالوسيلة والدرجة الرفيعة والمقام
المحمود الذي يغبطه به، ويحمده عليه الأولون والآخرون، ومنهم النبيون
والمرسلون، صلى الله عليه وآله، كلما ذكرته، وكلما ذكره الذاكرون.
أيها الحجازي الجهول!
لا أعجب لك إن كنت لا تؤمن بنبوة محمد ورسالته، وأنت في هذا الدرك
الأسفل من الجهل بما جاء به، ولا أعجب لك إن كنت تجهل تاريخ محمد الذي غيَّر
تاريخ العالم الإنساني بما نقله من ضعة وفساد، إلى رفعة وصلاح في أموره الدينية
والمدنية والاجتماعية، وإنما أعجب لك أنك ترى نفسك أهلاً لمخاطبة أستاذ مصري
متعلم، بل مؤلف ومعلم، بتلك الكلمة الجاهلة الغبية التي كان خيرًا لك من النطق
بها أن تخطفك الطير، أو تهوي بك الريح في مكان سحيق، وتيهور عميق.
أيها الحيران المسكين، الذي استهوته شياطين الملحدين، إن كان محمد لم
يعمل شيئًا تذكره، وتفخر به بأنك من قومه ووطنه، فأخبرنا أي عظماء البشر
الذين يفخر بهم أقوامهم عمل عُشر ما عمله محمد لقومه، وما عمله بنفسه وبقومه
للبشر كافة؟
هل يُذكر عمل بسمارك الذي تفتخر به ألمانية في السعي للوحدة الجرمانية،
وكافور وغاريبالدي اللذين تباهي بهما إيطالية للوحدة الطليانية، ما يقرب من عمل
محمد صلى الله عليه وسلم للوحدة العربية؟ مع التفاوت البعيد بين الأمم الثلاث في
الاستعداد لها وعدمه، مما كانت عليه كل منهن من جاهلية أو علم وفن ونظام.
ارفع رأسك إلى من فوق هؤلاء، ارفعه إلى الأنبياء المرسلين، فإنك لا تجد
أحدًا منهم عمل لقومه أكبر مما عمله موسى عليه السلام لبني إسرائيل في دينهم
ودنياهم، ويعلم جميع مؤرخي الأمم أن ما عمله محمد صلى الله عليه وسلم أعظم
في كل منها، أما الدين فأمره ظاهر، ولعلك لا تعنيه من العمل الذي تسأل عنه،
وأما الدنيا فقد مهد السبيل لقومه أن يملكوا فلسطين من بعده؛ ولكن قوم محمد صلى
الله عليه وسلم ملكوا فلسطين وما حولها من مشارق الأرض ومغاربها، وإذا كنت
فاقدًا للشعور بعظمة الجامعة الدينية التي يكرمك لأجلها الملايين من الأمم، فإنني
أضرب لك مثلاً من كرامة الجامعة القومية.
نظم أديب سوري نصراني النشأة قصيدة مدح بها محمدًا صلى الله عليه وسلم
بمناسبة ذكرى مولده، وأنشدها أصدقاءه من أمثاله، فعذله بعضهم فأجابهم قائلاً:
إن جميع الشعوب الراقية تفتخر بالنابغين والعظماء من طبقات أقوامهم، وإن
الأنبياء في عرف جميع الأمم أعلى طبقات البشر في أممهم، وإني وإياكم من
العرب نفتخر بالمتنبي والبحتري والمعري من شعرائنا، أفلسنا أجدر بأن نفتخر
بنبينا، وهو أعظم قدرًا ومقامًا وعملاً من شعرائنا الذين كانوا يفتخرون به، ومن
أنبياء غيرنا أيضًا؟ ولماذا نفتخر بالمسيح وهو من أنبياء اليهود، ولا نفتخر بمحمد
وهو نبي قومنا العرب، وما منا أحد يؤمن بألوهية المسيح فنجعلها هي المانعة من
مدح نبينا العربي العظيم؟ (وأما نبوته وآياته، فالقرآن يثبتها، فهي مما تقتضي
مدح نبينا، لا مما تمنع منه) .
لقد كان أدنى ما يُنتظر من ذلك المارق الحجازي، أن يعرف من قدر نبي
قومه، ووجوب الفخر به ما عرفه هذا الأديب السوري؛ ولكن المسألة مسألة علم
وتاريخ ومفاخر قومية، وهذا الحجازي لا يعقل من ذلك ما يعقل السوري، وإني
لأعرف من هؤلاء السوريين الأحياء والميتين من يؤمنون بنبوة محمد؛ ولكنهم
كانوا يكتمونها عن أهلهم والمتعصبين من أهل الدين الذي نشؤوا فيه، ومنهم من
كان يصلي الصلوات الخمس، وقد قال لي أحد المؤرخين المشهورين منهم: اكتب
عقيدتك التي أعرفها منك؛ لأضع عليها إمضائي بأني أؤمن بها.
وإن منهم ومن غيرهم ممن لم يؤمن به لمن يعتقد أنه أفضل البشر على
الإطلاق، وإنه عمل لترقية البشر بالعلم والعقل والحكمة والأخلاق والإنسانية
الكاملة ما لم يعمله أحد من الأنبياء ولا الحكماء ولا الأدباء، ولا يُرجى أن يعمل مثله
أحد، وقد نقلت شهادة الدكتور شبلي شميل المشهور في هذا نظمًا ونثرًا، وما في
معناها من شهادة الأستاذ وليم موير العالم الإنكليزي في الطبعة الثانية من كتاب
الوحي المحمدي.
تساءل الناس من قبل هذا المكي سؤال الاستفهام عما سأل هو عنه سؤال:
الإنكار ماذا فعل محمد؟
أجابهم التاريخ العام: إن محمدًا أسس دينًا وأمة ودولة.
جواب مختصر مفيد، ثلاث كلمات، صغيرات كبيرات، يملأن الأرض
والسموات، لم يختلف فيهن اثنان، ولم ينتطح في النزاع فيهن عنزان؛ ولكن وجد
تيس في شكل إنسان، ينطح جبل أبي قبيس من أدناه؛ لأنه يجهل ما حدث منذ
1366 عامًا في أعلاه من نزول الناموس الأعظم جبريل عليه السلام على محمد
ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، من الوحي الإلهي الذي أسس به هذه المنشآت
الثلاث.
ليس من المعقول أن يكون هذا المكي يجهل ما نزل في غار حراء من ذلك
الجبل، وإنما المعقول أنه يعوزه العلم التفصيلي بما كان بعد ذلك وما حصل،
وكيف بدَّل هذا النبي البشر غير البشر، حتى إن أربعمائة مليون منهم يتسقبلون
بلده من مشارق الأرض ومغاربها في كل يوم خمس مرات تعبدًا لله تعالى ويشيدون
برفع اسمه مع اسم الله في جميع أنحاء العالم حتى لندن وباريس في يومه هذا من
عامنا هذا.
ألا وإنني أعلم والأسى يفيض من قلبي، فيكاد يقتلني أن أكثر المسلمين أمسوا
بين جاهل كنه هذه الأعلام الثلاثة، وغافل عن عظمتها، ولو علَّمت الجاهل لعلم،
ولو نبَّهت الذاهل لفطن، ولأقر بأحقية الكلمات الثلاث ومدلولاتها بالإجمال؛ ولكن
يبقى عليك العلم التفصيلي الدال على صفة تأسيسها، ووضع قواعدها، وإقامة
أركانها، ورفع سمكها، وتسوية سقفها، وسرعة إتمامها، ومن أوى إليها من
الشعوب والقبائل، ودرجة عظمة كل منها في نفسها، وبالإضافة إلى ما يشاركها
باسمها من الأديان والأمم والدول، وهل اتفق ذلك أو ما يقرب منه لأحد من البشر
قبل محمد صلى الله عليه وسلم؟
العلم الإجمالي أول خطوة بين الجهل المطلق والعلم المفصل الذي يثمر
العبرة والحكمة والعمل، فهو علم ناقص قابل للشك، عاجز عن دفع الشبهات.
من مقدمات هذا العلم التفصيلي في مسألتنا، على المنهج المعروف بالنقد
التحليلي في عصرنا، تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم بالتواتر
القطعي أنه كان أميًّا نشأ بين قوم أميين ليس عندهم شيء من العلوم الدينية ولا
الدنيوية، ولا الفنون المدونة عند شعوب العالم التي تلقى بالتعليم والتلقين، وأنه لم
يزاول شيئًا من معارف قومه الوراثية، ولا آداب لسانهم من الشعر والخطابة
والمفاخرة والمماتنة التي ارتقت بها لغتهم، وبلغت شأوًا عاليًا في البلاغة والتأثير،
وأنه لم يشاركهم في شيء من تقاليدهم الدينية، ولا عاداتهم الاجتماعية والحربية ولا
الخرافية، وأنه ظل كذلك حتى بلغ سن الأربعين.
ومن المقدمات التي تقرن بهذا أنه قد ثبت عند علماء النفس والاجتماع
والتاريخ في عصرنا هذا أن ما تنطوي عليه غرائز الإنسان الشخصية والوراثية
من استعداد للعلم والعمل إنما تظهر كلها في نشأته البدنية والعقلية، وتكمل في سن
الشباب فتنتهي إلى سن الثلاثين حتى الخامسة والثلاثين، وأنه لم يوجد في تاريخ
البشر أحد ظهر منه بعد هذه السن علم جديد، ولا النهوض بعمل اجتماعي عظيم،
وإنما قد يكون بعدها الإتمام والتكميل.
ومن العلم التفصيلي في مسألتنا أو موضوعنا أن المباني الثلاثة التي أسسها
محمد كما يقول المؤرخون - وهي أعظم مقومات حياة البشر - هي أعلى وأكمل مما
كان من قبلها، ولم يتجدد بعدها مثلها، وأنه لم يتفق لنبي ولا ملك ولا حكيم
الاضطلاع بواحدة مثل واحدة منها، وأنها قد تمت كلها في مدة قريبة لم يقع في
التاريخ نظير لها، فهي مجموعة معجزات في كتابها، وفي كمال تشريعها
وإصلاحها وفلسفتها، وفي إدماج أمتها لجميع أمم البشر في عقائدها وآدابها
وتشريعها ولغتها، وفي بناء دولتها ووحدتها الإنسانية على أساس العدل والمساواة
والشورى والمصالح العامة، وغير ذلك من أصولها وفروعها العلمية والعملية التي
بسطناها بالتفصيل مُؤَيَّدة بالبرهان والدليل في كتاب الوحي المحمدي، الذي صدرت
الطبعة الأولى منه في مثل هذا اليوم: يوم محمد صلى الله عليه وسلم من العام
الماضي.
لا موضع في هذه الذكرى الوجيزة للإشارة إلى ما يمتاز به كل من دين محمد
وأمته على ما يقابلهما من الأديان والأمم، وقد فصلناه في كتاب الوحي المحمدي
بالشواهد من القرآن والأكوان تفصيلاً مقنعًا بالأسلوب التي تتقاضاه من الإسلام
حاجة هذا العصر في علمه وأفكاره وأسلوب تأليفه من جميع النواحي والجوانب
الدينية والمدنية والعقلية والسياسية، ولا سيما إعجاز القرآن وهو مشرق النور
الأعظم، وينبوع الحياة العليا، ومصدر الإصلاح العام.
وإننا نختمها بالإشارة إلى تعليل علماء الإفرنج لبعض هذه المعجزات بعد أن
عرفوها، واضطر المنصفون منهم إلى الاعتراف بها، والإقرار بأن تعاليم محمد قد
أصلحت تعاليم الأديان القديمة حتى المسيحية، وأحيت علوم الحضارة القديمة بعد
موتها، وأن حضارة أوربة الحديثة مستمدة منها، كما صرح بهذا غوستاف لوبون
ودرابر وغيرهما من علمائهم الأعلام.
فأما علوم القرآن، وما فيه من بينات الهدى والفرقان، فقد قال منصفوهم: لا
شك أن محمدًا كان أميًّا لم يتعلم شيئًا، وأنه كان مطبوعًا على الصدق والإخلاص
ومكارم الأخلاق، وأن ما ثبت في تاريخه قبل الإسلام وبعده يفيد اليقين بأن مثله لا
يكذب على الله، ولا على الناس، وأنه صادق في تعبيره عن اعتقاده بأن هذا
القرآن وحي من الله (قالوا) ولكنه وحي كان يفيض من استعداده النفسي العالي
وعقله الباطن على قلبه وخياله ولسانه وحواسه. وقد فندت هذا التعليل بالبراهين
العقلية والنقلية الهادمة لشبهاته التي ذكروها، وأثبتُّ أنه وحي من الله تعالى، بما لا
يدع للشك مجالاً.
وأما استعلاء دينه على جميع الأديان، ودخول الملايين من النصارى واليهود
فيه، بَلْه المشركين والوثنيين، فقد عللوه بأن تلك الأديان كلها كان قد دب فيها الفساد
من قبل الملوك والأساقفة؛ حتى غلبت على أهلها الوثنية وعبادة الشهوات والمال،
فأمكن دين التوحيد والفطرة السليمة والعقل والفكر ومكارم الأخلاق أن يظهر عليها
في معاهد قوتها، وشوكتها من البلاد المقدسة وغيرها. اهـ.
قلنا: نعم، ولكن كيف جاء هذا الدين النقي الكامل من قِبَل رجل أمي بعد
استكماله سن الأربعين، وقد ثبت بالاستقراء وعلم قوى النفس أن هذا من المحالات،
وخوارق العادات؟ فلم يبق إلا أنه من الله عز وجل كما شرحناه في كتاب الوحي
المحمدي.
وأما توحيد قوى القبائل العربية المتفرقة، وجعلها أمة واحدة في سنين معدودة
فعللوه بأن العرب كانوا أذكياء الأذهان، بلغاء اللسان، أقوياه الجنان، فجاءهم
زعيم حكيم يدعوهم إلى توحيد العقيدة وأخوة الإيمان، ويعدهم عن الله تعالى بالغنى
والقوة والسلطان في الدنيا، والخلود في جنات النعيم في الآخرة، فآمنوا به،
واتبعوه.
وقلنا في الرد عليهم: إن هذا صحيح في ظاهره؛ ولكنه مخالف للطبع والوراثة
وسنة الإجماع في أقوام وقبائل رسخ فيها الشقاق منذ ألوف السنين، فكيف يزول
بمجرد الدعوة في سنين معدودة؟ كلا إنهم ما اتبعوه إلا بما ثبت عندهم من إعجاز
هذا القرآن لهم في لغتهم بنظمه وأسلوبه وبلاغته وسلطانه الروحي على عقولهم
وإرادتهم، وإيقانهم أنه من وحي الله تعالى، لا من كلامه، وبما أيد هذا من سيرته
وأخلاقه وأعماله وآيات الله الأخرى له، قال تعالى له: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62-63) وما كان من حكمته
صلى الله عليه وسلم في سياستهم فهو من توفيقه تعالى له وآياته في تربيته قال:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل
عمران: 159) .
على أن تربية الأمم النفسية والاجتماعية لا تتم إلا بطول الزمن والانتقال من
جيل إلى جيل، وقد ضربت لهم المثل في كتاب الوحي المحمدي ببني إسرائيل،
وما شاهدوا من آيات الله لموسى في مصر، ثم في التيه، ولم يؤثر فيهم ذلك بما
جعلهم أمة واحدة خاضعة لشريعة التوراة، إلا بعد انقراض الجيل الأول في التيه
وهو أربعون سنة، وأما قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقد تربوا في كنفه في
عشرين سنة، صاروا فيها خلقًا جديدًا، وكان الجيل الأول أفضل الأجيال وأكملها
في الدين والأدب والأخلاق والسياسة وحكم الأمم، وتفضيل دينهم على أديانهم،
ولغتهم العربية على لغاتهم طوعًا واختيارًا؟
وعللوا فتح الصحابة رضي الله عنهم للممالك الكثيرة، وإسقاطهم لدولة الفرس
العظيمة في مهد قوتها، وتدويخ دولة الرومان العظمى، وإجلاءها عن ممالكها في
آسية وأفريقية في سنين معدودة، وامتداد ملك الإسلام في العصر الأول من شاطئ
بحر الظلمات (المحيط الأتلانتي) إلى حدود الصين - بأن حكومات هذه الدول
كانت قد هرمت وضعفت بالظلم والفسق والفساد في الأرض، وعبادة المال
والشهوات، واتباع الباطل، فجاء هؤلاء العرب بدينهم الجديد معتصمين بالحق
والعدل والعفة وسائر الفضائل على ما أوتوه من الشجاعة والقناعة، ففضلتهم
الشعوب والأمم على حكوماتها الفاسدة فكانت ظهيرًا لهم على أنفسها.
قلنا: نعم، ولكن تلك الدول وشعوبها لم كانت لا تزال أقوى من العرب، وأكثر
استعدادًا للحرب، ولا سيما الغنية بأسلحتها الخاصة بها، وحصونها وخنادقها وكثرة
عددها، وما يقتضيه غزوها في عقر دارها، ودفاعها عن حياتها القومية والدولية
من الاستبسال، ولم يغن عنها كل ذلك شيئًا؟ أفلم يكن انتصار العرب عليها بالحق
والعدل والفضائل آية من الآيات، ومعجزة من خوارق العادات، ومصداقًا لوعد الله
لهم في كتابه بنصره، وإعلاء دينهم على الدين كله، ووعد نبيهم لهم بملك كسرى
وقيصر؟
صرح بهذه المعاني كثير من علماء الإفرنج المستقلين، حتى المتحمسين في
النصرانية كالدكتور ألفرد. ج بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) الذي جمع فيه
بين الإنصاف التاريخي المضطرب، والحماس الديني الإنكليزي الملتهب.
هذه إشارة وجيزة إلى ما فعل محمد بن عبد الله، بل محمد رسول الله وخاتم
النبيين، ولم يفعل مثله، ولا ما يقرب منه أحد من النبيين ولا الفاتحين، ولا
الحكماء المصلحين، ولا الساسة المشترعين، والعجب العجاب أن يجهل تفصيله
أكثر المسلمين، وأن يعلمه الأجانب؛ فيعترف به المنصفون، ويؤمن به منهم
الموفقون، ويعلله غيرهم بما يزيده قوة وتأييدًا، فمتى يثوب المسلمون إلى رشدهم،
ويرجعون إلى هداية دينهم؛ فيعود به إليهم مجدهم.
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) عودوا إلى كتابكم، وهدي نبيكم،
وسيرة سلفكم أيها المسلمون، فلن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح بها أولها، كما قال
الإمام مالك رحمه الله تعالى والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... (محمد رشيد رضا)
__________(34/129)
الكاتب: عبد الله بن علي بن يابس
__________
تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده
(لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء
وغيرهم، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ
الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار
المصرية، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك، ومنهم إمام اليمن وإمام
عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ
صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب
الثانية؛ فسررنا به، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه، وهذا نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي
ألفتموه فألفيته أولاً في بابه، بديعًا في خطابه، أبان بأن الدين ضرورة لازمة،
وحجة قائمة، أقام الحجة على صحة الإسلام، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة.
بأوضح برهان وأجلى تبيان، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية، والتشكيكات.
الإلحادية، والمغالطات الإيهامية، التي أرصدها دعاة الفتنة، وأعدها رؤوس
الضلالة حرابًا للدين، وغوثًا للشياطين، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم، وأسرار
التشريع ما سطر التنزيل بيانه، وأجمل تبيانه، ومع ذلك فهو سهل المتناول، قريب
إلى الفهم، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله.
وبما أن مسائل العلم معترك العلماء، ومجال الأذكياء، وساحة الميدان،
وحلبة الرهان، والجواد قد يكبو، والسيف قد ينبو، والخطأ لم يعصم منه إلا
الشارع، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ فإن لي في كتابكم
ملاحظات سأبديها، ومواضع سأتكلم فيها، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه،
ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم
لمنازلة الانتقاد، وتواضعتم لهذا المراد، وتلك خلة العلماء السابقين، وطريقة القادة
المهديين.
(1) قلتم في صفحة 163: قد شرع الله لإبطال الرق طريقين: عدم تجديد
الاسترقاق في المستقبل. وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة
والإجماع، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة
الاسترقاق، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء
قد أبطل أساسه، وحرم تجديد أصله، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة،
وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة،
فهل تقولون: إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح؛ لأن تجديد الرق قد مُنع؟ فإن قلتم بهذا فما
رأيكم في الدليل الثاني، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل، وجوَّز
بالقول والتقرير، وما أرى أنكم تنكرون هذا؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق
من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم.
وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على
شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون،
بل آلاف من الرقيق، وكان عثمان بن عفان والعباس من أكثرهم رقيقًا، ولعمر
رقيق، ولأبي بكر رقيق، وهذا ما لا ينكره أحد، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام
الساعة والكفار موجودين في كل زمن، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا
عليه بطريق الحرب.
(2) قلتم في صفحة 149 على قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) : إن حروب النبي
للكفار كانت كلها دفاعًا، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز
إلا إذا قاتلونا، والكلام عليه من وجوه:
(أولاً) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم
اعتداءً؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو
إدخال الإصلاح عليهم، وحملهم على الطريق القويم، وإنقاذهم من نار الجحيم.
(ثانيًا) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف؛ فكيف
إذا عارض منطوقًا صريحًا؟
(ثالثًا) : إن الآية {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) ، وآية {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: 5) ،
والآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 29) وما
يشابههن، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن
لم يقاتل.
(رابعًا) إن آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 190) ، {وَجَاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ} (المائدة: 35) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع
عن النفس فحسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: الرجل يقاتل
شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله
القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له.
(خامسًا) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم
إلا سماع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار.
(سادسًا) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل
من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من
أئمة المسلمين، قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس،
وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل.
(سابعًا) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم: اغزوا في سبيل
الله، قاتلوا من كفر بالله، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال.
وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع
من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم، وآية الجزية مبينة للإكراه، وأما تعليل
الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها، وأما {َ وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وما في معناها، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن
المدنيات.
(3) قلتم في صفحة 162: على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط
جعل عصمتها بيدها؛ فتطلق نفسها إذا شاءت. قول الشريعة هي الكتاب والسنة
والإجماع، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين، والمنار معروف أنه
يدلل على ما يذهب إليه، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة، وأنا لا أعتقد أنكم
تقلدونه، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق
تزوج بامرأة في المغرب؛ فولدت أن الولد يلحق به، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما.
فهل تقولون: إن الشرع ألحق الولد به. وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في
الوحي المحمدي، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث، فإن لم يكن
إلا في رأي أبي حنيفة، فهو شرط ليس في كتاب الله، ومن اشترط شرطًا ليس في
كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وهو قول ليس عليه أمر الشارع، ومن
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا
ولاية على أمر الرجل (ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط
الأسر وتفريق الجماعات، وهي التي تغضب للكلمة، وتطيش للصدة، وتتميز
للإعراضة.
(4) قلتم في صفحة 187: فكلام الله عندنا شأن من شؤونه، وصفة من
صفات كماله كعلمه، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء
ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء. هذا التعريف لا
يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك، والسفيانين، وأحمد، وإسحاق،
ويحيى بن معين، والبخاري ولا كالزهري، وأيوب، وابن سيرين ولا عن
أحد من الصحابة، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس، وما رأيكم لو كشف
الله لعبد بإزالة الحجب، فهل يقال: إنه كلمه؛ فإن تعريفكم صادق على هذا؟ وهلا
يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب؟ وهل
تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب، أو لما هو أعم؟ وهل أنتم تعتقدون
أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه؟
(5) وقلتم في صفحة 8: وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد؟ فهل عندكم
خبر صحيح يعين ليلة المولد، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف،
وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، ولا أظن
أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل، على أني اختصرت خوف
الإطالة والملل، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل، والله يوفقنا جميعًا إلى
سبيل الرشاد.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن علي بن يابس
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/140)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
انتقاد مسألة الرق والجواب عنها
(1)
انتقد الأستاذ هذه المسألة من سبعة وجوه نتكلم على عباراتها بالإيجاز، ثم نرد
على تلك الوجوه بالترتيب فنقول:
إن إطلاق إبطال الرق في عبارة الطبعة الأولى قد استثني منه بعد سطرين
قولنا: (إلا استرقاق الأسرى والسبايا) ... إلخ.
ونُقِّحت في الطبعة الثانية بقولنا في الصفحة 271: قد شرع الله تعالى لإبطال
الرق طريقتين: تحديد تجديد الاسترقاق في المستقبل أو تقييده ... إلخ.
وقد قال المنتقد: قوله: (إنه مُعَارَض بالكتاب والسنة والإجماع) .
استدل على الأول بأن في الكتاب كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي
هو نتيجة الاسترقاق (ولا يصح أن يبني شرائعه على شيء قد أبطل أساسه،
وحرم تجديد أصله) ، وبأنه ندب إلى العتق وهو لا يوجد إلا بوجود الرق وجوابه
من وجوه ... إلخ.
(أولها) أننا لم نقل: إن الله تعالى أبطل أساس الرق، وحرم تجديد أصله،
بل بينا أنه قيد تجديده بالحرب الشرعية المعروفة، وهذا القيد لا يمنع وجود الرقيق
منعًا باتًّا، بل يجوز أن يوجد بوجود قيده وشرطه.
(ثانيها) أنه يجوز بالإرث والتناسل؛ فإن ولد الرقيق مثله.
(ثالثها) إن ثبت أن تجديد الرقيق محرم شرعًا تحريمًا مطلقًا، أو مقيدًا
فليس للمنتقد أن يعارضه بقاعدته التي اخترعها، وهي أن الله تعالى لا يصح أن
يبني شرائعه على كذا، وإن لم يثبت فلا حاجة إلى هذه القاعدة لإبطاله.
(رابعها) أن كلمة: إن الله لا يصح أن يفعل أو أن يُشَرِّع كذا. لكلمة جريئة
جدًّا أستغفر الله من حكايتها مهما تكن صفة قائلها ونيته، وأدع للأستاذ المنتقد بعد
هذه الذكرى رأيه فيها.
(خامسها) أن هذه الكلمة لا تنطبق على مسألتنا؛ فإن الله تعالى لم يبن
شرع العتق لعباده على أساس الاسترقاق لأجل أن يوجدوا الرقيق ثم يعتقوه، فيكون
كل من الاسترقاق والعتق قربة مطلوبة؛ وإنما بنى طلب العتق على وجود الرقيق
بالفعل، وشرعية عتقه تدل على قبحه؛ لأن العتق إبطال للرق ولا يتقرب إلى الله
تعالى بإبطال الخير وإزالته، فهي كشرعية التوبة من الذنب لقبحه، ولا يقال: إن
تحريم المعاصي ممنوع؛ لأنها الأساس لوجوب التوبة، وهي أشد وجوبًا من العتق
الواجب فضلاً عن المندوب.
(سادسها) إن قوله: فهل تقولون إن العمل بتلك الآيات إنما محله العمل بها
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح بعده - سؤال لا محل له، وغفلة ما كان
يظن بمثله الوقوع فيها.
(سابعها) المعلوم بالإجماع أن العتق مشروع ومثاب عليه في كل زمان
ومكان يوجد فيه الرقيق إلى يوم القيامة، وسببه أن الرق قبيح يتقرب إلى الله تعالى
بتحريره إلى أن يُزَال الرقيق، فإن زال من مكان لم يجب على أهله إيجاده، لأجل
عتقه، ولا يجب لذاته، ولكنه قد يشرع بوجود سببه الشرعي وهو ما بيناه، ولو
صحت دعواه لكان تحرير المسلمين جميع ما يملكون من الرقيق محظورًا لاقتضائه
عدم تجديدهم للعتق بعده، فهو بهذا الاقتضاء بمعنى عدم تجديدهم للاسترقاق.
(استدلاله على معارضته بالسنة والإجماع)
واستدل على الثاني، وهو معارضة ما قلناه بالسنة بأن النبي صلى الله عليه
وسلم قد استرق بالفعل، وجوَّز الاسترقاق بالقول والتقرير، وعلى الثالث وهو
معارضته بالإجماع بأن الصحابة والتابعين وتابعيهم قد استرقوا بالفعل أيضًا، وهذا
على ما فيه لا يرد على ما قلته، فإنني قد صرحت فيه بأن لإمام المسلمين في كل
حرب شرعية أن يسترق الأسرى والسبايا إذا كانت المصلحة في الاسترقاق، وأما
زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن بعدهم لم يستولوا على أحد
من نساء العرب وأولادهم إلا استرقوهم، وإن هذا معلوم من سيرته وغزواته صلى
الله عليه وسلم باليقين - فهذا غير صحيح على إطلاقه ومراده، ولو صح لم يكن
ناقضًا لما قلناه، والتحقيق أن عرف العرب في الحرب أن يكون الأسرى والسبايا
مِلْكًا للغالب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذه ذريعة للعتق وجذب الناس
إلى الإسلام برحمته لا لبقاء الرق، كما فعل بتزوجه جويرية بنت الحارث سيد
قومه فأعتق أصحابه جميع أسرى بني المصطلق وسباياهم وهم على كفرهم، فكان
هذا سببًا لإسلامهم، وكما أعتق جميع قريش رجالهم ونساءهم يوم فتح مكة بقوله:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، وكما أعتقوا بعد ذلك سبايا هوازن.
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد استرقوا جميع نساء العرب
وأولادهم الذين استولوا عليهم تقربًا إلى الله بالسبي كما يوهم كلامه، فأين كان
أولئك السبايا والعبيد؟
إننا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتق ما ملك من الرقيق، ولا نعرف
من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده أحد من سبايا العرب، ولكن روي
عنه أنه كان عنده من سبايا يهود قريظة ريحانة بنت شمعون وأنها امتنعت أولاً عن
الإسلام، ثم أسلمت وأنه خيرها صلى الله عليه وسلم بين عتقها والتزوج بها كصفية
أم المؤمنين، واختلفت الروايات عنها، والراجح فيما أذكر أنها اختارت بقاءها على
الرق.
وروي أن زينب أم المؤمنين أهدت إليه جارية، ولا أدري هل كانت موروثة
من رق الجاهلية، أم هي من سبايا الإسلام، ولا من أي جنس كانت.
ثم ختم المنتقد كلامه في هذه المسالة بقوله (فسنة الإسلام جواز الاسترقاق
لمن استولوا عليه بطريق الحرب) وأنا لم أنف جوازه؛ وإنما قيدت فعله أو تركه
بالمصلحة، وقوله هذا يجيز تركه مطلقًا، وهو يعارض قاعدته الغريبة، واستطالته
العجيبة.
وأما ما قررته من نوط الاسترقاق بالمصلحة التي ينفذها إمام المسلمين فهو
مروي عن الإمام أحمد ومنصوص في كتب فقه الحنابلة وهو مذهب المعترض،
ففي كتاب الفروع: ويختار الإمام الأصلح لنا - لزومًا كما في ولي اليتيم، وفي
الروضة ندبًا - في أسرى مقاتلة أحرار بين قتل ورق ومن وفداء نص عليه. اهـ
(ص 569 جزء 3) .
وقال في بحث وجوب الجهاد إذا وقع النفير العام ولو بدون إمام ما نصه:
وسأله (يعني الإمام أحمد) أبو داود عن بلاد غلب عليها رجل فغزا معه قوم: يغزو
معهم؟ قال: نعم. قال: يشتري من سبيه؟ قال: دعنا من هذه المسألة؟ الغزو ليس
مثل شراء السبي، الغزو فيه دفع عن المسلمين، لا يترك ذلك لشيء. اهـ) ص
576 منه، ومثله في (مسائل الإمام أحمد) وقال في المسألة: فيتوجه أن يقال في
سببه كمن غزا بلا إذن. اهـ، والمراد أن الإمام أحمد امتنع من الفتوى بشراء
سبي السلطان المتغلب؛ ولكن المعترض يبيح السبي لكل مسلم حتى قُطَّاع الطرق
النخاسين كما سمعنا منه، ولعله رجع عنه عند كتابة هذا البحث.
(البقية للجزء الآتي)
__________(34/144)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفنيد اعتراض كاتب جزويتي
على كتاب الوحي المحمدي
(نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت
فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها)
(1) تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار:
افتتح الكاتب كلامه بأنه (لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [1]
منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله
(والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر، وصديق
ابن سعود الوهابي، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم، ونبذ ما يستحدثه
المحدثون، مخالفًا لتقاليد السلف) .
فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق
خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة (المحافظ) ، وكلمة (نبذ ما يستحدثه المحدثون)
... إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات، وإنما أنا محافظ على
القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط، وداعٍ
للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية
التي لا تخالف تلك الأصول، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين، وأتم
نعمته على العالمين، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين، التي مناطها اجتهاد
المجتهدين، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف؟
(2) وصفه للكتاب كما رآه:
قال: (إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية
التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين) وإنه (ليس مستنفد المواد
متناسب الأجزاء، متسلسل القضايا، فيغور فيه فكر المفكرين، بل هو مجموعة
عجالات ظهرت أولاً في المنار، ثم برزت بكتاب مستقل، على أن سهولة مطالعتها
لما فيها من العناوين والفهارس، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل
تجددت، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها، من غير إعادة النظر
فيها) . اهـ.
(أقول) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين
والنصارى؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف، متسلسل القضايا فيها،
وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي، والمناسبات الاستطرادية، ولو
وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله
ونظامه بحيث يغور فيه فكره، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى
بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام، وإنما وُضع الكتاب لإثبات
الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا،
بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن
يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم، والرد على المسائل التي
تجددت في هذا العصر، وهو الذي حمله على الرد عليه.
* * *
(3) فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار
المادية:
خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب
الوحي، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح
مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب، بفضل التمدن
الأوربي! ! !
يا سبحان الله! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا؟ نعم وإنه قد كتبه
ونشره في مجلة المشرق اليسوعية، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر.
إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء
نفسي، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به.
وقول المنتقد: إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب. هو صحيح في
الجملة لا التفصيل، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات، وعلى
المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم، وإني لأنعي على
الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية، لا
جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط.
وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع، هو ما رواه لنا شيخنا
الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه،
وعلى أوربة كلها، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة، ويتخذ منها القياس
المنطقي على نتائجها المستقبلة.
وإنني أنقل من الصفحة 868 من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من
حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في (برايتون) من جنوب إنكلترة في 10
أغسطس سنة 1903، أي: منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف (ف) وإلى
الأستاذ الإمام بحرف (م) وهو:
(ف) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ (م) نعم زرتها منذ عشرين سنة.
(ف) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟
(م) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص، وهو
البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني،
وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله، وقد ألممت بها الآن منذ أيام،
فلم أدرس حالة الناس، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك.
(ف) إن الإنكليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ
عشرين سنة.
(م) فيم هذه القهقرى؟ وما سببها؟
(ف) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية
التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق
قومنا، وهكذا سائر شعوب أوربة.
(م) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء، واجتهادهم أن ينصروا الحق
والفضيلة على الأفكار المادية.
(ف) إنه لا أمل لي في ذلك؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية
حده في أوربة، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة.
(م) هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على
تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها.
(ف) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة، وسترى الأمم يختبط
بعضها ببعض (ولعله ذكر الحرب) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم، أو فيكون
سلطان العالم. اهـ.
وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث، ونشرناه في ص 751
من مجلد المنار 18، ثم في ص 869 من تاريخه وهو:
(ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة) ... إلخ؟ جاءت منه
مصحوبة بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، ولو جاءت من ثرثار
غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك
إلا اشمئزازًا وغثيانًا
هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان
وتوفير راحته، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها
على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من
الحديد (المظلم) اللامعُ المضيءُ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي
الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ حار
الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟ الرجوع إلى
الدين ... إلخ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل
زمان لكنهم يعودون فيجهلونها) . اهـ.
ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة
قبلها، كما سمعنا بآذاننا فيها، ثم ما صرنا نقرؤه عنها، إلى أن بلغ في هاتين
السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة
الماحقة، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة، وانحلال عرى الزوجية المقدسة
فيها، ولا أقول وعبادة المال، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من
اليهود وغيرهم من الرأسماليين، وعندي قانونهم السرى في ذلك، فهو مما يخالفون
فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم (الغاية تبرر الواسطة) ، وأما إباحة أعراض النساء
بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض، وإباحة هذه الضراوة بالحرب
بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة
كل يوم، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم.
أين الدين في أوربة، وهذه أكبر دولة فيها (الروسية) تبذل كل قواها في
محوه من بلادها الواسعة، بل من جميع الأرض، ودعايتها قد تغلغلت في سائر
شعوبها الغربية، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد،
بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد، لقضي عليها كلها، وها هي ذي
فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها؟
أين الدين في أوربة، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها
وعظمتها، وتفوقها في علومها وفنونها، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما
تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها
هذا؟
بل أين النصرانية في أوربة، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح
ليس أبًا ولا إلهًا، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة، فأفتى
الألوف بعدم عصمتها، كما نشرنا ذلك في المنار.
ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة! كلا،
إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض،
وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي، وظلمها الاستعماري، ولكنهما سيزيدانه
حياة وقوة، ونورًا وظهورًا، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا.
حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها
غير الاهتداء به؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط
في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية
والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة، كما بيناه في (كتاب الوحي
المحمدي)
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الكاتب يسميني تارة السيد محمد رضا، وتارة الشيخ محمد، أو الشيخ رضا، وتارة السيد رشيد رضا إلخ، والأمر سهل.(34/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(7)
(المؤتمر والملك والحكومة)
إن الرأي الذي كان مستقرًّا في ذهن الملك فيصل أن ينفض المؤتمر السوري
بعد إعلانه للاستقلال، وأن تؤلف لجنة تضع مشروع القانون الأساسي، وقانون
انتخاب المجلس النيابي، وبعد إتمامهما تشرع البلاد في انتخاب النواب؛ ولكن
إخواننا أعضاء حزب الاستقلال العاملين لم يوافقوه على هذا الرأي، بل أجمعوا
على بقاء المؤتمر وقيامه بعمله إلى أن يتمه، وينتخب المجلس النيابي ويجتمع،
وما كان فيصل ليخالفهم فيما يتفقون عليه، بل كان يواتي أفراد الأذكياء منهم الذين
يكثرون لقاءه في أمور يتعارضون فيها كالعصابات.
فكان من ذلك وقوع ما ساء صديقته إنكلترة في فلسطين فوق ما يسوء فرنسة
في سورية ولبنان، وعلى كونه متفقًا مع حكومة فرنسة على قواعد علاقته معها
في سورية، وما عاد من باريس إلى سورية إلا ليحمل منها التفويض الذي يخوله حق
إمضائها كما تقدم، وقد قبل إعلان الاستقلال والمبايعة معتقدًا أنه يكون أقدر على
الاتفاق معها - وهو ملك - فكان مصرًّا على رأيه في العودة إلى فرنسة بعد إرضاء
أهل الرأي بذلك، وكان رأيي ورأي الشيخ كامل قصاب تقييده في ذلك بما لا
يرضيه، وسأعود إلى الكلام في هذه المسألة.
تقرر بقاء المؤتمر، وأن يتولى وضع القانون الأساسي للدولة السورية، وكان
أول اختلاف في الرأي حدث بيني وبين الملك فيصل وحكومته أن المؤتمر قرر أن
تقدم له الوزارة بيانًا بالسياسة التي تجري عليها، وتطلب منه اعتمادها، فعرض
رئيسها علي رضا باشا الركابي الأمر على جلالته فغضب، وقال: إنه ليس للمؤتمر
حق في هذا الطلب، وإنه لا يأذن للحكومة أن تكون تحت سيطرة مؤتمر أكثر
أعضائه شبان أغرار لا رأي لهم ولا شأن.
ورأيت أن المؤتمر مُصِرّ على تنفيذه قراره، وأن الملك مُصِرّ على رفضه،
وأن هذا أول شقاق في حكومتنا الجديدة يجب تلافيه، لما يُخشى من قبح أحدوثته،
وسوء عاقبته، فزرت جلالته زيارة خاصة لأجل إقناعه بذلك، فكان أول ما حدثني
به: ما رأيك فيما قرره المؤتمر في مسألة الوزارة؟
قلت: فوجئنا بهذا الاقتراح في الجلسة مفاجأة فكرهته؛ لأن مثله يجب التمهيد
له بالبحث وإجالة قداح الرأي فيه فإنه ذو وجهين: إما جعل الوزارة مستبدة، لا
يحاسبها على عملها محاسب في حكومة جديدة ليس لها تقاليد راسخة، وإما سيطرة
مجلس كمؤتمرنا أكثر أعضائه من الشبان الأغرار الذين تغلب عليهم الحماسة وحكم
الشعور، وكنت أميل إلى تأجيل الاقتراح لأجل تمحيص حزبنا له، فلم أوفق لذلك؛
لأن الأكثرين قبلوه بمنتهى الارتياح، وحسبوه من الضروريات، وامتنعت من
التصويت له بدون بحث سابق حتى إن بعضهم أمسكوا بيدي عند أخذ الرأي لأجل
رفعها فأبيت.
قال: وما رأيك فيه الآن؟
قلت: رأيي إنه لا يمكن الرجوع عنه بعد وقوعه فلا بد من تنفيذه.
قال: أنا لا أقبل أن أعطي هذه السلطة لهذا المؤتمر، إنه ليس بمجلس نيابي
قلت: بل هو أكبر من مجلس نيابي (وفي هذه الأثناء كان قد حضر إحسان
بك الجابري رئيس الأمناء له فقال وهو واقف: إن هذا المؤتمر يا مولاي جمعية
تأسيسية) .
قال الملك: إنه لا شأن له، وأنا الذي أوجدته.
قلت حينئذ: بل هو الذي أوجدك، إنك كنت قبله قائد جيش الشرق التابع
للورد اللنبي القائد العام للجيش الإنكليزي، فجعلك هذا المؤتمر ملكًا لسورية، وإننا
لا ننكر أن لك فضلاً عظيمًا بمساعدة حزب الاستقلال العربي على جمع المؤتمر؛
ولكن المؤتمر قد اجتمع، وأثبت أنه ممثل للشعب السوري وموضع ثقته، وأيده
زعماء البلاد من علماء الدين والرؤساء الروحيين والزعماء والوجهاء، ونيط به
إعلان استقلال سورية الطبيعية التام المطلق، وجعلها حكومة ملكية نيابية، وشرع
في وضع قانون أساسي لها بموجبه يكون لها مجلس نيابي منتخب.
فهو الآن مجلس تأسيسي تشريعي يجب أن يكون له الإشراف على هذه
الحكومة إلى أن يتم عمله، ويكون للبلاد مجلس نيابي يحل محله، فهل يصح أن
يغمط حقه، وأن يقع الشقاق بينه وبين الحكومة من أول وهلة، فنكون مضغة في
الأفواه، وحجة للأجانب على أنفسنا بأننا لا نصلح للاستقلال؟ هذا ما لا ترضاه يا
مولاي.
بعد هذا قنع جلالته، وأذن لرئيس الوزارة علي رضا باشا الركابي بكتابة
البيان المطلوب، وإلقائه في المؤتمر ففعل.
(تنظيم قوى العشائر والقبائل السورية)
ذكرت في النبذة السادسة من هذه الترجمة أنني اقترحت على الإخوان وجوب
إعلان استقلال سورية؛ ليكون الحلفاء أو الإنكليز والفرنسيس فيها أمام ما يسمونه
(بالأمر الواقع) في وقت كانوا لا يزالون فيه مختلفين في تقسيم البلاد العربية
وتحديد نصيب كل منهم فيها.
وكنت أعتقد أنه إذا لم يكن للبلاد قوة دفاع تعتمد عليها في حفظ الاستقلال؛
فإنه لا يكون لهذا الأمر الواقع قيمة عندهم، ولا يحسبون لأهلها أدنى حساب في
أمرهم، وأن من المتعذر أن تؤسس البلاد قوة عسكرية يؤبه لها في الدفاع عنها،
وإنما غاية الممكن من هذه الناحية أن تكون لها قوة تكفي لحفظ الأمن الداخلي،
وتنفيذ النظام فيها، وتكميل مظهر الدولة، وأبهة الملك في نظر دهماء الأمة.
وأما الدفاع الممكن للاعتداء الخارجي الذي يعتد به، فهو ما يسمى الوطني أو
الأهلي، وهو يتوقف على تنظيم جميع قوى القبائل والعشائر المنتشرة فيها من
الصحراء إلى ساحل البحر.
فأما قبائل أعراب البادية من هؤلاء فكلهم مسلحون؛ ولكن بأسهم بينهم شديد
فهم لا يفتؤون يتقاتلون لأدنى الأسباب، وليس لهم مرجع وحدة، ولا وازع قوة في
وردهم وصدرهم، وكان من الممكن أن يفيؤوا إلى وازع الحكومة السورية المستقلة
ويدينوا لملكها، وقد رأينا شيوخهم قبل الاستقلال وبعده يكثرون الاختلاف إلى باب
الأمير، فالملك فيصل، ولا سيما الشيخ نوري الشعلان وهو شيخ قبائل الرولة
أقوى قبائل صحراء الشام وأعزهم نفرًا.
وأما العشائر المقيمون في داخل البلاد وأكثرهم متحضرة فلا تجمعهم عقيدة
ولا نسب، ولا رابطة تربية ولا مصلحة، ولكنهم أدنى إلى النظام وطاعة الحكومة
الوطنية من أعراب البادية، ومنهم الدروز والنصيرية من باطنية الشيعة، والدنادشة
والجراكسة من مذاهب السنة، ويمكن توجيههم كلهم إلى دفع العدوان الأجنبي
عن وطنهم المشترك، ويكون سائر الأهالي عونًا ومددًا لهم.
اقترحت على جلالة الملك فيصل وضع نظام لقوة كل قبيلة، وكل عشيرة في
موضعها يقرر فيه ما يحتاج كل منها من السلاح والذخيرة والنفقة لتشكيل
العصابات عند الحاجة إلى الدفاع، وجعلها تابعة لهيئة من الضباط السوريين أركان
الحرب، وتخصيص مبلغ من المال لذلك، وما كان هذا المبلغ ليزيد في أول الأمر
عما كان يبذله في سبيل العصابات السرية التي كان ضرها أكبر من نفعها،
فاستحسن المشروع كما كان يستحسن غيره مما يعرض عليه؛ ولكنه لم يعطه حقه
من الإكبار والاهتمام، والسبب الخفي لهذا أنه كان يعتقد أن مستقبل سورية رهين
بالاتفاق مع فرنسة على الوجه الذي تقرر بينه وبين وزيرها كلمنصو، وأحالني فيه
على رئيس الوزارة صديقي علي رضا باشا الركابي، فكان رجائي في إكباره له
أكبر من رجائي في الملك الذي كنت راضيًا منه بقبوله، فأظهر الوزير لي من
الاستحسان ما كنت أحب؛ ولكنه كان يُسَوِّف في تنفيذه بكثرة الشواغل بتأسيس
الحكومة والخلاف بينها وبين المؤتمر حتى انتهى ذلك.
كنت أكلم كلاًّ من جلالة الملك ودولة الوزير في ذلك منفردًا فيعد، حتى إذا
التقيت بهما مجتمعين رجوت الملك أن يصدر أمره الرسمي للوزير بتنفيذه فأمر،
فسألت الوزير بعد أيام عما فعل، فقال إنه قرر تخصيص مبلغ شهري قدره خمسة
وعشرون جنيهًا ليكون راتبًا لمدير المكتب الذي ينظر في تنفيذ المشروع.
فساءنى هذا الجواب، وقلت له: إن الأمر أكبر من هذا المكتب، ومديره
وراتب مديره، وإنه يجب أولاً أن تؤلف له لجنة من أعلى الضباط الوطنيين معرفة
وهمة لينظروا في المشروع مع بعض أهل الرأي، ويجب عليهم أن يدرسوا كل ما
كتب في اللغة التركية واللغات الأجنبية في نظام العصابات البلقانية وعشائر الأفغان
التي نظمها الأمير عبد الرحمن خان وغيرها، ليضعوا نظامهم في ضوء ساطع،
ويقدروا له الميزانية الموقتة للتنظيم، والمال الاحتياطي الذي يتوقف عليه العمل إذا
هوجمت البلاد، واقتضت الحال إضرام نار الدفاع في جميع الأغوار والأنجاد، ولا
أعتقد أن المشروع سيُنَفَّذ إلا إذا أُلِّفَتْ هذه اللجنة وحضرت جلساتها بنفسي، فوعد
بالنظر في ذلك؛ ولكنه لم ينظر، فعلمت أنه يرضيني بالكلام، ويجعل راتب
الإدارة الجديدة معاشًا لأحد صنائعه، فزال ما كان عندي من الأمل فيه، وهو كل ما
كنت أرجوه منه.
والظاهر أنه لم يكن يعتقد بضرورته أو بفائدته؛ ولكن الثورة السورية التي
حدثت بعد قد أثبتت لنا أن هذا المشروع لو تم لنلنا به ما نريد.
(إسقاط وزارة علي رضا باشا الركابي)
ثم كان من سيرة الركابي باشا أن سخط الملك فيصل عليه من ناحية، وسخط
عليه أكثر رجال حزب الاستقلال العربي من ناحية أخرى، وعزم الملك على
إسقاط وزارته، وقد كتبت في مذكرتي يوم الأحد 6 شعبان 25 أبريل (نيسان) ما
نصه:
اشتد سخط الملك فيصل من هذا الوزير لسوء تصرفه، ولما أحدثه من الشقاق
في حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وعزم على إسقاط وزارته لإخراجه وبعض
وزرائها الضعاف الرأي والعزيمة، فأمر بتأليف لجنة سرية للنظر في تأليف وزارة
جديدة، والركابي لا يزال يجلني ويبالغ في احترامي، وأسوأ ما ساءني منه
مراوغته في مشروعي الأهم، وهو تأليف إدارة للعشائر والقبائل، وليس لي
غرض شخصي أرجوه منه. اهـ.
وكتبت في يوم الإثنين 7 شعبان 26 أبريل في هذا الموضوع:
سمرنا البارحة عند إحسان بك الجابري مع الملك فيصل سمرًا مفيدًا لا ينسى،
السمار: القَيْلُ (أعني الملك) ، وساطع (بك الحصري) ، وهاشم (بك الأتاسي) ،
وعزت (دروزة) ، وعثمان (سلطان) ، وسعد الله (الجابري) ، وصاحب الدار
(إحسان بك) ، وقد تحقق زوال ثقة الملك بوزارة الركابي. اهـ.
وأقول الآن: كان موضوع ذلك السمر بيان حال وزارة الركابي، وما يشكى
منها، وما يجب من استبدال غيرها بها، وما تجب مراعاته في ذلك، وإذ كانت
الجلسة سرية لم أكتب شيئًا عما دار فيها ولا فيما بعدها لئلا تسقط مذكرتي مني أو
تُسْرَق كما سُرِقَ دفتر مذاكرات الملك؛ فيطلع أحد عليها؛ وإنما كنت أذكر أسماء
السامرين، وأعبر عن الملك بالقَيْل (بفتح فسكون) .
وقد سمرنا الليلة التي بعدها في دار ساطع بك الحصري، وكان في السمار
زيادة عمن ذكرت من حاضري ما قبلها، عبد الرحمن بك اليوسف، ويوسف بك
العظمة، ويحيى بك حياتي الضابط المشهور، ولم يحضرها جلالة الملك، وقد
اقترحت في جلسة بعدها عند إحسان بك أن يدخل في الوزارة الجديدة، الدكتور
عبد الرحمن شهبندر، واستحسنت أن يكون يوسف بك رئيسًا لها، إذا كنا نريد أن
تكون وزارة دفاع قوية، وكان قد رشح بالاتفاق، فقال الملك إنه يحب يوسف بك
ويثق به؛ ولكنه لا يرى أن يكون رئيسًا للوزارة في سنه هذه، فيكفي أن يكون وزيرًا
للحربية.
(تشكيل هاشم بك للوزارة وانتخابي لرياسة المؤتمر)
ولم يبد الملك لنا رأيه في الرئيس، حتى إذا ما انتهينا من رأينا في الأعضاء
فاجأنا بإصدار أمره الرسمي لصديقنا هاشم بك الأتاسي بتشكيل الوزارة ففعل،
واعتقدنا أن المرجح له عنده رويته وأناته تجاه حماسة العظمة وشهبندر، وما يرجو
من مواتاته له، وعين الدكتور عبد الرحمن شهبندر وزيرًا للخارجية، ويوسف بك
العظمة وزيرًا للحربية، فكان كل منهما أشد مواتاة لجلالته من هاشم بك.
كان رضا بك الصلح وزير الداخلية في وزارة الركابي أقدم أصدقائي فيها،
توثقت عرى الصداقة بيني وبينه في الآستانة سنة 1312 (1909) فلهذا ولما له
من المكانة في بيروت ساءني أن يظن أن خروجه كان برأيي، فالحق إنني لم
أقترح إخراجه، وما يمكنني أن أدافع عنه، ولا عن علي رضا باشا الركابي.
وقد ترتب على تشكيل هاشم بك الأتاسي للوزارة أن انتخبني المؤتمر السوري
رئيسًا له في 16 شعبان 5 مايو.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/152)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التنازع والتخاصم بين علماء الدين المجددين
والجامدين الرسميين
الأستاذ الشيخ ناجي أديب، عالم كاتب أديب خطيب، نشأ في مدينة اللاذقية
من سورية، وتخرج في الجامع الأزهر، وتأدب فيه بأدب الأستاذ الإمام المصلح
الأكبر، وغُذِّي بأفكاره، واقتبس من أنواره، ثم كان أستاذًا في بعض مدارس
التجهيز ومعهد الحقوق في دمشق، ولما عُقد المؤتمر السوري العام الذي أعلن
استقلال سورية (سنة 1339 و1920) كان عضوًا منتخبًا فيه عن بلده، وهو لا
يزال يدعو إلى الإصلاح الديني والاجتماعي بلسانه وقلمه.
وقد كتب في رمضان (سنة 1351) مقالات عظيمة نشرها في جريدة (ألف
باء) الدمشقية المشهورة، فاقترح عليه بعض الذين انتفعوا بها أن يطبعها في كتاب
مستقل لتعميم نفعها، فاستجاب لهم، وزاد على تلك المقالات فصولاً من كتاب له
مخطوط سماه (التهذيب الإسلامي) نال قصب السبق في مباراة كتب أخرى في
موضوعه في المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس، ثم صدر الكتاب الجديد في جمادى
الأولى سنة 1352 باسم (حديث رمضان، دين وأدب، وأخلاق ونقد، وأصول
واجتماع) .
تقبله الناس بقبول حسن، فرفع ذكره، وطاب نشره، فهاج ذلك حسد علماء
بلده الرسميين؛ فتصدوا لمعارضته والصد عنه بالطعن بأصلات ألسنتهم، وأسنة
أقلامهم، لابسين لقتاله لبوس ألقابهم الرسمية: مدرس جامع كذا، مدرس جامع كذا،
فقد جاءتنا نشرة مطبوعة أحصوا فيها ما أنكروه عليه، وأجازه لهم وأقره لهم
مثنيًا عليهم (مفتي اللاذقية: مصطفى أديب محمودي) .
كان الكتاب قد أهدي إليّ فلم أفرغ للنظر فيه لكثرة الشواغل العائقة عن
مطالعة كتب الهدايا الكثيرة، وقد عرفت صاحبه في الجامع الأزهر، ثم في دمشق،
وأنه من خيار علماء سورية المجددين في هذا العصر، فلما رأيت ما نبزوه
واتهموه به علمت أنه من باب التنازع بين المجددين والجامدين، وعهدي بمن هم
أشهر منهم بالعلم من أمثالهم في مصر أنهم لا يوثق بعلمهم، ولا بصدقهم في
روايتهم ونقلهم؛ وإنما يعتزون بتصديق العوام لهم، وثقتهم بهم، ويغترون
بمحافظتهم على أزيائهم القديمة التي تجذب هؤلاء العوام إلى تقبيل أيديهم.
وإنني وايم الله ليحزنني أن يجنوا على أنفسهم بما يضع كرامتهم، وهم لا
يشعرون بما هم صائرون إليه، وأتمنى لو يتفقون والمجددين، ويتناصحون فيما
بينهم، ويردون ما يختلفون فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم عملاً بقوله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن
كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) .
وإنني على علمي بما ذكرت لم أستبح لنفسي أن أكتب هذا إلا وكتاب حديث
رمضان أمامي، ونشرة إنكارهم في يدي، أراجع ما اتهموه به مستبعدًا صدوره عنه،
عالمًا أنه غير معصوم من مثله، فإذا بي أرى في إنكارهم كذبًا مفترى، وتحريفًا
معيبًا، وحقًّا جَمَّل باطلاً، وكلامًا محتملاً فُسِّر بالرأي والهوى، وسأفصل ما أجملت
في جزء آخر، إن شاء الله تعالى.
__________(34/158)
ربيع الأول - 1353هـ
يوليو - 1934م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
من صاحب الإمضاء في بيروت
(س11 - 13) أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت
(قال بعد الدبياجة) :
(1و 2) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز
العمل بهما أم لا؟ وما معناهما؟ وهما:
(1) (من غشنا فليس منا) وفي رواية أخرى (من غش فليس منا) .
(2) (دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب) وهل هذا الحديث الأخير
يؤخذ منه وصول إهداء ثواب قراءة القرآن الكريم إلى الأموات باعتبار أن قراءة
القرآن الكريم عبادة ودعاء أم لا؟
(3) هل يجوز للرجال والنساء أن يذهبوا إلى المسارح العمومية، أو غيرها
لأجل أن يسمعوا ويروا الصور المتحركة (السينما) الناطقة، أو غيرها، وهي لا
تخلو من الصور العارية والغناء والرقص والتقبيل والضم وغيره أم لا؟
... ... ... ... ... ... ... عدنان البربير
... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة عثمان ذي النورين
... ... ... ... لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت
(جواب المنار)
(11) حديث (من غشنا فليس منا) و (من غش فليس منا) صحيح رواه
مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفيه زيادة، وله ألفاظ أخرى
عنده وعند غيره، ومعناه ظاهر، والغش بأنواعه المادية والمعنوية من المحرمات
التي لا تقبل النسخ.
(12) حديث (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة) صحيح
رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنهم، وله تتمة (عند
رأسه مَلَك موكل به كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك: آمين، ولك بمثل ذلك)
وهذا خبر عن أمر غيبي، والأخبار لا تنسخ، وهو لا يدل على أن إهداء ثواب
قراءة القرآن إلى الأموات أو غيرهم مشروعة، ولا أنها تصل إليهم، وإنما ثواب
القراءة للقارئ إذا كان مخلصًا، وكذا الدعاء، ولكن الدعاء للغير مشروع ونافع،
وإن كان ثوابه للداعي كما بيَّناه من قبل في التفسير، وفي الفتاوى.
(13) لا يجوز للمؤمن أن يتعمد مشاهدة المنكرات الشرعية ولا سماعها في
المسارح ولا في غيرها، ورؤية الصور العارية غير محرمة لذاتها كرؤية الناس
العراة؛ ولكن تصوير الشخوص والأعمال التي تمثل المعاصي، وتجرئ عليها
منكر، ورؤيتها منكرة كرؤية العورات، والخلوة بالأجنبيات من باب سد ذرائع
الفساد.
__________(34/192)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
معاهدة الطائف
بين
المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية [*]
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
نحن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية
السعودية:
بما أنه قد عُقِدَتْ بيننا وبين حضرة صاحب الجلالة الملك الإمام يحيى بن
محمد حميد الدين ملك المملكة اليمانية معاهدة صداقة إسلامية، وأخوة عربية لإنهاء
حالة الحرب الواقعة لسوء الحظ بيننا وبين جلالته، ولتأسيس علاقات الصداقة
الإسلامية بين بلادنا، ووقعها مندوب مفوض من قبلنا ومندوب مفوض من قبل
جلالته، وكلاهما حائزان للصلاحية التامة المتقابلة، وذلك في مدينة جدة في اليوم
السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف، وهي مدرجة مع
عهد التحكيم والكتب الملحقة بها فيما يلي: -
معاهدة صداقة إسلامية وأخوة عربية
بين المملكة العربية السعودية
وبين المملكة اليمانية
حضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود
ملك المملكة العربية السعودية من جهة.
وحضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى بن حميد الدين ملك اليمن من جهة
أخرى.
رغبة منهما في إنهاء حالة الحرب التي كانت قائمة لسوء الحظ فيما بينهما
وبين حكومتيهما وشعبيهما، ورغبة في جمع كلمة الأمة الإسلامية العربية، ورفع
شأنها، وحفظ كرامتها واستقلالها.
ونظرًا لضرورة تأسيس علاقات عهدية ثابتة بينهما وبين حكومتيهما وبلاديهما
على أساس المنافع المشتركة والمصالح المتبادلة.
وحبًّا في تثبيت الحدود بين بلاديهما، وإنشاء علاقات حسن الجوار وروابط
الصداقة الإسلامية فيما بينهما، وتقوية دعائم السلم والسكينة بين بلاديهما وشعبيهما.
ورغبة في أن يكونا عضدًا واحدًا أمام الملمات المفاجئة، وبنيانًا متراصًّا
للمحافظة على سلامة الجزيرة العربية قررا عقد معاهدة صداقة إسلامية، وأخوة
عربية فيما بينهما، وانتدبا لذلك الغرض مندوبين مفوضين عنهما وهما:
عن حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية حضرة صاحب
السمو الملكي الأمير خالد بن عبد العزيز نجل جلالته، ونائب رئيس مجلس الوكلاء.
وعن حضرة صاحب الجلالة ملك اليمن حضرة صاحب السيادة السيد عبد الله
ابن أحمد الوزير.
وقد منح جلالة الملكين لمندوبيهما الآنفي الذكر الصلاحية التامة والتفويض
المطلق، وبعد أن اطلع المندوبان المذكوران على أوراق التفويض التي بيد كل
منهما؛ فوجداها موافقة للأصول قررا باسم ملكيهما الاتفاق على المواد الآتية:
(المادة الأولى)
تنتهي حالة الحرب القائمة بين المملكة العربية السعودية ومملكة اليمن بمجرد
التوقيع على هذه المعاهدة، وتنشأ فورًا بين جلالة الملكين وبلاديهما وشعبيهما حالة
سلم دائم، وصداقة وطيدة، وأخوة إسلامية عربية دائمة، لا يمكن الإخلال بها
جميعها أو بعضها، ويتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يحلا بروح الود
والصداقة جميع المنازعات والاختلافات التي قد تقع بينهما، وبأن يسود علاقتهما
روح الإخاء الإسلامي العربي في سائر المواقف والحالات، ويشهدان الله على
حسن نواياهما، ورغبتهما الصادقة في الوفاق والاتفاق سرًّا وعلنًا، ويرجوان منه
سبحانه وتعالى أن يوفقهما وخلفاءهما، وورثاءهما وحكومتيهما إلى السير على هذه
الخطة القويمة، التي فيها رضاء الخالق، وعز قومهما ودينهما.
(المادة الثانية)
يعترف كل من الفريقين الساميين المتعاقدين للآخر باستقلال كل من المملكتين
استقلالاً تامًّا مطلقًا، وبملكيته عليها، فيعترف حضرة صاحب الجلالة الإمام
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية لحضرة
صاحب الجلالة الإمام يحيى، ولخلفائه الشرعيين باستقلال مملكة اليمن استقلالاً تامًّا
مطلقًا وبالملكية على مملكة اليمن، ويعترف حضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى بن
محمد حميد الدين ملك اليمن لحضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز، ولخلفائه
الشرعيين باستقلال المملكة العربية السعودية استقلالاً تامًّا مطلقًا وبالملكية على
المملكة العربية السعودية، ويسقط كل منهما أي حق يدعيه في قسم أو أقسام من بلاد
الآخر خارج الحدود القطعية المبينة في صلب هذه المعاهدة.
إن جلالة الإمام الملك عبد العزيز يتنازل بهذه المعاهدة عن أي حق يدعيه من
حماية أو احتلال أو غيرهما في البلاد التي هي بموجب هذه المعاهدة تابعة لليمن من
البلاد التي كانت بيد الأدارسة وغيرها، كما أن جلالة الإمام الملك يحيى يتنازل
بهذه المعاهدة عن أي حق يدعيه باسم الوحدة اليمانية أو غيرها في البلاد التي هي
بموجب هذه المعاهدة تابعة للمملكة العربية السعودية من البلاد التي كانت بيد
الأدارسة أو آل عائض أو في نجران وبلاد يام.
(المادة الثالثة)
يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على الطريقة التي تكون بها الصلات
والمراجعات، بما فيه حفظ مصالح الطرفين، وبما لا ضرر فيه على أيهما على أن
لا يكون ما يمنحه أحد الفريقين الساميين المتعاقدين للآخر أقل مما يمنحه لفريق
ثالث، ولا يوجب هذا على الفريقين أن يمنح الآخر أكثر مما يقابله بمثله.
(المادة الرابعة)
خط الحدود الذي يفصل بين بلاد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين موضح
بالتفصيل الكافي فيما يلي، ويعتبر هذا الخط حدًّا فاصلاً قطعيًّا بين البلاد التي
تخضع لكل منهما:
يبدأ خط الحدود بين المملكتين اعتبارًا من النقطة الفاصلة بين ميدي والموسم
على ساحل البحر الأحمر إلى جبال تهامة في الجهة الشرقية، ثم يرجع شمالاً إلى
أن ينتهي إلى الحدود الغربية الشمالية التي بين بني جماعة، ومن يقابلهم من جهة
الغرب والشمال، ثم ينحرف إلى جهة الشرق إلى أن ينتهي إلى ما بين حدود نقعة
ووعار التابعتين لقبيلة وائلة وبين حدود يام، ثم ينحرف إلى أن يبلغ مضيق
مروان وعقبة رفادة، ثم ينحرف إلى جهة الشرق حتى ينتهي من جهة الشرق إلى
أطراف الحدود بين من عدايام من همدان بن زيد وائلي وغيره وبين يام: فكل ما
عن يمين الخط المذكور الصاعد من النقطة المذكورة التي على ساحل البحر إلى
منتهى الحدود في جميع جهات الجبال المذكورة فهو من المملكة اليمانية، وكل ما
هو عن يسار الخط المذكور فهو من المملكة العربية السعودية، فما هو في جهة
اليمين المذكورة هي ميدي وحرض وبعض قبيلة الحرث والمير وجبال الظاهر وشذا
والضيعة وبعض العبادل وجميع بلاد وجبال رازح ومنبه مع عرو آل أمشيخ
وجميع بلاد وجبال بني جماعة وسحار الشام يباد وما يليها ومحل مريصغة من
سحار الشام وعموم سحار ونقعة ووعار وعموم وائلة وكذا الفرع مع عقبة نهوقة
وعموم من عدايام ووادعة ظهران من همدان بن زيد، هؤلاء المذكورون وبلادهم
بحدودها المعلومة وكل ما هو بين الجهات المذكورة وما يليها مما لم يذكر اسمه مما
كان مرتبطًا ارتباطًا فعليًّا أو تحت ثبوت يد المملكة اليمانية قبل سنة 1352، كل
ذلك هو في جهة اليمين فهو من المملكة اليمانية، وما هو في جهة اليسار المذكورة
وهو الموسم ووعلان وأكثر الحرث والخوبة والجابري وأكثر العبادل وجميع فيفا
وبني مالك وبني حريص وآل تليد وقحطان وظهران وادعة وجميع وادعة
ظهران مع مضيق مروان رفادة وما خلفهما من جهة الشرق والشمال من يام
ونجران والحضن وزور وادعة وسائر من هو في نجران من وائلة وكل ما هو
تحت عقبة نهوقة إلى أطراف نجران ويام من جهة الشرق هؤلاء المذكورون
وبلادهم بحدودها المعلومة، وكل ما هو بين الجهات المذكورة، وما يليها مما لم
يذكر اسمه مما كان مرتبطًا ارتباطًا فعليًّا، أو تحت ثبوت يد المملكة العربية
السعودية قبل سنة 1352 كل ذلك هو في جهة يسار الخط المذكور، فهو من
المملكة العربية السعودية، وما ذكر من يام ونجران والحضن وزور وادعة وسائر
من هو في نجران من وائلة، فهو بناء على ما كان من تحكيم جلالة الإمام يحيى
لجلالة الملك عبد العزيز في يام، والحكم من جلالة الملك عبد العزيز بأن جميعها
تتبع المملكة العربية السعودية، وحيث إن الحضن وزور وادعة ومن هو من وائلة
في نجران من وائلة، ولم يكن دخولهم في المملكة العربية السعودية إلا لما ذكر
فذلك لا يمنعهم ولا يمنع إخوانهم وائلة من التمتع بالصلات والمواصلات والتعاون
المعتاد والمتعارف به، ثم يمتد هذا الخط من نهاية الحدود المذكورة آنفًا بين أطراف
قبائل المملكة العربية السعودية، وأطراف من عدايام من همدان بن زيد وسائر
قبائل اليمن، فللمملكة اليمانية كل الأطراف والبلاد اليمانية إلى منتهى حدود اليمن
من جميع الجهات، وللملكة العربية السعودية كل الأطراف والبلاد إلى منتهى
حدودها من جميع الجهات، وكل ما ذكر في هذه المادة من نقط شمال وجنوب
وشرق وغرب فهو باعتبار كثرة اتجاه ميل خط الحدود في اتجاه الجهات المذكورة،
وكثيرًا ما يميل لتداخل ما إلى كل من المملكتين، أما تعيين وتثبيت الخط المذكور،
وتمييز القبائل، وتحديد ديارها على أكمل الوجوه، فيكون إجراؤه بواسطة هيئة
مؤلفة من عدد متساوٍ من الفريقين بصورة ودية أخوية بدون حيف بحسب العرف
والعادة الثابتة عند القبائل.
(المادة الخامسة)
نظرًا لرغبة كل من الفريقين الساميين المتعاقدين في دوام السلم والطمأنينة
والسكون، وعدم إيجاد أي شيء يشوش الأفكار بين المملكتين؛ فإنهما يتعهدان
تعهدًا متقابلاً بعدم إحداث أي بناء محصن في مسافة خمسة كيلو مترات في كل
جانب من جانبي الحدود في كل المواقع والجهات على طول الحدود.
(المادة السادسة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بسحب جنده فورًا عن البلاد التي
أصبحت بموجب هذه المعاهدة تابعة للفريق الآخر، مع صون الأهلين والجند عن
كل ضرر.
(المادة السابعة)
يتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يمنع كل منهما أهالي مملكته عن كل
ضرر وعدوان على أهالي المملكة الأخرى في كل جهة وطريق، وبأن يمنع الغزو
بين أهل البوادي من الطرفين، وبرد كل ما ثبت أخذه بالتحقيق الشرعي من بعد
إبرام هذه المعاهدة، وضمان ما تلف وبما يلزم بالشرع فيما وقع من جناية قتل أو
جرح وبالعقوبة الحاسمة على من ثبت منهم العدوان، ويظل العمل بهذه المادة ساريًا
إلى أن يوضع بين الفريقين اتفاق آخر لكيفية التحقيق وتقدير الضرر والخسائر.
(المادة الثامنة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين تعهدًا متقابلاً بأن يمتنعا عن
الرجوع للقوة لحل المشكلات بينهما، وبأن يعملا جهدهما لحل ما يمكن أن ينشأ
بينهما من الاختلاف، سواء كان سببه ومنشؤه هذه المعاهدة، أو تفسير كل أو
بعض موادها، أم كان ناشئًا عن أي سبب آخر بالمراجعات الودية، وفي حالة عدم
إمكان التوفيق بهذه الطريقة يتعهد كل منهما بأن يلجأ إلى التحكيم الذي توضح
شروطه وكيفية طلبه وحصوله في ملحق مرفق بهذه المعاهدة، ولهذا الملحق نفس
القوة والنفوذ اللذين لهذه المعاهدة، ويحسب جزءًا منها، وبعضًا متممًا للكل فيها.
(المادة التاسعة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن يمنع بكل ما لديه من الوسائل
المادية والمعنوية استعمال بلاده قاعدة ومركزًا لأي عمل عدواني أو شروع فيه أو
استعداد له ضد بلاد الفريق الآخر، كما أنه يتعهد باتخاذ التدابير الآتية بمجرد
وصول طلب خطي من حكومة الفريق الآخر وهي:
1- إن كان الساعي في عمل الفساد من رعايا الحكومة المطلوب منها اتخاذ
التدابير، فبعد التحقيق الشرعي وثبوت ذلك يؤدب فورًا من قبل حكومته بالأدب
الرادع الذي يقضي على فعله ويمنع وقوع أمثاله.
2- وإن كان الساعي في عمل الفساد من رعايا الحكومة الطالبة اتخاذ التدابير؛
فإنه يلقى القبض عليه فورًا من قبل الحكومة المطلوب منها، ويسلم إلى حكومته
الطالبة، وليس للحكومة المطلوب منها التسليم عذر عن إنفاذ الطلب، وعليها اتخاذ
كافة الإجراءات لمنع فرار الشخص المطلوب، أو تمكينه من الهرب، وفي
الأحوال التي يتمكن فيها الشخص المطلوب من الفرار؛ فإن الحكومة التي فر من
أراضيها تتعهد بعدم السماح له بالعودة إلى أراضيها مرة أخرى، وإن تمكن من
العودة إليها يلقى القبض عليه ويسلم إلى حكومته.
3- وإن كان الساعي في عمل الفساد من رعايا حكومة ثالثة؛ فإن الحكومة
المطلوب منها والتي يوجد الشخص على أراضيها تقوم فورًا وبمجرد تلقيها الطلب
من الحكومة الأخرى بطرده من بلادها، وعده شخصًا غير مرغوب فيه، ويُمنع
من العودة إليها في المستقبل.
(المادة العاشرة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بعدم قبول من يفر عن طاعة دولته
كبيرًا كان أم صغيرًا، موظفًا كان أم غير موظف، فردًا كان أم جماعة، ويتخذ كل
من الفريقين الساميين المتعاقدين كافة التدابير الفعالة من إدارية وعسكرية وغيرها
لمنع دخول هؤلاء الفارين إلى حدود بلاده، فإن تمكن أحدهم أو كلهم من اجتياز
خط الحدود بالدخول في أراضيه، فيكون عليه واجب نزع السلاح من الملتجئ
وإلقاء القبض عليه، وتسليمه إلى حكومة بلاده الفار منها، وفي حالة عدم إمكان
القبض عليه تتخذ كافة الوسائل لطرده من البلاد التي لجأ إلى بلاد الحكومة التي
يتبعها.
(المادة الحادية عشرة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بمنع الأمراء والعمال والموظفين
التابعين له من المداخلة بأي وجه كان مع رعايا الفريق الآخر بالذات أو بالواسطة،
ويتعهد باتخاذ كامل التدابير التي تمنع حدوث القلق أو تُوقِع سوء التفاهم بسبب
الأعمال المذكورة.
(المادة الثانية عشرة)
يعترف كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن أهل كل جهة من الجهات
الصائرة إلى الفريق الآخر بموجب هذه المعاهدة رعية لذلك الفريق.
ويتعهد كل منهما بعدم قبول أي شخص أو أشخاص من رعايا الفريق الآخر
رعية له إلا بموافقة ذلك الفريق، وبأن تكون معاملة رعايا كل من الفريقين في بلاد
الفريق الآخر طبقًا للأحكام الشرعية المحلية.
(المادة الثالثة عشرة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بإعلان العفو الشامل الكامل عن
سائر الأجرام والأعمال العدائية التي يكون قد ارتكبها فرد، أو أفراد من رعايا
الفريق الآخر المقيمين في بلاده (أي: في بلاد الفريق الذي منه إصدار العفو) ، كما
أنه يتعهد بإصدار عفو عام شامل كامل عن أفراد رعاياه الذين لجؤوا أو انحازوا أو
بأي شكل من الأشكال انضموا إلى الفريق الآخر عن كل جناية ومال أخذوا منذ
لجؤوا إلى الفريق بالآخر إلى عودهم كائنًا ما كان، وبالغًا ما بلغ، وبعدم السماح
بإجراء أي نوع من الإيذاء أو التعقيب، أو التضييق بسبب ذلك الالتجاء أو الانحياز
أو الشكل الذي انضموا بموجبه، وإذا حصل ريب عند أي الفريقين بوقوع شيء
مخالف لهذا العهد، كان لمن حصل عنده الريب أو الشك من الفريقين مراجعة
الفريق الآخر لأجل اجتماع المندوبين الموقعين على هذه المعاهدة، وإن تعذر على
أحدهما الحضور فينيب عنه آخر له كامل الصلاحية والاطلاع على تلك النواحي
ممن له كامل الرغبة والعناية بصلاح ذات البين والوفاء بحقوق الطرفين بالحضور
لتحقيق الأمر حتى لا يحصل أي حيف ولا نزاع وما يقرره المندوبان يكون نافذًا.
(المادة الرابعة عشرة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين برد وتسليم أملاك رعاياه الذين
يعفى عنهم إليهم، أو إلى ورثتهم عند رجوعهم إلى وطنهم خاضعين لأحكام مملكتهم،
وكذلك يتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بعدم حجز أي شيء من الحقوق
والأملاك التي تكون لرعايا الفريق الآخر في بلاده، ولا يعرقل استثمارها، أو أي
نوع من أنواع التصرفات الشرعية فيها.
(المادة الخامسة عشرة)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بعدم المداخلة مع فريق ثالث سواء
كان فردًا أم هيئة أم حكومة، أو الاتفاق معه على أي أمر يخل بمصلحة الفريق
الآخر، أو يضر ببلاده، أو يكون من ورائه إحداث المشكلات والصعوبات له، أو
يعرض منافعها ومصالحها وكيانها للأخطار.
(المادة السادسة عشرة)
يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان اللذان تجمعهما روابط الأخوة الإسلامية
والعنصرية العربية أن أمتهما أمة واحدة، وأنهما لا يريدان بأحد شرًّا، وأنهما
يعملان جهدهما لأجل ترقية شؤون أمتهما في ظل الطمأنينة والسكون، وأن يبذلا
وسعهما في سائر المواقف لما فيه الخير لبلاديهما وأمتهما غير قاصدين بهذا أي
عدوان على أية أمة.
(المادة السابعة عشرة)
في حالة حصول اعتداء خارجي على بلاد أحد الفريقين الساميين المتعاقدين
يتحتم على الفريق الآخر أن ينفذ التعهدات الآتية:
أولاً: الوقوف على الحياد التام سرًّا وعلنًا.
ثانيًا: المعاونة الأدبية والمعنوية الممكنة.
ثالثًا: الشروع في المذاكرة مع الفريق الآخر لمعرفة أنجح الطرق لضمان
سلامة بلاد ذلك الفريق، ومنع الضرر عنها، والوقوف في موقف لا يمكن تأويله
بأنه تعضيد للمعتدي الخارجي.
(المادة الثامنة عشرة)
في حالة حصول فتن أو اعتداءات داخلية في بلاد أحد الفريقين الساميين
المتعاقدين يتعهد كل منهما تعهدًا متقابلاً بما يأتي:
(أولاً) اتخاذ التدابير الفعالة اللازمة لعدم تمكين المعتدين أو الثائرين من
الاستفادة من أراضيه.
(ثانيًا) منع التجاء اللاجئين إلى بلاده، وتسليمهم أو طردهم إذا لجؤوا إليها،
كما هو موضح في المادة (التاسعة والعاشرة) أعلاه.
(ثالثًا) منع رعاياه من الاشتراك من المعتدين أو الثائرين وعدم تشجيعهم
أو تموينهم.
(رابعًا) منع الإمدادات والأرزاق والمؤن والذخائر عن المعتدين أو الثائرين.
(المادة التاسعة عشرة)
يعلن الفريقان الساميان المتعاقدان رغبتهما في عمل كل ممكن لتسهيل
المواصلات البريدية والبرقية وتزييد الاتصال بين بلاديهما، وتسهيل تبادل السلع
والحاصلات الزراعية والتجارية بينهما، وفي إجراء مفاوضات تفصيلية من أجل
عقد اتفاق جمركي يصون مصالح بلاديهما الاقتصادية بتوحيد الرسوم الجمركية في
عموم البلدين، أو بنظام خاص بصورة كافلة لمصالح الطرفين، وليس في هذه
المادة ما يقيد حرية أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في أي شيء، حتى يتم عقد
الاتفاق المشار إليه.
(المادة العشرون)
يعلن كل من الفريقين الساميين المتعاقدين استعداده لأن يأذن لممثليه ومندوبيه
في الخارج إن وجدوا بالنيابة عن الفريق الآخر متى أراد الفريق الآخر ذلك في أي
شيء وفي أي وقت، ومن المفهوم أنه حينما يوجد في ذلك العمل شخص من كل
من الفريقين في مكان واحد؛ فإنهما يتراجعان فيما بينهما لتوحيد خطتهما للعمل
العائد لمصلحة البلدين التي هي كأمة واحدة، ومن المفهوم أن هذه المادة لا تقيد
حرية أحد الجانبين بأي صورة كانت في أي حق له، كما أنه لا يمكن أن تفسر
بحجز حرية أحدهما أو اضطراره لسلوك هذه الطريقة.
(المادة الحادية والعشرون)
يلغى ما تضمنته الاتفاقية الموقع عليها في 5 شعبان 1350 على كل حال
اعتبارًا من تاريخ إبرام هذه المعاهدة.
(المادة الثانية والعشرون)
تبرم هذه المعاهدة وتصدق من قبل حضرة صاحبي الجلالة الملكين في أقرب
مدة ممكنة نظرًا لمصلحة الطرفين في ذلك، وتصبح نافذة المفعول من تاريخ تبادل
قرارات إبرامها، مع استثناء ما نص عليه في المادة الأولى من إنهاء حالة الحرب
بمجرد التوقيع، وتظل سارية المفعول مدة عشرين سنة قمرية تامة، ويمكن
تجديدها، أو تعديلها خلال الستة الأشهر التي تسبق تاريخ انتهاء مفعولها، فإن لم
تُجدد أو تُعدل في ذلك التاريخ تظل سارية المفعول إلى ما بعد ستة أشهر من إعلان
أحد الفريقين المتعاقدين للفريق الآخر رغبته في التعديل.
(المادة الثالثة والعشرون)
تسمى هذه المعاهدة بمعاهدة الطائف، وقد حررت من نسختين باللغة العربية
الشريفة بيد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين نسخة وإشهادًا بالواقع وضع كل من
المندوبين المفوضين توقيعه.
وكُتب في مدينة جدة في اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد
الثلاثمائة والألف.
... ... ... ... ... (التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود
... ... ... ... ... (التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ننشر هذه المعاهدة العظيمة الشأن بنصها، وننشر في هذا الجزء مقالاً خاصًّا في عظمة شأنها في هذا العهد، وفيما يأتي بعده من تاريخ الإسلام والعرب.(34/193)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح والتجديد الإسلامي
في المعاهدة الإسلامية العربية بين الدولتين
السعودية واليمانية وإقرار الإفرنج بفضل العرب عليهم
] الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [[*]
لقد كنا في خوف ووجل في بداية هذه الحرب أن تفتح بابًا للتدخل الأجنبي في
جزيرة العرب فمنّ الله علينا ووقانا هذا الشر، ولقد كنا في خوف ووجل من نهايتها
أن تضرم سعير الأضغان المذهبية، وتؤرث أحقاد الآثار العربية، فيتغلغل الفساد،
ويتسلسل البغي والعدوان، فمنّ الله علينا وبدلنا بالخوف أمنًا، وأعاضنا من الحرب
سلمًا، ومن العداوة ودًّا، ومن الاختلاف ائتلافًا، ومن التقاطع والتدابر، أفضل
وسائل التواصل والتناصر، والتعاون على البر والتقوى، فقد عقد الإمامان المؤمنان
المسلمان العربيان العاقلان الحكيمان معاهدة أخوة إسلامية وصداقة عربية، ترضي
الله عز وجل من فوق عرشه، وتسر روح رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم
في الرفيق الأعلى من جوار ربه، وتغتبط بها أمته في مشارق الأرض ومغاربها،
وتفاخر بها دولتا قومه العرب الدول الغربية وأمم الحضارة كلها، فيما تزعم من
تفوقها في آداب دينها وحكمتها، وعلومها وسياستها.
نعم إن قوم محمد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتفاخر بهذه المعاهدة
السعودية اليمانية دول الأرض وأممها، فتفخرهن وتفضلهن وتبزهن وتعلوهن علوًّا
كبيرًا، فقد أراهن إماما المسلمين من أخوة الإسلام وآدابه وأخلاقه وفضائله
وفواضله ما أنطق أفصح صحفهن المتكلمة بألسنة أرقى شعوبهن، وقائدًا عسكريًّا
من أكبر قوادهن، بهذا الفضل الكبير لهداية الإسلام في أشد شعوبه اعتصامًا بحبله،
وأقوم دوله بإقامة شرعه، وأصدق ملوكه في تنفيذ حكمه، من قوم نبيه ورسوله،
في مهد ظهوره، ومشرق نوره، على الدول المسيحية، وشعوب المدنية، على بعد
التفاوت بين الفريقين (فريق المسلم العربي، وفريق المدني الغربي، وكذا الشرقي
كاليابان والصين) في الوسائل المادية وفنون الحضارة، وسعة الثروة، وحقائق
العلوم، ودقائق الفلسفة.
(رأي جريدة التيمس، بل الأمة الإنكليزية في المعاهدة)
عقدت جريدة التيمس فصلاً افتتاحيًّا بمناسبة عقد الصلح في بلاد العرب قالت
فيه: إن على إمام اليمن أن يشرح لأفراد أسرته الذين أكثروا من انتقاده، ولرعاياه
الذين تملكهم السخط والغضب الأسباب التي دعت إلى انكساره، على أن الإمام كان
سعيد الحظ من وجهة واحدة هي أن خصمه عقد معه صلحًا ينطوي على السخاء
والكرم، فلم يضم إلى ملكه بلادًا تستطيع اليمن أن تدعي فيها حقًّا صحيحًا، ولم
يفرض عليه تعويضًا حربيًّا كما يفعل الغالب مع عدوه المغلوب، وإنما قيده كما قيد
نفسه بعهود تتضمن صداقة الجوار.
(إن في معاهدة الصلح لَمثلاً، بل عدة أمثال، تشهد بالتعقل والاعتدال، أما
ما تضمنته من رابطة الإخاء المشتركة بين جميع العرب، وهي الرابطة التي
ستكون من الآن فصاعدًا هي العامل الوحيد في ضبط العلاقات بين المملكتين، فعلى
أعظم جانب من الأهمية وخطر الشأن، فالوهابيون يُعدَّون دائمًا من الطوائف
المتعصبة، كما أن المعروف عن الزيود أنهم ليسوا أكثر منهم تسامحًا، ولكن هذه
الاختلافات الدينية لم تمنع الغالب والمغلوب من توقيع معاهدة صداقة إسلامية ترمي
إلى تعزيز روابط الاتحاد، وإعلاء هيبة الأمة العربية المستقلة وصيانة كرامتها
واستقلالها، والواقع أن مواد المعاهدة تدل بصفة قاطعة على أن هذه الكلمات لها
أهمية أخرى تفوق أهميتها الرسمية.
بيد أن هذا التقدم في سبيل الوحدة العربية لا يمكن أن تهمله الدول الأوربية
ولا سيما بريطانية التي عقدت أخيرًا معاهدتها مع إمام اليمن) .
وقد نُشِرَت معاهدة الصلح في مكة، والقاهرة، ودمشق، وصنعاء في وقت
واحد ولهذا الأمر مغزى يستحق اهتمام المتطرفين من الصهيونيين الذين لا
يستطيعون أو لا يريدون أن يدركوا أن فلسطين لا تزال بلادًا عربية تحيط بها
أرض عربية.
وأما روح المعاهدة فيجدر برجال السياسة من المسيحيين أن يقارنوا بينها
وبين معاهدات الصلح الأوربية الأخيرة) . اهـ. ما لخصته البرقيات من مقالة
التيمس.
(كلمة لجنرال إنكليزي في عظمة الاتفاق الإسلامي العربي)
ونشرت الجرائد المصرية خلاصة خطاب (للجنرال هاملتون) الإنكليزي
ألقاه في مأدبة أدبت له في سيلان (الهند) تكلم فيه عن الحرب في جزيرة العرب،
وما أُطْفِئَت به نارُها قبل أن يشتد أوارها بالصلح الشريف، وأثنى به أحسن الثناء
على الملكين في تسامحهما وسرعة تصافيهما، وكون الغالب لم يجهز على المغلوب،
بل لم يحاول إرهاقه ولا إضعافه ولا النيل من كرامته وشرف مكانته بأدنى انتقام
يورثه وقومه حقدًا، أو يحملهم ضغنًا، بل أمضيا كلاهما اتفاقًا عسكريًّا عادلاً نشراه
على العالم الإسلامي في صورة معاهدة وصداقة إسلامية عربية شريفة بين أخوين
متساويين في جميع الحقوق، وثقت الروابط الودية القوية بين المملكتين ليقفا معًا
متعاونين تجاه كل عدوان خارجي يهدد جزيرة العرب.
وشبه هذا الاتفاق الذي احتقر فيه الانتقام الشرس السيئ العاقبة بما فعل
ولنجتون الإنكليزي مع فرنسة في خاتمة حروب نابليون (نقول: ولكن بعد ما كان
من أشد الانتقام) وبما فعل كتشنر في الاتفاق مع البوير (نقول: ولكن بعد ما كان
من التنكيل والتدمير) ثم قال الجنرال ما ترجمته: (إنني أقول هذا أيها السادة:
لأنني أرى الدول المسيحية في احتراب دائم، ونضال هائل، تجرد به حسامًا ثقيلاً
رهيبًا، ثم تعلقه بعد فتكه الذريع فوق رأس أوربة بخيط واهٍ (كخيط العنكبوت)
هذه حال الدول المسيحية الآن، وهي من سوء الخطر بالقدر الذي تبصرون) .
هاتان شهادتان من شهادات كثيرة من مصدرين من أعلى مصادر إنكلترة
السياسية والعسكرية التي لم تكن تعترف للإسلام ولا للعرب وللشرق بفضل كبير،
مثل هذا لولا الدهشة والروعة التي فجأتهما، وإرادة التنبيه لما تعقبه هذه المعاهدة
من حياة إسلامية عربية جديدة يجب أن يحسب لها أوربة كلها وإنكلترة وصهيونيتها
كل حساب.
فالحق الذي عرفته أوربة وعرفه العالم كله أن هذين الملكين العربيين،
والإمامين المسلمين، قد ضربا للعالم ما يُعبَّر عنه في لغة هذا العصر بالمثل الأعلى
للأخلاق الإسلامية، ولن تستطيع دول أوربة أن تقتدي بهما فيها، فالمسلمون بهداية
الإسلام أرقى الأمم أخلاقًا وعدلاً وإنصافًا، وإنما تنقصهم الفنون التي تنهض
بعمران بلادهم، وتجديد قوتهم في ظل هذين الإمامين العظيمين، وبهذا يعترف
العالم كله بفضل الإسلام وتوقف الكمال المدني على هدايته كما بيناه في كتاب
الوحي المحمدي.
وخلاصته أن جميع ما بلغته تلك الشعوب من العلم والفلسفة والعقل والحكمة
وفنون الحضارة، وغرائب الصناعة لا يغنيها عن هداية الإسلام فيما هو أعلى منه
من تزكية النفس البشرية، وتطهيرها من أرجاس الرذائل الشيطانية، كعبادة الهوى
والمال والشهوات والطمع والحسد والمكر والكذب والخداع، والظلم والبغي
والعدوان وتحليتها بأضدادها من الفضائل السامية بالإيمان بالقرآن، واتباع ملة
محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وقد وقع بين دولتين نصرانيتين أمريكيتين مدنيتين (هما بوليفيا) وبارغواي
على بقعة من الأرض لا تساوي واديًا من أودية جبال عسير الخصبة، ولا جبلاً من
جباله المنيعة، فاستحرَّ القتال بينهما منذ سنتين، وعجزت جميع الدول والأمم
المشاركة لهما في الدين وغيره من الإصلاح بينهما، ووقعت قبل ذلك أرقى دول
أوربة في الحرب الكبرى، وجذبوا إليها دولة أمريكة العظمى، وكثيرًا من الدول
الصغرى، فكان من سفك الدماء، وتقويض دعائم العمران، بمنتهى ما وصل إليه
العلم والفنون المادية من وسائل التخريب والتدمير، ما لم يعهد له التاريخ نظيرًا ولا
خطر على قلب بشر أن يحدث مثله، حتى إذا عجز أحد الفريقين المتقاتلين عن
استمرار الحرب، وجنح إلى ما دعا إليه أقربهم إلى الإنسانية وفضيلة الدين
المسيحي من السلم، وهو الدكتور (ولسن) مصدقًا ما وضعه من شرائط الصلح،
وألقى هذا الفريق سلاحه، قلب له هذا الفريق المنتصر ظهر المجن، وأكرهوه
على إمضاء شر معاهدة وضعها الغالب لإرهاق المغلوب وإذلاله، كانت سببًا لما
تشكو شعوب أوربة كلها من سوء عاقبته، وهي ما نهى عنه الله تعالى بقوله:
{وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} (النحل: 94) ... إلخ
(الإصلاح الديني والسياسي في المعاهدة)
لقد جاء الإسلام بكل ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الديني والدنيوي،
ولولا ما نُفث فيه من سموم الشقاق السياسي الذي فرق الكلمة، وشق العصا، لساد
العالم كله، مغربه وشماله بعد شرقه وجنوبه، وقد وُضِعَ في هذه المعاهدة كلمتان
خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، لو رصعتا باللؤلؤ والمرجان في لوح من
خالص العقيان، لما وفى بقيمتهما، وما يجب من حق قدرهما، هما: الأخوة
الإسلامية والصداقة العربية، فإن وضعهما في معاهدة سياسية رسمية وقعها الملكان
العربيان، والإمامان الدينيان للفرقتين العظيمتين أهل السنة والجماعة من جهة،
والشيعة المعتدلة من الجهة الثانية لهو أكبر رجاءً وخير أملاً من كل ما كتب حكماء
المسلمين المصلحين في الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين والتأليف بينهم، وإعادة مجد
الإسلام وهدايته من المقالات والرسائل المتفرقة في الرسائل الخاصة والصحف
العامة منذ خمسين سنة، وأجمعها ما بثثناه في مجلدات المنار من أولها إلى هذا،
وهو الرابع والثلاثون منها، وقد نشرت في سبع وثلاثين سنة.
وإنه لهو أكبر رجاءً وخير أملاً (أيضًا) من كل ما كتب المشتغلون بالسياسة
العربية، والمؤلفون لجمعياتها السياسية من الدعوة إلى وحدة هذه الأمة، وإحياء
حضارتها، وتجديد مجدها، وإعادة استقلالها، ومن أحكمها جمعية الجامعة العربية
التي كان صاحب المنار يراسل باسمها، ثم باسمه هذين الإمامين وغيرهما بالدعوة
إلى الحلف والاتفاق منذ سنة 1330 إلى هذه السنة التي وصل فيها الخوف من
الخيبة إلى أقصى حده، ولم يلبث أن زال وحل محله الرجاء بفضل الله وحمده،
وإنما كان ما فعله الإمامان أكبر من كل ما ذكر؛ لأنه تنفيذ عملي له.
إن جريدة التيمس قد صرحت بذكر ما كان يعد أكبر مانع من هذا الاتفاق من
حيث غفل عنه، أو جهله أكثر محرري الجرائد العربية، وهو التعصب الديني
المذهبي الذي اشتهر به أهل نجد وسكان جبال اليمن؛ فإن الأخصائيين من كتاب
الإنكليز في الأمور الإسلامية يعلمون من التعصب بين السنيين والشيعة في العراق
والهند ما لا يعلمه أحد في مصر التي لا يخطر لأهلها التعصب الديني ببال.
وأما صاحب المنار فقد درس هذا من جميع أنحائه، وأحاط في مطاويه
وأحنائه، وطالما دعا إلى تقويم أوده، وسعى لعلاج أدوائه، وكان من تمهيده الخفي
لهذا الاتفاق الإسلامي الجلي ما تراه في الرسالة الثالثة من رسائل كتاب (الهدية
السنية، والتحفة الوهابية النجدية) من رأي علماء الوهابية الأعلام في الزيدية
والشيعة، وما علقته عليه وهو ما قاله العلامة الشيخ عبد الله ابن الإمام المجدد
الشيخ محمد عبد الوهاب في مكة المكرمة مبينًا لأهلها خطتهم ورأيهم في المذاهب
وهو:
(ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على
من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية
والإمامية (1) ونحوهم لا نقرهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة (2) بل
نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة) . اهـ. (ص 44 طبعة أولى) .
وظاهر هذه العبارة أنهم لا يأذنون لأصحاب هذه المذاهب بالإقامة في الحجاز
إلا إذا تركوها، واتبعوا أحد مذاهب أهل السنة، وهذا من أشد التعصب الذي كانوا
يوصفون به، وهو يزيد الشقاق بين المسلمين، فالتمست لها تخريجًا مهدت به
للاتفاق بأن علقت على كلمته الأولى في حاشيتهما بما نصه:
(1) إن كلمة الرافضة التي وُضعت لغلاة الشيعة تشمل الباطنية وآخرين
دون الزيدية ومعتدلي الإمامية، والظاهر أن صاحب هذه الرسالة ووالده لم يَطَّلِعوا
على كتب الزيدية في الفقه، ولو اطلعوا عليها لعلموا أن فقههم مدون، وكذلك
الإمامية، وأن الفرق بينه وبين فقه الأربعة قليل قلما قال أحد مجتهديه قولاً انفرد به،
وخالف الإجماع قبله، وكيف وهم يحتجون بالإجماع وبعمل السلف؟ وكذا
بأحاديث دواوين السنة المشهورة كالكتب الستة، وقد كان مشايخنا يقولون كما قال
مشايخ نجد: إن سبب حصر التقليد في فقه الأربعة دون سائر مجتهدي الأمة هو
تدوين مذاهبهم دون غيرها، وهذا غلط سببه عدم الاطلاع.
وعلقت على الثانية بما نصه:
(2) أي لا نقر - بصفتنا حكام البلاد - أصحاب المذاهب غير المضبوطة
أن يظهروا شيئًا من مذاهبهم الفاسدة، كأقوال الباطنية بأن لأحكام العبادات معاني
غير الظاهر الذي عليه العمل، وبوجود إمام معصوم في كل عصر يجب اتباعه في
كل ما يقول، وكسبّ غلاة الرافضة للشيخين رضي الله عنهما، وبراءة الخوارج
من الصهرين رضي الله عنهما، ومقابل قوله (ظاهرًا) أنهم لا يحاسبون أحدًا على
ما يخفيه من أمثال هذه المسائل. اهـ.
وكنت جريئًا أي جريء في هذا التعليق، وفي حواشٍ أخرى من مطبوعات
جلالته للمصلحة الإسلامية، وأنا أعلم أنني لا أسلم من سخط علي قد يتبعه ضرر،
وقد حصل، وقد ظهر الآن صحة قولي وسداده في هذه القضية، وسيظهر غيره في
غيرها، ولكل أجل كتاب، على أن علماء نجد لم ينكروا عليّ هذه التعليقة.
وقد نشرنا ستة عشر ألف نسخة من هذا الكتاب مجانًا في الأقطار، فكان بعد
نشره وإقرار علماء نجد له من تعصب بعض علماء الشيعة في سورية والعراق أن
ألفوا الكتب والرسائل في تجديد الخصام، ومنها سفر كبير حاول ملفقه وهو من
سادة علماء جبل عامل، وسكان الشام، إخراج الوهابية من حظيرة الإسلام، ثم
كان ما أظهرته الشيعة في مؤتمر النجف طعنًا فيهم، وتكفيرًا لهم، وتحريضًا عليهم،
ثم ما حدث بعد ذلك في العراق من التنازع الوطني بين أهل المذهبين ما كاد
يفضي إلى حرب أهلية لولا الثورة الأشورية، كما قال لنا الملك فيصل رحمه الله
تعالى.
لقد كان هذا الشقاق من أول عهده شر الدواهي والمصائب التي أضعفت
الإسلام دينًا ودولة، ومنها أنه كان من أقوى الوسائل لإخضاع الإنكليز لممالك
الإسلام في الهند، حتى إنهم كانوا يلقبون بعض جيوشهم بألقاب سنية، وبعضها
بألقاب شيعية جعفرية، وكانوا يرجون أن ينالوا مآربهم من جزيرة العرب بمثل ذلك
الشقاق بين اليمن ونجد، فخيب هذا الاتفاق أملهم، وراعهم منها ما راعهم من اتفاق
شاهي الترك وإيران، وما يقال (ويا ليته يصح) من احتمال إشراك العراق فيه
والأفغان، ولولا سبق إمامي جزيرة العرب إلى هذا الاتفاق، لقيل: إن الجامع بين
الشاهين إنما هو نبذهما لعقائد الإسلام؛ لأنه هو المفرق بزعمهم. والحق أنه دين
التوحيد والتأليف، إنما فرقت بين أهله السياسة، فقد كان سببه التنازع في الإمامة
فمرق طوائف الشيعة الباطنية من الإسلام، ووقف الاثنى عشرية بها عند المهدي
المنتظر، قل فانتظروا إنا منتظرون، ولنتفق الآن فخير للإسلام أن يظهر ونحن
متفقون، على أن يكون كل أحد حرًّا في مذهبه ولا يتعرض لمذهب غيره بما
يسوءه وينفره ويشعره بأنه عدو له، من قول أو فعل، كتقسيمهم إلى أقلية وأكثرية،
وطلب جعل أعمال الدول مذهبية.
كان الترك يقاتلون إمام اليمن كما قاتلوا الفرس من قبله لاختلاف المذهب في
الظاهر، والمطمع السياسي في الباطن، ولما حل الملك السعودي في الحجاز محلهم
كان أول شيء هو الاتفاق مع الإمام الزيدي، وعقد الحلف معه، وما زال يخطب
وده ويطلب عهده بوسائل الرسائل وإرسال الوفود، حتى تم له ذلك في هذا العام،
فمن عاد بعد اليوم إلى إثارة النزاع والخصام فهو عدو الله ورسوله ودينه الإسلام،
فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام؛ لأنه إنما يبغي منفعة نفسه، والجر لقرصه،
وإن كان فيه الشقاء لأهل دينه وجنسه.
(التمهيد بالمعاهدة للوحدة العربية)
لقد وُضع بهذه المعاهدة أساس الوحدة العربية التي ينشدها العرب في كل مكان،
ولم يبق لإكمالها من هذا الجانب الدولي إلا إتمام ما بدأ به الملك فيصل (رحمه
الله تعالى) من الاتفاق مع الدولة العربية السعودية، وما نظن بجلالة نجله ووارث
سياسته الملك غازي ورجال دولته من رجال الدعوة العربية وثورتها إلا أنهم
متممون له، وإنا نكتفي من هذه المسألة الآن بنقل برقيتي التهنئة بين الملك غازي
والملك عبد العزيز أعزهما الله تعالى.
البرقية الأولى
جلالة الأخ الملك عبد العزيز آل سعود
لقد استبشرنا كثيرًا بمعاهدة الصداقة الإسلامية والأخوة العربية بين جلالتكم
وجلالة الإمام يحيى والتي نرجو أن تكون خطوة جديدة لتوثيق الأخوة والاتحاد بين
الأقطار العربية الشقيقة، وفقكم الله لما فيه خير الأمة العربية
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (غازي)
البرقية الثانية
جلالة الأخ الملك غازي
نشكر جلالتكم على ما تفضلتم به من السرور والاستبشار بمناسبة معاهدة
الصداقة الإسلامية والأخوة العربية التي عُقِدَت بيننا وبين أخي الجميع الملك الإمام
يحيى، وإن الأخوة الإسلامية والعربية التي حققتها تلك المعاهدة بيننا وبين أخينا
الإمام يحيى هي التي سعينا ونسعى إليها على الدوام مع العرب جميعًا، لجمع كلمة
العرب والتآخي بينهم لما فيه صلاح لهم في دينهم وعز لهم في دنياهم، وسترونني
على الدوام إن شاء الله عاملاً على كل ما يجمع الله به شمل المسلمين عامة،
والعرب خاصة، وثقتي بالله، ثم بجلالتكم، وبسائر رؤوساء العرب أن تتكاتف
جهودنا لجمع كلمتنا لما فيه حفظ كياننا، وسلامة أوطاننا، وعز شعبنا العربي،
ونسأل الله أن يوفقنا جميعًا للعمل لما فيه حياة الأمة الإسلامية، وتوطيد الأخوة
العربية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد العزيز)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) (فاطر: 34) .(34/204)
الكاتب: محمود أبو رية
__________
كلمة خالصة لوجه الله
نشرها في المقطم الأستاذ العالم الإصلاحي المستقل، والكاتب العصري المستدل السيد الشيخ محمود أبو رية
كنت أتمنى من زمان بعيد أن أظفر بتفسير المنار، ظلت هذه الأمنية تعتلج
في نفسي حتى قيض الله لي في هذه الأيام أن أحصل على أجزائه التي صدرت منه،
وما إن قرأت بعض هذه الأجزاء حتى ألفيتني تلقاء شيء لا عهد لي به من قبل
في كل ما قرأته من التفاسير، واستبان لي أن هذا التفسير نسيج وحده فريد في
موضوعه.
لقد قرأت كثيرًا من التفاسير التي وُضعت لكتاب الله، ووقفت على طريقة كل
مفسر ممن قرأت، وعلى أنهم رضي الله عنهم قد أتوا بما استطاعوا أن يأتوا به مما
تَأَتَّوْا إليه بعلومهم وأزمانهم وأمكنتهم؛ فإنهم لم يصلوا في كثير مما فسروا إلى حقيقة
دين الله، وإظهار أحكامه وشرائعه كما أوصى الله بها، وإنك لتراهم في سيرهم،
كأنهم مقيدون بسلاسل من أقوال غيرهم، فلا يفسرون كتاب الله بما ينبعث من نوره،
وما يُستنبط من آياته، وبما تبينه سنة الله في عباده؛ ولكنهم يشحنون تفاسيرهم
بقبائل مختلفة من آراء من سبقهم من غير أن يمحصوا هذه الآراء ليعرفوا صحيحها
من باطلها، أو يحملوا أنفسهم على نصب البحث ليزنوا مقدار من قالها، وظل
كتاب الله - كما قال حكيم الإسلام السيد جمال الدين - بكرًا لم يُفسَّر.
أما تفسير المنار الذي أخرجه في هذا العصر حجة الإسلام الإمام الثقة الحافظ
السيد محمد رشيد رضا ليكون هداية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فإنه
يمتاز عن كل التفاسير التي سبقته بمزايا جليلة لو ذهبنا لنستقصيها لطال بنا سبيل
القول، ولاحتاج ذلك إلى مقالات مستفاضة، ذلك بأن هذه المزايا متعددة المناحي،
كثيرة النواحي، وبحسبنا اليوم أن نقول في صراحة وإخلاص بغير أن يتوهم أحد
أن نجنح إلى المغالاة: إن هذا التفسير خير ما وضع لبيان مقاصد كتاب الله،
وشرح أحكام دينه في عقائده وعباداته وفضائله وآدابه وحلاله وحرامه كما أراد الله
أن تكون، لا كما أراد الناس بآرائهم وأهوائهم، وإنه فيض إلهي أفاضه الله على
قلب وارث النبوة السيد محمد رشيد، فخرَّج آيات تكشف عن نور القرآن الكريم؛
ليبدو في هذا العصر كما بدا في زمن البعثة النبوية والصدر الأول زاهرًا باهرًا.
وإني يخيل لي وأنا أتلو هذا التفسير الجامع كأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم هو الذي يملي على مفسرنا الإمام معاني آيات الكتاب العزيز، ويبين للمسلمين
أصول العقائد الإسلامية والمقاصد الدينية، كما أراد أن يبلغها عن ربه بريئة من
شوائب الشرك، وغواشي الوثنية.
ومما راعني في هذا التفسير ما آنسته متجليًا في كل مسألة من العلم الغَزِيرِ
بالمعقول والمنقول، والإحاطة الشاملة بالسنة المحمدية، والتمييز بين صحيحها
وضعيفها، وما ثبت منها وما لم يثبت، وسعة الإدراك للعلوم الشرعية، والاطلاع
على العلوم الاجتماعية والنفسية، ومناقشة الرواة والعلماء ورجال الجرح والتعديل
في بعض رواياتهم وآرائهم وأحكامهم، حتى يتبين الصالح منها والصحيح، دع ما
أوتيه إمامنا من بلاغة العبارة، ودقة الذوق البياني الذي ينفذ إلى أسرار الإعجاز؛
فيجليها في أحسن معرض.
أما المسائل العويصة، والأمور المستغلقة التي اختلف فيها المفسرون، فلم
يكشفوا عن وجه الصواب منها، ولم يهتدوا إلى مقطع الحق فيها، فإنك تجد مفسرنا
الإمام بعد أن يسوق كل ما قيل فيها من أقوال من سبقوه يتولاهم بالعلم والحكمة،
ويريغها [1] بنور البصيرة، وثاقب الذهن، ولا يزال بها حتى يخرجها نيرة كفلق
الصبح.
ويأبى عليه إنصافه وعلمه إلا أن يتقبل من آراء غيره ما يجد فيه الصواب،
ولا يدع من أصاب في رأيه من غير أن يزجي له الثناء والحمد.
وأما الآراء الفاسدة والتأويلات الباطلة فلا يني في دفعها والقضاء عليها، وله
حملات شديدة على الخرافيين، وعُبَّاد القبور فيضربهم بالحجج البالغة، ويخزهم
بسنان الحق وخزات موجعة، وذلك لكي يطهر العقيدة الإسلامية الصحيحة مما
أصابها من نزغات الشرك، وينفي عنها هذا الخبث الذي نالها من المتنطعين الذين
يحسبهم الناس من رجال الدين، وما هم منه في شيء.
