الكاتب: محمد بهجت البيطار
__________
أنا والأديب الشنقيطي
طالعت مقال الأستاذ الأديب (محمد الأمين الشنقيطي) الذي رد به على
مقالي المنشور في الجزء الخامس من مجلة (الرابطة الغراء) تحت عنوان
(الوهابيون والتوسل) أو (التوسل والأستاذ البيطار) ويلخص هذا الرد بما جاء في
طليعته من قوله: (لم يكن قصدي في هذا المقال إلا إثبات ما أنكره الأستاذ من أن
رجال مذهبه الوهابي لم يكفروا المشركين) .
أقول: أما المشركون فهم بما أشركوا في غنى عن التكفير؛ لأن الشرك كفر
وزيادة، بل هو شر أنواع الكفر على الإطلاق قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال عز وجل: {وَمَن
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31) وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا
خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ
عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 4-6) وقال عز من قائل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ
اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} (غافر: 12)
وقال سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) .
فإن قيل: إن هذه الآيات قد نزلت في المشركين الأولين، أجيب بأن هذا حق؛
ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول علماء الأصول [1] فيتناول
عمومها كل من اتصف بوصفهم، وتلبس بشركهم والعياذ بالله تعالى، ومناط الحكم
فيها هو دعاء غير الله بما لا يدعى به إلا الله، فهي تعم كل من شمله عمومها،
وتناوله حكمها، من المشركين الأولين والآخرين إلى يوم الدين.
أما إذا كان الغلط الواقع في كلام الأخ الأمين مطبعيًّا، وكان أصل المراد أن
رجال المذهب الوهابي يكفرون المسلمين فهذا غلط عليهم، وحاشا لله أن يكفروا
مسلمًا موحدًا، وسيأتي مزيد من بيان لذلك، إن شاء الله.
وأما استدلاله بحديث الأعمى الذي هو أقوى ما في هذا الباب، فقد تقدم في
كلام الأستاذ الدجوي، وأجبنا عنه بأنه على فرض صحته قد دل أوله وآخره على
أنه توسل إلى الله تعالى بصلاته، وبما علَّمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الدعاء، ثم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو العمدة في ذلك، وقول
الأستاذ الشنقيطي في تعليل رجحان التوسل بالذات على الدعاء الصادر منه صلى الله
عليه وسلم؛ لأن الضرير جاء طالبًا الدعاء فعدل عن الدعاء وأمره بهذا التوسل -
غير مسلم؛ لأنا نقول إن هذا التوسل نفسه من الدعاء، ولا أدري من أين فهم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع له، مع أن الله تعالى قبل شفاعة النبي فيه
ودعاءه له، فرد عليه بصره، وكان ذلك معجزة للنبي صلوات الله عليه مصدقة
لرسالته، مؤيدة لدعوته، كسائر معجزات الرسل، وكانت خاصة بذلك الأعمى
الذي دعا له، دون عبد الله بن أم مكتوم مثلاً وقد كان مؤذنه صلى الله عليه وسلم
وأشد لصوقًا به من ذلك الأعمى؛ لكنه لم يدع له ولم يسأله هو ذلك بل صبر كما
أمر، بل دون سائر عميان الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
لم يدع لهم، بل دون سائر العميان في كل زمان ومكان، ولو كان التوسل فيه
بالذات الطاهرة، التي لا تنقص حرمتها بعد الانتقال إلى الدار الآخرة، للزم منه أن
كل أعمى دعا بهذا الدعاء، وتوسل بسيد الأنبياء يرتد بصيرًا، واللازم باطل
فالملزوم مثله كما هو ظاهر، على أن توسل الأعمى واقعة عينية يثبت الحكم في
نظائرها وأشباهها في مناط الحكم، وقد علمت أن الأعمى طلب في أول الحديث
الدعاء فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعو به لنفسه أيضًا، وأمره أن يقول
في دعائه: (اللهم فشفعه في) فدل ذلك على أن معنى قوله (يا رسول الله إني
أتوجه بك إلى ربي لتقضي حاجتي، اللهم فشفعه في) أي أتوجه بدعائك وشفاعتك
والفرق بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وشفع فيه وبين من ليس كذلك
كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء
والأموات، والذين يعلمون والذين لا يعلمون.
ثم إنا نأخذ على الأستاذ الشنقيطي قوله عن كاتب هذه السطور (رجال مذهبه
الوهابي) وكنت أرجو أن ينزه قلمه عن الغمز والنبز باللقب؛ فإن رجال الوهابية
لا مذهب لهم في الفروع إلا اتباع إمام السنة أحمد بن حنبل، ولا في أصول الدين
إلا مذهب السلف الصالح، فهل في هذا أو ذاك ما يعاب؟ وهنا أذكر الأديب
الشنقيطي بقول القائل:
إن كان تابع أحمد متوهبًا ... فأنا المقر بأنني وهابي
وبما يعزى إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه
إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
وقد زعم الشنقيطي أن كتب الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب طافحتان
بتكفير المتوسلين، وعَجِبَ لي كيف لم أدرسها وأنا بمكة، ثم رجَّح أني جنحت إلى
الإنكار بعد الدرس والاطلاع، وود لو ذهبت في دفاعي إلى سبيل غير الإنكار،
وأفصح عن ذلك بقوله: (فالإنكار مدته قصيرة، وعلماء الإسلام لا يزالون بخير
ينفون عن الدين كل ما أريد أن يلصق به) ثم ضرب لنا مثلاً بقول الشيخ ابن عبد
الوهاب: اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين (أحدهما) أن
الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء،
وأما في الشدة فيخلصون لله الدين ... إلخ كلامه.
وأقول: قد علمت أيها القارئ الكريم مما تقدم من كلامي وتكرر، ومن قول
الشوكاني الذي استشهد به الدجوي (والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع
غيره دونه، ولا دعا غيره معه) أن الكلام منحصر في التوسل الخلافي المشهور
بين العلماء، المحصور في دعاء الله وحده مع التوسل إليه بصالحي عباده؛ ولكن
الشنقيطي قد أغفل ذلك كله وتغاضى عنه، وجاءنا بتوسل آخر لا يعرفه إلا الغلاة
والجهال، وهو دعاء أهل القبور أنفسهم، والاستنجاد بهم، وطلب الغوث منهم،
لإنقاذ الغرقى وشفاء المرضى، ورد الغائبين، وإغاثة الملهوفين، وإعانة
المستعينين، وهذا لا يسمى توسلاً بهم، بل هو دعاء لهم وطلب منهم، وهو خارج
عن موضوعنا السابق، وليس هو منه في شيء.
والعجب كل العجب كيف تغافل الأستاذ الشنقيطي عن كل ما سبق من كلامي
وكلام الدجوي والشوكاني وابن القيم وابن تيمية على كثرة تقريره وتكريره، وأغفل
ذكره وأتانا بشيء يجري على لسان بعض الجهلة المساكين أو الغلاة المستجدين،
ولا يقول به أحد من علماء المسلمين!! أهذا هو الذي أراد بمثله الأستاذ الشنقيطي أن
يفحمني ويلزمني الحجة، وهو أنه يوجد في كلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب أن
المشركين الأولين إذا وقعوا في شدة كخوف الغرق في البحر دعوا الله مخلصين له
الدين، وأن بعض أهل زمان الثاني إذا وقعوا في مثل ذلك دعوا من ألفوا دعوتهم
من المخلوقين، وهتفوا بأسمائهم مستجيرين مستغيثين؛ لينقذوهم من الضيق أو
ينجوهم من الغرق، أهذه هي الشواهد التي يقول إن كتب الشيخين طافحة بها،
ثم يرميني بإنكارها أو الغفلة عنها، ويقول إنه مستعد لأن يورد لي الكثير منها،
وأنا أقول حسبك هذا الشاهد الواحد وأنشد قول القائل:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
أيها الأستاذ الأمين ألم تقرأ قوله تعالى في وصف أهل الجاهلية: {فَإِذَا رَكِبُوا
فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) وفي معناه آيات أخرى، وقوله سبحانه فيما قص علينا من أمر
فرعون: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى
إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
المُسْلِمِينَ} (يونس: 90) فيكون أهل الجاهلية وفرعون الذي ادعى الربوبية
والألوهية أولى بدعاء الله وحده عند الشدائد ممن يتبجحون بالإسلام والتوحيد،
وبديهي من عقيدة المسلمين أن جميع المخلوقات لا يملكون لأنفسهم - ولا لغيرهم
بالأولى - في الرخاء ولا في الشدة ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا
نشورًا، فكيف تتفق هذه العقيدة المستندة إلى النصوص القطعية المجمع عليها مع
دعاء غير الله تعالى في الرخاء وفي الشدة أيضًا.
فإن قلت: إن الداعي لم يرد بدعائه إلا الله متوسلاً إليه بمن يدعوه، وإن قلبه
منطو على عقيدة صحيحة لو كشف الغطاء لشهدت صحتها، وهلا شققت عن قلبه؟
فالجواب أن ما في القلب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وأن الكلام منحصر في دائرة
الأقوال والأفعال التي تناقض صحة العقيدة القلبية كل المناقضة، والشارع ناط
الأحكام بالظاهر والله يتولى السرائر، ولا يرد حديث (هلا شققت عن قلبه) إلا
على من يدعي معرفة الباطن، وأنه مناقض أو موافق للظاهر؛ وإنما البحث فيما
يبدو للحس من قول أو عمل مصادم للشرع، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم
على أسامة قتل من أتى بكلمة التوحيد ولم ينقضها بقول ولا عمل، فادعى أسامة
رضي الله عنه أنه لم يأت بها عن عقيدة قلبية فأنكر ذلك عليه النبي صلوات الله
عليه وقال: (هلا شققت عن قلبه) وأين هذا من ذاك؟
فإن قلت إنا نحمل قوله على المجاز العقلي فالجواب كما قال بعض المحققين
من وجوه:
(الأول) أن هذه الألفاظ دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله
تعالى.
(الثاني) لو سلم هذا الحمل لاستحال الارتداد وانسد باب الردة الذي يعقده
الفقهاء في كل مصنف وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة وغيرها؛ فإن المسلم
الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز، والإسلام
والتوحيد قرينة ذلك المجاز.
(الثالث) أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله
بشركهم مشركين؛ فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع، وأن
الخير والشر بيده؛ ولكن كانوا يعبدون الأصنام وغيرها بالدعاء والنذور لتقربهم إلى
الله زلفى وتشفع لهم عنده، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس
معناها الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي أي كالتكريم مثلاً، فما هو جوابكم
فهو جوابنا.
قال صديقنا العالم السلفي الشهير الشيخ أبو بكر خوقير المكي رحمه الله في
كتابه (فصل المقال) ناعيًا على من يسمي الطلب من غير الله توسلاً: فيا ليت
أولئك القوم يقولون بكراهة الطلب من الميت فيما لا يقدر عليه بدلا ًمن تصريحهم
أن ذلك توسل وقربة، وليتهم ينصحون العامة بترك التغالي في ذلك، وليتهم
يكتبون رسائل في تقبيح ذلك أو ليتهم يسكتون. إلى أن قال: وكأنهم لا يشعرون
إلى الآن بما حل بالأمة من جراء ذلك من الانحطاط في النفوس والعقول والدين
والدنيا.
ثم قال رحمه الله: ولو ترك بعض أولئك الرؤساء العناد وتنازلوا قليلاً عن
الغلو الذي هم فيه لوجدوا أمامهم في كتب الفقه عبارات كثيرة تمنع ذلك:
قال في طوالع الأنوار شرح تنوير الأبصار مع الدر المختار للشيخ محمد عابد
السندي الحنفي: ولا يقول يا صاحب القبر يا فلان اقض حاجتي أو سلها من الله أو
كن لي شفيعًا عند الله. بل يقول: يا من لا يشرك في حكمه أحدًا اقض لي حاجتي
هذه وحيدًا كما خلقتني. وقال في الفتاوى البزازية: من قال: إن أرواح المشايخ
حاضرة تعلم: يكفُر. وقال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: لما صعبت التكاليف على
الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت
عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل
تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها،
وخطاب الموتى للحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، أو أخذ
تربتها تبركًا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على
الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه: (سيف الله على من كذب على
أولياء الله) هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون للأولياء
تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم وينادونهم في قضاء الحاجات (إلى أن قال) :
وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي لما فيه
من روائح الشرك المحقق، ومصادرة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد
الأئمة وما أجمعت عليه الأمة اهـ.
فهل بعدما سمعت ما قاله فقهاء المذاهب في حكم الاستغاثة بغير الله في الشدائد،
وما صرحوا به من أن فيه روائح الشرك المحقق ومصادرة الكتاب العزيز، وأنه
مخالف لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة، أقول: هل يروج عليك بعد ذلك كله أن
هذا كلام الوهابية لا كلام أهل السنة والجماعة؟
(فإن قيل) إن هذا الأسلوب منفر لكثير من الناس، وإن الدعوة إلى الله
يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، قلنا هذا حق ونحن إذا كنا متفقين على
أن ما يجري حول القبور مما حاصله دعاء غير الله عز وجل هو خطأ وجهل كان
لا بد لنا من إنكاره والسعي في إزالته واستئصاله.
وقد قرأت لنابغة الشام عن الإمام ابن تيمية قدس الله روحه أنه أفتى بعدم كفر
من أشرك عن جهل إلا إذا تبين له الحق وأصر مستكبرًا، وقرأت للإمام محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه كان يقول لمن يدعو زيد بن الخطاب من دون الله:
الله خير من زيد، وعللوا ذلك بغلبة الجهل على الناس في أزمانهم حتى في
بعض أمور الدين المعلومة منه بالضرورة، فكيف في زماننا الذي تراخى فيه العهد
أكثر، فضعف العلم بآثار الرسالة جدًّا واستولى الجهل على الناس.
بقي علينا قول الأستاذ الشنقيطي: (فالإنكار مدته قصيرة وعلماء الإسلام لا
يزالون بخير) .
فأنا الآن أنادي بأعلى صوتي وأتحداه وأتحدى معه من يحب من العلماء بأن
يأتوني بشاهد واحد من كتب ابن تيمية، أو أحد السلفيين إلى عصرنا هذا يؤيد
دعواهم أنهم يكفرون من يبتهل إلى ربه ويدعوه وحدها متوسلاً إليه بأحد من خلقه،
وأنا أمهله أيامًا بل أشهرًا وأعوامًا إن شاء، فإن لم يأتوني به فليعلم الأخ الأمين أني
لم أنطق إلا بالحق المبين، ولم أقل ما قلت إلا عن سابق علم واختبار، وإني
توخيت بذلك جمع الكلمة وتقريب مسافة الخلف، وإزالة الوحشة والجفاء وإحلال
المودة والرحمة محلهما في هذا الوقت العصيب والله هو الموفق والمعين.
وقد سألني الأستاذ الأديب في هذا المقام عن وقائع العراق وشرق الأردن
والحجاز، وهو سؤال أقرب إلى السياسة منه إلى الدين، على أني أوجز ما أعلمه،
وأدع ما ليس لي به علم.
إن وقعة الطائف كانت فلتة، وسمعت جلالة الملك الإمام عبد العزيز يردد قول
الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) [*] وقد أمر -
أيده الله - بتأليف لجنة بمكة للتعويض على المنكوبين، وأخرى في الطائف وكنت
أحد أفرادها.
وأما إنشاء حصون العراق وحواجزه فهو من جنس ما نشكو منه في بلادنا
ونحاول إزالته؛ لأنه مقطع لروابطنا ممزق لشملنا.
وأما كلامه في شرق الأردن فلو تتبع الوقائع لعرف أن ليس له حجة يحتج بها،
وأما البادية فلا راحة لها ولا لغيرها إلا بدخولها في الدين والطاعة، وقد تم ذلك
ولله الحمد.
دمشق ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجت البيطار
***
ثلاث كلمات للمنار تتعلق بالموضوع
إنني أقفي على هذه الرسالة بثلاث كلمات (إحداها) أنني أرى جميع الذين
يجادلون في هذا العصر فيما اتبع فيه بعض المسلمون سنن من قبلهم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع مصداقًا لحديث الرسول الصحيح صلى الله عليه وسلم، ومنه الشرك
الصريح والشرك الذي يحتمل التأويل - يغفلون عن مسألة مهمة جدًّا وهي الفرق
بين تكفير الشخص المعين، وتكفير من يقول كذا أو يفعل كذا من أقوال الشرك
والكفر وأفعال أهلهما، فالشخص المعين يراعى في حقه درء حد الكفر وتنفيذ
أحكامه عليه بالشبهات والتأول، ويقال فيمن لا يراعي ذلك إنه جريء على تكفير
المسلمين، وأما الذي يبين أحكام الردة للناس فلا يعترض عليه إذا فعل كثير من
الناس ما يكونون به مرتدين بحسب تلك الأحكام، ولا يقال إنه يكفر المسلمين. وبهذا
يظهر لك غلط الذين يزعمون أن مذهب الوهابية مبني على تكفير المسلمين ورميهم
بالشرك، بل لم يتورع بعض سدنة هياكل القبور المعبودة وأكلة نذورها الوثنية
وأوقافها الباطلة من وصف شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية بذلك، والواقع أن
الشيخ محمد عبد الوهاب وعلماء نجد من ذريته وغيرهم قد صرحوا بأنهم لا
يكفرون أحدًا من المسلمين بشيء مما سماه فقهاء المذاهب الأربعة كفرًا وردة إلا إذا
كان مجمعًا عليه، وكان ابن تيمية من أشد علماء عصره وغير عصره احتياطًا
وتدقيقًا في مسألة التكفير حتى نُقل عنه أنه يرى عوام عصره معذورين بجهل بعض
المسائل التي أجمع الفقهاء على التكفير بها لدخولها في جحود ما هو معلوم من الدين
بالضرورة؛ فإنه رأى أن بعض ما كان معلومًا بالضرورة في القرون الأولى لم يعد
معلومًا كذلك في عصره؛ لأن دعوة الإسلام على حقها لم تبلغ كل أهل ذلك العصر؛
وإنما كان مما امتاز به ابن تيمية أنه نبه المسلمين لما فشا في جهلتهم من الشرك
بالله تعالى بدعاء الصالحين والمعتقدين تعبدًا فيما لا يُطلب من غير الله تعالى، وقد
اعترف له بعض علماء عصره بذلك كالشيخ كمال الدين الزملكاني وقالوا إنه نبهنا
لشيء كنا غافلين عنه بسبب ألفته وكثرته، ونرى من أنكر عليه بعض المسائل
الاجتهادية منهم كالتقي السبكي لم ينكر عليه شيئا من ذلك.
(الكلمة الثانية) أن من أعظم الأسباب لترك كثير من المسلمين لإقامة دينهم
والعمل به كما كان سلفهم هو جعل الإسلام رابطة جنسية لا يشترط فيها أو لا
يراعى فيها علم ولا عمل، ولا يؤاخذ فيها أحد على ترك شعيرة ولا فريضة، ولا
على ارتكاب كبيرة، حتى الردة، فهي على كثرة وقوعها تمضي السنون، بل
القرون ولا ينفذ الحكام شيئًا من أحكامها على أحد إلا نادرًا، ولا سيما حكام الدولة
العثمانية والمصرية، فالحدود الشرعية كلها معطلة.
فكان مما امتاز به الإصلاح الديني في نجد إحياء الإسلام بالعلم والعمل والحكم.
ألفى الوهابيون أهل جزيرة العرب ولا سيما البدو قد فشا فيهم الشرك واستحلال
دماء الناس وأموالهم وترك الفرائض فنفذوا فيهم أحكام الشرع بالعلم والعمل
والعقوبات من حدود وتعزيرات، فكان هذا هو السبب لما أذاعته عنهم الحكومة
العثمانية وأنصارها بالتبع لها من تكفير المسلمين.
نعم إننا لا ننكر أن أهل نجد يسيئون الظن بأهل البلاد التي لا تنفذ فيها أحكام
الشرع، ولا يبالي أحد بتلقينهم عقائد الإسلام الصحيحة وأحكامه على مذاهب أهل
السنة ولا غيرهم، وإن منهم من لا يثق بدينهم فيطلقون عليهم لقب المشركين لما
يرونه من أعمال الشرك بغير نكير، وفي هذا الإطلاق شيء من الغلو المنكر كما
بيناه مرارًا في المنار.
ولكننا لم نر حكومتهم في الحجاز وعلى رأسها القضاة من علمائهم نفذت أحكام
الردة على شخص بعينه لما بيناه من الفرق بين أحكام الردة العامة والإطلاق في
الإنكار، وبين تكفير الشخص المعين الذي يراعى فيه درء الحدود بالشبهات.
(الكلمة الثالثة) استطراد الأستاذ الشنقيطي في الرد على الأستاذ الدمشقي إلى
ما فعل الوهابية من القسوة في غزو الطائف وشرق الأردن، فنقول فيها إنها من
الأمور العملية التي لا يورد ما ثبت فيها من منكر إلا على من يبرئ الوهابية من
كل فعل منكر، ولا يكاد يسلم القتال من المنكرات الشرعية والقانونية عند أهلهما،
ولكن ما بال الأستاذ الشنقيطي لا ينكر على من يخدمهم ويدافع عنهم من أولاد الملك
حسين إعطاءهم بلاد شرق الأردن وأعظم بقعة حربية من أرض الحجاز للدولة
الإنكليزية صارت بتمكنها فيها أعظم خطر على الحرمين، وعلى سائر جزيرة
العرب.
__________
(1) المنار: إن هذه الآيات وأمثالها لا يقال فيها إنها نزلت في سبب خاص؛ وإنما تصدق على أمثال من نزلت فيهم بما تدل عليه صيغ العموم فيها، كما لا يقال مثل ذلك في آيات التوحيد والبعث والأمر بالأعمال الصالحة من العبادات والفضائل والنهي عن المعاصي؛ فإن كل أولئك عام لجميع المكلفين من كان منهم في عصر التبليغ المحمدي ومن بعدهم لأنه أصول الدين الكلية؛ وإنما يقال ذلك في مثل امتحان المؤمنات المهاجرات وآيات الظهار.
(*) المنار: يعني الشريف خالد بن لؤي فاتح الطائف بما كان من فعلته المشابهة لفعلة خالد بن الوليد رضي الله عنه التي تبرأ منها النبي صلى الله عليه وسلم.(32/545)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية علماء المسلمين في الجزائر
نبغ في بلاد الجزائر في هذا العهد جماعة من العلماء المصلحين يبثون في
البلاد الدعوة إلى الحق والخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالدروس
والخطابة والكتابة في الصحف حتى إنهم أنشؤوا عدة جرائد ومجلات عطلت حكومة
الجزائر بعضها فخلفها غيرها.
وأشهر هؤلاء العلماء الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس منشئ مجلة الشهاب
الإصلاحية التي خلفت جريدته (المنتقد) والأستاذ الشيخ الطيب العقبي والأستاذ
الشيخ سعيد الزهراوي وكلهم ممن جمع بين العلم والعقل والرأي وحسن البيان قولاً
وكتابة وخطابة، وقد فكر هؤلاء منذ سنين في تأليف جمعية علمية تكون المرجع
المعتمد لمسلمي هذا القطر في جميع أمور دينهم تزول بها هذه الفوضى الدينية
العلمية التي تصدى للتعليم والإرشاد والإفتاء في ظلماتها كثير من الجاهلين والدجالين
المضلين، وبعد التشاور مع إخوانهم من العلماء ومحبي الإصلاح والإرشاد من
وجهاء المسلمين المستنيرين وفقوا لتأليف هذه الجمعية في العام الماضي واختاروا
لرياستها الأستاذ العلامة المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس صاحب الشهاب
المنير، وَظَاهَرَهُمْ على تأليفها جميع أهل البصيرة والهدى من العلماء والأدباء
وأصحاب الصحف الإسلامية.
ويسرنا أتم السرور أن حكومة الجزائر قد أباحت لهم تأليف هذه الجمعية
لاقتناعها بأنها تنفع المسلمين في أخلاقهم وآدابهم واستقامتهم في معاملاتهم مع جميع
الناس من حيث لا تضرها هي في شيء؛ لما ثبت عندها من اجتناب هؤلاء العلماء
للخوض في سياستها وإدارتها أو تنفير العامة عنها، وقد أحسنوا كل الإحسان في
سيرتهم العملية التي أقنعت الحكومة بهذا؛ فإن السياسة ما دخلت في عمل إلا
أفسدته كما قال شيخنا الأستاذ الإمام، وعلى المشتغل بالعلم والإصلاح الديني أن
يعطيه كل وقته، وعلى المشتغل بالسياسة أن يعطيها كل عزيمته ولا يلبس لها غير
لباسها.
وإننا نشكر لحكومة الجزائر هذه الحرية لهذه الجمعية الرشيدة كما ننكر على
دولتها ما تفعله خلاف ذلك في المغرب الأقصى لتعلم الدولة الفرنسية أننا لسنا أعداء
لها لذاتها؛ وإنما نقول لها أحسنت إذا أحسنت، ونقول لها أسأت إذا أساءت.
هذا وإن الأستاذ الكبير رئيس الجمعية قد زار في هذا الصيف أشهر بلاد
الجزائر فتلقاه أهلها بالحفاوة التي يستحقها، والتكريم اللائق بمقامه العلمي
الإصلاحي وبكرمهم الإسلامي، وقد أسمعهم من دروسه ومواعظه الحكيمة ما أحيا
هداية القرآن والسنة فيهم.
__________(32/554)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر الإسلامي العام
لجنته التنفيذية ومكتبها
نشرنا في الأجزاء الثاني والثالث والرابع فصولاً في المؤتمر الإسلامي العام
وما سبقه وما جرى فيه وسيرتنا فيه مما لم ينشر في الصحف التي اطلعنا عليها كما
وقع؛ ولكننا كتبنا كلمة وجيزة في شأن اللجنة التنفيذية ومكتبها لتنشر في السادس
فضاق عنها وها هي هذه:
أخطأ المؤتمر العام في الطريقة التي اختارها لانتخاب لجنته التنفيذية إذ انتخب
25 عضوًا من أقطار بعيدة عن المركز (القدس) لا يمكن اجتماعهم فيه، منهم
الهندي والجاوي في الشرق والمراكشي والأوربي في الغرب، وآخرون مما بينهما،
وقد اجتمع هؤلاء الأعضاء كلهم مرة واحدة في مساء اليوم الذي انتخبوا فيه
وانتخبوا من أنفسهم ومن غيرهم بضعة أعضاء لإدارة مكتب اللجنة من المقيمين في
فلسطين وسورية ومصر تصوروا أنه يمكن اجتماعهم؛ ولكن مضى على ذلك بضعة
أشهر - أو نصف سنة - ولم يجتمعوا؛ وإنما كان خير ما وفقت له اللجنة التنفيذية
اختيارها للرجل الأحوذي الكبير السيد ضياء الدين الطباطبائي الشهير ناموسًا لها
(السكرتير العام) ومقامه في أوربة لم يتيسر له العودة إلى القدس إلا بعد المدة التي
ذكرناها، عاد فشمر عن ساعد الجد واكتفى في إدارة أعمال المكتب بمن يوجد في
القدس من أعضائه، ونفذ كثيرًا من قرارات المؤتمر، واتخذ الوسائل لتنفيذ غيرها،
وأولهما تأليف اللجان للمؤتمر في جميع الأقطار الإسلامية لنشر مقررات المكتب
وجمع المال لأعماله وأهمها إنشاء المدرسة الجامعة الإسلامية، وكان أول ما بدأ به من
طلب المال أن كتب إلى أعضاء المؤتمر أنفسهم بالتبرع للمكتب بما تجود به أنفسهم
ولا أدري ما فعلت العسرة المالية بهذا الطلب، إلا أنني عجزت عن التبرع بأقل ما
يسمى تبرعًا، وإن صديقي محمود بك سالم الذي كان تبرع في المؤتمر بمائة جنيه
مصري يؤديها في يوم عرفة كان يسألني لمن يؤديها وألح في السؤال من أول ذي
الحجة، ماذا يفعل بها ولجنة المؤتمر لم تعين أمينًا للمال؟ فأقول له اصبر، حتى إذا
علم مني ومن غيري أن السكرتير العام نظم مكتب للمؤتمر وهو مجد في العمل أرسل
المبلغ، وكذلك التاجر المحسن أحمد أفندي حلاوة أرسل مائة جنيه كان تبرع بها،
وأخيرًا تبرع له صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا بمائتي جنيه مصري وأرسلها،
وماذا تغني المائة والمئات والعمل يتوقف على الألوف من الجنيهات، وأكثر الناس
معسرون ولكن الأغنياء الواجدين كثيرون، وأكثرهم يبخلون بما يجب عليهم، فأنى
يجودون بالتبرعات للمنافع والمصالح العامة وهم لا يعقلون لها معنى، ويعتذرون
بالعسرة وإن كانوا لم يذوقوا لها طعمًا؟
والرأي عندي أن لا يشرع المكتب الآن في جمع المال لإنشاء المدرسة
الجامعة، بل يجب أولاً أن يعنى بوضع النظام والرسم الهندسي لبنائها، وتقدير
النفقات الدقيقة لها، ثم يضع النظام لجمع المال من جميع الأقطار الإسلامية التي يعلم
أن لأهلها من الحرية ما يمكِّنهم من البذل لمصلحة الإسلام العامة؛ فإن الترك في
الجمهورية اللادينية لا حرية لهم في مثل هذا، ومثلهم بعض المسلمين الذين سلبهم
المستعمرون كل أنواع الحريات البشرية.
والواجب أن يُراعى في هذا النظام المالي أن يثق كل من يطَّلع عليه أن ما
يبذله من المال لهذا العمل يوضع في قرار مكين وحرز أمين فلا ينفق شيء منه إلا
فيما وهب لأجله، لا يخشى أن يضيع منه شيء من أيدي الجباة له ولا من أيدي
غيرهم، وبعد إتمام النظام وطبعه وتأليف اللجان في الأقطار كلها تستشار هذه
اللجان في كل قطر في الوقت المناسب للبدء في العمل.
وأرى أنه يجب على مكتب المؤتمر أن يستعين برأي بعض كبار الماليين
والإداريين في وضع هذا النظام ولا يستقل هو به؛ وإنما له أن يستقل بما يطلبه
من التبرع للأعمال الإدارية العامة كالذي طلبه أولاً.
هذا وإنني رأيت لجنة الجامعة التي ألَّفها المكتب قد وافقت السكرتير العام على
البدء بثلاثة فروع من كلياتها: وهي الشرعية والصناعية والطبية، وأهملت الدعوة
والإرشاد التي هي أهمها، وجل مباحث المؤتمر كانت تدور حولها؛ ولكن المكتب
كلفني تأليف لجنة لها، ولم يبين لي صفة هذه اللجنة ولا عملها الآن، فأما نظام
الإدارة ومناهج التعليم فقد سبق لنا وضعها وتنفيذها، ولا تحتاج إلا إلى تنقيح قليل،
وأما جمع المال فهو الآن متعذر على أنه لا بد أن يسبقه ما اقترحنا من النظام
العام له، وانتهاز الفرص في كل قطر بحسبه.
هذا وإن ما عرض لنا في هذا الشهر وما قبله من كتابة الرسالة المقترحة في
حقوق النساء في الإسلام وطبعها قد اضطرتنا إلى تأخير نشر خطبتنا الجامعة في
المؤتمر العام إلى جزء آخر.
وقد أرسل إلينا مكتب المؤتمر عدة بلاغات ونداءات للنشر أهمها النداء الآتي
الذي صدر في هذا الشهر وهو:
نداء إلى مهندسي المسلمين
بشأن جامعة المسجد الأقصى
بما أن المكتب الدائم للمؤتمر الإسلامي العام الذي تألف بعد انفضاض المؤتمر
لتنفيذ مقرراته والنهوض بالواجبات الجليلة التي رسمها في اجتماعاته قد أتم بعون
الله وتوفيقه تأليف لجنة من الفضلاء وأهل الراي للشروع في إنشاء جامعة المسجد
الأقصى الإسلامية، التي كانت بلا مراء من أعظم وأجل المشروعات التي أقرها
المؤتمر، والتي سيكون لها في تجديد نهضة المسلمين المقبلة أبلغ الأثر.
ولما كانت جامعة المسجد الأقصى ستتألف في إبان إنشائها من ثلاث شعب:
1- شعبة العلوم الشرعية الإلهية.
2- شعبة الفنون والصناعات.
3- شعبة الطب والصيدلة.
ولما كان الركن الأساسي في نجاح هذا المشروع الخطير قائمًا على تعاون
المسلمين وتسابقهم في مضمار الخير؛ فإن المكتب الدائمي للمؤتمر الإسلامي العام
يدعو كل مهندس مسلم يأنس من نفسه استعدادًا لخدمة هذا المشروع الجليل ابتغاء
مرضاة الله أن يتفضل بإخبار المكتب باستعداده للشخوص إلى القدس الشريف
لوضع الخرائط والتصميمات وفق القواعد التي يبينها المكتب لمن يعتمده من
حضرات المهندسين.
ويتعهد مكتب المؤتمر بأن يقدم لكل من حضراتهم نفقات الذهاب والإياب
والإقامة بالقدس مدة العمل، أما المشاق التي يتكبدها مثل هؤلاء المجاهدين الفنيين
فأجرها عند الله عظيم، وتقديرها عند العالم الإسلامي جليل، وأن كل مهندس تنال
خرائطه وتصميماته الرجحان سينقش اسمه الكريم على باب هذا المعهد الإسلامي
كشرف مخلد ومأثرة تبقى على ممر الدهور.
{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 272) ،
{وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} (المزمل:
20) .
... أمين المال ... ... ... ... أمين السر العام
محمد علي علوبة باشا ... ... ... ضياء الدين الطباطبائي
__________(32/555)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي
المُشَكَّلَة بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 12 أبريل سنة 1932
أرسل إلينا صاحب السعادة محمد شاهين باشا رئيس هذه اللجنة الأسئلة الآتية
كما أرسلها إلى كثير من الجماعات وأفراد العلماء الباحثين منذ شهر يونيو، وكنا
أخرنا أجوبتنا لأجل أن ندرس الموضوع من جميع أطرافه فتكون مفصلة، ولما
رأينا من سبقنا إلى الكتابة في الموضوع قد أطالوا في كل جواب رأينا الاكتفاء بما
يوجبه علينا الشرع من بيان حكمه في الموضوع، وهذا نص الأسئلة مع أجوبتنا:
أسئلة يُراد الإجابة عليها
السؤال الأول
هل ترون إلغاء البغاء الرسمي أو إبقاءه، وما هي الأسباب التي تبنون عليها
رأيكم؟
جوابه: إنني أرى وجوب إلغاء البغاء الرسمي وغير الرسمي وعقاب الزناة
والزواني؛ لأن الزنا فاحشة حرَّمها الله تعالى بنص القرآن وعلى ألسنة جميع
الأنبياء، فإباحته واستباحته - أعني استحلاله - ارتداد عن الإسلام، وما حرَّمه الله
تعالى إلا لما فيه من المضار والمفاسد البدنية والنفسية والاجتماعية التي تضاعفت
في هذا الزمان بفشوه في جميع الطبقات، ومنه بعض الأمراض السرية التي لم
تكن كلها معروفة في العصور السابقة، وإن من أكبر العار على الأمة المصرية ولا
سيما علمائها، وعلى الحكومة المصرية التي وضعت في دستورها أن دينها الإسلام
أن تبيح الزنا في هذا القطر الإسلامي الذي يدين جميع أهله بتحريم الزنا وقبحه،
لا يشذ منهم إلا زعانف من الملاحدة الإباحيين هم أكبر خطر على هذه الأمة؛ فإن
هذا الإسراف في الفسق يهلك الأمم القوية فكيف يكون فتكه بالأمم الضعيفة التي هي
في سن التكوين السياسي والمدني والاقتصادي.
ومن العجب أن كثيرا من أهل هذه البلاد وغيرهم يرون أن مصر أولى
الأقطار الإسلامية بزعامة العالم الإسلامي، وبأن تكون مقر الخلافة الإسلامية،
وأن تكون الحجاز تابعة لها أو تحت سيادتها، وهي تبيح الزنا والسكر والربا
والميسر إلا بعض أنواعه.
بل يجب على الحكومة المصرية سد ذرائع الزنا من تهتك النساء ورقصهن
وتبرجهن في الأسواق والشوارع (كاسيات عاريات مائلات مميلات) كما ورد في
الحديث الصحيح في صفات أهل النار ولا سيما استحمامهن على شواطئ البحار مع
الرجال، ورقصهن معهم وخلوتهن بهم في هذه الحال، وتلك المحال، بل خروجهن
بسترة الحام الرقيقة إلى الشوارع والملاهي والمقاهي، وهذه الإباحة شر من إباحة
الزنا في مواخير لا يراها إلا من يدنس نفسه بدخولها، ولا يمكن منع الزنا مع
إباحتها.
***
السؤال الثاني وجوابه
في حالة الإلغاء ما هي الطرق التي تشيرون بها لمعاملة البغايا المرخص لهن
الآن؟
(ج) إن الأطباء ورجال الإدارة أوسع رأيًا مني في هذه المسألة؛ وإنما
أقول إن كل معاملة يُعاملن بها خير لهن وللناس من إباحة هذه الحرفة الملعونة.
***
السؤال الثالث وجوابه
ما هي الوسائل التي تقترحونها لمكافحة البغاء السري؟
(ج) لعل أقرب الوسائل إلى ذلك وضع العقوبات الشديدة على الزنا والقيادة
وأصحاب المواخير السرية مع مراقبتهم بالدقة التي يُراقب بها شر الجناة والمجرمين
ومنع إباحة تهتك النساء جهرًا في شواطئ البحار وأمثالها.
***
السؤال الرابع وجوابه
ما هي الوسائل التي تقترحونها لتلافي أضرار الأمراض السرية؟
(ج) إن خير وسائلها منع أسبابها، ومصلحة الصحة في غنى عن رأي
مثلي في طرق علاجها.
***
السؤال الخامس وجوابه
إذا كنتم ترون إلغاء البغاء الرسمي فهل يكون ذلك تدريجًا أم دفعة واحدة؟ أي
هل يكتفى مبدئيًّا بعدم الترخيص لبغايا جديدات فيندثر البغاء الرسمي تدريجًا؟ أم
يحرم على البغايا الموجودات في الوقت الحاضر ممارسة مهنتهن فيقضى على
البغاء دفعة واحدة؟
(ج) الواجب القطعي الذي لا تخيير فيه شرعًا ولا مصلحة: إلغاء البغاء
دفعة واحدة بقانون صريح يتضمن العقاب الشديد على مخالفته، وتحريمه فعلاً كما
حرَّمه الله حكمًا، ورجال القانون أعلم بأقرب الطرق الممكنة لتنفيذه.
__________(32/559)
جمادى الأولى - 1351هـ
سبتمبر - 1932م(32/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أكل لحم الخنزير
هل يشمل شحمه وكل ما يؤكل منه؟
(س50) استفتي في هذه المسألة زميلنا الكريم الأستاذ سيف الدين رحال
الشهير محرر جريدة الفطرة الغراء وناموس مؤتمر الجمعيات العربية بالبرازيل،
فأجاب عنها بالجواب الآتي المتضمن لحكمة التحريم وأرسله إلينا لننشره في المنار
ونعلق عليه رأينا في الفتوى، فلم يسعنا إلا إجابته، وهذا نص ما جاءنا منه مبدوءًا
بخطابه للمستفتي دون خطابه لنا الذي تركنا نشره لطوله.
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة الأخ الصالح السيد أحمد حديد، أدام الله بركته عليه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد وصلتني فتواكم حال انعقاد
(مؤتمر الجمعيات الاستقلالية السورية العربية) للبحث في قضية الاستقلال وما
يرتبط بها من القضايا المتعددة وليس في الإمكان إجابتكم بالتفصيل، فأبادر بالإيجاز
مرجئًا التطويل لفرصة أخرى:
نذكر هنا نص سؤالكم ونجيب عليه حسب معلوماتنا القاصرة، ونعتقد بمن هو
أكفى منا في هذا الميدان فلا ضير عليكم أن تلجأوا إلى ساحته؛ فإنكم ولا شك
تجدون فيها خيرًا جوابًا وخيرًا سندًا.
السؤال
تقولون: ما هو المحرم أكله في الخنزير؟ هل هو لحمه فقط أم لحمه
وشحمه وكل ما فيه؟ نرجو الإفادة شرعًا ولكم الفضل والثواب.
الفتوى
حكم كتاب الله في ذلك
نجيب على سؤالكم بالإيجاز:
إن آيات التحريم في القرآن قد وردت بصيغة التخصيص في أن المحرم من
الخنزير لحمه، فقد ورد في سورة المائدة قول الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ
اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: 3-5) ... إلخ.
وورد في سورة البقرة قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 172-173) .
وورد في سورة الأنعام قوله جل جلاله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 145) .
فالناظر في الآيات المذكورة يجد أن لحم الخنزير مُحرَّم تحريمًا قطعيًّا لورود
النص الصريح فيه، سواء ورد لفظ لحم بالمعنى الحقيقي، أو ورد مجازًا مرسلاً
مرادًا به كل الخنزير، فإن كان ورود المعنى لأجل الحقيقة الظاهرة فظاهره كون
لحم الخنزير حرامًا، وإن أريد المجاز فالمعنى أن الخنزير كله لحمه وشحمه ودهنه
وكبده وطحاله محرم، فيكون تحريم الجزء الأكبر مرادًا به الكل، هو تحريم قطعي
للكل أيضًا، أي لما بقي من الكل غير اللحم، فمن أصر على أن لفظ اللحم وارد
وقاصر على معناه الحقيقي جاز له القول بالتحريم القطعي في اللحم وبالظني في
غيره إذا قام عليه دليل من السنة والإجماع أو بقياس أهل الحل والعقد، فإن لم يقم
كان التحريم ظنيًّا من باب سد الذريعة، إذ في تحريم الكل سد ذريعة اقتناء الخنزير
للانتفاع بما هو غير اللحم مما يميل المترخص إلى تحليله جمودًا عند النص، وفيه
قطع دابر ما يؤدي إليه الانتفاع من التفريط في التحريم للمحرم بجر المنفعة لما
دونه المظنون في حله، ولا يصح ضرب المثل بضرورة منع زرع العنب والتمر
منعًا لاستخراج الخمر منهما؛ فإنه مثل فاسد لوجود الفرق العظيم في الأمرين؛ لأن
شحم الخنزير ودهنه وكبده وطحاله موجودة فيه بالذات ملاصقة لما حرَّم الله بالنص
بصريح اللفظ والمعنى؛ وإنما الخمر محدثة يأثم عاصرها وبائعها ومشتريها وحاملها
والمحمولة إليه لشربها، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى قد قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187) ومعنى ذلك أن للحلال حدودًا ينتهي عندها حيث
يبتدئ الحرام، فإذا تطرف المرء فقد ينتهي منها إلى الحرام أو يختلط عليه آخر
المحللات بأوائل المحرمات، فيلج أبواب الشبه والالتباس نجانا الله منها؛ فإنها
أبواب الريبة والحيرة.
وإنك لتجد في آية الأنعام قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام:
145) والهاء في (إنه) يحتمل أن تعود على لحم الخنزير، كما يحتمل أن تعود
على الخنزير نفسه، بل قال النحاة إن الضمير يعود على الأقرب، فالقول بأن
تأكيد النعت بالرجس راجع إلى الخنزير ذاته صحيح، وهو تشنيع وصف الله به
عبادة الأوثان في نهيه عنها بقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج:
30) كما وصف به الخمر والميسر: {وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} (المائدة: 90)
في آية أخرى.
نعم قد وردت صيغة التحريم في آية البقرة بصيغة الحصر (بإنما) كما وردت
في سورة الأنعام حصرًا (بإلا) ولكن الحصر وارد هنا لبيان أن الله جلَّ شأنه لم
يحرِّم على المسلمين جميع ما حرَّمه على غيرهم من الأمم الأخرى؛ وإنما حرم
عليهم ما ذكره فقط من المحرمات قليلة العدد التي ذكرها وتكرم بحل غيرها مما دعا
إلى يأس المخالفين الذين ذكرهم بقوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3) وقد ذكر في آيات التحريم من قواعد سننه ما
فيه يسر للمسلمين، فذكر ثلاث قواعد هي أصل التشريع الصحيح عند العلم
والاجتماع:
القاعدة الأولى: تحليل الطيبات {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: 4) {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... } (المائدة: 5) .
القاعدة الثانية: إن تحريم الله لما حرم لم يكن لمجرد التحريم، بل لغاية أسمى
وهي لتطهير الإنسان من الواجفات الحيوانية كأكل الموتى ولعق الدم المسفوح أو
أكل ما هو رجس سواء أكان لقذره أم لما فيه من الجراثيم المؤذية، ولتبرئته من
الفسق والشرك الخفي بتجنبه استيعاب ما ذبح للأوثان أو لغير الله مطلقًا مثل ما ذُبح
على النصب ... إلخ.
القاعدة الثالثة: منع الحرج عن الإنسان واردة اليسر له لا العسر بالترخيص
له بالاستعمال عند الضرورة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 173) {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ} (الأنعام: 145) {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 3) .
فإذا تقرر ذلك جاز لنا أن نسأل: هل شحم الخنزير ودهنه وكبده من الطيبات
أم لا؟ والجواب على ذلك يمكن معرفته بتقرير أهل العلم العادلين في هذا الصدد
وإني ذاكر لك ما يحضرني فيها وأنا في مجال بعيد عن المراجعة والتفصيل.
طالعت في دليل (كشرنوفتش) الطبي تحت كلمة (تريكينة) ما معناه
(التريكينة) جرثومة خبيثة توجد خاصة وعلى الغالب في لحم الخنزير ولها تأثير
سيئ جدًّا في الجهاز الهضمي وعلى المصران، ولا تموت إلا بغليان يبلغ (75)
درجة من الحرارة بميزان (فرنهيت) فإذا صادفت إنسانًا لا استعداد له على تحملها
فقلما تركته سليمًا، بل قد تقضي عليه في أقل من 24 ساعة.
وقد ثبت علميًّا أن شحم الخنزير وكبده خاليان خلوًّا كاملاً من هذه الجرثومة
المضرة.
وقد كنت طالعت في كتب أخرى عن الجراثيم ما اتفق في التقرير مع المرشد
المذكور؛ ولكني قرأت أيضًا في كتب الطب فوجدت بعضها في حال وصفه للجرب
والجذام والحكة يقول: (إنها تنتج في بعض الأحيان فيمن يفرط في أكل شحم
الخنزير ودهنه أو في ذريتهم) ومن هذه الكتب كتاب: (ادرس نفسك) للأستاذ
الكبير الفارس دي توليدو [1] .
فأنت تستخلص من ذلك أن شحم الخنزير خالٍ من الجرثومة المضرة إلا أنه
يورث على الغالب كثيرًا من الأمراض المؤذية مباشرة لآكله ولورثته من بعده، فهو
بذلك لا يدخل بين الطيبات ولا يعطى حكمها، فيكون تحريم أكله - ولو تحريمًا
ظنيًّا - جائزًا من باب الحيطة وسد الذريعة، إذا لم يثبت تحريمه القطعي بالنص
الصريح.
ولقد طالعت فتوى على مذهب الإمام مالك عند حداثتي ولا أدري أين طالعتها
بعدم حرمة شحم الخنزير، ولا أدري مقدارها من الصواب، ولا يبعد استفتاء
علماء بذلك، ففي إمكانكم استشارتهم أو استشارة كتبهم وربما عدت فكتبت إليكم
بتفصيل عند خفة عملي الكثير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الخادم الفقير
... ... ... ... ... ... ... ... ... سيف الدين رحال
***
تعليق المنار على الفتوى
نقول أولاً: إن إطلاق لفظ اللحم في تحريم الأكل يشمل الشحم وكل ما يؤكل
منه من كبد ورئة وقلب وطحال وكليتين ومعى وغدد، يشمل هذا بالنص اللغوي
الحقيقي كما حققه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي، فقد قال في تفسير آية البقرة
من كتابه أحكام القرآن ما نصه: اتفقت الأمة على أن الخنزير حرام بجميع أجزائه،
والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه، وقد شغفت المبتدعة بأن
تقول فما بال شحمه بأي شيء يحرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحمًا فقد
قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا، إذ كل لحم شحم، وليس كل شحم لحمًا،
من جهة اختصاص اللفظ، وهو لحم من جهة حقيقته اللحمية، كما أن كل حمد شكر
وليس كل شكر حمدًا من جهة ذكر النعم، وهو حمد من جهة ذكر فضائل المنعم.
ثم اختفلوا في نجاسته فقال جمهور العلماء: إنه نجس، وقال مالك: إنه طاهر ...
إلخ اهـ المراد منه.
ثانيًا: إن الفقهاء قد أجمعوا على تحريم أكل كل ما يؤكل من الخنزير. أطلق
الجمهور حكاية الإجماع واستثنى بعض المفسرين بعض الظاهرية، وهو مبني على
أن مدلول لفظ اللحم ما هو معروف عند العوام من جسم الحيوان المتصل بأعضائه
المتماسكة بعظامه دون ما في جوفه مما ذكر.
ثالثًا: إذا قيل إن إطلاق لفظ اللحم في الآيات مجاز مرسل من إطلاق الجزء
على الكل أو معظم الشيء على جملته؛ فإنه يصح الاستدلال بالآية على تحريم ما
ذكر كله عند غير الحنفية من أصحاب المذاهب الثلاثة، وعلى الكراهة التحريمية
عندهم لأنهم يشترطون في التحريم الدلالة القطعية من النص وليس هذا منها.
رابعًا: إن علة تحريم أكله وهي الضرر الجسمي والأدبي - كما حققه الأطباء -
متحققة في كل ما يؤكل منه، فيكون تحريم اللحم بالنص وتحريم غيره بالقياس
المساوي.
خامسًا: إن الخنزير نجس العين عند جمهور الفقهاء، طاهر عند الإمام مالك،
ولعل الأستاذ سيف الدين رأى فتوى بطهرة الخنزير عند مالك، وطهارة ما يتخذ
من شحمه أو يدخل فيه شحمه كالصابون فنسيها، ثم ظن أنها فتوى بحل أكل شحمه.
وجملة القول: إن كل ما يؤكل من الخنزير محرم، فأما لحمه فبنص القرآن،
والمختار عندنا أنه يشمل الشحم وكل ما يؤكل منه، وبالإجماع على قول الجمهور
به وعدم اعتدادهم بمن خالف فيه من الظاهرية، وأما شحمه - على القول بأنه لا
يسمى لحمًا والاعتداد بخلاف بعض الظاهرية - فبدلالة المجاز من إطلاق المقصود
بالذات وإرادة كل معناه، وبالقياس.
وقد سبق لنا في المنار وفي التفسير إثبات قول الأطباء بضرره الشديد في
البدن بكونه سبب داء الدودة الشريطية، وضرره في الأخلاق كما أثبته بعض
المجربين فما أفتى به الأستاذ سيف الدين الرحال صحيح في جملته.
__________
(1) ومع ذلك فشحم الخنزير يستخدم في صنع بعض العقاقير مثل الديادرمين، وهو صابون قشطي مرهمي ناصع البياض يستخدم في الأمراض الجلدية، ومن خواصه تنعيم البشرة وإنالة الجلد حظه من الجمال، والديادرمين تتألف من شحم الخنزير المسلي والبوتاسة الكاوية والغلسرين ومثله الكوتيدرمة وهي تتألف منه ومن البوتاسة فقط، وغير ذلك من المراهم والقشطات الكثيرة الداخلة في أداة التجميل والتحسين النسوي وفي الطب، فالقول بجواز استخدامه يرجع إلى الحكم بنجاسته أو طهارته وليس هذا مجاله.(32/582)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوجود والمادة والقوة والخالق عزَّ وجل
رأي الأستاذ الإمام في الحدوث والقدم [1]
حضرة الأستاذ صاحب الكوكب المنير
قرأت فيما نشره الكوكب أمس السبت من ترجمة مذكرات مستر ولفرد بلنت
المشهور ما ذكره من حديث الأستاذ الإمام مع الفيلسوف سبنسر في عقيدة المسلمين
في الخالق عز وجل، وفي حالة أوربة والشرق، وما ذكره من حديثه هو مع
الأستاذ الإمام في علم الله تعالى بالجزئيات، وفي قدم المادة والخالق عز وجل.
فأما حديث أستاذنا مع الفيلسوف سبنسر فقد كان بسطه لنا بعد عودته من
أوربة، ورأيت كلمة عنه في مذكرة له ونشرتُ هذا وذاك في المنار وفي الجزء الأول
من (تاريخ الأستاذ الإمام) فراجعوه في (ص 868) من التاريخ إن شئتم.
وأما حديثه مع مستر بلنت في الخالق وعلمه وقدم المادة في أثناء عودتهما من
زيارة الفيلسوف فلم يذكر لنا عنه شيئًا؛ ولكننا نجزم بأن ما نقله عنه مستر بلنت
من القول بقدم المادة خطأ سببه عدم فهمه لما قاله الأستاذ الإمام لدقته وكونه من
اصطلاحات كلامية وفلسفية لم يعرفها عقله ولم يألفها فهمه، وإننا قد تلقينا عنه هذا
البحث مطولاً مفصلاً في الكلام على الوجود من درس المنطق حتى قلنا مع أذكى
الأساتذة الذين حضروا ذلك الدرس: إننا لم نفهم معنى الوجود إلا في هذا اليوم،
وفي الكلام على الوجود الواجب والوجود الممكن من رسالة التوحيد، ثم في مباحث
أخرى من دروس التفسير وأهمها الكلام على المادة والقوة الذي أثار إشكالاً في
بعض الأذهان اقتضى أن يوضحه الأستاذ كتابة، وقد نشرت رأيه وما كتبه في
إيضاحه في الجزء الأول من التفسير.
أقام الأستاذ الإمام البراهين العقلية القطعية على حدوث العالم قولاً وكتابة وقِدَم
خالقه واجب الوجود وحده، فلا يمكن أن يقول لمستر بلنت ولا لغيره إن المادة لهذا
العالم قديمة كقِدَم واجب الوجود، إلا إن كان يقول بوحدة الوجود كالشيخ محيي الدين
ابن عربي وأمثاله من فلاسفة الصوفية الغلاة الذين يقولون: إن الوجود الحق واحد
في ذاته متعدد في مظاهره وهي أعيان الموجودات في الخارج وشخوصها، وهو قد
ذكر للفيلسوف سبنسر مذاهب المسلمين الثلاثة في نسبة الخالق إلى العالم: مذهب
السلف الذين يقولون إنه فوق جميع خلقه بائن منهم بلا تمثيل ولا تحديد، ومذهب
المتكلمين الذين يقولون إنه لا في داخل العالم ولا في خارجه - فيقولون كالسلف
بالبينونة وبنصوص العلو والفوقية مع تأويلها - ومذهب الصوفية الذين يقولون
بالوحدة، وهو قد صرَّح في رسالة التوحيد وفي دروس التفسير أنه يقول بقول
السلف، ولا يعيب قول الخلف.
ولكنه كان في تقرير المسائل الاعتقادية يلتزم اصطلاحات علماء الكلام (إلا
في التفسير) وأما في الرد على الشبهات وتقرير الحقائق الإسلامية للفلاسفة
والماديين، فكان يحاول تقريب الاصطلاحات العلمية المختلفة بعضها من بعض إذا
كانت هي سبب الاختلاف في فهم الحقيقة، ثم يبين أن الحق ما أثبته الإسلام، وقد
كان الفيلسوف سبنسر يرى أن إثبات ذات للقوة المدبرة لأمر العالم، وأن لهذه الذات
صفات قائمة بها كما يعتقد المسلمون - يقتضي أنهم يقولون بتشخصه تعالى، فأعلمه
الأستاذ الإمام بأننا نقول إنه موجود ولا نقول إنه شخص مشخص، بل نقول إنه لا
يُدرك كنهه، ففهم الفيلسوف كلامه ودُهش من الإعجاب به كما يقول مستر بلنت؛
ولكن مستر بلنت لم يفهم كلامه كما فهمه الفيلسوف، ولذلك سأله بعد الخروج من
عنده عن علمه تعالى بالجزئيات فأثبته له، وسأله عن قدم المادة كقدمه تعالى وادعى
أنه أثبتهما معًا، ونحن نجزم بأنه لم يفهم جوابه لضيق الوقت عن إيضاحه فأخطأ
في بيانه.
والراجح عندي في سبب ما فهمه مستر بلنت من قدم المادة أن الأستاذ الإمام
أراد أن يكشف له شبهة الماديين في اعتقادهم قدمها، وهي استحالة وجود شيء من
العدم - أو شيء من لا شيء كما يقولون - ثم يبين له حجة المسلمين على حدوثها،
فوافقه أولاً على أن العدم لا يكون مصدرًا للوجود، بل بيَّن له كما بيَّن لنا في
دروس المنطق بالأزهر أن العدم لا حقيقة له في نفسه؛ وإنما هو أمر اعتباري
فرضيّ محض وإنما الشيء الثابت هو الوجود، وإن الوجود المطلق أزلي أبدي لأن
مقابله وهو العدم المطلق محال لا يمكن ثبوته ولا تحققه ولا تصوره ولا تخيله؛
وإنما يتصور الذهن العدم الإضافي وهو نفي نسبة موجود إلى موجود كعدم وجود
شمسين وقمرين لهذه الأرض، فتوهم الرجل من هذا أن وجود المادة قديم لأن العدم
محال.
ثم أخذ الأستاذ الإمام يبين له أن الوجود قسمان: وجود واجب لذاته، ووجود
ممكن لذاته، ومن الثاني أعيان العالم المادي الذي نعرفه بحواسنا ونقيس ما لم
ندركه منها على ما أدركناه، فمنه ما نرى بأعيننا حدوثه بعد إن لم يكن، ومنه ما
نعلم حدوثه بالأدلة كهذه النجوم والكواكب اللامعة فوقنا، فلا يوجد عالم من علماء
المادة أنفسهم يقول إنها قديمة أزلية، ومعنى كونه كله ممكنًا أن ذاته لا تقتضي
الوجود في نظر العقل لثبوت سبق أعيانها بالعدم ولا فرق في نظر العقل بين
أعيانها المركبة من عنصرين أو عدة عناصر وبين عناصرها البسيطة، وكل ما لم
يكن وجوده من ذاته لذاته لا لعلة خارجة فلا بد له من علة وسبب يهبه الوجود،
وهذا السبب لا يمكن أن يكون عدميًّا؛ لأن العدم لا ثبوت له في ذاته فيكون سببًا
لوجود غيره، فوجب أن يكون سبب وجود الممكنات كلها هو الوجود الواجب أي
الذي له الوجود لذاته لا لعلة أخرى، وهو الذي لا يتصور عدمه، وهو الله عز
وجل.
هذا هو البرهان العقلي عندنا على حدوث العالم كله، وكأني بالأستاذ الإمام قد
ذكره لصديقه مستر بلنت مختصرًا في طريقهما من دار الفيلسوف سبنسر إلى
المحطة فلم يفهمه منه ولكن بقي في ذهنه قوله إن العدم لا يكون مُنشِئًا ولا سببًا
للوجود، وتوهم أنه يستلزم أن تكون المادة قديمة أزلية كالخالق تعالى وهذا محال.
أزيد في بيان الموضوع أن الله تعالى قال في الاحتجاج على المعطلين: {أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: 35) أي لا يمكن أن يكونوا
خلقوا من غير شيء (أو من لا شيء كما يقال) لأن العدم لا يكون سببًا ولا
مصدرًا للوجود، ولا يمكن أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم ولا لغيرهم، وهذا مما لا
ينكرونه، فيتعين أن يكون الخالق لهم هو الله واجب الوجود لذاته، وما يصدق
على المخاطبين بهذه الحجة يصدق على غيرهم من الممكنات الوجود عاقلها وغير
عاقلها كعناصر المادة بالأولى، وإذا أمكن الجدل والمراء في جزئيات الممكنات فلا
يمكن المراء في جملتها، وإنني أذكر هنا عبارة رسالة التوحيد في ذلك لأستاذنا
وهو قوله بعد بيان حقيقة الواجب والممكن والمستحيل ما نصه:
(جملة الممكنات الموجود ممكنة بداهة، وكل ممكن محتاج إلى سبب يعطيه
الوجود، فجملة الممكنات الموجودة محتاجة بتمامها إلى موجد لها، فإما أن يكون
عينها وهو محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه، وإما أن يكون جزأها وهو
محال لاستلزامه أن يكون الشيء سببًا لنفسه ولما سبقه إن لم يكن الأول، ولنفسه
فقط إن فرض الأول، وبطلانه ظاهر، فوجب أن يكون السبب وراء جملة
الممكنات (أي غيرها) والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب، إذ ليس وراء
الممكن إلا المستحيل والواجب، والمستحيل لا يوجد، فيبقى الواجب فثبت أن
للمكنات الموجودة موجدًا هو واجب الوجود) .
ثم أورد البرهان من وجه آخر أخصر وأدق من هذا، وقد علم من هذا وما
قبله من مقدماته وما بعدها من الكلام في الوجود الواجب، وما ثبت لواجب الوجود
عز وجل وحده من القدم أنه يستحيل أن يقول صاحب هذه البراهين إن المادة قديمة
أزلية، وإن المعقول أن يكون السبب في فهم مستر بلنت ما ذكر منه هو ما فصَّلناه،
أو يكون الكلام في القدم اللغوي، أو الإضافي، وهو قدم عناصر المادة على
مركباتها.
ولكاتب هذا المقال طريقة غير طريقة شيخه الأستاذ الإمام الفلسفية في إثبات
حدوث المادة في مناظراته للقائلين بقدمها جدلاً أو اعتقادًا بينتها في مواضع من
مجلة المنار منها مناظرة بيني وبين صاحبي المقتطف منذ ثلث قرن تقريبًا،
ملخصها أن جميع ما نعرفه من هذا العالم العلوي والأرضي حادث بالاتفاق بين
العلماء؛ ولكنهم يتخبطون في تصور تكوينه وتصويره بصورة معقولة، ولا يزالون
مجمعين على أن منشأ الكون ومصدره الأول مجهول الكنه مع الجزم بأنه موجود ذو
قوة أو حكمة يدل عليهما النظام العام في جملته وفي كل نوع من أنواعه، أو جنس
من أجناسه، وهو ما نعبر عنه بالسنن أو النواميس، وهذا الموجود المجهول كنهه
وحقيقته المعلومة صفاته بما يدل عليها من العالم، هو الذي نسميه نحن بالاصطلاح
العلمي واجب الوجود، وبالاصطلاح الديني (الله رب العالمين) .
هذا وإنه قد ثبت عند علماء المادة أن عناصرها البسيطة قد يتحول بعضها إلى
بعض كتحول غاز الراديوم إلى عنصر الهليوم وفاقًا لنظرية وحدة المادة في الأصل،
ونظرية من قال من فلاسفتنا وفلاسفة اليونان إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد
تقريبًا.
ثم ثبت أخيرًا أن القوة تتحول إلى مادة أو تصدر عنها مادة، ومن المعلوم أن
كنه المادة وكنه القوة مجهولان، وكنه القوة أعرق في الخفاء من كنه المادة، فصح
لنا معشر المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء أن نقول لهؤلاء الماديين إن هذه
القوة التي صدرت عنها المادة هي قدرة الله تعالى، وهي عندنا مجهولة الكنه، كما
أن ذات الخالق تعالى مجهولة الكنه [2] .
وقد بيَّنت هذا البحث في مقال طويل عنوانه (السنن الكونية والاجتماعية
ونظام الكون) نشرته في الجزء الأول من مجلد المنار، مجلد هذا العام قلت فيه ما
نصه:
وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار
المختلفة، ألم يكونوا يقولون إنه مؤلف من مادة ذات عناصر بسيطة وقوة هي منشأ
التركيب الذي حدثت بها الصور المختلفة في العالم كله.
قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر، فيما
ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح لا تعرف له حقيقة، وإن هذا الوجود
الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء،
وإن كل ذرة من ذراته تتألف من كهارب سلبية تدور حول كهرب إيجابي
(والكهرب هو الوحدة من الكهرباء) وهذه الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة، ولا
إنها قوة؛ وإنما حقيقتها مجهولة، إلى أن قلت:
فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا (أولاً) فما المانع من القول بأن
هذه القوة هي قوة الله وقدرته؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر
تموجات الكهرباء المجهولة الكنه كما قالوا (أخيرًا) فأي بعد بين قولهم هذا وقول
أتباع الوحي: إن الوجود الممكن الظاهر صادر عن الوجود الغيبي الباطن؟ وقول
الله تعالى يصف نفسه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) .
_______________________
(1) نشرنا هذه المقالة في جريدة كوكب الشرق الغراء في 12 من شهر جمادى الأولى سنة 1351 ردًّا على حديث لمستر بلنت مع الأستاذ الإمام فَهِمَ منه أن الأستاذ قال له: إن المادة قديمة.
(2) لا يبعد أن يقول بعض أدعياء العلم الجاهلين الجامدين إذا اطلع على هذا أن صاحب المنار ينكر وجود الله تعالى، ويقول كما يقول الماديون إن مادة العالم صدرت عن قوة مجهولة هي التي نسميها الخالق، فيجعل برهاننا الذي أقمنا به الحجة على وجود الخالق وأقنعناهم به عين إنكار وجوده عز وجل، كما فعل في مسألة الملائكة والقوى الطبيعية، وهكذا يقلب الجامدون المحرفون الحقائق بالجهل وسوء النية.(32/588)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذكرى صلاح الدين ومعركة حطين [1]
] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[*]
سلام عليكم أيها المتذكرون المذكِّرون بتاريخ هذا الرجل العظيم، المنقذ
لأوطانكم وأمتكم من عدوان المعتدين، المجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق
والعدل، بصد سيطرة الغرب عن الشرق.
لقد أحسنتم صنعًا بإحياء هذه الذكرى، واختياركم لها تاريخ معركة حطين
الكبرى، التي كانت هي الفاصلة؛ لأن معارك النصر بعدها كانت متواترة متعاقبة،
إلى أن تم طرد تلك الزحوف الباغية، عن هذه البلاد المقدسة، وعن غيرها من
البلاد العربية، حتى جزيرة العرب التي شرَّفها الله تعالى على جميع الأرض ببيته
الحرام، ومرقد رسوله خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد كان بعض
زعماء الإفرنج يأتمرون بفتح الحرمين الشريفين، ولا غرو فإن ثالث الحرمين
أقرب الأبواب إليهما، وقد عاد الأمر كما بدأ، فهل نجد على نار الأحداث المشاهدة
هدى؟
أيها الإخوان المجتمعون لهذه الذكرى المقدسة، في هذه الأرض المقدسة إنكم قد
رفعتم عن بلادكم وأمتكم كلها عارًا كبيرًا وتقصيرًا معيبًا بالسكون والسكوت عنها
إلى الآن، وهم يرون شعوب الغرب يتنافسون في إحياء ذكرى معارك الحروب
التي هي دونها من كل وجه، وأما الرجال العظام فإنهم ينصبون لهم التماثيل، وإن
كانوا عندهم دون صلاح الدين عندنا، ويؤلفون في مناقبهم الكتب التي ترفع ذكرهم،
وتعظم قدرهم، وترشد الأمة إلى الاقتداء بهم.
نصب التماثيل ممنوع في الإسلام لأنه من شعائر الوثنية، وأما تصنيف الكتب
وإلقاء الخطب في عبر التاريخ فكل منهما مشروع؛ لأنه من الحكمة والموعظة
الحسنة، وقد دوَّن بعض علمائنا تاريخ صلاح الدين، ونوَّهوا بجهاده ومناقبه في
كتب أخرى؛ ولكن جمهور الأمة يجهلها ويحتاج إلى التذكير بها، بالأسلوب الذي
يبعث العبرة، ويحمل النفوس على حسن الأسوة.
فضائل صلاح الدين كثيرة: من قوة إيمان، وعلو أخلاق، وصلاح أعمال
وعدل أحكام؛ ولكن منته الكبرى على أمم الشرق كافة، وعلى العالم الإسلامي
والعرب خاصة، إنما هي كفايته إياهم طغيان الاستعمار الغربي، والطوفان
الأوروبي، الذي فاضت سيوله باسم التعصب الصليبي، في زمن كانت فيه جميع
الشعوب الأوربية في ظلمات حالكة من الهمجية والقسوة والخرافات والجهل المطلق،
والبعد الشاسع عن هداية الدين المسيحي الصحيح، الذي ارتكبوا جميع الشرور
والفظائع باسمه، ووالله إنهم قد كانوا وما زالوا أبعد خلق الله عن دين المسيح
وفضائل المسيح ووصايا المسيح عليه الصلاة والسلام، ولولا صلاح الدين لأغرق
طوفانهم الشرق كله منذ القرن السادس للهجرة، فأهلكوا الحرث والنسل، وطمسوا
نور الحق والعدل وأفسدوا جميع الأرض.
لم يكن صلاح الدين رحمة من الله تعالى بالشرق وحده، بل كان رحمة
بالغرب وبملوكه وقواده الوحشيين الهمجيين وشعوبه المظلومين أيضًا، فقد أراهم
بجهاده فيهم، وبنصر الله له عليهم ما طبعه عليه الإسلام من الحق والعدل،
والرحمة والفضل، وعلو الأخلاق والشيم، فإن كانوا قد خسروا بسيفه نتيجة
الحرب كلها، فقد ربحوا بمعرفة فضائله وفضائل أمته ما كان خيرًا لهم ولشعوبهم
منها.
رأوا من صلاح الدين ومن أمة صلاح الدين، ومن جيوش صلاح الدين،
وعلموا من أمر رعايا صلاح الدين من اليهود والمسيحيين، خلاف ما كانوا يعلمون
من ملوكهم وشعوبهم، ورؤساء دينهم ودنياهم، وما زال علماؤهم ومؤرخوهم
يجلونه وينوهون بفضائله، ولم تنس سورية ما كان من عاهل ألمانية الأكبر عند
زيارة ضريحه في دمشق من إجلاله له، ووضع ذلك الإكليل على قبره.
رأوا أن سلطان المسلمين خادم للأمة، لا يتعدى سلطانه عليها تنفيذ الشريعة،
فلا سلطان له على أموال الناس ولا على دمائهم ولا على نسائهم، ولا تحكم له في
أنفسهم ولا في شرفهم فضلاً عن عقائدهم وآرائهم، بل هو أرفق بهم من آبائهم
وأمهاتهم وأولي أرحامهم [2] .
رأوا أن المسلمين أحرار في دينهم وضمائرهم، ليس عليهم سيطرة باباوية ولا
كنسية فيها، على خلاف ما كان عليه ملوك أوربة ورؤساء الدين فيها من استبداد
في الأحكام، واستعباد للناس، رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم وعلموا باختبارهم أن
كل ما هاجتهم به الكنيسة لقتال المسلمين من الخطب والقصائد والأناشيد فهو كذب
وبهتان، ورأوا أن النصارى يعيشون مع المسلمين كالإخوان، لهم ما لهم، وعليهم
ما عليهم، بل لهم أكثر مما عليهم، فلما انقلبوا مغلوبين على أنفسهم في الحرب،
رجعوا عليها باللائمة، وشعروا بحاجتهم إلى تقليد المسلمين والاقتداء بهم في عدل
حكامهم وحرية شعوبهم، وتقييد تلك السلطة المطلقة والسيطرة المقدسة اللتين
استذلتاهم، فكان انكسارهم في معارك النزال هو الحافز لهممهم، والمثير لأفكارهم
والمرشد لهم إلى الإصلاح السياسي والديني، وما يتوقف عليه من استقلال العقل،
وحرية العلم، فتحولوا عن جهادنا إلى جهاد أنفسهم.
جاهدونا عدة أجيال، ثم جاهدوا ملوكهم وكنيستهم عدة أجيال، وطفقوا
يترجمون كتب حكمائنا وأطبائنا وفقهائنا وأدبائنا، يثقفون شعوبهم بها، على حين
كنا نعود القهقرى بتخريب الأعاجم لبلادنا، ودكهم لمعاقل قوتنا، وتقويضهم
لصروح حضارتنا، وإغراقهم لكتب أئمتنا، ثم بقضائهم على سلطان خلافتنا،
وإضعاف لغتنا وإماتة علومنا، وإذلال نفوسنا بسلطة عسكرية قاهرة استنزفت ثروة
عمراننا، وألحقتنا بمنابت الشيح والقيصوم من جزيرتنا.
هذا وإن هؤلاء الأوربيين لم ينسوا عداوتنا معشر العرب، فقد كانت لنا عدة
ممالك عربية، في شطر أفريقية الشمالي قضوا على استقلالها كلها بأسماء مختلفة،
حتى أنهم كانوا هم الحائلين دون تأسيس السلطنة (الإمبراطورية) العربية التي
شرع فيها محمد علي الكبير في مصر وسورية والسودان، وأكرهوه على أن يظل
خاضعًا للسياسة العثمانية عدوهم الكبرى في الشرق؛ لعلمهم أنها سائرة إلى
الانحلال والاضمحلال، وأن الدولة المصرية الجديدة حية داخلة في سن الشباب،
ثم ما زالوا يتربصون الدوائر بالدولة العثمانية إلى أن تم انحلالها في الحرب العامة
الأخيرة، فكان حظهم من انحلالها الاستيلاء على ولاياتها العربية، والاعتراف
باستقلال ولاياتها التركية وحدها، وإعلان الحماية على مصر العربية، ولما
اضطرتهم الثورة المصرية إلى إلغاء هذه الحماية والاعتراف باستقلال مصر قيدَّوا
ذلك بقيود تجعل الاستقلال اسمًا لغير مسماه اللغوي والسياسي، وعجَّلوا بالاستئثار
بالسودان كله، فطردوا منه موظفي الحكومة وضباط الجيش من المصريين، حتى
أن حاكم السودان الإنكليزي لم يسمح لحكومة مصر بتولية ملكها لقاضي السودان
الشرعي، على أنهم لولا مساعدة مصر والحجاز العربيتين لهم في الحرب، لكان
النصر فيها للألمان والترك، ولزال الاستعمار البريطاني والفرنسي من الأرض.
فعلم من ذلك كله أن دول أوربة العسكرية الاستعمارية تعد الأمة العربية أعدى
أعدائها في الشرق، وأن وجودها فيه ذنب لا يقاس به ذنب؛ ولذلك جزتها على
مساعدتها لها على قتال الترك بما تعلمون وتشاهدون، وتسمعون وتذوقون؛ وإنما
تشاهدون ظلمًا لا يصبر عليه إلا عير الحي والوتد، وتسمعون من النُّذر ما يدل
على أن المستقبل المعد لكم، شر من الحاضر الذي يعنتكم، وتذوقون من مرارة
الفقر والذل ما لا يوصف بالقول؛ فإن الذوق أقوى أنواع الإدراك فلا يحتاج إلى
الوصف.
وإنكم أنتم يا عرب فلسطين، ويا من شرَّفكم التاريخ بمعركة حطين، قد
خصصتم بما لم يصب به أحد من العالمين، من الظلم والذل والعذاب المهين، لا
فرق فيه بين المسلمين والمسيحيين، بما تحشره الدولة البريطانية في وطنكم من
شذاذ اليهود الصهيونيين، لتطردكم منه وتعيد فيه ملك إسرائيل، تكذيبًا لوعيد الله
لهم على لسان المسيح ومحمد عليهما من الله أفضل الصلاة والتسليم.
على أن هذه الدولة المشهورة عند أدباء أوربة وساستها بالرياء الفريسي قد
صبغت الاستيلاء على القدس بالصبغة المسيحية، ووصفت هذه الحرب بأنها آخر
الحروب الصليبية، وأقامت الاحتفالات لفتح أورشليم في الكنائس الإنجليزية،
فلينظر مسيحيو أورشليم والناصرة وبيت لحم وسائر البلاد التي تشرفت بولادة
المسيح ونشأته وتجواله ومعيشته، وسمع أجدادهم فيها مواعظه العالية، ووصاياه
الإصلاحية السامية، ورأوا آياته وعجائبه الدالة على صدقه، وتكذيب أعدائه الذين
طعنوا وما زالوا يطعنون في دعوته، ويقذفون أمه العذراء الطاهرة سيدة نساء
العالمين، بما برأها الله منه على لسان رسوله محمد خاتم النبيين، وسماه بالبهتان
العظيم.
لينظر هؤلاء المسيحيون ماذا كان من حظهم من هذا الفتح المسيحي الصليبي،
الذي هو أجدر أعمال الإنكليز باسم الرياء الفريسي، وليتذكروا أن صفقتهم كانت
تكون أخسر مما هي لولا كنائس أوربة المسيحية وشعوبها المسيحية ودولها
المضطرة إلى مراعاة شعورهم، وحسبهم مما هم فيه تفضيل أعداء المسيح
الصهيونيين عليهم، وجعل وطنه وطنًا لهم، ليقيموا فيه مسيحهم الذي يجدد لهم ملك
داود وسليمان المادي الذي يزعمون أن أنبياءهم بشروهم به، ويكذِّبون ابن مريم
الصادق الأمين الذي قال مؤيدًا بروح القدس إنه هو المسيح الحق الذي بشَّر به
أولئك النبيون، وإن ملكه سماوي لا أرضي، روحي لا مادي؛ فإنهم كانوا وما
زالوا عبيد المادة، فإذا جاءهم ملك مادي لا يزيدهم إلا طغيانًا وغلوًّا في عبادة المال؛
وإنما كانوا وما زالوا في أشد الحاجة إلى تلك التعاليم الإنجيلية الروحية التي
تصدهم عن هذه العبادة للمال، والطمع والأثرة على الناس، حتى بغَّضتهم إلى
أكثر شعوب البشر، فإن تجدد لهم ملك وهم على ما يعلم جميع الناس فإنهم لا
يكونون إلا كما قال الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ
نَقِيراً} (النساء: 53) حتى لا يستطيع أحد أن يعيش معهم ولو فقيرًا (النقير:
النكتة في ظهر نواة التمرة، وهي كناية عن الشيء الحقير) .
أيها العرب الكرام، المحتفلون بذكرى السلطان صلاح الدين العربي العدناني
كما روى ابن خلكان المؤرخ الشهير، وبذكرى معركة حطين العربية الفلسطينية،
يجب أن تبثوا في الأمة العربية كلها أن الخطر عليها من الاستعمار الأوربي في هذا
الزمان، بل في هذا العام، أكبر وأخطر مما كان قبل معركة حطين الفاصلة، وأن
ما يجب عليها لدفع هذا الخطر بالأموال والأنفس، هو أعظم وأشق مما قام به
أجدادهم في حطين، تحت لواء صلاح الدين، ففازوا بالنصر المبين.
ربما يتوهم بعضكم أنني أعني بهذه المشقة أن الأمة العربية لا تملك ما يملك
المعتدون عليها، والجادون في السعي لاستعبادها، من المدافع والدبابات والطيارات
والأساطيل، فتقاتلهم بمثل سلاحهم كما أوجب الشرع عليها، كلا إن هذا أهون
الخطرين؛ وإنما الخطر الأكبر الذي يندفع باندفاعه كل ما دونه هو قتال العرب
بالعرب، وتخريب بيوتهم بأيديهم، بما يبذله هؤلاء المستعمرون لهم من مال
يستأجرونهم به لقتل أنفسهم، وما هو إلا مما يسلبونه من بلادهم في الحال أو المآل،
وبما يستخدمون به طلاب الإمارة والوزارة وما دونهما من المناصب لخيانة أمتهم
وهدم معاقل استقلالها؛ وإنما هو ألقاب باطلة لا يخرجون بها عن كونهم خدمًا أذلة
للمستعمر السالب لسلطانهم الصحيح، ومجدهم التليد، فلعنة الله على أمثال هذه
الإمارات والوزارات والمناصب الصورية المدنسة برجس الخيانة، وعلى هذا
السحت الذي يبيعون به أوطانهم لأعدائهم.
وإن أمة يعيش فيها أمثال هؤلاء الخونة مكرمين مخدومين مزينين بألقاب
الجلالة والعظمة، والسمو والفخامة والسعادة لا يمكن أن تكون أمة عزيزة مستقلة،
بل لا بد أن يسلب منها ما بقي لها من استقلال ومال وشرف وحرية، إلا أن تتوب
إلى ربها، وتجتث شجرة الخيانة من بلادها كلها، فالأمة العربية مستمدة للحياة،
ولا تلبث بعد تطهيرها من هؤلاء الأنذال، أن يظهر فيها صلاح الدين فيقودها إلى
الوحدة ومجد الاستقلال.
لا أقول لكم عاقبوهم بمثل ما عاقبت وتعاقب به الأمم الحية أمثالهم، وما أشار
به حكيم الشرق وموقظه السيد جمال الدين الأفغاني قدَّس الله روحه في معالجة
فتنتهم، بل أقول إن ما دون ذلك من العقوبة الأدبية قد يفضي إلى تطهير الأمة من
رجسهم.
العقوبة الأدبية يملكها الكُتَّاب والخطباء والشعراء والمصنفون والجمعيات
العلمية والأحزاب السياسية، فعلى هؤلاء كلهم أن يتعاونوا على تنفيذ العقوبة بما
ينظمون من القصائد والمقاطيع والأغاني الوطنية في تشهيرهم، وتشويه خيانتهم
وتسجيل اللعنة عليهم، وبما يقولون من الخطب في مثل هذا المحفل الحافل، وفي
الأندية والسمَّار والمساجد، وبما يكتبون من المقالات التاريخية والاجتماعية في
المجلات والجرائد، وبما يصنفون من الكتب والرسائل، وبما يلقنون من علم
الأخلاق والاجتماع لطلاب المدارس.
وأما الأحزاب السياسية فعليها فوق هذا أن تسعى لإسقاط سلطتهم، وتأليب
الأمة عليهم، وإحباط كل سعي في تأليف عصبية لهم في أي عمل من أعمالهم،
حتى لا يجدوا في الأمة رجلاً قادرًا على العمل يكون آلة للأجنبي المعتدي على
بلادها، أو آلة للآلة الخائن لها؛ فإن لبعض الأمور السلبية من التأثير والبلاء في
بعض الأحوال، ما لا يكون للحديد والنار.
أتدرون أيها الإخوان لماذا رفع الإنكليز الحماية عن مصر؟ إنهم لم يرفعوها
لِما قتل الثائرون من رجالهم القليلين؛ وإنما رفعوها للثورة السلبية التي اتفق عليها
الموظفون في الحكومة بامتناعهم من حضور الدواوين، واشتغالهم فيها تحت سيطرة
الإنكليز، بل ما تسنى للإنكليز احتلال مصر إلا باستعداء حكومتها إياهم على
طلاب النصفة والإصلاح من شعبها، وبخيانة الخونة من باشاواتها لها (وقد بيَّنا
هذا في تاريخ الأستاذ الإمام الذي هو التاريخ الوحيد للنهضتين المصرية والإسلامية)
ثم لم يتمكنوا من سلب نفوذ حكومتها وجعلها آلة صماء في أيدي مستشاريهم ومن
دونهم المفتشين وغيرهم، إلا بأيدي تلك الجماعة التي كانوا يسمونها مجلس النظار
أو الوزراء، وأطلق عليها شيخنا الأستاذ الإمام اسم (جمعية الصم البكم) .
وإنكم لتجدون أيها الإخوان للثورة السلبية في هذه الأيام مثلاً أكبر وأوسع مما
كان في الثورة المصرية، وهو الثورة الهندية؛ ولكن ينقصها أن ساسة الأكثرين
من الوثنيين قد عجزوا عن إرضاء جميع الزعماء المسلمين، ولو اتفق الفريقان كما
اتفق المسلمون والقبط في مصر، لأمكنهم أن يعمموا ثورتهم السلبية بعدم التعاون
مع الإنجليز على أعمال الحكومة، وبعدم دفع الضرائب لها، وإذًا لكان استقلال
الهند قاب قوسين أو أدنى.
أيها الإخوان - أيها العرب الكرام:
إنه لا خير لكم في هذا الاحتفال ولا فائدة لكم من هذه الذكرى لسلفكم، إلا إذا
استفزتكم للجهاد في حفظ ما بقي لأمتكم العربية من الاستقلال في جزيرتها، منبت
شجرتها، وموطن قوتها، ومصدر حضارتها، ومأرزها عند شدتها، وفي استرداد
ما فقد من بلادها، ولا تهولنكم عظمة المعتدين الحربية، ولا ثروتهم المالية؛ فإنكم
إذا جمعتم كلمة أمتكم، ووفقتم لنبذ الخونة الذين يقاتلكم الأجنبي بهم؛ فإن شعوب
أوربة العاقلة المقتصدة لن تسمح لحكوماتها الطامعة بتجهيز جيوش صليبية جديدة
مجهزة بالآلات الحربية الحديثة لفتح جزيرتكم، والاستيلاء على الحرمين كما
استولوا على الثالث؛ وإنما يفعلون كل شيء من إذلالكم بكم، وانتزاع بقية
استقلالكم بأيديكم، كما قلنا آنفًا لكم، وقلنا ذلك وكتبناه من قبل لقراء مجلتنا المنار
وتفسيرنا ولغيرهم في بعض الصحف.
ومما كتبناه في مباحث هذه المسألة خاصة ما رواه مسلم في صحيحه من حديث
ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى
لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها،
وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة
عامة - أي القحط - وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم -
أي ملكهم وسلطانهم ومستقر قوتهم - وإن ربي قال لي: يا محمد، إذا قضيت
قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط
عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا،
ويسبي بعضهم بعضًا) .
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما بشَّر به وأنذر، وما كان إلا
صادقًا، وما كان خبره عن الله إلا حقًّا، فقد أعطى الله أمته كل ما وعدها، وما
سلب أعداؤها شيئًا من بلادها، ولا سُلِّطوا على شعب من شعوبها إلا بمساعدة
المسلمين أنفسهم إياهم على أنفسهم، كما يعلمه كل واقف على تاريخ الاستعمار،
وآخره استيلاؤهم على هذه البلاد العربية من فلسطين إلى العراق، فإلى متى تسكت
الأمة للخونة الذين رضوا أن يكونوا شر سلاح للأجانب تفتح بهم بقية بلادها،
لتقضي على البقية القليلة من ملكها؟
الأخوتان الدينية والقومية:
هذا وإنني أوصي إخواني في الدين وإخواني في القومية العربية والوطنية
بالحذر التام من التفريق بينهم بدسائس الأجانب الطامعين، وأعوانهم من الوطنيين
المنافقين المأجورين، والمتعصبين المغرورين، الذين يبغون التفريق بينهم
باختلاف الدين؛ فإن مصلحتهم القومية والوطنية واحدة، وقوميتهم واحدة، ولغتهم
واحدة، وإن المسلمين لا يرون في أخوة الدين الروحية ما يعارض أخوة القومية؛
لأن الله قد أثبتهما في كتابه العزيز، فقال في الأولى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10) وقال في الثانية: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ
المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء:
105-107) وقال مثل ذلك في أخوة هود وصالح الرسولين العربيين وغيرهما
لأقوامهم المشركين.
وإن المطلعين على التاريخ من إخواننا في القومية العربية، يعلمون أن دولنا
العربية لم تفرق بين المختلفين في الدين في العدل والمساواة في حرية الاعتقاد
والعبادة والنفس والعرض والمال، وإن بغي الصليبيين وتعصبهم وما سفكوه من
الدماء البريئة باسم الصليب ونزغة الدين المسيحي إفكًا وزورًا لم يكن له من التأثير
بين المسلمين والنصارى في هذه البلاد العربية عشر معشار ما كانوا يظنون، بل
كان الجميع يعيشون متحدين متعاونين في أمور دنياهم، وكل منهم حر مستقل في
أمور دينه على قاعدة الشرع الإسلامي (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) فلم يستطع
الصليبيون الأولون ولا الآخرون أن يُفسدوا علينا من إخواننا في القومية ما أفسده
علينا خلفهم من إخواننا في الدين والقومية معًا بحب الإمارة والوزارة والمال.
أذكر في هذا شهادة لعالم مسلم عربي النسب والأدب، أوربي الوطن، وهو
الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي مر ببلادنا سائحًا بعد عودته من الحجاز في عهد
الحرب الصليبية سنة (580) فإنه قال في رحلته عند ذكر جبل لبنان الذي كان
فاصلاً بين البلاد الساحلية التي احتلها الصليبيون وبين غيرها وذكر ما كان في هذا
الجبل من عُباد المسلمين ما لفظه:
(ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين
(أي للعبادة) من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون هؤلاء ممن
انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم، وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا فيه
أنواع الفواكه، وفيه المياه المطردة، والظلال الوارفة، وقلما يخلو من أهل التبتل
والزهادة، وإذا كانت معاملة النصارى لضد ملتهم هذه المعاملة فما ظنك بالمسلمين
بعضهم مع بعض؟)
(ومن أعجب ما يُتَحَدَّث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين
ونصارى وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى
تختلف بينهم دون اعتراض عليهم) إلى أن قال بعد ذكر حرية التجارة للجميع بين
البلدين (مع الاتفاق والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم
والناس في عافية والدنيا لمن غلب، هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم وفي الفتنة
الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك) انتهى.
ولا يخفى على أحد منكم أيها الإخوان في هذا العهد أن هؤلاء الأجانب
المستعمرين لا هم لهم في بلادنا إلا استعبادنا وسلب ثروتنا، وأنه لا فرق عندهم
بين المسلمين والنصارى في ذلك؛ ولكن الإنكليز يفضلون اليهود على النصارى
كالمسلمين في فلسطين لأن لهم ربحًا ماليًّا وسياسيًّا من مساعدتهم، فهم يبغون أن
يكونوا مانعًا من بقاء هذا البلاد للعرب وحدهم، فحائلاً دون تأسيس الوحدة العربية
التي شعر العقلاء من جميع البلاد العربية بوجوب التعجيل بتأسيسها قبل قطع
المستعمرين طريقها عليهم [3] .
وكذلك تفعل فرنسة بتفضيل النصارى عامة والماورنة خاصة على الطوائف
الإسلامية؛ وإنما غرضها من ذلك التفريق بين الطوائف حتى لا يكون لهم وحدة
قومية ولا وطنية، والدولتان ماديتان ماليتان، والدين عندهما من بضائع التجارة
المعنوية، ومنها ما لا ربح له إلا في المستعمرات، فلذلك تساعد فرنسة الجزويت
في مستعمراتها (وهي ترى أن سورية ولبنان منها) ولكنها لا تسمح لهم بالمقام
في بلاد فرنسة نفسها.
فظهور هذه النية السوءى من الدولتين الماديتين للعرب مسلميهم ومسيحييهم
أفضل فرصة تمكنهم من جمع كلمتهم، والحرص على قوميتهم ووحدة أمتهم، فلم
يبق عاقل متعلم منهم تغره الدسائس الاستعمارية التي كانت تخدع الفريقين بما
تحملهما به على التعادي، فتخوف النصارى من كثرة المسلمين، وتغري المسلمين
بالنصارى لميلهم إلى أعداء أمتهم وبلادهم، وقد أحبطت مصر العربية هذه الدسيسة،
وإن أهل سورية وفلسطين لأشد شعورًا من أهل مصر بحاجتهم إلى الاتفاق والوحدة
فجميع زعمائهم يدعون إليهما إذا كان سعد باشا قد انفرد بقوة وفده بإتمامهما في
مصر، وإن للجميع من تاريخ الدول العربية خير قدوة فيه.
أيها الإخوان في القومية العربية:
إن الغلو في العصبية الدينية لم تعرفه البلاد العربية ولا الأمة العربية إلا مما
بثته فيها الحرب الصليبية ثم المدارس الأوربية، فقد كانت المدارس هي التي دست
سم التفريق والتعادي في دسم العلم والحضارة الغربية؛ لأن الذين تعلموا في مدارس
الإفرنج أحسنوا الظن بهم، وجهلوا مقاصدهم منهم، وسبب ذلك أنه لم يكن لهم
دولة رشيدة ولا جمعيات قومية توجه أولادهم إلى التربية والتعليم الذي يعزز الدولة
وينهض بالأمة؛ وإنما كان الرجل يعلِّم ولده لأجل الاستعانة بعلمه على أسباب
المعيشة.
وكان المستعمرون ودعاتهم الذين ربوهم وعلموهم يظنون أن بلادنا إذا آل
أمرها إليه بسقوط الدولة العثمانية فإن أهلها يكونون من أغنى الناس وأعز البشر،
لا فرق بينهم وبين الإفرنج محرريهم في شيء، وكانوا يبثون لهم هذه الدعاية،
فلما زال سلطان الدولة العثمانية عن البلاد ظهر لأولئك الدعاة ولسائر الناس أن
الدولة العثمانية كانت أبر وأرحم منهم؛ لأنها كانت إلى آخر عهد السلطان عبد
الحميد ترضى من البلاد بقليل من الضرائب وشيء من رشوة الحكام، وتترك لهم
الحرية في أديانهم ومذاهبهم ولغاتهم وقومياتهم وتربيتهم وتعليمهم وكسبهم، وما كان
في آخر العهد الحميدي من الضغط السياسي فسببه خوف السلطان على شخصه
وسلطته من أحرار قومه وأعوانهم.
وظهر لهم ولغيرهم أيضًا أن هاتين الدولتين لا يتركان لأهل البلاد - التي
رزئت بنفوذهم وما سموه بالانتداب لمساعدتهم على استقلالهم - استقلالاً، ولا ثروة
ولا قومية، ولا وطنًا ولا حرية، ولقد رأينا أَلَيَنَهُما ملمسًا في الاستعمار أَشَدَّهما
وطأة علينا في هذه البلاد المقدسة، فقد ابتدع انتدابها فيها بدعًا من الظلم لم يسبقها
إليه أحد من الظالمين المستبدين، وهو هبة وطننا إلى أوزاع وأشتات من شعب ذي
أثرة وعصبية تستغيث منهما جميع شعوب الأرض، حتى إننا نرى أرقى هذه
الشعوب في كل علم وعمل وقوة وهو الشعب الألماني يخاف منه ويناوئه، فماذا
يرجو الشعب الفلسطيني الصغير الفقير الضعيف من البقاء معه؟ وأنى يأمن إخوانه
في شرق الأردن على أرضهم وديارهم ومعايشهم، وهم يعلمون أن أرض فلسطين
وحدها لا تكفي اليهود لتأسيس وطنهم القومي وإعادة ملك إسرائيل، فلا بد لهم من
شرق الأردن وما ضمه الانتداب إليها من أرض الحجاز، بل لا بد لهم من إعادة
ملك سليمان كله؟ ونحن أولى منهم بإعادة ملك العرب كله أو ما تقطنه الشعوب
العربية منه على الأقل؛ فإنه لا حياة لنا ولا بقاء فيما دون ذلك، بل لا حياة لنا في
أوطاننا التي نسكنها ونملك رقبة أرضها منذ قرون طويلة إلا باتحادها كلها،
وتعاونها على إحياء الحضارة العربية والعمران الذي تقتضيه علوم هذا العصر
وفنونه، وجعلها ركنًا من أركان السلم العام، وهي أكبر خطر عليه الآن بضعفها
وطمع الطامعين فيها.
الجامعتان العربية والإسلامية
أيها القوم:
لا يطوفنَّ في خاطر أحد منكم أن الجامعة الإسلامية التي كثر حديث الإفرنج
عنها وحسبانهم لها كل حساب تعارض ما قام عليه الدليل من وجوب الجامعة
العربية وتوقف حياتكم عليها، ولا ما يدعو إليه كثير من ساسة الشرق من وجوب
تأسيس جامعة شرقية أيضًا؛ فإن كل جامعة من هذه الثلاث لها دائرة خاصة بها،
من حيث يؤيد بعضها بعضًا في دفع عدوان الغرب عن الشرق كله.
يا قوم: إن الواضع لهذه السياسة الشرقية من جميع أركانها وجوانبها هو حكيم
الشرق الأكبر وموقظه من رقاده السيد جمال الدين الأفغاني، وكان معينه الأكبر
عليه وناشره بلسانه الفصيح القوَّال، وقلمه البليغ السيَّال شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده المصري، وقد شرحنا ذلك في المنار وفي تاريخهما الحافل المستقل
واتبعناهما فيه، وما كان الزعيم السياسي الكبير سعد باشا زغلول الذي وحَّد القومية
المصرية مع حرية كل ذي دين في دينه إلا ربيب الشيخ محمد عبده وتلميذه، وما
تلقى هذه السياسة إلا منه، كما شرحناه في هذا التاريخ وأيدناه ببعض خطوط سعد
باشا منقولة فيه برسمها الشمسي العكسي، فالوحدة القومية والوطنية، لا خلاف فيها
بين رجال الدين ورجال المدنية.
أيها الفلسطينيون:
إن لديكم شاهدين عدلين على عدم التعارض بين الجامعتين: هما جريدة
الجامعة العربية في القدس، وجريدة الجامعة الإسلامية في يافا، ألا ترون كلاًّ منهما
داعية إلى القومية العربية واتحاد جميع الناطقين بالضاد فيها، وأصحابهما من خيار
المسلمين؟
وإن لديكم شاهدًا حاضرًا يتضمن شواهد كثيرة، وهو جعل هذا الاحتفال
بذكرى السلطان صلاح الدين ومعركة حطين مشتركًا بين المسلمين والمسيحيين،
والداعي إليه من أشهر علماء المسلمين، وخطباؤه من الفريقين.
وأما الإسلام نفسه فهو أوسع صدرًا مني ومن الشيخ محمد كامل رئيس هذا
الاحتفال القومي الوطني، ومن سعد باشا زغلول، ومن أستاذ الجميع الشيخ محمد
عبده، والسيد جمال الدين، بل به اهتدينا في دعوتنا هذه.
الحق أقول لكم إن الإسلام يسمح لنا أن نتفق مع اليهود الوطنيين المستعربين
الذين يعيشون معنا على قاعدة شرعنا: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ولكنه لا
يسمح لنا بأن نتفق مع الصهيونيين الأعاجم الذين يريدون سلب وطننا منا وجعله
وطنا عبرانيًّا لهم، فنحن خصوم لهؤلاء دون سائر اليهود.
قال الله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8-9) .
وهؤلاء الصهيونيون يريدون إخراجنا من ديارنا، وغلبنا على أوطاننا؛ وإنما
هم آلة من آلات المستعمرين في قتل أمتنا كلها، فالواجب علينا دينًا وقومية ووطنية
أن نجمع كلمتنا، ونوحد أمتنا، وأن يستعين المسلمون منا على مسخري هذه الآلة
وغيرها في استعمارنا بالرأي العام الإسلامي، وأن يستعين المسيحيون منا عليهم
بالرأي العام المسيحي، فبهذا الاتحاد دون سواه يُرجى أن ندفع هذا البغي والعدوان
عن أنفسنا، فإن لم نفعل كنا نحن الظالمين لأنفسنا {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49)
والسلام على من اتبع الهدى اهـ.
__________
(1) خطاب لنا ألقي في حفلة الذكرى بحيفا في 25 ربيع الآخر.
(2) شكا إلى السلطان صلاح الدين أحد مماليكه المتميزين لديه بالحظوة والأثرة مستعديًا على جمَّال ذكر أنه باعه جملاً معيبًا أو صرف عليه جملاً بعيب لم يكن فيه، فقال السلطان له: ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة وأوامره ونواهيه ممتثلة وإنما أنا عبد الشرع وشحنته - والشحنة عندهم صاحب الشرطة - فالحق يقضي لك أو عليك. اهـ من رحلة ابن جبير.
(3) وإنما رفعوا الانتداب عن العراق لفتك ثورته وشدة شكيمته ودهاء ملكه وكثرة نفقاته، واستبدلوا به معاهدة تمكنهم من استغلال ثروته وحفظ مواصلات الإمبراطورية فيه، والتمكن من تقوية سلطتهم العسكرية من حوله.
(*) (الذاريات: 55) .(32/593)
الكاتب: محمد بهجت البيطار
__________
نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351
في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام
تابع لما نشر في الجزء الماضي وما قبله
الطلاق وما في معناه من فسخ وخلع وإيلاء وظهار
ومراعاة حقوق النساء في ذلك
48- مقدمة في أسبابه وحكمه عند أهل الكتاب
وإسراف الإفرنج فيه والأسباب المقتضية للفراق
إن من مصلحة الزوجين التي تقتضيها الفطرة ويوجبها الشرع ويؤيدها العقل
أن يبذل كل منهما جهده لإقامة حقوق الزوجية المشتركة بينهما بالتحاب والتواد
والتعاون والتسامح مع الإخلاص في ذلك كله؛ فإن سعادة كل منهما رهينة بسعادة
الآخر، وخدمتهما للإنسانية لا تتم إلا به، وما أطلق على كل منهما اسم (زوج)
الذي مدلوله (اثنان) إلا لأن إنسانية كل منهما تتم بالآخر فهو به يكون زوجًا ويكون
إنسانًا ينتج أناسي مثله، وكل تقصير يعرض لهما في ذلك فوباله عليهما معًا سواء
وقع من كل منهما أو من أحدهما، فمن ثم وجب عليهما تلافيه بالحسنى والصبر
والمغفرة والعفو، وأقل درجات المعاملة بينهما أن تكون بالتناصف والعدل، فإن
عجزوا عن أداء الحقوق وإقامة حدود الله فيها، وعز عليهما الصبر، كان علاجهما
الأخير هو الفراق، تفاديًا من الشقاء الدائم بالشقاق.
ومن ثم كان مشروعًا في التوراة معللاً ببعض الشرور التي تقتضيه، والذي
دُوِّن في الشريعة عند اليهود وجرى عليه العمل أن الطلاق يباح بغير عذر كرغبة
الرجل بالتزوج بأجمل من امرأته؛ ولكنه لا يحسن بدون عذر، والأعذار عندهم
قسمان: عيوب الخلقة ومنها العمش والحول والبخر والحدب والعرج والعقم وعيوب
الأخلاق وذكروا منها الوقاحة والثرثرة والوساخة والشكاسة والعناد، والإسراف
والنهمة والبطنة والتأنق في المطاعم والفخفخة، وأي امرأة تخلو من ذلك كله؟
والزنا أقوى الأعذار عندهم فيكفي فيه الإشاعة وإن لم تثبت، إلا أن المسيح عليه
السلام لم يقر منها إلا علة الزنا، وأما المرأة فليس لها أن تطلب الطلاق مهما تكن
عيوب زوجها ولو ثبت عليه الزنا ثبوتًا.
وكان الطلاق معروفًا عند غير أهل الكتاب من الوثنيين ومنهم العرب، وكان
يقع على النساء منه ظلم كثير عند الجميع، فجاء الإسلام فيه بالإصلاح الذي لم
يسبقه إليه سابق ولم يلحقه لاحق كسائر ما جاء به من الإصلاح.
ولكن خصوم الإسلام من الإفرنج ومقلديهم كانوا يعدون الطلاق من أقبح
مساوي الشريعة الإسلامية على إصلاحها فيه حتى اضطروا إلى تقريره والإسراف
فيه بما لا يبيحه الإسلام وجعله حقًّا مشتركًا بين الرجال والنساء.
وأما الإسلام فقد جعل الطلاق من حق الرجل وحده؛ لأنه أحرص على بقاء
الزوجية التي أنفق في سبيلها من المال ما يحتاج إلى إنفاق مثله أو أكثر منه إذا
طلق وأراد عقد زواج آخر، وعليه أن يعطي المطلقة ما يؤخر عادة من المهر،
ومتعة الطلاق، وأن ينفق عليها في مدة العدة وقد تطول على رأي بعض الفقهاء؛
ولأنه بذلك وبمقتضى عقله ومزاجه يكون أصبر على ما يكره من المرأة فلا يسارع
إلى الطلاق لكل غضبة يغضبها، أو سيئة منها يشق عليه احتمالها، والمرأة أسرع
منه غضبًا وأقل احتمالاً، وليس عليها من تبعات الطلاق ونفقاته مثل ما عليه،
فهي أجدر بالمبادرة إلى حل عقدة الزوجية لأدنى الأسباب أو لما لا يعد سببًا
صحيحًا إن أعطي لها هذا الحق.
والدليل على صحة هذا التعليل الأخير أن الإفرنج لما جعلوا طلب الطلاق حقًّا
للرجال والنساء على السواء كثر الطلاق عندهم فصار أضعاف ما عند المسلمين،
وقد جاء في الإحصاءات التي نشرتها الصحف في هذا العهد أن نسبة الطلاق إلى
عقود الزواج في أمريكا بلغت 20 في المائة كما تقدم في مناسبة أخرى [*] ، ولن
تبلغ هذه النسبة في البلاد الإسلامية واحدًا في المائة ولا في الألف أيضًا إلا أن
يكون في مصر.
ومما قرأناه في الصحف من أخبار طلب نساء الإنكليز للطلاق الذي قبل وحكم
به أن إحداهن طلبت الطلاق لأن زوجها كان بغير لحية عندما تزوج بها، ثم أطلق
لحيته فسأله القاضي عن السبب، فقال إنه يرى اللحية جمالاً وكمالاً للرجل فلم يقبل
عذره وحكم بالطلاق.
وأن امرأة أخرى طلبت الطلاق لأن زوجها لا يلتزم تغيير لباسه بحسب التقاليد
بأن يلبس للمائدة لبوسها وللسهرة لبوسها، فكان هذا ذنبًا مقبولاً موجبًا لإجابة طلبها.
ومن أحكام الطلاق عند اليهود أن من لم يرزق من زوجته بذرية مدة 10 سنين
وجب عليه أن يفارقها ويتزوج بغيرها، والإسلام لا يوجب طلاقها عليه إذا لم يهبها
الله تعالى ولدًا ولا التزوج عليها؛ ولكن يستحب له أو يندب أن يتزوج طلبًا للنسل،
وأن يمسك المرأة المحرومة منه ويعدل بينها وبين المرأة التي يهبه الله منها النسل،
إلا أن تطلب هي الطلاق وترى أنه خير لها، فيستحب له إجابة طلبها إذا لم يكن
عنده مانع ديني يرجِّح به إمساكها عنده كاعتقاده أن طلاقها يكون مفسدة لها.
ومن أحكامه عند اليهود أن الرجل متى نوى طلاق امرأته حُرِّمت عليه
معاشرتها بمجرد نيته ووجب عليه تنفيذ عزمه على الطلاق حالاً.
49- عوائق الطلاق في الإسلام
ومراعاة حقوق النساء فيه
الطلاق مكروه في الإسلام؛ ولذلك وضع أمام الرجل موانع وعوائق تصد عنه:
منها: الترغيب في الصبر على ما يكره الرجال من النساء من خُلق وخَلق
وعمل، بما للصبر من الفوائد والثواب عند الله تعالى، وبما يرجى أن يكون للمرأة
المكروهة من ولد صالح يكون سعادة لأهل بيته ولأمته، قال تعالى: {فَإِن
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19)
وفي معناها حديث تقدم في الوصايا بالنساء.
ومنها: ما تقدم بيانه من تأديب المرأة الناشز بما يرجى به صلاحها.
ومنها: ما تقدم من بعث حكم من أهله وحكم من أهلها يبذلان جهدهما في
إصلاح ذات البين.
ومنها: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذم الطلاق وبغض الله له
للترغيب عنه كقوله: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق) وقوله: (أبغض
الحلال إلى الله الطلاق) رواهما أبو داود من حديث ابن عمر وكقوله: (أيما امرأة
سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أصحاب
السنن إلا النسائي وابن حبان والبيهقي من حديث ثوبان وكقوله صلى الله عليه
وسلم من حديث آخر: (وإن المختلعات هن المنافقات) .
وقد أبطل الله في كتابه كل ما كان عليه العرب من مضارة للنساء في الطلاق،
ونذكر بعض الآيات في ذلك من غير تطويل في تفسيرها:
فمما أبطل الإسلام به ظلم العرب للنساء في أحكام الطلاق (1) تحديده العدد
الذي يملك الرجل الرجعة فيه بمرتين ولم يكن عندهم محدودًا (2) تحريمه أخذ
المطلق ما كان أعطاه للمطلقة عند الزواج من مهر أو غيره كله أو بعضه (3)
تحريمه إمساك المرأة المطلقة في عدة بعد عدة مضارة لها (4) تحريمه عضل
أولياء المرأة لها، أي منعها بعد انقضاء العدة من الزواج مطلقًا أو الرجوع إلى
زوجها بعقد جديد إذا تراضيا على ذلك بالمعروف، وقد جعل الله زوجها الأول أحق
بردها إذا أراد إصلاح ما كان فسد من أمر معاشرتها بالمعروف.
قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ
لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) .
وقد كتبنا في تفسير هذه الآية من تفسير المنار (ج 2) ما نصه:
كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدة، ولم يكن للطلاق حد ولا
عدد، فإن كان لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع واستقامت عشرته، وإن كان
لمضارة المرأة راجع قبل انقضاء العدة واستأنف طلاقًا، ثم يعود إلى ذلك المرة بعد
المرة، أو يفيء ويسكن غضبه، فكانت المرأة ألعوبة بيد الرجل يضارها بالطلاق
ما شاء أن يضارها، فكان ذلك مما أصلحه الإسلام من أمور الاجتماع، وكان سبب
نزول الآية ما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة وأورده السيوطي في
أسباب النزول قالت: (كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا
ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله
لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت
عدتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت
حتى نزل القرآن: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة:
229)) اهـ. ثم قال تعالى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231) .
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا
تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ
أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 232) .
نهى الله تعالى أولياء المرأة أن يعضلوها، أي يمنعوها أن تعود إلى زوجها
الأول إذا رضي كل منهما بذلك؛ وإنما يكون هذا بعد انقضاء العدة بعقد جديد ومهر
جديد، وقال في الآية التي قبل هاتين الآيتين: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ
أَرَادُوا إِصْلاحاً} (البقرة: 228) وهي في ردها إلى عصمته قبل انقضاء العدة،
والأفضل للمرأة ألا تعرف إلا زوجًا واحدًا.
50- منع مضارة النساء بالإيلاء والظهار
أما مضارة الإيلاء فهو أن يغضب الرجل على امرأته فيحلف ألا يقربها، وهو
الإيلاء منها، فالشرع ضرب له أجلاً أربعة أشهر فإن فاء، أي رجع عن يمينه إلى
أداء حق الزوجية الذي حلف على تركه غفر له ما كان فعله أو قصده من ضررها،
فإن لم يفعل وجب منع الضرر بالطلاق، فبعض الأئمة يقول إن الطلاق يقع
بانقضاء الأربعة الأشهر، ويكون بائنًا لا رجعة له فيه، وبعضهم يقول يلزمه
القاضي أحد الأمرين: الرجوع عن اليمين أو الطلاق، وأصل ذلك الآيتان من
سورة البقرة (226 و227) .
وأما الظهار فهو أن يحرم الرجل امرأته بتشبيهها بأمه، وكان أشهر ألفاظهم
في الجاهلية به قوله لها، أنت عليَّ كظهر أمي. وقد حرَّمه الإسلام وجعل كفارته
أن يعتق عبدًا قبل أن يمس امرأته، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن
لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، وبيان ذلك في أول سورة المجادلة.
51- حق النساء في فسخ عقد الزوجية
ومخالعة الرجل
إن لحل رابطة الزوجية ثلاثة طرق: فسخ الحاكم للعقد، والخُلع، والطلاق،
فأما الفسخ فيكون بأسباب مشتركة بين الرجال والنساء كالعيوب الخِلْقية المانعة من
أداء الوظيفة الزوجية والأمراض العضالة المعدية، ويكون بطلب المرأة إذا امتنع
الرجل أو عجز عن النفقة عليها أو غاب غيبة منقطعة بشرطها، والعيوب المَرَضِية
التي كان يثبت بها الخيار في الزواج، ولكل من الزوجين فسخه بها من عهد
الصحابة رضي الله عنهم هي الجنون والجذام والبرص وزاد بعضهم السل لمَّا
عرفوه - وفي معناه كل داء مُعدٍ بالتجربة الثابتة عند الأطباء - وقد صرح ابن رشد
بتعليل بعضهم للمرض المبيح للخيار والفسخ بسرايته إلى النسل، وأما عيوب
الخلقة فالمنصوص عليه منها ما يمنع أداء وظيفة الزوجية وهي العِنة والجب
والخصاء في الرجل، والرتق والعفل والقرن في المرأة، وللفقهاء خلاف في هذه
العيوب وأحكامها؛ وإنما غرضنا هنا أن نبين أن الإسلام يحكم في أمثال هذه
المسائل بالعدل والمساواة بين الرجل والمرأة في العيوب؛ لأنها مشتركة قد يوجد
في كل منهما ما يُعدُّ من الظلم قبول الآخر به بالإكراه، ومن قواعد الإسلام: (لا
ضرر ولا ضرار) [1] ثم إنه يعطي للمرأة حق طلب الفسخ في حالة امتناع الزوج
أو عجزه عن أداء حقه؛ لأن له في مقابله حق الطلاق.
وأما الخلع: فقد جُعل مخرجًا للمرأة من الزوجية إذا كرهت الزوج لسبب غير
الأسباب التي يثبت لها بها حق طلب الفسخ، وهو أن تفتدي بما تبذله له من
العوض عما بذله لها من مهر وغيره وما أنفقه عليها ليرضى بحل عقدة الزوجية،
ويكون غير مغبون ولا مظلوم، وحكم هذا الخُلع حكم الطلاق البائن الذي ليس
للرجل فيه حق الرجعة بدون قبول المرأة.
52- عدة الطلاق ومتعته ونفقته
من رحمة الإسلام بالنساء وحفظه لحقوقهن ودفعه الضرر عنهن ما شرعه من
أحكام عدة الطلاق والوفاة، وهي المدة التي ليس للمرأة أن تتزوج إلا بعد انقضائها،
وفي حال الطلاق الرجعي وهو مرتان يجوز للرجل أن يراجعها بدون عقد جديد
ولا مهر، وسبب العدة الأصلي أن يعلم براءة رحم المرأة من الحمل؛ ولذلك كانت
المطلقة قبل الدخول بها لا عدة عليها، ولعدة الوفاة حكمة أخرى هي الوفاء للزوج.
ومما شرعه الله من مراعاة حقوقهن في ذلك أن يطلِّق الرجل امرأته في طهر
لم يقربها فيه لئلا يطول عليها زمن العدة إذا كانت تعتد بالقروء وهي ثلاثة أطهار،
وأن يكون لها حق السكنى والنفقة مدة العدة للطلاق الرجعي، وأن يمتعها عند
الفراق بما يليق بثروته من نقد وغيره قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ} (البقرة: 236) .
الموسع: الغني، والمقتر: الفقير، وهو بمعنى قوله في سورة الطلاق:
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .
هو في النفقة على المطلقات، واختلف العلماء في متعة النساء فقال بعضهم
واجبة، وقال بعضهم مندوبة، والتحقيق أنها واجبة غير محددة، وأنها من تمام ما
وصف الله به الطلاق المشروع أنه تسريح بإحسان؛ ولذلك جعلها على قدر الثروة
فالغني لا يكون محسنًا ما لم يوسع في هذه المتعة باللائق بثروته.
وحكمة المتعة تطييب قلب المرأة وإزالة توهم احتقار الرجل لها أو ارتيابه فيها،
وقد كان كرام السلف يبالغون في هذا التكريم، روي عن سيدنا الحسن بن علي
عليه السلام أنه متَّع مطلقة له بعشرين ألف درهم وزقاق من عسل، ومتَّع أخرى
بعشرة آلاف واعتذر بقوله: متاع قليل من حبيب مفارق، وقد فصَّلنا هذا البحث
في تفسير آية البقرة من جزء التفسير الثاني المذكورة آنفًا.
53- الحداد على الزوج وغيره
النساء أرق من الرجال شعورًا باللذائذ والآلام، واستجابة لدواعي المسرات
والأحزان، ومن دأبهن النواح على موتاهن، ومن عادتهن الحداد عليهم، وكان
النساء في الجاهلية يسرفن في هذا وذاك، فيخمشن الوجوه، ويلبسن الشعر ويحلقن
الشعور، ويدعون بالويل والثبور، وقد يقضين أعمارهن في ذلك، وقد عُدَّ لبيد
الشاعر الشهير رحيمًا معتدلاً في توصيته بنتيه قبل الإسلام بالبكاء عليه وتعداد
مناقبه عامًا كاملاً، مع نهيه إياهما عن خمش الوجه وحلق الشعر.
وكانت المرأة العربية التي يموت زوجها تعتزل الناس في شر مكان من البيت
لابسة أدنى أخلاق ثيابها، فتظل كذلك حولاً كاملاً لا تغير ثوبها ولا تغتسل ولا
تمتشط ولا تقلم أظافرها، حتى إذا انقضى الحول ألقت من مكانها بعرة تنبئ بها
أهلها بانتهاء الحول، فإذا خرجت تمسحت بأول حيوان تجده من كلب أو داجن أو
حمار، وقد يموت ما تتمسح به من نتنها.
وكان مما جاء به الإسلام من الإصلاح أن حرَّم عليهن النواح وخمش الوجوه
وحلق الشعور وتمزيق الثياب والخروج مع الجنائز، وأذن لهن بالحداد على الميت
ثلاثة أيام فقط إلا الزوج فقد أذن لهن بالحداد عليه مدة عدة الوفاة التي لا يباح لهن
الزواج فيها، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل، وحصر الحداد في ترك
الزينة والطيب وإظهار السرور، وحكمته ألا يظهر منهن التعرض للزواج وعدم
المبالاة بالوفاء للزوج المتوفى، فإن هذا يعد نقصًا وشينًا لهن، يعقب احتقار
الرجال لهن ورغبتهم عنهن.
ونذكر هنا بعض الأحاديث في موضوع الحداد:
جاء في الصحيحين والسنن الأربع، وغيرها عن أمهات المؤمنين عائشة
وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء أن يحددن
على ميت فوق ثلاث إلا على الزوج أربعة أشهر وعشرًا) ومن أجمع هذه
الأحاديث عندهم ما رواه الستة عن حميد بن نافع قال: أخبرتني زينب بنت أبي
سلمة بهذه الأحاديث الثلاثة قالت:
دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سفيان بن
حرب (والدها) فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة وخلوق أو غيره فدهنت به
جارية، ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا) قالت زينب: ثم
دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت
أما والله ما لي بالطيب حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) الحديث أو ذكرت نحوه، وقالت
(الراوية) سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال صلى الله عليه
وسلم (لا) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: (إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت
إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول) قالت زينب: (كانت المرأة
في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها حتى تمر عليها
سنة، ثم تؤتى بحيوان حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات،
ثم تخرج فتعطى بعرة، ثم ترمي بها، ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب أو غيره)
قال مالك: تفتض: تمسح به جلدها اهـ.
ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من قرينة الحال أن الاكتحال الذي
استئذن به يُراد به الزينة لا التداوي فلم يأذن به وذكرهن بالفرق بين ما كن عليه
في الجاهلية من الحداد وما صرن إليه في الإسلام، وفي الموطأ أنه أذن بالاكتحال
ليلاً وغسله نهارًا، وحكمته أن الرجال يحتقرون المرأة المتوفى زوجها إذا تزينت في
أثناء العدة؛ لأنه إعلام للرجال بطلبها للزواج، وكان من عنايته صلى الله عليه
وسلم بحفظ كرامة النساء أن أمر أصحابه إذا قدموا من سفر أن يبلغوا نساءهم خبر
مجيئهم ليستعددن للقائهم بالنظافة والزينة.
وكان ينهى أن يطرقوهن ليلاً بدون إعلام لئلا يروهن على صفة منفرة من
الشعاثة والتفل، وفي رواية كان ينهاهم أن يطرقوا النساء لئلا يتخونوهن ويطلبوا
عثراتهن.
آداب المرأة المسلمة وفضائلها
54- عموم الأحكام وحكمة ما خُص به النساء
إن الأصل العام في أحكام العبادات والمعاملات في الإسلام من واجب ومندوب
ومحرَّم ومكروه، وفي آدابه من فضيلة ورذيلة، أن تكون موجهة إلى المكلفين من
الرجال والمكلفات من النساء على السواء وخصَّ الشرع الرجال ببعض الأحكام،
والنساء ببعض الأحكام كما تقدم في المسائل الماضية.
وعلة التخصيص وحكمته طبيعة كل من الزوجين الذكر والأنثى ووظائفه
المنوطة به التي يكون بها كل منهم متممًا ومكملاً للآخر في تناسل النوع وترقية
شؤونه، فيكون الرجل رجلاً قائمًا بشؤون الرجال، والمرأة مرأة قائمة بشؤون
النساء بالتعاون الذي يشعر به كل منهما أنهما يكونان حقيقة واحدة يعمل كل منهما
لحفظها كالأعضاء من جسد كل منهما كما تقدم أيضًا.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن تشبه الرجال بالنساء والنساء
بالرجال ويلعن فاعله فقد قال: (لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين
من الرجال بالنساء) [2] وقال: (لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من
النساء) [3] وقال: (لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة
الرجل) [4] .
ومن الأحكام والآداب الخاصة بالنساء ما شرع لسد ذريعة الفساد وحفظ شرف
المرأة وكرامتها من تعدي سفهاء الرجال عليها، ومحاولتهم إفسادها كدأب الفاسقين
في كل زمان، فقلما يوجد امرأة خبيثة في العالم إلا وقد كان المفسد لها رجل خبيث
أو امرأة أفسدها الرجال من قبل، وصارت تتقرب إليهم بإفساد أمثالها، إلا الفساد
الأكبر الذي اتخذ صناعة وتجارة يشترك يها الخبيثون والخبيثات لأجل جمع المال
لا لأجل الخبث نفسه.
55- أمر النساء بالمبالغة بالستر وسببه
من هذا النوع من الآداب النسوية عنايتهن بالستر الدال على الحشمة والصيانة
والمانع من الريبة والظنة، وقد تقدم أن ما أمر الله به من ضرب الحجاب على
أزواج النبي الطاهرات هو من هذا القبيل، ويرى القارئ بعد آية الحجاب من
سورة الأحزاب أن الله تعالى ذكر المؤمنين بعلمه بما يبدون وما يخفون، وذكر
الأزواج الطاهرات برفع الجناح عنهن في محارمهن، وأمر بالصلاة والسلام على
نبيه، وأنذر الذين يؤذون الله ورسوله لعنته لهم في الدنيا والآخرة وعذابه المهين،
وحكم على الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات باحتمال البهتان والإثم المبين، ثم قال:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 59) .
علل الله تعالى هذا الأمر بالستر بأن تعرف به المرأة المؤمنة أنها مؤمنة حرة،
فيمتنع المنافقون والفساق من إيذائها، فالعلة الخوف عليها من أشرار الرجال لا
الخوف منها، فهي كعلة آية الحجاب ومن جنسها، وما زال الرجال يسيئون الظن
بالمرأة التي تظهر محاسنها وزينتها، وما زالوا يؤذونها وما زالوا يطمعون فيها،
وما زال أهل الدين والعفة يتجنبونها، وناهيك بما يلقاه النساء المتبرجات في زماننا
في مصرنا من إيذاء سفهاء الرجال.
وسبب نزول هذه الآية أن المؤمنات الحرائر كن يلبسن كملابس الإماء الفواجر
على عادات الجاهلية، وأعمها الدرع (القميص) والخمار، وكثيرًا ما كانت المرأة
تلقي القناع على رأسها وتسدله من وراء ظهرها، فيكون جيب الدرع مفتوحًا على
نحرها وصدرها، وكن يلبسن الجلابيب في بعض الأوقات دون بعض (والجلباب
الملحفة والملاءة التي تُلبس فوق الثياب كلها) فإذا خرجن ليلاً إلى الغيطان لقضاء
الحاجة يلقين الجلابيب أو يسدلنها وراءهن، فكان بعض الفتيان يعرض في الطريق
لمن يرونها غير مبالغة في الستر لحسبانها أمة؛ لأن الأمة هي التي كانت تتعمد
إظهار محاسنها، وهي التي تبذل عرضها، فاتخذ هذه العادة بعض المنافقين ذريعة
لإيذاء المؤمنات حتى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل له في ذلك عند
العلم بفعلته قال: كنت أحسبها أمة، فأمر الله أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين
بأن يدنين عليهن فضل جلابيبهن فيسترن بها رؤوسهن وصدورهن، لكي يعرف
أنهن مؤمنات حرائر فلا يؤذيهن الفساق خطأ، ولا يكون للمنافق الخبيث أن يعتذر
عن إيذائهن عمدًا، وأنزل الله تعالى بعد هذه الآية قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب: 60) .
والإنذار فيها وفيما بعدها للمنافقين وضعفاء الإيمان ومذيعي الأراجيف بإغراء
النبي صلى الله عليه وسلم بعقابهم وبنفيهم من مدينته إن لم ينتهوا عن جرائمهم مع
عدم ذكرها يدل على العموم الذي يشمل تعرضهم لإيذاء النساء، وتجد تفصيل
موضوع الستر في آيات سورة النور وهي قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ
آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:
30-31) .
أمر المؤمنات بما أمر به المؤمنين من غض وحفظ، وزاد عليه نهيهن عن
إبداء زينتهن للرجال إلا ما ظهر منها لضرورة التعامل والقيام بالأعمال المشروعة
من دينية ودنيوية، وفسَّره العلماء المختلفو المذاهب بالوجه والكفين وبالملابس
الظاهرة كالقناع والجلباب.
فأما غض البصر فهو خفضه وعدم إرساله فيما تأمر به الشهوة ألبتة، كأن
يكون الإنسان مطرقًا رأسه، لا ينظر رجل إلى امرأة ولا امرأة إلى رجل قط، وهذا
مما يشق بل لا يُستطاع، ولذلك أمر بالغض منه لا بغضه، و (من) للتبعيض،
وهو يحصل بعدم استدامة النظر إلى العورات وما يحرم النظر إليه، وقاعدته: النظرة
الأولى لك والثانية عليك، وأما حفظ الفرج فهو مطلق إلا ما استثناه الله تعالى بقوله:
{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (المؤمنون: 6) لأن إرسال النظر بالشهوة
مبدأ كل فتنة كما قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا ... لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وأما ضرب النساء خمرهن على جيوبهن، فالمراد أن يدرنها على جيوب
قمصهن يسترن بها نحورهن وصدورهن، لعدم الحاجة إلى إبداء غير وجوههن في
أعمالهن على مرأى من الرجال الأجانب، وكان النساء في الجاهلية يسدلن خمرهن
من ورائهن ويوسعن جيوب قمصهن لينكشف ما في نحورهن وعلى صدورهن من
العقود والقلائد يفتخرن بها.
وأما من استثنى الله تعالى مع محارم النساء من غير أولي الإربة من الرجال
فهم الذين لا حاجة لهم في النساء كالشيخ الهرم وذي العلة الطبيعية، والإربة
والأرب: الحاجة المهمة، ويطلق على الشهوة، ومنه حديث عائشة: (أيكم يملك
إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ كان يُقبِّل أهله وهو صائم)
وعطف على هؤلاء الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء لاتحاد العلة، والمراد
بعدم ظهورهم على العورات عدم فطنتهم لها ورغبتهم في الإشراف عليها، وأما النهي
عن ضرب النساء بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فهو ما كان يفعله بعض النساء
في الجاهلية لتذكير السامع بما في أرجلهن من الخلاخيل افتخارًا بها وتشويقًا إليهن،
وجمهور المفسرين والفقهاء على أن النهي للكراهة لا للتحريم إلا إذا كان يتبعه فعل
محرم.
56- النهي عن خلوة المرأة بالرجل
وسفرها بدون محرم
ومما ورد في سد ذرائع الفساد النهي عن خلوة المرأة بالرجل والسفر بدون
صحبة زوجها أو ذي محرم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر
المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم) متفق عليه من
حديث ابن عباس رضي الله عنه بهذا اللفظ، ومن حديث ابن عمر بلفظ (لا تسافر
المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) وروى أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة
مرفوعًا: (لا تسافر المرأة بريدًا إلا ومعها محرم يحرم عليها) البريد أربعة فراسخ
وهي اثنا عشر ميلاً، وهل المطلق يحمل على المقيد كما يقول بعض علماء
الأصول، أم الحكم يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة في الأمن على النفس؟ ففي
صحيح البخاري من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما
سيكون من أثر انتشار الإسلام وعدله وأمنه أن الظعينة سترتحل وحدها من الحيرة
حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله تعالى.
ومن يعلم أخبار الأسفار في هذا العصر، وما يكون دائمًا من تأثير اجتماع
النساء والرجال في البواخر والفنادق الكبيرة؛ فإنه يفقه من حكمة هذا النهي أن
السفر الطويل والقصير سواء في عدم خروج المرأة فيه مع غير ذي محرم، ولا
يبيح لنا الأدب أن نذكر في هذه الرسالة شيئًا مما سمعناه في ذلك، وقد ذكر رجل
للنبي صلى الله عليه وسلم حين نهى عن ذلك أن امرأته تريد الحج، وهو يريد
الجهاد، فأمره أن يترك الجهاد ويسافر مع امرأته.
وجملة القول أن سفر المرأة واجتماعها بالرجل الأجنبي في الخلوة وستر
شعرها وما عدا الوجه والكفين عنه كله يدخل في سد ذرائع تعديه عليها، وإفساده
لها، أو إغوائها إياه، وما يحرم عليها منه يحرم عليه، وعقابهما في الآخرة سواء؛
ولكن سوء عواقب هذا الفساد في الدنيا أشد على المرأة في صحتها وفي شرفها
ومكانتها في المجتمع الإنساني.
57- مسألة حجب نساء الأمصار
وتحرير القول فيها
كل ما استحدثه الناس في المدن والقرى الكبيرة من المبالغة في حجب النساء
فهو من باب سد الذريعة، لا من أصول الشريعة، فقد أجمع المسلمون على شرعية
صلاة النساء في المساجد مكشوفات الوجوه والكفين، وأجمعوا على إحرام النساء
بالحج والعمرة كذلك، نعم إنهن كن يصلين الجماعة وراء الرجال؛ ولكنهن كن
يسافرن مع الرجال محرمات ويطفن بالبيت كذلك، ويقفن في عرفات ويرمين
الجمار على مشهد من الرجال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين،
وكن يسافرن مع الرجال إلى الجهاد ويخدمن الجرحى ويسقينهم الماء ومنهن نساء
النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقد قاتل نساء المهاجرين مع الرجال في
واقعة اليرموك. وكن يخدمن الضيوف، ويقاضين الرجال إلى الخلفاء والحكام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الرجل الذي يريد خطبة امرأة أن ينظر
إليها ولو بدون علمها مع منع التجسس على النساء والتطلع إلى عوارتهن، وقد
اختلف العلماء فيما ينظره الخاطب فاتفقوا على الوجه والكفين، وقال الأوزاعي ينظر
إلى مواضع اللحم، وقال داود يجوز النظر إلى جميع البدن، والمتبادر من الإذن
بالنظر إليها - وإن لم تعلم - أن يراها في حالها العادية في بيتها، ويؤيده حديث جابر
عند أحمد وأبي داود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خطب
أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) وروى عبد الرزاق
وسعيد بن منصور أن عمر خطب إلى علي بنته أم كلثوم، فذكر لها صغرها، فقال
أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها فقالت:
لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك.
وأجمع المسلمون على جواز شهادة المرأة للنص عليه في كتاب الله وأمره
باستشهادهن، وعلى صحة بيعها وشرائها وسائر تصرفاتها فيما تملك، وعلى تلقيها
العلم عن الرجال وتلقيهم عنها على تفصيل في أحكام فرض العين وفرض الكفاية
والمندوب فيه، وراويات الحديث منهن كثيرات من نساء الصحابة والتابعين وخير
القرون وقليلات بعد فيما بعدها، وأسماؤهن مدونة في كتب التاريخ ونقد الرواة،
وما كان يكون شيء من ذلك من وراء حجاب إلا ما كان من أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب الخاصة بهن بالنص الصريح وبتعليل الحكم،
وأخطأ من قال إنه يجري فيها قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإن
لفظها خاص لا عام، دع ما أجازه بعض الأئمة من تزويج المرأة نفسها وغيرها
وتوليها القضاء.
ومن دلائل السنة على عدم وجوب ستر الوجه حديث المرأة الخثعمية ونظرها
إلى الفضل بن العباس ونظره إليها وهو مروي عن ابن عباس في الصحيحين
والسنن وعن علي عند الترمذي وحاصله في جملة الروايات أن الفضل كان رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فعرضت للنبي صلى الله عليه
وسلم امرأة من خثعم وضيئة الوجه تسأله هل تحج عن أبيها الذي أدركته الفريضة
وهو ضعيف لا يثبت على الراحلة؟ فأفتاها بالجواز، وفيه أن الفضل جعل ينظر
إلى المرأة وتنظر إليه، فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق
الآخر، وفي بعض ألفاظه فلوى صلى الله عليه وسلم عنق الفضل، فقال العباس:
يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟ وفي لفظ: وجأت عنق ابن عمك، فقال
صلى الله عليه وسلم: (رأيت شابًّا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) وفي رواية
(فلم آمن عليهما الفتنة) .
وقد استنبط ابن القطان وغيره من هذا الحديث جواز النظر عند أمن الفتنة،
حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، وقالوا لو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل،
ولو لم يكن ما فهمه صحيحًا ما أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا بعد نزول
آية الحجاب قطعًا؛ لأنه في حجة الوداع سنة عشر والآية نزلت سنة خمس.
والتحقيق أن النظر من كل من الرجل والمرأة إلى ما عدا العورات مباح، فإن
كان بشهوة كره تكراره، كما قلنا في تفسير: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور:
30) فإن خيف منه فتنة تفضي إلى الحرام اتجه القول بتحريمه لسد الذريعة لا
لذاته كالخلوة والسفر عند من يقولون بثبوت التحريم بالدليل الظني، وقال الإمام
يحيى ومن وافقه من فقهاء العترة إنه جائز مع الشهوة، وشدد آخرون من الفقهاء،
فقالوا بتحريمه مطلقًا [5] ، بل قال بعضهم بوجوب ستر المرأة لوجهها وجرى على
ذلك أهل الحضارة في الأمصار، حتى صار من التقاليد أن لا يرى رجل أجنبي
امرأة بالغة ولا يكلمها ولو من وراء حجاب، بل صاروا يكتمون أسماء النساء،
وبلغنا أن بعض المتنطعين من طلبة العلم في طرابلس الشام أمر امرأته بتغطية
رأسها حتى في داخل الدار حتى لا تراها الملائكة.
وأما أهل البوادي الذين يعيشون بالقيام على الأنعام وسكان الأرياف من
الفلاحين وهم أكثر المسلمين - فلا يعرف نساؤهم هذا الغلو في الحجاب، ولا هذا
التهتك والتبذل الفاشي في هذا الزمان، وهم على ذلك أقل من أهل الأمصار سقوطًا
في الفتنة.
ومن لطائف ما يروى في هذا الباب أنه عقد مؤتمر نسوي دولي في أوربة
حضره من قبل الدولة الحميدية كامل بك الحمصي كاتب السلطان الخامس، فسئل
في المؤتمر عن حجاب النساء في الإسلام، فقال ما خلاصته: إن هذه مكيدة من
النساء، رأين أن ذوات الجمال البارع منهن قليلات، وأن ظهورهن للرجال يفتنهم
بهن ويقبح نساءهم في أعين أكثرهم، فتواطأن على الاحتجاب العام ليرضى كل
رجل بامرأته، فضحك النساء في المؤتمر، وكان لكلامه عندهن وقع حسن.
وإذا لم يكن ما قاله كامل بك واقعًا فتعليله صحيح، فالمحجوب محبوب بالطبع
والمبذول مبتذل في العادة الغالبة، ولما صار الهمج الذين كانوا يعيشون عراة
يلبسون الثياب، اشتد شوق رجالهم لنسائهم ورغبتهم فيهن، وتهتك النساء في هذا
العصر هو الذي أحدث ما يسمونه أزمة الزواج في مصرنا وأمثالها.
وجملة القول: إن أصل الشرع في آداب النساء والرجال معروف، وإن سد
ذرائع الفتنة والفساد مشروع، وهو يختلف باختلاف الأعصار والأمصار؛ وإنما
الحرام ما ثبت بنص قطعي الرواية والدلالة، وما دل على طلب تركه دليل ظني
فهو مكروه، وكل رجل وامرأة أعلم بحال نفسه ونيته، وحال قومه وبيئته.
والقاعدة العامة في مثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال ما أحل الله
في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) رواه
الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه وقوله صلى
الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير
من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات
وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه - وفي رواية: يواقعه -
ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)
رواه الشيخان وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
نصيحة المؤلف للرجال والنساء
في مسألة الزواج
إنني منذ ثلث قرن ونيف أدرس مسألة النساء والحياة الزوجية وأناقش فيها
أهل العلم والرأي، وأقرأ ما صُنِّف فيها من الكتب، وأتتبع ما تنشره الصحف،
وأتدبر أخبار الإفرنج فيها، وكتبت فيها شيئًا كثيرًا أهمه تفسير آيات القرآن الكريم
في موضوعها، ومقالات الحياة الزوجية التي نشرت في مجلد المنار الثامن وآخرها
هذه الرسالة، وناظرت الدعاة إلى المساواة بين النساء والرجال في الجامعة المصرية
فحكمت لي الأكثرية الساحقة بالفلج وإصابة صميم الحق.
وإنني أعتقد بعد هذا الدرس الطويل العريض العميق، وما اقترن به من
الاختبار الدقيق، أن ما يراه الكثيرون من أهل الغرب والشرق من نوط السعادة
الزوجية بتعارف الزوجين قبل الزواج وعشق كل منهما للآخر هو رأي أفين،
أثبت الاختبار بطلانه، وأن تحاب الشبيبة لا ثبات له بعد الزواج غالبًا، بل كانت
العرب تقول: إن الزواج يفسد الحب.
وإنما القاعدة الصحيحة لهناء الزوجية ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لامرأة خاصمت زوجها إليه وصرحت له بأنها لا تحبه، فقال لها:
(إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقل البيوت ما بني
على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام) يعني التزام كل من الزوجين
لحفظ شرف الآخر، والعمل بما يرشد إليه الإسلام من الواجبات والآداب الزوجية
هو الذي تنتظم به الحياة الزوجية ويعيش الناس به العيشة الهنية.
وينبغي لكل من الزوجين أن يتكلف التحبب إلى الآخر بأكثر مما يجده له في
قلبه؛ فإن التطبع يصير طبعًا، ورحم الله علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد
حيث قالت: تحبب فإن الحب داعية الحب؛ فإنه في معنى قوله صلى الله عليه
وسلم: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) .
هذه نصيحتنا نزفها إلى الرجال والنساء في هذا العصر الذي يشكو فيه العقلاء
إعراض الشبان عن الزواج، فمن وفقه الله تعالى للعمل بها منهم فسيرونها أعلى
وأفضل نصيحة يستحق صاحبها منهم الدعاء والشكر، ومن الله عز وجل المثوبة
والأجر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) جاء في جريدة الجهاد بتاريخ 4 المحرم سنة 1351، 10 مايو سنة 1932 تحت عنوان جنون الطلاق في أمريكا ما نصه: (أكثر من نصف مليون رجل وامرأة وطفل يتغير مجرى حياتهم كل سنة بسبب حوادث الطلاق) هذا ما ذكر في بيان إحصائي أذاعته الحكومة الأمريكية وجاء فيه: إن أغلب حوادث الطلاق تقع عادة في العام الرابع بعد الزواج وأن قضايا الطلاق قد نقصت قليلاً في العامين الأخيرين بسبب الأزمة الاقتصادية، وقد كان عدد هذه القضايا في سنة 1929 التي تعتبر من سنوات الرخاء 201.468 قضية حكم فيها بالفصل بين الزوجين ويفهم من هذا الإحصاء أن عشرين في المائة من حوادث الزواج في أمريكا تنتهي بالطلاق، وقد كانت حوادث الطلاق في سنة 1929 بمعدل حادث كل دقيقتين أما في سنة 1930 فقد نقصت الحوادث بنسبة لا بأس بها وقد ذكر البيان الآنف الذكر أنه في المدة بين سنة 1867 وسنة 1929 قد زاد عدد الطلاق بنسبة 2000 في المائة، وزاد عدد السكان بنسبة 300 في المائة، وحوادث الزواج بنسبة 400 في المائة وإذا ظل الحال على هذا المنوال واستمرت زيادة حوادث الطلاق بالنسبة الآنفة الذكر؛ فإن عدد الزيجات الفاشلة قد يربي في سنة 1965 على 51 في المائة والسبب الشائع في أكثر حوادث الطلاق هو العربدة وسوء المعاملة وعجز الأزواج عن الإنفاق وقد ذكر البيان المشار إليه أن 9 في المائة فقط من المطلقات يطلبن من أزواجهن نفقة شرعية، و6 في المائة منهن يحكم لهن بالنفقة.
(1) رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن ابن عباس.
(3) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود عنه أيضًا.
(4) رواه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة.
(5) هذا يوافق ما نقله متى عن المسيح: قد سمعتم أنه قيل للقدماء (لا تزن) وأما أنا فأقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، وفي رواية (ومن زنى يكون مستوجب الحكم) أي الرجم.(32/607)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
محمد حافظ بك إبراهيم
شاعر مصر الاجتماعي
في السابع عشر من شهر ربيع الأول توفي شاعر النيل الاجتماعي الكبير،
وأديب مصر الشهير محمد حافظ بك إبراهيم عن سن وافت الستين، فاهتز لموته
عالم الأدب العربي واضطرب، كما كان يهتز لشعره من حماس أو شجو أو طرب،
ورثاه أشهر شعراء مصر، فشعراء العرب في الشرق والغرب، وأبَّنته الصحف
فأطرته أي إطراء، ولا تزال تنشر القصائد في رثائه وإطرائه إلى الآن، وقد توفي
بعده أمير من أكبر أمراء بيت الملك في البلاد، فلم يتجاوز ذكر موته مصر، ولم
يبلغ تأثير وفاته فيها معشار ما بلغ تأثير موت حافظ من إكبار وحزن وتأبين ورثاء،
على تفاوت ما بين مؤبني الرجلين من داعيتي الإخلاص والرياء، وأين بيت
حافظ إبراهيم في أهل المسكنة والبؤس، من أعلى قصور الإمارة والملك.
والعبرة في هذه أنه آية بينة على ارتقاء الأمة العربية في آدابها النفسية
والاجتماعية، يبشرنا بقرب زوال العظمة الوهمية، عظمة الألقاب الموروثة
والثروة المادية، وإعقاب العظمة الحقيقية لها، عظمة العلم والأدب وخدمة الأمة.
لو لم يمت هذا الأمير الكبير في هذه الأيام لذكرنا في مقام هذه العبرة موت
غني من أكبر أغنياء مصر فيها ممن كان يحسدهم حافظ على ثروتهم ويعاتب الأقدار
على ما كان يشكو من بؤسه تجاه جدتهم، وهو المرحوم محمد بدراوي باشا عاشور
صاحب العقار الكبير، والمزارع الواسعة التي تُقَدَّر بعشرات الألوف من الفدادين،
ومئات الألوف من الجنيهات المودعة في المصارف المالية (البنوك) العديدة،
مات البدراوي باشا أغنى فلاحي مصر وأحسنهم سيرة، فلم يهتز لموته عالم العلم
والأدب، ولا أكبرت نعيه المجلات والصحف، ولا رثاه الشعراء ولا أبنه العلماء
والأدباء، فكان هذا دليلاً آخر على أن الشعب المصري قد ارتقى شعوره المعنوي؛
ولكنه دون الدليل الذي قبله، وقد كان هذا الشعب أعرق الشعوب الشرقية في إكبار
الأمراء والحكام والخنوع لهم، ثم في تعظيم الأغنياء والازدلاف إليهم؛ ولكن لا
يزال المال هو المقصد والغاية لطلاب العلوم والفنون وقلما تتوجه عناية أحد منهم
لبلوغ الغاية من الأدب والإمامة فيه لذاتها.
كان محمد حافظ يشكو البؤس وينظم نفسه في سمط البائسين، وتلك شنشنة
الأدباء والشعراء في كل حين، حتى كان من القضايا المسلَّمة أن حرفة الأدب علة
للبؤس والعيشة الضنك، وما هي بعلة طبيعية ولا عقلية، ولكن من أعطى كل
عقله وفهمه للأدب أو أي علم من العلوم لا يجد من استعداده النفسي ولا من وقته ما
يصرفه في الكسب وتثمير المال الذي هو طريق الثروة الواسعة، والشعراء أحرص
من العلماء على نعمة الدنيا وزينتها، وأكثر تمنيًا لها، لتزيين خيالهم لها في أنفسهم،
فمهما يصبهم منها - وقلما يكون وافرًا يرضي طمعهم وخيالهم - فإنهم يستصغرونه
ويشكون حظهم منه، ألا ترى أن أحدهم قد ذم العيشة الوسطى بين بؤس الفقر
وطغيان الغنى وشواغله، وهي أفضل حالة في الرزق يمكن أن تكون للإنسان
بقوله:
مذبذب الرزق لا فقر ولا جدة ... حظ لعمرك لم يحمق ولم يكس
وكان حافظ يتمثل بهذا البيت بعد أن نال راتبًا شهريًّا من الحكومة يكفي لنفقة
أسرة تعيش عيشة معتدلة، وهو خفيف الحاذ لا زوج له ولا ولد، ذلك بأنه كان
مسرفًا في الترف مفنقًا في التنعم، وقد أوتي من الحظ المعنوي بأدبه وشعره ما لم
يؤت أديب في مصر في عصره غير أحمد شوقي بك إذ كان شاعر الأمير فصار
يدعى أمير الشعراء، ولعله لو نشأ في حجر الترف ونعمة العيش كشوقي لما كان
له من نفسه ما يبعثه إلى النبوغ في الأدب النافع، فأكثر حكماء الأدباء وحكماء
العلماء وأصحاب الأفكار الإصلاحية الناضجة كانوا من أهل التقشف والبؤس في
بدايتهم، إما اضطرارًا وإما اختيارًا كالذين سلكوا الرياضة الصوفية، ومن أمثال
الصوفية: من لم تكن له بداية محرقة، لا تكون له نهاية مشرقة.
وقد أشار شيخنا الأستاذ الإمام إلى هذا المعنى في بؤس حافظ فيما قرَّظ له به
الجزء الأول من ترجمة كتاب البؤساء فقد قدَّمه إليه حافظ وتوجه باسمه بكتاب
خاطبه به فرد عليه بجواب جعلهما حافظ في مقدمة الكتاب، وإنا ننشرهما هنا؛
فإنهما خير ما يُنشر في ترجمة صديقنا الأديب رحمه الله تعالى:
__________(32/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب حافظ للأستاذ الإمام
في رفع كتاب البؤساء إليه
إلى الأستاذ الإمام:
إنك موئل البائس ومرجع اليائس، وهذا الكتاب - أيَّدك الله - قد ألمَّ بعيش
البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسمَّاه كتاب
(البؤساء) وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة، وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق
العدل) وقد عنيت بتعريبه، لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب،
وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار، ورأيت أن أرفعه إلى
مقامك الأسنى، ورأيك الأعلى، لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث أولها: التيمن باسمك
والتشرف بالانتماء إليك، وثانيها: ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى
الرجل الذي يعرف مهر الكلام، ومقدار كدّ الأفهام، وثالثها: امتداد الصلة بين الحكمة
الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق.
فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله، والله المسئول أن يحفظه للدنيا والدين، وأن
يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين ... اهـ.
قدَّم محمد حافظ هذا الكتاب إلى الأستاذ الإمام ونحن جلوس معه في حديقة داره
بعين شمس مساء يوم من الأيام، فأخذه منه بعد أن قرأه علينا وعليه ودخل الدار
فمكث فيها قليلاً، ثم عاد إلينا وقال: إنني عصرت دماغي على ما به من جفاف
الكلال فخرج منه هذه الكلمات، وأعطى حافظًا ورقة قرأ فيها:
تقريظ كتاب البؤساء للأستاذ الإمام
لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بنا بالغتَ في تحسينه، أو أحمدك لرأي لك فينا
أبدعت في تزيينه، لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري
في الشكر إلى الغاية مما يطلبه فضلك؛ لكنك لم تقف بعرفك عندنا، بل عممت به
من حولنا، وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية، سحرت قومها،
وملكت فيهم يومها، ولا تزال تنبه منهم خامدًا، وتهز فيهم جامدًا، بل لا تنفك
تحيي من قلوبهم ما أماتته القسوة، وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة
أفاضها الله على رجل منهم، فهدى إلى التقاطها رجلاً منا، فجرَّدها من ثوبها
الغريب، وكساها حلة من نسج الأديب، وجلاها للناظر، وحلالها للطالب، بعدما
أصلح من خلقها، وزان من معارفها [1] ، حتى ظهرت محببة إلى القلوب، شيقة
إلى مؤانسة البصائر، تهش للفهم، وتبش للطف الذوق، وتسابق الفكر إلى مواطن
العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي في النفس مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك، فوقف العجز بأغلبهم
عند مبتدأ الطريق، ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده؛ ولكنه لم يعن بأن
يعيد إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها، ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من
متانة التأليف، وحسن الصياغة، وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه، أما أنت
فقد وفَّيت من ذلك ما لا غاية لمزيد بعده، ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده، ولو
كنت ممن يقول بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح،
فظهرت لك اليوم في صورة أبدع، ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في
التعريب سنة يعمل عليها من يحاوله من ظهور كتابك، ويحملها الزمان إلى أبناء ما
يستقبل منه، فتكون قد أحسنت إلى الأبناء، كما أجملت الصنع مع الآباء، وحكمت
للغة العربية أن لا يدخلها بعد من معجمة سوى ما هو في الأسماء، أسماء الأماكن
والأشخاص، لا أسماء المعاني والأجناس، ومثلي من يعرف قدر الإحسان إذا عم،
ويعلي مكان المعروف إذا شمل، ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي:
ولو أني حبيت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللفاء [2] .
تقول: إن الذي وصل سببك بسبب صاحب الكتاب، ووقف بك على دقائق
من معانيه اشتراكك معه في البؤس، ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان
فيما تقول شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة، ثم
كان سببًا في امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة، سألت الله أن يزيد وفرك من
هذا البؤس حتى يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ، وأن يجعلك في بؤسك أغنى من
أهل الثراء في نعيمهم، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده
هذا وإن مدح حافظ للأستاذ الإمام واتصاله به هو الذي فجَّر ينابيع الحكمة في
شعره، وكان أكبر أسباب شهرته به، بما جعل أكثر شعره في الشؤون الاجتماعية
والسياسية والأفكار الأدبية النافعة، كما كان سبب انتفاعه المادي بأدبه وشعره،
فالإمام هو الذي وصله بصديقه أحمد حشمت باشا عاشق العربية وآدابها، ووصاه
بمساعدته إذ كان مديرًا لأسيوط ثم للدقهلية، وحشمت باشا رحمه الله هو الذي تبرع
له بطبع الجزء الأول من ديوانه، والجزء الأول من كتاب البؤساء ووزع له هو
وغيره من أصدقاء الإمام ألوفًا من نسخهما، ثم لما صار وزيرًا للمعارف جعل له
وظيفة كتابية في دار الكتب المصرية العامة، ومنح بسعيه الرتبة الثانية، فعاش
بعد ذلك عيشة راضية، وإن ظل يتمثل بالبيت الذي يصفها بالذبذبة.
كان حافظ يتمنى لو يكون غنيًّا بغير أدنى عمل يعمله للغنى، فهو لم يكن يقدر
على احتمال أدنى تعب أو مشقة في عمل ما؛ وإنما كانت فلسفته في الحياة أن
يكون ناعم البال، طيب الطعام والشراب، دائب الفكاهة والدعابة مع الأصدقاء،
ولولا أنه كان يعشق الأدب عشقًا لما قرأ فيه كتابًا، ولما نظم بيتًا ولا نمق خطابًا،
وقلما كان أحد من الأغنياء ممتعًا بنعمة العيش مثله، ولو أوتي من الرزق أضعاف
ما أوتي لأنفقه كله في سبيل الرفاهة وبلهنية العيش، وكان يحفظ من النكات والملح
والنوادر والتنادر ما لا حد له ينتهي إليه، على ما يحفظه من روائع الشعر وبدائع
النثر، مما لو جمعه في الدفاتر لكان له منه ثروة واسعة.
وقد أوتي من قوة الحفظ وسرعة الاستحضار للمحفوظ وبطء النسيان أو عدمه
ما يذكرنا برواة اللغة وحفَّاظ الحديث، فلو أنه عُني بالحفظ والرواية لأعاد لمصر
عهد الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله، وكان يحفظ كل ما ينظم وينثر
ويترجم ككتاب البؤساء، وما أراه حفظ من كتاب الاقتصاد السياسي الذي ترجمه
هو وزميله خليل بك مطران شيئًا إلا أن يكون بعض المفردات أو الجمل التي
اهتدى هو إلى تعبير عربي عنها غير معروف، ولو كان له رغبة لذة في حفظه لما
شقَّ عليه حفظه على كبره، وإن كان فنًّا لا أدبًا.
وكان حافظ قوي الاستقلال العقلي والوجداني، لا يقبل ولا يسلِّم ما لا يعقله
ويرتاح له وجدانه، لهذا كان ينكر في نفسه أمورًا كثيرة من عقائد الدين، فكان مما
استفاده من معاشرة الأستاذ ولا سيما صحبته في سفره إلى الدقهلية لتوزيع الإعانات
على منكوبي حريق ميت غمر أن استل الإمام من قرارة نفسه تلك الشكوك والريب
وهو ما حدثنا به بعد عودتهما، قال: ولم يقنع مني بالإيمان إلا وحاول حملي على
الصلاة حتى صلاة الفجر في الغلس، فكنا نسهر في دار أحمد حشمت باشا في
المنصورة أكثر الليل وننام في حجرتين متجاورتين، فأستيقظ بسماع حركته في
آخر الليل وقيامه للتهجد، وبعد طلوع الفجر يطرق علي باب حجرتي ويقول:
يا راقد الليل إلى كم تنام؟ قم للصلاة، فقلت له بصفة المازح: يا مولاي إنني لا
أستطيع حمل الدين كله علمه وعبادته في سفرة واحدة، كنت ملحدًا فآمنت وصدقت
بجميع عقائد الإسلام في هذه المرة، ولك علي في سفرة أخرى أن أحافظ على جميع
الصلوات، وقد ذكرت حافظًا في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام 12 مرة أو
أكثر.
وأما شعره فقد كتب الكاتبون في الصحف شيئًا في وصفه، وما كان يزينه من
حسن إنشاده، وحسبي أن أشير إلى ما كنت كتبته في تقريظ ديوانه الأول عند طبعه،
وهو أنه أصح منظوم هذا العصر لغة في مفرداته المختارة وجمله الفصيحة
وجمعه بين السلاسة والمتانة، فهو يفضل شعر أحمد شوقي بك في هذا دون جمال
التخييل وقوة التأثير الذي هو روح الشعر، فبهذا يبز شوقي جميع شعراء العصر،
على تفاوت في شعره وتعقيد معنوي في بعض أبياته تحول دون فهمها فهمًا صحيحًا
من أول وهلة، فمحمد حافظ إبراهيم من الأدباء الذين يخلد اسمهم التاريخ رحمه الله
تعالى وأحسن مثواه.
__________
(1) المعارف من وجه الإنسان ما يعرف به ويمتاز من غيره كالعينين والملاغم.
(2) اللفاء: بالفتح القليل الذي هو دون الحق.(32/627)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتنة الحجاز
والقضاء على فئة ابن رفادة
سافر ابن رفادة ومن معه من مصر إلى الحجاز من طريق سينا بجوازات
مصرية إلى العقبة، ولقوا في كل مكان غاية المساعدة فدخلوا أرض الحجاز وتبعهم
أعوانهم الذين سافروا من شرق الأردن إلى العقبة يحملون بعض الدراهم والأسلحة
على مسمع ومرأى ممن ثم من رجال الإنكليز في هذه الأمكنة كلها، مع إغضاء
وتصامم بحيث لا تقوم عليهم حجة بأنهم أغروا أو ساعدوا أو وافقوا على شيء،
بل كانت الدولة الإنكليزية هي التي بلَّغت الحكومة السعودية أنباءهم، وحملت
الأمير عبد الله على عزل محمد أفندي الأسد قائمقام العقبة لإذنه لهم، بل مساعدته
لهم على الدخول في أرض الحجاز، ثم طفق رجال الهيئة العسكرية من الإنكليز
يحصنون العقبة ويجمعون فيها الأسلحة والذخائر الحربية والمؤنة بحجة مساعدة
الحكومة السعودية على الثائرين عليها بمنع وصول المدد والذخيرة إلى فئة ابن
رفادة من البر والبحر، ومنع فارتهم من الالتجاء إلى العقبة وشرق الأردن إذا
طاردهم الجيش السعودي، وما كان هذا المنع ليحتاج إلى كل هذا التحصين
والاستعداد الحربي، على أنه ظل مستمرًّا بعد استئصال هؤلاء الثائرين إلى أن
انجلت الجنود السعودية التي رابطت أمام العقبة حامدة شاكرة للقائد الإنكليزي
المرابط أمامها في حدودها المقتطعة من الحجاز! ! !
وأما الحكومة السعودية فقد استدرجت ابن رفادة الأعور محضاء الثورة بإرسال
رجال من قبائل الحجاز إليه يعدونه بالقيام معه وتعميم الثورة في الحجاز إذا كان
لديه المال الكافي لذلك، فأخبرهم بأن المال سيأتي من شرق الأردن، حتى إذا ما
اطمأن أحاطت به وبفئته الجنود النجدية فقضت عليهم في معركة واحدة طاحت فيها
رءوس ابن رفادة وأولاده ورأس أبي دقيقة أكبر أعوانه، وأُلقيت رأس ابن رفادة إلى
الأولاد والرجال يدحرجونها ويدحونها ككرة الصبيان.
طيَّر البرق نبأ القضاء على ابن رفادة إلى مصر وأوربة وسائر الأقطار من
الطريق الرسمية وطريق الشركات العامة، فكذَّبته جمعية الثورة في عمان وزورت
بإمضاء ابن رفادة بلاغًا أرسلته إلى صحف فلسطين ومصر والشام ينبئ بانتصاره
وفوزه وامتداد الثورة في البدو والحضر، وأرسلت إليها مقالات أخرى ورسلاً
يبثون الدعاية، فكذَّب ذلك كله الأكثرون، وارتاب فيه الأقلون، حتى ظهر الحق
واستيقنه الناس أجمعون.
استفاد الناس من هذه الفتنة أربع فوائد عظيمة الشأن:
الفائدة الأولى: أن سلطان الحكومة السعودية ثابت البواني، راسخ الأركان
في بدو الحجاز ونجد معًا كحضرهما؛ فإن شيوخ قبائل الحجاز ورؤساءها استأذنوا
جلالة ملكهم في قتال ابن رفادة وهو منهم، ولم يكن أحد يظن هذا لا من الإنكليز
ولا من غيرهم، وأما أهل نجد فقد ثارت ثائرتهم كلهم، فأسرع من استنفرهم الملك
إلى الحجاز وحدود شرق الأردن والعقبة، وطفق سائر أهل البلاد يستأذنونه في
النفير العام والهجوم على شرق الأردن للقضاء على حكومتها وكتب إليه في ذلك
علماؤهم وأميرهم سعود ولي عهد الإمام فيهم.
الفائدة الثانية: تنبه الأمة العربية في سورية وفلسطين وشرق الأدرن لوجوب
الانتصار للدولة العربية المستقلة المعترف باستقلالها المطلق من جميع الدول
الكبرى وما يتهددها من الخطر بوجود الإنكليز في خليج العقبة الحجازي وشرق
الأردن، وقد أظهرت شعورها هذا في الجرائد وعلى ألسنة الأحزاب والزعماء حتى
إن أهل شرق الأردن أظهروا المقت للجمعية المحرِّكة للفتنة عندهم ولأميرهم أيضًا.
الفائدة الثالثة: تنبه الشعور الإسلامي العام في الشرق والغرب للخطر على
الحجاز باستيلاء الإنكليز على خليج العقبة ومنطقته وسكة الحديد الحجازية، وقد
ظهر هذا الشعور كالشمس فيما نشرته جرائد مصر وفلسطين وسورية وتونس
والجزائر والهند في المسألة، وعجب الناس لسكوت مشيخة الأزهر عن إظهار
صوتها في هذه النازلة الإسلامية التي تنذر المسلمين أكبر خطر على الحرمين
الشريفين ولم نبين لهم ما نعلم من سبب هذا.
الفائدة الرابعة: وهي نتيجة ما قبلها من الفوائد الثلاث: إحجام الدولة
البريطانية عما كانت تريده من افتراص هذه الفتنة لإحداث احتلال عسكري بري
بحري في خليج العقبة تسميه مؤقتًا وتعلله بمثل ما عللت به احتلال مصر،
واحتلال إسكندر آباد في الهند، وقد رضيت بسبب ما تقدم وخشية تفاقم الخطر أن
تبقى منطقة العقبة ومعان تابعة لشرق الأردن في إدارتها إلى أن يبت في أمرها
بمفاوضة أخرى مع الحكومة السعودية.
ولقد سُرَّ المسلمون كافة والعرب خاصة بتنكيل الحكومة السعودية بهذه الفئة
الباغية وشمتوا بمثيريها وهنَّأوا صاحب الجلالة السعودية بهذا الفوز المبين، وما
كان فوزه على هذه الفئة القليلة بكبير في نفسه؛ وإنما كانوا يخشون أن تكون سببًا
لاشتعال نار الثورة في الحجاز كله، وأكبر ما كانوا يخشونه أن تكون عاقبتها
استقرار أقدام الإنكليز في خليج العقبة ومنطقتها إلى معان، وأكبر ما كانوا يرجونه
أن يتخذها الملك وسيلة لاستعادة هذه المنطقة إلى الحجاز ومنع الخطر الدائم على
الحرمين الشريفين ببقائها تحت سيطرة الإنكليز.
ولقد كانت الفرصة سانحة له بارحة للإنكليز والأسباب المرجحة لفوزه كثيرة؛
ولكن رجال حكومته لم يكونوا يعرفونها، وكانت الأراجيف التي أذاعتها المصادر
الإنكليزية مما ترجف لها الأفئدة، ولا سيما أرجوفة مساعدة مصر لابن رفادة،
فكان يخيل لقراء الجرائد في الحجاز أن حكومتهم مستهدفة لمحاربة بريطانية
العظمى ومصر وشرق الأردن في وقت واحد، وكل هذه أوهام، وأضغاث أحلام.
من المعلوم باليقين أنه لم يكن يجوز للدولة السعودية أن تبدأ حكومة شرق
الأردن الضعيفة بالحرب، فضلاً عن الدولة البريطانية التي هي من أقوى دول
الأرض؛ وإنما الذي كان يجب عليها هو أن تنبئ الدولة الإنكليزية بأن شعبها
الحجازي والنجدي يطالبونها بما هو حق عليها من استعادة هذه المنطقة الحجازية
التي ألحقت بشرق الأردن بغير حق شرعي ولا قانوني، وأنهم مضطربون ثائرون
لما جاءهم بطريق العقبة من طلائع ثورة ابن رفادة، وأن العالم الإسلامي كله
يطالبها بذلك، فهي لهذه الأسباب مضطرة لاحتلال هذه المنطقة الحجازية مع
المحافظة على العلاقة السياسية الودية معها، وتأمين حكومات شرق الأردن وفلسطين
ومصر من أدنى اعتداء على حدود بلادها، وتتبع القول الفعل، وقد كتبت مقالاً
طويلاً أثبت فيه أن الدولة الإنكليزية ما كان يُعقل أن تحارب حكومة الحجاز؛
ولكنني علمت قبل نشره بجلاء الجيش السعودي عن الحدود وبقاء ما كان على ما
كان فأمسكت عن نشرها.
__________(32/631)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية
هذه الجمعية أقدم الجمعيات الإسلامية التي أنشئت للوعظ والإرشاد في مصر،
فإنني لما هاجرت إلى مصر في منتصف سنة 1315 لم أجد فيها غيرها، واتفق أن
كانت هي الجمعية الأولى التي تعودتُ إلقاء الخطابة الارتجالية على منبرها،
فوجئت بذلك أول مرة مفاجأة إذ حضرتُ أحد اجتماعاتها متفرجًا، فكان من الخطباء
فيه إسماعيل بك عاصم المحامي المشهور رحمه الله تعالى فرآني بين الناس وكان
قد عرفني، فلما فرغ من خطبته دعاني مشيدًا بذكري، مطريًا لأدبي، وكان هذا
غريبًا منه وهو لا يعلم من أمر استعدادي للخطابة شيئًا؛ ولكنني أعتقد أنه كان
مخلصًا في طلبه لا مورطًا، إذ قابلني بالمودة منذ عرفته وثبت عليها طول عمره
واشترك في المنار منذ سنته الأولى، وكان ممن يدفعون قيمة الاشتراك في أول
السنة، ولما تم للمنار عشرة أعوام أقام له حفلة أدبية كانت هي الأولى من جنسها
دعا إليها جميع أصحاب المجلات العربية بمصر ووزير المعارف وبعض رجال
العلم والأدب إلى مأدبة حافلة ألقيت فيها الخطب البليغة في الثناء على المنار
ومنشئه، فرحمه الله وجزاه أحسن الجزاء.
وأقول بعد هذا الاستطراد الذي أراه من حقه علي: إنني أجبت دعوته
وصعدت المنبر على غير استعداد ولا سبق حضور موقف من هذه المواقف غير
المعتادة في بلدنا طرابلس الشام في العصر الحميدي، وألقيت ما فتح الله به علي في
موضوع مناسب للمقام، صفق له الحاضرون مرارًا وهنأوني به، وما أظن أنني
أجدت الإلقاء؛ ولكنني أعتقد أنني قلت حقًّا نافعًا بعبارة عربية صحيحة لا خطابية،
ثم كان المرحوم الأستاذ الشيخ زكي الدين سند خطيب الجمعية المؤسِّس لها يدعوني
إلى الخطابة في كل اجتماع يراني فيه بعد أن يستشيرني فأقبل، ثم أسسنا جمعية
شمس الإسلام فكنت خطيبها الأول.
ثم إن جمعية مكارم الأخلاق ضعفت بعد وفاة المرحوم الشيخ زكي الدين سند،
ثم عُني بإنعاشها ومساعدة مجلتها محمد سعيد باشا الإسكندري في عهد وزارته
وخليل باشا حمادة البيروتي الذي تولى أمانة الجمارك في الإسكندرية، فإدارة
الأوقاف العامة بمصر، فصار يُطبع من مجلتها ألوف كثيرة من النسخ، ثم عاودها
الضعف والذبول، حتى كادت تزول، فتداركها الله باللطف ونهضت نهضة جديدة
بهمة أصحاب النجدة والغيرة: رئيسها ووكيلها ومراقبها.
اتخذوا لها أولاً مكانًا مشهورًا في القاهرة هو القاعدة الأثرية المشهورة بدار
السادات الوفائية المسماة بأم الأفراح، يتبعها حجرة للإدارة وباحة واسعة من وراء
الدار، فكانت الخطب والمحاضرات تُلقى في القاعة مدة فصل الشتاء وزمن البرد،
ثم تلقى في الباحة سائر أيام السنة، وموعدها بعد صلاة المغرب من يوم الجمعة،
وكان أكثر من يحضرها طلبة الجامع الأزهر، وقد دعيت إلى إلقاء محاضرات
كثيرة فيها كانت الإدارة تعلن خبرها في الجرائد اليومية فيحضرها خلق كثير من
جميع الطبقات، ولا أزال أدعى فأجيب، بعد نقل الجمعية إلى مكانها الجديد.
نقلت الجمعية إلى حي شبرا لمقاومة دعاة النصرانية فيه إذ كثرت جمعياتهم
وتصديهم فيها لإغواء عوام المسلمين، فاتخذت لها دارًا فسيحة ذات حجرات كثيرة
وباحة واسعة، وأنشأت في الدار مدرسة ابتدائية تعلم فيها أطفال المسلمين بأجرة
زهيدة مع تربية عملية مفيدة.
وقد أنشئ لمجلتها (مكارم الأخلاق الإسلامية) مطبعة خاصة بها، وأنشئ لها
مجلة أخرى باسم (المصلح) فالمجلة الأولى في السنة الثامنة من حياتها الجديدة
وهي تصدر في منتصف كل شهر عربي في أربع كراسات بقطع المنار، وقيمة
الاشتراك فيها 15 قرشًا في السنة لطلاب المعاهد والمدارس، و25 قرشًا لسائر
الناس، وأما صحيفة المصلح فتصدر في كل شهر أو شهرين في كراستين أو ثلاث
بقطع أكبر وقيمة الاشتراك فيها في القطر المصري خمسة قروش وأجرة البريد،
وفي خارج القطر 10 قروش، ويرى القارئ لهما في كل منهما فوائد كثيرة من
تفسير السور الصغيرة التي تُقرأ في الصلاة وشرح بعض الأحاديث الصحيحة
وبيان السنن النبوية المتروكة لإحيائها، والبدع الفاشية مع النهي والتنفير عنها،
والمسائل الفقهية والأدبية والتاريخية والمواعظ وغير ذلك ونرى جل ما في
الصحيفتين بقلم وكيل الجمعية الأستاذ العالم الكاتب الخطيب الشيخ محمود محمود
الأستاذ في مدارس الحكومة العليا، حمد الله سعيه وأدام توفيقه.
__________(32/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نداء جمعية الهداية الإسلامية في دمشق
أرسلت إلينا هذه الجمعية كتابًا ذكرت فيه أنها أرسلت كُتبًا إلى ملوك المسلمين
وأمرائهم وصحفهم وأغنيائهم لإعانة الحرمين الشريفين ومعه صورة ما أرسلته
إلى ملكنا المعظم وهذا نصه:
خطابها إلى جلالة ملك مصر المعظم
لصاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر المعظم أعزَّ الله به الإسلام
والمسلمين.
لقد استفاض الخبر، وصح النقل باشتداد الضائقة على إخواننا أهل الحرمين
الشريفين وتضاعُف العسر عليهم، فقد أخبر المطلعون بأنهم أصبحوا بحالة تدمي
القلوب وتفتت الأكباد، وذلك لتقاعس الناس عن أداء فريضة الحج وتلكؤهم عن
زيارة تلك الأماكن المقدسة.
إن الأزمة في البلاد الحجازية قد اتسع نطاقها، وتفاقم خطبها، فشمل الكبير
والصغير، وعمَّ أكثر السكان والمجاورين، في هذين البلدين الشريفين، وهي اليوم
آخذة بالازدياد والعياذ بالله تعالى.
لم يختلف أحد من الناس في استتباب الأمن في بلاد الحجاز كلها حتى أصغر
بقعة فيها، فلو فُرض أن شخصًا نثر هناك آلاف الدنانير الذهبية على رءوس
الناس في الطريق العامة لما تجاسر أحد على مس دينار واحد منها، على حين أن
هؤلاء الذين نُثر الذهب على رؤوسهم فزهدوا فيه يتسابقون إلى التقاط ما يُلقى في
الأرض من قشر البرتقال والبطيخ تقليلاً لِسَوْرَةِ جوعتهم، وشدة ألمهم.
إلى هذا الحد وصل أولئك الإخوان المجاورون والقاطنون في تلك البلاد
الشريفة، ولا شك أن هذا الحال أدى وسيؤدي إلى موت الكثيرين منهم بلا سابقة
جناية ولا تقدم ذنب أو جريمة.
إن هؤلاء الضعفاء المساكين الذين أعوزتهم الحاجة، وبلغ بهم الفقر مبلغًا
جعلهم يذكرون أيام الحرب العامة بمزيد من المدح والثناء - يموت الكثيرون منهم على
قارعة الطريق في أشرف بلاد الله، يموتون وبطونهم جائعة، وأجسامهم عارية،
وعيونم شاخصة تتطلع إلى السماء شاكية ما حل بها من قسوة أخيها الإنسان وجوره
وعتوه وظلمه.
فرحمة بأولئك البؤساء الذين ذهب الفقر بأرواحهم، وأحاطت الحاجة بأولادهم
وبناتهم ونسائهم، وقيامًا بالواجب الديني والإنساني، اجتمع أعضاء (جمعية الهداية
الإسلامية) بدمشق، وبعد المذاكرة وتتبع الموضوع من عامة أطرافه رأوا أن
يستصرخوا غيرتكم وحميتكم باسم كونكم أعظم ملوك الإسلام والمرجع الأعلى
لمختلف شؤونه لتعملوا على مساعدة هؤلاء البائسين، وتمدوا يد المعونة إليهم
بإرسال ما تَراكَمْ لهم في خزانة الأوقاف من مال الحرمين الشريفين، وبذلك تحيون
أنفسًا قضى على حياتها الفقر، وأجسامًا أضر بها الجوع والعري، وذلك كما لا
يخفى من أفضل الأعمال، وأشرف الخلال، ففي حديث أنس رضي الله عنه عند
الديلمي مرفوعًا: (ما عمل أفضل من إشباع كبد جائعة) ومن حديثه أيضًا عند
أبي يعلى يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من اهتم بجوعة أخيه المسلم
فأطعمه حتى يشبع وسقاه حتى يروى غفر الله له) على أن في هذا العمل أيضًا
براءة للذمة مما هي مطوقة به من وجوب العمل بنص الواقف الذي هو كنص
الشارع، وليت شعري هل يرضى الواقف للحرمين الشريفين بصرف ثمرة أوقافه
على غير قطان تلك البلاد الشريفة، وخصوصًا عند حاجتهم، وتحقق ضرورتهم.
إن اختزان أموال الحرمين أو صرفها لغير أهلها في أيام اليسر جريمة يجب
أن تتنزه عنها الحكومات الإسلامية، فكيف والوقت عسر، والمستحقون لهذه
الأموال في أشد درجات الضيق، وأقصى أحوال الجهد والعناء.
قال أهل العلم: من منع المال مستحقيه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، وعُدَّ
غاصبًا للمال، وظالمًا من جملة الظالمين، ومن صرفه حيث أمر الله عُدَّ من الذين
صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان خير أمين فيما أسند إليه.
ولما كنتم أدام الله عز المسلمين بكم ممن لهم السابقة في خدمة الدين، والاهتمام
بأمور المسلمين، تحدبون عليهم حدب الوالد على ولده، والراعي على رعيته
خصوصًا أهل الحرمين الشريفين، أتينا بكتابنا هذا مرفوعًا لسدة جلالتكم راجين أن
تكونوا لأهل حرم الله تعالى وحرم رسوله المعظم عند حسن ظننا بكم، لا زلتم
موئلاً للبائسين، وعضدًا متينًا لعموم المسلمين سيدي.
__________(32/636)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
افتراء مجلة مشيخة الأزهر علينا
وهجوها وهُجرها فينا
قد رأى قراء المنار ما أفتينا به في الجزء الرابع في بدعة زيادة بعض
المؤذنين في آخر الآذان، وهو أنها بدعة في شعار ديني محض تدخل في عموم
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة
وكل بدعة ضلالة) ولكن مجلة مشيخة الأزهر أفتت بأنها بدعة حسنة، ولما رآه
مفتيها بهذه البدعة كفتاويه بما هو أضل منها من البدع انقطع في بيته وعكف مع
بعض أعوانه على مجلدات المنار يبحث فيها عن أمور يتخذها مطاعن على صاحب
المنار، وجمع ما وجده قابلاً للتحريف والشبهة مما صادفه فيها في مقال طويل بدأ
بالاحتجاج لبدعة الأذان بطريقته الأزهرية في المراء وجدل الألفاظ وإيراد
الاحتمالات.
وقفى على ذلك ببهائت بهت بها صاحب المنار وافترى عليه بأنه كذَّب الله
ورسوله وخطَّأهما وخالف الإجماع ورد الأحاديث الصحيحة اتباعًا لهواه، وأنه ليس
لكتاب الله وسنة رسوله عليه سلطان، وأنه أنكر وجود الملائكة بتقريره أنهم عبارة
عن القوى الطبيعية، وأنكر وجود الجن وزعم أن الجن عبارة عن الميكروبات،
وأنه يتأول القرآن بما ينافي اللغة والدين والعقل تقربًا إلى الماديين لا لشبهة علمية،
وأنه ليس عنده أدنى استعداد للعلم والفهم، ولا للمنطق والعقل، ولا للأدب والذوق،
وأنه من دون ذلك كله أفتى تلاميذ المدارس النصرانية من المسلمين بالصلاة مع
النصارى في كنائسهم لأجل تنشئتهم على دين النصرانية عقيدة ووجدانًا، يعني
مفتري هذا البهتان أن صاحب المنار لا غرض له من إنشاء مناره ولا من تفسيره
لكتاب الله تعالى إلا هدم دين الإسلام وتحويل المسلمين عنه إما إلى النصرانية وإما
إلى المادية، وأن ما اشتهر به في العالم الإسلامي، بل في العالم كله حتى
مستشرقي الإفرنج ووزارات أوربة الخارجية والاستعمارية المشتركة فيه من أنه
داعية الإسلام والمحامي عنه في هذا العصر، والذي استطاع أن ينزهه عن البدع
والخرافات ويوفق بينه وبين أعلى ما وصل إليه البشر من الارتقاء في العلم
والعمران - فهو اشتهار باطل؛ لأن هذا المحرر في مجلة الأزهر وهو من هيئة
كبار علمائه الرسمية قد علم من حقيقة هذا الرجل وفهم من مجلته وتفسيره ما لم
يعلمه ولم يفهمه أحد، كلا إنه ظن أنه يقدر على هدم منار الإسلام بمقالة أو مقالات
في مجلة مشيخة الأزهر انتقامًا لنفسه ولها، وما هو بهادم إلا لنفسه ولها، فقد كانت
بما يسخمها به من تأييد البدع والخرافات، ثم بهذه الشتائم والمفتريات فضيحة
للأزهر الذي يريد الاعتزاز باسمه وبمشيخته الرسمية.
ظهر مقاله في الجزء الذي صدر في غرة جمادى الأولى، وكان هذا الجزء من
المنار قد حُرِّر ليصدر في سلخ ربيع الآخر وطُبع أكثره فأخَّرته ليصدر في سلخ
جمادى الأولى، فأرى في أثناء الشهر ما يكون من أمر هذا الحدث الجديد في
مشيخة الأزهر.
أما كاتب المقال فقد سبق له مثل هذا التصدي للتعدي منذ 16 سنة فلم أكترث
له، ولا رأيته أهلاً للرد عليه، فهو غير كفؤ للمبارزة بعلم ولا أدب ولا بصدق في
القول ولا أمانة في النقل ولا إخلاص في النية، وأما مشيخة الأزهر فهي كفؤ
لمنازلة المنار، بغير هذا الفارس العاجز المغوار، ولا يشعر صاحبه بأقل ضعف
عن هذه المنازلة في حدود العلم والدين وآدابه؛ ولكنه في منتهى الضعف والعجز
عن كتابة جملة واحدة من أمثال هذا المقال الذي افتتحت الحرب به، وله - إذا ولاها
الدبر - أسوة بجده علي أمير المؤمنين حين تولى عن عمرو! على أنه رأى وجوب
التروي في النضال العلمي حتى يعلم تعمد المشيخة له.
بدأت بكتابة مقال في الدفاع عن حقي وحق القراء الذين اطلعوا على الطعن
عليَّ في تلك المجلة ليعلموا ما عندي من الدلائل على تفنيد الافتراء عليَّ، والقول
الحق في التهم التي نسبت إلي، وأرسلت المقال إلى رئيس تحرير المجلة، ولزيادة
التحري سألت صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عن هذا الحدث الجديد لثقتي
بعلمه وصدقه وإخلاصه على قلة الجامعين لهذه الفضائل الثلاث، سألته بالمسرة
(التلفون) هل رأيت الجزء الجديد من مجلة المشيخة؟ قال: لا، قلت: انظره فإن
فيه كيت وزيت، ثم علمت أنه قرأ المقال فتفظعه، ففزع به إلى شيخ الأزهر
فأفزعه بموافقته إياه على استنكاره، ووجوب تلافيه بالسعي إلى الصلح بين
الطاعن والمطعون، والاتفاق بين الغابن والمغبون، فبادر المفتي إلى هذا السعي
الحميد الموافق لطبعه وكاشفني بذلك بالمراسلة فالمكالمة بالمسرة فزيارتي للمشافهة
بذلك في دار المنار، وأكد لي خبر استياء الأستاذ الأكبر كاستيائه مما حصل
ورغبته في الصلح، وإعطائي الحق في الدفاع عن نفسي في مجلة نور الإسلام،
على الوجه الذي ارتضيته لنفسي من نفسي وهو اجتناب الطعن الشخصي في كاتب
المقال بمثل طعنه علي ولا بما هو دونه، وذلك بأن أذكر التهم التي اتهمني بها
وأرد عليها، واقترح أيضًا أن أنقح مقدمة المقالة التي أرسلتها إلى المجلة فوعدته
بذلك، وقال: إنه هو والأستاذ الأكبر يكفلان إرضاء الطاعن بالصلح، وحمله على
كتابة شيء يرضيني، قلت: إن ذلك خير له ولمشيخة الأزهر ومجلتها، وهو لا
يهمني.
أرسلت مقالة الرد إلى رئيس تحرير المجلة المذكورة في 14 جمادى الأولى
وتلاه السعي إلى الصلح إلى أن دخل الشهر الذي بعده وقد صدرت في غرته المجلة
وفيها مقالة أخرى في الطعن على صاحب المنار، وقد كثرت في الشهر مكاتبة
الناس إياي بوجوب الرد على هذه المجلة وجاءتني مكتوبات في ذلك من مصر ومن
الحجاز بعضها في الرد وبعضها في انتظار الرد مني، وأنشأ بعض العلماء يردون
عليها في الجرائد، وأنا لا أزال أنتظر ثمرة سعي الأستاذ المفتي إذ وعدته بالإمساك
عن النشر فيها إلى أن تظهر لي النتيجة لهذه المقدمات، وقد تأخر إصدار هذا
الجزء إلى أن ظهرت نتيجة الصلح بنقض الخصم له يوم عقده وبقيت نتيجة ما
يضمره شيخ الأزهر من خبيء في المسألة فهي خبأة طلعة وقد شرعت في الرد
على مجلتها، فلينتظر قراء المنار الجزء الآتي.
ولي أن أقول الآن إن هذا الطعَّان الشيخ يوسف الدجوي لجدير بلقب صديقه
وإمامه المرحوم الشيخ يوسف النبهاني؛ ولكن النبهاني كان يفوقه في الأدب، وهذا
يفوقه في السباب والمراء والجدل، فهو من الذين قال فيهم الأستاذ الإمام: (إنهم
يتعلمون كتبًا لا علمًا، وإنه لم يبق عندهم إلا تحاور في الألفاظ أو تناظر في
الأساليب في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور) وهو لم يحذق
شيئًا من تلك الكتب التي حذقها كثيرون منهم؛ ولكنه حذق شيئًا آخر ما أسف إليه
أحد منهم فيما نعلم وهو ما يجد الناس نموذجه في مقالاته الدالة على أنه ليس له
أدنى حظ من العلوم التي يجادلنا في مسائلها وهي التوحيد والتفسير والحديث والبدع
والسنن، وكأني بقارئ بهائته يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) .