وتراه لقوة حجته، ومتانة أدلته، ومبالغته في التحقيق والتمحيص لا يدع
لأحد مهما رسخت قدمه في العلم أن يتصفح [2] عليه، أو ينقض مما قاله كلمة، أو
رأيًا.
لقد كنا نرجو أن ينهض علماء عصرنا إلى كتاب الله العزيز؛ فيدرسوه
ويتدبروا آياته؛ لكي يثبتوا لأهل هذا العصر أن كتابهم صالح لكل زمان ومكان،
هادٍ لكل رقي وعمران، على أن يكون عملهم هذا بعيدًا عن (مباحث الإعراب
وقواعد النحو، ونكات المعاني ومصطلحات البيان، وجدل المتكلمين، وتخريجات
الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق
والمذاهب، وكثرة الروايات، مجانبًا ما سرى إلى أكثر التفاسير من زنادقة اليهود
والفرس، ومسلمة أهل الكتاب) .
كما نرجو منهم ذلك؛ ولكننا رأيناهم قد أخلدوا إلى مهاد الدعة، واكتفوا بأن
يقلدوا في دينهم مَن سبقهم من شيوخهم، أما هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم؛ ليكون هدى للناس ورحمة، فلا بأس من أن يحبس للتبرك به،
وأن يتلى في الطرق وعلى الموتى وفي الراديو، ثم لا ضير من أن نعيش مع
الناس بأجسامنا في هذا العصر، وندع عقولنا تحيا مع أهل القرون المظلمة.
وكان في النفس حسرة، وفي القلب لوعة من هذه الحال التي وصل إليها
المسلمون في هذا العصر المتحرك العامل؛ ولكن الله سبحانه الذي وعد بحفظ
(الذكر) الذي أنزله - وحفظه بالعمل به، ولا يأتي العمل به إلا بتبيينه، ولا يبينه
إلا وارث للنبوة - قيض له في هذا العصر الإمام الكبير الحافظ السيد محمد رشيد
رضا، ذلك الذي ورث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فأنشأ يفسره على
طريقته القويمة التي لا يفسر الكتاب العزيز بغيرها، والتي ما جاء الدين الإسلامي
إلا بها، ولا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عليها، تلك هي فهم الكتاب
العزيز من حيث هو (دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا
والآخرة) .
وإذا كانت الأصول الدينية قد جاء بها الكتاب وبينتها السنة الصحيحة؛ فإن
تفسير المنار الذي هو منار التفاسير قد أوفى على الغاية من بيان ذلك، ولا غرو
فهو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي بين حكمة
التشريع، وسنن الله في الاجتماع البشري، وكون القرآن هداية عامة للبشر في كل
زمان ومكان، وحجة الله وآيته المعجزة) .
فتفسير هذه صفته وذلك أمره، يجب على كل مسلم يريد أن يعرف دين الله،
دين السلف الصالح، دين الفرقة الناجية أن يعكف عليه ويتدبره؛ ليصبح من
الناجين.
هذه كلمة خالصة أملاها عليّ وجداني، وأنا أستمتع بكنوز هذا التفسير،
أرسلها صادقة إلى جميع إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وآمل
منهم أن يضرعوا إلى الله معي أن يطيل في حياة هذا الإمام حتى يتم رسالته بإتمام
تفسير كتاب الله، وأن يزيده من فضله، ويبقيه ذخرًا للإسلام والمسلمين
... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمود أبو رية)
(المنار)
نشكر للأستاذ كاتب هذا التقريظ إخلاصه في ثنائه وإطرائه، وحسن بيانه
لما اعتقده وفاض من وجدانه، فقد صدر المقطم الذي نشر له في مساء الحادي عشر
من ربيع الأول، فقرأه في الليل جماعة من العلماء والأدباء الأزهريين وغيرهم كانوا
يسمرون عندنا بدار المنار في ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف؛ فاتفقوا على أنه
كلام عالم معتقد مخلص كتبه لوجه الله تعالى كما قال، فأما ما قاله في غرضي
وقصدي من هذا التفسير وطريقتي فيه فهو كما قال، ولله الفضل والشكر، وأما ما
أطراني به من سعة العلم والحفظ فهو مبالغة منحني بها ما هو أكثر مما عندي؛
فإن حفظي قليل ولا أقبل من كلام العلماء إلا ما أعتقد، وإنما بضاعتي التي أرجو
نفعها للناس وقبولها عند الله عز وجل فهي الإخلاص في تحري الحق الذي أنزل
الله به وله القرآن، وبيانه بما يفهمه أصناف القراء، ويرجى أنه يؤثر في قلوبهم
بقدر استعدادهم وحسن الإمكان وحال الزمان، ولا أزال طالبًا للعلم، آسفًا لضيق
الوقت عن تحصيل كل ما أحب من الاستزادة منه.
__________
(1) المنار: هي من الإراغة، أي: يعالجها، ويحاول الظفر بها محاولة المراوغ.
(2) المنار: تصفح الشيء أو الكتاب تأمله ونظر في صفحاته باحثًا، ولعله عداه بعلى لتضمينه معنى الاستدارك.(34/212)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كشف بقية شبهات العَالِم النجدي
في كلمات من كتاب الوحي المحمدي
(2)
انتقاده قولنا: إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم
كانت دفاعًا والجواب عنه
قال: إن (معنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز، إلا إذا
قاتلونا، والكلام عليه من وجوه) وذكر سبعة وجوه.
أقول: إن هذا المعنى الذي فسر به المسألة غير صحيح، لا يدل عليه قولنا
باللفظ ولا بالفحوى، بل فيه ما يبطله، فقولنا: إن قتال النبي صلى الله عليه وسلم
للكفار كان دفاعًا وكانوا هم المعتدين فيه، قضية شخصية في واقعة حال فعلية، لا
تدل على القضية السالبة الكلية التي استنبطها منها، وكان له أن يأخذها من النهي
في الآية فحسب؛ ولكنه جمع بين الأمرين، وإنني أقول كلمة وجيزة في كل وجه
من الوجوه السبعة التي سردها أبطله بها، ثم أقول كلمة في أصل المسألة:
(الوجه الأول) :
قوله: (إن قتال المسلمين للكفار الذين لم يقاتلوهم لا يكون اعتداء؛ لأنه لا
يكون إلا بحق) لما علله به. ولو صح لا يكون ناقضًا أو معارضًا لكون حرب النبي
صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا؛ لأن الكفار كانوا هم المعتدين البادئين بها كلها كما
هو ثابت بالواقع ولقوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) ولكنه غير صحيح؛ فإن المسلمين
غير معصومين في جميع حروبهم من اتباع الهوى، ولا يكون مقاتلاً في سبيل الله
إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، واتبع أحكامه تعالى فيها، ومنها أن لا يكون
ناقضًا لعهد مع الكفار كما هو معلوم بالإجماع.
وتفسيره الاعتداء بما فسره به مخالف لما جرى عليه المفسرون، فقد فسروا
النهي عن الاعتداء بعدم بدئهم بالقتال، اقتصر عليه بعضهم كالجلال وزاد عليه
بعضهم كالبيضاوي احتمال كونه نهيًا عن قتال المعاهدين، وهو بمعناه أي نهي عن
بدئهم بالقتال، لا بمعنى ما فسره به المعترض من زعمه أن قتال المسلمين لا يكون
اعتداء؛ لأنه يقصد به إنقاذهم من نار الجحيم، والمعاهدون منهم.
وهذا التعليل يشبه ما تأول به السير (إدوارد غراي) الوزير البريطاني ما
كانت قررته دولته وأحلافها في أول الحرب العالمية من وجوب حرية جميع
الشعوب، ومنع ضم الدول الغالبة لشيء منها إلى أملاكها، فلما كان الفوز لهؤلاء
الحلفاء، قال الوزير البريطاني: إنما يمتنع ضم الشعوب الضعيفة إلى الدولة
الظافرة، إذا كان يقصد به الظلم والكبرياء، وأما إذا كان يقصد به فائدتها والإحسان
إليها بالعدل والحضارة فهو جائز، وربما قال: إنه واجب. يريد أن دولته تستولي
على البلاد لخير أهلها، لا لمنفعة نفسها.
(الوجه الثاني) :
قوله: (غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف
عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء ... إلخ) ، وهو
ممنوع، بل باطل، والحق أن الآية تدل على قتال من قاتلنا، وعدم قتال من لا
يقاتلنا بالمنطوق في كل منهما من أول وهلة، فقوله: غاية ما تدل عليه كذا خطأ،
وتعبيره بالكف في الثاني خطأ ثانٍ؛ فإن الكف إنما يعبر به عما كان بعد الشروع
في الشيء، وقوله بأن الدلالة على الكف بمفهوم المخالفة خطأ ثالث، وقوله بأن
هذا المفهوم معارض للمنطوق الصريح خطأ رابع، وقوله المفهوم ليس بحجة عند
أكثر العلماء، إذا لم يُخَالَف غير صحيح على إطلاقه؛ وإنما فيه تفصيل لا محل
لذكره هنا.
(الوجه الثالث) :
قوله: إن آية كذا وكذا، وحديث كذا وما في معناه: (كل ذلك عام شامل لمن
قاتل، ومن لم يقاتل) غير صحيح على إطلاقه، ولو صح لما كان واردًا علينا، أما
الأول فلأنه لو كان صحيحًا على إطلاقه لكان شاملاً لقتال المعاهدين، وهو باطل
بالإجماع، وأما الثاني فلأن عموم ما ذكر لا يدل على أن شيئًا من حرب النبي
صلى الله عليه وسلم كان ابتداءً، لا دفاعًا.
ونزيد ذلك تفصيلاً بأدنى ما يحتمله بحث كهذا البحث هنا، فنقول: إن قوله
تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (البقرة: 193) نزل بعد قوله:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190) ... إلخ، فهو لبيان غاية
القتال لا لبدئه، ومعناه: وقاتلوهم إلى أن يزول هذا النوع من اعتدائهم الموجب
الأول لقتالهم وهو فتنة الناس عن دينهم بصدهم عن الإسلام، وإيذاء من يدخل فيه
بضروب الإيذاء، وقد بينا هذا في تفسير الآية من سورة البقرة، ثم في تفسير
أختها من سورة الأنفال (ص 556 ج 9 تفسير)
وأما قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة:
29) فهو آية الجزية التي نزلت في بيان انتهاء قتال الموصوفين فيها من أهل
الكتاب بإعطاء الجزية لا في بدء القتال وعمومه؛ فإن القتال كان مشروعًا قبل
نزولها، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسيرها من الجزء العاشر (ص280)
وكذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) فهو في بيان
انتهاء قتال المشركين إذا نطقوا بهذه الكلمة التي هي عنوان ترك الشرك، وقبول
الإسلام، لا في بيان شرعية قتال كل أحد حتى يقولها؛ فإن اليهود كانوا يقولونها.
على أننا إن فهمنا كل ما ذكر كما فهمه لا نراه ناقضًا لقولنا: إن حرب النبي
صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا، فهذا بيان للواقع، وذاك بحث في أصل التشريع
ولا تنافي بينهما، هذا لون، وهذا لون، كما يقول ابن القيم في تعبيره عن الفروق.
(الوجه الرابع) :
قوله: إن وصف القتال والجهاد المشروع في الكتاب والحديث بأنه ما كان في
سبيل الله، لا يفهم منه الدفاع فحسب، وهذا لا محل له في بحثنا؛ وإنما هو تلذذ أو
إدلال بتكثير الوجوه، ذلك بأن موضوعه القصد والنية، وحاصله أن القتال والجهاد
لا يكون قربة إلا بالنية المذكورة في الحديث، وأن ما كان بنية إظهار الشجاعة
والحمية ومراءاة الناس فليس منه في شيء، فهو في وجوب الإخلاص في الجهاد
ككل عبادة لله تعالى، لا في عموم قتال الناس، وقد ورد في حديث الثلاثة الذين
يكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: الشهيد، والمتصدق والقارئ، ما هو
نص في قولنا، وهو في صحيح مسلم؛ ولكن هذه الأحاديث حجة على المعترض
في قوله الأسبق: إن قتال المسلمين لغيرهم لا يمكن، أن يكون اعتداء؛ لأنه كله
لأجل هدايتهم وإنقاذهم من النار.
(الوجه الخامس) :
لا يستحق أن يُبْحَث فيه بعد العلم بما تقدم وبما يأتي.
(الوجه السادس) :
ونصه دعوى باطلة بالبداهة، وهي أن قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين
وغيرهم (أنه لم يثبت أن كل من قاتلهم النبي والخلفاء الأربعة وغيرهم من أئمة
المسلمين قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم كان مقام دفاع عن النفس)
وهذا خطأ من وجوه كالتعبير بالعلم الاضطراري في موضوع سلبي، وجعله عامًّا
للمسلمين وغيرهم، فمتى كانت هذه القضية السليبة من القضايا الاضطرارية عند
المسلين وغيرهم؟ إن هذا إلا غفلة عن معنى الاضطرار.
ندع الخطأ في التعبير، ونحصر الكلام في الموضوع فنقول: إنه قد أدخل فيه
ما ليس منه، وهو حرب الخلفاء الثلاثة وغيرهم، وإنه لم يفهم مرادنا من حرب
الدفاع، فظن أنها عبارة عن كون الكفار هم الذين يبتدئون القتال في كل معركة،
وهذا مخالف للواقع في كل زمان ومكان من القرون الماضية إلى زماننا هذا،
ورأيت كثيرًا من الناس حتى المشتغلين بعلم الفقه وقراءة السير غافلين عن الحقيقة
في هذا الموضوع.
إنما المعتدي المبتدئ بالقتال هو الفريق الذي أوجد حالة الحرب بالفعل أو
بالقول، وإن لم يكن هو البادئ، بعد وجودها في كل هجوم، والمدافع هو المقابل
له في الاعتداء والقتال، ولا يخلو من ابتداء بعض المعارك والإغارات ففرنسة
وأحلافها يقولون: إن ألمانية كانت هي البادئة المعتدية في الحرب الدولية الأخيرة،
وإنهم كانوا هم المدافعين، ولم يقولوا هم ولا غيرهم إنها كانت هي البادئة في كل
معركة وكل تعدٍ.
ومن المعلوم بنصوص القرآن القطعية وبالإجماع أن المشركين كانوا هم
المعتدين على المؤمنين بالقتل وغيره مما تقتضيه حالة الحرب التي أوجدوها، وأن
هذه الحالة قد استمرت إلى أواخر سنة ست من الهجرة؛ إذ عقدت معاهدة صلح
الحديبية، وتساهل النبي صلى الله عليه وسلم فيها معهم حرصًا على إبطال الحرب
وتقرير حرية الدين، ومنع فتنة المشركين للمؤمنين، ثم إن المشركين نقضوا هذه
المعاهدة، فعادت حالة الحرب بطبيعتها؛ إذ لا تُبْطَل إلا بمعاهدة ملتزمة، فكان هذا
سبب فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وما وليها من حرب الطائف وحنين، فلا
فرق بين هذه الحرب التي بدأ بها النبي والمؤمنون بالزحف، وبين غزوة بدر وأحد
والأحزاب التي بدأ بها المشركون.
وأول الشواهد على هذا من نصوص القرآن قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلى قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (الحج: 40) ... إلخ، وأوسطها قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
فِي الدِينِ} (الممتحنة: 8) إلى آخر الآيتين.
وآخرها قوله عز وجل: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) .
أفتغفلون أيها الفقهاء والمؤرخون عن القرآن، وعن حقيقة الواقع بالفعل،
وتأتون بقضايا مخترعة تدعون أنها معلومة بالاضطرار عند المسلمين، وعند جميع
الناس؟
(الوجه السابع) :
ما ذكره في سنته صلى الله عليه وسلم في السرايا والجيوش، ولم تبق حاجة
إلى الكلام في أنه ليس من محل النزاع، فإنه كان يبعثهم لقتال أولئك المعتدين
المشركين ويعلمهم أحكام القتال وآدابه من النهي عن الغلول والغدر والتمثيل وقتل
الأولاد، والأمر بدعوتهم أولاً إلى الإسلام، وما يتبعه من الهجرة فإلى الجزية،
وكذلك ما ذكره بعد هذا من الإشارة إلى الآيات ليس من موضوع النزاع، وفيه
أخطاء لا حاجة إلى بسطها والرد عليها.
وجملة القول: إن كل ما أورده في الرد على قولنا لا يَرَد علينا منه شيء،
فجميع قتال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وأهل الكتاب كان دفاعًا لا ابتداءً
حتى غزوة تبوك، وأما حكم الجهاد في نفسه، ومتى يكون واجبًا عينيًّا، ومتى يكون
واجبًا كفائيًّا، فقد بينته في تفسير سورة التوبة بالتفصيل، وبينت علله وأسبابه،
وأهمها بعد كف اعتداء المعتدين، ومنع الفتنة والاضطهاد في الدين، وجعله حرًّا
خالصًا لله رب العالمين، حماية الدعوة إلى الإسلام. ومن كان عارفًا بتاريخ الأمم
والأقوام يعلم أن العرف العام بينها كان كعرف العرب، وهو أن كل قومين ليس بينهما
عهد فهما في حال حرب؛ وإنما تقع الحرب بالفعل عند توفر أسبابها، ولا يزال كذلك
إلى يومنا هذا؛ فإن دول الإفرنج يستبيحون الاعتداء على كل شعب أو حكومة ليس
بينهم وبينها عهد، ويفعلونه عند الحاجة إلى أن يمنعهم منه العجز أو التنازع فيما
بينهم.
* * *
(3)
انتقاده إعفاء المرأة حق اشتراط عصمتها
والجواب عنه
إنني أشرت في عبارة الطبعة الثانية من كتاب الوحي إلى دليل من قال بهذه
المسألة، وهذه عبارتي فيها (من ص 268) : بل تجيز؛ أي: الشريعة للمرأة أن
تشترط في عقد نكاحها جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت بناءً على ما
ذهب إليه بعض أئمة الفقه من صحة كل شرط غير مخالف لنص قطعي من الكتاب
والسنة، ولا سيما شروط الزوجية عملاً بحديث (أحق الشروط أن توفوا به ما
استحللتم به الفروج) رواه البخاري في مواضع من صحيحه، وأصحاب السنن.
اهـ.
وقد كان ينبغي للأستاذ المنتقد أن يقتصر على السطرين الأولين من انتقاده،
ولا يزيد عليه ما لا محل له هنا من إنكاره على أبي حنيفة هذه المسألة وغيرها من
اجتهاده، ومطالبتي بالدليل على ما ينكره عليه، ولا غير ذلك من الإسراف في
الإنكار، والإدلال بما عنده من العلم أو الرأي في أدلة الكتاب والسنة وطباع المرأة،
ووصفها بما وصفها به من العبارات الشعرية التي لا تدخل في باب الحجة.
لأجل هذا أزيده بيانًا لصحة هذا الحكم في ذاته، بصرف النظر عن مقام قائله
(وهو الإمام أبو حنيفة) وكون الإجماع لا ينعقد عند فقهاء السنة في عصره مع
خلافه، وبيانًا لإسرافه فيما صور به المسألة من مخالفة الكتاب والسنة، وجعلها من
باب ولاية المرأة على الرجل في الأمور العامة، كإمارة المؤمنين من جهة، ومن
مفاسد الاجتماع البشري في نظام البيوت والأسر من جهة ثانية، ملتزمًا الإشارة
الوجيزة فأقول:
(1) إن الأصل في العقود هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) فهذا نص عام في القرآن، وهو صريح في أن الأصل في
العقود الصحة حتى يقوم دليل مثله في القوة يخصصه فيؤخذ به في مورد تخصيصه،
والنساء كالرجال في صحة التعاقد معهن فيما لا يخالف نصًّا في الشريعة.
(2) إن الأصل في الشروط العامة حديث (المسلمون على شروطهم) رواه
أبو داود، والحاكم مرفوعًا من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وهو مقيد بحديث
(المؤمنون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك) رواه الحاكم عن أنس، وعائشة
وهو صحيح أيضًا، وذكر الحافظ في معناه حديث (المسلمون عند شروطهم، إلا
شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالاً) ولم يعزه ولا تلك فيه.
ويفسر هذا حديث (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما
كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق،
وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) وهو حديث مشهور ومتفق عليه سببه
اشتراط بائعي بريرة أن يكون لهم الولاء، وحكم الله أن الولاء لمن أعتق، والمراد
مما ليس في كتاب الله ما خالف حكم كتابه كما قال المحققون.
(3) الأصل في شروط النكاح خاصة الحديث الذي أوردته في الطبعة
الثانية من كتاب الوحي، وذكرته آنفًا، وفي مذاهب الفقهاء في هذه الشروط أقوال
فصلها الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري، منها التفرقة بين ما هو من مقتضى
العقد، وما ليس منه، وهو مذهب الشافعي، وقال منها قول أحمد وجماعة: يجب
الوفاء بالشروط مطلقًا. اهـ. فمذهب إمام المعترض أوسع في هذه المسألة من
مذهب أبي حنيفة.
(4) إن فقهاء الحنابلة وغيرهم قد أجازوا توكيل الرجل المرأة بأن تطلق
نفسها، وهي بمعنى اشتراطها بأن تطلق بنفسها، فيُرَّد عليه ما ذكره فيه.
(5) إن هذا الاشتراط والتوكيل ليس فيه شيء من ولاية المرأة على الرجل؛
وإنما هما نزول من الرجل للمرأة عن اختصاصه بالطلاق باختياره، وهي لا
تشترط هذا إلا إذا كانت تخاف أن يظلمها الرجل ظلمًا لا ترى لها مخرجًا منه إلا
بطلاقه وهو نادر، فهي تهدده به لتمنعه من الظلم لها في نفسها ومالها، فإن وقع
أوقعته، وكم من امرأة اشترطته ولم تنفذه، ومنهم الأميرة المصرية الشهيرة
(نازلي هانم) .
فمن يريد تحقيق مسألة كهذه ينبغي له أن ينظر في جميع ما ذكرناه، لا أن
يلقي تلك الكلمة المجملة على عواهنها.
* * *
(4)
انتقاد مسألة كلام الله تعالى وصفاته والرد عليه
قال: إن تعريفنا لكلام الله تعالى لا يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار
... إلخ، وأقول: إنني لم أدع أنه رواية؛ فيضرني أنه لا يعرف هو ولا غيره لها
راويًا ممن ذكر، ولا من غيرهم، وأسأله: هل يعرف أن أحدًا من هؤلاء العلماء
والرواة قال أو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن علماء أصحبه أنه لا
يجوز لأحد أن يفسر أسماء الله تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعلاً من أفعاله إلا
بحديث مرفوع أو أثر عن الصحابة، أو قول من أقوال مالك أو أحمد أو السفيانين
وأضرابهم؟ بل أسأله: هل التزم أحد من المفسرين للقرآن أو شراح الأحاديث هذا؟
وإذ لم يشترط أحد منهم فيه الرواية التي يحتج بها في العقائد، وهي القطعية ولا ما
يحتج به في الأحكام العملية من الآحاد الصحيحة، فعدم اشتراط نقله عمن لا يحتج
بأقوالهم في ذلك كالذين ذكر أسماءهم أولى، ولو كان المعترض يروي لنا ما يدل
على بطلان هذا التعريف لكان حقيقًا بأن ينظر فيه
على أن قولي: إن كلام الله تعالى صفة من صفاته؛ مروي ومجمع عليه عند
أهل السنة سلفهم وخلفهم، وأما زيادة: شأن من شؤونه، وذكر متعلقه فلعله لو فهم
مرادي منها لحمده ورضيه؛ فإنما هو عبارة عن إيثار مذهب السلف على مذهب
المتكلمين الذين قالوا: إن كلام الله صفة قديمة أزلية قائمة بذاته تعالى لو كشف عنا
الحجاب لرأيناها، وإنه واحد ليس فيه تقديم ولا تأخير ولا تجديد خطاب لمن شاء
تعالى بما شاء متى شاء، وأما وحيه إلى رسله فهو من الكلام اللفظي المحدث الدال
على كلامه النفسي الأزلي، فهو قد خاطب موسى في الأزل، وأطلعه في الطور
وغير الطور على ذلك الخطاب الأزلي بكشف الحجاب عنه، وأما السلف فيقولون:
إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء، وإن خطابه لموسى في مصر في
شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور، فهذا مرادي من قولي: إنه شأن من
شؤونه تعالى الخاصة به، التي لا تُعلم إلا بوحي منه، أخذًا من قوله تعالى: {كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29)
جملة ما قاله المتكلمون على اختلاف مذاهبهم في كلام الله تعالى من نفسي
ولفظي وحقيقي ومجازي وقديم وحادث ومخلوق نظريات فلسفية مبتدعة مخالفة
لظواهر القرآن، ولما ثبت في الأحاديث الصحاح، وجرى عليه جمهور السلف من
الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، كما فصلته في المنار وتفسيره وأجملته في
كتاب الوحي بعبارة وجيزة؛ لأنه كتاب لا يجوز فيه بسط هذه المباحث الجدلية،
وقد كُتِبَ للدعوة إلى الإسلام، وبيان حقائقه التي لا تضطرب فيها الأفهام، ولا
يحول دونها شيء كفلسفة علم الكلام، ولكن أخانا الناقد فهم منها خلاف ما أردناه
بل ضده، وإننا نشايع فيه المتكلمين، ولذلك رتب عليه الأسئلة التي رأيت.
على أنني بينت مرادي من تخطئة المتكلمين، وبيان الحق في معنى كلام الله
تعالى وتكليمه لرسله في الفصل الأول الذي زدته في أول الطبعة الثانية من كتاب
الوحي (ص 22 25) ونشر في المنار، وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام
سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى،
وأما كون الغاية من هذا كشف ما شاء الله تعالى من علمه لمن شاء من رسله فهو
بيان لمتعلق الكلام، وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب، وليس معناه أن
الكلام أو التكليم هو العلم، وهذا بديهي في نفسه؛ ولكنه اشتبه على المنتقد فتوهم
أنني أعني من كشف العلم ما يعنيه المتكلمون من قولهم في صفة الله تعالى: لو
كشف عنا الحجاب لرأيناها، فهذه عبارة مبتدعة لا يدل عليها نقل ولا عقل، وإنما
أخذوها من قاعدتهم: كل موجود يجوز أن يُرى.
وإنني بعد أن بينت في ذلك الفصل أن تلك النظريات في الكلام الإلهي مبتدعة
لم يرد بها كتاب ولا سنة، وأنها مثار للوسواس الشيطاني، صرحت بوجوب إثبات
كل ما ثبت في كلام الله وكلام رسوله من إثبات ونفي، من غير زيادة ولا نقص،
بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ثم قلت: وليس عليك ولا لك أن تحكم عقلك ولا
رأيك في كنه ذاته ولا صفاته، ولا في كيفية مناداته وتكليمه لرسله، ولا في كنه ما
هو قائم به، وما يصدر عنه، على هذا كان أصحاب الرسول، وعلماء التابعين،
وأئمة الحديث والفقه قبل ظهور بدعة المتكلمين. اهـ.
وقد نُشِرَ هذا الفصل في المنار عند البدء بإعادة طبع كتاب الوحي المحمدي
الذي جاءنا انتقاد أخينا الأستاذ النجدي عند إتمامه، وما أراه إلا قد قرأه قبله، ولكن
إخواننا النجديين مصابون بنوع من الوسوسة على مذهب السلف، فإذا رأوا كلمة
واحدة في كلام أحد يحتمل أن تفسر بما يخالفه قامت قيامتهم على قائلها وإن لم
يفهموها، وإن كان له مع ذلك مئات من الجمل الواضحة التي تثبت أنه مثلهم أو
أعلم منهم بمذهب السلف، وأقدر على بيانه ونصره بالعبارات الفصيحة المختلفة
غير متقيد بألفاظ بعض المؤلفين السابقين تقيد المتعبد بها.
* * *
(5)
إنكاره قولي: حررت هذه المقدمة
في ليلة المولد والرد عليه
بنى إنكاره هذا على أنه لا يرجو أن يقال مثل هذا القول إلا إذا وجد حديث
صحيح يعين ليلة المولد، وأن المحققين قرروا أنها لا تُعْرَف، وأن فيها أقوالاً
متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، وأرد على هذا من وجوه:
(1) أن هذه المسألة تاريخية لا من مسائل الاعتقاد، ولا من مسائل الأحكام
الشرعية فجواز حكايتها لا يتوقف على حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وقد
تساهل جمهور العلماء في المناقب والفضائل، فقبلوا فيها الأحاديث والآثار الضعيفة
والمنكرة غافلين عما يترتب عليها من وصفه صلى الله عليه وسلم بما لا يصح أن
يوصف به إلا بنقل صحيح، وغير ذلك مما بيناه في موضوعه، ومسألة تاريخ
ولادته صلى الله عليه وسلم وزواجه، وموت أولاده، وسفره إلى الشام تكلم فيها
العلماء، ولم يقل أحد منهم: إنه لا يجوز حكاية شيء من ذلك إلا بحديث صحيح؛
لأن هذا قول بغير علم بل اختلفوا فيما هو أهم من ذلك وهو تواريخ بعض حوادث
السيرة النبوية كتاريخ بدء الوحي، وفترته، والإسراء، وفرضيه الصلاة، ولم
يشترط أحد منهم في حكايتها مثل هذه الشروط.
(2) قوله: (إن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تعرف) غير معروف
عندنا فمن هؤلاء المحققون؟ وما دليلهم على ما قالوا؟ وهل يجب على من لم
يظهر له دليلهم أن يتبعهم؟ هذا زعم لا يقول به مسلم ولا عاقل، وحكم لم يقل به
عالم ولم يقض به عادل.
(3) قوله: إن فيها أقوالاً متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض،
يعني أنها متساوية فيه، مردود لأنه مخالف لنقل علماء الحديث والتاريخ وترجيح
بعضها على بعض.
فقد نقل صاحب السيرة الحلبية الأقوال فيه، وأولها أشهرها وهو أنه كان
بمضي ثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول (قال) وحكي الإجماع عليه، وعليه العمل
الآن من الأمصار خصوصًا أهل مكة ... إلخ قال: وقيل: لعشر مضت من ربيع
وصحح. اهـ. (قال) أي: صححه الحافظ الدمياطي، وذكر طعن بعضهم في
الأول بأن ابن إسحاق ذكره مقطوعًا دون إسناد، وأنه لو أسنده لم يقبل لتجريح أهل
العلم له، وذكر أقوال بعضهم فيه؛ ولكن التحقيق عند بعضهم أنه ثقة إمام في
السِّيَر، وأما في الحديث فهو صدوق مدلس فلا تقبل عنعنته ومسألة المولد من
السيرة لا من السنة.
ثم قال: وقيل: لثمانٍ مضت منه، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره،
وعليه أجمع أهل التاريخ، وقال القطب القسطلاني: هو اختيار أهل الحديث؛ أي:
كالحميدي وشيخه وابن حزم. اهـ.
وقال ملا علي القارئ في شرح الشمائل عند ذكر ترجيح وفاته صلى الله عليه
وسلم في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول: هذا وقد اتفقوا على أنه ولد يوم
الإثنين في شهر ربيع الأول؛ لكن اختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر، أم ثامنه، أم
عاشره بعد قدوم الفيل بشهر، أو أربعين يومًا، قال بعضهم: ولم يختلف أهل
السير في أنه عليه السلام توفي في شهر ربيع الأول، ولا أنه كان يوم الإثنين،
وإنما اختلفوا في أي يوم كان من الشهر (وذكر من رجحه من أهل السير
والمحدثين، ومنهم ابن سعد وابن حبان وابن الصلاح والنووي والذهبي) ،
أقول: وصرح به محمد مختار باشا 56 الفلكي في التوفيقات الإلهامية الذي وضعه
للتوفيق بين الحساب الهجري من أول سنة منها، والحسابين الإفرنجي والقبطي
الشمسيين، وقد يستأنس باتفاق حساب المولد والوفاة لتقوية كل منهما بالآخر من
حيث كمال السنين المناسب لكماله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وكنت أحفظ
أن الراجح عند المحدثين أنه صلى الله عليه وسلم ولد في صبيحة اليوم التاسع منه،
ولا أذكر الآن من نقله، ولعل عبارة علي القارئ في ثامن الشهر أصلها تاسعه.
وجملة القول: إنه لا يصح أن يقال فيما رجحه بعض حفاظ الحديث أنه كغيره
باطل، وأن مثل هذه المسألة التاريخية يكتفى في الخلاف فيها ترجيح هؤلاء، ومن
دونهم من العلماء لبعض الأقوال على بعض، ومن الغريب أن يشترط أستاذ حنبلي
فيها أنها لا تثبت إلا بحديث صحيح، وإمامه بل إمام السنة أحمد بن حنبل يقبل ما
دون الحديث الصحيح في الأحكام الشرعية.
هذا وإنني لم أطل هذه الإطالة في تفنيد انتقاد ضعيف كانتقاد صديقي الأستاذ
الفاضل الشيخ عبد الله بن يابس إلا حبًّا فيه وفي قومه، وحرصًا على أن يكون
باعثًا له على التدقيق والتحقيق في الاستدلال، وما يقتضيه الخروج من مضيق
التقليد إلى فضاء الاستقلال، وما اقترحت عليه كتابة هذا الانتقاد كله، والاستدلال
عليه إلا لأجل هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/216)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفنيد اعتراض كاتب جزويتي في مجلة المشرق
على كتاب الوحي المحمدي
(تابع ما قبله)
(2)
- 4 -
صد الكنيسة أو الكنائس عن الإسلام
ألمَّ الكاتب بما بيناه في مقدمة الكتاب من الحجب الثلاثة التي حجبت حقيقة
الإسلام عن أوربة إلمامًا وجيزًا، وأجاب عن صد الكنيسة عنه وبغيه عوجًا بأنه
يترفع عن إعادته، وأن آداب المناظرة تحول بينه وبين (الرمي بقذائف الكلام) .
ونرد عليه بأننا نحن لم نقذف الكنيسة أو الكنائس في ذلك بتهمة من عند
أنفسنا، ولا نقلنا شيئًا من أقوالها وأعمالها عن أحد من علمائنا، وإنما أشرنا إشارة
وجيزة إلى بعض ما دونه بعض علماء الإفرنج في ذلك، ولا سيما أحرار الفرنسيس،
وأهل النصفة النسبية منهم كالكونت دي كاستري صاحب كتاب (الإسلام:
خواطر وسوانح) وغيره من الكتب الكثيرة التي توجد كلها أو جلها في خزانة كتب
الكلية اليسوعية، فمن الميسور لحضرة الكاتب الأديب أن يظل معتصمًا بما ادعاه
من الترفع وآداب المناظرة، ويكتفي من الدفاع عن الكنيسة بأن يقول: إن كل ما
أسنده إليها أولئك الكتاب الفرنسيون الكاثوليكيو النشأة والتربية، وآخرهم موسيو
درمنغام الفرنسي الكاثوليكي صاحب كتاب (حياة محمد) أكاذيب مفتراة على أولئك
الذين أسندوه إليهم من رجال الكنيسة وغيرهم.
ثم نقل كلمتي (الحق أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها ….)
ووصفها بالبساطة الصبيانية، ولو قلت: إن الإسلام صديق الكنيسة لكنت حقيقًا بهذه
البساطة؛ ولكن المسيحية في عقيدتي التي هي عقيدة الإسلام الثابتة بالبرهان هي
غير الكنيسة المسيحية هداية توحيد وفضائل متممة لهداية التوراة الإسرائيلية وفاقًا
لما ينقلونه عن المسيح عليه السلام أنه قال: ما جئت لأنقض الناموس؛ وإنما جئت
لأتمم. والكنيسة نقضت الناموس من أول أساس له وهو التوحيد المجرد، وإبطال
اتخاذ التماثيل والصور إلى سائر ما فيها من العبادات والطقوس والتشريع المدني.
والإسلام هداية متممة للمسيحية؛ لأنه لم يوجد بعد المسيح عليه السلام من
يصدق عليه قوله: (يعلمك كل شيء) أي: مما لا يستطيع أن يقوله لهم غير نبيه
وهو الفارقليط روح الحق كما بيناه في كتاب الوحي وغيره.
ومما نقصده بقولنا: إن الإسلام متمم ومكمل للمسيحية - الحق التقريب
والتأليف بين الطوائف في بلادنا، وهو خلاف سياسة الكنيسة، بل طالما تمنينا لو
نتعاون مع رجال الكنيسة على محاربة كفر التعطيل المادي أيضًا، ووجد من أصدقائنا
من عرض هذا الرأي على الفاتيكان، وبلغنا أنه قُبِل وسيظهر له أثره، ولكن خاب
الأمل.
- 5 -
عدوان السياسة الاستعمارية على الإسلام
قال الكاتب: إنني نسبت إلى رجال السياسة الأوربية (صفات مستقبحة) ،
وسألني ماذا أقول (لمن يصف رجالات الفتوح الإسلامية العظام كخالد بن الوليد،
وعمرو بن العاص وغيرهم) وصفي لرجال الاستعمار المحدثين؟
وأجيبه عن هذا السؤال: إنه لا يستطيع مؤرخ صادق منصف أن يقول الحق
في رجالات الإسلام إلا ويكون أكبر حجة لنا، فإن قال الباطل وافترى فإننا نرد
عليه بأقوال كتاب أحرار الإفرنج من المؤرخين المنصفين كغوستاف لوبون الفرنسي
في كتابه (حضارة العرب) وغيره وحسبنا قوله (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا
أرحم من العرب) ، وكذا الأستاذ سيديو الفرنسي في كتابه خلاصة تاريخ العرب.
ومثلهما الأستاذ المؤرخ الكبير جيون الإنكليزي فإنه أطنب في فضائل العرب
في فتوحهم وحضارتهم وإحيائهم للعلوم، والدكتور ألفرد. ج. بتلر الإنكليزي
صاحب كتاب (فتح العرب لمصر) ؛ فإنه على تحمسه في نصرانيته وشدة
امتعاضه من حكاية انتصار الإسلام على النصرانية، وفتح العرب به لبلادها قد
شهد بأن سبب هذا النجاح والفلاح للعرب هو إقامة العدل واتباع الحق، وشهد
لعمرو بن العاص بالقدح المعلى في هذا حتى فضله في بعض المواضع على مثال
العدل المطلق في التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أن عمرًا لم يكن في
الذروة العليا من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، بل كان من محبي الدنيا والملك
فيهم.
وههنا نقول: إن ما كان من بعض فاتحي العرب من بعض الهفوات التي لا
يسلم منها البشر لم تكن بتعاليم الإسلام، ولا من خطة الخلفاء؛ وإنما كانت هفوات
شخصية، وأما خطة المستعمرين فهي سلب أموال البلاد، واستذلال العباد، وإفساد
الأخلاق، ومنع الحرية الدينية والاجتماعية والكتابة والخطابة، وإطلاق حرية
الفسق والفجور وحدها، وما عسى أن يوجد في بعض رجالهم في المستعمرات من
شجنة رحمة أو مسكة عفة؛ فإنما هو شخصي، ولا يجهل الكاتب ولا غيره ما
يجري في إفريقية الشمالية في هذه الأيام.
-6-
تأويله لعبارة تاريخية في هضم أوربة للنساء
ذكر الكاتب الحجاب الثالث على الإسلام في مقدمة الوحي، وهو فساد
الحكومات والشعوب الإسلامية، واستحواذ الجهل عليها، وأنكر علينا قولنا: إن
سبب ذلك جهل هداية القرآن. وأشار إلى ما شرحناه في الكتاب من مقاصد القرآن
العشر في الإصلاح لأركان الدين الثلاث التي حرفها أهل الكتاب، وبيان حقيقة النبوة
التي جهلوها، وسائر أنواع الإصلاح السياسي والدولي والمالي والحربي والنسائي،
والفرق بين عجائب المسيح ومحمد عليهما السلام، وقال: (إن البعض من أقواله لا
يثبت لنقد) ولكنه اقتصر على نقد كلمة واحدة عرضية نقلناها من كتابنا (نداء للجنس
اللطيف) وهي أن مجمعًا مسيحيًّا وضع موضع الشك: هل للنساء نفوس بشرية أم
لا؟ ورد عليه بأن هذا الشك إنما هو مشكل لغوي حاصله أن كلمة إنسان باللاتينية
(Homo) تطلق على الرجل والمرأة معًا أم لا؟
إنني أشكر له قوله: إن بعض كلامي لا يثبت على النقد، فهو حق مجمل بين
أباطيل مفصلة، لا ينكره إلا من يدعي لنفسه العصمة؛ لأن بعض الشيء يصدق
بواحد منه، وأي إنسان لا يمكن انتقاد بعض كلامه ولو مسألة واحدة؟ ثم أحمد الله
أنه نظر في أصول كلامي في النساء الذي فضلت به تعاليم الإسلام على جميع ما
نقل عن الأنبياء والحكماء والساسة والأدباء في إنصاف النساء، وإعطائهن حقوقهن
الدينية والزوجية والاجتماعية والسياسية والمالية ... إلخ، فلم يجد فيه إلا كلمة
واحدة مما نقلناه من الشواهد التاريخية، وهو هضم المجمع لحقوق النساء، وإلا ما
سماه متناقضًا في مسألة أخرى وهو:
-7-
زعمه أن ما وصفت به الإسلام من الحرية والإخاء متناقض
قال: إنه لا حاجة به إلى تبيان ما في مقاصد الشيخ رضا من التناقض في
قوله: إن الإسلام هو دين الحرية والتآخي، وأنه يضمن للناس أجمعين حقوقهم،
وقوله بعد ذلك: إن الإصلاح الاجتماعي والسياسي لا يتم إلا بوحدة الأمة والجنس
والدين والتشريع، والأخوة الروحية، والمساواة في التبعة، والجنسية السياسية،
والقضاء واللغة (قال) (أي بأن يصبح العالم كله مسلمًا عربيًّا، فتصور) !
أقول: من قرأ هذا البحث الطويل الذي أشار إليه المنتقد في كتاب (الوحي
المحمدي) وكان يعرف علم المنطق، وما اشترط فيه لصحة التناقض بين
القضيتين من تحقق الوحدات الثمان، لم ير فيه ما رآه كاتب المشرق، الذي يجهل
أو يتجاهل المنطق، وأكتفي في رد قوله بمثل الإشارة الوجيزة التي اكتفى هو بها،
بدون أن أنقل شيئًا من نصوص الكتاب غير ما قاله هو فأقول:
قلت: إن الإسلام دين الحرية بمعنى أنه منع الإكراه على الدين بنص كتابه
العزيز، حتى إن فقهاءنا صرحوا بأن إسلام المكره لا يصح، ولا يعتد به، ولا
تزال بعض دول النصرانية تُكْرِه الناس على دينها، وتغتصب أموال أوقاف
المسلمين فتنفقها في سبيل تنصيرهم، وأهل شمال أفريقية قد ملؤوا الدنيا صياحًا من
هذا الإكراه - في هذه السنين - المستمر إلى هذا اليوم.
وقلت: إن الإسلام دين التآخي بمعنى أنه يرشد الناس إليه، لا أنه يُكْرِهُهم
عليه، فإذا كان لا يُكْرِه الناس على الأصل، فلا يعقل أن يُكْرِهَهم على الفرع. وقد
ثبت في القرآن ما يسمى بالأخوة القومية في تسميته الأنبياء عليهم السلام إخوة
لأقوامهم المشركين، كما ثبت فيه ما هو أرقى منها، وهو الأخوة الدينية،
وهذا شيء طبيعي؛ فإن الاتحاد في الاعتقاد الذي تناط به سعادة الدارين أقوى من
كل اتحاد، فأخوته أكمل من كل أخوة.
وقلت: إنه الإسلام يعطي كل ذي حق حقه، وأعني به الحق الذي قرره وأثبته
له في محيطه الخاص به، لا ما يدعي كل أحد من الحق لنفسه، فهو في القضاء
والشهادة يساوي بين الخاضعين لشريعته في أحكامها، لا يميز بين مؤمن وكافر،
ولا بر وفاجر، ولا قوي وضعيف، ولا ملك وسوقة، ولا غني وفقير، ولا قريب
وبعيد، ولا محب وبغيض، وفيه من وراء ذلك حقوق لأولي القربى والأرحام،
وحقوق للأصدقاء والجيران، وحقوق لأخوة الإسلام، وحقوق للإنسانية العامة، ولا
تعارض فيه ولا تناقض بين هذه الأنواع.
مثال ذلك أن الصدقة بالعامة في الإسلام مشروعة لكل هذه الأنواع، فتجب
على المسلم لغير المسلم المضطر غير الحربي، وتُسْتَحب للمحتاج غير المضطر
أيضًا، وللمسلم منها نوع خاص وهو الذي عينه القرآن للأصناف الثمانية من
نصاب الزكاة، وللأقربين نوع خاص كالنفقة الواجبة للمحتاجين من أصول الإنسان
وفروعه، ولغيرهم كالإخوة والأخوات عند السعة، وتقديمهم على الغرباء، فهل
يعد هذا من التناقض؟ ؟
وأما معنى قولنا: إن الإصلاح الإنساني الكامل لا يتم إلا بالوحدات الكثيرة،
فهذه قضية معقولة في نفسها، سواء قررها الإسلام أم لم يقررها،، حتى لو لم يكن
في العالم أمة عربية ولا شريعة إسلامية؛ ولكن الثابت في الواقع أن هذا الكمال
الإنساني لم يبين إلا في الإسلام، وصحة الإسلام لا تتوقف على اتفاق البشر عليه،
فالبشر لا يتفقون على شيء، والكمال هو الغاية في الدعوة فلا تناقض! !
(للرد بقية موضوعها طعنه في إعجاز القرآن)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/227)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جوامع كلم في شؤون الدول والأمم
أعقد مشكلات هذا العصر مشكلة وطن اليهود القومي في فلسطين، وسياسة
الإنكليز في إيجاد شعب قوي غني في قلب البلاد العربية مُعَادٍ للشعب العربي؛
فتُخْضِع كلاًّ منهما بالآخر؛ ولكنها عاجزة عن حفظ الموازنة بينهما، فاليهود أقوى
منها اليوم، وسيكون العرب أقوى منهم غدًا بكثرتهم، وعصبيتهم، والجمع بين
الضب والنون محال.
__________(34/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفد الصلح والسلام
إننا وقد وَفَّيْنَا حادث الحرب والسلم في جزيرة العرب حقه، وبيَّنا ما لنا فيه
من موعظة وعبرة، وشكرنا لكل من الإمامين عبد العزيز ويحيى فضله، فلا يفوتنا
أن نختم حديثه بشكر وفد السلام، وجهاده في سبيل الله بخدمة العرب والإسلام،
فهو الذي انْتُدِب لهذه الخدمة بالفعل من غير دعوى ولا إعلان في الصحف، ولا
تبجح بنشر المقالات وإلقاء الخطب، ولا دعوة إلى جمع المال كما فعل الذين
يقولون ما لا يفعلون، ويُسِرُّون غير ما يعلنون، بل قال وفعل، وجاهد بماله
ونفسه ولم يطلب مساعدة أحد.
أول من دعا إلى هذا زعيم فلسطين الأكبر ومفتيها ورئيس مجلسها الإسلامي
الأعلى، ومؤسس المؤتمر الإسلامي العام فيها: السيد محمد أمين الحسيني، دعا
نفرًا من أشهر رجالات الأقطار العربية الإسلامية ذات الجوار والصلة بجزيرة
العرب: سورية، والعراق، ومصر، فاستجاب له من سورية زعيمها السياسي
الأكبر هاشم بك الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية الممثلة لسورية كلها، واعتذر زعيم
العراق الأكبر ياسين باشا الهاشمي بمرض عرض له.
واستجاب له من مصر محمد علي باشا علوبة من وزرائها ونوابها السابقين،
ووكيل المؤتمر الإسلامي العام، وهو الذي سبق جميع الزعماء المصريين إلى
العناية بأمر المؤتمر الإسلامي، وسافر مع رئيسه إلى الأقطار الإسلامية لجمع
الإعانات له، وعني بخدمة المسألة العربية العامة عناية خاصة.
واستجاب له من أوربة أكبر كتاب الأمة العربية، وأمير البيان فيها، الداعي
إلى وحدتها، المحامي عن حقيقتها، المدافع عن ملتها، ورئيس الوفد السوري
الفلسطيني في جنيف مثابة سياسة الأمم كلها، الأمير شكيب أرسلان، ووافى
إخوانه الثلاثة طائرًا من أوربة إلى مصر، على ما في طيرانه من زيادة النفقة في
هذه العسرة المرهقة، وعلى ما قاساه من عنت الحكومة المصرية وإرهاقها إياه
العسر السياسي، الذي هو أشد على الأحرار من العسر المالي، في مروره بأرضها
من الإسكندرية إلى السويس، وقد رأيت هذا العنت بعيني، وذقت مرارته بنفسي،
إذ سافرت من القاهرة إلى بنها للقائه والذهاب معه إلى السويس، فلم يأذن لنا
الجلاوزة المسيطرون عليه من قبل حكومتنا المصرية - وهم من الإنكليز - بسلام
ولا كلام، ثم كان المصريون منهم أشد من هؤلاء الإنكليز وطأة في القطار بعد
القطار، ثم في السويس، ولم نر أحدًا فهم لهذا العنت معنى.
ركبت أنا ومحمد علي باشا علوبة في قطار بورسعيد والسويس الذي يخرج
من محطة مصر في نهاية الساعة السادسة مساء، وهو يلتقي في محطة بنها بالقطار
الجائي من الإسكندرية إلى مصر، وهنالك نزل الأمير شكيب من قطار الإسكندرية
وركب هو والجلاوزة المحافظون عليه في قطارنا، وأدخلوه في المخدع المجاور لنا،
وأردت أن أسلم عليه وهو يعلم أنه ممنوع من السلام علي وعلى غيري فحالوا بيننا.
ولما نزلنا في الإسماعيلية، ونزل فيها السيد أمين الحسيني وهاشم بك الأتاسي
القادمين من فلسطين، وانتقلنا جميعًا إلى القطار الذي يحملنا إلى السويس فرَّق
جلاوزة الأمن المصريون بين الأمير شكيب والجائين من فلسطين والجائين من
مصر جميعًا، فلم يسمحوا لأحد منهم في المحطة ولا في القطار أن يكلم الفريق
الآخر، ولا أن يسلم عليه، فكان هذا الحجر أبعد عن العقل والفهم والشرع والعرف
والقوانين من كل ما سبقه، إلا ما يكون من الحجر الصحي في أوقات الأوبئة،
والعسكري في وقت الحرب؛ وإنما يكون الأول لوقاية الأصحاء من المصابين
بالوباء، والثاني لحماية الوطن وأهله من فتك الأعداء، وكلنا أصحاء أصدقاء ولله
الحمد، جنسنا واحد، وديننا واحد وحكومتنا المصرية، موادة لحكومتي فلسطين
وسورية، والدولتين المسيطرتين عليهما، ولأجلهما تحجر على الأمير شكيب
وتُعَنِّته، ولا نعرف لنا وللآخرين ذنبًا.
بيد أننا لما وصلنا إلى السويس نزلنا كلنا في فندق واحد، فارتفع الحَجْر عن
كل منا إلا الأمير شكيب؛ فإن الحكومة أمرت بنقله إلى فندق آخر، حالت فيه بينه
وبين كل أحد منا ومن غيرنا، إلا السيد محمد أمين الحسيني فقد أذنوا له أن يكلمه
في مسألة السفر بأول باخرة أو بطيارة، ولما اجتمعا اتفقا على الإلحاح علي بالسفر
مع الوفد، فأدليت بما لدي من الموانع المالية وغيرها فقبلوا عذري، وكاشفتهم بما
عندي من رأي ورواية في موضوع الحرب والصلح، وحملتهم كتبًا إلى جلالة ملك
العرب السعودي وبعض رجال بطانته أظهرت فيه ما بيني وبينهم من التكافل والثقة
بهم، وعذري في التخلف عنهم، وكان في 27 ذي الحجة سنة 1352.
سافروا باسم الله إلى الحجاز فكان لهم عند جلالة الملك ما يليق بمكانتهم
الشخصية والقومية، وبسفارة وفدهم الإسلامية العربية، من حسن الضيافة وكرم
الوفادة، وقلما اجتمع في مجلسه وفد كوفدهم في سعة معارفهم، ودقة خبرتهم،
وصفاء نيتهم، واتفاق رأيهم، وحسن بيانهم، فبسطوا له خلاصة ما يعلمونه من
آراء العالم الإسلامي والشعور العربية في بلادهم وغيرها في مسألة الجزيرة العربية
المقدسة، وما يخشونه من المطامع الأجنبية، وما وقفوا عليه في بيئاتهم الأربع من
دسائسها ومطامعها، وطالت المحاورات والمسامرات بينه وبينهم فيها، فَسُرَّ بما
وقف عليه من معارفهم، وحسن بيانهم وشدة غيرتهم، وأعجبوا بما وقفوا عليه من
استقلال عقله، وبعد رأيه، وحسن نيته، وكمال صراحته، وحزمه وشجاعته،
وعدم مبالاته بدسائس المفسدين، وسعاية المفسدين المحالين.
وكان من توفيق الله أن نجحت المفاوضات البرقية بين جلالته وجلالة الإمام
يحيى حميد الدين بما يوافق رأيهم، فقبل الثاني ما اقترحه الأول لإعلان الهدنة
ووقف رحى الحرب، ووضع معاهدة الصلح، وتلاه إرسال مندوبه الزعيم الكبير،
والسياسي النحرير، الأستاذ العلامة السيد عبد الله بن الوزير، مفوضًا من مقام
الإمامة المتوكلية بذلك، فوجد الوفد الإسلامي من معارف سيادته، ودقة سياسته،
وصفاء طويته، وصدق صراحته، ما كان موضع العجب والإعجاب، والثقة بما
يرجون ويرجو العالم الإسلامي والعربي من الاتفاق والاتحاد.
ولما وُضعت المعاهدة الإسلامية العربية العظيمة الشأن بالاتفاق السري العلني
من الجانبين، التي كانت موضع إعجاب أهل الخافقين، وحضر أعضاء الوفد
توقيعها في الحجاز، ودعوا جلالة الملك الإمام عبد العزيز، وسافروا مع مندوب
جلالة الملك الإمام يحيى حميد الدين إلى صنعاء اليمن ليشهدوا توقيعها في صنعاء
ثم يحضروا مبادئ تنفيذها، وقد اعتذر محمد علي علوبة باشا العضو المصري عن
السفر مع إخوانه إلى اليمن لكثرة ما ينتظره من الشواغل في مصر، وقد تم الصلح
ولله الحمد، وحَمَّلَهم كتابًا إلى جلالة الإمام يعتذر به عما كان يرجوه من الشرف
بالمثول في حضرته.
سافر الوفد من جدة إلى الحُدَيْدَة فاستقبلهما فيها صاحب السمو الملكي الأمير
فيصل السعودي بالحفاوة والتكريم، وكان أبهج ما سرهم فيها ما رأوه من حسن
التلاقي بين سموه وسيادة عبد الله بن الوزير، فقد كان كتلاقي أخوين شقيقين طال
عليهما البعاد، فطفقا يُطْفِئان لوعته بالتقبيل والعناق، ثم ما رأوه من جيوش كل من
الإمامين على الحدود من منطقة تهامة المحتلة من قبل الدولة السعودية، ومنطقة
الجبال التي ترابط بها الجيوش المتوكلية، وكيف كان تلاقي جماعتهما تلاقي
الإخوان، ثم ما هو أعلى من ذلك وهو لقاء جلالة الإمام الهمام، وحفاوته بضيوفه
الكرام، وما سمعوه بآذانهم من ثنائه على أخيه الإمام الملك عبد العزيز كما كان هذا
يثني عليه، ويشهد كل منهم للآخر بحسن النية، ثم ما شاهدوه في الحُدَيْدَة من تنفيذ
المعاهدة بجلاء الجيوش السعودية عنها، وتبادل تسليم الرايات وتسلمها فيها بما
عليه اتفقا من التكريم العظيم العسكري والود الأخوي.
ثم سافروا من الحُدَيْدَة إلى مصوع وسافر منها إلى السويس السيد أمين
الحسيني، وهاشم بك الأتاسي فوصلا إليها في السابع من هذا الشهر الميمون
(ربيع الأول) واستقبلناهما فيها مع جماهير المستقبلين مهنئين داعين، وتخلف
الأمير شكيب ليسافر منها إلى أوربة.
كنا قد وقفنا على أطوار الحرب والصلح من أنبائها الرسمية وغير الرسمية،
العامة منها والخاصة بنا، وبقي علينا أن نعلم من الوفد ما كان للصلح والمعاهدة من
التأثير النفسي في قلوب الفريقين، مما لا يُعْلَم إلا من رؤية الوجوه المستبشرة أو
الباسرة، ومن سماع جرس الأصوات في الحديث والتفرقة بين نغماتها السارة
والقارة والحارة، ولا يعلم هذا وذاك إلا ممن رأى بعينيه، وسمع بأذنيه، وشعر
بقلبه، وأخبرنا بما روينا عنه.
هذا وإنه قد بلغنا قبل إصدار هذا الجزء أن جلالة الملك عبد العزيز، وجلالة
الإمام يحيى قد أبرقا إلى جلالة ملك الإنكليز يرجوانه بأن يوصي حكومته بالإذن
للأمير شكيب بدخول فلسطين للقاء والدته الجليلة فيها؛ إذ طالت غيبته عنها،
فتقبل شفاعتهما فيه، وأبرق إليه المندوب السامي من فلسطين بالإذن له بذلك فنهنئه
ونهنئ السيدة الفاضلة بهذا اللقاء الميمون، فبارك الله لهما وعليهما.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/232)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الحديثة
(المسوَّى من أحاديث الموطَّأ)
(طُبع الجزء الأول منه بالمطبعة السلفية بمكة سنة 1351 على نفقة ناشريه
الشيخ عبد الوهاب الدهلوي، والشيخ محمد صالح نصيف الحجازي، ونُشِرَ في
سنة 1352) .
هذا الكتاب من مصنفات الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي الهندي وطنًا، العمري
الفاروقي نسبًا، مجدد القرن الثاني عشر للهجرة في الهند بدعوته وإرشاده وتربيته
وتدريسه ومصنفاته، وبمن ترك من العلماء الأعلام من أبنائه وتلاميذه ومريديه،
فقد كان جامعًا بين العلوم النقلية والعقلية والفلسفة والتصوف كما يُعْلَم من كتابه
المشهور (حجة الله البالغة) الذي وضعه لبيان مقاصد الشريعة، وحكمها وأسرارها،
وإن أشهر علماء الهند من بعده إلى يومنا هذا يتصلون بسلسلته، ويجرون على
طريقته رحمه الله. سمعت هذا منهم في مدرسة ديوبند.
والمشهور أن كتابه (المسوَّى) هذا شرح لموطأ الإمام مالك بن أنس رحمه
الله، فهو بهذا يوصف ويعرف، وليس الأمر كذلك، فهو ليس بشرح للموطأ،
واسمه لا يدل على أنه شرح له، وإنما هو نوع جديد من أنواع الإصلاح والتجديد
لم ينسج بعده أحد على غراره، ولا قفَّى تلاميذه بمثله على آثاره، بل لم يفهموا
مراده منه لإجماله واختصاره، وقد وصفه هو بقوله في مقدمته:
(وقد شرح الله صدري - والحمد لله - أن أرتب أحاديثه ترتيبًا يسهل تناوله،
وأترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء، وأضم إلى ذلك من القرآن
العظيم ما لا بد للفقيه من حفظه، ومن تفسيره ما لا بد له من معرفته، وأذكر في
كل باب مذهب الشافعية والحنفية؛ إذ هم الفئتان العظيمتان اليوم، وهم أكثر الأمة،
وهم المصنفون في أكثر الفنون الدينية وهم القادة الأئمة) .
ثم قال: وفهمي الحق أن في ذلك فتحًا لأبواب الخير، وجمعًا لشمل الأمة
المرحومة، وهزًّا لطبائع جامدة طالما ركدت، وإرشادًا إلى طرق من العلم طالما
تُرِكَتْ.
وأرجو من فضل الله ورحمته أن يكون هذا الكتاب جامعًا لخمسة أنواع [1] من
الأحكام هي العمدة لمن أراد أن ينتهج مناهج الكرام: ما أُخِذَ من نصوص الكتاب،
وما أثبتته الأحاديث المستفيضة أو القوية المروية في الأصول في كل باب، وما
اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وما استنبطه مالك وتابعه جماعات من
الفقهاء والمحدثين. اهـ.
(أقول) فكتاب (المسوَّى) ترتيب جديد لكتاب الموطأ بتصرف زيادة
ونقصان مع تعليق وجيز على مسائله، وذكر مذهب الشافعية فيها منقولاً بالاختصار
من شرح الجلال المحلي على منهاج النووي، ومذهب الحنفية منقولاً عن الفتاوى
العالمكيرية بالاختصار أيضًا، وهو يعزو إليهما في الغالب، وقد يذكر المذهبين
بغير عزو، وقد يعزو إلى غيرهما، وأما آيات القرآن التي زادها في بعض
الأبواب فمنها ما يفسرها تفسيرًا وجيزًا ولو ببيان معنى مفرداتها، ومنها ما يسكت
عنها، وهو يذكر أولاً رواية مالك للحديث أو الأثر، ويقفي عليه بقوله (قلت كذا)
يشير به إلى الوفاق والخلاف وما عسى أن يكون فيه من معارضة أو تعقب بحديث
آخر، ويقول في الاتفاق: وعليه أهل العلم، وأما الاختلاف فهو ما يحكيه عن
الحنفية والشافعية.
وليس فيما رأيته منه شرح لعبارات الروايات، ولا بحث في أسانيدها ولا في
متونها غير ما ذكرت، فالمسوَّى لا يصح أن يسمى شرحًا، وأما الشرح الحقيقي
للموطأ، فهو ما كتبه المصنف باللغة الفارسية، وقد طُبع في الهند، وقد أحسن
متولي طبع (المسوَّى) بترجمة مقدمته بالعربية، ونشرها هنا قبل الشروع في
طبع المسوَّى، وقد عُلِمَ منها أن مراده رحمه الله تعالى بذلك الشرح هداية السبيل
للخروج من ظلمات التقليد والاختلاف في الدين إلى نور الاستقلال والفهم الاجتهادي
المطلق الذي أجمعت الأمة على وجوبه في كل عصر؛ لتقوم به حجة الله على أهله
بما يقتضيه ما يتجدد لهم من العلم والشبهات والقضاء، وليس في كتاب المسوَّى
شيء من الإعداد لسلوك هذا السبيل، وإنما هو لطبقة دون هذه الطبقة في علم الدين
هي طبقة العامة، وتلك طبقة الخاصة.
فإذا أردنا أن تكون عامة المسلمين اليوم على منهاج عامة السلف الصالحين
في الاستنارة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه
جمهور الصحابة والتابعين فحسبهم أن يقرأ لهم هذا الكتاب، الذي هو الأساس الأول
لكتب الصحاح والسنن والينبوع الأول لكتب الفقه، لا يكادون يحتاجون إلى غيره،
فعسى أن يكون طبعه سببًا لما نعتقد أنه أُلِّف لأجله.
وهذه التعليقات للإمام الدهلوي عليه تُعَلِّمهُم بالجملة ما اتفق عليه جمهور أهل
الصدر الأول مما لا يسعهم مخالفتهم فيه، وما اختلف أشهر المجتهدين فيه، ولهم
السعة في تقليد أيهم شاؤوا من غير حجر ولا جرح، ولا التزام ولا تعصب، ولا
خلاف ولا شقاق في الدين، كالذي لا نزال نراه بين المسلمين بجهلهم وتعصبهم
لأهوائهم، وأشده في بلاد الهند، فقد حدث منذ أشهر شقاق بين أهل مسجد في
(بمباي) بتعيين إمام حنبلي له، ولولا تدخل شرطة الحكومة الإنكليزية وشحنتها بين
الفريقين المتعصبين له، والمتعصبين عليه لوقع في المسجد الجامع من سفك لدماء
المسلمين، ما لا يجوز أن يقع بين أهل القبلة المصلين، ووقع مثل ذلك في بنارس
زارها سائح مسلم؛ فأنزله إمام مسجد للحنفية فيه، فبلغ الأهالي أن هذا السائح
مالكي المذهب؛ فهجموا عليه لقتله فسافر منها ليلاً هاربًا بدمه المالكي من استباحة
أخيه الحنفي له، والله تعالى يقول في المشركين: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11) .
إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأئمة المذاهب كلهم رضي الله عنهم
بُرَآء من هؤلاء المسلمين الجاهلين، فكلهم متفقون على عدم تكفير أحد من أهل
القبلة، وعلى جواز الصلاة مع الفاسق والمبتدع غير الكافر، وإن إمحاء هذه
المذاهب التي يدعونها خير لهم من بقائها مع هذا الشقاق، ولو كانوا يلقنون في
مدارسهم ومساجدهم مثل كتاب المسوى، لعلموا أنه لا ينفرد مذهب من مذاهبهم
برأي اجتهادي هو واجب على أحد من المسلمين؛ فإن جميع الآراء تسقط حيث
يوجد نص للشارع في المسألة، وتتساوى بالنسبة إلى العامي العاجز عن الترجيح
بينها، فهل يجوز أن يتعادوا ويتقاتلوا لأجلها؟ والتعادي والتقاتل في هذا محرم
بالإجماع؟ وكذا ما دون ذلك من السباب والهجر:
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ... وأنتم يا عباد الله إخوان
__________
(1) وعد بخمسة، وذكر أربعة فينظر أين الخامس.(34/236)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحمد زكي باشا شيخ العروبة
رحمه الله تعالى
في يوم الجمعة لثلاث خلون من هذا الشهر (ربيع الأول) لبى دعوة ربه
صديقنا (أحمد زكي باشا) الكاتب المؤرخ المصنف الخطيب الأديب الطائر
الصيت، في إثر (ضربة هواء) كما يقول العوام أحدثت التهابًا شديدًا في رئته
أعيا علاجه أصدقاءه من نطس الأطباء، لم تمهله إلا أسبوعًا أو بعض أسبوع،
اختطفته المنية من حجر أمه مصر وهو ابنها البار، ومن ميدان أمته العربية وهو
فارسها المغوار، وشيخ العروبة الذي فاق في شيخوخته وناصع شيبته جميع الشبان
قوة وفتوة، ونضارة وبهجة، وهمة وسعيًا وحركة، وأملاً في طول الحياة، فلو
كانت الأعمار بقوة البنية وشدة العضل ومرونة العصب ويسر المعيشة وقلة الهموم
وكثرة السرور، لكان أحمد زكي باشا جديرًا بأن يبقى بعد المعمر التركي زارو أغا
الذي توفي بعده في هذا الشهر عن 135 سنة، حتى يبلغ سنه أو يزيد عليها، وما
أراه زاد على نصفها إلا قليلاً، ولعله لم يفته من أسبابها إلا عيشة القصد والاعتدال،
فقد كان في بلهنية من الترف دان له بها الأهيفان، وسبحان مقدر الآجال.
نَعَتْهُ الصحف التي كان يشغل أكثر المشهور منها بمقالاته ومناظراته التاريخية
والجغرافية والأدبية، فراع نعيه الفجائي العلماء العصريين من الشرقيين والغربيين
واختلفوا أفرادًا وجماعات على منزله (دار العروبة) في جيزة الفسطاط للتعزية
عنه، كما كانوا يختلفون إليها آنًا بعد آن لحضور المآدب والاحتفالات التي يدعوهم
إليها لتكريم من يفد على القاهرة من العلماء والأدباء والزعماء الشرقيين والغربيين.
وشُيعت جنازته منها، يحف بها الجم الغفير منهم، وقد أممت المصلين عليها
في أحد مساجد الجيزة فكان هذا آخر العهد بمودتنا الطويلة التي لم تشبها شائبة جفوة،
ولا فترة اختلاف ولا فرقة، ثم حُمِلَتْ إلى القبر المعد لها تحت منارة مسجده الفني
الصغير الذي بناؤه كان شغله الشاغل في سنيه الأخيرة، وأَبَّنَهُ هنالك المؤبنون،
وانصرفوا بعد دفنه فيه مسترجعين مسترحمين.
ومما انفرد به أنه كان كلف الفقيد رحمه الله الشيخ عبد الله الشيبي بمكة المكرمة
أن يأتيه بكناسة غار حراء سرًّا ففعل، فجاء بها ووضعها في القبر الذي أعده لنفسه
ولزوجه في هذا المسجد، وهو بدعة تدل على إيمان كإيمان العجائز، وتعارض ما
كان من فلتات اللسان في دعابته تسيء ظن بعض سامعيها في عقيدته، ويروي
بعضهم عنه ما يدل على تأوله فيه، والدعابة في الحوار كالنكتة في الشعر، لا
تترك، لا تصدر عن إيمان، ولا عن كفر.
رأيت أحمد زكي بك أول مرة في مكتب إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية
رحمه الله، وكان ذلك في سنة 1316 ثم قوي التعارف بيننا، وكنا نجتمع في أكثر
ليالي رمضان مع طائفة من الأدباء والمحبين للمباحث الدينية، والتوفيق بينها وبين
المعقولات والمعارف العصرية، منهم أحمد زكي بك مدير الأموال المقررة،
وعبد الله بك فائق (باشا بعد) ، ومحمود بك أنيس رحمهم الله وآخرون لم يبق أحد
منهم حيًّا إلا حمزة بك فهمي، وكان من رجال القصر الخديوي، وكانت تلك
المباحث جل ما يدور في سمرنا، وأكثر ما تبدأ به مشكلات تلقى على صاحب
المنار يُطلب منه حلها.
من أجل هذا استفتاني فقيدنا اليوم في عشرة أسئلة ألقاها عليه بعض علماء
الحقوق والشرائع في باريس في صيف 1904 ليترجمها لهم بلغتهم الفرنسية
(ليعلموا أن في السويداء رجالاً , وأن الشرق لا يزال عامرًا بأصحاب العقول
الكبار) ، وموضوع هذه المسائل الاجتهاد، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند
أهل التحقيق، ومعنى القانون بوجه التدقيق العلمي، والفرق بينه وبين الشرع
وسلطة الحاكم وحدودها ... إلخ.
وقد نشرت كتابه ومسائله مع أجوبتها في المجلد السابع من المنار في جمادى
الأولى سنة 1322 ويوليو سنة 1904، واستمرت المودة بيننا؛ ولكنه لم ينشر
شيئًا من مباحثه في المنار، وكان يعلل ذلك أو يعتذر عنه باستغناء المنار عنها.
كان المرحوم أحمد زكي منذ نشأته الأولى من عشاق العلم، وهذا العشق هو
الذي كان يحمله على إنفاق كل ما زاد عن حاجته من المال في اقتناء الكتب النفيسة
ولا سيما الخطية النادرة، وقد جمع خزانة منها ذات قيمة كبيرة وقفها على طلاب
العلوم وأمرها مشهور.
وعني في السنين الأخيرة من عمره بالسياسة العربية، ولقب نفسه بشيخ
العروبة فاشتهر به، بعد أن كنت أسميه في السنين الأولى: حلقة الاتصال بين
الشرق والغرب، وهو فلسطيني الأصل، وأول من جاء مصر جده الأدنى كما
صرح بذلك لبعض الأدباء السوريين، ويقل من يعلم هذا، فنسأل الله تعالى أن
يتغمدنا وإياه برحمته، ويعفو عنا وعنه.
__________(34/239)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحسين الأغاني والأناشيد العربية
لترقية الشعور القومي والخلقي
دعت جمعية الشبان المسلمين من اختارت من (الشعراء والمطربين
والملحنين) في مصر، وطائفة أخرى من أهل العلم والأدب إلى حفلة شاي نصبت
موائدها لهم في مساء الجمعة 12 صفر (25 مايو) فلبى أكثرهم الدعوة، وبعد
شرب الشاي، وتناول ما يتصل فيه من الحلوى والفاكهة وقف صاحب السعادة
عثمان باشا مرتضى فرحب بالحاضرين، وشرح لهم ما تقترحه عليهم الجمعية من
تعاون الشعراء والمطربين (المغنين) والملحنين على خدمة الوطن المصري
والأدب العربي بما سمته (تحسين الأغاني والأناشيد) ... إلخ (ووضع الخطة
العملية لتنفيذ هذه الفكرة في أقرب وقت) كما رأوا في رقاع الدعوة، فشكروا
للجمعية هذا المشروع، وتلقوه بالقبول، وتبارى خطباؤهم في بيان فوائده في ترقي
الأقوام، وضربوا لذلك الأمثال، فذكروا الإفرنج والعرب في جاهليتها وإسلامها
وحضارتها الزاهرة، وخطتها في هذه القرون الأخيرة التي هبطت فيها الآداب
والأخلاق إلى الدرك الأسفل، وانحصرت فيها الأغاني القومية المصرية في
الخلاعة والمجون، ولا سيما أغاني النساء فكانت من مفسدات الأخلاق والآداب.
وأبى أحد الخطباء إلا أن يعرض في شواهده لكتاب الله تعالى وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، فذكر في فضل الأناشيد وشرعيتها احتفال الأنصار بقدوم
النبي صلى الله عليه وسلم عليهم يوم الهجرة بقولهم:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع ... إلخ
وقوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي حماه الله من الشعر حين جرحت إصبعه
أو دميت من حجر في إحدى الغزوات:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
فهذا البيت من الرجز أبلغ ما يقال في موضوعه وأعمقه تأثيرًا، وهو يصلح
أن يبنى عليه نشيد في التحريض على الجهاد، واستصغار الآلام في سبيل عظائم
الأعمال.
قال كلامًا في هذا المعني، ثم صعد مرتقيًا إلى ما هو فوق هذا، فذكر أن
القرآن نظم ذو فواصل كقوافي الشعر، قابل للتلحين والتغني لم يكن له ذلك التأثير
العظيم في قلوب العرب والانقلاب العظيم فيهم إلا بتلاوته بالتلحين الخاص به.
نقلت هذا الكلام بفحواه لا بلفظه، فأما البيت فقد نقل ابن هشام أنه للوليد بن
المغيرة، وصحح الحافظ ابن الجوزي أنه لعبد الله بن رواحة، وقد تمثل به صلى
الله عليه وسلم قولاً لا إنشادًا فسكن تاء قافيته، وأما القرآن فقد كان كلام الخطيب
أدنى إلى تشبيهه بالشعر مما صورته به آنفًا، والواجب في التفرقة بينهما أن يكون
أبعد شأوًا، وأسمى مرتقى مما قلت، وقد بينت معنى قابلية القرآن للترتيل الغنائي
في كتاب الوحي المحمدي بما لو رآه الخطيب الأديب لبين هذا المعنى مُنَزِّهًا للقرآن،
بما هو أدق مما نقلته عنه هنا، وكان خطر في بالي في الجلسة أن أتعقبه فأمسكت
لئلا أنطلق في الكلام بما يفسره هو بلازمه غير البيِّن، فيظن أنني أريد لمزه،
والنيل منه.
هذا وإنني أسررت إلى الأستاذ يحيى الدرديري أن يقترح على الشعراء أن
يبدؤوا بوضع أغاني وأناشيد لحفلات الأعراس وغيرها يضمنونها تعظيم أمر العفة،
وعزة النفس، والشرف، وكرامة الأمة، ويلقونها إلى الملحنين فيلقنونها إلى
المغنين، فينسخون بها تلك الأغاني (والطقاطيق) المجونية، فقال: الأولى أن
تقترح أنت هذا. فاعتذرت، فألقاها إلى رئيس الجلسة وانصرفت، وقد سبق لي مثل
هذا الاقتراح على عبده أفندي الحمولي أشهر مطربي عصره في مصر منذ 35 سنة.
__________(34/159)
ربيع الآخر - 1353هـ
أغسطس - 1934م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اتهام ابن تيمية
بأنه قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي ... إلخ
(س14) من صاحب الإمضاء في قنا مع كتاب خاص لوكيل المنار هذا
نصه:
سيدي المحترم
سلام عليك وتحية طيبة بمقدار ما للمنار من الفضل على المسلمين قاطبة
وبعد، فأرجو أن تطالع ما أرفقته بهذا - وتوافقني على تقديمه ورفعه إلى
حضرة المصلح العظيم العالم العامل صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا حفظه الله -
حتى ينظر فيه، ويرى ما يراه، وهو الموفق للصواب دائمًا.
وإذا حَسُن لدى فضيلته أن يذكر كلامًا فاصلاً في هذا الموضوع - في المنار
الأغر - كانت الفائدة عامة للناس أجمعين، ومن بينهم من وزع عليهم المهذب في
المدارس.
وأسأل الله أن يطيل عمر السيد؛ ليزداد المسلمون من الارتشاف من بحر
علمه إيمانًا ومعرفة، والسلام عليك ورحمة الله من المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر حلمي
في صحيفة 76 من مهذب رحلة ابن بطوطة - الجزء الأول - الذي طبعته
وزارة المعارف المصرية، ووزعته على تلاميذ المدارس الثانوية ما نصه:
وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في
الفنون إلا أن في عقله شيئًا ... إلخ.
وفي الصحيفة 77 فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع
ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا
ونزل درجة من درج المنبر، فعارض فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ... إلخ.
فهل صح في تاريخ ابن تيمية أن يقول هذا؟ وهل هناك شك في أن قائل هذا
ينسب لله الجسمية، وأنه بذلك انسلخ من الإيمان والإسلام؟
(جواب المنار)
(14) اتهام ابن تيمية بتشبيه نزول الله بنزوله في المنبر:
هذه التهمة باطلة قطعًا كما يعلم من كتب شيخ الإسلام وفتاويه الكثيرة في
مسألة الصفات وحديث النزول؛ ولكن يظهر أن لها شبهة أثارتها، فقد رأيت في
بعض الكتب (كتاب الرد الوافر) أو غيره أنه كان يتكلم في حديث النزول وهو
يخطب على المنبر ويقرر مذهب السلف في إثبات كل ما وصف الله نفسه أو وصفه
به رسوله صلى الله عليه وسلم (بغير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل) فقال ما معناه:
إننا نؤمن بنزوله بالمعنى الذي أراده اللائق به بلا تشبيه (لا كنزولي هذا) فزعم
بعض الناس أنه قال: (كنزولي هذا) ؛ لأنه لم يسمع كلمة (لا) وربما كان منهم
ابن بطوطة، ثم أذاع هذا خصومه المخالفون للسلف، ولو صح زعمهم لقامت عليه
قيامة أهل المسجد وأنزلوه عن المنبر مهينًا مذمومًا بكل لسان، إلا أن يقال: إنهم كانوا
موافقين له على رأيه إلا واحدًا منهم هو ابن الزهراء الذي ذكره ابن بطوطة، وكم في
رحلة ابن بطوطة من الأكاذيب والخرافات، ويحتمل أن يكون قال الكلمة في تفسير
المعنى اللغوي، وسننقل عنه تحقيقه لعدم اقتضائه التشبيه.
ولابن تيمية كتاب مستقل في حديث النزول، هو جواب سؤال رُفِعَ إليه
فأطال في الجواب عنه؛ لأن المسألة فرع من عقيدة إثبات الصفات التي أجمع
عليها سلف الأمة بالقاعدة التي ذكرناها آنفًا، وأما نفيها فقد ابتدعته الجهمية
والمعتزلة وغيرهم من المبتدعة، واختلف نظار المتكلمين في تأويل بعضها دون
بعض، وهذا الكتاب مطبوع في الهند وإنني أنقل منه بعض عباراته بحروفها مبتدئًا
بنص السؤال وهو:
نص الاستفتاء في حديث النزول
(ما يقول سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، أيده الله ورضي عنه،
في رجلين تنازعا في حديث النزول: أحدهما مثبت والآخر نافٍ، فقال المثبت:
ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. فقال النافي: كيف؟
فقال المثبت: ينزل بلا كيف. فقال النافي: يخلو منه العرش أم لا يخلو؟ فقال
المثبت: هذا قول مبتدع، ورأي مخترع. فقال النافي: ليس هذا جوابي، بل هو
حيدة عن الجواب. فقال له المثبت: هذا جوابك، فقال النافي: إنما ينزل أمره
ورحمته - فقال المثبت: أمره ورحمته ينزلان كل ساعة، والنزول قد وقَّت له رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقال النافي: الليل لا يستوي وقته في البلاد
فقد يكون الليل في بعض البلاد خمس عشرة ساعة ونهارها تسع ساعات، ويكون
في بعض البلاد ست عشرة ساعة والنهار ثماني ساعات وبالعكس، فوقع الاختلاف
في طول الليل وقصره بحسب الأقاليم والبلاد، وقد يستوي الليل والنهار في بعض
البلاد، وقد يطول الليل في بعض البلاد حتى يستوعب أكثر الأربع وعشرين ساعة
ويبقى النهار عندهم وقتًا يسيرًا، فيلزم على هذا أن يكون ثلث الليل دائمًا ويكون
الرب دائمًا نازلاً إلى السماء، والمسؤول إزالة الشبه والإشكال، وبيان الهدى من
الضلال؟
جواب شيخ الإسلام أو جزء منه
(فأجاب رضي الله عنه فقال: الحمد لله رب العالمين، أما القائل الأول الذي
ذكر نص النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصاب فيما قال، فإن هذا القول الذي قال
قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها
وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول، ومن قال ما قاله
الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله حق وصدق، وإن كان لا يعرف حقيقة ما
اشتمل عليه من المعاني، كمن قرأ القرآن ولم يفهم ما فيه من المعاني، فإن أصدق
الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله
عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية، وبَلَّغَه الأمة تبليغًا عامًّا لم يخص به أحدًا
دون أحد، ولا كتمه عن أحد، وكان الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه
وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في
المجالس الخاصة والعامة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند الإمام
أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وأمثال ذلك من كتب المسلمين.
لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثله بصفات
المخلوقين، ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك، وإن
أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ في ذلك،
فإن وصفه سبحانه وتعالى في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات
كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السموات والأرض في
ستة أيام ثم استوى على العرش، ووصفه بالإتيان والمجيء هي مثل قوله: {هَلْ
يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210) ، وقوله:
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: 158) ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وكذلك قوله
تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الفرقان: 59) ، وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47) ، وقوله:
{اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم
مِّن شَيْءٍ} (الروم: 40) ، وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (السجدة: 5) وأمثال ذلك من الأفعال التي وصف الله تعالى بها نفسه
التي تسميها النحاة أفعالاً متعدية، وهي غالب ما ذكر في القرآن، أو يسمونها لازمة
لكونها لا تنصب المفعول به، بل لا تتعدى إليه إلا بحرف الجر كالاستواء إلى
السماء وعلى العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك فإن الله وصف نفسه
بهذه الأفعال.
ووصف نفسه بالأقوال اللازمة والمتعدية في مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ} (البقرة: 30) ، وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء:
164) ، وقوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (الأعراف: 22) ، وقوله تعالى:
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص: 65) ، وقوله تعالى:
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} (النساء: 87) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) ،
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف:
137) وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: 115) ، وقوله:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (آل عمران: 152) .
وكذلك وصفه نفسه بالعلم والقوة والرحمة ونحو ذلك كما في قوله: {وَلاَ
يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} (الذاريات: 58) ، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: 7) ، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف:
156) ونحو ذلك مما وصف به نفسه في كتابه وما صح عن رسوله صلى الله
عليه وسلم.
فإن القول في جميع ذلك من جنس واحد، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم
يصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النفي
والإثبات، والله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه مماثلة المخلوقين فقال الله تعالى:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1-4) فبين أنه لم يكن أحد كفوًا له، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِياًّ} (مريم: 65) فأنكر أن يكون له سمي، وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَندَاداً} (البقرة: 22) ، وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} (النحل:
74) ، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) ففيما أخبر به عن
نفسه من تنزيهه عن الكُفْوِ والسَمِيِّ والمثل والنِّدِّ وضرب الأمثال له - بيان أن لا
مثل له في صفاته ولا أفعاله؛ فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في
الذات؛ فإن الذاتين المختلفتين تمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ إذ تماثل الصفات
والأفعال يستلزم تماثل الذوات؛ فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل أيضًا تابع
لفاعله، بل هو مما يوصف به الفاعل، فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان
متماثلين، حتى إنه يكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين
الموصوفين كالإنسانين لمَّا كانا من نوع واحد؛ فتختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب
اختلاف ذاتيهما ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك)
(فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته
ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لكن يُفْهَم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى
موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم الله وكلامه ونزوله واستواؤه هو
كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما يناسب ذاته وتليق بها،
ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته، ولهذا قال بعضهم: إذا قال لك
السائل: كيف ينزل؟ أو كيف استوى؟ أو كيف يعلم؟ أو كيف يتكلم؟ ويقدر
ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته. فقل له: وأنا
لا أعلم كيفية صفاته؛ فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف. فهذا إذا
استعملت هذه الأسماء والصفات على وجه التخصيص والتعيين، وهذا هو الوارد في
الكتاب والسنة) .
وقال في موضع آخر:
(ثم إن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم
والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما
يشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست
مثل هذه حتى قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير
قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} (البقرة: 25) على أحد الأقوال، فبين هذه
الموجودات في الدنيا، وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من
بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببناه ورغبنا فيه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا
يُقَدَّر قَدْرَها في الدنيا، وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه الله تعالى،
لهذا كان قول من قال: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله حقًّا، وقول من قال: إن
الراسخين في العلم يعلمون تأويله حقًّا، وكلا القولين مأثور عن السلف من الصحابة
والتابعين لهم بإحسان.
(فالذين قالوا: إنهم يعلمون تأويله؛ مرادهم بذلك أنهم يعلمون تفسيره ومعناه،
وإلا فهل يحل لمسلم أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف معنى ما
يقوله ويبلغه من الآيات والأحاديث، بل كان يتكلم بألفاظ لا يعرف معانيها؟ ومن
قال: إنهم لا يعرفون تأويله. أرادوا به الكيفية الثابتة التي اختص الله بعلمها، ولهذا
كان السلف كربيعة ومالك بن أنس وغيرهما يقولون: الاستواء معلوم، والكيف
مجهول. وهذا قول سائر السلف كابن الماجشون والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم،
وفي غير ذلك من الصفات، فمعنى الاستواء معلوم وهو التأويل والتفسير الذي
يعلمه الراسخون، والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم الذي لا يعلمه إلا
الله، وكذلك ما وعد به في الجنة، تعلم العباد تفسير ما أخبر الله به، وأما كيفيته
فقال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يقول الله
تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر
على قلب بشر) فما أخبرنا الله به من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه ونفهم
الكلام الذي خوطبنا به، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة،
ونفرق بين مسميات هذه الأسماء، وأما حقائقها على ما هي عليه، فلا يمكن أن
نعلمه نحن ولا يُعْلَم حتى تكون الساعة، فتفصيل ما أعد الله عز وجل لعباده لا
يعلمه مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل، بل هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك
وتعالى) .
فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر في الخالق والمخلوق أعظم؛ فإن
مباينة الله لخلقه وعظمته وكبرياءه وفضله أعظم وأكثر مما بين مخلوق ومخلوق،
فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق بينهما من التفاضل
والتباين ما لا نعلمه في الدنيا ولا يمكن أن نعلمه، بل هو من التأويل الذي لا يعلمه
إلا الله تبارك وتعالى، فصفات الخالق عز وجل أولى أن يكون بينها وبين صفات
المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن يكون هذا من
التأويل الذي لا يعلمه أحد ... إلخ
ثم تكلم في موضع آخر عن الوجود القديم الواجب، والوجود الحادث الممكن
وصفاتهما، والغلط في القول بالتلازم في النفي والإثبات وضرب له المثل فقال:
(ومثال ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء، ونحو ذلك من صفات الأجسام
فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم
فلزم تنزيهه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب.
وكذلك إذا قال: الرضا والغضب، والفرح والمحبة، ونحو ذلك هو من صفات
الأجسام. فإنه يقال له: وكذلك الإرادة والسمع والبصر والعلم والقدرة من صفات
الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل وما يستوي ويغضب ويرضى إلا جسمًا، لم
نعقل ما يسمع ويبصر ويريد ويعلم ويقدر إلا جسمًا، فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا،
وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليس كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته، قيل له: وكذلك
رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله
واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا) . اهـ.
وجملة القول أن شيخ الإسلام قد بسط في هذا الكتاب وغيره من الدلائل
على تنزيه الله عن مشابهة خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله ما لم يسبقه أحد إلى مثله
مع إثبات ما أثبته لنفسه منها، والمنع من تحكمنا بآرائنا فيها، فإنه مما حرمه علينا
بقوله: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) .
__________(34/241)
الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
__________
تفسير المنار لعلامة الدهر ومصلح العصر
بقلم الأستاذ الكاتب المستقل، والباحث المستدل
الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
يرحم الله مفسري القرآن السابقين من أئمة المسلمين، فقد بذلوا ما استطاعوه
من قوة لتبيان معاني كلام الله للناس، ووقفوا أنفسهم وحبسوها على إظهار ما فيه
من لغة وبيان، وفصاحة وبلاغة، وأدب واجتماع، وتاريخ وحكمة وسياسة
فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ووفاهم الله أجرهم موفورًا، وجعل عملهم الخالص
مشهورًا مذكورًا.
ولكن القرآن هو كتاب الزمان كله، ودستور الحياة إلى يوم القيامة، تنجلى
معانيه بتقدم العلم وبلوغه أشده، وتظهر أسراره بالاختراعات والاستكشافات،
وسلامة الفطر والعقول من الترهات والخرافات، وتشرق حقائقه بزوال العوائق
المغشية الأبصار والبصائر، والتفاسير السابقة فيها أخبار من التاريخ؛ ولكنها غير
ممحصة؛ لانعدام وسائل التحقيق والتمحيص، وفيها طرف من العلوم المختلفة؛
ولكنها محشوة بالغلط والشطط؛ لتعسر طرائق التصحيح والتدقيق، وفيها ذكر للتوراة
والإنجيل؛ ولكنه مبني على فهم غير واقع [1] وعلى ظَنٍّ تبين الآن أنه غير نافع،
وفيها فقه ولكنه مذهبي، وتوحيد ولكنه كلامي، واستطراد فلسفي، واستقراء غير
جلي.
وبهذا صار القرآن في حاجة إلى أن يُفَسَّر من جديد، وصارت التفاسير الأولى
معرضة للنقد السديد، فألف الآلوسي تفسيره؛ ولكنه جعله جامعًا لأقوال من سبق
مع تعليقات يسيرة، وتحقيقات غير وفيرة، وألقى الأستاذ طنطاوي جوهري دلوه
في الدِلاء، ولكنه صير تفسيره نباتيًّا طبيعيًا وجاء فيه برسوم [*] على الكونيات
وأحوال النجوم والنيرات والصخور والجلاميد والمعادن المدفونات، وجلاه برسوم
وصور لا تتسق مع جلال الذكر الحكيم ومكانة القرآن الكريم، ومع ذلك فهو مستحق
للشكران، قمين بأن ينشر ذكره في كل مكان؛ إذ حاول جهده أن يبرهن على عناية
القرآن بالعلوم الطبيعية والكيميائية والزراعية والصناعية وما إليها، ووُفق في كثير
مما أراد جزاه الله خيرًا.
وقد انتظرنا أن يوفق الله رجلاً إلى تفسير القرآن الكريم بشرط المحافظة على
جلاله وكماله والسمو به عما لا يليق بمكانته العليا، وإحاطته بسياج من الحرص
والأمانة يمنع الخطأ والإسرائيليات والأخبار الداحضة أن تتسرب إليه، ويحميه من
التعصب المذهبي، والتكلف الكلامي، وتحميل الآيات الكريمة ما لا يوافقها من
المعاني الرأيية، والتوضيحات النفسية.
وقد أراد الله أن يظهر هذا التفسير على يد السيد الكريم، والمجاهد العظيم،
والمصلح الشهير، والمسلم الكبير، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الأغر، وخليفة الأستاذ الإمام الأبر، وقد صدر من هذا التفسير أحد عشر جزءًا
ضخامًا، تقر بها عين كل مسلم، وينشرح لها صدر كل مؤمن، جاءت عند ما أملنا،
وفوق ما قصدنا، وأبانت عن أن الإسلام هو الدين الخالد، والواجب أن يعنو له
البشر طائعين، فرحين مستبشرين؛ إذ هو الذي يحل مشاكل العصر، ويُزيل ما
تعانيه الإنسانية المعذبة من الضيق والعسر، ويعالج الأدواء التي تشكو منها الأمم،
ويعيد للمسلمين ما فقدوه من العزة والسلطان وعلو الهمم.
وقد قرأنا هذه الأجزاء الأحد عشر كالكواكب، فشكرنا الله كثيرًا وانزاحت عن
نفوسنا غمم كنا نشعر بثقلها، وقلنا: قد آن للمسلمين أن يُسَرُّوا ويفرحوا، فقد أنعم
الله عليهم بتفسير طالما كانوا يتمنونه، وكثيرًا ما رأوه حلمًا بعيد المنال؛ ولكنه
الآن تحقق على أحسن مثال.
جمع هذا التفسير القيم محاسن التفاسير السالفة، ونجا من مزالقها، وخلص
من مشاكيها، وضم بين دفتيه أحسن التحقيقات، وأتم البيانات، وأوضح لمن له
عينان أن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي لا غنى للأمم عنه، ولا حياة لها بدونه،
ولا مفر لها من اتباعه، والاستفادة من هدايته، مذعنة مؤمنة، أو مسوقة بحاجتها
التي تلح عليها، فلا تجد لها ملجأ إلا إياه، ولا معاذًا سواه.
يقرأ المسلم هذا التفسير فيشرق في نفسه نور المعرفة، وتضيء روحه
بشمس التثبت واليقين، ويعود شخصًا مليئًا بالأمل الواسع، مغمورًا بالفرح الجامع،
شاكرًا لربه أن جعله مسلمًا مؤمنًا من خير أمة أخرجت للناس، ويقرؤه غيره من
ذوي البصيرة والمعرفة؛ فيثلج صدره، وترتاح نفسه، ويحس بالرغبة في
الاستزادة منه، معجبًا بالقرآن، وما فيه من علو وعظمة وجلال، ومبادئ تسعد بها
جميع الأجيال.
وقد سلط هذا التفسير على جميع الشبهات نورًا كشَّافًا قويًّا ساطعًا؛ فأزالها
وأحالها هباءً منثورًا، وحل بمهارة ولباقة وقوة وغيرة وشجاعة وصراحة جميع
المعضلات الدينية والاجتماعية والسياسية، وكان الحل مُشْبِعًا مُرْوِيًا، مزيلاً كل
شك وريبة ووهم وظن، ولا يدع لأحد مسلكًا يسلك منه طريق هذه المعضلات مرة
أخرى، وهذه ميزة جلية لا ترفع رأسها موفورًا إلا في هذا التفسير الجليل.
وإلى القراء ثبتًا موجزًا يدعم ما قلناه.
(1) بيَّن إعجاز القرآن بيانًا شافيًا، وأظهر أسراره القدسية، وأزال
الخلافات المذهبية، وجلى الحكمة في الحروف التي تبدأ بها السور الكريمة،
وصعد بالقارئ إلى سماء العرفان الصحيح، والفهم الرائق، ووضع فهرسًا واسعًا
لوجوه إعجازه، فإذا هي لا تكاد تُحْصَر إذا وعينا مفرداتها وتفاصيلها، وألمس كل
فرد هذه الوجوه بما يجعله واثقًا منها، مؤمنًا بها إيمانًا موطدًا، لا تعلق به شية [2]
من الضعف أو الوهن أو الريبة، , وأثبت أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، ولو تظاهر عليه جميع الملاحدة والمعطلين والمشركين والكافرين؛
لأنه بطبيعته الذاتية يغلب كل متظاهر، ويهزم كل مكابر، وأورد لذلك شهادات
كثيرة للفلاسفة والعلماء والباحثين والمفكرين.
(2) ساق الدلائل العظيمة على خلود هذا القرآن وبقائه إلى يوم القيامة
واستقراره وثباته كلما تقدمت العلوم، وارتقت الفنون، وسارت الأمم في سبيل
المدنية الفاضلة، والحضارة الصحيحة، وأرى كل ذي بصيرة نافذة كيف أن الأمم
الغربية لا ينقذها من ويلاتها ومشاكلها المعقدة إلا كلام الله المحفوظ من التحريف
والتبديل والتغيير والنسيان، الذي يوافق الزمان والمكان، ويجد فيه طالب الحق ما
يشبع نهمته، ويزجي طلبته، وذكر نماذج شتى من القرآن لمسائل لم يعرفها العالم
إلا في السنوات العشر الأخيرة، وقال: إن ثمت مسائل كثيرة في القرآن يكشفها
الزمان تدريجًا للدلالة على أنه كتاب الله حقًّا.
(3) شرح مبدأ الخلق والتكوين، وذكر أحوال الأمم وطبقاتها ودرجاتها
وعملها في هذه الحياة الدنيا، وساق أخبارها من أوثق مصادرها، وقفى على ذلك
في مواضعه بالبعث والنشور والحساب والعقاب والثواب وأحوال يوم الدين، وكان
في هذه الأمور محققًا دقيقًا يصل بالقارئ إلى أسمى غاية يطمع في الوصول إليها
أرقى عقل وأعظم فكر، بحيث يخرج منها فاهمًا جيدًا سر الخلق وحكمته، وتدرج
الأمم في مدارج الرقي حتى استكملت استعداها العقلي وقت نزول القرآن، وبعثة
سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، وعارفًا المعرفة كلها معنى البعث، وكيف
يكون بالجسد والروح معًا، وما الثواب وما العقاب، وما الجنة وما النار؟ ولماذا لا
تكون النجاة إلا بالإسلام الحنيف، الذي جاء به الرسول الشريف؟
(4) تكلم عن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
وذكر قصصهم وتعقب ما في كتب العهد العتيق المسماة بالتوراة من خروج عن
الجادة في سرد هذه القصص، وصحح الخطأ المنتشر فيها، وفي كتب التفاسير
التي نقلت عنها أو اعتمدت عليها من غير ما تمحيص ولا تدقيق، وصورهم عليهم
السلام بالصورة اللائقة بهم وبعملهم لهداية الأمم والشعوب، ونفى عنهم ما نسب
إليهم كذبًا وغلطًا وجهلاً، ونقاهم مما علق بسيرهم الشريفة الطاهرة بسبب العناد
والمكابرة والمغالطة والعماية، وبرهن على أن النبي أو الرسول يجب أن يكون
مثال الكمال الإنساني، والقدوة الصالحة في الأقوال والأفعال والأعمال والأسوة
الحسنة في الخير وعمل البر.
(5) دافع عن الإسلام وتعاليمه دفاعًا مجيدًا منصورًا، وأزجى الأسباب
التي تضمن خلوده وبقاءه، ودفع في صدور اليهود والنصارى والملاحدة بما جعلهم
ينكمشون ويتركون سلاحهم المفلول، ويعترفون بضعف حجتهم وبوار بضاعتهم
وكساد سوقهم، ويقولون بملء أفواههم: اعترفنا بعجزنا وقصورنا وانهزامنا.
وأعطى المسلمين الحجج الدامغة التي يستطيعون بها الدفاع عن ذمارهم، والذود عن
دينهم، والنصر على مناوئيهم، وحقق بما لا مزيد عليه أن الإسلام لا مطعن فيه
لطاعن، ولا مغمز لغامز؛ وأن بيته من طود أثبت، وبيوت غيره من زجاج
أضعف؛ وأنه لا يليق لصاحب البيت الزجاجي أن يقذف البيت الحجري بالحجارة،
وقد أثنى الكثيرون من غير المسلمين على مسلكه الراجح، وأدبه الواضح.
(6) شفى الغليل بمباحثه القيمة في الناسخ والمنسوخ، ورسم صورة رائعة
لهذه المشكلة الدقيقة التي اختلف فيها المفسرون، وتعددت أقوالهم، وتباينت آراؤهم،
وعرَّج على عقيدة النصارى في النسخ، فشرحها تشريحًا وافيًا جامعًا، وكشف
عن خطئهم الدامس فيها، ووضع أصابع الباحث على عوارها وزيغها، فأثلج بذلك
قلوب المؤمنين، وأدخل في صدورهم برد اليقين، ومن اطلع على مسألة النسخ
درى مدى التوفيق العجيب في هذا التفسير البديع الذي صار حجة هذا العصر،
وترجمان القرآن ولا فخر.
(7) فصل الوحي الإلهي بما يقنع كل منكر، ويسلم له كل معاند، ويعنو
لحججه جميع الورى، ولما وصل إلى الوحي المحمدي كان التفصيل أوسع،
والشرح أمتع، والدلائل أنصع؛ إذ أثبت ببراهين لا تُدْفَع أن الوحي المحمدي ثابت
بالقرآن ثبوتًا لا تعلق به شية من الريب عند أي إنسان، وجلى النبوة المحمدية
بأوضح بيان، وبين أنها أصل إثبات النبوات السابقة، فهي دليلها ومُصَدِّقتها
والمزكية لها.
(8) كشف فضل الإسلام على جميع الأنام، ونثر الدلائل الكثر من تاريخ
الأمم الشرقية والغربية، على ما استفادته من تعاليم الإسلام الخالد في الدين والأدب
والاجتماع والتشريع، وشهد به رجالها وفضلاؤها وعلماؤها وفلاسفتها ومفكروها،
وعبَّد السبل؛ ليفهم القارئ أن العالم كله سائر إلى الإسلام؛ إذ الإسلام هو الوسيلة
الكبرى لسعادة البشر، والطريقة المثلى لإزالة الخطر.
(9) قارن بين ما في القرآن من التشريع والحكمة والآداب والمبادئ العليا،
وبين ما تتمدح به الأمم الحاضرة من قوانينها وحكمتها ومبادئها وآدابها، وخرج من
هذه المقارنة بما يُفْرِح المؤمنين، ويرفع رؤوس الموحدين، ويجعل القدح المعلي
للإسلام، الذي جاء به خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
(10) قضى على العنت الذي كان يعانيه القارئ من قراءة التفاسير السابقة،
وجعل له مصباحًا كشافًا وضاءً ينير له السبيل، وصوًى ومنارًا كمنار الطريق،
فخدم بذلك المفسرين أنفسهم، وقدم للناس حديقة غناء فيها ما تشتهيه نفوسهم الزاكية،
وقلوبهم الواعية.
هذا نموذج يسير مما حواه هذا التفسير الشهير الكبير، فواجب على كل مسلم
يحسن القراءة والكتابة في أنحاء الأرض أن يقتنيه كنزًا ثمينًا، وذخرًا عظيمًا،
ودائرة معارف إسلامية نادرة المثال، وليس لأحد يقصر في الحصول عليه عذر،
والسلام على من اتبع الهدى.
... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان
(المنار)
نشكر لأخينا المقرظ إطراءه لشخصنا الضعيف المبني على حسن الظن،
ونعتذر للقراء عن نشره بحروفه أداءً للأمانة على ما فيه من انتقاد كتب التفسير
كلها بالإجمال، وتخصيص آخرها بالذكر وهو لصديقنا، وقد سبقنا من قبلنا إلى نشر
التقاريظ كما ترى في تفسير العلامة الآلوسي وتفسير الإمام السيد حسن صديق
وغيرهما من كتب المشارقة والمغاربة، على أن أكثر تقاريظ المعاصرين للكتب
شعرية يقرظون بها ما لا يقرؤون لا بيان لعقيدة الكاتب وتعبير عن شعوره كهذا
التقريظ وما قبله، وما كاتباهما بأول من فضل هذا التفسير على غيره، بل
سبقهما إلى ذلك غيرهما، ووافقهما عليه أناس بعدهما؛ ولكن الكتاب يختلفون
بدرجة الصراحة والإجمال والتفصيل.
__________
(1) المنار: من هذا الفهم المخالف للواقع قول بعضهم: إن تحريف أهل الكتاب لكتبهم معنوي خاص بالتأويل لا لفظي؛ لأنه لا يعقل أن تتفق أمة على تغيير ما في كتاب ربها، وسبب هذا الفهم عدم اطلاع هؤلاء على تاريخ القوم، واتفاقهم فيه على أن توراة موسى فُقدت باحتراق هيكل سليمان، وأن عزرا كتبها بعد ذلك بالإلهام إلخ ما فصلناه في محله.
(*) هنا بياض بالأصل بقدار كلمة أو كلمتين.
(2) كذا في الأصل ولعلها شبهة؛ فإن الشية بالكسر فعلة من الوشي، وقوله تعالى في البقرة: [لاَّ شِيَةَ فِيهَا] (البقرة: 71) معناه ليس فيها لون غير لونها الأصفر الفاقع.(34/284)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة
بسم الله الرحمن الرحيم
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ *
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 1-2)
نحمده عز وجل ونصلي ونسلم على رسوله محمد خاتم النبيين، الذي بعثه الله
وهو أمي في سن الكهولة مربيًّا ومعلمًا لقومه العرب الأميين، ما جعلهم به قارئين
كاتبين، صالحين مصلحين، فكانوا أئمة حكماء حاكمين وعلماء معلمين لأهل
الكتاب ورثة الأنبياء، ولغيرهم من ورثة الفلاسفة والحكماء، وجعلهم به ملوكًا
عادلين، وآتاهم بكتابه وتعليم رسوله وتزكيته ما لم يؤت أحدًا من العالمين، فما
زال هذا الكتاب الإلهي، وما بينه من سنة هذا النبي الأمي يتدارسهما البشر في
مشارق الأرض ومغاربها من شاطئ المحيط الغربي إلى أحشاء الصين، ثم انتقل
تدارسهما من الجنوب إلى الشمال، فعني بهما طائفة من الأوربيين، الذين عُرِفُوا
بلقب المستشرقين، وقد مهدوا السبيل لهما، بما وضعوه من المفاتح لألفاظهما،
والفهارس المنوعة لكتب التفسير والحديث وغيرها من الكتب العربية لتسهيل
مراجعتها، حتى صار علماء المسلمين من العرب والأعاجم مضطرين لأخذها عنهم،
واقتفاء أثرهم فيها.
وهذا كتاب (مفتاح كنوز السنة) الذي نعرضه اليوم للعالم الإسلامي بلغة
الإسلام، أحد نفائس هذه الكتب التي وضعها أحد هؤلاء الأعلام؛ وإنما وضعه لهم
بإحدى لغاتهم، وإن عالمنا الإسلامي، لهو أحوج إليها من العالم الأوربي، فعسى
أن ينتفع به جميع شعوبه وتنهض بهم الحمية الدينية إلى خدمة السنة بما هو خير
منه في الضبط والجمع، وتعميم النفع.
أما بعد، فإن خير ما أُعَرِّف به هذا الكتاب لقراء العربية، أن أبين لهم وجه
الحاجة إليه، وطريق الانتفاع به، وعدم استغناء أعلم علماء الحديث عنه، بل هم
أشد حاجة إليه من غيرهم، ويتلوهم من دونهم من العلماء، فمن دونهم من دهماء
القراء الذين يقتنون شيئًا من كتب الحديث المشهورة وغيرها مما يراه القراء في
طرته، وإنني أستمد هذا البيان من تجربتي واختباري في السنين الطوال، لا أقوله
بادي الرأي، ولا أصطاده من سوانح الاستحسان.
إنني وُفقت لطلب العلم من طريق الدليل، ثم وُفقت لنشره بالدليل، ووُفقت
للمناظرة وللإفتاء بالدليل، واشتغلت بعلم الحديث أول العهد بالطلب وارتقيت فيه
بالتدريج، وتمرنت على مراجعة كتبه وكتب الجرح والتعديل؛ لتخريج الأحاديث
ونقدها، وسرعة الوصول إليها من أقرب طرقها، واشتهرت عند من يعرفني من
أهل العلم والذكاء، كان الأستاذ اللوذعي الشيخ محمد توفيق البكري يظن أن عندي
فهارس لأوائل الأحاديث كلها، ومعجمًا لمفرداتها كهذا الكتاب يبين عند كل كلمة
مواضع كل حديث وردت فيه من كتبها، ثم علم أنه ما ثم إلا مفتاح الصحيحين
المطبوع المشهور، وهو خاص بأوائل أحاديث الصحيحين القولية والمسندة وبيان
مواضعها من المتن وشروح الحافظ العسقلاني والقسطلاني والعيني لصحيح
البخاري (في طبعاتها الأولى) وشرح النووي لصحيح مسلم المطبوع على هامش
شرح القسطلاني للبخاري.
ولو وجد بين يدي مثل هذا المفتاح لسائر كتب الحديث لوفر عليّ أكثر من
نصف عمري الذي أنفقته في المراجعة؛ ولكنه لم يكن ليغنيني عن هذا الكتاب
(مفتاح كنوز السنة) فإن ذاك إنما يهديك إلى مواضع الأحاديث القولية التي تعرف
أوائلها، وهذا يهديك إلى جميع السنن القولية والعملية وما في معناها كالشمائل
والتقريرات والمناقب والمغازي وغيرها، فلو كان بيدي هو أو مثله من أول عهدي
بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها؛ ولمكنني من
الاستجابة لمن اقترحوا عليّ أن أضع كتابًا جامعًا للمعتمد منها، وكتابًا آخر للمُشْكِل
منها في نظر علوم هذا العصر وفلسفته، والجواب المقنع عنه.