__________(32/638)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمتان كتبتهما لشابين من إخواننا المغاربة
على رقعتين لهما بطلبهما
الكلمة الأولى وهي سياسية:
نواحي الحياة كثيرة والمسلمون مهددون من كل ناحية منها، والخطر عليهم في
مغرب بلادهم أشد منه في مشرقها؛ فإن مستعبديهم لم يقنعوا بسلب ثروتهم وحريتهم
العلمية والمدنية وحقوقهم السياسية، بل شرعوا بتحويلهم عن دينهم بطريقة علمية
نظامية، فوجب عليهم بذل النفس والنفيس لتأمين حرية دينهم وإعادة ما سُلب من
ملكهم بالوسائل الممكنة، ولا يمكن أن يصيبهم من الضرر في هذا الجهاد أكثر مما
هو واقع بهم والمتوقع مع الاستسلام أعظم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
الكلمة الثانية في اختيار الكتب والصحف:
كثرت في هذا العصر الصحف والكتب في الأدب والسياسة وعلم الاجتماع
ومرجت فيها الآراء، وتناوحت الأهواء، فهي بين أهلها فوضى، والناس في أمر
مريج منها، فعلى العاقل الحريص على عمره أن يتفقه في ترقية مداركه وتزكية
نفسه، وإعلاء كلمة ملته وبناء مجد أمته، عليه أن يختار لنفسه من أمثل الصحف
والكتب ما يضيء له سبيل العمل، ويبصِّره بمعاثر الزلل، وأن يجتنب ما يجذبه
إليه اللهو وتستهويه فيه اللذة؛ وإنما آفة العقل الهوى، والسلام على من اتبع الهدى.
وكتب في القاهرة بتاريخ شوال سنة 1350
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(32/605)
جمادى الآخرة - 1351هـ
أكتوبر - 1932م(32/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الطريقة الشاذلية
(س51) من صاحب الإمضاء بيافا
في رجب سنة 1347 ديسمبر سنة 1928
إلى حضرة السيد الإمام مفتي الإسلام سيدي محمد رشيد رضا مفتي المنار
المضيء حفظه الله، إنني مسلم موحد الله - لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم - وأريد أن أطلع على الحقوق المطلوبة مني للحق عز وجل، وأريد
أن أسألكم سؤالاً واحدًا يكون جوابه من لطفكم وعواطفكم لا حرمنا الله من متعتكم
الدنيوية، وأريد نشره في مجلتكم (مجلة المنار) التي أتمنى لها خير النجاح وهو
كما يأتي، ولكم الأجر والثواب عند الله الواحد القهار.
ما هي الطريقة الشاذلية؟ منافعها، مضارها، تأثيرها، مقصودها، خطتها،
نشوءها، نموها، وإن كان عندكم شيء زيدوا على ما سألت أنا ولكم الفضل سيدي.
ملاحظة: إن الذي أجبرني على أن أسأل حضرتكم هذا السؤال هو شيء
واحد، وهو أخي يعرض عليَّ دخول هذه الطريقة ومسلكها، وأيضًا الذي جعلني
أن أمتنع عن القبول هو كلام الناس يحكون في حقها ما لا تقبله المسامع، فيا ترى
هذا الكلام صحيح أم لا؟ أخبرنا فإن كان لا فتكون أولاً نفعتني وثانيًا نفعت الذي
يريد أن يسلك في هذا المسلك، فلهذا سألت هذا السؤال وأملي بأن ينشر على
صفحات مناركم مع جوابه ولكم الفضل سيدي ومولانا.
... ... ... ... ... ... ... ... رجب برزق
... ... ... ... ... أحد مستخدمين السيد أحمد محمود الشريف
(ج) كان سبب تأخير الجواب عن هذا السؤال أنني كنت أريد أن أكتب
خلاصة تاريخية لهذه الطريقة وفروعها، ولا سيما الفرع الذي انتشر واشتهر في
فلسطين بدعوى الحلول والجمع بين النساء والرجال في الأذكار والخلوات وغير
ذلك من المنكرات التي أشار إليها السائل بقوله: يحكون في حقها ما لا تقبله
المسامع، وهذه الخلاصة تتوقف على بحث ومراجعة، ولذلك مرت هذه السنوات
ولم أجد لها فراغًا، ونسيت هذا السؤال بل ضل عني بين الأسئلة المهملة لأسباب
مختلفة منها سبق الجواب عن مثلها ومنها انتظار الفرص للبحث عن موادها وأدلتها
كهذا السؤال، وإن أكثر فتاوى المنار في هذه السنين تُكتب بدون مراجعة شيء من
الكتب، وأقلها بعد مراجعة لا تستغرق وقتًا طويلاً، ولما نجد فرصة لكتابة هذه
الخلاصة.
والذي ننصح به للسائل عن الطريقة الشاذلية أن يتجنبها ويتجنب أمثالها من
هذه الطرائق التي بيَّن غرضها أحد كبار رجالها في القرن الماضي وهو السيد محمد
الزعبي الجيلاني شيخ الطريقة القادرية في طرابلس الشام وهو والد الأستاذ الكبير
السيد عبد الفتاح الزعبي نقيب السادة الأشراف والخطيب المدرس في الجامع الكبير
المنصوري من زهاء قرن، فقد أخبرني هذا الأستاذ أن بعض مريدي والده سأله
عن سبب اختلاف أصحاب هذه الطرائق في عمائمهم وشاراتهم وأعلامهم وأورادهم
وأذكارهم مع دعواهم أن الغرض من سلوك كل طريقة منها معرفة الله تعالى
وعبادته الصحيحة، فقال له السيد المنصف رحمه الله تعالى: (تغيير شكل لأجل
الأكل) .
وأخبرني الأستاذ الشيخ محمد الحسيني أشهر علماء طرابلس لهذا العهد أنه كان
مرة في درس الشيخ الخضري الكبير في الجامع الأزهر فمرَّ بالقرب من الجامع
موكب لأهل الطريق بدفوفهم وصنوجهم وضجيجهم فسكت الشيخ عن تقرير الدرس
إلى أن بعدوا وخف صوتهم وقال لتلاميذه: إن جميع طرق الصوفية دخلتها البدع
إلا الطريقة النقشبندية والطريقة الدمرداشية اهـ.
ولكنني انتظمت بعد سماع هذا القول في سلك الطريقة النقشبندية فألفيتها لم
تخل من البدع، ثم اختبرت الطريقة الدمرداشية فوجدتها كذلك، ولكن بدعهما أهون
من بدع غيرهما فليس فيهما معازف ولا ملاه ولا أغاني ولا عبادة قبور، ولا أوراد
غير ذكر الله تعالى، وقد تكلمت على بدعة الرابطة عند النقشبندية وبدعة الذكر
بالأسماء المفردة عندهم وعند غيرهم من قبل، وأين هي من التيجانية والحلولية
والإباحية من الشاذلية الترشيحية وغيرها، فعليك أيها المسلم أن لا تقرب أحدًا منهم،
وإن لبعض من تفقه من شيوخهم فائدة في إرشاد العوام إلى الصلاة والصيام وذكر
الله، وإن كان بعضه غير مأثور أو مبتدع كالذكر بالأسماء المفردة، وهو هو، وآه
آه، فلو اعتصموا بالمأثور لكان خيرًا لهم، وقد فصَّلنا هذه المسائل مرارًا، وعليك
بتلاوة القرآن والأذكار والأوراد المأثورة في السنة الصحيحة، وحسبك من
مختصراتها كتاب (الكلم الطيب من أذكار النبي صلى الله عليه وسلم) لشيخ
الإسلام ابن تيمية، فإن أحببت المزيد فعليك بكتاب الأذكار للإمام النووي أو
الحصن الحصين للمحدث الجزري.
***
استعمال الماء
الممزوج بالسموم وجراثيم الأمراض المعدية
(س52 و 53) من صاحب الإمضاء في زنجبار:
حضرة العلامة الأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا متعنا الله بوجوده:
(1) ما تقول فيمن بنى مسجدًا وجعل فيه موضعًا لقضاء الحاجة وموضعًا
للطهارة بالحيطان، وكان الاسم ينطلق بالمسجد، فهل يجوز ذلك والحال أن الاسم
اسم المسجد.
(2) وما تقول في ماء بلغ قلتين، وتوضأ صاحب القروح فيه وأهل
الأمراض العدوية، وحكم أهل الخبرة بحدوث الأمراض بالمتوضئين، فهل يعمل
قولهم بالاجتناب عن هذا الماء الذي بلغ القلتين ولم يحمل خبثًا؟ أفتوني أثابكم الله
تعالى.
لا زلتم عامرين لما اندرس من المعالم الدينية.
... ... ... ... ... ... ... ... من العبد المسيء
... ... ... ... ... ... ... ... قناوي بن عيسى
... ... ... ... ... ... ... ... بزنجبار
(ج) يجب اجتناب استعمال الماء الذي دخلت فيه جراثيم الأمراض الوبائية
والأدواء المعدية في الوضوء وغيره كالهيضة الوبائية وقروح الزهري والطاعون
والسل لا لنجاسته الفقهية، بل لاتقاء ضرر سمومه المرضية، وأما السؤال الأول
فلم نفهمه فإن كان المراد منه أن المستنجين ينجسون جدران المسجد فعملهم غير
جائز ولا يعقل أن يعد الواقف جدران المسجد لذلك.
***
أسئلة من جاوة
في ولادة عيسى عليه السلام
(س54 - 56) من الأستاذ المرشد الشيخ محمد بسيوني عمران إمام
مهراج (سمبس برنيو) .
حضرة صاحب الفضيلة الإمام العلامة الحجة، مولاي الأستاذ السيد محمد
رشيد رضا صاحب المنار الأنور نفعني الله تعالى والمسلمين بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قرأت في بعض المجلات
الملاوية مقالة مطولة لبعض الطلبة الملاويين في بيان ولادة عيسى ابن مريم قال
فيها إنه لا بد لولادته من أب؛ لأن الله قال في كتابه: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وقال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر:
43) ورفض الأقوال المؤيدة بدلائل القرآن أن عيسى ولد بغير أب، وقال غيره
من بعض أصحاب المجلة: ليأتنا من يعتقد أن ولادة عيسى بلا أب بآيات القرآن
والأحاديث النبوية مع بيان درجتها ومآخذها.
هذا، وإني قد قرأت تفسير المنار لسورة آل عمران في بيان ولادته بلا أب
ورأيت فيه ما يشفي الغليل من الذين يريدون الحق وإزهاق الباطل وفهم مراد الله
من كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولكن لما صارت هذه
المسألة موضع النزاع الآن عندنا بين طلاب الأدلة من الكتاب والسنة جئت باب
فتاوى المنار سائلاً عن هذه المسألة ليكون جوابه عنها هو القول الفصل كما سبق له
مما به أجاب، أنه الحكمة وفصل الخطاب، وها أنذا أصور الأسئلة كما يأتي:
1- هل ولادة عيسى ابن مريم بلا أب مجمع عليها أم لا؟ وهل يكفر من
جحدها أم لا؟
2- هل آية {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 47) نص
في أن ولادة مريم لولدها عيسى بلا أب أم لا؟ وهل كذلك آية سورة مريم {قَالَتْ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياًّ} (مريم: 20) أم لا؟
3- هل وردت أحاديث نبوية يصح الاحتجاج بها على هذه المسألة أم لا؟
فإذا وردت فما درجتها من الصحة وفي أي كتاب أو كتب هي؟
هذا، وتفضلوا بالجواب عن هذه الأسئلة في أقرب وقت ممكن، ولكم مني
ومن الناس الشكر الجميل، ومن الله الأجر الجزيل.
... ... ... ... سمبس برنيو الغربية 25 صفر سنة 1351 ...
... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
أجوبة المنار
ولادة عيسى ابن مريم عليه السلام من غير أب مجمع عليها ومستند الإجماع
نصوص القرآن المجيد يكفر من جحدها على علم، وأما الآيتان اللتان في السؤال
الثاني فهما في البشارة به وبأنه يكون بقدرة الله تعالى لا بالسنن العامة في الحمل
والوضع، وفي بقية القصة خبر الولادة وجملة الآيات نص قطعي في المسألة،
وورد فيها أحاديث مختلفة الدرجات في الصحة وما دونها دلالتها دون دلالة آيات
القرآن القطعية الرواية والدلالة، فلا ينبغي لمسلم أن يلتفت إلى ما يهذي به الملاحدة،
ولا أتباع مسيح الهند الدجال غلام أحمد القادياني وراجع ما كتبناه في الرد على
ملحد دمنهور في شبهة السنن الكونية وهو في الجزء الأول من منار هذه السنة، فقد
بيَّنا بها جهل من يماري في هذه الآيات بأنها على خلاف سنن الله تعالى في الخلق،
وكذلك الفصل الذي عقدناه في الآيات الكونية من بحث الوحي، وهو في الجزء
الثامن الماضي، ففيه القول الفصل في معنى سنن الله وآياته ومنه المسيح وأمه
عليهما السلام.
__________(32/668)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار ومجلة مشيخة الأزهر
نشرنا في أشهر الصحف اليومية الإسلامية مقالات عنوانها (بيان للأمة في
جرائدها) فيما شجر بيننا وبين مجلة مشيخة الأزهر من التنازع في نصرها للبدع
الاعتقادية والعملية وتأويلها لما يخالف النصوص والسنن القطعية، وإنكارنا عليها
بما يؤيد النصوص والسنن التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وسلف الأمة الصالح وطعنها فينا وافترائها علينا لعجزها عن الرد العلمي، وإننا
ننشر هذه المقالات - ولما تتم - في المنار لأنها من أهم مسائل تاريخ الإصلاح
الذي أنشئ له ونهض به، ولنا أن نختصر وننقح هنا بعض العبارات اجتنابًا
للتكرار الذي لا يحسن في المجلات.
***
المقال الأول
في موضوع التنازع بين المجلتين
أو بين الإصلاح والجمود والبدعة والسنة
ونشر في الجرائد في 20 جمادى الآخرة الموافق 20 أكتوبر
{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ
سُلْطَاناً نَّصِيراً * وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:
80-81) .
وقع تنازع بين مجلة المنار ومجلة الأزهر والمعاهد الدينية الرسمية (نور
الإسلام) تعدت هي فيه البحث العلمي إلى الطعن الشخصي، فأحببت أن ينحصر
ردي عليها فيها ليعلم قراؤها الحق فيما نشرته من العلم والدين، فأرسلت إليها
المقالة الأولى من الرد فلم تنشرها، بل نشرت في الجزء الذي كان ينتظر نشر الرد
فيه مقالاً آخر في الطعن علي، وانتقل البحث إلى الصحف اليومية فنشر فيها
مقالات لأفراد من العلماء يذكرون فيها مسائل مما اتهمني به الشيخ يوسف الدجوي
من هيئة كبار العلماء في الأزهر وأحد محرري مجلته، ويردون عليه فيها، ثم
رأيت له مقالات يرد فيها على بعضهم ويطعن عليَّ وعليهم، ثم رأيت في بعضها
خبر سعي صاحب الفضيلة العلامة المصلح الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار
المصرية للصلح وتمامه في داره، ووصل إلي بعد عقد هذا الصلح رسالة مطبوعة
باسم أخص تلاميذ الأستاذ الدجوي من علماء الأزهر، وهو قريبه وأمين سره
المساعد له على الطعن الذي يكتبه له، نشر فيها بعض ما كتبه الأستاذ الدجوي في
الطعن في مجلة الأزهر أخيرًا، وما كان نشره في بعض الجرائد من الطعن قديمًا
مع تعليقات وقصائد في إطراء أستاذه، بل إطراء الأستاذ لنفسه بأنه إمام المسلمين
وحامي حمى الدين....، وهجوي وتكفيري بما يتعجب كل من رآه لصدوره عن
أحد رجال العلم والدين كقوله:
أترى أنك البصير بشيء ... أنت فيه كالكلب والخنزير
وكفى أن عافاهما الله من رؤ ... ية وجه كوجهك المقذور
وهذا الطعن مما يعاقب عليه القضاء قطعًا؛ ولكنه هو نفسه أشد عقابًا لمجترحه
في نظر أهل الدين والعلم والأدب، أو كما قال المتنبي:
فذاك ذنب عقابه فيه
ورأيت الناس يطالبونني قولاً وكتابة بالرد على مطاعن مجلة الأزهر
ويتعجبون من سكوتي عنها حتى نشر هذا بعضهم في جريدة السياسة الغراء؛
وإنما كان سكوتي إلى الآن أنني وعدت به فضيلة المفتي إلى أن يبلغ غاية شوطه
من السعي للصلح، وقد وفيت له بوعدي، وظهر له صدقي وخداع الدجوي.
وبقيت مجلة الأزهر والمشيخة التي تصدرها، فسنرى ويرى الناس ما سيكون
من أمرهما بعد ظهور هذه الجرائم من اثنين من علماء المشيخة في مجلة المشيخة
وفي رسالة تباع في الأزهر نفسه، فالأستاذ الأكبر شيخ الأزهر هو المسئول عن
شرفه وشرف مجلته وعلمائه، ولم نعلم أنه صدر عنهم في زمن من الأزمان مثل
هذا ولا ما يقرب منه.
وها أنذا أبيِّن للأمة في جرائدها اليومية موضوع الخصام والصلح الذي
يسألونني عنه؛ لأنه يتعلق بأمر دينها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم وما طرأ عليه من البدع والشبهات، وموقفها بين الإصلاح والخرافات،
وما يجب عليها من معرفة الفصل فيه بين الحق والباطل، إذ لم تعد المسألة نزاعًا
واختلافًا بين مجلتين يحسن ألا تعدو صحائفهما، ولا بين شخصين مختصمين، بل
تعدتهما إلى مسألة الإصلاح الإسلامي الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام في هذا
العصر، ومسألة الجمع بين الإسلام الصحيح وعلوم العصر التي تتوقف عليها عزة
الأمم واستقلالها، ومسألة جمود الأزهر الماضي وتجديده الحاضر والمستقبل،
والتنازع بين النابتة التي نجحت فيه بإصلاح الأستاذ الإمام، وبقايا أعشاب الجمود
الضارة التي تعوق نماءها، واستواءها على سوقها، وإيتاءها أُكُلها بإذن ربها.
ضاق الأزهر الحديث ذرعًا بما كان من جموده في القرون الأخيرة، فطفق
ينسلخ منه ببطء ثم بسرعة واستعجال يخشى أن يكون معه الزلل، فيتبع مدرسة
دار العلوم في نزع آخر مشخصات رجال الدين عنه؛ فإن جذب الاستقلال العصري
له صار أقوى من جذب الجمود السابق، وهو في أشد الحاجة إلى موقف الاعتدال
في الوسط الذي اختطه له الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى وفيه بعض تلاميذه ومريديه
ولكنهم يستترون لإخراج بعضهم منه إخراجًا إداريًّا غريبًا ويحتاجون إلى قوة
وزعامة تمكنهم من موقفهم في الوسط، وحمل الميزان القسط، وقد شعر أنصار
الجمود بقرب زوال دولتهم وجاههم الأزهري فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون ونهضوا
بحملة جديدة على الإصلاح سأشرحها بعد بما يدهش عقلاء الأمة ويشغل صحفها
وأقتصر في هذه المقالة على مثار الخلاف بين المجلتين فأقول:
كانت طريقة الأزهر في التعليم قبل مجيء السيد جمال الدين الأفغاني إلى
مصر إلزام الطلبة قبول كل ما في كتب التدريس وما يقوله لهم المدرسون بالتسليم
وعدم الاعتراض، عقلوه أم لم يعقلوه، وطريقة الأستاذ الإمام التي استفادها من
الأفعاني وجرى عليها بالدعوة وبالعمل في دروسه الدينية والفنية والعقلية أن لا يقبل
أحد كلام أحد بالتسليم الأعمى، بل يجب الفهم والاستدلال المؤدي إلى الإقناع
والتفرقة بين كلام المعصوم وغير المعصوم.
في كتب التعليم في الأزهر وغيرها ما يخالف اليقينيات القطعية حتى الحسية
منها، ويرى طلابه وغيرهم في كتب التفسير وشروح الأحاديث مشكلات اضطرب
العلماء في حل عقدها، ويرون في بعض أجوبتهم عنها ما لا يقنع من يريد أن يفهم
ويعلم، ويرون أن عالمًا واحدًا من المحدثين الفقهاء قد ألَّف أربع مجلدات في
الأحاديث المشكلة سمَّاه (مشكل الآثار) وهو الإمام الطحاوي، ويرون مع هذا كله
في علمائهم المدرسين من يفتي بكفر من يستشكل حديثًا صححه أحد المحدثين ولا
سيما الشيخين رضي الله عنهما، ويلتمس لنفسه مخرجًا من الإشكال، وقلما كان
أحد منهم يجترئ على سؤال شيوخه الجامدين عن ذلك لئلا يرموه بالكفر.
مثال ذلك أنه يوجد في الصحيحين وغيرهما حديث مرفوع خلاصته أن الشمس
تذهب حين تغرب في آخر النهار فتغيب عن الدنيا وتصعد، فتسجد تحت العرش،
ثم تستأذن ربها بالطلوع في اليوم التالي، فيأذن لها فتطلع وأنه سيأتي وقت تستأذن
فيه فلا يُؤذن لها، ثم تؤمر بالطلوع من مغربها.
استشكل هذا الحديث كبار علماء الإسلام المتقدمين والمتأخرين، ولا سيما
الذين عرفوا علم الفلك والمواقيت والجغرافية بأنه مخالف للحس وما تقرر في علم
الهيئة الفلكية، وصرح إمام الحرمين الشهير في القرن الخامس بما يصرح به
علماء هذا العصر من أن الشمس في كل وقت تغرب عن قوم وتطلع على قوم ...
إلخ؛ ولكن لا يزال في علماء الأزهر وغيرهم من يفتي بكفر من لا يؤمن بظاهر
الحديث ويسمونه مكذبًا لله ولرسوله! صرَّح بذلك الشيخ يوسف الدجوي في مجلة
الأزهر الرسمية، ولما تنكر ذلك عليه مشيخة الأزهر المسئولة عن هذه المجلة،
فكيف يستطيع الموقن بأن الشمس لا تغرب عن الأرض طرفة عين أن يكون مسلمًا
على رأي هؤلاء العلماء؟ وجميع طلبة الأزهر الذين يدرسون فيه علم الجغرافية
يوقنون بأن الشمس لا تغيب عن الأرض طرفة عين، وجميع المتعلمين في
المدارس النظامية موقنون بهذا، ومنهم أمراؤنا وحكامنا ومحررو صحفنا أجمعون
أكتعون أبصعون.
وإنني قد ذكرت في المنار وفي تفسيره علة علمية تنفي صحة سند الحديث
على طريقة المحدثين ومخرجًا من دلالة متنه على ما ينافي الحس لم أر أحدًا وُفِّق
لهما قبلي، وسأذكرها في الرد العلمي على مجلة المشيخة.
كان الأستاذ الإمام مرجعًا لكل من يعرض له إشكال أو شبهة في دينه، ومن
خطة المنار التي جرى عليه من أول نشأته التصدي لدحض الشبهات وحل المشكلات
الدينية والعقلية والعلمية بالأدلة الجامعة بين المعقول والمنقول.
وقد علمنا أن بعض الجامدين كان يطعن علينا بما نكتبه لنحفظ على المشتبهين
والمستشكلين إيمانهم بصحة كل ما جاء في كتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله
عليه وسلم من أمر الدين، وحملني هذا على أن أنشر في أول كل جزء من مجلد
من مجلدات المنار إعلانًا أدعو فيه العلماء وغيرهم إلى الكتابة إلي بما يرونه منتقدًا
فيه من المسائل الدينية وغيرها، مع الوعد بأن أنشر ما يرسلونه إلي بشرط أن
يقتصر فيه على المسائل المنتقدة والدليل على ما يراه الكاتب من الخطأ فيها من
غير زيادة ولا استطراد، وأبيِّن رأيي فيه، وما زلت أفي بما وعدت.
كبر على الجامدين والخرافيين اشتهار مجلة المنار في العالم الإسلامي وما
يرونه فيها من استفتاء مسلمي الشرق والغرب إياها في كل ما يشكل عليهم من أمر
دينهم، ولا سيما شبهات الماديين والمبشرين وغيرهم، وكبر عليهم نشرنا لمناقب
الأستاذ الإمام وإصلاحه وتجديده للإسلام فيها وفي تفسير المنار وفي التاريخ العظيم
الذي دونا فيه مناقبه في ثلاثة مجلدات بلغت صفحات الجزء الأول منها 1134
صفحة ما عدا المقدمة وصاروا لا يدرون كيف يقاومونها.
تصدى الأستاذ يوسف الدجوي منذ بضع عشرة سنة (1335) للطعن على
الأستاذ الإمام والتحرش بالمنار، فبدأ بنشر مقالات في جريدة الأفكار في الإنكار
على ما نشرناه في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1)
من أن النفس الواحدة ليست نصًّا في أبينا آدم عليه السلام، وأنه إن فرض ثبوت
قول الذين يقولون إن للبشر عدة أصول أو نظرية دارون في اختلاف الأنواع؛ فإن
القرآن يبقى على عصمته لا ينقضه شيء، هذا مجمل ما قرره شيخنا الأستاذ الإمام
في الأزهر وقرره قبله أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر في كتابه الرسالة
الحميدية التي قرَّظها أكبر علماء سورية وعلماء الترك وغيرهم إذ ترجموها باللغة
التركية وكانت سبب حظوة مؤلفها عند السلطان عبد الحميد، ولم ينكر عليه أحد
هذا القول في مذهب دارون.
ولكن أحد علماء تونس الأذكياء انتقد عبارتنا في تفسير آية سورة النساء
وموافقتنا للأستاذ الإمام على ما قاله في المسألة بمقال نشرناه في المنار أجبنا عنه
من بضعة عشر وجهًا أقنعت هذا الأستاذ، وأما الشيخ يوسف الدجوي فلم أرد على
ما نشره في جريدة الأفكار؛ لأنه كان تحرشًا وطعنًا شخصيًّا بسوء نية غير مبني
على دليل علمي، فضلاً عن كونه نشره في جريدة يومية ولو كان بحثًا علميًّا
لأرسله إلى المنار كالأستاذ العلامة الشيخ محمد البشير النيفر التونسي.
ثم إن الأستاذ الدجوي كتب في سنة 1348 رسالة في الطعن على متبعي
السلف من عهد شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الآن غمز فيها الأستاذ الإمام بقوله بعد
اعترافه بأنه غني عن الثناء والإطراء: (ولكننا نعجب له وقد تربى تلك التربية
العقلية الفلسفية كيف يسير وراء كل ناعق من الأوربيين فيردد صدى صوته بلا نقد
ولا تمحيص، وقد يكون ذلك عندهم محل الظن والتخمين أو الفرض والتقدير،
وربما أول له الآيات الصريحة، أو السنة الصحيحة قبل أن يقام عليه البرهان، أو
يبارح محل الاستحسان، إلى أن قال: ولا داعي لأن نفيض في بيان تلك الآراء ففي
المنار منها شيء كثير) اهـ.
إنني على التزامي لتفنيد كل من يطعن في الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه
أعرضت عن الأستاذ الدجوي ولم أعرض له؛ لأنه ليس ممن يُرَدُّ عليهم في نظري؛
ولكنني أشرت في فاتحة المجلد الحادي والثلاثين من المنار إلى قوله إشارة ولم
أُسمِّه وقلت إن الأستاذ الإمام لا يضيره مثل هذا القول فيه.
هل يسمع قول مثل الدجوي في الأستاذ الإمام (إنه يسير وراء كل ناعق من
الأوربيين) وهو هو الذي علَّم الأزهر استقلال الفكر وعدم قبول قول لغير المعصوم
بدون دليل؟ وهو هو الذي شرَّف مصر والأمة الإسلامية أمام أوربة بإكبار شيخ
فلاسفتها هربرت سبنسر لعلمه وعقله وبرَدِّه على موسيو هانوتو ذلك الرد الذي
اهتزت له أوربة والشرق، وألجأ ذلك الكاتب الكبير والوزير الشهير إلى الاعتذار
للإمام المصري بما هو مشهور، وهو الذي كتب في حقه العلامة المستشرق إدوارد
براون من أساتذة جامعة كمبردج الإنكليزية: إنني ما رأيت في الشرق ولا في الغرب
مثله.
بيد أنني أنكر على مجلة نور الإسلام الأزهرية الرسمية ما تنشره له من
المقالات والفتاوى في تأييد البدع الفاشية في عامة الأمة، ولا سيما بدع القبور
ومنكراتها والطعن على السلفية عامة والوهابية خاصة في هذا العصر الذي أظهر
فيه العالم الإسلامي كله في الشرق والغرب والوسط كمصر حرسها الله العطف على
الدولة السعودية والدفاع عنها، والانتقاد على الدولة المصرية لعدم اعترافها بها،
ولمنع حقوق الحرمين الشريفين وأهلهما من الحقوق الثابتة لهم في أوقاف مصر،
ولو كتب الأستاذ الدجوي ما ذكر في غير مجلة الأزهر الرسمية لما عنيتُ هذه العناية
بالرد على بعض ما كتبه ولم أقرأه كله.
وإنما أُعنى بما يكتب فيها لصفتها الرسمية؛ ولأنني أعد فضيلة شيخ الأزهر
مسئولاً عن الطعن الذي وجهته إلي مع كاتبه ورئيس تحرير المجلة جميعًا.
ظهرت مجلة (نور الإسلام) فأحسنت تقريظها في المنار وتمنيت لها أن تكون
خيرًا منه في خدمة الإسلام لما يرجى من دوامها بكونها لمصلحة إسلامية غنية لا
لشخص قد تموت بموته، ونصحت لها بما أملاه علي اختبار ثلث قرن في مثل
الخدمة التي أنشئت لها، وذكَّرت محررييها ومشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية
بأن تبعة ما يُنشر فيها ليس كتبعة ما يُنشر في المجلات والصحف الشخصية
ليتحروا فيما يكتبون.
كان المثير الظاهر لهذا الطعن فتويين مختلفتين في مسألة البدعة التي ابتدعها
المؤذنون بمصر في القرن الثامن، وهي زيادة السلام على النبي صلى الله عليه
وسلم في آخر الأذان، ثم زيادة الصلاة مع السلام وزيادة نداء السيد البدوي أيضًا
بعد أذان الفجر، أفتيت في المنار بأنها بدعة في شعار ديني تدخل في عموم قوله
صلى الله عليه وسلم من حديث كان يقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: (وكل
محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم في صحيحه، وأفتت مجلة نور الإسلام
بأنها بدعة حسنة.
ثم نَشَرتْ للأستاذ الدجوي مقالاً طويلاً في الرد على ما كتبه المنار في هذه
المسألة أكثر فيه من الطعن والتهكم والغميزة والزراية على صاحب المنار والتجهيل
والتكفير له، وقذفه بأنه كذَّب الله ورسوله وعزا إليه مسائل لا يقول بها كلها ولا
ببعضها أحد يؤمن بالله وبما جاء به محمد خاتم النبيين عنه عز وجل وهي:
1- إنكار الملائكة وتقرير أنهم عبارة عن القوى الطبيعية.
2- إنكار الجن وتقرير أن الجن المذكورين في القرآن عبارة عن الميكروبات
3- جواز تطبيق القرآن على مذهب داروين المخالف لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ
عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) الآية.
4- إفتاء التلاميذ المسلمين بالصلاة مع النصارى في الكنائس ليغرس في
قلوبهم النقية تلك الطقوس النصرانية، وينقش في نفوسهم الساذجة ما يسمعونه من
القسوس والمبشرين هناك، بهذا علل الفتوى المفتراة أي أنني أفتيتهم بهذا لأجل أن
يكونوا نصارى، فجعل العالم المسلم داعية الإسلام ومدرهه داعيًا إلى النصرانية،
وهو الذي قال القس زويمر أجرأ المبشرين على الطعن في الإسلام حتى إنه طعن
عليه في الجامع الأزهر: إنه لا يوجد في علماء المسلمين من يدافع عن الإسلام
بحجة وعقل إلا صاحب المنار.
5- قوله - كبرت كلمة تخرج من فيه وعليه إثمها وعلى المجلة التي نشرتها
والمشيخة المتولية إصدارها - ما نصه: (بل وصل الأمر من مجتهدنا - الذي يبحث
في جميع شؤون الإصلاح الديني والمدني والسياسي كما يقول في مناره- أن اجترأ
على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن
الشمس تسجد تحت العرش) وأطال في هذه التهمة بما خرج به عن موضوعها كعادته
حتى قال:
(فالشيخ إذًا مخطِّئ لله ولرسوله مكذب للقرآن والسنة، وإن شئت فقل: مجهل
لهما! ! فالشيخ يوسف الدجوي لا يُستغرب منه مثل هذا الافتراء والبهتان؛ وإنما
يستغرب نشر مجلة الأزهر له وهي لسان حال مشيخته.
6- قوله: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية (الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) كانت قرآنًا يُتلى، وقد رده كبار الفقهاء من قبل.
7- رد الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله عليه
وسلم، رد ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها، والذي طعن في صحة هذا الحديث
هو الأستاذ الإمام وسبقه إلى رده الإمام الجصاص، والتمويهات والخيالات التي
زعمها هي تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤثر في نفسه القدسية التي تتصل
بروح الله الأمين أن تسلط عليها نفس ساحر يهودي مدة سنة في بعض الروايات
وستة أشهر في رواية أخرى، حتى يتوهم صلى الله عليه وسلم أنه يقول الشيء ولم
يكن قاله، ويخيل إليه أنه فعل الشيء الذي يترتب عليه حكم شرعي كالغسل ولم
يكن فعله! ! .
هذا مبلغ تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم يجوِّزون عليه هذا ويجعلونه من
قبيل الأمراض البدنية حتى لا يجوِّزوا على البخاري أنه أخطأ في تعديل أحد من
الرواة الذين روى عنهم هو وغيره هذا.
هذه هي التهم التي أوردها في مقالة بدعة الزيادة على الأذان وحدها في سياق
طويل، فلما رأيتها شرعت في الرد عليها وأرسلت النبذة الأولى إلى فضيلة رئيس
تحرير المجلة مع كتاب خاص قلت له فيه إنه أهان نفسه وعلمه بقبوله لرياسة
تحريرها وألقيت التبعة عليه وعلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في
نشرها، وإن المخرج لهما من التبعة السماح لي بما يوجبه عليهما الشرع وكذا
القانون من نشر ما أكتبه من الرد عليها، وبأنني أرضى بتحكيم فضيلة مفتي الديار
المصرية العلامة التقي الشيخ عبد المجيد سليم في ردي وما عسى أن يردوا عليه، لا
لمنصبه، بل لعلمه وإنصافه وتنزهه عن المحاباة.
وقد كبر على فضيلة المفتي ما نشرته المجلة وأخبرني أن فضيلة شيخ الجامع
استاء منه، وأنهما اتفقا على السعي للصلح، وسأبيِّن للأمة ما كان من أمر الصلح
وخداع الخصم فيه في المقال التالي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(32/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال الثاني
في السعي للصلح والمرحلة الأولى له في دار المفتي
(نُشر في الجرائد في 28 و29 جمادى الآخرة)
بيَّنت في المقال الأول ما كان من التنازع بين المنار ومجلة مشيخة الأزهر
(نور الإسلام) وأبيِّن في هذا كيف كان الصلح بدءًا وختامًا.
قد راع صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، وشق
عليه أن يرى في مجلة مشيخة الأزهر مثل تلك المقالة التي نشرتها في الجزء
الخامس بعنوان (صاحب المنار والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
بعد الأذان) وإمضاء يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر، وهو هو
الغيور على شرف علماء الدين وعلى مجلة الأزهر، واستغرب ما فيها من التهم
التي رشقت بها مجلة المنار وصاحبها وهو من أعلم العلماء بقيمة المنار وما خدم به
الإسلام مدة 35 سنة، ويقتني جميع مجلداته، ويعرف شخص صاحبه معرفة علم
وأخلاق، وقد عرف مثار الشبهات لبعض التهم، وما فيها من تحريف الكلم، لعلمه
بما كان قرره الأستاذ الإمام أو كتبه فيها كمسألة الملائكة ومسألة سحر اليهودي
للمصطفى أعزه الله عز وجل وأجله وصلى عليه وسلم، وبما نشره المنار في
بعضها أو فيها كلها.
وكان أروع ما راع فضيلته وأغربه وأبعده عن الشبهات أن يرمى صاحب
المنار بإفتاء طلاب العلم في المدارس الأجنبية بأن يصلوا مع طلبة النصارى
صلاتهم في كنائسهم لأجل أن يكونوا نصارى! ! فلم يملك نفسه أن سألني بالمسرة
(التلفون) [1] عنها، وهل يوجد في شيء من مجلدات المنار عبارة يمكن أن تتخذ
شبهة عليها؟ فقلت: بل يوجد حجج كثيرة على ضدها آخرها فتوى طويلة في
الجزء الثالث من منار هذه السنة.
ثم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أخبر الأستاذ المفتي بأنني أرسلت إلى
مجلة (نور الإسلام) مقالة في استنكار جريمتها والرد عليها، وأن مقدمة الرد
شديدة اللهجة، خلافًا لما قاله كل من رآها في دار المنار إذ وصفوها بأنه في منتهى
اللين واللطف، ونيط السعي له بالمفتي للإجماع على إخلاصه وإنصافه، فأرسل
إلي رسولاً يكاشفني به ويعلم ما عندي تجاه هذا البهتان المبين، فسمع الرسول مني
ما لم يكن يحتسب من آيات الحلم وسعة الصدر، وهو أنني لا أشترط للصلح إلا أن
تنشر لي المجلة كل ما أرد به على التهم التي قذفتني بها ردًّا علميًّا لا طعن فيه ولا
سباب، ولا نبز بالألقاب، وأن الغرض منه أن يعلم الذين قرأوا تلك التهم الباطلة
ما عندي من الأدلة العلمية على افتراء بعضها وبطلان بعض وتحقيق الحق في
مسائلها، وهي مسائل اعتقادية وعملية شرعية يجب لهم على المجلة وعليَّ تمحيص
الحق فيها، وأنه ليس لي حظ نفسي في تحقير كاتبها بمثل ما قاله فيَّ، فبلَّغ المفتي
شيخَ الأزهر هذا الجواب، فاتفقا على أن هذا حق.
ثم دار الحديث بيني وبين المفتي في الموضوع بالمسرة، ثم بالمشافهة في دار
المنار إذ تلطف بزيارتي فيها في أول هذا الشهر (جمادى الآخرة - أكتوبر) وكان
مما قاله إنه متفق مع الأستاذ الأكبر على أن لي الحق في الدفاع عن نفسي وفي
كتابة كل ما أعتقد أنه حق وخدمة للإسلام والمسلمين؛ فإن هذا مما ليس لأحد أن
يطالبني بتركه، وأن على مجلة نور الإسلام أن تنشر لي ما أكتبه من الرد العلمي
الذي طلبته؛ وإنما المراد من الصلح عدم العود إلى طعن أحد في شخص الآخر
بتجهيل ولا غيره، وإنهما يرغبان إليَّ ترك الرد إلى أن نجتمع به ونبرم الصلح،
فوعدته بذلك.
ثم جاءني في ضحوة اليوم الرابع من الشهر الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي
رسول المفتي الأول وقال إن فضيلة الأستاذ المفتي يقرئك السلام ويخبرك بأنه كلم
الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي فيما اتفقتما عليه من أمر الصلح وشرطه فرضي به،
ووعد بأن يكتب هو في مجلة نور الإسلام عبارة يعترف فيها بخدمة المنار للإسلام
ومواقفك المحمودة فيها، وإن الاجتماع لعقد الصلح سيكون بدار فضيلته بعد عيد
الجلوس الملكي؛ لأنهم سيسافرون كلهم إلى الإسكندرية لأجله.
ثم بلَّغني المفتي في يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر دعوته إيانا إلى الغداء
في داره، لأجل الصلح في يوم الخميس الثالث عشر منه فأجبت، ثم أرسل إليَّ
سيارته بعد الظهر من ذلك اليوم فوجدت عنده أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ فتح
الله سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا، والشيخ أحمد حسين مفتي وزارة الأوقاف،
والشيخ محمد الخضر رئيس تحرير مجلة نور الإسلام، والشيخ طه حبيب المدرس
بالأزهر والمحرر في مجلة نور الإسلام، والشيخ محمد حامد الفقي من علماء الأزهر
وخطباء المساجد، وكان معي ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم، وبعد وصولنا
بقليل جاء الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي فقمت له مع القائمين وصافحته،
واعتذر الأستاذ الأكبر عن الحضور بالتياث صحته، ولم نلبث أن قمنا إلى المائدة
النفيسة الدالة على سخاء صاحبها وحسن ذوقه.
وبعد الطعام خرجنا إلى حجرة القهوة والحديث، فافتتح فضيلة المفتي الكلام
بالشكر لنا على قبول دعوته إلى طعامه، وإلى ما هو خير منه وهو الصلح بين
المجلتين الإسلاميتين والمحررين لهما، وقال إن مجلة المنار تخدم الإسلام خدمة
جليلة منذ خمس وثلاثين سنة ولصاحبها فلان من البلاء والجهاد في هذه السبيل ما
عُرف له فضله فيه جميع العالم الإسلامي، وأصبح لمجلته مركز عظيم في نفوس
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومجلة نور الإسلام قد أنشئت أيضًا لأجل
هذه الخدمة للإسلام بعينها وتتولى إصدارها ونشرها أكبر هيئة دينية إسلامية،
فالموضوع واحد والقصد واحد، والحاجة إلى التعاون بينهما شديدة، وخصوم
الإسلام من الملاحدة ودعاة النصرانية (المبشرين) والفاتنين للعامة بإباحة الفسوق
والشهوات كثيرون، فالمصلحة الإسلامية قاضية بتوحيد عملهما، وفضيلة الأستاذ
الشيخ يوسف الدجوي يخدم الإسلام بعلمه وبالتحرير في مجلة نور الإسلام، فأجدر
بالشيخين وبالمجلتين أن يتحدا ويكونا إلبًا واحدًا على العدو المشترك، وقد شجر
بينهما من الخلاف ما أسف له الجميع، وغرضنا من هذا الاجتماع أن يتصافحا
ويتصافيا ويتناسيا الماضي المؤسف، فهذا ما يهمنا ويهم كل مخلص للدين وأهله.
هذه خلاصة ما فاه به الأستاذ المفتي، وتلاه الأستاذ الدجوي فقال إنه لا بد من
ذكر سبب الخلاف والشقاق وما يبنى عليه الصلح، وهو أن يكف الشيخ رشيد
إخوانه أو جماعته الوهابيين عن تكفير المسلمين وحملهم على عقائدهم أو مذهبهم
بالقوة واستباحة دمائهم، ويكف أتباعه - أو قال أذنابه - عن الكتابة في الصحف
وغيرها، وطفق يفيض في هذا الموضوع فعارضه المفتي قائلاً نحن لا نريد نبش
الماضي وبعثه من قبره بل نريد دفنه وتناسيه، ولا شأن لنا الآن بالوهابية ولا
بغيرهم؛ لأننا لا نحاول الصلح والاتفاق لمصلحة جماعة دون جماعة ولا هيئة دون
هيئة، بل نريد مصلحة المسلمين جميعًا، على أن يخدم كل منكما الإسلام بما يعتقده
من غير أن يمس كرامة الآخر.
حينئذ قلت: أما وقد قال الأستاذ الدجوي ما سمعتم فلا مندوحة لي عن جوابه
لأن الاتفاق والتعاون يتعذر مع سوء ظن كل منا بالآخر.
قد سمعتم ما يقول في الوهابية وما يرميهم به وأنه يعدني منهم مع سوء اعتقاده
أو ظنه بهم، وقد كتب كثيرًا في الطعن عليهم، وكان يذكرني في أثناء مطاعنه
بدون أدنى مناسبة ويلقبني بمفتيهم وبزعيمهم، فلهم في خياله أقبح صورة تتمثل في
شخصي.
القول الحق في الوهابية وسبب الطعن عليهم:
إنني أعلم حق العلم أنه ليس في الدنيا مذهب يصح أن يسمى مذهب الوهابية،
وأن أهل نجد الذين يلقبهم غيرهم بالوهابية لايلقبون أنفسهم بهذا اللقب، وهم حنابلة
ليس لهم مذهب غير مذهب الإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الذي يعترف له جميع
أهل السنة بالإمامة، بل انتهت إليه إمامة السنة في عصره بغير منازع؛ وإنما
ينسبون أنفسهم إلى السلف في العقائد وما كان أحمد إلا إمام السلف في عصره وما
زال أهل الحديث كلهم ينتمون إليه، وقد صرَّح الإمام أبو الحسن الأشعري باتباعه
له.
أما سبب اتهامهم بابتداع مذهب جديد في الإسلام فهو أن الدولة العثمانية قد
رأتهم قاموا بنهضة دينية في جزيرة العرب أيدتها إمارة آل سعود، فخافت أن
يؤسسوا دولة عربية تنزع منها سيادتها على الأمة العربية فحاربتهم بالسلاح،
وبنبزهم بالابتداع في الإسلام، وجعلت قتالهم لها - وهي المعتدية - دليلاً على
تكفيرهم المسلمين واستباحة دماء من لا يتبعهم في مذهبهم، وأغرت بعض العلماء
الذين يخضعون للسلاطين والحكام ويخدمونهم بكل ما يهوون أن يردوا عليهم،
فألَّفوا الرسائل في الطعن عليهم في دينهم، لتنفير عرب الجزيرة وغيرهم وصدهم
عنهم، كما أغرت الإمارة المصرية العلوية بقتالهم بعد أن استولوا على الحجاز
وعجزت عن إخراجهم منه.
وأما صاحب المنار فيعلم السادة الحاضرون وكل من يقرأ المنار أنه لا يقلد في
عقيدته أحدًا من الأئمة، فكيف يُعقل أن يقلد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على
فرض أن له مذهبًا خاصًّا غير مذهب الإمام أحمد وسلف الأمة؟ فمن لا يقلد الإمام
الأشعري وقد نشأ على مذهب الأشعرية فأجدر به أن لا يقلد الشيخ محمد ابن
عبد الوهاب.
الأستاذ الدجوي وجه عنايته في مجلة مشيخة الأزهر وغيرها إلى الطعن في
الوهابية وجعلهم شر خلق الله، وإلى تأويل البدع والخرافات الفاشية عند غيرهم
ونرى رزاياها ومفاسدها في بلادنا من توجه الألوف، بل الملايين من الجاهلين في
قضاء حاجتهم وشفاء مرضاهم والانتقام من أعدائهم إلى أضرحة الميتين حتى من لا
يعرف لهم في الإسلام ذكر ولا قدم صدق، وربما كانت أضرحتهم مزورة، فيشدون
إليها الرحال ويحملون إليها النذور ويقربون لها القرابين، ويفتيهم بجواز ما يفعلون
من استغاثة الموتى ودعائهم ويتأول لهم ذلك بالمجاز العقلي والمجاز اللغوي بقرينة
كونهم مسلمين موحدين، وكلنا نعلم أن السواد الأعظم منهم لم يتلق عقيدة الإسلام
من عالم ولا من كتاب من كتب الإسلام الصحيحة؛ وإنما يتلقونه عن أمهاتهم
وجداتهم وأقرانهم وَلِدَاتِهِمْ.
ثم إنه يعلم بما عليه الألوف من أهل البلاد من ترك الصلاة ومنع الزكاة، وكذا
الصيام، ومن استباحة السُّكر والزنا والقمار وغيرها من الموبقات، وأعني بهذا
عدم الإذعان النفسي العملي للأمر والنهي وهو حقيقة الإسلام، ثم إنه لا يكتب شيئًا
في مجلة مشيخة الأزهر في النصح لهؤلاء ولا لأولئك؛ وإنما يوجه همه إلى
الوهابية فيطعن عليهم ليردهم عما يتهمهم به من تكفير المسلمين واستباحة دمائهم،
وهو يعلم أنه يندر فيهم من يقرأ كلامه، وأن من عسى أن يقرأه منهم لا يعتد بعلمه
ولا بإخلاصه، وهم يعلمون من أنفسهم - كما يعلم كل من اختبرهم - أنه لا يكاد
يوجد في بلادهم كلها من يترك صلاة الجماعة، ولا من يجهر بفاحشة مبينة،
والسرائر علمها عند الله، وعلماء الوهابية لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة إلا بما
أجمع فقهاء أهل السنة على أنه كفر وردة عن الإسلام، فهم يخالفون مذهب الإمام
أحمد في هذه المسألة، وفي مسألة أخرى لا أعلم لهم غيرهما، وأعني بالمسألة
الأخرى أنهم يقدمون العمل بالحديث الصحيح المخالف لرواية المذهب عليها؛ ولكن
اتفاق الأئمة الأربعة على ترك العمل بحديث آحادي يعدونه دليلاً على وجود مانع
من العمل به، كعلة في سنده أو معارض لمتنه من نسخ أو غيره، وما يذكرونه في
كتبهم من أحكام الردة فيقال فيه ما يقال في سائر أحكام الردة عند غيرهم من علماء
سائر المذاهب: إنها بيان للحكم منوط بالدليل قوة وضعفًا، ونحن نرى فقهاء المذاهب
كلها يختلفون في المسائل الاجتهادية من هذه الأحكام حتى أن ما يعد كفرًا وردة عند
الحنفية مثلاً قد يكون حرامًا أو مكروهًا عند الشافعية، فمثل هذا البيان لا يُسمى تكفيرًا
للمسلمين بالفعل لكثرة من تنطبق عليهم هذه الأحكام، ولا يترتب عليه سفك الحاكم
المسلم لدمائهم وإجراء أحكام الردة عليهم؛ فإن تكفير الشخص المعين لا يصح إلا
بحكم يبنى على ثبوت الردة مع مراعاة درء الحدود بالشبهات، كالتأول والجهل فيما
يعذر به الجاهل ونحو ذلك، ولهذا يحتاط جميع العلماء فيه ويشددون في النهي عن
تكفير الشخص المعين.
مثال ذلك أن الإمام أحمد يقول بكفر تارك الصلاة، فعلى قاعدة الأستاذ الدجوي
يصح أن يقال: إن هذا الإمام الجليل يستبيح دماء هؤلاء الألوف الذين نراهم في
وقت صلاة الجمعة تغص بهم أسواق القاهرة وشوارعها، وتكتظ بهم ملاهيها
وحاناتها، دع سائر الصلوات التي يمكن التماس العذر لمن يترك جماعتها بأنه قد
يصليها في بيته، فإن صح هذا القول عند الأستاذ في إمام الأئمة أحمد بن حنبل،
فكيف يعاب به أتباعه الملقبون بالوهابية؟
إن النجديين يخالفون إمامهم في مسألة التكفير بترك الصلاة لأنها ليست
إجماعية في غير المستحل للترك، الذي لا يذعن للأمر والنهي، كما قلت آنفًا.
ها نحن أولاء نرى حكومتهم في مكة المكرمة تقيم حدود الشرع كلها، فتقطع
يد السارق، وتقتل القاتل، وتقيم الحد على السكران، إذا ثبت عليهم ذلك شرعًا،
ولم نرها ولا سمعنا عنها، أنها أقامت حد الكفر على أحد ممن على غير مذهبها
الحقيقي وهو مذهب أحمد بن حنبل، ولا مذهبها المزعوم الذي يقول الأستاذ
الدجوي إنها تجبر الناس عليه بالقوة، مع علم الملايين من الناس أن أهل الحجاز لا
يزالون على مذاهبهم.
ولا أنكر مع هذا البيان أنه يوجد في النجديين غلاة في الدين، ولا سيما قريبي
العهد بالبداوة وجفوتها وجهالتها، وهؤلاء الغلاة الجاهلون يجتهد ملكهم بتحضيرهم
وتعليمهم، وقد قاتل في العامين الماضيين طائفة منهم كما هو مشهور، ولا تجد
مثل هذا الغلو في الحضر منهم، وأكثرهم أو كلهم يعرفون أمور دينهم، وأنا أرى
وكيل حكومتهم في مصر الشيخ فوزان السابق يصلي الجمعة في المساجد المتعددة،
فلو كان يعتقد أن أئمتها والمصلين فيها كفار لما كان يصلي معهم.
وإذا كان حال بدو زماننا على ما نعلم، فماذا نقول فيهم قبل بث النجديين للدين
فيهم؟ كانوا يجهلون جل عقائد الإسلام ويتركون أركانه، ويستحلون قتل الحجاج
وغيرهم، لتوهم ريال واحد يوجد عند أحدهم، وقد بطل هذا من نجد، ثم من
الحجاز بإرشاد هؤلاء الوهابيين وتنفيذ حكومتهم للشرع.
هذا ما قلته في مجلس الصلح ردًّا على الأستاذ الدجوي بإيضاح ما في العبارة
المكتوبة دون زيادة في أصل الموضوع.
وقلت أيضًا: إنني أنصح لهم - بل لملكهم نفسه - في كل المسائل التي تشرع
فيها النصيحة بمكتوبات خاصة لا بالتشهير في المنار أو الصحف؛ فإن هذا هو الذي
يرجى نفعه ويعد امتثالاً للأمر بالتواصي بالحق والصبر والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وقد أبلغ في النصيحة والموعظة ما يستكبره ويستنكره بطانة الملك
السعودي؛ لأنني أسلك فيه طريقة السلف الصالح في موعظة الخلفاء والأمراء وهو
يحب هذه الطريقة، وقد ألفها من علماء قومه.
ثم إن الأستاذ الدجوي ادعى أنني أنا المتعدي عليه بالرد والتحقير، وإنه ليس
إلا مدافعًا عن نفسه فأخرجت من جيبي كتابًا كان أرسله إلى منذ 13 شهرًا هو
نموذج من رسالته التي أشرت إليها في الهجو والتكفير، فامتقع وقبع، وثنى صدره
ليستخفي منه، وشخصت إليه أبصار القوم حتى تمنى السيد عاصم لو كان بصيرًا
فيراهم؛ ولكنه قال: إنني اعترضت عليه قبل هذا فقلت عند دخول مجلة نور
الإسلام في سنتها الثانية إنها كانت جديرة بالتهنئة لولا ما ينشر فيها للشيخ الدجوي.
فقلت له: وهل تعد هذا كله عملاً بقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ
عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40) .
ثم قال الأستاذ المفتي: حسبنا ما ذكر عن الماضي، ويجب أن ننظر الآن في
أمر الحاضر والمستقبل، ونعقد الصلح على عدم إثارة شيء مما تقدم، قال الدجوي:
لا بد أن يكف الشيخ رشيد أذنابه عما يكتبون في الجرائد انتصارًا له، فقلت أنا:
إنه ليس لي أذناب ولا أتباع، وهؤلاء الذين يردون على الأستاذ الدجوي وعلى
مجلة الأزهر في الجرائد ليسوا من أتباعي ولا من تلاميذي؛ وإنما هم من علماء
الأزهر، والمعروف منهم من أصدقائي وإخواني مستقلون في آرائهم وعلمهم، وأنا
من أشد الناس احترامًا لاستقلال الرأي وحرية العلم والمناظرة لأهلهما حتى تلاميذي
منهم.
ووافقني بعض الأشياخ الحاضرين على قولي، وقال أحدهم إن هؤلاء الذين
يكتبون في جريدتي السياسة والجهاد في الرد على مجلة المشيخة هم من علماء
الأزهر الذين فصلتهم المشيخة منه في العام الماضي، والسيد رشيد غير مسئول
عنهم لأن لهم مرمى آخر ووجهة أخرى، وما أظن أنهم يرجعون عن الكتابة مهما
يكن من أمر الصلح والنهي، فلا يصح أن نجعل كفهم شرطًا للصلح، وهذا لا يمنع
أن يرجوهم فضيلة السيد رشيد وغيره أن يخففوا من حدة أقلامهم ويقصروا كلامهم
على المناقشة العلمية الهادئة.
ثم دار البحث في الطريقة التي يمحى بها ما كان لما كتبه الأستاذ الدجوي في
مجلة نور الإسلام من أثر، فاتفق الجميع على أن يجاب السيد رشيد إلى ما طلبه
من الرد على المسائل التي اتهم بها كتابة علمية لا يعرض فيها لفضيلة الشيخ
الدجوي ولا لغيره بما يسوء من طعن شخصي، بأن يذكر التهم واحدة واحدة ويرد
عليها بما عنده من الأدلة والشواهد من مجلته وتفسيره، ويرسلها إلى رئيس تحرير
المجلة فينشرها فيها، ولأصحاب الفضيلة المفتي ونائب المحكمة الشرعية العليا
ومفتي الأوقاف الحاضرين الحكم الفاصل في موافقة ما يكتبه السيد لهذا الشرط أو
عدم موافقته، فرضي الفريقان بهذا.
وسأل الأستاذ الشيخ فتح الله سليمان: من المسئول بالتزام النشر في مجلة نور
الإسلام؟ فقال الأستاذ: رئيس التحرير الشيخ محمد الخضر والأستاذ الشيخ طه
حبيب المحرر فيها بموافقة الشيخ الدجوي إننا ننشر.
ثم ذكر الأستاذ المفتي ما كان سبق اقتراحه في مقدمات الصلح من كتابة الأستاذ
الدجوي في المجلة ثناء على الأستاذ صاحب المنار لأجل تحديده، فأبى الدجوي
البحث في تحديد ذلك، وقال إنه هو سيكتب ما يرجى أن يمحو أثر المقالتين وينشره.
واتفق الجميع على أنه يحسن في اتقاء تجدد النزاع أن يتشاور الفريقان فيما
يعرض للكتابة من المسائل الخلافية ويتفقا على الطريقة التي يكتبان فيها، كما
يحسن أن يتزاور الشيخ الدجوي والسيد رشيد لتأكيد المودة وتوطيدها، وتمنوا لو
يكون هذا الاتفاق تمهيدًا لعقد مؤتمر علمي لتمحيص المسائل وحل عقد المشاكل بين
العلماء وإصلاح حال المسلمين.
ثم نهضوا إلى صلاة العصر مسرورين مغتبطين شاكرين لفضيلة صاحب
الدار ومفتي الديار سعيه، وقدَّم هو السيد رشيدًا للصلاة بهم إمامًا، فسروا باقتداء
الشيخ الدجوي به في الصلاة إذ ظهر به أن ما كتبه في تكفيره نصًّا أو اقتضاء فهو
عقوبة لا عقيدة، وبعد أداء الصلاة بالجماعة قاموا لشرب الشاي والتحاور الأخوي
في شجون الكلام، ثم انصرف الجميع مسرورين.
ولم نكد نصل إلى دار المنار حتى علمنا منها أن مطبعة الأستاذ الدجوي التي
يتولى إدارتها ابنه فهمي أفندي بدأت توزع في القاهرة أثناء عقد الصلح رسالة
اسمها (صواعق من نار في الرد على صاحب المنار) فعلمنا أنه حضر مجلس
الصلح من جهة ونقضه في وقت عقده من جهة أخرى.
فهذه خلاصة خبر المرحلة الأولى لعقد الصلح، وسأبيِّن في المقال التالي ما
كان من دعوة فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر إلى استئناف الصلح،
واجتماعنا له في إدارة المعاهد الدينية، وفشل هذه المرحلة الثانية أيضًا، ويتلو ذلك
الرد على البهتان الذي ذكرت أمهات مسائله في المقال الأول من غير ذكر اسم
الشيخ الدجوي؛ لأني لا أرضى أن أكون مناظرًا له ولا خصمًا، وأعلم أن العاقبة
للمتقين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كنت في أيام طلب العلم أطلقت على التلفون اسم المسرة من قول القاموس: المِسرة بكسر الميم: الآلة التي يسار بها كالطومار اهـ. ثم سماها الكُتًّاب السوريون الهاتف.(32/683)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال الثالث
المرحلة الثانية من مراحل الصلح
في إدارة المشيخة والمعاهد الدينية
في مساء يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة (وأكتوبر) التقيت في
احتفال وزير دولة الأفغان المفوض بعيد جلوس ملكهم (صاحب الجلالة محمد نادر
خان) بأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ونقيب السادة
الأشراف وشربت الشاي معهم على مائدة واحدة، وجرى في حديثنا ذكر الصلح،
فقلت: إن الشيخ الدجوي قد نقض الصلح في أثناء عقده بتوزيعه لرسالته البذيئة
قال المفتي: ولكنك أنت لا تنقضه، قلت: وهل يكون الصلح من طرف واحد؟
وسألت شيخ الجامع هل اطلعت على الرسالة؟ قال: لا، فأخرجتها من جيبي
وقرأت له بعض الأبيات التي تخاطبني بالكلب والخنزير والوجه المقذور، وقلت
أهكذا تكون آداب علماء الدين؟ فامتعض وامتقع ووجم، وقال المفتي إن مثل هذه
الرسالة لا تؤثر في مقامك من العلم والدين وسعة الصدر، أو كلامًا بمعنى هذا،
قلت ولكنها تحط من قدر علماء الدين وشرفهم الذي يجب على الأستاذ الأكبر أن
يحافظ عليه، وأما أنا فأتمثل فيها بقول المتنبي:
فذاك ذنب عقابه فيه
فلا أجازي على هذه السيئات بمثلها، ولا يستطيع عدو أن يبلغ من مجترحها ما
بلغته منه، ولكن لا يسعني بعد اليوم السكوت عن رد المطاعن والتهم التي افتريت
علي، وقد أكثر الناس من مطالبتي بذلك مشافهة ومكاتبة ونشرًا في الجرائد.
قال المفتي: إنني أرسلت إلى الشيخ الدجوي صديقًا له يكلمه في وجوب
الإمساك عن نشر الرسالة ووعدته بأن أدفع ثمن نفقة طبعها للطابع ونعود إلى إتمام
الصلح، قلت: إن الطابع لها هو ابن الشيخ الدجوي في المطبعة التي أنشأها له
والده؛ وإن هؤلاء لا يصدقون، وأنا لا يهمني نشرها ولا جمعها، ولا يهمني نقض
الدجوي للصلح ولا وفاؤه به؛ وإنما يهمني شيء واحد وهو أن تنشر لي مجلة
مشيخة الأزهر ما أفند به التهم التي نشرتها له، وأنا على شرطي من اجتناب
الطعن والهجو الشخصي.
وفي اليوم التالي كتبت مقالي الأول وأرسلته إلى الجرائد فنشرته في 20 و21
من الشهر، فلما قرأه شيخ الأزهر اهتم بالأمر، فكلَّم المفتي في وجوب تداركه في
إبانه، وأخذه بربانه، قبل أن أبسط المسألة في الجرائد فيتسع الخرق على الراقع،
فكلَّمني المفتي بالمسرة وهو معه مبتدئًا بعتابي على النشر في الجرائد، فكان هذا
أول تجانف منه وتزاور عن موقف القسط الذي كان يقيم ميزانه، فطفقت أحتج
فقاطعني قائلاً إن الأستاذ الأكبر معي يدعوك إلى الاجتماع في إدارة المعاهد الدينية
يوم الأربعاء للنظر في المسألة فإذا قبلت فلك هنالك أن تدلي بكل ما عندك وننظر
فيه بالإنصاف، قلت: لا بأس وإني لمجيب، قال: وإني أرسل إليك السيارة عند
انتهاء الساعة العاشرة، ونرجوك أن تمسك عن النشر حتى نجتمع وننظر في الأمر.
اجتمعنا في الساعة العاشرة و30 دقيقة، وكان في المجلس أصحاب الفضيلة
شيخ الجامع والمفتي ووكيل الأزهر والمعاهد الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف
الفحام والأستاذ السيد الشنواني وهو نائب عن الأستاذ الدجوي الذي سافر إلى بلده
في الريف لحضور مأتم فيه.
بدأ الأشياخ الكلام بعتابي على النشر في الجرائد فقلت: هل من العدل
والإنصاف أن يُطلب مني السكوت عن الدفاع عن نفسي وبيان حقي في مسألة
تداولتها الصحف اليومية، وتناولتها أيدي جميع طبقات الأمة، وكثر تساؤل الناس
كيف يسكت صاحب المنار عن الرد على التجني عليه وبهته بأفحش البهائت في
دينه وعلمه وأدبه؟ والقاعدة الأصولية أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة،
وهو قد تجاوز الحاجة معي إلى الضرورة، فإلى متى يُنتظر مني أن أسكت وقد
سكتُّ أكثر من شهر ونصف؟ قال المفتي لا نقول إنه لا حق لك في البيان؛ ولكني
لم أفهم منك في دار سفارة الأفغان أنك عزمت على الرد في الجرائد، وقد تعرضت
في مقالك للكلام في الأزهر، ولا يصح أن نجعل الأزهر مضغة في الأفواه بخوض
الجرائد فيه وأنت تحرص على كرامته مثلنا.
قلت: نعم، ولكن اللوم كله على مشيخة الأزهر فالطعن علي قد ظهر في
مجلتها في أول الشهر الماضي، ثم تكرر في أول هذا الشهر بعد السعي من قبلها
في الصلح وكان من أمر نقض الصلح ما علمتم، فأنا أصارحكم هنا بأنني لا أبالي
بطعن الشيخ الدجوي ولا بتكفيره لي، ولا بنقضه للصلح، ولا برسالته البذيئة التي
ذكرت لكم بدار سفارة الأفغان رأيي فيها، وفيما يجب على مشيخة الأزهر تجاه
صدور مثلها عن رجل من كبار علمائها الرسميين، وخاطبت شيخ الأزهر مصرحًا
له بما كنت أفعله لحفظ شرف الأزهر لو كنت في منصبه؛ ولكنني لا أنشر هذا ولا
ما أقمت عليه الدليل من حرصي على كرامة فضيلته واجتنابي مشايعة الجرائد على
خوضها فيه.
وقلت: إن السيد عاصمًا قال للذي يبيع الرسالة البذيئة في الأزهر: إنني
أطلب مائتي نسخة لإرسالها إلى الخارج فأين أجدها؟ قال: عند فضيلة الأستاذ
الدجوي، فخطر في بالي أنه ربما كان يريد نشرها في الخارج لأجل فضيحة
الأزهر بها؛ ولكن فاعل هذا الانتقام يدخل في عموم {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (النور: 19) فلهذا نهيته عنه.
ثم قلت: ولكن الذي أباليه وأهتم به محصور في مجلة المشيخة، هذه المجلة
التي أقمت الدليل في تقريظي لها على أنني أتمنى لو يكون توفيقها لخدمة الإسلام
والمسلمين أكبر وأتم مما وفقت له في المنار؛ لأن خدمة المنار لا يُرجى أن تتجاوز
عمري وقد دخلت في سن الشيخوخة ولم يبق من العمر إلا قليل، ومجلة نور
الإسلام تابعة لهيئة إسلامية غنية يرجى بقاؤها، وأقسمت على صدقي في شعوري
هذا، وكادت تغلبني الدموع على الكلام، فدعا لي الشيخ الأكبر ومن معه بطول
العمر ودوام التوفيق.
ثم قلت: إنه ليحزنني أن يخيب أملي وأمل كل من أعرف من فضلاء
الأزهريين وغيرهم في المجلة، بل زارني من لم أكن أعرف من الخطباء الذين
يطوفون في البلاد لبث الوعظ والإرشاد من قبل المشيخة، فسمعتهم يقولون إن هذه
المجلة أوقعتنا في مشكلة، فنحن ننهى الناس عن البدع ولا سيما بدع المقابر
والموالد، ثم تجيء مجلة المشيخة والمعاهد تدافع عن هذه البدع وتتأول لفاعليها بما
يعد أعمالهم هذه مشروعة (وذكرت من أقوال أرقى علماء الأزهر فيها ما لا حاجة
إلى إذاعته في الصحف الآن) حتى انتهى أمرها إلى نشر المقالتين الأخيرتين في
الطعن علي، ولا شك في أنه طعن بسوء النية لما فيه من الافتراء والبهتان
وتحريف الكلم في النقل، ولم يترك كاتبهما شبهة ولا خاطرًا يرى أنه يثبت للناس
فيه جهل صاحب المنار إلا وكتبه ونشره، حتى أنه يذكر أصغر الأمور التافهة مع
التكفير وكبائر الموبقات كتجهيله لصاحب المنار بالنحو لاستعماله كلمة القبوريين
وإظهاره لحجته بإيراد قول ابن مالك: (والواحد ذاكر ناسبًا للجمع) .
ولا يجهل مثله أن شرط امتناع النسبة إلى الجمع ألا يكون علمًا أو جرى
مجرى العلم كالجزائري والمقابري والأنصاري والكرابيسي والمصاحفي، وذكرت
أمثلة أخرى من أنساب العلماء والمحدثين، وقلت إن كلمة القبوريين جعلت علمًا
على المفتونين ببدع القبور وقد استعمل العلماء هذا في كثير من الكتب المطبوعة
ومن أشهرها كتاب (صيانة الإنسان) الذي رد به أحد علماء السند على الشيخ
أحمد دحلان في طعنه على الوهابية ويعاد طبعه الآن.
ومن الغريب أنه اتهمني بأنني أحل الربا بإفتائي بجواز الانتفاع بالرهن؛ وإنما
كانت فتواي بهذا نقلاً لعبارة كتاب المغني في المسألة، وهو أجلّ كتب الفقه أو من
أجلّها ولم أزد عليها إلا قولي: ومنها يعلم الحكم في المسألة، وأرى جميع علماء
الأزهر يأكلون الربا، والله تعالى قد توعد آكلي الربا بأشد الوعيد لا من ينقل قول
أئمة الفقه في الرهن وغيره.
قال المفتي: وهل مال الحكومة كله أو أكثره من الربا؟ قلت: إنني لا أعني
مال الحكومة المختلط؛ وإنما أعني أن المخصص لميزانية الأزهر والمعاهد الدينية
من ميزانية الحكومة العامة يوضع في البنك الأهلي، ويضاف عليه من الربا مثل
ما يضاف على سائر ميزانية الحكومة، ومشيخة الأزهر تسحبه من البنك كسائر
مصالح الحكومة، فهل كنت أنا الذي أفتيت مشيخة الأزهر بهذا؟ وجرى كلام آخر
في حكم المال المختلط من حرام وحلال لا محل لبسطه هنا، وعلمت منه أن المفتي
لا يأخذ من الأزهر راتبًا.
ثم قال الأستاذ الأكبر إننا اجتمعنا هنا لنضع حدًّا لهذا النزاع والمطاعن بصلح
ثابت نمنع به نشر هذه الردود في الجرائد لأنها تُزري بالعلماء.
قلت: إنني أكرر ما قلته مرارًا وهو أن لي الحق أن أنشر في مجلة نور
الإسلام وفي الجرائد ردًّا على التهم التي افتريت علي ملتزمًا فيه ما وعدت به من
تلقاء نفسي قبل الاجتماع لعقد الصلح وبعده من اجتناب الطعن الشخصي في الشيخ
الدجوي، وإذا رضيت المشيخة بعزو تلك التهم إلى المجلة من دون ذكره فإنني
أرضى بهذا، وقد غيَّرت مقدمة المقال الذي كنت أرسلته إلى رئيس تحريرها بهذه
الصفة وأخرجته من جيبي وقرأت لهم أكثرها، فوافقوني على النشر في مجلة نور
الإسلام بعد اطلاعهم على ما أكتبه ورؤيته موافقًا لما اشترطته على نفسي فيه وعدم
نشر شيء في الجرائد ولا كتابة ما يُعد طعنًا على الأزهر.
قلت: إنه ليس من دأبي الطعن على الأزهر ولا على أحد؛ ولكن الكتابة في
إصلاح التعليم والتربية في الأزهر وغيره من أهم مقاصدي التي أنشأت المنار
لأجلها وهذا معروف فيه منذ 35 سنة.
قال المفتي: هذا صحيح ولا يطالبك أحد بترك الكتابة في الإصلاح؛ ولكن إذا
عرض لك أن تكتب في إصلاح التعليم في الأزهر فنقترح عليك أن تعرض رأيك
أولاً على الأستاذ الأكبر للتشاور فيه، ثم تكتب ما تتفقان عليه - أو قال ما يقرب
من هذا - وكانت هذه هي الكرة الثانية التي تَحَيَّزَ فيها فضيلة المفتي إلى جانب
المشيخة بما فيه هضم لحقي في حرية الكتابة، وهي لا تقل عندي عن حرية الرقبة.
وقد تذكرت بمناسبتها ما رواه لي المرحوم الأستاذ الشيخ أحمد إدريس عضو
المحكمة الشرعية العليا عن الأستاذ الإمام في أنه قيل له في الإسكندرية: نرجوك
أن تمنع صاحب المنار من الطعن في السلطان والدولة العلية؛ فإن هذا من السياسة
وهي ليست من موضوع مجلته الدينية، فقال لهم الأستاذ الإمام: إنني والله لا
أعرف أحدًا من الناس أشد استقلالاً في الرأي من صاحب المنار، وكيف أقول له
هذا وهو يعلم كما أعلم أن دين الإسلام دين سياسة لا دين عبادة فقط، وكل ما يمكن
أن أقوله له في هذا الموضوع إنني رأيت كثيرًا من محبي المنار يسوءهم الانتقاد
فيه على الدولة، وإنني أنا أظن أنه غير مفيد لما يرجوه منه، أو ما هذا معناه.
بيد أنني أعتقد أن المفتي حسن النية فيما قال، وأنه يريد به الاتصال بيني
وبين شيخ الأزهر للتعاون على خدمة الإسلام، فأجبته بما يفهم منه رد اقتراحه
بالفحوى، وهو أن رأيي قد يخالف رأي الأستاذ الأكبر في هذا الإصلاح، وأنني
ذكرت لفضيلته منذ أشهر رأيي فيما أنتقده على تعليم الأزهر للعقائد وما يجب من
الإصلاح له بدار الدكتور عبد الحميد سعيد بحضور كثير من أهل العلم والرأي فلم
يرده ولم يقبله، ولعلك تذكر إذ التقينا في هذا المكان العام الماضي وعاتبني الأستاذ
الأكبر على عدم زيارتي له قائلاً إننا إخوان ومقصدنا في خدمة الإسلام واحد وإن
كنا نختلف في بعض المسائل وذكرت أنت - الخطاب للمفتي - أن من الضروري
أن نجتمع ونتعاون على خدمة الإسلام، ولعلك تذكر أيضًا أنني اعتذرت يومئذ
للأستاذ الأكبر عن عتابه اللطيف المتواضع بأنني رجل صاحب شغل كثير فلا أجد
فراغًا للزيارات؛ ولكن فضيلته إذا دعاني في أي وقت لأجل عمل أو تشاور في
خدمة الإسلام - وهو شيخ العلماء ورئيسهم - فإنني أمتثل أمره.
ففهم الشيخان بل الأشياخ الثلاثة من هذا الجواب أن هذا الاقتراح لا يعقل أن
يقبل، وظللنا متفقين على أن أرد على التهم وحدها، وأن يُنشر ردي في مجلة نور
الإسلام بشرطه؛ ولكن الأستاذ الوكيل قال إن الرد على تلك المسائل كلها بالتفصيل
يطول واقترح الاكتفاء بمقالة واحدة، قلت: لا يمكن دحض التهم بمقالة ولا ثنتين
ولا ثلاث.
ثم اقترح الأستاذ الأكبر أن يكتب الأستاذ الدجوي اعترافًا منه بخدمة السيد
رشيد رضا للإسلام يمضيه ويُنشر في المنار، ويكتب السيد رشيد اعترافًا مثله
بخدمة الأستاذ الدجوي للإسلام يمضيه وينشر في مجلة نور الإسلام! ! ! وكانت
هفوة من الأستاذ الأكبر.
قلت: يا سبحان الله أأكون أنا صاحب الحق المعتدى عليَّ وأكلَّف أن أزكي
الجاني الطاعن تزكية تُنشر في المجلة التي نُشر فيها بهتي بالتكفير والجهل، كأنني
أقول لقرائها إنه مصيب فيما كتب، وتذكرت ما لم أكن أذكر من قول الشاعر:
ولم أر هضمًا مثل ظلم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
وقول الآخر:
وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
ولكن الأستاذ فطن لهفوته فقال بل يُنشر كل من الاعترافين في المجلتين، وفي
الجرائد الرسمية وبهذا ينتهي كل القيل والقال، أو ما هذا معناه.
قلت: قد عرفتم رأيي في الأستاذ الدجوي، وإنني لا أرى خصمًا لي فيما نحن
فيه إلا مجلة المشيخة، وإن حقي الشرعي عليها وحق قرائها أن تنشر لي ما أرد به
على ما نُشر بشرطي المقبول عندكم، وحسبي ألا أطعن فيه على شخص الدجوي
فهل أُكلَّف أيضًا أن أزكيه؟ فإن كانت المشيخة ترى من الحق والعدل أن يكتب
شيئًا يكفر به عن مطاعنه فذلك شأنها أو حق عليها، وإن كتب ما أراه مبرئًا لي فقد
أكتب خيرًا مما كتب.
ودارت أحاديث أخرى في بعض مسائل الطعن ومسألة البدعة في الأذان وأمر
الأستاذ الأكبر السيد الشنواني أن يجمع نسخ رسالة الطعن من الأزهر والمطبعة
والمكاتب ويأتي بها كلها إلى إدارة المعاهد لتحفظه فيها، فقلت: إلى متى؟ قال
الأستاذ المفتي: هذه النسخ يجب إتلافها وحرقها، ثم انصرفنا، وقد علمت أن أمر
الأستاذ الأكبر بجمع الكتاب ووضعه في إدارة المعاهد لم ينفذ وهو لا يزال يُباع في
مطبعة الدجوي وفي بعض المكاتب؛ ولكن أعطيت المشيخة 270 نسخة منه
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) [1] .
ولم يكتف الأستاذ الدجوي بهذا، بل عاد إلى الطعن علي برسالة نشرها في
جريدة الجهاد (23 من الشهر) فأرادت المشيخة أن تستأنف معي قطع مرحلة ثالثة
للصلح، لمنعي من النشر في الجرائد وأن تكون حكمًا بين الخصمين وتكررت
مخاطبتها لي بذلك مرارًا بالمسرة (التلفون) لأجل الاجتماع في إدارة المعاهد فأبيت،
ثم بعرض صحيفة لإمضائها فاستنكفت، وكان جوابي في كل مرة عين ما قررته
في المرحلة الثانية وصرحت لفضيلة الأستاذ الوكيل من قبله بأن التنازع إنما هو
بيني وبين المشيخة، فلا يصح أن تكون هي الخصم والحكم، وأن الصلح بيننا إنما
يكون بأن تنشر لي في مجلتها ما أرد به على تهمها بالشرط الذي تكرر ذكره، وأما
الشيخ الدجوي فهو من رجالها الموظفين فلها حكمها في عمله وفي كفه عن عداوته،
أو إطلاق عنانه، وهي المسئولة عنه عند الله وفي عرف عباده، والعاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) إنني رأيت كل من كلمني في هذا السعي للصلح وما وقع فيه يعتقدون أن شيخ الأزهر هو المغري للدجوي بما كتب أولاً وآخرًا، وأنه لم يكن له غرض في الصلح إلا منعي من فضيحتهم في الجرائد إذ لا يعقل أن يكون عاجزًا عن منعه من نشر الكتاب، وصرح لي أيهم أشد حرية معي بأنني خُدعت، وأما أنا فكل غرضي من مواتاتهم السماح لي بالرد في مجلة الأزهر ليعلم قراؤها الحق من الباطل، والعلم من الجهل، وهو حق شرعي وقانوني.(32/691)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال الرابع
مقدمة تاريخية للرد على مجلة مشيخة الأزهر
في تصدي المنار للإصلاح ومقاومة الشيوخ له
إن هذا التنازع والتخاصم بين مجلة المنار ومجلة مشيخة الأزهر تنازع في
مسائل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطريق فهمهما ودفع
ما يرد عليهما من الشبهات العصرية وما عارضهما من شوائب البدع، فمن حق
الأمة أن تعرفه وأن يكون لها حق الحكم فيه، وأرى من المفيد لها في أسباب صحة
الحكم أن أقدم على الرد العلمي على مسائل التهم البهتانية مقدمة تاريخية وجيزة في
تصدي المنار لإصلاح التعليم والتربية في الأزهر ومقاومة البدع والخرافات في
المسلمين وعداوة بعض الأشياخ له حملني عليها استعداء الشيخ يوسف الدجوي
مشيخة الأزهر عليَّ في مقالته التي نشرها في جريدة الجهاد يوم الأحد 23 جمادى
الآخرة وإغرائه إياها بما يرجوه من سعيها لإسقاط المنار، وهو شيء سعى له هو
وغيره من قبل فخاب سعيهم، وقد دونت هذا بالتفصيل في مجلدات المنار وفي
الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام رحمه الله.
وأذكر هنا حكاية فكاهية في الموضوع لم تُدوَّن من قبل كان قصها عليَّ أحد
علماء الجامع الأحمدي خلاصتها أن أحد وجهاء طنطا الموافقين لمذهب المنار في
محاربة البدع زار شيخ الجامع الأحمدي في أيام مولد البدوي منذ سنين خلت وكلمه
في المنكرات التي تقع في المسجد الجامع وعند ضريح السيد وما يجب عليه من
العمل لإبطالها وإنقاذ المسلمين من فضائحها التي يعيرنا بها الأجانب، فوافقه
الأستاذ على ذلك ووعده بالسعي لإبطالها بالتدريج، وبعد أن انصرف زار الشيخ
رجل آخر من القبوريين فقال له: يا مولانا الشيخ إن مجلة المنار قد فضحتنا بما
تكتبه في منكرات الموالد والتوسل بالأولياء وآل البيت فإلى متى أنتم ساكتون عنها؟
فقال له الشيخ: إننا نفكر في تأليف لجنة من العلماء لبيان أغلاط المنار المخالفة
للشرع والرد عليها.
ثم بلغنا في سنة 1335 أنه قد ألَّف بعض علماء الأزهر جمعية لمثل هذا
الغرض الذي كان وعد به شيخ الجامع الأحمدي الذي يُسمى الآن (معهد طنطا)
بعد أن أعلن الحرب على المنار اثنان منهم أحدهما الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي
والآخر المرحوم الشيخ عبد الباقي سرور، فشرعا في نشر مقالات لهما في جريدة
اسمها الأفكار، وكانت معركتهما الأولى مسألة من المسائل التي أثارها الشيخ
الدجوي في معركته الحاضرة وأشرت إليها في المقالة الأولى وهي أبوة آدم عليه
السلام للبشر وما يعارضها من مذهب دارون وقول الأستاذ الإمام إنه إن فرض
ثبوت نظريته في تعليل الأنواع؛ فإنها لا تنقض شيئًا من نصوص القرآن القطعية
فيظل القرآن فوق كل شيء.
فلما رأيت أن مطاعنهما تدل على أنهم يكتبان ما لا يعتقدان وما لا يفهمان
بمحض البغي والعدوان، دعوت البادئ منهما وهو الشيخ عبد الباقي إلى المذاكرة
والمناظرة في المسألة بالمشافهة ومعاهدة الله على الأخذ بما يظهر من الحق وإلا
رفعت عليه قضية إلى محكمة الجنايات، فأبى المناظرة فرفعت القضية وفي يوم
الجلسة حضر المحكمة كثير من علماء الأزهر، وانتهت القضية بالصلح الذي ساء
أولئك الشيوخ فقالوا له: والله إن الحكم عليك بأشد العقوبات كان يكون خيرًا لك من
هذا الصلح المخزي.
ولقد كان عفا الله عنه ذكيًّا قريبًا من مذهب المنار الإصلاحي بمقدار بُعد زميله
عنه؛ وإنما دفعه إلى الطعن حب الشهرة، وقد عاد بعد أمة من الزمن لما كان سبق
له من مودتي، ولما كتبت مقدمة المغني في أسباب خلاف الأمة في الفقه وبيان
المخرج من مضاره وما يجب على جميع المسلمين من أحكام الإسلام، وما لا يجب
إلا على من ثبت عنده، قال لي إنه لم يكتب مثلها في الإسلام وهي جديرة بأن
يطبع منها مئات الألوف من النسخ ويطَّلع عليها جميع طلاب العلم الإسلامي.
وخاف الأستاذ الدجوي أن أرفع عليه قضية تنتهي بحكم مهين، أو صلح
مخزي مبين، فتوسل إلى بعض أهل الفضل بالسعي لصلح شريف بالجمع بيننا
فاجتمعنا واعتذر الأستاذ عما كان يكتبه بأنه كان عن سوء فهم لا عن سوء قصد،
وأن سببه أن الذي قرأ له عبارات المنار عرف بعضها وأعرض عن بعض ... إلخ،
فقلنا عفا الله عما سلف.
ثم إن الأستاذ الدجوي نقض الصلح الأول كما نقض الصلح الأخير في هذه
الأيام، وألَّف جمعية للبحث عن هفوات المنار لأجل الطعن والتشهير، وما هو شر
منهما من استعداء مشيخة الأزهر والحكومة على صاحب المنار للانتقام منه، وهذا
ما يحاوله اليوم بما له من المكانة في هيئة كبار العلماء، والقلم الطعان في مجلة
المشيخة الرسمية، وبما للمشيخة من النفوذ في الحكومة.
ولكن المشيخة كانت أعقل منه وأعلم بسوء تأثير كلامه وما فيه من العار عليها
وعلى الأزهر إذا أقرته، فقد سعت لانتياشه مما تهوك [1] فيه فعجزت عنه فلم
تستطع منعه من استمرار الطعن في أثناء المفاوضة في الصلح ولا بعد عقده،
لضعفها عن تنفيذ سلطتها الرسمية عليه، حتى أن رئيسها الأستاذ الأكبر أمر بجمع
الرسالة البذيئة ووضعها في إدارة المعاهد وصرَّح بتألمه منها فلم ينفذ أمره - كما
تقدم - وهو مرءوس له وموظف عنده، وأجدر بعجز الرئيس عن المرءوس فيما
هو صريح حقه عليه في قانون الأزهر أن يكون مثار العجب، فهل سببه قوة
الإرادة وضعفها، أم هنالك قوة خفية يعتز المرءوس بها، ومن مظاهر هذا العجز
أن يكون الغرض من الصلح إقناعه بالكف عن هذه الكتابة التي لا تسلم المشيخة من
عارها، بل لا يُعرف في تاريخ الأزهر وسيرة شيوخه مثلها، وأن يكون هذا
الصلح بأخذ وثيقة مني بدفن الماضي قبل أن تظهر براءتي من مطاعنه، وأن
ترضى المشيخة بجعل الرد عليها وعلى مجلتها دونه، وأن يظل هو مع هذا كله
يستعديها علي، ويوجب عليها الانتقام مني، ويصفها بقوله: (وهي المشرفة على
جميع المسائل الدينية وصاحبة السلطان على ذويها بنص القانون) كأن قانون
الأزهر وُضع للسيطرة على غير أهله، والانتقام لشيوخه من غيرهم بالباطل [2]
فكانت المشيخة بسعيها هذا كمن يحاول إنقاذ الغريق فغرق معه، فهي إنما رغبت
إلي بأن أنقذها وأنقذه، وقد علمت الأمة أنني واتيت، ثم عجزت بعجزها فانثنيت،
وأمسكت عن بيان الحق شهرًا ونصف شهر.
وأما هو فرأيي في عداونه الأخير كرأيي في عدوانه الأول سنة 1335، ولولا
أن كان عدوانه هذا في مجلة مشيخة الأزهر الرسمية، وأن كان الساعي للصلح معه
الأستاذان الأكبران: شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية، لاجتنبت ذكر
اسمه اليوم كما اجتنبته من قبل حفظًا لكرامة الأزهر وكرامتي كما عللت ذلك في
وقته، ورأيي في جمعيته واستعدائه اليوم هو رأيي في مثلهما بالأمس، ومنه أن
مثلي لا يرد على مثله؛ لأنني لا أستطيع أن أناظره بمثل هجوه الذي أتنزه عن
وصفه، لئلا يقال إنني شاركته في شيء منه ولو بتسميته باسمه؛ ولأنه يفتري
التهم، ويحرِّف الكلم، ويقول ما لا يعلم وما يعلم خلافه، وذلك لا يمكن أن يكون
خدمة للعلم ولا لبيان الحق، وسيرى القراء الشواهد على هذا فيما ننشره من الرد،
ولو أنني أعرف كلمة في اللغة أخف من الافتراء والتحريف تؤدي معناهما لما
كتبتهما، وأحمد الله أن رضيت المشيخة بجعل الرد على مجلتها لا عليه؛ لأنه
يغنيني عن عزو كلامه إليه.
وإنني أنقل للأمة في جرائدها ما كتبته بشأن عدوانه الأول في فاتحة المجلد
العشرين من المنار الذي صدر في شوال سنة 1335 بعد بيان مذهب المنار في
الإصلاح وهذا نصه:
كلمة المنار في المجلد العشرين سنة 1335
تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشِّر بما
يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفطر، وكالصواعق المحرقة
على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون فصبرنا
لله بالله، ولم نكن كمن أوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا
بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين فقلنا: {سَلامٌ
عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًّا،
أضر بنا ضررًا جليًّا، إذ حجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك
وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حمد الدعوة كل من عرفها من طلاب الإصلاح،
وأهل الروية والاستقلال.
وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة، فقليل من الشيوخ وكثير من
الشبان يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في هذا الزمان، وكثير من الشيوخ
والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد، ورمي جماهير علماء العصر
بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون بأمور معيشتهم، وبمطالعة
دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار لتقريظ أو انتقاد، وعن كل
ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد.
وقد دخل المنار في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام
في هذا العام شاب متخرج في الأزهر فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سب
فيها صاحب المنار وكفَّره، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر،
على أن المنار قد صرَّح بإثبات هذه الأبوة تصريحات آخرها ما في الجزء الأول
من المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين،
ويعلم كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومن لا يزعه هدي
القرآن عن السب والكذب والبهتان، قد يزعه عقاب السلطان، لهذا رفع أحد كبار
المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرنا بذلك كاتب
المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رحمه وصحبه بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه،
فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب وتماديًا في الطعن والسب؛ ولكنه جنح في
المحكمة للسلم، وطلب هو وصاحب الجريدة من رئيسها الصلح، على أن يعتذرا
عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار وآرائه
الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك منهما،
وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما، ولا قيمة
عندي لمثل هذا الكلام؛ فإنه مما يقال لصاحبه سلام؛ وإنما ذكرناه في فاتحة المنار
التي نشير فيها عادة إلى ما تجدد في تاريخ الإصلاح تمهيدًا لذكر ما قيل إنه ترتب
على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية لأجل البحث عن أغلاط المنار الدينية
والعلمية وبيانها للناس وللحكومة المصرية، ذكرت ذلك الجريدة التي وقفت نفسها
على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه إبطال المجلة أو إخراج
صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من حقائق العلوم الأزهرية
ما ليس عند صاحب المنار الذي تلقى العلم في البلاد السورية، فنقول للواهمين،
ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم من كنه علم الأزهر ما لا تعلمون،
فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة؛ ولكننا
كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر، فلهذا
ندعو قراء المنار في كل عام إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط والأوهام
لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلف لجنة من علماء
الأزهر تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتحصي ما تراه من الأغلاط المتفق
عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن نتحرى في ذلك ما يليق بكرامة أهل
العلم من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء، والسخرية
والاستهزاء، وإننا نعد ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين أعظم خدمة للمنار
يخدم بها العلم والدين، ونعد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين مغبوطين، مقرين
إياهم على ما نراه فيه من الصواب، مبينين ما نراه من الخطأ مع التزام الآداب،
وترديد عبارات الحمد والشكر، التي تبقى بقاء الدهر، ولثواب الله خير للذين
يُصلحون في الأرض ولا يفسدون، والذين هم على البر والتقوى يتعاونون
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
وإننا على ضعف أملنا بتحقيق تلك الأمنية، واحتقارنا لكل ما يكتب بجهالة
وسوء نية، ليحزننا أن يقوم في الأزهر بعض علمائه، ورئيس جمعية من جمعياته
ينتقم ممن يقاضي بعض أصحابه بافتراء الكذب عليه [3] ، ونسبة ما ينقله عن غيره
إليه [4] وتحريف آيات القرآن، استدلالاً بها على ما رماه به من الكفر والفسوق
والعصيان [5] بذلك الكذب والبهتان، الذي زاد فيه على ما سبقه إليه ذلك الطعان؛
وإننا لنكرم كلاًّ من المنار والأزهر بعدم ذكر اسمه، وعسى أن يثوب إلى رشده
ويتوب من إثمه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ
خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ
وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) .