إن حاجتنا إلى هذا الكتاب وما في معناه في هذا العصر لا يدل على تقصير
علماء السنة السابقين، أو تفريطهم في شيء من خدمتها؛ فإنهم - أحسن الله إليهم
ونَضَّرَ وجوههم - قد قاموا بكل ما يجب ويندب ويستحب من رواية الحديث وحفظه
وتدوينه في المسانيد والجوامع والسنن الجامعة والخاصة بالعقائد والأحكام، وإفراد
الصحاح منها وإتمامها بالمستخرجات والمستدركات عليها، ووضعوا المعاجم
لمفرداتها ولأوائلها لتسهيل المراجعة، دع ما سبقوا إليه جميع الأمم من وضع
التواريخ لرواتها، ثم لغيرهم من العلماء، ومن ترتيب بعضها على حروف المعجم
وبعضها على الطبقات، ومن نصب ميزان الجرح والتعديل المستقيم لهم لتمحيص
المقبول والمردود من مروياتهم، ومن وضع كتب الأطراف المبينة لروايات كل
صحابي في كل موضوع، وترتيبها على الحروف، وغير ذلك من الكماليات التي
لا محل لذكرها هنا، فقد تركوا لنا ثروة واسعة في ضبط سنن نبينا صلى الله عليه
وسلم وهديه وشمائله وسيرته لم يوفق لمثلها، ولا لما يقرب منها أحد من أتباع
الأنبياء والمرسلين، ولا غيرهم من الحكماء والمشترعين، يسرت لمن بعدهم سبيل
التفقه فيها والاستنباط منها في كل زمان بما يحتاج إليه أهله، ويكون به المتأخر
مكملاً لما سبقه إليه من قبله، ويكون الارتقاء في العلم متسلسلاً مطردًا، سواء منه
علم الدراية والرواية الذي جعلوه علمًا مستقلاًّ مدونًا وعلوم العقائد والفقه والأدب
والتصوف وغيرها.
كان أئمة الفقه في أمهات الأمصار قبل جمع الأحاديث والآثار في الأسفار
يأخذ كل منهم بما وصل إليه من علم الصحابة والتابعين بالسنة ومذاهبهم في العمل.
فاشتهر في الكوفة مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأصحابه وقضايا علي
أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وشريح قاضي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
وفتاوى إبراهيم النخعي وأقرانه من التابعين، فكانت عمدة أبي حنيفة في اجتهاده
بالتخريج عليها قلما كان يخالفها، ولقلة المرفوع فيها كان يأخذ بالمرسل والمنقطع،
وكثر في فروعه القياس والرأي وعرف به، واشتهرت براعة صاحبه أبي يوسف
في القضاء لتولية هارون الرشيد إياه رياسته في مملكته، ثم اشتغل صاحبه محمد
بن الحسن بالحديث، وأخذ الموطأ عن الإمام مالك ودون الكتب التي هي عمدة
المذهب.
واشتهر في المدينة علم عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وزبد بن ثابت وابن
عباس وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأصحابهم من
كبار التابعين رواتهم وفقهائهم، فكانت عمدة مالك بن أنس في اجتهاده، وكان لثقته
بهؤلاء الأعلام يأخذ المراسيل عنهم، وبعمل أهل المدينة بشرطه على كثرة المرفوع
عنده.
ثم ظهر محمد بن إدريس الشافعي وقد تأسس هذان المذهبان على ما أشرنا
إليه فرحل في طلب الحديث من مكة إلى المدينة، وسمع الموطأ وغيره من مالك،
ثم إلى بغداد فلقي محمد بن الحسن وناظره ونظر في كتب أبي حنيفة ومذهبه،
ولقي أحمد بن حنبل وطبقته من المحدثين، وألف هنالك كتبه التي تسمى بالمذهب
القديم، ثم هاجر إلى مصر وسمع من رجالها وألف فيها مذهبه الجديد، وكان أكبر
الفرق بينه وبين من قبله أن بنى مذهبه على الجمع بين روايات الأمصار المختلفة،
ووضع أصول الفقه للجري عليها في الاستنباط، وخالف أبا حنيفة وأصحابه ومالكًا
في مسائل، من أهمها: ما اشترطه في الاحتجاج بالمرسل والمنقطع، وغير ذلك كما
بينه في كتاب الأم.
ووجه أحمد بن حنبل جل عنايته إلى الإحاطة بالروايات بقدر الاستطاعة،
وبالجرح والتعديل للرجال فكان أعلمهم بها، وأقلهم عناية بالفقه استغناءً بالحديث
والآثار، ومسنده أصل الأصول لأكثر كتب السنة، فهو أعظم المسانيد وأوسعها،
ثم وضع تلاميذه وغيرهم كتب الصحاح والسنن وغيرها كما بيناه آنفًا.
وقد جرى على مذاهب هؤلاء الأربعة أكثر فقهاء أهل السنة في الشرق
والغرب، وصارت كتب السنة المدونة وشروحها المصنفة مرجع علمائهم كلهم،
فملؤوا بها طباق الأرض علمًا من كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم.
فبتلك الكتب التي أتقن أفراد الأخصائيين لكل نوع منها في الرواية والدراية
صار طريق علوم السنة بأنواعها معبدًا ممهدًا، وهذه العلوم تتسع دائرتها في كل
عصر بقدر ما يتجدد للبشر فيه من الأقضية والمصالح السياسية، والحكمة العقلية
والأدبية، والأصول التشريعية، والنظريات العلمية التجريبية، والمخترعات الفنية
والصناعية، ومن فوق هذا كله إقامة الحجة على نبوة خاتم النبيين، ودفع الشبهات
عما يرد عليها وعلى أحاديثه من إشكال علمي أو عقلي؛ وإنما يكون ذلك بتمحيص
الروايات ونصب ميزان الترجيح بين المتعارض منها. والأجانب يعنون بنقد هذه
المتعارضات ما لا يعنون بتلك العلوم والحكم التي تعد من المعجزات، لتفجر
ينابيعها من فيض نبي أمي نشأ بين الأميين، وفي هذه الكتب ما لا يصح سنده وما
يُشْكِل متنه، بمخالفة الظني للقطعي من نص أو حس، وما فيه علل خفية كعنعنة
المدلسين في الصحاح، ومخالفة الثقات في غيرها، ولا بد للعالم المسلم من العلم
بذلك، ولا يتيسر ذلك كله إلا بجمع ما تفرق في كتبها في كل موضوع.
بيد أن الحياة الدينية العلمية التي بعثت الأولين على تصنيف تلك الأسفار
العظيمة، قد عرض لها أمراض روحية وسياسية كثيرة، انتهت بالمسلمين إلى
هجرها هجرًا غير جميل، حتى صار أكثر علمائهم وخطبائهم وأدبائهم يجهلون علم
الحديث، فلا يميزون بين ما صح منه وما لم يصح، بل ينقلون المنكرات
والموضوعات منه، ويحتجون بها حتى في أصول العقائد وأحكام العبادات والقضاء؛
لأنهم على جهلهم لها، وعدم تمييزهم بينها، ينقلونها من كتب الأدب والتصوف
والمواعظ والتواريخ والقصص، وكذا أكثر كتب التفسير والفقه فأمسينا في فقر
مدقع من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأخباره، وفي خزائن كتبنا من كنوزها
العظيمة ما لو استخرجناه وانتفعنا به لكنا أغنى الأغنياء، ولملأنا الدنيا بما فيها من
العلم والحكمة بما من الله به على أهل عصرنا من نعمة المطابع، وتعميم
المواصلات وسرعتها بين الأقطار الشواسع، حتى صار جمع تلك الثروة الواسعة
من كتب الحديث وشروحها سهلاً على كل من يريده، ولكن بعد أن قل من يريده
حتى إن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها، والصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وذكرها!
ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها
بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ
القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر
وإنني لما هاجرت إلى مصر سنة 1315 رأيت خطباء مساجدها الأزهر وغيره
يذكرون الأحاديث في خطبهم غير مخرجة، ومنها الضعيف والمنكر والموضوع،
ومثلهم في هذا الوعاظ والمدرسون، ومصنفو الكتب، فكنت أنكر ذلك عليهم كما
بدأت بإنكار مثله على أهل بلدي طرابلس قبلهم، واخترت لأشهر خطبائهم من
الأحاديث الصحاح والحسان المعزوة إلى مُخَرِّجِيهَا ما ختم بها خطب ديوانه.
ولما أنشأت المنار في أواخر تلك السنة التزمت فيه تخريج ما أنقله فيه من
الأحاديث، فكان لذلك بعض التأثير في بعض طلاب العلم في الأزهر، ثم في
مدرسة القضاء الشرعي، وكان جل الذين اشتغلوا بالحديث منهم من إخواني
وأصدقائي، فبإحيائي لهذه السنة بالقول والعمل، وبالدعوة إلى السنة وهدي السلف،
والنهي عن مستحدثات البدع، وُصفت بمحيي السنة، على ضعف حفظي للرواية،
وقلة حظي من الدراية، ولله الحمد على ما أعطى، ومنه وله وحده الفضل والمنة.
بيد أن جمهور المشتغلين بعلوم الشرع لا يزالون معرضين عن علم الحديث
حتى إن مشيخة الأزهر على علو مكانتها، قد أنشأت منذ أربع سنين مجلة دينية
علمية جعلتها لسان حالها، فكان أول ما أنكرته عليها عدم عنايتها بالحديث الشريف،
واقترحت عليها تخصيص بعض العلماء لتخريج كل حديث ينقل فيها وبيان
درجته، ولكن لا يزال ينشر فيها ما لا يصح ولا يعزى إلى شيء من كتب السنة
المعتمدة؛ لقلة اطلاع محرريها على هذه الكتب، وصعوبة التمييز بين الصحيح
وغيره مما في غير الصحيحين، وأصعب من ذلك عليهم المراجعة للعثور على
تخريج ما ينقلونه من الكتب المختلفة، وقد صاروا هم وأمثالهم من الكتاب والمصنفين
الذين يكتبون في المسائل الإسلامية مضطرين إلى هذا التمييز والتخريج، لكثرة
السؤال عنه، والإنكار على من نقله وتركه غفلاً، بكثرة إخواننا من أنصار السنة
ودعاتها والمهتدين بها، وتأليفهم الجمعيات ونشرهم المصنفات لتعميمها، واعتراض
الزراع والعمال منهم على العلماء الرسميين من غيرهم، وظهور حجتهم عليهم، ولا
سبيل إلى حفظ كرامتهم ومقامهم العلمي إلا بالاشتغال بعلم الحديث، وهو يتوقف
على درس طويل وتعب كثير.
وأول ما يحتاجون إليه قبل درسه الفني العلمي سهولة المراجعة في كتبه
للوقوف على ما يُحتج به وما لا يُحتج به، ويقرب شقته عليهم هذا الكتاب الذي
شعر بالحاجة إليه لنفسه ولأمثاله من شعوب الإفرنج عالم أوربي مستشرق هو
الدكتور أ. ي فنسنك الهولندي، والمسلمون أحوج إليه منهم، ولا غرو فقد ورد في
الحديث (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي من
حديث أبي هريرة، وقال: غريب. ورواه غيره بألفاظ أخرى بعضها موقوف على
علي وابن عمر رضي الله عنهما تكفي للاعتبار بها في موضوع الاستفادة في علم
مجمع على وجوبه، وورد في حديث آخر مرفوع (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما
هم من أهله) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما، ويؤيد ضعف سنده ما في معناه في الصحيحين بلفظ آخر ليس نصًّا فيه مثله،
وحاصل ما تقدم أن الحاجة إلى مفتاح لكتب السنة الجامعة شديدة لكل من يريد
الدخول عليها من أبوابها
موضوع هذا الكتاب دلالة القارئ على ما أُودع في كتب الصحاح والسنن
والمسانيد والسير والطبقات والمغازي - المبينة في أوله - من الأحاديث والآثار
والمناقب بالصفة التي شرحها، فهو لا يدلك على مواضع الأحاديث التي تحفظها أو
تحفظ أوائلها في تلك الكتب كمفتاح أحاديث الصحيحين؛ وإنما يدلك على ما ورد
فيها من كل موضوع بمراجعة أخص كلمة به تدل على أصل الموضوع، ثم ما
يليها من فروعه، فهو ككتاب (فتح الرحمن لطالب آيات القرآن) فإذا لم تجد
مطلوبك عند الكلمة التي راجعتها؛ فإنك تجده عند كلمة أخرى في معناها، فمؤلفه
قد أحصى ما وصل إليه علمه، ووضع ألفاظها بقدر ما بلغه فهمه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7) .
وإنني كنت أعجبت بالكتاب منذ اطلعت عليه، واستأذنت مؤلفه بنقله إلى
اللغة العربية، فأذن لي، وانتدب لهذا العمل الجليل أحد إخواننا من عشاق العلم
الذين يكثرون الاختلاف إلى دار المنار، والبحث في مسائل التفسير والآثار،
ويقتنون نفائس الأسفار، الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أدام الله توفيقه، ومهد له في
كل علم نافع وعمل صالح طريقه، وكنا اتفقنا على التعاون على تصحيحه وتنقيحه،
فعاقني عن القيام بسهمي منه ما لم يعقه عن سرعة القيام بسهمه، وانفرد بهذا
الفضل واستقل به، وجاهد في هذه السبيل - وهي سبيل الله - جهادًا محمودًا تلافى
به بعض تقصير المؤلف، فصحح ما فطن له في الأصل من خطأ بمراجعة تلك
الكتب كلها في مظانها، بعد وضع الأرقام لما بين يديه من نسخها، وإبقاء المتكرر
من المتون في مواضعها، وتكثير العناوين للحديث الواحد منها، حتى صارت هذه
الترجمة العربية أنفع من أصلها الإنكليزي في الدلالة على تلك المتون في كتبها،
فجزاه لله على حسن عمله وإخلاص نيته، ووفق الأمة للشكر له بالانتفاع بأثره،
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) رواه
أحمد والترمذي والضياء في المختارة من حديث أبي سعيد الخدري بسند صحيح،
ولا ننسى أن نشكر لمؤلف الأصل عمله وجهاده، فهو صاحب الفضل الأول في هذا
الأثر الحميد {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4)
... ... ... ... ... ... ... ... وكتبه محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار بمصر
__________(34/290)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جوامع كلم في شؤون الدول والأمم
شعور المسلمين بهدمهم لقوة الإسلام
وإعداد زعمائهم للاعتصام
كان لكل فريق من واضعي أسس التفرق بين المسلمين بعصبيات المذاهب،
فالجنس (الشعوبية) فاللغات، فالأوطان، فالطرائق منافع خاصة بكل منهم، ثم غلب
الإسلام، فانحصرت هذه المنافع بزعمائهم في جامعة الإسلام، المانعة من التفرق
والانقسام، إلا غلاة الشيعة فقد مرقت الباطنية منها، ثم استغل الإفرنج المستعمرون
هذه الفرق كلها، واستخدموها في إذلال كل منها، بهدم الجامعة الإسلامية من
أساسها، وقد شعر أكثر هؤلاء الزعماء في المشرق وأقلهم في المغرب بذلك، فيجب
إشعار الباقين به وإعداد الجميع للدعوة التي ستنشر في العام الآتي مبينة لهم كيف
ينتفعون بقوتهم الجامعة، مع حفظ منافعهم الخاصة، من جميع النواحي الدينية
والدنيوية.
__________(34/297)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد والشكر، ثم لمحمد رسولك خاتم النبيين الذي بلغنا عنك،
فَصَلّ اللهم عليه وعلى آله وصحابته المبلغين عنه ما آتيته من كتابك وحكمتك،
وعلى أتباعهم الحافظين عنهم ما بَلَّغُوا من بيانه وسننه، وجميع الناشرين للعلم
والعاملين به، وسلم تسليمًا.
أما بعد، فهذه أثارة من علم حافظ الملة، وإمام الأئمة، أبي عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل، كانت من مخبآت الخزائن، فاستخرجها منها بعض الأعوان على
الخير؛ لنشرها على الأمة بنعمة الطبع.
كان أكبر هَمِّ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وجل عنايته مصروفًا إلى
رواية الحديث ونقد رجاله تلقينًا وتصنيفًا، وإلى حفظ السنة النبوية المتبعة المأثورة
بالعلم والعمل، على الهدي الذي كان عليه الصحابة والتابعون وصلحاء السلف،
وما كان يريد أن يكون ذا مذهب في الفقه يُدَّون ويُتَّبع رأيه فيه؛ لأنه ما كان يبيح
لأحد أن يقلده ولا أن يقلد غيره في فهمه ورأيه؛ وإنما كان يدعو الناس إلى الاتباع،
وينهاهم عن الابتداع، حتى إنه كان يتحامى القياس ويرغب عنه، وقد روي عنه
أنه قال: سألت الشافعي عن هذا القياس فقال: هو كلحم الميتة يباح للضرورة - أو
قال كلمة بمعنى يباح والشك من الكاتب - ولذلك كتب الحديث والآثار والسنة وصفة
الصلاة والرد على المبتدعة، ولم يصنف شيئًا في الفقه، ومن ثم قال الإمام أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب الأحكام أنه لم يذكر فيه خلاف الإمام أحمد؛
لأنه كان محدثًا لا فقيهًا.
والحق أن الإمام أحمد كان محدثًا فقيهًا يرجع إليه العلماء فيما يشكل عليهم من
مسائل الفقه، كما يرجعون إليه فيما يشكل عليهم من روايات الأحاديث ورواتها،
ليعلموا ما يصلح وما لا يصلح للعمل به منها، وكان يجيب السائلين؛ ولكنه ما كان
يحب أن يُنقل عنه ولا عن غيره شيء في الفقه إلا الحديث والسنن، وتفنيد
المحدثات والبدع.
قال صاحبه أبو الحسن أحمد بن الحسن الترمذي - وهو من شيوخ البخاري
- عنه، أي: عن أحمد: سألت أبا عبد الله فقلت له: أكتب كتب الشافعي؟ فقال:
ما أقل ما يحتاج صاحب الحديث إليه. وقال صاحبه عبد الملك بن عبد الحميد
الميموني الرقي أبو الحسن: سألت أبا عبد الله عن مسائل فكتبتها فقال: إيش تكتب
يا أبا الحسن؟ فلولا الحياء منك ما تركتك تكتبها، وإنه عليَّ لشديد، والحديث أحب
إليَّ منها. قلت: إنما تطيب نفسي في الحمل عنك، إنك تعلم أنه منذ مضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد لزم أصحابه قوم، ثم لم يزل يكون للرجل أصحاب
يلزمون ويكتبون. قال: من كتب؟ قلت: قال أبو هريرة: وكان عبد الله بن
عمرو يكتب ولم أكتب فحفظ وضيعت. فقال لي: فهذا الحديث؟ فقلت له: فما
المسائل إلا حديث، ومن الحديث تشتق. قال لي: أعلم أن الحديث نفسه لم يكتبه
القوم. قال: لا. لمن يكتبون؟ قال: لا إنما كانوا يحفظون ويكتبون السنن إلا الواحد
بعد الواحد الشيء اليسير منه، فأما هذه المسائل تدون وتكتب في الدفاتر فلست
أعرف فيها شيئًا، وإنما هو رأي لعله قد يدعه غدًا ينتقل عنه إلى غيره. ثم قال لي:
انظر إلى سفيان ومالك حين أخرجا ووضعا الكتب والمسائل كم فيها من الخطأ؟
وإنما هو رأي يرى اليوم شيئًا وينتقل عنه، والرأي قد يخطئ. فإذا صار إلى هذا
الموضع دار هذا الكلام بيني وبينه غير مرة. اهـ.
أقول: ذكر هذا عنه القاضي أبو الحسن محمد بن القاضي أبي يعلى الكبير في
مختصر (طبقات الحنابلة) وقال قبله في ترجمة الميموني هذا: وعنده عن أبي
عبد الله مسائل في ستة عشر جزءًا، وجزأين كبيرين بخط جليل مائة ورقة - إن
شاء الله تعالى - أو نحو ذلك، لم يسمعه منه أحد غيري فيما علمت من مسائل لم
يشركه فيها أحد، كبار جياد، تجوز الحد في عظمها وقدرها وجلالتها. اهـ.
بحروفه ص 156 من الطبقات.
وهكذا كان يسأل الإمام أصحابه وغيرهم عما يعرض لهم من المسائل؛ لأن
إمامة العلم ورياسته قد انتهت إليه في بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم، فأما أهل
الرواية كالميموني فكانوا يروون عنه هذه المسائل، ومنهم صاحبه أبو داود في
المسائل المجموعة في هذا الكتاب، وأما سائر الناس فكانوا يعملون بما يقوله ويفتي
به، وإفتاء العامي فيما يعرض له واجب على أولي العلم؛ ولكن أحمد كان ينهى أن
يتخذ فهمه دينًا يقلد فيه، وكذا سائر الأئمة كما صرح به الإمام المزني عن الشافعي
في أول مختصره، وأنه كتبه لأجل النظر فيه، أي مساعدة على فتح باب الفهم،
وأن الشافعي نهى عن تقليده فيه؛ وإنما يعمل الناظر في العلم بما يقوم الدليل عنده
على صحته، وقد بكى مالك في مرض موته؛ إذ بلغه أن الناس يعملون بقوله لذاته،
مع أنه قد يرجع هو عنه.
ولما دَوَّن أتباعه الفقه على مذهبه جمعوا ما وصل إليهم من المسائل المجموعة،
والروايات المتفرقة، ووضعوها في أبوابها، ومن أجل هذا تجد الروايات
والأقوال عنه كثيرة مختلفة، وقد وضعوا للاختلاف فيها وترجيح بعضها على
بعض قواعد، ولو كان هو المدون للفقه لما احتاجوا إلى ذلك؛ لأنه كان يكون عند
الكتابة يدون ما يرى أنه الحكم، أو يذكر في المسألة وجهين على الأكثر، ووضعوا
اصطلاحًا لألفاظه المختلفة في التعبير عما يراه، وعما لا يراه في المسألة كقوله:
لا ينبغي، لا يعجبني، لا يصلح، أستقبحه، هو قبيح، أكرهه، لا أحبه، هذا أقبح
أو أشد. وفي مقابله: أحب كذا، يعجبني، هو أعجب إلي، هذا حسن أو أحسن،
وقد بين هذا وذاك العلامة ابن مفلح في فاتحة كتابه (الفروع) وإنما كان يقول هذا
حتى لا يكون جازمًا بأنه هو حكم الله تعالى، وما كان يخطر ببال أحدهم أن الناس
سيتركون ما صح في السنة والحديث تقديمًا لأقوالهم عليها، هذا ما كانوا يخافون
من كتابة الفقه، وليس فيما عداه إلا النفع للأمة والإعانة على العلم، وفتح أبواب
الفهم، فجزاهم الله خير الجزاء.
لا أعلم أن شيئًا من المسائل التي نقلها عن الإمام راوٍ واحد رويت عمن سأله
عنها، ودونت في زمن راويها إلا هذه المسائل التي رواها عنه أشهر أصحابه أبو
داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب السنن المشهورة، فإن النسخة
المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق قد سمعت وكتبت في سنة 266 للهجرة،
وكانت وفاته سنة 275 فهي قد كتبت في عصره، ومن العجب أن علماء المذهب
لم يعتنوا بها بعد ذلك بما ينبغي لمثلها من الرواية والشرح حتى إن صاحب مختصر
الطبقات لم يذكرها في ترجمته، ولم نجد لها ذكرًا في كتاب (كشف الظنون) ولا
في فهرس المكتبة المصرية الكبرى، وإن ما فيها من الفقه لهو من أصح ما يعزى
إلى أحمد أو أصحه؛ لأنه كتب بلفظه في عصره، ولا يستغنى عنه بغيره.
لهذا نعد من حسنات هذا العصر، عصر تجديد العلم ونشر كتب السلف
بالطبع أن وفق الله تعالى الشيخ إبراهيم بن حمد الصنيع السلفي النجدي أحد كرام
تجار جدة لطبع هذا الكتاب بعد العثور على نسخة المدينة المنورة واستنساخها، وأن
أشار عليه بعض أهل المعرفة والرأي أن يكلف الأستاذ الأمين المدقق عالم الشام
الشيخ محمد بهجة البيطار معارضتها على نسخة المكتبة الظاهرية وتصحيحها
بالمقابلة عليها، وقد تبرع الأستاذ بهذا العمل الشاق وجرى فيه على الطريق الوعر
بأن أحصى كل ما رأى من الاختلاف بين النسختين، وأثبت في حواشي النسخة
المدنية التي جُعِلَت هي الأصل للطبع ما يخالفها في النسخة الظاهرية من تحريف
وتصحيف وزيادة ونقصان وهو كثير جدًّا، وترى بيان هذا بقلمه في آخر الكتاب.
وكان من سوء الحظ أن نسخة المدينة كثيرة الغلط حتى إن منه ما هو تحريف
أو تصحيف ظاهر لا يحتمل الصواب، وأن النسخة الظاهرية تخالفها في أكثره إلى
الصحيح كما صرحت به في بعض تعليقاتي عليه، ومثل هذا الاختلاف لا يصح أن
يُجْعَل اختلاف رواية ولا اختلاف فهم، وقد كتب الأستاذ رأيه في بعض الخطأ
اللفظي والمعنوي في الكتاب، ومنه اختلاف قولي الإمام في المسألة الواحدة،
ونصح لمريد طبع الكتاب أن يطبعه في مطبعة دار المنار بمصر، وأن تكلفني ما لا
يكلَّف مثله صاحب مطبعة من النظر في المشكلات المعنوية والمسائل الخفية،
وضبط الروايات وأسماء الرجال المشتبهة والتي لا تعرف لما وقع فيها من التحريف،
وكتب في ذلك جدولاً فيه عشرات من هذه المسائل، وقد أرسل إليّ هذا الجدول
بعد الاتفاق مع مدير المطبعة على شروط الطبع، ومنها أن يكون تصحيح المطبعة
على الأصل المرسل تحت إشرافي ومراجعتي.
وقد قمت ولله الحمد بأكثر مما كلفته من تصحيح المسائل المشكلة والخفية
وأسماء الرجال التي أحصاها الأستاذ ابن البيطار، ومنها ما كتبت له حواشي
وضعت اسمي في آخرها أو أولها، وربما تُرك ذكر الاسم أو سقط من بعضها،
ومنها ما لم أضع له حاشية لئلا تكثر الحواشي بغير فائدة، ولم يكن من الممكن بيان
جميع المسائل الخفية في الأصل وهي صحيحة مع كثرتها إلا بشرح مطول لها
يكون أضعاف الأصل في حجمه؛ فإن هذه المسائل لم يُقْصَد بشيء منها أن تكون
بيانًا تامًّا لمسألة فقهية أو اعتقادية أو حديث أو تاريخ راوٍ لأجل تلقينها لطلاب العلم
أو المستفتين؛ وإنما هي إشارات وجيزة من حافظ عليم إلى مشكلات عنده لإمام
أعلم منه، فيكفيه أن يشير إليها بلفظ مفرد أو جملة وجيزة تامة أو غير تامة،
ويقنعه من الجواب عليها مثل ذلك، فمن لم يكن على علم بموضوع المسألة من هذا
النوع فلعله لا يفهم السؤال والجواب، وناهيك بالسؤال عن حديث بذكر كلمة منه
ولو في بعض رواياته، أو بذكر أحد رواته باسمه أو لقبه أو كنيته، على ما في
هذه الأعلام من الاشتراك والاشتباه، ثم ناهيك بالجواب عنه بكلمة مبهمة أو باسم
آخر، وغير ذلك مما كان معروفًا عند السائل والمسؤول، وأشباه هذا مما تكرر في
هذه المسائل، ولو ضربت له الأمثال هنا لأطلت في غير طائل.
عرفت كثيرًا من التحريف والتصحيف لأسماء رجال الحديث في إحدى
النسختين أو كلتيهما بشهرتهم، وكثرة مرور أسمائهم على ضعف حفظي وذكري
للأعلام كالأرقام، وشككت في بعضها فراجعت عما أحاله عليَّ الأستاذ ابن البيطار
من المشكوك فيه فصححته، بل قمت بأكثر مما عُهِدَ إلي من التصحيح بقدر الإمكان،
كما قام هو بأكثرها مما عُهِدَ إليه أيضًا، فنسأل الله أن يثيبنا على هذه الخدمة.
ولو نقلت نسخة المكتبة الظاهرية بالتصوير الشمسي، أو كتبت عنها نسخة
وصححت عليها، وكلفنا الطبع عنها مع معارضتها على النسخة المدنية لَمَا تعبنا
عُشْر هذا التعب في تصحيحها، ولما زادت حواشيها على عُشْر هذه الحواشي،
ولجاء المطبوع أصح وأظهر في القراءة وأقرب إلى الفهم، لعدم الحاجة إلى
الحواشي عند القراءة إلا قليلاً، ومن ذا الذي كان يعلم هذا الفرق كله بين النسختين؛
فيخبر مريد طبع الكتاب به، ويقترح عليه العمل به.
أما أنا فلم أقرأ شيئًا من النسخة المخطوطة التي أرسلت إلى مطبعة المنار؛
لأنني لم أكلف قراءة الأصل، ولم أشعر بالحاجة إليه بعد العلم بتصحيح الثقة الأمين
الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار له بالصفة التي يعرفها القراء مما وصفه لهم؛
وإنما كنت أنظر فيما جمع منه في المطبعة للإشراف على تصحيح مصححها،
وللنظر فيما عهده إلي من (مشكلاتها الفقهية والحديثية وأسماء الرواة) ولم أفطن
لفضل النسخة الظاهرية على المدنية إلا بعد طبع كراسات منه، وأظن أن ما وقع
لي من هذا مثل الذي وقع للأستاذ ابن البيطار في معارضة النسختين، وما كان له
ولا لي أن نتصرف في الأصل المدني فنصحح ما نظن ولا ما نجزم بأنه خطأ فيه،
لاحتمال خطأ الظن في الأول، ولعدم ثقة جميع القراء بصحة ما تجزم به إلا أن
نبين الأصل المصحح، والدليل على أن ما جزمنا به هو الصواب، وهذا لا يكون
إلا بالتوسع في هذه الحواشي، وجعلها سفرًا كبيرًا، وهو ما لم نكلفه، على ما
يقتضيه من التعب الكثير والزمن الطويل، وأنا أقر بأنني لست أهلاً للاضطلاع به
في أقل من سنة كاملة أخصه بها.
بيد أني أقول: إن مما قمنا به من خدمة هذا الكتاب هو الممكن الذي أطقناه،
وهو قد أظهر لمحبي العلم والمشتغلين بفقه الإمام أحمد، وبعلوم الحديث نسخة منه
جامعة لكل ما في النسختين المخطوطتين اللتين لم يوجد منه غيرهما، مع زيادات
من البيان والتصحيح لا يُسْتَغْنَى عنهما، فإذا قدره علماء الحنابلة وعلماء الحديث
قدره، وأحبوا إكمال فائدته بما ينتفع به جميع القارئين له، فلينتدب بعضهم إلى
شرحه، وإن شرح القسم الخاص بالحديث ورجاله ليسير على المشتغلين به من
إخواننا علماء الهند، وأما القسم الفقهي فلا يستطيعه إلا فقيه حنبلي ضليع وما
أعرف أحدًا جامعًا بين الأمرين، فإن وجد فهو قليل لا كثير.
ويتوقف الفهم التام لهذا الكتاب في جميع مسائله على معرفة اللغة العرفية
لعلماء بغداد في عصر الإمام أحمد (رحمه الله تعالى) فقد كتبت بلغة النطق، لا
بلغة التصنيف والفرق بينهما قليل؛ فمنه عدم التزام حركات الإعراب، ومنه
استعمال مفردات غير عربية الأصل وهي قليلة جدًّا، وقد نبه الأستاذ ابن البيطار
لبعضها في حواشيه وزدت عليه في ذلك، وأرجعت بعضها إلى أصل عربي
كالوقوف على المنصوب بالسكون على لغة ربيعة، ثم رأيت هذا يكثر في أثناء
الكلام بدون وقف، ولا ترى مثل هذا في مصنفات الإمام أحمد التي كتبها - كيف
وقد شهد له الإمام الشافعي (رحمهما الله تعالى) بإمامة اللغة كإمامة الدين، وناهيك
بشهادة الشافعي.
قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي رضي الله عنه: أحمد إمام في ثماني
خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في
الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة. اهـ. من طبقات الحنابلة.
وجملة القول أن هذا الكتاب قد جَمَعَ من فقه الإمام أحمد، وعلمه بالحديث
ورجاله ما يعد من بقايا المآثر، وأعلاق الذخائر التي تركها الأوائل للأواخر، فنسأل
الله تعالى أن ينفع بها، ويحسن جزاء من رواها، ومن نسخها، ومن صححها، ومن
طبعها، إنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، آمين.
... ... ... ... ... ... ... وكتبه محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
__________(34/298)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عهد التحكيم
بين المملكة العربية السعودية وبين مملكة اليمن
بسم الله الرحمن الرحيم
بما أن حضرة صاحبي الجلالة الإمامين الملك عبد العزيز ملك المملكة العربية
السعودية والملك يحيى ملك اليمن قد اتفقا بموجب المادة الثامنة من معاهدة الصلح
والصداقة وحسن التفاهم المسماة بمعاهدة الطائف، والموقع عليها في السادس من
شهر صفر سنة ثلاث وخسمين بعد الثلاثمائة والألف على أن يحيلا إلى التحكيم أي
نزاع أو اختلاف ينشأ عن العلاقات بينهما وبين حكومتيهما وبلاديهما متى عجزت
سائر المراجعات الودية عن حله؛ فإن الفريقين الساميين المتعاقدين يتعهدان بإجراء
التحكيم على الصورة المبينة في المواد الآتية: -
(المادة الأولى)
يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن يقبل بإحالة القضية المتنازع
فيها على التحكيم خلال شهر واحد من تاريخ استلام طلب إجراء التحكيم من الفريق
الآخر إليه.
(المادة الثانية)
يجري التحكيم من قبل هيئة مؤلفة من عدد متساوٍ من المحكمين ينتخب كل
فريق نصفهم، ومن حَكَم وازع يُنتخَب باتفاق الفريقين الساميين المتعاقدين، وإن لم
يتفقا على ذلك يرشح كل منهما شخصًا، فإن قبل أحد الفريقين بالمرشح الذي يقدمه
الفريق الآخر؛ فيصبح وازعًا، وإن لم يمكن الاتفاق على ذلك تجرى القرعة على
أيهما يكون وازعًا، مع العلم بأن القرعة لا تجري إلا على الأشخاص المقبولين من
الطرفين، فمن وقعت القرعة عليه أصبح رئيسًا لهيئة التحكيم، ووازعًا للفصل في
القضية، وإن لم يحصل الاتفاق على الأشخاص المقبولين من الطرفين تجرى
المراجعات فيما بعد إلى أن يحصل الاتفاق على ذلك.
(المادة الثالثة)
يجب أن يتم اختيار هيئة التحكيم ورئيسها خلال شهر واحد من بعد انقضاء
الشهر المعين لإجابة الفريق المطلوب منه الموافقة على التحكيم لقبوله لطلب الفريق
الآخر، وتجتمع هيئة المحكمين في المكان الذي يتم الاتفاق عليه في مدة لا تزيد
عن شهر واحد بعد انقضاء الشهرين المعينين في أول المادة، وعلى هيئة المحكمين
أن تعطي حكمها خلال مدة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تزيد عن شهر واحد
من بعد انقضاء المدة التي عينت للاجتماع كما هو مبين أعلاه، ويعطى حكم هيئة
التحكيم بالأكثرية، ويكون الحكم ملزمًا للفريقين، ويصبح تنفيذه واجبًا بمجرد
صدوره وتبليغه، ولكل من الفريقين الساميين المتعاقدين أن يعين الشخص أو
الأشخاص الذين يريدهم للدفاع عن وجهة نظره أمام هيئة التحكيم، وتقديم البيانات
والحجج اللازمة لذلك.
(المادة الرابعة)
أجور محكمي كل فريق عليه، وأجور رئيس هيئة التحكيم مناصفة بينهما،
وكذلك الحكم في نفقات المحاكمة الأخرى.
(المادة الخامسة)
يعتبر هذا العهد جزءًا متممًا لمعاهدة الطائف الموقع عليها في هذا اليوم
السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف، ويظل ساري
المفعول مدة سريان المعاهدة المذكورة، وقد حُرِّر هذا من نسختين باللغة العربية
يكون بيد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين نسخة.
وقرارًا بذلك جرى توقيعه في اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث
وخمسين بعد الثلاثمائة والألف.
... ... ... ... ... (التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود
... ... ... ... ... (التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353
من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة الأخ صاحب السيادة السيد عبد الله الوزير
المندوب المفوض من قبل جلالة الإمام يحيى حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فإنه بمناسبة توقيع معاهدة الطائف بيننا
وبينكم نيابة عن جلالتي ملكي المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية أحب أن
أثبت لكم في كتابي هذا أنه لا يمكن اعتبار تلك المعاهدة، وقبول إنفاذ مقتضاها إلا
في إثبات ما يأتي:
1- أن يجري تسليم الأدارسة، وإخلاء جبالنا في تهامة، وإطلاق رهائن أهلها
حالاً.
2- أن يظل مضمون هذه المعاهدة مكتومًا، ولا ينشره أحد الفريقين، ولا
سيما ما يتعلق منها بمسألة الحدود لما يحدث ذلك من التشويش في تهامة خاصة،
وإن انسحاب جند جلالة الملك عبد العزيز يكون بكامل الصيانة والشرف من
ابتداء انسحابه إلى آخره وكل حادث عدواني عليه في خلال تلك المدة يكون مضمونًا
من قِبَل جلالة الإمام يحيى، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... (التوقيع)
... ... ... ... ... ... خالد بن عبد العزيز السعود
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353
من عبد الله الوزير إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من
قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تلقيت كتاب سموكم تاريخ 6
صفر 1353، وقد أحطت علمًا بما اشترطتموه سموكم لإنفاذ معاهدة الطائف التي
عقدت بين الفريقين من تسليم الأدارسة، وإخلاء الجبال التي كانت محتلة من قبل
جنود جلالة الإمام يحيى من بلاد جلالة الملك عبد العزيز، وإطلاق رهائن أهلها،
وأن تظل هذه المعاهدة مكتوبة، وعلى الأخص مسألة الحدود إلى أن يتم ترتيب
الاتفاق الذي اتفقنا عليه لإنفاذه، وإن انسحاب جند جلالة الملك عبد العزيز يكون
بكامل الصيانة والشرف من ابتداء انسحابه إلى آخره وإن كل حادث عدواني عليه
في خلال تلك المدة يكون مضمونًا من قبل جلالة الإمام يحيى، لقد أحطت علمًا
بذلك، ويسرني أن أعلن سموكم بقبولنا وموافقتنا لاشتراطكم، وأنه سيكون مرعيًّا
من جهتنا، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... ... ... ... ... ... تحريرًا في 6 صفر 1353
من عبد الله الوزير إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من
قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فأتشرف بأن أثبت هنا إلحاقًا بمعاهدة
الطائف الموقع عليها من قبل سموكم نيابة عن جلالة الملك عبد العزيز، والموقعة
من قبلي نيابة عن جلالة الملك الإمام يحيى، وأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بما هو
آتٍ:
1- تسليم الأدارسة لجلالة الملك عبد العزيز، وقد عملت الترتيبات اللازمة
لتسليم السيد الحسن والسيد عبد العزيز بن محمد الإدريسي، وسيسلمون حالاً لرجال
سمو الأمير فيصل في تهامة، أما السيد عبد الوهاب الإدريسي فنظرًا لأنه لا يزال
إلى الآن في بلاد العبادل فقد اُتخذت الوسائل والوسائط لاستدعائه من تلك الأنحاء
لتسلميه، فإن لم يطع الأمر فأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بشأنه بما يأتي:
أ - أن تمتنع حكومة الإمام يحيى عن كل مساعدة مادية أو معنوية له، وأن
تمنع عنه من بلادها أي معاضدة أو معاونة.
ب - إذا أرادت حكومة جلالة الملك عبد العزيز القبض عليه في الأراضي
التي هو فيها؛ فإن حكومة الإمام يحيى ستعمل من جهتها سائر أنواع التضييقات
العسكرية التي تستطيعها لمنع فراره إلى أراضيها، وتتعهد أن تلقي القبض عليه،
وعلى كل شخص اشترك معه في حركته من أي جهة وقبيل من قبائل المملكة العربية
السعودية، وأن تسلمهم لحكومة جلالة الملك عبد العزيز بغير شرط ولا قيد إذا دخلوا
إلى جهات المملكة اليمانية، وأن تمنع فراره أو فرار أي شخص من الذين اشتركوا
معه في عمله إلى الخارج إذا دخلوا إلى أراضي المملكة اليمانية.
2- أما من كان له تعلق بالأدارسة وحركتهم من الأشراف أو غيرهم، فإذا
أرادوا اللحاق بالإدريسي فلهم الأمان من قبل حكومة جلالة الملك عبد العزيز
والصيانة والاحترام والإكرام اللائق بحقهم، وإذا لم يشاؤوا ذلك فإنهم يخرجون من
بلاد جلالة الإمام يحيى، ولا يسمح لهم بالبقاء فيها، وإذا عادوا إليها مرة أخرى
فَيُطْرَدُون حالاً - ويُنْذَرُون بأنهم إذا عادوا يسلمون إلى حكومة جلالة الملك عبد
العزيز، فإن عادوا بعد طردهم، فأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بتسليمهم إلى حكومة
جلالة الملك عبد العزيز بغير قيد، ولا شرط.
فأرجو أن تعتبروا هذا سموكم عهدًا وثيقًا له منزلة المعاهدة المعقودة بيننا وبين
سموكم بهذا اليوم، وعلى هذا عهد الله وميثاقه، وأرجو أن يكون هذا طبقًا للاتفاق
الشفوي الذي اتفقنا عليه في هذا الشأن، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع)
... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن أحمد الوزير
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353
من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة صاحب السيادة الأخ السيد عبد الله الوزير
المندوب المفوض من قبل جلالة الملك الإمام يحيى حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فأتشرف بأن أعلمكم باستلامي كتاب سيادتكم
بتاريخ اليوم بشأن ما تعهدتم به باسم جلالة الإمام يحيى بشأن الأدارسة وأتباعهم،
وأنا على ثقة بأن ما تعهدتم به سيكون تنفيذه بمقتضى الأمانة والوفاء المأمول في
جلالة الإمام يحيى، ونتمنى أن يكون تنفيذ ذلك بأسرع مدة ممكنة.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع)
... ... ... ... ... ... ... خالد بن عبد العزيز السعود
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353
من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة المكرم السيد عبد الله الوزير حفظه الله
تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فبمناسبة توقيع معاهدة الطائف بين
مملكتنا ومملكة اليمن أثبت هنا ما اتفقنا عليه بشأن تنقلات المتنقلين من رعايا
المملكة العربية السعودية، ورعايا المملكة اليمانية في البلدين، أن التنقل في الوقت
الحاضر يظل على ما كان عليه في السابق إلى أن يوضع بين البلدين اتفاق خاص
بشأن الطريقة التي ترى الحكومتان، متفقًا اتخاذها من أجل تنظيم الانتقال سواء للحج
أو التجارة وغيرها من الأغراض والمنافع، فأرجو أن أنال جوابكم بالموافقة على
ما اتفقنا عليه بهذا الشأن.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... (التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353
من عبد الله الوزير إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من قبل
جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تلقيت كتاب سموكم تاريخ 6
صفر بشأن تنقلات رعايا الفريقين بين البلدين، وإنني على اتفاق مع سموكم في أن
يكون الانتقال في الوقت الحاضر طبقًا للطريقة التي كان السير عليها من قبل إلى
أن يوضع اتفاق خاص بشأن تنظيم الانتقال في المستقبل، وإن ذلك سيكون مرعيًّا
من جانب حكومتنا كما هو مرعي من جانب حكومتكم.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع)
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن أحمد الوزير
* * *
فبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر، وعلى عهد التحكيم والكتب
التي ألحقت بها، وأمعنا النظر فيها صدقناها وقبلناها وأقررناها جملة في مجموعها
ومفردة في كل مادة وفقرة منها، كما أننا نصدقها ونبرمها، ونتعهد ونعد وعدًا
ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم - بحول الله - بما ورد فيها، ونلاحظه بكمال الأمانة
والإخلاص، وبأننا لن نسمح بمشيئة الله بالإخلال بها بأي وجه كان طالما نحن
قادرون على ذلك، وزيادة في تثبيت صحة كل ما ذكر فيها أمرنا بوضع خاتمنا
على هذه الوثيقة، ووقعناها بيدنا، والله خير الشاهدين
حرر بقصرنا في الطائف في الخامس والعشرين من شهر صفر سنة 1353
(الختم الملوكي) ... ... ... ... (التوقيع) عبد العزيز آل السعود
__________(34/305)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية
في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي
(تابع لما قبله)
معجزة القرآن
أنقل هنا ما نشرته مجلة المشرق من الطعن في معجزة القرآن بحروفه، ثم
أفنده بالبرهان، وهذا لا يفعله أحد من رجال النصرانية لا الكاثوليك، ولا غيرهم
لعلمهم بأنهم إذا نقلوا كلامنا إلى أتباعهم لا يقدرون على الرد عليه بما يقنع أتباعهم
فضلاً عن غيرهم.
قال في ص 957، 958 من سنة 1933 لمجلة المشرق ما نصه بغلطه
اللفظي والمعنوي.
(من المعلوم أن المسلمين يستشهدون بكتابهم على صدق نبوة محمد فهو
عندهم آية الآيات، والأعجوبة الصريحة، والدليل القائم بذاته على مدى الأيام
داعيًا إلى الهدى من غير شاهد يشهد بصحة نسبته إلى أصله، كأن به توقيع الله
بالذات، ويدعمون قولهم بما ينسبونه إلى مفاعيل القرآن من الحوادث العظمى التي
قلبت فئة عظيمة من البشر ظهرًا لبطن، وبالاختصار فالقرآن عندهم كما يقول
السيد محمد رشيد رضا هو معجز للخلق بلفظه، ونظمه وأسلوبه، وعلومه وهدايته،
وبذلك هو (آية لا كالآيات، ونور لا كالأنوار) (ص 59) .
ولكن ما هي قيمة تلك المعجزة وما هي حقيقة مفاعيلها؟
قال الأب دي لانفرسان محرر مجلة (في أرض الإسلام) الإفرنسية:
(ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن الأدبية، كما وأنه ليس من يشك
في قيمة التوراة اللغوية في الترجمة الإنكليزية أو في الترجمة الألمانية لمؤلفها لوتر
على أن تلك القيمة البشرية محضة، وقد يتاح لكل إنسان مثقف أن يتحققها تحققًا
متفاوتًا مع تفاوت تضلعه من اللغة، ومن آداب البلاد التي وضع فيه الكتاب؛ ولكن
تلك القيمة الأدبية ليست مما يزيد أو ينقص في قيمة المتن الدينية
(إننا لا ننكر على القرآن القيمة الدينية، ونحن على بينة من مفعوله في
إثارة عواطف السجود والصلاة والتسليم لإرادة الله، وهناك جمهور المتصوفين
الصادقين من استقوا من مناهل القرآن على مدى الزمان مناهل المودة الصادقة لله
عز وجل.
(ولكن محور كلامنا لا يدور على تأثير القرآن في النفوس، بل على
السؤال هل القرآن بذاته دليل؟ هل هو بذاته آية الآيات ومعجزة المعجزات كما
يسميه السيد محمد رضا (ص 59) وقبله الكثيرون من كبار أئمة المسلمين؟ هل
القرآن هو كلام الوحي، لا بمعنى الوحي الشعري أو الفني المعروف عند أهل الفن
والأدب بالوحي النفسي (كما ذكره المؤلف ص 29) ولكن بالمعنى الكامل المألوف
عند رجال الدين أعني به كلام الله الحي؟
(بعيد عنا القول أن كتابًا موحى به من الله وحيًا بينًا لا يمكن أن ينم عن
أصله الإلهي من غير أدلة خارجه عنه، وإنه من المستحيل أن يشهد الكتاب بذاته
لصاحبه فتثبت فيه علامة الله وتوقيعه؛ ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في أن
تتحقق تلك العلامة من غير ما أن نخشى الضلال، ولا نخاف أن نكون غلطنا في
تحقيقنا، وما المشكل إلا مشكل الدليل الباطني، وهو شهير عند أهل التفسير؛ فإن
قيمة الدليل الباطني على صحة الوحي لم تقع قط في الجدال؛ ولكن الجدال إنما هو
في تطبيق العلامة والدليل الباطني تطبيقًا لا يترك مجالاً للريب؛ ولذلك فقد أجمع
المفسرون على القول: إن الدليل الخارجي هو أشد تأثيرًا من الباطني؛ لأنه أبعد منه
عن خطر الغلط، وآمن على سلامة التأكيد)
(ففي الأمر الواقع ليس للدليل الباطني قيمة إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي
كون مؤلف من المؤلفات يمكن أن يكون قد خرج من عقل بشرى) اهـ بحروفه.
(المنار) : في هذه العبارة شبهات نشير إلى دحضها بالإجمال.
***
الشهبة الأولى
في الموازنة بين القرآن والتوراة والإنجيل في البلاغة
نقل عن أحد آبائهم أنه (ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن اللغوية) ؛
ولكنه زعم أنه يشاركه في ذلك ترجمتا التوراة الإنكليزية والألمانية. والجواب عنها
من وجهين:
(أحدهما) أن القرآن معجز للبشر بعبارته اللغوية، عجز عن الإتيان بسورة
من مثله فحول بلغاء العرب الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة، ولم يكن محمد
صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يعد من طبقتهم فيها، وقد تحداهم الله بأن يأتوا
بسورة مثله مصرحًا بأنهم لن يفعلوا، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، فلو قدروا
لفعلوا، واستمر هذا الإعجاز إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد من الإنكليز، ولا من
الألمان: إن ترجمة التوراة معجزة للبشر لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها فظهر الفرق
كفلق الصبح أو أشد نورًا.
(الوجه الثاني) لماذا لا يوازنون بين القرآن الذي جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم، والتوارة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله، وهي أصل
دينهم فأين هي؟ وأين الإنجيل الذي جاء به عيسى المسيح عليه السلام، ويذكرون
في كتب العهد الجديد أنه أمر تلاميذه أن يكرزوا به في الخليقة كلها؟ ولماذا لا
يوازنون بين قيمته الأدبية وقيمة القرآن؟ حسب القرآن أنه هو الذي جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين، فيعرف به أصل دينه معرفة قطعية؛ ولكن ما جاء به
أخواه موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام غير موجود بنصه الحرفي، وهذه
الترجمات الموجودة لا يمكن إثبات أخذها عن أصلها لفقده من العالم، وهي مختلفة
متعارضة متناقضة، فكيف يؤثق بأنها مطابقة لأصلها لو كان موجودًا؟
* * *
الشبهة الثانية
في دلالة هداية القرآن الدينية على كونه من الله
اعترف أيضًا بأنهم لا ينكرون هداية القرآن الدينية من التسليم لإرادة الله
تعالى والعبادة الصادقة له؛ ولكنهم ينكرون أن يكون تأثيره هذا دليلاً على أنه من
عند الله تعالى، وآية على صحة محمد صلى الله عليه وسلم، والجواب عنها من
ثلاثة أوجه: وجهين عقليين، والثالث نقلي مسيحي
(الأول) إننا لم نحصر البرهان على كون القرآن وحيًا من الله تعالى في
تأثير هدايته للبشر، ولا في إعجاز لغته بل أوردنا في كتاب الوحي المحمدي، ثم
في غيره من تفسيرنا براهين أخرى عقلية وعلمية على ذلك حسبه منها اتفاق علماء
الإفرنج في هذا العصر على أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بكتاب في الذروة
العليا من البلاغة والفصاحة اللغوية بعد دخوله في سن الأربعين إذا لم يكن قد مارس
هذا النوع من الكلام، أو تمرن في سن الصبا والشباب، وأنه ليس في استطاعة
أحد من البشر أن يأتي بكتاب ممتاز في العلوم الدينية أو الأدبية أو التشريع المدني
والسياسي بعد بلوغ سن الأربعين إذا كان لم يمارس هذه العلوم بالتلقي والبحث
والعمل قبل ذلك، وقد ثبت بالتواتر أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا بين قوم
أميين لم يزاول شيئًا من هذا ولا مما قبله، وقد احتج عليهم بهذا كما أمره الله بقوله:
{قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) وإذا كان هذا الكتاب الذي يعترف اليوم أعدى أعدائه،
وأشد خصومه جدلاً ومراءً بقيمته اللغوية والأدبية والدينية وتأثيره الحسن في العالم
محالاً أن يكون من تأليف محمد بهذا البرهان العلمي، فهل يمكن أن يكون إلا بوحي
من الله تعالى له؟ وهل يوجد في كتب الوحي التي يؤمنون بها ما يساويه في هذه
الحجة؟
(الوجه الثاني) إن ما كان للقرآن من التأثير في هداية الملايين من البشر
إلى معرفة الله تعالى، وعبادته الصادقة، وترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام
والأوثان والأشجار والكواكب والحيوان والإنسان (وابن الإنسان) من أكبر البراهين
على أنه من وحي الله وكلامه، وهل بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه إلا لأجل هذا؟
وهل وجد كتاب من كتبه كان له أكبر من هذا التأثير أو مثله في هذه الهدية؟ قد
بسطنا الجواب السلبي عن هذا الاستفهام في كتاب الوحي المحمدي.
إذا كان الماديون المعطلون أو المنكرون للوحي والنبوة من أساسها ينكرون
هذه الدلالة على الوحي؛ لأنها فرع الإيمان بالأصل وهو وجود الله تعالى ورسالة
الرسل، فكيف ينكرها من يدعون الإيمان بهما؟ هذا ما تعجب منه موسيو مونتيه
أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف إذ قال: إنه لا يعقل أن يوجد أحد يؤمن بنبوة
أنبياء بني إسرائيل ولا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وبيانه كما بسطناه في كتاب خلاصة السيرة المحمدية وكتاب الوحي أنه إذا
جاءنا رجل بكتاب في الطب والعلاج، ورأينا جميع المرضى الذين عملوا به برئوا
من أمراضهم، ألا يكون هذا أقوى دليل على صدقه وصحة ما فيه من العلم؟ بلى
وإن هذا الكتاب لا يحتاج إلى من يشهد له بأنه كتاب طب مفيد؛ لأن الشهادة الفعلية
القطعية أصدق من الشهادات القولية وحدها، ويمكن أن يعرفها كل أحد؛ ولهذا كان
السبب الأكبر لإسلام أكثر الأعاجم في الصدر الأول ما شاهدوه بأعينهم وعرفوه
باختبارهم من سوء حالة العرب المشركين الجاهلين قبله، وانقلابهم بهدايته وسنة
النبي الأمي الذي جاء به أئمة يهدون بالحق، وبه يعدلون؛ فتحول كثير من اليهود
والروم وأكثر النصارى من السوريين والكلدان والآشوريين والأرمن والقبط
والبربر عن نصرانتيهم إلى الإسلام، وكذا المجوس والهنود الذين كانوا قرناء الروم
في حضارتهم وفلسفتهم.
أما العرب فكان سبب إيمانهم إعجازه اللغوي والعلمي وتأثيره وسلطان
آياته على العقول والقلوب، والاقتناع بأنها حق وخير لهم، مع حالة من جاءهم
به؛ إذ كان إلى سن الأربعين غير معروف ببلاغة ولا علم، وغير ممتاز على أهل
وطنه وبيئته إلا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق.
إن معترض مجلة المشرق يسمي هذا وذاك من الأدلة الباطنية التي ليس لها
إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي كون هذا الكتاب قد خرج من عقل بشري، وقد
غفل عن كون المؤمن بالله وبوحيه يضطر أن يؤمن بما كان كذلك أنه من الله تعالى؛
إذ لا موجود يقدر عليه غيره فقامت عليه الحجة.
(للرد بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/311)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(8)
يوم الجمعة 25 شعبان 14 مايو سنة 1920
قابلت ضحوة هذا اليوم الملك فيصلاً بداره، فأخبرني أن والده وافق على ما
اقترحناه من تنفيذ مشروع (الوحدة العربية) والاتفاق مع ابن سعود مع المحافظة
على شرفه وفوضه بذلك (قال) فيمكننا الآن إرسال وفد علني إلى ابن سعود، وقد
عقد والدي اتفاقًا مع إمام اليمن.
ثم قال: إنه جاءه من مصر أن الإدريسي (أي السيد محمدًا الكبير) أرسل
إليّ كتابًا مع رجل اسمه السيد محمد السقاف، وسيصل إلى هنا حاملاً له في هذين
اليومين (قال) وإنه يمكن عقد اجتماع في هذا العام في طابة.
وأخبرته بمسألة استقدام ضيفنا وصاحبه (ضيفنا لقب أطلقناه بمصر على
صاحب حجازي لنا يشتغل بالسياسة، وكنت استأذنت الملك بطلبه إلى الشام فأذن) .
ثم تكلمنا في مسألة العشائر، وهي تكاد تتم إن شاء الله تعالى اهـ.
هذا ما كتبته في مذكرتي في ذلك اليوم بعد فراق الملك فيصل، وأعني بكلمتي
الأخيرة أنني لم أترك مسألة السعي لتنظيم عشائر سورية وقبائلها بعد سقوط وزارة
الركابي باشا؛ لأنني رأيت الملك فيصلاً لا يزال يُظْهِر لي عنايته بها، ووعد يومئذ
بتنفيذها.
وأقول الآن: إن كل ما ذكرت هنا من الأخبار لم يصح منه شيء، وأما الآراء
فكان الملك فيصل ثابتًا على وجوب سعينا إلى (الوحدة العربية) والتوسل بما يعتقد
من اتصال المودة بيني وبين ابن السعود على إدخاله فيها، وأنها لا تتم بدونه،
وكان موافقًا لي على أن والده هو العقبة الأولى في هذه السبيل، فإذا ذُلِّلَت واقتحمت
كان عقبة ابن سعود أهون منها.
***
مكاتبة أمراء العرب في مؤتمر الوحدة العربية
يوم الأحد 5 رمضان 23 مايو
أرسلت قبل نصف الليلة البارحة إلى الملك فيصل الكتاب الذي طلبه مني
لإرساله إلى ابن سعود، وقابلته ضحوة اليوم بداره الخاصة، وتكلمنا في المسألة
العربية، وإمكان جمع مؤتمر من زعماء العرب في المدينة المنورة أو أي مكان
يختارونه، وقال: إن والده يوافق على ذلك.
وتكلمنا في مسألة سورية أيضًا، ومسألة سفره إلى أوربة، وعدم ارتياح
الناس إلى هذا السفر وسببه، ومما قلته له (وهو فصل الخطاب) : إن المسألة يمكن
اختصارها بكلمة واحدة، وهي هل يكون حكم البلاد لنا ونحن نستخدم من الأوربيين
من نرى المصلحة في استخدامه؟ أم يكون لهم ويستخدمون منا آلات لإدارته؟ اهـ.
وأقول الآن: قد بينت فيما تقدم أن الرجل لم يتغير رأيه بعد إعلان الاستقلال
عما كان قبله من وجوب اتفاقه مع فرنسة على طريقة الحكم في سورية، وأن
الوسيلة لذلك أن تفوض إليه البلاد عقد هذا الاتفاق، وقد كان يطلب هذا التفويض
من الزعماء، وكان من أركانهم الأستاذ الشيخ محمد كامل قصَّاب رئيس الجمعية
الوطنية، وهو معارض شديد، وكان الدكتور شهبندر من أقوى أنصاره، ثم اطمأن
الملك لموافقته له بعد أن صار وزيرًا، وقد صار في البلاد مؤتمر عام له شأن،
وكان يذاكرني في هذه المسألة منذ اجتمعنا في بيروت عند عودته من أوربة كما تقدم
بعدِّه إياي من أصحاب الرأي (الناضج كما كان يقول) ومن أصحاب المكانة في
حزب الاستقلال العربي، وقد صار لي صفة أخرى وهي رياسة المؤتمر الرسمي،
ولم يتغير رأيي في المسألة، كما أنه لم يتغير رأيه، والواقع الآن في سورية يؤكد
رأيي، وسأعود إلى هذه المسألة.
يوم الجمعة 10 رمضان 28 مايو
قابلت الملك فيصلاً بداره صباح اليوم، وكنت أرسلت إليه البارحة صورة
كتابي الأول إلى ابن سعود ليرسله مع الثاني الذي أعطيته إياه في 5 رمضان (كذا
في الأصل الذي في المذكرة) فأخبرني أنه أمر إحسان بك أن يكلفني صورة كتاب
له (أي لابن سعود من قِبَلِه هو) وكتاب آخر يُرسل إلى سائر أمراء العرب في
الكويت والمحمرة وغيرهما، وأنه كان يكتب كلمات مختصرة في ذلك وتعب فلم
يتمها، والمراد منها بيان فكرته الأساسية التي أبني عليها.
ثم لقيت إحسان بك وأخذت منه الورقة (التي كتبها الملك) ، وكتبت
الصورتين ليلاً، وأعطيته إياهما، وحفظت ورقة الملك عندي وهي في لفظها
ومعناها....
يوم الأحد 12 رمضان 30 مايو
أفطرت اليوم والوزراء وأعضاء المؤتمر مع الملك فيصل، فأُجلست في
المائدة عن يمينه، والشريف جميل عن يساره، ورئيس الوزراء أمامه، وسائر
الوزراء عن اليمين واليسار في صدر المكان، وجُعل لأعضاء المؤتمر مائدتان
طويلتان على الجانبين، وقد أسرّ إليّ الملك في أثناء الطعام بأن الوفد سافر بالكتب،
وهو مؤلف من العصيمي وآخرين أحدهما سلميان الدخيل. اهـ.
ثم كتبت بعد ما تقدم في يوم آخر قريب (ثم تبين لي أن هذا غير صحيح) .
***
قضية وطنية لها علاقة بترجمة الملك
يوم الأحد 26 رمضان 13 يونيو
ظهر الخلاف في النصف الثاني من هذا الشهر بين أعضاء حزب الاستقلال
وجمعيته، وقد اجتمع في دار الدكتور أحمد قدري زهاء أربعين عضوًا من أعضاء
الجمعية، ودارت المذاكرة تحت رياستي في إصلاحها، فاتفق الجميع على وجوب
إلغاء امتياز الأعضاء المؤسسين، وعلى طلب جميع من في العاصمة منهم ومن
غيرهم لتقرير هذا في انتخاب مجلس إدارة (أو تأسيس) من الهيئة العامة عدده
ثلاثون أو أكثر، وهو يُنتخب من أفراد لجنة مركزية أو تنفيذية من سبعة أعضاء،
وسيكون هذا الاجتماع في الليلة القابلة.
***
الخلاف في حزب الاستقلال العربي وجمعيته
يوم الإثنين 27 رمضان 14 يونيو
اجتمع البارحة الإخوان في دار الدكتور قدري اجتماعهم الثاني تحت رياستي،
وبعد طول المذاكرة استقر الرأي على كتابة بلاغ يمضيه جميع من حضر وغيرهم
ممن على رأيهم، يقدم إلى اللجنة المركزية، يطالبونها فيه بدعوة جميع الأعضاء
في 7 شوال للمذاكرة في الإصلاح المطلوب الذي اقترح من قبل، وينذرونها أنها
إذا لم تفعل فإن الموقعين يفعلون ذلك بحق الأكثرية، وقد فعلوا، وكُتبت نسختان
من القرار؛ ليقدم أحدهما، ويحفظ الآخر.
يوم الثلاثاء 28 رمضان 15 يونية
قرر أعضاء المؤتمر اليوم بأن تعطل الجلسات من نهار غد لأجل عيد الفطر
إلى نهاية الأسبوع الذي بعده، وتعود يوم السبت 26 حزيران (يونيو) ، وبعد
الجلسة العامة جمعت ديوان الرياسة للنظر في أعماله المتأخرة لعدم اجتماعه من مدة
طويلة كنت أدعو الأعضاء فلا تحصل الأكثرية.
وعند العصر تقريبًا قابلت الملك بداره بمناسبة عزمه على السفر قبل المغرب
إلى حلب، فتكلمنا في مسألة سفره، فأخبرني بأنه يريد إرسال قوة عسكرية إلى
حدود سورية الشمالية بمناسبة الهدنة بين الترك والفرنسيس في كليكية وبأن في هذا
شيئًا من الخلاف بينه وبين الوزراء.
(الوفد الوطني لأوربة والملك فيصل)
ثم تكلمنا في مسألة الوفد (الذي يسافر إلى أوربة) فقال بمناسبة وجوب
إرسال وفد وطني غير وفد الحكومة (وهو ما اقترحه بعض الإخوان والزعماء) :
إن هذا مما يجب على الأحزاب والجمعيات؛ ولكن كل شيء يُطلب منه، ولا سيما
المال وهو لا يستطيع ذلك، وقد ضيق عليه في ميزانية البلاط! ! (قال) كل
شيء يُطلب من فيصل، في الأمة رجال كثير غير فيصل، ليست عبارة عن رجل
واحد.
قلت: نعم لها رجال كثيرون؛ ولكن ليس لها إلا رأس واحد.
قال: صحيح، أنا أساعد من يذهب من قبل الوطن؛ ولكن ليس عليَّ النفقة
كلها. ولم أكن أسمع منه مثل هذه الشكوى، بل كان يُظْهِر لي أنه يأخذ على عاتقه
مساعدة العمل للوحدة العربية، وللجامعة الإسلامية أيضًا! !
وأحمد الله أنني أبعد الناس عن مساعدته في شيء ما، حتى إنه عرض عليّ
تقديم شيء من فرش الدار، بل قال: إن فرش الدار كله عليه، فاحتلت في دفع ذلك
عني. اهـ.
هذا ما كتبته بعد فراقه ووداعه في ذلك اليوم، وأفسره هنا بأنني كنت أشعر
منه بأنه يريد إكرامي بمساعدة مالية، ويرى مني أمارات الإباء إذ عرّض بذلك،
ولما استقرت قدمي في الشام للعمل في المؤتمر، قال لي مرارًا: إنه لا يليق بمقامك
البقاء في الفندق، فيجب أن تأخذ دارًا تقيم فيها، عليك الدار، وعلينا فرشها
فاستأجرت دارًا واسعة، واستحضرت فرشها التام من طرابلس، فلم يدر بذلك إلا
والدار مفروشة.
يوم الخميس 30 رمضان 17 يونيو
كلمني الدكتور عبد الرحمن شهبندر في وزارة الخارجية بشأن الوفد الذي
يذهب إلى أوربة، وقال: إنه يجب أن نتفق على تحديد المطالب التي يلتزمها، وبعد
بحث وجيز اتفقنا على الاجتماع ليلة السبت في دار جميل بك مردم مستشار
الخارجية، ويطلب الشيخ كامل قصاب للحضور معنا.
وأكد لي الوزير ما كنت سمعته عن الأمير زيد من عدم قبوله رياسة هذا الوفد،
قلت للوزير: لماذا؟ قال: لأنه لا يريد حمل هذه المسؤولية، ووزير الخارجية يريد
أخذ تفويض من زعماء ورؤوساء الأحزاب، ولا يتكلم باسم الحكومة فقط. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/316)
جمادى الآخرة - 1353هـ
أكتوبر - 1934م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من صاحب الإمضاء في بيروت
(س14 - 21) من صاحب الإمضاء في بيروت
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الكبير السيد
محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى وأدامه، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة
الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع بها
عامًّا ولكم الشكر:
(1) هل المطالبون بإنكار المنكر هم العلماء فقط دون غيرهم، أم جميع
الناس؟
(2) ما تعريف الكفر والإلحاد، وما حكمهما في الشرع الشريف؟
(3) هل يجوز ترجمة القرآن الكريم نفسه والأحاديث النبوية نفسها إلى
اللغات الأجنبية كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية والتركية أو غيرها أم لا؟
(4) هل يجوز كتابة القرآن الكريم على قواعد الإملاء الحديث أم لا؟
(5) ما قولكم فيمن يقول: لا أعتقد ولا أعمل إلا بالقرآن الكريم فقط، ولا
أعتقد ولا أعمل بالأحاديث النبوية ولو كانت صحيحة معتمدة أو غيرها، فهل هذا
يعد مسلمًا مؤمنًا أم لا؟
(6) ما قولكم فيمن يعتقد ويقول: إن القرآن الكريم هو كلام النبي صلى
الله عليه وسلم، وليس من كلام الله تعالى فهل هذا يعد مسلمًا ومؤمنًا أم لا؟
(7) هل صح ما يقول بعضهم: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
إلا اثنا عشر أو أربعة عشر حديثًا فقط أم لا؟
(8) هل جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مروية عنه باللفظ
والمعنى تمامًا أم بالمعنى فقط؟
(9) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز
اعتقادهما والعمل بهما أم لا؟ وما معناهما؟ وهما (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ
مقعده من النار) ، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وفي رواية أخرى (لا
طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر
والثواب.
... ... ... ... السائل: عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي، بيروت
(أجوبة المنار)
(14) المُطَالَب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور العارضة المعينة من فروض
الكفاية، وقد يتعين وينحصر في فرد إن لم يوجد غيره حيث يجب ويشترط فيه
العلم بما يأمر به أو ينهى عنه، بل كل عمل شرعي يشترط فيه العلم به لا العلم
بجملة علوم اللغة والشرع التي يعطى متعلمها شهادة رسمية بأنه عالم، فالفرائض
العينية والمعاصي القطعية المعلومة من الدين بالضرورة من شأنها أن يعرفها كل
مسلم، وهي أهم ما يجب الأمر بالمفروض منه كأركان الإسلام الخمسة والنهي عن
المنكر منه كالزنا والسُّكر والسرقة والخيانة والكذب والنميمة، وأما المسائل غير
المعلومة للعوام والخواص من المسلمين؛ فإنما يُطَالِب بها العالم بحكمها، وإذا قام
بها جمهور العوام والخواص من المسلمين، كان ذلك أعظم مؤدب لتاركي الفرائض
ومرتكبي المعاصي، وقد بيَّنا في تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) أن في
جملة قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} (آل عمران: 104) وجهين (أحدهما)
أنه يجب أن تتألف منكم جماعة تتعاون على القيام بهذه الواجبات، وهذه الجماعة
يجب عليها أن تدرس ما يتوقف عليه الأمر والنهي بجميع فروعه (وثانيهما) أن
معناها ولتكونوا أمة تدعو إلى الخير ... إلخ وكل من الوجهين صحيح، والثاني
عام للأفراد كل أحد فيما يعرفه ويقدر عليه (ويراجع التفصيل في الجزء الرابع،
من تفسير المنار) .
(15) تعريف الكفر والإلحاد
الظاهر أن مراد السائل بالكفر والإلحاد ما يقابل الإيمان والإسلام، وإلا فإنهما
قد يطلقان على بعض ما لا يُخْرِج صاحبه من الملة، فالمعنى العام الجامع لكل ما
ينافي ملة الإسلام هو تكذيب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، أو
تكذيب شيء مما علم المكذب أنه جاء من أمر الدين، وهو قسمان: الأول المجمع
عليه المعلوم من الدين بالضرورة ككون القرآن كلام الله تعالى، وتوحيد الله وتنزيهه
عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة كالدعاء والذبح والنذر له ...
إلخ، وكون محمد رسول الله وخاتم النبيين، وما أشرنا إليه في جواب السؤال
السابق من الفرائض والمحرمات القطعية، فهذا لا يعذر أحد بجهله إلا من كان
حديث العهد بالإسلام لم يمض عليه زمن كافٍ لتعلم هذه الضروريات منه، ومن
كان في حكمه كرجل أسلم في مكان أو بلد ليس فيه من المسلمين من يعلمه ذلك كله
وطال عليه الزمن وهو لا يعلم أن عليه واجبات أخرى ولا أنه يجب عليه الهجرة
مثلاً.
والقسم الثاني ما كان غير مجمع عليه، أو مجمعًا عليه غير معلوم من الدين
بالضرورة كبعض محرمات النكاح وأحكام المواريث مثلاً مما لا يعرفه إلا العلماء
فهذا يعذر من جهله، فإن علم شيئًا منه أنه من دين الله قطعًا صار حكمه حكم القسم
الأول بالنسبة إليه.
وحكم الكافر بهذا المعنى الذي فصلناه أنه لا يعامل معاملة المسلمين فيما هو
خاص بهم، وهو قسمان:
(1) كافر أصلي من كتابي ووثني، وكل منهما إما ذمي وإما معاهد وإما
حربي ولكل منهما أحكام.
(2) كافر مرتد وله أحكام أشد إذا استتيب ولم يتب، منها أن امرأته إذا
كان متزوجًا تَبِين منه ويحرم عليها أن تعامله معاملة الأزواج بمجرد ارتداده بأن
تفارقه وتخرج من داره، ومنها أنه لا يرث المسلمين ولا يرثونه، ومنها أنه إذا
مات أو قُتِل لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، وقد حدثت
في العام الماضي ثورة إسلامية في القطر التونسي لمنع المتجنسين بالجنسية
الفرنسية من دفن موتاهم بين المسلمين في مقابرهم؛ لأنهم مرتدون عن الإسلام
بما تقتضيه الجنسية الفرنسية من التزاوج والتوارث بأحكام القانون الفرنسي المخالف
لنصوص القرآن والسنة مما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فأرادت
الحكومة الفرنسية الحامية إجبار المسلمين على دفنهم في مقابرهم، وظاهرها بعض
المنافقين على هذا فخاب سعيها، وعجزت قوتها عن ذلك، وانتهى الأمر بإنشاء
مقبرة خاصة بهؤلاء المرتدين المصرين على كفرهم، بل لم ينته من كل وجه،
ففرنسة تريد إكراه المسلمين على مرادها، وقد حدث في هذا الشهر ثورة في تونس
من عاقبيل إرهاق فرنسة لزعماء المسلمين وخواصهم.
(16) ترجمة القرآن والأحاديث النبوية باللغات الأجنبية:
قد كتبت في الجزء التاسع من تفسير المنار (ص 331 - 363) بحثًا
طويلاً في استحالة ترجمة القرآن ترجمة صحيحه تؤدي معانيه أداءً تامًّا كما تفهم من
لغته العربية وعقائده الإسلامية، وفي تحريم ترجمته ترجمة تعطي حكم الأصل
العربي المنزل من وجوب اعتقاد أنه كلام الله تعالى، وأنه يُتَعَبَّد بتلاوته في الصلاة
وغيرها كما فعلت الحكومة التركية الكمالية، وقد طبعنا هذا البحث في رسالة
مستقلة، ثم كتبنا مقالاً آخر في الرد على من زعم جواز ذلك من المتهوكين انتصارًا
للحكومة التركية.
وأما ترجمة القرآن ترجمة معنوية تفسيرية على غير الصفة المذكورة آنفًا فله
من المجوزات ما قد يصل إلى حكم الوجوب الكفائي، وأظهرها تصحيح الترجمات
الكثيرة له في اللغات المشهورة المُحَرِّفَة لمعانيه، المشوهة لمحاسنه، التي جُعِلَتْ
وسائل للطعن عليه وبغيه عوجًا، وهو الدين القويم والصراط المستقيم، ومن هذه
الترجمات ما تعمد فاعلوها بعض هذا التحريف والتشويه، ومنها ما وقع بجهلهم
وعجزهم، وقد بينت في مقدمة كتاب الوحي المحمدي أن أشهر مترجميه من
الفرنسيس والإنكليز المعاصرين اعترفوا بأنه معجز ببلاغته، وأن إعجازه يدخل
فيه استحالة ترجمته كأصله.
وأما الأحاديث فلا أعلم أن أحدًا قال بتحريم ترجمتها، وجميع مسلمي الأعاجم
يترجمونها.
(17) كتابة القرآن بالرسم العرفي:
المعروف المشهور أن علماء الملة متفقون على وجوب كتابة المصاحف
بالرسم الذي كتبها به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليها، وقد مست
الضرورة لطبع مصحف مفسر بالرسم العرفي ليقرأه الجماهير قراءة صحيحة غير
محرفة ويفهموه؛ إذ عُلِمَ بالتجربة أن أكثر الناس يخطئوا في القراءة في هذه
المصاحف إلا من تلقاها من القراء وقليل ما هم، وسئلنا عن ذلك فأجبنا عنه بما
رأيتموه في الجزء الثاني من منار هذه السنة من الجواز وتعليله.
(18) حكم من يقول: إنه لا يعتقد ولا يعمل إلا بالقرآن دون الأحاديث:
إن الإيمان بالقرآن، والعمل بما أمر الله تعالى وما نهى عنه فيه يستلزم
الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عنده تعالى، ووجوب طاعته
بمثل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) وهذا الأمر
مكرر في عدة سور وفي معناه آيات أخرى كقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومن المعلوم بنصوص القرآن، وبإجماع الأمة أن
الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلام الله والمنفذ له كما قال تعالى:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) .
فمن يقول: إنه لا يعتقد أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي بين بها القرآن
وبلغ بها الدين واجبة الاتباع، وإنه يستحل معصيته صلى الله عليه وسلم فيما صح
عنه أنه أمر به أو نهى عنه من أمور الدين، وإن أجمع المسلمون على تلقيه عنه
بالتواتر كعدد ركعات الصلوات وركوعها وسجودها، وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفًا
في الفتوى (15) وإنما يعتقد ويعمل بما يدله عليه ظاهر القرآن فقط - من قال هذا
لا يُعتد بإيمانه ولا بإسلامه؛ فإنه مشاق للرسول غير متبع لسبيل المؤمنين، بل
متناقض يريد بهذا القول جحود الإسلام وتركه من أساسه، فالله تعالى يقول:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) .
ولكن إن أراد أنه غير مكلف أن يعرف هذه الأحاديث المدونة ويعمل بها كلها،
أو بما صححه المحدثون منها؛ فإن قوله حينئذ يكون موهمًا لا نصًّا في استباحة
عصيان الرسول فيما علم أنه جاء به من أمر الدين، فلا يحكم عليه بالكفر
والخروج من الملة حتى يبحث معه في مراده من كلامه؛ فإن أئمة المسلمين لم يقل
أحد منهم بوجوب العلم بما في كتاب من كتب الحديث، وكان موطأ الإمام مالك
رحمه الله تعالى أولها تدوينًا واستأذنه الخليفة العباسي في نشره في الأمة وأمر
الناس بالعمل به، فلم يأذن له كما بيَّنا ذلك مرارًا.
وجملة القول أن المعتمد في التكفير القطعي ما أجملناه في الفتوى (15)
ومما لا شك فيه أن من يعتقد أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من دين
الله واستحل من هذا عصيانه فيه بدون تأويل يكون كافرًا.
(19) حكم من يعتقد أن القرآن الكريم كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا
كلام الله:
من يعتقد هذا يكون كافرًا بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ولما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة والإجماع، ولا فرق
بين من يطلق القول بهذا، ومن يزعم أن معاني القرآن وحي من الله أنزلت على قلب
النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عبارته وألفاظه فهي من النبي صلى الله عليه
وسلم، فقد أجمع المسلمون على أن القرآن أُنْزِل عليه صلى الله عليه وسلم بهذا
النص العربي المكتوب في المصاحف كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ *
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) فإن قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء:
195) متعلق بقوله (نزل) لا المنذرين؛ فإن المنذرين هم الرسل السابقون، ولم
يكن إنذار كل منهم بلسان عربي مبين، بل كان كل منهم ينذر قومه بلسانهم كما قال
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4)
والآيات المصرحة بنزول القرآن باللغة العربية معروفة في سور يوسف والرعد
وطه والزمر وفصلت والشورى والزخرف والأحقاف، وأما الآيات والدلائل على
أن القرآن منزل من عند الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له منه إلا تبليغه
بنصه العربي المنزل، وبيان معانيه وتنفيذه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان عاجزًا
كغيره من البشر عن الإتيان بمثله، فقد بيناها في تفسير سورة يونس وسورة هود
بأكثر مما فصلناها في كتاب الوحي المحمدي
(20) من قال: إنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا 12 أو 14
حديثًا:
هذا القول غير صحيح، بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ؛ وإنما قيل هذا أو ما
دونه في الأحاديث التي تواتر لفظها.
(21) رواية الأحاديث باللفظ وبالمعنى:
بعض الأحاديث مروية بلفظها الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم ولا
سيما القصيرة، وأكثر أقواله صلى الله عليه وسلم مختصرة كما قال: (أعطيت
جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا) ، رواه أبو يعلى من حديث عمر
رضي الله عنه وحسنوه، وناهيك بما اشتهر به العرب من قوة الحفظ، وكذا غيرهم
من الأمم الذين يعتمدون على الحفظ قبل الكتابة، وروي كثير منها بالمعنى لما نرى
في الصحاح وغيرها من اختلاف في ألفاظ الرواية للحديث الواحد الذي لا يحتمل
تعدد موضوعه، وصرح به المحدثون والأصوليون، واشترطوا في قبول المروي
بالمعنى جودة فهم الراوي وحسن ضبطه.
(22) حديثا (من كذب علي متعمدًا) ... إلخ، و (لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق) :
هذان الحديثان صحيحان، بل الأول منهما متواتر بلفظه رواه أصحاب
المسانيد والصحاح والسنن عن عشرات من الصحابة والمهاجرين والأنصار وبما
يزيدون على سبعين صحابيًّا، ورواه غيرهم أيضًا عن آخرين، وفي رواية للإمام
أحمد عن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا (من كذب علي فهو في النار) ولأجل هذا
كان بعض كبار الصحابة يمتنعون من التحديث عنه صلى الله عليه وسلم حتى
بعض المبشرين بالجنة كالزبير رضي الله عنه خشية أن يخطئ أحدهم في الرواية
فيناله الوعيد؛ ولكن هذا لم يمنع بعض الذين عُرِفُوا بالصلاح من تعمد الكذب عليه
صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث كثيرة في الترغيب والترهيب (والثاني) رواه
باللفظ الأول في السؤال أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري
وصححوه، وباللفظ الثاني أحمد والشيخان ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي
رضي الله عنه.
* * *
جناية حديثية وخيانة دينية
للشيخ يوسف النبهاني
بهذه المناسبة أنبه قراء المنار لاتقاء الاعتماد على أحاديث كتاب (الفتح
الكبير، في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير) المطبوع بمصر سنة 1350؛ فإن
الشيخ يوسف النبهاني الدجال المشهور جمع أحاديث الجامع الصغير والزيادات عليه
وحذف منه رموز المؤلف للأحاديث الصحاح والحسان والضعاف؛ ليتوهم المطلع
عليه أن كل ما فيه صحيح أو مقبول يحتج به على أن تلك الرموز لم تكن كافية
للتمييز بينها.
__________(34/355)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مباحث الربا والأحكام المالية
(تابع لما في الجزء السادس م 33 ص 449)
ولفظ الحديث عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على
خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر
خيبر هكذا؟) قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين من
الجمع والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، بع
الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) [1] وليس في هذا حيلة؛ وإنما هو نهي
عن شراء التمر بالتمر متفاضلاً، وأمر ببيع كل نوع منه، وابتياعه بالدراهم وهذا
الأمر عام مطلق في جميع البيوع، وهو أن يكون لكل شيء من الأشياء المختلفة
ثمن تقدر به، وتقصد به الثمنية المعينة ليكون ميزانًا لتقدير سائر الأشياء به،
ومعرفة نسب بعضها إلى بعض، فشراء التمر الرديء الكيل بخمسة دراهم،
والجيد من نوع كذا بعشرة دراهم، يجعل لكل من النوعين ثمنًا معينًا تعرف به نسبة
أحدهما إلى الآخر، فليس في هذه الصفة مخالفة للشارع في صفة العقد ولا حكمته
في تحريم الربا، ولا في أكل أموال الناس بالباطل، وقد يكون له صورة تشبه
الحيلة، وهو أن يكون أحد رجلين عنده تمر جيد، وآخر عنده رديء وكل منهما
محتاج إلى ما عند الآخر لولا منع المبادلة لتبادلا بهما؛ فيشتري كل منهما ما عند
الآخر بالثمن.
هذا وإن العلامة المحقق ابن القيم قد أحصى كل ما استدل به القائلون بجواز
الحيل من الآيات والأحاديث والقياس ومسألة العقود والشروط فيها، ومسألة
المخارج من الحرج وما زيد عليها، ورد عليهم ردًّا قويًّا سديدًا شديدًا مفصلاً
تفصيلاً، وأورد من فروع مفاسدها ما هو كفر ورِدَّة عن الإسلام [2] ، وما هو من
كبائر الفسوق والعصيان، فأغناني ذلك عن الإطالة في هذه المسالة بعد أن كنت
عازمًا عليه.
وحسبي أنني بينت تحقيق الأصل الذي يرجع إليه كل شيء في هذا الباب
وهو وجوب المحافظة على حكمة الشارع في تحريم الربا كغيره، وعلى نصوص
الشارع فيه مع التفرقة بين القطعي منها وغير القطعي، كما بينت أن قواعد الفقهاء
وتعريفاتهم وضوابطهم ومدارك الأحكام في مذاهبهم ليست تشريعًا دينيًّا يجب على
الأمة أخذه بالتسليم والعمل به؛ وإنما هو مسائل اجتهادية وضوابط فنية يصدق
عليها كلها كلمة الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا
صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأزيد هذه المسألة
بيانًا أيضًا في فصل آخر.
* * *
حكمة النهي عن ربا الفضل
بقي عليَّ هنا بيان مسألة مهمة، وهي أن قاعدة اليسر ورفع الحرج من أحكام
الإسلام مسألة قطعية ثابتة بنص القرآن وصريح السنة وإجماع الأمة، وأن مسألة
ربا الفضل في بعض فروعها من العسر والحرج والخروج عن المعقول في حكمة
التشريع ما يشق معه المحافظة على نصوصها وحكمتها معًا؛ لأن حكمتها غير
ظاهرة. ولذلك قال بعض كبار العلماء: إنها تعبدية، والتعبد في هذه المعاملات
المالية غير معقول أيضًا؛ إذ لا يظهر فيه معنى من معاني التعبد التي تزيد المؤمن
إيمانًا بالله تعالى ومعرفة بجلاله وكماله ورحمته وعدله وحكمته؛ ولذلك يرى كثير من
المؤمنين المتقين أنفسهم مضطرين إلى التماس المخرج من بعض أحكامه بالحيلة،
ويفرقون بين المخارج الباطلة التي يحتال بها مرضى القلوب وضعفاء الإيمان على
ربا النسيئة القطعي الدال على القسوة واستباحة أكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك
من المعاصي والمخارج الصحيحة المشار إليها بقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل
لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2)
وإنني أعتمد في هذه المسألة على ما حققه العلامة ابن القيم في حكمة تحريم
ربا الفضل؛ إذ لم أر أحدًا وفق لما وفق له من ذلك، وقد كنت نقلت في الصفحة 73
و74 ما قاله هذا المحقق من الفرق بين ربا النسيئة، وربا الفضل في كتابه (أعلام
الموقعين) وحكمة تحريم كل منهما بالإجمال، فأما حكمة تحريم ربا النسيئة وهو ما
فيه من الضرر العظيم فلا شبهة فيه، وأما حكمة تحريم ربا الفضل فقد نقلت عنه
أنه قال: إنها كونه ذريعة لربا النسيئة. ولم أذكر بيانه التفصيلي له، وهذا موضعه
فأنقله عنه بنصه وأعيد خمسة أسطر مما نقلته هنالك في آخر ص74 وهو:
(قال) الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي الذهب
والفضة والبُر والشعير والتمر والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع
اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من
يروى هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته
مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم
تظهر فيه علة امتنع القياس. (وطائفة) حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا
مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة. (وطائفة) خصته بالطعام [3] وإن
لم يكن مكيلاً ولا موزونًا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد - (وطائفة)
خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزونًا، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن
أحمد وقول للشافعي. وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه [4] ، وهو قول مالك وهو
أرجح هذه الأقوال كما ستراه.
وأما الدراهم والدنانير (فقالت طائفة) العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا
مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة (وطائفة) قالت: العلة فيهما
الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى (وهذا هو الصحيح
بل الصواب) فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد
وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا؛
فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا
انتقضت من غير فرق مؤثر دل [5] على بطلانها، وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه
مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية؛ فإن الدراهم والدنانير أثمان
المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون
مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذا كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن
نعتبر به بالمبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات
حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا
بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة
يرتفع وينخفض؛ فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت
من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم
الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به
الأشياء، ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم
والدنانير مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسرة، أو خفافًا ويأخذ ثقالا أكثر منها
لصارت متجرًا، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها
بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد
أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات.
(فصل) وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من
حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن
مُنِعُوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من
بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً، وإن اختلفت صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها
مع اختلاف أجناسها.
وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوَّز بيع بعضها ببعض نسأ لم يفعل ذلك أحد إلا
ربح، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج
ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل
العمود والبوادي؛ وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم
وحكمته أن منعهم من ربا النسأ فيهم كما منعهم من ربا النسأ في الأثمان؛ إذ لو جوَّز
لهم النسأ فيها لدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) [6] فيصير الصاع الواحد لو
أخذ قفزانًا كثيرة ففطموا عن النسأ، ثم فطموا عن بيعها متفاضلاً يدًا بيد؛ إذ تجرهم
حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نسأ وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف
الجنسين المتباينين؛ فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة، ففي إلزامهم
المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه، وفي تجويز النسأ بينها ذريعة إلى (إما
أن تقضي وإما أن تربي) فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدًا
بيد كيف شاؤوا؛ فحصلت لهم مصلحة المبادلة واندفعت عنهم مفسدة (إما أن تقضي
وإما أن تربي) وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نسأ؛
فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو مُنِعُوا منه لأضر بهم، ولامتنع السلم الذي هو من
مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم
حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نسأ، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا،
فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة،
ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبًا إلى مفسدة راجحة.
(يوضح ذلك) أن من عنده صنف من هذه الأصناف، وهو محتاج إلى
الصنف الآخر؛ فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا) أو تبيعه بذلك
الصنف نفسه بما يساوي، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما إذا
أمكن من النسأ؛ فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛
لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره؛ فينشأ من النسأ
تضرر بكل واحد منهما، والنسأ ههنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف
واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد، وإذا تأملت ما حرم فيه النسأ رأيته إما صنفًا
واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبُر والشعير
والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النسأ كالبُر والثياب والحديد والزيت.
(يوضح ذلك) أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة
فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته، فمُنِعُوا من ذلك حتى مُنِعُوا
من التفرق قبل القبض؛ إتمامًا لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين
قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر، وكما يفعل
أرباب الحيل يطلقون العقد، وقد تواطؤوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح
وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها
إليه بدون ذلك الثمن، فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالاً، وأخروا
الطلب لأجل الربح؛ فيقعوا في نفس المحذور.
(وسر المسألة) أنهم مُنِعُوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يُفْسِد
عليهم مقصود الأثمان، ومُنِعُوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد
عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر
ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع أن لا يفاضل
بينهما، ولهذا قال: (تبرها وعينها سواء) فظهرت حكمة تحريم ربا النسأ في
الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد،
وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة.
وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا؛ فإن ما حُرِّم سدًّا
للذريعة أخف مما حُرِّم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت
صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره
عبادة على معاوية؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز
كآلات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما
أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها؛ فإنه سفه
وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به، ولا
تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز
بيعها بجنسها ألبتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما
تنفيه الشريعة؛ فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من
ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببُر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج
إليه؛ إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع، وقد جوَّز الشارع بيع
الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو
الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه
بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر
تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة
في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية. ولا سيما فإن لفظ
النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: (الدراهم
بالدراهم والدنانير بالدنانير) وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) والرقة هي
الورق، وهي الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة؛ فإن حمل المطلق
على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين، وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك
نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري في بعض
صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها.
(يوضحه) أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب
والسلع لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين
الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها؛
فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها
بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) إلا كما يدخل في سائر السلع إذا
بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها؛ لكن لو سدَّ على الناس ذلك لسد
عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر.
(يوضحه) أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون
الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها، ومن المعلوم
بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعًا أنها لا تباع
بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارًا، ولم يكن
عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله، وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد
رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس.
(يوضحه) أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا
بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف.
(يوضحه) أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه، وما
حُرِّم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما
أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب
والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب
والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما
تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر
من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة.
فهذا محض القياس، ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به
أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة
الصناعة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها، وإذا كان أرباب الحيل
يجوِّزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في
مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة؟ وكيف
تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالة بإباحة
هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر والمصلحة، والذي يقضي
منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة حتى منعوا بيع رطل زيت برطل
زيت، وحرموا بيع الكسب بالسمسم وبيع النشا بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب ونحو
ذلك، وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاؤوا إلى ربا النسيئة وفتحوا
للتحليل عليه كل باب، فتارة بالعينة، وتارة بالمحلل، وتارة بالشرط المتقدم
المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكاتبون
والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصود، وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة
بعشرة نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا
فعلوا هنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وقالوا: قد يُجْعَل وسيلة
إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر؛
فيقع التفاضل.
فيا لله العجب! كيف حُرِّمَت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وأُبيحت تلك
الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا؟ وأين مفسدة بيع الحلية
بجنسها، ومقابلة الصناعة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي
أساس كل مفسدة، وأصل كل بلية؟ وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل
ما شاء، وبالله التوفيق.
(فإن قيل) الصفات لا تُقَابَل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة
الجيدة بأكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولمَّا أبطل
الشارع ذلك عُلِم أنه مُنِعَ من مقابلة الصفات بالزيادة.
(قيل) الفرق بين الصنعة التي هي أثر الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق
عليها الأجرة، وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها، ولا هي من
صنعه، فالشارع من حكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك يفضي
إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل؛ فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر،
والعلة أن لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من
كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جوَّز لهم مقابلة الصفات بالزيادة، لم يحرم عليهم ربا
الفضل، وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه.
(يوضحه) أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها
مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها؛ إذ لا فرق بينهما في ذلك.
(يوضحه) أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بِعْ هذا المصوغ
بوزنه واخسر صياغتك [7] . ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها. ولا يقول
له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل قط: لا تبعه إلا
بغير جنسه. ولم يُحَرِّم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه.
(فإن قيل) فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في
الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في مقابلة
صناعة الضرب، قيل: هذا سؤال قوي وارد.
(وجوابه) أن السَّكَّة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها؛
فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، وإن كان الضارب يضربها بأجرة؛
فإن القصد بها أن تكون معيارًا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير
مقابلة بالزيادة في العرف، ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة
التي ضربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة، واحتاجت إلى التقويم بغيرها، ولهذا
قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وأخذ الرجل الدراهم ورد نظيرها وليس
المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافًا ويرد خمسين ثقالاً بوزنها، ولا
يأبى ذلك الآخذ ولا القابض، ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئًا، وهذا بخلاف
المصوغ، والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا درهمًا واحدًا، وأول من
ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان؛ وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار.
(فإن قيل) فيلزمكم على هذا أن تجوِّزوا بيع فروع الأجناس بأصولها
متفاضلاً، فجوَّزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلاً، والزيت بالزيتون والسمسم
بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضًا.
(وجوابه) أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع، أو تكون الصورة المحرمة
بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها؛ والثلاثة منتفية في فروع
الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا
يساويها في إلحاقها بها، وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتًا لم
يكن من الربويات، وإن كانت قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، وحرم بيعه بجنسه الذي
هو مثله متفاضلاً كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز، ولم يحرم بيعه بجنس آخر، وإن
كان جنسهما واحدًا فلا يحرم السمسم بالشيرج، ولا الهريسة بالخبز؛ فإن هذه
الصناعة لها قيمة لا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا
سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا حرام إلا ما حرمه الله، كما أنه لا عبادة إلا ما
شرعها الله، وتحريم الحلال كتحليل الحرام. اهـ المراد منه.
(للموضوع بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تقدم أن الجمع هنا التمر الرديء، والجنيب نوع من التمر الجيد.
(2) منها ما وقع في زماننا وهو ارتداد المرأة المتزوجة عن الإسلام لأجل إفساد عقد نكاحها من زوجها الذي تكرهه والعياذ بالله.
(3) ما بين القوسين ثابت في النسخة المطبوعة في مصر دون المطبوعة في الهند.
(4) المراد بما يصلحه الملح، فإن حل محله غيره كان له حكمه.
(5) أي: دل انتقاضها على بطلانها.
(6) هذه الجملة عنوان ربا النسيئة المحرم لذاته في القرآن، ومعنى دخولها فيه أنه عندما يحل الأجل الأول يطالب الدائن المدين بقضاء الدين أو الزيادة فيه إلى أجل آخر؛ فإن لم يجد ما يقضي زاده في العين من نقد أو طعام لأجل التأخير وهو النسيئة كما تقدم مكررًا، وبهذا يكون ذريعة لها ولأجلها نهي عنه.
(7) قد تزيد دقة الصنعة في ثمن الصيغة أضعاف ثمن مادتها من الذهب أو الفضة، وفي لفظ الصياغة المكرر هنا نسخة أخرى الصناعة.(34/362)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الوحي المحمدي
دعوتي إلى انتقاده، وذات بيني وبين صديقي الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس
تعودت من سن الشباب وعهد طلب العلم أن أسأل خاصة أصدقائي عما
ينتقدون مني؛ لأستعين به على تربية نفسي وأن أنتقدهم كذلك بحرية وإخلاص، ثم
جريت على هذه العادة في مجلة المنار، فأنا أقترح على قرائها في كل عام أن يكتبوا
إليّ ما ينتقدون فيها، وأذكر في أثناء العام، أو في آخره ما يرد إليّ من ذلك وأبين
رأيي فيه.
ولما جمعت بحثي المطول في (الوحي المحمدي) في كتاب مستقل، وختمته
بدعوة شعوب الحضارة العصرية إلى الإسلام، سألت خواص العلماء من أصدقائي
وأذكياء تلاميذي عن رأيهم فيه، وما ينتقدونه منه؛ لاعتقادي أنه لا بد أن يعاد
طبعه فأكون على بصيرة فيما ينبغي له من تنقيح أو إيضاح أو زيادة أو نقصان،
وأول من سألتهم ذلك بالمكاتبة جلالة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين صاحب
اليمن فقرَّظه بما نشرته في أول التقاريظ ولم ينتقد شيئًا منه، وأول من سألتهم ذلك
بالمشافهة أكبر علماء مصر العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الأزهر والمعاهد الدينية بالأمس، ثم العلامة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد
سليم مفتي الديار المصرية، فأما الأول فلم ينتقد شيئًا من مسائله، بل سألته: أترى
بحث الآيات وخوارق العادات طويلاً يحسن اختصاره؟ قال: كله ضروري لا
يُحْذَف منه شيء. وبيَّن رأيه في جملته بكتابه الوجيز البليغ الذي كتبه إليّ عقب
مطالعة الكتاب، ونشرته فيما اخترته من التقاريظ للطبعة الثانية، وأما الثاني فكان
بيني وبينه محاورة طويلة في مسألة وجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين
ووجوب تدبر القرآن؛ فإنه أنكر إطلاقي الكلام في هذا الموضوع بما يُفْهَم منه جعله
ذلك واجبًا عينيًّا، ووافقه فيه صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني،
وقد اقتنعا بعد طول البحث بأن أقل الواجب وجوبًا عينيًّا على أفراد الأعاجم هو ما
يتلى في الصلاة، وأن ما فوق ذلك من العلم بالقرآن ولغته، فهو من فروض الكفاية
التي يجب على أولي الأمر نشرها والسعي لتعميمها، وكذا من قدر عليه من الأفراد
والجمعيات.
وكان صديقي العلامة الأستاذ الشيخ عبد الله بن علي بن اليابس ممن أهديتهم
الكتاب وسألتهم إبداء رأيهم لي فيه بعد مطالعته، وكنت أحرص على الوقوف على
رأيه؛ لأنه تلقى العلم أولاً في نجد وحذق طريقتهم السلفية المأثورة عن مشايخهم في
اتباع الآثار، ثم عرف طريقة علماء مصر في التدريس والبحث والاستدلال،
وألف أسلوب المنار ونهجه في تأييد السلف تجاه الماديين، ودعاة النصرانية
والمتكلمين والمبتدعين، فصار أعرف بالحاجة إلى هذا من علماء بلاده المقيمين
فيها، وأرى من المفيد له أن يتمرن على الانتقاد، ويتعود سماع الرد الحر عليه مع
حسن النية من الجانبين، وقد قصدت هذا، فقرأ الكتاب بقصد البحث فيه عما يسهل
انتقاده، ثم جاءني وذكر لي ما أحصاه منه، فأجبته عنه أجوبة مختصرة لم يقتنع
بها، قلت له مرغبًا في الكتابة: لعلك لو كتبت هذه المسائل، وعُنيت بإقامة الدليل
عليها يتجلى لك الصواب، والتمييز بين الغث والسمين؛ لأن الاستدلال بالكتابة
يخرج الكاتب من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، فكتب فأطال كأنه يناظر خصمًا
ليقنعه أو يفند مذهبه.
جاءني بما كتب فلم أملك من الفراغ ما أقرؤه، وأبين له رأيي فيه، وهو كل
ما كنت أريده، ورأيته يبغي نشره، فألقيته إلى المطبعة، ولم أقرأه، فجمع لينشر
في باب الانتقاد على المنار المفتوح على الدوام، وفهمت من رغبته في نشره أنه
واسع الحرية لا يسوءه أن يرد عليه ويدان كما يدين، وأنا أظن أنني من أوسع أهل
هذا العصر صدرًا لمثل هذا؛ لأنني ألفته من أول النشأة ورسخ معي في مصر،
وأهلها أوسع أهل الشرق حرية.
ثم إنني قرأت ما كتبه مجموعًا بحروف المطبعة عندما جاء وقت نشره بحسب
الترتيب الذي جريت عليه، ورأيت أنني مضطر للرد على كل ما قاله من المسائل
وأدلتها، فندمت أن وعدت بنشره، كارهًا أن يظهر في المنار هذا الخلاف بيني
وبين صديق كريم، وأخ وديد من قوم أحبهم ويحبونني، وقد علمت منه أنه مثلي
يكره أن نظهر بمظهر الخلاف، وكان مقتضاه أن يختصر في بيان المسائل التي
انتقدها، وفي مطالبتي بالدليل عليها، وإذًا لذكرتها مع دليلي عليها بالإيجاز كما
فعلت في كل انتقاد؛ ولكنه أطال وأكثر السؤال، فصار تطويل الرد حتمًا لا مناص
منه فكان.
وقد ساءني أن رأيت الرد ساءه، ونزغ الشيطان بيني وبينه، وكان ذنبي أن
دعوته إلى النقد ونشرته له، وكان ذنبه أن أسرف فيه فخرج به عن المطلوب وهو
التنبيه لما يحتاج إلى تصحيح أو تنقيح، إلى التفنيد ومناظرة الخصوم، ونحمد الله
أن كنا ببركة الإخلاص وحسن النية فيما أخطأنا فيه ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:
201) .
زارني فبثني الشكوى من ثقل وطأة الرد، وحمله إياه على تزوير مقال طويل
في الرد عليه، فتفكيره بأن هذا لا يليق بمثلنا في صداقتنا وحسن نيتنا، فترجيحه
لاطلاعي على رأيه الأخير فيه، وتفويضه إلى أمر تلافيه، فشكرت له ذلك وقبلته
فأقول:
إن بعض انتقاد الأستاذ كان من سوء الفهم لا سوء القصد، أو عن اختلاف
في الاجتهاد والرأي، وبعضه كان من ناحية البيان والتعبير عنه، وكل منا في هذا
سواء.
فأما اعتراضه على مسألة الرق والسبي فقد أورده على عبارة الطبعة الأولى
من كتاب الوحي وكانت مختصرة مجملة قابلة للاعتراض؛ لأنها غير مؤدية للمراد
وكان ينبغي أن يطلع على عبارة الطبعة الثانية إذ كانت صدرت قبل أن يكتب؛
ولكنه قال: إنه لم يكن قد اطلع عليها. وهو صادق.
وكذلك مسألة كلام الله قد بسطتها في الطبعة الثانية بسطًا لا شبهة عليه عنده
كما قال، على أنني كنت بسطتها في مواضع من التفسير بما هو أوسع مما في
الطبعة الثانية أيضًا؛ ولكنه لم يره أو لم يتذكره.
وأما مسألة القتال وآية الأمر به مع النهي عن الاعتداء، وكون غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم كلها كانت دفاعًا، فقد كان أكبر أسباب الخلاف بيننا في أصلها
دون بعض فروعها اختلاف فهم المراد من الدفاع والاعتداء، وما كانت عليه الحال
في عهد ظهور الإسلام، وفي هذا العصر أيضًا؛ فإنني رأيت الكثيرين من العلماء
- دع العامة - يفهمون أن الاعتداء أو الابتداء بالحرب يعتبر بالهجوم في كل واقعة
أو معركة أو أخذ غنيمة، ومن ثم يعدون بعض الغزوات والسرايا في صدر الإسلام
دفاعًا، وبعضها اعتداءً أو هجومًا، وهذا خطأ مخالف لعرف العرب وسائر الأمم
وللواقع، والحق أن المعتدية من الأمتين أو الدولتين هي المبتدئة بالعدوان المنشئة
لحالة الحرب، والمدافعة هي المقابلة لها، وإن كانت في أثناء حالة الحرب تغنم
وتهاجم ما استطاعت، ومن المعلوم بالقطع أن قريشًا وسائر قبائل العرب قد عادوا
النبي صلى الله عليه وسلم واعتدوا عليه وعلى من آمن معه منذ أعلن دعوتهم إلى
الإسلام، ومن المعلوم أيضًا أن حالة الحرب بين فريقين لا تزول إلا بمعاهدة، وما
عقدت المعاهدة بين المؤمنين والمشركين إلا في الحديبية أو آخر سنة ست للهجرة،
ولم يلبث المشركون أن نقضوها فعادت حالة الحرب فأباحت للنبي صلى الله عليه
وسلم فتح مكة سنة ثمان، وما تلاها من غزوة حنين والطائف، ونزل في ذلك ما
نزل من الآيات في أول سورة التوبة التي منها ما يسمونه آية السيف، ومن حججها
قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) ولم يحط الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس فهمًا بمرادي
هذا إلا بالمشافهة الأخيرة، فزال الخلاف في الأصل، ولم يبق حاجة إلى البحث
في فروعه والتعبير عنه.
وأما آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (البقرة:
190) فقد بينا في تفسيرها من جزء التفسير الثاني أنها وما بعدها نزلت في القتال
في الشهر الحرام، وسببها معروف فصلناه هنالك.
وأما مسألة اشتراط المرأة في عقد نكاحها حق عصمتها؛ أي: تطليق نفسها فهو
لا يزال يرى أنه لا يصح، وهو يخالفنا ويخالف من سبقنا إلى تقرير أن الأصل في
العقود والشروط الصحة فيما لم يخالف حكم الله؛ عملاً بإطلاق قوله تعالى: {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وأقواهم حجة وبيانًا فيه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن
القيم، ويقول: إنه خلاف في الاجتهاد: له اجتهاده وإن لنا اجتهادهم واجتهادنا.
وأما مطالبته إيانا بحديث، أو بخبر صحيح على تعيين يوم مولد النبي صلى
الله عليه وسلم، فيقول: إنه يعني به الخبر التاريخي، لا الخبر المرفوع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم بمراده سواء وافق ما فهمناه من عبارته أو خالفه.
وجملة القول أننا قد تعارفنا بعد تناكر عارض ضعيف لم يلبث أن زال ولله
الحمد، ولولا حرصي على دوام صداقته ومودته وإعلام من قرأ نقده، وردي عليه
أنه لم يحدث بيننا أقل هجر ولا تقاطع، لما كتبت هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/372)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية
في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي
(تابع لما قبله في ج 4)
(الوجه الثالث النقلي المسيحي) أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح عليه السلام
أنه أنبأ بظهور أنبياء كذبة من بعده، ووضع قاعدة كلية للتمييز بين الصادقين
والكذبة، وهي قوله: من ثمارهم تعرفونهم.
فليخبرنا كاتب مجلة المشرق وآباؤها عن نبي له من ثمار الخير والبر التي
اعترفوا بها عرضًا، وهو قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير من ثمار محمد
صلى الله عليه وسلم التي اهتدى بها الملايين من البشر.
ويؤيد هذه القاعدة كثير من الدلائل الخارجية على نبوته صلى الله عليه وسلم،
منها شهادات كتب العهدين العتيق والجديد له بما فصلناه في تفسير المنار،
وبسطه غيرنا بتفصيل أوسع كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق،
ومنها شهادة من آمن به من علماء اليهود والنصارى، وغير ذلك مما لا محل لإيراد
الشواهد عليه هنا.
بعد هذا نقول لهم: إنه ليس لكم أدلة خارجية على كون هذه الرسائل التي
تسمونها اليوم بالأناجيل كتبت بوحي ولا إلهام؛ وإنما رأينا في كتبكم أنكم تستدلون
على صدقها بدليل داخلي لا يدل عليه، وهو أنها لو لم تكن صادقة لكان كاتبوها من
الكذبة الأشرار؛ وهذا لا يعقل، وخصومكم لا يسلمون هذا لكم؛ إذ يمكن أن يقال
أيضًا: إنه يجوز أن يكونوا غير متعمدين للكذب ولا متحرين للصدق، ويجوز أن
يكون قد دس حزب قسطنطين وغيره شيئًا في كتبهم؛ إذ ليس عندكم نقل متواتر
بالأسانيد المتصلة إليهم كما سيأتي، على أنه لو صح هذا الدليل لكنا أولى به منكم،
وإن كنا لا نحتاج إليه مثلكم؛ لأن عندنا ما هو أصح منه وأقوى.