انتهى ما نقلناه من مقدمة المجلد العشرين من المنار، وكأنه كتب في هذه
الحادثة، وما أشبه الليلة بالبارحة.
هذا وإنني أختم هذه المقدمة بالتنويه بأولئك الشيوخ الكبار الذي كنا ننتقدهم فيما
نكتبه في إصلاح الأزهر؛ فإنهم لم ينقموا من المنار صده عن البدع والخرافات،
ولا ما كتبه في افتتان الناس بالكرامات، ولا إنكار عبادة الأموات، ولا طعن أحد
منهم في ديننا، ولا بهتنا ولا افترى علينا، فرحم الله من مات منهم وأطال عمر من
بقي، كالأستاذ العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الذي لم نصرح في المنار
بمناظرة أحد منهم غيره؛ وإنما كانت مناظرة علم، لا عداء فيها ولا إثم، وقد أثنى
خيرًا على مقدمتنا للمغني آكد الثناء، وهي خلاصة رأينا في الإصلاح [6] .
وقد حاول الخديو أن يحمل بعض الكبار من أولئك العلماء على طعن في المنار
يتوسل به إلى نفي صاحبه من مصر، فأبوا ذلك عليه على ما يعلم الناس من
ضعفهم أمامه، فلم يصل الضعف بهم إلى مثل هذا العدوان على عالم يخدم الدين
بعقيدة وإخلاص، احتمل في سبيلهما عداوة الخديو والسلطان، وسترى الأمة في
المقالات الآتية مبلغ المعتدي عليه من العلم والدين الآن.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الانتياش: من النوش، وأصل معناه التناول، واستعمل الانتياش في الإنقاذ من الهلكة وما في معناها، قال ابن دريد:
إن ابن مكيال الأمير انتاشني ... ... من بعد ما كنت كالشيء اللقا
واللقا: الذي يلقى ويهمل لأنه لا قيمة له. والتهوك: التهور والتحير، وتهوك في الشيء: وقع فيه بلا مبالاة ولا روية، واضطرب في القول وجاء به على غير استقامة.
(2) ألَّف طالب علم نجدي مجاور في الأزهر كتابًا في الرد على الشيخ الدجوي عجز عن الرد عليه سماها (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية) فانتقمت له المشيخة منه بقطع رزقه من الأزهر وفصله من الانتساب إلى الأزهر، وروي لنا أن الأستاذ الأكبر سعى لدى الوزارة لمصادرة الكتاب فامتنعت؛ ولكن مجلة المشيخة كذَّبت هذا الخبر وخبر محاولتها شراء كتاب الطالب النجدي، وقد يكون المخبر أصدق من المجلة بدليل افترائها علينا في ديننا وهو لا يستحل هذا.
(3) ادعى أن صاحب المنار قال إن آدم عليه السلام من سلالة القرود، وإنه ليس أبًا لجميع البشر - وهذا كذب وافتراء - وادعى أنه عضو في لجنة أُلِّفت لنشر كتب شميل وهذا كذا كذب مفترى أيضًا.
(4) عزا إلى صاحب المنار أقوالاً في خلق الإنسان، وفي تكفير من يحكم على السارق بغير الحد الشرعي وتلك الأقوال من منقول المنار لا من أقوال صاحبه بل مخالفة لها اهـ من الأصل.
(5) استدل بآيات سورة الممتحنة في النهي عن موالاة أعداء الله على ضد ما تدل عليه وأهمل ما قيدته به السورة من كونه فيمن قاتلونا في الدين إلخ اهـ من الأصل.
(6) قد نشرنا هذه المقدمة في كتابنا (الوحدة الإسلامية) .(32/698)
الكاتب: محمد بهجت البيطار
__________
نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351
في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام
تابع لما نشر في الجزء الماضي وما قبله
58- بر الوالدين وتفضيل الأمهات فيه على الآباء
أوصى الله تعالى في مواضع من كتابه بالإحسان بالوالدين وقرنه بالأمر
بعبادته والنهي عن الشرك به، وأمر بالشكر لهما متصلاً بالشكر له، وخصَّ الأم
بالذكر في بعض هذه الوصايا للتذكير بزيادة حقها على حق الأب، ونذكر ههنا
أجمعها.
قال تعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل
لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} (الإسراء: 23) .
(الأفُّ) كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما، ويقال لكل
مستخف به استقذارًا واحتقارًا له كما قال الراغب وكذا لكل ما يتضجر منه، يقال:
تأفف به: إذا قال له: أف، ومنه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ
وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي} (الأحقاف: 17) وخصَّ هذا النهي بحالة كبر
الوالدين أو أحدهما؛ لأن الكبر مظنة وقوع ما يتضجر منه أو يستقذر منهما، وهو
يدل على تحريم ذلك في غير هذه الحالة بالأولى، والنهر والانتهار: الزجر بغلظة
وخشونة، والكريم من الأقوال: آدبها وألطفها، ومن الأعمال أنفعها وأشرفها، ومن
الأشخاص أفضلهم وأجلهم.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
* رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} (الإسراء: 24-25) .
يعبِّر عن العطف في المعاملة بخفض الجناح، وأصله أن الطائر يخفض
جناحه لفرخه يقيه به تارة ويعلمه الطيران أخرى، وخفض الجناح من الذل أبلغ
من خفضه لأجل العطف، فهذا من رعاية الكبير للصغير ومنه قوله تعالى لرسوله:
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215) وذاك من عناية
الصغير بالكبير، ولم يؤمر أحد به لغير الوالدين، وفي تشبيه ما أمر الولد أن
يطلبه من رحمة ربه لوالديه برحمتهما له عندما ربياه في صغره تعظيم كبير لرحمة
الوالدين ليتدبر الأولاد ذلك ويعلموا أن رحمتهم لوالديهم في الكبر والتذلل لهما لا
يكفي في أداء حقوقهما؛ وإنما عليهم أن يدعوا الله تعالى أن يكافئهما عنهم برحمته
التي وسعت كل شيء ولا يعلوها شيء، ذلك بأن رحمة الوالدين للولد في صغره
ولا سيما الأم التي تتولى إزالة أقذاره وغير ذلك إنما تكون مع اللذة والرغبة
والسرور، ولن تبلغ رحمة الولد بهما هذا الحد.
ولما كان بلوغ هذا الحد من البر والإحسان بالوالدين عزيز المنال ذكَّر الله
عباده بأن المدار فيه على حسن النية وصلاح النفس، فإن وقع مع ذلك تقصير ما
فإنه لا بد أن يُقرن بالتوبة وحسن الأوبة إلى التشمير بعد التقصير، والله تعالى
غفور للأوابين أي الكثيري الرجوع إلى الحق والخير كلما عرض لهم ما يصدهم
عن المضي فيه أو الثبات عليه.
وقال تعالى في سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ} (لقمان: 14) .
الوهن: الضعف، أي ذات وهن أوتهن مدة حمله وهنًا على وهن بالوحم
والأثقال والوضع، وفصاله أي فطامه في انتهاء عامين يكون كل همها فيهما إرضاعه
وتغذيته وتنظيفه، والجملتان معترضتان بين الوصية والموصى به وهو الشكر لله
الذي خلقه ولوالديه اللذين عُنيا بتربيته ولا سيما الأم التي كانت أكثر تعبًا وعناية به،
فقرن شكرهم بشكر الله تعالى وجعله ثانيه للإيذان بأن فضلهما عليه يلي فضل ربه
وقوله بعده: {إِلَيَّ المَصِيرُ} (لقمان: 14) تذكير بأن جزاء الشكر وضده في
الآخرة لله وحده.
{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا
فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15) .
هذه الآية أدل على عظم حق الوالدين على الولد؛ فإن الله يأمره بها أن
يصاحب والديه المشركين في الدنيا بالمعروف من البر والإحسان إلا في شركهما
وما يلزمه من معاصي الله تعالى، فإن جاهداه على أن يشرك بالله تعالى فلا يطعهما
لأن حق الله تعالى عليه أكبر من حقهما وتوحيده، وطاعته هي الوسيلة إلى سعادته
ونعيمه الذي لا نهاية له، وقوله:] وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [أي واتبع في الدين
سبيل من أناب إليَّ من النبيين والمرسلين، ومن اهتدى بهم من المؤمنين دون تقليد
الآباء الكافرين قال:] ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [أي مرجعك ومرجع والديك] فَأُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [عند حسابكم وأجازي كلاًّ بما يستحق، فعليَّ حساب والديك وجزاؤهم
لا عليك، والآية نص في البر والشكر للوالدين الكافرين فيما عدا الكفر ولوازمه فهي
أرحم مما ينقله النصارى عن المسيح عليه السلام من التفرقة والعداوة بين الوالدين
والأولاد.
ففي إنجيل متى: (10: 34 لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض
ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد
أمها والكنة ضد حماتها 36 وأعداء الإنسان أهل بيته) .
وأما قول الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ} (التغابن: 14) فقد نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا فأبى أزواجهم وأولادهم أن
يدعوهم، ومع هذا فقد قال الله تعالى فيهم: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التغابن: 14) .
وقال في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف:
15) .
ثبتت القراءة بلفظ الإحسان ولفظ الحسن، وبفتح الكره وضمه ومعناهما واحد
(كالضعف والضعف) وهو المشقة، وهو أقسام منها ما يكرهه الإنسان ويشق عليه
طبعًا وإن أحبه عقلاً أو شرعًا وبالعكس كالدواء والصبر على المكاره، ومنه قوله
تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: 216) وكره الأم لمشقات الحمل
والوحم طبيعية لا عقلية ولا شرعية ولا فطرية، وقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) معناه أن مدة تعب الأم في حمله إلى فطامه
ثلاثون شهرًا، وهو مبني على أن مدة الرضاعة الغالبة 21 شهرًا وهو ما كان عليه
الناس في الغالب لا أنه تشريع، إلا تحديد أكثر الرضاعة بسنتين في آية البقرة؛
فإن الأم لا تكلف أن ترضع طفلها أكثر من ذلك؛ لأنه بعد اكتمال السنتين لا
يضره التغذي بغير لبنها مما جرت العادة والتجربة بتغذي الأطفال به، ويوجد في
هذا العصر من الألبان الحيوانية المجمدة أو المجففة ومن المستحضرات الأخرى
(كالفوسفاتين) ما يوافق كل طفل في كل وقت ولم يكن هذا في زمن التنزيل، على
أن لبن الأم أفضل وأنفع بإجماع الأطباء.
59- الأحاديث النبوية في وجوب بر الوالدين
وتحريم عقوقهما وتخصيص الأم بترجيح حقها
جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك،
قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم
أبوك) وفي رواية زيادة (ثم أدناك فأدناك) .
وفي حديث المقدام بن معد يكرب عند أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن
ماجه وصححه الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم
يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب) .
وفي حديث أبي رمثة عند أحمد وأصحاب السنن الثلاثة والحاكم واللفظ له قال:
انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (أمك وأباك ثم أختك
وأخاك، ثم أدناك أدناك) فقدم ذكر الأخت على الأخ أيضًا.
وفي حديث عائشة عند أحمد والنسائي والحاكم وصححه قالت: (سألت النبي
صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى
الرجل؟ قال: أمه) .
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والحاكم أن امرأة
قالت: (يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري
له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت
أحق به ما لم تنكحي) .
وفي حديث أنس عند القضاعي والخطيب في الجامع: (الجنة تحت أقدام
الأمهات) وفي معناه ما رواه الطبراني عن طلحة بن معاوية السلمي قال: (أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله،
قال: هل أمك حية، قلت: نعم، قال: الزم رجلها فثم الجنة، وقال لرجل آخر
مثله: فالزمها فإن الجنة عند رجلها) ورواية أخرى في الوالدين كليهما وأنه قال له:
(فالزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما) وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن
عمرو: أنه قال لرجل استأذنه في الجهاد: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما
فجاهد) .
هذه بعض شواهد البر، وأما العقوق فقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقوق
الوالدين من أكبر الكبائر وخص الأمهات بالذكر فقال: (إن الله حرم عليكم عقوق
الأمهات ومنعًا وهات ووأد البنات [1] وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة
المال) رواه البخاري من حديث المغيرة، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم
بأكبر الكبائر - ثلاثًا - قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق
الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول
الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلنا: لا يسكت) وفي رواية حتى
قلنا: ليته سكت، أي لما رأوا من انزعاجه؛ وإنما كررها لعرضة المتهاونين
بالدين للاستخفاف بها، بخلاف ما قبلها والحديث متفق عليه.
60- الأحاديث النبوية في الوصية بالبنات والأخوات
عن عائشة قالت: (دخلت عليَّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئًا
غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت
فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: من ابتلي من هذه
البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار) رواه البخاري ومسلم والترمذي
وفي لفظ: (من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابًا من النار)
الابتلاء: الاختبار بما يظهر به التزام الحق والشرع أو عدمه، وكانت العرب كأكثر
الناس يكرهون البنات فلذلك احتيج في القيام بحقوقهن من التربية والإحسان إلى
الصبر، وعنها قالت: (جاءت مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات،
فأعطت كل واحدة تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها، فشقت
التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها
من النار) رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه) أي معًا.
رواه مسلم واللفظ له والترمذي ولفظه: (من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة
كهاتين) وأشار بأصبعيه وابن حبان في صحيحه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (من عال ابنتين أو ثلاثًا أو أختين أو ثلاثًا حتى يبلغن أو يموت عنهن
كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها، وعن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما
صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح وابن حبان في
صحيحه من رواية شرحبيل عنه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وعن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كفل يتيمًا له ذا قرابة أو لا قرابة له
فأنا وهو في الجنة كهاتين، وضم أصبعيه، ومن سعى على ثلاث بنات فهو في الجنة
وكان له كأجر مجاهد في سبيل الله صائمًا قائمًا) رواه البزار من رواية ليث بن
سليم.
وروى الطبراني عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(ما من مسلم يكون له ثلاث بنات فينفق عليهن حتى يبلغن أو يمتن إلا كن له
حجابًا من النار، فقالت له امرأة: أو بنتان؟ قال: أو بنتان) وشواهده كثيرة،
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له
ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله
الجنة) رواه الترمذي واللفظ له وأبو داود إلا أنه قال: (فأدبهن وأحسن إليهن
وزوجهن فله الجنة) وابن حبان في صحيحه، وفي رواية للترمذي قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا يكون لأحدكم ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن
إلا دخل الجنة) .
(أقول) تحدثًا بالنعمة، ومنها أننا أهل لحسن الأسوة: نحمد الله تعالى أننا
أهل بيت نعنى بتكريم بناتنا فوق ما نعنى بإخوتهن مع اتقاء الظلم الذي يثير الغيرة
والعداوة بينهما، فلا تُشتَم في بيتنا أنثى ولا تُضرب، وقد خَوَّفت أم بنتًا ذات ثلاث
سنين أو أربع بضرب أبيها فقالت: إنه لا يضربني، قالت: وماذا يفعل إذا أخبرته
بعنادك هذا؟ قالت: يحايلني، أي يصرفني عنه بالحيلة والإقناع، ويثقل على
ذوقي أن أذكر غير هذا مما من الله تعالى به علينا من بر والدينا وصلة أرحامنا
وتكريم نسائنا، إلا أنني أقول إنهن يعتقدن أنهن أسعد النساء وأن رجالهن أفضل
الرجال، وما هذا إلا باتباع هداية الإسلام مع العلم الصحيح بها، ولله الحمد.
الخاتمة
ألا يا معشر الجنس اللطيف:
ها أنتن أولاء قد علمتن من هذه الرسالة الوجيزة أن محمدًا رسول الله وخاتم
النبيين قد جاء بدين قويم، وشرع حكيم رحيم رفع حيف الرجال عنكن، وامتهانهم
لَكُنَّ، في جميع الأمم القديمة والحديثة، وأتباع الملل السماوية والقوانين الوضعية،
وأن الاهتداء بما جاء به يذهب بما بقي من الظلم لبنات جنسكن في بلاد الحضارة
المادية، التي يشكو أخواتكن من مصائبها وأرزائها ولا يهتدين إلى النجاة منها سبيلاً،
وشرها عليهن وعلى الإنسانية إباحة البغاء، والتسري الباطل باتخاذ الأخدان،
والإتجار بأبضاع النساء بسوقهن كالشاء والخنازير من قطر إلى قطر، وقذفهن من
حضن إلى حضن، فيا حسرة الإنسانية عليهن، ويا لمصائب الفضيلة بهن.
إن الإصلاح الإسلامي المحمدي يقضي بأن يكون لكل امرأة كافل شرعي
يكفيها كل ما يهمها لتكون بنتًا مكرمة فزوجًا صالحة، فأمًّا مربية، فجدة معظمة،
ومن حُرِمَتْ الزوجية أو الأمومة، لم تُحْرَمْ الكفالة والكرامة، ولو نفذ شرعه في
أوربة والبلاد المرزوءة بنفوذها وسيطرتها، لزال منها البغاء الرسمي والتسري
العهري، ولَمَا وُجد في أوربا عشرات الملايين من الأيامى المحرومات من الحياة
الزوجية ومنهن من ينفقن على أنفسهن وعلى أولاد لهن شرعيين وغير شرعيين،
فمصائب النساء ورزاياهن في تلك البلاد بالنسة إلى مجموعهن أعظم من رزاياهن
في البلاد التي فتن نساؤها بتقليدهن في الخلاعة والإباحة وطلب مساواة الرجال،
وأولئك لم يطلبن هذه المساواة بالرجال في كل شيء، إلا لأن الرجال قد حرموهن
حقوقهن الإنسانية التي قررها الإسلام.
لو علم نساء الإفرنج في العالمين القديم والجديد أحكام الشريعة وآدابها،
ودونت لهن بصورة قانون تظهر به مزاياها، لألَّفن الأحزاب والجمعيات للمطالبة
بها، وإنقاذ الحضارة من فتنة في الأرض وفساد كبير بيَّناه في هذه الرسالة، فهل
للمتعلمات من المسلمات في مصر وغيرها أن يدرسن هذا الموضوع، ويسبقن إلى
الدعوة إلى هذا المشروع، فهو خير لهن ولأمتهن وللإنسانية من افتتانهن بتقليد
نساء الإفرنج فيما يطلبن من إعطائهن حق مساواة الرجال في كل أسباب الكسب
والتصرف في الأموال، والدفاع عن الأوطان، ومجالس التشريع ودواوين الإدارة،
وأخاديع السياسة، وكذا حقوق الزواج والطلاق والحمل والرضاع حتى إذا أبين
وظائف الحبل والولادة لا يكرهن عليها.
لا خير للجنس اللطيف في مساواة الرجال ومشاركتهن لهم فيما يصدهن عن
حق الإنسانية عليهن في بقائها بالتناسل وتربية الأطفال التي يرتقي بها البشر،
وقيام النساء بهذه الوظائف يتوقف في هذا العصر على علوم وفنون كثيرة روحها
جميعها الإصلاح الإسلامي كما بيَّناه في مسألة المساواة وغيرها.
أيتها النسوة المسلمات المتعلمات
دعن فتنة السياسة، واخلعن تقاليد الخلاعة، وطالبن أمتكن وحكومتكن بعد
مطالبة أنفسكن بتربية البنات والبنين، على هداية هذا الدين المبين، والإصلاح
المحمدي العظيم، طالبن الحكومة والأمة بإلزام طلبة المدارس من الذكور والإناث
أداء الصلاة والصيام، والتوسع في دروس الدين الإسلامي وآدابه وتاريخه ووجه
تفضيله على جميع الشرائع والأديان، على الطريقة التي ترينها في هذه الرسالة.
طالبن الحكومة بإبطال البغاء الجهري والسري، وتحريم معاقرة الخمر ومنع
تهتك النساء واختلاطهن بالرجال في المراقص والملاهي والسباحة معهم في
الحمامات البحرية.
عدن إلى ما كان عليه خير جداتكن في صدر الإسلام من حضور صلاة الجماعة
في المساجد، وسماع ما يُلقى فيها من الخطب والمواعظ، وتلقي علم القرآن والسنة،
ومساعدة الرجال في الإصلاح الحق الذي ينهض بالأمة، ليظهر لسائر الأمم ولا
سيما نسائها ما امتاز به الإسلام من الإصلاح العام للإنسانية، حتى يعلمن أن نبيها
محمدًا صلى الله عليه وسلم هو مصلح النساء الأعظم، وأنه لو لم يكن رسول الله
وخاتم النبيين الذي جاء بإكمال دين الله الذي شرعه على ألسنة من سبقه من
المرسلين، لما جاء للإنسانية بخير مما جاءوا به كلهم أجمعون، فتكنَّ بذلك
شريكات لإخوتكن المجددين لهداية الإسلام وصلى الله على سيدنا محمد وآله وعلى
سائر النبيين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) العقوق: الإيذاء الشديد من قول أو فعل أو ترك، ولا يدخل في العقوق المحرم مخالفتهما فيما يطلبان من معصية الله تعالى وتحكم الهوى المحض فيما يضر الولد كطلاق امرأته أو منعها حقها عليه، ووأد البنات: دفنهن في الحياة وتقدم، ومنعًا وهات معناه منع الحق وطلب ما ليس بحق.(32/705)
الكاتب: زكي علي
__________
عدد المسلمين في أنحاء العالم
395 مليونًا و758 ألفًا
بقلم الدكتور زكي علي
المقيم في بلدة مادن - النمسة
لا يلبث الباحث في إحصائيات المسلمين في أنحاء العالم أن يبيِّن اختلافًا كثيرًا
وخطأ كبيرًا فيما دوَّن الكُتَّاب والجغرافيون الذين عُنوا بوضع إحصاء شامل لعدد
المسلمين على وجه الأرض، وجل هؤلاء الكتاب من الغربيين، وقد وجدنا أثناء
قيامنا بمثل هذا البحث تضاربًا عظيمًا في الآراء وخطأ شنيعًا في كثير من الأرقام
التي ذكرها المدونون حتى في السنوات الأخيرة أمثال المسيو ماسينون المستشرق
الإفرنسي والدكتور زويمر وغيرهما، فمعظم تلك الأرقام دُون الحقيقة بكثير، وإن
كنا نقرِّر من باب الإنصاف أن معلوماتنا عن عدد المسلمين في كثير من البقاع التي
لا يعرف عنها سوى النذر اليسير مثل أواسط أفريقيا ومجاهلها قد وصلتنا عن طرق
المبشرين المسيحيين الكاثوليك أو البروتستانت الذين توغلوا في تلك البقاع بقصد
الدعاية للمسيحية فالتقوا بالمسلمين هناك، ثم أذاعوا تعدادهم.
ومن أمثلة هذا الخطأ أن بعض المؤلفين لا يزال يذكرون أن عدد المسلمين في
مصر تسعة ملايين مع أنه في الواقع أكثر من ثلاثة عشر مليونًا، وأن عدد مسلمي
أندونيسيا 25 مليونًا مع أن الإحصاء الهولندي الرسمي لها كان 45 مليونًا عام
1920، ثم أصبح 64 مليونًا في الإحصاء الأخير لعام 1930، ويكفي للدلالة على
ازدحام السكان بها أنه يوجد 314 شخصًا لكل كيلو متر مربع، ثم عدد المسلمين
في شبه جزيرة العرب التي تشتمل الحجاز ونجد والعسير واليمن وعمان
وحضرموت وما جاورها والكويت وجزائر البحرين ويقدِّره بعض الكُتاب بثمانية
ملايين وهو في الحقيقة يربو على اثني عشر مليونًا [1] ، كذلك الخطأ الفاحش في
تقدير عدد المسلمين في أفريقيا فبينما يذكر مصدر فرنسي أن عددهم 45 مليونًا
يذكر مصدر ألماني أنه 75 مليونًا غير أن الحقيقة أن المسلمين في القارة الأفريقية
يزيد عددهم عن 85 مليونًا كما سنرى فيما بعد معتمدين على الإحصاءات الرسمية
الحديثة وأقوال المكتشفين وعلماء الجغرافيا من الأوربيين أنفسهم.
ثم إن ما يقال عن أفريقية يصح أن يقال أيضًا عن تعداد المسلمين في الصين
فمن العجب أن يرتكب بعض الكُتَّاب غلطة شنيعة فيذكر عددهم بها عشرين مليونًا،
في حين أن بعض المنصفين ممن كتبوا حديثًا يذكر أنهم ستون مليونًا أو يزيدون.
ويضيق بنا المقام عندما نسترسل في سرد الأمثلة للاستدلال بها على خطأ كثير
إنما نذكر من بين أسباب هذا الخطأ اعتماد بعض الكتاب في إحصائياتهم على
مصادر كُتبت منذ عشرات السنين مع أن عدد السكان في ازدياد مطرد، ثم العوامل
التي حدت بهم إلى وضع ذلك التعداد وأكثرها عوامل دينية للمقارنة بين الإسلام
والمسيحية لأغراض تبشيرية فتمالوا عن ذكر الحق وذكروا أرقامًا هي أقل بكثير
من الحقيقة وانتهوا إلى أن عدد المسلمين في العالم يتراوح بين 200 و520 مليونًا
فقط، فلذلك لم نجد بدًّا من التحرير الدقيق للتعداد الحقيقي ويجدر بنا في هذا المقام
التنويه بمقال مسهب كتبه الأمير شكيب أرسلان في مجلته الفرنسية (لانسيون
آراب) محص فيه الحق في هذا الصدد كما صحح كثيرًا من الأغلاط التي وردت
في إحصائيات الأوروبيين بالدليل القاطع.
وسنذكر فيما يلي تفصيل عدد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مستندين
إلى أحدث الإحصائيات المضبوطة في الممالك التي يوجد فيها تعداد رسمي، أما
البلاد الإسلامية التي تفتقر إلى إحصاءات رسمية، أو البلاد العربية التي يوجد فيها
أقليات إسلامية فقد اعتمدنا على المعلومات الصحيحة التي استقيناها من الهيئات
والجمعيات الإسلامية ذوات النفوذ فيها والتي تعتبر أوثق المصادر، وها هو ذا
البيان:
أفريقيا
مصر والسودان 18 مليونًا وخمسمائة ألف نفس.
طرابلس: 885 ألفًا.
تونس: مليونان.
الجزائر: خمسة ملايين.
مراكش: ثمانية ملايين.
الصحراء الكبرى: ثلاثة ملايين.
الحبشة: أربعة ملايين.
الصومال وإرتريا: مليونان وخمسمائة ألف نفس.
زنجبار: ثلاثمائة ألف.
كنيا وأوغندة وتنجانيقا: ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف.
موزنبيق: ثلاثمائة وخمسون ألف نفس.
مدغشقر: سبعمائة ألف.
جزر الاتحاد وسيشل وموريس: 65 ألف نفس.
جنوب أفريقيا: أربعمائة ألف نفس.
الكنغو البلجيكية: ثلاثمائة ألف نفس.
الكمرون وتشاد: مليون وخمسمائة ألف نفس.
سوكوتو: 15 مليونًا.
ليبر: مليون ومائتا ألف.
النيجر: مليونان وخمسمائة ألف.
ساحل العاج: مائتان وخمسون ألفًا.
ساحل الذهب: تسعون ألفًا.
نيجيريا البريطانية: تسعة ملايين وخمسمائة ألف.
داهومي: مائة ألف.
غينا الفرنسية: مليونان ومائة ألف.
فوتاجالون: خمسمائة وخمسون ألفًا.
السنغال: مليون نفس.
السودان الفرنسي: ثمانمائة ألف.
غينا البرتغالية: سبعون ألفًا.
غمبيا البريطانية مائة وخمسون ألفًا.
سيراليون: ثمانمائة ألف.
مجموع هؤلاء 86 مليونًا ومائة وعشرة آلاف من النفوس.
آسيا
شبه جزيرة العرب: 12 مليونًا.
سوريا ولبنان: ثلاثة ملايين.
فلسطين وشرق الأردن: مليون.
العراق: ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف.
تركيا (آسيا وأوروبا) : 14 مليونًا.
إيران: عشرة ملايين.
أفغانستان: تسعة ملايين.
الهند: 87 مليونًا.
الصين: 75 مليونًا.
روسيا (آسيا) : 25 مليونًا.
سيام: خمسمائة ألف.
أندونيسيا والملايو: 66 مليونًا.
ومجموع هؤلاء 306 ملايين نفس.
أوروبا
روسيا (أوروبا) : ستة ملايين.
يوغوسلافيا: مليونان.
ألبانيا: تسعمائة ألف.
بلغاريا: ستمائة وتسعون ألفًا.
رومانيا: ثلاثمائة ألف.
فرنسا: مئتا ألف نفس.
اليونان: مئة وثمانون ألفًا.
إنجلترا: ثلاثون ألفًا.
بولنده ولتوانيا: عشرون ألفًا.
أسبانيا: عشرون ألفًا.
المجر: خمسة آلاف.
البلجيك: خمسة آلاف.
إيطاليا: أربعة آلاف.
ألمانيا والنمسا: ألفان.
قبرص: 62 ألفًا.
رودس: 12 ألفًا.
كريت: 28 ألفًا.
مجموع هؤلاء عشرة ملايين وأربعمائة وثمانية وخمسون ألف نفس.
أمريكا وأستراليا والفلبين
الولايات المتحدة: 12 ألفًا.
المكسيك: ألف نفس.
البرازيل: 25 ألفًا.
الأرجنتين: ثمانية آلاف.
غيانة البريطانية: عشرون ألفًا.
غيانة الهولندية: 40 ألفًا.
غيانا الإفرنسية: عشرون ألفًا.
ترينداد: 18 ألفًا.
جميكا: ستة آلاف.
كوبا: أربعون ألفًا.
جزر الفلبين وأستراليا وجزر الأوقيانوس: مليونان.
الخلاصة
أفريقيا: 86 مليونًا و 110 آلاف.
آسيا: 306 ملايين.
أوروبا: 10 ملايين و 458 ألفًا.
أمريكا: 190 ألفًا.
أستراليا والفلبين: مليونان.
فالمجموع الحقيقي لعدد المسلمين في العالم كله: 404 ملايين و 758 ألفًا.
(المنار)
الأقرب إلى الصواب أنهم 420 مليونًا أو يزيدون.
__________
(1) التحقيق أن أهل جزيرة العرب لا يقلون عن ثلاثين مليونًا، وقد اجتمعت أنا والأمير شكيب أرسلان بدار المرحوم أنور باشا في برلين بالفريق التركي عثمان باشا فرأيناه يقدِّر أهل اليمن وحدهم بعشرين مليونًا، وهو طاف اليمن بعد صلح الدولة مع الإمام يحيى.(32/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد توفيق البكري الصديقي
في شهر ربيع الآخر لاثنتي عشرة ليلة منه توفي عين الأعيان، ونادرة
الزمان، المِعنّ المفن، ومُزن الأدب المرجحنّ، الذي كان له في كل جو متنفس،
ومن كل نار مقتبس، عميد أرفع بيوتات المجد الديني الدنيوي في مصرعمادًا،
وأرسخها في الحسب والنسب أوتادًا، صاحب السماحة الشيخ محمد توفيق البكري
الصديقي، بعد مرض عصبي طال عليه الأمد، وحجبه بضع عشرة سنة عن
مخادع رجال السياسة ومحافل العلم والأدب، قضى معظمها في مستشفى بيروت
المعروف بالعصفورية، وعاد منذ بضع سنين إلى القاهرة، فانقطع في مكتبه
للمطالعة والكتابة، زاهدًا في المزاورة والمحاضرة والمناظرة، على أنه وهو لم
يُبلَّ من مرضه كل الإبلال، ظل حاضر الذهن، قوي الذاكرة، صائب الرأي،
صحيح الحكم، فيما يخوض فيه من مسائل الأدب والعلم؛ وإنما كان يعثر فكره
ويأفن رأيه في أمر واحد سياسي هو الذي كان سبب مرضه ذاك، فقاتل الله السياسة
وفتنها، فهي التي أضاعت عليه وعلى الأمة الانتفاع باستعداده النادر في مركزه
الرفيع.
لقد أوتي محمد توفيق من ذكاء الفؤاد ولوذعية الذهن ما يخبو دونه تلذُّع ذُكاء
وتلظيها، ومن السبق إلى المعالي ما تكبو في غاياته جياد الهمم سابقها ومصليها،
فكان كما قال الشاعر:
وقاد ذهن إذا جالت قريحته ... يكاد يخشى عليه من تلهبه
أخذ حظًّا من التعليم العصري واللغة الفرنسية في مدرسة الأنجال الخديوية،
وأصاب ذروًا من الفنون العربية والشرعية من علم الأزهر، وقبس جذوة من
الحكمة بصحبة الأستاذ الإمام وحضور دروسه الخاصة في جامع عابدين، وتلقى
غريب اللغة وآدابها عن إمامها في هذا العصر العلامة الشيخ محمد محمود الشنقيطي
الكبير، فكتب من إملائه أراجيز العرب وشرح غريبها، ونظم الشعر، وأتقن النثر،
وصنَّف الكتب، وكانت داره (سراي الخرنفش) مثابة للوجهاء والكبراء وناديًا
للعلماء والأدباء، ونزلاً لإقامة المآدب للفضلاء والغرباء.
وكان حظيًّا عند أمير البلاد عباس حلمي باشا، ووجيهًا عند لورد كرومر
عميد الاحتلال البريطاني المسيطر على الحكومة المصرية، حتى إنه كان يزوره
بداره، وولاه الخديوِ نقابة الأشراف ورياسة مشيخة الطرق الصوفية، وسافر إلى
الآستانة، فنال من عطف السلطان عبد الحميد أن وجه إليه رتبة قاضي عسكر
الأناضول العلمية العالية، وبعض الأوسمة السامية، فماذا عسى أن يطلب من
المجد الطريف على مجده التليد فوق هذا؟
بيد أن هذا كان حملاً ثقيلاً، بل أوزارًا ثقالاً على شاب نحيف الجسم عصبي
المزاج مترف المعيشة، حريص على بلوغ الغاية من حظوظ الحياة المادية
والمعنوية؛ وإنما جنت عليه السياسة فأفكته عن كل ما كان يرجى منه من خدمة
لأدب اللغة التي كان يميل إليها بطبعه، وإصلاح لطرق الصوفية التي كان متمكنًا
منها بمنصبه، وقد اجتهدت في ترغيبه فيها منذ عرفته عقب استقراري في مصر
سنة 1315 وسألمَّ بهذا فيما أكتبه من ملخص ترجمته.
وإنما أقول هنا في خبر وفاته وتشييعه: إن مصر قد قصَّرت تقصيرًا منتقدًا في
تشييعه، فكان كتشييع رجل من الطبقة الثانية أو الثالثة من الوجهاء، قصَّرت
الحكومة فيه فلم يحضره وزراؤها، وكان في منصب وزير أو أكبر؛ وإنما
حضره سعادة محافظ القاهرة، وقصَّر علماء الأزهر فلم يشيعه أستاذهم الأكبر
رئيس المعاهد ولا مفتي الديار المصرية ولا هيئة كبار العلماء الرسمية ورؤساء
الكليات؛ وإنما شيَّعه منهم بعض أصدقاء بيتهم الأوفياء كالأستاذ العلامة الشيخ
حسين والي، وقد كان يحمل من الرتب العلمية وكسى التشريف الرسمية ما لم
يصل إليه أحد منهم، إذ كانت رتبته العلمية السلطانية (قاضي عسكر أناضول)
تلي رتبة شيخ الإسلام وطبقته، وهي رتبة قاضي عسكررومللي، وقصَّر في تأبينه
الخطباء، وفي رثائه الشعراء، وهو في مكانته من حملة الأقلام ومجيدي النظم
والنثر؛ ولكن دولة القلم دخلت في هذه السنين الذي احتجب فيها عنهم في طور
جديد صار فيه مثله على كونه من الطراز الأول مرغوبًا عنه، كما سأبيِّنه بعد،
وأبيِّن أنه ليس بعذر في تقصير طبقات مصر العليا في الحفاوة بتشييعه وتأبينه،
ومن لا قديم له يُحفظ، فليس له جديد يفتخر به.
فرحم الله الشيخ محمد توفيق البكري وأحسن عزاء خليفته وابن أخيه صاحب
الفضيلة الشيخ عبد الحميد البكري وآل البكري وبقية بيوتات المجد عنه.
__________(32/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحمد شوقي بك أمير الشعراء
في صبيحة 14 جمادى الآخرة قضى نحبه أحمد شوقي بك الذي كان يُلقَّب
شاعر الأمير فأمير الشعراء، ولعل صديقه الأمير شكيب أرسلان الملقَّب بأمير
البيان هو أول من أطلق على شوقي هذا اللقب بقوله في آخر قصيدة له ألقيت في
الحفلة التي أقامها أدباء السوريين ووجهاؤهم بمصر لمحمد حافظ إبراهيم يخاطب
حافظًا:
فأنت أمير النثر غير منازع ... وأنت أمير الشعر من بعد أحمد
مات حافظ إبراهيم شاعر النيل الاجتماعي، ورثاه في حفلة الأربعين أحمد
شوقي بك فذكر في رثائه أنه كان يتوقع أن يكون مَرْثيه لا راثيه، ولم يلبث أن
مات فجأة بعد ذلك بقليل، فقبل أن ترقأ دموع عالم الأدب العربي التي كانت
تترقرق حزنًا عليه، وقبل أن يقضي شعراؤه لبانتهم من رثائه، فجأهم فقد شوقي،
فكان المصاب بالبدء في سيادة الشعر ثانيًا للمصاب بالثنيان [1] في الزمن؛ ولكنه
صار الأول في شدة الحَزن، والمقدم في لوعة الشجن، فأكبر الأدباء به الخطب،
وتضاعف الأسف في الشرق والغرب؛ فإن شهرة شوقي أكبر، وعشاق شعره أكثر،
ذلك بأنه طرق جميع أبواب الشعر القديمة والحديثة ففتحت له أغلاقها، وكان له
السلطان الأعلى على أرواح عشاقها، بما أجاد في كل فن من فنونها، إلا الهجاء
والمجون فقد نزَّه شعره ولسانه عنهما.
فبتنا نوجس خيفة على دولة الشعراء، وندعو لكبارهم في مصر بطول البقاء،
وأن لا يكون هذا موسم الرحيل لشيوخ الأدباء، فقد تناثر من سلكهم ثلاثة متقاربون
في العمر، حافظ فالبكري فشوقي، وسبقهم في هذه السنة الشيخ عبد المطلب شاعر
البداوة في الحضارة رحمهم الله تعالى، وسنعود إلى الكلام عن شعره في جزء آخر.
كان حافظ يظن - بل يقول - منذ ثلث قرن: مكانة شوقي من أمير البلاد كانت
ترفع شعره إلى أعلى مما يستحقه؛ ولكن شعر شوقي علا بعد دولة ذلك الأمير بنفسه،
فوق ما علا به في عهده، حتى علم أن قربه من الأمير كان سببًا لوقفة في استعداده
حالت دون الوثبة التي وثبها بعد إخراج الحرب العالمية إياه من قفص قصر عابدين،
حتى أن حافظًا بايعه بإمارة الشعراء في الحفلة العامة التي أقيمت له في دار الأوبرة
الملكية.
ونقول اليوم: إن الزمان الذي كان يرتفع فيه قدر العالم والأديب والشاعر
بانتمائه إلى أمير أو ملك قد مات ودفن، وحيَّ أو بعث الزمان الذي يرتفع فيه قدر
الشاعر بشعره، وقرب الزمن الذي تعلو فيه درجة العالم بعلمه، فإن كان المتنبي
خلد من ذكر سيف الدولة ما لم يخلده حسامه وسلطانه، وكان ابن دريد قد انتاش
ابني ميكال من موت الذكر بعد موت الجسد، فوق انتياشهما إياه من ضعة الفاقة
والخمول كما قال في مقصورته الخالدة من أبيات أذكر منها قوله:
نفسي الفداء لأميري ومن ... تحت السماء لأميري الفدا
هما اللذان أثبتا لي أملاً ... قد وقف الناس به على شفا
تلافيا العيش الذي رنقه ... صرف الزمان فاستساغ وصفا
وقلداني منة لو قُرنت ... بشكر أهل الأرض عني ما وفى
بالشعر من معشارها وكان كالـ ـحسوة في آذيّ بحر قد طما
فكذلك شوقي قد يحفظ من ذكر عباس حلمي ويخلد من صيته ما لا تحفظه له
إمارته ولا ثروته اللتان تمتع شوقي في ظلهما الوارف حقبة من الزمن، إلا أن
يعمل الأمير للأمة بهذه الثروة الواسعة، وما أوتي معها من الذكاء والهمة، عملاً
علميًّا إصلاحيًّا كبيرًا، ورب مائة ألف جنيه ينفقها عباس في أثر باق تعجز أن
يمدح بها ويخلد ذكره بمثل قول شوقي له من قصيدة في ديوانه الأول:
عباس إنك للبلاد وإنه ... لم يبق غيرك من يقول بلادي
ولكن للعباس فضلاً على شوقي في شاعريته، يربو ربًا مضاعفًا على فضله
عليه في جاهه وثروته، إذ كان هو العون على تعليمه وتربيته، وتثقيف عقله
وخياله كما شرحه شوقي في مقدمة الشوقيات، وسأقفي على هذه الكلمة في تأبينه
بكلمة أخرى أرجو أن أجد فيها متردمًا يغادره الشعراء والمؤبنون الكثيرون له رحمه
الله تعالى وعزى أنجاله وسائر آله، والشعراء من رعيته.
__________
(1) البدء يطلق على الأول في السيادة، والثنيان على من يليه، قال الشاعر:
ثنياننا إن أتاهم كان بدأهمو ... وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا.(32/719)
رمضان - 1351هـ
ديسمبر - 1932م(32/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت
(س57-60)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لله العلي العظيم، وصلاة وسلامًا على رسوله الكريم:
حضرة العالم العلامة والمدقق الفهامة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الغرَّاء حفظه الله تعالى وأدامه نصرًا للدين وخذلانًا لأعدائه الملحدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فألتمس من فضيلتكم أن تتكرموا
بالجواب على ما يأتي في مجلة المنار الغراء ولكم جزيل الشكر.
س1: هل يجوز دفع زكاة المال أو زكاة الفطر لجمعية خيرية إسلامية تنفق
ذلك على بناء المستشفيات، وعمارة المساجد وفتح المدارس، وشراء أطعمة وألبسة
وكتب وغيرها لأولاد فقراء المسلمين أم لا؟
س2: رجل أوصى قبل وفاته بأن يُصرف على تجهيزه، وختمته، وأسبوعه
وأربعينه، أربعين ليرة عثمانية ذهبًا، والعادة عندنا في بيروت أن في اليوم الثالث من
الوفاة يسمونه ختمًا، واليوم السابع، والأربعين منها تولم الولائم، ويدعى إليها الفقراء
وغيرهم صدقة عن الميت برضا الورثة، فهل تُنفذ وصية هذا الرجل بعد وفاته أم
لا؟ وما هي النصوص التي تعتمدون عليها في الجواب؟
س3: إن كثيرًا من شبان هذا العصر الذين تعلموا بمدارس أجنبية، إن
أمرتهم بإقامة الشعائر الدينية كالصلاة وغيرها أو نهيتهم عن منكر يفعلونه، ردوا
على آمرهم وناهيهم بقولهم: (المدار على القلب، نق قلبك من النيات السيئة تكن
مؤمنًا ناجيًا، والله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فما هو الرد
الشافي على أمثال هؤلاء والمقنع لهم المدحض لأقوالهم، وما رأي فضيلتكم فيهم؟
س4: إن مديرًا من مديري المدارس الخيرية الإسلامية في بيروت ألقى
خطابًا في مدرسة تبشيرية، دعا الناس إلى إحلال العامية محل الفصحى لغة القرآن
الكريم، أو تسكين أواخر الكلمات العربية، لصعوبة تعلم تلك اللغة وإعرابها على
زعمه فهل ينم خطابه هذا عن شيء في نفسه يا ترى؟ وما مبلغ دعواه من
الصواب؟ وما رأي فضيلتكم في ذلك؟
أفتونا وأفيدونا مأجورين من رب العالمين، ودمتم مقصدًا للقاصدين، وصلى
الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
ذي القعدة سنة 1348 ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... سعد الدين خضر الأدلبي
أجوبة المنار بالاختصار
(57) إعطاء الزكاة لجمعية خيرية:
إذا علم المزكي أن الجمعية الخيرية الإسلامية الذي يعطيها زكاته تنفقها في
مصارفها الشرعية على علم - كان إعطاؤه إياها جائزًا مع إعلامها بأنها زكاة وتوكيل
مديرها مثلاً بصرفها في مصرفها الشرعي، وربما كان خيرًا له من تكلف توزيعها
على المستحقين بنفسه لصعوبة تمييزه للمستحق من غيره إلا أن يكون في ذوي
القربى له من يستحقها، وهو ممن لا تجب عليه نفقتهم فتقديمهم على غيرهم أفضل،
وينبغي أن يعلم أن زكاة الفطر قد شرعت لإغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد
وهو يوم ضيافة الله عز وجل للمؤمنين فلا يجوز تأخيرها عن يوم العيد لإنفاقها
على تلاميذ مدارسهم الفقراء بعده، فإن كان المزكي يعلم أن للجمعية نظامًا لإيصال
زكاة الفطر إلى فقراء البلد لينفقوها في يوم العيد فذاك، وإلا فليوزعها بنفسه أو من
ينوب عنه ممن يثق بهم من الخدم أو غيرهم.
***
(58) تنفيذ وصية الميت:
تنفيذ وصية الميت بما خصصه من المال لتجهيزه ودفنه والصدقة المشروعة
واجب بإجماع المسلمين؛ وإنما تكون الوصية شرعية إذا كانت لا تتجاوز ثلث ماله
ولم تكن في محرَّم (كوصية امرأة مصرية فاسقة في هذا العام أن تُضرب عندها
يوم موتها المعازف وأن تسقى المعزيات عنها الخمر) وأولياء الميت المنفذون
لوصيته هم الذين يجب عليهم تنفيذ وصيته على الوجه الشرعي الذي أراده بها دون
ما خالفه، فإن خفي عليهم أمر التوفيق بين لفظه والعادات المألوفة في بلده فعليهم
أن يسألوا الفقهاء عن تفصيل ذلك، والحكم يختلف باختلاف لفظ الوصية وطريقة
تنفيذها.
***
(59) شبهة الإباحيين في ترك شعائر الدين:
إن ما ذكرتم عن هؤلاء الشبان المتفرنجين جهل فاضح خلاصته أن الدين الذي
ينجو به الإنسان من عذاب الآخرة ويستحق به نعيمها الخالد عبارة عن أمر سلبي
باطني، وهو ألا ينوي السوء والشر، ولم يوجد دين في الأرض يقول بهذا؛ وإنما
الدين إيمان وعمل صالح ونية صالحة في العمل بأن يكون لمرضاة الله وما شرع
العمل لأجله من تزكية نفس العامل وتحليتها بالفضائل ومنفعة عباده في مثل الزكاة
من الأعمال المتعدية الفائدة، فمن استحل ترك الصلاة أو غيرها من أركان الإسلام
فهو كافر بإجماع المسلمين، وكذا من استحل شيئًا من المحرمات القطعية كالزنا
والسُّكر وأكل أموال الناس بالباطل.
قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ... إلخ الحديث المشهور،
وهو في أول صحيح البخاري فمن لا عمل له لا نية له إلا أن ينوي عملاً، ثم
يصرفه عنه العجز أو عذر آخر، ومن كان عمله الديني للرياء والسمعة وهوى
النفس فهو منافق لا ينفعه عمله؛ وإنما ينفعه إذا كان يعمله اتباعًا مخلصًا لله فيه،
ويؤيد هذا المعنى المفصل في تتمة الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا
ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) وهو في صحيح مسلم،
والمراد أن مدار قبول العبادات كلها على الإخلاص في الأعمال وصدق النية لا
على الظواهر العملية التي تقع من المنافق والصادق، والمرائي والمخلص،
وهؤلاء المتفرنجون الإباحيون ظواهرهم قبيحة وبواطنهم أقبح، ولا يعتد
بإسلامهم إلا بإقامة أركان الإسلام وترك نواهيه، حتى إذا ما زل أحدهم فترك واجبًا
أو فعل محرمًا تاب إلى الله تعالى.
وأمر السوء والشر الذي حصروا الدين في عدم نيتهما تختلف آراء الناس
وأهواؤهم فيه حتى قال بعض المفسدين من كتبة مصر إن العفة ليس لها معنى ثابت
فهي تختلف باختلاف الزمان، فظهور المرأة عارية للرجال وسباحتها معهم في
البحار ورقصها معهم في الملاهي كانت تعد في الأزمنة الماضية رذيلة منافية للعفة
والفضيلة، وهي تعد الآن من فضائل المدنية بزعمهم، بل استحسنوا الجهر
بالفواحش التي يخفيها جميع البشر بداعية الفطرة وسموها الأدب المكشوف، وجملة
القول إن الإسلام هو العمل الصادر عن الإيمان والإذعان النفسي لما ثبت في الشرع
من الأوامر والنواهي، وهو يستلزم الإخلاص وحسن النية.
***
(60) من دعا الناس إلى استبدال العامية بالعربية الفصحى ... إلخ:
إن كان المدير الذي أشرتم إليه يدعو إلى أن تُجعل العامية لغة القراءة والكتابة
أو يترك الإعراب منها، فهو إما جهول لا يعقل مصلحة الأمة العربية في دينها ولا
دنياها، وإما سيئ النية يخدم الأجانب في إضعاف هذه الأمة وإفساد أمرها عليها،
إلا إن كان يقصد بذلك الكلام المعتاد فله عذر ما، وهذا الذي نظنه وقد يكون
الناقل مخطئًا في الفهم.
***
معجزات المولد النبوي والشبهة على المعراج
(س61) من حضرة صاحبي الإمضاء في يافا (فلسطين) تأخر:
صاحب الفضيلة مولانا العلامة الأكبر الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار
الغراء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فلا يخفى على فضيلتكم تطور الحالة
المدنية وانتشار العلوم العصرية من طبيعية وفلسفية في الأصقاع الإسلامية.
وبما لفضيلتكم علينا من فضل التربية العقلية والتثقيف العلمي رأينا من
الضروري أن نتشرف برفع هذا الاستفهام إليكم؛ وإننا على يقين من أنكم ستلبون
طلبنا وتتكرمون بإجابتنا إلى ملتمسنا خدمة للدين وتطبيقًا للعلم على العلوم العصرية
في هذين الأمرين المهمين اللذين هما من مباني الدين الحنيف حتى تكون سلاحًا في
يدنا لينتفع بكم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها آمين.
ينقسم هذا الاستفهام إلى شقين:
الأول: عن المولد الشريف ما سبقه من البشائر والعلامات، وما لحقه من
المعجزات وتأييد ذلك بالبراهين العقلية والنقلية إجمالية أو تفصيلية.
الثاني: عن الإسراء والمعراج، وبنوع خاص نظرية الصعود واختراق
السماوات وقابليتها للالتئام وإمكان اختراق الجو مع عدم وجود الهواء في الفضاء
أكثر من سبعة أميال وما رآه المصطفى صلى الله عليه وسلم في طريقه.
هذان الأمران اللذان ينكرهما الطبيعيون والماديون، وإن سلَّم بعضهم بشيء
منها وأنكر بعضها، كما نرجو من فضيلتكم أن تتفضلوا بالإجابة في زمن يسمح لنا
بالاستعداد قبل دنو شهر الميلاد، أو أن ترشدونا إلى الكتاب أو الكتب التي يمكننا
الانتفاع منها في هذا الشأن والاسترشاد بها والله يحفظكم.
محمد فهمي غريب ... ... ... ... ... م. فوزي الإمام
الواعظ العام بجامع يافا الكبير ... ... إمام وخطيب جامع يافا الكبير
الجواب
(61) ما يذكر في قصص المولد النبوي من البشارات والعلامات وما
يختص به من المعجزات لا تؤيده براهين عقلية ولا نقلية؛ ولكن هنالك روايات
آحادية ليس فيها حديث مرفوع، ومنها الضعيف والموضوع، وأكثرها مراسيل
وإسرائيليات منكرة أشهرها في هذه القصص ثلاثة آثار طويلة فيما وقع أثناء حمله
وعند ولادته صلى الله عليه وسلم من العجائب، وقد قال السيوطي في الخصائص
الكبرى: (إن فيها نكارة شديدة ولم أورد في كتابي هذا أشد نكارة منها، ولم تكن
نفسي لتطيب بإزائها لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك) فإن شئتما قصة المولد
من ذلك مقتصرة على الصحيح فعليكما برسالتنا (ذكرى المولد النبوي) ففيها غناء،
وفي مقدمتها تفصيل لحكم الاحتفال بالمولد وتاريخه، وما فيه من بدع، ولها
مختصر يقرأ في الحفلة الرسمية بمصر وفي غيرها.
(62) الإسراء ثابت بنص القرآن فهو قطعي والمعراج روي من طرق
متعددة في الصحيحين وغيرهما تدل جملتها على صحة أصله على ما فيها من
التعارض والاختلاف في كونه وقع في اليقظة أم في المنام، وهما على كل حال من
الأمور الغيبية الخارقة للعادة، ويقربهما من العقل أن روح النبي صلى الله عليه
وسلم كان لها السلطان على جسده في تلك الليلة، فلطفت جسده الكثيف فكانت
كالجسد الذي كان يتمثل به الروح الأمين في صورة دحية الكلبي فأمكنها أن تعرج
معه بمثل قوته التي لا تقل عن قوة الكهرباء، وبهذا التقريب تسقط شبهة حدود
الهواء، وأما شبهة اختراق السماوات فيقال فيها إن الوصول إلى السماوات السبع
وتجاوزها لا يقتضي اختراقها؛ وإنما كان هذا شبهة لعلماء الهيئة اليونانية الذين
كانوا يزعمون أن الأفلاك التي ركبت فيها الدراري والنجوم أجسام صلبة شفافة لا
تقبل الخرق والالتئام بطبعها، وظن بعض علماء الشرع أن هذه الأفلاك المزعومة
هي السماوات، وقد أبطل علم الهيئة هذا الزعم من أساسه؛ وإنما السماوات
المذكورة في حديث المعراج من عالم الغيب تسكنها الملائكة وتعرج إليها أرواح
الأنبياء عليهم السلام، وقد سبق لنا تفصيل هذه المسألة في المنار من قبل.
وإن هنا قاعدتين لا ينبغي أن تغيبا عن مسلم: (1) أن كل ما ثبت في
الكتاب والسنة من خوارق العادات، فالواجب على المسلم قبوله على ظاهره ما لم
يقم برهان قطعي حسي أو عقلي على استحالة ظاهره فيؤول (2) أن كل ما أخبر
به الوحي عن عالم الغيب لا يقاس على عالم الشهادة ولا يشترط في قبوله موافقة
سنن هذا العالم وعاداته، ومعجزة الإسراء والمعراج من الخوارق الروحانية الغيبية،
وليست من المحال الذي يقول علماء الكلام إن قدرة الله لا تتعلق به، وقد فصلنا
مسألة الخوارق في التفسير مرارًا آخرها تفسير هذا العام، وبيَّنا فيها أن ما ظهر
للبشر في هذا القرن من عجائب الكهرباء وغيرها قد قرَّب إلى العقول كل ما كانت
تستبعده من المعجزات وأمور الغيب.
***
إخراج مُصَلٍّ من صلاته وإبطالها عليه
لأنه قرأ البسملة
(س63) من صاحب الإمضاء:
حضرة صاحب الفضيلة والسماحة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار.
تحية وسلامًا وبعد؛ فإنني بينما كنت قادمًا من حلوان بمحطة باب اللوق
وجدت عند نزولي بمحطة باب اللوق رجلاً أقام الصلاة وحينما قرأ الفاتحة في أول
ركعة ابتدأها بالبسملة، وبدأ الآية بعدها بالبسملة، فمنعه رجل آخر وأخرجه من
الصلاة وعرَّفه أنه لا يجوز قراءة البسملة في ابتداء الفاتحة ولا في ابتداء الآية
أيضًا، وهذا يختص بمذهب مالك زاعمًا أن الابتداء بالبسملة في وسط السورة
مبطل للصلاة فهل هذا الزعم في محله، وهل كان له أن يخرجه من الصلاة.
وإلا فما رأي فضيلتكم، وأرجوكم التكرم بنشره على صفحات المجلة
لفضيلتكم الشكر والثناء وختامًا تفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... عزب سيف الدين
... ... ... ... ... ... من أهالي محطة المعصرة الجديدة
... ... ... ... ... ... ... ... خط ... حلوان
(ج) مسألة قراءة البسملة في أول سورة الفاتحة اجتهادية ومذهب الشافعي
أن الصلاة لا تصح بدونها، وأقوى حجة له تواترها عن بعض القراء وثبوتها في
المصحف الإمام بالإجماع، ولا يمكن أن يقال في بسملة الفاتحة ما قيل في غيرها
من السور، وهو أن البسملة في أولها للفصل بينها وبين غيرها، وأن الأحاديث
المتعارضة في قراءتها آحادية ويأتي فيها قاعدة تقديم المثبت لها على النافي، ومن
المقرر في المذاهب كلها عدم جواز الإنكار على متبع مذهب بمذهب غيره، وأما
قراءة البسملة في ابتداء قراءة آيات من أثناء السورة فهو غير مشروع ولم يثبت في
مذهب من مذاهب الأئمة؛ ولكنه لا يبطل الصلاة وفاعله لا بد أن يكون قد سبق به
لسانه أو يكون جاهلاً بالحكم، وكان ينبغي للمنكر عليه أن يقول له وهو في الصلاة
أو بعدها لا تقرأ البسملة في أول الآيات فإنها غير مشروعة، وأما إبطاله لصلاته
بإخراجه منها فهو خطأ وجهل ظاهر.
***
الإنكار على تأليف الجمعيات الدينية
بدعوى أن قام الإسلام بالسيف
(س64) من صاحب الإمضاء الرمزي في طنطا:
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الإمام صاحب المنار الأغر:
تحية من أبنائك المتمتعين بجليل علمك وعظيم خلقك المعجبين بجهادك في
سبيل الله جهادًا صادقًا لا تشوبه شائبة رياء أو ظهور.
وبعد فقد تألفت في طنطا جمعيتان دينيتان، جمعية الثقافة الإسلامية وجمعية
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الغرض منهما العمل على رفعة الدين وبث
روح الهداية في الناس مع بعدهما عن كل ما يمس السياسة، وقد وجدنا من كل
الطبقات في البلد تشجيعًا صادقًا وعطفًا ذا أثر.
غير أننا والأسف يملأ جوانحنا وجدنا شيخ معهد طنطا يحارب الجمعيتين بكل
ما لديه من الوسائل، فيرغم الطلاب المشتركين فيها والمدرسين الذين انتخبوا في
مجلس إدارتها على الانسحاب منها بحجة أنها ليست من الطرق التي رسمها الدين
لإقامته لأنه لم يقم إلا بالسيف.
فهل هذا صحيح؟ وماذا كان يملك النبي صلى الله عليه وسلم من وسائل القوة
الحربية في بدء الدعوة؟
أفيدونا على صفحات المنار أو في الجرائد اليومية، ولكم منا أجزل الشكر
ومن الله حسن الأجر والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (م. س)
(ج) إن ما حكاه هذا السائل عن شيخ المعهد الديني الأحمدي الذي هو ثاني
الأزهر - جهل فاضح يكاد يكون غير معقول؛ فإن تأليف الجمعيات لأجل الدعوة إلى
الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابت في كتاب الله بقوله: {وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) ويدخل في ضمن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) فكيف يقول شيخ معدود من كبار علماء الأزهر هذا
القول الذي أُسند إليه في السؤال وهو من الجهل الفاضح بصريح القرآن وبما هو
معلوم من الإسلام بالضرورة، إن لنا أن نرتاب في صحة هذا القول على إطلاقه
وإن كان قد بلغنا عن هذا الشيخ من تأييد الخرافات التي ينشرها الشيخ يوسف
الدجوي ما لم يبلغنا عن غيره من علماء مصر، بل علمت من بعضهم وعن بعض
آخر أنهم ينكرون عليه ما كتبه من الطعن فينا ومن فتاويه الأخرى في تأييد البدع
والخرافات ويعترفون بأنه فضح الأزهر ومجلته بذلك.
وأما شيخ المعهد الأحمدي فقد نُقل إلينا عنه أنه أمر بقطع أحد الطلبة عنده عن
الدرس مدة أسبوع أو أسبوعين - الشك منا - لأنه اعترف أمام أستاذ له بأنه يقرأ
مقالات السيد رشيد رضا في الرد على الدجوي ويجلها ويستفيد منها، فالتمسنا له
من العذر أنه ربما يكون قد قرأ مقالة الدجوي وبهائته في مجلة مشيخة الأزهر
وصدَّقه فيما افتراه علينا ولم يقرأ شيئًا من مقالاتنا في فضيحة كذبه وبيان جهله،
وإن كان المشهور عنه أنه على رأيه في خرافات القبور وأمثالها، وهذا الصنف من
الأزهريين يقل ويضمحل؛ ولذلك لم يجد الدجوي له في الأزهر من ولي ولا نصير،
ولكن لم يُعرف عن أحد من الأزهريين إنكار على الجمعيات الدينية والوعظية بل
تعددت جمعياتهم في هذا العهد.
وأما ما أسنده السائل إلى الشيخ الديناري من أنه يقول: إن دين الإسلام لم يقم
إلا بالسيف، فهو من الجهل الفاضح بالسيرة النبوية والتاريخ، يؤيد به طعن أعداء
الإسلام من دعاة النصرانية وساسة الإفرنج فيه، وقد سبق لنا دحضه مرارًا في
المنار، ونحيل السائل وغيره على ما كتبه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد في
دحض هذه التهمة والرد على مفتريها، وعلى بحثنا في إصلاح الإسلام الحربي
الذي يرى أوله في هذا الجزء.
ويبقى الكلام مع شيخ المعهد الأحمدي في مسألة أخرى، وهي إن كان قيام
الإسلام بالسيف يقتضي أن لا يعمل لبيانه ولا لنشره عمل إلا سل السيف، فهذه
المعاهد الدينية التي يرأس أحدها يجب إبطالها وإرسال طلبتها إلى المدارس الحربية،
وإن كان يفرق بين إقامته في المشركين المعاندين وتبليغه لغيرهم، ولا سيما
المسلمين الجاهلين، فهاتان الجمعيتان من هذا النوع فكيف ينكر على مؤسسيها من
المدرسين والطلبة؟
***
بدعة كفارة الصلوات الفائتة
(س65) من صاحب الإمضاء بعزبة علام قمانة (نجع حمادي)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة محيي السنة، ومميت البدعة الأستاذ السيد
محمد رشيد رضا أطال الله عمره.
سيدي أشكو إليكم مُرَّ الشكوى من جماعة يسمونهم أهل فضل في بلدنا القمانة
مركز نجع حمادي يقرءون على الناس في جبر الصلوات الفائتة في كتاب صغير
الحجم يسمى المجموعة المباركة في صحيفة نمرة 7 سطر 1 منه ومضمونها أن من
يصلي أربع ركعات في آخر جمعة من شهر رمضان، ويقرأ دعاء كانت كفارة له
لألف سنة عن الصلوات الفائتة وإن لم يعش هذا العمر، فيكون الباقي إلى أقاربه
وجيرانه وأهل بلده، ولربما فضيلتكم اطلعتم على هذا الكتاب، فأرجو الجواب ولكم
الثواب يا منادي الإصلاح، أبقاك الله ذخرًا للإسلام والمسلمين، والرد يكون
بمجلتكم الغراء.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ابنكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين محمد
... ... ... ... ... ... ... ... بعزبة علام قمانة
(الجواب) : إننا أخرنا هذا الجواب مدة طويلة وهو بديهي رجاء الاطلاع
على الكتاب المسمى بالمجموعة المباركة ونبيِّن مفاسده وبدعه المضلة ولما يتسنَّ لنا
ذلك، وقد رأينا أن نشره الآن في هذا الجزء الذي يصدر في شهر رمضان مناسب،
فنقول: إن هذه الكفارة باطلة بالضرورة، وكذب على الله تعالى وافتراء على
شرعه القويم، بل هي مفسدة تجرئ الجاهل الذي يصدقها على ترك الصلاة التي
هي عماد الإسلام ولا يصدقها مسلم يعرف ضروريات دين الإسلام، بل يدرك
بطلانها كل من له مسكة من العقل وقليل من الذكاء؛ فإنه يدرك أن صلاة أربع
ركعات من النوافل لا تغني عن جميع الصلوات المكتوبة، ومن علامات الحديث
الموضوع أن يكون فيه ثواب عظيم جدًّا على عمل قليل، وأجدر بهذا التكفير لترك
الصلاة أن يكون تكفيرًا بالإيمان من أصله، وليتكم تجدون لنا نسخة من هذه
المجموعة الضلالية المفسدة للإسلام لنبين ما عسى أن يوجد فيها من هذا الضلال
غير هذه المسألة.
__________(32/735)
الكاتب: عالم كبير من قسوس الآشوريين هداه الله للإسلام
__________
نموذج من كتاب الإنجيل والصليب
لعالم كبير من قسوس الآشوريين هداه الله إلى الإسلام
الباب الثاني
غرض الإنجيل وموضوعه (الإسلام) و (أحمد)
المبشِّر لوقا يبشر (بالإسلام) و (بأحمد)
لننظر الآن في التأويل والتفسير الحقيقي للفظ إنجيل الذي يبشر بالسعادة
الحقيقية، وماذا يحتمل أن يكون المقصد من كلمة (أمل) أو (ملكوت الله) ؟
فإذا انكشف هذا السر نكون قد فهمنا روح الإنجيل ولبه، أسأل الله تعالى أن يمن
على هذا المؤلف الأحقر بأن يجعل له نصيب الفخر بكشف هذه الحقيقة التي تعدل
الدنيا وما فيها بأهميتها العظمى وقيمتها التي لا يساويها شيء، مع أنها وياللأسف لم
تزل حتى الآن مجهولة لدى كل من المسلمين والمسيحيين وتمحيصها من التحريفات
والتأويلات الفاسدة، وإبرازها بتمامها وصفائها بالأدلة القاطعة والبراهين المسكتة
بصورة صريحة واضحة بحيث يفهمها كل أحد.
وها أنذا أتحدى بإعلان وإظهار هذه الحقيقة جميع العالم وكافة روحانيي
النصارى، وأشهر أساتذة الألسنة والعلوم الدينية في دور الفنون الموجودة في العالم
المسيحي، تسلية لقلوب المسلمين، وتثبيتًا لإيمان الموحدين، الذين أصيبوا بأنواع
المصائب، وأمسوا هدفًا للتحقير والطعن في هذه الأيام الأخيرة، وها أنذا أفتتح
كلامي بالحمد والشكر وتحياتي مع روحي وحياتي مشفوعة مع شهادة أن لا إله إلا
الله، تلك الكلمة الطيبة كلمة التوحيد والإيمان الصحيح تقربًا إلى الله الواحد الأحد،
مكون الكائنات، وواهب العقول والأفهام، المطلع على خفايا السرائر والنيات،
جل جلاله، وخدمة لدين حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم، فإني قد
عاهدت الله عز اسمه بأن أقف نفسي على خدمة هذا الدين المبين وخدمة أمته
المظلومة، والدعاء لها، والله ولي الإجابة والتوفيق، بعد هذا أقول:
جاء في لوقا أنه ظهر في الليلة التي وُلد فيها المسيح عليه السلام للرعاة الذين
كانوا في البرية جمهور من الجنود السماوية يترنمون بهذا النشيد: (لوقا: 14)
(الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد [1] ) .
إن الذي فتح عيني هذا المحرر الفقير، ووهب له مفتاح أبواب خزائن الإنجيل
وكان له دليلاً في تتبع الأديان الأخرى، وإنعام النظر في الإنجيل مرة أخرى، هو
هذه الآية: آية الآيات الإلهية.
إني مطمئن بأن هذه الآية الجليلة ستبعث اليقظة مع الحيرة والدهشة في قلوب
كثير من المسيحيين كما وقع ذلك لي؛ لأني واثق بأنه يوجد في هذه الملة اليوم
أناس كثيرون بُرآء من التعصب والسفسطة، وأنهم لا يتأخرون عن الإذعان
والتصديق للكلام الحق، ولا يترددون في قبول الفكر الصحيح وقتًا ما.
كيف ترجموا هذه الآية؟
كلما تقدمت في هذا المؤلف الوجيز تزعجني هاتان الواهمتان، الأولى:
هل يوجد من يشعر بأني راغب في اكتساب الشرف والعظمة بنقد المفسرين
والمترجمين؟ والثانية: هل أنا مصيب في ترجمتي وعلى حق في تفسيري؟ إن
في مكتبة هذا العاجز نسخة من الكتاب المقدس بالعبرانية، ونسخة من ترجمته
بالسريانية الجديدة، ونسخة ثالثة بالتركية مع نسخة من الإنجيل والتوراة باليونانية،
ولم أجد ما أحتاج إلى مراجعته من المؤلفات في مكتبة بايزيد العامة لإكمال هذا
العمل النافع، فأنا مضطر إلى الاكتفاء بما عندي من هذه الكتب على أنه ليس في
المطبعة حروف عبرانية ولا يونانية.
وها أنذا أشرع في المقصود وقبل أن أدخل في بيان شرح الآية التي نحن في
صدد الكلام عنها وأبسط تدقيقاتي فيما سأورده في إثباتها بصورة مفصلة في الفصل
العاشر، أراني مضطرًا إلى تقديم بعض المقدمات الإيضاحية بعبارة مختصرة
فأقول:
إن الرعاة السوريين الذين ذُكروا في الآية لم يكونوا من خريجي أكاديمية أثينة،
وقد سمعوا جمهور الجنود السماوية يترنمون بتلك الأنشودة العجيبة، فلا يمكن إذًا
أن تكون الأنشودة باليونانية، هذا شيء لا يوجد من يعترض عليه، ومن البديهي
أنهم كانوا يرتلون التسبيح باللغة السريانية، ولم يذكر أنشودتهم المهمة هذه متى،
ولا المبشرون الآخرون، وأن لوقا كتب موعظته باللغة اليونانية لأنه روماني أو
لاتيني على ما هو معلوم من اسمه.
كلمتان وردتا في اللغة الأصلية للآية المذكورة ولم يدرك أحد ما تحتويان عليه
من المعاني تمامًا، فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من
السريانية على وفق ما وقع في التراجم إلى اللغات الأخرى، فبناء عليه يجب
البحث عن نشيد الملائكة في اللغة الأصلية؛ لأن لوقا إنما كتب كتابه متخذًا كثيرًا
من المؤلفات المتقدمة [2] مادة له، ثم إن تلك المآخذ المتقدمة صارت عُرضة لتنقيح
وتصرف مراقب مجمع نيقية [3] الفاقد للرأفة، وبعد كل ما كان فإن ترجمتها
باليونانية وقعت على الوجه الآتي كما في ترجمة (بايبل سوسايتي) :
(الحمد لله في الأعالي، على الأرض سلامه، في الناس حسن الرضا) .
ومن البديهي أن الملائكة لم ينشدوها باللغة اليونانية، وإلا كانوا كمن يكلِّم
الرعاة الأكراد في جبل هكاري باللغة اليابانية، فلنبين الآن التفسير الصحيح
الحقيقي للكلمتين (إيريني، السلامة) و (أيودكيا، حسن الرضا) فيا للعجب!! لكن
انظروا أولاً إلى هذا التفسير الذي فسَّروه هم.
أولاً: كلمة (دوكسا) مشابهة لكلمة (الحمد) في العربية والعبرانية
والسريانية وهي من الألفاظ المشتركة بين جميع اللغات السامية، و (دوسكا)
مشتقة من (دوكو) أو (دوكئو) .
وبناء على ذلك تكون التسبيحات بمعنى: حمد وعقيدة وفكرة، والكلمة
المستعملة في السريانية بمقابل (دوكسا) هي كلمة (تشبوحتا) وفي اللاتينية
Gloria، والفرنسيون والإنجليز والملل العربية تستعمل كلمات تشبهها.
كثيرًا ما نصادف في صحائف كتب العهد القديم كلمات بعين الكتابة مشابهة
لكلمات (حمد) و (أحمد) و (محمد) فمما يشابه (محمد) ما جاء في (ملوك أول
20: 6 وهوشع 9: 16 ويوئيل 3: 5 ومراثي أرميا 1: 7 و11 ... إلخ) .
فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هي (إيريني) فقد ترجمت
بكلمات (سلامة) و (مسالمة) و (سلام) لكني لا أفهم لماذا يترجم مترجمو
(بايبل سوسايتي) اللفظ الواحد مرة (سلام) ومرة (سلامة) وأخرى (مسالمة) ؟
إن كلمة (إيريني) بمعنى (سلم) و (سلام) وهي من الألفاظ المشتركة بين
جميع اللغات السامية [4] كما أن كلمة (حمد) كذلك موجودة في جميع تلك اللغات،
ففي السريانية (شلم) وفي العبرانية (شالوم) التي يستعمل في مقابلتها الغربيون
المنسوبون إلى اللغات اللاتينية Peace Pax, Paix, Pace,.
من المعلوم أن لفظ (إسلام) يفيد معاني واسعة جدًّا، ويشتمل على ما تشتمل
عليه ألفاظ (السلم، السلام) و (الصلح، المسالمة) و (الأمن، الراحة) أي أن
من أسلم وجهه لله واجب الوجود يكون مسلمًا، وتزول من قلبه العداوة والخصومة
التي يثيرها الكفر بالإيمان الذي يحل في قلب من أسلم مع الإقرار باللسان، فهو
للقلب راحة، وفي الآخرة أمان، ومن المسلمين المجاورين اطمئنان على العرض
والنفس والمال، وهذا الإسلام يعطي راحة للفكر، واطمئنانًا للقلب، وأمانًا يوم
القيامة.
إن الكلمتين (إيريني) و (شلم) تفيدان هذا المعنى بعينه، وأما كلمة (إسلام،
سلام) فهي مع ما تشتمل عليه من المعاني التي شرحناها آنفا باختصار تتضمن
معنى زائدًا وتأويلاً آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى؛ ولكن قول الملائكة
(على الأرض سلام) لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة؛ لأن جميع
الكائنات وعلى الأخص الحية منها ولا سيما النوع البشري الموجود على كرة
الأرض دارنا الصغيرة هي بمقتضى السنن الطبيعية والنواميس الاجتماعية خاضعة
للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات، وذلك لكي يتمتعوا
بالحياة والرقي، ويعلو قسطهم من قانون الترقي والتكامل، وهذه النزعة الفطرية
الضرورية من غرائز البشر تُحْدِث لهم ضروب الاختلاف والتنازع، وتحملهم على
الشقاق والجدال والجلاد.
فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة ولا يتمكن
أي دين كان أن يضمن دوام السلم العام بين الأمم والأقوام حتى لو تعلقت إرادة الله
عز وجل بذلك لاقتضى أن يبدل سننه الاجتماعية في طباع البشر ونظام معايشهم
ويغير النواميس الطبيعية فيهم ويستبدل بها غيرها.
إن الحكومات المستريحة الآمنة المسالمة إذا لم تكن على حذر دائم من عدوها
تكون مقضيًّا عليها بالتدلي والسقوط، ولا تزال تتقهقر حتى تصير إلى البداوة
والانحطاط أو الاضمحلال، وإذا كانت الأمم لا تخشى اعتداء على حياتها أو
عرضها أو مالها، والحكومات الحاضرة لا تحسب للدماء ولا للنار حسابًا، فلماذا
نراها منهمكة في المسابقة إلى الاختراعات الحربية المرعبة التي نشاهدها؟ خرقوا
جبال الألب من أسفلها وهي التي تمردت على ذكاء (بونابرت) و (أنيبال)
وهمتهما، وعبَّدوا الطريق فيها حتى صارت تمر منها القطارات بالكهرباء، ويساق
فيها الجيوش.
ليقم كبار العرب - الذين سافروا من حضرموت إلى الصين وجاوا - من
أجداثهم ولينظروا إلى تلك البحار التي مخروا فيها والأمواج التي تسنموا غواربها
ماذا يريدون؟ أما البحار فهي هي بعينها، ولكن أي سفن أنشئت، وأي الآلات
اخترعت لطي تلك المسافات بالسرعة العجيبة؟ وإلى الرياح العاتية والعواصف
القاصفة في جو السماء؟ هي وإن كانت باقية على حالها منذ القدم، ولكن ليبصروا
كيف أن الفن أنفذ فيها التلغراف اللاسلكي وسخَّرها كخادم له، ثم لينظروا هذه
المناطيد والطيارات، والمدرعات والغواصات والدبابات، من مخترعات العقل
والفن، ما أوجدتها إلا الضراوة بالحرب، وعدم الثقة بمعاهدات الصلح، والأمان
من الحرب، وإذًا يكون (السلام) الذي هتفت به الملائكة ليس عبارة عن
الاستراحة والمسالمة الدنيوية، أو أن يدخل جميع الناس الكنيسة فيصبحون آمنين
مرتاحين تحت إدارة الأساقفة والرهبان خدام الأسرار السبعة، بل إن كان في الدنيا
شيء قد اكتسب أكبر شهرة في اقتراف المظالم وإيقاد نيران العداوة فلا شك أنها
الكنيسة، أقول: لا شك؛ لأن تلك حقيقة تاريخية ثابتة بالفعل، ويقول المسيح نفسه:
(ما جئت لألقي سلامًا على الأرض) وأما الذين يصدِّقون بأنه سيتأسس صلح
عام، فأولئك هم عبيد الوهم والخيال.
الإسلام
الإسلام دين أساس إدارته وحكمه العدل المطلق الذي لا هوادة فيه؛ لأن
الجرائم والجنايات تعاقب عليها يد العدالة؛ ولكن الأشرار والمنافقين من المسلمين
لا يزالون يسعون في الأرض فسادًا، ولم يخل زمن الخلفاء الراشدين - مثال العدل
المطلق الكامل - من مثل هذه الاختلافات والشقاق من الحروب.
إذن فماذا كانت تقصد الملائكة؟ هل قصدت (سلام عليكم) (شلم لحن) كما
يريد أن يحيي بعضنا بعضًا، ويؤدي له رسوم المجاملة؟ الناس يمكنهم أن
يستعملوا ما يشاءون من الكلمات الرقيقة لأجل المجاملة؛ ولكن لا حكمة ولا حاجة
أبدًا إلى ذلك في التبشير السماوي، ولا سيما إذا كان من قبل جيش من الملائكة
يترنمون في جو الأفلاك.
(إيريني) أي (الإسلام) هو الدين المبين، وحبل الله المتين، المكمل
للإنسان جميع وسائل تَرَقِّيه المادية والمعنوية، والكافل له سعادة الحياة والعيش
الرغيد إلى الأبد.
مهما أكن حريصًا على التزام الاعتدال، وعلى سوق القلم فيما لا يجرح
عواطف المسيحيين، فلا بد أن أكون معذورًا إذا ما تجاوزت أحيانًا هذه الخطة.
رحماك ربي، ما أكثر ما ينحي به أحرار الفكر [5] والموحدون في أوروبا
وأمريكا على النصرانية من التحقير الشفهي، والاعتداء التحريري، ومن المعلوم
بالضرورة أن مثل تلك المطاعن لا تقع في بلاد المسلمين كتركيا.
ما كان أجدر الكنائس بخدمة الإنسانية لو صرفت عنايتها في مجامعها الكبرى
من مجمع نيقية إلى آخر مجمع للفاتيكان [6] عن فحص الأسرار والأشياء السحرية،
ووجهت همتها إلى المعاني العميقة للآية التي نحن بصدد التدقيق في معناها: كم
كان للمسيح من طبيعة وإرادة؟ هل كانت أمه مريم إذ كان في رحمها بريئة من
الذنب المغروس أم لا؟ عندما يتحول الخبز والخمر إلى لحم المسيح ودمه في
القربان المقدس هل يفقدان جوهرهما أم أعراضهما فقط؟ إذا كان عقد النكاح
كارتباط المسيح بعروسه الكنيسة أبديًّا، فيكون افتراق الزوجين وانفصال أحدهما
عن الآخر محالاً حتى الموت أم لا؟ هل ينبثق الروح القدس من الآب وحده، أم
من الآب والابن معًا؟ واأسفا على الكنيسة التي تشتغل بمثل هذه المسائل.
إذن فالملائكة أرادت أن تقول: (سيؤسس دين الإسلام على الأرض) .
أقول إلى رهبان البروتستانت وواعظيهم الذين يدَّعون أن المسيح جاء بالسلام:
إن مُدَّعاكم غلط محض، وإن المسيح قد قال صريحًا وتكرارًا إنه لم يأتِ بالسلام بل
بالسيف والنار والاختلاف والتفريق بين الناس، فلا مناسبة للسلام بالمسيح ولا
بالمسيحية، ودونكم هذه النصوص.
(لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا (إيريني) على الأرض ما جئت لألقي
سلامًا بل سيفًا) (متى 10: 34) وفي موعظة أخرى للمسيح: (جئت لألقي
نارًا على الأرض، أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض، كلا أقول لكم:
بل انقسامًا) (لوقا 12: 49 - 53) .
إن تدقيقاتنا ومطالعاتنا العميقة في هذا الموضوع مندرجة في الفصل العاشر
ولكن اضطررت ههنا عند تحقيق معنى الإنجيل إلى تدقيق في المعاني المهمة التي
تتضمنها الآية المذكورة لا غير؛ فإن الملائكة في هذه الآية تخبر وتعلن صريحًا
بأنه سيظهر دين باسم (الإسلام) و (السلم) .
فإذا كانت هذه الفكرة التي بيَّناها باطلة، فالآية المذكورة ليست إلا نغمة لا
معنى لها (حاشا) فما دامت النصرانية تعتقد أن الآية المذكورة وحي وإلهام من
قبل الملائكة حقيقة، فيجب علينا أن نقبلها مثلهم، ونضطر إلى الاعتقاد بأنها أهم
وأعظم شأنًا من أية آية في الكتب السماوية؛ لأن هذا الإلهام ليس من قبل نبي أو
رسول أو ملك واحد، بل هو إلهام من قبل جمهور من الجنود السماوية يهللون
ويترنمون بالذات، فنحن على هذا مضطرون إلى قبول أن محتوياتها أيضًا عبارة
عن تظاهرات كبيرة وتجليات مهمة جدًّا تتعلق بمنافع البشر وبنجاتهم في المستقبل.
ولنبين أن أنبياء الله قد استعملوا من قبل في أسفار التوراة (العهد العتيق) هذا
المعنى اللغوي لكلمة (إسلام) بمادة هذا المصدر نفسه ومشتقاته وهي (سلم، تسليم،
إسلام) العربية، و (شلم، شلوم) العبرانية، و (شلم) السريانية على الوجه
الآتي:
(أشعيا 44: 26 و28) : إتمام، إكمال، إكمال النقص، الذهاب به إلى
مكانه.
(أشعيا 38: 12) : الإنهاء، الإيصال إلى المنتهى.
(أمثال سليمان 16: 7) : المصالحة، الصلح مع.
(يشوع 10: 1 - 4) : عقد الصلح والمصالحة، التسليم والضبط.
فالإسلام عبارة عن الدين المتمم والمكمل للأديان السابقة والحاكم في الاختلافات
الكائنة بين اليهودية والمسيحية والمصلح بينهما، ومدخلهما في ضمن دينه المكمل
المتمم ليكون الجميع سوية مُسلِّمين لله، مسلمين ومؤمنين.
أليس لهذه الآية رابطة بصورة بليغة بآية القرآن المجيد التي نزلت على
حضرة خاتم الأنبياء في حجة الوداع؟ وبلغها لأكبر مجتمع في عصره {اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
(للنموذج بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) في الترجمة العربية: وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة، والمؤلف يعلم هذا ونقله فيما يأتي ولكنه يقول هنا: إن الأصل الصحيح هو ما قاله ثم شرحه في التفصيل الآتي اهـ مصححه.
(2) (لوقا 1:1 -4) .
(3) نيقية هي بلدة أزنيق من توابع خداوندكار.
(4) سام أحد أولاد نوح عليه السلام وهو جد الأقوام السامية.
(5) أحرار الفكر - هم الذين ينتقدون كل الأديان والفرنسيون يسمون هؤلاء (ليبر بانسور) .
(6) مجمع الفاتيكان معطل الآن، وكان قد دعى من قبل (بيونونو) .(32/745)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المنار ومجلة مشيخة الأزهر
المقال الخامس
البُهيتة الأولى: إنكار الملائكة
زعمت مجلة مشيخة الأزهر أن صاحب المنار (قرر أن الملائكة عبارة عن
القوى الطبيعية) واحتجت عليه (بالحوار بينها وبين الله تعالى) وبقوله تعالى:
{وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء: 136) .
فهل يريد محرر هذه المقالة بما بهتنا به أن يعتقد قراؤها الذين أنشئت
لإرشادهم بلسان هذا المعهد الإسلامي العظيم أن صاحب المنار لا يؤمن بالملائكة،
وهو الذي أنشأ مجلته منذ خمس وثلاثين سنة لدعاية الإسلام والدفاع عنه وتبرئته
من البدع والخرافات التي تصد عقلاء البشر عنه وتفتح لهم أبواب الطعن فيه وهو
المفسِّر للقرآن بالجمع بين المعقول والمنقول وتنزيهه عن الخرافات الإسرائيلية
وغيرها، وهو المتصدي للإفتاء العام في أصول الدين وفروعه حتى لقَّبه العلامة
الشهير الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي بمفتي الآفاق، على رغم أنف كل
ذي حسد ونفاق، هل يريد أن يقول في هذا الرجل إنه ينكر أن لله ملائكة منهم
الروح الأمين مبلغ وحي الله لرسله، ومنهم حملة العرش، ومنهم ملك الموت
وأعوانه، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والمدبرات لأمور الخلق بإذن الله.
من كان لا يؤمن بالملائكة فهو لا يؤمن بوحي الله إلى رسله، ولا يكون مسلمًا
ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مليًّا وثنيًّا، فإن كان صاحب المنار من هذا الصنف
فلماذا سكت له على كفره هذا علماء الأزهر الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام مدة
35 سنة، وهو يطالبهم في كل مجلد من مجلته كما يطالب جميع من يطلع عليها
بأن يكتبوا إليه بما يرونه باطلاً أو منتقدًا فيها مع بيان دليله لينشره لهم فيطلع عليه
سائر قرائه كيلا يضلوا بما ضل هو به؟ حتى إذا سخط عليه أحد محرري مجلة
المشيخة بانتقاده لبعض ما نشره فيها من تأييد البدع والخرافات، بتحريف الآيات
وتصحيح الموضوعات - أظهر للناس هذا الطعن انتقامًا لنفسه ولها، لا خدمة للدين،
ولا نصيحة للمسلمين، فهل كانوا عاجزين أو جاهلين، أم لا يهمهم أمر الدين؟
هذا ما نقوله من ناحية الالتزام العقلي، ونقفي عليه ببعض الشواهد الناطقة
بعقيدة الإيمان بالملائكة واتباعنا عقيدة السلف الصالح فيها، ويجب أن تكون هذه
الشواهد بعضها من كلامنا في التفسير وفي مجلة المنار، وبعضها من كلام الأستاذ
الإمام في تفسير المنار نفسه وفي تفسيره هو لجزء عم.
ذلك بأن شبهة المفتري في هذه المسألة هي عبارة للأستاذ الإمام قالها في درس
التفسير بالأزهر ونقلناها عنه في المجلد الخامس من المنار سنة 1320 فاستشكلها
بعض من سمعها منه وبلغوه ذلك فوضح مراده في درس آخر، لا يزال في علماء
الأزهر الذين حضروه من يذكره، وقد صرح به في مجلس الصلح أحد محرري
مجلة المشيخة، ثم كتب بيده إيضاحًا له نشرته في تفسير الجزء الأول معزوًّا إليه
رحمه الله مطبوعًا بحرف أكبر من الحرف الذي نطبع به التفسير.
فهذه مسألة فرغ منها منذ 31 سنة، ومن مقاصدها إثارتها الطعن في دين
الأستاذ الإمام وعلمه من وراء حجاب الطعن في صاحب المنار، مع العلم بأن
صاحب المنار إذا كتب فيها فلا بد له أن يعزوها إلى الأستاذ الإمام، فيرميه الطاعن
بأنه هو الذي أظهر كفر أستاذه للناس، وكان من حق الوفاء له عليه أن يقبل الطعن
على نفسه وحده؛ ولكنه قليل الوفاء، وقد كتب الطاعن مثل هذا في مسألة الطعن
علينا بإنكار وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم والمنكر له هو الأستاذ
الإمام في تفسيره لجزء عم لا في المنار وله سلف فيه من أئمة العلماء، وسيأتي
بيان ذلك في محله، وهاك الشواهد:
الشاهد الأول
إن أول موضع ذكرت فيه الملائكة من تفسير المنار لسورة البقرة هو قولي في
الإيمان بالغيب من تفسير الآية الثالثة ما نصه:
(الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا
يدركه الحس، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم،
ولا شك أن الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها الله
سبحانه وتعالى - وباليوم الآخر، إيمان بالغيب. اهـ من صفحة 127 من جزء
التفسير الأول) .
فهل هذا النص على أن الملائكة جنود لله تعالى من عالم الغيب لها مزايا
خاصة بها، يتفق هو والقول بأنهم عبارة عن القوى الطبيعية.
الشاهد الثاني
ذكرت في الكلام على الوحي من سياق إعجاز القرآن من تفسير سورة البقرة
أيضًا أن ملك الوحي يتمثل للأنبياء عليهم السلام واستشهدت عليه بآيات، ثم قلت:
(وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم إنه ممكن في نفسه، وقد
أخبر به الصادق فوجب تصديقه، ونقول اليوم إن العلوم الكونية لم تُبق شيئًا من
أخبار الغيب غريبًا إلا وقربته إلى العقل، بل إلى الحس تقريبًا، بل ظهر من
الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يُعد عند الجماهير محالاً في
نظر العقل - لا غريبًا فقط - فإذا كان الإنسان الكيميائي يحلل الأجسام الكثيفة حتى
تصير غازات لا ترى من شدة لطفها، ويكثف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة
بطبعها، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه، وهو من الأرواح ذات المِرَّة والقوة
العظيمة، بأخذه من مواد العالم المنبثة فيه هيكلاً على صورة إنسان مثلاً؟ دع
مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب
إلا وفيها نظير له يقربه من الحس لا من العقل وحده، وهل الكهرباء إلا قوة
مسخرة للملائكة اهـ. ويليه كلام في أرواح البشر وقول الإمام مالك فيها (راجع
ص220 من جزء التفسير الأول أيضًا) فهل معنى هذا أن الملائكة من القوى
الطبيعية؟
الشاهد الثالث
قلت في الكلام على الملائكة من تفسير آية البر ما نصه: إن الإيمان بالملائكة
أصل الإيمان بالوحي؛ لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على
روح النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موضوع الدين، ولذلك قدَّم ذكر الملائكة
على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193-195)
فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة، إلى أن قلت: والملائكة خلق
روحاني عاقل قائم بنفسه، وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير
مرة اهـ (صفحة 123 و 124 من جزء التفسير الثاني) فهل معنى هذا أن
الملائكة قوى طبيعية؟
الشاهد الرابع
قلت في تفسير آية النساء {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (النساء:
136) الآية التي أوردها عليّ ما نصه (فالإيمان بالله هو الركن الأول، والإيمان
بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان
بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان
بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلَّغوها للناس هو الركن الرابع ...
إلخ (راجع ص 459 ج 5 تفسير) فهل يمكن أن يكون المراد بالملائكة الذين
يحملون الوحي إلى الرسل عليهم السلام القوى الطبيعية.