***
الشبهة الثالثة
في الشهادة الخارجية على وحي القرآن
نحن لم نقتصر في كتاب الوحي المحمدي على الأدلة الباطنية والشهادات
الداخلية على كون القرآن كلام الله تعالى كما زعم معترض مجلة المشرق، بل
أوردنا كثيرًا من الشهادات الخارجية، والأدلة العقلية والعلمية في الطبعة الأولى،
ولما رأيت مثل هذه الشبهات الكاثوليكية الجزوتية زدتها بيانًا في الطبعة الثانية
أكثرها في فاتحتها، وفي الفصل الأول الذي زدته فيها، ومنها أنني أوردت على
النصارى ما نقلوه عن المسيح عليه السلام من الشهادة لنفسه، وشهادة غيره له، فقد
نقل عنه يوحنا أنه قال: (5: 31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا 32 الذي
يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق 33 أنتم أرسلتم إلى
يوحنا فشهد للحق) ثم روى عنه (8: 13 فقال له الفريسيون: أنت تشهد لنفسك
شهادتك ليست حقًّا 14 فأجاب يسوع وقال لهم: (وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي
حق) نقلت هذا في سياق شهادة الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله:
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 166) .
ومن شهادة الله تعالى له ما أيده من المعجزات، وأظهرها بعد القرآن وما فيه،
منها أنباؤه عن المستقبل الذي يسمونه بالنبوات، كاستيلاء أتباعه على ملك كسرى
وقيصر وهم في أشد أوقات الفقر والضعف كوقت غزوة الخندق؛ إذ تألبت عليهم
قبائل المشركين مع اليهود، وهجموا عليهم في مدينتهم يريدون استئصالها فأيد الله
المؤمنين بريح وجنود من الملائكة لم يروها، وقذف في قلوبهم الرعب، وردهم
بغيظهم لم ينالوا خيرًا {وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: 25) كما هو
مفصل في أول سورة الأحزاب.
***
مطاعن النصارى على القرآن
قال كاتب مجلة المشرق بعد إيراد تلك الشبهات النحيفة السخيفة: (هذا وإذا
كان الكلام على كتاب فيه ما فيه من العيوب رغم ما يحويه من محاسن الجمال
وأساليب البيان، فلا بد من القول: إن ذلك الكتاب لا يمكن أن يُنْسَب إلى الله)
وأيد هذه الدعوى بما نقله عن أشهر كتاب عندهم في الطعن على القرآن، ولخص
ذلك بما نذكره ونفنده ونبين بطلانه هنا بالإيجاز، وقد سبق الرد عليه بالتفصيل في
كتابنا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) وسنعيده في الجزء الثاني من كتاب
الوحي المحمدي كما وعدنا في تصدير الطبعة الثانية للجزء الأول فنقول:
رد زعمهم ضياع شيء من القرآن
(الطعن الأول) زعم ذلك الطاعن أن القرآن قد ضاع منه شيء، فلم يُكْتَب
كله، وأن الذي ضاع؛ منه ما نسيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما نسيه
الصحابة رضوان الله عليهم، ومنه ما لم يُحْفَظ، قال: (وكثير من آياته لم يكن لها
قيد إلا في ذاكرة الصحابة؛ فضاع منها الكثير)
وجوابنا عن هذا أنه دعوى مفتراة ليس عليها أدنى دليل، فمن المعلوم
بالتواتر أن كل ما كان ينزل من القرآن كان يكتب ويحفظه الكثيرون من الصحابة،
يعبدون الله تعالى به في الصلاة وغيرها، وكانت ملكة الحفظ في العرب أقوى منها
في غيرهم لاعتمادهم عليها في حفظ أشعارهم وأنسابهم ووقائعهم.
من العجيب أن يفتري النصارى على القرآن هذه الفرية، وهو الكتاب الذي
حفظه الألوف من العرب في عصر نزوله وكتبوه متفرقًا، ثم مجموعًا، وما زال
يحفظه مئات الألوف في كل عصر، وهم أهل دين لم يكتبوا من إنجيل مسيحهم
شيئًا من لفظه بلغته، وهذه الرسائل الأربع التي يسمونها في الزمن الأخير
بالأناجيل لم تكن معروفة لمن يسمونهم رسله في العصر الأول؛ إذ لم يذكرها أحد
منهم في رسائلهم، وهذا رابعهم يوحنا يقول في آخر إنجيله: (21: 24 هذا هو
التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق 25 وأشياء أخرى كثيرة
صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة
آمين! ! !) فلماذا لم يكتب هو ولا أحد من تلاميذه وأتباعه عُشْر معشارها؟
كذلك ليس عندهم أصل مكتوب من سائر كتب العهدين في زمن أصحابها
بلغاتهم، ولا يدعون هم ولا اليهود أنهم حفظوا كتابًا منها بنصه وحروفه التي جاء
بها موسى ولا غيره من أنبيائهم كما فعل المسلمون.
رد زعمهم وجود المناقضات فيه
(الطعن الثاني) ما سماه المناقضات وضعف البيان في المتشابهات المحتاجة
إلى التأويل، وفي الناسخ والمنسوخ، فأما الأول فشبهته في اختلاف المفسرين في
المتشابه وتأويله كما فصلته في تفسير سورة آل عمران، ثم في سورة يونس أخيرًا،
ولا تناقض فيه ولا ضعف بيان؛ ولكن الأذهان تتفاوت بطبعها في فهم بعض
المسائل بطبيعة موضوعها، ولا سيما الوحي وكلام الأنبياء في عالم الغيب.
وقد حققنا أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابهات، وأما تأويلها
الذي لا يعلمه إلا الله، فهو حقيقة صفات الله تعالى، وما تؤول إليه أخبار الوعد
والوعيد في الآخرة؛ لأنها من عالم الغيب، ويرى القراء في الجزء الماضي (ج
4) كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.
على أن أكثر كلام المسيح عليه السلام كان رموزًا لا يفهم تلاميذه المراد منها،
وهم أولى الناس بفهمها حتى المسائل التي تدعي هذه الرسائل الأربع أنها أساس
العقيدة كهدم الهيكل وإقامته في ثلاثة أيام، ومنه ما حكاه يوحنا في آخر رسالته من
أقواله عليه السلام لسمعان بطرس في محبته له ومستقبله، وقوله للتلميذ الذي كان
يحبه: (21: 22 إذا كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء، فماذا لك؟ (قال يوحنا)
23 فذاع هذا القول بين الإخوة: إن ذلك التلميذ لا يموت، ولكن لم يقل يسوع: إنه
لا يموت ... إلخ) ، فالتلاميذ كلهم لم يفهموا هذه الكلمة بشهادة يوحنا الذي شهد لنفسه
أن شهادته حق، ومن يوحنا هذا؟ وهو غير معروف بالتحقيق، والأرجح أنه من
تلاميذ بولص (راجع دائرة المعارف الفرنسية) فإن عادت المشرق إلى مثل هذا
البهتان أتيناها بالشواهد الكثيرة على تصريحهم بغموض كلام المسيح عليه السلام،
وعدم فهمهم له، فكيف يعيبون غيرهم بالكحل في أعينهم، ولا يرون الجذع في
أعينهم؟
وأما الناسخ والمنسوخ فقد بينا في تفسير الآية الوحيدة الصريحة فيه، وهي
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة:
106) أن المراد بالآيات فيها ما يؤيد الله به رسله بدليل قوله تعالى بعدها: {أَمْ
تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وبيانه أنه
تعالى أيد موسى ببعض الآيات الكونية ونسخها بتأييد عيسى بمثلها في الأدلة على
صدقه، ثم نسخ هذه وأيد محمدًا بما هو خير منها، والمقصد من إرسالهم واحد
عليهم الصلاة والسلام، وأما نسخ الأحكام، فأنكر بعض علمائنا وجوده في القرآن،
وقال بعضهم: فيه عشرون آية، وبعضهم: بضع آيات، وكل ما عدوه منها فهو
فصيح بليغ، وفائدة الناسخ فيه ظاهرة، كنسخ الإرث بالإسلام والهجرة عند قلة
المسلمين بإرث القرابة الزوجية بعد كثرتهم، ونسخ القبلة إلى بيت المقدس لبيت
الله الحرام، على أن قبلة بيت المقدس لم تكن بنص في القرآن.
مخالفة القرآن لكتب العهد العتيق هو الحق:
(الطعن الثالث) مخالفة القرآن لكتب العهد القديم في بعض المسائل
التاريخية؛ وجوابنا عن هذا أن تواريخ العهد القديم لا يقوم دليل على صدقها كما بيناه
بالتفصيل في تفسير المنار، وأما القرآن فقد قامت البراهين الكثيرة على أنه كلام
الله تعالى، فما بينهما من خلاف فقول القرآن فيه هو الفصل، وحكمه فهو الحكم
بالحق والعدل، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وقال: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن
قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ
الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 63-
64) .
قصة يوسف في القرآن والعهد العتيق:
(الطعن الرابع) زعمه أن يوسف بن يعقوب تبين قصته في القرآن أنه قد
تراخى للشهوة من ذاته، وقصته في التوراة تبين براءته، يعني أن هذا الفرق يدل
على أن التوراة وحي من الله دون القرآن، والجواب عن هذا أن القرآن أثبت لنا أن
يوسف عليه السلام قد ابتلاه الله تعالى بتجارب محصه بها تمحيصًا، فكان من عباده
المخلصين (منها) مراودة امرأة عزيز مصر له في سن شبابه، فاستعصم ولم يقع
في الفتنة، وآثر عليها السجن، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن
رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) ففيه وجهان: أحدهما، وهو المتبادر من اللغة
أن كلاًّ منهما هم بمواثبة الآخر والبطش به كما شرحناه في الجزء الأول من المنار
أخيرًا، والثاني أنهما هما بالفاحشة، ولكن رؤيته برهان ربه صرف عنه السوء
والفحشاء، وهذه منقبة عظيمة له، وهي أدل على اعتصامه وعدم تراخيه للشهوة
مع قوة الداعية الطبيعية لها.
ولكن ما بال الطاعن يستدل بهذه الفضيلة السلبية للتوراة، وينسى ما قذفت به
لوطًا عليه السلام من الزنا ببناته، وداود عليه السلام من أقبح الزنا العمد بامرأة
أوريا الحثي، ثم تعريضه للقتل، مع نزاهة القرآن عن مثل هذا وما يقرب منه؟ دع
ما يرمون به سليمان عليه السلام من الشرك والوثنية لأجل النساء.
(الطعن الرابع) زعمه أن القرآن ذكر إسكندر ذي القرنين بما لا يوافق
أخبار التاريخ المحققة، وجوابه أن ذا القرنين المذكور في القرآن ليس بإسكندر
المقدوني، وإنما هو أحد أذواء اليمن، ولو خالف أخبار التاريخ لكان ما خالفها فيه
هو الحق.
(الطعن الخامس) اعتراضه على الإسراء إلى المسجد الأقصى بأن المراد
به هيكل سليمان قال: (مع أن الهيكل في أيام محمد كان خرابًا) والجواب عن ذلك
أن المراد بالمسجد الأقصى هذا المكان، وسماه بهذا الاسم للإنباء بأنه سيكون مسجدًا
للمسلمين يقابل المسجد الحرام الذي كان هيكل أصنام أيضًا (وقد كان) والمسجد
محل السجود والصلاة فإن كان عامرًا أو خُرِّب فخرابه لا يسلبه اسم المسجد، ولا
حرمته في شرعنا.
(الطعن السادس) نسبة مريم والدة المسيح عليهما السلام إلى عمران
(وجوابه) من وجهين أحدهما: أن ليس عندهم تاريخ قطعي لنسبها، والثاني أنه
يصح جعله من باب نسبة المرء إلى العظيم أو الرئيس من أجداده قريبًا كان أو بعيدًا،
كقولهم في المسيح: (ابن داود) وإطلاقهم لقب إسرائيل على ذريته، وقول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) ، وتسمية جميع الناس ملك العربية
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل (ابن سعود) .
(الطعن السابع) ما حكاه القرآن عن نداء قوم مريم لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: 28) وهذا نحو مما قبله في التجوز المشهور كقولهم: يا أخا الهيجاء.
للشجاع. وهارون عليه السلام كان رئيس الكهنة، ومريم ألحقت بالكهنة في
انقطاعها لعبادة الله تعالى، فقالوا لها: يا أخت هارون تهكمًا بها، إذ اتهموها
بالفاحشة، وقد برأها الله تعالى في كتابه العزيز من بهتانهم، ومن كذب بعض
النصارى أيضًا بقولهم: إن ولدها عيسى من يوسف النجار. ومن كنودهم وبهتانهم
عليه هذه المطاعن المفتعلة، وموعدنا بالرد التفصيلي قريب إن شاء الله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/376)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على من أفتى بكتمان بعض القرآن
ثم حرَّف بعضه استدلالاً على فتواه
نشرنا في الجزء الأول من منار هذا العام استفتاء في قول من زعم أن في
القرآن الحكيم آيات لا يجوز إذاعتها، ولا إسماعها لأهل الكتاب من ذوي ذمتنا،
وأخرى لا يجوز إسماعها للنساء هي قصة يوسف، بل قال سورته (عليه السلام) .
ذكر المستفتي اسم الذي زعم ما نقله عنه في السؤال، ولم نذكره نحن في
الجواب تكريمًا له، وأملاً منا بأن يبين هو الحقيقة بما يبرئ به نفسه مما اتهمه به
السائل أو يتأوله، وصرحنا بشكنا في عزو هذا المنكر العظيم إليه كما قاله السائل،
ولم نصرح باسم الصحيفة وهو (الوطنية) التي نشر فيه السائل هذه التهمة مبالغة
في كتمانها، فلما اطلع على المنار بادر إلى الدفاع عن نفسه بما أثبت التهمة وجنى
على القرآن جناية جديدة، فجاز لنا أن نصرح باسمه تبعًا له، ووجب أن نرد عليه،
ولو كان خطؤه في غير كتمان القرآن والاستدلال عليه بتحريف بعض آياته عن
موضعها وتصوير المسألة بغير صورتها لما كان من شأننا أن نرد عليه، ولكن هذا
الرد دفاع آخر عن حق القرآن.
يؤسفنا أن صاحب الزعمين هو الأستاذ الشيخ محمود محمود وكيل جمعية
مكارم الأخلاق، فقد نشر في الجزء التاسع من مجلة الجمعية الذي صدر في شهر
ربيع الآخر تفسير آيات له من سورة الأنعام منها قوله عز وجل: {وَلاَ تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) فأدخل
في عموم النهي عن سب آلهة المشركين سب أهل الكتاب، بل قال: آلهة النصارى
... إلخ ما ستراه، ونقل عمن عبر عنه بقوله (عمدة العلماء في الأندلس) قوله:
(فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الله أو الإسلام أو الرسول فلا يحل لمسلم
ذم دينه، ولا صنمه، ولا صليبه، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك) اهـ.
ثم قال: (هذا هو مفهوم القرآن الكريم، والقرآن أعز علينا وأحب إلى قلوبنا
من صاحب المنار الذي حملته خصومته مع بعض الأساتذة أن يفتي في الجزء الأول
من عام 1353 بما يخالف ذلك، ولعله قد نسي ما قاله في مناره في تفسير هذه الآية،
والكمال المطلق لله وحده، والعصمة خاصة بالأنبياء وما سمي الإنسان إلا لنسيه)
(أظن أن الشيخ قد كبر، فخانته ذاكرته، فقد نشر منذ أعوام أن العلماء
استنبطوا من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، وأن
إطلاق لفظ الكفر على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعًا إذا تأذى به،
ولا سيما في الخطاب، ونقل عن الغنية ومعين الحكام أنه لو قال للذمي: يا كافر.
يأثم إن شق عليه.
(وقد أغرب الشيخ في فتواه القائمة على مسألة مكذوبة، وطالب من المفتي
أن يتوب، وما سمعنا أن من أفتى فأخطأ - على سبيل الفرض - يطالب بالتوبة.
(بعد هذا أستطيع أن أقول وأظنك معي في الفهم: أن سب آلهة المسيحيين
وقديسيهم في هذا العصر الذي ضعف فيه المسلمون وتفرقوا وذلوا، وقوي الكافرون
واتحدوا وعزوا، ولا سيما بالمذياع (الراديو) يدخل في مفهوم هذه الآية، ولو لم
يكن فيه إلا تفريق الأمة وإفساد باطنها كما فسد ظاهرها، لكان كافيًا في استحباب
منعه، حتى يعود للإسلام عزه ومجده، وتكون كلمته هي العليا في الخافقين، كما
كانت في أيام سيد الكونيين والثقلين، ويظهره الله على الدين كله مرة أخرى،
وعسى أن يكون قريبًا إن شاء الله) اهـ.
(المنار)
إن الخطأ في تفسير الأستاذ الشيخ محمود محمود لهذه الآية كثير من ناحية
تفسير الآية، ومن ناحية الرد به على الفتوى التي أشار إليها، ومن ناحية ما تضمنه
من وصف المسلمين في هذا العصر بأسوأ الأوصاف وأخسها، ووصف النصارى
بأحسنها وأشرفها، ومن ناحية إثبات الآلهة للمسيحيين، وغير ذلك من النواحي، وما
كان لنا أن نتصدى لبيان تلك الأنواع من الخطأ فيها وفي غيرها، ولا أن نناظره في
شيء منها ولا من غيرها، إلا مسألة بعد المسافة بين آية سورة الأنعام في النهي عن
سب المسلمين لمعبودات المشركين، وبين الفتوى التي أفتاها هو في كتمان بعض
القرآن الذي يسوء أهل ذمتنا منهم بزعمه، وأهل ذمتنا لا يكونون أعز منا، ولا نكون
أذلاء لهم وهم تابعون لنا، ومسألة إفتاء المنار بأن كتمان القرآن لا يجوز، وأن الله
قد لعن فاعله إلا أن يتوب.
فإذا كان القرآن أعز عليه، وأحب إلى قلبه من صاحب المنار كما ادعى،
فصاحب المنار أحق أن يكون القرآن أحب إليه منه؛ فإنه أفتى بكتمان بعض آيات
القرآن؛ لئلا يسخط النصارى، وبكتمان بعضها عن النساء بزعمه أنها مفسدة لهن
وصاحب المنار أفتى ببطلان فتواه في المسألتين تعظيمًا للقرآن ودفاعًا عنه،
وتنزيهًا له عما ظنه فيه، وجزمًا بأن كل ما أُنزل فيه نافع لا ضرر فيه يبيح كتمانه
برأي مثله، ولا برأي أعلم أهل الأرض، فأي المفتيين أحق بعزة القرآن وحب
القرآن؟ الذي يزعم أن فيه سبًّا وشتمًا وإفسادًا للنساء يقتضي كتمانهما، أم الذي
ينزهه عن هذا وهذا، وعن كل ما لا يليق بكلام الله عز وجل، ويثبت أن كل ما
فيه صلاح وإصلاح يجب إظهاره والدعوة إليه، وتفنيد كل من يصد عنه؟
فإن كان ظن أن صاحب المنار كبر فخانته ذاكرته، فأنساه كبر السن ما نشره
منذ أعوام موافقًا لرأيه هو، فأفتى أخيرًا بما يخالفه (لخصومته مع بعض الأساتذة)
فأحرى به هو أن يكون صغر سنه هو، أو شرخ شبابه قد حال بينه وبين فهم ما
كتبه صاحب المنار أولاً وآخرًا؛ فإنه لا خلاف ولا تعارض بين فتوييه، ولم يقع
بينه وبين أحد من الأساتذة خصومة حملته على ذلك، وإنما يعني ببعض الأساتذة
نفسه، ولم يكن بيننا وبينه خصومة، بل كان آخر عهدنا بمودته المتصلة أن يبرنا
بر الولد لوالده، ونوده ود الأخ لأخيه، فكان بتواضعه يبالغ في المودة جهرًا،
ونعتدل فيها سرًّا وجهرًا، فالواجب عليه إذن أن يترك اتباع ظنه في صاحب المنار
{ِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ويأخذ باليقين في شأن نفسه، ونحن
لا نزال على فتوانا بعدم جواز سب النصارى ولا غيرهم، وإن كان فيهم من
يسبوننا ويطعنون في ديننا وكتاب ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا لما زعمه
باطلاً، بل لأن المسلم ليس بسبَّاب ولا لعَّان.
تحرير الموضوع أن الفتوى التي أفتاها صاحب المنار الشيخ الكبير، ورد
عليها الشيخ محمود الشاب الطرير، وكيل جمعية مكارم الأخلاق ومفسر مجلتها
ومفتيها النحرير، بما فسر به آية الأنعام برأيه وبنقله، لا يدخل في موضوعها ما
ادَّعاه من سب المسلمين الأذلاء بزعمه لآلهة النصارى الأعزاء وصليبهم وقديسيهم
بوهمه، وإنما موضوعها أنه لا يجوز كتمان شيء من آيات القرآن العظيم الحكيم
في هذا العصر بدعوى أنه كان لهذه الآيات ما يبررها في عصر نزولها دون هذا
العصر، هذا ما علل به فتواه أولاً بحسب ما نقله السائل عنه؛ وإنه لحوب كبير
وإثم عظيم، وقد زاده في الدفاع عنه في مجلة الجمعية إثمًا وجرمًا بما زعمه أن تلك
الآيات الكريمة متضمنة لسب آلهة القوم وصليبهم وقديسيهم، والقرآن أجل وأعظم
وأنزه من ذلك، وقد قال في أهل الكتاب: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} (العنكبوت:
46) ولم يذكر صليبهم بسب ولا غيره، وكل ما قرره فيهم أحكام حق وعدل
وإصلاح ونزاهة، فهل هذه محبته للقرآن؟ وهل يقره عليه أعضاء جمعيته أو
أعضاء مجلس إدارتها كما يقرونه على جميع تصرفاته في الجمعية ومدرستها،
وتعليم صبيانها وبناتها؟ نحب أن نعلم هذا.
ومن فروع رده الغريب علينا قوله: إن أغرب شيء في فتوانا مطالبته بالتوبة
وإنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يُطَالَب بالتوبة. يعني بمطالبتنا إياه بالتوبة إيرادنا
لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا} (البقرة: 159-160) الآية، فهو يرد على تذكيرنا إياه بالآية الكريمة
بأنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يطالب بالتوبة، ولا يدري أن سماعه غير حجة
فضلاً عن عدم سماعه، فليخبرنا ممن سمع أن من يفتي بما يخالف كتاب الله
وإجماع المسلمين لا يُطَالَب بالتوبة ولا يجوز تذكيره بحكم الله في فتواه إذا كان في
قوله تعالى إرشاد له إلى التوبة؟ ومن قيَّد هذا التذكير بكتاب الله بهذا الشرط؟ وما
حجته على ذلك؟
إنني أعود فأطالبه بأن يتوب إلى الله من فتواه الأولى بخلاف كتاب الله، ومن
استدلاله عليها بما بينت بطلانه؛ فإن الأمر بالتوبة مشروع فيما دون ذلك على
الهفوات {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)
فإن لم يقبل هذه النصيحة فليقتصر على ما هو أليق بها مما نشره في أواخر هذا
الجزء من المجلة من سب الشيخ رشيد رضا وشتمه والطعن فيه، وفي أستاذه الإمام
إن شاء، وإن كان يحظر سب الكفار، وله الأمان بأن لا نرد عليه بكلمة واحدة
ما لم يكن فيما ينشره عبث بالقرآن أو بالسنة، كعبث ذلك الشيخ الذي أفتى بأن كل
من يؤمن بظاهر القرآن من صفات الله كما كان يؤمن السلف الصالح فهو كافر،
وبغير هذا من البدع ومخالفة السنة، وكان الأستاذ الشيخ محمود من أنصارنا عليه،
وعاد الآن لتأييده ونصره، ونسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعليهما من كل ذنب،
ويهبنا كمال الإخلاص والتقوى، والسلام على من اتبع الهدى.
__________(34/382)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دائرة المعارف الإسلامية ومفاسدها
اسم خادع، كسور له باب ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَلِه العذاب، هو
معجم لَفَّقَهُ طائفة من علماء الإفرنج المستشرقين لخدمة ملتهم ودولهم المستعمرة لبلاد
المسلمين يهدم معاقل الإسلام وحصونه، بعد أن عجز عن ذلك دعاة دينهم بالطعن
الصريح على كتاب الله العزيز ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وبعد أن
عجز عن ذلك الذين حرَّفوا القرآن منهم بترجماته الباطلة، والذين شوهوا تاريخ
الإسلام بمفترياتهم، ذلك بأن هؤلاء الملفقين لهذا المعجم الذي سموه دائرة المعارف
الإسلامية لم يتركوا شيئًا من عقائد الإسلام، ولا من فضائله، ولا من تشريعه، ولا
من مناقب رجاله إلا وصوروه لقراء معجمهم بما يخالف صورته الصحيحة من
بعض الوجوه، إما بصورة مشوهة، وإما بصورة عادية لا مزية لها، وطالما قلت:
إن الإفرنج قد أتقنوا كثيرًا من العلوم والفنون والصناعات؛ ولكن إتقانهم للكذب
والإفك، أي: صرف الناس عما يريدون حجبه عنهم من الحقائق قد فاق إتقانهم لغيره
مما أتقنوه من علم وعمل.
وفي هذه الدائرة عيوب علمية وتاريخية أخرى أهمها كما بدا لنا من نظرة
قصيرة فيها أنها لم تُكْتَب لتحقيق المسائل التاريخية والعلمية لذاتها، بل لأجل بيان
آرائهم وأهوائهم والإعلام بما سبق لهم ولعلمائهم فيها من بحث وطعن في كتبهم
ورسائلهم المتفرقة.
ولقد كنا سررنا إذ علمنا أن جماعة من شباننا شرعوا في ترجمة هذا المعجم
بلغة الإسلام العربية، ووضع حواشي لتصحيح ما فيه من الأغلاط التاريخية
والعلمية والدينية، وبيان الحق فيما دسوه فيه من عقائدهم وآرائهم الباطلة في
المسائل الدينية، ونوط هذا وذاك بالعلماء الإخصائيين في كل منهما، وقد صدر
الجزآن الأول والثاني من الأجزاء الصغيرة التي قسموا لها الكتاب مذيلين ببعض
الحواشي من هذه التصحيحات والانتقادات، وهي غير كافية في موضوعها، ثم
أعرض المترجمون عن ذلك وطفقوا ينشرون الأجزاء غفلاً من التعليق على موادها
المشوِّهة للإسلام وتاريخه، بعد أن ظننا أنهم سيزيدونه استقصاءً وتحقيقًا، فخابت
الآمال فيهم، وانقلب عملهم النافع ضارًّا، وما كان يرجى من إصلاحهم فسادًا
وإفسادًا.
فعلى الذين اشتركوا في أجزاء هذه الدائرة من المسلمين انخداعًا بما أعلنوه
عنها أن يطالبوهم بالوفاء بما وعدوا به من التعليق على كل مادة، أو مسألة مخالفة
لدين الإسلام وتاريخه وسيرة عظماء رجاله، فإن عادوا إلى ذلك استمروا على
اشتراكهم فيها، وإن لم يعودوا له بالوجه المرضي وجب عليهم شرعًا أن يقطعوا
الاشتراك، وحُرِّم على سائر المسلمين أن يشتروا شيئًا من هذه الأجزاء لئلا يكونوا
من الذين يبذلون أموالهم للصد عن دينهم ونصر أعدائه عليه، إلا من يرد على هذه
الأباطيل بما يُحَذِّر المسلمين منها.
أقول ولا أخشى لائمًا ولا مخالفًا: إن نشر هذا المعجم باللغة العربية كما كتبه
واضعوه بدون تعليق على ما فيه من الأغلاط والمطاعن ومخالفه الحقائق هو أضر
من شر كتب دعاة النصرانية (المبشرين) وصحفهم؛ لأن هذه قلما ينخدع أحد من
عوام المسلمين بما فيها من الباطل، وأما هذا المعجم المسمى بدائرة المعارف
الإسلامية المعزو أكثر ما نقل فيه إلى كتب المسلمين؛ فإنه يخدع أكثر القارئين له
ممن يُعَدُّون من خواص المتعلمين؛ لأنه يقل فيهم من يفرق بين الحق والباطل مما
فيه، ويقل فيهم من يعلم أن مؤلفي هذه الدائرة ممن يتربصون بهم الدوائر {عَلَيْهِمْ
دَائِرَةُ السَّوْءِ} (التوبة: 98) فعسى أن يتدارك المترجمون لها ذلك بمثل هذا
التذكير القلمي الذي لم نكتبه إلا بعد أن كلفنا بعض إخواننا المعاشرين لهم أن ينذرهم
إياه بلسانه ولساننا، ولعلنا نجد فرصة ننشر فيها بعض الشواهد على ما قلنا.
__________(34/386)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الحديثة
(مائة حديث وحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)
(تأليف محمود بك خاطر، طبع في مطبعة مصر بغاية الإتقان سنة
1352) .
محمود بك خاطر من خيار أدباء مصر نفسًا ولغةً وتصنيفًا له كتاب (مهذب
مختار الصحاح) مطبوع، وكتاب (مختار القاموس) تحت الطبع.
وقد عُني أخيرًا بجمع مائة حديث وحديث من دواوين السنة، وعزا كل واحد
منها إلى أحد مخرِّجيه من أصحابها، وشرحها شرحًا لطيفًا وجيزًا، وطبعها في
مطبعة مصر - وهو مديرها - طبعًا جميلاً، ونشرها بين الناس، فكان وقعها حسنًا
نافعًا؛ لأنها من الحكمة المحمدية التي تكثر الحاجة إليها في هذا العصر كما قال في
بيان غرضه منها: (راعيت في اختيارها تعرضها للمسائل الحيوية، والشؤون
الاجتماعية، مما يهذب الناشئين، ويثقف النابهين، وينبه الغافلين) ولا غرو
فمحمود حسن الاختيار حسن الذوق، محسن متقن لكل ما يعمل بقدر طاقته، وقد
تجلى في هذا الكتاب جمال دينه مع جمال عقله وأدبه وذوقه وإتقان فن الطباعة الذي
تولى فيه إدارة مطبعة من أغنى مطابع مصر أو الشرق، وهي مطبعة بنك مصر.
تفضل صديقي محمود بك خاطر بإهداء الكتاب إليّ في أول عهده بإخراجه من
المطبعة، وقد سرني أن أبطأت في تقريظه حتى أخذ حظه الكبير من تقريظ
الجرائد بأقلام محرريها وغيرهم من الأدباء، ولم أر في أسماء مقرظيه أحدًا من
المشتغلين بعلم الحديث يكفيني الإشارة إلى بعض ما ينتقد على الكتاب مما لا يعلمه
إلا أهل الحديث.
أهم ذلك أن المؤلف صرف وقتًا طويلاً في جمع هذه الأحاديث من دواوين
السنة التي ذكرها، وفي مراجعة شروح بعضها، وكان يغنيه عن ذلك كله أو جله
وعما كتبه في أول الكتاب (ص8) وفي آخره (ص 71-74) من ذكر أسماء
هذه الكتب، وأرقام الصحائف التي نقل الأحاديث منها - كان يغنيه عن ذلك كله أو
جله شرح الجامع الصغير، بما يكون تخريجه للأحاديث أتم، والثقة بها أكمل، مع
موافقتها لاصطلاح أهل الحديث.
أكثر هذه الأحاديث مدونة في الجامع الصغير، وربما توجد كلها في النسخة
التي أضيف إليها ذيله [*] ومؤلفه الجلال السيوطي يعزو كل حديث إلى مخرِّجيه من
أصحاب الكتب الستة وغيرهم، ووضع علامات للصحاح والحسان والضعاف منها
في الغالب، وما فاته من هذا لا يفوت شراحه، فما فائدة تعب المؤلف في قراءة
جامع الترمذي كله، واختيار بضعة عشر حديثًا منه يعزوها إليه وحده، وأهل
الحديث يعلمون أن فيه بعض الأحاديث الضعيفة والمنكرة والشاذة، فعزو الحديث
إليه وحده لا يفيد أنه صحيح ولا حسن، وكذلك سائر الكتب التي نقل عنها ما عدا
الصحيحين، وبعض ما عزاه إلى واحد من هؤلاء قد يكون مرويًّا في أحد
الصحيحين أو كليهما، وقد يكون متفقًا عليه أو مما رواه الجماعة كلهم، ومن المنتقَد
عند أهل الحديث أن ينقل أحد حديثًا ويعزوه إلى أحد مخرِّجيه إلا أن يكون أصحهم
رواية كالشيخين في صحيحيهما، فإن كان فيهما، فيعزى إليهما معًا إن كان لفظها
واحدًا، وإلا اقتصر على البخاري؛ لأنه أصحهما، أو على صاحب اللفظ الذي
يختاره مصرحًا به.
والأستاذ محمود بك يعزو الحديث المتفق عليه إلى واحد ممن لا يتحرون
الصحاح وحدها كالأحاديث الثالث والرابع والسادس والسابع والثامن والتاسع، بل
الحديث السادس رواه الجماعة كلهم، وقد عزاه إلى البخاري وحده، وعزا الرابع
إلى أحمد وحده، وقد رواه معه البخاري ومسلم كلاهما متفق عليه، وعزا التاسع
إلى أبي داود وحده، وهو متفق عليه رواه أحمد والبخاري ومسلم أيضًا، ومثل
هذا كثير في الكتاب.
ومما ينتقَد عليه أنه قال في فاتحة (ص9) : وقد أوردت كل حديث منها
بإسناده إلى من حدَّث به، وهو لم يذكر إسناد شيء منها بالمعنى المعروف عند
المحدِّثين، وهو السند أي: طريق الحديث من رواية الأول كالبخاري مثلاً إلى
الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه يعني بالإسناد معناه
اللغوي وهو العزو إلى أصحاب الكتب، فيحسن أن يتذكر هذا وذاك إذا وفقه الله
تعالى لخدمة الأمة بكتاب آخر من مختاراته النافعة، وأن يذكر الكتب الستة
ومؤلفيها بترتيب تواريخهم، لا بترتيب حروف المعجم، وأن لا يذكر مسند أحمد
في الكتب الستة، والأشهر أن السادس منها سنن ابن ماجه، ومنهم من يعد منها
الموطَّأ أو سنن الدارمي دون ابن ماجه.
ومن الغريب أن يخطئ المؤلف في تعريفه وبيانه لكتب الحديث التي نقل عنها
ومؤلفيها (ص10) في اسم صاحب الصحيح الثاني، فيقول: (صحيح أبي الحسن
مسلم بن مسلم والصواب أنه أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، وقل من يذكر
اسم جده) ، ومثله خطؤه في ضبط الترمذي، فقد ضبطه في هذا البيان، وفي عزو
الحديث الأول إليه مشكولاً بضم التاء، وهي مسكورة بالاتفاق.
وافتتح المؤلف الكتاب بمقدمة وجيزة في نسب النبي صلى الله عليه وسلم
وصورته وسيرته جمعت في ورقتين صغيرتين ما لا يستغني مسلم عن معرفته،
والظاهر أنه اعتمد فيها على ما كان علق بحفظه، فلم تأت بما يعهد في لغته من
الدقة، مثال ذلك أنه قال بعد بضعة أسطر من الصفحة الأولى: وعندما بلغ أشده
تولى رعي الغنم بالبادية مع إخوته في الرضاع، وهو صلى الله عليه وسلم قد
رعاها قبل ذلك، ولم يمكث في البادية إلى أن بلغ أشده. وفي الصفحة التي تليها
(وجمع رسول الله عشيرته وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب) ... إلخ، والصواب
وبنو المطلب كما هو ظاهر، ولعل الأستاذ ينقح هذه السيرة الشريفة اللطيفة،
ويراعي ما قلنا في الطبعة الثانية لهذا الكتاب، إذ يرجى أن يطبع مرارًا.
صفحات الكتاب من مقدمته إلى نهاية فهرسه 78 صفحة، وثمنه خمسة
قروش صحيحة، ويطلب من مكتبة مصر، فنحث جميع القراء على مطالعته.
***
(كتاب الإسلام كتاب ديني، أخلاقي، أدبي، اجتماعي)
مؤلفه الأستاذ أسعد لطفي أفندي حسن طبع طبعًا جيدًا متقنًا في مطبعة فاروق
بمصر سنة 1350، صفحاته 368 من قطع المنار، ثمن النسخة منه عشرون
قرشًا.
رفعه المؤلف (إلى الله جل وعلا) بمناجاة ودعاء، ثم افتتحه بمقدمة في
الشكوى من فشو الفواحش والمنكرات، والإعراض عن هداية الدين وعلمه لعدم
دراسته في المدارس، ووجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي أقدم
عليه بهذا الكتاب، وإن لم يكن من علماء الدين كما قال، وتلا هذا تمهيد وجيز في
مولد النبي الأعظم وبعثته ورسالته، فدخول على الموضوع بالتعريف بالإسلام
والإيمان بالإجمال، فتفصيل لما يجب الإيمان من صفات الله، والإيمان بملائكته،
وكتبه ورسله بإيراد طوائف من آيات القرآن المجيد مشكولة غير مفسرة في كل
موضوع منها، وفي قصص الرسل عليهم السلام من غير تفسير حتى إنه ذكر في
رسالة يوسف عليه السلام السورة المسماة باسمه كلها؛ ولكنه تكلم فيما يجب لخاتمهم
محمد صلى الله عليه وسلم على إعجاز القرآن وأخلاقه وحكمه النبوية، ثم تكلم في
الزواج والميراث وحقوق النساء، وموضوع الحجاب والسفور الذي عظمت فتنته
في هذه السنين بمصر وغيرها.
ثم انتقل إلى العبادات فبدأ بالصلاة والطهارة، فذكر الضروري من أحكامهما
موافقًا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في المسائل الخلافية، ثم تكلم على الزكاة
والصيام والحج، فذكر الضروري من أحكامها مع الإلمام بحكمها، ولكن عبارته في
بعض هذه الأحكام لم تكن دقيقة كعبارات الفقهاء، فهي لا تخلو من أغلاط معنوية،
ثم ختم الكتاب في النهي عن البدع الفاشية في هذا الزمان، فرسالة أبي الربيع محمد
بن الليث التي كتبها من قِبَل هارون الرشيد إلى قسطنطين ملك الروم يدعوه بها إلى
الإسلام.
وجملة القول: إن الكتاب مفيد، وهو خير من جميع الكتب الكلامية التي
تقرأ في المعاهد الدينية، وعسى أن يُعْنَى بتصحيحه بالدقة التامة في الطبعة
الثانية، ويعلق على آيات القرآن التي فيه تفسيرًا مختصرًا يُفْهَم به معناها في
الجملة.
***
(كتاب الآيات المحمدية)
(تأليف محمد عبد الوهاب عضو جماعة الوعظ والدعوة الإسلامية،
وجمعيات مكارم الأخلاق والهداية الإسلامية والمحافظة على القرآن الحكيم، الطبعة
الأولى، بالمطبعة المتوسطة بمصر سنة 1353)
صنف المصنفون كتبًا كثيرة في موضوع هذا الكتاب من الآيات الشاملة
للمعجزات والإرهاصات وغيرها، منها ما جمعه المحدثون من الروايات في ذلك
من صحيح وضعيف ومنكر وموضوع اعتمادًا على تمييز العلماء بينها من أسانيدها،
ومن أشهرها دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم وللحافظ البيهقي، ومن أجمعها كتاب
الخصائص الكبرى للسيوطي، ومنها كتب لمن بعدهم من الذين يجمعون كل ما
يرونه في الكتب من مختصر ومطول.
وقد اختار الأستاذ الفاضل محمد أفندي عبد الوهاب من موظفي وزارة الحربية
طائفة من هذه الآيات نقلها كما قال من الصحيحين، وتيسير الوصول، والسيرة
الحلبية، وسيرة ابن هشام، وزاد المعاد، والجواب الصحيح ونور اليقين؛ ولكنه
ينقل عن غيرها بتعيين لما ينقل عنه كدلائل النبوة، وبدون تعيين، ويذكر بعض
الآيات بدون عزو إلى كتاب.
وكان قد اقتصر في المقدمة على ذكر النقل من الصحيحين والسيرتين، ثم
زاد عليهما في خاتمته ما ذكرنا من الكتب، وقد علمت أنه زاد على كل ما ذكره
فيها.
واعتذر في كلمته الختامية عن نقل ما لم يصح عن المحدثين من تلك
المعجزات بأن في الصحاح ما يزيل استبعاد وقوعها؛ ولكن ينبغي أن يكون المانع
من نقل ما لا يصح أنه لا يصح، لا أنه مستبعد، فإذا نقل وجب أن يبين درجته
عند إيراده، واستغنى المؤلف عن هذا باعتذاره عنه، وهو أقل ما يجب.
وقد جعل المؤلف ربح هذا الكتاب، وهو ما يزيد من ثمنه على نفقة طبعته
إعانة لفقراء الحجاز فكل من يشتري منه شيئًا يكون شريكًا له في هذه الصدقة،
فنحث قراء المنار على ذلك، وصفحات الكتاب 158، وهو يُطلب من مؤلفه في
منزله عدد 13 حارة عنبر شارع حيصان الموصلي بالدرب الأحمر بمصر.
__________
(*) طبع الجامع الصغير ممزوجًا بذيله هذا عن نسخة تولى مزجها الشيخ يوسف النبهاني المشهور بنشر الخرافات والمنكرات والموضوعات، فخان الله ورسوله ومؤلف الجامع بحذفه منها علامات الصحة والحسن والضعف؛ ليعتقد قراؤها الذين يقل أن يوجد فيهم محدث بأن كل أحاديثها معتمدة يجب على المسلم اعتقاد ما فيها، والاعتماد عليها في العمل على عللها ومنكراتها فليحذر هذا من اطلع عليها.(34/388)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(9)
مسألة أجنبية عن الترجمة
ولكنها من صميم القضية السورية والأمة العربية
يوم الجمعة أول شوال 18 يونيو
كنا قررنا أن يجتمع ديوان رياسة المؤتمر - بعد تعطيل الجلسات لأجل العيد
- أمس فجاء الشيخ عبد القادر الخطيب مبكرًا، فتكلمت معه في الخلل
والاضطراب الذي حصل أخيرًا في المؤتمر، فشوَّه سمعته الحسنة، وفي وجوب
التعاون على تلافيه، ولما جاء عزت أفندي دروزه (السكرتير) وصلاح الدين
أفندي (من الأعضاء) قال الخطيب - في وجوهما -: إن أعضاء إدارة المؤتمر
مقصرون في حقوق الرئيس؛ إذ تركوه ولم يساعدوه على حفظ النظام حسب
القانون.
فاعتذر عزت أفندي دروزه - عن نفسه - بأنه ترك القعود حول الرئيس
لأجل البحث في مواد القانون، فَذَكَّرَهم الخطيب بما كان من معاونتهم للرئيس
السابق هاشم بك الأتاسي اهـ.
ولما اجتمع ديوان الرياسة أول مرة بعد العيد، وكان ذلك في 6 شوال (23
يونيو) صرح صلاح الدين أفندي بأن أعضاء الإدارة قصَّروا في معاضدة الرئيس
عمدًا؛ لأنه من العلماء! وقد كتبت كلمة صلاح الدين أفندي الحرة في أعلى صفحة
مذكرتي من ذلك اليوم، وذكرتها هنا لمناسبتها لما قبلها.
وأقول الآن: إن عزت أفندي دروزه من أركان حزبنا، وكان يلازم كرسي
رئيس المؤتمر، ويقوم معه بأهم أعمال حفظ النظام وغيرها؛ ولكنه صار يتركني
وينزل من مكانه في منصة الرياسة بالقرب مني ويجلس مع الأعضاء، وأما الشيخ
عبد القادر الخطيب فكان معارضًا لحزبنا من جهة، وكان بيني وبينه غاية التباين
في الأفكار والإصلاح الديني؛ وإنما أظهر نصري في هذه المسألة أو إنكارها علنًا؛
لأنه كان يعتقد أن الأفندية من حزبنا قد عز عليهم أن يكون رئيس المؤتمر عالمًا
دينيًّا معممًا، وأحبوا أو أرادوا أن يظهر عجزه عن القيام بجميع حقوق الرياسة،
فليعتبر المسلم بهذا، ففيه عبر كثيرة، ولا أزيد عليه في هذا الاستطراد شيئًا! ! ! !
***
أحاديث عيد الفطر في دمشق
(يوم السبت 2 شوال سنة 1338، الموافق 19 يونيه (حزيران)
سنة 1920)
اجتمعنا في الليلة البارحة في دار جميل مردم بك - على موعد سابق - أنا
وصاحب الدار وناظر الخارجية (الدكتور عبد الرحمن شهبندر) وناظر الحربية
(يوسف بك العظمة) والشيخ كامل قصاب (رئيس اللجنة الوطنية) وخالد أفندي
الحكيم، وقد تأخرت عن الموعد لكثرة زائري العيد حتى بعد العشاء، وموضوع
الاجتماع المفاوضة في الوفد الذي يُرْسَل إلى أوربة لأجل القضية السورية.
سأل وزير الخارجية عن القاعدة التي يبني عليها الوفد مطالبه؟
قلت: لا قاعدة عندنا إلا قرار المؤتمر السوري.
قال الوزير: تعني الاستقلال التام الناجز، ووحدة سورية بدخول فلسطين
ولبنان فيها على أن يكون للبنان الخيار في شكل إدارته بدون تدخل أجنبي؟
قلت: نعم , ووافقني الأستاذ الشيخ كامل
قال الوزير: إن معنى هذا رفض قرار مؤتمر (سان ريمو) .
قال الأستاذ الشيخ كامل: فليكن. قال: إذًا لا حاجة إلى السفر.
وبعد بحث (دار بين الحاضرين كلهم) قال وزير الحربية: إنه بلغه عن ثقة أن
مؤتمر سان ريمو لم يقرر في شأننا شيئًا قطعيًّا.
قال وزير الخارجية: أنا لا أعتد بهذه الإشاعات، عندنا شيء قطعي هو بلاغ
اللورد اللنبي عن حكومته أن المؤتمر قرر الاعتراف باستقلال سورية والعراق
على قاعدة الانتداب، وأن فرنسة انتدبت لسورية، وإنكلترة للعراق وفلسطين،
فإما أن نرفض هذا القرار ولا حاجة حينئذ للوفد، وإما أن نعترف به، ونبحث
معهم في معنى الانتداب، ونطالب ألا يمس سلطاننا العربي.
قلت: بل يحتج الوفد على القرار بمخالفته للمادة 22 من معاهدة فرسايل ويبني
مطالبه على هذه المادة. وفصلت ذلك، ثم انصرفنا على عزم العودة إلى البحث في
جلسة أخرى (انظر مذكرة بعد غد)
يوم الإثنين 4 شوال 21 يونيو:
اجتمعت البارحة برئيس الوزارة (هاشم بك الأتاسي) وصباح اليوم بالملك
فيصل، وهو الاجتماع الأول بعد عودته من حلب، وتكلمنا في مسألة الوهابية.
***
حديث مع سمو الأمير زيد في مسألتين
(1) ضعف الحكومة السورية وتدخل الملك فيصل:
لما زارني الأمير زيد زيارة العيد تكلم معي في مسألة إدارة الحكومة السورية،
فذكرت له بعض ما يجب لتلافي ضعفها، فدعاني إلى الغداء معه أمس - وكان
الحديث قبله ثاني يوم العيد - لنتوسع في الكلام على انفراد فأجبت، وكان مما
اعترف به فساد كثير من رجال البلاط (حاشية الملك) وقال: إنه يجب تنظيفه من
مثل الشيخ (ف. خ) واعتذر عن تدخل الملك في الأعمال لضعف الحكومة
وعجزها.
قلت: إن الواجب عليه إصلاحها لا التصرف الشخصي الذي يزيدها خللاً [1]
(2) مسألة العداء بين الهاشميين وابن سعود:
وأخبرني (الأمير) بعودة الرسول ( ... شلاش) الذي ذهب بكتابي وكتاب
الملك إلى ابن سعود، وقال: إن ابن الرشيد يود الاتفاق مع شرفاء مكة، وإن ابن
سعود مراوغ - أو ما هذا معناه أو مؤداه.
ثم إن رئيس الأمناء (إحسان بك الجابري) أطلعني في المساء - أي: مساء
أمس (3 شوال) على كتاب ابن سعود للملك فيصل، وهو ودي، وعلى ملحق
سياسي له بغير إمضاء ولا ختم - كعادته - ينحي فيه باللائمة على الملك حسين،
ويقول: إنه لا يود الاتفاق.
ولكن الملك فيصلاً يتوقع زحف الوهابية على الحجاز، وطلب من الوزارة
جيشًا سوريًّا لحماية المدينة المنورة منهم، وإلا ترك المُلك وذهب لقتالهم مع أبيه.
***
الوحدة العربية
إيضاح لمسألتها بيني وبين الملك فيصل
إنني على قلة عنايتي بكتابة المذاكرات قد كتبت منها ما أهم ما دار بيني وبين
الملك فيصل لأجل الرجوع إليه إذا استمر التعاون بيننا على العمل للقضيتين:
قضية الوحدة العربية، وقضية الجامعة الإسلامية اللتين لا تقوم إحداها إلا بالأخرى،
ولم أقصد بكتابتها أن تكون مادة لكتابة تاريخ لهما؛ لأن وقتي لا يتسع لذلك مع ما
أقصده من الإصلاح الإسلامي العام.
ومما أزيده من الإيضاح على ما كتبت في هذه المذكرة أن الملك فيصلاً فتح
جواب ابن سعود الذي أرسله إليّ مع الرسول (شلاش) الذي حمل الكتابين إليه مع
إبقاء ظرفه سليمًا، وأرسله إليّ ملصقًا؛ ولكن ضعف صمغ الظرف عند فتحه
بعرضه على بخار الماء، فعلمت أنه فُتِحَ قبل إرساله إليّ ولكنني تجاهلت ذلك، وهو
جواب عن كتابي الأول الذي كتبته في 27 جمادى الآخرة سنة 1338، وأرسل في
أوائل رجب لا الكتاب الثاني الذي كتبته في اليوم الثالث من رمضان، وأخبرني
الملك على مائدة الإفطار مساء 12 منه أنه أرسله مع الوفد الذي كان قرر إرساله
إلى الأمير ابن سعود، وذكرته في مذكرة ذلك اليوم، وأنه تبين لي بعد أنه لم
يرسله، وما أدري متى أرسله بعد ذلك.
وكان الكتاب الأول مطولاً ذكَّرته فيه بما كنت كتبته إليه عن مشروعي للوحدة
العربية، وأرسلته مفصلاً إلى إمام اليمن ومجملاً إلى سموه وإلى السيد محمد
الإدريسي الكبير، وبما حال من التواصل بيننا في أثناء الحرب العامة؛ إذ أرسلت
إليه رسولاً ليعرض له رأيي فيها، وفي القضية العربية الكبرى.
ثم قلت فيه: (وأكتفي الآن بجنوحكم للسلم مع الحجاز، وقبولكم دعوة الوحدة
العربية على القاعدة التي بيناها في هذا الكتاب، ومتى جاءني خطكم مصرحًا بهذا،
وجاء خط ملك الحجاز لولده الأمير فيصل بمثله نشرع في وضع قواعد الاتفاق
العربي العام ... ) إلخ.
وذكرت له فيه أنني مرسل إياه مع الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار (وهو
خير ثقة من أهل العلم والصلاح هنا، فثقوا به فيما يبلغكم عني ويبلغني عنكم،
وإن كان غير متمرس بالسياسة على أنني لقنته ما لا بد له من العلم به من الأحوال
الحاضرة) .
وقد سافر رسولي الأستاذ البيطار مع رسول الملك رمضان شلاش؛ ولكنه
عرض له عند حدود الحجاز ما أعجزه عن مواصلة السفر إلى نجد فأعطى كتابي
لرفيقه , وأرسلته الحكومة إلى المدينة المنورة، ومنها عاد إلى دمشق.
وقد كان جواب الأمير ابن سعود لي ثناء علي، وإطراء فوق المعهود من
أسلوب ابن سعود في كتبه ورسائله لحكمة ظاهرة، وفيه استحسان للدعوة إلى
الاتفاق والاتحاد بالإجمال، وأنه يحتاج إلى الدرس، وأنه سيخبرني بما يتراءى له
من التفصيل، وهو مختوم بخاتمه المعروف، وفيه ملحق وجيز بخطه دون ختمه
قال فيه: (أيها الأستاذ الأكرم، جميع ما ذكرتم في كتابكم حق ومعقول، ولكن ليس
بخافٍ على سيادتكم أن الأقوال واحدة والأفعال مختلفة، كل تابع هواه) ، ثم ذكر
أن رسولي لو وصل إليه لعرَّفه كل ما في ضميره، وأنه يستحسن أن أرسل إليه
رسولاً عاقلاً دينًا بصفة تاجر من طريق بمبي (الهند) ليعرِّفه جميع ما في الخاطر،
وقد أعطيته للملك فيصل مع ملحقه لاعتقادي أنه قرأهما قبلي، ولولا هذا لكان
مقتضى الأمانة والمصلحة أن أكتم الملحق عنه مع بقاء السعي والتوسل للثقة بينهما،
ومما يدل على أنه كان قرأه أنه لم يطل النظر فيه، بل أعاده إلي بدون تريث ولا
بطء.
وقد اشتد سخطه بعد عودة الرسول من نجد على ابن سعود، وخوفه من زحفه
على الحجاز، وانقطع بحثنا في مسألة الوحدة العربية أيامًا.
وأما كتابي الثاني في أوائل رمضان لسموه فهو مبني على قبول الملك حسين
للاتفاق معه الذي عرضه عليه ولده الملك فيصل بالاتفاق معي، وقد كتبته بعد
وصول جوابه عن الأول كما عُلِمَ مما تقدم.
وأما طلب الملك فيصل من الوزارة أن تجهز جيشًا سوريًّا لقتال ابن سعود كما
يوجب عليه والده، فقد أجابته الوزارة عنه جوابًا سلبيًّا، وأن كل ما تسمح به هو
أن يتطوع من شاء من السوريين لهذه المساعدة بشرط أن تكون نفقتهم على حكومة
الحجاز، وأن تكون حكومة سورية على الحياد؛ ولكن أخطأ الظن، ولم يزحف ابن
سعود بالجيش الوهابي على الحجاز في ذلك العهد، وعدنا إلى سعينا للوحدة العربية
إلى أن أنذره الجنرال غورو الزحف على سورية، وأذكر هنا آخر كلمة لي في
مذكراتي بدمشق في هذه المسألة بعد تمهيد وجيز وهو:
كان اقترح عليّ الملك فيصل أن أكتب له القواعد أو الأسس التي ارتأيت أن
تُبْنَى عليها دعوة أمراء جزيرة العرب للمحالفة لأجل المناقشة فيها قبل تبييضها
وكتابة الدعوة، فكتبتها، ولما عرضت فكرة الخوف من زحف الوهابية على الحجاز
امتنعت من إطلاعه عليها، حتى إذا انجلى ذلك العارض عرضتها عليه، فقال: دعها
لي حتى أتأمل فيها. وبعد أن تأمل فيها مرارًا قال لي: إنني موافق عليها كلها، لم
أستطع زيادة كلمة فيها، ولا نقص كلمة منها. وهاك الكلمة الوجيزة التي كتبتها في
مذكرتي عنها:
يوم الأحد 17 شوال، 4 يوليو (تموز) :
أطلعت الملك فيصل على البرنامج الذي رأيت جعله أساسًا لدعوة أمراء
جزيرة العرب للاتفاق والحلاف فأعجبه جدًّا، بل أُعْجب به جدًّا، وقال: أنا أوافق
عليه أنا وإخوتي علي وعبد الله وزيد وكل ذي كلمة وفهم في مكة، ولا يمكن أن
يغلب سيدنا - يعني والده - علينا كلنا ويرفضه، بل نتعهد بقبوله إياه. وتواعدنا
على المذاكرة التفصيلية فيه غدًا، ووعدني بأن لا يُطْلِع عليه أحدًا قط، ولا إحسان
الجابري اهـ.
ولكنني في ضحوة اليوم التالي (الإثنين) حلَّفت إحسان بك يمين جمعية
الجامعة العربية، وكتبت فيه أنه سألني بعد القسم، هل يحنث باليمين من يوافق
على احتلال الأجانب بعض البلاد لإنقاذ البعض الآخر؟ قلت: نعم.
(وثم صارت ثقتي بإحسان بك أقوى من ثقتي بجلالته في مسألة الوحدة
العربية؛ لأنها عند إحسان مطلقة، وعند فيصل مقيدة بمصلحته ومصلحة والده)
***
عودة إلى مسألة الوفد السوري
يوم الثلاثاء 5 شوال 22 يونيو:
اتفقت أمس مع وزير الخارجية بعد كلام في مهمة الوفد السوري الذي سيسافر
إلى أوربة على الاجتماع ليلاً في دار مستشارها جميل مردم بك لبسط الحديث
وتقرير ما نراه، فاجتمعنا البارحة وكان ثالثنا - غير صاحب الدار - وزير
الحربية يوسف بك العظمة، ورابعنا وزير المعارف ساطع بك الحصري، وخامسنا
خالد أفندي الحكيم، ولم يبلغ الشيخ كامل موعد الاجتماع.
وبعد البحث اتفقوا على رأيي الذي كررته، وهو أن تكون قاعدة مطالب الوفد
قرار المؤتمر السوري، والاحتجاج على قرار مؤتمر سان ريمو لمخالفته للمادة 22
من معاهدة فرسايل، والبحث في معنى المساعدة الاستشارية المقررة في تلك المادة
واشتراطه أن لا تمس الاستقلال التام، وأن يكون الرأي فيها للأمة، وأن لا يقر
الوفد على شيء نهائي، بل يحمل ما يتقرر إلى البلاد ويعرضه على مؤتمرها
النيابي - كذا ولعل المراد مجلسها النيابي إذ كان مقررًا - ليقرره أو يرفضه أو
يطلب تعديله.
***
حالة الحكومة السورية وملكها وشعبها
يوم الأربعاء 6 شوال، 22 يونيو:
تكلمت في جلسة ليلة الثلاثاء مع بعض الوزراء في مسألة الاجتماعات السرية
التي يعقدها بعض وجهاء دمشق ومعمميها الموالين لفرنسة وزعماؤهم رضا باشا
الركابي والشيخ عبد المحسن الأسطواني والشيخ محمود أبو الشامات والشيخ أسعد
الصاحب والشيخ أديب تقي الدين والشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ عبد الحميد
العطار و….، وقد بلغ الحكومة أنهم قرروا إرسال وفد إلى فرنسة ليطلب انتدابها
لجميع سورية، وألقى الحاضرون التبعة في إهمال ما يجب من تربيتهم على ناظر
الداخلية (رضا بك الصلح) فقلت: إن مثل هذا العمل يجب أن يكون بقرار مجلس
الوزراء لا بأمر وزير الداخلية وحده؛ لأنه يتعلق بالسياسة والإدارة العامة، ولا يعد
من الوقائع الموضعية.
واليوم زارني وزير الداخلية، وأخبرني بضغط زملائه عليه، وأنه رفع
استقالته إلى الملك، وطلب مني تعضيده، فدل هذا على أنه يود أن لا يقبل الملك
استقالته ليكون مركز الوزارة قويًّا أمام يوسف بك العظمة وزير الحربية وأعوانه
كوزير المعارف ورئيسهم، وسبب هذا الشقاق أن رضا بك الصلح يرى أنه أحق
برياسة الوزارة، ويميل إلى كبراء الشام المؤسسين للحزب الوطني - لأنه
أرستقراطي مثلهم - ولا يوافق زملاءه المخالفين على الضغط عليهم، ولا على
مساعدة العصابات في جبال عامل ولا في غيره، وهو المصيب في هذه المسألة؛
فإن العصابات الموضعية تخرب البلاد بأيديها وأيدي السلطة الفرنسية، وتسفك
الدماء بدون نتيجة مفيدة، وإنما يُعْقَل الاستعانة بالعصابات إن وقعت بشرط أن
تكون عامة (لا موضعية) كما قلت للملك فيصل ولغيره مرارًا، وقد طلبوا منه -
أي: وزير الداخلية - عزل رئيس البلدية الذي طعنت فيه اللجنة الوطنية وغيرها
قولاً وكتابة، فلم يقبل فاشتد النفور بينه وبين المسلمين (كذا) من أعضاء الوزارة
فاستقال وسأسعى لعدم قبول استقالته اهـ.
يوم الجمعة 8 شوال، 25 يونيو:
كلمت رئيس أمناء الملك إحسان بك الجابري في مسألة استقالة رضا بك
الصلح فوافقني على السعي لعدم قبولها، وقال: إنها لا تزال في جيبه لم يقدمها
لجلالة الملك لعل رضا بك يستردها اهـ[2] .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كان الحديث بيني وبين الأمير زيد في ضعف الحكومة واستبداد الملك فيصل فيها طويلاً صريحًا، ملأني إعجابًا بحريته وذكائه، وقليلٌ ما كتبته يشير إلى كثيره.
(2) كان بيني وبين رضا بك الصلح رحمه الله تعالى صداقة ومودة شخصية، وكنت أحب المحافظة عليه في الوزارة لمكانة أسرته، وتمثيله لبيروت في حكومة سورية، وأما وجهاء دمشق المشار إليهم فلم يكن بيني وبين أحد منهم مودة ولا عداوة إلا علي رضا باشا الركابي، كنا صديقين، وقد ذكرنا ما وقع بيننا من الفتور في قلب المودة.(34/393)
شعبان - 1353هـ
ديسمبر - 1934م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
المرأة البرزة وخطابتها على الرجال مكشوفة الوجه
(س 23) من حضرة صاحب الإمضاء في (مجالغكا - جاوة)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة مولاي قدوة العلماء الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار - نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز - آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، فما دام قولكم في النساء المتبرزات كالخطبة أمام الرجال مكشوفة
الوجه، فإن جوزتم، فما مراد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} (الأحزاب: 28) الآية، وقوله تعالى:] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [
إلى {تُفْلِحُونَ} (النور: 31) أفتونا يا سيدي بيانًا شافيًا فلكم الشكر منا، ومن الله
الأجر والثواب. والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحليم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس هيئة المركزية لشركة العلماء ... ... ...
(23) المرأة البرزة تخطب الرجال سافرة:
(ج) قوله في السؤال المتبرزات غلط أو محرف أصله البرزات، فالتبرز
الخروج إلى البراز (بالفتح) وهو الفضاء الواسع، وغلب استعماله في قضاء
الحاجة، والبرزة (كضخمة) معناها المرأة البارزة المحاسن، وغلب استعماله عند
العرب والمولدين بما نقله أصحاب المعاجم عن رواة اللغة كقول صاحب لسان
العرب: قال ابن الأعرابي: قال الزبيري: البرزة من النساء التي ليست بالمتزايلة
التي تزايلك بوجهها تستره عنك وتنكب إلى الأرض، والمخرمقة التي لا تتكلم إن
كُلِّمت، وقيل: امرأة برزة متجالة تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون عنها، وفي
حديث أم معبد: وكانت امرأة برزة تختبئ بفناء قبتها، أبو عبيد: البرزة من النساء
الجليلة التي تظهر للناس ويجلس إليها القوم، وامرأة برزة موثوق برأيها وعفافها،
ويقال: امرأة برزة إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفة
عاقلة تجلس إلى الناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور والخروج اهـ.
وأم معبد التي ذكرها هي الخزاعية الصحابية التي مر بها النبي صلى الله
عليه وسلم، وصاحبه الصدِّيق رضي الله عنه في حديث الهجرة في طريقهما من
مكة إلى المدينة ومعهما خادمهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهما عبد الله
بن أريقط - وكان مشركًا ثم أسلم - فسألوها عن لحم وتمر ليشتروا منها، فاعتذرت
بالقحط وتمنت لو كان عندها قراء تضيفهما به، وكان بجانب خيمتها شاة عجفاء لا
تستطيع الخروج إلى المرعى، فاستأذنها النبي صلى الله عليه وسلم بحلبها فقالت له:
احلبها إن وجدت فيها حلبًا، فمسح ضرعها، ودعا الله تعالى، وحلبها فدرت فسقى
أم معبد، ثم من معه، ثم شرب على سنته إذ قال: (ساقي القوم آخرهم شربًا) [1]
ثم حلب وأبقى عندها اللبن لتسقي منه أبا معبد عند عودته، وقصتها معروفة في
كتب الحديث والسير، واسمها (عاتكة بنت خالد الخزاعي) قيل: كانت مسلمة
قبل مرور النبي صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: أسلمت بعد ذلك، وعاشت إلى
عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه.
فإن كان مراد السائل من النساء البرزات، فلا حرج في خطبتهن سافرات فقد
كان كثير من نساء الصحابة ومن بعدهم برزات يحضرن صلاة الجماعة ومجالس
العلم، ويخطبن الرجال، ويروين الحديث، وإن كان مراده بروز النساء للرجال
كيفما كانت حالتهن وصفاتهن ومخالطتهن لهم، فالحكم يختلف باختلاف ذلك كما هو
معروف، وإننا لنرى من بعض نساء مصر في بروزهن ما يتبرأ منه الإسلام،
وكل دين وأدب وشرف.
لم يرد في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نص في
تحريم ما ذكرنا، ولا في سيرة نساء السلف الصالح شيء من منع المرأة أن تقف
مكشوفة الوجه تخطب على الرجال فيما هو حق ومصلحة، وقد بيَّنا في كتابنا
(نداء الجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) تحت عنوان (آداب المرأة
وفضائلها) جملة ما ورد في ستر النساء وملابسهن ومخالطتهن للرجال ومسألة
حجب نساء الأمصار، وفسرنا فيه الآيتين الكريمتين اللتين ذُكِرَتا في السؤال
وغيرهما بما يعلم منه جوابه مفصلاً، فليراجعها الرئيس الفاضل في المسائل
54 - 57 من صفحة 106 إلى 113 منه إن لم يكن قرأها بعد إرسال سؤاله إلينا،
فإن بقي له بعد ذلك في الموضوع ما يبغي بيانه، فليتفضل بالسؤال عنه.
* * *
أسئلة عن أحكام القصاص في القتل والصيال والقمار
(س24 - 27) من صاحب الإمضاء من صولو بجاوة.
الحمد لله وحده.
إلى حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية، وخادم الإسلام، عزيزي
الأستاذ السيد محمد رشيد رضا محرر مجلة المنار الغراء بمصر القاهرة، دام إجلاله.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأرجو من فضيلتكم أن تفتونا على صفحات مجلتكم المنار الغراء عن
ما يلي لتكتسب الثواب في الدنيا والآخرة، وتهدوننا إلى سواء الصراط، آجركم الله
وجازاكم بالخير الجزيل في الأولى والآخرة آمين.
(1) كيفية حكم القصاص في الشريعة المحمدية السمحة، ولا سيما في
القتل الشائع ما بين المسلمين البيِّن؟ !
(2) ما حكم الشريعة المحمدية في شخص يدين بدين الإسلام تَعَرَّض مسلمًا
آخر ماشيًا في سبيله، وسفك دمه بغير حق؟
(3) هل تحكم الشريعة المحمدية بالإعدام على المعتدي السافك لدم أخيه
المسلم أم لا؟
(4) من دافع عن ماله وروحه، وحان القضاء والقدر وسفك دم المسلم
المعتدي عليه هل تحكم الشريعة المحمدية عليه بالإعدام أم تبرئه لأنه غير قاصد
الشر، بل قَصَدَهُ المجرمُ بالشر؟ وكيفية إجراء الحكم الشرعي على المجرم، هل
يجازيه ربه في الآخرة بخير أم بشر؟
(5) ما قولكم في اليانصيب (اللتري) الشائع في جميع العالم: هل هو حرام
أم مكروه أم جائز؛ فإننا نرى كثيرًا من إخواننا المسلمين يشترون تذكرة اليانصيب
بثمن 11 ربية تقريبًا آملين أن يحصلوا مائة وخمسين ألف ربية، فمنهم من يحصل
ذلك المبلغ، ومنهم من يتأسف على مبلغه الذي يهديه لمصلحة اليانصيب بلا فائدة
تعود عليه، أفيدونا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... أفندي البحري
... ... ... ... ... ... ... بصولو جاوة
(ج) أقول قبل الجواب: إن السائل أعطاني لقبين أولهما غير صحيح؛ وإنما
هو لقب ثابت لموظف رسمي من قبل الحكومة المصرية، وصاحبه في هذا العهد
الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم فهو مفتي الديار المصرية، ولعل السائل
يظن أن كل من يفتي في مصر يصح أن يوصف بهذا اللقب.
ثم إن الأسئلة الثلاثة الأولى يصح أن تجعل سؤالين مقترنين، وهو حكم
قصاص القتل وتنفيذه فنلخصها كما فهمناه من عبارته، وإن لم نعرف سبب السؤال
ونجيب عنه.
***
(24 و25) حكم قتل المسلم لأخيه عمدًا وكيفية تنفيذ القصاص:
أما حكم قتل العمد بغير حق، فهو القود بأن يقتل القاتل قصاصًا إلا أن يعفو
عنه أولياء الدم أو بعضهم؛ وإنما يقتل بحكم ولي الأمر، وكيفية القتل التي كانت
معهودة في عصر التشريع الديني هي قطع الرأس بالسيف، ومن مباحث الاجتهاد
فيها هل هي واجبة دينًا يمتنع أن يستبدل بها ما يكون أسهل منها وأقل تعذيبًا وإيلامًا
للمقتول كالشنق والقتل بالكهرباء؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب
الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة)
الحديث، فالقتلة والذبحة في الحديث بكسر أولهما اسم لكيفية القتل أو الذبح، وهو
يدل على وجوب ترجيح أحسن الكيفيات، والحديث رواه مسلم وأصحاب السنن عن
شداد بن أوس.
(26) حكم الصِّيال إذا قتل الصائل:
إن دفاع المرء عن نفسه وماله وزوجه وأولاده إذا اعتدى عليه معتدٍ مشروعٌ،
ويسمى هذا الاعتداء الصيال، وأحكامه مبسوطة في كتب الفقه، والأصل فيه أن
يدافع الصائل بالأخف فالأخف، فلا ينتقل من وسيلة لدفعه إلى وسيلة أشد منها إلا
إذا كانت غير كافية، فإن أفضى بهذه الصفة إلى قتله كان دمه مهدرًا لا قصاص فيه
ولا دية ولا كفارة كما نص عليه في مذهب الشافعية الذي عليه أهل جاوة، والأصل
فيه حديث النسائي عن مخارق قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: الرجل يأتيني فيأخذ مالي، قال: (ذَكِّره بالله) قال: فإن لم يذكر؟ قال:
(فاستعن عليه من حولك من المسلمين) قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟
قال: (فاستعن عليه بالسلطان) قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: (قاتل دون
مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك) .
وروى أصحاب السنن الثلاثة من حديث سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد،
ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) والمراد بدون ما ذكر
الدفاع عنه.
وفي صحيح مسلم أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ ، قال: (فلا تعطه مالك) ، قال: أرأيت إن
قاتلني؟ قال: (قاتله) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) ، قال:
أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار) .
(27) حكم اليانصيب:
اليانصيب نوع من أنواع الميسر بيناه في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) الآية في الطبعة الثانية من الجزء الثاني من
تفسير المنار (ص 329 و 330 منه) بعد بيان ميسر العرب، وقلنا: إنه لا يظهر
فيه كل ما وُصِفَ به ميسر العرب مع الخمر في آيات سورة المائدة وهذا نصه:
(اليانصيب) هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات
أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار (جنيه) مثلاً، تجعل جزءًا
كبيرًا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلاً، يُقَسَّم بينهم بطريقة
الميسر وتأخذ هي الباقي، ذلك بأن تطبع أوراقًا صغيرة كأنواط المصارف المالية
(بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارًا واحدًا مثلاً
يطبع عليها، وتجعل العشرة الآلاف التي تعطى ربحًا لمشتريي هذه الأوراق مائة
سهم أو نصيب تُعْرَف بالأرقام العددية، وتسمى النمر (جمع نمرة) ويطبع على
الورقة المشتراة عددها، وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها، وتجعل
باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه
السحب، ذلك بأنهم يتخذون قطعًا صغيرة من المعدن يُنْقَش في كل واحدة منها عدد
من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحد إلى مائة ألف، إذا كان المبيع من الأوراق
مائة ألف، ويضعونها في وعاء من المعدن كري الشكل كخريطة الأزلام (القداح)
التي بيناها آنفًا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر، فإذا كان
يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولاً سمي النمرة الأولى مهما
يكن عددها هي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند
العرب، وما خرج منها ثانيًا سمي النمرة الثانية، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي
الأول، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده، وكان الباقي
خاسرًا.
وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة
والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون
عند السحب، وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه، ولا يعملون له
عملاً آخر، فيشغلهم عن الصلاة، أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة، ولا
يعرف الخاسر منهم فردًا أو أفراد أكلوا ماله؛ فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب
وقمار الموائد ونحوه، وكثيرًا ما يجعل (اليانصيب) لمصلحة عامة كإنشاء
المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات
الحربية، والحكومات التي تحرم القمار تبيح (اليانصيب) الخاص بالأعمال
الخيرية العامة أو الدولية، ولكن فيه مضار القمار الأخرى وأظهرها أنه طريق
لأكل أموال الناس بالباطل، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، وهذا محرم
بنص القرآن كما تقدم في محله، وقد يقال: إن المال الذي يبنى به مستشفى لمعالجة
المرضى، أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء، أو ملجأ لتربية اللقطاء لا يظهر فيه
معنى أكل أموال الناس بالباطل، إلا في آخذي ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية
المال من جمعية أو حكومة، وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد
معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن
الصلاة.
ومن مضرات الميسر ما نبه إليه الأستاذ الإمام ولم يسبقه إليه أحد من
المفسرين، وهو إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب
الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية،
وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان
العمران.
ومنها وهو أشهرها تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في
ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز، وانحصرت ثروتها في
رجل أضاعها في ليلة واحدة، فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن
تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك اهـ.
فإذا ثبت أن هذا النوع لا يدخل في عموم الميسر المحرم في القرآن فلا يعد
من الحرام القطعي بالنص، ويظهر هذا إن فعلته حكومة أو جمعية خيرية لا تأكل
من ربحه شيئًا؛ ولكن شراءه قد يكون ذريعة لغيره، فينهى عنه من هذا الباب.
* * *
اليانصيب وتربية الوحوش وغيرها في الأقفاص
(س28و29) من صاحب الإمضاء في سميس برنيو (جاوة)
مولاي الأستاذ العلامة الجليل، والمصلح الكبير، صاحب المنار المنير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أما بعد) فأرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية وهي:
(1) إن حكومتنا الهولاندية قد تعمل بعض الأعمال الكبيرة كبناء
المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين بما يسمونه لوتراي (يانصيب) ، وقومته
بنحو مائة ألف روبية، وجعلتها عشرة آلاف سهم (لوت) وتبيع كل سهم
منها بعشر روبيات وتأخذ من ثمن هذه الأسهم خمسين ألفًا مثلاً لبناء
المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين، ثم تقسم الخمسين إلى نحو عشرين
قسمًا تُدْفَع للذين اشتروا هذه الأسهم بطريق القرعة بينهم فمن خرجت له فله نصيب
منها.
فهل يجوز شراء هذا السهم (اللوت) وأخذ ربحه أم لا؟ وهل يجوز لنا طلب
شيء من الخمسين التي أخذتها الحكومة تنفقه على مدرسة إسلامية أو غيرها من
مصالح المسلمين؟ وهل يجوز أن نعمل مثل هذا العمل (لوتري) بإذن الحكومة
لضعف المسلمين وإعراضهم عن البذل في سبيل الخير العام؟ أم يعد هذا العمل من
القمار الذي حرمه الله بنص القرآن؟
(2) هل يجوز تربية الطير أو غيرها من الوحوش في الأقفاص فردًا أو
زوجًا مع ما يكفيها من الأكل والشرب وغيرهما، وذلك للائتناس بصورتها أو
صوتها؟ وهل يعد ذلك ظلمًا لها أم لا؟ وقد أفتى من أفتى بأن حبس الطير في
القفص ظلم لها وإن لم يقصر في أكلها وشربها.
هذا وتفضلوا بالجواب، ولكم مني الشكر ومن الله الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(28) اليانصيب أيضًا:
قد بينا حكم هذه المسالة بالتفصيل في الفتوى 27 آنفًا، أما شبهة جعله للمنافع
العامة فقد بيَّنا ما فيها في جواب سؤال من بلادكم نشر في ص 670 من مجلد المنار
33، وأما إذا فعلت حكومتكم ذلك وأعطتكم منه شيئًا للمنافع العامة؛ فإن لكم أخذه
لذلك بغير شبهة.
(28) حكم حبس الوحوش والحيوان والطير في الأقفاص:
قال بعض الفقهاء: إن حبس الحيوان والطير ظلم فهو حرام، ويظهر وجه هذا
القول إذا كان حبسها لأجل تعذيبها، والمعهود المعروف عندنا في حدائق الحيوانات
بمصر وأمثالها في الأمصار الكبيرة في الشرق والغرب أن هذه الحيوانات يعتنى
بغذائها وتناسلها، وجعل الجو الذي توضع فيه كأجواء الأقطار التي تجلب منها،
وإن الغرض منها انتفاع العلماء بدرس طباعها وسنن الله فيها، وتمتع العامة
برؤيتها، وقد خلق الله هذه الأرض وما فيها لمنافع الناس المختلفة فلا وجه مع هذا
لتحريمها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) .
* * *
شبهات على تحريم اليانصيب الخاص ربحه بالمنافع العامة
(30) من صاحب الإمضاء في قوص
حضرة صاحب الفضيلة العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد , فإني - والحق أقول - قلَّ أن أجد
كفئًا واسع الاطلاع يرتاح إلى إجابته ضمير السائل غير شخصكم المحبوب.
لهذا أرسل إلى فضيلتكم كلمتي الآتية كشبهة في مجموعها حول تحريم
اليانصيب أرجو بيانها، وإرسال شعاع من نور علمكم الفياض يكشف لي الحق
وينير طريقه - وهي ليست شبهات متعنت أو مجادل ليس إلا، وإنما هو طلب
الوقوف على الحقيقة التي لا يصل إليها علمي القاصر، والله أسأل أن يطيل في
حياتكم وينفع بكم الإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... حسن النجار أحمد مدرس إلزامي
شبهاتي حول تحريم اليانصيب
يقول الأصوليون: إن المآلات معتبرة شرعًا، واعتبارها لازم في كل حكم.
(أولاً) فقد يكون العمل في الأصل مشروعًا؛ ولكن ينهى عنه نظرًا
لما يئول إليه من المفسدة: مثال ذلك امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل
من ظهر نفاقه معللاً ذلك بقوله: (أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) .
(ثانيًا) النهي عن سب مَنْ يدعو المشركون من دون الله معللاً ذلك في
قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) .
(ثالثًا) النهي عن التشدد في العبادة خوف الانقطاع عنها.
فالأصل في كل هذه الأمثلة وما ماثلها على المشروعية؛ ولكن نهي عنه نظرًا
لأن مآله غير مشروع بضرره، والمفسدة المؤدية إليه، والشرع إنما مبناه على
جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد يكون العمل أيضًا في الأصل ممنوعًا؛ ولكن
يترك النهي عنه نظرًا إلى ما يؤول إليه من المصلحة.
ومثاله: تحريم قتل النفس، ثم إباحتها عند القصاص نظرًا لمآله الذي عبر
القرآن الكريم عنه بقوله: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) .
ومثاله إباحة الكذب عند قصد الصلح مثلاً - وإباحة الغيبة وذكر عيوب الناس
لغرض شريف مشروع كالاستعانة على تحسين حاله أو الانتصاف منه ... إلخ.
ومثاله إباحة كشف العورة عند التداوي، وإباحة أكل الميتة للمضطر، ومثاله
ما جاء في حديث البائل في المسجد حيث أمر الرسول بتركه حتى يتم بوله نظرًا
لأن الضرر المترتب على تركه أقل من الضرر المترتب على قطعه بوله، فلم لا
تطبق هذه القاعدة في اليانصيب والغاية منه شريفة ومفيدة كالاستعانة بما يجمع منه
على إزالة الأمية، ورفع الجهل عن كاهل الأمة - أو كالاستعانة به في بناء
مستشفى لتخفيف آلام المرضى من الفقراء والمساكين كما هو الحال في يانصيب
جمعية المؤاساة الإسلامية بالإسكندرية.
أرجو إجابتي على هذه الشبهات بما أفهم فيكم من دقة البحث وسعة الاطلاع
والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن النجار أحمد
(3) لم لا يباح قمار اليانصيب لجعل ربحه في المنافع العامة؟
(ج) لا ريب أن جميع أحكام الشريعة السمحة في المعاملات مبنية على
أساس المنافع والمصالح العامة واجتناب المفاسد ودرئها، ومعللة بها، والحكم يدور
مع العلة وجودًا وعدمًا كما قالوا؛ ولكن ما ثبت منها بنص الشارع القطعي الرواية
والدلالة لا مجال للاجتهاد في أصله، ومنه تحريم الميسر فيجب اتباعه وإن لم
تظهر لنا علته في بعض أنواعه مع الجزم بأنه لا بد أن تكون له علة صحيحة، ولا
تجوز مخالفته إلا بدليل نص مثله كدليل إباحة الضرورات للمحظورات كما سيأتي،
وقد بين الكتاب العزيز أن في الخمر والميسر إثمًا كبيرًا ومنافع للناس وأن إثمهما
أكبر من نفعهما، وقد حرمهما الله تعالى مع ذلك مبينًا علة تحريمهما في آيات سورة
المائدة، فإن كان ما يسمى (اليانصيب) من هذا الميسر فلا يقال لِمَ لم يبح هذا
النوع منه لما فيه من المنفعة الزائدة على ما كان من منافع الميسر الذي كان عند
العرب عند نزول الآية؛ لأننا نقول: إن النص يجب اطراده، وإن لم تظهر العلة
في جميع أفراده كما هو الأصل في جميع قواعد التشريع العامة: الدينية والقانونية.
بيد أن هنا شبهة على تحريم اليانصيب الخيري المحض الذي تفعله الحكومات
والجمعيات الخيرية بيناها في الفتوى 27 آنفًا، وهي أن يقال: إن هذا اليانصيب
ليس مما يدخل في عموم ميسر العرب بالأزلام، ولا تظهر فيه علة تحريمه
المشتركة بينه وبين الخمر وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) وإذا كان فيه إثم وضرر مما ذكرناه في تفسير آية البقرة
فلا ريب في أن نفعه أكبر من إثمه وضرره، فلا يظهر وجه لتحريمه في هذا النوع
خاصة بخلاف غيره والله أعلم.
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بهذا اللفظ، وبدون كلمة (شُربًا) أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود.(34/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تصدير طبع كتاب المنار والأزهر
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11) ،
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) ، {هَذَا
كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 29) .
صدق الله العظيم
ما للأزهر وما عليه من الحق:
الحق أقول: إنه لا يوجد في العالم الإسلامي بيئة (أو ما يعبر عنه في
العرف المدني بالشخصية المعنوية) أجدر من هذا الأزهر بالكرامة في نفسه،
وبالتكريم من الأمة وحكومتها؛ ولكنه ظُلِمَ وهُضِمَ حقه، بل حقوقه منذ تفرنجت
حكومته، ولم تعد تشعر بالحاجة إلى علم الدين وأهله، فازدرتهم وحرمتهم من
مناصب الدولة، وقد قبل علماؤهم هذا وذاك بلا دفاع أو بلا شعور، فصار من
التقاليد المتبعة والعرف العام الذي يراعى في القوانين ويشبه الشرع الإلهي المُنَزَّل،
وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم، فظلمتهم حكومتهم، وخذلتهم أمتهم؛ حتى قيض
الله تعالى لهم عالمًا أفغانيًّا، سيدًا حسينيًّا، فأيقظهم من سباتهم، ونبههم من غفلتهم
عن أنفسهم، وذكَّرهم بحقوقهم في الدولة وبحقوق الأمة عليهم، وأهاب بهم ليأطروا
الظالم على الحق أطرًا، ويقسروه على العدل قسرًا، كما هداهم نبيهم صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله، وإلا أهلكهم الله تعالى بخضوعهم للظلم، وتنكيس رؤوسهم
للذل، وليستعدوا لذلك بإحياء العلم الذي تحيا به الأمم، وتقوم به الدول.
ثم خلفه من مريديه عالم من بني جلدتهم، ونبتة باسقة من تربة أزهرهم،
جهر بدعوته هذه معه وبعده، إذ قال في بيانه لها في سياق ما دعا إليه من الإصلاح
العلمي والعملي:
(جهرنا بهذا والظلم في عنفوانه، والاستبداد قابض على صولجانه، ويد
الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد،) فماذا جرى؟
نفى الظلم الداعي الأول من القطر، ونفى الثاني أولاً من القاهرة إلى بلده
محلة نصر، ثم إلى خارج وطنه: ثم كان ماذا؟ أو ماذا كان؟ عاد إلى مصر
عزيزًا كريمًا، وجدد الدعوة إلى إصلاح الأزهر، وإصلاح مصر والأمة الإسلامية
به، فسالمه الظلم آنًا، ثم ناوأه آونة، واستعان على صده عن الأزهر ببعض أهل
الأزهر، وقد كان من أعوان الظلم عليه وعلى الإصلاح بعد أن كان معه الشيخ
محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر اليوم الذي عمل في إفساد إصلاحه، وإذلال
الأزهر، وظلم أهله ما لم يعمله أحد منهم، ولا من غيرهم.
الأساس الإداري لإصلاح الإمام للأزهر الاستقلال:
أتكلم في هذا التصدير عن إصلاح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قدَّس الله
وجهه من وجهة إعلائه لشأن الأزهر واستقلال أهله به، وكف يد كل من الحكومة
والأمير عن الاستبداد فيه، وهي الوجهة التي عُني الشيخ الظواهري بإفسادها،
وظهر لكل أهل الأزهر ولغيرهم سعيه وسعايته لهدم الأساس الذي وضعه الإمام لها،
وقد تكلمت في صلب الكتاب عن كيده للإصلاح العلمي الديني بالإفساد البدعي
الخرافي.
كان الأساس الذي وضعه الإمام محمد عبده لإدارة الأزهر أن يكون علماؤه
مستقلين فيه بنظام وقانون لا سلطان للحكومة ولا للأمير على العبث به، كما بينت
ذلك بالتفصيل في المنار، ثم في الجزء الأول من تاريخه (أي تاريخ الأستاذ الإمام) .
وذكرت من جملة الشواهد على ذلك من وقائعه أن سمو الأمير أرسل إلى شيخ
الأزهر رجلاً من أكبر رجالات مصر المكرمين (هو الشيخ محمد توفيق البكري)
يبلغه فيه أمر سموه بتوجيه كسوة تشريف من الدرجة الأولى لغير المستحق لها من
العلماء، فلما عرض توجيه الكسوة المنحلة في مجلس إدارة الأزهر لم يتسن لشيخ
الأزهر أن يوجهها إلى غير مستحقها والشيخ محمد عبده في الجلسة، بل وجهت
إلى مستحقها بمقتضى القانون.
حتى إذا ما اجتمع كبار العلماء في حضرة الأمير في أول مقابلة له في قصر
عابدين، صب سموه سوط التثريب على شيخ الأزهر قائلاً له: ألم أكن أمرت بكذا؟
فحصر لسان فضيلة الشيخ عن الجواب، وفرك إحدى كفيه بالأخرى، فبادر
الشيخ محمد عبده إلى إنقاذه قائلاً: إن الذي قرره مجلس الإدارة في الكسوة المذكورة
هو التنفيذ لأمر أفندينا؛ لأنه مقتضى القانون الموقع بإمضاء سموه، والمجلس لا
يعرف له آمرًا غيره، ولا يمكنه العمل بالأوامر الشفوية المخالفة له، فإذا شاء
أفندينا أن توجه (كساوى التشريف) إلى من يشاء من العلماء فليلغ القانون بدكريتو
(مرسوم) يقول فيه: إن كساوى التشريف توجه بإرادة سنية منا! ! فلما سمع
الأمير هذا تبيغ دمًا، وتفصد عرقًا، وانتصب واقفًا لينصرف العلماء فانصرفوا.
هدم الظواهري لاستقلال الأزهر بنفوذ مستخدمي البلاط:
وأما الشيخ الظواهري فهو يخالف قانون الأزهر وما هو فوقه من هداية كتاب
الله وسنة رسوله بكلمة من القصر غير صادرة له عن لسان جلالة الملك المطاع،
بل من تلفون الإبراشي باشا أو من دونه من حاشية البلاط، لا لحفظ استقلال
الأزهر وكرامة أهله، بل للتمتع بمنافع السلطان الاستبدادي فيه؛ فالشيخ لذته في
التمتع بلذة الرياسة في ظل استبداد السياسة، حتى روي أنه يبذل أكثر راتبه
لشريكه في تبادل المنفعة [1] ، ولذة هذا الشريك في جمع المال لنفسه، وجل منافع
الشيخ المادية ما يناله ولده وأهل بيته وبعض أعوانه من الوظائف بجاهه، هذا ما
يقوله ويكتبه المنقبون في سيرته، ومثل هذا قد فعل غيره؛ ولكن الذي لم يفعله أحد
من مشايخ الأزهر هو هذا الإسفاف والتدلي في إهانة علم الدين وأهله بجعل رئيسهم
يذل ويخزى بخنوعه لموظف إداري أو كتابي ليس له عليه أدنى سيطرة ولا سلطان،
وكل ما يخشاه ويرجوه من وجوده في القصر الملكي أن يكتم عن جلالة الملك
ظلمه واستذلاله للعلماء، أو يتأوله بأن فيه خدمة دينية لجلالته، أي أنه يرجو منهم
أن يغشوا ولي الأمر به، وتسمية هذا خدمة للدين أو اتباعًا لما أوجبه الله تعالى من
طاعة أولي الأمر، من تلبيس إبليس ولبس الدين مقلوبًا كالفرو، كما قال أمير
المؤمنين علي كرم الله وجهه.
وقد بينت في خاتمة هذا الكتاب أقوال أشهر المفسرين في الظلم والركون إلى
الظالمين، وإلى من تدنس بشيء من الظلم وإن قل وكونه سببًا لدخول النار معهم،
وما يجب من طاعة الأمراء والسلاطين بالمعروف، ومن نهيهم عن المنكر، ومن
كون السلطة العليا عليهم للأمة ينفذها أهل الحل والعقد من زعمائها.
وقد قال حجة الإسلام الغزالي في (كتاب الحلال والحرام) من الإحياء:
(الباب السادس فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة ويحرم، وحكم غشيان
مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم) (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة
ثلاثة أحوال: الحالة الأولى وهي شرها أن تدخل عليهم، والثانية وهي دونها أن
يدخلوا عليك، والثالثة وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك) .
ثم شرح كل حالة من هذه الثلاث وهو يخاطب بهذا كل مسلم، فما قولك
بعلماء الدين المتصدرين للإمامة والقدوة فيه؟ ثم ما قولك فيهم إذا كانت حالتهم معهم
دون الحالة التي قال أنها شر الأحوال بأن يكون العالم الكبير أمام أحدهم كالأجير
الصغير، بل رئيس العلماء الأكبر كالمرؤوس الحقير، إن الإمام الغزالي لم يكن
على سعة عقله واختباره لأهل زمانه يتصور أن يضع أحد من العلماء نفسه في هذا
الدرك الأسفل وهو الذي كتب ما كتب في علماء السوء وازدلافهم للسلاطين،
وتذكيرهم بعزة علماء الدين، ووعظهم للخلفاء العباسيين، وهو الذي زاره الخليفة
في بيته واقترح عليه أن يؤلف كتابًا في إبطال شبهات الباطنية، وتفنيد دعوتهم
المفسدة للدين والدولة، فمن كان هذا شأنه في مقام العلم الكريم، لا يخطر في باله
أن يكون رئيس العلماء الأكبر في مصر إسلامي كما نرى في مصرنا هذا.
كان عندنا في الأزهر ذلك الإمام الكامل الذي كان يهابه أميره، بله بطانته
وأعوانه، وكانت مزاياه ترى من الهند في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب،
وأوربة في الشمال، من حيث لا يراه الأزهر الذي يجاهد فيه لرفع ذكره،
وإعلاء قدره، فاضطره الاستبداد إلى الخروج منه والاستقالة من خدمته، ليوجه
جهاده إلى ميدان آخر، فلم يشعر الأزهر يومئذ بهذه الصدمة التي قرع بها، وقد
شعر بقارعتها وشكا منها الشرق والغرب كما شرحنا ذلك في المنار ثم في (تاريخ
الأستاذ الإمام) .
يومئذ خدعوا الأزهر بأنهم يريدون إرجاعه إلى ما وجد لأجله بزعمهم، وهو
(العبادة وعلوم الدين لا غير، ومنع كل ما سواها من علوم العصر، وقصر كل ما
يسمونه الإصلاح على صحة الطلبة وغذائهم، وخدعوا الرجل الطيب علامة مصره
الشيخ عبد الرحمن الشربيني (رحمه الله) بهذا فاتخذوه آلة لتنفيذه، وقبول مشيخة
الأزهر لأجله، بعد التمهيد له بخطاب مفتوح رفعه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري
إلى سمو الخديو قال فيه: وأرجو ويرجو المسلمون من سموكم أن تشملوا هذه
المدارس (يعني الأزهر والمعاهد الدينية) بعنايتكم، وأن تقطعوا منها جراثيم
الفساد والانحطاط) .
ثم أرسلوا صاحب الجوانب المصرية الأديب السوري المعروف إلى الأستاذ
الشيخ الشربيني لأخذ حديث منه ينشر فيها، فتنقله جريدة المؤيد فيخفى على الناس
أنه مكر مدبر كما ظنوا، فكان أول ما سأل الشيخ عنه:
(ماذا يرى مولانا فيما قام يلتمسه اليوم الشيخ الظواهري من الجناب
الخديو؟)
أجاب الأستاذ: الظواهري إنما ينطق بلسان كل محب لخير الأزهر عالم
بالغرض الذي أسس له والخدمة التي أداها للدين. ثم بين في جواب سؤال آخر أن
هذه الخدمة عبادة الله، وطلب شرعه كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لا
غير (وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به، ولا
يرجى له) ... إلخ ما فصلناه في تاريخ الأستاذ الإمام، فكيف قبل الظواهري في
رياسته للأزهر اليوم ما طالب الخديو بقطع جراثيمه بالأمس، بل جعل لعلوم
العصر ومدرسيها السلطان الأعلى على الأزهر وعلماء الدين فيه؟
ماذا فعل العلامة الشربيني الذي لم يدر ما أريد به، كما أنه لم يكن يدري لماذا
أنشئ الأزهر ولا ما فعله الأزهر؟ ثم ماذا فعل من بعده من مشايخ الأزهر منذ
تركه الأستاذ الإمام سنة 1323هـ و (1905م) إلى هذه السنة 1353؟
لم يفعل أحد منهم شيئًا، وإنما تركوا أمرهم للخديو، ثم تركه الخديو للحكومة
فسنت له قانونًا بعد قانون، ولم يكن لأحد منهم رأي في عبث الحكومة بالأزهر،
ولا تأثير علمي ولا ديني فيما تقلب فيه الأزهر من التنقل في الأطوار، ولا فهمها
أحد منهم إلى أن ولي رياسته الشيخ محمد مصطفى المراغي فكان هو الرجل الذي
عرف ما تجدد في الأزهر من أطوار، وما يضطرب فيه من موج ويصطخب من
تيار، فوضع له القانون الذي يمكن أن يجري فيه فلك الإصلاح آمنًا من الأخطار،
فنُوزِعَ في بعض مواده التي يتعذر بدونها حمل تبعة العمل واستقلال فيه فاستقال منه،
فظهر من مزاياه وخلائقه العليا بهذه الاستقالة ما لم يكن يعرف كنهه أعرف الناس
بإدارته وسيرته في مدته القصيرة في رياسة الأزهر، ولا فيما قبلها من رياسة
المحكمة الشرعية، ولا فيما قبلها من رياسة القضاء الشرعي في السودان.
وأما أهل الأزهر فكان يعرفه بعض أذكيائهم المستقلين في العلم والرأي، ولم
يعرفه علماؤهم وطلابهم كلهم إلا بعد أن جربوا رياسة خلفه المضاد له في جميع
مزاياه، وبضدها تتميز الأشياء، بل عرفه الآن جميع الناس حتى العوام في القاهرة
والإسكندرية وبقية الأمصار التي هي مقر المعاهد الدينية والمدارس العليا إذا
صخت أسماعهم أصوات الألوف المتظاهرة على الشيخ الظواهري من الأزهريين
وطلاب المدارس العليا صائحة في الشوارع بإسقاطه، نابزة له بألقاب الخيانة
ونعوت الإهانة، وملحة في مطالبة الوزارة التوفيقية الحرة بإعادته إلى مشيخة
الأزهر ورياسة المعاهد الدينية.
ثم عرف هذا كله سائر الأمصار والقرى في هذا القطر، وفي غيره بنشر
الجرائد له في العالم مؤيدًا بمقالات كثير من علماء الأزهر وغيرهم من حملة الأقلام،
فكان أقوم شهادة لما يسمى في هذا العصر بالرأي العام.
طور الأزهر الجديد ومن يصلح لرياسته:
إن الأزهر قد دخل في طور انقلاب عصري جديد فيه خطر كبير على الدين
والدولة، وفيه رجاء عظيم لهما، فلا يصلح لإدارته فيه إلا عالم كبير العقل،
عزيز النفس، عالي الهمة، قوي الإرادة، حكيم الإدارة، صادق اللسان، راسخ
الخلق، عزوف عن السفاسف والدنايا والمطامع، يشرف الرياسة فيزداد بها شرفًا،
ويضطر كل من يتصل به أن يجله، سواء أوافقه في الرأي أم خالفه؟
مثل هذا الرجل يندر وجوده في صنف العلماء وغيرهم من الطبقات الراقية
كرجال المدارس العالية والقضاة والمحاماة والوزراء والأمراء لا في مصرنا هذه
التي تشكو من فقر الأخلاق المدقع فيها، بل في أمصار الشرق والغرب أيضًا،
ولكن يكثر في طبقاتنا العراة المجردون من حللها كلها أو أكثرها، وأكبر المصائب
على الأمة أن تُقَلَد المناصب، وتُنَاط المصالح بهؤلاء العراة البادية سوآتهم، أو
ببعض المستورين بالأسمال والأخلاق البالية لأجل تجربتهم؛ ولكن أهل الأزهر
أكلوا من شجرة أبيهم آدم عليهم السلام فبدت لهم سوآت بيئتهم، ورأوا بعين
بصيرتهم العريان من جلل تلك المزايا والفضائل والعاطل من حليها، فهم يرغبون
فيه، ويرون من زينه الله بأجمل زينتهما فهم يرغبون فيه، وإنهم لعلى هدى في
الأمرين، وإن ما تطلبه المصلحة بلسان الحال، أقرب مما تطلبه الرغبة بلسان
المقال {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
بيد أن الثورة قد تزين للشبان طلب ما لا ترضاه الحكمة، من حيث لا يدرون
أن مثل هذا الطلب قد يكون مانعًا لا مقتضيًا؛ لأن الحكومات تأبى أن تكون منفذة
لرغبات طلاب المعاهد والمدارس لذاتها، بل يخشى أن يكون التظاهر سبب تأخير
ما اقتضته المصلحة العامة منها، إلا إذا كانت الحكومة كوزارة محمد توفيق باشا
في إيثار المصلحة على كل شيء، وهذا الوزير المستقل في رأيه وإرادته أعلم من
كل هؤلاء المتظاهرين ومن غيرهم بمزايا الشيخ المراغي في نفسه، وبمكانته في
قلوب أمته، وأعلم بحالة الأزهر ومشيخته الحاضرة، وزادته هذه المظاهر الحرة
التي لولاه لم تكن علمًا، ولا يخفى عليه أن ما قيل وما كتب وما فعل من قبل ومن
بعد في إهانة الظواهري، وإظهار الأزهر لاحتقاره كافٍ لإبعاده عنه لو كان مبالغًا
فيه، فكيف وقد ظهر عجزه عن إدارته، وإن في بقائه في المشيخة إهانة للإسلام
والمسلمين في اعتقادهم إن لم نقل في الواقع؟ وإنني لأقول هذا عن عقيدة ورأي،
ولا يخالف فيه ذو حجر، والأمور مرهونة بأوقاتها، ونسأل الله التوفيق لأولياء
أمورنا.
نصيحة لطلاب الأزهر والمعاهد الدينية:
إخواني: إنكم ستنالون ما ترضون من تولي من تمقتون عنكم، وتولية من
تحبون عليكم، لا بقوة مظاهرتكم لزيد وتظاهركم على عمرو؛ بل لأنه الحق
والخير والمصلحة؛ ولأن الأمة الإسلامية كلها معكم فيه؛ ولأنكم في عهد وزارة
تقدر هذه القوى الأربع قدرها، وجديرة بأن ترضي الله تعالى بإرضائها، وإن هذا
لهو خير لكم من إجابتكم إلى ما طلبتم خضوعًا لقوة اجتماعكم لذاتها، نعم إن
الاجتماع قوة؛ ولكن قوة الحكومة أشد من قوة الطلبة، بيد أنها دون قوة الأمة التي
تطلب الحق بوسائل العقل والحكمة، وقد قال حكيمنا السيد الحسيني الأفغاني:
العاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة؟
إخواني: إنني قلت في مقدمة هذا الكتاب التي كتبتها منذ سنة ونصف سنة: إنه
ليؤلمني ألذع الألم أن تضطر الأمة الإسلامية وصحفها إلى هذا التشهير بسيرة
الرئيس لأكبر مصلحة إسلامية في مصر ... إلخ، ثم بينت السبب الطبيعي لهذا في
القسم الأخير منه في الكلام على العبرة بهذه العاقبة السوءى للمسيء بمقتضى سنة
الله تعالى في الاجتماع المدني.
وأقول هنا: إن صراخكم في الشوارع بإسقاط شيخ الأزهر مع نبزه بالألقاب
والهجوم على مكتبه وتحطيم ما فيه لجريمة ثورية ذات شعب من الضرر، ثالثها
إهانة المرؤوسين لمنصب الرياسة بما يخشى أن يكون سنة سيئة لا يبقى معها
للنظام ولا للمنصب حرمة، فتعقب هذه السنة أن يجتنب هذه الرياسة أهلها الكرام،
ويتكالب عليها الطامعون اللئام، الذين يخنعون للإهانة، فيكونوا حربًا للأمة،
وتكون حربًا لهم، واعتبِروا في الفريقين حكمة النبوة في الحديث الذي رواه مسلم
في صحيحه عن عوف بن مالك مرفوعًا: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم،
وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،
وتلعنونهم ويلعنونكم) اهـ والصلاة في الحديث: الدعاء المتضمن للعطف، فالخير
داعية الخير، والشر داعية الشر، والمخرج من هذه العاقبة ما ترونه في الكلام
على الأمراء والسلاطين في خاتمة هذا الكتاب.
إخواني: إن التعليم الديني لن يكون وسيلة لسعة الرزق للألوف من
المتخرجين في هذه المعاهد، ولا ينبغي أن يكون كذلك؛ وإنما يجب أن يقصد به
إعادة مجد الإسلام من حيث هو دين هداية وسيادة وسياسة وتشريع عام لجميع
البشر، ولن يكون وسيلة إلى بلوغ رجاله هذه الغاية، إلا إذا كان أهله مستقلين -
دون الحكام - في إدارته ونظمه ومناهجه ورزقه ودرجاته العلمية بقانون يكفل لهم
ذلك، فإلى هذه الغاية يجب أن تتوجه قوة المعاهد الدينية، فإن لم تفعل كانت عاقبة
الدين في مصر كعاقبته في حكومة الترك، فلا أزهر ولا مدارس دينية، ولا محاكم
شرعية، ولا أوقاف إسلامية، وإن فعلت رجي أن تعم هداية الإسلام الشرق
والغرب، ويتم بها وعد الله باستخلاف أهله في الأرض، وإظهاره على الدين كله،
فيكون علماؤه من الأئمة الوارثين، وهي فاعلة إن شاء الله تعالى وبه التوفيق اهـ.
***
كلمة جديدة في الكتاب والشيخ الظواهري
إن ما أعلمه حق العلم من تاريخ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري وأخلاقه
وآرائه وأعماله من قبل توليته رياسة الأزهر والمعاهد الدينية قد بدت في سيرته
وأعماله في هذه الرياسة، بل تكشف هو بها فظهر بصورة لا أستبيح لقلمي وصفها،
ولولا غيرتي الدينية على هذا المعهد الإسلامي؛ واعتقادي أن رياسته له في هذا
الطور الجديد، وفي ظل النظام الاستبدادي المدبر كان خطرًا على الأزهر، وعلى
الإسلام لما كتبت ما كتبت فيه، ولقد نصحت له من قبل أن أكتب شيئًا، ثم أنذرته
راجيًا أن يكفيني أمر الاضطرار إلى الكتابة والنشر؛ ولكن خلقه وغروره بالمنصب
أبيا عليه قبول النصيحة والاعتبار بالإنذار.
جئته أول مرة أو زرته بمكتبه في إدارة المعاهد لما رأيته شرع في الانتقام من
بعض العلماء المهتدين بنور الكتاب والسنة بالنقل من الأزهر إلى بعض المعاهد،
واتهامهم بما أمر بالتحقيق فيه، فتلقاني بالحفاوة والترحيب كدأبه، وأظهر لي
الرغبة في التعاون معه على خدمة الإسلام، مصرحًا بقوله: نحن إخوة إن كنا نختلف
في بعض الآراء فلا يمنعنا هذا عن التعاون على خدمة الإسلام العامة، ولعله كان
رأى في المنار ما أسميه القاعدة الذهبية للاتفاق بين أتباع المذاهب والطوائف وهو
قولي: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) وكان
فضيلة الأستاذ مفتي الديار المصرية المحب للإصلاح المعتصم بالإخلاص حاضرًا،
فَسُرَّ بكلمة الشيخ الأكبر، وتكلم فيما يراه من وجوب التعاون بيننا؛ ولكنني لم أكن
أعتقد أن الشيخ مخلص في قوله كالمفتي، فكانت أول تجربة له أن ألقيت إليه
النصيحة التي زرته لأجلها، فقلت له: إن العرب كانت تقول: إن آلة الرياسة أو
شرطها الحلم وسعة الصدر، ولم أذكر له الشرط الثاني لهم في بيت الشعر المشهور
الذي يذكر في شواهد النحو:
ببذل وحلم ساد في قومه الفتى ... وكونك إياه عليك يسير
قلت: وإذ كانت فضيلتكم ترى أن الاختلاف في بعض المسائل لا ينافي الأخوة
والتعاون على المتفق عليه، فأرى أن يتسع صدركم لما تنكرونه على فلان وفلان
من العلماء ولا تفتحوا على أنفسكم باب الانتقام، ولا تجعلوا لكم خصومًا من
مرؤوسيكم ... إلخ، فوعد وعدًا حسنًا في ظاهره، يومئ إلى مكر في باطنه، ثم
ظهر هذا المكر في أقبح صوره بعزل من أوصيته بهم من التدريس في الأزهر،
وهم الذين يكره منهم ما عرف عنهم من إنكار للبدع، واتباع للسنن على مذهب
السلف واستقلال في العلم، وعزل آخرين معهم من كبار السن بالشبهة التي
اشتهرت وعلم جميع أهل الأزهر وغيرهم من العارفين بطلانها.
ثم إنه لما أغرى سفيهه من محرري مجلة المشيخة (نور الإسلام) بنشر تلك
المقالات المعروفة في تأييد البدع والخرافات والطعن على الوهابية ورجال الحديث،
ثم على المنار بعد أن نصحت لها بسلوك الطريقة المثلى اللائقة بأول مجلة دينية
رسمية تصدرها مشيخة الأزهر، ورأيتني مضطرًا إلى الرد على ما افترته علي،
كاشفت الشيخ بأنه يجب علي شرعًا أن أرد على ما افترته علي مجلة المشيخة، فإن
أذن بنشر الرد فيها اقتصرت به على بيان خطأ المفتري بأبرد النصوص الصحيحة
المبينة للحقيقة من المنار بدون زيادة، وإلا رددت عليها بما أنشره في المنار، وفي
بعض الجرائد اليومية بما يسوءه من إظهار جهلها وافترائها، فأظهر قبول الاقتراح
الأول وكان ما كان من محاولة خداعي بالصلح والاتفاق كما بينته في المنار، ونشر
في بعض الجرائد، وجمع في هذا الكتاب.
ثم طبعت هذه المقالات مستقلة، ورأيت أن أضيف إليها بعض الشواهد من
مجلدات المنار على ما قمت به من خدمة الأزهر والدعوة إلى إصلاح التعليم
والتربية فيه، والمقترحات الإسلامية التي توجبها حاجة العصر على علمائه، وإن
أقدم على هذا خلاصة لترجمتي العلمية، وتربيتي الدينية التي جعلت كل همي من
حياتي الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي، وهاجرت إلى مصر للقيام بها، وأنشأت
المنار لها.
وكان الغرض الأول من كتابة هذه الترجمة أن تدل قارئها على أن الباعث
النفسي على الرد على مجلة الأزهر هو ما نشأتُ عليه تربية وتعليمًا وعلمًا وعملاً،
ولم يكن غرضًا عارضًا، ولا جزاء محضًا للظواهري ولسان حاله الدجوي بطعنهما
علي عملاً بما أباحه كتاب الله من جزاء السيئة بمثلها؛ فإن خلقي يأبى عليّ هذا، ولو
أردته لعجزت عن كتابة مثل تلك الرسالة الهجائية (صواعق من نار في الرد على
صاحب المنار) التي استقاءها الثاني واستساغها الأول، وكانت توزع في الجامع
الأزهر بالمجان، ووعد الشيخ الأكبر بمنع توزيعها فأخلف الميعاد كعادته، وإنما
كتبت لتطهير الأزهر الشريف مما لطخاه به من العار، وصد ما استهدف له من
الأخطار، ودفاعًا عن حق المنار.
وقد بدا لي بعد الشروع فيها أن أبيح لقلمي فيها حرية قد ينتقدها بعض قارئيها
من شانئ شائن يعدها من تزكية النفس المذمومة، ومن صديق مُزَكٍّ يود أن أجب
عن نفسي الغيبة، وهو ذكر بعض ما وقع لي من الأمور الروحية غير العادية في
أثناء الاشتغال بالرياضة الصوفية وكثرة الذكر، مما يعده الجمهور من كرامات
الأولياء، وقد اشتهرت بالإنكار على المغرورين بها، والتأويل لأشهر ما يعدونه أو
يدعونه منها، حتى إن بعض أعداء الإصلاح من الخرافيين الذين اتخذوا دعوى
الكرامات والمنامات حرفة يأكلون بها أموال العوام بالباطل، ويستهوونهم لاعتقاد
ولايتهم، واتباع بدعهم والبذل لهم، ما زالوا يصدون هؤلاء العوام الجاهلين عن
الإصلاح الذي يدعوهم إليه المنار بأن منشئه من منكري الكرامات ومبغضي
الأولياء.
ولقد وقع إذ نشرت هذه الترجمة في المنار ما كنت أتوقع من نقد بعض
المحبين وحمد آخرين؛ ولكن كان من البواعث لي على نشره في الكتاب لا الموانع
دونه، وإنني أشير هنا إلى جملة هذه البواعث ولولا حدوث ما اقتضى تعجيل
إصدار الكتاب لنشرتها فيه وهي:
إن أكثر المسلمين أو الشرقيين الذين عرفنا أحوالهم بالمشاهدة والمحادثة
والمكاتبة في البلاد التي نشأنا فيها والبلاد التي سافرنا إليها من عربية وتركية
وهندية ينقسمون في الأمور الروحية فريقين كبيرين، وفريق ثالث صغير، أو قليل.
الفريق الأول: يصدقون كل ما يقرؤون وما يسمعون من الأخبار المخالفة
للعادات المألوفة عن المتقدمين الذين يسمونهم الأولياء، ويسمون أعمالهم بسمة
الكرامات، وعن المعاصرين من مشايخ الطريق ومدعي استخدام الجن،
ويخضعون للمنتحلين لها، ويرجون نفعهم ويخافون ضرهم، ويبذلون لهم أموالهم،
وربما ائتمنوهم على أعراضهم ونسائهم، وفي ذلك من الخرافات والمعاصي المفسدة
لأمور الدين والدنيا ما تفاقم شره، واستشرى فساده وعظم وزره، وما هو شرك
صريح بالله تعالى.
والفريق الثاني: ماديون يكذبون جميع هاته الأخبار، وينكرون وجود ما ليس
له سبب طبيعي منها أو إمكانها، ويعدونها مفتريات مختلقة لخداع الجاهلين الغافلين
وسلب أموالهم، ومنهم الذين يكذِّبون الأديان كلها لاتفاقها على أخبار معجزات
الأنبياء، وكرامات القديسين والأولياء، ويحتجون على ذلك بأنها في هذا الأصل
الديني سواء، مع اختلافها فيما هو أهم منه من أصول الدين، وبأن العلم والتاريخ
قد كشفا كثيرًا من خفايا أهلها ودجلهم وحيلهم وكذبهم ويقاس غيره عليه.
والفريق الثالث: يعتقدون أن لها أصلاً ثابتًا؛ ولكن فيها دجلاً وأباطيل يتعذر
التمييز بنيها، ومن هؤلاء من لا يصدق منها إلا ما أثبته الإفرنج المشتغلون بالأمور
الروحية، وما يسمونه استحضار الأرواح، وهم في حيرة من تعارض أخبارهم مع
عقائد الأديان، وكثيرًا ما ينقلون ما يرونه في الصحف الإفرنجية من أحداثها،
ويعدونه كغيره من الغرائب المادية التي تهدي إليها التجارب في نور العلم.
ومن موضوع المنار البحث في هذه المسائل، والتصدي لهداية أهلها للحق
فيها، لهذا رأيت من المفيد أن أذكر في ترجمة حياتي ما وقع لي مما يؤهلني لذلك،
ويبين لقارئه أنني أتكلم فيه على بصيرة فيما أنتقده، وفيما أقره وما أتأوله، كما
أتكلم في إصلاح التربية والتعليم في الأزهر وغيره، وأنه ليس لي فيه هوى ولا
منفعة، ولا أخشى به فتنة أحد، بل مقاومة الجهل والدجل، أحمد الله عز وجل أن
حفظني ببركة الإخلاص من هذه الفتنة في الزمن الذي فُتِنَ في مثله الكثيرون في
كل عصر، فقد ألهمني أن كنت أهون أمر تلك الأمور الروحانية على من يرونها
بأعينهم (كشفاء المصروعين والمرضى) ويسمعونها بآذانهم (كالمكاشفات) من
حيث أرى أهل الدعوى والتلبيس والدجل قد فتنوا كثيرًا من الناس بأنفسهم، وسلبوا
الكثير من أموالهم، وأسال الله تعالى أن يتم النعمة، ويحسن الخاتمة بفضله وكرمه.
وإني لأستغرب أن يقصدني بعض علماء أوربة الباحثين في الأمور الروحية
للبحث معي فيها، وأن يعدوني من بعض أعضاء جمعياتهم من حيث لا أرى أحدًا
من قومي يُعنى بذلك ولا يسأل عنه، وقد اتسعت دائرة المباحث والتجارب الروحية
في أوربة في هذه السنين، وكثرت أخبار غرائبها، وإن جرائدنا تنقل منها ما تظن
أنه ظريف، ونحن نعلم أنه تليد، وإن ما كتبنا منه كثير.
وإن إظهار العالم لعلمه عندما يرى الحاجة إليه ليُسْأَل عنه - مطلوب شرعًا مع
الإخلاص، ومجاهدة هوى النفس، والمأثور في هذا عن أئمتنا في العلم والعرفان
معروف، والذين كتبوا وقائعهم وتاريخهم منهم كثيرون، ومن علماء الغرب أكثر،
وما شرع شيخنا الأستاذ الإمام في كتابة ترجمة حياته إلا بإلحاح بعض هؤلاء
الغربيين عليه فيه، ومن سوء حظنا أنه لم يتمه، ونحمد الله أن وفقنا لتدوين ما
علمناه منه.
لعله وضح بهذا ما خفي على بعض إخواننا وغيرهم من نيتنا في كتابة هذه
الترجمة قبل أن ينقرض من أهل وطننا من يعرف أكثرها، ووضح أيضًا أنني لم
أقصد بكتابة هذا الكتاب وبيان مساوئ الشيخ الظواهري فيه إلا ما كان يقصده أئمتنا
من علماء الجرح والتعديل بتراجم رواة الحديث الضعفاء والوضاعين، وعلماء
الحديث المدافعين عن السنة بالرد على المبتدعين، فجهادي به موجه إلى المسيء
إلى الإسلام بمنصبه، دون المجاهر بالإساءة إلي بحسده وراتبه، فما هذا إلا سيئة
من سيئات ذاك، وما كنت أعبأ بجهله علي وعلى السنة وأئمتها من أهل الحديث
ومتبعي السلف قبل جعله إياه ناطقًا باسم مشيخة الأزهر في مجلتها.
وما ندمت على شيء كتبته فيه إلا ما نقلته من خبر بذله جل راتبه هدايا إلى
وليه وناصره؛ لأن ظاهر عبارته أنه من المساوئ الشخصية على أنني قصدت به
إزالة عجب الناس من إبقائه في منصبه بعد ظهور مساويه تنزيهًا لولي الأمر عن
علمه بها وإقراره عليها.
ولقد أرجأت تصديره ثمانية عشر شهرًا؛ لأنني أعلم أنه يقرب أن يتقرب به
إلى أوليائه في الحكومة تلك المستبدة الظالمة فيزداد استمساكهم به: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: 19) وما كادت تسقط وتخلفها الوزارة الحرة
المرجوة، إلا وصراخ الأزهر وعويله من ظلمه قد طبق الآفاق، واخترق السبع
الطباق، وأطبق عليه الطلاب والعلماء، وأجمع عليه الكتاب والشعراء والخطباء،
فتعذر أن يتهم به فرد من الأفراد أو جمع قليل متواطئون عليه، فنشرت الكتاب
موقنًا بقرب عزله إن لم يعتزل، وإقالته من منصبه لا من عثره إن لم يستقل؛ لأن
الاستعجال بهذا أهون الشرين عليه من الإملاء له فيه؛ فإن الأزهر لن يطيق الصبر
بعد على احتمال الذل والهوان ببقاء رياسته؛ ولكنه هو يحتمل شرًّا من ذلك
بالإصرار عليها، وتمني قهر مرؤوسيه بحماية حرس من الحكومة له في بيته
وفي طريقه وفي الأزهر يمنعه أن ينكلوا أو يمثلوا به، وما كانت شدة الحرص
على الرياسة لتأتي بخير، وإنما خير أهلها من ترغب فيهم ويرغبون عنها،
ويرونها عبئًا ثقيلاً لا يقبل إلا لأجل المصلحة العامة، لهذا قال صلى الله عليه وسلم:
(إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة،
وبئست الفاطمة) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، وروى البخاري
ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: (دخلت على النبي
صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله أَمِّرْنَا
على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا
والله لا نولي هذا العمل أحدًا سأله أو أحدًا حرص عليه) ولقد رأينا في عصرنا
رجلاً واحدًا حرص على رياسة الأزهر أشد الحرص وأذله وأسخفه، ورجلاً واحدًا
زهد فيها أشد الزهد وأعزه وأشرفه.
__________
(1) إذا كان هذا الخبر حقًّا لا مبالغة فيه كما يقولون، فلعله يكون بهدايا بعض الجواهر الغالية؛ فإن راتب الشيخ كبير.(34/451)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مباحث الربا والأحكام المالية
(تابع لما قبله)
الأصول والقواعد العامة
للحلال والحرام في المعاملات المالية
مقدمة في تلخيص إجمالي لما تقدم:
قد بيَّنا حقيقة الربا المحرم بنص القرآن القطعي، وهو ربا النسيئة أي ما
يأخذه الدائن من المديون المعسر عند استحقاق الدين المؤجل عليه وعجزه عن
قضائه لأجل تأخيره إلى أجل آخر، وهو زيادة لا مقابل لها، فهي ظلم قد يتضاعف
إذا عجز المديون عن القضاء كلما حل أجل جديد، فيكون أفحش أنواع الظلم
والقسوة، وبيَّنا حقيقة ما سمي ربا الفضل، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه
وسلم من بيع أحد النقدين أو أصول الأقوات التي عليها مدار معيشة الأمة بمثله من
جنسه مع زيادة أو تأخير، وبيَّنا أن حكمة النهي عنه سد ذريعة الربا القطعي
المحرم بنص كتاب الله تعالى، وبيَّنا أن الفقهاء توسعوا باجتهادهم في أحكام
المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيرًا من صور البيوع والقروض
والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي (النسيئة) ولا في ربا الحديث
الاحتياطي من باب ولا منفذ، إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة
والضوابط المذهبية والاجتهادية، وأن جمهور المسلمين يظنون أن كل ما حظره
الاجتهاد المذهبي وعدَّه من الربا فهو محرم، كالذي حرَّمه الله بالنص القطعي وتوعد
عليه بأعظم الوعيد لشدة ضرره، وظلم الأخ لأخيه فيه، والذي نهى عنه رسوله
صلى الله عليه وسلم احتياطًا لسد ذريعة الظلم الذي حرَّمه الله تعالى على عباده كما
حرَّمه على نفسه.
ومن أجل هذا الفهم الباطل ضاعت عليهم سبل المعاملات، ووقعوا في مآزق
العسر والحرج الممنوع من شريعة الحنيفية السمحة بنص كتابها العزيز، واضطروا
إلى طرق أبواب الحيل لاستحلال ما حرَّمه الله لا ما حرَّمه هؤلاء الفقهاء برأيهم
فقط، ولم يضع لهم هؤلاء الفقهاء حدودًا وضوابط للاضطرار أو الحاجة إلى
المحظور في قاعدتهم: الضرورات تبيح المحظورات، وفي قولهم: إن المحرَّم لذاته
يباح للمضطر إليه، وإن المحرَّم لسد الذريعة يباح للحاجة إليه ورجحانها على
المفسدة.
إن هؤلاء المقلدين حرَّموا على أنفسهم وعلى عباد الله ما لم يحرِّمه عليهم ربهم،
فمنهم من حرَّم على نفسه منافع أحلها الله له، ومنهم من أقدم على ارتكاب ما
يعتقد أن الله تعالى حرَّمه عليه إما بحيلة يعلم أنها لا تخفى على الله ولا ترضيه،
وإما بغير حيلة، ودخل أدعياء الفقه منهم في عموم من قال الله تعالى فيهم: {أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} (الشورى: 21) ومن قال فيهم:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} (التوبة: 31) ، وقد فسره النبي صلى الله
عليه وسلم بأنهم هم الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم.
وآل أمر أكثر المسلمين إلى أن تغلب الإفرنج على أكثر بلادهم بالفتح
السياسي أو الحرب، أو بالنفوذ الاقتصادي والإداري، وصارت جميع أحكامها
المالية بالقوانين التي تبيح ما حرَّموا من الربا وغيره من ضروب الكسب، فصاروا
يؤكلونهم الربا ولا يأكلون منهم، ويكسبونهم أموالهم ولا يكسبون منهم، حتى إن
المسلم الغني يودع ماله في مصارفهم (بنوكهم) بدون فائدة له فيستغلونها لأنفسهم،
والمسلم المحتاج يستدين منهم بالربا، فازدادوا بهذا عسرًا وفقرًا، وفرت ثروة
بلادهم من أيديهم إلى أيدي مستعبديهم، وصار أكثرهم أجراء بل عبيدًا للإفرنج فيها،
وتبع ضياع الثروة والنفوذ ضياع العلم الديني والدنيوي، وبدأ يتبع ذلك ضياع
الدين التقليدي، ولا يمكن أن يجدوا مخرجًا من هذه المآزق إلا بمسابقة الإفرنج إلى
الثورة وتنظيمها وبذلها في المنافع والمصالح الملية، فمنهم من يلتمس هذا بترك
الإسلام نفسه سرًّا أو جهرًا، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك طوعًا أو كرهًا،
وأكثرهم كالناقة العشواء، تخبط في الظلماء، أو كالذي يتخبطه الشيطان من
المس.
هذه المسألة من أظهر المسائل التي يعبرون عنها بقولهم (عمت بها البلوى)
وعموم البلوى في الأمر والعامة مما يبيح المحظور للأمة، كما أن الضرورة
الشخصية تبيح المحظور للأفراد، وبناء عليها قال الإمام الغزالي في كتاب الحلال
والحرام من الإحياء: إن المال إذا حُرِّم كله حل كله فيستأنف فيه التعامل بالأحكام
الشرعية على أنه حلال.
إن جمهور المسلمين لفي حرج شديد في هذه المعاملات المالية العصرية،
وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجًا منه مع المحافظة على دينهم، وأنى يجدونه
وهم يطلبونه من أدعياء الفقه الديني الذين وصفهم شيخنا الأستاذ الإمام بحملة العمائم،
وسكنة الأثواب العباعب، وهم حماة التقاليد الفقهية التي أدخلتهم في جحر الضب
اتباعًا لسنن من قبلهم من أهل الكتاب، لكن بعد أن خرج هؤلاء منه، وهم الذين
قال فيهم قبيل وفاته:
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
ذلك بأنهم هم أئمة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن
سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)
(رواه البخاري ومسلم) وبأنهم أجهل ممن قال فيهم أمير المؤمنين علي كرم الله
وجهه: (لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبًا) ، وإذ كانوا هم حماة التقاليد التي
حصرت الأمة في جحر الضب (أي الضيق) فوظيفتهم أن يقذفوا كل مصلح
يحاول إخراجها منه إلى فضاء الحنيفية السمحة بأنه خارج من الدين أو عليه
بمخالفته لأئمة المذاهب الواجب اتباع واحد منهم على كل واحد من المسلمين بنص
عقيدة جوهرة التوحيد للقاني:
ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم
ويعنون بوجوب تقليد حبر من هؤلاء الأئمة الفقهاء - وأبو القاسم: الجنيد من
أئمة الصوفية - تقليد ما في هذه الكتب الكثيرة المؤلفة فيما يسمونه مذاهبهم وفي
طرائق الصوفية، ولا عذر عندهم لمن يخالفهم فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أدلة هؤلاء الأئمة ونصوص كتبهم المروية عنهم
أيضًا، فالأخذ عن الأئمة والعمل بنصوصهم ممنوع عندهم أيضًا، وكذا اتباع
الطبقة العليا من أصحابهم كأبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة،
وكذا من يليهم من طبقات مجتهدي المذهب وأصحاب التخريج والترجيح بين
الأقوال المختلفة والتصحيح فيه مباشرة؛ وإنما الواجب شرعًا في رأيهم العمل بما
يعتمده متأخرو المؤلفين من أقوال من قبلهم من المصححين، كما قال علامتهم ابن
عابدين في (رسم المفتي) وهم الذين سماهم أسرى النقل المحض من كتب
مخصوصة للمقلدين.
وإنني بعد أن حاربت هذه التقاليد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
مع اتباع هدي الأئمة من السلف الصالح كالذين ذكرهم اللقاني لا تقليدهم، أقدم بيان
ما أرى فيه المخرج للأمة من الجحر الضيق المظلم، إلى الفضاء المشرق بنور الله
تعالى مبتدئًا بالأصول الآتية:
الأول أصل الأصول
في منافع الكون الدنيوية: الإباحة
بمقتضى فطرة الله ودينه المكمل لها
الأصل في جميع منافع الكون الإباحة للخلق بدليل هداية الفطرة ودينها، وقد
بيَّن ذلك الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك: 15) ، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) فهم يعرفون منافعها بالتجارب ويترقون فيها
بالتعاون حتى تكون معارفهم علومًا مدونة، وفنونًا متوارثة، وهداية الحواس
والعقل كافية في ذلك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنتم أعلم
بأمور دنياكم) وما في معناه رواه مسلم.
ثم إن الله شرع الدين لعباده ليعلمهم ما لا تستقل عقولهم بمعرفته بالدلائل
والتجارب وهو معرفته تعالى الصحيحة وعبادته التي ترضيه، وما يهذب أخلاقهم
ويزكي أنفسهم من الفضائل، ليعيشوا بالتعاون والتحاب والعدل والإحسان، ويجتنبوا
الرذائل الضارة بأفرادهم وجماعاتهم الكبيرة والصغيرة كالظلم والعدوان، وبمجموع
هذين الأمرين يكونون أهلاً لاجتناء ثمرة الدين في حياتهم الدنيا بقدر استعدادهم
المشوب بالشوائب الكثيرة، وأهلاً للسعادة الكاملة في الآخرة.
والدليل على ذلك أن الله تعالى قص علينا في كتابه دعوة أشهر رسله لأقوامهم
فلم نجد فيها ما يدل على أن مما بعثوا له تعليم أقوامهم الزراعة والتجارة والصناعة؛
وإنما وجدناها متفقة على عبادة الله وحده، والنهي عن الشرك والظلم والفساد في
الأرض، وعلى الامتنان على الناس بنعم الأرض واستعمارهم فيها، وكون الدين
يزيدهم فيها قوة ونعمًا، ووجدنا في قصة شعيب أنه نهى قومه عن نقص المكيال
والميزان، وعن بخس الناس أشياءهم، والفساد في الأرض؛ لأن هذه الرذائل قد
فشت فيهم.
ووجدنا في أخبار بني إسرائيل أن الله تعالى حرم على اليهود طيبات كانت
أحلت لهم بسبب ظلمهم؛ تربية لهم، وأن نبيه عيسى عليه السلام أحل لهم - بإذن
الله - بعض ما حُرِّم عليهم، ثم جاء محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه
وسلم فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم كلها، فعلمنا أن ذلك كان
تحريمًا عارضًا في شعب واحد معروف إلى أجل معلوم، وأن شريعة خاتم النبيين
السمحة هي الدائمة.
(الأصل الثاني)
ما أكمله الله من الدين فلا يقبل زيادة فيه
أكمل الله تعالى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم دينه لجميع الشعوب والقبائل
في جميع أقطار الأرض إلى آخر الزمان، فحدد لهم في كتابه وما بيَّنه من سنة
رسوله خاتم النبيين جميعَ ما يحتاجون إليه من أصول التشريع الديني العام الدائم،
وفوض إليهم ما وراء تلك الحدود، ووعدهم باستخلافهم في الأرض وتمكين دينهم
وسيادتهم وقوتهم فيها، وإظهار دينهم على الدين كله، وختم بذلك النبوة والتشريع
الديني، فليس لأحد بعد كتاب الله القرآن وبيان السنة المحمدية له أن يفرض على
البشر عقيدة، ولا عبادة، ولا تحريمًا دينيًّا لشيء من الأشياء، ولا لعمل من
الأعمال، فالدين قد كمل فلا يقبل زيادة ورد من الأوراد ولا العبادات ولا تحريم
شيء، وأسعد أتباعه من يقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من
بعده.
(الأصل الثالث)
ما فوضه الله إلى عباده من أحكام الدنيا
وأما مصالح الدنيا ومعاملاتها المدنية والاقتصادية والسياسية، فقد ترك الشرع
ما لم يبينه منها إلى اجتهاد هذه الأمة الكبيرة؛ لأنها لا يمكن حصرها، وهي
تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فما أدى إليه اجتهاد أحد من الأفراد عمل به ولا
يكون دينًا لغيره، وما أدى إليه اجتهاد أولي الأمر من المصالح العامة من سياسة
وقضاء عملوا به على أنه ضبط للمعاملات للفصل في الخصومات، وإقامة العدل؛
ولكن ليس لأحد منهم أن يجعل شيئًا منه دينًا يكلف الناس أن يدينوا الله تعالى به،
فكل ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينًا لا يكون بعده دينًا كما
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وقد كان مما يوصي به النبي صلى الله
عليه وسلم أمراء الجيش أو السرايا قوله: (إذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن
تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا
تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث بريدة
رضي الله عنه، وهو من الدلائل على تفويض مصالح الأمة إلى أولي الأمر منها
كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59)
(الأصل الرابع)
اجتهاد الفقهاء لا يشرِّع عقيدة ولا فريضة ولا تحريمًا
والغرض من هذا أن آراء الفقهاء، وأحكام الأمراء والقضاة في المسائل
الاجتهادية ليس من أحكام الله تعالى في عباده، ولا حلال ولا حرام، فأما في
العبادات فقد بيَّنا حكمه، وأما في المعاملات المالية ونحوها فاجتهاد الأفراد لهم
وعليهم، واجتهاد أولي الأمر بشرطه تجب طاعتهم فيه إذا حكموا به ولم يكن مخالفًا
لكتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما تجب لأجل منع الفوضى وحفظ
الحقوق ومنع العدوان، وإقامة النظام؛ ولكن لا يجوز لهم أن يسموه حكم الله تعالى،
ويدَّعوا أن الله تعبد عباده به؛ وإن المخالف له عاصٍ لله تعالى فاسق عن أمره،
خارج عن هداية دينه، يستحق عذابه في الآخرة، فضلاً عن كونه يخرج من الملة
بإنكاره أو استحلال مخالفته، كما يتوهم أكثر المسلمين في مخالفة اجتهاد الفقهاء،
ومنها ما نحن فيه من الكلام في أحكام الربا الاجتهادية يتوهمون أن كل من خالف
الصحيح المعتمد في المذهب الذي ينسب إليه في مسألة منه - ككون كل نفع
للمقرض من المقترض ربا - أنه واقع في الوعيد الشديد في آيات سورة البقرة بأنه
محارب لله ولرسوله في الدنيا، وأنه يقوم من قبره يوم القيامة كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس، وأنه حقت عليه لعنة الله في حديث (لعن الله آكل
الربا وموكله وشاهديه وكاتبه هم فيه سواء) رواه أحمد ومسلم بهذا اللفظ من حديث
جابر وأحمد وأصحاب السنن عن غيره.
بل أقول: إن أصول علم الحديث تمنع أن يدخل في عموم هذا الوعيد الإلهي
الخاص بالكبائر من يأكل ربا الفضل - الذي جعله بعض الحنفية كمفتي الهند الذي
رددنا عليه في كتابنا هذا بيانًا لربا القرآن - في مثل صرف ريال مصري بأربعة
أرباع الريال المعروفة مع تأخير في القبض أو اختلاف في المجلس مثلاً، كما أن
الوعيد على الزنا لا يعم ما سمي باسمه من ذرائعه كالنظر واللمس ولو بشهوة.
وما قررته في هذه المسألة موافق لأصول الأئمة المجتهدين كما أنه هو
المتبادر من النصوص؛ ولكن أكثر المسلمين يجهلونه، وفي بعض كتب الفقه ولا
سيما كتب الحنفية نصوص فقهية في تكفير من يقول أو يفعل ما يدل على عدم
إذعانه واحترامه لهذه الكتب وما فيها من الفتاوى، أو الطعن على مؤلفيها أو غيرهم
من الفقهاء، بشبهة أن ذلك يستلزم الطعن في شرع الله ودينه، ثم في الله عز وجل
ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولو جاز لأحد التكفير بمثل هذه اللوازم لكان
من يكفر أحدًا من المسلمين بهذه الآراء أولى بأن يحكم بكفره، بل يمكن الاستدلال
على كفره ابتداء بأنه افترى على الله وشرَّع لعباده ما لم يأذن به.
بل أقول: إن جميع هؤلاء الأئمة مجمعون على أن آراءهم الاجتهادية ليست
شرعًا دينيًّا يجب اتباعهم فيه، وأنهم ليسوا إلا باحثين فيما شرعه الله تعالى لعباده
مبينين لما يفهمونه منه، وأنه لا يجوز لأحد العمل به إلا من ظهر له صحة دليله
واقتنع به، وقد فصلنا هذا بدلائله وبالنقل عنهم رضي الله عنهم في مواضع من
مجلة المنار، ومنها ما جمع في كتاب (الوحدة الإسلامية) وكتاب (يسر الإسلام،
وأصول التشريع العام) .
أطلت في هذه المسألة على ما سبق في معناها لفشو الجهل بها على عظم
شأنها، وأنتقل منها إلى بيان ما جاء في الكتاب العزيز في مسألة التحريم والتحليل
والحرام والحلال في المعاملات المالية، ثم إلى مجمل ما ورد في الأحاديث النبوية
الصحيحة من النهي عن بعض المعاملات المالية، وحكم هذه المناهي ومذاهب
الفقهاء فيها، ثم أقفي على ذلك بما عليه أهل هذا العصر في الأقطار الإسلامية التي
تعامل شعوب الحضارة ودولها من المعاملات التجارية والشركات المالية، وما هو
محرم منها في دين الإسلام، وما هو غير محرم، وأستغني بهذا عن إفتاء من
يستفتونني في هذه المسائل من الشرق والغرب، وأبدأ ببيان الدلائل على أن
التحريم الديني حق الله تعالى فأقول:
نصوص القرآن في التحريم الديني
(وكونه لله تعالى وحده)
إن التحريم الديني هو حق الله تعالى على عباده، فليس لأحد من خلقه حق أن
يحرم عليهم شيئًا إلا بإذنه في وحي منه، فكل ما قاله ويقوله الفقهاء في التحريم
الديني باجتهادهم غير مستند إلى نص صريح من الشارع فهو باطل كالقول في
أصول العقائد والعبادات، دون صفة الأداء كالقبلة، ومن أدلة هذه القاعدة ما يأتي:
(1) قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .
(2) قوله تعالى:] وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ [الآية (النحل: 116) .
(3) قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) ويدخل في هذا ما
أنكره على المشركين، وذمهم عليه من تحريم بعض الحرث والأنعام عامًّا أو خاصًّا
في آيات معروفة.
(4) قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) وفي تحريم الطيبات وتحريم الأطعمة آيات أخرى
ليس هذا محلها.
وقد اشترط أئمة العلم من السلف كالحنفية أن التحريم لا يثبت إلا بنص قطعي
من الشارع، بل قال بعضهم من القرآن دون الدليل الظني وسيأتي بيانه.
__________(34/465)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شهر رمضان
موسم العبادة الروحية البدنية الاجتماعية
كتبنا في السنين الخالية، ونشرنا في مجلدات المنار الخالدة، مقالات كثيرة
في أحكام الصيام وحكمه وفوائده الصحية المتفق عليها عند الأطباء، والاجتماعية
التي تتفق فيها العادات في مواعيد الطعام والدعوات عليها بين الأقران، والصدقات
على الفقراء، والاجتماع على بعض العبادات الخاصة بهذا الشهر كصلاة التراويح
ومجالس الوعظ وتلاوة القرآن، ولكل من هذه العبادات والعادات الإسلامية تأثير
في النفس وشعور روحي خاص يزيد المؤمنين إيمانًا بربهم، ومودة بينهم، وقوة
في رابطتهم، والذين لا يصومون محرومون من حلاوة هذا الشعور الشريف، وإن
شاركوا المؤمنين في بعض ظواهره.
وشر هؤلاء المفطرين من لا يشعر بألم حرمانه من هذه الحلاوة الروحية
والعاطفة الملية، كأنهم من الحيوانات أو الحشرات ذات الحياة الفردية، فإني أظن
أن ما يعيش عيشة الاجتماع منها كالنمل والنحل تشعر أفراده بلذة خاصة في تعاونها
الاجتماعي فوق اللذة بتوفية أبدانها ما فيه قوام حياتها الشخصية والنوعية، وأعتقد
أن جميع البهائم خير لأنفسها من فساق البشر المجرمين، وأن الصيام خير مانع
للفسق وجناية الإنسان على نفسه وعلى غيره، لا في أثناء صيامه فقط بل في كل
آن إذا كان صيامه عبادة لا عادة، والفرق بين الصيامين أن من يترك الشهوات
البدنية في النهار مجاراة لأهل ملته في أيام معدودات، هي أيام شهر رمضان لا
يعدو عمله أن يكون تغيير عادة من العادات بتحويل ما كان يفعله في النهار إلى
الليل، وهو لا يخلو من الفوائد البدنية والاجتماعية، وإنما صيام العبادة بالنية
والاحتساب؛ أي: رجاء ثواب الله ومرضاته، وآيته؛ أي: علامته الظاهرة زيادة
الطاعة ولا سيما الصلاة واجتناب الآثام كصيانة اللسان من فحش القول والغيبة
والنميمة والكذب، ولا شيء أدل على صيام العادة كترك الصلاة، وكذا تأخيرها عن
وقتها، كالذين يسهرون ثلثي الليل في اللغو المنهي عنه ليؤدوا سنة السحور في الثلث
الأخير ثلث التهجد والاستغفار في الأسحار، فيتسحرون وينامون، وأكبر ما
يخسرونه جماعة صلاة الفجر التي يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدون
لصاحبها عند الله تعالى كما ورد في تفسير {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (الإسراء: 78) .
وقد ورد في الحديث عند الإمام أحمد وغيره (الصوم في الشتاء الغنيمة
الباردة) أي كالغنيمة التي ينالها الجيش من الأعداء بدون حرب ولا قتال، من
حيث إنه لا يجوع الصائم فيه ولا يعطش في الغالب؛ لقصر النهار وعدم الحر،
ويفسره حديث (الشتاء ربيع المؤمن) رواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنهم بسند حسن ورواه البيهقي بزيادة (قَصُرَ نهاره فصام،
وطال ليله فقام) أي قام فيه لتهجده بغير مشقة كصيامه، وهو بهذه الزيادة ضعيف
السند، قوي المتن؛ لأنه مفسر للمراد منه فكل منهما يقوي الآخر.
وإن أهم ما أبغي في هذه الذكرى أن من يستحل الإفطار في نهار رمضان كله
بغير عذر شرعي من مرض أو سفر يكون كافرًا مرتدًّا عن الإسلام، فيبطل عقد
زواجه إن كان متزوجًا، ويحرم على زوجه أن تعامله معاملة زوجية، وإذا مات
في هذه الحالة أي قبل أن يموت لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين،
وهو كذلك لا يرث ولا يورث، وحكم هذه الردة مجمع عليه لا خلاف فيه بين
المذاهب الإسلامية، ولكن من الناس من لا يعرف معنى الاستحلال المخرج
لصاحبه من دين الإسلام في هذه المسألة وغيرها كاستحلال ترك الصلاة والزكاة
وفعل الزنا والسرقة والسكر وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيظن
أن معناه أن يعتقد أن ذلك حلال وهو غلط؛ فإن اعتقاد حله ينافي كونه معلومًا من
الدين بالضرورة؛ وإنما استحلال ذلك عدم الإذعان لحكم الشرع فيه، وعده بالعمل
كالمباحات من الشرب والأكل في نهار رمضان أو في لياليه، أو عد شرب الخمر
كشرب الماء والاستمتاع بالأجنبية كالاستمتاع بالزوجة، لا شعور معه بحرمة
الأوامر والنواهي الإلهية ولا موجب للتوبة والاستغفار.
فمن أجل هذا لا يعقل أن يقع من مؤمن بالله ورسله وشرعه بخلاف من يشتد
عليه الجوع أم العطش، فتغلبه شهوته على الأكل والشرب وهو يشعر بذنبه
واستغفار ربه فهذا عاص لا كافر؛ لأنه غير مستحل، وقلما يقع لمسلم في صيام مثل
هذه الأيام من فصل الشتاء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة الباردة.
__________(34/473)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرزيئة القومية الوطنية
بالشيخ محمد الجسر
قبيل فجر يوم الأحد ثالث شهر شعبان (11 نوفمبر - تشرين الثاني) من هذا
العام (1353 هـ - 1934م) رزئت الأمة العربية والوطن السوري اللبناني بوفاة
رجل لا كالرجال، وفرد لا كالأفراد، بل علم لا تطاوله الأعلام: رزئنا بأخينا
الشيخ محمد الجسر أبرع نابغة سياسي وطني، ابن أستاذنا ومربينا الشيخ حسين
الجسر أنفع عالم ديني عصري، ابن الشيخ محمد الجسر أورع صالح صوفي،
ثالث ثلاثة أنبتتهم لهذه الأمة رياض مدينتنا طرابلس الشام، فكان رزؤه مصابًا
كبيرًا عامًّا لجميع أهل هذا الوطن على اختلاف أديانهم ومذاهبهم السياسية المتباينة
التي لم تجمعها على غيره جامعة؛ وإنما كان إجماع طوائفهم على إكبار المصاب به
فرعًا لإجماعها على الإعجاب بعلمه بزمنه، وأدبه في معاشرته، وعدله في حكمه،
وبراعته في سياسته، مزايا لم تتفق في هذا الوطن لغيره، بل أقول: إن إجماع
طوائف هذا الوطن على الاعتراف بها لرجل من أهلها معجزة من معجزات النبوغ
العقلي، والتوفيق العملي.
فحق لطرابلس أن تفخر به على الأمصار، وحق لهذا البيت الإسلامي أن
يباهي به البيوتات من جميع الأديان، وحق لهذا الوطن أن يفيض حزنًا ويذوب
أسفًا على هذا النابغة الذي فقده في أشد أوقات الحاجة إليه، وقد كملت حُنكته،
وتمت خبرته، وعمت الثقة به في بلاد تأبى عليها ذلك تربيتها الدينية وتقاليدها
الطائفية، وتعاليمها المدرسية التي لا نظير لها في وطن من أوطان أمة من أمم
الأرض.
وأغرب مدارك هذا الإعجاز في ثقة نصارى لبنان بالشيخ محمد الجسر العالم
المسلم المعمم ابن الشيخ حسين الجسر الذي انتهت إليه رياسة علماء الإسلام، حفيد
الشيخ محمد الجسر أشهر صلحاء صوفية المسلمين بالولاية والكرامات، أن ينال
هذه الثقة في عهد سيطرة الدولة الفرنسية على لبنان واعتزاز نصارى لبنان بها،
وهي التي تعد شنئان الإسلام ومجاهدة أهله من أسس تقاليدها السياسية والصليبية
الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول.
كان الشيخ محمد الجسر أحد الأفراد الذين شذوا دون طائفتهم بإظهار الميل إلى
الاحتلال الفرنسي فسخطت عليه وكان مسلمو بلده (طرابلس) أشدهم سخطًا لخيبة
رجائهم فيه أن يكون أول حامل للواء الوطنية فيهم؛ لأنه أجدرهم بمعرفة خطر هذه
السيطرة عليهم في دينهم ودنياهم، ولم يكن يختلج في خاطر أحد منهم أن يكون
أقدر رجل فيهم، بل في بلادهم كلها على خدمة هذا الوطن الذي دهي بأقتل الدواهي
القاصمة، والفواقر المفقرة، فيكون البدر الطالع في غاسق الظلم إذا وقب،
والطبيب الآسي لشر سحرة السياسة النفاثات في العقد.
كان أول منصب ظهر فيه للطوائف كلها فضله منصب القضاء الأهلي برياسة
محكمة الجنايات للجمهورية، فشهد له جميع المتقاضين وجميع العارفين بضعف
القضاء في البلاد بأنه أعطى العدل والمساواة جميع حقوقها، حتى حكي عن بعض
من كانوا أظهروا له العداء من إحدى الطوائف النصرانية أنهم وقعوا بين يديه في
قضية يخفى مسلك الحق والعدل فيها، ويتسنى للقاضي الجائر أن يتصرف كيف
شاء في الحكم لمن يميل له أو عليه من خصومها، وظنوا أنه آن له أن ينتقم منهم،
ولم يلبثوا أن رأوا من عدله وإنصافه المالك عليه زمام أمره ما بدل خوفهم أمنًا،
وبغضهم له حبًّا.
ليس كثيرًا على شيخ مسلم سليل بيت الفقه والتصوف، وقد تولى رياسة
محكمة الجنايات واؤتمن على الدماء، أن يكون عدلاً في القضاء، فهذا فرض
يوجبه عليه دينه عقيدة وعلمًا وتربية، فنص القرآن يوجب المساواة في العدل بين
جميع الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، برهم
وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وإنما بزغ نبوغ ابن الجسر كالشمس في توليه رياسة
مجلس النواب اللبناني ست سنين، كان يديره فيها كما يدير خاتمه في خنصره، فلا
يتعاصى شيء على إرادته، فأعجب بسياسته وكياسته الوطنيون والأجانب على
سواء.
حتى إذا ما انتهت المدة القانونية لرئيس الجمهورية اللبنانية، وأريد انتخاب
الرئيس الذي يخلفه علم موسيو بونسو مندوب فرنسة السامي ورجاله كغيرهم أن
السواد الأعظم من جميع الطوائف منتخبون للشيخ محمد الجسر لا محالة، حتى
نواب الموارنة الذين يعدون لبنان بتأييد فرنسة لهم وطنًا نصرانيًّا مورانيًّا كما صرح
بذلك بطركهم فكبر على غبطته أن يكون الشيخ رئيس جمهوريته، ورأى أن
المندوب السامي الفرنسي قد أظهر ارتياحه لانتخابه، ورضاه برياسته، فلجأت إلى
حكومة باريس العليا حتى أصدرت أمرها إلى مندوبها بوجوب منع هذه الكارثة،
فماذا يفعل وقد تجلى له أنه عاجز عن منع انتخابه، وأن جلاء فرنسة عن لبنان
وسورية أيسر خطبًا من جعل رئيس جمهورية لبنان شيخًا مسلمًا معممًا؟ لم ير حيلة
للتفصي من هذه المعضلة إلا إقناع الشيخ بترك ترشيح نفسه لها، فبذل المستطاع
من دهائه وأمانيه له، فأبت قناة الشيخ أن تلين لغمزته، وحية دهائه أن تستجيب
لرقيته، فلما أيقن أن الانتخاب مفض إلى جلوسه بعمامته البيضاء على كرسي
رياسة الجمهورية لم يجد مناصًا من هذه النتيجة إلا إصدار أمره الدكتاتوري بإلغاء
دستور لبنان من أساسه.
أكتب هذا مؤبنًا، لا مؤرخًا له مدونًا لسيرته، فإنني أرجئها إلى الجزء التالي
وأقتصر هنا على بيان أكبر ما أحاط بإعجابي من مزايا نبوغه الذي انفرد به، فكان
جديرًا بحزني وحزن وطنه وأمته عليه، وشعورهم بعظم الخطب بفقده بعد اكتمال
حنكته واستعداده لما يرجى من الرجال العظام الأفذاذ، الذين لا يظفر تاريخ الأمم
بأمثالهم إلا في بعض الأجيال، عسى أن يكون في هذا التنويه عبرة للمنافقين الذين
يظنون أن العظمة في نيل المناصب والرواتب، ولو بخيانة الأمة والوطن
والإخلاص في العبودية للأجانب، وأنى للمنافقين في صغار أنفسهم أن يعقلوا معنى
العظمة الصحيحة، أو ما دونها من مراتب الفضيلة؟
لا شيء يعزينا عن فقيدنا العزيز إلا ما روي لنا من تحقق ما كنا نتمناه من
كتابة مذاكرات حرة دَوَّنَ فيها ما علمه وخبره في أثناء معالجته للأمور العامة
ومعاشرته للعاملين من الوطنيين والأجانب، فهذه المذاكرات كنز نفيس هي خير
عوض تفيد الأمة أنفع ما كانت ترجو أن تتلقاه منه؛ ولكن الذي لا عوض عنه هو
ما كانت ترجوه من عمله عندما تتاح الفرصة للعمل، بعد التمهيد له بالثقة وجمع
الكلمة الذي لا ينهض بدونه وطن، فالمرجو من نجله الكبير وصنوه الكريم أن
يعجلا بنشر كل ما يمكن نشره منها، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءهما، ويطيل
بقاءهما، وينفع الأمة بهما، وأن يديم ذكر هذا البيت فخرًا وذخرًا لهذا الوطن
المسكين، ويفرغ عليهما وعليه الصبر في هذا المصاب، والله مع الصابرين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
غاية مصطفى كمال من مراحله
لما علمت أن مصطفى كمال باشا صرح بأن له غاية يجري إليها في مراحل
مقدرة، ورأيته قطع ثلاث مراحل منها، أيقنت بالحدس المنطقي أن غايته أن
يؤسس بالجمهورية التركية اللادينية دولة جديدة وقد فعل، وأمة جديدة تسمى تركية
إلى أن يتم تكوينها، ثم تسمى باسمه فهو يقبل دخول كل عنصر فيها إذا قبل
مقوماتها ومشخصاتها التي يقترحها وينفذها بالقوة ولغة جديدة غير اللغة التركية
المعروفة في تركستان وفي الأناضول؛ ولكنها مركبة منهما ومن اللغات اللاتينية،
ولا سيما الفرنسية، وتكتب بحروفها حتى إذا نشأ عليها وحدها جيل جديد بعد الجيل
الأول المخضرم نسبت إليه، وتنقطع الصلة بين هذه اللغة وجميع لغات الشرق
الإسلامية، ولا سيما العربية التي سبقه ملاحدة الاتحاديين إلى مناوأتها، وأقدم هو
وحده على الإجهاز عليها وقطع دابرها من الشعب التركي في مراحل خاصة بها،
وهو يعتقد أنه لا يتم له الإجهاز على الدين الإسلامي ومحو جميع آثاره من هذا
الشعب إلا بذلك، ويظن أنه متفق مع زعماء البلاشفة على الانتهاء إلى الإلحاد
والتعطيل بيد أنه يلوح لي أنه إن طال عمره وبلغ آخر هذه المرحلة؛ فإنه يضع
لهذا الشعب الذي سينسب إليه دينًا جديدًا مستمدًّا من الديانة الطبيعية التي وضعها
لأوربة بعض فلاسفتها، فاستحسنها جميع شعوبها وعدوها موافقة للعقل والحضارة
والسياسة؛ ولكن لم يتدين بها أحد؛ لأن مصدر الدين الموافق للفطرة لا بد أن يكون
سلطانه غيبيًّا فوق سلطان العقل البشري؛ لأنه هو ملجؤها في كل ما تعجز عنه
عقول البشر في الدنيا، وهو وجهتها الروحانية إلى ما تجنح له وترتقي إليه من
عالم الغيب.
يظن المعطلة الماديون أن الأنبياء المرسلين هم الذين وضعوا الأديان التي
دعوا إليها، فيزين لبعضهم غرور القوة إمكان محوها، ولبعض آخر أن يخضعوا
أقوامهم الضعفاء إخضاعًا تعبديًّا كما يخضعونهم إخضاعًا سياسيًّا واجتماعيًّا، ولا
تزال أكثر شعوب البشر ضعيفة قابلة لتجارب عجيبة كتجارب البولشفيك في
الروس، ومصطفى كمال في الترك، ولكل بداية غاية، وكل شيء بلغ الحد انتهى.
__________(34/478)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات)
تأليف الداعي إلى السنة، والصاد عن البدعة، الشيخ محمد عبد السلام خضر
الشقيري الحوامدي مؤسس الجمعية السلفية بالحوامدية (جيزة) قال في طرته: (قد
ذكرنا فيه 700 حديث ما بين صحيح وحسن وقليل من الضعيف المقبول الوارد في
الترغيب والترهيب، و690 بدعة أو أكثر في الصلوات والأذكار والصيام الحج
وغير ذلك، و130 من الأحاديث الموضوعة والخرافات الفاشية بين المسلمين) .
كثرت الجمعيات الدينية في هذه البلاد، وإن لبعضها مجلات، وأكثرها تعقد
الاجتماعات لإلقاء الخطب والمحاضرات، وإن من مؤسسي بعضها لعلماء رسميين
من خريجي الأزهر وغيره من المعاهد الدينية، وآخرين من خريجي مدرسة دار
العلوم وغيرها من المدارس الأميرية، وأما الجمعية السلفية الحوامدية فهي تمتاز
باشتغال رئيسها بكتب الحديث والدعوة إلى الاهتداء بها، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بأدلة كتب السنة، فأعضاؤها يتناهون عن جميع البدع والمنكرات في
الدين، وينكرون على كل من يزعم أن البدعة الدينية تنقسم إلى حسنة وسيئة، ولا
يقبلون قول أحد من الأحياء ولا الميتين في تحسين بدعة ولا تأويل سنة مما
اهتدى به السلف الصالح، وهم لم يتخذوا جماعتهم عصبية ولا كتب مؤسسها مذهبًا
يتعصبون له كالسبكية، بل يقبلون نصيحة كل من ينصح لهم بعلم ويقبلونها.
وقد جربت مرشدهم وداعيتهم بالنصيحة فألفيته يقبلها مغتبطًا مسرورًا داعيًا
لي، ولما رأيته في أول رسالة له ينقل الأحاديث النبوية من غير عزوها إلى
مخرجيها، وبيان ما قالوه في تصحيحها أو تضعيفها كما يفعل أكثر المؤلفين
المعاصرين ومحرري المجلات حتى مجلة الأزهر منها، وأنكرت عليه ونصحت له
بالمراجعة وتخريج الأحاديث، فقبل النصيحة ونوه بها في هذا الكتاب.
ومن فوائد هذا الكتاب بيان البدع والخرافات الفاشية في هذه البلاد، وإنكاره
على العلماء الرسميين إقرار العامة عليها، وتأويل بعضهم لها بما يضلهم ويخدعهم
بأنها مشروعة، وصفحاته 320، وثمن النسخة منه 7 قروش، ما عدا أجرة البريد.
***
(الثورة العربية الكبرى)
للأستاذ أمين سعيد المحرر في جريدة المقطم عنايةٌ بدرس أطوار الشعوب
الشرقية عامة، والأمة العربية خاصة، فهو يجمع ما يُنْشَر في الصحف والمصنفات
الجديدة من أخبارها وأحداثها، ويفصلها فصولاً، ويجعل لها أبوابًا وفهارس لتسهيل
الرجوع إليها، وقد ألف عدة كتب أبسطها وأمتعها كتاب (الثورة العربية الكبرى)
عرَّف موضوعه بقوله: (تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن) الذي
أصدرته هذا العام مطبعة (عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر) في ثلاثة أجزاء
أو مجلدات موضوع الأول (النضال بين العرب والترك) وهو الحلقة الأولى من
هذا التاريخ وفي مقدمته الكلام على الدولة العثمانية وتاريخها القديم والحديث مع
العرب والجمعيات العربية التي أفضت إلى الثورة، وموضوع الثاني (النضال بين
العرب والفرنسويين والإنكليز) وهو يشتمل على الحلقة الثانية منه وهو تاريخ
الحكومة الفيصلية من قيامها حتى سقوطها مع تاريخ القضية العراقية من ابتداء
الحرب العظمى حتى إنشاء الدولة الجديدة في بغداد سنة 1921، وموضوع الثالث
(إمارة شرق الأردن وقضية فلسطين وسقوط الدولة الهاشمية وثورة الشام) وهو
أكبر الأجزاء تبلغ صفحاته 652، فهو يزيد على حجم اللذين قبله، وصفحات
أولهما 130، وثانيهما 336.
لقد كان هذا الكتاب حاجة في نفس الأمة العربية مهدها لها كاتب من أبنائها،
فجمع لها ما لم يجمعه غيره من مواد تاريخها الحديث، فاستحق شكرها بالقول
والعمل، فشكر القول الثناء عليه، والتنويه به باللسان والقلم، ومنه نقده ببيان ما
قد فات المؤلف من الوثائق، وما نقصه من الحقائق، وتمحيص ما لم يمحصه من
المسائل، وشكر العمل قراءة الكتاب ونشره الذي يساعد المؤلف على المزيد من
إتقانه وتكميله في طبعة أخرى، وتصنيف غيره من الكتب النافعة، وأرجو أن
يكون لي عودة إليه بعد أن يتاح لي مطالعة الكثير منه، وإن فيما نشرته في
مجلدات المنار من قبل، وما لا أزال أنشره من سيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى
لحقائق عظيمة الشأن بعيدة الغور في تاريخ أمتنا الحديث والوحدة العربية التي كنت
في طليعة من كتب فيها ومن دعا إليها، ولله الحمد.
__________(34/479)
رمضان - 1353هـ
يناير - 1935م(34/)
الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي
__________
مأساة أميرة شرقية
نقد وتحليل بقلم الأستاذ العلامة المصلح الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
نشرت مجلة (Bombay India of Weekly Illustrated The
المصور الأسبوعي للهند بمباي في 27 أغسطس 933) ضمن سلسلة مقالات في
تاريخ الشرق للكاتب الإنكليزي (كراهام لويس) مقالاً تحت عنوان (مأساة أميرة
عربية) ارتكب فيه أخطاء عظيمة، وها أنا ذا مترجم مقاله، فراد عليه بما يجلي
الشبهة، ويوضح الحقيقة بعد مقدمة وجيزة في بيان سبب كثرة الأخطاء والأغلاط
الجهلية، والخطيئات العمدية، التي تكثر جدًّا في كل ما يكتبه الإفرنج عن الإسلام
والمسلمين، والشرق والشرقيين.
مقدمة في أخطاء المستشرقين وخطاياهم
أيجوز أن نتلقى بالقبول كل ما يكتبون عن الشرق؟
لهؤلاء العلماء الأوربيين الذين يَتَسَمَّون بالمستشرقين أخطاء، ولهم خطيئات
أيضًا، أما أخطاؤهم فمنشؤها القصور؛ لأن أكثرهم إذا لم يكن كلهم يتعلمون الآداب
والعلوم الشرقية بأنفسهم بمطالعة الكتب، ويستعينون بتراجم أمثالهم ممن سبقهم،
فَيُلِمُّون باللغات والعلوم إلمامًا ضعيفًا لا يمكن صاحبه أن يجلس على منصة الحكم
ويقضي بالقسطاس المستقيم، والكتب وحدها لا تهدي ضالاًّ، ولا تعلم جاهلاً، وما
أحسن ما قاله أبو حيان النحوي وإن كان قد أخطأ في إيراده بالتعريض بالإمام ابن
مالك.
يظن الغُمر أن الكتب تهدي ... أخا فهم لإدراك العلوم
ومن يُدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تكون أضل من تُوما الحكيم [1]
وقد قيل: لا تأخذ العلم عن صُحُفي، ولا القرآن عن مصحفي [2] ، فأكثر
المستشرقين صحفيون في العلوم الشرقية، ولنضرب لذلك مثلاًً (جورج سايل)
أول من ترجم القرآن إلى الإنكليزية، وهو أحد الثلاثة الذين شهد لهم العلامة أحمد
بن فارس الشدياق رحمه الله بالمعرفة الحقيقية للغة العربية، وحكم على سائر
المدعين لمعرفتها على عهده في البلاد البريطانية أنهم لا يعلمون، ولذلك قرأت شيئًا
من ترجمته، فوجدت في الجزء الأول من القرآن أربعين غلطة، وكتبت في ذلك
مقالات نشرتها في مجلة الضياء الهندية في السنة الماضية (1352) .
ومثال آخر رسائل أبي العلاء المعري ترجمها إلى الإنكليزية عالم إنكليزي
نسيت اسمه، وطُبعت في أوربة، طالعتها فوجدتها مشحونة بالأغلاط.
ومثال ثالث ترجمة محمد مار مادويك العالم الأديب الشهير صاحب مجلة
(إسلاميك كلتشر) أي الثقافة الإسلامية، وله تصانيف جياد قرأت شيئًا من ترجمته
للقرآن فوجدت فيها أغلاطًا واضحة جدًّا، وكتبت إليه بشيء منها فاعترف وأجابني
شاكرًا وطالبًا المزيد، إلا في غلطة منها؛ فإنه أبى أن يعترف وعمي عليه فهم
الصواب فيها، وهي في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12) ومثيلتها قوله بعد ذلك: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) ترجمها بما معناه أليسوا سفهاء ... إلخ، ووضع علامة الاستفهام في
آخر الجملة، وكذلك صنع بالتي بعدها، فلم يميز بين (ألا) المركبة التي هي
همزة الاستفهام ولا النافية كقوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14) ؟ وقول الشاعر:
ألا اصطبار لمن ولت شبيبته ... وآذنت بمشيب بعده هرم
وبين (ألا) الاستفتاحية البسيطة كما في الآية، وفي قول امرئ القيس: ألا
أيها الليل الطويل ألا انجل البيت، فكتبت إليه جوابًا وضحت له المسألة، فرجع
إلى الاعتراف وقال: إنني متعجب جدًّا من عدم انتباه الأستاذ الغمراوي لهذه
الأغلاط، وأنا قد اعتمدت عليه في تصحيح الكتاب، وأقمت سنتين في مصر بقصد
تنقيحه.
ولو كان الزمان مواتيًا والفرصة سانحة لصححت ترجمته من أولها إلى
آخرها؛ لأنها أول ترجمة قام بها إنكليزي مسلم وآخرها أيضًا، وإن لم تسلم من
الأغلاط المعنوية أيضًا؛ ولكنها على كل حال أفضل من تراجم النصارى.
وأما الخطيئات فيرتكبها ثلاثة أضرب من المستشرقين:
(الضرب الأول) هم القسيسون المتعصبون كجورج سايل المتقدم ذكره
ومرجليوث وزويمر ومن على شاكلتهم، والحامل لهم على ارتكابها شدة بغضهم
للإسلام وللشرق كله من أجل الإسلام.
(الضرب الثاني) السياسيون المستعمرون وغرضهم معروف.
(الثالث) الأدباء الذين لا يترفعون عن الكذب وزخرف القول ليكتسبوا بذلك
المال الوافر، والشهرة الواسعة، وإعجاب القراء الأوربيين الجاهلين، الذين
يصدقون كل ما يقرؤون عن الشرق والشرقيين.
ولعل (مستر لويس كراهام) محرر المقالات الشرقية الأدبية التاريخية في
مجلة (المصور الأسبوعي) التي تُنشر باللغة الإنكليزية في مدينة (بمباي - الهند)
من هذا الضرب الأخير؛ فإنه كتب مقالاً في المجلة المذكورة بتاريخ … تحت
عنوان (مأساة أميرة شرقية) وملأه بالأكاذيب والأخطاء والخطايا، وستقف على
ذلك فترى كيف يعبث كُتاب أوربة بالحقائق، ويتحدثون عن التاريخ العربي بما
يشبه قصص ألف ليلة وليلة، لا فيما ينشر في بلادهم فقط، بل فيما ينشر في
الشرق الإنكليزي وأكثر المستعمرات وشبه المستعمرات أيضًا، ونحن عن ذلك
غافلون أو متغافلون.
قبل الشروع في نخل مقال كراهام، ووضعه على محك النقد يجب عليّ أن
أعترف بأن هنا لك قسمًا رابعًا من المستشرقين هم بريئون من تعمد الخطيئات
ومبرؤون عنها، وكانوا قبل هذا الزمان قليلاً جدًّا، فمنهم توماس كارليل وجيبون
وكوثى، وأما في هذا العصر فهم بحمد الله كثير لا يحصون؛ ولكن الخاطئين أكثر
منهم بكثير، بل لا مناسبة بينهم، فيجب علينا أن نفتح عيوننا، وننظر ماذا يقال
عن أدبنا وتاريخنا في الصحف والمخيلات (السينمات) ودور التمثيل وسائر
الأندية، ونغبر في وجوه المبطلين اهـ.
قال لويس كراهام:
الجمال في النساء يجلب لمن تحلت به كفلين متساويين من سعادة وشقاء،
وصحف التاريخ طافحة بالحوادث التي أتاح الحسن فيها للمرأة الثراء والغنى،
والمكانة، والنعيم والعذاب.
يظهر أن كل صورة ظهرت ملأى بالنور والغبطة تكون خاتمتها أبدًا ظلمة
وانحطاطًا من شامخ إلى هوة سحيقة.
ليلى بنت الجودي الغساني رئيس القضاة وُهِب لها جمال زاهر يحرق قلوب
الرجال، ويبعث أهواءهم، لقد اشتهرت شهرة واسعة بالجمال الفاتن منذ صباها،
ولم تلبث أن تزوجت بمالك بن نويرة، وكان مالك صديقًا حميمًا للبطل الإسلامي
العظيم (خالد بن الوليد) ولأسباب خارجة عن هذه القصة أتى مالك عملاً جعل
خالدًا لا يثق به، وساءت العلاقات بينهما جدًّا، حتى انتهى ذلك إلى أن صار كل
منهما رئيسًا لفرقة معادية للأخرى، وكلتا الفرقتين تبذل أقصى جهدها للفتك
بالأخرى بحجة شرعية في معتقدها الخاص، ولم تدم هذه الواقعة طويلاً حتى وقع
البائس مالك بن نويرة هو وحليلته ليلى أسيرين في يد خالد.
والآن قد ألممنا بشيء من وصف ليلى نقول: إنها وهبت قلبها لزوجها،
وعزمت على أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في الدفاع عنه لتربح حياته، وكانت
النساء إذ ذاك محتجبات، وكان كشف وجوههن يعد خزيًا وعارًا، ومع ذلك تزينت
ليلى بحليها، وأرادت أن تجعل حسنها شفيعًا في زوجها، فعزمت على أن تقصد
خالدًا تطلب منه الرحمة، وتظهر أمامه سافرة، وتضم إلى حسنها شفيعًا آخر وهو
أعذب ما تقدر عليه من الكلام لعله يهب لها حياة مالك.
كانت تلك الليلة ليلة لهو وطرب وسرور، وانبساط وشرب خمور، في
معسكر خالد، والجنود مغتبطون قاعدون حول النار يصطلون، ويعددون أعمال
ذلك اليوم (الوقعة) وبينما هم كذلك إذا بشبح متزمل بعباءة كثيفة يجتازهم حتى
يقف أمام فسطاط خالد، فما هي إلا همسة يهمسها الشبح للحارس حتى يلج الفسطاط،
ويرى خالد مضطجعًا على سريره ليستريح، وكانت ستائر الخيمة من الجوخ
العالي الذي أُخِذَ من الغنائم، وذلك السرير بعينه جاء من قافلة فارسية، وكان
الفسطاط مضاء بنور ضئيل، ورائحة العود تعبق فيه وتزيده روعة وجلالاً، وما
وقع بصر خالد على الشبح حتى نزع العباءة الضخمة التي كانت تحيط به،
وظهرت ليلى أمام خالد، ولم تلبث إلا لحظة حتى جثت على ركبتيها، وتفجر من
بين شفتيها الجميلتين جدول منحدر من الكلام، وكأن قلبها في مخالب طائر،
وأسعدتها عيناها ففاضت بالدموع، فرأت ابتسامة على شفتي خالد، واهًا! لقد
نجحت! لقد أذاب جمالها قلب القائد الحربي الحديدي، سُرت ليلى بذلك.
بغتة يكسر صوت خالد ذلك السكون، وكان صوته غليظًا خشنًا من الغضب،
ما كادت ليلى تسمع رنين لفظه حتى جحظت عيناها من الرعب، ولما رأت الرجل
الذي دعاه خالد فزعت منه، وأرادت أن تجفل؛ ولكن دمها صار جمدًا حين سمعت
نص الحكم الذي فاه به القائد، اضرب عنق مالك في الحين، وادع لي إمامًا يعقد
لي على ليلى الآن.
أما الرعب والفزع الذي وقع لهذه المرأة السالبة للعقول فلا يمكن وصفه،
فتصور القارئ له خير من أن أصفه له، فكرت ليلى لحظة وهي في غاية
الاضطراب، فتحققت أن جمالها هو الذي خذلها وأسلمها، لقد أنتج عملها ضد
المقصود، فبدلاً من أن توقظ رحمة خالد أيقظت هواه، لم يضع شيء من الوقت
ففي الحال أُبْلِغ البائس مالك الحكم، وما شعرت ليلى وهي لا تزال جاثية ذاهلة أمام
سرير خالد إلا وصوت مالك يرشق قلبها المثقل بالآلام ضغثًا على إبالة (هذا هو
سر القضية، ما قتلني إلا أنت) ، وهكذا صارت ليلى زوجًا لخالد لاعنة جمالها
الذي كان نكبة عليها.
حقًّا لقد كان جمال هذه المرأة مدهشًا، وناهيك أنه في وقعة عقرباء جالت
جنود خالد جولة (انهزمت انهزامة قليلة) فهجم العدو على فسطاط خالد، وكان
سيدهم (مجاعة) قد أسرته خيل خالد من قبل، فوجدوه مطروحًا هناك موثقًا،
فأراد هؤلاء البدو المتوحشون أن يقتلوا ليلى؛ لكن جمالها الفتَّان كان قد سرى في
قلب (مجاعة) وعمل عمله، فدفعهم عنها وأجارها منهم، وأرادوا أن يفكوا أسره،
فأبى وفضَّل أن يبقى أسيرًا عند ليلى ليمتع بصره بالنظر إليها حينًا.
واشتهر جمال ليلى وطار صيتها في الآفاق حتى صار الناس يتغنون به في
المدينة، فهاج هوى عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذ يشبب بها، ويتغنى بحبه لها،
وما زال هائمًا بها حتى أسعده الحظ بتزوجها فرفعها إلى أعلى مكانة من الإجلال
حتى هجر لأجلها نساءه وخليلاته (سراريه) .
لكن ذلك الإجلال والعشق كان فارغًا؛ لأنه إنما كان يحب الجمال الجسمي،
ضاربًا عرض الحائط بجمالها النفسي، كان زواجه غمًّا عليها وحزنًا، لم تزل
الأميرة البائسة تذكر مالكًا وأيامه السعيدة، ولما وجدت نفسها في مستوى الحيوان
الأعجم إن هي إلا متعة وملهاة، انقبضت نفسها، واستولى عليها الهم، وغلب
عليها الصمت، فنحل جسمها، وذبل جمالها، فذبل معه حب عبد الرحمن لها.
وفي خاتمة الأمر رجعت إلى بيت أبيها لتقضي بقية أيامها في تفكير هادئ،
وهكذا كانت عاقبة هذه المرأة العجيبة - كانت حياتها كما ترى حياة شاقة أدت لأجلها
ثمنًا غاليًا حتى على حسنها وجمالها.
* * *
في الفسطاط
صور الكاتبُ داخلَ فسطاط خالد صورة تضاهي غرفة أحد ملوك الهند في
العصر الحاضر، فهذه النارجيلة الطويلة قائمة منتصبة، وهذه باطية بلورية مملوءة
خمرًا تحفها الكاسات النفسية، وهذه المباخر يتصعد في جو الحجرة دخانها ويعبق
طيبها، وهذه المصابيح الجميلة معلقة يتوقد نورها، وهذا خالد بن الوليد الذي
اخترعته مخيلة كراهام مرتديًا ثيابًا فاخرة على الزي المصري تخاله أحد العمد
المترفين جالسًا على كرسي مزخرف بديع، وتحت قدميه الحافيتين كرسي جميل
لوضع القدمين، وها هي ذي المائدة البهية منصوبة عليها من الفواكه ألوان وأفنان.
وهذه ليلى ابنة الجودي عارية النصف الأعلى من جسمها تقريبًا، متزينة
بأقراطها وفتخاتها، وثلاثة أزوج من الأساور، فزوج في عضدها، وآخر أسفل
قليلاً من مرفقها، وثالث في معصمها، متجردة في سراويل بلا غلالة ولا درع،
وحجالها في أسفل ساقيها إلى كعبيها، غادة بيضاء، وسيمة جيداء، ملفوفة لفاء،
هضيمة الخصر عظيمة ما تحته، طوالة زلحة برهرهة (ولولا التأدب مع المرحوم
العلامة أحمد بن فارس صاحب الساق على الساق لأسهبت في سرد هذه الأوصاف)
ترى هذه المرأة الفتانة جاثية على ركبة واحدة، محدقة النظر في وجه خالد العبوس،
جزوعًا هلوعًا، مستعطفة مستحرمة بعينيها، ومنظرها الذي يذيب الجماد، بله،
جدول الكلام المنصب المنساب من شفتيها كما قال كراهام مخترع القصة نفسه.
وأما خالد هذا الخيالي فيتصوره الرائي مقطب الوجه إلا أن عينيه لا
تستطيعان أن تخفيا ما سرى في جسمه ونفسه من الهيام بحسن هذه الدمية الجاثية
بين يديه، وهي كما قال الكاتب (تراجيدي) أي مأساة ترق لها قلوب الأسود
الهصر، والسباع الضارية، لو كانت حقيقية أو خيالية، أما وقد أساء مخترعها إلى
القراء بأن جعلها في الدعوى حقيقة تاريخية، وفي الواقع خرافة خيالية؛ فإن ذلك
يغض من روعتها، ويقلل من تأثيرها، ويشوش تصورها.
فيا ليت شعري أكان كراهام لويس جادًّا أم هازلاً، جاهلاً أم متجاهلاً،
مستهزئًا بنفسه أم بالقراء، أم بالتاريخ أم بالأدب حين أخذ صورة امرأة خليعة من
نساء الفرس الساكنين في بمباي ووضعها بين يدي صورة فلاح غني من ريف
مصر في غرفة راجا هندي مترف، وقال للناس هذه صورة خالد بن الوليد القائد
العربي، لا في بيعة بحمص أو دمشق (فيكون الأمر لولا النارجيلة والخمر قريبًا)
بل في معسكره بالبطاح من أرض بني تميم وهو في سرية متحفز لقتال أهل الردة؟
لكن هذا الكاتب الظريف أبى له خياله إلا أن يجعل فسطاطه مجلس كسرى أو
قيصر، وأضاف إليه نارجيلة، لئلا يحرم من زينة مجالس أولي النعمة والترف من
أهل الشرق الأقصى، وليس على فكره بمستنكر أن يجمع الأزمنة في زمان واحد،
والأمكنة المختلفة في مكان واحد، والأشخاص المتعددين في شخص واحد كما
سيأتي بيانه في تحقيق قصة ليلى ابنة الجودي , لقد أعجبني جدًّا ما قال الأستاذ
معين الدين أحد رفقاء دار المصنفين في رده على هذا الكاتب في مجلة (معارف)
الأوردية؛ فإنه بعد أن فند ما تكذَّبه الكاتب، وأدى إليه ما يستحقه من الاحتقار قال
ما ترجمته: تصويره خالدًا وفسطاطه كمن يصور المسيح على طيارة يحوم في جو
باريس ويتفرج على قصورها. اهـ.
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: اشتهر اسم تُوما الحكيم حتى صار مضرب المثل في الجهل المركب من جهلين، الجهل بالأمر، والجهل بهذا الجهل، إذا قال الشاعر في هجائه:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصف الناس كنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب.
(2) الصحفي من يأخذ العلوم عن الصحف بدون تلقٍ عن العلماء، وهو بالتحريك نسبة إلى الصحيفة؛ لأن العرب تنسب إلى المفرد لا إلى الجمع، والمصحفي من يتلقى القرآن من المصحف لا عن القراء الحفاظ وكل منهما يكون كثير الغلط والخطأ.(34/535)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي
كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، تلوكهما الألسنة والأقلام
ويجولان في جميع الأذهان، ويتحدث بهما الرجال والنساء والولدان، وقد أجمع
الناس في هذا الزمان على أنهما مصدر السعادة للبيوت (العائلات) والشعوب
أفرادهما وجملتهما، ولو سألت كل فرد من أفراد هؤلاء الناس عن هذا الإجماع
لأجاب أنه حق لا ريب فيه، وأنه من القضايا الضرورية التي لا يتوقف الحكم فيها
على برهان ولا دليل.
ثم إنك لو سألت كل واحد من هؤلاء عن تفسير هاتين الكلمتين وتفسير كلمة
السعادة، وعن الرابط بينها وبينهما الذي كانا بها علة أو سببًا، وكانت هي معلومة
ومسببًا أو سألته عما هو معروف الآن لكل مطلع على أحوال البيوت (العائلات) في
بلده وأحوال الشعوب التي تشرحها جرائدها، وتنشرها في العالم، وعن تطبيق تلك
القاعدة الاجتماعية عليها في جملتها أو في تفصيل ما تشكو منه وتصفه من أنواع
الشقاء في مصالحها الأدبية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل لو سألته عن
أفظع وقائع المظالم والجنايات والخيانات فيها، هل وقع بفعل الناس من الأميين
ومن على مقربة منهم ممن لم يتح لهم إلا التعليم الابتدائي أو الثانوي لأجابك كل
واحد عن السؤال الأخير بأن كل ما ذكرت من أنواع الجرائم الكبرى لم يقترفه إلا
النابغون في التعليم العالي وما يليه، يجيبك بهذا؛ لأنه هو القطعي المعلوم بالمشاهدة
المنقول بالتواتر؛ ولكنه يعجز عن الجواب عما قبله من فائدة التربية والتعليم، ومن
معنى السعادة، ومن الوسط الرابط بينهما؛ لأن هذه كلها قضايا نظرية كان يقلد
غيره فيها، ويُعِدّ المسلَّمات من الضروريات.
معنى كل من هاتين الكلمتين يختلف باختلاف متعلقه والغرض منه، وكونه
على منهاج يؤدي إلى الغرض، أو يقرطس في الهدف التربية تنشئة قوى الإنسان
الجسدية والعقلية والروحية بما تربو به وتَنْمِي وتترعرع حتى تبلغ كمالها الشخصي
في محيط الملة والأمة، فمن أعمالها ما هو مفيد لكل أفراد الناس؛ لأنه لا يختلف
باختلاف الأقوام في مقوماتها الملية، ومشخصاتها الوطنية، كتربية الأبدان المبني
على قواعد الصحة في الغذاء والنظافة والرياضة، ومنها ما يختلف اختلافًا واسع
المسافة بعيد الشقة، فما يعده بعض زعماء الأقوام والأمم مصلحة يعده غيرهم من
أكبر المفاسد، وتفصيل ذلك يطول وليس من موضوعنا الآن.
والتعليم تلقين العلم الذي يساعد التربية على تكميل الإنسان، وهو كالتربية
منه ما لا بد منه لجميع الناس في كل زمان ومكان، ومنه ما تختلف الحاجة إليه
باختلاف الأطوار والأحوال، وحاجة الأقوام والأوطان، والأصل فيه أن يعلم
النشء ما يرشده إلى العمل الذي لا بد له منه في حياته الشخصية والمنزلية
والوطنية ... إلخ.
التعليم إفادة العلم، والعلم بيان للعمل صفته وإتقانه، وأما الباعث للعامل على
العمل بعلمه فهو ثمرة تربية النفس على ما يوجهها إلى طلب منافعها ومصالحها
الحسية والمعنوية، أو المادية والأدبية - كما يقول كتاب عصرنا - أو إلى ما في
الخير لها في المعاش وفي المعاد كما يقول علماء الدين، فمنفعة التعلم رهينة
بحسن التربية، وهذه المباحث كلها طويلة الذيول، متدفقة السيول؛ وإنما أشرت
تمهيدًا للسائلة عن التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي ما هما، وأين يوجدان في
هذا القطر؟ أيوجدان في بيوت المسلمين كافة، أو بيوت بعض الطبقات منهم؟
أيوجدان في مدارس وزارة المعارف، أو مدارس الأوقاف الملكية، أو مدارس
الجمعية الخيرية الإسلامية، أو المدارس الحرة؟ أيوجدان في مدارس المعاهد
الدينية الأزهر وملحقاته؟ الذي أعلمه أنا لا يوجد في بيوت المسلمين، ولا في
المدارس الرسمية، ولا غير الرسمية، ولا في المعاهد الدينية تربية إسلامية مدونة
أو متبعة بالعمل في تنشئة أطفالهم في بالبيوت، ثم تلاميذهم في المدارس والمعاهد
على أخلاق الإسلام وآدابه وعباداته كالصدق، والحرية، والحياء، والأمانة،
وعزة النفس، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والتعاون، والاقتصاد، والتراحم،
واجتناب البذاء والفحش في القول ... إلخ حتى يترعرع ويشب معتقدًا أن المسلم
بإسلامه أعز الناس نفسًا، وأجدرهم بالكرامة واتباع الحق، واحتقار الباطل، وحب
الخير للناس كافة، وأنه يجب بذلك أن يكون قدوة لهم في كل فضيلة وعادة وعمل،
ولا يليق به أن يكون تابعًا ومقلدًا لقوم آخرين فيما يعد تفضيلاً لهم على قومه، مع
اعترافه لكل ذي حق بحقه، وكل ذي فضل بفضله، وبراءته من كل ما فشا في
قومه من البدع والخرافات والعادات الضارة والسعي لإزالتها عندما يكون أهلاً لذلك؛
ولكن يوجد في بعض البيوت بقايا متبعة ذلك.
وأما تربية المدارس فروحها تفرنج يقتل الإسلام قتلاً بتفضيل كل ما هو
إفرنجي على كل ما يخالفه من عقائد الإسلام وشعائره وعباداته وأخلاقه وآدابه
ومشخصاته، وحسبك أن الصلاة التي هي عمود الإسلام وعنوانه، ومغذية الإيمان،
غير واجبة على أساتذة هذه المدارس، ولا على تلاميذها، فلا يطالب بها أحد،
كما أنها غير محرمة عليهم فلا يمنع من أرادها في غير وقت الدرس، وقد أجمع
المسلمون سلفهم وخلفهم على أن من استحل ترك الصلاة يكون مرتدًّا عن الإسلام لا
يشارك المسلمين في شيء من أحكامهم من إرث وزواج، ولا يدفن في مقابرهم،
وإن كان متزوجًا انفسخ عقد زواجه، بل يجب على الحكومة استتابته، فإن لم يتب
قتل كفرًا، وأما من ترك الصلاة وهو مؤمن غير مستحل فأهون ما قاله الفقهاء أن
يحبس حتى يتوب، كذلك الصيام اختياري في مدارس الحكومة المصرية، وهو من
أركان الإسلام من استحل تركه كَفَرَ.
هذه المدارس قد وضع الإنكليز نظمها، وعينوا لها وجهتها، وغايتها كما
شاؤوا، ومن مقاصدهم فيها ألا يكون لم يتعلم فيها أدنى شعور بأن لقومه ملة إسلامية
لها من المزايا في دينها وتشريعها وحضارتها وتاريخها ما تعلو به على جميع الملل،
بل ما لا تشاركها فيه ملة أخرى، وقد اتفق أن جيء لمدرسة البنات السنية على
عهد القس الشهير المستر دنلوب المسيطر على وزارة المعارف بناظرة إنكليزية
ممن تربين تربية حرة عالية، فلما كتبت تقريرها المعتاد في آخر السنة المدرسية
اقترحت على وزارة المعارف إلزام جميع من يتعلم فيها من البنات أن يتعلمن عقائد
الدين الإسلامي وأحكامه ويؤدين عبادته من صلاة وصيام وعللت ذلك بأن عاقبة
هؤلاء البنات أن يكن أمهات مربيات لنشء الأمة، ولا يصلح للتربية إلا الأم
المتدينة الصالحة لأن تكون قدوة، ولذلك أجمعت الأمم كلها على تربية البنات تربية
دينية علمية عملية (قالت) ولما كان في هذه البلاد ثلاثة أديان كلها تأمر بعبادة الله،
وبالتحلي بالفضائل واجتناب الرذائل، وهي الإسلام والنصرانية واليهودية، ولما
كان اختلاف التعليم الديني مضرًّا بالتربية، ومخلاً بوحدة الأمة، وكان الإسلام هو
دين الأكثرية الغالبة وجب جعله هو الدين الذي يُبنى على أساسه نظام التعليم
والتربية في هذه المدرسة، فأنا أقترح جعله رسميًّا إلزاميًّا فيها.
أترى أيها القارئ ما فعلت وزارة المعارف بهذا التقرير؟ لعلك تعلم أن
القسيس دنلوب كان هو الوزارة، وكان الوزير ومن دونه مستخدمين له، أو آلات
بيده، وقد عزل جنابه هذه الناظرة عزلاً، وحفظ تقريرها أو مزقه تمزيقًا.
جميع المدارس التي تسمى إسلامية في مصر تسير وراء وزارة المعارف في
تربيتها وتعليمها سير القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، حتى مدارس الأوقاف
الملكية، وكذا مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان غرضها الوحيد على
عهد رئيسها الأستاذ الإمام ومديرها حسن باشا عاصم (تغمدهما الله برحمته) تربية
أولاد الفقراء من المسلمين تربية إسلامية خالصة، وتعليمهم ما لا بد منه لكل مسلم
من عقائد دينه وأحكامه وآدابه مع مبادئ لغته وسائر ما يلقن في المدارس الابتدائية
من حساب وغيره، وغاية ذلك كله أن يكون أولاد الطبقات الفقيرة من المسلمين كما
يجب أن يكون المسلم في أدبه وصدقه وكرامته وأمانته وموضع الثقة في عمله أيًّا
كان.
أتدري أيها القارئ المسلم ما أصاب هذه المدارس من الانتكاس والارتكاس بعد
ذينك الرجلين المصلحين اللذين لم تُنْبِتْ طينة مصر مثلهما منذ قرون؟ حسبك أن
تعلم أن الجمعية أنشأت مدرسة للبنات لتمرينهن على الرقص دون تمرينهن على
الصلاة؟ وأما الثمرة العامة لتربية البنات وتعليمهن؛ فإنك ترى النساء بعينك في
الأسواق والشوارع والمحافل والمجامع، والملاعب والمراقص، والمراسح، وفي
الحمامات البحرية والجمعيات النسائية، فقد بلغن من الخلاعة والرقاعة، بل الإباحة
دركًا، صار يستقذره الكُتاب الإباحيون الذين دعوا إليه من قبل.
ألفت كتابًا (في حقوق النساء في الإسلام) أبنت فيه أن الإسلام كرمهن
وأعطاهن من الحقوق الدينية والمدنية والسياسية ما لم يسبق إلى مثله، أو ما يقرب
منه دين من الأديان، ولم يبلغ شأوه فيه قانون ولا نظام، وسميته (نداء للجنس
اللطيف ... إلخ) فقرَّظته الصحف، وصرحت بأنه لم يكتب مثله في موضوعه،
فلم يبلغني أن جمعية نسائية، ولا امرأة مسلمة طلبت الاطلاع على هذا الكتاب، بل
أهديته إلى كاتبة أديبة مسلمة ينشر لها المقطم رسالات كثيرة في الآداب والعادات
وغيرها، فقرَّظته تقريظًا حسنًا، ورغبت المعلمات في قراءته بقولها: إن مؤلفه
يبذله لكل من تطلبه منهن بدون ثمن، فلم يطلبه منهن أحد، فأين الإسلام وأين
التربية الإسلامية في مصر؟
وإذا كان هذا شأن من يتعلمن ويتربين في المدارس التي تسمى إسلامية، فما
رأيك فيمن يتعلمن في مدارس جمعيات التنصير وراهبات الكاثوليك؟ إن هؤلاء
يحتقرن الإسلام وكل من ينتمي إليه ويحتقرن لغته أيضًا، روت طالبة سورية في
مدرسة أمريكانية أن زميلتين لها من بنات باشاوات مصر قالتا لها، وقد كلمتهن
باللغة العربية: كيف ترضين أن تتكلمي بهذه اللغة القذرة؟ فلعنة الله عليهما
وعلى والديهما ووالدتيهما في الدنيا والآخرة. اهـ المقالة.
(المنار)
كنت كتبت هذه المقالة لمجلة التعليم الإلزامي استجابة لطلبها،
وأردت أن أتم موضوعها بمقالة ثانية، فحال دونها زحام شواغل دار المنار، وقيل
(شغل الحلي أهله أن يعار) والصحف قلما ينقل بعضها مقالات بعض؛ ولكن قد
يسرق بعضها من بعض، وقد يكلف بعض محرريها أن يكتبوا لغيرهم صحفهم حتى
يتفق أن يطلب منا مقالات وفتاوى لتنشر في صحف مصرية وغير مصرية في
وقت واحد! ! !
__________(34/544)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المولد النبوي
(احتفل في هذا العام به في بمباي (الهند) احتفالاً وصفه مراسل البلاغ بما
يأتي)
لم تشهد بمباي منذ سنوات احتفالاً شعبيًّا رائعًا كالاحتفال الكبير الذي أقامه
مسلمو بمباي هذا العام، ففي اليوم الثاني عشر من ميلاد أشرف الكائنات، وفخر
الموجودات المثل الأعلى، وحجة الله العظمى، محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى
عليه وسلم، في نحو الساعة الثانية والنصف بعد الظهر عقد المسلمون في بمباي
أعظم جلسة برياسة مولانا (هيزهولينس تقدس ما آت يير سيد مطاع الدين متاميان
جشتي صاحب) حضرها ما يزيد عن عشرين ألف نسمة، يتقدمهم من أعيان
المسلمين وكبرائهم عظمة السلطان صالح بن غلاب القعيطي وخان بهادر شيخ علي
باعكظة وقنصلا إيران والأفغان، والدكتور خالد شلدريك، والمستر محمود دير
الإنجليزي محرر التيمس في بمباي (الذي أسلم مع زوجته وولديه منذ سنة في
بمباي، وكان محررًا في الإجبشيان دايلي ميل قبل سنوات) وزعيمة الهند مسز
سروجيني نايدو ومولانا أبو السعود محمد سعد الله المكي وفضيلة الشيخ أحمد
يوسف ورهط كبير من أعيان الفرس والهندوس وفضلى السيدات وكرائم العقيلات.
وقد افتتح الجلسة مولانا أبو السعود سعد الله بعشر من القرآن الكريم، ثم قرئ
المولد النبوي الشريف، ثم انتخبت هيئة الجلسة سمو السلطان صالح القعيطي
لافتتاح الحفلة، فاستهل الموقف بخطبة جليلة استعرض فيها حياة الرسول الأطهر
صلى الله عليه وسلم، وأثر المدنية العربية في الشعوب الإسلامية وانتقالها إلى
أوربا وأمريكا، وأفاض في ذلك طويلاً ببلاغة وطلاقة تنمان عن علم غزير وسعة
اطلاع.
ثم وقف السردار سليمان قاسم ميتا وخان بهادر شيخ علي باعكظة وسيد
أحمد صديق كهتري صاحب، ومولانا خجندي صاحب، وأيدوا بالإجماع إسناد
تلاوة السيرة النبوية إلى مولانا (هيزهولينس) رئيس الجلسة، وقد وافق
الحاضرون على ذلك، فشرع حضرته في تلاوة السيرة النبوية الشريفة باللغة
الإنجليزية، وأخذ في شرحها شرحًا وافيًا.
ثم وقف الدكتور خالد شلدريك بعد أن قدمه أحد أعضاء الجلسة باسم المرشح
الوحيد لعرش تركستان الصينية، فاستهل الموقف بخطبة حماسية طويلة بالإنجليزية
أتى فيها بالسبب الذي دعاه لاعتناق الإسلام، وكيف فتش طويلاً، وبحث كثيرًا في
كل ما كتب السلف والخلف عن الأديان، وأنه لم يقبل الدين الإسلامي إلا عن علم
ومعرفة، وأنه خير الأديان وأقومها، إذ جاء في مصلحة المجتمع البشري ورفاهيته،
وأن الدين الإسلامي اجتذبه بسحره ومغنطيسه فاحتضنه بين يديه، وهو ابن
التاميز، وليس هذا بعجيب.
ثم انتقل إلى حالة المسلمين في الصين وعن رحلته فيها وقال: إن عددهم أكثر
من خمسين مليونًا، وإن مسلمي الهند يبلغ عددهم أكثر من سبعين مليونًا، وإن عدد
المسلمين في أفريقيا يزداد يومًا فيومًا، وإن برناردشو أنذر أوربا وأمريكا بأن
الإسلام سيكتسحهما في الوقت القريب العاجل.
ثم انتقل إلى حالته الخصوصية، وكيف اضطهد من البوليس، وروقب في
الصين وغيرها لقيامه بالدعاية الإسلامية والتبشير في كل محل حل فيه، ووصف
حالة المسلمين وما هم عليه اليوم من تشتت واضمحلال، وقال: إن خير طريق لتقدم
المسلمين وإسعادهم هو الرجوع إلى القرآن بالعمل بما فيه، ونبذ التحزب والشقاق
بالاتحاد، وإن الكتلة المجموعة لا تقدر على قصمها اليد الواحدة.
ثم وقف أحد الأعضاء وأعلن الحاضرين مشاركة (أعليحضرت آصفجاه
الملك سمو نظام حيدر أباد مير عثمان عليخان، خلد الله ملكه) للمحتفلين في شعورهم
بنظم قصيدة عصماء في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، تلاها العضو بصوت
رخيم خاشع ملكت على الحاضرين مشاعرهم وعواطفهم، واستعادوها مرارًا
وتكرارًا، والقصيدة بالفارسية ومطلعها كما يأتي:
شه ملك رسالت صاحب تاج وسر رآمد وزير وراز دارو نائب رب قدير آمد
ثم وقف عضو آخر وأعلن المجتمعين بمشاركة حضرة صاحب الدولة يمين
السلطنة صدر مهام الدولة سير كيشن برشا رئيس وزراء مملكة (حيدر أباد دكن)
بقصيدة غراء من نظمه في مدح أفضل الموجودات وأشرف الكائنات سيد العرب
والعجم صلى الله عليه وسلم باللغة الأوردية تلاها (سيد قمرصاحب)
بصوت عذب رخيم، واستعادها الحاضرون أيضًا مرارًا وتكرارًا، والظاهرة
الوحيدة التي يسجلها التاريخ هنا لصاحب الدولة يمين السلطنة أنه هندوسي لم يمت
إلى الإسلام بصلة، إلا أن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم جعله ينظم الكثير من
قصائده ويجعلها وقفًا عليه صلى الله عليه وسلم.
ثم وقف مولانا (خجندي صاحب) وقدم مسز سروجيني نايدو الهندوسية
للحاضرين، وخيرهم في أن يلتمسوا منها الخطابة بالأوردية أو الإنجليزية فدوى
المكان بالتصفيق وطلبوا منها الأوردية، وتحمسوا لها كثيرًا، ثم وقفت زعيمة الهند
وتكلمت بالأوردية بفصاحة وطلاقة، والتمست أيضًا هي من الحاضرين أن يسمحوا
لها بالتكلم بالإنجليزية وقالت:
إن ضيوفنا الأعزاء الذين تشرفوا باعتناق الدين الإسلامي الحنيف ينبغي لنا
أن نراعي شعورهم وإحساسهم (تشير بذلك إلى المستر محمود دير المسلم
الإنجليزي محرر التيمس وزوجته والدكتور خالد شلدريك) وأن نتكلم باللغة التي
يفهمونها لكي لا يعدوا أنفسهم غرباء عنا، ثم انطلقت كالأسد الشرود فصالت
وجالت بالإنجليزية الفصحى، فتكلمت عن محاسن الدين الإسلامي طويلاً وعن
عبقرية محمد (صلوات الله تعالى عليه) الفذة، وعن حياته وسيرته وأعماله،
وكيف تغلغل الإسلام في العالم شرقًا وغربًا، وما كان عليه المسلمون من السلف من
العز والسؤدد والشأن والسلطان , وكيف أن الهندوس مع وفرة عددهم، وكثرة
عِدَدِهم، يرتعبون كل الرعب ويحسبون للمسلمين ألف حساب، وأن محمدًا الذي
جاء لتحرير العالم من ربقة الذل والعبودية، وأن الإسلام لا يحتاج لامرأة مثلها أو
غيرها من كبار الكتاب والفلاسفة أن يشرحوا محاسنه، ولا أن يُظْهِرُوا فضيلته.
ثم انتقلت فجأة إلى الكلام عن حالة المسلمين اليوم وشقائهم، وتفرقهم وانحطاط
قواهم وضعفهم، وعن الجهل والاضمحلال، وعن الذل والعبودية اللذين يرتع فيهما
أكثر المسلمين اليوم، وأنحت باللائمة عليهم جميعهم لتقدم غيرهم من الأمم،
واحتلال أماكنهم والتربع على عرش سؤددهم ومجدهم.
وقالت: إن الإسلام يحتضر فكما أن الحسين (رضي الله عنه) ذُبِحَ في
كربلاء، فاليوم يُذْبَح الإسلام في عقر داره، وإن كل بقعة من بلاد المسمين هي
كرب وبلاء، ونبهت المسلمين إلى تدارك حالهم، وجمع كلمتهم، ولم شعثهم،
وتوحيد صفوفهم، وتنظيم أمورهم، وربط أولهم بآخرهم، وآخرهم بأولهم، وتدارك
الأمر قبل فوات الوقت، ثم قالت: إننا وإياكم نعبد إلهًا واحدًا، وما قال الله:
أنا رب المسلمين، وإنما قال تعالى جل شأنه: أنا رب العالمين، واستغرقت
خطبتها نحو ساعة كاملة.
ووقف المستر محمود دير الإنجليزي المسلم وتلا تقريرًا كبيرًا مؤثرًا عن
حياته الأولى، وشغفه وبحثه في الأديان، وتطوع الكثيرين من أفاضل المصريين
وعلمائهم في تسهيل مهمته وإرشاده، وتنوير ذهنه مدة وجوده في مصر موظفًا في
تحرير الإجبشيان دايلي ميل، ومدح المصريين كثيرًا، وأثنى عليهم، وقال: إننا
نغبط أنفسنا معشر المسلمين اليوم بوجود أمة فاضلة عربية مجيدة لها تاريخ حميد
كالأمة المصرية، وإن العالم ليدين لهذه الأمة الناهضة الفتية بقسط وافر من حيويته
ونهضته الآن، وإن مصر سحرته بجمالها، ورجالها أسروه بفضلهم وعلمهم
وعبقريتهم، وإنه لن ينسى أصدقاءه المصريين ما دام فيه عرق ينبض.
ثم خطب بالإنجليزية (ديوان بهادر كريشنا صاحب) أحد كبار الهندوس
وأدبائهم مادحًا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخطب بالأوردية نواب زاده
سيد مرتضى خان صاحب رئيس المؤتمر الشيعي، وبالكجراتية أيضًا مولانا
نوربهاي صاحب.
وانفضت الجلسة في الساعة السادسة والنصف تمامًا، وقد جُهِزِّت القاعة
بالراديو، ورُبِطَت بثلاثة أحياء عظيمة إسلامية في بمباي ليتسنى لأكبر عدد ممكن
من المسلمين سماع كل ما يجري من الحفلة حرفيًّا، ومثلت الحفلة اثنتان وأربعون
هيئة إسلامية.
وفي المساء عقد المسلمون جلسة كبرى برئاسة مولانا شوكت علي ومولانا
عرفان صاحب وغيرهما من أهل بومباي في ميدان (جوته قبرستان) حضرها
نحو 30 ألف من المسلمين، وتليت القصة النبوية الشريفة، وانفضت الجلسة في
نحو منتصف الليل.
__________(34/549)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ترجمة الشيخ محمد الجسر
(هذه خلاصة تاريخية لترجمته مستمدة من آله،
رحمه الله وأحسن عزاءهم عنه)
(1) تولى والده تربيته، فصُنِعَ على عينيه، وألبسه الزي العلمي الديني
وهو في الثانية عشرة من عمره، وعلمه عقائد الدين وأحكامه بنفسه، وخَرَّجه في
المدارس الرسمية التركية، وجعل له معلمًا خاصًّا يعلمه اللغة الإفرنسية لعدم العناية
بتعليم الإفرنسية في مدارس الحكومة العثمانية، وهو المعلم عثمان أفندي الأرنؤوط
الشهير بتعليم الإفرنسية في طرابلس.
(2) في العشرين من عمره عُيِّن مديرًا لمدرسة اللاذقية الإعدادية الرسمية،
فمكث فيها زهاء سنة، ثم نُقِلَ على سبيل الترقية مديرًا للمدرسة الإعدادية الرسمية
في طرابلس، وظل في هذا المنصب إلى سنة 1329 هجرية.
(3) في هذه السنة وقع الانقلاب الدستوري في الدولة العثمانية، وتولت
جمعية الاتحاد والترقي زمام الأمر فيها، وكان والده العلامة معدودًا من رجال
السلطان عبد الحميد فكانوا ينظرون إليه نظر الريبة، وإن لم يتدخل في سياستهم،
وربما أظهر نجله الشيخ محمد السخط عليهم فاستقال من مديرية المدرسة، وأراد
والده رحمه الله بأن يسلك سبيلاً حرًّا في العمل ويترك الوظائف فأطاعه، وأخذ
يشتغل بالتجارة فبورك له في عمله، وجنى منه ربحًا غير قليل، وما كان يظن
بمثل الشيخ في علو جاهه ومقامه العلمي أن يرضى لولده أن يكون تاجرًا صغيرًا؛
ولكن سعة عقله وعلمه بحال زمنه كانا فوق أفق أقرانه من كبار العلماء وعامة
الوجهاء.
(4) وكان والده رحمه الله قد ترك إليه من قبل ذلك بسنتين تحرير جريدة
طرابلس، فكان الشيخ محمد يشتغل بالتجارة وبتحرير هذه الجريدة في آن واحد،
وكان يكفيه أن يستغني بالتحرير عن التجارة، وكان غيره يعجز عن الجمع بينهما.
(5) وفي سنة 1912 ميلادية رشح نفسه للنيابة عن لواء طرابلس في
مجلس المبعوثان، وكانت حكومة الاتحاديين قد رشحت لها رجلاً تركيًّا مقيمًا في
طرابلس؛ ولكن الطرابلسيين اجتمعوا إلبًا واحدًا على انتخاب الشيخ محمد، فرأت
الحكومة أنها مضطرة إلى موافقتهم فتنازلت عن مرشحها الخاص له، ففاز بالنيابة
فوزًا شعبيًّا باهرًا وكان يومه مشهودًا، ولا تزال مهرجاناته حديث الناس حتى اليوم،
وقد استفاد من ممارسته لأعمال المجلس في سنة واحدة علمًا واختبارًا واعتبارًا في
السياسة والنظام، ما كان ليستفيده في خارجه إلا في عدة أعوام.
(6) بعد أن أغلق الاتحاديون المجلس النيابي سنة 1913 عاد إلى طرابلس
ورشح نفسه لانتخابات المجالس العمومية للولايات ففاز فيها، وذهب لبيروت فنال
حظوة كبيرة عند الوالي باكير سامي بك الشهير، ثم عند الوالي عزمي بك لما رأياه
فيه من الفضل والعلم والذكاء العجيب والدهاء الغريب، وما لبث أن عرف الناس
في بيروت وجميع أنحاء الولاية أن الشيخ محمد الجسر هو الرجل الذي يلي الوالي
في النفوذ وإدارة دفة الحكومة طول مدة الحرب، فأتاح له هذا المقام الرفيع أن
يسدي الإحسان إلى كثير من الناس من طرق ووسائل شتى، فأجمعت القلوب على
حبه ولا سيما النصارى الذين كانوا يرون من آثار شفقته ما لم يكونوا يحتسبون.
(7) لما وضعت الحرب أوزارها واحتل الحلفاء البلاد، وجدوا الشيخ
محمدًا في رئاسة المجلس العمومي التي شغلها طول مدة الحرب فأقروه فيها، ثم
اختلف مع الحاكم الفرنسي فاستقال حالاً، وكان يعرف سبيل الحياة الحرة الذي
يغنيه عن الحكومة كما علمه أبوه، فعاد فورًا إلى الاشتغال بالتجارة في بيروت.
(8) لكن الإفرنسيين لم يتركوه فما لبث أن بُلِّغ قرارًا من الحاكم الإفرنسي
العام بتعيينه لرئاسة محكمة الجنايات العليا في بيروت، فوجم لذلك لأنه لم يسبق له
اشتغال بأمور القضاء لا قاضيًا ولا محاميًا، ولكنه قبل المنصب الرفيع وأخذ يجهد
نفسه بدرس القوانين الجنائية حتى برع فيها، وتمكن بفرط ذكائه من الاضطلاع
بأعباء هذا المنصب على أكمل وجه، فأدهش رجال القضاء وجماعة المحاميين.
(9) مكث في هذه الوظيفة من سنة 919 إلى سنة 921، وفي هذه السنة
عهد إليه بمنصب رئيس النيابة العمومية في محكمة التمييز، فمكث فيها شهرين
تقريبًا، ثم عُهِدَ إليه بمنصب (وزارة الداخلية) في الحكومة اللبنانية، وبعد سنتين
عُهِدَ إليه (بوزارة المعارف) وظل فيها إلى سنة 1926.
(10) في هذه السنة أُعلنت الجمهورية اللبنانية، فعُيِّن الشيخ محمد عضوًا
في مجلس الشيوخ اللبناني، وانْتُخِب رئيسًا له، ولما أدغم مجلس الشيوخ في
مجلس النواب انْتُخِب رئيسًا له، وظل في هذه الرئاسة يُنْتَخَب في كل عام بلا
انقطاع ولا مزاحمة من أحد إلى تاريخ 9 مايو سنة 931 إذ عطل الدستور، وحل
المندوب السامي للمجلس النيابي.
وقد كان سبب حل المجلس على ما هو مشهور موقف الشيخ محمد نفسه من
قضية رئاسة الجمهورية؛ فإنه رحمه الله رشح نفسه لرئاسة الجمهورية وأيده في
ترشيحه أكثر النواب؛ ولكن بطريرك الموارنة ملأ سماء فرنسا صراخًا وعويلاً
لكي لا يكون على رأس لبنان حاكم مسلم، وصور ذلك لوزارة الخارجية الفرنسية
بصورة خرق للنواميس والتقاليد المعروفة عنها مع النصارى عامة والمارونية
خاصة، ولم ينفع معه إقناع المفوض السامي المسيو بونسو أنه لم يكن يرى بأسًا
بنجاح المسلم بنيل هذا المنصب، فظل البطريرك مصرًّا على رأيه، يطالب فرنسة
بتعصب صليبي صريح أن توسد رئاسة الجمهورية اللبنانية لشخص مسيحي؛ لأنه
مسيحي حتى اضطرت وزارة الخارجية إلى تنفيذ إرادته، وأمرت المفوض السامي
ببذل كل نفوذه لتحقيقه، فحاول حمل الشيخ على الانسحاب، فأبى وأصر على
ترشيح نفسه حتى النهاية، وبعد مراجعات كثيرة أمرت وزارة الخارجية مفوضها
السامي بحل المجلس، وتعليق الدستور عند عدم النجاح في انتخاب المرشح
المسيحي ففعل.
(11) عزم الشيخ محمد عقب هذه التجربة عزمًا قاطعًا على ترك الحياة
السياسية؛ لأنه إذا اشتغل بشيء وجه له كل قواه، فانقطع للاشتغال بالعلم
والمطالعة والتأليف، فوضع مصنفات أهمها سيرة حياة والده مفصلة كان من مادتها
ما كتبته له بطلبه، ثم وعدني بعرضها علي قبل نشرها، ودوَّن مذكراته السياسية
وما كان إعراضه عن مناصب الحكومة بصارف للوجوه عنه، بل ظل محترمًا
مبجلاً محبوبًا من الجميع حتى الإفرنسيين أنفسهم، وبقي كذلك لا يفكر بالحياة
السياسية، ولا تبدر منه أقل بادرة تدل على التقرب من رجال السياسة وطنيين
وأجانب إلى أن وافاه الأجل المحتوم في التاريخ الذي بيناه في الجزء الماضي،
فكانت نهايته في كل أمر خيرًا من بدايته، وإنما الأعمال بالخواتيم، غفر الله لنا
وله، وأدخلنا برحمته في عباده الصالحين.
__________(34/553)
الكاتب: عبد الحميد الإمام
__________
كلمات في الوحي المحمدي
أنشر هنا بعض ما جاء من المكتوبات الخاصة لبعض قراء كتاب (الوحي
المحمدي) من طبقات أهل العلم والرأي في الأقطار المختلفة فيما كان له من التأثير
في أنفسهم.
كلمة عَجْلَى لرب السيف والقلم
العالم العلم سليمان باشا الباروني
حضرة العلامة الجليل، المتفاني في إعلاء كلمة الله وإحياء سنة رسول الله،
فخر محققي العصر، الأستاذ السيد رشيد رضا دام موفقًا.
السلام عليكم من أخ لك في الله، مولع بتتبع أخبارك، ومطالعة آثارك،
معجب بجهادك، فيدفع شبه الملحدين، وتأييد حجج المؤمنين، هذا وقد تلقيت بيد
الاحترام هديتك الثمينة (مؤلفك الوحي المحمدي) فتتبعت - بشغف زائد - أبوابه،
وتفصحته على سبيل الإجمال - الآن - فكان في نظري سيفًا بَتَّارًا لرقاب أعداء
الدين، وحجة بالغة للمؤمنين، فلله جهادك العظيم، ولله قلمك الفياض.
أمدك الله بروح من عنايته، ووفق رجال الإسلام إلى اقتنائه والعمل بما فيه،
وسأكتب إليك غير هذا بعد أن أتفرغ لمطالعته مع تأمل إن شاء الله، ودُم معززًا
تُرسًا للإسلام.
... ... ... ... ... ... بغداد في 24 صفر سنة 1353
... ... ... من أخيك المخلص سليمان الباورني
***
الكتيب الوجيز، المغني عن الوسيط والبسيط
للأستاذ المستقل عبد الرحمن بك فهمي
أمين السر لتأسيس الوفد المصري من مصطافه في النمسة
سيدي الأستاذ الجليل، السلام عليك ورحمة الله وبركاته (وبعد) فقد فرغت
من تلاوة مؤلفك الفذ (الوحي المحمدي) ولا أقول فيه أكثر من أنني لم أعثر مدة
حياتي على كتاب انشرح له صدري، واطمأن له قلبي، وارتاحت له كل مشاعري
بعد كتاب الله غير (الوحي المحمدي) فجزاكم الله خير الجزاء عن الإسلام
والمسلمين، وإن هذا المؤلف الجليل القدر لجدير أن يقتنيه كل مسلم ويتلوه مثنى
وثلاث ورباع، وهكذا حتى يستوعب كل ما فيه من درر وآيات بينات، يرد بها
بقدر استطاعته أقوال الملحدين من أمته، ويدفع به سيل المهاجمين من غيرهم.
متعك الله بالصحة العافية لتبقى ذخرًا للإسلام والمسلمين، والسلام عليك
وعلى من تحب وتختار.
... ... ... ... ... ... ... ... فينا في 5 يوليو سنة 34
... ... ... ... ... ... ... المخلص عبد الرحمن فهمي
***
كلمة سعادة عالم التاريخ ومربي العلماء والأستاذين
أمين باشا سامي الشهير
حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الشيخ رشيد منشئ
المنار، ومصدر العلم والمفيض على العالم أسطع الأنوار.
اليوم بحمد الله أتممت مطالعة كتابك الجليل (الوحي المحمدي) فحيا الله منك
براعتك وإخلاصك، فقد صورت فيه عواطفك الشريفة، فأبدعت تصويرها حتى
زهاها الحسن، فأهنئك بهذه المكانة السامية من الأدب والتوفيق إلى أقوم المراتب
العالية في تفسير آي الله الكريم، وأشكر لك شكر المخلص الحميم، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي أمين سامي
محطة رشدي باشا برمل الإسكندرية في 6 أغسطس سنة 1934
***
تقريظ علامة الأكراد الشيخ عمر القره داغي
(المدرس بكردستان العراق في بلدة سليمانية)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد
المؤيد رسالته ببراهين هادية لأولي الألباب، وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم
الحساب.
(وبعد) فقد وقفت على كتاب الوحي المحمدي للعلامة الشهير، والفهامة
النحرير، السيد محمد رشيد رضا أطال الله عمره، فوجدته حاويًا لحقائق قامعة
لغياهب شبه المتمردين والمبتدعين، وفوائد ترشد المتحيرين، وفلكًا مشحونًا بدرر
فرائد الشواهد النقلية الباهرة، وفلكًَا مرصعًا بكل كوكب دري توقد بالنكت والدلائل
العقلية القاهرة، وقد أتقن فيه براهين إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
وما يتعلق بها واستقصاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولخص فيه
نكتًا قرآنية بحيث لم ينسج أحد على منوالها، ولم تسمح قريحة بمثالها، ويذعن بها
العالمون، ولا يجحد بها إلا القوم الظالمون، فشكرت الله تعالى على تزيين عصرنا
بوجود هذا الحبر الذي هو علامة الزمان، ولا يختلف في كمال فضله اثنان، لا
زال مستخرجًا من بحر علومه أمثال هذه الجواهر، ومتلألأ من سماء فضائله هذه
النجوم الزواهر، أدام الله نفعه للمسلمين، ووفقه على نشر هذه الآثار المؤيدة للدين،
والدافعة لظلمة أوهام المبطلين بجاه سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه أجمعين.
... ... ... ... ... ... ... ... ابن القره داغي عمر
***
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحميد الإمام
بقرية ته نكي سدر التابعة للسليمانية
بعد تقديم مقامات الاحترام، وتبليغ قصارى مدارج بالسلام، إلى محضركم
الملفوف بالعلم المذاب، والكمال المستطاب:
إن سعيك في سبيل توطيد أركان الدين المبين لمشكور، وعملكم لتوثيق عرى
المودة بين طوائف المسلمين لمأجور، وجهادكم للذب والدفاع عن حوزة الإسلام
لمبرور، ولا يخفى لدى ذوي البصائر ما لأناملكم الشريفة من اليد الطولى على
آحاد المؤمنين، ولخريطة خيالكم الوقادة من الرئاسة العظمى على الناس أجمعين.
فلله الحمد والمنة والشكر والنعمة والثناء، حيث لا يترك أمر هذه الأمة اليتيمة
شتى، ولا يجعل شأنها بينها متفرقة فوضى، بل يبعث في كل عصر من يجمع لها
شملها، ويلم شعثها، من ينكر ما لكم على العالم الإسلامي من النعمة العظمى،
والفضيلة الكبرى، مع أن ما تقدمونه من الجهد والسهر خلال الليالي والأيام، وما
تتجرعونه في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي
أحسن، وهي الحنيفية البيضاء، والبشرية السمحة الأحمدية الغراء، من المرارات
التي لا يفي بها التقرير، ولا يبلغها التحرير؛ لأن الوجدانيات لا تنال بالتعبير
فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين آمين.
وإن مما هز العالم وفي الآفاق لمع، وسر آدم وبينه أجمع، إلا من في قلوبهم
أكنة، وعلى أبصارهم غشاوة، وأسدلوا على مخيلتهم الجهالة والغباوة، تصنيف
لطيف نبع من مناهل أنامل حضرتكم الأستاذ، وتفجر من ينبوع جمجمة ذلك
الفاضل الملاذ، فانتشر في الآفاق صيته وصداه، واشتهرت لدى الفضلاء والعقلاء
لطافة مبتغاه، ولا غرو لأن موضوعه موضوع طالما طاف حوله الفحول،
وتزاحموا عليه بالمعقول والمنقول، الحق يقال ما أتوا بالمصفى المغربل ولا
بالمنقى المنخول، وهو إثبات الوحي المحمدي، المتوقف على إثبات الوحي المطلق
توقف الكل على الجزء المادي، المستدعي لإثبات عالم الغيب الذي هو ركن بل
أساس للديانات كلها، برد كيد الماديين على نحورهم بالأدلة والبراهين الواضحة
والسلطان والحجج اللائحة.
نعم إن الأمور مرهونة بأوقاتها، وإن زماننا هذا لأحوج الأزمان إلى هذا
الكنز الثمين، ألا يرى أن الحق منكوب بدعايات الزنادقة المارقين بدوام الخافقين
في المشرقين، ولعمري إن من غاص بالفكر في مستجادات ذلك العباب، وسرح
النظر في مكنونات ذلك الكتاب، يستبين أن الديانة الإسلامية في الكفة الراجحة وأن
نبيه عليه السلام جاء بالحجة الواضحة، وإنه لنبي عظيم مؤيد من الله القادر، لم
ير له مثلاً، إنسان عين الإنسان، ولن يراه أبدًا، فإني أرجو من حضرتكم أن
تسمحوا من ذلك الكتاب بنسخة أو نسختين كيلا لا تحرم بلادنا عن شذاه ورياه،
يربحكم الله في الدارين به وبأمثاله التي هي من ثمار حياتكم النافعة، وهذا الحقير
لا يتعاطى ما يعود عليكم بالغبن والخسران، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الإمام
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/556)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحج في طوره المدني المترف
كان كثير من المسلمين يحجون إلى بيت بالله الحرام رجالاً، أي مشاة على
أقدامهم حتى إن هارون الرشيد حج ماشيًا، وأكثرهم يحجون ركبانًا على الإبل،
وبعضهم على الخيل والبغال والحمير، وكان بعض أهل الأقطار البعيدة على
الحجاز في الشرق والغرب الذين وراء البحار أو في جزائرها يركبون السفن
الشراعية، فيقاسون في مصارعتها للأمواج وعواصف الرياح أهوالاً، يرون فيها
من الموت صنوفًا وألوانًا، وكانوا ينفقون في سفر الحج أموالاً عظيمة، وربما
استغرق سفر الحج سنة أو أكثر، وكان مريد الحج يوطن نفسه على الموت،
فيكتب وصيته ويودع أهله لبعد الشقة وشدة المشقة ولفقد الأمن على الأنفس
والأموال، وكانوا يعدون ما ينفقونه في سفر الحج أفضل نفقاتهم، ويعدون أفضلها
في تطهير أنفسهم وتزكيتها ما ينفقونه في نفس الحرمين الشريفين من الصدقات
والقربات على أهلهما، مهما يكن من عنائهم فيهما.