الشاهد الخامس
كتبت في الصفحة 316 وما بعدها من جزء التفسير السابع في الكلام على
اقتراح المشركين إنزال ملك على النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم في تفسير
الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الأنعام بحثًا طويلاً في عدم استعداد البشر لرؤية
الملائكة في صورهم الأصلية لقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} (الأنعام: 9) أذكر من هذا البحث ما نصه:
(والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة
والجن في حالتهم التي خُلقوا عليها، كما قال تعالى في الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) لا لأنهم لا يطيقونها لهولها، بل
لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام
كالماء، وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دون ما هو ألطف منه كالهواء، وما
هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء، والملائكة والجن
من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر، وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة
وراء عالم المادة، وليس عند المتكلمين عالم غير مادي ولذلك يعدون الملائكة
والجن من الأجسام اللطيفة، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام
الكثيفة، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف
(كالسحاب) وصورة المائع السيَّال وصورة الثلج الجليد؛ ولكن الماء يتشكل بما
يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله
لهما سلطانًا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين
يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم
وتركيبها مع غيرها من المواد، فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة
البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه؛ ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته
الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما، فإذا وقع ذلك كرؤية
النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات، والخوارق لا
تثبت إلا بنص؛ لأنها خلاف الأصل، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل،
إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة، فيكون
التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية، والتشكيل في غيرها
بالمادة والصورة معًا، وعلى أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما
ليس لغيرها، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة،
فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تَجَلَّوا لهم فيه) اهـ.
الشاهد السادس
كتبت في ص 162 وما بعدها من جزء التفسير السابع بحثًا آخر في تشكل
الملائكة والجن في الصورة ورؤيتهم في هذه الحالة، وفيه إثبات رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم لغير جبريل من الملائكة ورؤية بعض الشياطين.
الشاهد السابع
قلت في تفسير {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206) وهي آخر آية من سورة الأعراف ما نصه: أي
أن ملائكة الله المقربين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافّين من حوله ومن شاء
تقدس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه وهم أعلى مقامًا من الملائكة
الموكلين بالمخلوقات وتدبير نظامها لا يستكبرون عن عبادته ... إلخ، فراجعه في
(ص 558 من جزء التفسير التاسع) .
ولو شئت أن أذكر جميع الشواهد من تفسير المنار على أن الملائكة خلق
روحاني مستقل قائم بنفسه، وأنهم أنواع أولو عبادات مختلفة وأعمال كثيرة لا
يحيط بها إلا خالقها، وأن الإيمان بها واجب، وإنكارها كفر لازب لمل القارئ لها.
وهذه الشواهد نصوص قاطعة في ذلك بدحض المفتري لهذه البهيتة التي أراد
بهتنا بها من إبهام المطلع على كلامه أننا ننكر حقيقة الملائكة ونجعلهم أعراضًا
لغيرهم، ونقفي عليها بدحض شبهات علينا من كلام الأستاذ الإمام يشتمل على
شواهد أخرى من كلامه وكلامنا أخرناها لمناسبتها لها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(32/753)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال السادس
شبهة الطاعن المحرِّف في مسألة الملائكة
إن تفسيرنا للآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة قد بلغت
53 صفحة من الجزء الأول من تفسير المنار (صفحة 231 إلى 284) وأكثره
لشيخنا الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه، فانتزع طعان مجلة الأزهر منها عبارة واحدة
فرعية محكية جعلها أصل الموضوع وعقيدة لصاحب المنار في الملائكة بقول
الزور؛ وإنما هي حكاية حكاها الأستاذ الإمام عن بعض الناس ونقلها مؤلف التفسير
عنه، فلو كانت كفرًا لكانت من باب حاكي الكفر ليس بكافر فكيف بالحاكي عن
الحاكي، وإننا نلخص الموضوع في خمس مسائل بعبارة مختصرة يفهمها كل قارئ.
المسألة الأولى
إن آيات محاورات الملائكة للرب عز وجل في خلق آدم عليه السلام من
المتشابهات الواردة في شأن عالم الغيب، وإن لعلماء المسلمين في مثلها طريقتين:
(إحداهما) : طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيَّد العقل فيه النقل ...
وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون
كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرِّب هذه
المعاني من عقولنا ومخيلاتنا.
(والثانية) : طريقة الخلف وهي التأويل، يقولون إن قواعد الدين الإسلامي
وُضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول، فإذا جزم العقل
بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يُراد
به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل.
(قال الأستاذ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما
يتعلق بالله وصفاته وعالم الغيب، وإننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين
لأنه لا بد للكلام من فائدة يُحمل عليها؛ لأن الله عزوجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد له
معنى.
هذه عبارة الأستاذ الإمام التي أوردتها في ص 42 من مجلد المنار الخامس،
ثم في ص 252 من جزء التفسير الأول، ثم زدت عليها قولي:
(وأقول) أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم
عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى؛ وإنما أذكر من كلام شيخنا وغيره ومن
تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري للناس أن ما انتشر في الأمة
من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب
السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما
يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم.
ثم وضحت هذه المسألة في صفحة 253 برمتها، فبيَّنت فيها للقارئ المؤمن
أن الخير له أن يطمئن بمذهب السلف ولا يحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبه إلا
بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليه باتفاق أهل السنة سلفهم وخلفهم.
***
المسألة الثانية مذهب السلف في الملائكة
قال الأستاذ الإمام: أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى
بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة
حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا
نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطير إذ لو كانت كذلك لرأيناها،
وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فإننا نستدل بذلك على
أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه
وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا، بل يحكم بإمكانه لذاته ويحكم بصدق
الوحي الذي أخبر به. اهـ من الصفحة 254ج أول تفسير، فهل يتفق هذا مع زعم
مجلة الأزهر أننا نقول إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية؟
ثم تكلم فيمن بحثوا في جوهر الملائكة، وقفى عليه ببيان فوائد الخطاب بينهم
وبين الله تعالى وهي أربع تُراجع في ص 254 و255 منه، وقفى على هذا
بطريقة الخلف، ومن تكلم منهم في حقيقة الملائكة وكون قصة آدم على طريقتهم
(وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية
وما لها من المكانة والخصوصية) .
***
المسألة الثالثة أنواع الملائكة
قال رحمه الله: نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق
العالم أنواعًا مختلفة، وخصَّ كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا
يتعداه، فأما ما لا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد في الآيات
والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لاَ يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 20) {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات: 165-166) {وَالصَّافَّاتِ صَفاًّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} (الصافات:
1-2) ... إلخ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً *
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 1-5) على قول من قال: إن
المراد بها الملائكة، إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة
محدودة، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائمًا والراكع دائمًا إلى يوم القيامة
اهـ (من ص 259 منه) أفلا يُعَد هذا نصًّا صريحًا في افتراء مجلة الأزهر علينا
بأننا نقول: إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية.
***
المسألة الرابعة في الملائكة والشياطين والخواطر
قال الأستاذ الإمام في الملائكة والشياطين ما نقلته عنه في الصفحة 266 وما
بعدها من جزء التفسير الأول ملخصًا (والعبارة لي) : تقدم أن الملائكة خلق غيبي
لا نعرف حقيقته؛ وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه،
وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن
إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه
وسلم، وقد أُسنِدا إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهامًا،
وخواطر الشر التي تسمى وسوسة - كل منهما محله الروح، فالملائكة والشياطين إذًا
أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة
لنا (لأن هذه [1] لو اتصلت بأرواحنا؛ فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن
لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة، ولا عند الشعور بداعي الخير من
النفس، فإذًا هي من عالم غير عالم الأبدان قطعًا) والواجب على المسلم في مثل
هذه الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل، ثم
الاعتبار بها بالنظر في الحِكَم التي سيقت لها القصة.
(وأقول) : إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة،
وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها
السلام، ومن حديث الشيخين في المُحَدَّثين وكون عمر منهم (والمحدثون بفتح الدال
وتشديدها الملهمون) ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو (إن للشيطان
لمة بابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة
الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على
ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة: 268) قال الترمذي: حسن غريب لا نعلمه مرفوعًا
إلا من حديث أبي الأحوص، والرواية (إيعاد) في الموضعين كما أن الآية من
الثلاثي في الموضعين، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا
فهو غير صحيح، واللمة بالفتح: الإلمام بالشيء والإصابة.
***
المسألة الخامسة وهي مثار شبهة مجلة الأزهر
جاء في صفحة 267 وما بعدها منه ما نصه:
قال الأستاذ: وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة، وهو
أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة
حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك - فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر
العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة
فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة وكذلك يقال في الحيوان والانسان، فكل أمر
كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده؛ فإنما قوامه بروح إلهي
سُمي في لسان الشرع مَلَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني
القوى الطبيعية إذ كان لا يُعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها
في الطبيعة، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها
، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي
تسميته ملكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي
تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة
واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات [وإن كان المؤمن بالغيب يرى
للأرواح وجودًا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن
أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكل يقر بوجود
شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى
إدراك كنهه، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب
عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره وإن كنت لا أقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين
بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به
المؤمنين؟] اهـ ما قاله الأستاذ الإمام في المسألة وهو محل التهمة، وهذه العبارة
التي بين العلامتين هكذا [] قد كتبها بقلمه كالتي قبلها.
***
خلاصة ما تقدم من الرد على هذه البهيتة
(1) إن عقيدتنا وعقيدة شيخنا الأستاذ الإمام في الملائكة هي عقيدة سلف
الأمة الصالح، وهي أنهم من عالم الغيب الذي نؤمن بكل ما جاء في كتاب الله،
وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أخباره، من غير تأويل ولا زيادة ولا
نقصان ولا رأي ولا قياس، وقد أكثرنا من الشواهد على هذه العقيدة، وخلاصتها
أن الملائكة من عالم الأرواح العاقلة المستقلة، وأنهم أنواع لكل منها وظائف
وأعمال خاصة به لا نبحث عن حقيقتها بآرائنا.
(2) إن علماء الكلام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء يتأولون أكثر أخبار
الغيب من صفات الله وأسمائه ومنها بعض ما ورد في الملائكة.
(3) اتفاق علماء السلف والخلف في الأمة على تأويل شيئًا منها تأولاً مبتدعًا
لا ينقض شيئًا من أمور الدين القطعية المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة
وهو مذعن للأمر والنهي يكون معذورًا في تأوله فلا يحكم بكفره.
(4) إننا نقلنا عن أستاذنا في تفسير قصة آدم أن بعض المفسرين من علماء
الخلف المتأولين ذهب إلى أن مجموع ما ورد في نوع الملائكة الموكلين بالأعمال
(من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك لا في كل أنواع الملائكة فيه
إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة) وخلاصة هذا الايماء أن الروح
الإلهي الذي قام به نظام هذه الأعمال هو أمر وجودي خفي لا ندرك حقيقته، وأن
المعنى الإيمائي - لا المطابقي لمعنى النصوص - يتفق مع قول الذين يثبتون هذا
الروح الخفي من المنكرين للوحي وعالم الغيب، ويعبرون عنه بالقوى الطبيعية في
الأشياء؛ لأنهم إذا سئلوا عن حقيقة هذه القوى يعترفون بأنهم لا يعرفونها، وبهذا
يكون الخلاف في التسمية، فالمؤمنون بالوحي يسمون ما به نظام هذه المخلوقات
بالملائكة، ومن لا يؤمنون بالوحي يسمونها القوى الطبيعية، والجامع بين
التسميتين أن ذلك أمر يعرف بأثره ولا تعرف حقيقته.
فالأستاذ يحكي هذا عن بعض المفسرين وأنهم قالوه من باب الإيماء والإشارة لا
من باب التفسير للنص أو الظاهر من العبارة. وصرح بأن غرضه منه أن من يميل
إليها ويطمئن إليها قلبه لا يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة السمحة، فهو لم يكن
موافقًا لهم على هذا الإيماء بل لم يكن موافقًا لهم على ما قالوه من أن هذا النوع من
الملائكة هم المراد بمثل قوله تعالى: ( {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: 1)
إلى قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 5) فإنه فسر هذه الأشياء في سورتها
بالكواكب لا بالملائكة.
(5) إن محرر مجلة مشيخة الأزهر والعضو في هيئة كبار علمائه يرى هذا
كله ثم ينشر في هذه المجلة أن الشيخ رشيد رضا قد قرر في مجلته وتفسيره أن
الملائكة في جملتهم عبارة عن القوى الطبيعية واحتج عليه بحوار الملائكة لربهم في
خلق آدم عليه السلام وبآيات أخرى، ليفهم قراء هذه المجلة التي رزئ بها الاسلام
أن صاحب المنار ينكر أن يكون لله ملائكة غير هذه القوى الطبيعية.
فإن كان هذا العلامة لم يفهم مما ذكر كله على جلائه ووضوحه وتكراره
والتكرار يعلم ... (ما نستهجن ذكره ولا يجوز تغيير الأمثال) ويؤثر في الأحجار،
كما قال الشاعر:
أما ترى الحبل بتكراره ... في الصخرة الماء قد أثرا
أقول: إذا كان لم يفهم من هذا كله أن صاحب المنار ناقل عن ناقل عن بعض
المفسرين المتأولين المخالفين لاعتقادهما الثابت بما تقدم من الشواهد الصريحة
وغيرها، فصرح لعدم فهمه وتمييزه بين المنقول للتقريب، والمقول المعتقد مع
التأكيد، بان صاحب المنار هو الذي يعتقد لما نقله عمن نقله عن غيره، دون ما
صرح بأنه اعتقاده الذي يدين الله به - فكيف يوثق بعلمه وفهمه ويجعل مدرسًا في
الأزهر ومحررًا في مجلته؟ وإن كان قد فهم هذا كله وتعمد تحريف الكلم عن
مواضعه، وافتراء الكذب على صاحب المنار بالطعن في عقيدته، انتقامًا لنفسه، بعد
أن بين صاحب المنار في مجلته خطأه وجهله بتصحيح بعض الأحاديث التي صرح أو
سع الحفاظ علمًا بالجرح والتعديل بوضعها، وعدم تمييزه بين دعاء العبادة الخاص
بإله العباد وربهم والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه خلقة، وبين دعاء العادة واستغاثة
الناس بعضهم ببعض في الأمور الكسبية، وعدم تمييزه بين السنة والبدعة. أقول:
إن كان قد فهم هذا كله واستباح معه هذا الانتقام بالتحريف والافتراء والبهتان فكيف
يوثق بدينه وبنقله، وبأمانته على العلم، ورحم الله الشاعر الذي قال:
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
يجب على الأمة أن تسأل شيخ الأزهر عن هذا فإن لم يجبها كما امتنع إلى
الآن عن الإذن لإدارة المجلة بنشر ما أرسلناه إليها من الرد على هذا البهتان،
ليرجعوا إلى بسط شكواهم إلى السلطة العليا المسيطرة على مشيخة الأزهر لعلها
تنصفهم منه وأختم هذا بأنني قد رددت في المنار على من قال بمثل ما نقله الأستاذ
الإمام عن بعض المفسرين أو قريب منه وهو تسمية بعض القوى الطبيعية بالملائكة
تأكيدًا لفضيحة المفتري ومجلة الأزهر.
***
رد المنار
على من زعم أن بعض العوالم الطبيعية وقواها
من الملائكة
إن المنار كان ولا يزال بالمرصاد لمتأولي نصوص الكتاب والسنة بما يخرجها
عما فهمه الصدر الأول، وقد قال الدكتور محمد توفيق صدقي في كتابه (دروس سنن
الكائنات) إن كلمة مَلَك أصلها مألك ومعناها الرسالة، فهي تطلق على كل رسول مما
يرسله الله إلى هذا العالم من المادة أو قواها فما يرسله منها يصح أن يسمى ملكًا بلا
نزاع فالريح تسمى ملكًا أو رسولاً من الله ولذلك قال تعالى في الرياح {وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً} (المرسلات: 1) إلخ، وإن أنواع المكروبات الخفية المؤثرة في تغيير
بعض الأشياء وتحولها وفي الأمراض كلها من قبيل الملائكة والجن.
وقد نشرت له هذا في ص 603 من مجلد الثامن عشر وعلقت عليه في
الحاشية بالرد الآتي.
(المنار)
ما قاله الكاتب في هذا البحث ضعيف لغة وشرعًا، إلا أنه مذهب له واصطلاح
خالف فيه الناس كما قال، ولكن له فائدة لا جلها أجزنا نشره، وهي أن المغرورين
بما أصابوا من علم البشر القليل بشئون الكون يتوهمون أنهم بذلك القليل من القليل قد
أحاطوا علمًا بهذا العالم العظيم وبخالقه أيضًا، وإن ما لا ينطبق على علمهم لا يكون
صحيحًا وإن كان ممكنًا في نفسه. فمثل هذه التأويلات تقطع ألسنة هؤلاء الواهمين
المغرورين دون الاعتراض على النصوص، أو تزيل شبهاتهم فلا يصعب عليهم بين
علمهم وبين الدين، ولا يكون أحدهم متدينًا مؤولاً، خير من أن يكون زنديقًا أو
معطلاً.
أما بيان ضعف ما ذكر لغة فلأن الألفاظ التي صارت حقيقة شرعية أو عرفية
لا يجوز أن يدخل في مفهومها كل ما يناسب الأصل الذي اشتقت منه، وأما ضعفه
شرعًا فهو أظهر، والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الايمان به
كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف، ويكفي في ذلك كونه ممكنًا
عقلاً، والايمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان والأول هو الإيمان
بالله تعالى فهل يدخل في مفهومه هذه الميكروبات التي يصفها هؤلاء الكتاب بالدنيئة
الحقيرة؟ كلا، وأما إدخالها في مفهوم كلمة الجن فليس ببعيد لغة ولا ممنوع شرعًا
فقد ورد أن الجن أنواع ومنه ما هو خشاش الأرض، ولا مانع في العقل ولا العلم
من كون بعض عوالم الغيب من الملائكة موكلاً ببعض شؤون الكون وسببًا له،
وتفصيل هذا البحث لا تتسع له هذه الحاشية. اهـ.
***
شبهة لفظية يظنها الجاهل علمية
نشرنا في صفحة 255 من مجلد المنار الخامس سنة 1320 تحت عنوان
الملائكة والنواميس الطبيعية ما نصه:
سأل سائل: إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية، والنواميس
التي بها نظام العوالم الحية، فما معنى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ} (النبأ:
38) وأمثاله؟ والجواب: أن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم مستقل
مستتر عنا، وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعية جذبًا لمنكري الملائكة إلى
التصديق لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون فكيف يكفرون لاختلاف الألفاظ؟ لا
أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم. اهـ.
وأقول الآن: إن هذه الشبهة التي عرضت لبعض الناس منذ 31 سنة وكشفنا له
خطأه فيها فعقله ورضيه هي التي يقولها الشيخ يوسف الدجوي حتى اليوم يقول:
إن التأويل الذي ذكر في تفسير المنار هو صريح في إرجاع نصوص الدين إلى
أقوال علماء الطبيعة، لا إرجاعهم هم إلى نصوص الدين، فهل يقول هذا بعد كل
ما تقدم رجل يعقل أو يفهم ما يسمع وما يقرأ له؟
بلغني أنه بنى على هذه الجملة في هذه الشبهة مقالاً طويلاً استدل فيه بها على
تأييد بهيتته الأولى بالرغم من كل ما تقدم، وهي إننا نعتقد أن جميع الملائكة قوى
طبعية وأننا نريد بذلك رد نصوص الدين إلى عقائد الطبعيين، وأراد نشرها في
مجلة المشيخة فمنع شيخ الأزهر المجلة من نشرها لما فيها من تسجيل فضيحة
المجلة وفضيحة الدجوي. وقد تعلق الدجوي من هذه الجملة بالإبهام والإجمال بكلمة
(لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون) أي ما يعتقد المنكرون لوجود الملائكة فأراد
أن يهدم بها جميع تلك النصوص الصريحة المفصلة المبينة التي كتب أكثرها
بعدها! ! لأن مبلغ الدجوي وأمثاله من العلم محصور في التشكيك والمناقشات في
العبارات الجزئية، دون تحقيق أصل الموضوع في المسائل العلمية كما تقدم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا التعليل كتبه شيخنا بقلمه بعد نشر هذا التفسير في المنار وقبل طبعه على حدته.(32/758)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال السابع
البُهيتة الثانية: إنكار الجن
هذه أخت التي قبلها، والكلام فيها متمم لما قبله ومشترك معه في بعض
شواهده كما تقدم في خاتمة المقالة السابقة، ولهذا قدمناها على مسألة الشمس.
قال في مجلة الأزهر بعد مسألة الملائكة (ومثل ذلك ما قرره في المكروبات
عند ذكر الجن في القرآن، وليت شعري هل هذه المكروبات الجنية هي التي كانت
تعمل لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور راسيات؟ وهل هي التي قال
عفريت منها لسليمان عليه السلام] أَنَا آتِيكَ بِهِ [بعرش بلقيس {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن
مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل: 39) ؟ وهل هي التي قالت لقومها: {إِنَّا
سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ
مُّسْتَقِيمٍ} (الأحقاف: 30) إلخ. اهـ بنصه وقد أعاد هذه المسألة في غير
المجلة.
يوهم محرر مجلة مشيخة الأزهر من ابتلاهم الله بقراءتها أن صاحب المنار
يقول أن الجن الذين أخبرالله بهم في كتابه عبارة عن هذه المكروبات التي كشف
الأطباء أمرها في القرن الماضي، وأنه ما ثم شيء يطلق عليه هذا الاسم واسم
العفاريت والشياطين غيرهم. وهذا افتراء وبهتان كالذي قبله سواء.
الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان وطريقتنا فيهم هي
وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله
صلى الله عليه وسلم لمن علم به وليس منه شيء قطعي يدخل في العقيدة، ولا نزيد
على ما ثبت عندنا من خبر المعصوم شيئًا.
وقد ورد ذكر الجن والشياطين وإبليس في مواضع كثيرة من أجزاء تفسيرنا
العشرة وفي مواضع كثيرة من مجلة المنار فأثبتنا في كل موضع من التفسير ما
أثبته الكتاب العزيز بما يقربه إلى العقل ورددنا على المنكرين والمتأولين لما هو
المتبادر من النصوص.
ولو أردنا إيراد الشواهد منها كالشواهد في الملائكة لطال الكلام فيما لا فائدة من
نشره في الجرائد اليومية وإنما نشير إلى بعض مواضعها لمن يريد مراجعتها،
ونكتفي منها بما نثبت به أن محرر مجلة مشيخة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء
فيه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يفهم ما يُقرأ له ولا يعقله مهما تكن درجة
وضوحه وتكراره!! وإما أنه يتعمد الكذب والبهتان والخيانة في النقل والعزو انتقامًا
لنفسه لا خدمة للعلم والدين. لتعلم الأمة أن العلم الصحيح لا يكون بالألقاب الرسمية،
ولا بمجرد الشهادات المدرسية. وقد بينا في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام ما كان
من قيمة شهادات العالمية في الأزهر وما كان من المحاباة والرشوة فيها قبل الإصلاح
الذي وضع قواعده ذلك المصلح العظيم، على أن الإصلاح لم يشفِ العلل كلها كما
يعلم أهل الأزهر أكثر من غيرهم. ومن شاء الوقوف على هذه الحقائق فليقرأ المقصد
الثاني من الفصل السادس من تاريخ الأستاذ الإمام من صفحة 425 484 باكيًا على
العلم والدين.
بعض الشواهد في مسألة الجن والشياطين
(1) جاء في تفسير {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} (البقرة: 34) من جزء التفسير الأول ص 265 ما نصه ملخصًا من درس الأستاذ
الإمام: (أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة كما يفهم
من هذه السورة وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة
والجن فصلاً جوهريًّا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف عندما
تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد
أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى:
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158) وعلى الشياطين في
آخر سورة الناس.
(2) زاد الأستاذ الإمام هنا بعد نشر تفسير هذه الآيات في المنار سنة 1320
ما نصه بخطه: (وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم
الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد فيه
نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. اهـ.
فكان رحمه الله يرى أن تعريف الملائكة والجن بالحد المنطقي متعذر لأنهم من
عالم الغيب، وقد اشتركوا في اسم الجن المفيد لمعنى الخفاء والستر، والمعقول أن
يكون تعريفهم بالرسم وهو الصفات كالطاعة والعصمة للملائكة دون الجن، فهم في
الجنس الروحي الخفي كالأنبياء في البشر، والشياطين كأشرار البشر الظالمين
المجرمين الفاسقين، وسائر الجن كسائر البشر يتفاوتون في الصلاح والفساد مثلهم،
وللراغب الأصفهاني كلام كهذا في مفردات القرآن ذكرته في تفسير سورة الأعراف.
(2) ما تقدم نقله عن الأستاذ الإمام في المسألة من بحث الملائكة وتعليقنا
عليه وهو مسألة إسناد الوسوسة إلى الشياطين والإلهام إلى الملائكة وما هو ببعيد.
(3) ذكرت في صفحة 96 من الجزء الثاني من التفسير أن قوله تعالى:
{وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة: 168) لا يقتضي
معرفة ذات الشيطان وإنما يعرف بأثرة وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في
النفس التي يفسرها قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) وفصلنا ذلك تفصيلاً، وكذا تفسير هذه الجملة بعينها
من آية 207 من سورة البقرة أيضًا وهو في ص 257 من الجزء وفيه تفصيل آخر.
(4) ذكرت في بحث إعاذة مريم وذريتها من الشيطان الرجيم من ص 29
ج3 حديث (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) وتفسير
البيضاوي للمس بالطمع في الإغواء، وقول الأستاذ الإمام أن الحديث من قبيل
التمثيل، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وما يرد على الموضوع
من قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: 42) ومشاغبة
دعاة النصرانية للمسلمين في تفضيل المسيح على نبينا وما يرد عليهم من إنجيل
مرقس في تجربة إبليس ليسوع المسيح أربعين يومًا لم يأكل فيها طعامًا مع تحقيق
المسألة. وهذا كله ينافي الافتراء علينا بأننا نقول: الجن والشياطين عبارة عن
الميكروبات فقط.
(5) في الصفحات 425 - 430 من جزء التفسير الخامس تفسير لقوله تعالى
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} (النساء: 117)
إلى الآية 119 بينت فيه نصيب الشيطان من الناس وإضلاله لهم واشتغالهم بالأماني
وما يأمرهم به في وسوسته، وحال من يتخذه وليًّا من دون الله، وهو في جملته
وتفصيله يدحض شبهة مجلة الأزهر وبهتانها.
(6) في ص 65 ج66 تفسير لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم} (الأنعام: 128) الآية، وفي أوله: وإنما يسمى كل من الجن والإنس معشرًا لأنهم
جماعة من عقلاء الخلق. وفي هذا البحث شبهنا تأثير الشياطين في النفس بتأثير
الميكروبات في الجسم بعد ذكر المنكرين لوجود الجن، وهذا نص عبارتنا:
فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه
بالفسق والفجور كما تقدم مفصلاً، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح
البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة
الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض
والأدواء، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم
الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها، بل إحداث الأمراض
الوبائية وغيرها بالفعل، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق
والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما
هو عليه بألوف من الأضعاف ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو
اليونان أو العرب أن في الأرض أنواعًا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم
البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة
عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة لقالوا إن هذا
القول من تخيلات المجانين، ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد
اكتشاف ذلك في الأجساد، وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفًا
من السنين أولى. وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل
اختراع هذه المناظير التي ترى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادًا
لما جاء به الرسل من خبر الجن، ففي الحديث (تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة)
والنسمة في اللغة كل ما فيه روح، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنَّفَس بالتحريك
أي تواتره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تَجَوُّز لا
يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر. وروي عن عمرو بن العاص: اتقوا غبار
مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة. وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله
الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه، وعمرو من فصحاء قريش
جهابذة هذا اللسان. اهـ.
وذكرت في مواضع أخرى من المنار ما ورد من الآثار في أنواع الجن ومنها
حديث (خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض
وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب) أخرجه ابن أبي الدنيا
والحكيم الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه. وفي معناه غيره.
(7) في (ص328 - 372 جزء 8) بسط قصة آدم مع إبليس. وقد فصلت
في هذا البحث ما تقدم في سورة البقرة من كون الجن الروحاني جنسًا يشمل الملائكة.
وقلت: إن لفظ الجنة اللغوي يشمل الجن الروحاني والجن المادي التي تسمى
المكروبات 342 ثم فصلت هذا في تفسير قوله تعالى من هذا السياق {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) تفصيلاً موضحًا لهذا البحث يراجع
في (ص 264 - 371) ومنه يعلم مأخذ شبهة المفتري المحرف للكلم عن
مواضعه، ولا نطيل القول في هذا لأنه لا طائل تحته، وحسبنا ما ذكرنا دليلاً على
قلة اطلاع المفتري علينا وسوء فهمه وفساد نيته، وما سيأتي في المقال الآتي أقوى
دليلاً، وأقوم قيلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) سبق ذلك في مواضع أشبهها بما هنا ما في (ص 508 - 515 ج 7) تفسير.(32/767)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال الثامن
البُهيتة الثالثة: ما سماه تكذيب سجود الشمس
هذه هي البهيتة الكبرى التي افترتها علينا مجلة مشيخة الأزهر وسمتها
(عظيمة العظائم) لتذكرنا من حيث لا يدري محررها بقوله تعالى فيما دونها من
الخوض في حيث الإفك {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) وكل جريمة تصغر وتتضاءل
دون ما سماه (تكذيب الله ورسوله وتجهيلهما) وقد أكثر من إعادتها وتكرارها في
الجرائد حتى كدنا نظن أنه صدق نفسه في اختلاقها أو خدع الناس فصدقوها،
والكلام فيها من وجوه:
(1) صيغة الفرية ومفهومها.
(2) مأخذها من تحريف مقال لنا في نصر السنة ودحض الشبهات عليها قلبه
إلى ضده.
(3) عبارتنا التي حرفها وزعم أنه نقلها بنصها وفصها.
(4) عبارة المفتري المحرف بنصها.
(5) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم.
(6) جوابنا عن حديث الشمس.
(7) أقوال العلماء المتقدمين في استشكاله والجواب عنه.
(1) صيغة الفرية ومفهومها:
قال المحرر بعد افترائه علينا الإفتاء بحل صلاة التلاميذ المسلمين مع النصارى
بالكنيسة وقد أخرنا الكلام عليه ما نصه باختصار، ولكن بدون تصرف:
(بل وصل الأمر من اجتهاد مجتهدنا.... أن اجترأ على تكذيب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي ذر من أن الشمس
تسجد تحت العرش وقال: إن الأنبياء لا تعرف هذه العلوم، ولو كان رشيدًا لم
يضق صدره بذلك ولوسعه إيمانه بالغيب، فإن لم يسعه إيمانه بالغيب، فكان ينبغي
أن يسعه علمه بسعة لغة العرب وكثرة مذاهب البيان فيها، فإن ضاق علمه كما
ضاق إيمانه فما كان ينبغي أن تضيق سياسته وهي التي وسعت الشرق والغرب.
وبيان ذلك أنه كان يستطيع أن يقرر في الحديث ما قرره العلماء في قوله تعالى
حكاية عن الأرض والسماء ( {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) .
ثم قال ما أذكره عملا بقول العلماء: حاكي الكفر ليس بكافر، وإنه لتقشعر منه
جلود المؤمنين:
(وكان ينبغي إذ لم يتسع صدره ولا إيمانه، ولا علمه لشيء من ذلك أن تتسع
سياسته لحسن المخرج منه بأية وسيلة غير تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم ولو
أن يرمي البخاري أو غيره من رواة الحديث بالخطأ والكذب ولا يتعرض لرسول
الله، فقد كان تكذيبهم أهون من تكذيبه صلى الله عليه وسلم فما أضيق دينه وعلمه
وسياسته) اهـ بحروفه وما فيها من أدبه مع الرسول الأعظم الذي يدعي تعظيمه
و.. .!
وقد شعر خلافًا لطبعه بأن الذين ابتلاهم الله بقراءة مجلة الأزهر لا يصدقون
هذه الفرية فزعم أنه ينقل لهم عبارة صاحب المنار بنصها وفصها ولكنه نقل لهم
عبارة قصيرة مقتضبة منها كمن ينقل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ} (النساء: 43) دون ما بعده من الآية. وستعلمون أيها المسلمون من
بياني لما نقله ولأصله ولما قررته في هذه المسألة أي الفريقين أضيق دينًا وعلمًا.. .
أصاحب المنار أم هذا العضو في هيئة كبار علماء الأزهر؟ وتعلمون درجة
صدق المشيخة في مجلتها ومقدار أمانتها على العلم والدين، وصدقها في إرشاد
المسلمين في جرأتها على ما تقدم وعلى قولها في آخر هذه المقالة نعوذ بالله منها ثم
من الشيطان الرجيم [1] :
(فالشيخ إذا مخطِّئ لله ورسوله، مكذب للقرآن والسنة، وإن شئت فقل مجهل
لهما!) نعم شعر بأن الناس يكذبونه ولكن لم يشعر بما يستلزمه هذا الطعن في كلام
كتب سنة 1327 في مجلة المنار أي منذ 23 عامًا من الطعن في علماء الأزهر في
سكوتهم عن الإنكار عليها وهي تخاطب علماء الإسلام وغيرهم في كل سنة بما
يجب عليهم من بيان ما يجدون فيها من خطأ، أفلا يلزم من سكوتهم هذا وقوع
الطعن عليهم في دينهم وعلمهم؟ بلى لو كانت المجلة صادقة، أما وهي مفترية
فإنما يقع ذلك على من أنكر الحق المعروف ونطق بالباطل والزور ومن أقره وهو
قادر على منعه.
يفهم كل من قرأ عبارة هذه المجلة أن صاحب المنار رأى في الصحيحين حديثًا
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس تسجد تحت العرش فاعتقد صحة
سنده أي عدالة رواته وصدقهم وسلامته من كل شذوذ وعلة، وإنما كذب خبر هذا
السجود فيه لأنه لم يكن عنده من العلم باللغة ولا من الإيمان بالغيب ولا.. و.. .
ما يحمله على تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة ولا مجازًا وقد
رأيتم أدب هذه المجلة في التعبير عن هذا المعنى المفترى والبهتان الجريء.
(2) مأخذ التهمة من مقال في تأييد السنة والدفاع عنها.
إنني ذكرت حديث أبي ذر في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من المنار
في سياق الأحاديث المشكلة وطرق الحل لمشكلاتها من مقال طويل في تأييد السنة
كان حكمًا فاصلاً في مناظرة تلو مناظرة في أصل الإسلام أو أصوله، وفي النسخ
وأحاديث الآحاد هل هي من الدين أم لا؟ دارت هذه المناظرات في أثناء أربع
سنين فجعل البهَّات المفتري نصرنا للسنة ودفاعنا عنها تكذيبًا وكفرًا لصاحبها صلى
الله عليه وسلم ولكتاب الله الذي نطق بسجود كل شيء لله عزوجل، والعياذ بالله من
بهتان من لا يخاف الله.
ذلك أن البحاثة الشهير المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي كان كتب مقالاً
عنوانه (الإسلام هو القرآن وحده) وقد نشر في المجلد التاسع من المنار تحديًا
للعلماء ولا سيما علماء الأزهر أن يردوا عليه فكبر ذلك عليهم، وقال بعضهم
لبعض: إن صاحب المنار هو الذي يريد أن يجذبنا إلى المناظرة معه، وأمسكوا عن
الرد عليه، حتى جاءني من قال لي: إن فلانًا من العلماء يريد الرد على الدكتور إذا
كنت أنت لا ترد عليه، فقلت: وإني لا أرد عليه ولكنني قد أحكم في المناظرة أخيرًا
إذا احتيج إلى حكمي.
فرد العالم الذي أخبرني عنه على الدكتور بمقالين رد عليهما الدكتور أيضًا ثم
حكمت في المسألة حكمًا نشر في الجزء الأخير من المجلد التاسع، فكتب الدكتور
اعترافًا برجوعه عما أقنعته بأنه كان مخطئًا فيه. ونشرت خطابه هذا في صفحة
140 من مجلد المنار العاشر ثم كتب مقالاً آخر عنوانه: النسخ في الشرائع الإلهية
أنكر فيه وجود النسخ في القرآن مطلقًا وزعم أن السنة القولية (الأحاديث) قد نُسخ
بعضها بالقرآن وبعضها بالسنة ولم يبق منها شيء يجب العمل به غير موجود في
القرآن.
ونشرنا هذا المقال في الجزء التاسع من مجلد المنار العاشر وطالبنا العلماء
بالرد عليه بشرط التزام ما يليق بالعلماء من الأدب والنزاهة واحترام المناظر. فلم
يتصدَّ أحد من علماء الأزهر للرد عليه ولكن رد عليه العلامة الشيخ صالح اليافعي
من علماء الحضارمة المقيمين في حيدر آباد الدكن الهند بست مقالات نشرت في
ستة أجزاء من المجلد الثاني عشر من المنار وقد حكمني المتناظران فحكمت بينهما
بمقال أيدت به السنة وشرعية العمل بالأحاديث القولية بشرطه.
(3) عبارتنا التي حرفها البهَّات المُفتري:
بينت في تلك المقالة مسألة (أحاديث الآحاد والدين) ثم مسألة (أحاديث الآحاد
تفيد العلم أو الظن) بما لم أعلم أن أحدًا سبقني إلى مثله في نصر السنة في التفرقة
بين اليقين اللغوي الشرعي، واليقين المنطقي الأصولي. وانتقلت من هذا إلى بحث
ما يوثق به وما لا يوثق به من الروايات، وما انتقده المحدثون من أحاديث الشيخين
البخاري ومسلم بجرح كثير من رواتهما وغلط بعض متونهما وذكرت بعض المتون
التي حكموا بالغلط فيها، ومنها حديث شريك عند البخاري في المعراج إذ صرح بأنه
رؤيا منامية وخالف غيره من رواة البخاري في مسائل أخرى فيه وحديث مسلم (خلق
الله التربة يوم السبت) إلخ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات
في كل ركعة وغير ذلك ثم قلت ما نصه:
وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث
لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه وما من إمام
من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في
صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله التربة يوم
السبت إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات
الموافقة لذلك - فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تُتخذ شبهة على القرآن
من حيث حفظه وضبطه وعد ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ التلاوة)
ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله
كثيرون ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ
الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى
وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار {وَقَالَ الظَّالِمُونَ
إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده:
{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) .
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب
بعد الغروب؟ والجواب بأنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن الله تعالى
بالطلوع إلخ. وقد سَأَلَنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا لم نجد
جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض
طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها يصدق
عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى ولأن كل
مخلوق هو تحت عرش الرحمن، إذا قلنا هذا أو أنه تمثيل لخضوعها في طلوعها
وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه؟
اللهم لا.
(ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يُخرَّج بعضه على أنه
من باب الرأي في أمور العالم. والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم
بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم معصومون فيها كما يدل عليه
الحديث الصحيح في تأبير النخل، ولكن يستثنى الأخبار عن عالم الغيب فهم
معصومون فيه) اهـ.
هذه هي عبارتنا بنصها وفصها التي استند إليها البهات المحرف في اتهامه إيانا
برد حديث عمر في رجم الشيخ والشيخة وأنه كان آية من القرآن ورد حديث سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث سجود الشمس وتكبيره للأمر بأنها
وردت في الصحيحين، ونحن إنما ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها كحديث المعراج
وحديث صلاة الكسوف وحديث خلق السموات والأرض في سبعة أيام من باب
التمثيل للأحاديث المشكلة التي تتعلق بموضوع المناظرة التي حكمنا فيها بما بينا به
مزية الصحيحين وأن ما انتقده المحدثون والمتكلمون والفقهاء وردوه من أحاديثهما
قليل لا ينافي تفضيلهما على غيرهما، وقد ذكرناها بموضوعها لا بنصوصها بل
لم نذكر حديث عمر في الرجم مطلقًا؛ لأن المقام مقام التمثيل لما انتقده بعض
المتناظرين بالإجمال، ولم نذكرها لاستئناف انتقاد عليها أو استشكال لها من عند
أنفسنا، ولا لأجل الأجوبة عنها فإن هذا قد بيناه في مواضع أخرى من المنار
وتفسيره، ولكل مقام مقال، من تفصيل وإجمال، وهذا معهود في جميع الكتب،
فكيف ينكر مثله الصحف؟ ولكن باغي العنت بطرق المغالطة في الجدل، يجعل
حكاية خصمه لقولٍ مذهبًا له، وسكوته عن بيان شيء في غير موضع البيان حجة
عليه فيما بينه في موضعه مع تجاهله ذلك البيان، وياليت محرر مجلة الأزهر
يكتفي بمثل هذه المغالطة ولا يفتري عليه الكذب البواح ويرميه بالبهتان.
وقد صرحنا في ذكر حديث الشمس بأن وجه الإشكال فيه هو مخالفة الواقع
المشاهد له وهو كون الشمس طالعة دائمًا لا تغيب عن الأرض طرفة عين، لا
السجود الذي زعمه وافترى علينا تكذيبه، على أن شراح الصحيحين وغيرهم
استشكلوا الأمرين وأجابوا عنهما بما سنذكره بعد، ونحن صرحنا بأن الشمس يصدق
عليها أنها ساجدة تحت العرش دائمًا بالمعنى الذي أثبت القرآن فيه سجود كل شيء لله
عزوجل من الكواكب والشجر والنبات وغير ذلك، وذكرنا توجيهًا آخر لسجودها
وهو أنه (تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها لمشيئته تعالى) وهو عين المراد من
قوله تعالى عن السموات والأرض {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) الذي قال
المفتري أنه كان في استطاعتنا ولم نفعله لأن اللغة ضاقت علينا، فلم تضق علينا سعة
اللغة بل ضاقت عليه سعة الصدق فافترى علينا، ولكننا قلنا أن سجود الشمس بهذا
المعنى أو ذاك لا يرفع الإشكال بمخالفة مضمون الرواية للمعلوم بالقطع من مشاهدة
وأدلة علمية على كونها لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين.
وقال العلماء قبلنا مثل قولنا كما سنبينه في المبحث السابع من هذا الرد وأما
قولنا: (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه على
أنه من باب الرأي في أمور العالم) إلخ فالمراد به النوع المخالف للواقع المشاهد،
ولا تدل العبارة على أن حديث الشمس المذكور من هذا البعض، بل تدل على أنه
ليس منه من وجهين، أحدهما: أنني قلت أنني سئلت من قبل بعض علماء تونس
عنه، وأنني إلى الآن لم أجب عن هذا السؤال لأنني لم أجد جوابًا مقنعًا للمستقل
بالفهم وسأشرح هذا المعنى بعد ولو كان حديث الشمس عندي من هذا البعض لكان
جوابي للسائل أنه كحديث تأبير النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
(أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما في معناه ولم أرجئ الجواب.
الوجه الثاني: أنني استثنيت من هذا النوع من الأحاديث الواردة في أمور
الدنيا التي لا تنافي عصمة الأنبياء ما إذا كان الإخبار عن عالم الغيب، والطاعن
يقول إن حديث الشمس منه، وهو مع رؤيته بل علمه بهذا الاستثناء يفتري علي
أنني قست حديث سجود الشمس على حديث تأبير النخل، وأنني قلت أنه من العلوم
التي لا يعلمها الأنبياء ولم أقل هذا، فهو لم ينقل شيئًا من تفسيري للسجود ولا من
حصري للإشكال في ذهاب الشمس وغيبتها عن الأرض ولا من سكوتي عن جواب
السائل عنه، ولا من استثناء جعله من قبيل الإخبار عن أمور الدنيا دون أمور
الدين والإخبار عن عالم الغيب. مع أنه زعم أنه نقل عبارتي بنصها وفصها ليؤيد
بهذه الفرية تلك المفتريات كلها، ثم قال: إنه ينقل محصلها، وهو ينقض وعده بنقلها
بنصها وفصها، ولعل غرضه منه أن أكثر قراء مجلتهم لا يفرق بينهما فيتوهم أنه
صادق أمين في نقله لها، وهذا نص عبارته:
(4) عبارة المفتري المحرِّف بنصها:
(وإني أحس منك بامتعاض شديد غيرة على المقام النبوي، ولعلك تستبعد
صدور ذلك من الشيخ أو لا تصدقه، فلننقل لك عبارته بنصها وفصها وما طعن به
على أحاديث كثيرة في البخاري غير هذا الحديث، ثم ترقى من تكذيب الرواة في
تلك الأحاديث إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث) .
(قال مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، كانت قرآنًا يتلى [2] وأن عمر قال
ذلك بمجمع من الصحابة ولم ينكر أحد عليه أحد، وهو معروف لا مراء فيه،
ويستند حضرته في ذلك الرد إلى ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول:
إن ذلك لو تم لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع
شيء منه! ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قِبَل الشارع ولا يُعرف إلا
من جهته ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع
شيء منه. ثم رد الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله
عليه وسلم رد ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها.
ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب
بعد الغروب والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله تعالى
بالطلوع الخ إلى أن قال: فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة
عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، أي: فكلام النبي كذب لا شبهة
فيه) اهـ.
هذا ما عزاه إلى ذلك المقال بعد زعمه أنه ينقل العبارة بنصها وفصها ثم
محصلها وكلاهما كذب ظاهر من نقلنا لها بحروفها. فهو لم يذكر إلا عبارة مقتضبة
ناقصة منها لم تبلغ أربعة أسطر وما ذكره من محصل ونص كله كذب وباطل كما
علمت وزاد ما لا ذكر له فيها كحديث الرجم، فهكذا يكون صدق العلماء وأمانة
النقل عند أحد هيئة كبار علماء الأزهر ومحرري مجلته الرسمية، أم هكذا يكون
فهم الكلام بطريقة المناقشات الأزهرية.
رحم الله الأستاذ الإمام الذي كان يقول في أمثال هؤلاء العلماء أنهم يتعلمون
كُتبًا لا علمًا، وقد بين مراده من هذا في رسالة التوحيد بعد بيان خلاصة تاريخ علم
الكلام الذي لا يزال أمثال هذا الرجل يتناقشون في بعض كتبه التي لا يفهمون من
مواقفها ومقاصدها إلا ما قرره الإمام في قوله:
(5) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم:
(ثم جاءت فتن طلاب المُلك من الأجيال المختلفة وتغلب الجهال على الأمر،
وفتكوا بما بقي من أثر العلم النظري النابع من عيون الدين الإسلامي فانحرفت
الطريق بسالكيها، ولم يعد بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ أو
تناظر في الأساليب، على أن ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها
القصور.
ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم،
فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام
قِبَل باحتماله. غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع
الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير،
وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم
والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا
إسلام. والدين من وراء ما يتوهمون، والله جل شأنه فوق ما يظنون وما يصفون،
ولكن ماذا أصاب العامة في عقائدهم ومصادر أعمالهم من أنفسهم بعد طول الخبط
وكثرة الخلط؟ شر عظيم، وخطب عميم) اهـ.
(6) جوابنا عن الإشكال في الحديث:
عُلم مما تقدم أننا ذكرنا مضمون حديث الشمس في ذلك المقال مع أحاديث
أخرى من أحاديث الشيخين المشكلة من باب التمثيل لإثبات قلة أمثالها في
الصحيحين ولم يكن من موضوع المقال إيراد ألفاظها ولا الحكم في المشكلات، ثم
إننا بينا في موضعين من المنار رأينا في الإشكال، بما يبرئ الرسول صلى الله
عليه وسلم من كل ما عصمه الله منه، كما أشرنا إلى ذلك في المقال الأول من بياننا
هذا للأمة.
إجمال ذلك أنني وجدت أن أصح رواياته التي اتفق عليها الشيخان هي ما
أخرجاه من طريق الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر هكذا بالعنعنة
وإبراهيم التيمي قال الحافظ في التقريب: ثقة ولكنه يرسل ويدلس، فهذه علة في
سند أصح روايات الحديث تبطل الثقة بها، ولمسلم رواية من طريق أخرى ذكر
فيها الراوي سماع إبراهيم من أبيه مع عنعنته ولم يعتد بها البخاري، وثَم روايات
أخرى لا يصح شيء منها سنذكر بعضها، ولذلك عدت فاعتمدت إعلاله من ناحية
متنه.
وبيان ذلك أنه في أمر غيبي يكثر خطأ الرواة في أمثاله ويختلفون في فهمها
فيروونها بالمعنى الذي فهموه وكثيرا ما يكون فهمهم خطأ، وأكثر الأحاديث المروية
بالمعنى لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف في ألفاظها ومعانيها
حتى الأمور الحسية التي يفهمها كل أحد كالطهارة وصفة الصلاة، فإذا لم يجد شُرَّاحها
وجهًا وجيهًا للجمع بينهما حملوها على تعدد ما وردت فيه حتى قال بعضهم بتعدد
المعراج لكثرة الاختلاف والتعارض في رواياته.
وقد بينت وجوه الدفاع عن الأحاديث المشكلة بالتعارض وغيره في مواضع من
المنار وتفسيره أهمها الكلام في أشراط الساعة ولا سيما أحاديث المهدي والدجال
فإن التعارض والتناقض فيها كثير جدًّا.
وإنني أنقل للأمة هذين الجوابين بحروفهما مع عزوهما إلى مواضعهما من
المنار والتفسير لتأكيد تكذيب مجلة الأزهر في زعمها الذي تقدم:
الجواب الأول في علة السند
جاء في الصفحة 725 من مجلد المنار الثاني والعشرين وفي حاشية ص 211
من جزء التفسير الثامن ما نصه:
(ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب بن جنادة الذي يعد متنه
من أعظم المتون إشكالاً فهو يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: أتدري أين
تذهب الشمس إذا غربت؟ قال: قلت: لا أدري، قال (إنها تنتهي دون العرش فتخر
ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها: ارجعي، فيوشك يا أبا ذر أن يقال: ارجعي من حيث
دخلت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) وهذا الحديث رواه
الشيخان من طرق عن الشعبي عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن أبيه عن
أبي ذر وهو - أي إبراهيم - على توثيق الجماعة له مدلس، قال الإمام أحمد: لم
يلق أبا ذر، كما قال الدارقطني: لم يسمع من حفصة ولا من عائشة ولا أدرك
زمانهما، وكما قال ابن المديني: لم يسمع من علي ولا ابن عباس. ذكر ذلك في
تهذيب التهذيب وقد روى عن هؤلاء بالعنعنة، فيحتمل أن يكون من حدثه عنهم غير
ثقة) . اهـ.
وأعني بهذا أن روايته عنهم مرسلة ولم يذكر من حدثه بها فثبت أنه يرسل
ويدلس كما قال الحافظ في التقريب، ومن كان هكذا لا تقبل روايته بالعنعنة فهذه
علة في أصح أسانيد الحديث تبطل الثقة به مع عدم الطعن في البخاري ولا في
الأعمش ولا في إبراهيم التيمي أيضًا.
الجواب الثاني في علة متن الحديث
جاء في باب فتاوى المنار في ص 671 مجلد 24 ما نصه:
(س 26) من صاحب الامضاء المدرس في مدينة تطوان في المغرب الأقصى
الحمد لله وحده من تطوان في 27 شوال 1341 فضيلة أستاذي الوحيد، وملاذي
الفريد، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد محمد رشيد رضا سلام على تلك الذات
وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق ويضطرم في سعير البعاد، غير
أن ثلج ماء عين مناركم قد يطفئ شيئًا من ذاك اللهيب، ويخمد سعيرها عندما يهيم
الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة، والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة.
سيدي وسندي، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات المنار الأغر عما
يأتي من المقرر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية، وأن
الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس
ثابتة والله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) فأرجو من
فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت
جاحدة أدنى مخالفة، حفظكم الله وأطال حياتكم، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم
الكرام، مدى الليالي والأيام، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم.
... ... ... ... ... ... ... محمد العربي بن أحمد الخطيب
(ج) إذا كان ما ذكره السائل من المقرر عند علماء الجغرافية فإن من المقرر
عندهم وعند علماء الفلك أيضًا أن الشمس تدور على محورها كغيرها من الأجرام
السماوية، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر مجهول
يعدونه المركز لها، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق حديثًا أن
مجاميع الشموس كلها أو العالم كله يجري في الفضاء لغاية مجهولة، وتجدون هذا
البحث ما عدا القول الأخير في مقال طويل للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله
في المجلد الرابع عشر من المنار، وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا إذ تلقاه عنا وهو أن
لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا هو مصدر التدبير
والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى راجع (ص 590 و 591 ج 8) منه
ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس:
3) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها يسمى جريانًا،
دورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول على قولهم - كدوران المجاميع
الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا، وأولى منه وأظهر سيرها
مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم لفلامريون المشهور.
على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي، كما يقال: جرى
القضاء بكذا، ولك أن تقول الآن: إن أوربة تجري في تنازع دولها لحرب أخرى شر
من الحرب الأخيرة.
وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له، ففيه وجهان، أحدهما: أنه ما
ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان
غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ
الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: 2) وهو بمعنى ما روي
عن قتادة قال: تجري لمستقر لها: لوقتها ولأجل لا تعدوه، ثانيهما: أنه مستقر
نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا ويؤيده حديث
أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة
أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:
38) قال: (مستقرها تحت العرش) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا ورواته
أقل، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها، وإن فسر بمعنى
خضوعها لإرادته كقوله {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) .
والراجح عندنا أنه روى بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبر عنه بما
فهمه والله أعلم. وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع إن شاء الله
تعالى. اهـ.
وحاصل هذا الجواب المختصر الذي وعدت بالرجوع إليه لأجل تفصيله عندما
تسنح الفرصة ويتسع المجال كما تقدم آنفًا أن الحديث مروي بالمعنى وهو في أمر
غيبي أخطأ بعض الرواة في فهمه كما أخطأوا في أمثاله ولا سيما أحاديث الدجال
المتعارضة المتناقضة فليراجع تفصيلي لها ولأمثالها من شاء في تفسير قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} (الأعراف: 187)
الآية من ص 489 507 ج 9 تفسير.
وأما العبرة للأمة الإسلامية في هذا الجواب فهو أن من كبار علمائها الرسميين
في هذا العصر من فقد الصدق في القول، والأمانة في النقل، والفهم لمسائل العلم مع
استباحة التكفير للخصم، وأن قصارى علمهم مشاغبات ومغالطات في الألفاظ
وتحريف لها وإيراد للاحتمالات فيها كما تقدم آنفًا عن الأستاذ الإمام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وضع الخطوط فوق الكلام الذي يراد التنبيه عليه طريقة علمائنا وأما وضعها تحته فهي طريقة أجنبية وأنا أخصها بالعناوين الفرعية.
(2) عبارتي ليس فيها كلمة واحدة من هذا الحديث على أن البخاري لم يرو المسألة هكذا وهذا المحرر وأمثاله من العلماء الرسميين لا يدرون ما في البخاري إلا إذا راجعوا المسألة فيه ثم لا يدرون لماذا لم يرو هو ولا مسلم في خطبة عمر هذا اللفظ ولا يدرون ما يعارضه؛ لأن كتب السنة ليست من علومهم ولا مما يحتاجون إليه.(32/772)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال التاسع
(7) استشكال العلماء لحديث الشمس وأجوبتهم عنه
هذا الحديث رواه الشيخان وبعض أصحاب السنن والمسانيد والتفسير المأثور
والبيهقي في الأسماء والصفات بألفاظ متقاربة ولكنها غير متفقة، ورواه غيرهم
بزيادات مختلفة بل مختلقة، ولفظ البخاري في باب بدء الخلق بسنده: عن الأعمش
عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟) قلت: الله
ورسوله أعلم، قال (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها،
ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث
جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) ورواه أيضًا في تفسير سورة يس وفي كتاب التوحيد
هكذا بالعنعنة وقد استشكله العلماء من الجهتين اللتين تقدم ذكرهما وكان استشكالهم
مخالفته لما تقرر في علم الهيئة أقوى وأجوبتهم عنها أضعف.
وقد كان جماهير علماء المسلمين حتى غير الناظرين في علم الهيئة الفلكية
يعلمون أن نور القمر مستمد من نور الشمس وعلماء المنطق منهم يمثلون بهذا
للحدس المنطقي الذي هو أحد اليقينيات الستة، وكانوا يعلمون أيضًا أن سبب
خسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس ويمثلون بذلك للقضية الوقتية في المنطق
أيضًا، وقال الغزالي: إن من أدلة كروية الأرض ظهور ظلها في القمر عند خسوفه
مستديرًا، وإن هذا من القطعيات. فرؤية القمر بعد غروب الشمس دليل حسي على
وجود الشمس وراء الأفق التي تتوارى عنه مقابلة للقمر تلقى نورها عليه. ولم يكن
علم الهيئة وصل في عهدهم إلى ما وصل إليه الآن ولا علم الجغرافية أيضًا. ولا
كان الناس في عصرهم يطوفون حول الأرض بطيارتهم وغيرها فيرون بأعينهم
مصداق أدلة ثبات الشمس في فلكها، أفليس من الجناية على الإسلام أن تحكم مجلة
الأزهر على من يقول أن مضمون الحديث مخالف للحس بأنه مكذب لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم؟
***
ما نقله الحافظ ابن حجر في استشكال العلماء للحديث وأجوبتهم عنه
قال الحافظ ابن حجر في شرحه له من فتح الباري: والغرض منه هنا بيان
سير الشمس في كل يوم وليلة. وظاهره مغاير لقول أهل الهيئة أن الشمس مرصعة
في الفلك، فإنه يقتضي أن الفلك هو الذي يسير، وظاهر الحديث أنها هي التي
تسير وتجري، مثله قوله تعالى في الآية الأخرى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس:
40) أي يدورون.
قال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن. وتأوله قوم على ما
هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد ثم ترجع.
قال الحافظ بعد نقله لهذا: قلت: إن أراد بالخروج الوقوف، فواضح وإلا فلا
دليل على الخروج. ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من
الملائكة أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في
ذلك الحين اهـ.
فعلم من هذا أن العلماء استشكلوا الحديث وقالوا كما قلنا بأنه مغاير لقول علماء
الهيئة القطعي وأنهم استشكلوا أيضًا سجودها وأنكره بعضهم ولم يكفرهم متأولوه.
وأجابوا عنها بما رأيت وما سترى مما ننقله إليك، ووازن بعد ذلك بين أجوبتهم
وجوابنا.
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث من تفسير سورة يس من صحيح
البخاري ما نصه: وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله ابن
عمرو في هذه الآية قال: مستقرها: أن تطلع فيردها ذنوب بني آدم، فإذا غربت
سلَّمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها فتقول: أن السير بعيد، وإني أن لا يؤذن
لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله ثم يقال: اطلعي من حيث غربت. قال: فمن يومئذ إلى
يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها. وأما قوله (تحت العرش) فقيل: هو حين محاذاته
ولا يخالف هذا قوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) فإن
المراد بها نهاية مدرك البصر حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد
الغروب.
وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في
الارتفاع وذلك أطول يوم في السنة. وقيل: إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا.
وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر
تحته استقرار لا نحيط به نحن. ويحتمل أن يكون المعنى: أو علم ما سألت عنه
من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها، فينقطع
دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها. وليس في سجودها كل ليلة ما يعيق
عن دورانها في سيرها. اهـ.
ثم قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات في تأويل الحديث والآية:
قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند
سجودها. ومقابل الاستقرار: المسير الدائم المعبر عنه بالجري، والله أعلم. اهـ.
أقول: يعني أن هذه التأويلات خلاف المتبادر من لفظ الحديث. وأما حديث
عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي نقله
وسكت عليه فهو أعصى على تأويلنا وتأويلهم وأبعد عنهما بُعد الشمس عن العرش
وفي معناه روايات أخرى أغرب منه. ووهب هذا ثقة وثقه ابن معين والعجلي وقال
علي بن المديني وابن حبان: وهب بن جابر مجهول سمع من عبد الله بن عمرو ابن
العاص قصة يأجوج ومأجوج و (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت) ولم يرو غير
هذين، وقال النسائي: مجهول. وكفى بقول علي بن المديني أنه لم يرو غير هذين،
حجة على أن رواية حديث الشمس عنه مردودة سواء كان ثقة أم لا!
***
جواب الحافظ ابن كثير في تفسيره
وأجاب العماد ابن كثير عن سجود الشمس تحت العرش بما حاصله أن العرش
قبة ذات قوائم تحمله الملائكة وهو فوق العالم مما يلي رءوس الناس فالشمس إذا
كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت
في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام، وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون
من العرش، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث. اهـ.
وهذا جواب من يصدق الفلكيين في ثبات الشمس في فلكها ودوران الفلك بها حول
الأرض، وقد نقض ارتقاء علم الهيئة بالمناظير المقربة للأبعاد هذا المذهب اليوناني،
وأجمع علماء الفلك في هذا العصر على كروية الأرض ودورانها تحت الشمس الثابتة
في مركزها. على أن قوله منقوض على ذلك المذهب أيضًا إذ لا خلاف عند أهله في
كروية الأرض وسكنى الناس على سطحها من كل جانب فلا يتجه القول بأن العرش
فوق رءوس المقيمين في جانب منها دون آخر.
***
ما نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في حديث سجود الشمس
جاء في الفتاوى الحديثية للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي ما نصه:
وسئل نفع الله به: إذا غابت الشمس أين تذهب؟
فأجاب بقوله: في حديث البخاري أنها تذهب حتى تسجد تحت العرش. زاد
النسائي (ثم تستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها وتؤمر بالطلوع من محال غروبها) ولا يخالف هذا قوله تعالى {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) لأن المراد به نهاية إدراك البصر لها حال الغروب، وسجودها تحت العرش
إنما هو بعد الغروب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنها بمنزلة
الساقية تجري بالنهار في السماء بفلكها، وإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت
الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا
غربت دخلت نهرًا تحت العرش فتُسبِّح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن
الخروج، قال: ولم؟ قالت: إني إذا خرجت عُبدتُ من دونك. وقيل: يبتلعها حوت
، وقيل: تغيب في عين حمئة كما في الآية والحمأة بالهمز ذات الطين الأسود، حامية
بالياء أي حارة ساخنة، وقيل: تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش
وتقول: يا رب إن قومًا يعصونك، فيقول لها: ارجعي من حيث جئت، فتنزل من
سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق، وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر. قال
إمام الحرمين وغيره: لا خلاف أنها تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل
يطول عند قوم ويقصر عند آخرين إلا عند خط الاستواء فيستويان
أبدًا، وفي بلاد (بُلغار) بموحدة مضمومة ثم معجمة لا تغيب الشمس عندهم إلا مقدار
ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع) اهـ
أقول: الشيخ أحمد بن حجر هذا هو الفقيه الشافعي المتوفى سنة 973 وهو
قليل البضاعة في الحديث وفي علوم المعقول ينقل من الكتب عند الحاجة، وما عزاه
إلى النسائي من لفظ الحديث ثابت في البخاري، وسائر الروايات التي ذكرها لا
تصح. وقد أورد كلام علامة المعقول الأكبر إمام الحرمين ولم يرده لأنه إمام
الأشعرية والشافعية الذين يقلدهم ولا استطاع أن يوفق بينه وبين الحديث.
***
فائدة لها علاقة بحديث الشمس
يقول الفقيه ابن حجر الهيتمي: هذا إذا اختلف العلماء، فالذي يجب اعتماده
كلام الفقهاء.
ولكن بضاعة أكثر الفقهاء مزجاة في مشكلات الأحاديث ولاسيما غير الفقهية
وقد قرأنا في بعض كتبهم تعليلاً لبرودة مياه الآبار في الصيف وحرارتها في الشتاء
كما يتوهم من لا يعرف الحقيقة وهو أن الشمس يطول مكثها تحت الأرض في ليالي
الشتاء لطولها فيكون دفء مياه الآبار من ذلك، ويقصر مكثها تحت الأرض في ليالي
الشتاء لقصرها فتظل مياه الآبار باردة! فكيف يوفق محرر مجلة نور الإسلام بين هذا
التعليل الخرافي وبين ما يفهم من ظاهر الحديث من أن الشمس في الليل تكون تحت
العرش فوق السموات السبع؟ ؟ كعادته في تصحيح أمثال هذه الجهالات والخرافات؟
***
كلام الآلوسي وجوابه عن الحديث في تفسيره
قال الشهاب السيد محمود الآلوسي في تفسير آية سورة يس من تفسيره روح
المعاني ما نصه:
وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه
وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال (يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟
قلت: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن
تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت
فتطلع من مغربها، فلذلك قوله عز وجل {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس:
38) وفي رواية (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا الله تعالى ورسوله أعلم،
قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة) الحديث،
وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرًا جدًّا. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو
داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي
ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:] والشمس
تجري لمستقر لها [قال: (مستقرها تحت العرش) فالمستقر اسم مكان والظاهر
أن للشمس فيه قرارًا حقيقة.
قال النووي: قال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي وعلى هذا القول إذا
غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع. ثم قال النووي:
وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها، وذكر ابن حجر الهيتمي في فتاويه
الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها. وأورد ملخص ما تقدم آنفًا
ثم قال: والسجود تحت العرش قد جاء أيضًا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار
عجيبة، منها أن الشمس عليها سبعون ألف كُلاب، وكل كُلاَّب يجره سبعون ألف
ملك من مشرقها إلى مغربها، ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش، ثم
يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز
وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم النداء بما يريده جل شأنه، ثم
يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله.
وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل، والصحيح من
الأخبار قليل، وليس لي على صحة أخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية
تعويل، نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته، وماذا يقال في أبي ذر
وصدق لهجته؟ والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت
العرش سواء قيل أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد، أم قيل أنها
تستقر وتسجد تحته من غير طلوع، فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف
في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول
والقصر ما عدا عند خط الاستواء، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق
الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما
دامت في البروج الجنوبية، فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار، على ما فصل في
موضعه. والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها، وإلا لكانت ساكنة عند
طلوعها، بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره، وأيضًا هي قائمة على أنها
لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش؟ بل كون الأمر
ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلاً. وكذا كونها تحت العرش دائمًا
بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته.
وقد سألت كثيرًا من أجله المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار
الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان، فلم أوفق لأن أفوز منهم بما
يروي الغليل ويشفي العليل. اهـ ما قرره الآلوسي من استشكال الحديث من
الوجهين وكونه مخالفًا للقطعي وعجْز أَجَلِّ معاصريه من العلماء عما يزيل الإشكال
اهـ.
ثم إنه رحمه الله استنبط له حلاًّ غريبًا بعد مقدمات مؤلفة من خرافات كثيرة
أغرب منه، خلاصته أن الشمس لها نفس عاقلة مدركة كروح الإنسان، وأن هذه
النفس هي التي تصعد فتسجد تحت العرش، ويبقى جسم الشمس المضيء على ما
يراه الناس. ولم أره تجرد من عقله واستقلاله العلمي وأثبت عدة خرافات خلط فيها
بين تخيلات الفلاسفة والصوفية والمبتدعة كما فعل في هذه المسألة، عفا الله عنه،
ومن شاء فليرجع إلى عبارته فيه.
***
حاصل أقوال العلماء والعبرة به
وحاصل ما أوردناه من كلام المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين أنهم
اتفقوا على أن الحديث مشكل كما قلنا، وأنهم أنكروا منه السجود تحت العرش
واحتجاب الشمس عن الدنيا، وكانت أجوبتهم عن السجود أقوى من أجوبتهم عن
الاحتجاب، وإن أحدًا منهم لم يكفر أحدًا ممن استشكله، ولا رماه بتكذيب الله
ورسوله وأن لم يسلم له تأويله، وأن جوابنا في حل الإشكال أظهر من جميع
أجوبتهم، وأننا على توفيقنا هذا لخدمة السنة قد رمانا محرر مجلة الأزهر زورًا
وبهتانًا بما علم القارئون، ولنا أن نتمثل بقول الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود.
***
خاتمة البحث في تحدينا لمشيخة الأزهر فيه
قد علمتم أيها المسلمون مما شرحته لكم في هذه المسألة أن أحد كبار هيئة
علماء المشيخة الرسميين ومحرري مجلتها الرسمية قد افترى علينا في المسألة بغير
أمانة ولا علم، وترك الذين قد يصدقون كلامه في هذا الحديث، وربما كانوا مئات
الألوف في حيرة أو شك من دينهم، إذ علموا منه أن الحديث يدل على أن الشمس
تغيب عن الأرض كلها بعد غروبها عنهم، وجميع الذين تعلموا الجغرافية منهم،
وكثير من غيرهم يعلمون علمًا يقينيًّا أن الشمس لا تغيب عن الأرض طرفة عين،
وإنما تغرب عن قوم وتطلع على آخرين، كما قال بعض كبار علماء الإسلام
المتقدمين، فكان الواجب على هذا العالم أن يرشد المسلمين أولاً إلى الجمع بين
معنى الحديث الذي أخبرهم أنه متفق عليه وبين اعتقادهم القطعي لما يخالف
مضمونه قبل أن يقول لهم أن الذي لا يعتقد صحته يكون مكذبًا لله ولرسوله، وهم
لا يستطيعون هذا الاعتقاد، وإنني بعد أن بينت لهم ما عندي من حل الإشكال وما قاله
العلماء الذين استشكلوا الحديث من قبل، وأن ما قلته هو الذي يطمئن به القلب،
أتحدى الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ومن شاء من هيئة كبار العلماء (غير الدجوي
الذي ليس له في علم الحديث جمل ولا ناقة، ولا يذكر منه في مقدمة ولا ساقة، بل
هو يَعُدُّ أعظم حفاظه كالذهبي في عصره أعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ويطعن في صدقهم) أن يبينوا للأمة طرق هذا الحديث وما يصح منها بحسب
اصطلاح المحدثين وما لا يصح، وما يجب على المسلمين أن يصدقوه مما يخالف منه
المشاهدة وما تقرر في علم المنطق وعلم الجغرافية الذي يدرس في الأزهر وفي جميع
مدارس هذا العصر، إما بالجمع بين الأمرين جمعًا معقولاً، وإما بتكذيب الحس وما
أثبته العلم إن كان مستطاعًا، إذا كانوا لا يوافقوننا على ما ذكرنا من إعلال متنه
وأصح أسانيده، فهذه سبيل العلماء حماة الدين لا الافتراء على العلماء الذين هداهم الله
إلى هذه الحماية قبلهم، والتعالي والتنفج بسلطان الألقاب الرسمية التي لا قيمة لها
عندهم، وإيقاع الناس في شك من دينهم، وإذا لم يكف شيخ الأزهر مرءوسيه عن
مثل هذا العدوان والبهتان فسأتحداه بمناظرات أخرى في علم التوحيد وفي التفسير
والحديث، وإن خالفت مقتضى الحلم والتواضع الذي اعتصمت به إلى الآن.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يشعر هذا اللفظ بأن قائله غير أبي ذر وهو يدل على روايته بالمعنى كما قلنا.(32/785)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ محمد عبد القادر المليباري
تُوفي في هذا العام عالمان عاملان مصلحان، أحدهما: الشيخ محمد أمين
الشنقيطي في بلدة الزبير التابعة للبصرة، وقد كلَّفْنا أحد أصدقائه كتابة ترجمته،
والثاني صديقنا الأستاذ المصلح الشيخ محمد عبد القادر في مليبار وقد كتب لنا
ترجمته أحد تلاميذه ومريديه فننشرها باختصار قليل، وهي:
في غرة رجب من هذا العام 1351 توفي العالم العلامة محرر المجلة الغراء
ديبك (المنير) أستاذ الإصلاح الديني لمسلمي مليبار محمد عبد القادر المولوي ابن
العالم المرحوم محمد كنجي رحمهما الله تعالى، ففقد مسلمو مليبار أستاذهم ومحيي
أرواحهم بالإصلاح الإسلامي.
وكانت أعمال التجهيز لجنازته على غاية من اتباع السنة رغم أهواء
الخرافيين لأن أبناء الفقيد وأقرباءه وتلاميذه المصلحين قد بذلوا جهدهم لئلا يمزج
الناس تشييع هذا المصلح الأول فيهم بشيء من مبتدعات هذه البلاد من الجهر
بالتهليل أو غيره حين تشييع الجنازة حاملين لها أو ماشين معها، ومن جمع الناس
وضيافتهم بعد الدفن في ذلك اليوم أو في الثالث أو غيرهما، فبفضل الله وتوفيقه
كان تجهيز هذا المصلح الأكبر خاليًا من جميع البدع والمنكرات، والحمد لله الذي
هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وكان أهل مليبار كافة وأهل بيت الأستاذ الفقيد بل كان هو نفسه أيضًا
ممن يحافظون على المحدثات والبدع مقلدين لكتب المتأخرين المؤلفة في الفقه
والتصوف وغيرهما من الفنون الإسلامية، ولكن بعد ما شرع الأستاذ يقرأ مجلة
المنار الغراء هداه الله بها إلى التفكير في الإصلاح الديني، وصار أول أستاذ
إصلاح في هذه البلاد المليبارية، جزاه الله عنا خير الجزاء، ورضي الله عنه
وأسكنه في جنة الخلد، ومتعه بالنعيم المقيم، آمين، وهذه خلاصة ترجمته:
كان الفقيد من أعضاء قبيلة كريمة معروفة بالمجد والشرف في نواحي
تراونكور وفي الخارج أيضًا. ولد من أبوين كريمين سنة 1873م ووالده رحمه الله
كان من التجار الكبار والعلماء الكرام أهل الغني والسخاء، وكان قد أحضر من
الخارج بعض علماء ذلك الوقت لتعليم الفقيد، فقرأ عليهم وعلى غيرهم كتب النحو
والبلاغة والفقه الشافعي والتصوف وحقائقه والمنطق، ثم لم يلبث أن وجه عقله
للبحث عن حقائق الدين وأسرار العبادات والأعمال المشروعة. ثم بعد ما توفي
والده وحصل على سهمه الخاص به من التراث أجمع أمره وعزم على وقف حياته
على خدمة الأمة بماله ونفسه. وكان محبًّا لقراءة الجرائد والمجلات فأسس أولاً
جريدته الأولى المشهورة باسم شوديشابهماني (الوطني) ومطبعة مسماة بذلك الاسم
أيضًا، وبعد عام عين في رياسة تحريرها أديبًا هندوسيًّا مشهورًا بتحريكه للأفكار
السياسية الاستقلالية في أهالي تروانكور، فمن ثَم شرعت الجريدة بقلمه السيال
تفضح الحكومة وتنقد أعمال موظفيها ولاسيما وزيرها الأعظم الذي كان شهوانيًّا
أكثر من أنه إداري، فاغتاظت الحكومة وصادرت الجريدة والمطبعة، ونفت
الناصح الصادق من أرضها ومات في غربته، جزاه الله بصدقه وخير أعماله
وأوصافه، فبهذه المصادرة خسر فقيدنا خسرانًا عظيمًا يقدر بخمسة آلاف روبية أو
أزيد، وكان فقيدنا عقيب تأسيس الجريدة المذكورة قد أسس لخدمة أمته الإسلامية
خاصة مجلته المشهورة باسم المسلم، ولكنه بعد هذه المصادرة التي خسر بها
مطبعته قد اضطر لتعطيلها أيضًا، ثم لم يتمكن من متابعة أعماله للأمة والملة التي
وقف حياته عليها إلا بعد ثلاث سنوات أو أربع.
وفي سنة 1913م استأنف إصدار مجلة المسلم الغراء فوجد أمته الإسلامية
على شيء من الاستعداد لقبول الإصلاح والتجديد، فعزم على الصدع بأهم قواعد
الإصلاح الديني متوسلاً إليه بإصدار مجلة في لسان قومه بأحرف عربية؛ لأن
غالب المسلمين من قومه رجالاً ونساء لا يقرءون لغتهم المليبارية بأحرفها الأصلية
وإنما يقرءونها بالأحرف العربية، فأسس تلك المجلة باسم الإسلام ومطبعتها سنة
1917م وأصدر عددها الأول في غرة رجب سنة 1336 هـ منبهًا للمسلمين
إلى أحوالهم الحاضرة من حيث دينهم وتعليمهم واجتماعهم واقتصادهم، وصادعًا
بالإصلاح الديني المبني على الاعتصام بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين.
وتلك المجلة (الإسلام) وإن لم يتمكن أن يصدر منها إلا خمسة أعداد فإنها
نورت وجه أرض البلاد المليبارية، ووجهت وجوه عقلاء المسلمين المفكرين علماء
كانوا أو عوام، شبانًا أو شيوخًا إلى مبادئها الإصلاحية من تعميم التعليمين الديني
والعصري بين الذكور والإناث، مع المحافظة على التربية الدينية الصحيحة ونبذ
الخرافات والبدع وجميع أنواع الأعمال الشركية، وتجديد توحيد الألوهية والربوبية،
والاعتصام بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين في جميع نواحي الحياة، وعلاوة
على ذلك جعل مجلة (المسلم) جريدة أسبوعية، وولي رياسة تحريرها أحد تلاميذه
المصلحين حفظه الله آمين.
ثم وجه همته إلى تأسيس الجمعيات بين أهل وطنه وخصوصًا المسلمين،
فأسست جمعيات ومجالس في مختلف البلاد المليبارية: تراونكور وكوسن ومليبار،
البعض بسعيه والباقي على وفق إرشاداته في الإصلاح الديني، وإن كان بعضها قد
غاب من أفق الوجود فالبعض الآخر لا يزال حيًّا ظاهرًا عاملاً بتوفيق الله.
وفي النهاية وجه عزمه إلى تأسيس دار النشر الإسلامية وإلى الصحافة، فشرع
في إصدار مجلته الأخيرة ديبك (المنير) منها موجهًا عالي همته وأكبر عنايته إلى
الرد على الملحدين والماديين الذين ظهرت قرونهم في أهالي هذه البلاد ولاسيما
الهندوس والنصارى في هذه الأعوام الأخيرة، وإلى نشر محاسن الإسلام وفضائله
وسائر المواضيع النافعة المهمة. فهاتان المؤسستان لا تزالان جاريتين، أدامهما الله
تعالى آمين.
كان قد شرع في تفسير القرآن الكريم بلغة قومه في مجلتيه الأخيرتين
(الإسلام) و (المنير) وكان عضوًا من أعضاء الهيئة المؤلفة لامتحان معلمي
العربية في مدارس الحكومة، وله مقالات في مختلف المواضيع الإصلاحية في
جرائد شتى مليبارية، وترجم من الفارسية كيمياء السعادة للغزالي رحمه الله، ومن
الأوردية رسالة أهل السنة والجماعة، ورسالة السنة والوحي، وكلتاهما للعلامة السيد
سليمان الندوي حفظه الله. وترجم أيضًا رسالة السيد جمال الدين الأفغاني في الرد
على الدهريين وله أيضًا رسالة (إسلام مت سدهانتهاسنكرهم) (خلاصة مبادئ دين
الإسلام) .
كان رحمه الله حليمًا، محبًّا للسلم والسكون، شجاعًا لا يخاف في الله لومة
لائم، ولكنه على كونه لا يحب الثورة ولا الثوار في شيء، يحب ويكرم مبادئ
الجمعية الوطنية الهندية، وكان ذا عزم وثبات لا يتزلزل للأهوال والبلايا مهما تكن
عظيمة، وتقيًّا ورعًا لا يوصف، وكان إيمانه وتوحيده وتوكله وتفويضه جميع
أموره إلى الله مثار تعجب عند جميع من يعرفون أحواله، وكانت أُخوته شاملة
لجميع البشر، وكذلك كان صبره وصفحه وعفوه وتسامحه واحترامه للمخالفين تبعثه
على الإحسان إليهم والرحمة بهم وكذا بأعدائه في جميع الأحوال، وكان على حظ
عظيم من التواضع: يتواضع ويخفض جناحه لجميع الأصحاب بل لخَدَمِه أيضًا،
وفي الجملة كان مثالاً عظيمًا لمكارم الأخلاق.
وكان يعرف من اللغات سوى لغته المليبارية وآدابها: العربية والفارسية
والأوردية والتاملية معرفة جيدة، والإنكليزية والسانسكريتية معرفة دون ذلك، وكان
في العربية وعلومها الأدبية فردًا فذًّا في مليبار بل في جنوب الهند أجمع وفي العلوم
الإسلامية وأسرارها ودقائقها من الأفراد النادرين الممتازين بالاستقلال في التفكير
والبحث في بلاد الهند جمعاء.
وكان بمنزلة الأب العطوف لجميع مسلمي مليبار (كيرله) في جميع سعيهم
للتجديد والإصلاح غيَّر حركة الأحمدية، قاديانيين كانوا أو لاهوريين؛ إذ لم يشارك
أي فريق منهم فيها، بل كان مخالفًا لها وإن لم يصوب سهامه إليها.
وأما مذهبه في التجديد والاصلاح فقد كان فيه سلفيًّا لا يقول بالتقيد بأي مذهب
كان غير مذهب أهل السنة والجماعة، داعيًا إلى نبذ جميع العادات والأعمال
الشركية والخرافات والبدع الدينية، والاعتصام بالكتاب والسنة، وسيرة السلف
الصالحين رضي الله عنهم، ومع كونه مستقلاًّ في البحث والتفكير كان في مبادئ
التجديد والإصلاح موافقًا لإرشاد مجلة المنار الغراء، محبًّا لها ولصاحبها السيد
محمد رشيد رضا حفظه الله، وكان يحب حكيمي الإسلام والشرق السيد جمال الدين
الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري رحمهما الله، وشيخ الاسلام ابن تيمية
وتلاميذه، وشيخ الإسلام مرشد أهل نجد محمد بن عبد الوهاب، وللفقيد في الذب عن
ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والثناء عليهما رسالة (ضوء الصباح) في اللغة
المليبارية، وكان أيضا يحب إمام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد
الرحمن الفيصل آل السعود، أصلحه الله وهداه ووفقه لما يحب ويرضى آمين، وقد
أعقب رحمه الله ذرية مباركة: بنتًا واحدة وتسعة أبناء، أكبرهم عبد السلام نال شهادة
البكالورية من الجامعة الوطنية الملية في دهلي، فنسأله تعالى أن يجعل منهم خير
خلف لوالدهم الكريم المجدد الحكيم، ويوفق سائر أهل مليبار للاستقامة على ما هداهم
إليه من الصراط المستقيم، وأن يثيبه عنا جنات النعيم. آمين.
(المنار)
إننا نشارك أنجال هذا الصديق الكريم والمصلح الحكيم ومريديه وسائر أهل
وطنه في مصابهم العظيم بفقده، ونعزيهم أصدق التعزية، وندعو لهم بالثبات على ما
أرشدهم، ونعدهم بأن نكون لهم كما كنا له فيما يرجعون إلينا، ونسأله تعالى أن يتولى
توفيقهم وتوفيقنا.
***
الشيخ محمد الكستي
والشيخ عبد اللطيف نشابة
وقد توفي هذا العام من رجال العلم والأدب في سورية الشيخ محمد الكستي
قاضي الشرع الأكبر في بيروت، والشيخ عبد اللطيف نشابة في طرابلس، وكان كل
منهما شاعرًا أديبًا، فالأول قد اشتهر بمنصبه فوق شهرته بأدبه وهو نجل المرحوم
الشيخ أبو الحسن الكستي شاعر بيروت االمشهور، ولوالده ديوان كبير مطبوع،
والثاني نجل أستاذنا الأكبر شيخ الشيوخ محمود نشابة الذي سبق لي التنويه بعلمه
وفضله في المنار، وما تلقيته عنه من الحديث والفقه، وكان الشيخ عبد اللطيف
ذكيًّا لوذعيًّا، لكن ضرورة المعيشة اضطرته إلى الاشتغال بالتجارة عن العلم، ولو
انقطع لملازمة والده والتَّلَقِي عنه لكان تحصيله عظيمًا لذكائه. ولمَّا كنتُ أتردد على
دار والده لقراءة الحديث والفقه عليه في الدروس الخاصة بي كان يُرَغِّبُنِي في دعوة
الشيخ عبد اللطيف لحضورها معي على سبقه إياي في الطلب بضع سنين. رحمهم
الله أجمعين.
__________(32/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الثاني والثلاثين من المنار
نختتم هذا المجلد من المنار بما افتتحناه به من حمد الله عز وجل والصلاة
والسلام على خاتم النبيين محمد رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه، ثم
بتذكير قرائه بحقه عليهم ولا سيما الذين يعتذرون بالعسرة العامة عن الوفاء له بهذا
الحق، ويقل فيهم من يعجز عن توفير بضعة قروش في كل شهر من شهور السنة
يساعد بها من وقف حياته طول السنة على خدمة دينه وأمته بعلمه وعقله وماله
وسعيه، ومن كان منهم في هذه الحالة من العسر والفقر فلا عتب لنا عليه، ولكننا
نعلم أن كثيرًا من المشتركين المُطْل ينفقون الألوف في الترف والزينة أو اللهو أو
مظاهر الفخفخة الباطلة أو الولائم والمآدب والحفلات، ومن سرواتهم وأغنيائهم من
أخَّر دفع قيمة الاشتراك منذ سنين لم يكن لهم عذر فيها بعسرة عالمية ولا شخصية.
وكأن الذين يعتذرون أو يعذرون أنفسهم بالعسرة العالمية لا يفكرون في إرهاق هذه
العسرة لصاحب المجلة، ولا في أن نفقته عليها أضعاف ما يطلب لها من كل واحد
منهم، بل صار لا يكفيها كل ما يجيء من جملة المشتركين. ونسأل الله تعالى
وندعوه لهم بدعاء الملائكة (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا) .
هذا ولو أن الحكومة نفذت علينا تلك الغرامة التي ذكرناها في الجزء الأخير
من المجلد الحادي والثلاثين لعجزنا عن إصدار هذا المجلد 32، على أننا قد
اضطرتنا العسرة ومضاعفة الحكومة لرسم البريد الخارجي إلى منع أكثر أجزائه
عن الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك عما قبله في أكثر الأقطار النائية، حتى علمنا أن
بعضها لم يصل إلى بعض الأوفياء الذين يؤدون حقه في كل عام لخطأ وقع في
الإحصاء بالتمييز بين الموفين والماطلين، فلهؤلاء الحق في طلب ما لم يصل إليهم،
وأما غيرهم فلا حق لهم في طلب شيء إلا مع إرسال قيمة الاشتراك إلى آخر هذا
العام، وهو حق المجلد الثاني والثلاثين.
لم يرد علينا في هذا العام شيء من الانتقاد على المنار، ولكن مشيخة الأزهر
الرسمية قد هاجمت المنار فيه بمجلتها الرسمية التي سَمَّتْهَا نور الإسلام لا بنقد
علمي يليق بعلماء الدين، بل بالطعن والسب والتجهيل والتضليل، وأفظع لوازم
التكفير، ففضحت نفسها وهتكت الأستار عن جهلها بالكتاب والسنة وهدي سلف
الأمة في عقائدها وآدابها، وعما هو شر من الجهل المقابل للعلم، وهو الجهل
المقابل للعقل والحلم، وبالشتم والسباب، والنبز بالألقاب، وافتراء الكذب والبهتان،
كما علم القراء من جزء المنار الماضي التاسع وهذا الجزء، وسيزدادون علمًا بذلك
في أجزاء المجلد 33.
كان في صدر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر لهذا العهد سخيمة
وإحنة من حملات المنار على البدع والخرافات والموالد، التي جُعلت من قبيل
شعائر الإسلام يُحتَفَل بها في المساجد، وهو قد تربى في نعمها وثروتها وجاهها،
ولم يكن يتجرأ على الرد ولا على النقد لأسباب يتوقف بيانها على سيرته العلمية
والشخصية، وهذا مما لا نخوض فيه، ولكنه كان منذ سنين يتمنى لو يوجد في
مشايخ الأزهر من يشفي غلته بالطعن في المنار وصاحب المنار، فلم يظفر بما
تمناه إلا بعد أن صار شيخًا للأزهر، وصار للمشيخة مجلة، وجعل هو من
محرري هذه المجلة من ينصر رأيه في بدع القبور والمشاهد والموالد وغيرها وهو
الشيخ يوسف الدجوي، وكان يعلم أن في صدر هذا الشيخ مثل ما في صدره من
سخيمة وحقد على صاحب المنار، فأباح له أن ينشر في مجلة الأزهر ما نشره من
تأييد البدع والخرافات، وكان من المعلوم من البداهة أن ينتقد ذلك عليها صاحب
المنار وقد كان. وكان من جرائه ما كان من عدوان، وافتراء وبهتان، والدليل
على ما بسطناه في حديث السعي للصلح ومنه وعد شيخ الأزهر بنشر أجوبتنا عن
مطاعن مجلة المشيخة، وإصدار أمره بمنع توزيع رسالة الدجوي البذيئة وعدم تنفيذه
إلخ، ولو حاكمنا الطاعن ورئيس تحرير مجلة المشيخة إلى محكمة الجنايات
لحكمت عليهما بالعقاب أو اضطرتهما إلى طلب الصلح بناء على ما يعترفان به من
الذنب والاعتذار عنه، ولكننا حاكمنا المشيخة ومجلتها إلى كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وقواعد العلم الحق في محكمة الأمة وهي الصحافة، فكان
الحكم العدل عليها شديدًا، ونصر الله صاحب المنار على شيخ الأزهر وعلى الشيخ
الدجوي، وأظهر فضل منار الإسلام الصحيح على مجلة الأزهر ولله الحمد من قبل
ومن بعد. ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.
سيكون أهم مسائل المجلد الثالث والثلاثين إتمام بحث الوحي المحمدي ومقاصد
القرآن وكليات فقهه الأعلى على الوجه الذي تبين به أنه لا يمكن إصلاح فساد الأمم
والدول في هذا العصر بدون اتباع القرآن، والإيمان بنبوة محمد عليه أفضل
الصلاة والسلام، وهذا موضوع لم يسبقنا أحد إلى مثله فيما أعلم.
وسَنُقَفِّي على هذا بإبطال مسيحية الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني وأتباعه
المدعين للوحي له ولهم في هذا الزمان، وبيان حقيقة حال الأزهر وما ينبغي له فيه.
وسنُتم إن شاء الله تعالى فيه ما كنا بدأنا به من تحرير مسألة الربا وما ألحق به
من الأحكام المالية، ومنها معاملات المصارف (البنوك) والشركات المختلفة
والأعمال وأنواع التأمين على البضائع والدور والسفن والحياة، ولا يزال أهل العلم
يطالبوننا بإتمام هذا التحرير.
وكنا نشرنا المسائل الأولى من موضوع محاضرتينا في التجديد والمجددين وفي
المساواة بين النساء والرجال، ثم شغلنا عن إتمام الأولى ما بسطناه في تاريخ
الإمامين الحكيمين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري من بيان
تجديدهما وهو المقصد من موضوع هذه المحاضرة، وشغلنا عن إتمام نشر الثانية
أننا بسطنا في رسالتنا (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) جل ما
أجملناه فيها. وبقي علينا أن نختم المحاضرتين بخلاصة ما في التاريخ والرسالة
لأجل إصدار ما طبعناه من كل منهما على حدته، كذلك كنا وعدنا في المجلد الثامن
والعشرين أن نبين رأينا في قانون الزواج الذي وضعته الحكومة المصرية لمحاكمها
الشرعية، ثم نسيناه فذكرتنا به رسالة أو استفتاء لأحد العلماء في بعض الأقطار
الإسلامية بيَّن لنا شدة حاجة بلادهم إلى هذا القانون وأنه ما منعهم من العمل به إلا
انتظار ما نقوله فيه لشدة ثقتهم بنا وسنعود إلى قراءة هذا القانون وإبداء رأينا فيه إن
شاء الله.