ولما أنشئت البواخر الكبار المواخر في جميع البحار قرَّبت المسافات، وقللت
النفقات؛ ولكن أصحابها من شعوب الفرنجة المستعمرين للأقطار الإسلامية تواطئوا
على معاملة الحجاج فيها أسوأ من جميع أصناف المسافرين؛ ليصرفوا أكثر أغنياء
المسلمين المترفين عن الحج، وزادوهم رهقًا بما وضعوا من النظم الشديدة للحجر
الصحي عليهم، وواتتهم الحكومة المصرية على ذلك، فكانت معاملات رجالها
للحجاج في موانيها ومحاجرها أقسى من كل ما يقاسونه في غيرها شدة وإهانة ونفقة،
ولا تزال تعد أرض الحجاز بيئة وبائية بسوء خضوعها للسيطرة الأوربية، وقد
مرت عشرات من السنين لم يقع فيها وباء في الحجاز، ومن المعلوم بالقطع أنه ما
وقع وباء فيه من قبل إلا منتقلاً إليه من غيره من الأقطار ولا سيما الهند، ولا تزال
الحكومة المصرية تفرض على من يسافر إلى الحجاز لأداء فريضته، ومن يعود
منه معاملة شاذة مرهقة لا تعامل بمثلها من يسافر من الهند أو يجيء منها، على أن
وطأتها خففت في السنين الأخيرة، وقد دخل موسم هذا العام في طور جديد من
الراحة والسهولة والاقتصاد والانتظام بما أعدته له شركة بواخر مصر في باخرتيها
زمزم والكوثر، وسنبين ذلك في مقال آخر مع ما يجب على الحجاج في دينهم
شكرًا على هذه النعم عليهم.
__________(34/560)
ذو القعدة - 1353هـ
مارس - 1935م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت
في الجن
(من 23 - 26) حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل السيد محمد رشيد
رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فكلما حزبنا أمر من أمور ديننا
الحنيف لم نر سواك ملجأ نلجأ إليه، وكلما نزلت بنا نازلة تلفتنا فهدانا (منارك)
إليك، وكشف لنا عن موضعك، وقال بلسان الحال هذا هو إمام العصر، وارث
علم الإمام، ورافع لواء السنة، وهادم بناء البدعة، فلا نجد عندئذ بدًّا من التوجه
إليك في مهماتنا الدينية، أبقاك الله للإسلام ذخرًا ولسانًا، وحفظ عليك نعمة الألمعية
ونعمة العافية.
مولاي الأستاذ: جرى الحديث بيني وبين أحد إخواني العلماء في جمع من
أهل المعرفة فيما يدعيه بعض الدجاجلة من القدرة على استخدام الأرواح، وتسخير
الجن في قضاء الحاجات، وشفاء الأمراض، وقطع المسافات البعيدة في المدة
الوجيزة، وغير ذلك، فأنكرت عليه قدرة الإنسان على شيء من ذلك، كما أنكرت
أن يكون لهذه الأرواح سلطان على البشر إلا ما توسوس به إليه، فاستظهر علي
بالآية الكريمة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وحاول أن يتخذ منها دليلاً على تسلط الشيطان على
الإنسان - فاحتكمت وإياه إلى الجزء الثالث من تفسير المنار، وبمراجعته وجدناكم
قد اختصرتم القول في هذا الموضوع اختصارًا لا يشفي غلة المتطلع، فآثرت أن
أتوجه بالسؤال لفضيلتكم علكم تبسطون القول في (مناركم) الأغر في موضوعنا
هذا بما يشفي ويكفي، مع التفضل بالإجابة على ما يأتي.
(س23) هل الآية قاطعة في وجود هذا النوع من التسلط كما يقتضيه ظاهر
التشبيه، وهل هناك دليل قاطع سواها؟
(س 24) هل جاء في السنة الصحيحة ما يدل على شيء من ذلك؟ وهل
يصح الاستلال بحديث (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) على فرض
صحته أم يحمل ذلك على المجاز والمراد الوسوسة؟
(س25) هل من الممكن أن يخالط الشيطان الإنسان أو يمسه؟ وهل
صحيح ما يحكى من تزوج الآدميين بزوجات من نساء الجن؟
(س26) هل يظهر الجن لبني آدم أم أن مادة الاجتنان تحكم بعدم ظهوره
للعيان، أفيدونا من واسع علمكم بما يثلج صدورنا، وتطمئن إليه نفوسنا،
ولفضيلتكم الأجر العظيم، والشكر الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... م. ح. المحامي الشرعي
* * *
تسخير الناس للجن وسلطان الجن على الناس
(جواب المنار)
إن كنت قد اختصرت في الكلام على الجن والشياطين في تفسير آية آكلي
الربا من الجزء الثالث، فقد أطلت في ذلك في تفسير آيات من سورة الأنعام
والأعراف وغيرها، وفي مواضع من المنار، ولذلك أوجز هنا في الجواب فأقول:
لو كان الجن مسلطون على الإنس بما يشاؤون من نفع وضر، وكان دجاجلة
يسخرونهم في هذا كما يشاؤون لتحكم هؤلاء الدجالون في أموال الناس وأنفسهم،
ولتنافس الملوك والأغنياء في اصطناعهم؛ ولكنا نراهم أحقر الناس وأفقرهم إلا من
استطاع بدهائه أن يخدع بعض الأغبياء الجاهلين والنساء فيسلب أموالهم بالحيل،
كما ظهر في مصر في هذين العامين، وفي غيرهما عندما رفعت القضايا على
بعض من اشتهروا باستخدام ملوك الجن، على أن كثيرًا من الناس حتى المتعلمين
والأذكياء يخدعون بحوادث يخفى عليهم الدجل فيها، وإن لقوى نفس الإنسان تأثيرًا
في كثير من الأمور بما يخالف المألوف المعروف، وهي شاذة لا تتخذ سننًا عامة.
(23) تخبط الشيطان من المس:
إن آية تشبيه قيام آكلي الربا بقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس، لا تفيد
دلالة قطعية على تسلط الجن والشياطين على الناس بما شاؤوا من نفع وضر، فإن
كان التشبيه مبنيًّا على ما كان معهودًا عن العرب وغيرهم، ولا سيما النصارى من
اعتقادهم أن بعض الجنون يكون بملابسة الشيطان للمجنون من غير أن يكون إقرارًا
لهم عليه كما قال البيضاوي وغيره من المفسرين فالأمر ظاهر، وإن كان يتضمن
إقرارهم عليه كما يقول آخرون، فهذه الملابسة غيبية لا تُعْرَف حقيقتها ولا سببها،
ولا تدل الآية دلالة قطعية على أنها تكون بسلطة للشيطان عامة، أو خاصة هو
مختار فيها، وربما كان الأقرب إلى العقل فيها أن الإنسان إذا عرض له ضعف في
أعصابه واختل إدراكه ومزاجه، تحدث لنفسه مناسبة قوية بروح الشيطان الذي
وظيفته الوسوسة، فيقوى تأثيره فيها بهذا النوع من الجنون، كما تقوى المناسبة
بين جسد الإنسان وبعض ميكروبات الأمراض باختلال مزاج الجسم، فتلابسه بما
لا تستطيعه في حالة قوة الجسم وسلامته، ولهذا جُرِّبَ شفاء هذا النوع من الجنون
بالعلاج الروحاني الذي هو عبارة على توجه روح بشرية قوية طاهرة إلى روح
المجنون، بما يقويها ويطرد روح الشيطان منها، ومن وسائل هذا العلاج الدعاء
والرقية، وهو المروي عن المسيح عليه السلام، وعمن دونه من الروحانيين،
ووقع لنا شيء منه ذكرناه في مثل هذا البحث من المنار وتفسيره.
(24) حديث (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق) متفق عليه:
هذا الحديث لا يدل على أن الشياطين مسلطون على الناس بما يشاؤون من
ضر ونفع، غير ما هو ثابت في القرآن من الوسوسة لهم؛ وإنما هو تشبيه لتغلغل
وسوستهم في النفس، وعدم شعور الناس بها إلا من راقب خواطره وأفكاره وحاسب
نفسه على مثاراتها فهو كقول الشاعر:
* جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي *
(25و 26) إمكان مخالطة الشيطان للإنسان وظهوره له:
الإمكان العقلي لا نزاع فيه، وما كل ممكن يقع، وأما الشرع فلا يكلفنا
تصديق ما يحكيه الناس من ذلك، وظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) أن الإنسان غير مستعد لرؤية الجن
والشياطين كما خلقهم الله؛ ولكنهم قد يتشكلون بصور مادية لطيفة أو كثيفة ترى
بالعينين، فراجع تفسير هذه الآية (في 359- 372) من جزء التفسير الثامن، ففيه
مباحث كثيرة في الموضوع.
__________(34/590)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محاضرتي في جمعية الشبان المسلمين
أيها الإخوان:
كنت عازمًا على أن أسمع في اجتماع هذا العام ولا أتكلم، حتى إذا ما فرغ
الخطيب الأول صديقي الأستاذ المؤرخ الشيخ عبد الوهاب النجار من خطبته، بدا
لي أن أتعقبه أو أقفي عليه متطوعًا بكلمة تكون مقابلة لكلامه من ناحية غير الناحية
التي سلكها وهي لا مندوحة عنها فأقول:
مضت سنة الأمم أن يسلك مرشدوها في الكوارث التي تنزل بها طريقتين
(إحداهما) تهوين الخطب، وتصغير الكارثة، وتقوية الرجاء بزوالها وانكشافها عن
قريب؛ إشفاقًا عليها من اليأس، وقد سلك هذه الطريقة الأستاذ فصوَّر كارثة
اليهودية الصهيونية بسحابة صيف تنذر فلسطين بطوفان عظيم، ثم لا تلبث أن
تنقشع وتزول؛ ولكنه توقع أن يكون خذلان اليهود فيها، والقضاء على ملك
إسرائيل الذي يحاولون تأسيسه في مهد ملك داود وسليمان بظهور مسيحهم الدجال
الذي حذر منه الأنبياء عليهم السلام، وآخرها خاتمهم محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذي أمر أمته أن تستعيذ بالله من فتنته في الدعاء المأثور بعد التشهد
الأخير من الصلاة.
فإن كان المصاب بعدوان اليهود على فلسطين لا ينكشف إلا بظهور مسيحهم
الدجال فياللهول، وياللرزية، إنه لبلاء لا ينكشف إلا في آخر عمر الدنيا، ولا
تلبث بعده أن تقوم الساعة.
وقد أشار الأستاذ الخطيب إلى ما ورد في الأحاديث النبوية الصحيحة من
القتال بين اليهود والمسلمين، والبشارة بأن المسلمين يظهرون عليهم فيه، وذهب
علماؤنا إلى أن هذا سوف يقع في عهد المسيح الدجال.
وأما الطريقة التي أريد سلوكها في بيان ما يجب على الأمة العربية والشعوب
الإسلامية، من العبرة بالنكبة اليهودية الصهيونية، فهي طريقة الأسباب الدنيوية،
والسنن الاجتماعية، التي يسير عليها أهل البصيرة والعلم قبل وقوع ما أنبأ به
الأنبياء عليهم السلام من مقدمات خراب العالم وقيام الساعة، ومنها ظهور المسيح
الدجال الذي رجحت في تفسير المنار أن اليهود سيهيئون أسبابه ومعجزاته بالعلوم
الكونية.
وإنني - مع هذا - أعتقد أن العدوان الصهيوني الحالّ بمساعدة الإنكليز على
فلسطين لا ينتهي إلا بقتال بينهم وبين العرب، لا أقول هذا تحريضًا لكم أيها
الحاضرون عليه، فإنني لا أظن أن أحدًا منكم أهلاً ولا مستعدًّا له؛ وإنما هذه عاقبة
طبيعية لما هو واقع هنالك، فقد ثبت في الأخبار المتواترة أن اليهود في فلسطين
يقتنون السلاح ويستزيدون منه بالتهريب من أوربة، وقد عثرت الحكومة على
باخرة تحمل شيئًا ليس بالقليل منه لليهود من أيام قليلة، وأن أمة غنية تريد إخراج
قوم من ديارهم لجعلها ملكًا لها لا بد لها من الاستعداد للقتال، فاليهود يجلبون السلاح
العصري من أوربة، والدولة الإنكليزية قد نزعت سلاح عرب فلسطين من أيديهم،
وهي تريد نزع سلاح إخوانهم في شرقي الأردن عند سنوح الفرصة بمساعدة خونة
العرب وسواعدهم، ومتى تم هذا يسمح لليهود بنزع أرض شرقي الأردن، كما
ينزعون أرض فلسطين، هذا رأي لي قديم في عاقبة الحكومة المؤقتة في شرقي
الأردن طالما صرحت به لمن لقيت من أهل البلاد، وقل من كان يعقله؛ ولكنهم
سيرونه بأعينهم.
هذه مقدمة سنحت قبل الكلمة المقصودة من وقفتي هذه، وهاؤم اسمعوها
بالاختصار: إن خطر ما يسمونه (المسألة اليهودية الصهيونية) كبير هائل جدًّا،
هو أكبر من كل ما قيل وما كتب في تكبيره وتهويله، ولو ظل اليهود على اعتقادهم
القديم وانتظار المسيح الذي بُشِّروا به، وفسروه بملك دنيوي يعيد لهم ما فقدوا من
ملك سليمان عليه السلام بتأييد الله تعالى له بالآيات والمعجزات، لما كان خطب
الصهيونية هو الخطر الذي أعنيه، بل لما وجدت هذه الصهيونية التي نخشاها
وننذر الأمة خطرها.
تلك عقيدة دينية مرت القرون، ولم يستعد اليهود لظهورها وإظهارها بقوة
اجتماع ولا سلاح ولا مال، ولا عمل من الأعمال، بل كانت مانعة لهم من
الاستعداد لإعادة ملكهم من طريق الأسباب؛ لاعتقادهم أنه سيكون بآيات إلهية هي
فوق الأسباب، فمثلهم فيه كمثل جماهير المسلمين - ولاسيما الشيعة - في عقيدة
المهدي المنتظر بظهوره بعد أن تملأ الأرض ظلمًا وجورًا، فيملؤها عدلاً.
كانت هذه العقيدة من أسباب خنوع المسلمين وسكونهم وسكوتهم على ما
أصابهم من جور الظالمين المخربين منهم، ثم من سلب الإفرنج لأكثر ملكهم: كلما
ظهر فيهم عاقل يدعوهم إلى الدفاع عن أنفسهم يصدونه بقولهم: إن الأرض ملئت
جورًا وظلمًا، وقد قرب زمن ظهور المهدي، ولن ينقذها غيره، ولم يخطر في بال
أحد من زعمائهم أن يدعوهم إلى الاستعداد لظهوره ليكونوا معه كما كان المهاجرون
والأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاعتقادهم أن ظهوره وعمله وسيكون
بالكرامات وخوارق العادات؛ ولذلك خُدِعَ ألوف منهم بظهور الدجالين المدعين لهذه
المهدوية، ولما هو فوقها ومتمم لها من ظهور المسيح، كما فعل الباب والبهاء
وغلام أحمد القادياني، فكانت عقيدة المهدي المنتظر، والمسيح المنتظر مثار فتن
وحروب مبيرة، سُفِكَتْ فيها دماء غزيرة.
رأى بعض اليهود - الذين درسوا العلوم الكونية والاجتماعية والتاريخ في
أروبة - أن قومهم يعللون أنفسهم بأمنية ظهور مسيح يجدد لهم ملكهم، وأن القرون
تتلو القرون على هذا الاعتقاد، وهم لا يزدادون إلا تفرقًا وذلاً بفقد الملك، ورأوا
من عبر التاريخ أن أفرادًا من أصحاب الهمة والعزيمة قد أسسوا ممالك قوية،
فتوجهت عزائمهم إلى تأسيس ملك لقومهم بالأسباب الاجتماعية دون الاعتماد على
الأوهام الاعتقادية النافية لسنن الاجتماع، فأسسوا هذه الدعوة الصهيونية على قواعد
العلم والمال، وتوحيد قوة الأمة وجمع كلمتها.
وضعوا لعملهم رأس مال كبير فكان بنكًا للصهيونية، وضعوا له دائرة
معارف يهودية صهيونية، ووضعوا نظامًا اجتماعيًّا لجمع كلمة الأمة يعقدون له
المؤتمرات تلو المؤتمرات، في أمصار أوربة وأمريكة، ولقد كان اليهود -
المتكلون على ظهور (مسيا) مؤيدًا بالعجائب والخوارق السماوية - ينفرون من
هذا النظام ويعدونه كفرًا وإلحادًا، أو هرطقة وزندقة؛ ولكن الحقائق العلمية
والمساعي العملية، ما زالت تدحض الآراء الوهمية، حتى صار يهود العالم كلهم
أنصارًا للجمعية الصهيونية، حتى إن فقراء يهود اليمن والمغرب الجاهلين
يهاجرون إلى فلسطين؛ ليشهدوا تأسيس ملك إسرائيل.
ما ينبغي لنا ولا لعاقل أن يستصغر عمل هؤلاء القوم، أو يستكبر نهوضهم به
مهما يكن كبيرًا في نفسه، فاليهود شعب قوي العزيمة، شديد الشكيمة، عظيم الكيد
والحيلة، قد أحدثوا أعظم انقلاب في الدول والأمم، وكان آخر ما أحدثوا انقلاب
دولة الخلافة التركية الحميدية، ودولة القيصرية الروسية، ثم كانوا هم السبب في
انكسار الدولة الألمانية القاهرة في حرب المدنية العامة، وإن دولة بريطانية العظمى
لترى نفسها مسخرة لهم في مساعدتهم على تأسيس ما سمته (الوطن القومي في
فلسطين) بمقتضى وعدها لهم بما يسمى (عهد بلفور) وهو الذي اجتمعنا
للاحتجاج عليه اليوم كما نفعل في كل عام، وقد سبقونا هم للاحتفال بهذه الذكرى
في مصر وفي كل قطر، وشتان بين اجتماعنا واجتماعهم، نحن نجتمع للندب
والاحتجاج بالكلام، وهم يجتمعون للتهاني والتعاون بالأموال والأعمال.
فالذي أبغيه بكلمتي هو أن نعتبر بأعمالهم ونقتدي بهم فيها، بل نقتدي بما
أمرنا به كتاب ربنا من المحافظة على ملتنا وأمتنا بالجهاد في سبيله بأموالنا
وأنفسنا.
إن عدد اليهود في العام كله بضعة عشر مليونًا على أكثر تقدير - 15 أو 17
مليونًا - وإن عدد المسلمين ليبلغ أربعمائة مليون، وإن عدد العرب الذين يريدون
نزع فلسطين من أيديهم لا يقل عن مائة مليون، وإن اليهود خصوم للمسلمين
والنصارى منهم على سواء، إنهم خصوم لهم في وطنهم المشترك ومعاهدهم
المقدسة فيه، بل خصوم لهم في دينهم أي في دين الإسلام ودين النصرانية - كيف
هذا؟
إن عقيدة اليهود في إعادة ملك إسرائيل بالمسيح المنتظر تكذيب لدين الإسلام
وتكذيب أصرح للمسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فإنه هو المسيح الذي
بشرهم به أنبياؤهم فكذبوه، وهو الذي أنذرهم خراب هيكلهم السليماني حتى لا يبقى
فيه حجر على حجر، وهم يريدون إعادته إتمامًا لتكذيبه، ومن عجائب همتهم
وكيدهم أنهم يسخرون الدول المسيحية كلها لمساعدتهم الأدبية، وسخروا بريطانية
المسيحية لتأسيس هذا الملك لهم بقوتها السياسة والعسكرية، ومخالفة تقاليدها
النصرانية والأدبية، فانظروا إلى مبلغ كيدهم وقوتهم.
وماذا عسى أن يفعل العرب في إيقاف الدول البريطانية عند هذا الحد الذي
بلغته من تسخيرهم لها وليس عندهم إلا الكلام؟
إن في بلاد الإنكليز خصومًا لليهود كخصومهم في سائر بلاد أوربة؛ ولكنهم
أعظم نفوذًا في هذه الدولة من خصومهم من أهلها، فماذا عسى أن يبلغ تأثيرنا فيها؟
إن نفوذهم قائم على أساس المال والصحف السياسية؛ لأنهم يملكون القسم العظيم
من سهام شركاتها.
وإن للعرب لقوة أعظم من قوتهم بكثرة عددهم، وسعة بلادهم ونفوذهم
المعنوي الديني في الهند وغيرها من الإمبراطورية البريطانية؛ ولكنهم يجهلون
وسائل الانتفاع بهذا النفوذ في جمع المال، وفي تهديد الدولة الإنكليزية وإلجائها إلى
ترجيح مصلحتهم على مصلحة اليهود الصهيونيين.
وقد قلت لكم في هذا المكان من قبل: إن الانتفاع بهذه القوة العربية، من
إسلامية ومسيحية، وبالقوة الإسلامية التي تؤيدها، يتوقف على نظام لا يجوز
شرحه في هذه المحافل، وإني أعيد هذه النصيحة وأكرر التذكير بها عملاً بقوله
تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10)
انتهت المحاضرة.
__________(34/607)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتوى واقتراح على قارئي هذا الإنذار
إن من يبيع شيئًا من أرض فلسطين وما حولها لليهود أو للإنكليز فهو كمن
يبيعهم المسجد الأقصى، وكمن يبيع الوطن كله؛ لأن ما يشترونه وسيلة إلى جعل
الحجاز على خطر، فرقبة الأرض في هذه البلاد هي كرقبة الإنسان من جسده،
وهي بهذا تعد شرعًا من المنافع الإسلامية العامة، لا من الأملاك الشخصية الخاصة،
وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل، وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام، لا أذكر
هنا كل ما يستحقه مرتكب هذه الخيانة، وإنما أقترح على كل من يؤمن بالله،
وبكتابه، وبرسوله خاتم النبيين أن يبث هذا الحكم الشرعي في البلاد مع الدعوة إلى
مقاطعة هؤلاء الخونة الذين يصرون على خيانتهم، في كل شيء من المعاشرة
والمعاملة والزواج والكلام حتى رد السلام.
ورد في صحيح مسلم أن الله تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته (أن
لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَنْ
بأقطارها) ... إلخ ما معناه حتى يكونوا هم الذين يفعلون بأنفسهم ذلك، وقد بينت
في شرحه من جزء التفسير السابع (ص 495 و 496 طبعة ثانية) أنه ما زال مُلْك
الإسلام عن قطر إلا بخيانة من المسلمين فتوبوا إلى الله أيها الخائنون.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27- 28) .
__________(34/612)
الكاتب: جمال الدين القاسمي
__________
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث
تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي
المتوفى سنة 1332م - 1914 م
نُعي إلينا القاسمي في شهر رجب من سنة 1332، فكتبت له ترجمة نشرتها
في هذا الشهر والذي بعده من مجلد المنار السابع عشر، وصفته في أولها بقولي
(ص 558 منه)
(هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم
والعمل والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف،
والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب
المتفنن، التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة،
والأبحاث المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، وأخونا الروحي، قدس الله
روحه، ونور ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه)
ثم ذكرت تصانيفه ورسائله (في ص 628 منه) مرتبة على الحروف،
فبلغت 79، ومنها هذا الكتاب (قواعد التحديث) الذي عُني بطبعه نجله الكريم
السيد ظافر القاسمي، فتم في هذا الشهر (شوال سنة 1353) وكان يرسل إلي ما
يتم طبعه منه متفرقًا لأنظر فيه، وأكتب للقراء تعريفًا به، على علم تفصيلي
بمباحثه وأسلوبه، وتقسيمه وترتيبه، فأقول:
ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة
واسعة، أو نهزًا متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيه هذا السفر النفيس كله، فأتذكر
به من هذا العلم ما لعلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو
الحقيق بأن يُقرَأ ما كتب، ويُحصَى ما جمع، لتحريه النفع، وحسن اختياره في
الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم والترتيب والوضع، وقد بلغ في مصنفه
هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعى بكد الحافظة،
ويستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا
الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو
المحلق في سماء الإلهيات؛ إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب
وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله،
ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل جنته
من طرائف الأزهار العطرية، ومجّت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية،
فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا تطيب له مطالعته كله، فينهله ويعله ولا
يمله، كأنه أقصوصة حب أو ديوان شعر، اللهم إلا هذا الكتاب.
أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه، وكثير من مباحثه وفصوله، طوافًا
سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك، ثم قرأت فيه بعض ما اختلف العلماء في
تحقيقه، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله، فصح لي أن
أصفه وصفًا صحيحًا مجملاً يهدي إلى تفصيل.
صفة الكتاب وما فيه:
فأما تقسميه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه ووضع عناوينها، فهو غاية في
الحسن، وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها، وجعلها عامة شاملة لوسائلها
كمقاصدها، وفروعها كأصولها، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع، بجعلها على
أحدث وضع: من ترك بياض واسع بين سوادها، شامل للمعدود بالأرقام من
مباحثها، مع إفراط فيه بترك بعض الصفحات بعد ختام للفصل أو البحث خالية
كلها؛ ولكن إذا اشتد البياض صار برصًا.
ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر أن طبعه في هذا العهد الذي
توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا
من علم الحديث، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية، واجتناب
الروايات الموضوعة والمنكرة والواهية، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل
والتعارض والترجيح فيها، وبيان ذلك في كتاب سهل العبارة، جامع لأهم ما
يحتاجون إليه من المصطلحات في الرواية والدراية، ووصف دواوين السنة من
المسانيد والصحاح والسنن، وكل ما يرشد إلى الاحتجاج والعمل، وأحسن أقوال
الحفاظ ورجال الجرح والتعديل وعلماء أصول الفقه في ذلك، وإنهم ليجدون كل
هذه المطالب في هذا الكتاب دانية القطوف، مع زيادة يندر فيها المكر ويكثر
المعروف.
وأما طريقة المؤلف في تدوينه فهو أنه طالع كثيرًا من مصنفات المُحَدِّثين
والأصوليين والفقهاء، والصوفية والمتكلمين والأدباء من المتقدمين والمتأخرين،
وكتب مذكرات فيما اختار منها في هذا الفن، وما يتصل به من العلم، ثم جمعها
ورتبها كما وصفناها، وقد وفى بعض المسائل حقها، ببيان كل ما تمس إليه حاجة
طلابها، وأوجز في بعضها واختصر، إما ليمحصه في فرصة أخرى، وإما
ليفوض أمره إلى أهل البحث والنظر، ولا غضاضة عليه في هذا، فإمام المحدثين
محمد بن إسماعيل البخاري قد سبقه في بعض أبواب جامعه الصحيح إلى مثله.
وقد فتح فيه بعد الخطبة المقدسة تسعة أبواب لمباحث الحديث من فضله
وعلومه ومصطلحاته ورواته وكتبه ومصنفيها ودرجاته وما يحتج به، وما لا يحتج
به، وحكم العلم به، وغير ذلك من المسائل في نوعي الرواية والدارية، فاستغرق
ذلك 254 صفحة، وفتح الباب العاشر لفقه الحديث ومكانه من أصول الدين
والمذاهب فيه، وما روي وأُلِّف في الاهتداء والعمل به، فبلغت صفحاته بهذه
المباحث 383 يليها الخاتمة، وهي في فوائد متفرقة يضطر إليها الأثري.
الكتب التي استمد منها هذا الكتاب:
وأما المصنفات التي استمد منها مباحث الكتاب ومسائله فأكثرها لأشهر علماء
الإسلام، من الأئمة المستقلين أو المنتسبين إلى المذاهب المتبعة في الأمصار
المعتمدة عند أهلها، وأقلها للمشهورين عند عوام القراء ومقلدة العمائم بالعلم
والعرفان، أو بالولاية والكشف والإلهام، لهذا تجد فيه كل فئة من القراء ما تنتقد
عليه نقله، من حيث تجد فيه كل فئة ما تعتمد ممن تقبل علمه ورأيه.
وأما المؤلف فغرضه من هذا وذاك أن تنتفع بكتابه كل فئة من هذه الفئات،
فأهل البصيرة والاستدلال يزدادون علمًا ونورًا بما اختاره لهم من كتب الأئمة
وعلماء الاستقلال، ولا يضرهم ما لا يوثق به من أقوال المقلدين ومدعي الكشف
والإلهام؛ ولكن الذين يقدسون هؤلاء يجدون من أقوالهم ونقولهم وكشفهم أنهم يتفقون
مع الآخرين على أن أصل هذا الدين الإسلام الأساسي المقدس المعصوم الذي لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كتاب الله وكلامه (القرآن العظيم)
ويليه ما بيَّنه للناس بأمره من سنة رسوله خاتم النبيين، التي تواترت أو اشتهرت
عنه بعمل الصحابة والتابعيين وأئمة الأمصار، ويليها ما صح عند هؤلاء الأئمة من
حديثه صلى الله عليه وسلم المروي بنقل الثقات، وما دون هذا من الأخبار والآثار
التي اختلف الحفاظ في أسانيدها، أو استشكل فقهاؤهم متونها، فهو محل
اجتهاد.
ويجد قارئ هذا الكتاب من أقوال أصناف العلماء فيه ما لعله لا يجده مجموعًا
في غيره، وإنني أورد نموذجًا من مباحثه وطريقته في نقوله.
المذاهب في الضعيف والمرسل والموقوف:
من أهم هذه المباحث أقوال المحدثين في معنى الحديث الضعيف الذي وقع
الاختلاف في العمل به، فاستحبه بعضهم في فضائل الأعمال، والأخذ به في
المناقب، ومن فروع هذا الاختلاف أن الضعيف في جامع الترمذي دون الضعيف
في مسند أحمد، فيقبل من ضعاف المسند ما لا يقبل من ضعاف الترمذي؛ لأنها
تساوي الحسان فيه.
ومنها الاحتجاج بالحديث المرسل واختلاف المذاهب فيه، واستنثاء الجمهور
مراسيل الصحابة، وحجتهم وحجة مخالفيهم، والأقوال في الموقوف على الصحابي
الذي له حكم المرفوع، والذي يعد رأيًا له، والأقوال في عدالة جميع الصحابة في
الرواية عند جمهور أهل السنة وحجة مخالفيهم فيها، وغير ذلك من المسائل التي لا
يستغني عن معرفتها الذين هداهم الله في هذا العهد إلى الاهتداء بهدي محمد صلى
الله عليه وسلم على صراط الله الذي استقام عليه السلف الصالح وهي كثيرة.
وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى رأيه وفهمه في بعضها دون بعض، وما كان
لمن يعنى بكثرة النقل، وعرض وجوه الاختلاف في العلم أن يمحص المسائل كلها
فيه، ويكون له حكم الترجيح بينها، على أن رأي كل مؤلف في مسائل الخلاف ينتظم
في سلك سائر الآراء، والواجب على المطلع عليه من أهل العلم أن ينظر في دليله
كدلائل غيره، ويعتمد ما يظهر له رجحانه كما فعل المؤلف في بحث الجلال الدواني
في الحديث الضعيف وأبدى رأيه في الاختلاف فيه إذ قال:
(35) بحث الدواني في الضعيف:
(قال المحقق الجلال الدواني في رسالته أنموذج العلوم: اتفقوا على أن
الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب
العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، وممن صرح به النووي في كتبه،
لا سيما كتاب الأذكار، وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام
الشرعية الخمسة، فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث
الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة) .
ثم نقل عن الدواني أن بعضهم حاول التفصي من هذا الإشكال، وتصحيح
كلام النووي بما أورده وناقش فيه، ثم نقل عن الشهاب الخفاجي مناقشته للدواني في
المسألة من شرحه للشفاء، ورد عليه ردًّا شديدًا فوق المعهود من لين الأستاذ
القاسمي بأن حكم على كل مناقشات الخفاجي بأنها عادة استحكمت في مصنفاته لا
يحظى واقف عليها بطائل، وأنه سود وجه القرطاس هنا، وأن كلام الجلال لا
غبار عليه، وأن مؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة، وختم الرد بقوله:
(فتأمل لعلك تجد القوس في يد الجلال، كما رآها الجمال) . اهـ.
وأقول: نعم إنها قد تحلت وتجلت بحلة الجلال والجمال، ولو أن الثاني حوَّل
نظره عن كتب هذه الطبقة الوسطى من العلماء المستدلين كالدواني والنووي
والمناقشة العلمية فيها، إلى كتب المناقب والفضائل لجامعي كل ما روي من
المحدثين، وكتب الأوراد والتصوف التي لفقها مَنْ دونهم من المؤلفين، لوجد فيها
من الغلو في الإطراء المنهي عنه والتشريع الذي لم يأذن به الله، ومن الاحتجاج
بأقوال الصوفية ومقلدة الفقهاء وعباداتهم المبتدعة، ما فيه جناية على عقائد الإسلام
القطعية، ومخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، ولوجدهم يحتجون عليها
بقول من قالوا: إنه يجوز الأخذ والعمل بالأحاديث الضعيفة، وهم لا يميزون بين
الضعاف التي ألحقوها بالحسن، والمنكرة الواهية التي لم يقل بالأخذ بها أحد،
والتي نقل لنا القاسمي عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وعن غيره من الإنكار
عليها ما نقل، ولعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا به.
الموضوعات والأحاديث غير المُخَرَّجَة:
عقد المؤلف المقصد 48 من الباب الرابع للكلام على الحديث الموضوع بعد
أن تكلم على الحديث الضعيف بما نقلنا لبعضه عنه آنفًا، وأورد في هذا المقصد
14 مسألة، الخامسة منها فتوى الشيخ أحمد بن حجر الفقيه الشافعي في خطيب لا
يبين مخرِّجي الأحاديث نقلها من كتابه (الفتاوى الحديثية) ملخصة، فلم يذكر فيها
اعتماده على ما نقله عن الحافظ ابن حجر في منع ولي الأمر لهذا الخطيب من
الخطبة إذا لم يكن مُحَدِّثًا يروي الحديث بنفسه، فعلم بهذا أن ما اشترطه على نفسه
من التزام نقل الأقوال بحروفها أغلب لا مطرد، ثم قال:
(36) ما جاء في نهج البلاغة من وجوه اختلاف الخبر وأحاديث البدع:
(سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عما في أيدي الناس
من أحاديث البدع واختلاف الخبر، فقال: (إن في أيدي الناس حقًّا وباطلاً،
وصدقًا وكذبًا، وناسخًا ومنسوخًا، وعامًّا وخاصًّا، ومحكمًا ومتشابهًا، وحفظًا
ووهمًا، ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى قام خطيبًا
فقال: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوا مقعد من النار) .
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: (رجل منافق مُظهر
للإيمان، متصنع بالإسلام، ولا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدًا) ... وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ... ، ثم بقوا
بعده عليه السلام، فقتربوا إلى الأئمة بعده [1] صلى الله عليه وسلم فولوهم الأعمال،
وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله) .
(ورجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه فوهم فيه) ... إلخ
(ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا يأمر به، ثم
نهى عنه وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ
لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه)
(وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله) ووصفه بجودة الحفظ
ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمتشابه ومحكمه، ما عني به رسول
الله صلى الله عليه وسلم من كل ذلك) ثم قال: (وقد كان يكون من رسول الله صلى
الله عليه وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما
عنى الله به، ولا ما عنى به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحمله السامع،
ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به، وما خرج من أجله، وليس كل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتى إن كانوا
ليحبون أن يجيء الأعرابي الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر
بي من ذلك شيء إلا سألت عنه وحفظته، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم
وعللهم في رواياتهم) اهـ (من ص 45 و 136) .
(أقول) نقل المصنف عفا الله عنا وعنه هذا وسكت عنه، وقصاراه أنه لا
يصح أن يقبل من أحاديث الصحابة المسندة المرفوعة إلا بعض أفراد القسم الرابع
منهم، وظاهره أنه لم يوجد منه إلا فرد واحد هو صاحب الكلام، وكأنه شهد لنفسه
- إن صح إسناده إليه - ولمن عسى أن يكون مثله فيما أثبته لها بعد النفي، ووجود
مثله مشكوك فيه، ولو صح معناه لكان هادمًا لكل ما نقله المصنف من قبول
مراسيل الصحابة وموقوفاتهم التي قيل: إن حكمها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، وإن المرفوع من الوحي، بل مبطلاً لكل رواياتهم المرفوعة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، أو مشككًا في أكثرها ومبطلاً لأقلها، ولما نقله بعد ذلك في
الباب الخامس الذي فتحه لمباحث الجرح والتعديل من قول جمهور أهل السنة
بعدالتهم كلهم، بل هو عند واضعيه هادمًا لكتب الحديث كلها صحيحها وسننها
ومسانيدها، ولكل ما وضع لرواتها ورواياتها من كتب التاريخ والجرح والتعديل
والمصطلح والأصول، ولما استنبط منها من القواعد والآداب وأحكام الفروع،
فيكف ينقله ويسكت عنه؟ لعله لو طُبع الكتاب في حياته لحذفه منه أو لرد عليه.
رواية نهج البلاغة موضوعة ومن قال كله موضوع:
إنني على مخالفتي لمن قال من الحفاظ: إن نهج البلاغة موضوع بجملته على
أمير المؤمنين علي عليه السلام، وإن واضعه هو الشريف المرتضى أو الرضي،
وعلى ما عندي من النظر في مذهب من أطلقوا القول في الاحتجاج بمراسيل
الصحابة، والقول بأن ما وقفه الصحابي مما لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع،
وإطلاق القول بأن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول مع تعريفهم الصحابي بأنه
من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم، وما سبق لي من التحقيق في هذه
المسائل بمجلتي (المنار) إنني على هذا كله أجزم بأن الجملة التي نقلها الجمال
القاسمي هنا عن نهج البلاغة موضوعة على علي كرم الله وجهه؛ ولكني لا أقول
إن الشريف هو الواضع لها فالله أعلم بواضعها.
إن حفاظ الحديث لا يعتدون برواية لخبر نبوي ولا لأثر صحابي ولا لقول
محدث ولا فقيه إلا إذا كان له سند متصل رجاله معرفون يكون الحكم بقبوله أو رده
تبعًا لحال رجال هذا السند في ميزان الجرح والتعديل، وجامع نهج البلاغة لم يرو
شيئًا منه بالأسانيد المعروفة ولا المجهولة التي وجودها كعدمها عندهم، فلهذا كان
حكمه حكم الموضوع في أن رواياته لا يحتج بها على رأي المعزوة إليه، وإن كان
هذا لا يمنع أن يكون لبعضها أصل كما قالوا في الموضوعات والأحاديث المنكرة
والواهية؛ ولكن العمدة فيما يحتج به في الدين والعلم أن يكون له سند صحيح
متصل بقائله لا شذوذ فيه ولا علة، فلا يرد عليهم ما قاله المنكرون لحكمهم على
نهج البلاغة بالوضع من أن عدم السند المتصل له على طريقتهم لا يقتضي أن
يكون المروي كله أو جله كذبًا مفترى، وأن يكون ناقله هو المفتري له، ومن أن
بعض ما في النهج مذكور في كتب أخرى مؤلفة قبل جمع الشريف له؛ فإن
المحدثين يقولون في روايات تلك الكتب ما قالوه فيه.
ثم إن لعلماء فقه الحديث من وراء نقد أسانيد الأخبار والآثار نقدًا آخر لمتونها
من نواحي معانيها ولغتها وحكم العقل والشرع فيها وتعارضها مع غيرها،
ويشاركهم في هذا النوع من النقد رجال الفلسفة والأدب والتاريخ ويسمونه في
عصرنا النقد التحليلي، ومن ثم استشكلوا كثيرًا من الأحاديث حتى الصحيحة
الأسانيد تكلموا عليها في شروحها، وصنف بعضهم فيها كتبًا خاصة بها أشهرها
كتاب مشكل الآثار للطحاوي، وكلمة نهج البلاغة التي نحن بصدد البحث فيها لا
تثبت أمام هذا النوع من النقد، بل يكون مثلها فيه {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} (البقرة: 264) ، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي
يَوْمٍ عَاصِفٍ} (إبراهيم: 18) لا تذر منه ذرة، لهذا نحكم بأنها موضوعة على
إمام الأمة الأعظم علي كرم الله وجهه، وإنني أشير في هذا التقريظ إلى المهم من
مستندات وضعها، فإن سهل المراء في بعضها لم يسهل في جملتها، فأقول:
مستندات وضع رواية نهج البلاغة:
(أولها) أنه لم يكن في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أحاديث في
البدع ولا في غيرها تتداولها أيدي الناس فتقبل دعوى سؤاله عنها؛ فإن الصحابة
رضي الله عنهم لم يدونوا الأحاديث ويلقوها إلى الناس، بل لم يصح عنهم أنهم
كتبوا عنها إلا قليلاً لم تتداوله الأيدي، أصحه صحيفته كرم الله وجهه التي كان
علقها بسيفه، فقد قال: (ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القرآن
وما في هذه الصحيفة) رواه الشيخان وأصحاب السنن الأربعة، وكان فيها تحريم
المدينة كمكة وأحكام العقل أي الدية وفكاك الأسير ولا يُقْتَل مسلم بكافر - كما في
روايات البخاري، وفي مسلم إن فيها (لعن الله من ذبح لغير الله) وزاد النسائي
وأحمد على ذلك.
وروى البخاري والترمذي عن أبي هريرة أنه قال: ما من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أحد أكثر مني حديثًا إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان
يكتب ولا أكتب، والمحدثون لا يعدون ما يوجد في صحيفة محدث أو عالم رواية
صحيحة عنه، إلا إن حدث أنه سمعها من صاحبها، ويسمونها الوِجادة بالكسر،
واختلافهم في الاحتجاج بها معروف، ومن المشهور عندهم الاختلاف في رواية
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص،
قالوا: كانت عنده صحيفة فأنكروا عليه ما لم يصرح بسماعه من أبيه عن جده
وحملوه على النقل من تلك الصحيفة مع احتمال أن يكون ما فيها هو ما كتبه جده
عبد الله بن عمرو مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
(ثانيها) أن تقسيم الأخبار إلى ما ذكر، ولا سيما الناسخ والمنسوخ، والعام
والخاص، والمحكم والمتشابه، والحفظ والوهم وعلل الحديث تقسيم فني حدث بعد
الصحابة والتابعين مما اصطلح عليه المصنفون في أصول الفقه بعد الشروع في
تدوين الأحاديث، ولم يكن مما يدور على ألسنتهم، ولا مما يروونه عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وما ورد في القرآن من هذه الألفاظ لم يرد كله بهذه المعاني
الاصطلاحية التي حددوها حتى قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة:
106) الآية كما حققناه في تفسيرها، وكذلك المحكم والمتشابه، وما روي من
أثر القاضي الذي سأله علي عن معرفة الناسخ والمنسوخ بهذا اللفظ فقال: لا، قال:
هلكت وأهلكت، ما أراه يصح، فإنه لم يرو عن علي أنه كان يسأل قضاته عن ذلك،
ولا أنه كان يعلمهم إياه، وروي مثل هذا الأثر عن ابن عباس، وقد ورد في
النسخ آثار أخرى تدل على أن معناه عندهم أعم من معناه الاصطلاحي، وكانوا
يقضون بالقرآن، ثم بالسنة العملية التي قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم أو
الخلفاء من بعده، ولم يكن في أيديهم أحاديث قولية من موضوع بحثنا يقضون بها،
ويطلب منهم معرفة ناسخها من منسوخها مثلاً، وجملة القول في هذا النقد أن ذلك
الكلام في جملته مما يستبعد أن يجعله علي رضي الله عنه تفصيلاً لأنواع الأحاديث
التي قيل إنه سئل عنها، وإن كان معناه غير الاصطلاحي مما لا يعزب عن علمه
الواسع.
(ثالثها) أن حديث (من كذب علي متعمدًا) ... إلخ لم يكن سببه كذب
المنافقين عليه صلى الله عليه وسلم، ولا كان المنافقون يبالون بهذا الوعيد، وفي
القرآن ما هو أشد عليهم، وإنما هو للتحذير من جريمة الكذب عليه صلى الله عليه
وسلم، وأنه ليس كالكذب على غيره ليحتاط كل مؤمن فيه.
(رابعها) أن المنافقين الأقحاح الذين كانوا يستحلون الكذب عليه صلى الله
عليه وسلم كانوا كلهم من أهل المدينة وما حولها، ولم يكن في المهاجرين أحد منهم،
وأكثر كذبهم كان للدفاع عن أنفسهم، لا في رواية الأحكام الشرعية لغش المؤمنين
بها؛ فإن هذه الأحكام لم تكن تعنيهم، وكانوا يتربصون بهم الدوائر ظانين أن
الإسلام يزول بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بظهور المشركين أو الروم
عليهم، وقلما بقي إلى خلافة علي أحد منهم، فقد آمن أكثرهم قبلها بظهور أمر
الإسلام على الروم والفرس كما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد
شيء من رواياتهم فهو قليل فيما لا شأن له؛ خلافًا لما تتقوله الرافضة على الصحابة
حتى كبار المهاجرين منهم، ويحتجون بعبارة نهج البلاغة الموضوعة على رفض
أحاديثهم.
(خامسها) أن تهمة تقرب المنافقين إلى الأئمة الذين قبله رضي الله عنه
وعنهم وتوليتهم إياهم الأعمال وأكلهم الدنيا بهم، فيها نظر من وجوه، نعم إن من
المعلوم بالضرورة من تاريخه وسيرته كرم الله وجهه أنه لم يكن يثق بدين معاوية
وعمرو بن العاص اللذين توليا مصر والشام في إمامة عمر، وأنه كان يعتقد بحق
أنهما من طلاب الدنيا والملك؛ ولكنهما لم يكونا من رواة الأحاديث التي قيل إنها في
أيدي الناس في عهده، وليس فيما روي عنهما في الصحاح من بعده ما هو محل
تهمة وهو قليل، ليس لمعاوية في صحيح البخاري إلا ثمانية أحاديث، ولا لعمرو
إلا ثلاثة أحاديث، ولم يكونوا من المهاجرين الأولين فإن عَمرًا أسلم بين الحديبية
وخيبر أو في صفر سنة ثمانٍ ومعاوية أظهر إسلامه عام الفتح، وروى الواقدي أنه
كان أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه، والواقدي لا يحتج بروايته، وعلى كل فهما
ليسا من المهاجرين السابقين؛ ولكن الطعن في سياستهما بحق، لا يقتضي الطعن
في روايتهما بدون شبهة، بله الطعن في إيمانهما، ولقد كانت سيرة عمرو في مصر
حميدة ولا تزال محل إعجاب مؤرخي الإفرنج وغيرهم، فهل كان هذا إلا من هداية
الإسلام؟
(سادسها) أن الرجل الثاني من رواة الصحابة الصادقين الذي وهم في
حديثه ولم يكذب، والثالث الذي عرف الناسخ ولم يعرف المنسوخ، هما مما يحكم
العقل بإمكان وجودهما، وإن تعذر معرفة أشخاصهما، ونقاد الأحاديث من الحفاظ
والفقهاء هم الذين قاموا بما يجب من التمييز بين الروايات عن الجميع، ومن معرفة
سيرة الرراة كلهم ووزنها بميزان الجرح والتعديل؛ فلذلك لا يقبلون حديثًا ولا أثرًا
ليس له سند معروف كهذا الأثر وأمثاله من آثار نهج البلاغة.
(سابعها) قال في آخر الكلام عن القسم الرابع من رواة الصحابة وهو الفرد
الكامل في الصدق والضبط والعلم والفهم: (وليس كل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم من كان يسأله ويستفهمه، حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي
الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا) وهذا القول فيه نظر وبحث من وجوه
(منها) أنهم كانوا يسألونه ويستفهمونه عن كل ما يشكل عليهم حتى النساء لا تمنعهن
مهابته صلى الله عليه وسلم عن الواجب لاقترانها بلطفه وتواضعه، ومن استحيا من
سؤال كلف غيره أن يسأله عنه كما أمر علي المقداد بسؤاله عن حكم المذي إذ كان
كرم الله وجهه مذاء، وقد أغضبوه مرة لكثرة سؤالهم وهو على المنبر حتى سأله
بعضهم من أبي لشكه فيه فقال: (أبوك حذافة) رواه الشيخان، ومنها أنهم لم
يكونوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عما نهاهم الله ورسوله عنه من السؤال، وقد
فصلناه في تفسير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) من جزء التفسير السابع ص 125، ومنها أن سبب نهيهم عن
كثرة السؤال الثابت في الصحاح أنه يقتضي كثرة أحكام التكليف، والله ورسوله
يريدان التخفيف عن هذه الأمة، ومنها أن الأعراب لم يكونوا يعلمون هذا النهي
فكان أحدهم يسأل عن كل ما يخطر بباله ويرى أنه محتاج إليه، وكانوا كلهم يحبون
الزيادة من العلم فيعجبهم سؤال الأعرابي الطارئ، ولا فرق بينه كرم الله وجهه
وبين سائر علمائهم في شيء من ذلك، إلا أنه كان في الذروة منهم، وفي الآيات
والأحاديث الصحيحة ما يدل على ما قلنا، وهذه الأربعة تضم إلى ما قبلها وما
بعدها.
(وثامنها) أن هذا الكلام في جملته قد وضع بالاصطلاح الجدلي ليكون
أساسًا لمذهب الشيعة الإمامية في الطعن على الخلفاء الثلاثة وعلى (جمهور)
الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين نزل القرآن مصرحًا برضا الله عنهم
ورضاهم عنه، وبعدم الاحتجاج بالأحاديث المروية في الصحاح والسنن،
ويعارضه ما هو مخالف له من المروي عن علي رضي الله عنه بأسانيد الثقات في
اعتقاده وعلمه وعمله وتأييده وولايته للأئمة الذين قبله، وفي قضائه والأحاديث
المروية عنه، وفي أسلوب كلامه أيضًا، وله نظائر في نهج البلاغة وغيره مما
انفردوا بحكايته عنه وعن آله عليهم السلام من غرائب بأسلوب يشبه نظريات
المتكلمين وتكلفات المولدين.
كلام ابن أبي الحديد في شرح كلمة النهج:
هذا وإنني قد راجعت بعد كتابة ما تقدم شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة،
فرأيته يستشكل هذا الكلام، ويتكلف تصحيح معانيه؛ لأن شرحه للنهج مبني على
التسليم لروايته، ففرض بقاء بعض المنافقين بعد النبي صلى الله عليه وسلم،
ومخالطة حديثه صلى الله عليه وسلم كذب كثير منهم بقصد الإضلال على ما بينه
من اشتغالهم بالحروب والفتح والغنائم عما كانوا ينقمونه من أمور الإسلام وتصريحه
بأنه قد صح إيمان بعضهم.
والحق أن أكثر الموضوعات في هذا الباب كان من مبتدعة الرافضة
والخوارج وغيرهم، وقد قال (ابن أبي الحديد بعد ذكر هذا من ص 15 مجلد 3) ما
نصه:
(وقد قيل: إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه، ولم
يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيرًا من هذه
الأحاديث الموضوعة، وبينوا وضعها وأن رواتها غير موثوق بهم، إلا أن
المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون في الطعن على أحد
من الصحابة؛ لأن عليه لفظ الصحبة، على أنهم طعنوا في قوم لهم صحبة كَبُسْر
بن أرطأة وغيره.
(فإن قلت: من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه للزور والبهتان؟ هل هذا إلا تصريح بما
تذكره الإمامية وتعتقده؟ قلت ليس الأمر كما ظننت وظنوا، وإنما يعني معاوية
وعمرو بن العاص ومن شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من رواه في حق
معاوية)
(وذكر بعض أحاديث الفضائل وقول الباقر فيها ثم قال (في ص 17) :
(واعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة؛ فإنهم
وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة
خصومهم (وأشار إلى بعضها ثم قال) فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة
وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث) (وأشار إلى بعضها برأيه)
والمحدثون بينوا كل ذلك، ولم يكن فيهم طائفة تسمى البكرية.
ثم أقول: كإن هذا التقسيم الذي قاله صحيح في جملته واستدلاله، وإن
أسلوبه الكلامي والمنطقي قوي؛ ولكن علمه بالروايات ضعيف، فالرجل معتزلي
متكلم ومتشيع غير محدث، والأحاديث الموضوعة في العقائد وأصول الأحكام
والتفسير لم يضع أحد من الصحابة شيئًا منها، لا مؤمنوهم الصادقون وهم السواد
الأعظم ولا منافقوهم القليلون الذين ربما كانوا قد انقرضوا عند وضعها؛ وإنما
وضعها الزنادقة من مسلمة اليهود والمجوس وملاحدة الشيعة الباطنية لا الإمامية.
ولكن الإمامية خُدعوا بالكثير منها لظنهم أن أولئك الملاحدة منهم، وأن أكثر
الصحابة كانوا أعداء لعلي وأهل بيته فلا يوثق بروايتهم، مع قلة علمهم بنقد
الروايات، وقد اشتهر الشيعة بالكذب عند المحدثين والمؤرخين حتى الإفرنج، وأهم
أسبابه ما أشرت إليه، وحسبي هذا الاستطراد الضروري في تقريظ كتاب (قواعد
التحديث) وأعود إلى بيان أهم فوائده فأقول:
أهم فوائد الكتاب المقصودة منه بالذات:
الجمال القاسمي رحمه الله تعالى من المصلحين المجددين في هذا القرن
(الرابع عشر للهجرة) وغرضه الأول من هذا الكتاب بث هداية الكتاب والسنة في
الأمة على منهاج السلف الصالح وتسهيل سبيلها، وما أهلك المسلمين في دينهم
ودنياهم إلا الإعراض عن هذه الهداية التي شرع الله الدين لأجلها.
ولهذا الإعراض سببان أهونهما الجهل البسيط وهو عدم العلم بما خاطب الله
الناس في كتابه، وبما بيته لهم ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بسنته وهديه،
وبما كان عليه أهل العصر الأول عصر النور من الاهتداء بالكتاب والسنة علمًا
وعملاً وخلقًا وجهادًا وفتحًا وحكمًا بين الناس، وأعسرهما وأضرهما الجهل المركب
وهو التعليم التقليدي لكتب المتأخرين من المتكلمين والفقهاء والصوفية، والاستغناء
بها عما كان عليه السلف، ومنهم أئمة الأمصار من المحدثين والفقهاء بشبهة
شيطانية، هي أن فهم الكتاب والسنة خاص بالمجتهدين، وأن المتأخرين من العلماء
أعلم بما فهمه المصنفون المقلدون للأئمة في القرون الوسطى، وأولئك أعلم بما
فهمه الأئمة المجتهدون منهما مباشرة، وأن العلماء على طبقات في تقليد بعضهم
عدها بعض متأخري الفقهاء خمسًا، وعدها الشعراني من متأخري الصوفية ستًّا،
كل طبقة تحجب أهل عصرها عما قبله، حتى تجرأ بعض من يؤلفون ويكتبون في
المجلات ممن أعطوا (لقب كبار علماء الأزهر) - وهم الطبقة العاشرة على
حساب الشعراني - على التصريح في عصرنا هذا بأن من يؤمن بآيات القرآن في
بعض صفات الله تعالى على ظاهرها يكون كافرًا (! ! !) وتجرأ بعض من قبله
منهم على التصريح في مجلس إدارة الأزهر بأن من يقول إنه يعمل بما صح من
الأحاديث على خلاف فقهاء المذهب فهو زنديق - كما بيناه في المنار وفي تاريخ
الأستاذ الإمام - وهؤلاء يكرهون علم الحديث وأهله، وقد صرح الحفاظ الأولون بأن
الوقيعة في أهل الأثر من دأب أهل البدع كما نقله المؤلف (في ص 31) .
نقوله ودروسه وغرضه الإصلاحي فيهما:
نقل لنا الجمال القاسمي - بحسن اختياره وجماله وقسامته في إرشاده -
نصوصًا من كتب أشهر الأئمة من علماء الملة المستقلين، وكتب المنتسبين إلى
مذاهب الكلام والفقه والتصوف المقلدين، صريحة في اتفاق الجميع على وجوب
الاهتداء والعمل بكتاب الله وسنة رسوله واتباع سلف الملة في الدين، وعلى خطأ
من يخالفهم في هذا بما يقطع ألسنة الذين يصدون عن سبيل الله من عميان الجهل
المركب: الذين لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، وهم الذين وصفهم أبو
حامد الغزالي بقوله: (وأولئك هم العميان المنكوسون، وعماهم في كلتا العينين) ،
فهذه حكمة نقله عن كل طبقة من العلماء المشهورين حتى المعاصرين له، ولنا من
المصنفين ومحرري المجلات العلمية ومنها المنار ومما نقله عنه ما ترى في ص
250؛ ولكنه لم يصرح باسمه ولا باسم صاحبه خوفًا من الحكومة.
وصفتُ الأستاذ القاسمي في ترجمة المنار له بالإصلاح، ورددت على من
ينكر على هذا الوصف بما بينت به طريقته فيه، واستنبطت مما اطلعت عليه من
كتبه ومن حديثي معه أربعًا من مزاياه في الاستقامة على هذه الطريقة:
(أولاهن) سبب تدريسه لبعض الكتب المتداولة كجمع الجوامع وكتب السعد
التفتازاني وما هي كتب إصلاح، بل فنون اصطلاح أشبه بالألغاز.
(الثانية) الاستعانة بنقول بعض المشهورين على إقناع المقلدين والمستدلين
جميعًا من المعاصرين بما يقوم عليه الدليل.
(الثالثة) أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصره في دروسه
ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة بلا زيادة ولا نقصان.
وذكرت شاهدين من شعره على مذهبه هذا.
(الرابعة) أنه كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف،
واتباع ما يقوم عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل.
وقد أطلت في هذه بما لم أطل فيما قبلها، وذكرت ما أنكره عليه بعض متبعي
السلف من أنه خالفهم في كتابه (تاريخ الجهمية والمعتزلة) وكتابه (نقد النصائح
الكافية) وبينت ما توخاه من التأليف بين فرق المسلمين الكبرى فيهما، بما لا محل
لإعادته هنا، وإنما ذكرت هذا الموضوع لأذكر به من يستنكر مثله في هذا الكتاب،
وقد نقل فيه عن داعية السلف المحقق العلامة ابن القيم سبقه إلى مثله وتصريحه
بأن في كلام كل فرقة ومذهب حقًّا وباطلاً.
كذلك: وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله بعده كتاب (توجيه
النظر إلى أصول أهل الأثر) وهو في موضوع (كتاب قواعد التحديث)
والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سيين في سعة الاطلاع، وحسن الاختيار، إلا
أن الجزائري أكثر اطلاعًا على الكتب، وولوعًا بالاستقصاء والبحث، والقاسمي
أشد تحريًا للإصلاح، وعناية بما ينفع جماهير الناس، فمن ثم كان كتاب الجزائري
وهو أطول قاصرًا على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي
قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء
بما لم يفعله القاسمي؛ ولكنه أطال كل الإطالة بتلخيص (كتاب علوم الحديث)
للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعًا، ثم بما لخصه من (كتاب علل
الحديث) لابن أبي حاتم الرازي، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة
الحديث إلى الكلام في (الخط العربي) وتدرجه بالترقي إلى وصوله للكمال الذي
عليه الآن، وما يحتاج إليه بعد هذا الكمال من علائم الوقف والابتداء، وهو على
إطالته في هذا الفن لم يراعه في العمل، فكتابه كأكثر الكتب القديمة، وكتاب
القاسمي كما علمت في تقسيمه وتفصيل عناوينه، والبياض بينها لتسهيل المطالعة
والمراجعة، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة، كما
أنه أكثر جمعًا، وأعم نفعًا، وخلاصة القول في تقريظ هذا الكتاب أننا لا نعرف
مثله في موضوعه وسيلة ومقصدًا، ومبدأ وغاية، فنسأل الله تعالى أن يحسن جزاء
مؤلفه وطابعه، وأن يوفق الأمة للانتفاع به.
__________
(1) في نسخة من النهج: إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان.(34/613)
الكاتب: يحيى بن محمد حميد الدين
__________
كتاب الإمام ورأيه في تفسير المنار
وفي مؤلفات صاحبه عامة وكتاب المنار والأزهر خاصة
بسم الله الرحمن الرحيم
(من أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، يحيى بن محمد حميد
الدين)
حضرة العلامة الهمام، والأستاذ الفاضل عز الإسلام، السيد محمد رشيد رضا
الحسيني، مد الله عمره في طاعته، وأدام حميد سعيه وإفادته، وشريف السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
تناولنا كتابكم المؤرخ 11 رمضان الكريم، وقد وصل ما أرسلتموه من أجزاء
تفسيركم الكبير، وذلك أحد عشر جزءًا وشكرنا اهتمامكم بإرسالها، وهو تفسير
حري بكل اعتبار وتقدير، وما نظرنا مؤلفاتكم إلا بعين الإكبار والاستحسان، لما
تحويه من جليل المقاصد، وجزيل الفوائد، وتشبعها بروح الإنصاف، وصبها في
قالب ذلك النفس النفيس المعبر عن المقصود بغير تكلف، والقيام من نصرة الإسلام
بما يشفي العليل بلا تكلف ولا تعسف، ووصل أيضًا (المنار والأزهر) وساءنا
بلوغ الأمر إلى تلك العبارات في وقت يجب أن نكون فيه جنبًا إلى جنب لنصرة
الإسلام، فتداركوا الأمر بكل ممكن من الحكمة عافاكم الله تعالى.
وإنا نحثكم على إكمال التفسير المبارك، فإكماله ينبغي أن يكون من أجل ما
يتوجه إليه اهتمامكم وعنايتكم، والمثوبة على ذلك من الله جزيلة، ومنفعة المسلمين
به جليلة، ونسأل الله تيسير ما أشرتم إليه من أسباب الكمال في إدارة البريد وسواها،
وقد أمرنا الولد عبد الله الوزير - عافاه الله - بإيصال مائة جنيه بواسطة بعض
المصارف بعد الوقوف على إمكان وصولها بهذه الطريقة، ولعل هذه السطور لا
تصل إليكم إلا بعد وصولها.
وتفضلوا بإرسال أحسن المصنفات في الرد على شبه النصارى الحديثة التي
ينسبونها إلى الإسلام، والدعاء مستمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... وحرر في 2 شوال سنة 1353
جواب المنار العام
بعد جواب صاحبه الخاص
هذا نص كتاب جلالة الإمام، أيد الله بعلمه وحكمه العرب والإسلام، فأما
مجموعة تفسير المنار فقد أُرسلت إلى مقامه العالي بأمره، وكان قد وصل إليه
بعضها متفرقًا، وسنقر عين مقام الإمامة بزيادة العناية بإكمال التفسير المطول،
وبما شرعنا فيه من كتابة التفسير المختصر المفيد.
وأما كتاب (المنار والأزهر) فقد أرسلناه معها؛ لأنه صدر في وقت شحنها
وما ساء مولانا الإمام من بلوغ الأمر في مسألة شيخ الأزهر إلى الحد الذي أشار إليه،
جدير بأن يسوء كل مسلم فكيف بمثله في مقام إمامة العلم والحكم والغيرة على
الإسلام ومصالحه، وقد بذل هذا العبد الضعيف كل وسعه في تدارك الخطب قبل
تفاقمه، وعجز مثله عن درء مفاسده، بتكرار النصيحة للأستاذ الأكبر الشيخ محمد
الظواهري، امتثالاً للأمر النبوي المطاع (الدين النصيحة ... ) إلخ، وبمواتاة العلامة
الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية في سعيه الحميد إلى الصلح، فحال
اختلاف الظواهر والبواطن من الشيخ دون نجاح السعي.
ثم أرجأت إصدار (كتاب المنار والأزهر) أكثر من سنة ونصف لعله يتذكر
أو يخشى، ويكفينا أمره بما هو أليق بمنصبه وأولى، فكان ما جناه عليه اجتهاده أن
أسخط جماعة الأزهر والمعاهد الدينية كافة من سيرته، وصار علماؤهم وطلابهم
كلهم إلبًا عليه، يشكون منه ويهتفون بإسقاطه في أزهرهم ومعاهدهم، يطعنون عليه
في الجرائد والمساجد والشوارع، وتظاهرهم عليه سائر طبقات الأمة خاصيها
وعاميها حتى أعيان الحكومة تدارك أمره معهم، وكان المخرج له من ذلك استقالته
من رياسته عليهم؛ ولكنه ما زال يرجح جميع ضروب الإهانة، على ما هو دونها
من ذل الاستقالة، ولو كان أمرعزله منوطًا بالحكومة وحدها لعزلته، وأراحت
نفسها والأمة منه، فرئيسها ووزير الأوقاف فيها أعلم الناس بمساويه، ولا سيما
الرسمي منها، وقد أظهر التحقيق عليه بعض ما يجهله الجمهور منها، وقد كانت
نازلته من النوازل المحلية، فصارت من الفتن العامة الإسلامية، فنسأل الله عز
وجل أن يقي العلماء وسائر المسلمين شرها، ويجزي من تولى كبرها بقدرته
القاهرة، وحكمته البالغة في الظالمين، ورحمته الخاصة بالمتقين المحسنين،
آمين.
__________(34/629)
ذو الحجة - 1353هـ
إبريل - 1935م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من بيروت
بعد مقدمة في الإصلاح
بسم الله بالرحمن الرحيم
صاحب الفضل والفضيلة المرشد العظيم الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد
رضا حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله تعالى، وبعد فقد هدانا الله لاقتناء
تفسيركم الجليل، ومناركم الأغر على رغم من يخوفنا من التقرب إليكم أو مطالعة
كتبكم أعداء الدين، علماء السوء بدون أن يستطيعوا أن يبرهنوا بدليل معقول على
مبدئهم السيء.
نعم أصبحنا ولله الحمد نطالع كتبكم التي ينطق لسان حالها بما أمر الله به
رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فنجد فيها كنزًا لا يفنى فنزداد بها حبًّا،
وندعو من نحبه لاقتنائها.
قد عودتمونا أن لا نسير في الظلمات أو مكبين على وجوهنا، وأن ننبذ التقليد
ونجيل النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه دعوة سامية
تهواها الفطرة، ويقدسها العقل، فأصبحنا ولله الحمد بترك التقليد أحرارًا غير عبيد
للعبيد؛ إنما قد اعترانا بعض الصعوبات لتطبيق فكرتكم السامية تطبيقًا كاملاً شأن
كل حديث، فالتجأنا إليكم لتهدونا إلى أقوم السبيل، وما كنا بشاغلي فضيلتكم
بالإجابة على سؤالنا لو وجدنا في كتب التفسير أو في أجزاء المنار الأخيرة بغيتنا
بكاملها.
فهذه أسئلة كلها بقصد التعلم والاستفادة، فتكرموا بالإجابة عليها في مناركم
الأغر؛ لتكون الفائدة أعم، إذ نرى أن من الصعب أخذ الأحكام من الكتاب والسنة
لمن لا يتمكن من الانقطاع للتفقه، خصوصًا وقد اختلف في كثير منها كبار العلماء
والأئمة المجتهدون رضي الله عنهم رغم انقطاعهم للعلم، ولم يكن اختلافهم في
الفروع المستنبطة من أحاديث غير متواترة فحسب، بل في الأركان وأعمال
أجريت من قِبَل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ألوف المرات، فكيف بنا
اليوم ونحن مضطرون للسعي لمعيشة عيالنا، وتضحية أعظم أوقاتنا بذلك نظرًا
للضائقة المعلومة، أليس من الضروري أن نحيط بعلم الحديث بكامله؟ نعم إن
آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز المائة وخمسين كما يقال؛ ولكنها غير
مفصلة ولا يمكن الاكتفاء بها دون السنة والحديث يا سيدي العلامة؟
أما إذا أردنا أن نتبع ما قاله الإمام الشوكاني رحمه الله من سؤال العامي للعالم
عن المسألة ودليلها، فيصبح المتعلم عاميًّا لعدم استطاعته تخصيص عمره لاستنباط
ذلك من القرآن والسنة، ومن جهة ثانية قلما نجد عالمًا يهدينا إلى الدليل ولو طلبنا إليه
ذلك، وأكثر ما هنالك يقول كما في الكتاب الفلاني أو حاشيته، فاهدونا هدانا الله
وإياكم إلى طريقة نسير بها على نور ونطمئن بها في ديننا.
وكذلك نرجو من حضرة الأستاذ أن يجيبنا على ما يلي:
1- ما هو خير كتاب يجمع آيات الأحكام وأحاديث الأحكام.
2- هل يوجد دليل شرعي للمقلد ينجيه يوم الحساب باتباعه من قلده اتباعًا
أعمى؟ وما أقوى دليل للمقلدين غير {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) لأنه
لا حجة لهم بها؟ فإذا كان الجواب سلبيًّا فكيف سكت عن هذا علماء كثيرون ممن
ينتمي للمذاهب، والذين ألفوا كتبًا عظيمة حصروها في مذهبهم فقط؟
3- رجل عنده دراهم لا يشتغل بها، ويحب أن يفيد الفقير البائس خصوصًا
في مثل هذا الوقت الضيق بأكثر من حصة الزكاة دون أن ينقص ماله ويعرض
نفسه للحاجة، فهل إذا وضع تلك الدراهم في مصرف وأخذ عنها ربا وأعطاه لهذا
الفقير يثاب على ذلك؟ أو أن هذا الأمر الذي لا ينبذه العقل يتبع قاعدة درء المفاسد
مقدم على جلب المنافع، ويعد من المفاسد!
4- ذكرتم في تفسيركم الجليل أن إبليس من الملائكة، ولا يخفى أن الله
تعالى سمى الملائكة رسلاً، والرسل معصومون من الخطأ، فكيف نوفق بين
تسميته مَلَكًا وعصمة الملائكة؟
وختامًا نسأل الله تعالى أن يقويكم لإتمام التفسير ولو بصورة موجزة، وكذلك
كتاب أحكام الربا الذي تفضلتم ووعدتم فيه، ويديم نفعكم للمسلمين، ويمد لنا في
عمركم ودمتم خير مرشد.
... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم عزت المرادي
جواب المسائل البيروتية 27 - 30
وكلمة في مقدمتها
(1) قولك في الذين يخوفونك من كتبنا، ولا سيما تفسيرنا أذكرك في دفعه
بأنه لا يوجد فيهم أحد يصح أن يسمى عالمًا من علماء التقليد فضلاً عن علماء
الاستقلال، وإن كان دون إمامة الاجتهاد، وإنما هم أحد فريقين معمم جامد حاسد،
أو عامي مقلد لحاسد، ممن لا يميز بين الحق والباطل، ويقل في كل منهما من
اطلع على المنار أو تفسيره، أو علم بما لهما من المكانة عند أكبر علماء الأقطار
الإسلامية وأولها مصر فأكبر علمائها على الإطلاق يفضلون تفسير المنار على
تفاسير المتقدمين والمتأخرين في الهداية، وحاجة العصر إليه وغير ذلك كالعلامة
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأشهر، والعلامة الشيخ
عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية وغيرهما، ولا نعلم أنه يوجد عالم رسمي في
مصر يصد عن سبيل الله التي يبينها المنار وتفسيره إلا شيخ السوء الذي خذله الله
خذلانًا لم يسبق له في العالم الإسلامي نظير، حتى أجمع أهل العلم وطلابه على
إهانته وإسقاطه في الأزهر وسائر معاهد العلم، وعدم الثقة بعلمه ولا بدينه ووافقهم
جمهور الأمة، ولم يتبعه في ضلاله وإضلاله إلا شيخ واحد أعمى البصيرة والبصر،
وحسبكم (كتاب المنار والأزهر) مبينًا لهذه الحقائق، وحسبكم من وصف هذا
الأعمى افتراؤه الكذب الصريح على من يحسده ويذمه، وتفضيله كتب مقلدة
المقلدين من الدرجة الخامسة على نصوص من الكتاب والسنة، وعلى كتب قدماء
الأئمة، ولا سيما حفاظ الحديث منهم، ونصره للبدع على السنة، وأفظع من كل
ذلك تكفيره لمن يؤمن بظاهر نصوص القرآن في صفات الله تعالى، كالسلف
الصالح بدون تأويلات بعض خلف المتكلمين لها، ونحمد الله تعالى أن كفانا شر
هؤلاء الحاسدين الجامدين، وجعل لنا حظًّا من الوراثة المحمدية في قوله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) ، وكان
آخر نصر لنا عليهم ظهور كتابنا (الوحي المحمدي) وما كان له من التأثير
والتفضيل في العالم الإسلامي حتى أنه طُبع في العام الماضي الذي ظهر فيه مرتين،
وهو يُطْبَع الآن الطبعة الثالثة قبل انتهاء السنة الثانية.
(2) إن ما ندعوكم إليه من هداية الكتاب والسنة واجتناب التقليد المذموم
بالنصوص لا يستلزم الاطلاع على جميع كتب الأحاديث ولا على أكثرها، ولا
القدرة على استنباط الأحكام منها ومن القرآن، ولا على ترجيح بعض أقوال
المجتهدين على بعض، فأهم أحكام الدين الواجبة على كل مسلم هي المجمع عليها
التي لا اجتهاد لأحد فيها، وهي قسمان أعلاهما المعلوم من الدين بالضرورة الذي
يعد جاحده كافرًا كفر خروج من الملة، ولا يعذر المسلم بجهله إلا إذا كان حديث
عهد بالإسلام، أو نشأ في شاهق جبل لم يعاشر المسلمين كما قال علماء العقائد
والفقه جميعًا، والقسم الآخر يعذر بجهله العوام، وقد فصلنا ذلك مرارًا في المنار
وفي تفسيره.
وما زاد على الأحكام المجمع عليها وهو الأحكام الخلافية الاجتهادية، فأمرها
أهون؛ لأن جهلها لا ينافي الإسلام، والعلم بالمنصوص منها أسهل، وأخذه من كتب
أهل الحديث أقرب من أخذه من كتب فقهاء التقليد، وسنذكر لكم أهم كتبها.
وأهم من هذه الأحكام الفقهية الاجتهادية هداية الكتاب والسنة في العلم بالله
وتوحيده وأصول الإيمان وشعبه وثمراتها من التقوى والتوكل والجهاد بالمال والنفس
في سبيل الله وإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ولا تجد في كتب الفقه من هذا شيئًا،
وكتب التصوف ممزوجة بالبدع والخرافات إلا قليلاً منها، فهذا أهم ما ندعوكم
إليه، وكل سورة من سور القرآن حتى القصيرة تعطي متدبرها من هذه الهداية ما
لا تغني غناءه الكتب الطويلة من دونها كما رأيتم في تفسيرنا للفاتحة وخواتيم سور
القرآن، ويمتاز تفسير المنار على جميع التفاسير بأنه مؤلف لأجل هذه الهداية من
أقرب طرقها إلى الفطرة والعقل وصحيح النقل، وقد شرعنا (في التفسير المختصر
المفيد) الذي يسهل على كل قارئ فهم القرآن والاهتداء به، فنسأل الله تعالى
توفيقنا لإتمامه، ونرجو من جميع إخواننا الدعاء لنا بذلك، وكتاب واحد من كتب
الصحيح أو السنن يكفي في هذه الهداية، وخيرها صحيح مسلم؛ لأنه أسهل عن
صحيح البخاري وأحسن جمعًا وإفادة، وإن كان للبخاري مزايا أخرى.
(3) إن ما ذكرتموه عن القاضي الشوكاني من سؤال العامي للعالم عن
المسألة التي يجهلها، وعن دليلها قد قاله غيره من دعاة الاتباع، النهاة عن الابتداع،
وهو يقابل ما يقوله المقلدون من وجوب سؤال علماء المذهب الذي ينتمي إليه
والأخذ بما يقولونه له بغير دليل؛ فإنه بزعمهم ليس أهلاً لفهم الدليل، وهو زعم
باطل بالبداهة؛ فإن العامي يكتفي من الدليل بالإجمالي، حتى قول العالم: إن في
مسألته حديثًا صحيحًا صريحًا، أو ليس فيها نص، فيعمل فيها بأصل البراءة،
وبحديث (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) وقد فصلنا هذه
المسائل من قبل في مواضع من المنار، وفي تفسير قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) من سورة المائدة وقد جمعنا ما كتبناه
فيها مع غيره في كتاب (يسر الإسلام) ومنه يُعْلَم خلاف ما استشكله السائل هنا؛
ولكن المشكل الذي يعسر حله قلة علماء الكتاب والسنة، واعتماد أكثر مدعي العلم
على كتب المتأخرين، وأكثر ما فيها آراء لمؤلفيها لا يعرف منها ما له أصل، وما
ليس له أصل من الكتاب والسنة، فلا يشعر قارئها بأن له صلة بربه ولا يميز بينه
وبين ما زيد عليها من الخرافات والجهالات والبدع.
وأكبر شبهاتهم على إيثار هذه الكتب أن فهم الدين منها أسهل من فهمه من
الكتاب والسنة، وهي شبهة باطلة؛ فإن بيان الله أفصح وأجلى من كل بيان، ويليه
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلَّفه بيانه دون غيره.
(4) أن أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم بعد طاعته وطاعة رسوله؛ إنما
يطاعون في الحكم بما شرعه من الأحكام، وجعل لهم حق الاجتهاد فيما لا نص فيها
من القضايا والمصالح، ولم يجعل لأحد حقًّا في تشريع العقائد ولا العبادات ولا
التحريم الديني، وهذه الكتب ممزوجة بما لا حق لأصحابها فيه من التشريع، ومن
شرع في الدين فقد جعل نفسه شريكًا لله كما قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .
أجوبة الأسئلة
(27) خير الكتب في أحكام القرآن وأحاديث الأحكام:
لا يعلم خير الكتب في هذا ولا غيره إلا من أحاط بها علمًا وفهمًا، وحسب
السائل أن يعرف الموجود المطبوع منها، وأشهر تفاسير أحكام القرآن المطبوعة
تفسير أبي بكر أحمد بن علي الجصاص من كبار الحنفية والقاضي أبي بكر بن
العربي من كبار المالكية، وأشهر كتب أحاديث الأحكام (منتقى الأخبار) وشرحه
(نيل الأوطار) للقاضي الشوكاني من علماء الحديث، وهو مطبوع ومعروف
للسائل، وكتاب (نيل المرام) للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، وهو أخصر من
(منتقى الأخبار) وليس فيه من الضعاف مثل ما في المنتقى، وله شروح أشهرها
(سبل السلام) للعلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وهو مطبوع
أيضًا، وخير منهما كتاب الإلمام بأحاديث الأحكام وهو غير مطبوع.
(28) هل يوجد دليل شرعي على التقليد الأعمى:
إن أصول عقائد الإسلام وضروريات أحكامه المجمع عليها قطعية، يجب
على كل مسلم العلم القطعي بها، ولا مجال فيها لتقليد أحد، والتقليد فيها مخالف
لنصوص القرآن القطعية، ومن مفاسده أن أهله لا ثقة لهم بدينهم؛ وإنما هو رابطة
جنسية أو اجتماعية لهم قد يتركونها لترجيح رابطة أو منفعة أخرى عليها، كما هو
واقع في بلاد الترك من حكومتهم، ومن أفراد كثيرين في البلاد التي فشا فيها
الإلحاد والتفرنج.
وقد نُقل إلينا في هذه الأيام أن أحد الوطنيين من طائفة المسلمين الجغرافيين
قال لبطرك الموارنة في لبنان: إنه مستعد للتعمد بالنصرانية المورانية التي هو
رئيسها إذا هو فاز بما يعارض به عميد فرنسة في سورية ولبنان في مسألة احتكار
الدخان، فمثل هذا القول لا يمكن أن يصدر من مؤمن بدين الإسلام؛ لأنه كفر
صريح به لا يتوقف على التعمد الماروني، بل فقد قائله الشعور بشرف الرابطة
الإسلامية نفسها، ودعاة التقليد الأعمى من المعممين الجاهلين يحتجون على جواز
التقليد وصحته بتعذر العلم الاستدلالي، وفهم نصوص الإسلام في هذا العصر فلم
يبق إلا التقليد؛ وإنما يعنون تقليد الناس لهم على جهلهم، ولو كانوا على علم بدينهم
لأمكنهم أن يعلموا غيرهم ما يكونون به مثلهم، ولما قالوا: إن هذا العلم صار
متعذرًا، وليس متعذرًا في نفسه بل هو في منتهى اليسر، وإذا كان يغرهم أن بعض
الأميين ومن في حكمهم من العوام يثق بما يقولون له: إنه دين من غير بينة، أفلا
يرون أن جميع المتعلمين في المدارس العصرية لا يقيم لعلمهم وزنًا، ولا يقبل منهم
قولاً؟
وأما السؤال عن سكوت كثير من المؤلفين عن بيان هذه المسائل المهمة؛
فسببه الجهل، وما أهلك المسلمين وأضاع دينهم عليهم بعد أن لبس عليهم الحق
بالباطل إلا أمثال هذه الكتب، التي ينقل بعض ملفقيها عن بعض، ما ليس للناقل
ولا للمنقول عنه به علم، وهل جاء قولهم، بل اعتقادهم بتعذر العلم اليقيني
بالإسلام إلا من اعتمادهم على هذه الكتب، وهل يصدون أمثالكم عن كتبنا إلا
لجهلهم وعجزهم هذا؟
(29) أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء:
من المعلوم بالدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه لأجل التصدق به؛
لأن التقرب إلى الله لا يكون بما حرَّمه الله؛ فإن هذا تناقض بديهي البطلان،
ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالاً ليست من
الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل
لها إن شاء الله تعالى.
(30) كون إبليس من الملائكة المعصومين:
إن كون إبليس كان من الملائكة وهو ظاهر الآيات في قصة السجود لآدم وقد
قلنا: إنه يعارضها آية سورة الكهف في استثنائه منهم {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وقلنا: إن الجن اسم جنس لهؤلاء المخلوقات
الخفية، ومنهم نوع الملائكة المعصومين لقوله تعالى في العرب الذين كانوا يقولون
إن الملائكة بنات الله {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158)
فالتحقيق إذن أن إبليس وذريته نوع من هذا الجنس، أي الجن المكلفين غير
المعصومين، ومنهم أشرار كالشياطين.
__________(34/641)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة الإمام الملك ابن السعود الموسمية
في وفود الحاج سنة 1353
(مقدمة) جرت عادة الإمام عبد العزيز الفيصل بن السعود منذ ولاه الله أمر
الحجاز وأمنه أن يأدب لخواص وفود الحاج من جميع شعوب المسلمين مأدبة
عظيمة، تكون خير وسيلة لجمعهم في مكان واحد وتعارفهم وتآلفهم - ومن ذا الذي
يستطيع جمعهم هذا غير ولي أمر البلاد؟ - وأن يلقي عليهم في هذا الجمع الحافل
خطابًا جامعًا يُذَكِّرهم بما مَنَّ الله به عليهم من إكمال دينه لهم، وإتمام نعمته عليهم
الذي أعلنه لهم في حجة الوداع رسوله محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم،
الذي بعثه رحمة لجميع العالمين، ويلم في هذا الخطاب بحالهم العامة، وما يجب
عليهم من شكر هذه النعمة، بإحياء ما أماتته البدع من هذه الهداية، ويذكر لهم
خطته هو في الدعوة إلى التوحيد والوحدة الإسلامية، وجمع كلمة المسلمين،
ويسمح لكل من شاء منهم أن يتكلم ويبدي رأيه في قوله وعمله، وغير ذلك مما
يرى في المصلحة العامة، وإن هذه لسنة من أفضل السنن التي جرى عليها الخلفاء
الراشدون، واهتدى بها السلف الصالحون، ثم أماتها الملوك المستبدون حتى جهلها
الخلف الطالحون.
وقد أقام جلالته مأدبة هذا الموسم في يوم الإثنين سادس ذي الحجة الحرام
(سنة 1353) وبلغ عدد من لبوا دعوته إليها خمسمائة ونيف من خواص مشارق
البلاد ومغاربها، نقلوا كلهم إلى القصر الملكي بالسيارات الخاصة، وكانت الموائد
التي نصبت لهم ثلاثًا، رأس جلالته أحدها، وسمو ولي عهده الأمير سعود الثانية،
وسمو نجله ونائبه في الحجاز الأمير فيصل الثالثة، وبعد فراغهم منها صعدوا إلى
الطبقة العليا من القصر حيث ألقى عليهم جلالته خطابه الحكيم، وتلاه من تلاه من
الخطباء، مشيدين بالحمد لله ثم الثناء عليه، وإقرار ما فيه من دعوة الحق إلى
الإصلاح، فنحن ننقل ذلك عن جريدة أم القرى الغراء:
* * *
نص خطبة الإمام الملك
قال جلالته بعد أن حمد الله وشكره على نعمائه:
إننا في غنى عن التنويه بعظمة هذا اليوم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل
اجتماع المسلمين فيه لأداء فريضة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام من جهة،
وللتعارف والتآلف من جهة ثانية، وقد هدانا الله جل شأنه إلى الصراط السوي في
معاش الدنيا و (حياة) الآخرة، فقال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، فالاعتصام بحبل الله واجب على كل
فرد من أفراد المسلمين؛ لأن العز كله والخير كله بذلك، فإذا نحن حدنا عن هذا
السبيل خسرنا الدنيا والآخرة.
والحقيقة أن حبل الله عز وجل هو كلمة لا إله إلا الله، إذ لا معبود سواه فهو
الأول والآخر، وعبادته باتباع ملة إبراهيم قال تعالى في كتابه العزيز: {وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء: 125) [1] فمن واجب كل إنسان أن يعمل بما أمر
الله به، وأن يطيع مولاه صاحب النعمة عليه، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بما في
كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أرسل الله الرسل لهداية الأمم
والشعوب، وإنقاذهم من الضلالة، وكانت هداية نبينا عليه الصلاة والسلام أن
أرسله الله جل شأنه في أحسن القرون، وأن بعثه إلى جميع الأمم، وقد أزال الله
ببعث النبي الكريم الشبهة والضلال، فكانت بركة الله، ثم بركة رسوله علينا
عظيمة لا تعد ولا تحصى.
وقد أمرنا الله تعالى على لسان نبيه بأمور عظيمة الشأن، لو عملنا بها لكان
حالنا اليوم غير ما نرى، لقد جعل أركان الدين الحنيف خمسة، وهي شهادة أن لا
إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت،
وصوم رمضان، فالله سبحانه وتعالى يأمر بالعمل بها مع الإخلاص النقي، والنية
الحسنة، فإذا صدعنا بأوامره جل شأنه غفر ذنوبنا وأولانا نعماءه.
فإذا فهمنا ذلك وعلمنا أن الخير بحذافيره بما أمرنا الله وجبت علينا طاعته،
وطاعته - كما قلت - هي الاعتصام بحبل الله، وذلك باجتماع المسلمين وتعاضدهم
وتكاتفهم بأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا؛ ولكننا أضعنا أوقاتنا
في شقشقة اللسان بدون فائدة، لقد تراشقنا بالكلام فتنابذنا، فكانت هذه الفرقة، وهذا
الهوان، ولو تركنا هذه الأمور التي لا طائل تحتها لكانت رحمة ربي علينا عظيمة.
يجب أن نعبد الله ونطيعه كي يوفقنا، فعلى كل إنسان أن يحاسب نفسه،
فيجتنب المعاصي والمنكرات، ويتبع أوامر الله عز وجل.
هنالك أحزاب تتطاحن، على أي شيء؟ لا أدري؟ لقد أدخل الشيطان
وساوسه في عقولنا، فتركنا حبل الله المتين، فتفرقنا أيدي سبًّا.
أما نحن فتعرفون يا إخواني سيرتنا، ليس لنا من المقاصد والغايات إلا أن
تكون كلمة الله هي العليا، نحن سرنا في الجادة ولم يكن عندنا مال ولا رجال، نحن
أهل بادية، وإن ما ترونه اليوم لم يكن إلا من بركة الله تعالى، نحن نعاهد الله
سبحانه وتعالى على السير في هذا الطريق مهما وجدنا فيه من العقبات، نعاهد الله
ونقسم أمامكم على ذلك، وإننا لن نتنكب عن الطريق السوي مهما تحملنا من
المتاعب والمشاق.
إن الذي يجمع شملنا ويوحد بيننا هو أمر صغير في ذاته؛ ولكنه كبير وعظيم،
هو الالتفاف حول كلمة التوحيد، والعمل بما أمر الله به ورسوله.
إن أحب الأمور إلينا أن يجمع الله كلمة المسلمين، فيؤلف بين قلوبهم، ثم بعد
ذلك أن يجمع كلمة العرب فيوحد غاياتهم ومقاصدهم؛ ليسيروا في طريق واحد
يوردهم موارد الخير، وإذا نحن أردنا ذلك فلسنا نروم إتمامه في ساعة واحدة؛ لأن
ذلك يكون مطلبًا مستحيلاً، كما أننا لا نرمي من وراء ذلك إلى التحكم بالناس؛
وإنما غايتنا أنه إذا لم يكن لنا من وراء هذا التضامن خير، فلا يكون لنا من ورائه
شر على الأقل.
كلكم يذكر حوادث العام الماضي، وهذا السيد عبد الله بن الوزير وهذا السيد
الحسن الإدريسي، الجالسان الآن بجانبي، ما كنا نظن أن يكون بيننا وبينهم عداوة
وبغضاء؛ ولكن الأشرار فرقوا بيننا، والله عز وجل قد جعل بعد هذا التباغض ألفة
بيننا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) لقد خشى
المسلمون من عاقبة هذا التنابذ الذي حصل بيننا؛ ولكنه أفضى إلى خير جم طرب
له المسلمون، جاء ابن الوزير إلى هنا، وحدثني في هذا المكان الجالس فيه الآن
بشأن الخلاف، فقلت له ماذا تبغون؟ إذا أنتم قتلتموني من يخسر؟ أنا وحدي،
وإذا أنا قتلتكم من يخسر؟ أنتم وحدكم، لا، لا الخسارة علينا وعليكم على حد
سواء، ولما عرفت أننا وإياهم متفقون على أن نتائج هذه الفرقة الخسران، وأن
هذا الخسران واقع علينا جميعًا، أمرت بالقرطاس والقلم وجلست أنا وإياه وحدنا،
ووضعنا مواد المعاهدة التي اطلعتم عليها، والتي قابلها المسلمون بالارتياح، فإلى
مثل هذا التضامن أدعو المسلمين إليه والعمل به.
أكثر الناس يقولون إن الأغيار هم الذين ضربونا بالصميم، ففرقوا بيننا هذا
كلام، ماذا عمل الأغيار؟ الحق أن الضرر والخسران لم يأت إلا من أنفسنا، فنحن
المسؤولون عن ذلك، نحن نسعى للتفرقة، ونحن نعمل للبغضاء، أذكر لكم مثلاً
بسيطًا يعرفه كل واحد منكم: أن صحفنا وجرائدنا إذا تكلمت عن مسلم أو عربي
تكلمت عنه بشدة وقسوة، وبلاذع القول؛ ولكنها إذا تكلمت عن غربي تكلمت بآداب
واحترام فلماذا؟
يا إخوان وجب علينا أن نحترم أنفسنا ونتكاتف ونتعاضد، فإذا نحن سرنا
على هذه الطريق وفقنا الله سبحانه وتعالى، واحترمنا العدو قبل الصديق يجب أن
نداوي أنفسنا بطاعة الله سبحانه وتعالى، فطاعته مصدر كل عز وخير لنا.
هذا ما عَنَّ لي ذكره، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لصالح الأعمال اهـ.
(المنار) هذه الخطبة تدعو إلى توحيد الملة في العقيدة والاتباع، واجتناب
الابتداع، وتوحيد الأمة بجمع كلمة شعوبها وقبائلها، واجتناب الشقاق والتفرق بينها،
وضرب له خير مثل باتفاقه مع اليمانيين، الذي حمده وسر به جميع المسلمين،
وأعجب به غير المسلمين من الغربيين والشرقيين، كما ابتهجت الأمة العربية بما
صرح به في هذا الموسم لكشافة العراق وغيرهم من بذل جهده لجمع كلمة الأمة
العربية وسنبينه بعد.
* * *
خطبة الأستاذ التفتازاني
ثم قام الأستاذ الفاضل السيد محمد الغنيمي التفتازاني فألقى خطبة رنانة كان
لها تأثير عظيم وهذا نصها.
يا رجل العرب:
لقد شاء الله ولا راد لمشيئته أن تكون رجل الساعة، وأن نصبح نحن الذين
كنا بالأمس من ألد أعدائك وخصومك في مقدمة من يناصرونك عن حب وإجلال
وإكبار.
ولم يكن ذلك غلوًّا، أو وليد شهوة مستعرة، أو إربة عاجلة؛ ولكن مجلسك
الذي تجلسه الآن تستطيع أن تُقَدِّر من مظهره مبلغ فضل الله عليك.
أليس من أكبر دلائل فضل الله عليك أن يكون آل الإدريسي عن يمينك،
ووزراء اليمن عن شمالك، والتفتازاني خطيب محفلك الآن، وقد كان هؤلاء جميعًا
بالأمس سيوفًا عليك.
شهد الله أنك أرضيت الله، وأعليت كلمة الله، وأحييت ما اندرس من شرعة
الله، وأمنت السبيل إلى بيت الله، فلم يكن بد من أن يجزيك الله سبحانه وتعالى
أحسن الجزاء، جزاء هذه المنن الخوالد.
يا رجل العرب:
منذ أربعة عشر قرنًا بعث الله من بين هذه الجبال الجرد، والهضبات
المتواضعة رجلاً يحمل المشعل الأول، يخرج الناس على ضوئه من الظلمات إلى
النور، وينزع من أعناقهم أطواق الرق التي أصارت منهم طبقات غير متلاصقة
هي أشبه بالسوائم، حتى إذا ما أنقذ البشرية ضوء ذلك المشعل، كانت إثر ذلك
النكبة الشاملة، إذا تعامى المسلمون عن ذلك النور فغشيتهم ظلمته فأنستهم الله
فأنساهم أنفسهم، فهم الآن كمريض كله قروح، وكل قرحة داء مختلف، وكلما
داويت جرحًا سال جرح.
والآن وقد أراد الله أن يدوي صوت أخاذ لينفذ إلى أعماق القلوب من بدوي
صقله الطبع المحض، وهذبته الغريزة البريئة، فهو في بلد محمد ليستعيد مجد دين
محمد.
وما كان موقفك الأخير من اليمن إلا موقف الأخوة الإسلامية والنبل العربي
المحض، وقد قضيت على دس الدساسين وكيد المغرضين، واتبعت سياسة الباب
المفتوح، فلا أغلق الله لك بابًا.
يا جلالة الملك:
إن الحجاز معبد يفد إليه المسلمون طواعية لذلك التحنان الذي يحسونه بين
جوانحهم، وكان لزامًا أن يجدوا فيه أنسهم وراحتهم، وإنك ولله الحمد لتسمع من
كل وافد مبلغ ما يحسه من غبطة واعتزاز إزاء هذا الأمن الشامل من مشارق الشام
إلى أقاصي اليمن، ومن البحر الأحمر إلى الخليج الفارسي، فقد شهدت بعيني
رأسي كيف تستطيع الفتاة العذراء أن تجتاز درب المدينة آمنة على ما تحمل من
مال، بينما كانت تلك الدروب بالأمس مباءة إجرام ومصدر إذلال.
يا رجل العرب:
إن للمسلمين أمانة على كاهلك، لئن آدت بها الجبال، فلن يئود بها هذا
الكاهل الذي استطاع أن يحمل التبعة جميعًا، هي أن تصافيهم، وأن تواصل الجهد
في تأمين سبيلهم إلى حج بيت الله، وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وإن العرب في أنحاء العالم ليحسون الاعتزاز بكل ما يرونه من مواقفك المجيدة في
سبيل نصرتهم، والدفاع عن قضيتهم، فأنت منهم وإليهم.
إن الإسلام هو جنسية شاملة لا يعرف شعوبية ولا إقليمية يستلزم بنيه أن
يؤدوا حقوقه على أن يقوموا بواجباته أيضًا، وإنك لحامل العلم اليوم في سبيل
نصرة العرب والإسلام حفظك الله، وآزرك بروح من عنده، ووفقك ورجال دولتك
الذين عرفناهم، فعرفنا جنودًا يطيعون قائدهم عن حب وإكبار، لا عن قسر وخوف،
والحب هو دعامة الحياة. اهـ.
ثم تقدم الشيخ إسماعيل الغزنوي فترجم خطاب جلالة الملك إلى اللغة الأردية،
ثم أعقبه جلالة الملك أمان الله خان ملك الأفغان السابق، فألقى خطابًا باللغة
الفارسية ترجمه إلى اللغة الأوردية الشيخ إسماعيل الغزنوي وهذا نصه:
خطاب أمان الله خان
ملك الأفغان السابق
أخي الملك:
كيف يمكنني أن أكتم ما يجيش في قلبي من الإعجاب بدراية جلالتكم وحنكتكم
في اجتياز تلك المفاوز التي أوجدتها أيدي أبالسه الإنس، وأحاطتها بأشواك حداد
طالما اعترت من قبلها الأمم الإسلامية التي تخضبت أكنافها بالدماء؛ ولكن إيمانكم
وحزمكم أيها الأخ الذي اؤتمن على أرواح المسلمين حال دون إهراق الدماء، فهنيئًا
للإسلام ببطل مثلك، وهنيئًا لي بصداقتك التي غدت إعجابًا وتقديرًا عظيمًا.
هذا وإني لأتمنى لو أن المسلمين ممن حضروا ناديكم العامر يعون ما تفضلتم
به من النصائح الثمينة، ويأتمرون بها فيما بينهم في كل عام، إذن لكان الإسلام
بخير، بل بألف خير.
وليس كبيرًا على جلالتكم أن ترشدوا المسلمين بآرائكم الصائبة، وأن تبثوا
بينهم هذه الفكرة الحميدة، حتى يعلموا أننا إذا عبدنا الله حق عبادته لا يسهل على
أحد أن يستعبدنا، وأن يسترق أعناق المسلمين في بطاح هذه الأرض التي ضاقت
بما تشاهد من شذوذنا الحاضر عن الجادة القويمة، حتى أوذي الإسلام في عزيز
أوطانهم، وذهب أكثرها مغانم لمن كانوا مغانم لنا طيبة، يوم انشقوا على أنفسهم
واختلفوا في دينهم ودنياهم.
ويزيد نصائح جلالتكم قوة أن كل ما تتفضلون به لم تنصحوا المسلمين
والعرب باتباعه إلا بعد أن ضربتم لهم المثل العالي بأنفسكم بحرصكم على الأخوة
العربية والإسلامية في المعاهدة الشريفة التي عقدتموها.
وإني لأعانق جلالتكم باسم من عقدوا على أعمالكم الخناصر، وأصافحكم على
البر والخير الدائم إن شاء الله. اهـ.
وعقبه سعادة وزير الأفغان المفوض السيد محمد صادق المجمددي فألقى
الخطاب القيم التالي:
خطاب وزير الأفغان المفوض
في المملكة العربية السعودية
وفي مصر
{الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43)
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قرنت البركة بذاته الشريفة ومحياه، أرسله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وعلى آله وصحبه
ومن والاه إلى يوم يبعثون.
أما بعد، فأسترحم من صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية أن ألقي
كلمة في هذا المحفل الإسلامي: يا صاحب الجلالة أحييكم بتحية الإسلام باسم جلالة
ملكنا المعظم المتوكل على الله محمد ظاهر شاه أيده الله، وباسم الشعب الأفغاني،
وأستمنح من جلالتكم أن تأذنوا لي بأن أوجه خطابي إلى إخواني المسلمين، إخواني
حجاج بيت الله الحرام وفود الملك العزيز العلام:
ما فُرضت هذه العبادة إلا لأداء ركن من أركان الإسلام، ولحكم تتعلق بالسفر
إلى المشعر الحرام ألا وهي التعارف والاستفسار عما يحتاج إليه المسلمون في أمور
معادهم ومعاشهم، ولا يحصل ذلك إلا بتبادل الأفكار والآراء من أولي الأبصار،
فأرجو منكم أيها الإخوان أن تستسيغوا من هذا المنهل العذب الذي (هو) سائغ
شرابه، وتعاونوا على البر والتقوى، وتعاضدوا لإعلاء كلمة الله كي تفوزوا
بمرضاة الله، واتبعوا سنة نبيكم سيدنا محمد رسول الله المنزل عليه - {قُلْ إِن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) - ولا تضيعوا هذه
الفرصة فإنه تعالى يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34)
ها أنتم على وشك أن تقفوا في عرفات والمزدلفة وتبيتوا في منى ثلاثة أيام
بلياليها، فهل تريدون أن تنتفعوا، أو تنفعوا إخوانكم بالسؤال عن موجبات تأخر
المسلمين، وأن تكبحوا جماح وساوس الشياطين، وتأخذوا في جد واجتهاد لإعلاء
كلمة الدين، والله سبحانه هو نعم المولى ونعم المعين؟
قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضًا) الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد،
والسلام عليكم. اهـ.
_______________________
(1) أول الآية (4: 125) [وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً] (النساء: 125) .(34/692)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخطب الأكبر بانتهاك حرمات الله في يوم الحج الأكبر
بعد تلك الخطب الجامعة في محفل الحاج الأكبر
في يوم العيد الأكبر الذي سماه الله يوم الحج الأكبر، في الشهر الحرام، في
البلد الحرام في البيت الحرام، بين الركن والمقام، عند طواف ركن الإسلام،
يظهر ثلاثة رجال بلباس الإحرام، من حجر إسماعيل عليه السلام، ويهجمون
بخناجرهم اليمانية ليغمدوها في صدر رجل الإسلام، مقيم شعائر الإسلام، حافظ
مشاعره العظام، كافل الأمن فيها لأهل الإيمان، من عدوان أمثالهم الخارجين عن
شرع الله، أي رجل أرادوا أن يغتالوا قاتلهم الله؟
الإمام عبد العزيز الذي أعزه الله، وأعز به الإسلام، ابن عبد الرحمن
الفيصل الذي رحم الله به جزيرة العرب وجعله فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة،
وبين السنة والبدعة، ابن السعود الذي أسعد الله به العرب وأعزهم، وأذل من
يحاول إذلالهم، تصدى لهذه الجناية هؤلاء الثلاثة من المنتهكين لحرمات الله،
المستحلين لأقدس ما حرمه الله، النابذين لكتاب الله، المستبيحين لأشرف ما حظره
الله، المؤثرين لطاعة شيطانهم من الإنس والجن على طاعة الله، في قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلاَ الهَدْيَ وَلاَ القَلائِدَ وَلاَ
آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} (المائدة: 2) وناقضي
عهده وسنته فيقوله ممتنًّا على خلقه {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا
مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) لا مغتالاً ومقتلاً، وناكثي وعده،
واستجابة الدعاء لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في سورته وسورة البقرة بأن
يجعل هذا البلد آمنًا، ومتعمدي عصيان رسوله خاتم النبيين؛ إذ قال في مثل هذا
اليوم في منى من حجة الوداع مبلغًا لأمته، خطيبًا على ناقته (أي يوم هذا؟) قال
الراوي: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: (أليس يوم النحر؟)
قلنا: بلى، قال: (أي شهر هذا؟) فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،
فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم
حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛
فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه) الحديث متفق عليه، رواه بهذا اللفظ
البخاري في كتاب العلم.
والأحاديث في حرمة مكة وأنه لا يجوز أن يقتل في أرض الحرم كله صيد،
ولا ينفر حتى من ظل يستظل به، ولا يقطع شجره كله مشهور عند المسلمين،
ومشهور أن المشركين كانوا في جاهليتهم يحترمون البيت الحرام والشهر الحرام،
وأن الرجل كان يرى قاتل والده في الحرم، فلا يعرض له بأذى ما دام فيه، على ما
تواتر عنهم من تقديس أخذ الثأر، والاستهانة بسفك الدماء.
كان أولئك الثلاثة شرًّا من عبدة الأصنام فيما حاولوا من اغتيال إمام المسلمين،
وحامي بيت ربهم، وسكانه والوافدين إليه من حجاجه وغيرهم، في أقدس مكان
منه، في أقدس زمان منه، عند أداء أقدس نسك فيه، وهو طواف الإفاضة، فأي
عدو لله ولرسوله ولدينه ولحرماته هم؟ هذا أمر إمر، وجرم نكر، هذه جناية لا
أفظع ولا أكبر منها في الإسلام؛ إذ لا يمكن وقوع مثلها في غير هذا الزمان وهذا
المكان وهذا العمل، وهذا الرجل، ألا وهو الإمام عبد العزيز ملك المملكة العربية
الذي فعل في تأمين الحرمين الشريفين ما عجزت عن مثله دول الإسلام من بعد
الخفاء الراشدين إلى عهده، حماه الله وأيده ونصره وخذل كل عدو لله وأذلهم.
هذا شأن الجناية في نظر الدين، وحكم كتاب الله وسنة رسوله وإجماع
المسلمين، وأما شأنها في نظر السياسة العامة: إسلامية ودولية؛ فقد كان فيها من
الخطر لو ظفر هؤلاء الأشرار الفجار الذين هموا بما لم ينالوا كما فعل أئمتهم من
المنافقين في غزوة تبوك من الهم بتشريد راحلة النبي صلى الله عليه وسلم به لقتله
صلوات الله وسلامه عليه، مما لا يسهل على أحد أن يحيط به، وأقربه من الفكر
- كما قال وكتب كثير من الحجاج - أن يختل الأمن العام في ذلك اليوم العظيم، ويقع
من المذابح في الحجاج ما تسفك فيها دماء الألوف منهم، وقد يقضي ذلك إلى اختلال
الأمن في الحجاز، وتدخل دول أوربة فيه لحفظ رعاياهم.
تبًّا لمغري هؤلاء الأغرار الفجار ومشتريهم لإحداث هذه الفتنة التي هي أعظم
خطر على الإسلام والمسلمين في حرم الله ومشاعره وإقامة ركنه، فلعلهم لو نالوا ما
أقدموا عليه لكان وراء ذلك من الخطر على استقلال الحجاز ووضعه تحت مراقبة
دول الاستعمار ما لا يعقله هؤلاء الأشرار، ولا يبالي به فيما يظهر شيطانهم الجهول
الختَّار، إذ لا يعقل أن يقدم هؤلاء العوام الأغمار على تعريض أنفسهم للهلاك في
الدنيا والآخرة من تلقاء أنفسهم، وهاك ما صدر من بلاغ رسمي عنهم.
* * *
البلاغات الرسمية
(رقم 24)
نبدأ بحمد الله الذي أخزى أعداءه في كل موقف، وأفسد كل تدبير لهم، وآخر
ذلك أنه عندما كان جلالة الملك المعظم يطوف طواف الإفاضة الساعة الواحدة
عربية من صباح يوم الجمعة العاشر لشهر ذي الحجة، وبينما هو في الشوط الرابع
عند الحجر الأسعد تقدم منه شخص معه خنجر، وهَمَّ بطعن جلالته، وكذلك كان
اثنان آخران من الخلف يحملان الخناجر، فالتقط سمو الأمير سعود الرجل الأمامي
ليرمي به بعيدًا، فعجل أحد رجال حرس جلالته الرجل برميه بالبندقية فقتلته، وهم
أحد النفرين اللذين كانا في الوراء بطعن سمو الأمير سعود؛ ولكنه أصيب برصاصة
من الحرس فقتلته، كذلك قُتِلَ الشخص الثالث، وثبت أن هوية الفاعلين من زيود
اليمن، والتحقيق جارٍ لمعرفة أسباب الحادث، والدافعين له، ونحمد الله على أن
جعل كيد أهل الكيد في نحورهم، وجلالة الملك وسمو ولي عهده أتما الطواف
كأن الحادث لم يقع وهما - من فضل الله - بكل خير وعافية، ويستقبلان وفود
المهنئين بالعيد السعيد كجاري العادة.