وفي الختام ندعو أهل العلم والرأي بما اعتدنا دعوتهم إليه في كل عام من
الانتقاد على ما يرونه في المنار مخالفًا للحق أو المصلحة العامة ونعدهم بنشره
بشرطه الذي ذكرناه مرارًا. ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضيه من بيان الحق
المبين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
_______________________(32/798)
المجلد رقم (33)(33/)
ذو القعدة - 1351هـ
مارس - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد ولد آدم
محمد رسول الله وخاتم النبيين * المبعوث لإصلاح البشر أجمعين * الذي امتن
عليه ربه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وآله
وصحبه ومن اتبعهم في هدي ملته والتزام سنته إلى يوم الدين.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *
يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25-28) .
أما بعد، فإنني أذكر من يعقل من المسلمين في فاتحة هذا المجلد من المنار،
وهو الثالث والثلاثون الذي يصدر في السنة السادسة والثلاثين الهجرية من تاريخ
إنشائه بأهم ما يجب أن يفكروا فيه من حالهم ومآلهم على بصيرة من علم الحياة
الذي عرفه شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بقوله: (العلم ما يعرفك من أنت
ممن معك) فأقول:
إن الإسلام دين إيمان وعبادة، وعلم وحكمة، وسياسة ملك ودولة، وأساس
عمران وحضارة، خاطب الله تعالى به جميع البشر يدعوهم به إلى الإصلاح العام
بالمساواة بين جميع الأجناس، ونبذ التفرق بينهم بالأنساب والألوان، واللغات
والأوطان، بما شرعه في كتابه القرآن، من القواعد والأحكام والآداب.
بعث الله به نبيًّا أميًّا في أمة أمية غير مقيَّدة بسلطة روحية ولا سياسية تحول
دون فهمه، والنهوض به وتنفيذه، ففعل به هذا النبي وأصحابه في عصر واحد ما
لم يفعله نبي من الأنبياء بما أوحي إليه، ولا حكيم من الحكماء بفلسفته، ولا ملك
من الملوك بسياسته، ولا أديب من الأدباء برأيه وبلاغته، ولا جملة من ذكرنا من
رؤساء البشر وزعمائهم في جميع عصورهم.
ظهر في آسية مهد الأديان الكبرى السائدة في جميع العالم، والحكمة العليا
والحضارة الأولى اللتين استمد منهما سائر البشر حكمتهم وحضارتهم من قبله،
فاستعلى بدينه وحكمه وحكمته وسياسته وحضارته على كل ما كان لدى شعوب
البشر من ذلك كله فيهما، وتدفق سيله على أفريقية فغمرها من الرجا الشرقي إلى
الرجا الغربي منها، فأحيا الأرض بعد موتها، وفاض شؤبوب منه على أوربة،
فأنبت في الأندلس دولة راقية بالعلم والأدب والعمران اقتبست منها سائر شعوبها
العلم والحكمة والحضارة، ثم امتد فتحه إلى الجنوب منها بما أنذرها قرب الاستيلاء
عليها كلها.
ولكن الفاتحين من الصحابة والتابعين كانوا قد اختلطوا بغيرهم ممن كان
حظهم من الفتح ترجيح الغنائم والكسب، على الإصلاح والعدل، فنفخوا في
الإفرنج روح العصبية الدينية والقومية، حتى انتهى ذلك باتفاق شعوب أوربة كلها
على عداوة الإسلام فوجهت جميع قواها إلى محاربة المسلمين بقتالهم لإخراجهم من
بلادها التي فتحوها في فرنسة وأسبانية، ثم بمحاربته في غيرها من بلاد الشرق،
ثم بما هو أشد من ذلك خطرًا وأعمق أثرًا، وهو بث نفوذهم المعنوي في ملوكهم
وحكوماتهم ومدارسهم وكتبهم وصحفهم، حتى صار زعماء المسلمين من حكام
وكتاب ومعلمين ومؤلفين يخدمون أوربة ببث نفوذها المعنوي في شعوبهم وإضعاف
جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية والقومية من حيث لا يشعرون، ولا أستثني منهم
الذين يدعون إلى مقاومة نفوذها باستقلال بلادهم وتقليص ظلها عنها إلا قليلاً منهم.
هذه قضايا أساسية في تاريخنا الحديث أثبتناها مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة
يغنينا تفصيلها السابق عن الإطالة بها في هذا التذكير الإجمالي الوجيز الذي نرمي
فيه إلى بيان موقف العالم الإسلامي أمام أوربة في طورها الجديد، بعد الحرب
الكبرى التي كان الغبن الأكبر فيها على الشعوب الإسلامية العربية التي ساعدت
أعداءها من دول أوربة، والربح للشعوب الأعجمية التي عادتها وحاربتها وهم
الترك، والتي لزمت الحياد وهم الأفغانيون والإيرانيون، فأمامنا الآن خمس قضايا
جديدة: حالة أوربة، ودول الإسلام الأعجمية وشعوبها، وشعوبه الأعجمية
الخاضعة لغيرها، والعرب أرومة الإسلام الأولى شعوبها وحكوماتها، ومركز
الإسلام الذي يرجى تجديده فيه.
1- حالة أوربة الحاضرة:
خرجت أوربة من الحرب العامة منهوكة القوى مثقلة بالديون، منحلة الروابط
الدينية والأدبية، مرتكسة في فوضى الإباحة، مهددة بالثورة البلشفية التي أسست
لها أقوى دولة خلفت القيصرية الروسية، وهي تبث دعايتها في العالم، وبالخطر
الأصفر الياباني، وبيقظة الشعوب الشرقية كلها حيث ينابيع ثروتها، بل مهددة بما
هو أشد خطرًا عليها من ذلك كله وهو استعار نيران البغضاء وغليان مراجل العداوة
في قلوب دولها وشعوبها بعضهم لبعض بعصبية الجنس والوطن وتباريها في الأثرة
المالية، وتنافسها في الاستعداد للحرب المبيدة الآتية، فهي الآن على فقرها وكساد
تجارتها وعجز ميزانياتها تنفق جل دخلها على إعداد ما تستطيع من قوة للحرب
البرية والبحرية والجوية، واختراع الغازات السامة التي تفني ألوف الألوف من
البشر في ساعة أو ساعات قليلة، مصداقًا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (المائدة: 64) .
ويخشى أن تكون الحرب المرتقبة كالريح العقيم التي وصفها الله تعالى بقوله:
{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (الذاريات: 42) فيكونون كما
قال: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-
25) فلا يطفئها الله تعالى حتى يهلك بها جميع الظالمين.
إن شعوب أوربة لفي أشد الخوف والرعب من عاقبة هذا الشقاق والعداء بين
دولها أن يُفْضِيَ إلى هذه الحرب وقد كثرت أسبابها، وهي في حَيْرَة من أمرها،
ودهاقين سياستها يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات، ويحررون المعاهدات
وينقحون القديم منها لتلافي الخطر، ودرء الخطب المنتظر، ولكنهم فيها مضرب
المثل في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) ، وكل فريق
منهم يضمر ويُسِرّ للآخر خلاف ما يُعْلِن، ويُظهِر للعالم غير ما يُبْطِن، وهذا عين
الدَّخَل الذي يُفسد المعاهدات، ويُلجئهم إلى نقضها نقض الأنكاث، الذي يضطرهم
إلى إعادة إبرامها لفسادها، فأنَّى يوفقون إلى الإصلاح وهم المفسدون؟
ألا إنه لا إصلاح بلا إخلاص، ولا إخلاص بلا إيمان، ولا يمكن الجمع بين
الإيمان والعلم والعمران، إلا بدين القرآن، وهم عنه معرضون، ولأهله مُحَادون:
] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ [1 {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ
بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26) . فذرهم في طغيانهم يعمهون،
وفي ريبهم يترددون، بل هم أعداء أنفسهم فيما بينهم، لا يكادون يتفقون إلا على
الكيد للإسلام والعدوان عليه. وانظر في حاله في أهله، ومكانهم من هدايته، هل
هم حجة له على أعدائه وأعدائهم، أم هم فتنة لهم عنه وعون لهم على أنفسهم؟ هل
هم دعاة إليه بأخلاقهم وأحكامهم وعلومهم وأعمالهم وقوتهم وعمرانهم، أم هم
صادُّون عنه؟ وكيف يكون مستقبلهم معهم إذا وقعت الواقعة؟
(2) دول الإسلام الأعجمية وشعوبها:
إن دول بلاد الإسلام كلها ضعيفة تجاه دول أوربة، ولكنَّ في شعوبه شيئًا من
اليقظة والتوجيه للاستقلال السياسي ولتقليد الإفرنج في الحضارة المادية والنظام
المالي والقوة العسكرية لحفظ هذا الاستقلال، وكل ذلك من الضروريات التي
يوجبها الإسلام وطالما دعونا المسلمين إليها، وصرفنا لهم الآيات فيها والحجج
عليها، ولكن هذا التقليد فيما ينفع مشوب بما يضر من الإسراف في الشهوات
ونزغات الإلحاد وفوضى الآداب وقد فازت الشعوب الأعجمية الثلاثة بهذا
الاستقلال، أعني الترك والفرس (الإيرانيين) والأفغان.
فأما الترك فقد كونوا من أنقاض الدولة العثمانية التي قوضتها الحرب العظمى
دولة جمهورية مستقلة تعنى أشد العناية بالقوة العسكرية وبالعمران المادي، ولكنها
إلحادية (لا دينية) تزهق روح الشعب الديني، ولا يحيا شعب بغير دين، وروح
الإسلام كامنة في الشعب التركي ستظهر بقوة عظيمة يفجرها الضغط عند انتهاء
حده.
وأما الأفغان فقد شرعوا في عهد الملك السابق أمان الله خان يقلدون الجمهورية
التركية في الإلحاد، وفي تقليد الإفرنج في الحضارة المادية وفوضى الآداب،
فكفاهم الله شره، وأدال لهم منه الملك نادر خان الجامع بين قوتي الحضارة والإسلام.
وأما الفرس (أو الإيرانيون) فهم وسط في هذه الأمر بين الأفغان والترك،
فالشاه الجديد عسكري بالطبع والتربية فهو خير منظم للقوة العسكرية من برية
وبحرية وجوية، وموجه كل همته معها إلى التنظيم المالي وتفجير ينابيع الثروة.
وجملة القول أن هذه الدول الثلاث قد استفادت من ضعف دول أوربة الذي
أشرنا إليه، وتم لها استقلالها بعد الحرب العظمى التي قلبت نظام العالم، وإنها
تعنى بالإصلاح العسكري والمالي الذي لا تحيا الدول بدونه عناية شديدة على
الطرق الغربية، وإن البلاد التركية وهي أقواهن ليهددها من الخطر المعنوي
ووقوعها بين أوربة الرأسمالية والروسية البلشفية ما لا يهدد أختيها، ولو عقل
زعماء سياستها وقادة قوتها ما عقله نابليون بونابرت الكبير من قوة الإسلام المعنوية
أو ما يعقله منها قيصر الألمان الأخير لأمكنهم في هذه الفترة التي شغلت دول أوربة
بأحقادها القومية والدولية ومشاكلها المالية وفوضى شعوبها الأدبية أن يؤسسوا
بالاتحاد مع العرب وإيران والأفغان قوة جديدة في الشرق الأدنى تسوده فتكون فيه
أعظم من اليابان في الشرق الأقصى، ثم تكون هي المنقذة لأوربة مما ينذرها من
خطر الفوضى التي أشرنا إليها، لا للإسلام والشرق فقط [2] .
ولو ظهر في الأفغان أو إيران مصلح حكيم آخر كالسيد جمال الدين لأمكنه في
هذه الفترة تنفيذ ما توجهت إليه همة السيد جمال الدين المصلح الأول من تأسيس
دولة عزيزة للإسلام تحيا بقوتها وعزتها الأمة الإسلامية كلها، وتستقل بها شعوب
الشرق الأدنى والأوسط كلها أيضًا، فتتجدد الإنسانية بأصول الإسلام تجديدًا تزول
به العصبيات الجنسية والقومية، وامتياز الألوان والطبقات في الإنسانية، ويكون
تأويلا لرؤيا بعض الحكماء المتقدمين ومحققًا لأمانيهم في الأخوة الإنسانية عامة،
التي أشار إليها السيد قدس الله روحه في آخر رسالته (الرد على الدهريين) .
وجملة القول في الدول الإسلامية الأعجمية أن الأفغان أرجاها لتجديد الإسلام
إن ظهر من يقوم به في هذه العصر، ولكن علماءهم أشد جمودًا على تقليد فقهاء
مذهبهم الحنفي، وإنما الفقه أحكامٌ للعبادات ونُظُمُ الحكومة، فليس من موضوعه
إحداث انقلاب إصلاحي ولا تجديد سياسي ولا اجتماعي ولا أدبي ولا روحي، وإنما
روح الإصلاح والتجديد تفيض من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وسيرته وتاريخ النهضة الإسلامية الأولى، وكانت الشعوب الإسلامية كلها غافلة
عن هذا فنبهها له سيد أفغاني.
(3) شعوب الإسلام الأعجمية الخاضعة لغيرها:
وأما شعوب المسلمين الأعجمية الكبرى التي ليس لها دول إسلامية ففيها يقظة
ونهضة علمية ومدنية أقواها في الهند ومسلموها زهاء ثمانين مليونًا، ولكن الوثنيين
في جملتهم أكثر منهم عددًا وثروة وعلمًا، وأوسطها في جاوه وما حولها من الجزائر
الإندونيسية، والمسلمون فيهم هم الأكثرية الساحقة (كما يقال في عُرف العصر)
ويبلغون ستين مليونًا، ولكنهم أقل من أهل الهند الإنكليزية حرية وعلمًا وثروة
بضغط هولندة عليهم، وأدناها في الصين ومسلموها يزيدون على مسلمي جاوه عددًا،
ويفضلونهم حرية وثروة وأدبًا، ولكنهم قليل في الوثنيين الذين يزيدون على
أربعمائة مليون، بيد أنهم متفقون معهم على خلاف ما عليه مسلمو الهند مع الوثنيين،
والعلم الديني والدنيوي فيهم أضعف؛ لضعف اتصالهم بالعالم الإسلامي والعالم
المدني معًا، وبُعْدِ لغتهم عن علومهما، على أن الوثنيين سبقوهم إلى العلوم والفنون
الأوربية؛ لأن الدولة بيدهم، ولو ظهر فيهم مصلحون لما كانت دولتهم عائقة لهم
عن التجديد الإسلامي، بل لأمكنهم حينئذ أن ينشروا الإسلام في بلادهم بسرعة
عظيمة ولأوشك أن تكون لهم فيها دولة ولكن زعامته العامة لا تكون فيها وهي
خاضعة لسلطان غيرها، وبعيدة عن مهد الإسلام وعن الاتصال بأقرب شعوبه
منها، لبعد المسافات وفقد أسباب المواصلات بينها.
(4) العرب أرومة الإسلام الأولى:
(أعني بالعرب: الناطقين بالضاد من عاربة ومستعربة على قاعدة الحديث
النبوي الشريف: (كل من تكلم بالعربية فهو عربي) [3] وهم يملكون شطر قارة
إفريقية الشمالي كله من مراكش إلى مصر، وشطر آسية الغربي ما بين المحيط
الهندى وخليج فارس والبحر الأبيض المتوسط، ويبلغون زهاء مائة مليون) .
لقد كان هؤلاء العرب كلهم أشد شعوب الأرض خضوعًا وبذلا للملايين من
الرجال والأموال في سبيل الدفاع عن الدولتين الظالمتين الباغيتين القاهرتين
الكنودين الكفورين اللتين ربحتا الحرب، واستأثرتا بجُلِّ مغانمها، وليس من
موضوعنا هنا أن نبين ما جازتا به هذه الشعوب التي جاهدت معها بأنفسها وأموالها
من الخسف والقهر والضغط الاستعماري، فإنما كلامنا في المسلمين أنفسهم وجنايتهم
عليها التي مكنت الطامعين فيهم من مقاتلهم.
احتلت جيوش إنكلترة وفرنسة بلاد العرب الخصبة التي ذاقت وبال الحرب
ونكالها، ولو أمكنها أن تحتل الحجاز ونجدًا واليمن وعسيرًا لما عفَّت عنها،
ولكنها باحتلالها للعراق وسورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) والشمالية
(سورية ولبنان) قد أحاطت بجزيرة العرب وجعلتها تحت نفوذها، وتمكنت من
حرمان الأمة والملة من تنظيم القوى الكامنة فيها وتوحيدها وتجديد مجد العرب بها.
وأما عرب البلاد الأفريقية الذين بذلوا الملايين من أموالهم ورجالهم في
مساعدة إنكلترة وفرنسة فقد جزتاهم بشدة الضغط والحرمان من حرية الدين والدنيا
بقدر جهل شعوبهم واستكانتها، فأيقظها الضغط في كل قطر بقدره، بما يتوقع
انفجاره حيث يكون على أشده، وسبقت مصر بالثورة لرفض الحماية التي ضربت
عليها فاضطرت إنكلترة للاعتراف باستقلالها، ولكنها قيدته بتحفظات اقتضت بقاء
الاحتلال العسكري فيها، والضغط السياسي عليها، وإيقاع الشقاق بين زعمائها،
ومكنهم من ذلك فساد الأخلاق، وانفصام عروة الدين والإسراف في الشهوات، ولا
غرو فهي قد بدأت بعلوم الدنيا منذ قرن ونَيِّف فقضى عليها التفرنج والتقليد أن
تكون أكلة سائغة للإفرنج، وعلى العلم الديني وأهله فيها بالانحطاط، حتى زال
التشريع الإسلامي العام منها بذلك، وما تجدد فيها من الجمعيات الإسلامية، فكلها
فقيرة ضعيفة لا تساوي قوتها كلها عشر قوة جمعية نصرانية، وأما المجلات
الإصلاحية فلا يبلغ جميع قرائها عشر قراء مجلة واحدة من مجلات المجون
والفجور، ومجلة مشيخة الأزهر تفسد وحدها أضعاف ما يصلح غيرها من
المجلات، بتأييدها وتأويلها للبدع والخرافات، حتى كان هذا سبب ما علم القراء
من حملتنا على مشيخة الأزهر الحاضرة التي لم يُصَب الأزهر بمثلها من قبل،
وعسى أن تكون آخر محنه فينتهي بها ما مُنِيَ به من الفتون والصهر! ومدافعة
الإصلاح من أول هذا العصر، فهو في طور انقلاب يتنازعه فيه جمود التقاليد
الخرافية السابق، وجمود التقاليد المادية اللاحق، فهو إما أن يحل به ما حل
بمدرسة دار العلوم من التفرنج، وإما أن يقتحم العقبتين، وينهض بالإصلاح
الإسلامي من الناحيتين، فيقف على سَواء الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله
عليهم من سلف الإسلام الصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين (وسنبسط
هذه المسائل في هذا العام إن شاء الله تعالى) .
وقد اقترح المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في بيت المقدس في العام الماضي
إنشاء جامعة إسلامية هنالك، ورأينا المجلس الإسلامي الأعلى فيه قد خصص لهذه
الجامعة مبلغًا صالحًا من ريع الأوقاف الإسلامية وفندقًا عظيمًا من مبانيه الجديدة
تقدر قيمته بمبلغ مائة ألف جنيه، فإن وفق كل قطر إسلامي لمساعدته كان مبدأ
رجاء عظيم في النهضة الإسلامية العلمية تفوق ما في سائر الأقطار، ولكن فلسطين
لا تصلح مركزًا للنهضة الإسلامية العامة في العلم والعمل والتشريع والسياسة.
المركز الطبيعي لتجديد الإسلام:
قد علم مما تقدم أن الإسلام الذي عرفته لكم في أول هذه الذكرى لا يوجد له
في هذا العصر دولة تقيمه وتكلفه وتجدد قوته وعدله، ولا شعب يهتدي به وينشره
وينهض بحضارته، ولا مدرسة تربي النشء عليه وتعلمه وتناضل عنه، وجمعيات
غنية تجدده وتظهر للأمم الحية علويته، وما فيه العلاج لأدواء البشر في حضارتهم
المادية الحاضرة من دينية واجتماعية ومالية وحربية بحيث تقوم حجته ناهضة ماثلة
للأبصار.
وأما المركز الطبيعي الحقيق بالتجديد الإسلامي من جميع أنحائه فهو هو
المركز الذي أشرق منه نور الإسلام، فكان من تأثير نوره في العالم ما أشرنا إليه
في أول هذه الفاتحة، وهو الحجاز وسياجه من جزيرة العرب، هذا المركز الأول
للإسلام هو المركز الأخير له، الذي حَرَّمَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير
أهله، وأوصى بذلك قبيل موته، ليكون هو المأرز والمعقل لهم عندما تتداعى عليهم
الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنا ذلك
بالتفصيل مرارًا، ولكن هذا الاستعداد المركزي لتجديد الإسلام في جزيرة العرب
يجهله أهلها كما يجهلون ما في باطن أرضها من المعادن، بل هم يجهلون استعدادهم
أنفسهم ومبلغ قوتهم وما يجب عليهم وما يمكنهم فعله كما يجهلون وسائل استخراج
معادنهم والانتفاع بها.
في جزيرة العرب مئات الألوف من المسلحين المستعدين للحرب بنفقة قليلة لا
يزال يقاتل بعضهم بعضًا، أفلا يمكن وضع نظام عسكري لهم يحفظون به استقلالهم
ويكونون به إلبًا واحدًا على العدو المعتدي على جزيرتهم عند الحاجة؟
إن بلاد اليمن ونجد وداخل عمان يمكنها الاستغناء عن جلب القوت من
الخارج في أثناء الحرب العامة أو الخاصة، ويمكن الاستعداد لتموين الحجاز منها
ومن سورية والعراق، وإغناؤه عن البحر في تلك الأثناء، ولكن الخطر على
سائر البلاد العربية من قِبَل الحرب المتوقعة أشد؛ لتغلغل النفوذ الأجنبي فيها
وخلوها من قوة الدفاع عن نفسها، بيد أن أكثر أهلها غافلون عن أنفسهم، وآخرون
مشغولون بشهواتهم وتنازعهم الداخلي عن التفكر في مستقبلهم الخاص، فأنَّى
يستعدون لحفظ معقلهم ومأرزهم، ومستقبل دينهم وملتهم، الذي يجب على جميع
مسلمي الأرض مساعدة العرب على تجديد روح الإسلام وتشريعه وملكه فيه.
ألا إنه ليوجد في أهل البصيرة وعلم الحياة وحالة العصر من المسلمين مَنْ
يعرف كُنْه هذا الاستعداد كما يعرفه ساسة الإفرنج، ولا سيما الطامعين منهم الذين
يتخذون الوسائل لقطع الطريق عليهم دون الانتفاع، فعلى هؤلاء العارفين أن
يتعاونوا على وضع مشروع له بالمفاوضات السرية يتضمن بيان مسائله وإقناع
أولي الأمر بتنفيذه أو إلزامهم إياه بما لا يجدون عنه محيصًا، عليهم أن يعملوا بذلك
قبل أن يتعذر عليهم بتمكن خصومهم مما يحاولونه من تطويق قوة العرب في
جزيرتهم بالالتفاف عليها كما تلتف أفعى (البواء) على بطن الأسد فتزهق روحه
ثم تبتلعه.
هذا هو العلاج الوحيد القريب للخطر على الإسلام، الذي لا تستطيع دول
أوربة الآن أن تمنعه بقوة السلاح، لما هي عليه من الاشتغال بنفسها، وما هي
مستهدَفة له من الخطر الأكبر، والبلاء الأصفر، والموت الأحمر.
هذا ما أراه أهم الذكرى لعقلاء المسلمين في فاتحة المنار {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ
الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ
لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} (الأعلى: 9-13) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 24-25)
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________
(1) أي جعلناهم متمكنين فيما لهم نمكنكم فيه من أسباب القوة وغيرها.
(2) قد شرحنا هذه الفكرة في كتابنا (الخلافة العظمى) شرحًا كافيًا وافيًا.
(3) رواه ابن عساكر من طريق الإمام مالك من حديث طويل له قصة تراجع في بحث الوحدات الإسلامية الثمان من الجزء 9 مجلد 32.(33/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحج نفقاته وشُقَّته ومَشَقَّاته
وحال المسلمين الأولين والمعاصرين فيها [1]
كان الناس من المسلمين يحجون بيت الله عز وجل مشاة احتسابًا لزيادة الأجر
لا للعجز عن الراحلة، حتى إن هارون الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره
ثروة وترفًا وعظمة حج ماشيًا، ولكن كان يفرش له اللباد مرحلة بعد مرحلة فيطأ
عليه.
وكان الناس يحجون من أبعد أقطار الأرض عن الحجاز كالمغرب الأقصى
والأندلس من جهة الغرب، والهند والصين من جهة الشرق إما برًّا فقط وإما برًّا
وبحرًا فيقطع أحدهم المسافة في سنة أو سنتين أو أكثر وينفق الألوف الكثيرة من
الدراهم والدنانير مما يعده لهذا النسك من أطيب كسبه، ويعد إنفاقه أفضل ما يدخره
لمثوبة ربه، فإذا هو عاد إلى وطنه حيًّا سالمًا أقيمت له الاحتفالات في أهله،
ووجهت إليه التهاني من صحبه، ومن الأدباء والشعراء في وطنه إن كان من أهل
العلم والأدب أو الوجاهة والثروة. وإننا لا نزال نرى بقية لهذه الاحتفالات والتهاني
للحجاج في هذه البلاد القريبة من الحرمين الشريفين في هذه العصر الذي قربت فيه
المسافة وسهلت فيه المواصلة، وصار من الممكن للمصري أن يسافر من مصر في
أوائل ذي الحجة الحرام إلى مكة المكرمة فيحج ويتم المناسك في منتصفه، ولا
يلبث أن يعود إلى وطنه في الأسبوع الثالث منه إذا لم يزر الحرم النبوي الشريف،
والقبر المكرم، ولولا الحجر الصحي الاحتياطي لما استغرق سفر الحج شهر ذي
الحجة كله ذهابًا وإيابًا بمنتهى الراحة والرفاهة التي كان يعجز عنها الملوك في
القرون الماضية.
وأما نفقة الحج الرسمية فقد وضعت حكومة الحجاز لها تعريفة في هذا العام
علم منها أنه يمكن للرجل أن ينفق على حجه هنالك بضعة جنيهات فقط بدون
الزيارة وبضعة عشر جنيهًا مع الزيارة، وقلما تصل نفقة ركاب السيارات في الحج
والزيارة التي لا بد منها إلى عشرين جنيهًا، وأحدثت للحجاج المترفين فنادق
يجدون فيها أحسن الطعام وأنقى الماء وجميع أسباب الراحة والصحة. ولقد كنت
أعددت لحجتي الأولى مع الوالدة رحمها الله تعالى مائة جنيه ذهبية، وإنما لم أنفقها
كلها لأنني كنت ضيفًا للملك حسين رحمه الله تعالى مدة وجودي في الحجاز، كما
كنت في الحجة الثانية ضيفًا للملك عبد العزيز أطال الله بقاءه موفقًا للإصلاح.
ومن أغرب أمر المسلمين في هذه الزمان أننا نسمع من بعض حجاجنا ونقرأ
لبعضهم من المقالات في الجرائد من التبرم والشكوى من نفقات الحج ومتاعبه ما
يدل أصح الدلالة على ضعف دينهم وعدهم الإنفاق في سبيل الله ونيل القربات عنده
من المغارم، وإن كانت واجبة، لا صدقات مندوبة. ويستبيحون لأنفسهم الطعن في
الذين يخدمون الحجاج في حِلِّهِم وترحالهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم وتعليمهم
المناسك وصحبتهم في أثناء أدائها، وفي غير ذلك من الزيارات، والطعن في
حكومتهم أيضًا مما يخشى أن يكون آية على أن حجهم غير مبرور ولا مقبول عند
الله تعالى.
لهذا رأيت أن أنشر لهم في هذه الأيام من أشهر الحج أثارة تاريخية من حج
المسلمين في القرون الوسطى التي كان حال أهلها في الدين دون حال من قبلهم في
خير القرون، وما كانوا يقاسونه في هذه السبيل سبيل الله من الشدائد والمغارم
راضين من الله محتسبين الأجر عنده؛ لتكون عبرة لمن يتذكر ويخشى الله عز
وجل، ويشكر نعمه على أهل هذا العصر.
***
مشقات الحج ونفقاته
في القرن السادس الهجري
إن العالم الكاتب الشاعر الأديب أبا الحسين محمد بن أحمد بن جبير الغرناطي
الأندلسي قد حج البيت الحرام ثلاث مرات، خرج للأولى من غرناطة لثمان من
شهر شوال سنة 578 ثم ركب البحر من سبتة في مركب للروم الجُنْوَيين في 28
منه قاصدًا الإسكندرية، وبعد حجه وإلمامه بالعراق فسورية عاد إلى الأندلس في
البحر ولقي فيه أهوالاً عظيمة منها انكسار مركبهم. وما وصل إلى بلده غرناطة إلا
لثمان بقين من المحرم سنة 581 وكان في أثناء هذه الرحلة يقيد أهم ما رآه وما
سمعه وما ألم به هو من معه فكان ذلك كتابًا حافلاً سمِّيَ (تذكرة بالأخبار، عن
اتفاقات الأسفار) واشتهر برحلة ابن جبير.
وإنني أنقل منه هنا بعض ما كتبه من خبر إرهاق الحجاج في الإسكندرية ثم
في صعيد مصر وبعض ما كتبه عن جدة ثغر الحجاز الأعظم وأهلها وأمير مكة
وظلم الحاج وإرهاقهم؛ ليكون عبرة لإخواننا المصريين ولسائر المسلمين، فيشكروا
نعم الله تعالى عليهم بما مَنَّ على عباده من تيسير إقامة هذا الركن العظيم من أركان
الإسلام في هذا العصر وقلة نفقاته.
حال الحجاج في الإسكندرية والصعيد
في القرن السادس سنة 578 هـ
قال ابن جبير في حوادث شهر ذي الحجة سنة 578:
أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها يوم
نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه
فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدًا واحدًا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم
وأسماء بلادهم، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضٍّ ليؤدي زكاة ذلك كله،
دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل، وكان أكثرهم
متشخصين لأداء الفريضة لم يصطحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك
دون أن يسأل هل حال عليه حول أو لا؟
واستنزل أحمد بن حسن منا ليسأل عن أبناء المغرب، وسلع المركب،
فطيف به مرقبًا على السلطان أولاً، ثم على القاضي ثم على أهل الديوان، ثم على
جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يُسْتَفْهَمُ ثم يُقَيَّدُ قولُه، فخلي سبيله وأمر
المسلمين بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم، وعلى ساحل البحر أعوان
يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحدًا واحدًا، وأحضر
ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع
الأسباب ما دق منها وما جل واختلط بعضها ببعض، أدخلت الأيدي إلى أوساطهم
بحثًا عما عسي أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم
أم لا؟ وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس؛ لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام،
ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك،
وهذه لا محالة من الأمور المُلَبَّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين،
ولو علم بذلك على ما يُؤْثَر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك وكفى الله
المؤمنين تلك الخطة الشاقة واسْتؤُدُوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا
الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من تشدد الدواوين.
ثم قال في الكلام على قوص وغيرها من الصعيد ما نصه:
وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كإخميم وقوص
ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها،
وإدخال الأيدي إلى أوساط التجار فحصًا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو
دنانير ما يقبح سماعه، وتستشنع الأحدوثة عنه، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة
لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرته في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب،
وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم، وهل عندهم غير ذلك؟ ويحضرون
كتاب الله العزيز يقع اليمن عليه، فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها
مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح
الدين لا يعرفه، ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه، ولجاهد
المتناول له، فإن جهادهم من الواجبات؛ لما يصدر عنهم من التعسف وعسير
الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عز وجل وخرجوا مهاجرين إلى
حرمه الأمين. ولو شاء الله لكانت عن هذه الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على
أجمل الوجوه من ذوي البضائع والتجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل
الزكاة، ويتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه، وكان
يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله، وسار في الآفاق
ذكره، ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره، ويقبح المقالة في جانب
من أجمل الله المقالة عنه.
ومن أشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة في أيديهم
المسال الطوال ذوات الأنصبة فيصعدون إلى المراكب استكشافًا لما فيها فلا
يتركون عكمًا ولا غرارة إلا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة، مخافة أن يكون في
تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غُيِّبَ عليه من بضاعة أو
مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث المُلَعَّنَة، وقد نهى الله عن التجسس فكيف
عن الكشف لما يرجى بستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها،
إما استحقارًا أو استنفاسًا دون بخل بواجب يلزمه، والله الآخذ على أيدي هؤلاء
الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه إن شاء الله) .
ثم قال الكلام على جدة وأهلها والحجاج فيها:
وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء أو الجبال أشراف علويون
وحسنيون وحسينيون وجعفريون رضي الله عن سلفهم الكريم، وهم من شظف
العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقًا، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن
من إكراء جمال إن كانت لهم، أو مبيع لبن أو ماء إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه
أو حطب يحتطبونه، وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن، فسبحان المقدِّر
لما يشاء، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا،
جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
(ثم قال) : وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم
قد تفرقوا على مذاهب شتى، وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة قد
صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها ينتهبونهم انتهابًا، ويسببون لاستجلاب ما
بأيديهم استجلابًا، فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه
إلى وطنه.
ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم
في أمر لا ينادى وليده، ولا يلين شديده، فقد رفع ضرائب المكوس عن الحاج
وجعل عوض ذلك مالاً وطعامًا يأمر بتوصيلهما إلى مكثر أمير مكة، فمتى أبطأت
عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم
بسبب المكوس.
واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير
المذكور فورد أمره (بأن يضمن الحاج بعضهم بعضًا ويدخلوا إلى حرم الله، فإن
ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل
الحاج) هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج، فسبحان
مغير السنن ومبدلها.
والذي جعل له صلاح الدين بدلاً من مكس الحاج ألفا دينار اثنان، وألفا إردب
من القمح، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عندنا، حاشا إقطاعات أقطعها
بصعيد مصر، وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور، ولولا مغيب هذا السلطان
العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا
الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج، فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل
أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية؛ لما هم عليه
من حل عُرَى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم، فمن يعتقد من فقهاء أهل
الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب، وبما يُصْنَع بالحاج
مما لا يرتضيه الله عز وجل، فراكب هذا راكب خطر، ومعتسف غرر، والله قد
أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال، فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد
اتخذوه معيشة حرام، وجعلوه سببًا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حِلٍّ
ومصادرة الحجاج عليها؟ وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم، تلافاها الله عن
قريب بتطهير يرفع هذه البدع المُجْحِفَة عن المسلمين، بسيوف الموحدين [2] أنصار
الدين، وحزب الله أولي الحق والصدق، والذَّابين عن حرم الله عز وجل والغائرين
على محارمه، والجادين في إعلاء كلمته، وإظهار دعوته، ونصر ملته، إنه على
ما يشاء قدير، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب؛
لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية
فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه
لا عدل ولا حق ولا دين على وجهها إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم آخر أئمة
العدل في الزمان، وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة:
يُعَشِّرُونَ تجار المسلمين، كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة
وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يُسْمَع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل
صلاح الدين قد ذكرنا سيرته ومناقبه لو كان له أعوان على الحق مما أريد والله عز
وجل يتلافى المسلمين بجميل نظره ولطيف صنعه) اهـ. المراد نقله من هذه
الرحلة، وإنني أقفي عليه بكلمة وجيزة فأقول:
لئن كان فضل الله تعالى على الحجاز في القرن السادس عظيمًا بجعله تحت
حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله؛ إذ أزال منه جُلَّ تلك المظالم المرهقة
لأهله حتى الشرفاء منهم وللحجاج، فإن فضل الله تعالى على الحجاز وحجاج
الأقطار في هذا العصر بالملك عبد العزيز آل سعود أعظم، فإنه لم يعرف المسلمون
عصرًا بعد صدر الإسلام كان الحاج فيه آمَنَ على نفسه وماله من الظلم والتعدي
مثل هذا العصر، دع تعبيد الطرقات وكثرة المياه والإسعافات الطبية فيها، وقطع
المسافات بالسيارات لمن شاء ولو قيض الله لهذا الملك من الرجال المصلحين ما
طالما تمنيناه له كما تمناه ابن جبير لصلاح الدين، لكان هذا الإصلاح المادي
والمعنوي في الحجاز أكبر وأعم مما هو الآن، ولا نيأس من روح الله، والحمد الله
على آلاء الله.
* * *
الدعوة إلى انتقاد المنار
نجدد دعوة أهل العلم والرأي من قراء المنار إلى بيان ما يرونه فيه من خطأ في
الشرع أو الرأي بما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدون زيادة
على القدر الواجب. ونعدهم بنشر ما يخاطبوننا به بشرطه مع بيان رأينا فيه، كدأبنا
في كل عام.
__________
(1) وضعنا هذه المقالة موضع باب الفتاوى لما نُرَجِّي من فائدتها في موسم الحج.
(2) يعني دولة الموحدين التي ظهرت بالمغرب، ووصلت دعوتها إلى الحجاز فكبر بها أمل المسلمين كما يذكره ابن جبير في مكان آخر.(33/26)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المقال العاشر
من مقالاتنا في الرد على مجلة مشيخة الأزهر
(تابع لما نشر في المجلد الثاني والثلاثين)
البُهَيْتَة الرابعة من بهائت مجلة الأزهر:
رد أحاديث البخاري في آية رجم الشيخ والشيخة
تقدم في الكلام على البُهَيْتَة الثالثة ذكر ما عزاه محرر مجلة مشيخة الأزهر
إلينا في هذه المسألة بما علم به أنه افتراء منه يوهم قراءها أنه نقله من المنار بنصه،
وإننا نعيده هنا لأجل أن نتكلم في المسألة ببعض التفصيل، وهذا نص عبارته:
عبارة الدجوي في نسخ آية الشيخ والشيخة المفتراة على صاحب المنار:
قال في مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:
(الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة) كانت قرأنًا يُتْلَى، وإن عمر قال ذلك
بمجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وهو معروف لا مِرَاء فيه، ويستند
حضرته في ذلك الرد على ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول: (إن
ذلك لو تَمَّ لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه. ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قبل الشارع ولا يعرف إلا من جهته
ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع شيء منه)
انتهى قول الدجوي بحروفه.
أقول: إن من قرءوا هذه العبارة في مجلة مشيخة الأزهر يظنون أن محرريها
إذا جاز أن يخطئوا في فهم بعض ما ينقلون فإنه لا يعقل أن يفتروا (أي يتعمدوا
الكذب) فيما ينقلونه عن غيرهم، ولا سيما إذا عينوا المكان الذي نقلوه عنه من
كتاب أو مجلة بعدد مجلداته وصفحاته، وإذًا يكون ما نقله هذا المحرر، وهو من
هيئة كبار العلماء المدرسين في الأزهر عن ص 697 من مجلد المنار الذي صدر
في سنة 1327 هو كما نقله لا ريب فيه. وهو أن صاحب المنار صرح في تلك
الصفحة برد ما رواه البخاري في المسألة باللفظ الذي ذكره الناقل، وأنه استدل على
رده بما ذكره عنه بقوله: يقول: إن ذلك لو تم لكان كذا وكذا إلخ ما تقدم آنفًا.
لا أقول هذا من باب الاستنباط العقلي فقط، بل أخبرني الثقة أنه وقع بالفعل
قال قائل: إن الشيخ يوسف الدجوي قد افترى الكذب فيما عزاه إلى السيد رشيد،
وزعم أنه نقله من كلامه. فقال له أحد المشايخ - وكانوا بجوار الأزهر -: إنه ليس
من المعقول أن يكون مثل الشيخ يوسف الدجوي في مكانه من كبار علماء الأزهر
ومدرسيه مفتريًا فيما نقله في مجلة المشيخة وعزاه إلى موضعه من مجلة المنار
بالصفحة المعينة من المجلد المعين؟
ولكن غير المعقول عند أكثر الناس ممن يتحرون الصدق، هو واقع بالفعل
ممن يتحرى الكذب، فإن الصفحة 697 من مجلد المنار المذكور ليس فيها ما عزاه
إليها هذا المدرس في الأزهر والمحرر في مجلة مشيخته من مسألة الشيخ والشيخة،
وإنما فيها إشارة إلى ما أنكره الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره من نسخ التلاوة
لبعض آيات القرآن في مناظرته مع الأستاذ الشيخ صالح اليافعي، ذكرتها في سياق
الحكم في تلك المناظرة.
ذلك بأنني أشرت إلى بعض ما رده جمهور العلماء من روايات الصحيحين
لمخالفته للعمل أو لرواية أخرى أصح منها ثم قلت: فأولى وأظهر أن يجوز رد
الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه، ومثلت لذلك بكلمة وضعتها بين هلالين وهي (كالروايات في نسخ التلاوة)
وقلت بعدها: ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق
صدقي وأمثاله كثيرون اهـ فقولي هذا حكاية لاشتباه ترتب عليه إنكار وقع، لا
رد للحديث لاشتباه يتوقع، وهو مطلق في نسخ التلاوة، لا خاص بنسخ آية الرجم
باللفظ الذي ذكره ولا بغيره.
ومعلوم عند أهل النقل أنه ورد في نسخ التلاوة عدة روايات حتى قيل: إن
سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أطول، ومنها هذه الآية، وزعم غلاة
الروافض أن مما حذفه الصحابة رضي الله عنهم منها وادعوا أنه نسخت تلاوته
آيات كثيرة في ولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام إلخ؛ بل أقول: إن حديث
عمر الذي رواه البخاري في مسألة رجم الزاني المحصن قد ذكر فيه شيء آخر مما
نسخت تلاوته ولكن لم يذكر فيه الشيخ والشيخة إلخ.
فأنا لم أزد في التمثيل لنسخ التلاوة الذي كان أهم موضوع المناظرة المذكورة
بأكثر من كلمة (كالروايات في نسخ التلاوة) ولم أقل روايات البخاري ولا
الصحيحين ولا غيرهما. وهذه الروايات من أعظم الشبهات حتى الرواية التي
خصها محرر مجلة مشيخة الأزهر بالذكر، وزعم أنها في البخاري وليست فيه،
والشبهات فيها متعدِّدة بعضها في سندها، وبعضها في موضوعها، فمنها اختلاف
ألفاظها، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الأذن لعمر بكتابتها، ومنها
أن عمر أنكر على أبي بن كعب إرادة كتابتها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم -
ومنها أن عمر يخاف قول الناس في إظهار شيء يعتقده، ولا سيما كلام الله تعالى؟
وبعضها في حكمها وهو رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا مطلقا، وإنما الرجم على
المحصن شيخًا أو شابًا. فهذا الإطلاق يخالف ما عليه العمل بالإجماع، وفي حديث
عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الزاني غير المحصن
الذي زنى بالمحصنة: إنه يحكم بينهما بكتاب الله تعالى، ثم حكم عليه بجلد مائة
وتغريب عام وعليها بالرجم، والتغريب ليس في كتاب الله عز وجل، فكل هذا من
مشكلات الرواية، وتأول بعضهم الإشكال الأخير بأن المراد به حكمه تعالى فيما
أوحاه إلى نبيه غير القرآن، وروي عن ابن عباس أن آية الرجم في القرآن لا
يغوص عليها إلا غواص. وإنني أذكر أهم ما قاله الحفاظ في زيادة (الشيخ
والشيخة) في حديث عمر.
إن البخاري لما روى حديث عمر في الرجم من طريق سفيان بن عيينة عن
الزهري ذكر أن سفيان قال: (كذا حفظت) وذكر الحافظ ابن حجر في شرح هذه
الكلمة: أن الإسماعيلي أخرج هذا الحديث من رواية جعفر الفريابي عن علي بن
عبد الله شيخ البخاري، وزاد فيه أن عمر قال عند ذكر آية الرجم: (وقد قرأناها:
(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورجمنا بعده. فسقط من وراية البخاري هذه الزيادة.
(ثم قال الحافظ ما نصه) : ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا فقد
أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: لا أعلم
أحدًا ذكر في هذا الحديث (الشيخ والشيخة) غير سفيان وينبغي أن يكون وَهِمَ في
ذلك. (قلت) : وقد أخرج الأئمة هذه الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر
وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلم يذكروها اهـ.
المراد من كلام الحافظ.
وأقول: إن قول البخاري: (قال سفيان كذا حفظت) يدل على أن رواية
جعفر الفريابي عنه هذه الزيادة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة) غير
صحيحة؛ إذ لو كان سمعها من الزهري لما قال: كذا حفظت - ولهذا قال الحافظ
لعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا. وأما النسائي فإنه لما ذكر رواية جعفر
الفريابي عن سفيان أنكر هذه الزيادة التي انفرد بها قال: وينبغي أن يكون وهم في
ذلك - فالبخاري ينفيها عن سفيان، والنسائي يخطئه بها، وسفيان من أئمة رواة
الحديث والفقه فيه، ولكنه تغير في آخر عمره، وكان يدلس أيضًا.
وإنني لأعجب أن أرى محرر مجلة المشيخة من هيئة كبار علماء الأزهر
يتصدى للطعن علينا برد شيء من أحاديث البخاري من غير أن يكلف نفسه مراجعة
البخاري فيما يعزوه إليه منها، على علمه بضعف إلمامه بالسنة وقلة اطلاعه على
ما في الصحيحين منها فضلا عما دونهما، فيا ليت شعري ألا يشعر بضعفه؟ أم
يظن أن النقل عن صحيح البخاري كالنقل عن المنار؟ إذا قلنا للناس في الجرائد:
إن هذا النقل غير صحيح يقل فيهم من يملك مجلدات المنار القديمة ليراجع
الصفحات التي يعزو إليها ما ليس فيها فيعلم كذبه في النقل عنها؟ ولكن صحيح
البخاري يوجد في كل مكتبة إسلامية عامة أو خاصة إلا ما ندر فمن شاء، فليراجع
الحديث في كتاب الحدود منه، وشرح الحافظ ابن حجر له في الجزء الثاني عشر
منه؛ ليعلموا جهل الدجوي وكذبه فيما عزاه إليه.
* * *
استطراد في فضحية مجلة الأزهر لعلمائه
في الجهل بعلوم الحديث
ونصيحة المنار لها
إنني نصحت لمجلة مشيخة الأزهر في تقريظي لها عقب ظهورها بأن تعنى
بما قصر فيه الأزهريون في هذا العصر من علم الحديث؛ إذ رأيت فيها إنكارًا
لوجود حديث نبوي بمعنى تأييد الله لهذا الدين بمن ليس من أهله، وذكرت لها
حديث الصحيحين وغيرهما في ذلك، واقترحت عليها أن لا تذكر حديثًا إلا مقرونًا
بتخريجه ودرجته، وهي على قبولها للنصيحة في الجملة سمحت للشيخ يوسف
الدجوي بأن يخبط فيما يكتبه خبط عشواء بل عمياء، فيكذب في النقل حتى العزو
إلى صحيح البخاري، ويصحح الموضوعات والواهيات، ولما أنكرت عليه بعض
هذا الخبط انتقم مني بما علمه القراء.
وكان سبب هذا أن أحد طلاب العلم النجديين آلمه إسراف هذا الشيخ في
الطعن على قومه وأهل مذهبه بالباطل في مجلة المشيخة فألف كتابًا في الرد عليه
سماه (البروق النجدية، في اكتساح الظلمات الدجوية) وكان مما أنكره عليه أنه
أورد في باب تجهيله إياه في علم الحديث أنه استشهد بحديث توسل آدم أو سؤاله
ربه بحق محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر له، وزعم أن الحافظ الذهبي أقر
الحاكم راويه على تصحيحه، والحال أن الحافظ الذهبي أنكر تصحيحه بل قال:
إنه موضوع، ففضحه المجاور النجدي في زعمه هذا، بل هدم بكتابه ما كان له من
صيت في الأزهر انتقل إلى غير الأزهر.
كبر على الشيخ الدجوي أن يرد عليه ويجهله طالب نجدي (وهابي) وكبر
ذلك على الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أيضًا فقطع رزق الطالب النجدي من الأزهر
وأمر بقطع انتسابه فيه، وحاول الدجوي الرد على النجدي من غير ذكر اسمه في
مجلة الأزهر حتى في مسألة وضع هذا الحديث، فأخذ يماري فيه بما اعتاده في
دروسه، بل ادعى أنه صحيح. وأفضى ذلك إلى سؤال بعض مجاوري الأزهر
إياي عن ذلك فبينت له خطأ الدجوي في مرائه هذا من بضعة وجوه بالإجمال ثم
فصلتها ونشرتها في الجزء الرابع من مجلد المنار (32) واعتذرت عن ذلك بقولي:
(أصر الأستاذ الدجوي على القول بتصحيح هذا الحديث والتفصي من قول
الحافظ الذهبي: إنه موضوع بالمغالطة والتأويل، وقد سألني بعض مجاوري
الأزهر عن رأيي في رده فقرأته على تحامي قراءة هذا المجلة لئلا أراني مضطرًّا
إلى ما لا أحبه من الرد على ما أنكره فيها، فبينت للسائل خطأه فيه إجمالاً وإنني
أذكره هنا استطرادًا) .
ثم بينت خطأه في عدة صفحات فكان هذا هو الذي هاجه عليَّ هذه الهيجة
الشؤمى عليه؛ لأنها أظهرت من حقيقته للناس ما لم يظهره كتاب الطالب النجدي،
بل جرأه هذا على الطعن في الحافظ الذهبي وجماعته من أهل الحديث في رسالته
البذيئة، ووضعهم مع شيخ الإسلام ابن تيمية، واتهمهم فيها كما اتهمني بعداوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في حاشية صفحة 23 منها أنه يعجبه قول
بعض الأفاضل: لو كان قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) حديثًا لقال الذهبي وجماعته: إنه موضوع (!) فمن هذا الفاضل
الذي يقول في أعلم حفاظ السنة في عصره بنقد الحديث وتمحيص أسانيده هذا القول؟
إلا أنه ينبغي أن يكون الشيخ الدجوي هو القائل لتلميذه ناشر الرسالة ذلك التقول
أو يكون تلميذه هو القائل له، وهل يتجرأ على هذا الجهل إلا مثلهما؟
فإن كان شمس الإسلام الذهبي حافظ الأمة وفخرها قد بلغ من عداوته وبغضه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخون علم سنته ويكذب كل بيان لمناقبه
وفضائله من الأحاديث فيجعله موضوعًا، وإن كان سنده صحيحًا كما يزعم هذا
المغرور باسم الأزهر - أفلا يكون لي سلوى عما افتراه عليَّ من هذا القبيل؟ كلا
بل لي الشرف بأن أكون معهم فإنهم ممن أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم من
أعداء السنة وحملتها ولا الضالين الجاهلين بها.
على أنه لم يطعن في ابن تيمية والحافظ الذهبي وحدها بل ضم إلى الثاني
جماعته وقال: إن لابن السبكي كلامًا كثيرًا عنهما. وإنما ابن السبكي تلميذ الذهبي
يفتخر به ويقول في ترجمته من طبقاته: إن حفاظ عصره أربعة المزي والبرزالي
والذهبي ووالده (تقي الدين السبكي) ثم يقول: وأما أستاذنا أبو عبد الله (الذهبي)
فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود في كل سبيل،
كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها،
وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت، تعمل المطي إلى رحاله،
وتضرب اليزل المهارى أكبادها فلا تبرح أو تقبل نحو داره، وهو الذي خرجنا في
هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله عنا أفضل الجزاء إلخ.
فالتاج السبكي هذا يفتخر بأنه من جماعة الحافظ الذهبي، فهو من أعداء
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدجوي وتلاميذه أعداء السنة وأنصار البدعة؟
وحسبي هذا الذي كتبته في الموضوع؛ إذ لا فائدة للأمة في تمحيص هذه
الروايات وبسطها في الجرائد التي يقرؤها العوام والخواص، وفيها ما فيها من
الشبهات والمشكلات، وحسبي من الرد على محرر مجلة الأزهر أن يعلم الناس أنه
بهتني بما افتره عليَّ على علم، وما كذبه على صحيح البخاري بغير علم.
فإن عاد إلى القيل والقال في أمثال هذه المسائل التي لا يفقهها فإنني أتحدى
مشيخة الأزهر من دونه تحديًا ثانيًا في علم الحديث والقرآن وخاصة هذه المسألة.
* * *
المقال الحادي عشر
(البهيتة الخامسة ما سماه سحر النبي صلى الله عليه وسلم)
قال محرر مجلة مشيخة الأزهر بعد ما تقدم في مسألة الشيخ والشيخة:
(ثم رد الحديث الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله عليه وسلم رد
ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها) اهـ لفظه، وفي إضافة السحر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما فيها من سوء التعبير وسوء الأدب.
وأما عبارة المنار فهذا نصها: ومثل الرواية في سحر بعض اليهود للنبي
صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها، فإن
نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛
ولأنها مؤيدة لقول الكفار: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) هو ما كذبهم الله تعالى فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 9) ا. هـ.
فعلم من هذا أنني ناقل لهذه المسألة عن الأستاذ الإمام: ولست أنا الذي رددت
الحديث فإسناد الرد إليَّ بَهْتٌ لِيَ وافتراء عليَّ، ولما قلت في مقال سابق: إنني
ناقل لهذه المسألة ومسألة الملائكة عن الأستاذ الإمام طفق المفتري يهجوني في
رسالته ومقالاته بأنه لا يليق بي أن أتنصل من ذلك وألقي تبعته على أستاذي، بل
يجب أن أترك الأستاذ الإمام بمعزل من موجبات الطعن والتكفير الموجهين إليَّ،
وأحمل تبعة ذلك بنفسي) كأن الحق وأمانة النقل والصدق في القول من المنكرات
المذمومة عند الأستاذ الدجوي، أو مما يبيح فن المناظرة عنده أن تحل محلها
أضدادها وهي اتباع الباطل والخيانة في النقل والكذب في القول، وقد بلغ به
الهرب والهزيمة من توجيه الطعن إلى الأستاذ الإمام لاتفاق الأمة على إجلاله أن
جعل نقلي عنه التفسير في حياته موضع التهمة! ! !
لعله يندر أن يوجد في الدنيا خيال كخيال الدجوي سابح في دُجَى الأوهام
يتصور أن ينقل صاحب المنار عن الأستاذ الإمام في حياته أنه قال في درسه في
الأزهر كذا، وأن بعض الناس اشتبهوا في هذا القول فرد عليهم بكذا، أو أن يقول:
إنني أنقل من خطه كذا، ويكون نقله هذا غير صحيح، مع العلم بأن المنقول عنه
كان يقرأ ذلك كما يقرؤه كثير ممن حضروا دروسه في الأزهر، بل مع العلم بما
كان من قوة الصلة والثقة بين صاحب المنار والأستاذ الإمام حتى إن أمير البلاد بذل
جهده في التفريق بينهما فلم يستطع إلى ذلك سبيلا مع أحد منهما. ولا يزال في
الأحياء من يعلم دخائل هذه المسألة كفضيلة الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كلفه
الخديو أن يكلم الأستاذ الإمام بأن يترك صحبة صاحب المنار ليرضى عنه سموه
ويساعده على ما يشاء من إصلاح الأزهر، فقال رحمه الله للشيخ شاكر: وكيف
أترك صحبة السيد رشيد رضا وهو ترجمان أفكاري؟ وتفصيل هذه المسألة وأمثالها
في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام - بيد أن الشيخ الدجوي يريد أن يقنع قراء
كلامه أن نقل صاحب المنار عن الشيخ محمد عبده قد يكون غير صحيح ليحصر
طعنه فيه ويسلم من سخط الجمهور. ولكن القراء قد علموا أن نقل الدجوي عن
المنار غير صحيح، بل كذب صريح، وكذا نقله عن البخاري. فكيف يعبئون
بتشكيكه فيما ينقله عن أستاذه حتى في حياته؟ ثم ماذا يقولون في مسألة السحر
وهي مدونة في تفسيره رحمه الله لجزء عم الذي طبعته الجمعية الخيرية في أيام
حياته بعد وفاته؟
قد علم القراء أنني ذكرت هذه المسألة وغيرها في مقالة المنار المشار إليها من
باب التمثل لما أنكره العلماء الباحثون من الروايات حتى التي صحَّحها الشيخان أو
أحدهما لا من باب ما أنكره أنا من ذلك. وإنني أذكر لهم هنا نص ما كتبه الأستاذ
في المسألة من تفسيره لسورة الفلق من ذلك الجزء لا من المنار ولا من تفسيره:
عبارة الأستاذ الإمام في مسألة السحر:
(وقد رووا ههنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد
بن الأعصم وأثر سحره فيه حتى كان يخيل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو
يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي
صلى الله عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة) .
(ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى
أن يظن أنه فعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان،
ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل،
آخِذٌ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً
مَّسْحُوراً} (الإسراء: 47) وليس المسحور عندهم إلا من خُولِطَ في عقله،
وخُيِّلَ له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه. وقد
قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير
السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع
المبتدعين؛ لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر. فانظر
كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلد بدعة؟ نعوذ بالله، يحتج
بالقرآن على ثبوت السحر ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه
وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! ! مع
أن الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه
السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه
أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته وعدم الاعتقاد بما
ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول
السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور
قطعًا، وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب
العقائد وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها
عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون، على أن الحديث الذي
يصل إليها من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له
الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا بل علينا أن
نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل،
فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم
يبلغه، أو أن شيئًا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
ثم إن نفي السحر عنه لا يستلزم نفي السحر مطلقًا فربما جاز أن يصيب
السحر غيره بالجنون نفسه، ولكن من المحال أن يصيبه؛ لأن الله عصمه منه، ما
أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره على من يظن أنه يحبه، نعوذ بالله من
الخذلان.
على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يُعَدَّ مبتدعًا؛ لأن الله تعالى ذكر ما
يعتقد به المؤمنون في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: 285) الآية، وفي غيرها من الآيات، ووردت الأوامر بما يجب على
المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلمًا، ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر على
أنه مما يجب الإيمان بثبوته أو وقعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون في كل ملة،
بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلم السحر كفر، فقد طلب منا أن لا ننظر
بالمرة فيما يعرف عن الناس بالسحر ويسمى باسمه، وجاء ذكر السحر في القرآن
في مواضع مختلفة، وليس من الواجب أن نفهم منه ما يفهم هؤلاء العُمْيَان، فإن
السحر في اللغة معناه صرف الشيء عن حقيقته. قال الفراء في قوله تعالى:
{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89) أي أنى تؤفكون وتصرفون، سحره وإفكه
بمعنًى واحد.
وماذا علينا لو فهمنا من السحر الذي يُفَرِّقُ بين المرء وزوجه تلك الطرق
الخبيثة الدقيقة التي تصرف الزوج عن زوجته، والزوجة عن زوجها؟ وهل يبعد
أن يكون مثل هذه الطرق مما يتعلم وتطلب له الأساتذة، ونحن نرى أن كتبًا ألفت
ودروسا تلقى لتعليم أساليب التفريق بين الناس لمن يريد أن يكون من عمال السياسة
في بعض الحكومات؟ وقد يكون ذكر المرء وزوجه من قبيل التمثيل وإظهار الأمر
في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن
يتمكنوا به من التفريق بين المرء وزوجه؟ وسياق الآية لا يأباه.
(وذكر الشياطين لا يمنعنا من ذلك بعد أن سمى الله خبثاء الإنس المنافقين
بالشياطين قال: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (البقرة: 14) وقال: {شَيَاطِينَ
الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} (الأنعام: 112) وسحر سحرة فرعون
كان ضربًا من الحيلة، ولذلك قال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه:
66) وما قال: إنها تسعى بسحرهم. قال يونس: تقول العرب ما سحرك عن
وجه كذا أي ما صرفك عنه.
ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره ويعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن
يتكلم، ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الإسلام بهذه الوصمة، وكيف يصح أن
تكون هذه السورة نزلت في سحر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها مكية في قول
عطاء والحسن وجابر، وفي رواية ابن كريب عن ابن عباس، وما يزعمون من
السحر إنما وقع في المدينة؟ لكن من تعود القول بالمُحَال، لا يمكن الكلام معه
بحال، نعوذ بالله من الخبال) اهـ بحروفه.
هذه حجة الأستاذ الإمام على إنكاره لوقوع السحر على تلك النفس القدسية
العليا التي كانت تتصل بروح الله الأمين، وتتلقى منه كلام رب العالمين، فهو
يُجِلُّهَا أن يؤثر فيها سحر ذلك اليهودي الرجيم، الذي كان يستعين كغيره على سحره
بأرواح الشياطين، ولم يقبل في ذلك رواية الراوين، وإننا لم نر من علماء الملة
متقدميهم ومتأخريهم من بيَّن لنا من فضل تلك النفس الزكية العلوية، والشخصية
الشريفة المحمدية ما بيَّنه لنا هذا الإمام الجليل في رسالة التوحيد، وفي دروسه
ومجالسه العلمية كما شرحناه في الجزء الأول من تاريخه.
* * *
بحث في أقوال من أنكر
حديث السحر ومن أثبته
هذا وإن علماء المعقول وجهابذة الأصول قد أنكروا وقوع السحر عليه صلى
الله عليه وسلم من قبل الأستاذ الإمام، وأنكره من علماء التفسير والفقه مثل أبي بكر
الجصاص من أئمة الحنفية، وقد قال العلامة ابن القيم بعد الجزم بصحة سند
الحديث ما نصه: وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد
الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنَّف بعضهم فيه مصنفًا مفردًا حمل فيه على هشام (أي
راويه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة) وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال:
غلط واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء - قال: لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يجوز أن يسحر.... إلخ.
أقول: أما علماء الروايات فليسوا ممن يطلب منهم معرفة هذه الحقائق في نقد
المتون، وأما علماء المناقشات اللفظية التي غلبت على الأزهر في القرون الأخيرة
فقد أجاب بعضهم عن استدلال المنكرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ
إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وتفنيده تعالى لقولهم بالآية التي بعدها بما
خلاصته أن المراد بالمسحور فيها ذا السَّحَر (بفتح السين) أي الرئة، والمعنى ما
تتبعون إلا بشرًا له رئة قال ابن القيم: (وهذا الجواب غير مرضي، وهو في
غاية البعد، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور، ولا يُعْرَف هذا في
لغة من اللغات) وأطال في بيان هذا، واستدل عليه بقول فرعون لموسى: {إِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} (الإسراء: 101) قال: أفتراه ما علم أن له سَحَرًا
وأنه بشر؟ (أي إلا في تلك الساعة) ثم كيف يقول له موسى: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا
فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء: 102) ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصَدَّقَه موسى،
وقال: نعم أنا بشر، ولكن الله أرسلني إليك كما قالت الرسل لأقوامهم.
(ثم قال) : وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو
معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر
. وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة، وهو أن من علم السحر يقال له مسحور، ولا
يكاد يُعْرَف هذا في الاستعمال ولا في اللغة، وإنما المسحور من سحره غيره
كالمطبوب والمضروب والمقتول.
(ثم قال) : فالصواب هو الجواب الثالث، وهو جواب صاحب الكشاف
وغيره أن المسحور على بابه وهو من سحر حتى فقالوا مسحور مثل مجنون، زائل
العقل لا يعقل ما يقول، فإن المسحور الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فسد عقله بحيث لا
يدري ما يقول إلخ.
وأقول: إنه لولا إرادة قبول رواية السحر، والجمع بينها وبين براءة النبي
صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به من كونه مسحورًا بشهادة الله وشهادة العقل وعلم
النفس، لما تكلف الزمخشري عَلاَّمة اللغة أن يحمل معنى السحر هنا على غاية
درجاته التي قلَّمَا تقع وهي الجنون، ولما قبل ذلك ابن القيم علاَّمة المنقول
والمعقول - فإن رمي الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم بلقب مجنون، هو غير
نبزه بلقب مسحور، وقد ذكر في مواضع من القرآن، فدل ذلك على أنهم يعنون
بالمسحور ما دون المجنون من المخبولين، بل نقل البخاري عن سفيان بن عيينة
أحد رواة هذا الحديث أنه قال في وصف عائشة لذلك السحر بما سنذكره: وهذا أشد
ما يكون من السحر.
ونرى أكثر العلماء قد استقر جوابهم على أن السحر الذي وقع هو عبارة عن
التأثير في جسمه صلى الله عليه وسلم دون نفسه الشريفة الزكية العلوية، فهو
كجرحه يوم أحد، وقالوا كلهم كغيرهم: إن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأمراض
البدنية، وقد قتل بعضهم. وهذا صحيح ولكن الروايات كلها مصرِّحَة بأن تأثير
السحر المزعوم كان في نفسه وإدراكه وتصوره صلوات الله وسلامه عليه لا في
جسده - من وجع رأس أو بطن أو يد أو رجل - بل فيها أنه كان يخيل إليه أن يفعل
الشيء ولم يكن فعله حتى إتيان أهله الذي يترتب عليه أحكام شرعية - فهل هذا من
الأمراض الجسمية؟
وليعلم القراء أن أمثال هذه المشكلات في الروايات لا يهتدي إلى تحقيق الحق
فيها إلا الذي يعطي لعقله حرية الاستقلال فيما قاله أصناف العلماء. فعلماء الرواية
هم أعلم من علماء الأصول الاعتقادية والفقهية بنقد رجال الأحاديث، وهؤلاء أعلم
من المحدثين بنقد المتون، وما يوافق المعقول وأصول العقائد منها وما لا يوافقها،
وقد اتفق الفريقان على أن ليس كل ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه
؛ لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمدًا أو سهوًا، وما كل ما
لم يصح سنده يكون متنه باطلاً، بل قالوا: إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون
صحيحًا في الواقع، وإن الصحيح السند قد يكون موضوعًا في الواقع. وإنما علينا
أن نأخذ بالظواهر مع مُرَاعاة القواعد، فما صح سنده قبلنا روايته وحكمنا قواعد
الاعتقاد ودلائل العقل والعلم في متنه إن كان مشكلاً، وما كان غير صحيح السند لا
يجوز لنا أن نسميه حديثًا نبويًّا، وإن كان معناه صحيحًا.
ونحن قد اتبعنا في المنار هذه القواعد كلها في حل مشكلات الأحاديث كما
صرحنا به في مواضع من المنار والتفسير، ولعلنا نكتب فيه مقالاً خاصًّا.
وإن لنا في هذا الحديث كلمتين: (إحداهما) في سنده، وهي أن الذين أَعَلُّوا
الحديث بهشام بن عروة ورد عليهم العلامة ابن القيم باتفاق الجماعة على تعديله -
لهم وجه وجيه، ومستند من أقوال أئمة الجرح والتعديل، فقد قال بعضهم: إن
هشامًا كان في العراق يرسل عن أبيه عروة ما سمعه من غيره، وقال ابن خراش:
كان مالك لا يرضاه وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغير قبل
موته ا. هـ فالقول بوقوع خطأ منه أهون من قبول روايته هذه، وهو أوثق مَن
روى هذا الحديث.
(الثانية) في متنه، وهو أن الروايات عن عائشة تدور على أمر واحد وهو
ما يتعلق بالنساء فقولها كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، كناية عن
ذلك الأمر، حياء من التصريح به على أنها صرحت في رواية أخرى فظن بعض
الرواة أنه عام في كل فعل فعَظُمَتِ الشبهة فيه على علماء الأصول والعقائد، ويؤيد
حصر التأثير فيما ذكر في طبقات ابن سعد عن ابن عباس: مرض النبي صلى الله
عليه وسلم وأُخِذَ عن النساء والطعام والشراب، وفي مرسل يحيى بن يعمر عن عبد
الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. فجملة
القول أنه مرض مرضًا أثر في الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي فقط، وما زالت
الناس تعد هذا من أنواع السحر، ويعبر عنه العوام في زماننا بالعقد، ويسمون
الواقع عليه (معقودًا) وكانت العرب تسميه مَطْبُوبًا، وهو من نوع تأثير الأنفس
بعضها في بعض كالتنويم المغناطيسي أو الاستهواء في عصرنا، وقد بيَّنا هذا النوع
وسائر أنواع السحر في تفسير سورة الأعراف.
وكان قد سبق لي في عهد اشتغالي بالروحانيات أن كنت أكتب نشرة للمصابين
بهذا السحر فتنفعهم، وربما كان جُلُّ هذا النفع من تأثير الاعتقاد الحسن، وكان هذا
الاعتقاد وحسن الظن فينا عامًّا في بلادنا حتى في النصارى الذين يعرفوننا.
ومن المقرَّر عند العلماء المتقدمين والمتأخرين أن هذا التأثير لا يكون إلا من
نفس ذات إرادة قوية في نفس ذات إرادة ضعيفة، وأن الأنفس الخبيثة الضارة لا
يمكن أن تؤثر في الأنفس الزكية العالية، وهذا ما اعتمد عليه شيخنا في إنكار سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم من الوجهة العقلية مهما يكن نوع السحر.
وقد كان العلامة ابن القيم يعلم هذا، وقد بيَّنه في مواضع من الكلام في
الأمراض البدنية والنفسية وعلاج كل منهما في كتابه (زاد المعاد، في هدي خير
العباد) فننقل عنه الفصل الآتي بنصه، قال:
(فصل)
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة
بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها
ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت
أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما
عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من
الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وِرْدٌ لا يُخِلُّ
به يطابق فيه قلبُه لسانَه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له،
ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه، وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في
القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا
غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي، ومَن ضعف حظه من
الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات
والتعوذات النبوية، وبالجملة فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون
ميلها إلى السفليات. قالوا والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا
بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح
الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك
الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّةِ التي تحاربها بها،
فتجدها فارغة لا عُدَّةَ معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها
فيها بالسحر وغيره والله أعلم اهـ.
وقد لخص الحافظ ابن حجر هذا الفصل في الكلام على حديث السحر من
الفتح، وتعقبه بقوله: ويعكر عليه حديث الباب وجواز السحر على النبي صلى الله
عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه وملازمته ورده، ولكن يمكن الانفصال
عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم
لبيان تجويز ذلك، والله أعلم اهـ. أقول: فأنت ترى أن الحافظ يرى أن القاعدة
التي بَيَّنَهَا ابن القيم صحيحة في نفسها وأن الأنفس الشيطانية لا سلطان لها على
الأنفس العالية القدسية، ويُنْقَضُ اطرادُها بإثبات الرواية لتأثير السحر في أشرف
النفوس وأعلاها فيجعلها أغلبية، وإنما يتصور نقض القاعدة فيما دون هذه النفس
العليا من الأنفس الشريفة، ولكن الحافظ عفا الله عنه من الرجال التي انحصرت
قوة تحقيقهم في الروايات وحفظ ما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها وسائر
العلماء في متونها، والترجيح بينها بمقتضى قواعدهم التي هي آراء لهم. فبضاعته
ضعيفة في تحقيق مسائل المتون، وبنائها على قواعد المنقول والمعقول، حتى إنه
رجح أن لرواية الغرانيق أصلاً بما حفظه من تعدُّد طرقها، وبقاعدتهم في تقوية
الروايات الضعيفة والمُنْكَرَة بتعدد الطرق مع تصريحه بأن جميع تلك الطرق
ضعيفة، وغير متصلة، فإذا كان لا يحتج بشيء منها في أحكام النجاسة والطهارة،
أفيعتد بها في أصل أصول العقيدة؟ ورواية الغرانيق أفظع ما رواه الرواة في
الطعن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وبرأه مما قالوا في تبليغ الرسالة الذي
أجمعوا على عصمته فيه، فترى فيما اعتمده الجلال المحلي منها واقتصر عليه في
تفسيره أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر اللات
والعزى ومناة الثالثة الأخرى من أصنام العرب في قراءته لسورة النجم جملة:
(تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهو عين ما يعتقده المشركون والعياذ
بالله تعالى، وقد فنَّد هذه الرواية المحققون من ناحيتي الرواية والدراية، وبيَّن ذلك
شيخنا الأستاذ الإمام أحسن بيان، بما نشرناه في المنار، ونعيد طبعه كل مرة مع
تفسير سورة الفاتحة.
ومن عجائب جهل المتأخرين المقلدين لأمثالهم من المقلدين لأنهم أوسع منهم
اطلاعًا أو جدلاً أن القاعدة عندهم تقديم ما اعتمده المتأخرون على غيره، وإن
خالف كلام الأئمة المتقدمين، وتقليد الميتين، وإن كان مخالفًا لأصول الدين،
وماسًّا بكرامة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم كما أنهم يقبلون في باب مناقبه
صلى الله عليه وسلم ومناقب من دونه من الصالحين ما يخل بتنزيه رب العالمين،
ويخالف المُجْمَع عليه من توحيده عز وجل ودعائه والاستغاثة به عند الشدائد،
يبيحون هذه العبادة لغير الله تعالى، ويتأولون لها آيات القرآن الصريحة، فخرافات
العوام، ولا سيما القبوريين عندهم مقبولة، وبدع المؤلفين المقلدين حجج متبعة،
وكلام المحققين في عصمة الرسول وتنزيهه عن الروايات المنافية لعصمته وغير
اللائقة بكماله أوهام مردودة، وآيات القرآن المحكمة في صفات الله وعالم الغيب
حتى آيات التوحيد مؤولة، وهذا ما جرت عليه مجلة مشيخة الأزهر التي سمتها
(نور الإسلام) والذي تولى كبره من علمائها ومحرريها هو الشيخ يوسف الدجوي
الذي يصحح بدع العوام، ويتأول لتصحيحها نصوص القرآن، كما سنبينه بعدُ، إن
شاء الله تعالى.
وجملة القول في مسألة السحر أن هذه المحرر الثقة عند المشيخة رغم أن
صاحب المنار رد حديث السحر المذكور بتمويهات وخيالات لا يطيل هو بها،
وإنما بهته لنا إيهامه قراء كلامه أن صاحب المنار قد انفرد بهذه الجرأة على رد
حديث البخاري! وقد علم القراء أن كثيرًا من العلماء المتقدمين قد ردوه قبل الأستاذ
الإمام، ولكن بدون أدلته - وأنه يعني بالتمويهات والخيالات ما أشرنا إليه من
الحقائق العالية التي عزوناها إلى الأستاذ الإمام، في إعظام شأن المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وإننا على هذا قد مَحَّصْنَا أقوال علماء المعقول والمنقول في الرواية متنًا
وسندًا بما يهون فيها أمر منكري الرواية بما قيل في هشام، وبما يرجع أجوبة
مثبتيها إلى كون التأثير الذي وقع على قولهم هو خاص بمباشرة الراوية له (عائشة)
على أن أستاذنا (رحمه الله تعالى) فوض الأمر في تأويل الحديث لأهله، ولم
يرد روايته كغيره.
* * *
المقال الثاني عشر
البُهَيْتَة السادسة ما سماه إفتاء التلاميذ المسلمين بالصلاة مع النصارى
في الكنائس
وتعليله بقوله: (ليغرس في قلوبهم النقية تلك الطقوس النصرانية وينقش في
نفوسهم الساذجة ما يسمعونه من القسوس والمبشرين هناك) اهـ. بحروفه.
كل بُهَيْتَة من المفتريات التي بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر
كان لها شبهة منتزعة من المنار أو تفسيره بضرب من التحريف بالزيادة أو
النقصان، وجعل المنقول مقولا للناقل ومذهبًا له، وتفسيره بغير معناه، وإضافة
شيء من الكذب أو اللوازم الباطلة إليه. وأما هذه البهيتة فهي الفرية المفضوحة
التي لا تستند إلى أدنى شبهة، بل هي قذف لنا بضد ما كنا عليه في موضوعها،
وخلاف ما قررناه وما كررناه فيه وفي وقائعه.
ومن غرائب الجرأة على الكذب الصريح، والبهتان المفضوح أن يعزوه إلى
منار شعبان من المجلد 12 (سنة 1327) ليصدقه قراء مجلة الأزهر كما تقدم،
وإنني أنقل من ذلك المجلد بعض ما نشرته فيه خاصًّا بهذا الموضوع بعد مقدمة
وجيزة.
إنني زرت سورية في سنة 1326 هـ (الموافقة سنة 1908م) بعد إقامة
12 سنة في مصر لم أزرها فيها، وكان ذلك عقب إعلان الدستور في البلاد
العثمانية الذي نفخ شيئًا من روح الحرية فيها فحمل طلاب العلم من المسلمين في
المدرسة الكلية الأميركانية ببيروت على الثورة على نظام المدرسة الذي يُكْرِههم
على دخول كنيسة المدرسة وسماع المواعظ النصرانية فيها وحضور صلاتهم فيها،
وهي عبارة عن أدعية مأثورة عندهم، وكنت وقتئذ في بيروت فدافعت عن هؤلاء
الطلبة وقويت عزائمهم على الامتناع من حضور صلاة النصارى، والاعتصام
بعروة الإسلام الوثقى، فمن ذلك أنني جمعت هؤلاء الطلبة في مسجد رأس بيروت
وخطبت فيهم خطابًا نشرته في الجزء الأول من المجلد الذي صدر في المحرم سنة
1327 قلت في آخره ما نصه:
(إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم
وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب، وإني أُجِلُّكم عن قصد
العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته) .
(وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم
وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت ليَ الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا) [1]
(إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة لسماع تعاليم دين
غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين: {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) اهـ.
ثم أنشأت في هذا مقالة عنوانها: (المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية)
بينت فيها آراء المسلمين في تعليم أولادهم فيها، فقلت ما ملخصه:
(وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة إلى هذه المدارس التي أسست
على دعوة النصرانية لما فيها من العلم، ويعلمون بما فيها من الضرر لأولادهم في
الدين، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على عقائد النشء الجديد يمنع من
الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع والمقتضي) وبينت رأي
المرجحين للمقتضي وحجتهم عليه أن المسلم لا يخشى عليه أن يصير نصرانيًّا.
ثم قلت: هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه
المدارس الدينية (ومنهم من يرجح المانع على المتقضي كما هو المعتمد في المسألة
عند أهل الأصول كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت: لما لم يكن عاملا ... تعارض المانع والمقتضي
(ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يُظَنُّ أنه
منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا إلا إذا
قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مُجْمَع عليه معلوم من الدين بالضرورة.
ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم كالأولاد الذين يوضعون
في هذه المدارس أن يُسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون عندنا كفرًا وردة،
وأهونها أن تكون معصية، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ منا، ومات قبل
أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء الراسخين، مات
مرتدًّا لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا مات أبوه أو أمه
أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون أيضًا: إن
بعض فقهائنا صرح بأن الرضى بالكفر كفر فإذا رضينا بشيء من ذلك نكون نحن
مرتدين أيضًا) اهـ. ص 20 منه.
ثم ذكرت في هذه المقالة حديثًا دار بيني وبين أحد أساتذة هذه المدرسة قال فيه:
(إن المدرسة لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال الدينية التي يقررها بعض مذاهب
النصرانية ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق
مع كل دين وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في قلوبهم تقوى الله
وحب الفضيلة وتبعدهم من الإلحاد والتعطيل) وذكر أن المكان الذي تلقى فيه ليس
كنيسة بل مكانًا لأجل الخطب، وسألني: (هل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين
دخول هذا المكان ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟) هذا نص سؤاله فأجبته
بما نصه:
(قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم في أمور الدين فيها وكذا
في خارجها إما محرم وإما كفر في تفصيل لهم في ذلك، فلعل تلاميذكم يعتقدون أن
دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن كان
لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت ليس معبدًا دينيًّا
ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام) ا. هـ صفحة 22 منه.
ثم شرحت له هذا القول بالتفصيل، وذكرت له أيضًا في المحافظة على النظام
قولاً معقولاً، وكان مدار كلامي على أن إكراه التلاميذ على نظام يخالف عقائدهم
ووجدانهم هو تربية لهم على النفاق الذي يُفْسِد كل دين وأطلت في ذلك وبينت له
سوء عاقبة هذه الخطة) .
هذا بعض ما قلته في ذلك الوقت وكتبته في منار سنة 1327، وأنا أتحدى
الشيخ يوسف الدجوي الذي افترى عليَّ بأنني أفتيت التلاميذ المسلمين بالصلاة مع
النصارى في كنيستهم ليتربوا على دين النصارى بأن يدلني على عالم مسلم كتب
مثل هذا التشديد في الصد عن تلك المدارس أو مثله! ! !
وفي إثر هذا أعفت المدرسة الأميركانية التلاميذ المسلمين من حضور الكنيسة
في تلك السنة، ثم جاءني من أحد وجهاء بيروت الكتاب الآتي في الموضوع:
كتاب في مسألة إكراه التلاميذ المسلمين على دخول الكنيسة في الكلية
الأميركانية
سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا حفظه الله:
عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن
العمدة تلافت الخطر المحدق بها بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا، والآن
وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة من
مسلمين ويهود لغرفته، طالبًا منهم التوقيع على صَكٍّ؛ تعهدًا منهم بالقيام بالواجبات
الدينية في السنة المقبلة: من دخول كنيسة ودرس توراة وإنجيل حسب الشروح
والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من له مسكة
من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة الثانية،
حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلا مع أحد
العثمانيين الإسرائيليين.
فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة
الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة
عن تساهل المسلمين في أمور دنيهم حتى لا يبقى عذر للآباء، ولا حجة للأبناء،
وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله
القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة.
عرفتك فيما مضى تَحُضُّ المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية
قبل مناقشتها الحساب، أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك،
والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة، وبُعْد النظر
في الأمور العقلية والنقلية، ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل وقد دفع المسلمون إلى
الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد
هي أن كثرة الضغط توجب الانفجار.
فيا من اتخذك الكبير أخًا، والصغير أبًا، مُدَّ يد المساعدة إلى مسلمي الكلية
وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا
أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة
عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذَكِّرْهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى
من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأكيد مركزها هو من باب السياسة،
وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير
ككلامك.
فكأني بالأسد الآن وقد ثار من مربضه مدافعًا عن الأشبال، خيفة أن يصيبهم
أذًى من الأغرار، فيظهر أن للإسلام صوًى و (منارًا) يُسْتَضَاء بنوره إذا اشتد
حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا، وللمسلمين مرشدًا.
... ... ... ... ... ... ... ... مُقِرّ بفضلك
بيروت ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الغندور
أقول: لولا تلك العناية التي عرفها أهل بيروت مني في هذه المسألة بالقول
والفعل والسعي لَمَّا كنت بينهم لما لجئوا إِلَيَّ دون غيري من علماء الأزهر أو
غيرهم بمثل هذا الكتاب، وقد أجبت صاحب الكتاب يومئذ بما يأتي:
(المنار) هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه فإن هؤلاء
الإفرنج أشد خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في
الشرق كما بيَّنا ذلك مرارًا، ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا
أن الشرق هو مهد التعصب (رمتْنِي بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزييفهم هذا على
الجمهور زمنًا. ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا
وتساهلاً منهم! ! !
إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على
التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن
عبد الحميد، فلجئوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها ولا يرجعون عنها بحملة
الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم لا سيما في
الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا
الإكراه. فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها
بغيرها، وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم وجعل ذلك ذريعة
إلى منافع أخرى دينية ودنيوية.
أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في
بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها، وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور:
(1) مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام ككتب الأستاذ الإمام
وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية وكتاب روح الإسلام
للقاضي أمير علي.
(2) مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية ككتاب أضرار تعليم
التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره من
الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي.
(3) المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن وغير
ذلك من الأعمال الإسلامية كالصيام في هذه الأيام.
(4) ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي
بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء
مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد فإن عملهم هذا مما يُحْمَد.
قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في (هذا العام وفي العام الماضي)
أن المسلم لا يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا
هناك أيضًا: إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لا سيما القائمين بأمر هذه المدرسة
هو الذي يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة،
فعمل رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه ويصدق فيه على المسلمين قوله
تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) .
إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان ولا
من سماعها، ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة
أهل دين آخر، ويعدون تلبُّسَه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من
الردة. فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلا فإنه يحكم بأن من هذا شأنه
لا يرث من أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا الحد،
فإن هم وصلوا إليه ورفع الأمر إلى الحكومة فإنها تمنعهم منه بلا شك، سواء تعهد
التلميذ به أم لا، نعم ما كل ما يُحْكَم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما يسميه
النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا، ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم من أمر
الدين ممنوع قطعًا. اهـ. من آخر جزء شعبان من منار سنة 1327.
وملخص هذا الجواب أن مسألة دخول الكنيسة تمنع الحكومة العثمانية المدرسة
منه، وإن أخذت من الطلبة عهودًا به فيجب أن يرفعوا أمرهم إليها إن عادت إليه
المدرسة، وإن ما يخص الأهالي من هذه المعاملة فهو أن يتحروا مقاومة ما تريد
المدرسة منها بضده أعني شدة الاعتصام بالدين والنفور من المخالفين إلخ.
فهذا ما عبَّر عنه الدجوي بافتائنا التلاميذ المسلمين بحِلِّ الصلاة مع النصارى
في كنائسهم مع علمه بكل الجهاد الذي جاهدناه في صدهم عنه، وإرشادهم إلى
الاعتصام بالإسلام بأنفع العلم والعمل.
ومنه أنني سعيت في بيروت لإقناع المسلمين بإخراج أولادهم من المدرسة
الكلية الأميركانية وغيرها من مدارس النصارى، وجمع المال لإنشاء مدرسة كلية
إسلامية تغنيهم عنها أو مساعدة المرحوم الشيخ أحمد عباس بما يتمكن به من إيجاد
جميع العلوم والفنون في مدرسته؛ فعجزوا عن ذلك وعلمت منهم أنه لا يمكنهم
الاستغناء عن تعليم أولادهم في تلك المدراس، وكان منتهى ما أنذرتهم إياه الخوف
على أولادهم من الردة، وأما الجزم بها فغير جائز ويترتب عليه فساد كبير.
فلتخبرنا مشيخة الأزهر هل كان يمكن يومئذ أن نكتب في الموضوع خيرًا مما
كتبناه، أو يمكن اليوم تخويف المسلمين وصدهم عن هذه المدارس بأشد مما كتبناه
في ذلك المنار التي عزا إليه محرر مجلتها فريته، أو في الجزء الثالث من منار
هذه السنة (1351) في فتوى طويلة، وقد ذكرت للشيخ الدجوي فقال: إن هذا
من تخبط صاحب المنار وتناقضه فيما يكتبه (! ! !) ولا خلاف ولا تناقض إلا في
مزاعمه وبهائته المفتريات، وقد فضحه الله تعالى بها حتى عرفت حقيقته عند من
كانوا يظنون أنه على شيء من العلم والفهم، أو الصدق في النقل والعزو.
وليس العجب أن يشتهر مدرس أزهري كالدجوي بالعلم والفهم ويظن فيه
الصدق وتحري الحق، ثم تظهر الحوادث للناس فيه خلاف ما كانوا يظنون فيه،
وإنما عجب العجب أن يُقِرَّ شيخ الأزهر هذا الرجل -بعد ظهور أمره- على
التدريس في الأزهر والتحرير في مجلته ويأتمنه على العلم والدين، والواجب عليه
أن يكلفه تبرئة نفسه مما أثبتناه من افترائه وجهله بما يقنع الناس الذين يقرءون
مقالاتنا وهم يعدون بمئات الألوف أو يعاقبه بمنعه من التدريس والتحرير، وأنَّى
يفعل هذا من يُخْرِج من الأزهر أفضل المدرسين وأنفعهم بحجة الاستغناء عنهم،
ومنهم خير من نعلم من مدرسي الأزهر عناية بعلم السنة التي كادت تنسخ وتزول
من الأزهر، ولعل هذا أكبر ذنبهم، والله أعلم، وله الأمر وهو العلي الكبير.
* * *
المقال الثالث عشر
البهيتة السابعة ما سماه تطبيق القرآن على مذهب داروين
قال بعد مسألة الجن: (ومثل ذلك ما قاله في مذهب داروين في أول تفسيره
لسورة النساء: وأنه يجوز تطبيق القرآن عليه، وما أدري كيف يفعل في قوله
تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59)
إلى آخر ما جاء في الكتاب والسنة، مع أن كثيرًا من الأوربيين يأبون هذا المذهب
كل الإباء، وهل يبقى مع مثل تلك التأويلات وثوق بكتاب الله الذي أصبح قابلاً لكل
تأويل، وأصبح المراد منه غير معروف حتى في أصول الدين كالإيمان بملائكة الله
تعالى.
هذا نص عبارته في البهت، ويليه عبارة أخرى في التهكم والسَّبّ، ومن
عجائب جرأة هؤلاء الجامدين المقلدين لأمثالهم من الخلف، والمعادين لمذهب
السلف، أنهم يؤولون أكثر صفات الله تعالى وأفعاله بزعمهم أن نص كتاب الله
تعالى ونصوص الأحاديث النبوية فيها تستلزم الجسمية أو الجهة في عقولهم، وهي
مُحَال ويجهلون متبعي مذهب السلف الذين يوجبون وصف الله تعالى بما وصف به
نفسه من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل، حتى إن الرجل يقول: إنه لا يؤمن
بإله في السماء؛ لأن قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يجب
تأويله بأنه ليس في السماء ولا على العرش، وأنه لا يجوز إطلاقه كما أطلقه الله
تعالى، بل ابتدع هذا الدجوي في مجلة الأزهر تأويل أحكم المحكمات من آيات
توحيد الله وعبادته لأجل أن يصحح بدع العوام والجاهلين ويبيح لهم دعاء غير الله
من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد، وهو ما لم يبلغه شرك العرب في جاهليتها،
فإن الله تعالى قال فيهم: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان:
32) فهو يستبيح لنفسه تأويل أصول عقيدة الإسلام لتصحيح البدع الوثنية، ثم
يزعم أننا إذا أولنا النفس الواحدة بغير آدم فماذا يبقى لنا من القرآن؟ وإنما هذا
تفسير بظاهر اللفظ لا تأويل، والمراد منه تنزيه القرآن عن نقض شيء فيه، وكان
قد بسط هذا الاعتراض من قبل في جريدة الأفكار كما بيَّناه من قبل في المقالين
الأول والرابع من هذا الرد، وقلنا في الرابع: إن الشيخ الدجوي قد اعتذر عنه
عقب نشره في جريدة الأفكار سنة 1335 إذ خاف أن نقاضيه إلى محكمة العقوبات،
فيضطر إلى الاعتذار فيها كما اعتذر زميله في ذلك العام، وكان مما بَهَتَ به
صاحب المنار افتراؤه عليه أنه قال: إن آدم عليه السلام من سلالة القرود، وأنه
ليس أبًا الجميع البشر، وكانت حجته في اعتذاره أن الذي قرأ له غَشَّه وهو أعمى
لا يُبْصِر، ولكنه عاد في هذه السنة إلى الطعن علينا بما كتبه واعتذر عنه.
وكان الذي أثار هذه الفرية في نفسه وحمله عليها ما نقلته عن الأستاذ الإمام
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) من أن كلمة النفس
الواحدة ليست نصًّا أصوليًّا ولا ظاهرًا في آدم عليه السلام، وأنها مع ذلك لا يمكن
أن يعترض عليها أحد لا الذين يقولون: إن آدم هو الأب لجميع البشر ولا غيرهم
حتى الذين يقولون: إن للبشر عدة أصول، وبيَّن ذلك بما يراجع في أول تفسير
سورة النساء من جزء التفسير الرابع أو مجلد المنار الثاني عشر.
وقد وضحت كلامه (رحمه الله تعالى) فيما علقته عليه بأن المفسرين كالإمام
الرازي وغيره ذكروا في تفسير هذه الجملة {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف:
189) من آية سورة الأعراف: ثلاثة أقوال: أحدها قول القفال إن هذه القصة
وردت على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة،
وجعل من جنسها زوجها إنسانًا يساويه في الإنسانية، والثاني أن الخطاب لقريش،
والمراد بالنفس الواحدة جدهم قُصَيّ، والثالث أن النفس الواحدة آدم، وتأول ما يرد
عليه من الإشكال في قوله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف:
190) مع عصمة آدم من البشر بما تراه فيه. فلو كان لفظ {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) نصًّا في آدم عليه السلام لما كان هناك وجه للقولين الآخرين. وكيف
يكون نصًّا أو ظاهرًا فيه ولفظ (نفس) اسم جنس نكرة، وآدم علم شخص معرفة؟
فتفسير هذه النفس بآدم تفسير بالمراد لا بمعنى اللفظ.
وذكرت أيضًا ما نقله المفسرون وغيرهم عن الإمامية والصوفية من أنه كان
في الأرض قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون، فراجع ذلك
في روح المعاني للآلوسي وراجع ما قالوه أيضًا في تفسير: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) من قول بعضهم: إنه كان فيها بشر قبل آدم هم
الذين أشار إليهم الملائكة بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: 30) ثم قلت بعد بيان استدلال شيخنا وما وضحته به ما نصه (صفحة
326 من جزء التفسير الرابع) .
(ثم إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام،
ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا؛ لأنه لا يقول:
إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد، وإنما يقول: إنه لا يثبته إثباتًا قطعيًّا لا يحتمل
التأويل. وقد صرحنا بهذا لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول: إن
القرآن ينافي هذا الاعتقاد أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم، وهو لم يقل هذا
تصريحًا ولا تلويحًا، وإنما بيَّن أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم وآثار البشر
وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول، ومن كون آدم ليس أبًا لهم كلهم
في جميع الأرض قديمًا وحديثًا - كل هذا لا ينافي القرآن ولا يناقضه ويمكن لمن
ثبت عنده أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالقرآن، بل له حينئذ أن يقول: لو كان القرآن من
عند محمد صلى الله عليه وسلم لما خلا من نص قاطع يؤيد الاعتقاد الشائع عن أهل
الكتاب في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته لكتبهم،
ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم، وليت شعري
ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت
عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون: إذا أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه
ترك يقينه في المسألة أنه لا يصح إيمانه، ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن
كلام الله، وأنه لا نص فيه يعارض يقينه؟ ؟ اهـ.
وإنما بيَّن الأستاذ الإمام في تنزيه القرآن ما ذكر ووضحته بما ذكرت؛ لأننا
نعلم أن كثيرًا من المسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين في جملتها، وطالما
حاججناهم فيها كما سيأتي، ولكن لا نقول بكفر مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله منهم،
ولا أن هذا الرأي مانع من صحة إسلام من يهديه الله إلى الإسلام ممن يرون
صحة هذه النظرية أو نظرية تعدد أصول البشر، ولكننا لم نؤول نصًّا من القرآن
ولا ظاهرًا من ظواهره؛ لأجل تطبيقه على هذه النظرية التي لا نعتقد صحتها من
كل وجه.
وقد ذكرت في المقال الأول أن عالمًا من علماء تونس الأذكياء لا يبلغ الدجوي
مُدَّهُ في العلم ولا نصيفه قد انتقد عبارة الأستاذ الإمام وإقرارنا لها، وكتب إلينا بذلك
ما نشرناه له ورددنا عليه من بضعة عشر وجهًا فاقتنع بما كتبناه.
وخلاصة الكلام في المسألة أن مراد الأستاذ الإمام مما قرره أن من معجزات
القرآن في تعبيره عن أمور الخلق أن يذكر المسائل بما لا تستنكره معلومات العرب
الأميين في عصر التنزيل ولا معلومات غيرهم ممن خوطبوا به في العصر الأول،
ثم ترتقي معارف البشر في هذه المخلوقات ارتقاء عظيمًا حتى تصل إلى ما نعلم
ونسمع ونبصر في هذا العصر، ويبقى تعبير القرآن فوق كل علم وكل ارتقاء لا
يمكن أن ينهار، ولا أن ينقض من بنائه العظيم جدار، ولا أن يسقط منه حجر من
الأحجار، مع أننا نرى فحول علماء كل عصر كلما ألفوا كتابًا فيما وصلت إليه
معارفهم الواسعة من أمور العالم يجدون من الباحثين من ينقض كثيرًا من مسائله،
بل نرى العالم الواحد منهم إذا أعاد طبع كتابه بعد سنين قليلة من تأليفه يصحح
كثيرًا من مباحثه. فهل يعقل أن يكون في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن
يأتي بمثل هذه التعبيرات التي يستفيد البشر منها العبرة المرادة في كل زمن بما
يناسب معارف أهله من غير أن يمسها ما ينقض شيئًا منها، أو يصدّ الناس عن
الاهتداء بها؟
ولكن أمثال الشيخ يوسف الدجوي من علماء المناقشات في عبارات الأشموني
والصبان وحواشي مختصر السعد التفتازاني وجمع الجوامع، وإيراد الاحتمالات
الكثيرة فيها لا يعقلون مثل هذا الإعجاز في القرآن، ولا يفقهون فيها مراد عليم
كبير كالأستاذ الإمام، كما أنهم لا يفقهون كلامه في عظمة نفس المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام، وأنه لا يمكن أن يؤثر فيها سحر السحرة أولي الأوهام، بل
ينكرون تحقيقاته التي لا تصل إليها أفهامهم المحصورة في مناقشات كتب المتأخرين،
ويجبنون عن توجيه الاعتراض عليها؛ لئلا تلعنهم الأمة بعد إجماعها على أن
مصر لم تنجب عالمًا ربانيًّا وحكيمًا تفتخر به مثله، فيوجه أجرؤهم على التحريف
وقول الزور كالشيخ يوسف الدجوي اعتراضه على ناقل علمه وحكمته وناشر فضله
ومزاياه وما هو إلا صاحب المنار، ويظاهره على ذلك ضريبه في علمه واعتقاده
الشيخ الأحمدى الظواهري فيما يظهر؛ إذ يستعمله في نشره في مجلة الأزهر، ولا
يأذن بأن ينكر عليه فيها منكر.
أما قول الشيخ يوسف الدجوي: وما أدري كيف يفعل في قوله تعالى: {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) إلخ، فجوابه
أولا: أنه لا يعقل أنه لا يدري ذلك؛ إذ لا بد أن يكون راجع تفسيرنا لهذه الآية
وأمثالها لأجل تأييد طعنه علينا أن وجد فيها ما يؤيد رأيه، وثانيا أنه إن كان صادقًا
في قوله: إنه لا يدري، فهو أنه لا يحب أن يدري؛ لأنه لو كان يحب أن يدري
لراجع تفسيرنا لهذه الآية ولغيرها في معناها، ولا سيما الآيات التي انفردنا
بتفسيرها بعد وفاة شيخنا رحمه الله كقوله تعالى في سورة الأنعام: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: 2) الآية، فقد قلت في تفسيرها من صفحة 296 من
جزء التفسير السابع ما نصه:
هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على
حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به
بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين وهو التراب
الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين، وقد خلق الله آدم أبا البشر من الطين كما خلق
أصول سائر الأحياء في هذه الأرض؛ إذ كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي،
بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فبنية الإنسان مكونة من
الغذاء ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل وما يلقحه من ماء الذكر، فهو
متولد من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان
المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات، وإنما النبات من الطين، ومن تفكر
في هذه ظهر له ظهورًا جليًّا أن القادر عليه لا يعجزه أن يعيد الخلق كما بدأه إذا هو
أمات هذه الأحياء بعد انقضاء آجالها التي قضاها لها في أجل آخر يضربه لهذه
الإعادة بحسب علمه وحكمته اهـ.
وفي معناه ما كتبته في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (الأعراف: 11) الآية وهذا نصه من (ص328 من جزء
التفسير الثامن) :
(الخطاب لبني آدم، والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ
المسنون، وهو الماء والطين اللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم
صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سَوِي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم
تقديرًا ثم صورنا مادتكم تصويرًا إلخ؛ ثم ذكرت الأقوال المروية عن ابن عباس
وغيره من مفسري السلف وقلت في آخرها: والتقدير الذي ذكرناه أولا هو الموافق
لما عليه الجمهور، والإنسان الأول آدم) اهـ. فهذان نصان صريحان في
اعتقادنا أن آدم هو الإنسان الأول، وأنه أبو البشر ناقضًا لما افتراه علينا الشيخ
الدجوي ومُكَذِّبًا له.
وأما آية خلق عيسى كخلق آدم فقد كتبت في تفسيرها (ص 319 ج3) ما
نصه:
(أقول بعد أن بيَّن سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات، وما كان من أمر
قومه في الإيمان والكفر به، كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة
والمُحَّاجين فيه بغير علم، وردَّ على المنكرين لذلك فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران: 59) أي أن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه
على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك ثم فسر هذا المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
} (آل عمران: 59) أي قدَّر أوضاعه وكوَّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء
فكان طينًا لازبًا ذا لُزُوجَةٍ: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) أي ثم
كوَّنه تكوينًا آخر بنفح الروح فيه اهـ.
مذهب داروين والإسلام:
وجملة القول: أن ما بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر من أننا
نقول بتطبيق القرآن على مذهب داروين فهو كذب مفترى كغيره من مفترياته، وإن
في مجلد المنار الثاني عشر الذي استنبط منه سائر هذه المفتريات رسالة لشيخ
الصحافة في سورية عبد القادر أفندي القباني جعل فيها مذهب داروين دينًا مناقضًا
للأديان المعروفة في البلاد العثمانية وناقضًا لها وقد نشرتُها له وعلَّقْتُ عليها تعليقًا
قلت فيه (ص635 منه) : (أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب داروين لا ينقض -
إن صح وصار يقينًا - قاعدة من قواعد الإسلام، وأعرف من الأطباء وغيرهم من
يقول بقول داروين وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا، ومسلمون إسلامًا صادقًا، يحافظون
على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش والإثم والبغي التي حرم الله على
عِبَادِهِ عملا بدينهم، على أن هذا المذهب علمي ليس من موضوع الدين في
شيء) .
فقولي: (إن صح وصار يقينًا) صريح في أنه لم يصح وأنه لا يرجح أن
يصح، وكان هذا هو المستقر في رأيي مما بسطه أستاذنا الشيخ حسين الجسر
العلامة الشهير في كتاب (الرسالة الحميدية) وأقره عليه علماء سورية وعلماء
الترك وغيرهم من العلماء كما صرَّحت به في المقال الأول من هذه الردود.
وأما رأيي التفصيلي في مذهب داروين الذي كنت أرد به على القائلين به قولاً
وكتابة ففيه أجوبة على أشهر أدلتهم عليه وقد ابتليت بدفع شبهاتهم كغيرها من
الشبهات على الدين. وأوسع هذه المباحث ما نشر في الجزء الثامن من مجلد المنار
الثلاثين (ص 593) وهي شبهات ألقاها إليَّ بعض الشبان كتابة في أثناء
محاضرة لي على منبر جمعية الشبان المسلمين فيعلم منها مبلغ بهتان الشيخ يوسف
الدجوي عليَّ، وقلبه للحقائق وإسناده إليَّ ضد ما هو ثابت عني في مواضع من
مجلة المنار وتفسيره، وذلك برهان قاطع على تعمده افتراء الكذب وسوء نيته فيه.
وهذه البُهْيَتة آخر البهائت التي نشرتها له مجلة الأزهر في الجزء الخامس من
هذه السنة (1351) ووعدت بتفنيدها وسأنشر بعدها مقالة الرد على احتجاجه
لبدعة الزيادة في الأذان أو عليه إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) كذا قلت في الخطاب، والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما وهو فيهما من حديث جابر: (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) وفي مسلم من حديث حذيفة: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا وجعلت تربتها لنا طهورًا) .(33/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب الإنجيل والصليب
(تابع لما نشر في الجزء العاشر م 32)
الباب الثالث
(أيادوكيا) بمعنى (أحمد)
الكلمة الأصلية التي ترجمت عنها كلمة (أيادوكيا)
نقول: إذا لم يكن الإنجيل الأصلي قد رفع من الميدان منذ زمن لوقا،
أو نقول: لكي لا نعرض أنفسنا للتهمة بجرم الافتراء؛ إذ ربما كانت أنشودة
الملائكة موجودة بنصها الأصلي؛ ثم أعدمت في عهد تصرفات مجمع نيقية
التطهيرية: لماذا لا يوجد النص الأصلي لهذه الآية؟ لماذا يحاولون أن نقتنع
ونخضع لدعوى القائل: إن (أيادوكيا) ترجمة مطابقة للكلمة التي كانت في
المتن الأصلي، وبصورة موافقة للقاعدة اللسانية الحقيقية؟ فلو قام أحد البَابِيِّينَ
فرضًا وترجم هذه الآية بقوله: (الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض لوح.
وللناس باب! !) فبأي حق وصلاحية يمكن أن يرد ويرفض؟ والمتن الأصلي
غير موجود؛ ليكون للكنيسة حق الاعتراض والمؤاخذة! إلا أن البابي مجسم أو أنه
يعتقد بإنسان قد تأله، وهو أيضًا يدعي الألوهية، وأنه يعطي ألواحًا وآيات
كحضرة (يهوه) معبود اليهود.
وها أنذا أسأل: ماذا كان أصل الكلمة المرادفة لكلمة (أيودوكيا) ؟ فعوضًا
عن (بروباجندا فيده) التي للكاثوليك، وجمعية ترجمة الكتب المقدسة إلى كل
اللغات التي للبروتستانت، أرجو أن يتلطفوا بالإجابة على هذه الأسئلة: -
ماذا كان نص العبارة التي كان التهليل والترنيم بها، والمترجمة بكلمة
(أيودوكيا) ؟ هيهات، لا شيء، عدم، كله ضاع وانمحى، وإن ما يضحكني
بزيادة هو قولهم: (بما أن لوقا ملهم من قِبَل الروح القدس، قد حافظ على الترجمة
من غير أن تَبْقَى حاجة إلى المتن) ولكن المترجمين في المخابرات الدولية دائمًا
يذهبون بمتن اللغة الأصلية مع الترجمة إلى الرئيس ويعرضونهما عليه معًا، فأين
متن اللغة السماوية؟ وسنبرهن في الفصل الثاني بصورة قطعية ومقنعة على أن
لوقا لم يكتب موعظته بالوحي والإلهام ولا بإلقاء الروح القدس. فالمتن الأصلي
مفقود، والترجمة مشكوك في صحتها!
المعنى اللغوي المستعمل لكلمة (أيودوكيا)
يجب أن تكون كلمة (أيودوكيا) ترجمة حرفية لكلمة سريانية مثل (إيرايتي)
أو لكلمة عبرانية. ولكن كتاب لوقا لم يترجم عن لسان آخر، فإن قال قائل: (كان
هناك مأخذ، وإن لوقا كتب كتابه مترجمًا عن ذلك المأخذ) فإن المعنى يزداد
غموضًا؛ لأن ذلك المأخذ في اللسان الأصلي مفقود.
ولا بد أن يرد على بال كل مسيحي وجود نسخة مكتوبة بالسريانية، وهي:
بشيطتا
سبرا طابا
ولكن تلك أيضًا مترجمة عن اليونانية، فعلينا إذًا أن نفهم معنى (أيودوكيا)
من اللغة اليونانية ومن قاموسها فقط، وذلك لا يكفي لحل المسألة، ولا بد أن تكون
الملائكة قد استعملت كلمة عبرانية أو بابلية أو كلمة أخرى من إحدى اللغات السامية
وإن لوقا ترجمها بـ (أيودوكيا) وههنا السر والظلمة.
وفي النسخة المسماة (بشيطتا) التي برزت إلى الوجود بعد مجمع نيقية
(أزنيك) مثل (الصبر جميل) بالعربية تمامًا. ولا شك أن الذين ترجموها بعبارة
(سورا طاوا) قد كتبوها متخذين بنظر اعتبارهم أن (إنجيل) عبارة عن بشارة أمل.
إن المقصود من الاشتغال بالألفاظ ليس إلا التمكن من إظهار حقيقة لم تزل
مكتومة أو خافية على كل الموسوية والمسيحية والإسلامية حتى الآن، فأرجو أن
يتعقبني القراء بصبرٍ وتأنٍّ.
لا يمكن أن تكون (أمل صالح) ترجمة حرفية مطابقة لأصل كلمة (أيودوكيا)
بل يجب أن تكون إحدى العبارتين مردودة، ولكن أيتهما؟
الآثوريون النسطوريون يقرءون الآية التي هي موضوع بحثنا عند شروعهم
بالصلاة، ولهؤلاء كتاب عبادة يسمى (قود شاد شليحي)
وهو أقدم من مجمع نيقيه بكثير. وبما أن ليس بين مندرجات هذا الكتاب المهم
الآيات العائدة إلى (قربان القديس) الموجودة في أناجيل مَتَّى ومرقس ولوقا
نستدل على أن الكتاب المذكور أقدم من الأناجيل الأربعة، ومهما يكن هذا الكتاب
فهو أيضًا قد أصيب بالتغييرات والتحريفات على مرور الزمان لكنه قد تمكن من أن
تبقى صحائفه مصونة عن إضافة الآيات المذكورة إليه المسماة (الكلمات الأصلية)
وفي هذا الكتاب (سبرا طابا) أي (أمل صالح) أو (بشارة جيدة أو سنة) وذلك
عوض عن (أيودوكيا) فلدينا وثيقتان فقط في أصل أنشودة الملائكة وهما كتاب
(لوقا) وكتاب (قودشا) .
ليت شعري أي واحدة من هاتين الوثيقتين المستقلة إحداهما عن الأخرى هي
أكثر اعتبارًا وأحرى بالاعتماد عليها؟
لو كانت الملائكة في الحقيقة قد أنشدت (أمل صالح) لكان الواجب على لوقا
أن يكتب عوضًا عن (أيودوكيا) (----) (أيوه لبيس) وعلى الأصح
(----) (إيلبيدا آغسى) كما كتب بولس وبما أننا وقعنا بين وثيقتين متضادتين
تناقض إحداهما الأخرى، لا يمكننا أن نرجح إحداهما بغير مرجح.
لم يكن في الكنائس القديمة كتاب باسم إنجيل باللغة العبرانية، أما الكلمة
(أيودوكيا) فهي بالعبرانية (----) راضون وهي تشمل على معان مثل (رضا،
لطف، انبساط ميسرة، حظ، رغبة) وهي اسم لفعل (---- رضا) المشابهة
لكلمة (رضا) العربية فتكون النتيجة أن (أيودوكيا) المترجمة مرة إلى اليونانية
Volantas bona (حسن الرضا) قد تحولت وتأولت بعد ذلك إلى كافة الألسنة
بالعبارات التي تفيد المعنى المذكور. أنا أدعي أولا أن تأويل (أيودوكيا) على هذا
الطراز لا يؤدي المعنى الحقيقي، وثانيًا أنه من الجهل والمفتريات الكفرية بمكان.
أولاً: لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال (---- ثليما)
وكان يجب لمن يكتب (----) أو (----) المطابقة تمامًا لحسن الرضا. ففي هذا
يكون تفسير أيودوكيا غلطًا وخطأً، ولعل الكنائس ولا سيما الأساتذة الذين يعرفون
اليونانية من أهلها وغيرها يعارضوني في ذلك فأقول: إن هذه الكلمة مركبة من
كلمتين (أيو) بمعنى (حسن، جيد، صالح، مرحى، حقيقي، حسن ملاحة)
وأما كلمة (دوكيا) وحدها فلا أعرف لها استعمالاً في شيء من كتب اللغة، وإنما
توجد كلمة (---- أو ---- دوكوثه) وهي بمعنى (الحمد، الاشتهاء، الشوق،
الرغبة، بيان الفكر) وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهي
حمد، محمود، ممدوح، نفيس، مشتهى، مرغوب، مجيد، والآن لننظر ماذا
بين أنبياء بني إسرائيل من الأفكار والمعاني في الألفاظ ---- محمود [*]
أنا لا أعلم بوجود رجل تاريخي يحمل اسم أحمد ومحمد قبل ظهور النبي
(الأخير الأعظم) صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإن اختصاص حضرة
النبي الأكرم بهذا الاسم الجليل (محمد) لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة
والاتفاق، ولو قال قائل: إن أبوي النبي سمياه محمدًا قصدًا لأنهما قرآ كتب
الإنجيل، ومن هناك علما أنه سيأتي نبي باسم محمد، لكان من المحال أن يصغي
لقوله أحد.
وهنا أريد أن أفتش في كتب العهد القديم العبرانية المكتوبة قبل ظهور الإسلام
بألفين أو ثلاثة آلاف سنة عن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ العربية (حمد، أحمد،
محمد) وعما تشتمل عليه كلمة (إسلام) في اللغة الرسمية السماوية من المعاني
الواسعة، فإن كلمتي (أحمد، ومحمد) أيضًا تحتويان على ذلك المقدار من المعاني.
---- لا تحمد ---- لا تطمع في بيت جارك (خروج 17: 20) إن ترجمتهم
التركية تنهى عن النظر بالشهوة والحسد، وذلك غلط؛ لأن نص الآية ---- لا
تشته زوجة جارك.
---- تحت ظله باشتياق جلست (نشيد الإنشاد 2: 3) حمدة (----
الحمد، الاشتهاء، الاشتياق، التعشق، التلذذ، الانشراح) .
---- الله اشتهى هذا الجيل أو الجبل الذي اشتهاه الله (مزامير 16: 68) .
---- أحمد الإعجاب، الاشتهاء، الانبساط، الانشراح، الرضا، حمد،
محمد، مليح، جميل المنظر، حميد المنظر (تكوين: 9: 2) .
(حمد وشمن) مرغوب، ---- مشتهى، مرضي، مطلوب،
مرغوب (أمثال 20: 21) والحال أنهم قد ترجموا الكلمتين (هتاوا، هاوا) من
هذا الباب نفسه بكلمة (أيبيشوميا) اليونانية التي هي أيضًا بمعنى الشهوة والاشتهاء.
إذن فإن (الإصحاح السبعين) يترجم الكلمتين (حمد) و (أهوى) كلتيهما
بالكلمة (أيبيثوميا) ---- (----) وباليونانية (أيبيثوميا) أحمد من الذهب أي
أشهى من الذهب.
---- كل (محمدتنا) خربت. وفي اليونانية ---- (أشعيا 11: 64)
نحب الدقة في أنهم يترجمون كلمة (محمد يتو) التي في الآية المذكورة أعلاه ب
(أندوكساهيمون) .
إذن فمحمد ---- بمعنى Fameux Illustre, Glorieux, الفرنسية.
أي أن علماء اليهود الذين ترجموا كلمة (محمد) العبرانية مرة بمشتهى ومرة
بمرغوب وأخرى براض ومرضي، يعبرون عنها الآن بلفظ (أيندكسوس)
فالصفة (أيند وكسوس) المذكورة تحتوي على الصفات الجميلة كالاسم (محمد،
أحمد، أمجد، ممدوح، محتشم، ذو الشوكة) ، والبروتستانت ترجموا هذه الصفة
الجميلة بجملة (كل نفائسنا صارت خربًا) .
إذن فإن الكلمات (----) أو (----) (المحمدة الأحمدية) أو
(----) الحمدة التي ذكرها لوقا بمقابلة (أحمد، محمد) كلها الاسم المبارك
الذي ترنمت به الملائكة إشارة وإخبارًا بنبي آخر الزمان.
إن عبارة (حسن الرضا) لها كل المناسبة إلى (محمد وأحمد) فقط؛ لأنه إذ
كان قد وجد في جماعة الأنبياء من ظهرت فيه هذه المعاني: طيب ومقدس حري
بتوجه العالمين وجدير بحسن رضائهم وحائز على المحمدة، وكل الصفات الجميلة
بحيث يفيدهم ويرضيهم ويسرهم بكل ما يشتاقون إليه، فهو محمد صلى الله عليه
وسلم. فإن كان الذين لم يؤمنوا به ولم يطيعوه بحسن رضائهم، فمن ذا الذي
يرضون من بعده، وأما الذين يذهبون إلى الفكرة السقيمة، إلى أن المقصود من
(حسن الرضا) هو أن واجب الوجود كان سيئ النية، سيئ الرضا، حاملاً للبغض
والعداوة والغضب على نوع الإنسان إلى حين ولادة المسيح، وأنه بعد ولادة المسيح
غير هذه الصفات إلى ضدها وتصالح مع الناس، فليتفكروا جيدًا أن الجنود
السماوية (ملائكة الله) يعلمون أن خالقهم مُنَزَّه وبرئ من سوء النية والجهل وأنهم
يسبحونه ويقدسونه إلى أبد الآبدين.
إن أملي الوحيد هو الكشف عن حقيقة الموضوع والغرض الذي يجب أن
ترمي إليه هذه الكتب (العهد الجديد) أي أني أشعر بأن لا بد في هذه الكتب من
حقيقة. وأدرك أن الحقيقة المذكورة سعادة وخير لكافة البشر، وأني قد شرعت في
مطالعة الكتب المقدسة باللسان الأصلي التي كتبت بالدقة والإمعان لإظهار هذه
الحقيقة بكل وضوح (----) مترجمة عن كلمة (----) راصون العبرانية.
ليثق قرائي المحترمون؛ بأن الاختلاف المستحكم بين العيسوية والإسلامية
سينحل، ويفصل فيه حالا عند انكشاف المعنى الحقيقي الذي تحتويه هذه الكلمات
بعونه تعالى، فمن الضروري أن يتتبعوا المباحث في شأن الكلمات المذكورة
بالصبر والدقة.
يوجد في اللغتين العبرانية والبابلية القديمة فعل ثلاثي مجرد (---- رصه)
(---- رضا) بمعنى (رضي) العربية. وهذا الفعل مستعمل كثيرًا في كتب
التوراة وسنحقق هذه الكلمات الأجنبية المهمة في النسخة المسماة (سبتو اغتبتا)
وهي الكتب العبرانية المقدسة التي ترجمها سبعون عالمًا يهوديًّا من اللسان الأصلي
إلى اليونانية في مدة قرنين أو ثلاثة قبل الميلاد في إسكندرية مصر.
ومن المعلوم لدى علماء اللغات أن الأسماء والصفات والأفعال على قسمين،
أي أن كل اسم أو صفة إما مذكر وإما مؤنث على الإطلاق، مثلا محمد مذكر
ومحمدة مؤنث، وبالعبرانية (----) محمد مذكر (----) مؤنث. وفي
الأثورية (----) محمد مذكر، و (----) محمدة مؤنث. وأما اللغات
الغربية القديمة، فلا تتبع هذه القاعدة، وهي تطلق على الكلمة التي لا تذكير ولا
تأنيث فيها (غير جنسي) وفي اليونانية يستعملون التعبيرات (----)
بمقابلة محمد، وللمؤنث (----) أيند وكسي، ولعديم الجنس (----)
أيند وكسون. فاليونانيون يطلقون لفظ (أيندوكسون) على ما يصفه العبرانيون
بالصفة (----) محمد لذلك جاء التعبير في (إشعيا 11: 64) (----)
محمديتو، و (----) أيندو كساهيمون بمعنى أشياؤنا الحميدية النفسية (أندوكسا
وهو جمع أيندوكسون (---- محمديهم محمديها) نفائسهم نفائسه (مراثي أرميا: 1: 7: و11) وقد ترجمت في النسخة السبعينية ----) بمشتهيات
(---- كرم حمد) كرم الحمد الحديقة اللذيذة، مبتغى اللذة والشوق (إشيعا 2: 27 و 12: 32) ---- من أجل الحقول المقبولة (---- أو يحمدوت)
(---- دوكساسي) النفائس (دانيال 11: 38 و43) (---- حمدة النسوان)
شهوة النساء (دنيال 11: 27 و 38 و 43) .
(---- هحمدوت ثياب فاخرة) ---- جميل، فاخر، مرغوب
(تكوين 15: 27) فالمعاني التي تحتوي عليها الكلمات (حمد، حميد، محمد) في اللغة العبرانية القديمة على الوجه الآتي:
1- فعل: النظر بعين الطمع والشهوة، الغبطة، الاشتياق، الاشتهاء
صيرورة الشيء مرغوبًا ولذيذًا، الرغبة والإرادة، المدح والثناء، الحمد.
2- صفة: مشتهى، شهي، معشوق، مقبول، فاخر، نفيس، ذو قيمة،
حميد، جليل، ممدوح، حبيب، لطيف، لذيذ، مكيف (أو مطرب) راض،
مسرور، مليح، جميل، شهير، ذو اسم (نامدار) ، صديق.
3- اسم: أحمد، محمد، عشق، عال، علاء، محمدة، نفاسة، لذة ملاحة،
حسن، جمال، كيف، غلاء، انبساط، شهرة، صداقة.
ولكي لا أتعب القراء المحترمين أتيت على نماذج الألفاظ الأجنبية أعلاه على
وجه الاختصار، وإن صحائف كتب التوراة مملوءة بالألفاظ المذكورة، وكل
المعاني والتأويلات التي أعطيتها صحيحة حقيقية، وأنا مستعد كل وقت لإثباتها
واحدة فواحدة.
يقف المطالع مندهشًا عندما يحصي بحسن نية ما اشتملت عليه هاتان الكلمتان
(----. ----. حمد) من المعاني الكثيرة بهذا المقدار. ويجد أن
ألفاظ (حميد وأحمد ومحمد) تحتوي اسمًا وصفة، على معاني التفضيل: أحب،
وألذ، وأقوم، وأعلى، وأغلى، وأطيب، وأجمل، وأرغب، وأقبل، وأشرف،
وأحشم وأشهر شيء وشخص وجنس بعد الخالق تعالى.
(----) عاد يرضى حتى يرضى (إلى أن يرضى) ---- أيودوكيص
(أيوب 6: 14) (---- أورصيتم) ---- إذا ترضيهم (أيام ثاني 7: 10)
(---- رصي) كن راضيًا (ارض) ----. أيودوكيصون.
(---- أيودوكياص) رضا، راضون، عناية (مزامير 12: 5)
(---- رصون ----. تيليما) مرضاة رغبة (دانيال 4: 8)
إن البروتستانت ترجموا (أيودكيا) ---- راصون طوب (رضاء طيب)
لا نظن أن أحدًا يجترئ على إنكار القرابة والاقتران المعنوي وبين الكلمتين
(رضا، رضوان) المذكورتين أعلاه الواردتين في كتب التوراة والاسمين (حمد،
محمد) لأننا أوضحنا أن كلمة حمد العبرانية تشتمل على معان مثل (رضا، رغبة،
شهوة، عشق، طلب، إرادة، شوق) .
على أن في العبرانية كلمة أخرى (---- حفص) وفي العربية حفص
بمعنى (ميل، اشتهاء، رغبة، طلب، اشتياق) وبما أن كلمة راحون التي
ترجمت بها الأفعال والأسماء (حمد ومحمد) تستعمل أغلبيًّا في ترجمة وتفسير
حفص ثبت أن مدلول (حمد ومحمد) أوسع وأشمل.
وهنا أكرر قولي: إن (أيودكيا) لا يكون عبارة عن (حسن الرضا) الخيالي
المبهم وعديم المعنى، بل إنها بمعنى plaisir bon consentement
Bienvillance الفرنسية بمعنى (الرضا السرور وإرادة الخير) مثلا: أيودكيا في
اليونانية (---- إنشاء الله، بتوفيق الله، بعناية الباري) وكل ما يرغب فيه
الإنسان من مال وروح ونفس، وكل ما كان لديه محبوبًا ولذيذًا ومشهورًا ومحترمًا،
فهو موجود في معنى الكلمتين أحمد ومحمد.
__________
(*) يقول مصححه: إن اسم أحمد هو صيغة تفضيل من الحمد، واسم محمد صيغة مبالغة من التحميد ومعناه الذي يحمده غيره كثيرًا، وقد كان خاتم النبيين أحمد خلق الله لله، وهو الذي حمده الله أكثر مما حمد غيره من رسله.(33/65)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشقاق بين العرب الحضارمة
ودعوتهم إلى الصلح
للأمة العربية مزايا وفضائل كثيرة، ومنها كغيرها من الأمم عيوب كبيرة،
وشر عيوبها وأضرها عليهم: التفرق والشقاق الذي يثيره التحاسد والتنازع في الجاه
وحب التعالي، ومنه التنازع في الإمارة والملك. فلولا هذا التنازع الذي شجر بينهم
منذ العصر الأول لملكوا الشرق والغرب، ولكان أكثر البشر عربًا مسلمين بتأثير
عقائد الإسلام وقواعده الإصلاحية العامة المرشدة إلى رفع الإنسانية إلى الوحدة
والأخوة والكمال الممكن في الهدى والعلم والحضارة. وإنهم - وقد ضاعت خلافتهم،
وزالت حضارتهم، وثُلَّتْ عروش ممالكهم - لو اتحدوا اليوم وجمعوا شملهم كما
فعلت الأمم التي تفرقت شعوبها قبلهم كالجرمان والطليان لأمكنهم أن يجددوا للعالم
الإنساني هداية وحضارة ودولة تنقذ شعوب البشر التي تفوقهم علمًا وقوة وسيادة في
الأرض مما هي مستهدفة له من خطر وفساد، كما أنقذ سلفهم البشر مما كان قد
أفسدهم من مدينة الروم والفرس وغيرهم من الأقوام.
لقد كان أفضل مأثرة لعرب حضرموت أن ضرب تجار منهم في الأرض
يبتغون التجارة فبلغوا جزائر الهند الشرقية - جاوه وما جاورها - وأهلها وثنيون
فنشروا فيها الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ إلا للعرب أجدادهم، ونالوا الحظوة
عند أمرائها وحكامها الذين اهتدوا بهم، وأثروا وتأثلوا وكثروا ولو كانوا على
معارف واسعة لعمموا اللغة العربية فيها كما فعل سلفهم في غيرها، ثم كان أقبح
مساوئهم تجاه تلك المأثرة الفضلى أن دب إليهم داء الشقاق والبغضاء في الوقت
الذي تنبه فيه الشعب الوطني الأصلي للعلم والعمل وجمع الكلمة ومباراة الشعب
الهولندي السائد من جانب ومقاومة تيارات الإلحاد والدعايات الكفرية والبدعية من
جانب آخر.
انشقت عصاهم القوية فكانت شظيتين سميت إحداهما العلوية، والثانية
الإرشادية، كل منهما تحاول كسر الأخرى، ويخشى أن تفوز كل منهما بما تحاول
فيُقضى على هذه الجالية العربية العريقة المجد، العظيمة القدر في قلوب هذا
الشعب، فتصبح حصيدًا كأن لم تغن بالأمس.
كل منهما يعيب الآخر بما إذا صح كله كان قبحه وضرره دون محاولة علاجه
بما يضاعف الداء، حتى يتعذر الشفاء، وهو الحسد والبغضاء، التي سماها النبي
صلى الله عليه وسلم الحالقة: حالقة الدين، وقد انتهت فيهم إلى سفك الدماء، بعد
الإسراف في الطعن والسباب، فكيف إذا كان مبالغًا فيه، على عادة الناس في مثله،
فإن كانوا قد صاروا همجًا لا زعماء لهم كما قال الشاعر العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
فلا بد من انتقام العدل الإلهي منهم على سنته تعالى في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال:
25) وليتدبروها وما يليها من قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) مع تدبر قوله تبارك اسمه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) .
وإن كان لهم زعماء يطاعون فعليهم أن يتداركوا الأمر، ويرأبوا الصدع، وإلا
كان عليهم وزرهم وأوزار الذين يتبعونهم في الإثم.
إنني لفي أشد الألم والحزن على هذه الجالية الكريمة، وطالما فكرت في
السعي إلى إصلاح ذات بينها، فلم أجد له طريقًا لاحبًا يرجى بسلوكه الوصول إلى
ما يرضي الفريقين، حتى إذا ما ألم بنا أخونا السيد إبراهيم السقاف من كبار
سروات العلويين، وبسط لنا ما كان بلغ به السعي مع صديقه وصديقنا الشيخ أحمد
السوركتي الأستاذ الأكبر للإرشاديين، واطلعنا على ما اتفقا عليه من شروط الصلح،
وما عرض لها من الفشل بسوء الفهم، تجدد عندي الرجاء في نجاح السعي،
فكتبت الخطاب الآتي، ونقلت له صورة منه في اليوم الذي سافر فيه من مصر
فأمضيتها له ليحملها إلى الفريقين (فحملها ونشرتها جرائدهما) وبقيت عندي
المسودة وهذا نصها:
خطاب صاحب المنار
لزعماء العلويين والإرشاديين
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) .
من محمد رشيد رضا ابن السيد علي آل رضا الحسيني الحسني صاحب مجلة
المنار الإسلامي بمصر إلى إخوانه في الإسلام من جماعة العلويين والإرشاديين
الحضرميين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد طال العهد على ما شجر بينكم
من الخلاف والشقاق، وما نجم عنه من الطعن في الأنساب، والنبز بالألقاب،
واللعن والسباب، وقطع الأرحام، المنافية لأخوة الإسلام، وقد آلم ذلك جميع
المسلمين، وسر أعداء الإسلام من ملحدين ومليين، وجعلوا هذا حجة لهم على
دينكم، وأنتم دعاته وحماته، وأجدادكم مهاجرته وأنصاره، ولعل أخاكم هذا من أشد
المسلمين حزنًا وأسفًا على ما حل بكم، وتمنيًا على الله تعالى أن يوفقه لإصلاح
ذات بينكم، وطالما فكر في ذلك فلم يهتد إليه سبيلا.
ثم إنني رأيت في العام الماضي ما وفقتم له من وضع شروط للصلح معقولة،
وسرني ما بشرتنا به الجرائد من اتفاق زعماء الفريقين عليها، ولكن لم ألبث أن
قرأت في جرائد مهاجركم أنكم نكصتم على أعقابكم، وحللتم ما عقدتم بأيديكم،
فكنتم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
أيها الإخوان المسلمون:
إن محمدًا رسول الله وخاتم النبيين، الذي فضلكم الله باتباعه على العالمين،
لم يكن شيء بعد الشرك بالله والكفر به أبغض إليه من التفرق والاختلاف بين أمته،
وإنه ما أفسد عليه دينها، وأضاع مجد دنياها من بعده، إلا هذا التفرق والاختلاف،
وإنه ليحزنني أن أقول: إن التحاسد والتعادي والشقاق بين قومه العرب أشد منه بين
غيرهم من الأقوام والأمم، ولولا ذلك لكانوا أعز الأمم وأسعدها وأقواها، ولما هدموا
-بتفرقهم واختلافهم- تلك الصروح الشامخة التي بناها سلفهم باتحادهم وائتلافهم.
وإننا أيها الإخوان قد دخلنا في طور جديد من الانقلاب البشري يهاجم ديننا
فيه جيوش من الملحدين ومن (المبشرين) ومن المبتدعين، ومن المسلمين
المفرقين لوحدة الإسلام بالعصبية الجنسية واللغوية والوطنية (أيضًا) فديننا على
خطر في كتابه وسنته وهدايته وتشريعه ولغته، وهي قوام وحدة أمته، وأنتم أيها
العرب الخُلَّص أحق الناس بتلافي هذا الخطر وحفظ وحدة الأمة على اختلاف
أجناسها ولغاتها وأوطانها، وأنى يتسنى لكم هذا وأنتم أشد من جميع الأجناس
الإسلامية تفرقًا وتمزقًا، تخربون بيوتكم بأيديكم وأيدي أعدائكم، فأي شعب
يرضاكم قادة له وهذه حالكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1)
أيها الإخوان المسلمون:
إنني نظرت فيما وضع مندوباكم من شروط الصلح، وفيما اقترح بعضكم لها
من تفسير يقصد به إغلاق باب الاختلاف في فهمها، وسد ذرائع التأويل السيئ
لشيء منها، فنقحت عباراتها، وبينت مجملها، بما أرجو أن يكون مقبولاً عند كل
منكم؛ لظهور المصلحة فيه عند أهل العلم والرواية منكم، وكل منكم يعلم فيما أظن
أنني حسن النية بريء من المحاباة في ديني، وأزيد على هذا أنه يمكنني أن أؤيدها
بتوقيعات أشهر زعماء المسلمين من أهل العلم والرأي في مصر وغيرها، فعسى
أن يرتضيها كل منكم، وتقر أعين المسلمين باتفاقكم الدائم إن شاء الله تعالى.
شروط الصلح بين جماعتي
العلويين والإرشاديين
(1) يراعي كل من الفريقين في معاملة الآخر معنى الإخاء الإسلامي
الثابت بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) والفضائل الدينية
المستمدة من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ،
والمساواة الشرعية التفصيلية في سائر الحقوق الدينية والأدبية والاجتماعية العرفية
في حدود الشرع المبنية في مذاهب أهل السنة والجماعة التي ينتمي إليها الفريقان،
ويدخل في هذه الحقوق العرفية اختصاص العلويين بلقب (السيد) ككل من ثبت
نسبه للسبطين الشريفين بالتواتر أو بغيره مما ثبت به الأنساب في الشرع، ويدخل
فيها إفشاء السلام بدءًا وردًّا، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز وتهاني الأعياد
والقدوم من السفر.
(2) يُدفن كل من كان من ماضي العداء والخصومة المؤسف كأن لم يكن
فلا يعاد إلى شيء منه، ويعاهد الله كل من الفريقين على اجتناب كل دعاية إلى
سوء أو طعن على الآخر في الصحف أو المدارس أو المجالس وغيرها، وكل ما
يخالف الشرع من السباب، والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، وغير ذلك
مما يؤلم النفوس ويجرح القلوب ويجدد الشقاق، لقوله تعالى: {َ وَلاَ تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) وقوله: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) .
(3) يتعاون الفريقان على خدمة الإسلام ولغته ومقاومة أعدائه الطاعنين
فيه من دعاة الإلحاد والأديان والنحل المحدثة المخالفة لإجماع المسلمين الذين يعتد
أهل السنة بإسلامهم، وعدم موالاة أحد منهم عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
(4) يتعهد كل من الفريقين بكف السفهاء الذين ينتمون إليه عن الطعن
المحظور في الآخر، فإن لم يتمكن الزعماء والوجهاء من كف بعض سفهائهم عن
ذلك يعلنون الإنكار عليه والبراءة من سفهه بالطريقة التي يقتنع بها الفريق الآخر
أن طعنه غير صادر عن إغراء ولا رضا.
(5) كل من يطعن على العلويين أو الإرشاديين من غيرهم يتعين على
جمعية الرابطة العلوية وجمعية الإرشاد أن تستنكر طعنه بما يدل على عدم الموافقة
عليه فضلا عن تهمة الإغراء به، إلا إذا كان انتقادًا علميًّا أو أدبيًّا أو دينيًّا
موضوعُهُ الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة الذين ينتمي أهل السنة إلى مذاهبهم.
وفي هذه الحالة يذكر المخالف بحكم الشرع وأدلته بالحكمة والموعظة الحسنة.
(6) يعذر كل من الفريقين الآخر جماعة وأفرادًا فيما يخالفه فيه من الرأي
في المسائل الدينية غير الخارجة عن أقوال المذاهب الأربعة؛ لأن الاختلاف في
المسائل الاجتهادية طبيعي في البشر والاتفاق عليها كلها متعذر. والمسائل التي
عرف رأي الفريقين فيها يجتنب إثارة الجدال غير الودي فيها ما دامت موافقة أحد
هذه المذاهب فلا ينكر الآخذ بمذهب الشافعي (مثلا) على الآخذ بمذهب أبي حنيفة
أو مالك أو أحمد بن حنبل رضي الله عنهم، ويراعى مع الاتفاق على هذا الأصل
قاعدة: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) فلا
نتخذه وهو اجتهادي ظنيّ سببًا للتفرق والشقاق المحرم بالإجماع.
(7) تتألف لجنة من العلويين والإرشاديين متساوية الأعضاء لمراقبة تنفيذ
مواد الصلح وشروطه، وتدارك ما عساه يبدو من أي الفريقين من مخالفة لها قبل
انتشارها وشيوعها الذي يتعسر معه تلافيها، فإن ظهر من أحد منها مخالفة لشرط
منها في الصحف أو غيرها ولم يمكنها إزالته توجه اللجنة نظر الهيئة العليا للفريق
الذي ينتسب إليه ذلك المخالف لتوقفه عند حده، وتعلن في أثر ذلك أنه لا دخل لها
في ذلك مطلقًا، فإن لم تتمكن من إيقافه عند حده يجب أن تعلن براءتها منه اهـ.
__________(33/73)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مجلة المنار سنة 33
نشرنا هذا البيان في بعض الصحف في شهر شوال الموافق شهر فبراير
(شباط)
سيصدر الجزء الأول من مجلد المنار الثالث والثلاثين في أول مارس من سنة
1933 والجزء العاشر في نهاية هذه السنة الميلادية بجعل شهري التعطيل في أولها
بدلاً من أثنائها المعتاد أو آخرها. وتعوض المشتركين عن جزئي هذين الشهرين
فترسل إلى كل من أدى قيمة الاشتراك تامة كاملة قبل انتهاء السنة ما هو بقدر
قيمتهما أو يزيد عليها من الكتب أو الرسائل المفيدة.
وسيقرؤون في الأجزاء الأولى من هذه السنة تتمة بحث (إثبات الوحي
المحمدي) بالأدلة العلمية العقلية وبيان أنواع مقاصد القرآن وعلومه في إصلاح
البشر الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي مما لم يسبق له نظير قط في
بيان كون الإسلام هو الدين العام الأخير للبشر، وأنه لا منجاة لمدنية الغرب
الحاضرة من تعادي الشعوب والملل المنذر لهم بالهلاك بدون هدايته، وهو يتضمن
دحض شبهة الماديين القائلين بأن وحي الأنبياء نفسي أي فائض من استعدادهم
النفسي لا إلهي من عالم الغيب، وفيه بيان لما أخطأ به موسيو درمنغام في كتابه
(حياة محمد) من تصوير هذا الوحي ومقدماته.
ويلي هذا البحث في عظمة موضوعه وطرافته بحث إثبات قوله تعالى حكاية
عن المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف:
6) والشواهد عليه من كتب العهدين القديم والجديد المؤيدة باللغات الآرامية
والسريانية والعبرية واليونانية لقسيس من علماء الآشوريين هداه الله إلى الإسلام في
القرن الماضي، وكذا بحث الخطر على الإسلام من الداخل والخارج وأنواعه
والمخرج منه الذي شخصناه في خطابنا الأخير في المؤتمر الإسلامي العام في
القدس الشريف. إلى غير ذلك من الحقائق والفتاوى في المشكلات التي لا توجد في
غير المنار.
ونذكر قراء المنار والراغبين في قراءته في عامه الجديد أن خسارتنا المالية
في إصداره كانت عظيمة في السنة الماضية لقلة الذين أدوا إلينا حقه بعذر العسرة
المالية، عسى أن يتفكروا فيتذكروا أن اشتراك كل واحد منهم في هذه الخدمة للملة
والأمة بجنيه واحد في السنة أيسر من بذل القائم بها وحده مئات من الجنيهات مع
بذل علمه وعقله وعمره في تحريرها وتصحيحها.
شر المشتركين في الصحف من ينوي ألا يؤدي حقها وهو قليل، ويليه
المماطل بالوفاء. وفي الحديث النبوي المتفق عليه: (مطل الغني ظلم) والغني:
الذي يجد القيمة. وفي حديث صحيح آخر: (لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته)
أي أن مطله يبيح ذمه باللسان والقلم، وعقوبته لدى الحكام في الدنيا قبل عقاب الله
تعالى في الآخرة.
وليفرض الماطل الظالم أن كل المشتركين مثله؛ إذ لا يرضى أحد لنفسه أن
يكون أظلم الناس، فكيف يمكن لصاحب الصحيفة في هذه الحالة أن يصدرها؟
نذكرهم بذلك لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) وقوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .
__________(33/78)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث
تعلمون أيها الإخوان أننا كنا أشد أصحاب الصحف تساهلاً في اقتضاء قيمة
الاشتراك فلا وكلاء للتحصيل يُلِحُّون في الطلب، ولا دعوى ترفع إلى المحاكم على
أحد، ولا تشهير بذم مماطل في المجلة ولا في غيرها، ولا منع لإرسال المنار إليه
لزوال الثقة بذمته ودينه.
ولكن اشتداد العسرة اضطرنا في العام الماضي إلى ما لم يكن من عادتنا
فمنعناه عن بعض الماطلين في كثير من الأقطار؛ إذ ضاعفت الحكومة المصرية
أجرة البريد الصادر حتى أجرة الصحف، ولنحن في هذه العام أعجز عن
الاستمرار على إرساله إلى المُصِرِّينَ على مطلهم، وإن أكثر أهل وطننا على قربهم
منا لأشد مطلاً من غيرهم، فكيف يحكمون؟ وكيف نعمل لإمكان الثبات على هذه
الخدمة الواجبة؟
إن الرأي المعقول السهل هو أن يرسل المشترك المعسر ما عليه للمنار أقساطًا
ولو شهرية، وأن يتفضل علينا المدينون لنا بإخبارهم إيانا كتابة عما عزموا عليه،
وإن الكتابة إلينا بالاعتراف بالحق، وبحسن النية في الوفاء الذي يتيسر لهم، لهي
آية طهارة الذمة واتصال المودة الأخوية، وحب التعاون المستطاع على خدمة الملة،
وسيروننا إن شاء الله تعالى كما يحبون من قبول عذر، وصبر وشكر، وإنظار
مُعْسِر يطلب النَّظِرَة، وصلح مقلّ يطلب إسقاط بعض الحق المتأخر، ونقبل منهم
شهادتهم لأنفسهم.
وليتدبروا قوله تعالى في طبقات أهل دينه ودرجاتهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) .
هذه الدرجات الثلاث تظهر في جميع الأعمال: فالظالم لنفسه في المعاملات
المالية مع أصحاب الصحف وغيرهم هو الذي يؤخر إيتاء ما عليه إلى ما بعد
الاستحقاق، ويمطل في الوفاء كما ثبت في الحديث الصحيح - والمقتصد من يؤدي
ما عليه في أثناء السنة. وأما السابق بالخيرات فهو من يعطي قيمة الاشتراك سلفًا،
وأسبق منه من يزيد على الواجب نفلاً، ومن هذا القسم الأعلى من قراء المنار من
رأى ما كتبناه في شأن المشتركين في الجزء الماضي فأرسل إلينا حوالة بستة
جنيهات منها جنيه قيمة اشتراكه في المجلد الثالث والثلاثين سلفًا، وخمسة جنيهات
تبرع بها لخمسة من فقراء القراء الذي يجري انتفاعهم ونفعهم بما يقرءون، ولم
يسمح لنا بذكر اسمه، وهو ممن يعيشون عيشة الكفاف، وحسبه علم الله عز وجل،
وما أعد للسابقين بالخيرات من مضاعفة الثواب. وأما من يستحل أكل الحق الذي
عليه كله، فلا يعد من الوارثين لكتاب الله ولا من أهله، برأ الله جميع مشتركي
المنار من ذلك بتوفيقه وفضله.
__________(33/80)
ذو الحجة - 1351هـ
أبريل - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شبهات حول الرسول والقرآن
سؤال
(ما الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعد الأربعين وما الذي فعله)
ولم يكن لشيء من ذلك ما يدل عليه قبل هذه السن [1] من قول ولا فعل ولا علم ولا
عمل.
الجواب
جاء بدين معقول موافق للفطرة عام دائم، وشرع عادل مساوٍ بين الناس،
وجمع شمل أمة متفرقة متعادية لم يعرف تاريخها لها وحدة، وكون أمة متحدة مدنية
مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل، وأسس دولة عزيزة قوية عادلة، وأصلح جميع
ما كان قد أفسده البشر من الأديان والآداب والحضارات، بالظلم والعصبيات
والخرافات [2] .
(الدعوة المحمدية موضوعها وكتابها)
(أ) ادَّعَى أن الله تعالى بعثه في قومه الأميين الجاهلين المشركين المفسدين
في الأرض؛ ليزكيهم ويُرَبِّيَهُمْ في الكبر ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيبلغوا دعوته
للأمم فيكونوا من الأئمة المصلحين، ومن خلفاء الأرض الوارثين، وكذلك كان
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا} (النور: 55) .
(ب) ادَّعى أن جميع شعوب البشر على اختلاف مللها ونحلها ضالون
مضلون، وأن أتباع النبيين منهم قد فسقوا عن هدايتهم، أشركوا بعبادة ربهم،
وابتدعوا في الدين ما لم يشرعه الله لهم، وأنهم أضاعوا بعض كتبهم وحرَّفوا
بعضها، وأنه جاء من عند الله تعالى لهدايتهم كلهم أجمعين، وأن دينه سيظهر على
أديانهم بالحجة والبرهان، والعقل والوجدان، والسيادة والسلطان، وكذلك كان،
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) .
(ج) جاء بكتاب ادَّعى أنه كلام الله تعالى أوحاه إليه، وأنه ليس له منه إلا
تبليغه كما تَلَقَّاه، وقد ظهر أن هذا الكتاب لم يكن بينه وبين كلام محمد قبله ولا بعده
شبه في نظمه ولا أسلوبه ولا معانيه ولا بلاغته ولا تأثيره، ولا أخباره وعقائده،
ولا تشريعه وأحكامه، ولا معلوماته الكونية والاجتماعية ولا حكمه وآدابه.
(د) قد علم من هذا الكتاب ما يضاد كونه من علم محمد وهو أنه هو الذي
يربيه ويعلمه كما قال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113) ويصحح له خطأ اجتهاده في
التبليغ أو التنفيذ تارة باللين واللطف، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) وتارة بالموعظة والشدة
كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ
ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 74-75)
وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 67-68) وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) قالت عائشة: لو كان
للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئًا من القرآن لكتم هذه الآية.
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ} (عبس: 1-11)
وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) الآية، وقوله تعالى في
معناها: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52) نزلت هذه الآيات الأخيرة في إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى
العناية بفقراء المؤمنين وعدم المبالاة بأغنياء قريش وكبرائهم الذين كانوا يحتقرونهم،
وكان من اجتهاده صلى الله عليه وسلم أن يستميلهم لظنه أنهم إذا آمنوا لا يلبث
جمهور العرب أن يقتدي بهم.
(هـ) عُلِمَ من هذا القرآن أيضًا أنه كان حين يأتيه الوحي يخاف أن يتفلت
منه شيء فلا يحفظه فيعجل بتلاوته ليحفظه فخوطب حين عرض له هذا في أثناء
نزول سورة القيامة بقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) فكفل
له ربه جمعه له بالحفظ، وأن يقرأه كما ألقي إليه لا يفوته منه شيء، كما ضمن له
عدم نسيان شيء منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ
وَمَا يَخْفَى *} (الأعلى: 6-8) أي أنا قد عصمناك من نسيان شيء مما نُقْرِئك
إياه بتلقين الملك، لكن إن شاء الله أن تنسى شيئًا فإنك إنما تنساه؛ لأنه تعالى هو
الذي شاء ذلك لحكمة له فيه، لا لضعفك عن الحفظ وعروض النسيان الذي تخشاه،
وقد عصمك الله منه، وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على أنه تعالى شاء أن ينسى
شيئًا منه بل هو كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلاَ
أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} (الأنعام: 80) وقيل: إن
الاستثناء لتوكيد النفي، وقيل: إنه لما أراد نسخه.
(و) إنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ ما يُلْقَى إليه من القرآن بنصه
وعبارته كما أمر فيه لا بمعناه كوحي الإلهام وما يلقيه الملك في روعه، فيجمع بين
الأمر بالقول ومقوله المراد منه مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) ولكنه
عندما كان صلى الله عليه وسلم يريد تبليغ المعنى في أثناء كلامه الذي لم يقصد به
تلاوة القرآن يذكر مقول القول كالذي تراه في كتابه إلى هرقل قيصر الروم وغيره
وهو (ويا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً) إلخ، ونص الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} (آل عمران: 64) إلخ.
(ز) ليتأمل القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ
لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل
لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 15-16) .
(ح) قد اشتمل هذا الكتاب على تحدي العرب وغيرهم به وصرَّح فيه بأن
جميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله في جملته، وبسورة من مثله، واستدل
النبي بذلك على كونه من عند الله تعالى لا من عنده، فظهر عجز العرب ثم عجز
غيرهم عن ذلك كما بيناه في الكلام على إعجازه بلغته وأسلوبه ونظمه [3] وأعجازه
بتأثيره، وما أحدثه من الثورة العربية والانقلاب العالمي [4] ولم يكن شيء من هذا
في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذاتية، ولا من استعداده الذي تدل عليه
سيرته في شبابه.
(ط) إنه قد نقل عنه صلى الله عليه وسلم بأصح الروايات التي تواتر خبر
بعضها أنه كان يبطئ عليه الوحي أحيانًا، فيضيق صدره ويشق عليه حتى قال
المشركون مرة: إن ربه (وقالت امرأة منهم: إن شيطانه) ودعه أي تركه وقلاه أي
أبغضه، فأنزل الله تعالى عليه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 3)
وحتى كان يرجئ جواب السائلين والمستفتين انتظارًا له، وكان أكبر العبر وأوضح
الدلائل على ما نريد هنا من هذه المسألة ما كان في قصة الإفك؛ إذ أذاع زعيم
المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، وأحظى
الأزواج المطهرات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاحشة، وصدق خبره
بعض المؤمنين وتحدثوا به، وقد كان كل ما ابتلي به من إفك المنافقين والكافرين
دون هذه الحادثة إيلامًا له، حتى استشار من استشار في فراقها على علو مكانة
أبيها عنده، وسأل جاريتها بريرة هل رأت منها ما يريبها فحلفت إنها ما رأت ولا
علمت قط ما يريبها فيها، وكانت عائشة تبكي ليلاً ونهارًا ما يرقأ لها دمع وهي
موقنة أن الله سيبرئها قالت: ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيًا
يُتَْلَى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ كلامًا يُتْلَى. ومكث صلى
الله عليه وسلم شهرًا لا يوحى إليه حكمة منه تعالى، ثم نزلت آيات براءتها
المعروفة في سورة النور، فلو كان لاستعداده الشخصي صلى الله عليه وسلم تأثير
في نزول الوحي عليه، أو لو كان الوحي نابعًا من نفسه من اعتقاد أنه من الله
تعالى كما زعم الزاعمون لما أبطأ عليه في هذه الحادثة، بل الكارثة العظمى.
(ي) تقدم أصح الأحاديث المرفوعة في نزول الوحي عليه صلى الله عليه
وسلم ورعبه منه في أول الأمر وأنه كانت تتغير حاله حتى يتفصد عرقًا في اليوم
الشديد البرد، وأن وزنه كان يزيد في تلك الحال، وقد بيَّنا أن ذلك من تأثير غلبة
الروحانية عليه باتصاله بجبريل الروح الأمين. وكان أصحابه يعرفون حين ينزل
عليه الوحي وهو معهم. قال عبادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه
الوحي كرب لذلك وتربد وجهه. رواه مسلم. وفي حديث الصحيحين والنسائي أن
يعلى بن أمية كان يقول لعمر: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل
عليه الوحي فلما كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أُظِلَّ به عليه جاءه الوحي فأشار
عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو صلى الله عليه وسلم
مُحْمَر الوجه يغط لذلك ساعة (أي مدة قليلة) ثم سُرِّيَ عنه ا. هـ باختصار.
تأول هذا أعداؤه صلى الله عليه وسلم من الإفرنج وتلاميذهم بأنه كان يعرض
له نوبات عصبية وتشنجات (هستيرية) وما أبعد الفرق بين حاله تلك، وحالة
أولي الأمراض العصبية في المزاج فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً
ولعله إلى الدموي العضلي أقرب، وفي أعراضها وآثارها ونتائجها، فذو النوبة
العصبية يعرض له في أثرها من الضعف والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو
الشامت، وأما صاحب تلك الحالة الروحانية العليا، فكان يتلو عقب فصمها
وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه
إعجازه اللفظي والمعنوي، وما فيه من علم الغيب والحكمة والتشريع الذي لم
يعرف البشر له مثلا عن حكمائهم ولا عن أنبيائهم، ولا يُرْجَى أن يعرفوا له نظيرًا
في سائر أجيالهم؛ لأنه هو الذي ختم الله تعالى به النبوة وتعليم الوحي الأعلى،
ونحن لا نزال نتحدى به بقية البشر أن يأتوا بمثله، كما تحداهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم في عصره، وإنما المجنون بغروره وتعصبه يُسَمِّي هذا الكمال
العلمي الإصلاحي جنونًا، إلا أن يجعل الجنون من أسماء الأضداد، أو يجعل اسمًا
لما فوق الإنسانية ودون الربوبية من الكمال.
(ك) قد عُلِمَ مما ذكرنا من علوم القرآن، ومقاصده في ترقية نوع الإنسان،
أنه لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يدري شيئًا من مباديها، ولا من حاجة البشر
إليها، فضلا عن وسائلها وفروعها في العبادات الروحية الصحية الاجتماعية
والسياسية والإدارة، فمسألة الطهارة الإسلامية وحدها تدمغ أوربة في وثنيتها
ونصرانيتها وفلسفتها.
فنتيجة هذه المقدمات الإحدى عشرة أن القرآن وحيٌ من الله تعالى ليس
لاستعداد محمد النفسي ولا التاريخي ولا اللغوي فيه شيء ما، وما كان إلا مُبَلِّغًا له
كما تَلَقَّاه وليس معنى كونه كلام الله أن لله فمًا ولسانًا نطق به، ولا أنه تمثل رجلا
فتكلم كما في التوراة وإنما معناه عندنا أنه تعليم من الله بصفة خاصة كما قال:
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193-195)
فكلام الله عندنا صفة من صفات كماله كعلمه إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات
للعالم ووظيفة الكلام كشفها لمن شاء بما شاء، فالبشر يبلغون كلامهم النفسي بنطق
اللسان وبالقلم وبالإشارات وبالآلات، والله تعالى يبلغه بالوحي الذي لا يعرفه إلا
الملائكة والأنبياء.
__________
(1) كداروين الذي استغرق جمعه لمواد كتابه: أصل الأنواع ثلاثين سنة، ودانتي شاعر إيطالية وقد ظهر نبوغه بعد اشتغال طويل في الشعر ومادته، وآينشتين العالم الألماني المعاصر، وقد تقرر مذهبه في النسبية بعد اشتغاله في العلوم الرياضية والفلك من سن الصبا.
(2) راجع ص 332 من مجلد المنار 32.
(3) راجع (آية الله الكبرى) في ص 481 من المجلد 32.
(4) راجع ص 484 - 490 منه.(33/81)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصول الدعوة المحمدية ومقاصدها العامة
(التي أجملناها من قبل في إحدى عشرة مقدمة
نلخصها للتذكير وبيان نتيجتها)
(1) إصلاح ما أفسده أهل الكتاب المعروف تاريخهم في الجملة ومن سبقهم
من أتباع الأنبياء الأقدمين بالأولى من أركان الإصلاح الديني الإلهي الثلاثة، وهي
الإيمان بالله، والإيمان بالبعث والجزاء، والعلم الصالح الذي تتزكى به الأنفس
البشرية، فأنَّى لرجل أمي أن يعلم هذه الأصول وما أفسد أتباع الأنبياء منها ويستقل
عقله بما أشرنا إليه من إصلاحه المعقول الموافق للفطرة البشرية؟ بل كان يعجز
عن ذلك جميع المتكلين والحكماء الراسخين من تلك الأمم.
(2) بيان ما كان يجهله البشر من حقيقة النبوة والرسالة ووظائف الرسل
عليهم الصلاة والسلام، وفيه بحث مستفيض في حقيقة الآيات الكونية التي أيدهم
الله بها وما يشبهها من خارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها.
(3) بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة
والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال، والشواهد على هذه
الأصول لترقية نوع الإنسان وبلوغه بها سن الرشد من آيات القرآن، ولا تزال
فلسفة جميع البشر القديمة والحديثة قاصرة عن تشريع يحتوي هذه الأصول كلها،
وما جاء في القرآن من فروعها أو شروط التحقق بها.
(4) الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي وتحقيقه بالوحدات الثماني:
وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع بالمساواة في
العدل، وحدة الأخوة والمساواة في التعبد، وحدة الجنسية السياسية الدولية، وحدة
القضاء، وحدة اللغة، ولم يأت بهذه الوحدات البشرية في ذلك كله ولا في أكثره
دين ولا تشريع إلا دين القرآن وهدي محمد عليه الصلاة والسلام.
(5) المزايا العشر للتكاليف الشخصية في الإسلام وهي الجمع فيها بين
حقوق الروح والجسد وكون الغاية منها سعادة الدنيا والآخرة معًا، وكونها يسرًا لا
حرج فيها ولا عسر ولا إرهاق، وكونها قصدًا واعتدالاً في كل أمر، لا غلو بها
ولا إسراف، ولا سيما الزينة والطيبات، وكونها معقولة سهلة الفهم، واشتمالها
على العزيمة والرخصة، وكونها مراعًى فيها درجات البشر في العقل والفهم وعلو
الهمة وضعفها، وبناء المعاملات فيها على الظواهر دون البواطن، وبناء العبادات
فيها على الاتِّباع دون الابتداع، حتى لا يكون فيها تحكم للآراء والرياسات.
(6) بيان أن حكم الإسلام السياسي الدولي قائم على أساس سلطة الأمة
واجتهاد أولي الأمر على أساس درء المفاسد ومراعاة المصالح والشورى، والعدل
المطلق والمساواة فيه، وحصر الظلم، ومراعاة الفضائل في الأحكام، ولم يوجد
في الدنيا دولة ولا حكومة تساوي الإسلام في ذلك، وفي هذا البحث عدة أصول
وقواعد.
(7) الإصلاح المالي من جميع النواحي التعبدية والأدبية والخلقية
والاجتماعية والدولية بما لو اتبعته الدول والأمم لما وجد في الدنيا فَقْر مُدْقِع، ولا
غُرْم مُفْجِع، ولا بَلْشَفِيَّة باغية، ولا رأسمالية طاغية، ولا طمع يهودي، ولا زهد
مسيحي، ولا تقشف هندي ولا بغي إفرنجي، ولا تعطيل مصلحة عامة، ولا
إرهاق منفعة خاصة، وإذًا لاستغنى البشر به عن الاشتراكية المعتدلة؛ لأنه
الاشتراكية المثلى.
(8) إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر،
وفيه قواعد مؤيدة بشواهد الآيات البينات المثبتة أن دين الإسلام هو وحده دين
السلام، وأن شرور الحروب وطغيانها وتأريثها للعداوات بين البشر لا يمكن
درؤها إلا باتباع قواعده في قصر الحرب على الدفاع ومنع الاعتداء، وإيثار السلم
على القتال، والصلح على الخصام، ومراعاة الحق والعدل في المعاهدات،
وخلوها من الدخَل الذي يفسدها بجعلها حجة لغلب أمة على أمة، وإرهاق دولة
لدولة، وقد أوردنا فيه بضع قواعد، مؤيدة بالنصوص والشواهد.
(9) إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية من زوجية
ومالية وغيرها وتكريمهن واحترامهن، وهو ما لم يوجد في دين، ولا قانون سابق
ولا لاحق.
(10) تحرير الرقيق ورفع الظلم والإهانة عنه وتشريع الوسائل لمنع
تجديده، وإيجاب الإحسان إليه، إلى أن يتم تحريره وإبطاله.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/100)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي
تلك عقائد دين محمد، وقواعد تشريعه، وأصول إصلاحه الاجتماعي
والسياسي، مسرودة بالإجمال، مُؤَيَّدَة بشواهدها من آيات القرآن، مجردة من حلل
المبالغات الخطابية، وعاطلة من حلي الخلابة الشعرية، ونحن المسلمين نتحدى
الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم، ولا سيما أحرار الإفرنج، بأن يأتونا بمثلها أو
بما يقرب منها من تاريخ أعظم الأنبياء، وأشهر الحكماء، وأبلغ الأدباء، وأنبغ
ساسة الأولين والآخرين، مع صرف النظر عن كونه كان كما شرحنا أميًّا نشأ في
الأميين، وجاء بذلك كله بعد استكمال سن الأربعين، وقد بيَّنا الفرق العظيم بينه
وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(التنفيذ العملي)
وأما تنفيذه صلى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم في عشر سنين من تاريخ
الهجرة الذي كان بدء حياة الحرية، وقد ظل يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين
أولا بالسر، ثم بالجهر، مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل
والنفي، الذي اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة، وبعد الهجرة العامة بالتبع له،
كانوا في حالة حرب وقتال مع المشركين كافة، وكذا أهل الكتاب وكان صلى الله
عليه وسلم عقد معهم معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا
يظاهروا المشركين عليه، فنقضوا عهده، وظل المسلمون مدة ست سنين مدافعين
عن أنفسهم في كل قتال دفاع الضعيف المؤيد من الله للأقوياء المخذولين، وفي
أواخر السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين،
ثم غدر المشركون ونقضوا العهد، فعادت حالة الحرب، وفتح المسلمون مكة
عاصمة قريش الدينية والدنيوية، ومثابة جميع الأمة العربية في سنة ثمان من
الهجرة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في آخر سنة عشر، وأنزل
الله تعالى عليه فيها: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .
ففي عشر سنين وقع توحيد الأمة العربية التي كانت أعرق أمم الأرض في
الشقاق والتفرق والعداء، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عز وجل لرسوله
كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:
62-63) وبما أعده تعالى له من مكارم الأخلاق وما وفقه وأرشده إليه من حسن
السياسة المبينة في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: 159) الآية. وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع
والطاعة والانقياد لعراقتهم في الحرية، وشدة بأسهم، وعدم وجود الملوك المستبدين
القاهرين والرؤساء الروحيين المسيطرين فيهم.
فليدلنا علماء التاريخ العام على نبي من الأنبياء، أو حكيم من الحكماء، أو
ملك من الملوك الفاتحين والمشترعين، رَبَّى أمة من الأمم في عشر سنين، فجعلهم
أهلا لفتح الأمصار، والسيادة على الأمم الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمَها وهذَّبَها ووحَّدها رجل واحد كالأمة الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمها وهذبها ووحَّدها رجل واحد كالأمة العربية في أميتها وجاهليتها وتفرقها
وتعاديها ومرور القرون عليها وهي تتوارث هذه الصفات، فأين الوحدة الجرمانية
والوحدة الطليانية في عصر العلوم والفنون والفلسفة والقوانين ونظم الاجتماع
والحرب، من الوحدة العربية المحمدية في عهد الأمية والجاهلية؟ بل أين الوحدة
الإسرائيلية في عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة، ثم
الوحدة الإسلامية العامة في عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية وبيان السنة المحمدية
لها؟
ثم نفذ ذلك التشريع الأعلى، والهداية المثلى، خلفاء محمد الراشدون، وكثير
من ملوك المسلمين الصالحين، بما شهد لهم به تاريخهم، واعترف لهم به
المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم، بأنهم جدَّدوا بهما الحضارة الإنسانية
ورقوها، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذبوها واستثمروها، وكانوا أساتذة جميع
من جاء بعدهم فيها.
ثم كان من قوة هذا الدين ومتانته أَنْ عَادَتْهُ جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع
قواتها الصليبية، الهمجية منها والمدنية، ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة، ولا
تزال تحاربه وتبذل الملايين لتحويل أهله عنه، بعد زوال قوة دوله، وغلبة الجهل
على شعوبه، ولم تستطع أن ترد رجلاً واحدًا عنه قد كان عرفه. أفما آن لها أن
تعقل أنها لو اعترفت له بحقه، لأمكنها أن تصلح العالم كله به؟ ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/102)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
النتيجة
المقصود بالذات
قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة
إذا عجز حكماء هذا العصر وعلماء الحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون
من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد فيما علم من تاريخه
المعروف المشهور جاء بمثل هذا القرآن في خصائصه ولا سيما التعاليم التي
لخصنا كلياتها في هذا البحث، وقدر أن ينفذها ويربي بها أمة كالأمة العربية يكون
لها بها من الأثر الديني والمدني في العالم مثل أثرها وإنهم لعاجزون عن ذلك قطعًا -
أفلا يكون عجزهم هذا برهانًا على أن دين محمد وكتاب محمد وهدي محمد وتربية
محمد للأمة العربية من خوارق العادات.
وإذا كان هذا حقًّا واقعًا ما له من دافع، فما المانع من عد هذه التعاليم وحيًا
من رب العالمين، العليم الحكيم؟ وما معنى كونها وحيًا إلا أنها علم أفاضه الله
تعالى على روح محمد وقلبه، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة
للبشر عامة، وفوق الإلهامات القليلة التي تؤثر عن بعض الخاصة؟ وما معنى
كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود في علم البشر الكسبي، وخلاف
المقرر في علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع، وتواريخ الأمم، وسير
الحكماء والعلماء والملوك، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضًا، وإن كانت من
جنسها، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة في عصرهم والتي تأتي بعدهم
وأنبأ محمد (صلوات الله عليه وعليهم) بمثلها وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته
بقرون، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله في المقاصد العشرة العالية من
العلم والحكمة والتشريع.
قد بيَّنا لكم أيها العقلاء الأحرار بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم من العلل والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي
الأعلى، والتشريع المدني الأسمى، والحكمة الأدبية المثلى من استعداده الشخصي،
وما اقتبسه من بيئته ومن أسفاره، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً،
وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على التاريخ، وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما
ادعوه، وعلمتم أنه في جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع
ووقائع التاريخ.
ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعِلَل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي
الله تعالى وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه علل يقبلها
ميزان العقل المسمى بعلم المنطق، وما ثبت عندكم في هذا العهد من علم النفس
وعلم الاجتماع وحوادث التاريخ وفلسفته.
فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول، وتؤيدها النقول،
فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبكتابه
المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان،
ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به، بعد أن عجزت علومكم الواسعة، وفلسفتكم
الدقيقة عن وقف سريان عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار في
الأمم، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من
شعوبها ومستعمراتها في الاستعداد لحرب البغي والعدوان المدمرة، وتأريث
العداوات بين شعوب الأرض كافة، فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه
الدول أعظم نكبة على البشر، وأنتم أيها العلماء لم تقصدوا إلا أن تكون نعمة تتم
بها سعادة البشر.
ألا أنه قد ثبت بالحس والعيان أن العلم البشري وحده لا يُصْلِح أنفس البشر؛
لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية باتِّباع آراء أفراد منهم،
وإنما يدينون بوازع الفطرة، لما هو فوق معارفهم البشرية وهو ما يأتيهم من ربهم،
ولا يوجد في الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام، وقد بيَّنا لكم
أصول تشريعه الروحي والسياسي والاجتماعي الصالح لكل زمان ومكان، وأنه دين
السلام والحق والعدل والمساواة التي تعطي كل شعب وكل فرد حقه، وبها وحدها
يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها.
قد دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث
في الوسائل التي يمكن أن تقي حضارة العصر من الدمار، ولئن عقد هذا المؤتمر
فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التي تعقدها الدول في جامعة الأمم
وعواصم السياسة وهي لما تزد الأدواء إلا إعضالا، والأخطار إلا تفاقمًا، وإنما
الدواء الواقي المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون، وحجته البينة تناديهم ولكنهم
لا يسمعون: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 23) .
* * *
سؤال علماء الإفرنج
عن شبهاتهم على الدعوة المحمدية
(بعد تبليغهم لحقيقتها، ومكان أخبار القرآن منها)
وأما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار، فالمرجو منكم أن تسمعوا
وتبصروا، وأن تعلموا فتعملوا، ولكن دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها على الوجه
الصحيح الذي يحرك إلى النظر؛ لأن الإسلام ليس له زعامة ولا جمعيات تبث
دعوته، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته، بل صار المسلمون في جملتهم حجة
على الإسلام وحجابًا دون حقيقته، وأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في بلوغ
الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر، فإن ظهر لكم بها الحق فذلك ما
نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها، وإن عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم
للعلم، وحرصكم على استبانة الحق، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها،
والحقيقة بنت البحث كما تعلمون.
ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادَّة عنه (بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا،
أن فيه أخبارًا عن عالم الغيب لا دليل عليها عندكم، فإنما مصدر الدين عالم الغيب)
ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم لما كانوا في حاجة إلى تلقيه من الوحي، وقد
بيَّنا أن تعاليم الإسلام قد أثبتت أنها وحي من عالم الغيب وقامت برهانًا على وجود
الله وعلمه وحكمته، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم، وحسبكم أنه ليس في القرآن
منها ما يقوم البرهان على استحالته.
وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب والشهادة من تكوين وتاريخ فمن معجزاته
الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التي كشف العلم والتاريخ في القرون
الأخيرة من معانيها ما لم يكن يخطر في بال أحد من أهل العصر الذي نزل فيه كما
أنه لم يثبت على توالي القرون بعد نزوله شيء قطعي ينقض شيئًا من أخباره
القطعية، على أن أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب، ويكفي
في هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح
الحقائق الفنية والوقائع؛ لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه، ولا يمكن الوقوف
عليها إلا بالتعمق في العلم أو الاستعانة بالآلات التي لم تكن معروفة عند المخاطبين
الأولين بالكتاب، بل لا يصح أن يأتي فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم
العلمية لئلا يكون فتنة لهم، وقد قال نبي الإنسانية العام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)
رواه مسلم في صحيحه.
ومن دقائق تعبير القرآن في النوع الأول أن مادة الخلق (دخان) وهو عين
ما يسمى السديم، وأن السموات والأرض كانتا رتقًا، أي مادة واحدة متصلة ففتقهما
الله وجعل كلا منهما خلقًا مستقلا، وأنه جعل من الماء كل شيء حي، وأنه خلق
جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجًا فجعل في كل منها ذكرًا وأنثى، وأنه جعل
كل نبات موزونًا، وأنه أرسل الرياح لواقح وأمثال ذلك كثير.
وأعجب منه بيان كثير من سنن الاجتماع البشري التي لم يهتد البشر إليها
بالبحث العلمي التدريجي إلا عدة قرون فمن المناسب لهذا وما سبقه من عجائب
القرآن أن أختم هذا البحث كله بقوله عز وجل:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ} (فصلت: 52) * {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ
رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) (صدق الله العظيم، وبلَّغ
رسوله الكريم، والحمد لله رب العالمين)
* * *
الشبهات على القرآن
ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام
كنت عازمًا على إتباع هذا البحث ببيان ما لعلماء هذا العصر من الشبهات
على القرآن العظيم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأجوبة عنها، وكتبت من
ذلك شبهة موسيو درمنغام صاحب كتاب (حياة محمد) على مسألة الصلب والفداء.
ثم بدا لي أن أكتب في هذا رسالة مستقلة ألخص فيها ما سبق لي نشره في مجلة
المنار وتفسيرها، ومنه ما طبع مستقلا كرسالة (عقيدة الصلب والفداء) وأزيد
عليه ما أقف عليه بعد نشر هذا البحث، والله الموفق وهو المستعان.
__________(33/104)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خطبة الملك السعودي في حجاج هذا العام
(في 5 ذي الحجة سنة 1351 وحضرها ألف أو يزيدون)
الملك عبد العزيز آل سعود خطيب مُفَوَّهٌ، واعظ ديني مُكْثِر، وقد خلت
القرون ولم ير المسلمون ملكًا ولا أميرًا خطيبًا واعظًا، وهو في كل موسم من
مواسم الحج يدعو كل من يزور جلالته بمكة المكرمة من حجاج الأقطار الممتازين
بالعلم والأدب والوجاهة الرسمية وغير الرسمية إلى مأدبة كبيرة في قصره فيلقي
عليهم في أثنائها خطابًا حافلاً بالوصايا الدينية والسياسية، ويسمح لمن يشاء منهم
بالكلام والخطابة في المصالح الإسلامية العامة، فيكون هذا الاجتماع بما يكون فيه
من التعارف بين كبراء المسلمين من أهم فوائد موسم الحج التي كان يتمناها
عقلاؤهم منذ بدء اليقظة الحديثة، وكانت متعذرة قبل عهد الدولة العربية السعودية.
وقد كانت خطبة هذا الموسم ممتازة بأنه صرح فيها بما يدل على توجه عزمه
إلى النهوض بخدمة جديدة للإسلام، وخدمة أخرى مثلها للأمة العربية.
لهذا رأيت أن أنشر جُلَّها في المنار؛ لأجل تعميم فائدتها ومطالبة جلالته
بتنفيذها (قال الملك بعد مقدمة في فضل الإسلام، وسوء حال المسلمين عامة
والعرب خاصة)
(فإذا أراد العرب إعادة مجدهم القديم فما عليهم إلا أن يعتصموا بحبل الله،
وأن يتمسكوا بما أمر الله به، أما الإدعاء بأن الأغيار هم سبب هذه الفُرْقَة، وهذا
التخاذل فما هو بصحيح؛ لأن المسلمين والعرب إذا كانوا في منعة من التعاضُد
والتكاتف فليس هناك من قوة في مقدورها مهاجمتهم وإذلالهم. يقول المسلمون
والعرب: إن أسباب ضعفنا هو عدم سيرنا في الطريق التي سار عليها الغربيون
في تمدينهم وحضارتهم، وأن دساتيرهم أي الغربيين وأنظمتهم هي الكفيلة بتمديننا
وتقويتنا، وهذا من أسخف الأقوال التي لا يزال يثيرها بعض الكُتَّاب والخطباء
ويلوكونها بألسنتهم، يظن هؤلاء الناس أن حرية الغربيين ودساتيرهم كفيلة
بإسعاد الناس أكثر مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وهذا خطأ فاضح، فإن
الدين الإسلامي قد كفل المساواة بين كافة المسلمين وآخى بينهم أكثر مما جاء في
الدساتير الغربية، وأية مساواة أعظم من تلك المساواة التي جاء بها الإسلام فلم
يجعل فوارق في الحقوق بين الملك والصعلوك، ولم يفضل أحدهم على الآخر إلا
بالتقوى، فالمسلمون لا ينقصهم إلا الرجوع إلى عبادة الله وحده، عبادة خالصة
لوجه الله، فإذا عبدنا الله جل وعلا حق عبادته زالت الضغائن من قلوبنا فتوحدت
نفوسنا، وسرت روح التآخي والتحابب بيننا.
(إن مصائبنا من أنفسنا؛ لأننا نحن أعداء أنفسنا، والأغيار لم يقدروا على
إذلالنا إلا بعد أن رأوا منا العداوة لبعضنا، فاللوم واقع - والحالة هذه - علينا لا
عليهم، لذلك يجب أن نصلح أنفسنا، وأن نطهرها من الأضغان العالقة بها، وأن
نكون مسلمين حقًّا، إذا كنا نريد النهوض والخلاص، وأن نعتصم بحبل الله جميعًا
فنترك كل المنهيات والمنكرات، إذا رغبنا في النجاح والفلاح) .
(يجب أن يُعْنَى كل واحد منا بأمره أولاً وبأمر إخوانه ثانيًا، وأن يبذل جهده
في إصلاح نفسه، وإصلاح إخوانه، وأن نُقَوِّمَ المُعْوَجَّ من أعمالنا وأخلاقنا، وأن
يوجه كل منا مجهوداته نحو هذه الخطة المثلى.
أما أنا فإني أعمل جهد الطاقة في سبيل إعلاء كلمة الدين وإحلال عقيدة السلف
الصالح في نفوس المسلمين والعرب، لذلك:
1- أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام.
2- أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف هي: التمسك بكتاب الله
وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع
بشأنها لأقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين.
3- أنا مسلم وأحب جمع كلمة الإسلام وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة
المسلمين ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية
في سبيل ذلك.
4- أنا عربي وأحب عز قومي، والتآلف بينهم، وتوحيد كلمتهم، وأبذل في
ذلك مجهوداتي، ولا أتأخر عن القيام بكل ما فيه المصلحة للعرب وما يوحد أشتاتهم،
ويجمع كلمتهم.
5- أنا مسالم ومدافع، أنا مسالم للناس وأحب النصيحة قبل كل شيء؛ لأن
الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأنا مدافع لأنني ما حاولت
في وقت من الأوقات أن أعتدي على إخواني وأبناء قومي وكنت في كل وقت أقابل
ما يصدر إليَّ منهم من إساءة أو خطيئة بصدر رحب على أمل أن يرجعوا إلى
الصواب، ولكنني إذا رأيت تماديًا في الغي والإساءة اضطر حينئذ للدفاع.
(إن السلف الصالح هم قدوة المسلمين، وخير قدوة، وما رفعهم إلى ذلك إلا
خصلتان: التمسك بكتاب الله وما جاء به رسول الله، والصدق والتضحية في
سبيل الله) .
2- الصبر على القضاء والشكر على العطاء. وكلاهما من الله تعالى، ونحن
اليوم نحمد الله على أن كل ما نسمعه من المسلمين والعرب يشجع ونرجو أن ينبت
نباتًا حسنًا، والإنسان الطيب هو الذي يقتدي بالسلف الصالح في عبادة ربه،
وبالصدق والتضحية والصبر والشكر، والمسلمون ينقصهم معرفة الزعماء
والأشخاص ونفسياتهم، فإن هنالك أشخاصًا من المسلمين يتظاهرون بالغيرة
والتضحية، وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك يتظاهرون بالغيرة ويسعون في
الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية والتجسس على أحوال إخوانهم، وهذا أمر يؤسف له؛
لأن الأضرار التي لحقت المسلمين والعرب جاءت عن هذه الطريقة) .
(الإسلام عزيز علينا جميعًا ورهبته في قلوب أعدائه كبيرة، فواجب المسلم
اليوم في كل مكان أن يقوم بالدعوة إلى عبادة الله عبادة خالصة، وأن يسعى
لإصلاح شؤون المسلمين إصلاحًا حقيقيًّا لا نظريًّا، وأن يكون كل ذلك بالطرق
المفيدة المنتجة؛ لأن هنالك طرقًا أخرى تَضُرُّ بالمسلمين والعرب أكثر مما تنفعهم
إذا اتَّبَعْنَاهَا، وإنني لعلى يقين بأن فريقًا كبيرًا من الأغيار لا يريدون الضرر
بالإسلام والعرب، ولكن ويا للأسف إن فريقًا من المسلمين يشجعون أولئك على
إيذاء المسلمين، إذًا فالضرر منا وعلينا، ولا عتاب على الأغيار من ذلك.
(لقد تفشى الجهل، وساد التخاذل بين المسلمين، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه
من الحالة الراهنة التي تعرفونها، ولم يبق من الدين إلا اسمه، وتفرقنا أيدي سبا،
وأصبح المسلمون فِرَقًا وشِيَعًا. أما أولئك الذين يُطَبِّلون ويُزَمِّرُونَ لحضارة الغرب
ومدنيته ويريدون منا أن ننزل عندها فنتمثلها في بلادنا وبين أقوامنا فإننا نسوق
إليهم الحديث بتوجيه أنظارهم إلى هذه الأزمة الخانقة، وإلى هذا التبلبل السياسي،
وإلى هذه الفوضى الاجتماعية السائدة في تلك البلاد، فإن نظرة واحدة لمن يتدبر
هذه الأوضاع السائدة في هذه الأيام يلمس فساد تلك النظريات المتسلطة على عقول
السُّذَّج من المسلمين ومن العرب.
أما المسائل الصناعية والزراعية، فإن أوامر الله تعالى ونبيه بالأخذ بها
صريحة، وكذلك في أعمال رجال السلف الصالح أكبر دليل على العناية بها،
والأخذ بأسبابها ولذلك فالقول بأن الصناعة والزراعة من نتائج الحضارة الغربية
وحدها ليس بصحيح، وكذلك الطيارات والدبابات والمدافع، والأعتاد الحربية التي
تدافع بها الأمم عن نفسها وتذود بها عن حِيَاضها هي من الأعمال الصناعية أيضًا،
ومما أمر الله بها صراحة فقال في كتابه العزيز: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) ولذلك يمكنني
أن أقول بأنه لا يوجد في الدنيا مدنية تسعد البشر وتكفل راحتهم أحسن من مدنية
الإسلام، ولا يوجد دستور يكفل حقوق الراعي والرعية وحقوق الناس كافة،
ويؤمن المساواة بين الصغير والكبير وبين الملك والصعلوك وينصف المظلوم من
الظالم كالقرآن الكريم، وما فيه من الآيات المحكمات، وما جاء عن نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم لذلك نحن ننصح المسلمين كافة، والعرب خاصة، وننصح
البشر على الإطلاق للعمل بما جاء في كتاب الله جل علا، وعلى لسان نبيه الكريم
فإن السعادة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا بذلك:
(فريق من المسلمين ينقمون عليَّ لأنني أدعو لعبادة الله عبادة خالصة؛
ولأنهم يريدون أن أرتكب المنهيات فآمر بإقامتها في البلاد، فأنا أبرأ إلى الله من
هذه الدعوة الباطلة، وأفخر بأنني سلفي محمدي على ملة إبراهيم الخليل) .
(دستوري ونظامي وقانوني وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم، فأما
حياة سعيدة، وإما مِيتَة سعيدة) .
(وهنا نفى عن نفسه دعوى الرياسة على علو نسبه العربي الذي لا يعلوه إلا
نسب آل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال:
(أنا عربي ومن خيار الأسرة العربية، ولست متطفلاً على الرئاسة والملك،
فإن آبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك، ولست ممن يتكئون على
سواعد الغير في النهوض والقيام، وإنما اتكالي على الله، ثم على سواعدنا يتكئ
الآخرون ويستندون) .
(أنا لا أفتش، ولا أسعى للرئاسة، ولا أريد علوًّا في الأرض ولا سعادة،
وإنما يهمني في الدرجة القصوى جعل كلمة الله هي العليا، ولا يهمني في هذا
الشأن ما يعترضني في الطريق من المصاعب والمتاعب) .
(لقد حاربتنا جيوش جرارة في أدوار مختلفة منذ أن قمنا بهذه الدعوة
المباركة، فكان نصيبها -رغم كثرة عديدها وعددها- الفشل والخسران ولله الحمد.
(ماذا يريدون من ابن سعود؟ ماذا عمل ابن سعود؟)
(هذه أعمالي واضحة بينة، أزلت كل شبهة، وأقمت كل معروف، ونهيت
عن كل منكر، وحجتي في ذلك كتاب الله وسنة رسوله) .
(إنني أبرأ إلى الله من كل محرم أن أبيحه، وأبرأ إلى الله من كل منكر أن
آمر به، وأنا على استعداد لمحاججة كل من يريد محاججتي بكتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم (وهاهنا تنصل من دعوى الخلافة وصرَّح بعدم إمكانها ثم قال:
(وإنني أتمنى أن يتم جمع المسلمين وتوحيد كلمتهم، وإنني لعلى استعداد
لأن أكون أنا وأسرتي كجندي بسيط أجاهد في هذا الشأن، ولن أدخر جهدًا في
سبيل توحيد بلادي، وتوحيد كلمة العرب وتأسيس الوحدة بين العرب، وإذا كنت
أنا أسعى في ذلك فلست أريد من وراء ذلك جزاءًا ولا شكورًا، وإنما يهمني وأتمنى
من صميم القلب أن يتم لَمُّ شعث المسلمين وأن يسالم بعضهم بعضًا فيكفون الأذى
عن أنفسهم.