... ... ... ... ... ... ... 10 ذي الحجة سنة 1353
* * *
(رقم 25)
في الساعة الواحدة عربية من صباح يوم الجمعة الواقع في العاشر من ذي
الحجة شرع حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، وحضرة صاحب السمو الملكي
ولي العهد، ورجال حاشيتهما وحرسهما الخاص، وثلة من الشرطة بقيادة مفوض
شرطة الحرم في طواف الإفاضة، وكان الحرس والشرطة تواكب جلالة الملك
وسمو ولي العهد من الأمام واليمين والخلف، وكان البيت على اليسار، ولا يفصل
بينه وبين جلالته وسموه أحد من الحاشية والحرس، وبعد انتهاء الشوط الرابع التزم
جلالة الملك الحجر الأسود، وتقدم في سيره إلى أن حاذى باب الكعبة، وإذا برجل
يخرج من فجوة حجر إسماعيل الشامية منتضيًا خنجره، وهو يصيح بصوت مرتفع،
وبكلام غير مفهوم تمامًا، فقابل لدى خروجه أفراد الشرطة الذين يسيرون في
مقدمة الموكب الملكي، فمسك به أحدهم قاصدًا رده؛ ولكن المجرم عاجله بطعنة من
خنجره، فوقع الشرطي الشجاع أحمد بن موسى العسيري على الأرض ودمه يقطر،
فأمسك بالمجرم شرطي آخر مجدوع بن شبياب؛ ولكنه أصيب بطعنة من خنجر
المجرم فمال إلى جانب رفيقه، وفي هذه اللحظة شوهد رفيق للمجرم الأول يتقدم
من خلف الموكب والظاهر أنه خرج من الفجوة الأخرى لحجر إسماعيل، وجاء من
جهة الركن اليماني إلى قرب الحجر الأسود، فاستعد رجال الحرس الملكي ببنادقهم
إلا أن جلالة الملك أصدر أمره المطاع في تلك الساعة الرهيبة الحرجة بأن لا
يستعمل الحرس البنادق والرصاص إلا حين الضرورة القصوى، فلما ثبت أن
المجرم قد طعن شرطيين باسلين، وأن المجرم الثاني على وشك أن يصل إلى سمو
ولي العهد تقدم عبد الله البرقاوي أحد الحارسين الشخصيين لجلالة الملك من المجرم
الأول، وأطلق عليه بندقيته قبل أن يتمكن من ارتكاب جنايات أخرى، فخر صريعًا
عند مدخل حجر إسماعيل، وأما المجرم الثاني؛ فإنه تقدم مشهرًا خنجره أيضًا،
وكاد أن يطعن سمو ولي العهد طعنة نجلاء إلا أن خير الله الحارس الشخصي لسموه
عاجله برمية من بندقيته فأردته قتيلاً في الوقت الذي لامس خنجره أسفل الكتف
اليسرى لسمو الأمير سعود، فلم تحدث الطعنة سوى خدش بسيط ولله الحمد والمنة،
وحينما رأى المجرم الثالث ما حل برفيقيه، وكان قد خرج على ما يظهر من
حجر إسماعيل مع المجرم الثاني، واتجه من جهة الركن اليماني إلى جهة الحجر
الأسود أطلق رجليه للريح قاصدًا النجاة بنفسه، فصرعه رصاص بنادق الشرطة
والحرس الملكي، فسقط على الأرض وهو ينازع وظل على قيد الحياة ما يقرب من
ساعة تمكن المحققون في أثنائها من معرفة اسمه وهو علي.
ولم يمكن أن يعرف عن الجناة ساعة الحادثة شيء يدل على هويتهم، إلا أن
ملابسهم وخناجرهم تدل على أنهم من الزيود اليمانيين، وتتراوح أعمارهم بين
الخامسة والثلاثين والأربعين.
وفي هذه الأثناء أخطر مدير الشرطة العام مهدي بك بالأمر في منى، فحضر
على رأس قوة كافية من الشرطة، وشرع في إجراء التحريات والتحقيقات لمعرفة
شخصية الجناة والتحقيق عن الأسباب الدافعة لهم على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء
وسط بيت الله الحرام، وبقرب الكعبة الشريفة وفي ذلك اليوم المبارك.
وقد حصل هياج شديد بين حجاج بيت الله الحرام، واشتدت نقمة الجند
والشعب حينما عرف أن الجناة من أهل اليمن، وكاد أن يحصل ما لا تحمد عقباه
لولا أن تدارك جلالة الملك الأمر بحكمته، وأصدر أمره الكريم المشدد إلى قواد
جنده الموجودين في مكة، وإلى مدير الشرطة العام بالاهتمام بصيانة أرواح الحجاج
اليمانيين من الاعتداء، واتخاذ كافة التدابير التي تقضي على كل من تحدثه نفسه
بتخديش حرمة الحرم، وإقلاق حجاج بيته الحرام، وكان لهذه التدابير العاجلة
أحسن الأثر في منع وقوع أي حادث من حوادث الاعتداء، فقضى الناس مناسكهم
وأتموا حجهم بكل راحة وطمأنينة، ولله الحمد والمنة.
وقد بث مدير الشرطة العام عيونه وأرصاده بين حجاج اليمن الذين ثبت أن
الجناة منهم، فتوصل قبل كل شيء إلى معرفة أن ثلاثة من الزيود كانوا يقيمون
بخلاف سائر رفاقهم الزيود مع الشوافع من الحجاج اليمانيين عند امرأة في جبل أبي
قبيس، فلفت ذلك الأمر نظره، فحقق عنهم فوجد أنهم متغيبون عن منزلهم، ولم
يعودوا إليه منذ يوم الوقفة، وأرسل على الفور قوة إلى المكان، وفتش الغرفة التي
كانوا فيها، فعثر على ملابسهم وفيها جوازات باسم ثلاثة أشخاص هم:
(1) النقيب علي بن خزام الحاضري مستخدم في الجيش اليماني المتوكلي،
ونمرة جوازه (98) تاريخ 1 شوال 1353، وهو صادر من مأمور الجوازات
بصنعاء ومصدق عليه من عامل صنعاء.
(2) صالح بن علي الحاضري شقيق الأول جوازه رقم (34) بتاريخ
شوال 1353، وحرفة المذكور مزارع، الجواز صادر من مأمور الجوازات،
ومصدق عليه من عامل صنعاء.
(3) مسعد بن علي سعد من حجر برقم 63 تاريخ 5 ذي القعدة 1353،
والجواز صادر من أمير الحج اليماني السيد محمد غمضان، وصاحبه عسكري في
الجيش اليماني المتوكلي، ولذا عرضت جثث القتلى على المرأة التي كانوا في
دارها عرفت أحدهم صالحًا، وميزت ملابس الاثنين الآخرين نظرًا لتغير منظر
الوجه في الاثنين المذكورين، وذكرت أن أخت مطوف الشوافع أسكنتهم عندها،
ولدى التحقيق مع هذه صادقت على أقوال الأولى، وقد أجرى مدير الشرطة العام
التحقيق من جهة أخرى مع شيخ اليمانيين بجدة، فاعترف بأنه أعطى ورقة
التصريح للسفر من جدة باسم مبخوت وذلك بواسطة أخيه علي بن مبخوت الفران
بجدة، وقد استجلب هذا وحقق معه وعرضت عليه جثث القتلى وصورهم
الفوتوغرافية، فعرفهم واحدًا واحدًا، وذكر أن أحدهم مبخوت بن مبخوت
الحاضري هو شقيقه، بينما الاثنان الآخران هما صالح بن علي وعلي بن الحاضري
وكلاهما شقيقان، وشهد هذا الفران بأنه اجتمع مع أخيه بجدة، وبات أخوه عنده،
ثم حضر معه إلى مكة، وبات مع أخيه والاثنين الآخرين من الجناة في جبل أبي
قبيس، وهو ذهب إلى عرفات، أما الثلاثة فإنهم تأخروا في مكة، ولم يحجوا ولم
يجتمع بهم إلا في يوم العيد في الطواف، وبعد الطواف ذهب هو إلى مقام إبراهيم
بينما الثلاثة ذهبوا ومكثوا في داخل حجر إسماعيل.
ولم يعثر للآن على مسعد العسكري المستخدم في الجيش المتوكلي، كما أنه لم
يعلم للآن السبب الذي حدا به إلى ترك جوازه مع المجرمين، وقد دفنت جثث
المجرمين أمس بعد أن عرفت شخصياتهم، وما يزال الفران في السجن.
... ... ... ... ... ... ... 14 ذي الحجة سنة 1353
* * *
(تأثير الحادثة في العالم)
اضطربت أمصار الشرق والغرب، وتجاوبت برقياتها من الملوك والرؤساء
والعظماء والجماعات مهنئين لملك العرب وزعيم المسلمين، ومن جلالته شاكرًا لهم،
ومن شركات الأخبار البرقية والجرائد السياسية في العالم مذيعة للنبأ العظيم
مستفظعة للجناية شارحة لتأثيرها كأنها حدثت لتعظم شأن الرجل، وتعلي قدره،
وترفع ذكره، وقد أكبر حاضروها ومستمعو خبرها ما كان من رباطة جأشه، وقوة
عزيمته إذ أتم طوافه، وكان أول شيء فعله العناية بحجاج اليمن والمبالغة في
تأمينهم على أنفسهم، والظهور لمقابلة المهنئين بإقباله وبشاشته المعتادة، وكان أَسَرُّ
ما سَرَّ جميع المخلصين للأمة العربية البرقيات المتبادلة بين جلالته وجلالة الإمام
يحيى الذي استنكر الجناية أشد الاستنكار، وكرر التهنئة بأبلغ عبارات الإخلاص.
* * *
(تشرف الكشافة العراقية بلقاء جلالته وخطابه لهم)
في الساعة الثالثة والدقيقة 15 من يوم السبت زارت الكشافة العراقية يتقدمها
كامل بك الكيلاني القائم بأعمال المفوضية العراقية بجدة القصر العالي، حيث
تشرفوا بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، وقد شملهم جلالته بعطفه
وعنايته ومكثوا لدى جلالته ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة، ألقى خلالها رئيسهم
خطبة ضافية، فشكر لحكومة جلالته العطف الذي شمل إخوانه منذ أن دخلوا في
بلاد جلالته، ثم أنشدت الكشافة (نشيد العيد) و (نشيد الوطن) وحيوا جلالة
الملك ثلاثًا، ثم تكلم جلالته فألقى عليهم من درره ما كان له أكبر الأثر في نفوسهم،
فقال أيده الله:
(خطاب جلالته على كشافة العراق
وعهده العام للإسلام والعرب والعراق
مسرور من هذه النهضة العلمية المباركة التي ظهرت في العراق، والتي
سيكون لها أكبر الأثر في تقدم العرب، وأنا مسرور أيضًا بمشاهدتكم في بلادي
لتزداد بالتعارف الصلة التي تربط بلادنا ببلادكم، وشعبنا بشعبكم، ويتضاعف
سروري بلقياكم؛ لأنكم أول بعثة تأتينا من العراق، فذكرى هذه البعثة ستبقى في
نفوسنا.
(ترد إلينا في كل يوم من النهضة في العراق ما يسر الخاطر، ويشرح
الصدر، ونحن إذا فرحنا لذلك؛ فإنما نفرح لأنفسنا؛ لأننا نحن والعراق واحد،
تربطنا به روابط كثيرة، وأهمها أننا والعراقيون عرب، وخصائصنا واحدة فكل ما
يسر العراق يسرنا، وكل مصيبة تصيب العراق هي مصيبة لنا، نألم لألم العراق
ونفرح لفرحه، وكذلك مصالحنا مشتركة، فالعراق هو في الحقيقة سد لنا يحول
دون توغل أحد في بلادنا، فلا عجب إذا نحن عنينا بأمره عنايتنا بأمورنا.
(لذلك أنا أقول لكم في هذا المحفل الحاشد: إنني أعاهد الله على ثلاثة أمور
1- نحن دعاة ندعو المسلمين لأن تكون كلمة الله هي العليا، أعاهد الله ثم
أعاهد المسلمين على أن لا أحيد عن ذلك قط.
2- أعاهد الله على أن أكون أنا وعيالي وجندي مجاهدين في سبيل العرب،
وفي نصرة العرب.
3- أعاهد الله على أن سأبقى ما زلت حيًا محافظًا على الود مع العراق بنفسي
وشيمتي، هذا كلام من مسلم عربي يعاهد الله عليه في بيت الله الحرام أمام هذه
البعثة)
ثم ودعت البعثة جلالته، وغادروا القصر إلى الصيوان الخاص بسمو ولي
العهد حيث هنأت سموه بالنجاة، وألقى الأديب عبد الهادي أفندي الشمَّاع أبياتًا
عامرة نالت استحسان الجميع، ثم تكلم سمو ولي العهد فقال:
كلمة ولي العهد الأمير سعود
(إن هذه الحادثة لا تهمنا، لا يهمنا إلا إعلاء الشريعة الإسلامية وكلمة
التوحيد أولاً، وتأمين الأمن في بيت الله الحرام ليتمكن الوافدون من أداء مناسكهم
بطمأنينة ثانيًا، فمن واجب العرب أن يكونوا يدًا واحدة لنصرة هذا الدين الحنيف،
ولا حياة للعرب إلا بنصرة الدين، وبالاتحاد المتين، وبغير هذا لا يتم شيء قط.
(ونحن نرحب بإخواننا أبناء العراق، ونتمنى للعراق كل خير وهناء) اهـ،
ثم أنشدت الفرقة نشيد (بلاد العرب) وودعوا سموه قاصدين صيوان سمو الأمير
فيصل، فقدموا لسموه واجبات التهاني والولاء، وألقى الأستاذ نعمان العالي أفندي
خطبة فياضة كان لها الوقع العظيم، ثم تكلم سمو الأمير فقال:
كلمة نائب الملك على الحجاز الأمير فيصل
(لقد عبر الأخ الخطيب عن شعور الجميع، وردد صدى ما تكنه النفوس من
العواطف المتبادلة بين الشعوب العربية، والحقيقة أن العرب جسم واحد وبلادهم
واحدة، فإذا نزل أحدهم في بلدة من البلدان العربية فلا يشعر أنه غريب عن بلده،
وأنتم يا إخواني أحييكم وأحيي فيكم هذه النهضة القويمة، وأرجو أن لا تعتبروا
أنفسكم إلا في بيوتكم الخاصة، فهذه البلاد هي بلادكم والشعب إخوانكم) .
__________(34/700)
الكاتب: عمر الجندي
__________
محاريب المساجد ومذابح الكنائس
اعلم أن المحراب يطلق في اللغة على معانٍ: الغرفة، وصدر البيت وأكرم
مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس،
والأجمة وعنق الدابة (قاموس) ، والمذبح عند أهل الكتاب هو المحراب بالمعنى
الأول، وهو مقصورة داخل حجرة إمام المعبد، تسمى تلك الحجرة الهيكل يُصْعَد
إليها بسلم ذي درجات قليلة لا يدخلها إلا الكهنة، ومن يأذنون لهم من المذنبين الذين
يطلبون المغفرة، وهذه المقصورة عبارة عن أربعة أعمدة لا يزيد ارتفاعها عن متر
إلا قليلاً، وفوقها سقف تحته خلاء توضع فيه القرابين ودم المسيح في زعمهم،
وبعض ماء المعمودية للصلاة عليها يوم العيد، ثم يخرجها الكاهن ويوزعها على
من في المعبد تبركًا، وعليها ستارة فهي كالمقصورة التي توضع على قبور بعض
أموات المسلمين بدون فرق، غير أن المذابح أقل منها طولاً، وأصغر منها حجمًا،
وأما محراب مساجد المسلمين فهو علامة بمثل حص في وسط حائط المسجد غير
مجوفة: أو تجويف في وسطه يبلغ ارتفاعه أزيد من مترين ليكون دليلاً على جهة
القبلة لمن لم يعرفها كالبوصلة (بيت الإبرة) التي اتخذت لذلك، وليكون مبينًا لمقام
الإمام من صف المأمومين؛ لأن السنة أن يقوم الإمام أمام وسط الصف، فهي
مخالفة لمذابح أهل الكتاب شكلاً ووضعًا وصورة وغرضًا، كما يعلم من بيان كلٍّ،
ومن رؤية المحاريب في المساجد والمذابح في الكنائس، فإني رأيت ثلاثة مذابح في
الكنيسة المرقسية بالإسكندرية على الشكل والوضع اللذين بينتهما أولاً، وعرفت
الغرض منها بواسطة أحد كهنة الكنيسة القس (فِلِبِّس) والمنهي عنه بقوله عليه
الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، المروي عن سالم بن
أبي الجعد (اتقوا هذا المذابح) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى
الجهني: (لا تزال هذه الأمة - أو أمتي - بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح
كمذابح النصارى) هو المذبح أي المحراب بالمعنى المخصوص، وهو المقصورة
المخصوصة؛ لأنه الخاص بكنائسهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنما
كانت للكنائس فلا تتشبهوا بها) لا مطلق محراب؛ لأن الغرض إبعاد المسلم عن
التشبه بهم فيما هو من اختصاصهم دينيًّا أو دنيويًّا، ولذا أتى النبي صلى الله عليه
وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما باسم إشارة المحسوس و (ال)
العهدية، وأتى في حديث موسى الجهني بأداة التشبيه، وعبر فيهما بالمذابح ولم
يعبر بالمحاريب.
لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك وضع هذه العلامة في المساجد مع
قيام المقتضي، فتركها سنة وفعلها بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غرز
خشبة في مسجد قوم أسامة الجهني بعد أن خطه لهم لتكون دليلاً على القبلة كما
روى الطبراني في الأوسط عن جابر بن أسامة الجهني رضي الله عنهما فإنه قال
في حديثه: (فأتيت وقد خط أي النبي صلى الله عليه وسلم لهم مسجدًا، وغرز في
قبلته خشبة فأقامها قبلة) اهـ من المنهل المورود عن السيوطي في رسالة في هذا
الموضوع، فدل ذلك على مشروعية وضع علامة للقبلة لإرشاد الضال، فهي من
قبيل التعاون على البر ولا خصوصية للخشبة إلا بدليل.
وعسى أن يكون هذا مستند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في وضع
محراب، وعلامة ثابتة للقبلة في وسط حائط مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على
شكل يخالف مذابح أهل الكتاب، وإن لم نقف على صورته مجوفًا أو غير مجوف
والمشهور أنه لم يكن لمسجده صلى الله عليه وسلم محراب في زمنه.
ولكن روى البيهقي في السنن الكبرى عن وائل بن حجر قال: (حضرت
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه
إلى التكبير ثم وضع يمينه على يساره على صدره) ، وهو يدل على أنه كان
لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه محراب يدخله غير أنه كان مخالفًا
لمذابح أهل الكتاب بدليل النهي عنها، ولا معنى لتأويل المحراب في حديث البيهقي
بصدر المسجد وأشرف مكان فيه؛ لأن المناسب لصدر المسجد الوقوف فيه لا
الدخول الذي هو نقيض الخروج، فلم يُحْدِث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
حدثًا في الإسلام، لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن السلف
الصالح، ويبعد كل البعد أن يجهل عمر بن عبد العزيز وسلف الأمة مذابح أهل
الكتاب وكنائسهم في الشام فلا ينبغي إذًا أن يجعل محراب مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم مثلها مع ورود النهي عن التشبه بهم، خصوصًا في شعائرهم الدينية،
ثم يقره المسلمون على ذلك مع شدة حرصهم على اتباع السنة والإنكار على من
خالفها، نسأل الله أن يوفقنا إلى اتباع السنة ويهدينا سواء السبيل.
... ... ... ... ... ... ... عمر الجندي بمعهد الإسكندرية
__________(34/708)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العبرة بسيرة الملك فيصل
رحمه الله تعالى
(10)
كان آخر ما كتبته عن عملي مع الملك فيصل الخاص بالوحدة العربية أنني
أطلعته على البرنامج الذي وضعته لها فقبله كله، وجزم بقبول إخوته الثلاثة له،
وأن يكونوا إلبًا واحدًا على والدهم ليقبله، وأننا اتفقنا على عقد جلسات خاصة بيني
وبينه للمباحثة في وسيلة تنفيذه، وأن نكتم ذلك عن كل أحد (قال جلالته) حتى
إحسان بك الجابري أي رئيس أمنائه، على أن إحسان بك حلف لي يمين جمعية
الجامعة العربية في اليوم التالي لهذا الاتفاق (أي 8 شوال سنة 1338 الموافق 6
يوليو (تموز) سنة 1920) فصار عندي أمينًا على كل عمل يعمل للأمة العربية؛
ولكن هذا لا يبيح لي أن أفشي له ما هو خاص بالملك فيصل إلا بإذنه.
وأقول هنا: إن فيصلاً كان مخلصًا معي في السعي للوحدة العربية؛ لأنه أعقل
من والده وإخوته الذين اختبرهم ابن السعود ويئس من إخلاصهم ومن صدقهم كما
كتب لي في الملحق الذي كتبه بخطه ووضعه في كتابه، واطلع عليه فيصل كما
تقدم، ففهم منه أنه لا يصدقه هو أيضًا، فعذره ولم يرجع عن رأيه في السعي معي
للاتفاق معه قبل كل أحد.
ثم عرض في هذا الشهر (يوليو) ما شغلنا عن عقد هذه الجلسات وهو
تصدي فرنسة للعدوان على استقلال البلاد، وسلوك الملك فيصل ووزرائه مسلكًا
غير مرضي للمؤتمر العام، ولا لحزب الاستقلال الذي هو حزبه المعلن للاستقلال،
ولنصبه ملكًا للبلاد، وكان الشعب كله مع مؤتمره ومع الحزب والجمعية الوطنية،
ولهذا تحول عن الملك فيصل حتى يصح أن يقال إنه لم يبق معه إلا أفراد من
الموظفين الرسميين عنده، ومن المهتمين بالاتصال به لأجل المنافع الشخصية.
وقد بينت من قبل أنه لم يكن لي حظ من المكث في الشام وراء سعيي للاتفاق
معه على الوحدة العربية إلا إقناعه وإقناع حكومته بمشروع تنظيم قوى العشائر
السورية والقبائل العربية السورية للدفاع الوطني، وإن هذا لم يتم لي.
وقد كتبت في صفحة المفكرة الإجمالية لشهر يونيو (حزيران) أربع مسائل:
(الأولى) منها هذا نصها: لم أر في بالشام عملاً إصلاحيًّا قط لا في
الحكومة، ولا في الأهالي، فالحكومة ضعيفة يغلب على أفرادها ما طبعتهم عليه
الإدارة التركية من المداراة والجري على ما تعودوا، والخضوع للملك، وإن كان
كفيصل سهل القياد، ولو كان الوزراء على شيء من الابتكار وحب الإصلاح
لعملوا عملاً عظيمًا، واستعانوا عليه بفيصل.
والمسألة الثانية في وصف إرادة فيصل وإدارته، وحاله في حلمه وغضبه،
وسيرته مع الأمة والحكومة والحزب والجمعية ومعيشته الخاصة ونفقاته بين نفوذ
إحسان بك الجابري، وصفوت باشا العوا، وليس شرحها من مشرب المنار.
والمسألة الثالثة في وزارة هاشم بك الأتاسي الذي وصفته بالطيب القلب
الحيي، وذكرت مكانته عند الملك فيصل، وخصصت بالذكر من أعضاء وزارته
الدكتور شهبندر ويوسف العظمة العضوين الجديدين الذين كنا اقترحنا إدخالهما
في هذه الوزارة في جلساتنا الخاصة مع الملك فيصل لما نرجو فيهما من قوة
الشباب التي يعتدل بها ضعف الشيوخ، وجملة ما قلته فيها: إن الآمال قد خابت
فيها.
والمسألة الرابعة في الأستاذ الشيخ كامل قصاب رئيس الجمعية الوطنية الذي
كان في الشام أنشط عامل مستقل برأيه واثق بنفوذه، غير مبالٍ بمن يخالفه؛ ولكنه
أشد من فيصل في هذا؟
ومما كتبته من المذكرات الخاصة باختلال بطانة الملك فيصل وظهارته في
يوم السبت 10 يوليو ما نصه:
سرقة دفتر يومية خزينة البلاط:
علمت أن أمين صندوق البلاط الملكي (محمود الحلبي) سرق دفتر يومية
البلاط، وأن فيه قيودًا لما كان يبذله لإعانة العصابات وأمثال ذلك من النفقات
الجنونية، وأن صفوة باشا العوا ناظر الخزينة الخاصة أراد أن يحقق، وبدأ
باستنطاق من هنالك ليلة الجمعة السابقة التي سرق فيها الدفتر (أي 2يوليو) ،
فحال إحسان بك الجابري رئيس الأمناء دون استمرار التحقيق، وفر الجاني ولم
يبحث عنه أحد، ولا يختلف اثنان في أنه أعطى الدفتر للفرنسيين.
وقد سرق مثل هذا الدفتر قبل الآن عندما كان صفوة باشا في مكة المكرمة كما
أخبرني هو نفسه. اهـ.
هذا ما كتبته بنصه في 23 شوال 10 يوليو (1920) والذي أتذكره أن
الدفتر سرق من جيب الملك فيصل، ولقد كان هذا الدفتر أكبر حجج الجنرال غورو
في إنذاره الطاغي المرهق الذي أنذر به الملك فيصلاً زحفه على الشام، وكنت
أسمع أخبار بذل فيصل المال للعصابات التي تخرج على السلطة الفرنسية وتقاتلها
في حدود لبنان وكذا على الإنكليز في حدود فلسطين، وأسمع أن بعض شبابنا من
أعضاء الجمعية والحزب كانوا من سماسرة هذه الأعمال الصبيانية، فلا أكلمه ولا
أكلم أحدًا منهم في شيء من ذلك لاعتقادي أنه من العبث.
ولهذا لم يكن عندي رجاء في شيء من أمر هذه الدولة إلا ما حاولته مع
فيصل من السعي للوحدة العربية من أمراء الجزيرة وزعمائها، وإقناع والده بذلك
قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف عليه كل شيء، وإلا مشرع توحيد العشائر والقبائل
الذي يئست منه قبل اليأس من هذا؟
ولو نفذوه لما كان استيلاء الجنرال غورو على دمشق بما علم الناس من
السهولة، بل لأمكن للبلاد أن تقاوم زمنًا طويلاً، كما علم بعد ذلك من الثورة التي
خسر الفرنسيس فيها ألوفًا كثيرة من القتلى، وملايين كثيرة من الفرنكات، ولكان
يرجى أن تدخل بالمطاولة في طور جديد ينتهي بخير مما انتهت به ثورة العراق.
على أن فيصلاً قد استفاد من أغلاطه الكثيرة في سورية فوائد عظيمة أفادته
في سياسة العراق فوائد جزيلة، وبلغني أنه كان يعترف بهذا، وسيعلم المطلع على
ما نجمله من خاتمته المؤسفة في دمشق شيئًا من مرونته العجيبة وصبره، وعجز
اليأس أن يطرق باب قلبه.
__________(34/710)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأبين أحمد زكي باشا
أُلِّفَتْ في القاهرة لجنة من رجال الأدب لتأبين أحمد زكي باشا المشهور في
الأقطار (بلقب شيخ العروبة) ، وكان الاحتفال بعد تمام الاستعداد له بدار (الأوبرة
الملكية) في مساء 13 شوال الماضي الموافق 18 يناير (ك2) سنة 1935 م
تحت رعاية وزير المعارف أحمد نجيب بك الهلالي أُلقيت فيها بضع خطب وبضع
قصائد لأدباء العربية في مصر وغيرها من الأمصار , وكان موضوع كلمتي (أحمد
زكي باشا والدين) وهذا نصها بالتقريب.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة والسيدات
لا تنتظروا أن تسمعوا مني تأبينًا بليغًا للمرحوم أحمد زكي باشا كالذي
تسمعون من إخواني الخطباء أعضاء لجنة التأبين، فليس هذا من دأبي، وموضوع
كلمتي لا يدخل في باب المناقب ولا يتسع لها، ولا تباح فيه المبالغات الشعرية؛
فإنه خاص بما كان بينه وبين ربه عز وجل.
جعل إخواني أعضاء اللجنة مناقب الفقيد العلمية والعملية موضوعات معدودة
واقتسموها بين الخطباء منهم، ورغبوا إليّ أن أختار لنفسي موضوعًا أقول فيه
كلمة أقضي بها حق مودته عليّ، وبعد اعتذار لم يقبلوه مني اخترت أن أجعل
عنوان كلمتي (أحمد زكي باشا والدين) ولعلهم لم يذكروا هذا في مناقبه؛ لأنهم
يريدون بتأبينه أن يعرضوا على الناس ما كان له من صلة بهم وخدمة لهم.
ولكن رأيي واعتقادي أنه يجب الإلمام فيه بجميع جوانب تاريخه، وأنه لو
أمكن أن يستشار الآن فيما يُذْكَر به لكان ذكر صلته بربه آثر عنده وأحب إليه، وأن
الذين يحبون معرفة سيرة رجل مثله يودون أن يعرفوا هذا الجانب منها وهو
أعلاها، وربما يظن كثير منهم أن الرجل المدني العصري مثله يكون غير متدين.
وأظن أنني أعلم أصدقاء أحمد زكي بما كان من مكانة الدين من نفسه؛ فإن
أول عهدي بمعرفته أن التقينا في سنة 1916 هـ 1899 م عند المرحوم إبراهيم
باشا نجيب وكيل الداخلية، وقد أخبره الباشا الذي عقد عروة التعارف بيننا وهو
الرجل العظيم الشيخ محمد عبده إذ طلب منه أن يرشده إلى عالم يعرف الدين
معرفة صحيحة معقولة ليكلفه تلقينه لنجليه (مصطفى وإسماعيل) فكان هذا
التعريف سببًا لتوادنا، ورغبته في قراءة المنار، ودامت الموادة بيننا لم يعرض لها
انفصام (وكان من قضاء الله تعالى وقدره أن كان المتكلم هو الإمام للذين صلَّوا
على الفقيد صلاة الجنازة، ولم يذكر هذا في الكلمة، بل سبق ذكرها فيما كتبت عن
وفاته) .
فأنا ألقي على حضرتكم كلمة وجيزة فيما خبرت من تدينه، بعد مقدمة
مختصرة في بيان أن للدين أعظم تأثير في أعمال الناس الخاصة والوطنية وأنواعها،
حتى العسكرية والسياسية منها، وأعظم تأثيره هو الإخلاص والصدق والأمانة؛
فإن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر والجزاء فيه قلما يعمل إلا لمنافعه الشخصية من
المال والجاه.
أما هذه المقدمة فهي شهادة على معنى قولي هذا، شهد بها رجل من أعظم
رجال أوربة الذين قاموا بأعظم الأعمال السياسية الدولية لأمتهم ووطنهم وهو
البرنس بسمارك مؤسس الوحدة الألمانية نقلها لنا عنه أعظم رجال أمتنا في مصر
وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، رجل الإصلاح الديني والوطني الأكبر،
الذي ربى كثيرًا من رجال الدين والوطنية، ومنهم الزعيم الوطني العظيم سعد باشا
زغلول، والعلماء الذين لا يُرجى إصلاح الأزهر إلا بهم، ترجمها الإمام من
(كتاب وقائع بسمرك التي نشرها بعد وفاته أمين سره موسيو بوش) ونُشِرَتْ
ترجمتها في (رمضان سنة 1316 هـ يناير سنة 1899) من السنة الأولى للمنار.
اتفق على هذه الشهادة أعظم رجال الشرق والغرب، ولخصت منها اليوم على
اختصارها ما يكفي لإثبات ما أريد عرضه هنا للغرض الذي ترجمها الإمام ونشرناها
لأجله، إذا قال بعد ذكر إطلاعه على كلام بسمارك:
(فاستحسنت ترجمته ليطلع عليه من لم يعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا
الذين يرون أن النسبة إلى دينهم سبة، والظهور بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن
الإيمان بالله وبوحي إلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح
العلم، ولا عيبًا في الرياسة ولا ضعفًا في السياسة.
كان هذا الكلام من البرنس بسمارك على مائدة الطعام عنده، وكان سببه
سقوط شيء من مرق الطعام على غطائها، فقال البرنس كلامًا خلاصته أن قلب
الجندي يشرب الإيمان، فيغوص فيه كما غاص هذا المرق في نسيج هذا الغطاء،
فيكون هو الذي يحمله على بذل روحه في الدفاع عن وطنه.
فقال أحد جلسائه: أتظن سعادتكم أن الجندي يخطر بباله هذا في ميدان القتال؟
قال: لو كان يخطر بباله لما كان هو ذلك الوجدان الفطري) ... إلخ.
ثم قال بسمارك في سياق حديثه ما نص ترجمته بالعربية مختصرًا:
(إنني لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم
من الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه إن لم يكن لهم إيمان
بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في
الأعمال في حياة بعد هذه الحياة) ثم قال:
(لو نقضت عقيدتي بديني لم أخدم بعد ذلك سلطاني ساعة من زمان، إذا لم
أضع ثقتي في الله، لم أضعها في سيد من أهل الأرض قاطبة)
(لو لم يكن لي إيمان بالعناية الإلهية التي قضت بأن يكون لهذه الأمة
الألمانية شأن كبير، وأثر في الخير عظيم، لطرحت لساعتي ما حملته من أثقال
وظائف الحكومة) .
ماذا أقول؟ بل لولا ذلك الإيمان لما قبلت شيئًا من هذه الوظائف؛ لأن الرتب
والألقاب لا بهاء لهما في نظري، ولولا يقيني بحياة بعد الموت ما كنت من حزب
الملكية، لو لم يكن هذا اليقين لكنت جمهوريًّا بالفطرة، يتبين ذلك من الغارات التي
أشنها على هنات (خصال الشر) رجال الحاشية من مدة تزيد عن عشر سنين،
من هذا يظهر أن إيماني قد بلغ من القوة أعلاها حتى حملني بقوته على أن أكون
ملكيًّا، اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني، اهـ المراد منه.
وقد استدل على كلامه بثروته الموروثة، ومجده المورث، ومحبته للحياة
الخلوية الزراعية، حتى قال: إن الأسرة المالكة في بلاده ليست أنبل من أسرته.
بعد هذا التمهيد أذكر لكم ثلاث شهادات وجيزة على تدين فقيدنا في أول عهدي
به ووسطه وآخره (الأولى) أننا كنا في أول عهدنا نتلاقى كثيرًا في ليالي رمضان
مع جماعة من الأصدقاء كلهم يصومون ويصلون، وكان أكثر سمرنا فيها البحث في
المسائل الدينية؛ إذ كانوا يسألون من تعجبهم أجوبته عن المشكلات التي تثيرها
المعارف العصرية على الدين، فكانت هذه المباحث وقراءة المنار هما الباعثان
للفقيد رحمه الله تعالى على المراجعة الخاصة بيننا في المسائل الدينية عند الحاجة،
ومنها أنه دارت بينه وبين علماء الشرائع والقوانين الفرنسيس بباريس في صيف
سنة 1904 محاورة في عشر مسائل سألوه عن رأيه فيها، منها بحث الاجتهاد في
الفقه، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند أهل التحقيق، ومعنى القانون والفرق بينه
وبين الشريعة، فاستمهلهم ريثما يكتب إلى بعض أولي الاختصاص في مصر،
ويدلي إليهم بجوابهم عنها، وأرسلها إلى صاحب المنار فأجبته عنها وأرسلتها إليه
فترجمها لهم، ثم أخبرني بأنها كانت كافية ومقنعة، وهي منشورة في المجلد السابع
للمنار سنة 1323 تحت عنوان (الأسئلة الباريسية) والغرض من هذا أنه كان
يهتم بالدفاع عن الإسلام وبإقامة حجته، فهذا بعض عهدي به في وسط عشرتنا
شهدت به.
وأما آخر ما أشهد به كغيري فهو ما سبقني إلى التنويه به في قصيدته الأستاذ
خليل بك مطران، وهو أنه عُني في آخر عمره ببناء هذا المسجد المحكم على
أحدث قواعد الفنون لِيُذْكَر بعد موته إلى ما شاء الله من عمر الدنيا.
فإن قيل: إن في هذا ما فيه من حب الشهرة؛ فإنني أكاشف هذا الجمع بسر
أفضى به إليّ قلما يعرفه أحد، وهو أنه قد فعل في هذا القبر - بباعث الشعور الديني
الكامن في أعماق النفس؛ حتى أشربته في أخفى مكان من سويداء القلب - ما لعله لم
يخطر في بال أحد من الغلاة في التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وأقول: إنه ليس
بمشروع في هذا الشرع المبين.
ذلك أنه عندما كان في مكة المكرمة كلف المرحوم الشيخ عبد القادر الشيبي
أمين مفتاح بيت الله الحرام أن يرسل إلى غار حراء من يكنسه ويجمع كناسته
ويحفظها في وعاء ففعل، فأخذها وبذل له من الجعل أو الإكرام ما بذل، ثم جاء
بهذه الكناسة ووضعها في القبر الذي أعده لدفنه تبركًا بها، للقدوم على الله في الدار
الآخرة معفرًا بغبار الغار الذي كان يتحنث فيه ونزل عليه الوحي أول مرة وهو فيه
رسوله محمد خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين
لهم إلى يوم الدين. آمين
__________(34/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ثورة الأزهر ومنتهى علاجها
ظهر لكل ذي بصر وبصيرة أن المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية لما
يفقه أن هذه الألوف الكثيرة من طلبة العلوم الدينية في حالة ثورة فكرية وجدانية
أثارها شيخه الظواهري بسوء سيرته، ومظاهر سريرته، فمنه بدأت الفتنة وإليه
تعود، ولا علاج لها إلا إخراجه من المشيخة، والمجلس الأعلى - لقبًا لا حكمة
ورأيًا - لم يحاول علاجها إلا بإخضاعهم له تعبيدًا وقهرًا، مع العلم بدرجة احتقارهم
له اعتقادًا ووجدانًا، وإصرارهم على مقته ولعنه سرًّا وإعلانًا، وندائهم بإسقاطه جهرًا
في الأزهر وملحقاته كلها، وفي كل مسجد ومعهد وموقف ومقعد وسوق وشارع،
وبأنهم مثلوا له جنازة تبرأ اليهود والنصارى والمسلمون من تشييعها ودفنها في
مقابرهم، ويعلمون أن جمهور العلماء والمدرسين في الأزهر ومعاهده موافقون للطلبة
في رأيهم وشعورهم.
قرر المجلس ما قرر من الطرد لبعضهم، وتبليغ الحكومة ما يتبع ذلك من
وجوب تجنيدهم فلم يخضعوا، وهدد من لم يحضر الدرس في موعد عينه فلم
يحضروا؛ ولكنه اخترع شبهة قبلها كثير من الناس على علاتها، وهي أنهم
يتحدون أولياء الأمور، ويملون عليهم إرادتهم مطالبين لهم بعزل رئيسهم، ولا
يعقل أن تقبل حكومة أو رياسة أن تكون مأمورة ورعيتها الآمرة، فنصح لهم بعض
الزعماء الذين يحترم رأيهم، وتقبل نصيحتهم أن يعودوا إلى دروسهم ويفسحوا
للحكومة الرشيدة المجال لحل الإشكال ففعلوا، وعادوا وقلوبهم لم تخرج من
صدورهم، واعتقادهم وشعورهم ووجدانهم لا تزال صاحبة السلطان على ألسنتهم
وحركاتهم وسكناتهم، فرأى الشيخ أنهم لم يحضروا الدروس خضوعًا لرياسته، ولا
توبة عن إهانته، فأمر مجلسه الأعلى بإصدار قرار بتعطيل الدروس في الأزهر
والمعاهد كلها، وإلغاء هذه السنة من حسابه، فائتمر، وليكن الدين وعلومه وعشرة
آلاف طالب من طلابه ومئات الألوف من الجنيهات تنفقها الحكومة والأوقاف عليهم،
فداء للشيخ الظواهري بغيض الأمة والملة ولا حرج؛ ولكن الظواهري سيخرج
من الأزهر مذمومًا مدحورًا، ولا يجد له من مجلسه ولا من غيره وليًّا ولا نصيرًا؛
وإنما مطالبة الطلبة بعزله أخرته إلى أجل كما نصحنا لهم في تصدير كتابنا (المنار
والأزهر) .
__________(34/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كُريم أميركاني ينشر الوحي المحمدي في الشرق
وكريم مصري نشره في الغرب
لما زار مصر مستر كراين الأميركاني صديق العرب والإسلام الشهير آخر
مرة في الربيع الماضي كنت قد أصدرت الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي،
فأخبرته بموضوعه، وبأنني قد أهديته إلى كل من عرفت عناوينهم من علماء أوربة
المستشرقين، وأحب أن أهديه إلى علماء أمريكة منهم، وأرغب إليه أن يتفضل
عليّ بعناوين من يعرف منهم ومن غيرهم، ولما سافر من القاهرة إلى الإسكندرية
بعد أن تغدينا مع بعض أصدقائه على مائدته في فندق (الكونتينتال) كعادته في كل
زيارة، عهدت عند توديعه إلى صديقه ومساعده على مشروعاته النافعة الأديب
المعروف (جورج أنطونيوس) أن يذكره بمسألة هذه العناوين بعد استراحته في
الإسكندرية، ثم لما طال الأمد على سفره من الإسكندرية إلى أوربة فأمريكة أرسلت
طائفة من نسخ كتاب الوحي إلى مكتبه المعروف في نيويورك مع خطاب له أرجوه
فيه أن يتولى هو إيصال هذه النسخ إلى المستشرقين الذين يرغبون في قراءة أمثال
هذه الكتب الإسلامية في بلاده، ومر فصل الصيف والخريف ولم يبلغني عنها شيء،
وما كان من اللائق أن أسأله عنها بالكتاب، وقد كان أخبرنا هنا أنه يريد أن
ينقطع عن كل عمل حتى يدون مذكراته في بلده.
بيد أنني نسيت وهو لم ينس، فقد جاء في أوائل شهر (شوال الماضي
الموافق يناير سنة 1935) كتاب من الأستاذ جورج أنطونيوس من القدس يبلغني
فيه أنه لم يقصر في تنفيذ ما كنت عهدته إليه في أمر هذا الكتاب، وفيه تحويل
بمبلغ مائتي دولار من جناب مستر كراين يقول: إنه يرغب أن تكون ثمنًا لنسخ من
كتاب الوحي المحمدي تُرْسَل إلى المعاهد العلمية في الشرق؛ لأجل تعميم هداية الدين
الحنيف بهذا الأسلوب العصري الطريف، فشكرت لكل من المحسن بماله، والمحسن
بمقاله ووساطته فضله، وسيكون لجميع المعاهد العلمية والأندية الأدبية حظ من هذه
النسخ في الأقطار العربية والهندية والملاوية وسائر الأعجمية حتى الصين فوق ما
سبق لي إهداؤه من الكتاب مما لا أحصيه، فليعتبر بهذا مشتركو المنار الماطلون
وغيرهم من المسلمين.
__________(34/718)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة التفسير المختصر المفيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدك اللهم بما حمدت به نفسك، وباسمك أشرع في الثلث الأول من هذا
التفسير المختصر لكتابك العزيز، الذي كثر علي الإلحاح بطلبه من المؤمنين
الراضين عن (تفسير المنار) المطول، المفضلين له على غيره، بتحريه بيان ما
أنزلته لأجله من الهدى والإصلاح للبشر في أمري الدين والدنيا، وموافقته لحاجة
هذا العصر في معارفه، وإقامة حجة الإسلام والدفاع عنه، بالجمع بين صحيح
المأثور والمعقول، أحبوا أن أكتب لهم على نهجه تفسيرًا وجيزًا يسهل على كل ذي
حظ من اللغة العربية أن يتدبره ويهتدي به، وعلى كل عالم أن يقرأه كله لطلاب
العلم في زمن قصير، فإياك أستعين على إتمامه بما تحب وترضى من بينات الهدى
والفرقان، وإياك أسأل أن تؤتيني به وفيه الحكمة وفصل الخطاب، وأن تعلمني من
لدنك علمًا، وتهب لي فهمًا وحكمًا، حتى يكون القرآن حجة لي لا حجة عليّ،
واهد اللهم به كل من قرأه بنية صحيحة، واحفظنا جميعًا من زيغ من يتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة، وإبتغاء تأويله.
وإني أنصح لقارئه أن ينوي بالنظر فيه الاستعانة به على تدبر القرآن والتفقه
فيه والاتعاظ به لإصلاح نفسه، والاستعداد لإصلاح غيره، بالدعوة إلى الحق وفعل
الخير وإقامة العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر
والتقوى بين الخلق، وجمع كلمة المسلمين، دون المراء والجدل في الدين ونصر
المختلفين فيه.
وسيجدني إن شاء الله أتحرى أن أصور له المعاني الصحيحة التي تدني إليه
هذه المقاصد مجتنبًا ما يشغله عنها من مباحث اللغة كاشتقاق الألفاظ وذكر الحقيقة
والمجاز، ووجوه الإعراب، واصطلاحات الفنون، وأصول الكلام والفقه، إلا ما
كان إشارة يسهل فهمها على جمهور القراء، ككلمة تعليل وتمثيل، وإجمال وتفصيل،
ومجمل ومبين، ومطلق ومقيد، وشرط وجواب، واستئناف لبيان، وحديث
مرفوع مثلاً، فإن وجدت خفاء أو إشكالاً في بعض العبارات أو المسائل وأردت
كشف الغطاء عنها، أو الوقوف على ما فيها من الأحكام والحكم بالتفصيل، فراجع
لفظها أو معناها في تفسير المنار المطول مستعينًا بفهارسه، وبعدد الآيات والسور،
وأرجو أن يكون ما هنا أقرب إلى الصواب مما قد يخالفه هنالك، وأذكر القراءات
المتواترة بدون عزو إلى رواتها للاختصار، مع بيان معانيها وحكمتها بالإيجاز إلا
ما يتوقف على التلقي بأداء حفاظ القراء، كالإمالة وتسهيل الهمزة مثلاً، وقد قدرته
بثلاثة أجزاء كل ثلث من القرآن في جزء، وكنت بدأت بالثلث الثاني من قبل،
وأسأل الله أن يعينني على إتمامه كما يحب ويرضى في زمن قصير، وهو على كل
شيء قدير.
وكتبه محمد رشيد منشئ المنار بمصر في ذي القعدة سنة 1353.
__________(34/719)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكلمة الأخيرة لمشتركي المنار المطل
أحمد الله أنني وقفت حياتي على خدمة الإسلام بالدعوة إليه، والدفاع عنه،
وبيان حقيقته من كتاب الله بأهدى تفسير له وأصحه وأوضحه، وبإحياء سُنة رسوله
خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وإماتة ما خالفها من البدع، وبالفتاوى المؤيدة
بالدلائل في كل ما يشكل على المسلمين من أمر دينهم، وما يتعلق به من أحكام
دنياهم، وبالرد على خصوم الإسلام من الماديين والملحدين ودعاة النصرانية،
وببيان مقاصد أعدائهم من المستعمرين وتنبيههم لما يجب من مقاومتها، وقد شرحت
هذه المقاصد في 34 مجلدًا من المنار، و12 جزءًا من تفسير القرآن الحكيم، وكتبًا
أخرى آخرها (الوحي المحمدي) وليس لي على هذه الأعمال مساعد، بل أكلف
فوقها أعمالاً كثيرة منها الأجوبة على مشكلات كثيرة ترد علي من جميع الأقطار،
وغير ذلك ككتابة مقالات للجرائد والمجلات وإلقاء محاضرات ومناظرات في الأندية
والجمعيات، وكتابة فتاوى لبعضهم، وإرسالها إليهم في البريد، بله المسألة العربية
وأعمالها.
وإنني لشواغلي هذه قصرت منذ ربع قرن أو أكثر في أعمالي الإدارية
والمالية؛ حتى كثرت الديون لي وعليَّ، فطالبت المشتركين في المنار بما يسهل
عليهم من أداء أو تقسيط أو صلح على بعض المطلوب مع من يعسر عليهم أداء
جميعه، أو طلب إسقاطه كله ممن يعجز عن بعضه، وكررت هذا في السنتين
الماضيتين فلم يستجب لي إلا أقلهم.
وإذا كان هذا جزاء صاحب المنار من أكثر قرائه على خدمة الإسلام، وهم
أجدر المسلمين بتقديرها والمساعدة عليها بقيمة الاشتراك القليلة أو بعضها، فأي
عنوان يكونون لأمتهم؟ وكان خطر ببالي أن أطلب منهم إجازة سنة لأصدر للأمة
السفر الأول من (التفسير المختصر المفيد) الذي يرون مقدمته هنا، وأجعل ثمنه
للأوفياء منهم نصف ثمنه من غيرهم، فلما قاربت السنة عزَّ علي ذلك، فعزمت
على الثبات والجمع بين إصدار التفسيرين المطول والمختصر والمنار، راجيًا منهم
قضاء حقه بقدر الاستطاعة فقط.
إنني سأنشر أسماء أكثرهم دينًا للمنار في ملحق للتذكير به؛ لأنه يثقل علي
الكتابة لكل واحد منهم، وأنصفهم فيما يجيبون به، ومن أصر على المنع والسكوت
فإنني أقطع عنهم المنار، والله يتولى جزاءهم في الدنيا والآخرة، وهو حسبي ونعم
الوكيل.
__________(34/720)
المحرم - 1354هـ
مايو - 1935م(34/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من صاحب الإمضاء ببيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى، السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة الآتية راجيًا التكرم
بالإجابة عليها ولكم عظيم الشكر:
(1) هل يجوز تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية المنصوص عليها
في الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبرَيْنِ؟ فإن كثيرًا من الناس يحاولون
تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية، فيقبلون منها ما يوافق عقولهم ويتركون
ما يخالفها، وإن كان في ذلك نص أو إجماع أو قياس، فهل يجوز أم لا؟
(2) هل يجوز التقليد والتلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة ولو لغير ضرورة
قبل العمل أو بعده في المعاملات والعبادات كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة كمن
توضأ وضوءًا واجبًا، أو اغتسل غسلاً واجبًا من ماء قليل مستعمل في رفع حدث
مقلدًا لمذهب الإمام مالك، وترك الدلك مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي، وترك النية
مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة، يكون وضوءه أو غسله صحيحًا أم لا؟
(3) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز
العمل بهما أم لا؟ وهما (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (من قلد عالمًا
لقي الله سالمًا) .
(4) هل كتاب (لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة
المضية في عقيدة الفرقة المرضية) تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري
الحنبلي وكتاب (المُحلى) تأليف الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
صحيحان معتمدان يجوز الاعتقاد والعمل بجميع ما أتى فيهما أم لا؟
(5) هل ما ورد بخصوص ظهور المهدي المنتظر والدجال والدابة ونزول
سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام وحكمه بالشريعة الإسلامية صحيح يجوز اعتقاده
أم لا؟
(6) هل إعمال الحقنة في أحد السبيلين، أو في الشرايين، أو تحت الجلد،
أو التطعيم ضد مرض الجدري، أو غيره أو استعمال المضمضة، أو الداء للثة،
أو الأضراس، أو الأسنان لأجل تصليحها، أو منع وتسكين الآلام والأوجاع عنها،
وتغير طعم الفم، وبلع الريق مفطرة للصائم أم لا؟
(7) هل يجوز للإنسان أن يرتهن دارًا أو دكانًا بقيمة معلومة على أجل معلوم
بشرط أن ينتفع المرتهن بالدار أو الدكان من سكنى أو إيجار أو غيره سواء كان
للإيجار من الراهن أم غيره أم لا؟
(8) هل يجوز بيع الوفاء أم لا؟ وما كيفيته تفصيلاً؟
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ اللاذقي
(أجوبة المنار)
(31) تحكيم العقل في الدين:
ما شرع الله الدين للناس إلا لأنهم لا يستغنون عن هدايته بعقولهم، ومن كان
يؤمن بدين منزل من عند الله لا يمكن أن يقبل ما يوافق عقله منه، ويرد ما لا
يوافقه من المسائل التي يعتقد أن الله فرضها عليه من الأعمال، أو حرمها عليه من
التروك، فمن فعل ذلك كان غير متبع لدين يؤمن به قطعًا؛ وإنما متبعًا لهواه بغير
هدى من الله، فوظيفة العقل أن يعلم ويفهم ليعمل، لا أن يتحكم في دينه ولا في
قانون حكومته الذي هو وضع بشر مثله.
ثم إن عقول الناس تختلف اختلافًا كثيرًا فيما يوافق أصحابها، وما لا يوافقهم،
وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يُحَكِّمُون عقولهم في الدين دين خاص به،
وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم إن صح أن يسمى اتباعهم لها دينًا، وهو لا
يصح، فتحكيم العقل في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح؛
وإنما المعقول أن يطلب العاقل الدليل على أصل الدين، فمتى ثبت عنده وجب عليه
أن يتبع كل ما علم أنه منه، فنحن قد أقمنا البرهان العقلي على نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم ورسالته، فمن آمن به وجب أن يتبعه في كل ما جاء به من أمر
الدين، ومنه ما هو قطعي مجمع عليه بين المسلمين لا مجال للعقل في البحث عنه
ولا عن أدلته، ومنه ما ليس كذلك، فاختلفوا في إثباته ونفيه بالتبع للاختلاف في
أدلته، وفي وجه دلالته عليه كما بيناه مرارًا تارة بالتفصيل، وتارة بالإجمال
وآخرها ما في فتاوى الجزء الماضي من المنار، ومن ذلك الاختلاف في القياس
هل هو دليل شرعي أم لا، وفي حقيقته، وفي صفة دلالته وموضوعه وغير ذلك،
فلكل مسلم أن يبحث بعقله عن ذلك من طريقه، فيقبل ما صح منه بالدليل لا بالهوى،
ولا يجب على أحد أن يقبل كل ما يقوله له بعض مدعي العلم الديني، وإن رآه
غير معقول بدون دليل شرعي، وليس من الدليل ذكر الحكم في كتاب من كتب
المذاهب كما بيناه في الفتوى المشار إليها أخيرًا (راجع ص688) .
(32) التلفيق في تقليد المذاهب:
الأصل فيمن قلد مذهبًا أن يعرف أحكامه في المسائل، ويعمل بها لثقته بأدلتها
إجمالاً وتفصيلاً أو وراثة، ومن كان له نظر في الأدلة، فله أن يعمل بما اعتقد
صحته في بعضها مخالفًا لغيره، وإن أدى ذلك إلى التلفيق بين الأقوال، وعدم
موافقة صلاته لمذهب واحد من المذاهب الأربعة كاختلافها في الماء المستعمل
والقليل والكثير وأحكامها، وفي وجوب قراءة المأموم للفاتحة مثلاً؛ لأنه إنما يعمل
بما يعتقد صحة دليله في الشرع في كل فرع، لا بقول فلان وفلان لذاته؛ ولكن
يشترط ألا يخالف الإجماع في ذلك، وأما من عرف أقوال هذه المذاهب المختلفة
دون أدلتها فاختار لنفسه من كل منها ما وافق هواه لسهولته مثلاً، فهو متلاعب
بدينه، متعبد بغير علم ولا تقليد لإمام وثق بعلمه ودينه.
(33) حديث (أصحابي كالنجوم) أخرجه البيهقي عن ابن عباس، وهو
غير صحيح.
(34) جملة (من قلد عالمًا لقي الله سالمًا) ليست بحديث نبوي.
(35) كتاب لوائح الأنوار الإلهية للسفاريني من أجمع الكتب للعقائد
الإسلامية وما روي من الأحاديث والآثار وأقوال السلف فيها، ولا يخلو من أقوال
ضعيفة وآراء مختلف فيها، والعقائد يجب إثباتها بالأدلة القطعية، ودونها ما ورد
في أخبار آحاد ظنية صحيحة السند، تسلم إذا لم يعارضها قطعي، وأما الروايات
الضعيفة فلا يجوز إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الاحتجاج بها ولا
العمل بها في المسائل العملية فضلاً عن العقائد الدينية.
(36) كتاب المُحلى في الفقه للإمام ابن حزم من أجلّ كتب فقه الحديث
على مذهب الظاهرية الذين لا يقولون بالقياس، ولمؤلفه أفهام وآراء اجتهادية خالف
فيها غيره من الفقهاء يخطئ فيها ويصيب كغيره من العلماء، فمن اقتنع فيها برأيه
وفهمه كان كمن اقتنع برأي غيره من أئمة الفقه؛ فإنه إمام مجتهد كغيره، فالعبرة
بالدليل والعلماء نقلة ومرشدون.
(37) المهدي المنتظر: راجع الأحاديث المتعارضة والاختلاف فيه وفيها
فقد بسطناه في الكلام على قيام الساعة وأشراطها من أواخر تفسير سورة الأعراف
(ص451 - 502 من جزء التفسير التاسع) .
(38) أحاديث الدجال، راجعها في ص 489 من الجزء المذكور أيضًا.
(39) أحاديث نزول المسيح واعتقادها، راجع المسألة في ص753 من
مجلد المنار الثامن والعشرين.
(40) الحقن وما يفطر الصائم:
أعمال الحقن بأنواعها والمضمضة بالماء والدواء لا تفطر الصائم، وبلع
الريق بالأولى؛ وإنما يفطره بلع شيء غير الريق من مائع أو جامد؛ لأنه يعد من
الطعام والشراب اللذين لا يتحقق الصيام إلا بالإمساك عنهما مع نية التعبد، وراجع
تفصيل أحكام الصيام ومفطراته في تفسير آياته من جزء التفسير الثاني ولا سيما
الفصول الملحقة به في الطبعة الثانية.
(41) حكم الانتفاع بالرهن:
ارتهان الدار والعقار بالصفة المذكورة غير جائز؛ لأنه من أكل أموال الناس
بالباطل، وإنما ورد في رهن المحلوب والمركوب أنه ينتفع بهما في مقابل نفقتهما
(42) بيع الوفاء:
بيع الوفاء كنت أعهد له صورة في بلادنا يقول الفقهاء بصحتها، فراجعوا
المسألة في كتاب مجلة الأحكام العدلية لسهولته، وليس من شأن المنار تفصيل
المعاملات المدنية الاجتهادية.
* * *
حكم الصلاة والصيام في القطبين
وكون طلب العلم في سبيل الله
(س43 و 44) من صاحب الإمضاء في إنكلترة
ما قولكم دام فضلكم فيما هو آتٍ:
(1) تعلمون أن الإنسان كلما ذهب نحو القطب اختلفت ساعات الليل
والنهار، فهي عند خط الاستواء 12 ساعة ليلاً، و12 ساعة نهارًا، وعند القطب
ستة أشهر ليل باستمرار، وستة أشهر نهار باستمرار وتختلف فيما بين ذلك درجات.
فما حكم الشرع في مسلم يسكن في أقصى شمال الكرة، أو أقصى جنوبها،
ويريد إقامة أحكام الشرع من صلاة وصيام؟
(2) ورد في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه (من خرج في
طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع) رواه الترمذي، فهل الخروج في طلب
العلم، كالخروج للمقاتلة في سبيل الله في الثواب فقط، أو في سقوط أحكام الشرع
الشريف عن الشخص المكلف من صلاة وصيام؟
... ... ... ... ... ... ... ... دكتور محمود زين الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... طالب بإنكترا
(43) حكم مواقيت الصلاة والصيام في القطبين وما يقرب منهما:
قد بيَّنا هذه المسألة في المنار، وفي التفسير، ومنها في تفسير الآية {فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) الواردة في صيام شهر رمضان (ص
162 من جزء التفسير الثاني من الطبعة الثانية) وهذا نصه:
قال الأستاذ الإمام: وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل: (فصوموه) لمثل
الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها، وذلك أن القرآن خطاب الله
العام لجميع البشر، وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل
السنة كلها قد تكون فيها يومًا وليلة تقريبًا كالجهات القطبية، فالمدة التي يكون فيها
القطب الشمالي في ليل وهي نصف السنة يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس،
ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في
خط الاستواء وهو وسط الأرض.
أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن
يصلي في يومه (وهو سنة أو مقدار عدة أشهر) خمس صلوات إحداها حين يطلع
الفجر، والثانية بعد زوال الشمس ... إلخ، ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين
ولا رمضان له، ولا شهور؟ كلا إن من الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من
عند الله المحيط علمه بكل شيء، لا من تأليف البشر ما نراه فيه من الاكتفاء
بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه، ولو كان من عند النبي
صلى الله عليه وسلم لكان كل ما فيه مناسبًا لحال زمانه وبلاده، وما يليها من البلاد
التي يعرفها، ولم تكن العرب تعرف أن في الأرض بلادًا مقدارها كعدة أنهر أو
أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك.
فمنزل القرآن وهو علام الغيوب، وخالق الأرض والأفلاك خاطب الناس كافة
بما يمكن أن يمتثلوه، فأطلق الأمر بالصلاة والرسول بيَّن أوقاتها بما يناسب حال
البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل
البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بيَّنه
النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله المطلق، وكذلك الصيام ما أوجب رمضان
إلا على من شهد الشهر وحضره، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا
له قدره، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها
ويقصر نهارها، والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على
أي البلاد يكون؟ فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة،
وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم وكل منهما جائز؛ فإنه اجتهادي لا نص فيه.
(44) حديث (من خرج في طلب العلم) ... إلخ:
معنى الحديث أن من خرج في طلب العلم النافع كان خروجه في السبيل، أي
الطريق الموصلة إلى مرضاة الله كسائر أعمال البر؛ فإن كلمة سبيل الله عامة لا
خاصة بالقتال، وأحكام الشرع من الصلاة والصيام وغيرهما لا تسقط عن المقاتلين
في سبيل الله لأنهم مقاتلون، ولا عن غيرهم لأجل تفضيل عملهم، والصلاة أفضل
الأعمال بعد الإيمان، وهي لا تسقط عند أحد من المكلفين إلا بعذر منصوص
كالحيض والنفاس، وتجب على المقاتلين حتى في حال القتال، إلا أنه يسقط عنهم
بعض أعمالها البدنية كما ورد في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا
عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 238-239) أي: فَصَلُّوا في حالة الخوف
راجلين أو راكبين على مطاياكم وخيولكم، ويسقط الصيام عن المريض والمسافر
والحائض والنفساء وعليهم الإعادة، فلا أدري من أين جاءت السائل شبهة سقوط
الأعمال الشرعية عن المقاتلة في سبيل الله، فسأل عن الخروج في طلب العلم، هل
هو مثل القتال في هذا أم لا؟
هذا وإن طلب العلم لا يعد في سبيل الله إلا إذا كان مطلوبًا في الشرع، وكان
الاشتغال به بنية شرعية صالحة، ولم يكن سببًا لارتكاب الطالب في أثناء طلبه
شيئًا من المعاصي أو تركه لبعض الفرائض كما يفعله أكثر طلاب العلوم الدنيوية
من المسلمين في أوربة بدون عذر، فهذا لا يمكن أن يكون في سبيل الله.
__________(34/757)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأزهر الأزهر
الانقلاب الأكبر
أحمد الله عز وجل أن حقَّ رجائي وصدق مقالي الذي بسطته في تصدير
كتاب (المنار والأزهر) إذ بينت أن الشيخ الظواهري قد بلغ من إفساده الغاية،
وأنه لا يوجد في العلماء من هو أهل لرياسته وإصلاح هذا الفساد غير واحد يعرفه
أهل الأزهر كلهم ويعرفه غيرهم، ووصفته بصفاته التي لا يجرؤ أحد أن يدعيها
لغيره، بعد أن صرحت بهتاف مجاوري الأزهر في ثورتهم باسمه ولقبه.
ثم نصحت لهم قائلاً:
إخواني: إنكم ستنالون ما ترضون: من تولي من تمقتون عنكم، وتولية من
تحبون عليكم، لا بقوة مظاهرتكم لزيد وتظاهركم على عمرو؛ بل لأنه الحق
والخير والمصلحة؛ ولأن الأمة الإسلامية كلها معكم فيه؛ ولأنكم في عهد وزارة
تقدر هذه القوى الأربع قدرها، وجديرة بأن ترضي الله بإرضائها ... إلخ ما قلنا
وما هو ببعيد.
نشرت هذا التصدير في الجزء السادس من منار هذا المجلد (34) الذي
صدر في آخر شهر شعبان (سنة 1353) وحدث بعد ذلك من الأحداث ما جعل
بعض الناس يظنون أن قدم الشيخ الظواهري في الأزهر أرسخ من قدم محمد توفيق
باشا نسيم في الوزارة، وأن مجلس الأزهر الأعلى في تأييد شيخه الظواهري
وإخضاع العلماء والطلاب له أذلة مرغمين، أو يحرمهم من كل ما لهم من حقوق
العلم والدين، فقلت في آخر الجزء الذي قبل هذا وهو التاسع الذي صدر في سلخ
ذي الحجة (إن الشيخ الظواهري سيخرج من الأزهر مذؤومًا مدحورًا، ولا يجد له
من مجلسه الأعلى، ولا من غيره وليًّا ولا نصيرًا) وكذلك كان فقد قضى الله أن لا
يمر هذا الشهر (المحرم سنة 1354) حتى يخرج الظواهري منه مذؤومًا مدحورًا،
ويتولى رياسته الأستاذ الأكبر المصلح الشيخ محمد مصطفى المراغي مؤيدًا
منصورًا.
لا غرو فما نحن ممن يرمي الأقوال على عواهنها، ويتبع فيها هوى النفس،
وإنما نتكلم عن سنن الله عز وجل في الاجتماع، وما هذه الكلمة في بابها ولا هذه
اليتيمة بالفذة بين أترابها، فقد كتبت في الجزء الرابع من المجلد 29 (الذي صدر
في سلخ المحرم سنة 1347) عن توليته للمشيخة بعد الثناء على دولة مصطفى
باشا النحاس باختياره لها:
(إن بيان ما أجملته من الحكم بأن هذا المنصب لا يصلح في هذا الوقت إلا
هذا الرجل، يتوقف تفصيله على بيان حالة الأزهر من نواحيها المتعددة، وبيان مزايا
الشيخ العقلية والإدارية، ومعرفته بحالة العصر من نواحيها المختلفة، وما يحتاج
إليه الإسلام من التجديد والإصلاح، وفوق هذا كله استقلاله في فهم الدين والعلم،
فهو في الذروة العليا من نجباء تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله، فعسى أن يجعله الله
هو المتمم لما بدأ به أستاذه وأستاذنا من إصلاح الأزهر) .
ونشرت في الجزء الخامس الذي صدر في سلخ ربيع الأول من تلك السنة
مذكرة الأستاذ في إصلاح الأزهر التي قدمها للحكومة، وقرر فيها بما أوتي من
الشجاعة (أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد
صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر أن يغير التعليم في المعاهد، وأن
تكون الخطوة إلى هذا جريئة يُقْصَد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي ما تحدثه من
ضجة وصريخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بصريخ) .
وكتبت في الجزء السابع الذي صدر في سلخ جمادى الأولى منها مقالاً في
(إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد) بينت فيها وجوه حاجته إلى الإصلاح،
وتأثير رياسة المراغي في ذلك؛ حتى تعلقت به آمال الشعوب الإسلامية، وشخصت
له أبصار الشعوب الأوربية.
ثم نوهت في فاتحة المجلد الثلاثين الذي صدر في المحرم سنة 1348 ببشائر
الإصلاح، والرد على الشامتين من دعاة النصرانية الذين صرحوا في بعض
صحفهم وكتبهم بأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان
لها المجال الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم
الجامدين، قالوا: (ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين، لا يقدرون أن
يجهروا بأفكارهم لقلة عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .
ثم قلت: (وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون
بالإسلام والمسلمين، بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها على رؤوس المصلحين،
وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام، ونوابغ مريديه الأعلام،
وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وقد لقي
من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة بقدر ما كان يلقى الشيخ محمد عبده
نفسه من المناهضة والمعارضة ... إلخ، ومنه أن رسالة التوحيد صارت تُقْرَأ في
القسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي التفسير فيه)
على أن تلك السنة (1348) لم تنتصف إلا وقد انتصفت منا فتن الدهر
باستقالة الشيخ المراغي من هذه الرياسة، فكتبت في الجزء السادس الذي صدر في
سلخ جمادى الآخرة منها بصفحة واحدة ذكرت فيها ما راع العالم الإسلامي من نبأ
استقالته، وما أكبروه من خلقه العالي بها، وصرحت بأنه (لابد للمسلمين أن
يستفيدوا من مواهبه في يوم من الأيام) .
نعم، وها هو ذا قد طلع صباحه وذر قرن شمسه، وحق إلهام المنار، وصدق
قوله.
حكمة الفصل بين الرياستين:
كل ما قرره الأستاذ المصلح في مذكرته للحكومة من سوء حالة الأزهر
والمعاهد الدينية، وشدة حاجتها إلى الإصلاح، بل حاجة الدين الإسلامي إليه كان
قليلاً بالنسبة إلى ما أدخله عليه الشيخ الظواهري بعد ذلك من الفساد والإفساد في
التعليم والإدارة، والنفاق والشقاق في العقائد والأخلاق، حتى قال أحد كبار العلماء
الواقفين على الدخائل إنه لا يمضي على هذه الحال خمس عشرة سنة، ويبقى في
الأزهر ومعاهده أحد يعرف حقيقة الإسلام، وكان كلما اشتد الفساد اشتدت دعاية
شيخ الأزهر في إطراء الأزهر، وتعليم الأزهر، وإصلاح الأزهر! !
لو أن الشيخ الظواهري عرف قدر نفسه، وطور وقته فاستقال من رياسة
الأزهر والمعاهد عقب استقالة الوزارة الممقوتة رغم أنفها، حتى لا يضطر إلى
الاستقالة رغم أنفه لخفي على كثير من أهل الأزهر وغيرهم كثير من مساويه،
ومن ريائه، ومن دعايته الباطلة التي كان يضل بها الناس عن إفساده، ولما علم
الناس بأخلاقه ودخائله وما علموه بإصراره على غيه من إقدامه على إذلال أهل
الأزهر كافة من الشيوخ المدرسين، ومن الشبان المجاورين له أو حرمانهم من العلم
والدين والرزق إذا لم يقبلوا الذل بالخضوع والخنوع لمن يعتقدون فساده وإفساده لهم
ولمعاهدهم، ولقد كان ظهور هذه الغاية السوءى لهم خيرًا من بقائها خفية عليهم.
ولو أن الشيخ الظواهري استقال من أول الأمر، لكان من الممكن أن يخلفه
من لا يقدر على إدارة الأزهر وإصلاح ما فسد فيه من الشيوخ المشهورين، فإما أن
تتجدد الثورة لمقاومته، فَيُصَدِّق جماهير الناس قوله وقول أعوانه في أهل الأزهر
إنهم ثوار متمردون، وإما أن يخضعوا فيستمر الاستبداد، وما ولده من الإفساد وكل
منهما شر منافٍ للمصلحة.
فإصرار الظواهري على غيه وبغيه كان شرًّا له وخيرًا للأزهر ومعاهده
وللإسلام والمسلمين، وكان خير ما فيه انتهى إليه من اقتناع جلالة الملك كالحكومة
والأمة بأنه لا يوجد في العلماء أحد يصلح لهذه الرياسة إلا الشيخ محمد مصطفى
المراغي، وأن من الضروري أن يعهد بها إليه، ويعطى حق الاستقلال فيها، كما
اشترطه في مشيخته الأولى التي استقال منها مختارًا عندما نوزع في استقلاله.
إن خير ما استفاد الأزهر من سوء سيرة الظواهري أنه تألم منها، وشعر
بسوء عاقبتها فثار في وجهها وهب لمقاومتها، وخير من هذا أنه عرف الرجل
الوحيد الذي يرجى أن ينقذه منها، وصرح بطلبه وجعله الركن الركين لثورته، فلم
تكن كثورة الطفل الذي يشكو ألم المرض ويأبى الدواء، بل عرف المرض وعرف
الطبيب النطاسي الذي يجب تفويض أمر العلاج إليه، وحاول الهدم لأجل البناء،
وجمع كما يقول علماؤه بين التخلية والتحلية، فهذه فائدة ثورة الأزهر التي رجوت
خيرها، وكنت أرد على كل من يستنكرها وينكر على أهلها صورتها وشكلها
ويخشى سوء عاقبتها، وإن كانوا موقنين أنهم على حق فيها.
ذلك بأن الأزهر كان كالمصاب بداء السل أو مرض السكتة، يبرح به الداء
ويهوي به إلى الفناء وهو لا يشعر، وكان هوى السلطان يعبث به، فيميل معه
كيف شاء، ولقد جاء المصلح الحكيم الأول (الأستاذ الإمام) فكان الشيوخ يواتونه
ما كان السلطان راضيًا عنه، فلما رأوه معه بين بين صاروا يدارونه في الإدارة
لقوة حجته، ولا ينفذون له ما يقتنعون به، حتى إذا أظهر الأمير له العداء تظاهروا
كلهم عليه، وأجمعوا على أن الأزهر معهد ديني محض لا يجوز الاشتغال فيه بغير
العبادة وعلومها، لا علاقة له بأهل الدنيا ولا بعلومها، حتى رضوا أن يكون
للقضاء الشرعي مدرسة مستقلة يدير أمر التربية والتعليم فيها ناظر مدني لا ديني،
ثم جاء طور آخر فوض أمره إلى الحكومة، ووضع له قانونًا جديدًا أخضع له
جميع الشيوخ على علاته.
جمود الأزهر بالأمس وثورته اليوم:
كان الأزهر يتقلب في هذه الأطوار ويعبث به الأمير وحده، ثم تعبث به
حكومته بأمره، وشيوخه كما قلنا ليس لأحد منهم في ذلك رأي، والطلاب لا
يشعرون بما يُراد بهم من خير أو شر، وعلم أو جهل، فاستقال المصلح الحكيم
الأستاذ الإمام من إدارته، فاهتز مسلمو الهند لاستقالته، وأنحوا بالتثريب والتأنيب
على الأمير وحكومته، وعلى علماء الأزهر وعلى الأمة المصرية، ولم يرتفع
للأزهر صوت ولو ثار أهله عُشر ثورتهم هذه، وأرادوا بها بقاء الإمام وعدم قبول
استقالته لَتم لهم ما أرادوا، فقد كانت الحرية يومئذ أتم منها اليوم.
فالفضل الأكبر في إيقاظ الأزهر من نومه، وفي ثورته الحية الشريفة لسوء
إدارة الشيخ الظواهري وعناده، وإصراره على ما كان من استبداده، ومطاردته
للعلماء والمجاورين في الجامع الأزهر نفسه، حتى جعل الجند والشرطة يدخلونه
بنعالهم، ويخرجون طلابه من المسجد ومن حجراتهم مقهورين حاسري الرؤوس
حفاة الأقدام، يعتلونهم إلى السجون كقطاع الطرق والمجرمين عتلاً، ويسومونهم
خسفًا وذلاً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} (البقرة: 114) .
لا أبغي الآن أن أعيد ذكر تلك المساوي لبيان ما كان من مفاسدها، وإنما أريد
أن أحمد الله على حسن عاقبتها بخذلان فاعلها، وإبطال كيده للإسلام ومعاهده، وأن
أُذَكِّرَ أهل الأزهر بما يجب عليهم من حمد الله وشكره أن بدلهم بذلك الشر خيرًا،
وبذلك الإفساد إصلاحًا؛ فإنه إذا أراد بقوم خيرًا جعل لهم النقم عبرة وتمحيصًا،
ومن النعم تربية وتأديبًا، ووسد أمورهم إلى أهلها، ويسر لهم القيام بحقها.
نصيحتي الثانية للأزهر:
وإني لأقول لهم كلمة نصح ثانية لعلهم لا يسمعونها من غيري في طور هذه
النعمة، كالكلمة التي قلتها في حال اشتداد الثورة، وإني لأشد يقينًا بصحة هذه مني
بتلك، وقد نطق الزمان بصدقها، أقول: إنكم نلتم خير ما طلبتم بثورتكم في خير
الأحوال من نفي وإثبات، وسلب وإيجاب، وهو ما أيدتكم به الأمة ورضيته
لكم وأجابت الحكومة وجلالة الملك إليه، وهو أهون الأمرين اللذين يتوقف عليهما
إصلاح الأزهر، وبقي أشقهما وأعسرهما، وهو استعدادكم لقبول الإصلاح الذي
اتفقتم والأمة على أنه قد وسد إلى خير أهله، وأقدرهم على النهوض بأعبائه، فما
أنتم فاعلون اليوم؟
إنما يستفيد الناس في كل حال وزمان بقدر استعدادهم، فقد نشأ السيد جمال
الدين نابغة القرون في بلاد بالأفغان ولم يشعر بمزاياه إلا بعض أمرائها، ثم جاء
مصر فاستفاد منه بعض المستعدين للانقلاب السياسي والمدني والأدبي، ولم يستفد
من رأيه وتأثيره في بالإصلاح الديني والعلمي إلا الشيخ محمد عبده، وله اعترف
السيد بأنه خليفته في كل انقلاب دعا إليه، وقد أتيح للشيخ من دعوة هذا الإصلاح
وممارسته في إدارة الأزهر الرسمية، وفي تدريس التوحيد والتفسير والبلاغة
والمنطق ما لم يتح لأستاذه السيد، وكان الآخذون عنه أكثر عددًا، وأوسع زمنًا، ثم
كان عاقبته فيه ما أشرنا إليه آنفًا، وما أغنت عنه كثرتهم من الإصلاح شيئًا؛ إذ لم
يكونوا يبغون أخذ الإصلاح عنه؛ لأنهم لم يكونوا مستعدين له، وقل من كان منهم
يفكر فيه.
وها أنتم أولاء تجاه ثاني المصلحين، وثالث القمرين، ولقد كان يطلب العلم
في الأزهر كما يطلبه غيره؛ ولكنه كان أقرب أهله إليهما في عقلهما وأخلاقهما،
ولا سيما الشجاعة وعزة النفس، واستقلال الإرادة والفهم، وبهذا كان أجدر مَنْ
خَلَفَ الأستاذ الإمام بإصلاح الأزهر، فيجب أن يكون حظه من استعدادكم في
النصف الثاني من القرن الرابع عشر أكبر من حظ أستاذه وأستاذنا من استعدادهم
في النصف الأول منه، عسى أن يكون متممًا لما بدأ، ولا يتسنى له هذا إلا إذا كان
استعدادكم للقبول متممًا لاستعداده للإيجاب، فالمراغي لا يقدر على أن يخلق الأزهر
خلقًا جديدًا، وغاية ما يرجى له من سعيه وجهده، أن يبلغ به أحسن ما استعد له
أهله بعد زوال المانع الذي كان يحول دون ذلك، بل قال الحكماء الربانيون: إن
للرب الخلاق ذي القوة المتين سننًا في التكوين يعد بها الشيء للشيء، فيتعلق
الإيجاد بالاستعداد بمقتضى الحكمة في التقدير، وامتناع الجزاف والخلق الأنف فيه،
وهو معنى الإيمان بالقدر، ونص القاعدة الاجتماعية في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وإن للمنار مقالة في هذا
الموضوع عنوانها (الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد) نشرت في المجلد
الرابع منه (681) سنة 1319.
يوشك أن يكون الأزهر اليوم أقل علمًا وإخلاصًا في الطلب مما كان في أول
هذا القرن، ومما كان في قرون التدلي التي قبله، ولعله صار على ضعفه في العلم
أشد شعورًا بالحاجة إلى الإصلاح أو استعدادًا له، ولا يصح هذا الرجاء عند الشيخ
المراغي إلا بقدر ما يرى في العلماء والطلاب من المشاركين له في الصفات الثلاث
التي كان بها أهلاً للإصلاح، الشجاعة وعزة النفس واستقلال الإرادة والفهم، وما
وراءهن إلا العلم بحقيقة الإصلاح، وحسن النية فيه، وطلب الغاية العليا منه،
وهي ما في الإسلام والقرآن من روح الانقلاب العام المصلح للبشر، ومقاصده
العشرة التي بيناها في كتاب الوحي المحمدي، وهذه كلها أمور كسبية تعليمية، وأما
تلك الصفات الثلاث فهي وهبية في الأصل، وإنما تفيد فيها التربية الصحيحة
للنابتة الجديدة تربية الإرادة وجهاد النفس، وأين أنتم من هذه التربية وأين هي منكم؟
قد ذكَّرتكم آنفًا في هذا المقال بمذكرة الأستاذ التي قدمها للحكومة عقب توليته
الأولى لرياسة الأزهر، وقوله فيها: إن الإصلاح الذي يحتاج إليه الإسلام كله لا
الأزهر وحده يقتضي قلب نظام التعليم من أساسه ... إلخ، وعلمتم أنه كان وضع
قانونه لأجل النهوض بهذا القلب والتجديد، متوقعًا ما يلزمه ويقترن به عادة من
الصراخ والعويل، فحيل بينه وبين ما يريد فاستقال، وخلفه من نهض بضد ما أراد،
وهو الهدم والإفساد، وأهمه سوء التصرف في مناهج التعليم، وإقناع المعلمين
والمتعلمين بأن الترقي لا يكون إلا بالنفاق والدسائس والسعاية، ولا غاية له إلا
متاع الدنيا، فاستشرى الفساد فصار الإصلاح أشق، ولن يتم إلا بما قلناه إجمالاً،
وسنفصله في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
__________(34/764)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تأثير تولية المراغي لرياسة الأزهر
لقد كان سرور الناس بهذه التولية عظيمًا في مصر وسيظهر أنه يكون عامًّا
في جميع الأقطار الإسلامية، ورأينا تهاني الناس لهذا الإمام المصلح أضعاف
المعهود في تهاني أصحاب المناصب، ولولا أن أكثر علماء الأزهر أظهروا
سخطهم على الظواهري من قبل لما أقمت وزنًا إلا لتهاني من نعرف رأيه وخلقه
منهم، فالشيخ الظواهري نفسه قد هنأ المراغي أيضًا، ولكننا رأينا جميع طبقات
الشعب من الأمراء والوزراء والوجهاء والأدباء وغيرهم مجمعين على هذا، وإنا
لنرى الوفود تغدو وتروح إلى داره في حلوان وإلى إدارة الأزهر والمعاهد الدينية
في القاهرة مثنى وثلاث ورباع وجماعات في كل يوم ولا ندري متى ينتهي هذا
الزحام، وإنني أنقل عن الجرائد اليومية خبر وفود علماء المعاهد وكلمة الأستاذ
الأكبر لهم على سبيل النموذج، وهو ما نشر الأهرام في سياق التهاني والمقابلات
التي تحت عنوان (وفود العلماء) في 3 مايو سنة 1935.
كانت إدارة المعاهد الدينية في أثناء هذه المقابلات قد اكتظت بوفود العلماء
الحاشدة من مدرسي معاهد الإسكندرية، وطنطا، ودمياط، ودسوق، والزقازيق،
وأسيوط ومن العلماء المندوبين للتدريس في مختلف المعاهد الدينية، ومن الطلاب
والعلماء المفصولين الذين تقررت إعادتهم إلى دروسهم ووظائفهم في جلسة المجلس
الأعلى التي عقدت أول أمس، وما إن لمحوا فضيلته قادمًا حتى احتاطوا بالسيارة
من كل ناحية، وأخذت أصواتهم ترتفع بقولهم: فليحيا الإمام الأكبر، فليحيا
المصلح الإسلامي، فليحيا والد الأزهريين البار، وقد أرادوا أن يحملوا فضيلته
على أعناقهم؛ ولكنه أبى، وكان يلح في الإباء كلما ألحوا في الطلب ثم قال لهم:
أرجو أن تهدؤوا قليلاً حتى أتمكن من أن أصعد على قدمي، وقد أجابوا فضيلته
إلى ما طلب، وأخذوا يشقون له طريقًا حتى تمكن من الصعود إلى مكتبه.
ثم تقدم بين يدي فضيلته خطباء هذه الوفود وشعراؤها، وأخذوا يلقون كلماتهم
وقصائدهم، وقد ذكروا مواقف معينة لفضيلته في إصلاح الأسر ورعايتها بمختلف
القوانين والتشاريع وتنظيم الإجراءات القضائية الخاصة بالمحاكم الشرعية وغير
هذا من ضروب الإصلاح والتجديد، وهنا وقف فضيلة الأستاذ الأكبر وقال:
كلمة الأستاذ الأكبر
أشكركم شكرًا جزيلاً على هذه العواطف الكريمة التي تجلت في أقوال خطبائكم
وقصائد شعرائكم، وأرجو أن تنوبوا عني في تبليغ هذا الشكر إلى جميع إخوانكم،
وإلى جميع الطلبة في معاهدكم، كما أرجو أن نستقبل جميعًا: علماء وطلابًا بدء
دراستنا، وقد زال ما كان في قلوبنا.
كان ضغن وكانت عداوة بين العلماء والطلبة، وبين الطلاب والطلاب،
ولكني أعتقد أن ذلك لم يكن إلا في مقام اختلاف الرأي وتباين المذهب في صدد
حادث طارئ، ولكل وجهته ولكل رأيه ومذهبه، وأنا شخصيًّا ممن يقدسون حرية
الرأي، ويحترمون رأي الخصوم كاحترامهم لرأي الأصدقاء، وأرجو أن تكون
حرية الرأي صفة من صفات العلماء، وقد عهدتم في سيرة السابقين والسلف من
العلماء أنهم كانوا يحترمون آراء مخالفيهم، وما كان أحد منهم يخالف أو يخاصم إلا
وهو بعيد كل البعد عن الهوى والغرض، وعلى أساس حرية الرأي يبنى الدين
وتبنى الأخلاق ويبنى العلم، ويكون البناء خير ما نشتهي ونود إذا كانت المخالفة
في الرأي خالية من الهوى والغرض.
لقد كانت فتنة وجدت أول الأمر شرارة نارها في طريق الاتفاق والمصادفة،
ثم أراد بعض الناس أن يجعل العلماء وطلاب العلم حطب هذه الفتنة الشعواء،
ولكن الله سبحانه وتعالى وقى المسلمين شرها، وخرجتم من هذه الفتنة لا أقول
خرجتم من غير أن يظهر للناس بعض عيوبكم، فقد ظهرت عيوب في بعض
الطلاب، وظهرت عيوب في بعض العلماء؛ لأن هؤلاء وهؤلاء قد قرنوا المطالبة
بالإصلاح بشيء من العنف، وشيء من الخروج عن الخلق الكريم: الخلق الكريم
الفاضل الذي يجب أن يكون حلية طالب العلم الديني، وحلية العالم الديني.
ويمكنني في هذا المقام أن أصرح لكم ولجميع المسلمين في مختلف الأقطار
بأني أفضل وأوثر بأن تُخْرِج المعاهد الدينية رجلاً ذا خلق وفيه جهالة على أن
تخرج إمامًا من الأئمة، وفيلسوفًا جم البحث حاشد الذهن لا خلق له، وليس من
الخير للدين ولا لأهل الدين ولا للمسلمين والإسلام أن يوجد علماء أشرار لا خلق
لهم؛ لأن مهمتكم التي وُجدتم لها، ووُجدت لها المعاهد هي إيجاد رجال يقومون
بحراسة الدين ويرضون الله بعملهم، يتجافون عن الدنيا ويعزفون عن أعراضها إذا
وجدوا في طريقها الذلة والمهانة والمسكنة وإهدار الخُلق، والله سبحانه وتعالى لا
يرضى عن طائفة من الطوائف وُجدت لإعزاز دينه ثم استخدمت مواهبها لإذلال
أهل هذا الدين الحنيف.
لكم في سيرة السلف من علماء المسلمين، وفي آبائكم في الأزهر الشريف
قدوة خير، كانوا يرضون بالكفاف من العيش، مقبلين على العلم إقبال المخلص لله
ولرسول الله، ولست الآن من الواعظين الزاهدين الذين يرغبون في أن يباعدوكم
عن الحياة، وإذا لبست هذا الثوب فقد تكذبني الظواهر، فأنتم ترونني أستمتع
بالحياة جهد ما أستطيع؛ ولكني أدلكم على طريق المتاع: الزهد في الحياة طريق
المتاع فيها.
وجهوا أنفسكم واجتهدوا أن تخلقوا في أبنائكم هذا الروح، روح الإقبال على
العلم لله وللرسول، روح إرضاء العلم للعلم على أن تجعلوه مقصدًا لا وسيلة.
العلم شريف لا يرضى المذلة والمهانة، فإذا أكرمتم أنفسكم رضي الله عنكم
ورضيت الناس، ومتى رضي الله عنكم ورضيت الناس وجدتم من الدنيا إقبالاً،
وسعت إليكم دون أن تسعوا إليها.
وكنت أحب أن أجعل هذا الحديث معكم طويلاً؛ ولكن وقتي ضيق، وعملي
كثير، فأكتفي وأقف عند هذا القدر، وأرجو في الختام أن تكونوا رسل خير للأمة
الإسلامية، وأن يوفقنا الله جميعًا ويرشدنا للبر والخير والسلام اهـ.
__________(34/771)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خليج العقبة الحجازي وطمع الإنكليز فيه
خليج العقبة أعظم ثغر لدار الإسلام الأولى في جزيرة العرب التي بناها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، وأوصاهم في مرض موته بأن لا يبقى
فيها دينان، ومهد السبيل لفتح سياجها الشمالي بإسرائه إلى المسجد الأقصى وغزوته
لتبوك، وأتم عمله خليفتاه أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما بفتح بيت المقدس،
والشام، فهذا الثغر الحجازي هو الحَلْْْق الذي يدخل منه إلى جوف هذه الدار، والخط
الممتد منه إلى معان، وتبوك فالشام، فالعراق هو حبل الوريد لحياة هذه الدار،
ولم يكتف الإنكليز بالسيطرة على فلسطين وشرقي الأردن باسم الانتداب حتى أرادوا
التوسل بذلك إلى السيطرة الحربية والتجارية على هذا الثغر وهذا الخط؛ لتكون حياة
الحجاز ونجد في قبضتهم مع القسم الشمالي من دار الإسلام حتى لا يبقى للإسلام
دار مستقلة، واستعمالهم لعلي وعبد الله ابني الملك حسين لهذه السيطرة ومنازعة
الملك عبد العزيز بن السعود لهم فيها معروفة، وتأجيل الفصل في هذا النزاع إلى
مفاوضة ثانية بعد مفاوضة بحره معروف؛ ولكن الإنكليز يمهدون السبيل لهذا
الغرض القديم مرة بعد أخرى، وقد أحدثوا في هذا الربيع حدثًا مخيفًا بزيارة رئيس
أركان الحرب العامة للعقبة وحدود شرق الأردن أوجب على الجرائد تجديد البحث،
فنشر المقطم في 28 مارس سنة 1935 برقية في الموضوع علق عليها محرر
المباحث العربية فيه المقال الآتي في اليوم التالي:
العقبة بين مصر والحجاز وإنكلترا
لخَّص مُكَاتِب المقطم اللندني في برقياته أمس رسالة جريدة المورننج بوست
لمكاتبها من عَمَّان جاء فيها (أن منطقة العقبة وقد كانت تابعة لمصر من مدة طويلة
ستكون موضوعًا لمباحثات دولية، وأن السر أرشيلد منتغمري مسنبرد رئيس هيئة
أركان الحرب العامة يتعهد مواقع الدفاع في شرق الأردن على الحدود، ويطلب
الملك ابن سعود أن تكون العقبة له) .
والواقع أن زيارة رئيس هيئة أركان الحرب لفلسطين وشرق الأردن في مثل
هذه الآونة من الحوادث التي استوقفت الأنظار، فقد استدل منها الناس على عناية
البريطانيين بمستقبل تلك البلاد ورغبتهم في تحصينها والدفاع عنها إذا لزم الأمر.
ولكن هنالك ملاحظة تتعلق بالدفاع عن تلك البلاد نريد أن نلفت النظر إليها
ونطرحها للبحث لمعالجتها من الوجهة الحقوقية والدولية، وخلاصتها أن فلسطين
وشرقي الأردن ليست من ممتلكات التاج البريطاني فتحشد فيها الحكومة البريطانية
القوات، وتجعلها دار حرب وكفاح في حالة حدوث حرب بينها وبين دولة أجنبية،
وإنما هي وديعة أودعتها جامعة الأمم لبريطانيا لكي تعدها للاستقلال وحكم نفسها
بنفسها، على أن تجلو عنها وتعيد إليها حريتها واستقلالها يوم تبلغ أشدها، وتصبح
قادرة على حكم نفسها، وذلك بقرار تصدره جامعة الأمم نفسها كما جرى مع العراق
فقد تحررت من الانتداب بموجب قرار أصدرته الجامعة في سنة 1932.
وفضلاً عن ذلك فإن صك الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن الذي
أقرته جامعة الأمم في سنة 1922 لا ينيل بريطانيا هذا الحق، ولا يعترف بجعل
البلاد جزءًا من أجزاء ممتلكاتها، فقد جاء في المادة 17 من هذا الصك ما نصه:
(يجوز لحكومة فلسطين أن تنظم - على قاعدة اختيارية - القوات اللازمة
للمحافظة على السلم والنظام وللدفاع عن البلاد بشرط أن تكون تحت إشراف الدولة
المنتدبة، ولا يجوز لحكومة فلسطين استخدام هذه القوات لأغراض غير ما تقدم إلا
بموافقة الدولة المنتدبة، وفي ماعدا هذا لا يجوز لإدارة فلسطين أن تجمع قوات
عسكرية أو بحرية أو جوية أو تبقيها عندها.
(وليس في هذه المادة ما يمنع إدارة فلسطين من الاشتراك في نفقات القوات
التي تكون في فلسطين، ويحق للدولة المنتدبة في كل وقت أن تستخدم طرق
فلسطين وسككها الحديدية وموانيها لحركات القوات المسلحة، ونقل الوقود
والمهمات) .
هذا ما ورد في صك الانتداب خاصًّا بالعلاقات العسكرية بين الدولة المنتدبة
والبلاد المشمولة بالانتداب، والمقصود بها هنا (فلسطين وشرق الأردن) وهي لا
تجيز لهذه الدولة أن تجعلها قاعدة من قواعدها الدفاعية، ولا أن تزجها في حرب إذا
خاضتها، وإن لم يك هنالك ما ينذر بقرب إعلان هذه الحرب؛ لأنها بلاد مستقلة
ذات سيادة؛ ولأنها ليست سوى وديعة مؤقتة بيد بريطانيا، ولا يجوز للمودَع
(بالفتح) أن يتصرف بالودائع ويغيرها أو يبدل شكلها إلا لضرورة.
ومع كل ما يكتب ويقال فإننا نعتقد أنه ليس هنالك ما يبعث على التشاؤم،
وإنما أردنا التذكير من وجهة عامة، ولفت نظر ذوي الشأن إلى أن البلاد التي
ينتدب لها لا تعد جزءًا من ممتلكات الدولة المنتدبة ليجوز لها أن تتصرف بأمورها؛
وإنما هي وديعة مؤقتة أودعت تحت يدها لِأَجَلٍ تسميه جامعة الأمم وتحدده.
(مصر والعقبة)
ولقد كانت العقبة - وهي لا تبعد عن حدود مصر الشرقية في الوقت الحاضر
سوى بضعة كيلو مترات، والواقف في آخر هذه الحدود يشاهدها بالعين المجردة -
جزءًا من أجزاء مصر حتى عهد الخديو إسماعيل فتنازل عنها لتركيا، ولما حددت
الحدود نهائيًّا بين مصر وتركيا في سنة 1906 أدخلت نهائيًّا ضمن الحدود
العثمانية، وألحقت بلواء الكرك (شرق الأردن اليوم) وصارت جزءًا من أجزائه.
(الحجاز والعقبة)
ولما نشبت الثورة العربية في أثناء الحرب العظمى احتل العرب هذا الثغر في
سنة 1917، واتخذوه قاعدة لأعمالهم العسكرية في جنوب سورية، فأُلحق من ذلك
العهد بحكومة مكة، وظل جزءًا من أجزائها حتى يوم 18 مارس سنة 1924،
فأعلن الملك حسين تنازله مؤقتًا عن إدارة معان والعقبة لإمارة شرق الأردن، وفي
يوم 18 يوليو سنة 1925 أعلن الأمير عبد الله ضم معان والعقبة نهائيًّا إلى إمارته،
وذلك بناء على اتفاق عقده مع أخيه الملك علي، وذلك في الوقت الذين كان فيه
ابن سعود يهاجم الحجاز ويحاصر جدة.
(ابن سعود والعقبة)
وأبى ابن سعود أن يعترف بما تم بين الملك علي والأمير عبد الله بعد استيلائه
على الحجاز، وأعلن أنه لا يقر ما وقع، بل يعده من قبيل التواطؤ، وأنه لا يزال
يعتبر معان والعقبة من أقطار الحجاز، وأن ما جرى بين الأخوين لا يقيده ولا
يسري عليه.
وأثيرت هذه المسألة في المفاوضات التي دارت في جدة بين الحكومة
السعودية والحكومة البريطانية، فتقرر الاحتفاظ بالحالة الراهنة فيها إلى أن تحين
الظروف المناسبة لتسوية مسألتها تسوية نهائية مع الوعد من جانب الحكومة
السعودية بأن لا تتدخل في إدارتها.
هذا ما تم الاتفاق عليه في شهر مايو 1926 في جدة بين السر جلبرت كليتن
باسم بريطانيا، والأمير فيصل السعود باسم الحكومة العربية السعودية، وقد تعهدت
فيه هذه الحكومة بأن تحترم الحالة القائمة في هذه المقاطعة إلى أن تحين الظروف
المناسبة، فهل حانت هذه الظروف الآن؟ وهل لذهاب رئيس هيئة أركان الحرب
الآن إلى فلسطين وشرق الأردن - ويقولون إنه جاء ليحقق عن هذه المسألة - صلة
بحلول هذه الظروف؟ إننا نشك في صحة هذه الرواية، وندعو إلى مقابلتها
بالاحتياط، فلم يرد في المصادر الأخرى ما يدل على أن الحكومة السعودية أثارت
هذه القضية، أو أنها تنوي إثارتها على الأقل، كما أنه ليس هنالك ما يدل على أن
بريطانيا تعيدها بسهولة إلى الحكومة السعودية لاعتبارات معروفة بداهة، وإنما هي
أقوال تقال، وإشاعات تشاع، ويراد بها ذر الرماد بالعيون، وسنرى ما يكون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين سعيد
(المنار)
الحق أن ثغر العقبة ثغر عربي حجازي في موقعه الجغرافي، فسكان ضفتيه
ما زالوا من صميم عرب الحجاز، وتصرف الدولة العثمانية في إدارة هذه البلاد
كان من حقوق سيادتها على الحجاز وسورية الجنوبية (فلسطين) والشمالية ومصر،
ولما شعرت بطمع إنكلترة فيه ألحقته بالحجاز نهائيًّا، كما بينت ذلك في الجزء الثاني
والثالث من مجلد المنار التاسع سنة 1325 وهو:
مسألة العقبة
(منقولة من ص 157 ج 2 م 9 منار الذي صدر في صفر سنة 1325)
كان أهل الرأي في الدولة وأصحاب النفوذ في المابين يرون منذ شرع في
سكة الحجاز الحديدية أن من الضروري إحداث ناشط لها ينتهي بفرضة العقبة في
البحر الأحمر، وقال بعضهم: إذا عجزنا عن إيصال السكة إلى الحرمين، فإن ربحنا
من السكة لا يكون قليلاً إذا استعضنا عن ذلك بإيصالها إلى العقبة، وقد اجتهد
الصدر الأعظم ومختار باشا الغازي، وعزت باشا العابد، وصادق باشا العظم
اجتهادًا عظيمًا في إقناع السلطان بوجوب إنشاء هذا الناشط منذ سنين، فكان يأبى
ذلك ويحتج بأن هذا يكون وسيلة لتداخل الإنكليز في بلاد العرب، فلما أعياه أمر
ثورة اليمن اقتنع بأن إخضاع تلك الولاية وتمكين السلطة فيها من بعض فوائد ناشد
العقبة من سكة الحديد فأمر به وأرسلت الجنود العثمانية إلى العقبة لتمهيد العمل،
فلما رأت إنكلترة ذلك خافت من الدولة على مصر أضعاف ما كان يخاف منها
السلطان على بلاد العرب، واعتقدت أنه ما دفع السلطان على هذا العمل إلا ألمانيا
الدائبة في مناهضة إنكلترة، وأنه لا يبعد أن يتفق السلطان مع عاهل الألمان على
الزحف على مصر بعد وصول الناشط إلى العقبة، فأرادت بناء معاقل عسكرية
هناك باسم مصر، فكانت الدولة بالمرصاد، فمنعت الجنود المصرية من البناء
بالتهديد، فأنشأت إنكلترة تعارض الدولة بأن جنودها احتلت نقطة مما كانت سمحت
به لمصر من أرض سيناء واشتدت في ذلك بلسانها وبلسان الحكومة الخديوية التي
تنطق بوحيها على أن إنكلترة قد غيرت حدود مصر في شبه جزيرة سيناء في
الخرائط الجغرافية التي جددتها المدارس المصرية منذ بضع سنين.
مسألة العقبة
منقولة من ص 231 ج 3 م 9 منار الذي صدر في ربيع الأول سنة1325
بيَّنا في الجزء الماضي أن حقيقة المسألة عسكرية لا إدارية تتعلق بالحدود،
فهي أول وليد ولدته لنا سكة حديد الحجاز، فالدول العلية ترى أن إنكلترا تخاف
عاقبة هذه السكة على مصر، فهي تريد اتقاء الخطر بإقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء؛ لأن محاربتها في مصر إذا دخلت فيها غير معقول وهي تخاف من
إنكلترة على سورية والحجاز إذا هي جعلتها بقعة عسكرية باسم مصر؛ ولذلك كان
السلطان غير راضٍ بإنشاء ناشط من السكة إلى العقبة، ولما اضطر إلى ذلك
باستفحال الثورة في اليمن رأى أن إنكلترة أنفذت الجنود المصرية إلى العقبة للبناء،
كما قيل، ورأت الجنود المصرية ومن يقودها من الإنكليز أن العساكر العثمانية
بالمرصاد، فظهر الأمر وبدأ الخلاف بالشكل الذي عرفه الناس وهو أن الترك قد
اعتدوا الحدود المصرية، ولعل الذي نبه الترك إلى أخذ الحذر من الإنكليز هو
تعيين خمسة آلاف جنيه مصري في ميزانية مالية مصر باسم شبه جزيرة سيناء.
فَهَمُّ الإنكليز من جعل العقبة تابعة لولاية الحجاز أن الدولة العثمانية تريد بذلك
أن تمنعها منهم بسياج ديني، وهو إثارة سخط المسلمين في مستعمراتهم وغيرها
عليهم إذا مدوا أيديهم إليها، وما كانت الدولة لتحسن استخدام هذه القوى المعنوية
ولو كانت تريد ذلك لما حال دونه جعل العقبة تابعة لسورية؛ لأنها على كل حال
من جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا
يبقى فيها دينان وأن يخرج منها يهود يثرب ونصارى نجران، وقد قاوم الإنكليز ما
توهموه من الدولة بإياهم من جنسه فأنشأوا يوهمون شعبهم وسائر الشعوب الأوربية
بأن السلطان يريد تهييج التعصب الإسلامي على المدنية الأوربية، وربما وجدوا
لإيهامهم شبهة في ثرثرة أحداث السياسة في مصر الذين جعلوا اسم الإسلام والخلافة
ضيعة يستغلونها، وإن أضاعوا الإسلام الذي لا يعرفون منه إلا اسمه.
لولا أن الدولة العثمانية حذرة من عمل عسكري في سيناء: باب سوريا
والحجاز لما بالت أن تزيد في مساحة ما سمحت به لمصر منها، ولولا أن إنكلترا
حذرة من تركيا على مصر لما عظمت من أمر الحدود المصرية ما عظمت، ولولا
أنها تتوقع هيجان مسلمي مصر أو ثورتهم إذا استحكمت حلقات الخلاف بينها وبين
تركيا لما أمرت بزيادة جيش الاحتلال، فإذا كان سبب النزاع هو ما يعبرون عنه
بسوء التفاهم، فما أسهل سبيل الاتفاق مع حفظ شرف الدولتين وهو أن تعترف
تركيا بحدود مصر التي ذكرت في فرمانات تعيين الخديويين، وفي تلغراف الصدر
الأعظم الملحق بفرمان عباس حلمي باشا الثاني، وتتعهد إنكلترا بأن لا تعمل في
شبه جزيرة سيناء عملاً عسكريًّا، وقد أساءت الدولة المدخل فعسى أن تحسن
المخرج.
نحن نعتقد أن الدولة العثمانية لا يخطر لها على بال - وهي في هذه الحال -
أن تزحف على مصر، أما إنكلترة فلا يبعد أن تقصد إقامة المعاقل الحربية في شبه
جزيرة سيناء باسم مصر باعتبار مصر حكومة إسلامية لا تعد إقامتها على أبواب
الحجاز أو أملاكها لجزء من الجزيرة مخالفة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم،
وقد كان يكون ذلك بكل هدوء وسلام لو لم تعارضه الدولة العثمانية وتقاومها فيه
إنكلترا بعد عجز الحكومة المصرية - وإنما نعني بالهدوء والسلام هدوء نفوس
المسلمين وسلامة قلوبهم، وأن تظفر إنكلترا بتركيا ظفرًا مبينًا، وتلزمها بالاعتراف
بالحدود كما تريد، وتجعل بعدُ أرضَ سيناء معسكرًا ولو مصريًّا؛ فإن كل مسلم في
الدنيا يتأمل ويضطرب قلبه، ويظن بالدولة الإنكليزية ظن السوء ويتوقع الاعتداء
على الأرض المقدسة كل يوم، وقد عرفنا من حكمة هذه الدولة في السياسة البعد
عن جرح الشعوب في قلوبها، وإن هي جرحتها في أبدانها ورءوسها (مصالحها
وحكامها) .
إن جميع عقلاء المسلمين يفضلون دولة إنكلترة على جميع الدول، وإذا أيقنوا
بأن قطرًا من أقطارهم واقع تحت سلطان أجنبي، وكان لهم اختيار في الترجيح؛
فإنهم يرجحون بريطانيا العظمى على غيرها ويعتقد رجال الإصلاح منهم أنه لا
يمكن الإتيان بعمل يحيي الإسلام وينفع المسلمين في بلاد إسلامية غير مصر
والهند، بل لا حرية للمسلمين في الدعوة إلى كتاب ربهم المنزل، وسنة نبيه
المرسل، إلا في هذين القطرين، فلبريطانيا العظمى أن تعتقد هذا الاعتقاد عونًا لها
على كل دولة تناوئها في الشرق، وعليها أن تحافظ عليه وتتحامى مواقف الظنة فيه؛
فإن امتلاك القلوب بالحكمة خير من امتلاك الرقاب بالقوة، ولتكن آمنة جانب
المسلمين، واثقة بتفضيلهم إياها على غيرها ما دام دينهم محفوظًا، ومعاهده المقدسة
آمنة من اعتداء الأجنبي عليها، أو تداخل غير المسلم فيها، ولا يصدنها عن هذا
الاعتقاد تشدق المغررين بالغوغاء، فالزبد يذهب جفاء وإنما الناس بالعقلاء
والفضلاء اهـ.
هذا ما كتبته منذ 29 سنة في تحذير الإنكليز من الاعتداء على خليج العقبة
باسم مصر التي كانت مستقلة تحت سيادة الدولة العثمانية، وتذكيرهم بأن التدخل
في أمرها يعده جميع المسلمين اعتداء على الدين الإسلامي نفسه، وأن الخوف على
الحجاز الآن من جعل هذا الخليج تحت سيطرة الإنكليز أشد ما كان في عهد الدولة
العثمانية من جوانب كثيرة، أهمها أنه يمكِّنهم من قتل الإسلام صبرًا في عقر داره،
وجعل الحرمين الشريفين تحت سيطرتهم العسكرية بحجة الانتداب على شرق
الأردن وخدمة أميره عبد الله ابن الملك حسين وهي حجة باطلة، وما اعتداؤهم ولا
غيرهم على الإسلام إلا بمساعدة الخونة من المسلمين، فعلى ملك البلاد العربية
السعودية أن يحفظ حق الإسلام ووصية نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه البلاد
التي حرمها على غيرهم بوصيته في مرض موته، وما فعله علي بن الحسين وهو
محصور في جدة من هبة العقبة ومعان لأخيه عبد الله لا قيمة له شرعًا ولا قانونًا
في ذاته، كما قرره المؤتمر الإسلامي العام في مكة المكرمة سنة 1344، ولا في
حيلة الانتداب كما ذكر محرر المقطم وغيره - والعالم الإسلامي كله يؤيد الملك عبد
العزيز الفيصل في حفظ حق الحجاز، وعلماؤه وخطباؤه وكتاب صحفه مستعدون
لتأييده بإقامة الثورة على هذه الدولة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) .
كلنا نعلم أن الملك عبد العزيز ليس له من القوة الحربية ما يمكِّنه من إخراج
الإنكليز من العقبة وما وراءها إذا أراد ذلك، وكلنا نعلم أيضًا أن الدولة الإنكليزية لا
تزحف بجنودها غير المسلمين لقتاله على حدود الحجاز ونجد، وأن تجنيدها بعض
المرتزقة من فقراء المسلمين لقتاله باسم المحافظة على إمارة عبد الله بن الحسين
البغيض لأهلها ولغيرهم لا يرجى لهم الظفر به، وإن هذا التهور إن تجرؤ عليه قد
يفضي إلى انفجار بركان الحقد من المسلمين عليهم في كل مكان، وظهور ما ليس
في الحسبان.
وقد كانت زيارة رئيس أركان الحرب لهذه الحدود بدء تهييج للصحف
الإسلامية عليهم في فلسطين وسورية ومصر، ثم سكن الهياج بما نشرته حكومة
شرق الأردن من بلاغ رسمي بأنه ليس في خط العقبة معان عمل عسكري، وكل ما
يحتمل وقوعه فهو أهون من إقرار الإنكليز على أي عمل أو سلطان على هذا
الخليج.
__________(34/774)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشقاق بين العرب المسلمين
شر ما آل إليه في فلسطين
العرب أقدم الأمم لغة وحضارة وعمرانًا فلهم العرق الواشج في حضارة قدماء
المصريين والكلدانيين والفينيقيين، ووثبتهم الإسلامية قضت على ملك الفرس
وإمبراطورية الروم في الشرق في ثلث قرن، ثم امتد سلطانها قبل انقضاء القرن من
المحيط الغربي إلى الصين، وطفق يناوش شعوب أوربة في الشمال، ثم لم يكن
سبب تمزيق هذا الملك العظيم إلا الشقاق والتنازع على الرياسة من أكبر مجتمعاته،
وهو الخلافة فالملك إلى أصغرها وهي المناصب الدولية والعلمية والدينية فرياسة
القبيلة والقرية، فرياسة العشيرة والأسرة، وقد آل بهم هذا الشقاق إلى زوال
سلطانهم عن الشعوب الأعجمية وضعف لغتهم فيها والجامعة الإسلامية التي تربطهم
بها، ثم إلى زوال استقلالهم في شعوبهم المحافظة على جامعتها العربية الممتدة من
سلطنة مراكش في المغرب إلى سلطنة مسقط، وعمان في المشرق، وقعت كل
هذه الكوارث كلها والعرب كلهم غافلون عن أسبابها وعللها، ومقدماتها ونتائجها،
وكلها ترجع إلى الشقاق والتنازع في الرياسة.
وقد بدءوا يستيقظون رويدًا رويدًا لما حل بهم فرأوا بعين بصيرتهم، ثم
بأبصارهم أن أكبر الكوارث الطارئة وأشدها خطرًا كارثة تواطؤ أكبر دول الأرض
قوة وسلطانًا، وهي الدولة البريطانية وأقوى شعوب الأرض عصبية وثروة وكيدًا
ومكرًا وهو الشعب اليهودي - وتوجيه قواهما إلى انتزاع وطن عربي كامل من أهله
وطردهم منه وإعطائه لليهود ليؤسسوا فيه ملكًا جديدًا بالرغم من ملتي عيسى،
ومحمد عليهما الصلاة والسلام يكون فاصلاً بين الشطر الأفريقي والشطر الأسيوي
من الأمة العربية قبل أن ينجح دعاة وحدتها العامة في سعيهم، فيحول دون اتحاد
مصر أو اتصالها بفلسطين وما وراءها - إلى غير ذلك من المقاصد التي لا محل
لشرحها وأهمها مسألة الحجاز وجزيرة العرب.
الواجب على الشعوب العربية كلها تجاه هذا الخطر الذي يهددها في فلسطين
أن تهب كلها لدرئه ودفعه، بل يجب على الشعوب الإسلامية غير العربية أن
تساعدها على ذلك أيضًا لمكانة المسجد الأقصى الذي لُقب بحق (أولى القبلتين
وثالث الحرمين) فيه، ولما في وجود دولة يهودية تكفلها الدولة البريطانية من
الخطر على الحجاز ونجد أو وقوة المملكة العربية السعودية الحامية للحجاز، وحافظة
الأمن فيه، وكان المعقول أن تسمع الدعوة إلى هذا من فلسطين.
ونحمد الله أن وُجد في فلسطين عقل مفكر، ورأي مدبر سعى له سعيه، ولم
يقدر عليه غيره، ألا وهو السيد محمد أمين الحسيني المفتي الأكبر للبلاد، ورئيس
المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى فيها، سعى إلى تأسيس مؤتمر إسلامي عام يُعقد
في المسجد الأقصى في ليلة ذكرى الإسراء والمعراج ففاز، وجعل المسألة
الفلسطينية ركنًا من أركان المسألة العربية الإسلامية العامة، فصار زعيمًا إسلاميًّا
عامًّا بعد ما كان زعيمًا فلسطينيًّا خاصًّا.
اضطرب لدعوة هذا المؤتمر دول الاستعمار وخاطبوا زعيمتهم إنكلترة
بوجوب منعه، أو تضييق الحرية على أعضائه، واضطربت له دولة الترك
اللادينية لما قيل من أنه سيقرر إحياء منصب الخلافة الإسلامية التي ألغت صورتها
الرسمية، وكل ما له صلة شرعية بها من بلادها، وتكره أن يتجدد لها ذكر في أي
قطر من العالم الإسلامي، واضطربت له الحكومة المصرية السابقة لما لا يعقل له
سبب إلا مثل الوهم الشيطاني، فكانت فئتها فيه هي التي تولت الكيد له، والسعي
لخيبة مؤسسه والداعي إليه الزعيم الحسيني بإغراء بعض أعضائها بما ظهر أثره
منذ الليلة الأولى لعقده، ثم في الجلسة التي اختاره فيه المؤتمر رئيسًا له، ثم في
جلسات أخرى، ثم اختلافهم إلى زعيم الحزب الفلسطيني المناوئ لرئيسه السيد
الحسيني، وهو راغب بك النشاشيبي الذي كان رئيس بلدية القدس للتشاور والسعي
لتخذيله، ولقد كنت في مقدمة أنصاره لأجل المصلحة على أنه كان مقصر معي
هنالك وأنا أستاذه.
كان من أعضاء هذا المؤتمر، وكنت أشعر بالدسائس التي كانت تدبر للكيد
وتدار من حوله فأتجاهلها، ودعيت إلى حفلة الشاي التي أدبها النشاشيبى لأعضاء
المؤتمر فلم أستجب لها؛ ولكنني كلمت بعض عقلاء فلسطين وأحرارها في السعي
للصلح بين النشاشيبي والحسيني، فقيل لي: إنه لا سبيل إليه الآن أو مطلقًا،
فأمسكت عن الكلام فيه، ثم كلمني بعض المخلصين في مصر بالسعي لذلك، فلم
أجد له مجالاً ولا منفذًا، وإن أكره شيء إليّ في العالم النفاق والشقاق للتنازع على
الرياسة وحب الأهواء.
آل أمر هذا التنازع بين النشاشبية والحسينية - وهو قديم - أن سقط راغب
بك في انتخاب رياسة بلدية القدس، وفاز عليه الدكتور حسين بك الخالدي من
الأسرة الخالدية بمساعدة الحسينية، فاتفقت هاتان الأسرتان الشريفتان وكانتا
متنازعتين، فسر محبو الاتفاق وجمع الكلمة، وانحصرت معارضة الإصلاح في
أسرة النشاشيبي والمنكرين على السيد أمين الحسيني والمجلس الإسلامي الأعلى
للاختلاف في الرأي أو لأغراض شخصية، وحزب الحسيني أقوى من كل هؤلاء
في فلسطين نفسها، ويؤيده أهل الرأي والمكانة في سائر البلاد العربية، وفي
الشعوب الإسلامية غير العربية، ولا يعرف النشاشيبي ولا حزبه أحد في هذه البلاد
والشعوب إلا أفراد في مصر ممن كانوا شايعوه على إسقاط السيد الحسيني من
رياسة المؤتمر الإسلامي لغرض عارض، وكلهم يوافقونه على مقاومة اليهود وعلى
جمع كلمة المسلمين على هذا العمل وغيره، وإذًا لا يجد المعارضون له الآن في
مصر ولا غيرها وليًا ولا نصيرًا.
على أن هذه العاقبة السوءى لم تفل من حد حزبهم، بل زادته مضاء وتهورًا
حتى كان من عقابيل هذه الحمى كتاب نُشر في جريدة الجامعة الإسلامية الفلسطينية
طُبعت صورته بالزنك، وقيل إنه من خط الأمير شكيب أرسلان بإمضائه إلى السيد
أمين الحسيني يدعوه به إلى نشر الدعاية في البلاد لدولة إيطالية، وقد رأينا كل من
اطلع على هذا الكتاب في هذه الجريدة ممن يعرفون خط الأمير شكيب، وممن
يعرفون إنشاءه وممن يعرفون مذهبه ومشربه السياسي في خدمة الأمة العربية،
والملة الإسلامية من سن الصبا إلى سن الشيخوخة، أنه مزوَّر عليه، والظاهر أن
المزورين له ظنوا أن القارئين له يصدقون فحواه المراد منه بشبهة ما كتبه الأمير
من تنفيس السنيور موسوليني بسعيه عن مسلمي طرابلس وبرقة برد المبعدين
منهم عن دورهم إليها، وفتح أبواب الرزق لهم بعد أن دب الفناء إليهم، ومن منع
دعاة الكنيسة من الطعن في دينهم ومحاولة تنصيرهم، وغير ذلك مما قد اشتهر ولم
يقدر على تكذيبه أحد، إلا أن بعض الناس كرهوا هذا التصريح من الأمير المجاهد
في سبيل العرب بعدما كان من شدة جهاده لإيطالية تنكيلها بهؤلاء من قبل، فقال
بعضهم: إنه، أي: التصريح يجوز أن يكتبه غيره ولا يجوز أن يكتبه هو، وإن
كان يعلم أنه حق وطعن آخرون به عليه عن رأي أو وجدان، أو هوى وشنآن.
ونحن لا ندخل في هذا ولا نجادل فيه بما نعلم - ومنه وتودد إيطالية للدولة
العربية السعودية، مع بقاء التودد إلى دولة الإمام اليمانية - لأنه ليس من
موضوعنا لا مجاراة لمن يرون أنه لا يجوز الاعتراف للمستعمر بحسنة، ولا
بالرجوع عن سيئة؛ وإنما نقول عن هذا الكتاب المتفق على أنه مزور قد أريد به
هدم زعامة السيد أمين الحسيني بالذات، وهدم زعامة الأمير شكيب بالعرض أو
الوسيلة، وكل منهما حصن حصين للعرب وللإسلام، أحكمت بناءه سنن الله في
الاجتماع بما أوتي كل منهما من استعداد عقلي وخلقي، وعمل سياسي أو قلمي،
ومواتاة لحوادث الزمان، وما أتيح له من ثقة الناس به، فبات خصوم البلاد العربية
والملة الإسلامية من اليهود ودول الاستعمار يحسبون لهما كل حساب، فهدم كل
منهما جناية على الأمة والملة والأوطان العربية، وخدمة للصهيونية والدول
الاستعمارية، لا يفكر أحد أن يدعي أن محاولي هدمها يستطيعون إيجاد أحد يغني
غناءهما، ويبلي بلاءهما، أو يوجدوا في فلسطين زعيمًا يحل مكان أمين الحسيني
في عقله وتدبيره وتأثيره في مجاهدة الصهيونية، دع مكانته في الشعوب الإسلامية،
ولا كاتبًا بليغًا سياسيًّا مؤرخًا يقوم مقام الأمير شكيب في بلاغة قلمه، وقوة حجته،
وثقة الأمة العربية والشعوب الإسلامية برأيه وإخلاصه، ولا أبرأهما في هذا من
الخطأ في بعض الرأي أو القول، وسبحان المنزه عن كل عيب.
وإنما الأمر الثابت بادي الرأي أن هذا الطعن فيهما بالباطل، ومحاولة التشكيك
في إخلاصهما هو خدمة لليهود وللإنكليز، وعون لهما على طرد العرب من هذا
الوطن العربي، وما فيه من الخطر على الشعوب العربية كلها، وعلى مصلحة
الدين الإسلامي، وهو أخس مظاهر الشقاق الذي افتتحنا هذا المقال بالتذكير
بمضاره، وأنا أعتقد أن الظفر المعنوي فيه سيكون - بل هو كائن - للزعيمين
المجاهدين ليس للحزب المالي المناوئ لهما منه شيء، وحسبك من زيادة الشقاق
تعديه من الأفراد إلى الجرائد العربية التي يجب اتفاقها في هذا العهد على مصلحة
البلاد، وقد بلغني أن خصومها قد افترصوه وشرعوا في تأليف حزب جديد لهدم
دعامة الحسيني وأنصاره، إذ علموا أن حزب النشاشيبي سيقتل نفسه بمناوئته، ولا
بد لحزب الحسيني من حزب آخر يجهز عليه أو يحاول إسقاطه.
فأنا بما فطرت وربيت عليه من مقت الشقاق، ومن كراهة العصبية للأفراد
والأحزاب، ومن التدين بالدعوة إلى الإصلاح، أدعو عقلاء الفلسطينيين إلى جمع
الكلمة وإصلاح ذات البين، معتقدًا أن أشرف ما يفعله حزب النشاشيبي ورئيسه
راغب بك والأستاذ الفاروقي صاحب جريدة الجامعة الإسلامية أن يبدؤوا
باستنكار الكتاب المزور والبراءة منه واستهجان مضمونه، وأن يكف الفريقان عن
الطعن في أنفسهما هجومًا ودفاعًا، وما طعن الإنسان بأخيه إلا طعن بنفسه، كما
قيل في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء: 29) وقد بلغني ممن
لا أتهمه أن الأستاذ الفاروقي ما نشر الكتاب المزور إلا بعد أن شهدت له لجنة اعتمد
عليها بأنه صحيح، ولو صحت شهادتها لما كان له أن ينشره، وهو صار مفرق
للكلمة، وقد بالغ الأمير شكيب في تفنيده دفاعًا عن نفسه بالحق؛ ولكنني كرهت من
هذه المبالغة أنها كانت ضرامًا في نار الشقاق وتخريب العرب بيوتهم بأيديهم كما
وصف الله اليهود في عصر التنزيل بقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) ، وقوله بعده: {تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) بل صرنا اليوم وقد
اجتمعت كلمتهم علينا شرًّا مما كانوا يومئذ، فعلى الفريقين أن يكفوا عن هذه
المطاعن، وأن يفوضوا لأهل الرأي المخلصين وضع أساس للصلح المعقول الذي
يحفظ كرامة كل منهم على قاعدة قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: 2)
وليسابق كل إلى الجاه والمجد فيما لا يضر الأمة كما شاء، وإلا كان الجميع على
الناعي المزور، وكاتب هذا أول من يستجيب لذلك ويسعى إليه سعيه مع الساعين
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
__________(34/782)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم
الحكم بين المختلفين فيه
(1)
ألَّف بعض كتاب الأوربيين مصنفات في تاريخ سيدنا محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم، أو ترجمة حياته، عُرف غير واحد منها باسم (حياة
محمد) كان آخرها فيما علمنا للكاتب الفرنسي البليغ موسيو درمنغام، ويقال: إنه
أقربهم إلى صحة الرواية؛ لأنه اعتمد على المصادر الإسلامية وأوسعها عنده سيرة
ابن هشام، وأجدرهم بحسن النية فيما أخطأ فيه؛ فإنه حاول الجمع بين اعتقاده
واعتقاد المسلمين، والتقريب بينهما بقدر ما تعطيه بلاغته الفرنسية في مدح النبي
صلى الله عليه وسلم وتصوير فضائله.
أعجب بهذا الكتاب الدكتور حسين بك هيكل الكاتب المصري الشهير، ولسان
حزب الأحرار الدستوريين في جريدتهم (السياسة) فطفق يترجمه وينشره في
صحيفة السياسة الأسبوعية الخاصة بالعلم والأدب والفنون متصرفًا في الترجمة
تصرف (عرض ونقد) فكان لما ينشره أحسن تأثير في قلوب قرائها من المسلمين،
سرهم منه أن رأوا هذا الكاتب العصري صار من أنصار الدين ينشر لهم أمثل ما
كتب الإفرنج في النبي صلى الله عليه وسلم وما هو خير منه، بعد أن كان لجريدة
السياسية من المقالات ما أوقع بينها وبين المنار ما لم ينسه قراؤهما، ثم اتفقنا ولله
الحمد، وكانت أشد الصحف تعاونًا معنا على إصلاح الأزهر.
ثم اتفق في أثناء عرض الدكتور هيكل لهذا الكتاب (حياة محمد) أنني كنت
أكتب بحث (الوحي المحمدي) في تفسيري لسورة يونس عليه السلام، وكان
غرضي الأول منه دحض شبهات القائلين من الإفرنج وغيرهم بالوحي النفسي،
يعنون أنه نابع من نفس النبي وصادر عن استعداد عقله الذي يعبرون عنه في هذا
العهد بالعقل الباطن، ونعني نحن به الروح الغيبي المعبر عنه بقول تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) ولكن هؤلاء الماديين لا يؤمنون بعالم الغيب، ولا بأن للإنسان
روحًا مستقلاً نُفخ فيه من ذلك العالم، فهم يسندون كل ما ثبت عندهم من مدارك
الإنسان غير الحسية ولا العقلية المنطقية إلى اسم جديد سموه العقل الباطن، ومنه
ما ثبت من إخبار المنومين بالتأثير المغناطيسي بالغيب، وما يسمونه قراءة الأفكار
ومراسلة الأفكار، وقد رأيت أن ما نقله هيكل عن درمنغام من الكلام على بدء
الوحي المحمدي ومقدماته قد جمع فيه جميع الشبهات التي يمكن الاحتجاج بها على
أن هذا الوحي نفسي، وقد لخصته في عشر، رددت عليها أقوى رد، ثم أثبت أن
وحي القرآن من عالم الغيب، بما بسطته من كليات مقاصد القرآن العشر،
واستحالة كونها من عقل محمد واستعداده، واستحالة أن يكون ما دونها من العلم
والفهم والعمل مما وقع أو يقع مثله لأحد من البشر في سن الكهولة.
لم أقرأ كل ما نشره هيكل من هذا الكتاب، ولكن علمت أنه يضع كتابًا مستقلاً
في ذلك فتح بابًا للاشتراك فيه، ثم صدر هذا الكتاب مطبوعًا أحسن طبع، ونُشرت
له دعاية واسعة في الصحف، فكان له تأثير حسن، وتفضل عليَّ المؤلف بنسخة
منه جاءت في وقت حاشد بالشواغل الكثيرة: منها إتمام المجلد 34 من المنار،
والجزء الثاني عشر من التفسير، وما يقتضيانه من خاتمة وفهارس وتصدير،
ومنها الشروع في الطبعة الثالثة لكتاب (الوحي المحمدي) ، والشروع في
(التفسير المختصر المفيد) اختصارًا وطبعًا، وقد اشتد الإلحاح بطلبه، لهذا أرجأت
ما يوجبه عليَّ سروري به من مطالعته وتقريظه إلى فراغ أرى أن انتظاره لا يعدو
شهرين، بيد أنني تصفحت مقدمته وبحث مقدمة بدء الوحي منه، فعجبت لمؤلفه
كيف أقر درمنغام مؤلف الأصل على مزاعمه فيها بعد تفنيدي لها في كتاب الوحي
المحمدي، وقد اطلع عليه وذكره في الكتب التي استمد من مباحثها في مصنفه، فإن
أدري أغفل عن تفنيدي لشبهاتها العشر وإثبات الوحي الإلهي بكليات مقاصد القرآن
العشر أم ماذا؟ فهذه المسألة أنكر المنكرات في أصل الكتاب، ولم يفطن لها
الجمهور فيه، ولا في فرعه، ولا لفروعها المنكرة وهي كثيرة، وقد أنكروا ما هو
دونها.
ثم رأيت من علماء الأزهر وغيرهم من يسألني عن رأيي في هذا الكتاب،
ومنهم من يطالبني بالرد على ما أنكروا عليه منه، ورأيت بعضهم رد عليه في
بعض الصحف فلم أقرأه، ثم جاءتني رسالة بعد رسالة يوجب عليَّ مرسلها الرد
عليه (وإنقاذ الدين مما يثيره من الشك فيه، الفاتن للشباب العصري بتنميقه)
ويرى كغيره أني أولى الناس به وأقدرهم عليه، وهو في حسن ظنه هذا يشير إلى
سوء ظن باحتمال أن أحابي المؤلف بالسكوت عن الإنكار عليه، فصار السكوت
بعد السؤال من كتمان العلم الذي أوجب الله بيانه، وحظر كتمانه ولعن أصحابه.
فأنا أنشر ألطف الرسالتين نقدًا، وأحسنهما أدبًا، وأذكر من الثانية المنكرات
التي أشار إليها بأرقام صفحاتها، وما عدا هذا من طعن في الكاتب والمقرظين
لكتابه فلا يجب نشره، وربما يكره وقد يحرم، ولا يتوقف عليه إنكار المنكر ولا
إحقاق الحق، وأجيب بما أعتقد أنه الحق الواجب بالإيجاز، ولعلي أعود إلى تقريظ
الكتاب ونقده في جملته، من مسائله وأسلوبه ولغته؛ لأنه جدير بذلك بشهرة مؤلفه
وتأثيره، عسى أن يكون النقد العادل عونًا على تنقيحه، فيكون النفع به منقحًا في
طبعة أخرى أتم وأعم.
***
الرسالة الأولى للأستاذ العالم الباحث صاحب الإمضاء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة صاحب الفضيلة العالم الشهير السيد (محمد رشيد رضا) منشئ
المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فإن كتاب الدكتور هيكل (حياة
محمد) صلى الله عليه وسلم حين كان يُنشر على صفحات جريدة السياسة
الأسبوعية، كان الذين يتحرجون عن وصمة سوء الظن بلا موجب يحسنون الظن
بصاحبه، ويقولون لعله أخذت بيده العناية الإلهية فوضعته في صفوف الذابين عن
الحقائق الدينية، الناشرين لمحاسن الشريعة المحمدية، فأنشأ يبرز للناس مخدرات
عرائس السيرة في ثوب قشيب يلائم ذوق العصر، ويتناسب والثقافة الحاضرة
حيث لم يتح لهم إذ ذاك أن يقفوا على جله فضلاً عن كله، فلما ظهر في عالم
المطبوعات ما عتموا أن تهافتوا على اقتنائه بناء على ذلك الظن، ثم طفقوا يقرءونه
بفضل عناية وكمال تدبر، فما لبثوا أن بدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون من تشويه
للحقائق القطعية، وتمويه على الضعفاء بالإغراق في إلباس الباطل ثوب الحق،
وصوغ الخيالات في ثوب الحقائق، وإقرار ما ليس بثابت عند أئمة الدين، وإنكار ما
هو معلوم للخاصة والعامة من المسلمين، وحسبنا الآن توجيه ثاقب نظركم إلى
أمر واحد هو أساس لجميع أخطائه أو جلها، ألا وهو إنكاره جميع المعجزات
المحمدية سوى القرآن، ولو أنه اقتصر على مجرد هذا الإنكار لتأولنا لحضرته
وقلنا لعله أراد أن القرآن العظيم هو المعجزة العظمى التي تتضاءل في جنبها سائر
المعجزات؛ ولكنه قد علل الإنكار المذكور بأن تلك المعجزات بأسرها مخالفة لسنن
الله عز شأنه، وأن تجويز شيء منها مناف لما نطق به القرآن من أن تلك السنن لا
تتبدل، وزعم أن أحاديث المعجزات كلها موضوعة إما لمحاولة أن يجعل له صلى
الله عليه وسلم من الآيات مثل ما لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإما
لتشكيك من يؤمنون بقوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:62)
فهذا نص لا يحتمل تأويلاً في أنه لا يدين بشيء من المعجزات الكونية؛ فإنه قرر
أن وقوع شيء منها تبديل للسنن الإلهية، وأنه محال، ويا ليت شعري ماذا يصنع
بالآي القرآنية المتضمنة لمعجزات الأنبياء من نحو انقلاب العصا حية، وفلق البحر
لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى عليهما الصلاة والسلام.
لهذا نلجأ إلى عظيم غيرتكم، وعَلِيِّ همتكم، أن تغيثوا الدين بمثل ما عودتموه
من استئصال شأفة الإلحاد ببواهر البراهين الساطعة، وصوادم الحجج القاطعة،
على وجه يروق للكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة.
وإلى الحق تعالى نضرع أن يؤيدكم وكل من يقوم لله في نصرة الحق بروح
منه، إنه تعالى نصير المجاهدين المخلصين، والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد محمد زهران
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة الإسعاد سابقًا
هذا نص الرسالة الأولى، وأما المنكرات المعينة في الثانية فهذا نصها:
(1) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64.
(2) أسطورة شق الصدر - هكذا عنوانه - ص 72.
(3) بدء الوحي 95.
(4) ما نسبه إلى السيدة خديجة.
(5) ما قال في الإسراء ص 153 وما بعدها.
(6) ما عقَّب به معجزة الغار.
(7) تلبيسه في قصة سراقة 179 وما بعدها.
(8) دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر المنكر 433.
(9) عزوه إلى عائشة ما لا يليق.
جواب المنار
مقدمة وتمهيد:
إن العدل وإيثار الحق على الخلق يوجب عليَّ قبل النظر في هذه المسائل
لأعلم ما فيها من حق وباطل، أن أقول إنني حسن الظن في خطة الدكتور محمد
حسين هيكل الدينية الجديدة، وأعتقد أنه يريد بها خدمة الإسلام ومناهضة الإلحاد
والإباحة، على أنني كنت بينت فيما نشرته من الرد على المتهمين به في المنار
وفي جريدة كوكب الشرق أنني أعني بالإلحاد معناه المستعمل في القرآن، وهو
الزيغ الذي قد يكون بما دون الكفر المخرج لصاحبه من الملة، وأرى أن هذا
الكتاب يجذب كثيرًا من الزائغين إلى الإيمان بنبوة محمد خاتم النبيين: الذي أكمل
الله ببعثته وبكتابه المنزل عليه الدين، من المفتونين بالأفكار المادية وتقليد أهلها،
وأن من هؤلاء من يعرف له ما أنكره عليه غيرهم، وأن أكبر خطأ رأيته فيه تبعًا
لأصله الفرنسي من شبهات الوحي النفسي يخفى على أكثر قرائه، أو على من لم
تتمكن هذه الشبهات من نفسه قبل قراءته، فإن موسيو درمنغام نفسه ينقل رواية
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لملك الوحي والتلقي عنه، والدكتور هيكل زاد هذه
المسألة بسطًا، وإن أخطأ كل منهما فيما ذكرا من مقدماتها باجتهادهما، وما اعتمد
عليه من رواياتها الباطلة لقلة اطلاعهما، أو عدم اضطلاعهما بالتمييز بين الراجح
والمرجوح منها، وأنى لهما أن يعلما أن ابن هشام وأستاذه ابن إسحاق أخذا بالرواية
المرسلة في حديث بدء الوحي، وأنه كان رؤيا منامية، فخالفا رواية الصحيحين
المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حاول بعض الحفاظ أن
يجمع بين الروايتين فأخطأ؟
وأما ما ادَّعاه الناقد من إنكار المؤلف لجميع معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم وتشكيكه في القرآن، وما دون ذلك من المنكرات، فسننظر فيها بعيني الحق
والعدل، ولا أشك في اختلاف وجهة نظر الأستاذ الناقد وأمثاله من واسعي الاطلاع
على كتب المناقب والسير وهو أن الأصل عندهم أخذ كل ما فيها أو جله بالتسليم،
وعدم تمييز أكثرهم بين ما هو صحيح منها وما هو موضوع أو منكر - ووجهة
نظر الدكتور هيكل وأمثاله في قاعدة الأصل في الأشياء الشك، فالتحليل والنقد،
وعدم وقوفهم على قواعد علماء الأصول والمحدثين في ذلك الذي يعبرون عنه
بالتعادل والترجيح، والواجب على مثلي أن يكون وسطًا بين الفريقين، وهو موقف
دقيق؛ فإن من كل منهما مَنْ يعد بعض ما يؤيد به الدين عند الآخر نافيًا له أو مشككًا
فيه؛ وإنما المهم الأعظم التمييز في البحث بين ما هو قطعي في الدين يعد جحوده
خروجًا من ملة الإسلام وما ليس كذلك، وبين ما يعد سنة، وما يعد ابتداعًا، وما
دون ذلك مما لا يجب علمه، ولا يضر جهله، وإن صح أصله.
يعلم أهل الحديث أن أكثر ما روي من الخوارق وما في معناها، لا يثبت
برواية قطعية متواترة يعد حجة على النبوة يجب الإيمان بها، بل لا يصح بحديث
مسند مرفوع يتخذ دليلاً ظنيًّا عليها، وأن المحدثين تساهلوا في رواية الضعاف
والمنكرات منها؛ لأنهم عدوها من باب المناقب التي تنفع أو لا تضر، وأن بعضهم
لم يتحاموا رواية الموضوعات أيضًا، ألم تر أن أشد المتأخرين منهم عناية أو
تساهلاً في تصحيح ما لا يصح أو تقويته كالسيوطي يقول في الروايتين الطويلتين
في المولد النبوي إنهما منكرتان شديدتا النكارة، ولولا أنني رأيت الحافظ أبا نعيم
ذكرهما في كتابه (دلائل النبوة) لما ذكرتهما، يعني في خصائص النبوة، وهاتان
الروايتان عليهما مدار قصص المولد الرائجة بين الناس، ولعل أكثر الذين يسمون
العلماء أو كبار العلماء يجهلون نكارتهما وبطلانهما، ولعل من يتجرأ على هذا
الإنكار عند الجمهور يتُهم بالكفر أو بالتقصير في حب المصطفى على الأقل، وإنه
صلى الله عليه وسلم لغني عن تأييد نبوته أو حبه بالباطل، بل لا يجوز ذلك، وإنا
لنعلم أن كل ما وجهه إليه أعداء الإسلام من الطعن فيه أو أكثره فهو من هذه
الروايات الباطلة، وأكثر علماء عصرنا يجهلون هذا، ويعجزون عن الرد عليه
بالأدلة المقنعة، حتى إن كثيرًا من قراء كتاب الدكتور هيكل يرون أنه من أقوى
المدافعين عن الإسلام حجة، من حيث يراه آخرون أشدهم طعنًا عليه وهدمًا له! !
أفما لهذا التباعد بين المسلمين من حد؟ بلى ولكن من ذا الذي يضع هذا الحد
الفاصل بين الحق والباطل؟
أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل، أو أكثره مسألة المعجزات
أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها
ومطاويها في الفصل الثاني، وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس بما أَثْبَتُّ به
أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا
بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل
زمان مضى، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبَيَّنْتُ سبب هذا
الافتتان، والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره،
فعسى أن يَطَّلِع عليها المختلفون في كتاب هيكل؛ لأن حكمنا بينهم لا يكون فاصلاً
بدونها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(34/787)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استدراك على تفسير ج 9 و 10 في القراءات
ذكرنا في تفسير {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ} (يوسف: 4) تصرف
العرب في هذا النداء، وفاتنا ذكر القراءات فيه، وقد فتح التاء ابن عامر في جميع
القرآن بناء على أن أصلها يا أبتا فحُذفت الألف، وكسرها الآخرون بناء على أنها
عوض من ياء المتكلم وتناسبها الكسرة، وقلبها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب هاء في
حال الوقف، و {غَيَابَةِ الجُبِّ} (يوسف: 10) قرأها نافع في الموضعين
(غيابات) بالجمع، وحذف بعضهم همزة (الذئب) في حال الوقف، و {هَيْتَ
لَكَ} (يوسف: 23) قرأها ابن كثير بالضم كحيث ونافع وابن عامر بكسر الهاء
كَغَيْظِ وهي لغة، والباقون بفتحهما معًا، وغرضنا من ذكر القراءات اللغوية أن
تُعرف فلا تُنكر إذا سُمع من القراء غير المشهور عندهم، ومن المعنوية بيان معانيها
وحكمتها.
ووقع في تفسير هذين الجزئين ما اقتضى بعد طبعه تصحيحًا أو تنقيحًا عند
طبعه على حدته.
***
(الشيخ عبد المحسن الكاظمي) الشاعر العراقي الشهير تُوفي قبيل انتهاء
هذا الشهر (المحرم) وسننشر له ترجمة في الجزء الآتي، رحمه الله تعالى.
__________(34/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منار المجلد الخامس والثلاثين
تجديد جهاده ونظامه، والتعاون عليه بيننا
وبين كرام قرائه
وخلاصة تاريخه المؤثرة
ما قصَّر منشئ المنار في شيء مما وقف عليه حياته من خدمة الملة والأمة،
وأشار إلى مقاصدها الجامعة في فاتحة العدد الأول، بل شمر واستبق، فكان له من
التأثير عند خواص العقلاء العارفين بما أصاب المسلمين من الوهن والضعف
والتفرق، وبما يحتاجون من الإصلاح الذي تتوقف عليه حياتهم أو نجاتهم من الذل
والاستعباد ما لم يسبق له نظير إلا في صيحة (العروة الوثقى) التي تجلت فيها
روح موقظ الشرق وحكيم الإسلام (السيد جمال الدين الأفغاني) ببلاغة الأستاذ
الإمام (الشيخ محمد عبده المصري) وكان كل ما صدر منها 18 عددًا، هزت
القلوب، وأيقظت العقول، وكان الغرض من إنشائها إثارة العالم الإسلامي، وجمع
كلمته لدفع عبودية الاستعمار الأوربي، وتجديد دولة إسلامية عزيزة تتولى في ظل
حريتها ما يجب من الإصلاح الديني والدنيوي، وكان رأي السيد جمال الدين أن
الثورة أقرب الوسائل لتجديد الملة بالعلم الصحيح، والعمل المفيد في ظل الاستقلال
والقوة.
وأما غرض المنار فهو إعداد الأمة لهذا التجديد، وأول وسائله بيان أمراض
الأمة وأسبابها ووصف علاجها، وتأليف الجماعات للتعاون على المعالجة المطلوبة،
وكان الأستاذ الإمام أول من ناط أمله به في الإصلاح المطلوب كله، وكان
يصرح به في مجالسه لمن يراهم أهلاً لفهمه، أو استعدادًا لطلبه، وهو الذي أغناه
عن كتابة وصيته للأمة؛ إذ الوصية لا تكون إلا كلامًا مجملاً لما أنشئ المنار
لبيانه مفصلاً، والناس لا يفهمون من الكلام إلا بقدر ما استعدوا لفقهه والاعتبار به،
ولا يكون ذلك إلا بالتدريج كما أشار إليه في آخر عبارة له من كتاب كتبه لنا في
سنة 1320هـ 1902 م، وقد نشرناها بخطه منقولاً بالعكس الشمسي منقوشًا
بالزنك في ص 1023 من تاريخ الأستاذ الإمام وهي:
كلمة الأستاذ الإمام في المنار
والاشتراك فيه من آخر السطر الأول
(الناس في عماية عن النافع، وانكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم
يسرعوا بالاشتراك في المنار؛ فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير
الحاضر، بما هو أصلح للآجل، وأعون على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال
ذلك الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا
يضعف الأمل في نجاح العمل، والسلام، في 11 سبتمبر سنة 1902) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده
مضى المنار لطيته، وما زال بتوفيق الله وحوله وقوته يرتقي في كل
معراج من معارج عمله، دون كسبه ونظام معيشته، فمنشؤه قد نشأ وشب وشاب
على الزهد في الدنيا وجدانًا وعملاً، لا رأيًا وعقلاً، فهو يرى أن الزهد لا يجوز
أن يتجاوز شعور القلب إلى التقصير في الكسب، لكن قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) متفق عليه، وروي بزيادة - اعملوا في أوله
- وبهذا الزهد يسر الله له أن ينصرف بكل قواه إلى الإصلاح والتجديد الإسلامي
علمًا وبحثًا، ودعوة وحجة، ودفاعًا وإقناعًا، حتى صار موضع ثقة خواص
المسلمين غير الخرافيين في العالم الإسلامي كله في إصلاحهم كما قال الأستاذ
المراغي شيخ الإسلام الأكبر، وخليفة الأستاذ الإمام على إصلاح الأزهر لمولوي
مشير قدوائي من كبراء مسلمي الهند، وقد سأله أن يروي عنه لمسلمي الهند كلمة
فيما يجب عليهم من الإصلاح فقال ما خلاصته:
إن المسلمين لا يرجى لهم صلاح إلا بالقرآن على الوجه الذي يفسره به المنار،
اهـ فإن كان سبقه إلى مثل هذه الكلمة أحد فضلاء الهند منذ ثلث قرن (وهو
مولوي محمد إنشاء الله) فالأستاذ الأكبر يقول في إصلاح جميع البشر بدعوة
الإسلام التي بثها المنار كلمة أكبر من كلمته للفاضل الهندي، وهي ما كتبه بعد
مطالعة (كتاب الوحي المحمدي) في كتاب لمؤلفه وهي:
(أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتباكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم
وُفِّقْتُمْ لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من
ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة،
وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون،
فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يُجازى به المجاهدون) ... إلخ
لقد أكبر آخرون من أئمة الأمة في الحكم وفي بالعلم، وخواصها في الرأي
والفهم (كتاب الوحي المحمدي) حتى قال بعضهم: إن هذا الكتاب إلهام إلهي، لا
علم كسبي لمؤلفه، جديد من علوم القرآن جاء مصداقًا لحديث (لا تنتهي عجائبه)
وإنه معجزة جديدة للنبي صلى الله عليه وسلم نفثها في روعه، أو نفخها في روحه
جده صلى الله عليه وسلم، وقالوا أقوالاً أخرى كثيرة كبيرة؛ ولكنها تصغر تجاه
كلمة الشيخ الأكبر الوجيزة (عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية) ... إلخ، فلو
أن غيره ألقى كلمة (خلاصته) لقيل لعله لم يحط بمعناها علمًا.
تلك فائدة زهد منشئ المنار في دنياه له وللناس وهي علمية خالصة، وأما
مضرة هذا الزهد له فهي مالية خاصة به، ذلك أنها أوصدت أمامه باب طلب
الرزق، وفتحت عليه باب الدَّيْن، حتى كادت تقضي على المنار الذي كان مفتاح
كل خير، فإنى لم أستطع أن أعنى بنظام إدارته وضبط حسابها ولا مراقبته بنفسي؛
وإنما تركتها من أول يوم لمن لم أحاسبهم عليها، فتعاقب عليها أفراد كان أضرهم
بي أقربهم مني، وأشدهم حبًّا لي ومشاركة لي في السراء والضراء؛ ولكنهم أجهل
مني بالدنيا وأعجز عن كل عمل لها، فأنا تركت مطالبة قراء المنار بما له عليهم
من حق للنفقة عليه لأجل أن أوفيهم حقهم وحق الأمة كاملاً بقدر استطاعتي،
وهؤلاء تركوا مطالبتهم بهذا الحق بغير بدل من علم أو عمل، فكانوا يقبلون من
أهل الوفاء منهم ما يؤدونه من تلقاء أنفسهم، ولا يطالبون غيرهم من المشتركين
ولا يذكرونهم، ولا يدعون أحدًا إلى الاشتراك، بل لا يرسلون المنار إلى كل من
طلبه، ويقل في الناس من يؤيد حقًّا لا يطالب به إلحاحًا وإلحافًا، ولا سيما ناسنا
المحروم أكثرهم من التربية الدينية العالية، ومن النظام المالي والتعاون على
الأعمال العامة، والاهتمام بالإصلاح الملي، وقد سبق لنا في بعض المجلدات بيان
درجات المسلمين في الوفاء، وتفاضل شعوبهم، وتفاوت أصنافهم، وطبقات كل
شعب فيه، وكان أفضلهم عرب الجزيرة ومسلمو روسية من التتار وغيرهم،
ومسلمو السودان، ويليهم مسلمو جاوة وما حولها من العرب والوطنيين، وقد حالت
الحرب العامة بيننا وبين مسلمي روسية، ثم أجهزت البولشفية عليهم في دينهم
ودنياهم، وصار ديننا على مسلمي جاوة، بل أندونسية كلهم أكثر من غيرهم، ولم
نقطع المنار عن الماطلين منهم، بل أفسدت الحرب سائر الشعوب في كل شيء،
كل على قدر استعداده وحاله، حتى كادوا يكونون ماديين إباحيين، أو حيوانات
شهوانيين، أو وحوشًا مفترسين، وسنحت الفرصة لإصلاح هذا الفساد العام
بالإسلام، وهو ما تصدينا له بكتاب (الوحي المحمدي) وأردنا تجديد جهاد المنار
لأجله وشرعنا في تجديد جماعة له، ولكن هل يجدد قراؤه مساعدته عليه؟
الجناية المالية على المنار:
الحق أقول: إن أشد الناس جناية على مالية المنار هو منشئه المنفرد بتحريره
وتصليحه، ويليه من تولوا إدارته من أهله، ويليهم غيرهم ممن تولوا عملاً فيها
من كتبة ومحصلين، وكانوا في أول أمرهم غير مخربين ولا معمرين، وكانت
إساءة المسيء منهم خفيفة الضرر، ثم كان بدء الإهمال والاختلال منذ رحلتي إلى
الهند، فالعراق، فسورية (سنة 1330هـ 1912م) فاستغرقت هذه الرحلة بضعة
أشهر أخرج أخي في أثنائها كاتب الإدارة منها، ولم يستبدل به غيره ولا قام بعمله،
وكذلك فعل من تولى الإدارة بعده من أهلي، ولم ينفعهم نصحي، أو لم يطيعوا
أمري؛ ولكنهم وعدوا وأخلفوا، وهموا وسوفوا فأسرفوا، وما كنت أعلم قدر
جنايتهم تفصيلاً، ولا عجز دخل المنار عن نفقته إلا قليلاً، إذ كانوا يأخذونه من
دخل المطبعة والمكتبة، حتى إذا ما اشتدت العسرة، وانحصر عمل المطبعة فيما
نطبعه لأنفسنا، وعجزت المكتبة عن نفقتها ونفقتنا، وكثر الدَّيْن علينا اضطررت
إلى البحث عن مشتركي المنار فوجدت - وقد ذهبت كوارث الحرب بخيرهم وفاء
- أن عدم مطالبة الإدارة للباقين بقيمة الاشتراك، قد اتخذه أكثرهم عذرًا لعدم الوفاء،
بل ربما حسب بعضهم أنه يُرْسَل إليهم بالمجان، فاستنجدتهم فلم أجد منجدًا، بل
استغثتهم فلم أجد غواثًا إلا عند قليل منهم، حتى رأيتني مضطرًا إلى وقف إصدار
المنار في سنته القابلة سنة 1354، ولو على سبيل التجربة، عسى أن أجد له من
يقوم بنفقته من الأوفياء منهم، وكيف أجد بتركه ما لم أجده به؟
رجحت هذا الرأي من أول سنة 1353 حتى إذا قاربت الانتهاء عظم علي
الأمر، وقد رباني الدين على الثبات واتقاء إبطال عمل أشرع فيه، فرأيت أخيرًا
أن أكاشف القراء بحقيقة الأمر؛ فإن أكثرهم لا يعرفه، وقد يعذر نفسه بتقصيرنا
ولا يعذرنا، أو يظن كل مقصر منهم أن تقصيره لا يضر المنار لكثرة من يؤدي له
حقه، أو يزيدون عليها من أهل الغيرة على الإسلام، وقد علمت أن تأخير صدور
بعض أجزائه عن موعدها أو ضياع بعضها على أفراد منهم قد جعلوها سببًا لمنع
إرسال الاشتراك عدد سنين، وهو منع لحقنا الكثير الثابت بدون عذر للمانع بحجة
منعنا لحقه القليل الذي لم يثبت له وقد يكون بعذر صحيح لنا؛ فإن حق الاشتراك
يثبت في كل سنة بدخولها، وقد يكون لعدم سقوط بعض الأجزاء أسباب غير
تقصير الإدارة الذي قد يكون لعذر أيضًا، ولم يطلب أحد من المشتركين جزءًا إلا
أرسلناه إليه، وقد جرت العادة أن الذي يقضي ما عليه هو الذي يقتضي ما له؛
وإنما يسكت عن المطالبة بما له من يفر من مطالبته بما عليه، والحق حق، عند
من يؤمن بالحق.
***
الدعوة إلى الصلح والإصلاح
وتجديد خدمة الإسلام
إنني وقد بينت ما لي وما عليّ، أدعو قراء المنار إلى الصلح عما مضى
بمنتهى ما يرضيهم من السماح والفضل، وتجديد عهد التعاون على خدمة الملة
والأمة بالوقوف على سواء العدل، بأن يلتزم كل منهم تجديد الاشتراك فيه كتابة
يلتزم فيها دفع القيمة في أول السنة كما تفعل الأمم التي سادت بهذا النظام علينا، أو
في أثنائها، وإن كان درجة دون ما قبلها.
وأما العهد الماضي فلكل منهم أن يطالبنا بما لم يصل إليه من الأجزاء فنرسله
إليه كاملاً، وله في المتأخر عليه من قيمة الاشتراك أن يحاسب نفسه عليه بينه
وبين الله تعالى، ثم يؤدي ما يعتقد أنه حق عليه، وإن نقص عما عندنا في دفاترنا،
وأن يكون الأداء بحسب استطاعته ناجزًا أو مقسَّطًا بالأسابيع أو الشهور أو السنين،
وله أن يصالحنا عليه إن كان معسرًا بإنظاره إلى الميسرة، بأن يلتزم ما يتيسر له
نقدًا أو نسيئة مؤجلة، ونبرئ ذمته من الباقي إن طلب الإبراء، ومن كان عاجزًا
عن أدائه كله أو بعضه الآن، أو عجز بعد الالتزام، وطالبنا بالعفو عنه، أو الحط
عنه أجبناه، مصدقين له فيما يشهد عليه الله الرقيب على كل شيء، والأصل عندنا
في قراء المنار حسن الظن، والتماس العذر.
وقد أخرنا هذا الجزء استعدادًا لهذه التسوية، وأحصينا ديوننا على الماطلين
لأجل نشرها فيه فكانت مخجلة؛ فإن على كثير منهم عشر سنين، أو عشرين سنة
أو أكثر، فتركنا نشرها، واخترنا ما بَيَّنَّا، وإنا مرسلون فيه وثائق طلب الاشتراك
مطبوعة لكل منهم لأجل إمضائها وإعادتها إلينا، ونرجو أن يكتب إلينا بما يختار
من أمر الماضي، وسنرسل الجزء الأول من المجلد 35 لمن يعيدونها إلينا موقعة
بخطوطهم، متعاونين معنا على تجديد الإصلاح، متعاهدين على الوفاء والنظام،
وتجديد هداية الإسلام، وسنعرض عليهم نظام الدعوة وجمع الكلمة الذي مهدنا سبيله
في العام الماضي.
المنار في طوره الجديد
كنت أرجو عند إنشاء صحيفة المنار أن تكون ميدانًا تتبارى فيه جياد الأقلام،
فيكون لسان حالهم في مسائل الإصلاح، وجدد التجديد الديني والاجتماعي والأدبي.
صرحت بذلك في بيان المقاصد العامة من فاتحتها، ولكن كاد يشتهر في الناس
أن المنار وقف أهلي حبس تحريره على صاحبه؛ وإنما هو وقف خيري عام
للمصلحين والمجددين، فأنا أدعوهم وقد كثر في هذا العهد عددهم إلى ما دعوتهم إليه
منذ بضع وثلاثين سنة إذا كانوا قليلي العدد، وأحتكر لنفسي تفسير القرآن الحكيم
المطول، والتفسير المختصر المفيد لكثرة إلحاح الأمة عليّ بإنجازهما على المنهج
الذي فضلوه على غيره، وكذا الفتوى العامة بالدليل إلا أن يتصدى أحد لمساعدتي
عليها، وأفتح سائر الأبواب لمن أراد دخولها من أهلها، إذ لم يعد وقتي يأذن لي
بإعطائها حقها، وأرى الأمة في أشد الحاجة إلى ما يأتي منها.
__________(34/794)
المجلد رقم (35)(35/)
ربيع الأول - 1354هـ
يوليو - 1935م(35/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الخامس والثلاثين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) .
نرجو أن ندخل بهذه السَّنة في عهد جديد لدعوة القرآن نفتتح بها المجلد 35
من المنار المجلد 13 من تفسير القرآن الحكيم والطبعة الثالثة من كتاب الوحي
المحمدي، بعد أن بينَّا للمسلمين في السنين الخالية جميع الأسباب والعلل التي فقدوا
بها هداية دينهم ومجد ملكهم وحضارته بالإعراض عن تدبر القرآن وجميع ما يجب
عليهم من علم وعمل لاستعادة ذلك بالقرآن، وإقامة الحجج والآيات على ذلك من
كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتنفيذه؛ وسنة
خلفائه الراشدين في فتوحه، وتأسيس دولته، وإقامة أحكامه بين الشعوب المتباينة
الأجناس واللغات، والملل المختلفة الأصول والمذاهب والحضارات.
وإننا نذكِّر القراء بخلاصة من ذلك:
أمة موسى وأمة محمد والتوراة والقرآن:
في مدة أربعين سنة انقرض جيل من بني إسرائيل في التيه، ونشأ جيل آخر:
انقرض الجيل الذي تعبَّده فرعون واستذله، فقال زعماؤه لموسى لما دعاهم إلى
دخول الأرض المقدسة، التي كتبها لهم، ووعدهم بالغلبة على أهلها إذا دخلوها:
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ، ونشأ جيل جديد أخذ
التوراة بقوة، ودخلوا البلاد، ففتحها الله كما وعدهم.
وفي عشرين سنة أسس محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله
عليه وسلم - بدعوته دينًا كاملاً وأمة متحدة ودولة قوية عادلة، فقد ربَّى الجيل الأول
من قومه بالقرآن من أول يوم، فأخرجهم بدعوته من الظلمات إلى النور في عشر
سنين، وفتح بهم جزيرة العرب في عشر سنين، وفتح خلفاؤه من بعده ملك
كسرى وقيصر في عشرين سنة، ولم ينقضِ القرن الأول من هجرته إلا وقد تمَّ
لأمته نشر ملكهم ودينهم من آخر حدود أوربة في الغرب إلى جدار الصين في
الشرق، وأدى لهم " فغفور " الصين الجزية.
بماذا فعل المسلمون هذه المعجزات في الفتح الديني الاجتماعي السياسي؟ ما
فعلوها إلا بأخذهم القرآن بقوة، كما أخذ بنو إسرائيل التوراة بقوة، وكان تأثير كل
من الكتابين بقدْره: التوراة هداية لشعب صغير، وُعِد بوطن صغير إلى أجل معلوم
ففتحوه، وتمكنوا فيه إلى أجل معلوم، ثم عاقبهم الله بظلمهم وإفسادهم في الأرض
فسلط عليهم من شاء من عباده إلى أجل آخر، ثم سلب ملكهم ببغيهم. والقرآن
هداية عامة لجميع الشعوب والقبائل، وُعد أهله بخلافة الأرض كلها: {وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: 165) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ووفَّى لهم بما وعدهم في
أكثر الأرض التي عرفوها ما أقاموا القرآن بإقامة الحق والعدل في الناس والشكر
لله، ثم سلب منهم أكبر ما أعطاهم بكفر هذه النعمة والفسوق عن هذه الهداية.
ومن العجب أن يفعل اليهود اليوم ما لا يفعل العرب لاستعادة مجدهم.
ولكن أمة محمد ليسوا شعبًا صغيرًا كقوم موسى - عليهما الصلاة والسلام -
بل أمة دعوته جميع البشر، وأمة الإجابة له هم المهتدون بالقرآن وسنته في إقامته،
وما وعدهم به هو الأرض كلها لا أرض فلسطين، ودينهم عام باقٍ إلى يوم القيامة،
لا خاص مؤقت محدود.
فتح العرب العالم بالقرآن:
إن المسلمين كفروا هذه النعمة قبل أن يتم لهم فتح أكثر الغرب كما
فتحوا أكثر الشرق، بأن استبدلوا بهداية القرآن بدعًا سَرَت إليهم نظرياتها الباطلة
من الأديان والفلسفة والأدب التي كان عليها الشعوب التي فتحوا بلادها بقوة القرآن
لا بقوة السيف والسَّنان، فقوة العرب الحربية كانت دون قوة الرومان، ودون
قوة الفرس، اللتين كانتا أقوى دول الأرض، وكان يدين لهما كثير من
العرب المجاورين لبلادهما، وكانت أضعف من البربر في شمال إفريقية ومن
القوط (والإسبانيول) في غرب أوربة ومن الغال في جنوب فرنسة من الغرب،
ومن الهنود في الشرق، وناهيك ببعد المسافات بين جزيرة العرب وبين هذه
الأقطار، وما يزعمه بعض الإفرنج ومقلديهم من أن سبب فوز العرب بذلك الفتح
السريع الواسع هو ما كان طرأ على تلك الدول والأمم من الفساد والضعف، فهو
تعصب ظاهر؛ فمهما تكن عليه تلك الأمم من ضعف وفساد فالعرب كانوا أفسد
وأضعف من كل واحدة منها قبل الإسلام، وبه سادتها كلها؛ وما هو إلا نور
القرآن.
عصر الصحابة ومنتهى علمهم:
إن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - هم الذين أسسوا هذا الملك الإسلامي
العظيم العادل الرحيم، فيما يسمى العالم القديم، وكان أكثرهم أميين، لم يكن عندهم
كتاب يهتدون به في فتوحهم وحكمهم إلا هذا القرآن وحده. وما كانوا يعتمدون في
فهمه إلا على مَلكَة لغته وما بيَّنه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من هداية
القول والفعل، وهو سنته وهديه؛ تلاهم التابعون الذين حفظوا عنهم القرآن
والسنن والآثار؛ فكانوا في الدرجة الثانية لدرجتهم إيمانًا وعلمًا بالإسلام، وعملاً
وتخلقًا به، وجهادًا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وفتحًا للأمصار، وحكمًا بين
الناس بالحق والعدل؛ وقلَّ فيهم الأميون، وكثر المتعلمون، ولكن لم يكن في أيديهم
كتاب غير القرآن، يهتدون به في تزكية أنفسهم وإصلاحها، ويهدون به غيرهم من
الشعوب التي كانت تدخل في دين الله أفواجًا. ويجدون الإسلام خيرًا مما كانوا عليه
هدى وصلاحًا، وعلمًا وعدلاً، وأدبًا وفضلاً.
عصر التابعين في هديهم وحكمهم وفتحهم:
وبدأ التابعون بكتابة السنن والآثار حفظًا لها من الضياع، بيد أنهم لم يتخذوا
منها كتابًا مدونًا مع القرآن يدينون الله بالعمل به في عبادتهم الشخصية وفي قضاء
حكومتهم وسياستها، بل ظلوا يهتدون بالقرآن وبما كان عليه الصحابة من سنن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وبسيرة خلفائه الراشدين في الفتح والسياسة
والقضاء، ومن ذلك الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من القرآن أو سُنَّة عملية لا
تختلف فيها الأفهام والآراء: اجتهاد الأفراد لأنفسهم في الأحكام الشخصية الخاصة،
واجتهاد أولي الأمر من الأئمة والقضاة وقواد الجيوش في الأحكام العامة، مع
مراعاة الشورى فيها؛ فكانوا على منهاج الصحابة في ذلك كله، وناهيك بكتب عمر
وعلي إلى عمالهما: ككتاب عمر إلى شريح في القضاء، وكتاب عليّ إلى الأشتر
النخعي في السياسة العامة.
عصر العلم وما يجب من النظام الواقي من الشقاق فيه:
ثم جاء عصر التدوين والتصنيف للحديث والسير الآثار والفقه، تلا ذلك
تدوين اللغة وفنونها ووقائع التاريخ، وترجمة علوم الأوائل بأنواعها: كالرياضيات
والتاريخ الطبيعي، والطب، والفلك، والفلسفة بأقسامها، والتصوف بنوعيه الخلقي
والفلسفي، ودرسوا هذه العلوم واجتهدوا فيها، ونقدوا ونقحوا، وأتموا ما كان
ناقصًا، وزادوا على من كان قبلهم؛ عملاً بإرشاد القرآن إلى النظر في آيات
السموات والأرض وما بينهما وما خلق الله من شيء وسنن الله في الأمم.
كان من سنة العمران وطبيعة الاجتماع في ذلك أن تصير علوم الدين والدنيا
كلها فنونًا صناعية، وأن يختص بكل جنس منها طوائف من الناس للتوسع والنبوغ
فيها، وأن يكون لكل منها تأثير في أنفس النابغين فيه، قد يعارض غيرهم باختلاف
الفهم والقصد من العلم وموضوعه وفائدته.
وكان يجب في هذه الحال أن يكون للتعليم نظام جامع يوجه كل علم إلى الغاية
منه؛ دينيه كانت، أو عقلية، أو علمية، كما أرشد إليه القرآن الحكيم، وأن يظل
القرآن والأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتربية الأمة، كما
كان في عهده وعهد خلفائه الأربعة هديًا إلهيًّا علميًّا لا نزاع فيه وينزه عن أن يكون
صناعة بشرية، وفنًّا جدليًّا يضرب بعضه ببعض لتأبيد المذاهب والشيع الدينية
والسياسية، وأن تكون حرية الدين على أكملها فيما هو من كسب البشر ونتائج
أفكارهم وأفهامهم؛ فالإسلام أباح لأهله الحرية في هذا دون ما هو فوقه وفوق كل
شيء بشري، وهو كلام الله اليقيني القطعي الرواية أو الدلالة من الدين الذي شرعه
الله لهم، وأما ما كان ظنيَّ الرواية أو الدلالة منه فقد أباح لهم الاجتهاد فيه بشرط ألا
يكون اختلاف الفهم والرأي سببًا لتفرق الأمة والشقاق بين أهلها، ولو فعلوا ذلك
لاتقوا الشقاق والتفرق بما حدث من البدع في الدين، ولكنهم لم يفعلوا فَضَلُّوا
وابتدعوا، فتفرقوا واختلفوا، وفسقوا وضعفوا.
كان هذا التأليف بين العلوم والفنون والدين أول واجب على الإمام الأعظم
خليفة المسلمين، ولكن خلفاء العباسيين أطلقوا العنان أولاً فلم يقوموا بالواجب، ثم
نصروا بعض المتفرقين في الدين على بعض بما أضعف سلطان الدين في الهداية،
وفوائد العلوم والفنون في الحضارة، وأنَّى للمعتصم العامي، وكذا المأمون العالم
المتفنن أن يفهم حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عقاب صبيغ المجادل
المشكك في القرآن، ونفيه من المدينة إلى البصرة، وأمر الناس بهجره حتى تاب،
تلك جناية فوضى العلم في العرب، وجنايتها على هداية القرآن بالابتداع والتفرق
والاختلاف.
حضارة العرب وتأثير الإسلام فيها:
وقد كانت للمسلمين من جملة ذلك كله حضارة عربية زاهية زاهرة، جمعوا
فيها بين زينة الدنيا ونعمتها والاستعداد لسعادة الآخرة، ألطف مثل لها ما حُكِي عن
امرأة كانت ترفل في حليها وحللها، مخضبة الكفين، مطرفة البنان، وهى تسبح
الله تعالى وتذكره، فرآها رجل ناسك فقال لها: ما هذا مع هذا؟ ! فقالت:
ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب
وكانت قيانهم ووصائفهم تحفظ القرآن، وتروي الحديث بالأسانيد، وتنظم
الشعر وتلحنه، وما كان من إسراف بعضهم وفسوقهم تجد تجاهه غلو آخرين في
دينهم، وانقطاعهم إلى العبادة وجهاد النفس بحرمانها من الطيبات المباحة.
كان أهل بغداد في عهد حضارة العباسيين يتنزهون في زوارق دجلة أصيل
كل يوم، كما يتنزهون في هذه الأيام، فاتفق أن اقترب قاربان منها في أحدهما مغنٍّ
يعزف على عوده، وفي الآخر قارئ يرتل سورة التكوير، فأنصت المغني واستمع
للقرآن يتدبره، حتى إذا بلغ القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير: 10) ضرب بعوده جانب الزورق فكسره ورماه في دجلة خاشعًا
متصدعًا من خشية الله، فكان ترتيل القرآن أفعل في نفسه من توقيع الألحان،
ومثل هذا لا يقع الآن، والقوم هم القوم، ولكنهم ضعفوا في لغتهم، فلم يبقَ للقرآن
سلطان على قلوبهم، وغلوا في الدين والحضارة معًا؛ فحرَّم السماعَ بعضُهم،
واتخذه آخرون عبادة.
لو جرى المسلمون في حضارتهم وعلومها وفنونها على صراط القرآن بكفالة
الخلافة لاستفادوا من فلسفة اليونان وتصوف الهند وفنون الروم والفرس وصناعاتهم
وتنظيم حكومتهم ما يزيدهم إيمانًا بالله وبصيرة في دينه وقوة في دولتهم، واعتدالاً
في نعمة حضارتهم، ولما وجدت بدع النظريات الفلسفية والصوفية وفتن السياسة
الشعوبية سبيلاً إلى التفريق بينهم في دينهم وحكمهم، ولكنهم نكبوا عنه فانقلبوا بعد
ألفتهم وتوادهم أعداء يتنازعون في متشابه القرآن الذي ألَّف بين قلوب سلفهم بعد
تعاديهم وتقاتلهم، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وهم يقرءون قوله - عز وجل -:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: 7) الآية، وقوله: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً
بَيْنَهُم ْ} (البقرة: 213) الآية، وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:
59) .
سنن الاجتماع في قلب الإسلام لنظم الأمم السريع:
كل ما جرى للأمة الإسلامية كان مقتضى سنن الاجتماع في دين قلَب نظم
الأمم والملل كلها في أديانها ودنياها في جيل واحد، ودخل فيه أفواج لا تحصى من
كل جنس وكل ملة وكل حضارة وكل بداوة، قضى شرعه أن يكونوا إخوانًا
متساوين في جميع الحقوق، لا يتفاضلون إلا باستعدادهم الشخصي؛ فمنهم من فهمه
بلغته وثقافة من جاء به، وهم العرب؛ لأنه لم يكن عندهم ما يزاحمه من التقاليد
الدينية والعادات المدنية، بل كانوا كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
ومنهم مَنْ لم يفهم منه إلا بعض تقاليده الظاهرة، ولم يره إلا في مرآة ما كان
عليه قومه من دين وحضارة، ومنهم من كان مخلصًا فيه، ومن كان يكيد له
عصبية لقومه وملته ودولته التي قضى عليها، ومن كان يبتغي به الحياة الدنيا
وسلطانها وزينتها، ومن كان يريد به وجه الله والدار الآخرة.
حكمة الله في ترتيب الخلفاء الأربعة:
وكان من حكمة الله ورحمته أن خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه
خير أصحابه علمًا وحكمة وإخلاصًا؛ ليكونوا قدوة لمن بعدهم وحجة لله عليهم،
وألهم أهل الحل والعقد أن يقدموا أقصرهم فأقصرهم عمرًا من حيث لا يدرون؛
لتستفيد الأمة من كل واحد، وهذه حكمة ألهمني الله تعالى إياها منذ عشرات السنين
لم أروها ولم أسمعها من أحد، وهاك وجه كل واحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين.
قدموا أبا بكر أولاً؛ فكان في عهده تمحيص الأمة العربية، وتصفيتها من
النفاق والضعف، وكان هو أولى الناس بتنفيذ هذه التصفية في حروب الردة
ودعوى المتنبئين النبوة وبقايا العصبية الجاهلية، وهو مشهود له بأنه كان أعلم
الناس بأنساب العرب وأخلاقهم وأحوالهم، فتم ذلك بسياسته على أكمل وجه.
وخلفه عمر فكان في عهده فتح الأمصار والقضاء على ملك كسرى برمته،
وملك قيصر الروم في الشرق كله، والاستيلاء على الأمم والملل الكثيرة
وخضوعها للإسلام في دينه وحكمه، أو في حكمه فقط، وقد ظهر لجميع الأمم في
عهده ومن بعده أنه خير من قام بهذا الفتح ونظمه علمًا وعقلاً وعدلاً وقوة وإخلاصًا.
فبحكمة أبي بكر صارت الأمة العربية أمة واحدة موحدة مثقفة، وبحكمة عمر
صارت أمة فاتحة حاكمة عادلة مصلحة للبشر؛ ولما كان من سنن الاجتماع أن
يظهر في هذه الدولة العربية ما هو كامن في بعض أهلها من الاستعداد للفتن
والمطامع، وما ينفخ في ضرمه خصومها الذين قضت على ملكهم، ومن المصلحة
أن يظهر حكم الإسلام في إخماده بالحق والعدل - ألهم الله أهل الشورى أن يقدموا
عثمان على عليّ، وجل عصبة الأول من بني أمية الطامعين في الملك، وجل
عصبة الثاني من بني هاشم الذين يغلب على أكثرهم الزهد في الدنيا، وقد كان
بينهما في الجاهلية ما كان من (التنازع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم)
الذي ألَّف المقريزي فيه مصنفًا خاصًّا بهذا الاسم.
كان عثمان على عدله وفضله شديد الحياء، لين العريكة؛ فغلبه قومه على
وصية عمر السياسي الحكيم له بأن لا يحمل أبناء أبي معيط على رقاب الناس،
فركبوا الرقاب من غير أن يحملهم هو عليها، فنجمت رءوس الفتنة في عهده،
وكان كارهًا لها، إلا أنه لم يستطع كبح جماحها، فكان شهيد أول ثورة على ولي
الأمر في الدولة العربية، وكان هذا أشأم سنة في الحكم الإسلامي.
ثم جاء عليٌّ ونار الفتنة مشتعلة، وكان أولى إمام في الأمة أن يقاومها علمًا
وعدلاً، وإيثارًا للحق على الخلق، وللهدى على الهوى؛ ولو لم يكن لها في تأخر
زمنه - وقد أطال الله عمره - إلا هذه الحكمة والرحمة لكفى؛ فهو قد سنَّ من سنن
الحق والعدل في قتال البغاة والخارجين على حكم الإسلام ما لم يكن يرجى من غيره
مثله، وخيرها اتقاء تكفير أهل القبلة بخطأ الاجتهاد، كما كان هذا التكفير شر ما
فعلوه، فالإيمان والكفر إنما يكونان بالقطع لا بالاجتهاد.
وقد بينَّا من قبل أن التنازع في الإمامة بين شيعة علي وجمهور الأمة قد كان
تنازعًا بين ما يسمى في هذا العصر السلطة الأرستقراطية، أي: حكم الأشراف،
والسلطة الديمقراطية، أي: حكم الأمة الشوري الانتخابي؛ ولذلك كان أشد أنصار
الشيعة من بعده الأعاجم الوارثين للعبودية للملوك، وأن عليًّا لو ولي الأمر من أول
الأمر بسبب قربه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بحجة وصيته له ولذريته
من فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكانت فتنة عبادته وعبادة آله
ودعوى عصمتهم قضت على توحيد الإسلام من أول وهلة إن ثبتت.
استحالت خلافة النبوة بعد عليّ والحسن عليهما السلام ملكًا عضوضًا، كما ورد
وهو من سنن الاجتماع، وكان بنو أمية وقد صفا لهم الملك من أقدر قريش على
استمرار الفتح وتوسيع دائرة الدولة وعظمتها؛ ولكن تحويل زعيمهم الأول
(معاوية) لحكم الإسلام الشوري (الديمقراطي) إلى عصبية النسب (الأرستقراطية)
كان سُنَّة سيئة دائمة قضت على دولتهم قبل أن يتم لها قرن كامل، وهم الذين
أحدثوا بسياستهم الجنسية فتنة الشعوبية فكانت عاقبة هذه العصبية أنْ آل الحكم إلى
الأعاجم، وصار قائمًا على قوة العصبية دون أصل الشرع، وزال سلطان الإمامة
الديني الذي تخضع الأمة له بوازع العقيدة، فصار الحكم الإسلامي عسكريًّا مذبذبًا،
لا أرستقراطيًّا ولا ديمقراطيًّا.
هذه جملة أسباب ترك الدول الإسلامية لهداية القرآن وهداية السُّنة وجماعة
الأمة، ولو ظلت الأمة متبعة لهما لأكرهت الدولة على هذا الاتباع في أي وقت
تجتمع به كلمتها؛ ولكن جمهور الأمة تحولوا عن هذا الاتباع بفساد التعليم،
وتقصير العلماء في بيانه، والدعوة إليه والعمل به، ومطالبة الحكومات بالتزام
هدايته، بل إلزامهم إياها بنظام تكفله الأمة، وتيسير السبيل لذلك بجعل لغته مَلَكة
راسخة في الأمة بتعلمها بالعمل، كما كان عليه أهل العصر الأول، ولم يفعلوا شيئًا
من هذا، وهو الذي أضاع حكم القرآن من ناحية السلطان.
وهو ما نوهنا به في تصدير الطبعة الثالثة التي نشرناها في هذا الشهر،
وصرحنا فيه بأنه حدث لنا به أمل جديد في حياة المسلمين الملية، لا تعرف حقيقتها
إلا بتجربة عملية جديدة، وهو ما عزمنا عليه في هذه السنة.
الدعوة الجديدة هي أساس الإصلاح كله:
سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة
المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها، أو فيما عدا
التعليم الإسلامي المدرسي منه، الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له،
وتولي النهوض به، فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة
القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم.
لما ألَّفنا جماعة الدعوة والإرشاد، وأنشأنا مدرستها وجدنا عقلاء المسلمين
وأذكياءهم في مصر، وإستانبول، وأمصار الهند الإسلامية الكبرى، وبغداد،
وسوريةَ متفقين على أنها أعظم عمل إسلامي لا يُرجى الإصلاح المنشود بدونه؛
حتى إن كبار رجال الترك أكبروه، وعلموا أنه يحيي الدولة العثمانية حياة جديدة إذا
هي كفلته ونفذته على الوجه الذي اقترحته عليها وقررته الجمعية التي أسست له من
أذكى رجال الدولة، ولكن زعماء جمعية الاتحاد والترقي - الملاحدة منهم - كانوا
قد أجمعوا أمرهم على إسقاط دولة آل عثمان وخلافتهم، وإقامة دولة تركية لا دينية
على أنقاضها، ولولا ذلك لما منعوا الحكومة من تنفيذه بعد أن صدر به أمر مجلس
الوزراء، وقرر أن تكون نفقات المدرسة السنوية في ميزانية وزارة الأوقاف.
وكان الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر علم بالأمر وأكبره، فلما عدت من
إستانبول والأمر مقرر رسميًّا، أقنعني بأنه هو يكفل مساعدتي على تنفيذه في
مصر، وبأن الدولة العثمانية إن أرادت تنفيذه في إستنابول فإن من السهل أن يكون
في كل من العاصمتين مدرسة تابعة لمقاصد الجمعية ومنهاجها، ففعلت وصدق هو
وعده، وفتحت المدرسة أبوابها لجميع الشعوب الإسلامية، وتعاون على نفقتها
ديوان الأوقاف الخيرية العامة ومصلحة الأوقاف (الملكية) الخاصة، حتى إذا ما
اشتدت سيطرة الإنكليز على مصر في عهد الحرب الكبرى، كادوا للمدرسة كيدهم،
وأوعز عميدهم إلى وزير الأوقاف (إبراهيم فتحي باشا) وكان من صنائعه؛
فقطع الإعانة التي كانت قررت لمدرسة الدعوة والإرشاد، وتعذر عودة الخديو إلى
مصر، فاضطررت بعد صبر جميل إلى تعطيلها.
وجملة القول أنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر
مشتركي المنار، وعلى ما أقر به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة
والعامة بالأولى، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها، لم أرد إلا ثقة ورجاء
بنجاح السعي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وجديد أمر الدين بما يظهره الله به
على الدين كله، حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة
من المسلمين بذلك؛ تصديقًا لبشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بأنه لا يزال في أهله طائفة ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى تقوم
الساعة (رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق) . وهذه
الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين
خيار الرجال المتفرقين في الأقطار، الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على
اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم لمخاطبتهم في الدعوة إلى العلم، وأرجو من كل
من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا
عنوانه، وما هو مستعد له من العمل معهم، إلى أن تنشر دعوتهم الرسمية.
وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا العصر
الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض، فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على
أمر الله، وتعاونها على نشر الدعوة، وجمع كلمة الأمة، بعد وضع النظام لمركز
الوحدة الذي يرجى أن نثق به؛ فهي لا ينقصها إلا هذا، وقد طال تفكيري فيه،
وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه.
وأعجل بحمد الله تعالى أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا
الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر - وهو ما يعبر عنه
في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية - وقد قضى هو يائسًا مما كان يحاول فيه،
وظللت أجاهد في سبيل إصلاحه على ما عرض من أسباب اليأس منه، التي تفاقم
أمرها أخيرًا، وكتبت فيها بضع مقالات في المقطم، ثم (كتاب المنار والأزهر)
وما هذا إلا لأنني لم أيأس، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد
مصطفى المراغي عظيم، أشرت إليه في تصدير الطبعة الثالثة من كتاب الوحي
المحمدي، بعد أن كتبت عنه في الجزء الماضي من المنار ما كتبت.
كان الأزهر كَنْزًا خفيًّا، أو جوهرًا مجهولاً عن أهله وحكومته، وعقلاء بلده
لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به، والاستيلاء
على زعامة جميع الشعوب الإسلامية في الدين والأدب واللغة بإصلاح التعليم العام
فيه، ولكن تعليم الإمام - رحمه الله - وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في
طائفة من شيوخه، والاستعداد في جمهور طلابه، ولم يبق إلا العمل الجادّ، ولله
الحمد.
__________(35/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حرمان البنات من الإرث
وتعارض القرآن والإجماع
(س1) لصاحب الإمضاء في مصر القاهرة:
حضرة صاحب السيادة: مولانا الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا،
صاحب المنار الأغر - نفعنا الله بعلمه وفضله.
عرض بعض فقهاء المسلمين في مصر إلى مسألتين: الأولى احتيال الآباء
على حرمان بناتهم من أموالهم بطريق النزول عنها إلى أولادهم الذكور ببيع ما
يملكونه لهم، حتى إذا ماتوا لا تجد البنات ما ترثه من أموال آبائهن.
فقال بعض الفقهاء بجواز هذا، ونشرت قوله كذلك في " الوطنية "، وقال آخر
بالتحريم، ونشرت قوله كذلك في الوطنية؛ فأصبح المسلمون في حيرة من أمرهم
بين هذين القولين المتناقضين، وقد لجأت إلى فضيلة مفتى الديار المصرية ليكون
حَكَمًا بينهما، فأحالني على سيادتكم، وأجَّل فتواه إلى ما بعد اطلاعه على فتواكم.
تعارض القرآن والإجماع
المسألة الثانية: إذا تعارض القرآن والإجماع في أمر؛ فبأيهما نأخذ؟ قال
بعض العلماء: نأخذ بالقرآن، وقال أحد كبار الفقهاء: نأخذ بالإجماع. واستشهد
الفقيه المشار إليه على صحة رأيه بقوله: إن القرآن فرض نصيبًا من الصدقة
للمؤلفة قلوبهم، وجاء الإجماع فقرر إلغاء هذا النصيب؛ لأن الإسلام أصبح قويًّا
ومنتشرًا، وليس بحاجة إلى تأليف القلوب؛ فماذا ترون سيادتكم في هاتين
المسألتين، فإن العالم الإسلامي ومفتي الديار في انتظار فتوى سيادتكم في كلتيهما؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... أيوب صبري
... ... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة الوطنية
(1) الاحتيال لحرمان البنات من الميراث:
الاحتيال لحرمان البنات من الميراث ببيع المورث بعض عقاره أو كله للذكور
من الوارثين بيعًا صحيحًا في الظاهر، أو هبته لهم في غير مرض الموت أو بغير
ذلك من الوسائل - هو كالاحتيال لمنع الزكاة أو أكل الربا المحرم قطعًا - حرام لا
شك فيه، وقد حررنا هذه المسألة في الكلام على الحيلة لأكل الربا، وأشد الفقهاء
جمودًا على ظواهر الأحكام يصرحون بحرمة هذا إذا قصد به تعطيل حكمة الشارع؛
وإنما يكابر من يكابر في حكم ظاهر العمل بصرف النظر عن النية فيه. وقد أمر
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل والمساواة بين الأولاد في عطايا الدنيا،
فضلاً عن الميراث المقرر في كتاب الله تعالى، ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن
النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رَضِي اللَّه عَنْهمَا - قال عَلَى الْمِنْبَرِ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً،
فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ (يعني أمه) : لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ
ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ
سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ لا، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ) ، قَالَ:
فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. وفي رواية لمسلم زيادة: (لا تشهدني على جَوْر) وفي
أخرى: (فلا تشهدني فإني لا أشهد على جور) وفي أخرى (اعدلوا بين أولادكم
في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) والنِّحَل: جمع نِحْلة بالكسر،
وهي العطية التي لا مقابل لها.
والظاهر أن هذه التسوية واجبة، وإن قال بعض الفقهاء إنها مندوبة،
واختلف في صفتها فقيل: لا فرق فيها بين الذكر والأنثى، وقيل هي كالميراث،
ويتجه التفصيل فيما كان من طعام أو زينة، وما يعطى من الدراهم في الأعياد
فالظاهر فيه المساواة لاستواء الحاجة؛ ولأن التفضيل يسوء البنات، وما يُقتنى
ويدخر أو يستغل لكثرته فالظاهر فيه أنه يراعَى فيه نصيب كلٍّ في الميراث؛ لأنه
أقرب إليه، وعلى الأول يحمل حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا:
(سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء) رواه سعيد بن
منصور، والبيهقي من طريقه وإسناده حسن، كما قال الحافظ ابن حجر.
* * *
(2) التعارض بين القرآن والإجماع:
إني لأستنكر هذا التعبير، وأقول: إن القرآن أعظم وأجل من أن يعارضه
دليل، وكل ما خالفه فهو خطأ مردود، ومن سوء الأدب أن يقال إنه معارِض له،
وأسوأ من ذلك أن يقال إنه يرجح عليه.
وما ذكر في السؤال من سقوط سهم المؤلفة قلوبهم من مستحقي الزكاة لا يصح
بل هو باقٍ، ولو صح لما كان حكمه معارضًا للقرآن وراجحًا عليه، بل يقال فيه
إن حكمه قد تعذر تنفيذه بفقد المستحق له، كما يقال في غيره من غير حاجة إلى
ادعاء الإجماع: كالغارمين وابن السبيل، إذا فقدوا من بعض البلاد، ومثل ذلك
كفارة العتق في البلاد التي فقد منها الرقيق.
قد بينت في تفسير آية الصدقات أن المؤلفة قلوبهم عند الفقهاء قسمان:
(1) كفار، وهم ضربان. (2) مسلمون، وهم أربعة: وأنه حدث في
عصرنا أقسام أخرى أولى بالتأليف (فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد
جمع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة
قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلفونه لأجل تكفيره وإخراجه من حظيرة الإسلام،
ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة
الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها! ! أفليس المسلمون أولى
منهم بهذا؟ !) (ص495، ج10 تفسير المنار) .
وقلت: إنه روي عن أبي حنيفة أنه قد انقطع سهم قسم من الكفار بإعزاز الله
للإسلام، كالذين أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم هوازن، ثم
منعهم عمر، وقلت: إن هذا اجتهاد من عمر - رضي الله عنه - أي: فهو يختلف
باختلاف الزمن، وقد استمر في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما.
(وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء والسكوت
عليه من سائر الصحابة فدعواه ممنوعة: لا الإجماع ثابت بما ذكر، ولا كونه حجة
على نسخ الكتاب والسنة صحيحًا، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره
هنا) .
وجملة القول: إن سهم المؤلفة قلوبهم ضروري في هذا الزمان بأشد مما كان
في أو ل الإسلام؛ لضعف المسلمين ودولهم، وضراوة الأجانب بهدم دينهم وملكهم،
وأنه لا إجماع على ما ذكر في السؤال، وأن الإجماع الأصولي يختلف في إمكانه
وفي وقوعه وفي العلم بوقوعه إن وقع، وفي كونه حجة.
__________(35/30)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب الوحي المحمدي
(تصدير الطبعة الثالثة)
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد والشكر، إياه نعبد وإياه نستعين
أما بعد: فقد أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في موعد ذكرى مولد
النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربيع الأول سنة 1352؛ تيمنًا بظهور نوره
المُشرق، الذي أضاء الكون كله، وإنما أضاءه بزوغ شمس هذا الوحي الإلهي،
ونزوله عليه؛ فما أتى على صدوره بضعة أشهر إلا وكانت نسخه قد نفدت،
فأعدت طبعه في تلك السنة منقحًا مزيدًا فيه قدر الثلث ونيفًا، ولولا خوف الملل
على القارئين لزدته ضعفًا أو أضعافًا؛ ولذلك وعدت بأن أجعل له ثانيًا، وأصدرت
الطبعة الثانية في يوم عرفة الذي أنزل الله عليه في حجة الوداع: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} (المائدة: 3) تفاؤلاً
بتجديد هذا الكتاب لدعوته صلى الله عليه وسلم. فما جاء يوم عرفة الثاني
(سنة 1353) إلا وكانت نسخ الطبعة الثانية قد نفدت. وشرعت في الطبعة الثالثة،
وتعمدت تأخير إتمامها كالتي قبلها؛ لنشرها في موعد الأولى من هذه السنة
(1354) .
وفي غضون السنة الماضية تمت ترجمة الكتاب باللغة الأوردية، ونشرت في
الهند، وهي مترجمة من الطبعة العربية الأولى. وتمت ترجمته باللغة الصينية فيها
أيضًا مرتين، ويتولى طبع الأولى في قبودان مترجمها الأستاذ صاحب مجلة ضياء
الهلال، وحمل الثانية مترجَمَةً الأستاذ بدر الدين الصيني من الهند إلى مصر،
وعرضها عليَّ. وكان يريد إرسالها إلى بلد آخر في الصين لطبعها فأشرت عليه
بأن يزيد فيها كل ما زدته في الطبعة الثانية؛ لأنها أجمع وأنفع، ولعلها لا تطبع إلا
وقد نفدت نسخ الترجمة الأولى، ولعله يعيد تنقيحها بمعارضتها على هذه الطبعة
الثالثة فإنها أصح وأكمل. ولم يبلغني أن أحدًا غير هؤلاء قد أتم ترجمته بلغة أخرى.
وزدت في هذه الطبعة قليلاً من الفوائد، وإيضاحًا لبعض المسائل، وجعلت
أكثرها في الحواشي، كما ترى في الحاشية الثانية من ص157، والأولى من ص
158، والحاشية (2) من ص 181، وما جعلته في الصلب أشرت إليه غالبًا
كشرعية عتق الرقيق من غير المؤمنين، وليس فيها شيء من المقاصد الأصلية
المقصودة بذاتها.
علمنا إذن أنه أتى على ظهور الكتاب سنتان كاملتان، فأما انتشاره بالعربية
فهو فوق المعتاد في الكتب الدينية، وقد قررت وزارة المعارف العمومية في هذه
السنة صرفه لطلبة دار العلوم العليا، وهو يدرس في بعض المدارس الإسلامية في
دمشق وبيروت.
ويرجى نشره في السنة المدرسية الجديدة أيضًا بين طلاب الأزهر والمعاهد
الدينية بمصر، وقد تولى رياستها شيخ الإسلام وخليفة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد
مصطفى المراغي) الذي كان أول من قدر الكتاب قدره، وقرأ نصفه في جلسة
واحدة، وأتمه في جلسة أخرى، ثم كتب في وصفه تلك الكلمة البليغة التي يراها
قراؤه في صدر التقاريظ، وقد تنبأ أو بشَّر بأنه سيطبع في كل عام.
ترجمة الكتاب باللغات الإفرنجية:
ولكن قَصَّر المسلمون فيما يجب عليهم من ترجمته بسائر لغاتهم وبلغات
شعوب الحضارة التي دعوناها به إلى الإسلام، وهي الإنكليزية والفرنسية والألمانية
وهو واجب كفائي صرح بتمنيه كثير من أهل العلم والغيرة، وصرح بوجوبه
بعض مقرظي الكتاب؛ فمنهم من تعسف وطالبني بهذه الترجمة أو بالسعي لها،
ومنهم من أنصف وطالب به الأمة الإسلامية أو جمعياتها.
أما الأمة فلا تنهض بالأعمال العامة إلا بزعمائها أو جمعياتها، وأما هذه
الجمعيات عندنا فلا تزال في سن الطفولة، ولا يرجى من أمثالها عمل عظيم كهذا،
فهي أفقر وأضعف همة من جمعيات المرتدين عن الإسلام جملته وتفصيله
كالبهائية، والملاحدة المدعين للنبوة والمسيحية فيه، كالقاديانية، دع جمعيات
النصارى التعليمية والتنصيرية التي تملك مئات الملايين من الجنيهات، وقد بثوا
تعاليمهم في جميع أقطار الأرض، وهم يطمعون في تنصير المسلمين، على حين
تتسلل شعوبهم من النصرانية سراعًا بسلطان ونظام كالشعب الجرماني، أو لواذًا
بدون سلطان دولي ولا نظام كسائر الشعوب، وهي تمهد السبيل لنسخ الإسلام لها،
وحلوله محلها.
ولقد كان أرجى الجمعيات الإسلامية لهذا العمل في مصر، جمعية الدفاع عن
الإسلام، التي هدمت باسم أقوى معول من معاول الإسلام قبل أن يتم بناؤها؛ وإنما
كان هذا الرجاء فيها منوطًا برئيسها الشيخ محمد مصطفى المراغي، وما كان
السعي لهدمها إلا سعيًا لهدم اسمه، وحرمان المسلمين من استعداده، ولكن الله
نصره، وخذل من ناهضه، وجعل معول الهدم الذي كان بأيديهم سيفًا لنصر
الإسلام بيده، فإذا بعصا موسى تلقف ما يأفك سحرة فرعون {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: 118) ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
فإن كان أهلاً للرجاء بأن يسعى لترجمة كتاب الوحي المحمدي ببعض لغات
العلم الغريبة تمهيدًا لتبليغ الدعوة الإسلامية للناطقين بها - وتلك القوة الرسمية تكيد
له - فأجدر به أن يكون أقدر على تحقيق ذلك بالفعل، وتلك القوة الرسمية وما
وراءها من القوة الحقيقية طوع يده، ولن تكون ترجمة هذا الكتاب في موضع الثقة
بها عند جميع الشعوب كما إذا كانت من قِبَل شيخ الإسلام وتحت إشرافه، وكان
نشره وبث الدعوة به بإرشاده أو إجازته، مع العلم بأن مؤلفه قلم من أقلامه، وعلم
من أعلامه، وأحمد الله - عز وجل - أن جدد لي وللأمة بعودته إلى مشيخة
الأزهر ذلك الأمل بالزعامة الإسلامية العاملة التي فقدناها بوفاة الأستاذ الإمام منذ
ثلاثين سنة.
إن الأمة لم تفقد بوفاة ذلك الإمام شيئًا من علم الإسلام، وإنما فقدت زعيم
الإصلاح العارف بحاجة زمانه، الذي نال الزعامة بسمو عقله، واستقلال رأيه
وفهمه، وعلو همته وشجاعته، وإنصافه بإعطاء كل ذي حق حقه من العلم
الصحيح والإخلاص فيه، وما كان يعوزه للنهوض بالإصلاح العام إلا الاستقلال
بالزعامة التي تمكّنه من العمل؛ ولهذا كنا نسعى، ولكل قدر أجل، ولكل أجل
كتاب.
إذن لقد كان من حكمة الله أن (كتاب الوحي المحمدي) لم يترجمه بلغات
الإفرنج مَنْ ليسوا أهلًا لترجمته، حتى لا أضطر إلى تخطئتهم، فيكون ذلك محبطًا
لعملهم، أو مضعفًا للثقة بترجماتهم؛ وادخرها العليم الحكيم لمن هو أحق بها وأهلها.
بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج، والمستشرقون منهم:
لن يكون بلوغ الدعوة صحيحًا مرجوًّا إلا بوصولها إلى الأحرار، مستقلي
الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم، وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا
من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين؛ فإنهم ما درسوا العربية، ولا مارسوا كتب
الإسلام ليعرفوا حقيقته ويعرفوا غيرهم بها، بل ليبحثوا عن عورات يتلمسونها فيها
لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصور المشوهة التي ينكرونها، كما نرى فيما
اطلعنا عليه من كتبهم وفي معجمهم العلمي الذي سموه بدائرة المعارف الإسلامية،
ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب (مفتاح كنوز السُّنة) على
غير ما كنت ظننت، وخلاف ما قلت في التعريف به، فإنني لم أستفد منه أدنى
فائدة.
وأما المستقلون منهم - وهم الأقلون - فقد غلبتهم الأفكار المادية على عقولهم،
فقضاياها عندهم مسلمات كأنها لا مجال للبحث فيها، وقد قربنا مسافة الخلف بيننا
وبينهم بما أقمناه في هذا الكتاب من البينات العلمية القطعية، على أن القرآن لا
يمكن أن يكون من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا من مدارك عقله الظاهر،
ولا ما يسمونه العقل الباطن؛ فإذا فرضوا أن للإنسان عقلاً باطنًا لا تعرف حقيقته
يدرك به من علم الغيب والشهادة ما هو خفي وخارق للعادة في السنن المعروفة
لكسب العلم من الحواس والفكر، وعللوا به ما يسمونه قراءة الفكرة ومراسلة الأفكار،
وإدراك المنوم بالاستهواء المغناطيسي - وقد بينا لهم أنه لا يكفي لتعليل الوحي
المحمدي - فأي بُعد بين هذا العقل الخفي المفروض في باطن الإنسان وبين وجود
عقل خفي مثله في خارجه (وهو ما نسميه الملك كما نسمي الأول الروح) يكون
الوحي الحقيقي باتصال أحدهما بالآخر كاتصال الكهربائية الإيجابية بالسلبية، وتولد
النور من اتصالهما، فإن ما زعموه من انقداح وحي القرآن من عقل محمد الباطن
وحده محال كما قررنا، وهذا أقرب التعليلين، والفرق بينهما قريب جدًّا؛ فما ثَمَّ إلا
اختلاف الأسماء.
وفوق هذا وذاك قيام البراهين الكثيرة على وجود الله الخالق لكل شيء، الذي
دون الإيمان به لا يمكن القطع بشيء من مسائل الكون وسننه، فإنهم كلما أثبتوا
شيئًا عادوا فنفوه، وكلما أبرموا أمرًا نقضوه.
لقد قرب ظهور الحق لأحرار هذه الشعوب، وسنراهم بعد ترجمة هذا الكتاب
يدخلون - إن شاء الله - في دين الله أفواجًا، وقد بطلت ثقتهم بكل ما عداه من
الأديان.
لعل كتاب الوحي المحمدي قد وصل إلى جميع هؤلاء المستشرقين الذين
يعرفون العربية، فإنني أهديته إلى من عرفت عناوينهم، وأرسله غيري إلى أناس
منهم، ومن عاداتهم أن يبحثوا عن كل كتاب جديد له شأن، وقد شكر لي بعضهم
هذه الهدية بكلمة لم يزد عليها (كصاحب مفتاح كنوز السنة، الدكتور فنسنك)
وانفرد العلامة الدكتور موريتس الألماني منهم بإبداء رأي فيه، فأنشر هنا نص
كتاب الشكر الذي تفضل به، وهو:
برلين 8 سبتمبر سنة 1933
جناب الشيخ العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم.
بعد التحية والاحترام: فتفضلتم بإرسال إليَّ نسخة كتابكم الجديد (الوحي
المحمدي) فالرجاء قبول جزيل الشكر على هذه الهدية النادرة القيمة،
وبالخصوص على ما أظهرتم بها من عدم نسيان شخصي، ولا حاجة للتأكيد لكم
أني اطلعت عليه بغاية الاهتمام، ولا ريب عندي أنه يجد كمثله في عالم العلماء.
وفي أثناء هذا الاطلاع قد عثرت على جملة مسائل ونقط تستحق ملاحظات، لكن
نظرًا لحجم هذا الجواب الذي لا يتسع أن أدخل في جميعها، أقتصر بواحدة منها،
أي في معنى كلمة نبيء الأصلي (ص21) عند العبرانيين القدماء، فكان (نبيأ)
في أوائل عصرهم المتكلم بصوت عالٍ، ثم الناطق في أمور أمته القضائية
والسياسية، أي مثل ناصح ومستشار لإرشادها، لكن شيئًا فشيئًا تتبعًا لتقدم الدين
الإسرائيلي تغير موقعه وصفته فصار واعظًا وناصحًا في الأمور الدينية؛ لأنه كان
معتقدًا أن هذه الوظيفة صارت له، بناء على أمر من الله بذلك، وأنه المتكلم باسم
الله، والدليل على ذلك أنه يستعمل في أول كلامه - أي نبوته - هذه الكلمات:
هكذا قال ياهُو (وهو اسم إله بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الشرقية المنتشرة
بين الحجاز وبين سوريا الشمالية) ... إلخ.
وفي الختام أكرر لكم الشكر الواجب مع تمنياتي الصميمة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... دكتور موريتس
يقول هنا العلامة الكبير: إن هذه الهدية نادرة القيمة، وأنه اطلع على الكتاب
بغاية الاهتمام، وأنه لا يرتاب في أنه يجد في عالم العلماء ما ينبغي لكتاب مثله،
فهؤلاء العلماء قد بلغتهم دعوته، وفهموا ما تحديتهم به من الآية الكبرى على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وما نزل عليه من وحي القرآن، ولم يقدر أحد منهم
أن ينقضها، أو يأتي بتعليل لهذه المعجزة الدالة على إتيان محمد - صلى الله عليه
وسلم - بهذا القرآن في أسلوبه ومعانيه، وما فيها من العلوم العالية التي لخصتها
في المقاصد العشرة ولتأسيس أقوم دين وأقوى دولة وأمة في عشر سنين قَلَبا أعظم
دول الأرض وأديانه في ثلث قرن.
وما ذكره الدكتور من الملاحظة على بعض مدلول لفظ (النبي) عند اليهود
فهو منقول من قاموس الكتاب المقدس للدكتور بوسط، وقد ذكرت المعنى الذي أشار
إليه في كلامي على النبوة من الطبعة الثانية (ص 25) وهو في (41) من هذه
الطبعة الثالثة.
ولا أزال أتمنى لو يتفضل عليّ بغير هذه الملاحظة، وأخص بالذكر ما عساه
ينتقده من جوهر الموضوع ولبابه، وإذن أرويه عنه بنص وأبلغه جوابي عنه.
تعادي الأمم والدول وحاجتها إلى الإسلام:
لا تزال دول أوربة وأمريكة وشعوبهما على ما وصفتهما به في مقدمة هذا
الكتاب من الشقاء والشقاق، والرياء والنفاق، وقد عقدوا في هاتين السنتين مؤتمرًا
بعد مؤتمر واتفاقًا بعد اتفاق، ولا يزالون كحمار الرحى يدور ولا يبرح مكانه،
ليس للحق ولا للصدق عندهم قيمة، فقد ظلوا منذ عقدوا عهد (فرسايل) يجرون
فيه مع ألمانية على قاعدة البرنس بسمارك (المعاهدات حجة القوي على الضعيف)
حتى إذا اضطروها إلى نقضها سرًّا، كما نقضوها جهرا. وتجديد قوة حربية جوية
يرهبونها، أذعنوا لمساواتها لهم في الحقوق والكرامة الدولية كرهًا، وكانوا يمارون
فيها ويأبونها طوعًا، بل صاروا يخافونها أن تسطو عليهم، ويجددون المحالفات
الدفاعية التي أفضت إلى الحرب العامة السابقة، حتى ذلوا لمحالفة الدولة الشيوعية
عدوتهم كلهم، وأنَّى لهم الفرار من حكم كتاب الله في الأمر بالوفاء بالعهود والنهي
عن جعلها دخلاً وخداعًا لأجل أن تكون أمة هي أقوى من أمة، فتكون المعاهدات
أنكاثًا لا مندوحة عن نقضها كما بينا ذلك في محله [1] .
بغوا واستعلوا على ألمانية وهم يعلمون أنها تعلوهم علمًا وصناعة ونظامًا،
وفرائصهم ترتعد فَرَقًا من استعدادها السري للحرب، وقد ذاقوا بطشتها القاهرة،
التي كادت تفتك بهم كلهم من قبل، ولكنهم اتكلوا على خداع معاهدتهم الخاطئة
الكاذبة، وعلى تجديد محالفاتهم التي قصدوا بها أن يكونوا إلبًا واحدًا عليها، وأن
تكون في عزلة لا تجد فيها وليًّا ولا نصيرًا.
صاح زعيمها المجدد (هتلر) صيحة بنقض تلك المعاهدة، وتجديد السلاح
الجوي والبحري والتعبئة؛ فراعتهم كزئير الأسد يجفل الغنم، وقالوا: إن سلم
أوربة وحربها رهن يديه، وعمرانها وخرابها بين شفتيه، ظلوا يصيخون السمع لما
سيقوله في خطابه السياسي العام، حتى إذا ما ألقاه كان حجة بالغة له، دامغة
لخصومه، وصادعة لآخر حصن لدول الاتحاد الثلاث في وجهه (اتفاق ستريزا)
فعادت إنكلترة تفاوض ألمانية في قواتها الجوية والبحرية، وكانت تستكبر عن هذا،
وكشرت عن أنيابها لإيطالية فيما تحشره من جيوش وذخائر للعدوان على دولة
الحبشة المعتصمة معهم بعهد عصبة الأمم، الذي هو في نظرها كسائر العهود
الأوربية حجة القوي على الضعيف، وقد رأوا كيف رفضته بل رفسته كل من
اليابان وألمانية برجلها، ولكن البلية كل البلية في تعارض مطامع الأقوياء، فزعيم
إيطالية مغتر بقوتها، جانح لفتح الحبشة أو نقصها من أطرافها. وإنكلترة أعز منها
وأقوى، وإن هذا لصدع في اتحاد هؤلاء الأحلاف لا يلتئم؛ فهذا الزعيم المعتز
بسلطانه الشخصي يرى خيبته بعد الشروع في وسائل الزحف قضاء على نفوذه،
وأمته في اضطراب لا ينقذها منه إلا فوزه فيه، وألمانية لابد لها من استعادة جميع
مستعمراتها، وهي أقدر على إخضاع إنكلترة في الهواء والماء. وماذا تفعل فرنسة
إذا تركته إنكلترة؟
وجملة القول أن هذه الدول وشعوبها لا تزال - ولن تزال - على ما وصفناها
به في مقدمة الطبعة الأولى للكتاب من فساد لا علاج له إلا هداية الإسلام، دين
الأخوة الإسلامية والعدل والرحمة والسلام؛ فيجب المبادرة إلى تبليغ دعوته،
وإقامة حجته، وهو قد أعد عقلاء المسلمين لتعميم هذه الدعوة عندما ينهض زعيم
مسلم لكفالتها وتوحيد النظام لها، ويرى قارئه الشواهد على هذا فيما نشرناه من
التقاريظ في آخره، وفي مقدمتها قول شيخ الإسلام المراغي لمؤلفه: إنكم وفقتم
لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي.. . إلخ، وسائرها مؤيد لقوله، يدل على
استعداد في الأمة لتنفيذه.
استعداد المسلمين لدعاية الإسلام:
ذكرت في آراء شيخنا الأستاذ الإمام من تاريخه (ص939، ج1) أن أمم
الحضارة في الغرب سيذوقون من فتن مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى
طلب المخرج منها، فلا يجدونه إلا في الإسلام - إسلام القرآن والسنة لا إسلام
المتكلمين والفقهاء - وأنه صرح بهذا مرارًا في دروسه في الأزهر وفي غيره.
وأقول الآن: لكنه ما سمع لقوله هذا صدًى، ولا وجد على نار المسلمين
هدًى، فكان يرجح أن هداية القرآن ستظهر في غيرهم من الشعوب الحية، وأن
هؤلاء المسلمين الجغرافيين سيطلبون إسلام القرآن والسنة منهم تقليدًا لهم كما
يقلدونهم في الزينة والإباحة والإسراف في الشهوات الذي أفسدهم جميعًا.
وسمعت مثل هذا الرأي من الأستاذ المراغي وغيره من الأفراد، ولعلي أوسع
علمًا واختبارًا لمسلمي الأقطار من كل هؤلاء، وأجدر منهم بسوء الظن فيهم، ولكن
ظهر لي بتقبل عقلائهم لكتاب (الوحي المحمدي) بما تقبلوه به من إيمان وشهادة
ورجاء وثناء ودعاء، أن استعدادهم لهداية القرآن والدعاية له قد دخل في طور
جديد، ألم تر كيف تجاوبت أصوات المقرظين له في مصر وسورية والعراق
وغيرها من الأقطار بقول القائلين إنهم كانوا يفكرون ويتمنون ويتساءلون قبله عن
كتاب يصلح للدعوة إلى الإسلام فلا يجدون، حتى إذا رأوه وجدوه الضالة التي
ينشدون؛ أو لم تر كيف شاركهم فيها أئمة المسلمين وملوكهم المتقون؟
فعلم من هذا أن المسلمين لا يمكن أن تعود إليهم الحياة إلا بمثل ما بدأ به
سلفهم من روح القرآن وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام مالك:
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما ذلك إلا أن يكونوا على علم
بالقرآن يوقنون به أنه مصلح لجميع البشر، وأن حملته يجب أن يكونوا أئمة البشر
وهداتهم، والمصلحين لما أفسدته المدنية المادية من عقائدهم وأخلاقهم، فإن لم
يملكنهم هذا اليقين فلا رجاء في دينهم ولا دنياهم، ولكن نشر هذا اليقين فيهم يتوقف
على نظام وزعامة يثق بها الخاص والعام، وسيرون الدعوة له تبث في هذا العام،
وسنرى قد استعدادهم لتأييدها بأموالهم وأنفسهم فيسرنا - إن شاء الله -: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار
__________
(1) راجع ص 148 طبعة أولى، وص 252 طبعة ثانية، وص 270 طبعة ثالثة.(35/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر
نَوَّهْنَا في الجزء الماضي بحفاوة الأزهر بعودة الشيخ المراغي إلى رياسة
مشيخة الأزهر والمعاهد الدينية ومشاركة جميع طبقات الأمة لهم فيها، وقد وعدهم
بأن يرد لهم الزيارة في الجامع الأزهر نفسه ويلقي عليهم خطابًا عامًّا، ووفّى بوعده
فكان يومًا مشهودًا ألقيت فيه الخطب والقصائد في تهنئة الأزهر وأهله بإمامهم
المصلح الأكبر، ثم ألقى عليهم الأستاذ الخطاب الآتي الجامع لمقاصد الإصلاح
والتجديد وكانت آلة مضخمة الصوت توصل كلامه إلى أقصى أولئك الألوف
المجموعة كأدناهم، وهذا نص الخطاب، والعناوين في أثنائه من وضع المنار:
بسم الله الرحمن الرحيم
له الحمد على نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه..
وبعد: فقد رأيت واجبًا عليّ أن أزور الأزهر قبل بدء الدراسة لأحيي علماء
الأزهر والمعاهد، وطلبة العلم في الأزهر والمعاهد في دارهم كما حيوني في داري،
والأزهر دار خاصة لكل من ينتسب إلى العلم، ودار عامة للمسلمين،
وقصدت أيضًا إسداء النصيحة إلى إخواني العلماء وأبنائي الطلبة بنسيان ما قد يكون
باقيًا في نفوسهم من ضغائن وإحن سببتها الحوادث الأخيرة التي تعرفونها؛ لنستقبل
الحياة العلمية في صفاء، ونقبل على العلم بقلوب مخلصة لله ورسوله، نقية من
دنس الغل والحقد، عامرة بالإيمان.
والأزهر مكان يستحق الإجلال؛ فقد كان - ولا يزال - مصباحًا تستضيء
به جميع الأمم الإسلامية، ومنبعًا صافيًا لعلوم الدين، ومستودع فنون العربية
وأسرارها وبعض العلوم العقلية.
وقد اضطلع بحمل عبء المعارف الإسلامية وغيرها، وخاصة بعد سقوط
بغداد وضياع ذخائرها العلمية، وصار المثابة الأخيرة، والكعبة التي يؤمها طلاب
العلم من جميع الأقطار، وما من بلد في مصر، بل وما من بلد في أي قطر من
الأقطار الإسلامية إلا وهو مدين للأزهر بما يعرفه أهله من الدين الإسلامي، وبما
بقي عندهم من علوم العربية.
حمل الأزهر هذا العبء وأدى الأمانة كاملة، وله الفضل على المعاهد العلمية
القائمة بجواره في مصر؛ فهو أستاذها، وهو شيخ هذه المعاهد جميعها.
نعم: قد استقلت عنه بعض المعاهد أخيرًا، ولكنه لا يزال له نصيب عظيم
من التثقيف في المعارف الإسلامية وفنون العربية في أكثر هذه المعاهد؛ فلَكُمْ أن
تفخروا بتاريخ طويل كله مجد وعظمة لهذا المعهد الذي تنتسبون إليه: تاريخ ظهر
فيه من الأئمة والعلماء والمؤلفين من خريجي الأزهر من لا يحصيهم العد، وقد
كانوا سبّاقين للخيرات، وكّلوا أمرهم إلى الله - جل شأنه - فحفظهم ورعاهم،
وشرح صدورهم، وأنار عقولهم؛ فترسموا آثار الرسول الأكرم - صلوات الله
عليه - وتخلقوا بأخلاقه، واعتصموا بهديه، وانتفع الناس بعلمهم وتأدبوا، وحلت
آثارهم في البلاد جميعها كما يحل ضوء الشمس ونور القمر.
أولئك آباؤنا وأجدادنا في سلسلة النسب العلمي، رضي الله عنهم ونفعنا بهم.
يجب أن نذكر هذا المجد ونفاخر به، ونحرص على الانتساب إليه كما
يحرص الأشراف على أنسابهم، وأن نحافظ على هذا المجد ونضيف إليه مجدًا
طارفًا، اقتداء بأولئك الآباء والأجداد.
قد يسأل بعض الناس ما فائدة الأزهر؟ أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال
اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام، ومتى عرفت رسالة
الإسلام عرفت رسالة الأزهر.
موضوع الإسلام واتفاقه مع علوم العصر والحاجة إليها:
الإسلام دين جاء لتهذيب البشر، ورفع مستوى الإنسانية، والسمو بالنفوس
إلي أرفع درجات العز والكرامة، قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، ووصل
بين العبد وربه، ولم يجعل لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء،
وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو
منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل، وأتى بتعاليم كلها ترجع إلى
تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وشرع حل التمتع
بالطيبات، ولم يحرم إلا الخبائث، ووضع حدودًا تحدُّ من طغيان النفوس ونزوات
الشهوات، ورسم أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين، قواعد كلها لخير
البشر وسعادة المجتمع الإنساني.
هذه صورة مصغرة جدًّا للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين
الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى
نصيبًا عظيمًا من السعادة والخير للجمعية الإنسانية.
في القرآن الكريم حثٌّ شديدٌ على العلم، وعلى معرفة الله، وعلى تدبر ما في
الكون؛ وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق، فالدين الإسلامي
يحث على تعلم جميع المعارف الحقَّة، وليس في المعارف الحقَّة الصحيحة المستقرة
شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها.
نعم: قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن
والحديث والفقه وغيرها، ولكنا لا نهتم لهذا؛ فليَسِر العلم في طريقه، ولنصحح
معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني
المستقر.
ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية
للكيمياء أو ما يشبه هذا، ولكني أعني أن هناك علومًا ومعارف لها صلة بالدين
وثيقة تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عنه الشبهات، هذه العلوم
يجب أن يتعلمها العالم الديني، أو يتعلم منها القدر الضروري لِمَا يوجِّه إليه.
هذا وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها
ضروريًّا لنشرها وترغيب الناس فيها، ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة
الحديثة: وازنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب
النفوس إليها، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس عنها، وقد
توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفًا، وأغلى قيمة، وأمتن مادة، ومع ذلك
هي في كساد.
تغيير طريقة التعليم والتصنيف:
وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث
العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي الملل والسأم.
حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب
أيضًا، وهذا المثل ينطبق علينا: ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي
جميع العلوم التي تدرس في الأزهر أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة
العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث
النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس
الآن من غير حرج، وتحقق العدالة في أكمل صورها؛ ولكن هذه النظريات البالغة
منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم.
على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وأن ييسر لهم هذه المعارف،
وأن يعرضها عرضًا حديثًا جذَّابًا مشوقًا.
تطهير الإسلام من البدع:
ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: تلك هي تطهير الدين الإسلامي من
البدع وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. هناك آراء منثورة في كتب
المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها، ضنًّا بكرامة الفقه والدين.
ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في
المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها.
وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب (الولاة والقضاة) للكندي:
(كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي، وكان
يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب، وكان
مرضي الأحكام، لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه، سأل ذلك القاضي
الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات، فقال الطحاوي: أتسألني عن
رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ فقال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي:
ظننتك تحسبني مقلدًا، فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟
فتَخيُّر الأحكام نوع من الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه.
إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية في
مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
بل أقول: إن هذا الإصلاح ضروري للأمم غير الإسلامية كلها بما يؤديه من
الخدمة للحضارة الإنسانية العصرية التي تنقذها مما هي عرضة من خطر الإباحة
المادية والإلحاد، اللذين يبثهما في الأمم دعاة البلشفية والتعطيل الجاحدين لوجود
الخالق والبعث والجزاء على الخير والشر؛ فهذا الخطر لا علاج له إلا هداية
الدين [1] .
وأنا أرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في
النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، وللدين
الحق، الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر.
احترام حرية الرأي:
ونصيحة أقدمها للعلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيًا تدبرها، وهي احترام
حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر.
ولا أطالب بشيء يعد بدعة، ولا أحدث في الدين حدثًا بهذه النصيحة؛ فهي
موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة - رضي الله عنهم - وترونها مبسوطة
واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي.
وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها [2]
كالصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا.
أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب
الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقًا، على شرط أن
يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع.
على هذا أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - وأجمع عليه الأئمة، ولم
يعرف أن بعضهم أثم بعضًا.
وإجمال القول أنه ما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئًا منه، ولا
يكذب ما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطرق قاطعة، فهو مسلم لا
يحل لأحد أن يتهمه بالكفر.
عرضت لهذه النصيحة؛ لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس،
والعمل بها يمكِّن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة، والعلم على خلافها
منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة.
أسأل الله أن يهبنا رشدًا، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلاله، ويملأها
عطفًا وشفقة ورحمة لعباده.
وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم، فمن أول واجب على
أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات: لغات الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا
بلسان قومه ليبين لهم.
فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم،
وسأُعنَى بهذه المسألة، كما أُعنَى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون (أغرابًا)
فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو
أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع.
وخليق بنا أن نذكر ما لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم من منن وأيادٍ
بيضاء على المعاهد الدينية، وأن نسأل الله - جلَّت قدرته - أن يسبغ عليه نعمة
العافية، ويديم على هذه المعاهد خيره وبره، وأن يحفظ حضرة صاحب السمو
الملكي أمير الصعيد، ولي عهده المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) هذه الجملة مما زاده الشيخ الأكبر في خطابه ولم يكن مكتوبًا فيه، ولكننا سمعناه منه.
(2) المنار: المراد من الضروري: المعلوم من الدين بالضرورة، لا الضروري في العمل، أي الذي يضطر الناس إلى العمل به، واشترطوا في هذا المعلوم بالضرورة مكفرًا أن يكون مجمعًا عليه، وهو يشمل العقائد والأحكام، ولعل الشيخ الأكبر خص المسائل الفقهية بالذكر لأجل التفصيل الذي ذكره بعدها.(35/41)