(أنا مسلم عربي، رأست قومي بعد مصاعب طويلة ولا فخر في ذلك؛
الآن ورائي جيوش جرارة لا تقل عن أربعمائة ألف مقاتل، إن بكيت بكوا، وإن
فرحت فرحوا، وإن أمرت نزلوا على إرادتي وأمري، وإن نهيت انتهوا. وهؤلاء
هم جنود التوحيد إخوان من طاع الله، يقاتلون ويجاهدون في سبيل الله ولا يريدون
من وراء ذلك إلا رضاء الباري جل وعلا. وإن هذه القوى هي موقوفة لتأييد
الشريعة ونصرة الإسلام في الديار التي ولاني الله أمرها، أعادي من عادى الله
ورسوله، وأصالح فيها من لا يعادينا ولا يناوئنا بسوء، وإني وجندي جنود في
سبيل جعل كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر. نسأل الله أن يأخذ بيدنا ويوفقنا
لما يحبه ويرضاه. اهـ المراد من هذه الخطبة، وسنعلق عليها في الجزء الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بدعة الزيادة في الأذان أو عليه
تاريخها ومبتدعها ومنكروها
وادعاء مجلة مشيخة الأزهر شرعيتها
(سئلنا عن هذه الزيادة، فأفتينا في مجلة المنار بأنها بدعة منكرة، وسئلت
عنها مجلة مشيخة الأزهر فأفتت بأنها بدعة حسنة، ورد علينا مفتيها الشيخ يوسف
الدجوي ردًّا ضمَّنَه تلك البهائت السبع المفتريات، التي فضحنا جهله وكذبه فيها بثلاثة
عشر مقالاً متتابعات، وهذا مقال خاص برد شبهاته على بدعة الأذان.
الأذان شعيرة من شعائر الإسلام التعبدية مروي بالتواتر والعلم من عهد
الرسول صلوات الله وسلامه عليه، منقول في جميع كتب السنة وفقه أئمة أهلها ,
معدود الكلمات , موصوف الأداء , وكل عبادة هذا شأنها في ثبوتها وصفاتها يجب
فيها الاتباع بلا زيادة ولا نقصان، ولا يقبل فيها رأي أحد بشبهة قياس أو استحسان،
بخلاف العبادات المطلقة من ذكر الله تعالى أو صلاة نافلة غير معينة أو صلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم فكل امرئ مخير في الإكثار منها ما شاء بشرط أن
تكون الصلاة على الصفة المأثورة، وأن لا يلتزم فاعل العبادة المطلقة قيودًا لها من
الزمان أو المكان أو الجهر أو الجماعة تخرجها من دائرة إطلاق الشرع لها وتدخلها
في أعداد ما سماه الإمام الشاطبي بالبدع الإضافية المخرجة لها عن إطلاقها، ولذلك
قال الفقهاء في صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة النصف من شبعان اللتين
اعتادهما بعض العباد: (إنهما بدعتان قبيحتان مذمومتان) كما في المنهاج للنووي
وغيره.
فالعبادات منها ما هو مقيد بعدد أو زمان أو مكان أو وصف فالواجب فيه
التزام القيد المأثور عن الشارع، ومنها ما ورد مطلقًا غير مقيد فيلتزم فيه الإطلاق
والأذان من النوع الأول، فلا يباح أن يزاد فيه ولا عليه ولا أن ينقص منه.
وقد ابتدع فيه الشيعة في مصر وغيرها ما بينه العلامة المقريزي في أوائل
الجزء الرابع من خططه المصرية المشهورة بعد بيان أصله ونصوص السنة فيه،
وقَفَّى على ذلك بإبطال السلطان صلاح الدين لما ابتدعه الفاطميون فيه وإعادته لما
كان عليه من مذهب أهل السنة وما حدث بعد ذلك من الابتداع فيه فقال ما نصه:
(وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبد السلطان
صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية في سنة
سبع وستين وخمسمائة، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وعقيدة
الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله فأبطل من الأذان قول (حي على خير العمل)
وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة وفيه تربيع التكبير
وترجيع الشهادتين فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار
مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر فصار يؤذن في بعض
المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة وتقام الصلاة أيضا على رأيهم، وما عدا
ذلك فعلى ما قلنا.
إلا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد
الله البرلسي بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمر إلى أن كان في شعبان سنة إحدى
وتسعين وسبعمائة ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش القائم بدولة الملك
الصالح المنصور أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن
قلاون، فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم: أتحبون
أن يكون هذا السلام في كل أذان؟ قالوا نعم فبات تلك الليلة وأصبح متواجدًا يزعم
أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وأنه أمره أن يذهب إلى
المحتسب ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في كل أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي
(وكان شيخًا جهولاً، وبلهانًا مهولاً، سَيِّئَ السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتًا على
الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يتحشم من أخذ البرطيل والرشوة. ولا يراعي في
مؤمن إلاًّ ولا ذمة. قد ضَرِيَ على الآثام، وتجسد من أكل الحرام، يرى أن العلم
إرخاء العذبة ولبس الجبة، ويحسب أن رضا الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة
وولاية الحسبة. لم تحمد الناس قط أياديه، ولا شكرت أبدًا مساعيه، بل جهالته
شائعة، وقبائح أفعاله ذائعة، أشخص غير مرة إلى مجلس المظالم، وأوقف مع من
أوقف للمحاكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح. حقق فيها شكاته عليه
القوادح، وما زال في السيرة مذمومًا، ومن العامة والخاصة ملومًا) وقال له
رسول الله يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم: (الصلاة
والسلام عليك يا رسول الله) كما يفعل في ليالي الجمع، فأعجب الجاهل هذا القول،
وجهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بعد وفاته، إلا بما يوافق ما
شرعه الله على لسانه في حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن
الزيادة فيما شرعه حيث يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات
الأمور) فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة، وتمت هذه البدعة، واستمرت
إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامة وأهل الجهالة ترى
أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل
الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين
ماتوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون) اهـ ما قاله
المقريزي بنصه:
هذا أصل هذه البدعة وسببها، وهو افتراء بعض الدجالين الخرافيين من أهل
الطريق على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا أمر بها ذلك المحتسب الظالم
الفاجر بتعميمها. وحسبك ما كتبه العلامة المقريزي في إنكارها وتسفيه مبتدعها،
ولعله يعني بما زاده عليها بعض أهل الإلحاد في بعض قرى مصر من السلام على
بعض المعتقدين الذين ماتوا سلامهم على السيد أحمد البدوي. وقد انتقل هذا من
بعض القرى إلى الأمصار حتى القاهرة نفسها، وزيد على السلام عليه نداء السيد
ودعاؤه متصلاً بالأذان أيضًا. فقد سمعت مؤذن الفجر في أول دار سكنتها بمصر
يصيح بعد الأذان: يا شيخ العرب! مع كلمات لم أتبينها. وما كنت أعلم أن هذا
لقب البدوي.
إن شر مفاسد البدعة أنها بطول الزمان تُعْطَى حكم السنة المشروعة، فيعد
فاعلها متبعًا، ومنكرها مبتدعًا، ويخترع أدعياء العلم العلل والشبهات لشرعيتها.
والقاعدة العامة عندهم لإثبات كل بدعة قولهم: (بدعة حسنة) وهو مصادم لنص
الحديث الصحيح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله على المنبر: (وشر
الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم، وهو مُجْمَع
على معناه في البدع الدينية، وإنما قال من قال من العلماء: إن البدعة تنقسم إلى
حسنة وسيئة في البدعة اللغوية، وهي ما يخترعه الناس ويضعونه من العلوم والفنون
والصناعات والأعمال، والأذان من العبادات التي يلتزم فيها الاتباع بإجماع السلف
والأئمة المجتهدين.
وقد عرَّف العلامة الشاطبي البدعة الدينية في كتابه الاعتصام بأنها (طريقة
في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله
سبحانه) ثم نقل عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: من ابتدع في الإسلام
بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون
اليوم دينًا. اهـ.
وقد احتج نصير البدع الشيخ يوسف الدجوي على شرعيتها في مجلة مشيخة
الأزهر بما جاء في بعض الأحاديث الواردة في جواب المؤذن وهو (إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ) الحديث هكذا ذكر منه ما وافقه وعزاه
إلى صحيح مسلم - ونزيد عليه أنه رواه أحمد وأصحاب السنن أيضًا إلا ابن ماجه
عن عبد الله بن عمرو - (ثم قال) : وإن المؤذن ممن سمع الأذان وكل من سمع
الأذان طُلِبَ منه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأقول: إن هذا قد ذكره
الفقهاء المتأخرون، وزاد هو عليهم أنه مخير في هذه الصلاة من وصلها بالأذان مع
رفع الصوت وعدمه، وهذه الشبهة مردودة من وجوه:
(أولها) أن من المعلوم بالاختبار أن المؤذنين يقلد بعضهم بعضًا في هذه
الزيادة ولا يقصدون بها اتباع هذا الحديث ولا غيره مما ورد في إجابة المؤذن ويقل
فيهم من يعرفها. وتتمة هذا الحديث: (.... ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في
الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة
حلت عليه الشفاعة) والمؤذنون لا يسألون له الوسيلة، ولم يذكر الشيخ الدجوي
هذه التتمة؛ لأنها تدحض شبهه.
(ثانيها) أن المؤذن لو كان يأتي بهذه الصلاة لإجابة نفسه عملاً بالسنة لأتى
بكل ما ورد في السنة من الأدعية في هذه الإجابة وأشهرها في هذه الإجابة الدعاء
المفسر لطلب الوسيلة في الحديث الذي احتج به، وهو كما في حديث آخر أصح
منه (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة،
آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم
القيامة) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله.
(ثالثها) أن وصلها بالأذن مع رفع الصوت يوهم من لا يعرف السنة فيه
أنها منه، أو أنها مشروعة. وقد قال المقريزي: إن العامة وأهل الجهالة يرون أن
هذه الزيادة من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأكثر الناس في هذا العصر
يجهلون السنة؛ فلذلك ينكرون على من أذن الأذان الشرعي مقتصرًا عليه، ولم يزد
عليه هذه الصلوات والتسليمات، ويطعنون فيه وفيمن ينكر هذه الزيادة أو العلاوة
بأنه عدو للرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب الشرع، وانعكس الوضع، وصار
الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذن كما كان يؤذن المؤذنون له ولخلفائه
الراشدين يُعَدُّ عدوًّا له، والمبتدع في ملته، المخالف لسنته، المتبع لذلك الفقير
الخلاط المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم وللبرلسي المحتسب الفاسق هو
التقي المتبع له صلى الله عليه وسلم وهذا شر غوائل هذه البدع.
(رابعها) أن الذي فهمه الصحابة ومنهم مؤذنو المصطفى صلى الله عليه
وسلم أن إجابة المؤذن بقولهم مثل ما يقول إلا الحَيْعَلَتَيْنِ فيقول عندهما: (لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة
له وسائر الأدعية هي من الأذكار التي يقولها كل سامع له منفردًا بخفض الصوت،
فلم يرو أحد من المحدثين عن مؤذنيه صلى الله عليه وسلم ولا مؤذني خلفائه
الراشدين ولا مؤذني خير القرون ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنه رفع
صوته بذلك كالأذان فضلا عن وصل المؤذنين له بالأذان ولا ما دون الأذان مما
ورد فيه رفع الصوت كإقامة الصلاة وهي الأذان الثاني فعلينا اتباعهم، ورفع
الصوت فيه خلاف الأصل فلا يتوقف إنكاره على نهي الشارع عنه، ولو كان
مشروعًا لجاز لأهل المسجد عند الأذان والإقامة أن يرفعوا أصواتهم بإجابتها بمثل
صوت المؤذن، ومن ذا الذي لا يقول: إن هذا عمل منكر؟ ومن ذا الذي ينكر
على المؤذن أن يأتي بالأذكار المأثورة في إجابته وهو منصرف من الأذان بصوت
خاشع كما يجيبه سائر من سمعه؟
(خامسها) أننا قد بينا أن ما أطلقه الشرع من العبادات فليس لنا أن نقيده
بصفة نلتزمها فيها لم ترد في الشرع كالأذكار المأثورة بعد الصلاة، وذلك مفصل
في كتاب الاعتصام للعلامة الشاطبي فقد عَدَّ من البدع الإضافية اجتماع المصلين
ورفع أصواتهم بالتسبيح والتحميد والتكبير 33 مرة وغير ذلك والتزامهم إياه في
المسجد؛ لأنه يوهم أنه مشروع بهذه الصفة، ووصل أذكار إجابة المؤذن بالأذان
برفع الصوت على المنار أولى بذلك. وإنني أؤذن لصلاة الفجر في روشن الدار
كل يوم تقريبًا ثم أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا منصرف من الأذان
وأسأل له صلى الله عليه وسلم الوسيلة باللفظ المروي عنه في الصحاح والسنن
وغير ذلك مما ورد.
(سادسها) ولو كان المؤذن يقصد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد
الأذان ما ورد عنه في جواب النداء لما تركه في صلاة المغرب، بل لأتى به بعدها
وزاد عليه الدعاء المأثور بعده وهو (اللهم هذا إدبار ليلك، وإقبال نهارك،
وأصوات دعائك، فاغفر لي) رواه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمة رضي
الله عنها ولما زاد عليه بعضهم بعد أذان الفجر نداء شيخ العرب البدوي، فبذلك
دحضت شبهات مجلة الأزهر كلها، وثبت أن ما يزيده المؤذنون ليس إلا بدعة
يجب إنكارها.
(سابعها) من مفاسد هذه البدعة أنه لما كان الوهابية يتبعون السنة في أذانهم
ويمنعون الزيادة فيه أو عليه وهم مبتدعة في زعم الدجوي رماهم المبتدعون بأنهم لا
يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا حتى إن المرحوم التقي النقي محمد
أمين بك الرافعي لما حضر مجلس الملك عبد العزيز الفيصل بن السعود بمكة
المكرمة وسمعه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكره، وإن تكرر ذكره
في المجلس مرارًا كثيرة متوالية استغرب ذلك وكتبه في جريدته (الأخبار) وقال:
إنه ما رأى أحدًا مثله في ذلك أي لا في مصر ولا في غيرها.
وأغرب من هذا أن بعض حجاج بلدنا قال لي بمكة المكرمة: إن الناس قالوا
لنا: إن الوهابية منعوا من الأذانِ الشهادةَ لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وقد
سمعت جميع المؤذنين ينطقون بها. فقلت له: هذا من افتراء الناس عليهم وذكرت
له سببه.
وقال بعض الناس مثل هذا مرة لوكيل إدارة المنار فدله الوكيل على دار
الوكالة العربية للحكومة السعودية وقال له: اذهب إليها في هذا اليوم وكان يوم
الجمعة تر فوقها علمًا أخضر، فاقرأ ما فيه لتعلم كذب هذا القول بالمشاهدة - فإن
فيه (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وهذا شعار الوهابية، فبُهِتَ الرجل.
رد علينا الأستاذ الدجوي من وجوه غير ما تقدم نوجز الكلام في الجواب عنها
فنقول:
(1) زعمه أنه خفي علينا الفرق بين الزيادة في الشيء والزيادة على
الشيء وهذا من الثاني - ونقول: لا فرق بينهما في المعنى المقصود، فهي على
كل حال زيادة متصلة بعبادة من شعائر الإسلام لم يأذن بها الله، وقد سماها
المقريزي قبلنا زيادة في الأذان.
(2) قوله: إنه ليس أول من قال: إنها بدعة مستحسنة بل علماء المذاهب
الأربعة مُصَرِّحُونَ بذلك وجوابه - إن صح النقل - أن هؤلاء العلماء (المتأخرين
ليسوا من الأئمة المجتهدين بالاتفاق بيننا وبينه فقولهم كقوله لا يعتد به؛ إذ لا دليل
لهم عليه، ولا يجوز تقليدهم فيه باتفاق من يقول بجواز التقليد أو وجوبه على
العاجز عن الاستدلال لأنهم إنما يقولون بتقليد المجتهد وهؤلاء لا يدعون الاجتهاد،
بل يعيبون علينا الاستدلال بالكتاب والسنة لأنهم يعدونه من الاجتهاد المتعذر
ويتهكمون بنا ثم يفعلون مثل فعلنا، ولكنهم يستدلون بأقوال أمثالهم.
(3) قوله: إنه (ليس كل ما لم يفعل في عهده صلى الله عليه وسلم يكون
بدعة سيئة، ومن فهم أن ذلك داخل في الحديث: (وكل بدعة ضلالة) فهو من
أقل الناس علمًا، وأضيقهم عقلاً) ونقول: إن كل ما لم يفعل في عصره صلى الله
عليه وسلم من العبادات ولا سيما شعائر الإسلام فهو البدعة السيئة بخلاف أعمال
الخير غير التعبدية كتأليف الكتب العلمية النافعة وبناء القناطر والمستشفيات مثلا،
وقد صرَّح بهذه التفرقة كبار العلماء، ومن لم يفهم هذا فلا فهم له ولا علم ولا عقل.
(4) قوله: إن هذه البدعة تدخل في عموم حديث: (من سن سنة حسنة)
إلخ ونقول: إن هذا خطأ ظاهر، فعلماء المسلمين سلفهم وأئمة الخلف منهم
مُجْمِعُونَ على أنه ليس لأحد أن يسن في العبادات المشروعة سنة جديدة كما بيَّناه
آنفًا. ومقلدة الخلف يقولون هذا أيضًا ولكن منهم من يخالفه كما فعل هو ومن يحتج
بقولهم، وهو ليس بحجة بإجماع علماء الأصول.
(5) قوله: (ليس هناك من يجعل الزيادة من الأذان بدليل أنها تترك في
أذان المغرب، وبدليل أنهم يطيلون تارة ويقصرون، وبدليل ما ذكره هو (يعنينا)
أنهم قد ينادون شيخ العرب (السيد البدوي) فهل يفهم أن ذلك كله من الأذان؟)
وجوابه أن الجاهلين يفهمون أنه من الأذان كما قال المقريزي، ومن لم يفهم
أنه منه يعتقد أنه مشروع في الإسلام، ولذلك ينكرون على من يتركه كما تقدم،
وإنما هذا حجة عليه، مبطل لزعمه أنهم يقصدون به اتباع السنة في جواب المؤذن
وتقدم تفصيله، على أن الكلام في هذا الفعل المبتدع لا في تسميته، فسواء عليهم
أَجَعَلُوه أو سموه من الأذان كما يفهم جماهير العوام أم جعلوه من إجابة المؤذن لنفسه
كما زعم هو (الدجوي) حتى قال: إنهم اقتتلوا في بعض القرى أو كادوا يقتتلون
في اختلافهم فيه، هو على كل حال ابتداع في الدين وشرع لم يأذن به الله، فجميع
هذه الأجوبة حجة على قائلها لا له، وإذا أمكن المِرَاء في بعضها فلا يمكن في
جملتها.
وخلاصة القول: أن هذه الزيادة في الأذان أو عليه أو العلاوة له بدعة أحدثها
بعض الفساق في آخر القرن الثامن، وزيد عليها فيما بعده ما لا شبهة في بطلانه
فيجب إنكارها والسعي لمنعها، وعدم إطالة الجدل لإثبات استحسانها.
وهذا هو الذي يصح أن يدخل فيما أمر الكتاب العزيز به من رد التنازع إلى
الله والرسول. وهو الذي يمكن أن تجتمع كلمة الأمة عليه إذا دعاها إليه علماؤها
بناء على أنه هو الذي كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله
عنهم، ومن يقول: إنها بدعة غير سيئة أو حسنة لا يقول: إنها خير مما كان عليه
المسلمون في ذلك العهد. وهذا معلوم بالضرورة لا يخالف فيه أحد.
وإن من شر مفاسد هذه البدع في الدين أن يتعصب لها أهلها مع تهاونهم في
السنن وفي الفرائض أيضًا، وأعجب من ذلك إقرار أدعياء العلم للمبتدعين على
بدعهم، وأعجب من هذا الأعجب تأولها لهم، والرد على منكريها عليهم {وَمَن
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة: 41) ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمال الإسلام المهجور أو المجهول
(مسامرة فيه)
(ذكرني اهتمام الصحف بعزم جلالة الملك المعظم على زيارة كليات الأزهر
في هذا الشهر، وانتقادها لإدارة المشيخة الحاضرة لهذه الجامعة، وسيرة رئيسها
فيها بمسامرة في هذا الموضوع قامت بها الحجة على هذا الرئيس بأن تعليم التوحيد
وغيره في الأزهر والمعاهد التابعة له غير مفيد للخواص ولا للعوام، فرأيت أن
أنشرها كما وقعت وها هي ذه) .
أدب الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين مأدبة نفيسة
لصاحبي السمو شقيق سلطان لحج ونجله؛ إذ كانا من ضيوف مصر في العام
الماضي، دعا إليها جماعة من كبار أهل العلم الديني والدنيوي والمكانة، في
مقدمتهم أصحاب الفضيلة والسعادة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد
صادق المجددي وزير دولة الأفغان المفوض بمصر والشيخ محمد الخضر وعثمان
مرتضى باشا وأحمد زكي باشا والدكتور عبد الرحمن شهبندر وكذا كاتب هذه
المسامرة صاحب المنار.
ولما كنا على المائدة اعتذر شيخ الأزهر بالحِمْيَة عن مشاركة الجماعة بالطعام
المغذي، ولكنه أحب أن يجمع لهم بينه وبين الغذاء العقلي، فطفق يشكو من
إعراض المسلمين عن هداية الإسلام افتتانًا بالدنيا وتقاليد الحضارة الإفرنجية، فقال
عثمان باشا: إن حب الجمال طبيعي في البشر، وإن الإسلام كله جمال، وإن
تهذيب الحضارة والعلوم الراقية تزيد العاقل حبًّا للجمال فهي تقوي الإسلام بما
تظهره من جمال المحبوب أو ما هذا خلاصته.
قال الشيخ: ولكننا نرى الجمال في عرف أكثر أهل عصرنا هو ما يسمونه
(الموضة) في الأزياء والعادات واللهو وسائر نواحي الحياة، أي وإن كان من
الفسق والفجور الذي لا يخفى قبحه على عاقل، وتساءل كيف السبيل إلى تلافيه؟
هذه صفوة عبارته.
ثم دار الكلام في جمال الإسلام وكماله وما امتاز به على سائر الأديان وما
اعترف له بعض حكماء الإفرنج ومؤرخيهم المنصفين، ولا سيما أساسه الأعظم
وهو توحيد الله تعالى وكون المرشد الأعظم للناس من لدنه عز وجل هو عبد الله
ورسوله لا مخلوق مشارك له (أو وكيل ينوب عنه) سبحانه في تدبير أمور الخلق
في الدنيا، وينجيهم في الآخرة بنفوذه وجاهه كديانة النصارى.
وذكر الدكتور شهبندر أن بعض علماء أوربة قد صرَّحوا بأن بساطة العقيدة
الإسلامية وموافقتها للعقل والفطرة وسهولة فهمها وتعقلها هو السبب في انتشار
الإسلام في جميع طبقات البشر بالسرعة المعروفة في التاريخ وانهزام النصرانية لما
رأى خذلان النصارى باتخاذ نبيهم إلهًا وربًّا لهم لم يكتفِ بتلقين أتباعه أنه نبي
ورسول، بل أمرهم بأن يقولوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
حتى إذا فرغ الجمع من الطعام، وأخذوا مقاعدهم من حجرة القهوة والكلام،
تصدى كاتب هذا المقال للموضوع فقال: إن ما قاله الأستاذ شيخ الأزهر من
إعراض المسلمين في هذه البلاد وأمثالها عن هداية الإسلام وعن تشريعه أيضًا ولا
سيما الذين يتلقون التعليم العصري حقٌّ مشاهَدٌ لا ريب فيه، وإن ما قاله الأستاذان
مرتضى باشا وشهبندر حق لا ريب فيه أيضًا، وما كان حديث المائدة ليتسع لبسط
القول الفصل الجامع بين القولين،
نعم إن كل ما قيل على المائدة صحيح، وإن كان فيه ما يوهم التعارض، ولا ينبغي
لنا أن نترك هذا الموضوع المهم بدون تمحيص وتحقيق، فأرجو السماح لي بذلك.
إن الإسلام ظهر على لسان نبي أمي بعث في قوم أميين حملوه إلى أمم كثيرة
من أهل الحضارات والعلوم والفنون السابقة فقبلوه كما قبلته قبائل البداوة، وآثروه
على أديانهم وشرائعهم ولغاتهم؛ لما تجلى لهم في كتابه وسنة نبيه وسيرة دعاته من
الجمال المعنوي في عقائده المعقولة، وشريعته العادلة، وآدابه العالية، الموافقات
للفطرة الإنسانية، والجمع بين مصالح الدين والدنيا.
فما السبب الذي صرف الكثيرين من المسلمين أنفسهم بعد ذلك عن هدايته
وعن تشريعه وعن آدابه وفضائله على جمالها وكمالها، وزين لبعضهم استبدال
غيرها بها، وكيف السبيل إلى عطفهم عليها؟ وجذب غيرهم إليها؟ هذا ما تساءل
عنه مولانا الأستاذ شيخ الأزهر، ويمكنني الجواب عنه على قاعدة الأستاذ عثمان
مرتضى باشا في جماله، وقاعدة الدكتور شهبندر في سهولته وموافقته للفطرة.
إن جمال الإسلام ظهر للعالم كله في القرون الأولى بعلم دعاته وناشريه
وبيانهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبحكم خلفائه وأمرائه بين
الناس بعدل شريعته ومساواتها بينهم بالحق، ثم صار هذا الجمال يخفى ويتوارى
رويدًا رويدًا بهجر العلماء لتعاليم القرآن وبيان السنة له، واعتمادهم على تقليد
العلماء المصنفين، ولا سيما المتكلمين، وبظلم الملوك والأمراء، وتعاون الفريقين
على ظلم الناس والاستبداد فيهم، وطغيان الرياسة عليهم، ونكتفي بضرب المثل
في العلماء.
ضرب الإمام الغزالي مثلاً لما وضعه علماء التقليد من الحجب بين الناس
وبين جمال الإسلام ونوره - وهي طبقات العلماء الخمس التي يذكرونها في رسم
المفتي - فشبه نور الشريعة من كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالشمس أشرقت بها الآفاق، ودخل نورها من كوة في حجرة فوقعت على مرآة في
الجدار المقابل لها، فانعكس النور عنها إلى الجدار الذي تجاهها، وانعكس نور هذا
الجدار إلى جدار يقابله في حجرة أخرى مظلمة فكان أضعف مما قبله، وتكرر
الانعكاس حتى إذا كان الأخير على جدار الحجرة الخامسة كان أهلها في ظلمة لا
يدركون فيها إلا أشباحًا وشخوصًا لا يدركون صفاتها ولا معارفها التي تتميز بها.
فهذا مثل من يزعم أن نور الله المشرق من سماء كتابه وسنة رسوله لا يدركه
كما هو إلا المجتهد المطلق، وأن من دونه المجتهد المنتسب يدرك شيئًا كثيرًا من
مرآته لا يستقل باقتباسه من شمسه نفسها، ومن دونه مجتهد المذهب، وتحته المقلد
الذي يميز بين صحيح الروايات وسقيمها في المذهب، ووراءه الذي يقدر على
ترجيح بعض الروايات والأقوال على بعض. وأما سائر الناس فهم أسرى وعيال
على هذه الطبقة السفلى، فالواجب عليهم تقليدها في نقلها، لا في فهمها ورأيها،
ويقول بعض محققي المتأخرين من فقهاء الحنفية المؤلفين: وهذه طبقة أمثالنا.
فأنى لمن أقام من وراء هذه الحجب كلها أن يدرك نور الإسلام فيرى فيه
جماله وكماله وجمال كل شيء به؟ وإذا كان لفقهاء الفتوى في النوازل العلمية
وقضايا المحاكم عذر في مراعاة هذه الرسوم لعجزهم عن الدليل، فهل لأحد
عذر أن يضربها أمام عقائد الدين، وقد قال السنوسي وغيره: إن التقليد فيها غير
جائز، أو يضربها أمام فضائله وآدابه وأحكامه القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها؟
لقد كان علو الإسلام جميع الأديان قائمًا على قاعدة الاستقلال في فهم حقيقته
وإدراك جماله، وما ضعف إلا بترك هذه القاعدة. ولكن تعليم المدارس العصرية
قائم على هذه القاعدة، ولا يمكن تثبيت المسلمين على دينهم في هذا العصر إلا
بجعل تعليمه قائمًا عليها أيضًا؛ لأن من يتعلم كل علم مستقلا في فهمه يأبى أن يقلد
في دينه من يعترفون أن بينهم وبين كتاب الله وسنة رسوله أربعة حجب، وهم
الحجاب الخامس دونه.
ذكر لنا الدكتور شهبندر عن بعض حكماء الإفرنج اعترافهم بامتياز عقيدة
التوحيد الإسلامية على عقيدة التثليث النصرانية، وأن التوحيد يمكن أن يفهمه
ويقبله كل أحد من عوام الناس وخواصهم وبدوهم وحضرهم بخلاف التثليث، أليس
من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى خفاء عقيدة
التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات
علماء الكلام المعقدة؟
مثال ذلك ما يلقنونه لطلبة العلوم الدينية في الأزهر وغيره من المدارس
الدينية المقلدة في أول كتاب يقرءونه لهم في العقائد وهو حواشي السنوسية الصغرى
(أم البراهين) وهو أن التوحيد الذي هو أُسُّ الإسلام عبارة عن نفي الكموم الخمسة:
الكم المتصل، والكم المنفصل في ذات واجب الوجود عز وجل، والكم المتصل،
والكم المنفصل في صفاته تعالى، والكم المنفصل في أفعاله؛ إذ ليس فيها كم
متصل كما قالوا.
إن هذه الكموم الخمسة فلسفة كلامية ما أنزل الله بها في كتابه من سلطان،
ولا وردت في شيء من بيان رسوله صلى الله عليه وسلم للكتاب، ولا في آثار
أصحابه نقلة سنته، ولا في كتب أئمة السلف الصالح ومنهم الفقهاء الأربعة وإنها
لتكاد تضاهي الأقانيم الثلاثة في الخفاء، وإن مَن يفهم معناها الذي فسروها به لا
يفهم منها حقيقة التوحيد الذي حكاه الله تعالى عن خاتم النبيين وعمن قبله من إخوانه
المرسلين، ولا ما فهمه مشركو العرب من كلمة (لا إله إلا الله) وإنني لما لقنتها
في المدرسة في طرابلس الشام حاولت أن أفهمها للعوام، فعجزت بل كدت أن أفسد
عليهم عقيدتهم، حتى قال لي بعضهم: إنه لم يستطع أن ينام الليل الذي سمع في
أوله الدرس، وخاف أن يموت وهو لا يفهم معنى التوحيد.
عندما قلت هذا وضع كفه الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر على يدي وكان جالسًا
بجانبي وقال: إن هذه الاصطلاحات الكلامية وكتبها قد وضعت لأمثالكم من
الخواص لا للعوام.
فقلت: اسمعوا أيها السادة ما يقول مولانا الأستاذ، يقول: إن هذه الكتب
الكلامية وضعت للخواص لا للعوام، فأين الكتب التي وضعت للعوام وهم أكثر
الناس؟
إن علم الكلام علم مبتدع، أنكره عند ظهوره أئمة الإسلام حتى إن الإمام
الشافعي رحمه الله تعالى هجر حفصًا الفرد؛ لأنه ألف كتابًا فيه، وقد بيَّن الإمام أبو
حامد الغزالي ما استقر رأي العلماء فيه فقال ما خلاصتُهُ أنه ليس من علوم الدين
وإنما احتيج إليه لأجل حماية العقيدة من شبهات الفلاسفة والمبتدعة، فهو كالبذرقة
للحاج يعني الحرس، فاتخاذ البذرقة ليس من أركان الحج ولا واجباته ولا سننه،
ولا من شروط الإحرام، وإنما احتيج إليها لوجود اللصوص وقطاع الطريق الذين
يعتدون على أموال الحاج وأنفسهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فعلم الكلام تختلف الحاجة إليه باختلاف شبهات
الخصوم، وقد تجدد في عصرنا هذا شبهات على الدين غير شبهات الفلسفة
اليونانية التي ألف علماء الكلام الأولون الكتب لدحضها، فيجب على خواص
العلماء الذين يتصدون لدفع شبهات هذا العصر أن يعرفوا العلوم التي نجمت منها،
ويردوها بالأدلة العلمية الرائجة عند أهلها، لا أن يتعبوا أنفسهم ويضيعوا أزمنتهم
في دراسة الفلسفة القديمة في كتب فنية دقيقة كشرح المواقف، وشرح العقائد
النفسية وحواشيهما، وقد كفتهم العلوم والفلسفة الجديدة مؤنة التعب فيها بما يشبه
التعبد بها، ثم إننا نرى مزاوليها لا يستفيدون منها العلم بحقيقة التوحيد ولا حقيقة
الشرك، ولا يعنون بالنهي عما ابتدع الجاهلون من الشرك، بل منهم من يتأول
لأهله خرافتهم الشركية.
إننا نرى هذه الخرافات الشركية الوثنية فاشية في الناس؛ لأن أكثرهم لا
يتلقون عقائد الدين إلا من أمهاتهم وآبائهم ومعاشريهم، حتى لا يكاد يوجد في
الألوف الكثيرة منهم أحد من ذكر أو أنثى تلقى عقيدته من كتاب الله وكتب السنة
الصحيحة، أو من تآليف العلماء على ما ذكرنا من تعقيدها، فتراهم رجالا ونساء
وأطفالا يشدون رحالهم إلى قبور اشتهرت بأسماء بعض الصالحين المعروفين أو
المجهولين يحملون إليها القرابين والنذور للتقرب إليها، ويتضرعون بالدعاء لمن
دفن فيها بطلب الشفاء لمرضاهم والانتقام من أعدائهم وغير ذلك من مآربهم. وكل
ذلك من العبادات، وهم في حِلِّهِم وتِرْحَالهم إليهم يتركون الصلوات، ويرتكبون
كثيرًا من المنكرات.
ونرى بعض المعلمين إذا حضروا دروس السنوسية والجوهرة يتأولون لهم
دعاءهم واستغاثتهم لغير الله وطوافهم بالقبور ونذروهم وقرابينهم لها، بأنهم يعتقدون
أنهم يقضون حوائجهم بما خصَّهم الله به من الكرامات، وأن قضاءها من أعمالهم
الكسبية فهم كاسبون لها لا خالقون، وأنهم هم مستشفعون بهم لا عبادون لهم،
فأقوالهم محمولة على المجاز العقلي بقرينة إسلامهم، وقصارى أعمالهم المخالفة
للشرع أن تكون من الشرك العملي لا الاعتقادي فهم بهذا التأويل الباطل للجاهلين
يصدون المتعلمين عن الإسلام، وهو ما يشكو منه الأستاذ، والقرآن يدحض هذه
التأويلات بآياته القطعية المعروفة، التي تثبت أنهم يعبدون غير الله بشرع لم يأذن
به الله.
وأنَّى لمن غاية علمه بالتوحيد فلسفة نفي الكموم الخمسة أن يعرف توحيد
القرآن وشرك العبادة الذي أنكره على المشركين من التقرب إليه بوسائل لم يشرعها
لهم بل أنكرها عليهم؟ إلخ.
إننا محتاجون في هذا العصر إلى نوعين من الكتب لطريقتين من طرائق
التعليم لإظهار حقيقة الإسلام، وما فيه من جمال وكمال، وإصلاح لحال من يهتدي
به من الناس.
النوع الأول كتب في عقائد الإسلام وآدابه وعباداته تكون في غاية السهولة
والبساطة لأجل تعليم التلاميذ والعوام من الرجال والنساء؛ ولأجل المطالعة أيضًا.
ويجب أن تكون هذه الكتب مقتبسة من نور القرآن ومستمدة من آياته البينات
التي تفيض النور على العقول، وتنفخ من روح الله في القلوب، ويجب أن يطبع
منها مئات الألوف وألوف الألوف من النسخ لأجل تعميم نشرها.
والنوع الثاني كتب في بيان أصول الإسلام في الاعتقاد والتهذيب والتشريع
مقرونة بأدلتها وحكمها ووجه حاجة جميع البشر إليها في إصلاح جميع شئونهم
الشخصية والاجتماعية، ورَدّ جميع ما يرد عليها من الشبهات في هذا العصر، إلخ.
ومن الضروري أن يكون التعليم في المعاهد الدينية مُوَجَّهًا إلى تخريج طائفة
من العلماء لبث الدين على الطريقة الأولى في المدارس والمساجد والبيوت لأجل
تعميمه في العالم كله، وتخريج طائفة أخرى لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه، وأن
يربى كل منهما تربية روحية عقلية تكون بها الغاية التي تُنَاط بأفراده وجدانًا نفسيًّا
لهم لا هم لهم من حياتهم فيما دونها، لا وسيلة من وسائل الكسب والمعيشة.
ومن المعلوم عندنا بالاختبار أن هذا المَنْحَى من مناحي التربية الدينية والتعليم
الإسلامي مفقود لا وجود له في المعاهد الدينية، لا في الأزهر الذي هو أكبرها
وأغناها ولا في غيره، وإن هذه الكتب بنوعيها لا وجود لها فيه، اللهم إلا رسالة
التوحيد للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.
قررت ما ذكر كله في السامر بنحو مما بسطته هنا فأقرني عليه جميع
السامرين حتى إن شيخ الأزهر والشيخ الخضر من أكبر أعوانه ورئيس مجلة
المشيخة لم يعارضاني في كلمة منه غير ما تقدم عن الشيخ الأكبر، وقد علم منه
الجواب الصحيح عما أورده الشيخ على المائدة بما ظهر به أنه هو الملوم المسئول
فيما تساءل عنه، والمشكو منه فيما يشكو منه.
وإذا كان السكوت إقرارًا، وكان تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز،
فقد قامت به الحجة على الشيخ الظواهري بخلو الأزهر في عهده من التعليم الذي
يظهر نور الإسلام وجماله لعامة الناس وخاصتهم، وظهر به أن أكبر الإثم فيما شكا
منه من إعراض الناس عن الإسلام واقع عليه، ففي يده تلافيه، ولكنه هو الذي
يصد عنه، وقد أخرج من الأزهر أمثل المعلمين المشتغلين به، ومجلة المشيخة
الخرافية أظهر الحجج عليه، فيا ليت جلالة الملك يعلم هذا كله، كما علم من سوء
إدارة الأزهر ما دونه، وكتب هذا في غرة ذي الحجة سنة 1351.
__________(33/121)
الكاتب: محمد الهراوي
__________
إلى شبان المسلمين
قصيدة للأستاذ محمد الهراوي
(ألقاها في حفلة لجمعية الشبان المسلمين في دار الأوبرا الملكية بمصر)
الشرق والغرب
قل للشباب المسلمين تحية ... من مسلم ثبت على إيمانه
ويزيده في الله حسن عقيدة ... ما جره الإلحاد من خسرانه
الغرب مجلبة الخسار جميعه ... والشرق مفتتن به عن شانه
متودد والغرب لم يأبه له ... لا في مودته ولا شنآنه
ماذا من الغربي في إحسانه؟ ... والشر غلاب على إحسانه
ما زال يرمي الشرق من نيرانه ... حتى تردى في لظى نيرانه
في كل يوم معقد للجانه ... والمشكلات تئن تحت لجانه
لو أخلص الغربي في نياته ... ما ثارت النيران من بركانه
ما باله، والعدل من ألحانه ... تبكي العدالة في صدى ألحانه؟
الطابع القومي
لو يحفظ الشرقي طابع قومه لم يطوه الغربي في سلطانه
لو كان يزهد في الحياة لعزه ... ما هان بعد العز في أوطانه
لو كان متبعا لآي كتابه ... لمضى وهذا الدهر طوع بنانه
لكن سبته حضارة غربية ... ألقى إلى مضمارها بعنانه!
الذكرى
أين الغزاة الفاتحون؟ وأين ما ... فتحت سيوف الله من بلدانه؟
أين السراة الخيرون؟ وأين ما ... شادوا لدين الله من بنيانه؟
أين البيوت العامرات بأهلها ... سل كل بيت دال من سكانه
الأزهر
والأزهر المعمور أين مكانه؟ ... سل عنه أين؟ وأنت فوق مكانه
فرحوا وهم يبنون كلياته ... فليفرحوا بالطوب تحت دهانه
من يوم أن نقلوه من جدرانه ... قد طار سر الله عن جدرانه
فاسأل عن الأخيار من علمائه ... واسأل عن الأطهار من شبانه
المتقين الله حق تقاته؟ ... الحافظين لدينهم وكيانه
العالمين بشرعه وكتابه ... العاملين بروحه وبيانه
والزي! حتى الزي لم يبقوا له ... ظلا لجبته ولا قفطانه [1]
إلى الملك
مولاي يا ملك البلاد وذخرها ... وملاذَ هذا الدين عند هوانه
مصر بأزهرها القديم كما بدا ... بالطابع الموروث منذ زمانه
فأعد إليه عهده واستبقه ... تدفع به الإلحاد في عدوانه
الجامعة الشرقية
أدعو شباب الشرق من أجناسه ... وعلى اختلاف الشرق في أديانه
أدعو لجامعة تضم شتاته ... من صينه الأقصى إلى تطوانه
إن لم يكن في الدين جامعة له ... كبرى ففي آلامه ولسانه
الدين
ما بالنا والغرب غرب دائم ... في ظله يمضي وتحت ضمانه
فخذوا سبيل الدين فهو كفيلكم ... ليرد سيل الغرب عن طغيانه
والدين للدنيا وللأخرى معًا ... وسعادة الدارين في قرآنه
__________
(1) يشير الشاعر إلى ما اشتهر في مصر من لبس بعض المتخرجين في الأزهر للزي الإفرنجي، ومن كون بعض طلابه يلبسون في الدروس الجبة والقفطان، وفي الليل زي الأفندية كما كان يفعل طلبة دار العلوم قبل إجماعهم على نزع الجبة والقباء والعمامة، ولكنه عبر عنه بكلمة عامة مبالغة في التشاؤم.(33/128)
الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي
__________
العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي [1]
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم
انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق
عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) أو كما قال [2]
وعن ابن مسعود: (كل يوم ترذلون، لا أقول: عام أخصب من عام، ولا
أمير خير من أمير ولكن بذهاب علمائهم فيضعف الإسلام) أو كما قال [3] .
أنعي إلى الأمة الإسلامية أحد أركان العلم والإسلام وأنا في غاية الحزن
والأسى ألا وهو العلامة المتبحر في العلوم المجاهد العالم صاحب الفضيلة الأستاذ
الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي المغربي القاطن ببلد الزبير من أعمال البصرة.
مولده ومنشؤه في قبيلته (إذَ بَلْحسن) أي بني الحسن قبيلة عظيمة من قبائل
العرب من أهل شنقيط معرفون بالعلم والشجاعة، وقد نبغ منهم خلق من العلماء
والشعراء، رحل الفقيد إلى الشرق وهو شاب بعدما درس العلوم التي تدرس ببلاده
ولما وصل إلى مكة وجد بها العلامة الكبير الحافظ الشيخ شعيب الدكالي بارك الله
في حياته فألقى بها عصا التسيار، ولازم العلامة المذكور سنين، وكان أستاذه هذا
معجبًا به حتى إنه كان يرد إليه المسائل الأدبية فيتكلم فيها أثناء الدرس، ثم زار
الشيخ شعيبًا أحد أعيان أهل البصرة ممن كانوا يلقبون بكلمة (الباشا) التركية في
عهد الترك، فسأل هذا الوجيه الحافظ الدكالي أن يبعث معه من يرتضيه من العلماء
ليؤسس له مدرسة ومسجدًا ويقف عليهما ما يكفي للنفقة عليهما من المال، فندب
لهذا الأمر صاحب الترجمة فامتثل أمره وتوجه إلى الزبير، وأقام بها ينشر العلم
صابرًا على أذى شياطين المتفقهة ممن يشرقون بنشر العلم النافع المحمدي الصحيح؛
لأنه يبطل نواميسهم ومكرهم الذي نصبوه حبالة لصيد الحطام، وقد أجمعوا
أمرهم على إخراجه وشكوه مرارًا، وهو صابر ثابت على خطته في نشر العلم
والإعراض عن الجاهلين، وكان رحمه الله آية في الحلم، بعيني رأيت أكبر أعدائه
الذي كان سببًا لكل ما أصابه من الأذى التجأ إليه في شدة أصابته فقابله الشيخ الفقيد
بما جبل عليه من البشاشة وأخرج أوراقًا مالية فناوله إياها، ثم أمر أحد التجار أن
يعطيه عدة أكياس من الرز على حسابه، هذا بعد ما فشل ذلك الشيخ المشاغب في
جميع محاولاته. وواقعات حلمه مشهورة، وكان سراجًا منيرًا في الخليج الفارسي
وبلاد العراق ونجد.
وفي زمن الحرب الطرابلسية شد الرحل من العراق إلى طرابلس للجهاد،
وسافر إلى بلاد نجد ليستوطنها فرارًا من الكون تحت تأثير الأوربيين فلم يستقم له
ما أراده، فرجع بعد ما أقام بعُنَيْزَة أربع سنين قضاها كلها في نشر العلم والعمل،
وترك أهل عنيزة كلهم ألسنًا ناطقة بالثناء عليه، ثم توجه إلى الكويت وما مضت
عليه هناك إلا ليلة واحدة حتى نُفِيَ لاتهامه بعداوة الإنكليز، فتوجه إلى الزبير ثانية،
وأسس (مدرسة النجاة) هناك وكانت الأمية والجهل مخيمين على بلدة الزبير،
فحاربتهما هذه المدرسة بأن ضمت بين جدرانها مئات من أولاد إسماعيل وقحطان،
فهذبت من أخلاقهم، وتخرج فيها خلق من الكتاب والأدباء والعلماء، ولا تزال
قائمة إلى الآن.
ولما ازدهرت هذه المدرسة التهبت قلوب المتفقهة حسدًا، وكبر عليهم مقام
الشيخ وتذكيره بآيات الله، فأجمعوا أمرهم ليقضوا عليه ولا ينظروه، فرموه بأنه
يعلم تعليمًا وهابيًّا يسمِّم أفكار شبان العراق، زخرفوا هذه الوشاية إلى ولاة الأمر
ليقطعوا الإعانة التي كانت تتلقاها المدرسة من وزارة الأوقاف العراقية، ومن وزارة
المعارف ومجموعهما اثنا عشر ألف روبية، فكادت المكيدة تنجح ولكن الشيخ بادر
بالتوجه إلى بغداد وعرض عليهم منهاج الدروس ولم يكن فيه شيء مما يسميه
الجهلة وهابية إلا العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ولا يخفى أن الجهلة
يعدون ابن تيمية وهابيًّا) فحذفها الشيخ من المناهج وجعل محلها عقيدة الإمام ابن
أبي زيد القيرواني المالكي فبطل كيدهم واستمرت الإعانة جارية.
ثم بعد سنة جدَّد أولئك الشياطين الكرة فنجحوا وقطعت إعانة الأوقاف؛ ولأمر
آخر نذكره؛ لأن فيه عبرة للمسلمين قطعت إعانة المعارف أيضًا، وذلك أن الشيخ
كان عضوًا في إدارة المعارف بالبصرة، وكان قد بقي في المدارس الابتدائية بالعراق
درس ديني ودرسان في الأسبوع وهذه الدروس الدينية كلها لا تزيد على بضع
كراريس بقطع صغير في العقائد إجمالاً والطهارة والصلاة والصوم والحج، وكانوا
يُعَيِّنُونَ لتدريس هذه الدروس عالمًا أو مُلاَّ كما يقولون من المتدينين أو المعممين كما
يسميهم المتنورون! ! ! فاجتمع هؤلاء المتنورون بنورة أعداء العروبة والإسلام
وقرروا تطهير المدارس من هؤلاء المعممين وأجمعوا على أن يعينوا بدلهم شبانًا من
المتنورين، فعقدوا اجتماعًا دَعَوْا فيه الأستاذ الفقيد للحضور وعرضوا عليه هذا المكر
الذي بَيَّتُوهُ، وأضافوا إليه من سب المعممين والوقيعة بهم ما شاءت لهم النورة،
فامتنع الشيخ من الموافقة امتناعًا كليًّا، وكان رحمه الله على ما فيه من الحلم النادر
إذا وصل الأمر إلى هدم الأصول يتصلب فلا تلين قناته لغامز، فجعل بعض
المتنورين يجادله فتكلم الشيخ وقال: أنا أعرف الشبان وأعرف المعممين فَهَبُوا أنهم
بلغوا في البلادة والجمود كل مبلغ ولكنهم يعملون بما يعلمون، يعلمون التوحيد
وصفات الله وهم بها مؤمنون، وأما هؤلاء الشبان فإنا نراهم متى ذكروا العقائد بادروا
إلى السخرية التي لقنهم أعداء العرب والإسلام. ثم يعلمون أركان الإسلام وهم
يؤدونها، وأما هؤلاء الشبان فلا يتوضئون ولا يصلون ولا يصومون ولا يحجون،
فهل تظنون أن الإسلام لعبة يصح بمجرد الدعوى الفارغة! وبعد هذا انصرف من
مجلسهم فتسببوا في قطع الألفين اللذين كانت تعطيهما وزارة المعارف وبقيت
المدرسة على تبرعات المحسنين وقليل ما هم، فنقصت حتى صارت على الثلث،
وكم حاول قوم من الأعيان أن يقنعوا الشيخ بالخضوع إلى سلوك منهاج المعارف
والسير تحت مراقبة مفتشها وترد النفقات التي قطعت فأبى وجمع من يظن بهم
الإخلاص من المدرسين وخطب فيهم وذكرهم بما يجب عليهم من خدمة الأمة فقنعوا
كلهم أن يأخذوا ربع أو ثلث ما كانوا يأخذون من الرواتب ولا ينهزمون. وكان رحمه
الله قدوتهم في ذلك فإنه كان يأخذ في زمان ميسرة المدرسة 150 روبية فأنزلها إلى
50 وبقيت المدرسة عامرة إلى الآن، ولكنها لا تستطيع أن تقبل من الطلبة إلا نحو
نصف العدد الذي كانت تحويه من قبل. ومناقب هذا الإمام كثيرة يضيق هذا المقام
عن عشر معشارها.
توفي إلى رحمة الله ضحى يوم الجمعة 14 جمادى الآخرة سنة 1351 على
رأس ستين سنة كلها جهاد وصلاح وخير للمسلمين، ولم يتخلف عن جنازته أحد
من أهل الفضل من البلدين البصرة والزبير، ولو كانت البلاد محتوية على وسائل
النقل لحضر جنازته الجم الغفير من أهل نجد وأهل الخليج الفارسي وأهل العراق،
فالله يلهم ذويه الصبر الجميل ويخلفه على المسلمين وإن كان كما قال الشاعر:
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكّفِّر
ولكن الله يفعل ما يشاء.
(المنار)
لله در أخينا الأستاذ الهلالي أتى بخير خلاصة لترجمة هذا الإمام المصلح بأدق
عبارة وأجمعها للفوائد، وأنزهها في التعبير، ولا سيما موقف الرجل بين فريقي
الشيوخ الجامدين، والشبان المتفرنجين، اللذين يكاد يضيع الإسلام
بينهما، فالشيوخ على محافظتهم على التقاليد الخرافية المنفرة عن الإسلام
ومحاربتهم للإصلاح الديني والدنيوي لا يزالون يقومون بشعائر الإسلام وأركانه
علمًا وعملاً، وبهذا فضلهم الشيخ رحمه الله على الشبان الذين ليس لهم من الإسلام
إلا الجنسية السياسية، وأسماء الأعلام ولكنهم يعنون بالإصلاح الإداري والسياسي،
ونراهم ينتصرون على الشيوخ في الحكومات التي ترى نفسها مضطرة إلى نظام
المدنِيَّة العصري، وبهذا حملوا حكومة العراق على إلغاء الإعانتين اللتين كانت
تساعد بهما (مدرسة النجاة) من وزارتي المعارف والأوقاف. وهي خير من جميع
مدارس العراق، فعسى أن تعيد النظر إلى ذلك وزارة العراق الجديدة التي هي
أرجى وزارة ألفت في دولتها الجديدة وتعيد إليها الإعانتين، فلن ينفعها الإصلاح
المدني بدون الإصلاح الديني، والله الموفق.
__________
(1) كتب هذا التأبين والترجمة للمنار والفتح صديقنا الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المدرس في مدرسة دار العلوم الندوية في الهند.
(2) المنار: الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ (ينتزعه من العباد) والباقي كما قال.
(3) في المقاصد الحسنة ومختصره، وفي الدرر المنتثرة أن كلمة: (كل عام ترذلون) من كلام الحسن البصري وفي معناها حديث البخاري وغيره (لا يأتي عليكم زمان وفي رواية عام إلا والذي بعده شر منه) وفي بعض الروايات من البيان له مثل ما ذكر عن ابن مسعود.(33/130)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد أحمد الشريف السنوسي
في العشر الأخير من الشهر الماضي (ذي القعدة) نعت أنباء المدينة المنورة
إلى العالم الإسلامي السيد الكبير، والعلم الشهير، والمجاهد العظيم، السيد أحمد
الشريف السنوسي كبير السادة السنوسية وزعيمهم، وإمامهم ومرشدهم، وقائدهم
في معارك القتال، ومعامع الأبطال:
قام النعيُّ فأسمعا ... ونَعَى الكريم الأروعا
نعم قام نعيه في مدينة الرسول الأعظم، فأسمع كل مؤمن بجده محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، فوجلت له قلوب وزرفت عيون، وفاضت شئون، بكته
الحجاز واليمن والسودان، وطرابلس وبرقة ومصر والعراق والشام، وسائر بلاد
الإسلام، فماذا يقول القائلون، وماذا يكتب الكاتبون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
إن السيد أحمد الشريف السنوسي من أشهر رجال الإسلام في هذا العصر
اشتهر بالصلاح والتقوى، واشتهر بالكرم والمروءة، واشتهر بالزعامة والإمامة،
ثم اشتهر بالجهاد بالمال والنفس في الدفاع عن قومه ووطنه، ثم اشتهر بعلو المقام
عند الدولة العلية العثمانية؛ إذ كان هو الذي قلد السلطان محمد السادس السيف في
حفلة مبايعته خلافًا للتقاليد المتبعة في الدولة، وأنعم عليه برتبة الوزارة الاسمية
والنشان المرصع، ثم كان له عند المجاهدين من الترك في الأناضول مقام عال،
واشتهر أنهم عرضوا عليه منصب الخلافة الروحية التي قلدوها السلطان عبد المجيد
بعد إخراج السلطان محمد السادس من الآستانة فأبى، ثم إنهم قطعوا راتبه بعد تمام
الظفر، والشروع في الانقلاب الإلحادي المنتظر، واضطروه إلى الخروج من
بلادهم فخرج إلى سورية فلم تأذن له فرنسة بالإقامة فيها، وأحب أن يأوي إلى
مصر فعلم أنه لا سبيل له إلى الوصول إليها، فلجأ إلى الحجاز، فتلقاه ملك العربية
السعودية بالقبول والإعزاز، وأجرى عليه من الرزق ما يليق به، إلى أن توفاه الله
بجوار رسوله صلى الله عليه وسلم في رحابه، ودفن في البقيع مع آل بيته
وأصحابه.
ولكن كل هذه المظاهر العالية للشهرة ملائمها ومؤلمها قاصرة عن معرفة كنه
هذا السيد الأروع والهمام السميدع، وإنما العلم التام بها يتوقف على الوقوف على
تاريخ السادة السنوسية التي هي أسرته وعشيرته، والطريقة السنوسية التي أسسها
هو وأبوه وجده، وماذا فعلت من إصلاح ديني وعمراني، وما كان لها في أنفس
الإفرنج عامة والفرنسيس خاصة من الشأن السياسي، وكيف استطاعت دولة فرنسة
فساد بأس جميع طرائق المتصوفة في إفريقية واستمالة شيوخها بالرشوة إلا الطريقة
السنوسية.
كان الجهل والفساد فاشيين في بلاد برقة وما يليها إلى أحشاء السودان فجاءها
السيد محمد علي السنوسي الكبير فنشر فيها العلم والدين والعمران، وأسس الزوايا
الكثيرة بنظام عمراني بديع، فكانت مدارس علم، ومساجد عبادة، ومعاقل أمن
وحماية، ومنازل ضيافة، ومحطات تجارة، وثكنات مرابطة، عمرت بها البلاد
وأمن العباد، وكثر العُبَّاد، وحسب لها الطامعون كل حساب، ولولا السنوسية لما
ذاقت إيطالية من جهاد العرب في برقة وطرابلس ما أفقدها مئات الألوف من
الأموال. وللسنوسية زوايا كثيرة في الحجاز أيضًا.
ولا يجد طالب تاريخ السنوسية طلبته دانية الجني إلا في ذيول كتاب حاضر
العالم الإسلامي بقلم أمير البيان، خاتمة مؤرخي الإسلام، الأمير شكيب أرسلان.
وإنني أنبه أذهان قراء المنار في تأبين هذا السيد الزعيم المجاهد لما لعلهم لا
يجدونه في غير المنار من الصحف، وهو:
لقد كان هذا السيد الزعيم الكريم أول مصداق ظاهر للأحاديث الصحيحة
الواردة في أُرُوزِ الإسلام إلى الحجاز، واعتصامه فيه من الأعداء، كما تعتصم
الوعول في شناخيب الجبال.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى
جحرها) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقال: (إن الدين ليأرز إلى
الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من
رأس الجبل) إلخ [1] رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال صلى
الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ وهو يأرز بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
ولهذا المعنى أوصى النبي مرارًا - آخرها قبيل وفاته - بإخراج اليهود والنصارى
من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان، وهو من آيات النبوة التي لا يتمارى فيها
عاقلان.
وفحوى هذه الأحاديث أن دين الإسلام الذي خرج من مهده الحجاز وانبسط
في الأرض فاتحًا مُصْلِحًا سوف يُغْلَبُ على أمره ويضطهد أهله بتداعي الأمم عليهم،
حتى يضطر إلى الانقباض والأُرُوز إلى وطنه الأصلي الخاص به وهو الحجاز،
فيعتصم فيه ويكون له معقلاً وملجأً، وهذا النبأ النبوي الذي يعد من أظهر أنباء
الغيب يصدق بدين الإسلام نفسه وبرجاله وأنصاره، والسيد السنوسي من أظهرهم،
وقد ضاقت عليه مملكة الجمهورية التركية اللادينية فأخرجته بعد ما كان من مقامه
الكريم فيها، ولم يجد له ملجأً في سورية ولا في مصر فضلا عن وطنه ووطن
عشيرته وطائفته الخاص، فأرز إلى وطن دينه ومعقله من الحجاز حتى توفي في
المدينة المنورة على مُنَوِّرِهَا ومُشَرِّفِهَا وآله أفضل الصلاة والسلام.
فيجب على المسلمين كافة أن يعنوا بتقوية هذا المأرز والمركز لدينهم،
وحفظه من الأجانب الطامعين، وعدم تمكينهم مما يكيدونه له؛ لوضعه تحت
سيطرتهم البرية والبحرية من ناحية العقبة ومعان وشرق الأردن وغيرها، فوفاة
السيد السنوسي في المدينة بعد تعذر إقامته في غير الحجاز من بلاد الإسلام أكبر
عبرة للمعتبرين، تغمده الله تعالى بواسع رحمته، وجعله مع النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين في دار كرامته، ووفق الأمة للانتفاع بسيرته في حياته
وموتته.
* * *
صلاة الغائب
(على السيد السنوسي، وفوائدها الدينية والسياسية)
بعد صلاة الجمعة الأولى من شهر المحرم فاتحة سنة 1352 تقام صلاة
الغائب على الزعيم الإسلامي والمجاهد العظيم والمرشد الشهير السيد أحمد الشريف
السنوسي (قدس الله روحه) في جميع المساجد الجامعة في القطر المصري وسائر
الأقطار التي بلغتها الدعوة إلى هذه الصلاة من مكتب المؤتمر الإسلامي العام في
القدس الشريف.
ستكون هذه الصلاة ممتازة بمعنى لم يسبق له نظير في مثيلاتها من صلاة
الغائب التي يقيمها المسلمون في بعض الأقطار عندما يموت عظيم من عظماء
الإسلام في علمه الواسع وعمله النافع، لا باتصاف السيد السنوسي بشرف النسب
والحسب ولا باشتهاره بالصلاح والتقوى ولا بمكانته المعروفة في العلم والعمل
والإرشاد والإصلاح، والبر والإحسان، ولا بالجاه العريض الذي ناله بتقليده سيف
البيعة للسلطان محمد الخامس وإنعام السلطان عليه بلقب الوزارة والنشان المُرَصَّع،
فكان أول عالم مرشد مُعَمَّم تحلَّى بها كما تقدم آنفًا.
بل تمتاز هذه الصلاة على هذا الرجل العظيم بعمل له هو الذي تم به كماله،
وهو الجهاد بماله ونفسه في سبيل الله دفاعًا عن دينه وقومه ووطنه، وبما آل إليه
أمره من جرَّاء هذا الجهاد من هجرته الأولى إلى بلاد الترك، ثم من إخراجه منها
وتعذر رجوعه إلى وطنه، وتعذر إقامته في سورية ومصر، وفي كل قطر إسلامي
خاضع لنفوذ الدول الاستعمارية الثلاث المحاربة للإسلام المستذلة للمسلمين، وقد
قاتلها كلها في سبيل الله، حتى لجأ أخيرًا إلى مهد الإسلام من حرم الله وحرم
رسوله صلى الله عليه وسلم، ومات بجوار جده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله،
فبهذا كله صار للصلاة عليه معنًى لم يسبق لغيره من عظماء الإسلام، أذكره
لأذكر به كل مسلم يصلي عليه صلاة الغائب عقب صلاة الجمعة في ذلك اليوم
المشهود.
أعني بهذا هو أن يقصد بالصلاة مع ثواب إقامة هذه السنة القاصر على من
أقامها إحياء الشعور الإسلامي بوجوب الدفاع عن الإسلام وتأييد المجاهدين في سبيل
الله، والتكافل بين المسلمين في وجوه أعدائهم في دينهم وأقوامهم وأوطانهم، السالبين
لاستقلال الملايين منهم، حتى صار يتعذر على مثل هذا الرجل العظيم بكل ما للعظمة
من المعاني الصورية والمعنوية، الدينية والدنيوية.
يجب أن يتذكر الذين يصلون على هذا الزعيم العظيم أن الإسلام مُهَدَّد في أكثر
البلاد التي تسمى إسلامية باضطهاد من يخدمونه ويقومون بحقوقه.
وإن الذين جرَّأَ أعداءه على هذا العدوان والاضطهاد هو غفلة المسلمين عن
أنفسهم، وجهل أكثرهم بما حَلَّ بهم، حتى طمع أعداؤهم بإخراج الملايين عن
دينهم نفسه فلم يكتفوا بسلب ملكهم.
وأذكر أئمة المساجد وخطباءها بأن يذكروا المصلين على المنابر بعد الفراغ
من الخطبة خبر هذه الصلاة ويطالبوهم بالبقاء بعد صلاة الجمعة؛ ليقيموا هذه السنة
وينالوا أجر الصلاة على هذا الزعيم المجاهد الكبير، بما يفتح الله تعالى على كل
خطيب منهم من عبارات التذكير، ثم يذكرهم المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة
بذلك لئلا ينصرفوا.
وعسى أن يكون لعلماء الأزهر الشريف أكبر مظهر في هذا يؤثر عنهم.
__________
(1) يقال أرز الشيء (من باب نصر وضرب وعلم) أرزا وأروزا بمعنى تقبض وانكمش ورجع، وأرزت الحية إلى جحرها انقبضت وتراجعت إليه، وأرز الرجل إلى وطنه انقبض وكف عن التجول في الأرض راجعا إليه، والأُرْوِيَّة بالضم وتشديد الياء الوعل أي تيس الجبل يطلق على ذكره وأنثاه.(33/134)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الخوجه كمال الدين الهندي
توفي في سلخ شعبان من هذه السنة (1351) أيضًا أكبر الدعاة إلى الإسلام
في هذا العصر الخوجه كمال الدين الهندي إمام جماعة المسلمين في مسجد ووكنج
في لندن ومحرر مجلة الإسلام التي تصدر باللغة الإنكليزية هنالك، وقد أسلم
بدعوته كثير من رجال الإنكليز ونسائهم أجلهم قدرًا، وأرفعهم قدرًا، لورد هدلي
الذي سمي بعد اهتدائه (الفاروق) وقد حج مع أستاذه كمال الدين، وخدم الإسلام
خدمة جليلة، وللخوجه كمال الدين رحمه الله تعالى مصنفات في الإسلام مفيدة كانت
خير مروج لدعوته إليه، وقد اشتهر أنه كان من أتباع مسيح الهند الدجال القادياني
المعتدلين، ولكن كذب ذلك بعض العارفين بأحواله، وأخبرني من يقرأ مجلته منذ
سنين أنه لم ير فيها ما يدل على ذلك. وهاك خلاصة ترجمته.
(ملخص ترجمة الفقيد رحمه الله)
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ صاحب المنار:
نبعث إليكم مع هذا ترجمة حياة المرحوم الخوجا كمال الدين لتتفضلوا بنشرها
في مجلتكم القيمة، ولكم الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... خوجا عبد الغني
... ... ... ... ... ... سكرتير الجمعية الإسلامية لاهور
أسلم المرحوم الخوجا كمال الدين الروح يوم الأربعاء في الثامن والعشرين من
شهر ديسمبر سنة 1932 م.
ولد الفقيد عام 1870 لوالده الخوجا عزيز الدين بمدنية لاهور (البنجاب)
فهو حفيد الشاعر المشهور الخوجا عبد الرشيد الذي كان قاضي لاهور أيام حكومة
السيخ، وقد اشتهر بيته بالعلم والفضل.
بدأ الفقيد دراسته في مدرسة الحكومة، ثم انتقل إلى كلية فورمان بلاهور فنال
منها شهادة البكالوريا في الآداب والعلم، ونال الميدالية في الاقتصاد من جامعة
البنجاب، وعُيِّنَ أستاذًا في كلية لاهور الإسلامية، ثم ما لبث بأن صار مديرًا لها،
وفي عام 1898 نال شهادة الحقوق من درجة البكالوريا، ومارس المحاماة في
بشاور ست سنوات، وعاد بعدها في 1903 إلى لاهور حيث أصبح في زمن يسير
من كبار المحامين لدى محكمة البنجاب الرئيسية وفي تلك الأثناء طاف بلدان الهند
يلقي فيها المحاضرات عن الإسلام وقد اختارته جامعة عليكرة الإسلامية عضوًا في
هيئة كبار علمائها وأمينًا في لجنة أمنائها، ثم بارح الهند إلى إنكلترة عام 1912
للدعوة إلى الإسلام وحده مستقلاًّ بنفسه، تاركًا عن طيبة خاطر ما حازه في بلاده
من مكانة عالية وشهرة واسعة في المحاماة، كانت تدر عليه أرباحًا طائلة، فلم
يتوقع له أحد من أهل وطنه نجاحًا فيما وطَّد العزم عليه، إلا أن الحوادث قد أثبتت
بعدئذ أن رحلته هذه كانت فتحًا جديدًا للإسلام في الغرب.
أقام الفقيد في ووكنج بإنكلترة وأنشأ فيها بنفقته الخاصة (المجلة الإسلامية)
فاتسعت دائرة انتشارها وذاع صيتها مع الأيام ثم أنشأ في لاهور عام 1914 مجلة
مماثلة لها باللغة الأوردية باسم (رسالة إشاعتي إسلام) وكان يحرر المجلتين بما
عهد فيه من مقدرة وكفاءة نادرة مدة عشرين عامًا كانت وفاته في نهايتها، وفي عام
1913 تولى الإمامة بمسجد (شاه جهان) بووكنج، وبقيت له هذه الإمامة حتى
توفي. وقد كتب نحو مائة مؤلف في الإسلام والأديان الأخرى كان لها أثر محمود
في المعاهد والبيئات الدينية.
لم يكن يقول بشيء من الفوارق بين الفرق الإسلامية بل كانت كلها في نظره
سواء، وكان جُلُّ مراده وأهم مقاصده أن يعود الإسلام إلى ما كان عليه في عصر
النبوة من البساطة والنقاء، ولعل هذا القصد كان سر نجاحه وإثمار جهاده، فهدى
الله تعالى به وحده إلى الإسلام ما ينيف على ألف نسمة من الإنكليز من رجال
ونساء، منهم لورد هدلي الشهير.
وقد طاف الفقيد أوربة وأفريقية والشرق الأدنى والأقصى داعيًا إلى الإسلام
ناشرًا لواء هدايته، وحج البيت الحرام مرتين أولاهما في عام 1915 والثانية مع
لورد هدلي عام1923.
وكانت في حياته عنوان البساطة والتضحية في سبيل الإسلام وإعلاء شأنه
ورفع مناره، وقد انهمك في أواخر حياته بترجمة القرآن وتفسيره بالإنكليزية مع ما
كان عليه من ضعف فخشي عليه الأطباء مغبة الانهماك وتحميل نفسه فوق ما
تستطيعه، ونصحوا له ترك العلم ريثما يسترد قواه، فلم يأبه لنصحهم وتابع ما
شرع فيه، وكان له في الهند أملاك تقدر بنحو لك ونصف (أي مائة وخمسين ألف
روبية) .
وفي عام 1927 عندما شعر بثقل المرض عليه وقف جميع أملاكه لبعثة وكنج
الإسلامية، وأما حقوق مؤلفاته والمجلة الإسلامية فقد جعل الحق فيها للجمعية
الإسلامية في لاهور.
كان الخوجا كمال الدين ذا شخصية فذة، وكان خطيبًا مُفَوَّهًا يقف في الجماهير
ساعات بطلعته المهيبة فلا يشعرون خلالها بملل ولا سآمة. وكانت صفاته الممتازة
تحببه إلى جميع عارفيه ورواد مجلسه، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه قد انتقل إلى الدار
الآخرة تاركًا كل من اتصلوا به أصدقاء ليس بينهم عدو واحد، وقد خدم الإسلام
أجلّ خدمة، ولم يكن له نظير في وقتنا هذا. وسيكون من الصعب بل من المستحيل
ملء الفراغ الكبير الذي أحدثه فقده، تغمده الله بالرحمة والرضوان اهـ.
__________(33/138)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
إننا لكثرة أعمالنا، ومنها انفرادنا بالتحرير والتصحيح للمجلة ولكثير من
مطبوعات دار المنار لا نجد فرصة نطلع فيها على ما يهدى إلينا من المطبوعات
لنقضي حق أصحابها وحق الأمة علينا بتقريظها ونقدها فكنا نرجئه من سنة إلى
أخرى رجاء اقتناص الفرص ولا تزال تفر منا، فنحاول ذكرها على سبيل التعريف
الوجيز كما تفعل بعض المجلات فيعز علينا ذلك فيما نراه كبير الفائدة فنقرظ في
العام قليلاً منها، وإننا نفتتح هذه السنة بالتنويه بأهمها مبتدئين بكتاب جليل في خاتم
النبيين وهو:
(محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل)
مؤلفه الكاتب الإسلامي الاجتماعي العالم الديني العصري الأستاذ محمد أحمد
جاد المولى المفتش بوزارة المعارف، وقد طبع في مطبعة دار الكتب المصرية
بالقاهرة سنة 1349 على ورق جيد بحروفها الجميلة، وأعيد طبعه في هذه السنة
1351 فيها أيضًا. صفحاته 271 صفحة.
تدخل (محتويات الكتاب) بعد المقدمة في عشرة أبواب:
(1) عنوانه: إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترد الفضائل جميعها.
(2) محمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل.
(3) الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي اقتضت بعثته.
(4) مراحل حصول النبوة واستقرارها.
(5) الأدلة القاطعة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
(6) محمد صلى الله عليه وسلم أكبر المصلحين نجاحًا.
(7) محمد صلى الله عليه وسلم أوفى الأنبياء دينًا.
(8) محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق.
(9) محمد صلى الله عليه وسلم أجدر الناس بالإيمان به ومحبته واتباعه
وطاعته.
(10) موجز السيرة النبوية.
وفي كل باب من هذه الأبواب مسائل مهمة مفصلة أحسن التفصيل بأسلوب
فصيح لا تجدها مستوفاة في كتب السيرة المطولات، وما يوجد فيها منها يعسر
استخراجه على أكثر القراء في هذا الزمان، فهو قد استخرج الزبد من تلك الألبان
الروحانية التي لا يتغير طعمها، والعسل المُصَفَّى من تلك الثمار النبوية الشهية
البالغة، ببيان تلذ قراءته جميع الناس، وتفيد جميع القارئين، ولكنه قد عَدَّ في
الأدلة العقلية على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم ما هو من الفضائل الأدبية
والمزايا الاجتماعية؛ لأنها تؤيد الدليل العقلي في جملتها، كما عد ما ذكره من مزايا
القرآن في إعجازه معجزة في جملتها لا في كل فرد منها، وقال مثل ذلك الأحاديث
النبوية جميعها.
وأورد كثيرًا من الأحاديث في أبوابه غير مُخَرَّجَة لنقله إياها من كتب
المتأخرين فكانت مختلفة الدرجات، ومنها رفع ما ليس بمرفوع، ولا تخلو ضعافها
من الموضوع، ومن ذلك أثر مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقط منه
متعلق الخبر المقصود وهو: (الناس بزمانهم أشبه) هكذا أورده في الشواهد على
إيجاز النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مرفوع ولفظ الأثر (أشبه منهم بآبائهم)
ومثل هذا الكتاب في نفاسته وعظم فائدته، وجدارته بالتدريس في المدارس الثانوية
أو العالية يجب ألا يُذْكَر فيه غير الأحاديث الصحيحة أو الحسنة المَعْزُوَّة إلى
مُخَرِّجِيهَا من حُفَّاظ السنة. وقد علمت أنه عازم على ذلك عند إعادة طبع الكتاب
مرة ثالثة، كما أنه عازم على إعادة النظر فيما كتبه من سوء حال الأمة العربية وما
كان من مساويها قبل البعثة المحمدية، وأن يزيد على ما ينقحه منها ذكر بعض
فضائلها التي أشرنا إليها في خلاصة السيرة المحمدية؛ وهي من مراجع هذا الكتاب
النفيس كما أن من مراجعه كتاب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ولعله نسي أن يذكرها
معها.
ومن حسن ذوق المؤلف وفهمه أنه سمى كتابه (محمد المثل الكامل) ولم يقل
(المثل الأعلى) لأن الله عز وجل قال في كتابه العزيز {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) وهو يفيد الاختصاص، فهل يعتبر بهذا هؤلاء الكتاب المجازفون
المقلدون الذين ابتذلوا هذا الوصف الأعلى فصاروا يبذلونه لكل من يمدحونه وإن
كان لا يستحق المدح بما دون هذا.
وإنني أنصح لوزارة المعارف ولمديري المدارس الأهلية الإسلامية بتدريس
هذا الكتاب في مدارسهم، ولسائر المسلمين بمطالعته.
وثمن النسخة منه 10 قروش صاغ، وهو يطلب من مكتبة دار المنار بمصر.
***
(كتاب الجنايات المتحدة في القانون والشريعة)
كتاب حديث في وضعه وموضوعه، ألفه وطبعه منذ سنتين الأستاذ الفاضل
(الشيخ رضوان شافعي المتعافي) خريج قسم التخصص في الشريعة الإسلامية
ومدرسة دار العلوم العليا (حاول فيه بيان مقدار المماثلة الإسلامية بين قانون العقوبات
الأهلية وشروحه وبين الشريعة الإسلامية) ويعني بالشريعة الإسلامية ما تقرر في
كتب الفقه المشهورة. والغرض من هذا أنه قلما يوجد في قانون العقوبات حكم لا
يوجد له نظير في كتب الفقه مثله أو خير منه فلا عذر إذًا لحكومة إسلامية كحكومة
مصر أن تستمد قانونها من كتب الإفرنج دون كتب الفقه الإسلامي، وهي تجد كل
ما يُحتاج إليه لحفظ الأمن وتأديب المعتدين في كتب الشرع الديني الذي تنسب إليه
دولتها، وتدين الله به أمتها. وهذا غرض صحيح طالما أَثْبَتُّهُ في المنار، وبينتُ
فوائده الدينية والاجتماعية والسياسية، واقترحت على العلماء الواقفين على الفقه
الإسلامي والقوانين الوضعية أن يؤلفوا فيه كتابًا أو كتبًا بأسلوب القوانين ويحملوا
الأمة على مطالبة حكومتهم بتنفيذه.
وقد فتح هذا الكتاب الجديد لهم باب العلم، وأورد لهم النماذج منه، فمهما
يكن من آرائهم في مسائله فما أرى أنهم يختلفون في صحة الغرض الذي ذكرناه،
وأنه قد آن وضع المشروع التفصيلي الذي اقترحناه من قبل لتنفيذه.
هذا وإن أكثر بضاعة المؤلف التي يعرضها في أمثال هذه المسائل يأخذها من
كتب الفقه الحنفي، وهي من مباحث الإسلام العامة وحكمته في التشريع لا من
المباحث المذهبية، ولذلك نراها قاصرة، ونراه عرضة للعثار إذا عرض لدلائل
الكتاب والسنة وما استنبط منها كعثرته فيما انتقده على تفسير المنار في مسألة الربا.
ومنه زعمه أن الربا حُرِّمَ في أول الإسلام بمكة بنص قوله تعالى في سورة: {وَمَا
آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ
تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) والآية لا تدل على
تحريم الربا ولا على فرضية الزكاة دلالة قطعية، لا على قاعدة مذهب الحنفية في
الفرضية والتحريم، ولا ظنية أيضًا، ولذلك لم يقل بدلالتها على الأمرين أحد من
علماء الصحابة والتابعين ولا أئمة الفقه، وإنما هي من قبيل قوله تعالى في سورة
سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 37) .
نقل هذا المؤلف جملة مما كتبناه في التفسير من التفرقة بين الربا المحرم
بنص القرآن القطعي، وما ثبت منه بروايات الآحاد الظنية وأقيسة العلماء، وهو
يتضمن ما أجمع عليه العلماء من أن الربا حرم بعد الهجرة بآية آل عمران وآيات
البقرة ورد علينا بزعمه أنه حرم في مكة بآية سورة الروم، وقرَّر الاستدلال بقوله:
(وقد تقرر في علم الأصول أن لفظ (ما) من صيغ العموم ولا شك في أن
الربا ذكر في آية الروم بلفظ منكر مبينًا للفظ ما يشمل كل نوع يسمى ربًا) .
ثم ذكر أن السنة الصحيحة لم تبين أنواع الربا، ولكن الأئمة استنبطوا من
الأحاديث التي صحت عندهم جميع الأنواع، فإذا كان القرآن بيَّنَها كلها فأيُّ حاجة
بعدُ لاستنباط الأئمة لها من الأحاديث؟
الحق الواضح أن آية سورة الروم لا تدل على تحريم الربا مطلقًا، فعموم
لفظها وعدمه سواء. وقد نقل المفسرون أنها نزلت في الهدايا والعطايا التي يرجو
باذلوها أن يعطوا من المقابلة عليها أكثر منها، رووا هذا عن ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير والضحاك ولفظ الأخير في تفسير الآية: هو الربا الحلال أن
تهدي تريد أكثر منه، وليس له أجر ولا وزر، ونهي عنه النبي صلى الله عليه
وسلم خاصة فقال: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) قال في الدر المنثور بعد
إيراده: وروى البيهقي في سننه عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن
محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه في الآية قال: الرجل يعطي الشيء ليكافئه
به ويزاد عليه فلا يربو عند الله، والآخر الذي يعطي الشيء لوجه الله ولا يريد من
صاحبه جزاء ولا مكافأة فذلك الذي يضعف عند الله تعالى. اهـ.
فعلى الأستاذ الشيخ رضوان أن يدقق في البحث ويطلع على الروايات ومسائل
الإجماع ومدارك الخلاف، قبل أن يتصدى للحكم الاستقلالي الاستدلالي في
الشرع.
***
(الإسلام دين عام خالد)
كتاب جديد للكاتب الاجتماعي المشهور الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي
مؤلف من مقالات نشرها في جريدة الجهاد السياسية اليومية ثم جمعها في سِفْر بلغت
صفحاته 190 صفحة من القطع الصغير، وصفه بقوله عنه (تحليل دقيق لأصول
الدين الإسلامي تحت ضوء العلم والفلسفة) وقد جاءنا نسخة منه في البريد والعهد
بصحابه أنه غضب علينا لانتقادنا بعض كتبه منذ ربع قرن أو أكثر، فما عاد يهدي
إلينا شيئًا من مصنفاته على ما كان بيننا من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى من
هجرتنا إلى مصر (سنة 1315) بل كتب مقالات شديدة في الطعن علينا: ونحن
قد أمسكنا عن الرد على ما نراه أحيانًا من الخطأ في كتبه، وفيما ينشره في الجرائد
لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل المذموم أو لما هو شر منه، وإن أدري أهو الذي
أهداني هذا الكتاب الجديد لثقته بأنه قد حرَّره واجتنب فيه الآراء الشاذة المنتقدة عند
أمثالنا من المشتغلين بالإصلاح الديني والتجديد الإسلامي وهو الأرجح، أم أرسله
إلينا غيره ممن يحبون الوقوف على رأينا فيه، وأَيًّا ما كان المُرْسِل والباعث على
الإرسال فقد صار من الواجب عليَّ أن أقرظ الكتاب وأبيِّن لقراء المنار خلاصة
رأيي فيه وفي صاحبه، على أنني لم أقرأ الكتاب بعدُ، وإنما أبني كلمتي المجملة
فيه على ما قرأته منه في جريدة الجهاد، وقد أراجع ذلك فيه للتثبت، وربما كان
هذا الإجمال هو الذي يضطرني إلى مطالعته، والتفصيل في نقده عند سنوح
الفرصة.
إن الأستاذ فريد أفندي وجدي كاتب سيال القلم في المباحث الاجتماعية
والمدنية الإسلامية، شديد التأثر والإعجاب بالفلسفة العصرية ومذهب استحضار
الأرواح، ولكنه مضطرب متناقض في كل ما كتبه عن الإسلام لقلة علمه بأصوله
وفروعه وكتابه وسنته وتشريعه، ومن أظهر هذا العلم الناقض المضطرب أنه يأخذ
رواية شاذة ظنية رجع عنها صاحبها في فرع خاص من الفروع العملية الظنية
كالرواية عن أبي حنيفة في صحة الصلاة بقراءة ما يجب فيها من القرآن مترجمًا
بغير العربية فيجعلها حجة على رفض إجماع الأمة وقاعدة كلية إسلامية يستدل بها
على شرعية ما فعلته حكومة الجمهورية التركية من ترجمة القرآن كله بالتركية
وإكراه شعبها على التعبد به - وإن اعتقدوا أن ذلك معصية لله أو كفر بدينه - ومِن
مَنْعِ الشعب من قراءة القرآن المنزل من عند الله باللغة العربية وعِقَاب من يقرؤه
ومن يطبعه، زيادة على استحسانه منها رَفْضَ جميع كتب السنة والشريعة العربية.
ومن المقرَّر في علم الأصول أن رأي المجتهد ليس حجة في الشرع، وأن
الاجتهاد لا يصادم الإجماع ولا النص، وأن القول الذي يرجع عنه المجتهد لا يُعَدُّ
مذهبًا له.
وأما هذا الكتاب فأرجو أن يكون أكثر ما فيه حسنًا أو نافعًا في جملته، ومن
الحسن فيه ما له قيمة غالية ووزن راجح، ومنفعة كبيرة، وهو بيان مزايا الإسلام
بالأسلوب العصري المقبول عند نابتة المدارس الدنيوية، وما ينقله عن علماء
الإفرنج من الثناء على عقائد الإسلام وتشريعه وحكمته وسيرة الرسول الأعظم في
إقامته وسيرة خلفائه وقومه العرب في فتوحهم وحضارتهم، ولكن ما فيه من الباطل
في مقصده، وما انفرد به من رأيه ومذهبه في فهم عقائد الإسلام وقواعده، قد
يجعلان إثمه أكبر من نفعه.
إن فيه كبوات ونبوات كثيرة منها ما لا يقال له عثار، ولا يقبل فيه اعتذار،
ومنها ما يحتمل التأويل، وما يتسع المجال فيه للقال والقيل، وسبب ذلك أنه لم
يدرس علوم الإسلام من تفسير كتابه وسنة رسوله وأصول عقائده وفقهه وفروعه
على أحد من العلماء ولا بنفسه دراسة علمية، إن كان من الممكن فهمها بدون التلقي،
وإنما معلوماته الدينية أمشاج علقت بذهنه من مطالعات متفرقة في الكتب
والصحف شِيبَتْ بالنظريات الفلسفية والاجتماعية الحديثة، فولدت له آراء منها
المقبول، ومنها الشاذ المردود بنصوص الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة، ويقع له
فيها التناقض والتعارض.
ولقد عهدته في شبابه أقل شذوذًا مما قرأته له في السنين الأخيرة من مقالات
نشرها في جريدة الأخبار ثم في الأهرام وشرها في انتصاره وتأييده لما فعلته حكومة
الجمهورية التركية من المروق من الإسلام ومحاربة كتابه وسنته وتشريعه ومحاولة
محو كل ما يُذَكِّرُ الشعبَ التركيَّ الإسلامي به وبنائها ذلك كله على دعوى ارتقائها في
التجدد الإنساني ارتقاء لا يمكنها معها أن تعتصم بدين قديم بَالٍ … ومن العجيب أن
هذا الكاتب الإسلامي وافقها على هذا المروق، وعلى تعليله كما أشرنا إليه في
كلامنا على محاولتها ترجمة القرآن بالتركية وكتابة الترجمة بالحروف اللاتينية،
ولكننا لم نصرح باسمه فيه، وكنت فهمت من مقالات هذا الكتاب، أنه نهض من
هذه السقطة وتاب، فإذا هو مُصِرٌّ عليها كما علم من رده على شيخ الإسلام السابق
صبري أفندي في صحيفة الفتح الغراء.
وأما شذوذه في هذا الكتاب فلا يصل إلى هذا الحد من الشطط الصريح، بل
هو مزمل بنظريات الفلسفة، ومزين بالمدائح المحسنة، ومسجى بالدفاع عن الملة،
وأول ما علق بذهني منه إذ قرأته في جريدة الجهاد هو أنه فسر الدين والوحي
والإسلام - وشأنه مع المنتهين من العلماء - تفسيرًا فلسفيًّا مخالفًا لما جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين، وفهمه منه وتلقاه عنه أصحابه والتابعون لهم وسائر أئمة
المسلمين، ولكنه غير بالغ من الصراحة ما يفهم مراده منه كل مسلم.
ومن تناقضه وتعارضه أنه يوافقنا على ما قرَّرْنَاه مرارًا كثيرة في توحيد
الإسلام لشعوب البشر وقبائلهم في جميع الأمور الدينية لتحقيق الأخوة الإنسانية
العامة ثم تراه ينقض هذا بتأييده للجمهورية التركية في أفظع شقاق حدث في الإسلام
بحجة عصبية اللغة وضرورة اختلاف التشريع، دع مخالفته في أساس الدين
وبعض أصوله وشذوذه في فهمها.
رأيه في أساس الدين وكون الإسلام هو الطبيعة:
إن أساس الدين الذي عرفه في المقدمة الأولى من الفصل الأول من هذا
البحث هو أن لهذا الوجود الظاهر روحًا عامًّا وأرواحًا خاصة بكل نوع من
الموجودات، وهذه الأرواح كلها تستمد حياتها ونظامها من الروح العام، ومنها
الإنسان فهو يستمد حياته الجثمانية من ذلك الروح كما تستمد سائر أنواع الحيوان
وكذا النبات، ولكن له روحًا عقليًّا آخر متصلاً بالحياة الروحانية العامة، وغاية الدين
القصوى هي اتصال روح الإنسان العقلي الخاص بروح الوجود العام اتصالاً ذاتيًّا
مباشرًا واندماجه فيه. وقد أخذ هذا الأسس من فلسفة وحدة الوجود الهندية التي فتن
بها بعض صوفية المسلمين معطلة التشريع، الذي قال فيهم الإمام الغزالي: إنهم قد
طووا بساط الشريعة طيًّا فيا ليتهم لم يتصوفوا.
ثم إنه جعل الناس ثلاثة أقسام في الثقافة العقلية: علماء منتهون، وأواسط
متعلمون، وعامة مقلدون، وقرر أن كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث تتطلب من
الدين ما يناسبها من الغذاء الروحاني، وأن الدين الذي يوفي كلا منها حاجاتها كلها
هو الدين العام الخالد، فإن لم تجده لجأت الإنسانية إلى شيء جديد. وقفَّى على
هذا ببيان ما تطلبه الطبقة العليا من الدين بقوله:
(لا يتطلب العلماء المنتهون أن يأخذوا عن الدين آدابًا وأخلاقًا، ولا أَنْ
يتعلموا منه أسلوبًا في الحياة ولا دستورًا في المعاملات يتفق وأصول العدل والإخاء
والمساواة، فإنهم وضعة المذاهب وبناة الأساليب، وصاغة الأصول، وإنما هم
يتطلبون من الدين أن يصلهم بروح الوجود إيصالاً مباشرًا يستمدون منه حياة
لأرواحهم، ونورًا لعقولهم، وسكنًا لنفوسهم، ومُطْمَأَنًّا لوجدانهم)
ثم وصف هؤلاء العلماء وصفًا خياليًّا شعريًّا في اشتغالهم بهذا الوجود وقواه
وآياته وعلله الأولية وحيرتهم في أسرار ذلك وخفاياه (وقال) : (فالتدين لديهم
صعود بالروح إلى قيومها واتصال به في عالمها) وصرَّح بأن هؤلاء العلماء
الأعلام يرون أن لا حاجة بهم إلى الأديان المعروفة، فهم يعتمدون في تدينهم على
ما غرس في الفطرة الإنسانية من الدين الحق، وقد حمل بعضهم اليأس من الأديان
الموجودة على وضع دين دعوه الدين الطبيعي) .
هذه مقدمات خلاصتها أن هؤلاء الذين سماهم العلماء الأعلام المنتهين قد
عرفوا كل الأديان الموجودة ولم يجدوا فيها حاجتهم إلى الدين الموصل لهم إلى ما
يتطلبونه من وصال روح الوجود مباشرة، وأن كل ما في هذه الأديان من أخلاق
وآداب وفضائل وتشريع ومعارف إلاهية هي دون ما يعرفونه وما وضعوه منها،
ونتيجة هذه المقدمات أن ما يسميه هو إسلامًا هو الذي يصلح لهذا العصر علماؤه
الأعلام ومن دونهم، وهو ما صرَّح به قبل الآن في جريدة الأخبار واشترط
لإظهاره والاقتناع به والتمهيد لقبوله أن يترك المسلمون هذا الإسلام الذي يعرفونه
تركًا تامًّا لأجل أن تكون الدعوة إلى الإسلام الذي يفهمه دعوة جديدة مرجوة القبول
أو مضمونة القبول.
وقد صرَّح في هذا البحث الجديد بأن هؤلاء العلماء المنتهين يجدون في دين
الإسلام القديم آية من كتابه موافقة لهم على مذهبهم الذي يذهبون إليه في تطلبهم لما
ذكر من وصال روح الوجود وقيومه مباشرة بلا وساطة وهي قوله تعالى في سورة
الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) يعني أنهم
بمقتضى هذه الآية على ما فسرَّها هو به مسلمون، وإن لم يعلموا ولم يعلم أحد من
المسلمين الذين لا يفهمون هذه الآية كما فهمها أنهم مسلمون، وبهذا دون غيره يكون
الإسلام دينًا عامًّا خالدًا على رأيه، والمعقول أن يكون الناس أشد تباينًا وتعاديًا في
دينه إن قبلوه مما هم عليه في أديانهم كلها.
وذلك بأنه فهم أن الفطرة في الآية هي الطبيعة البشرية نفسها، وأن الطبيعة هي
الإسلام المراد من الآية، ومن القرآن كله، قال في ص 26 (فهذه الفطرة فطرة
المولود قبل أن يلقن دينًا من الأديان وتعليمًا من التعاليم هو الإسلام الذي جاء القرآن
بالدعوة إليه) ثم قال: (فالإسلام لا يؤخذ بالتلقين، وإنما هو الطبيعة نفسها خالصة
من جميع المذاهب البشرية، فكل مولود يولد مسلمًا بطبيعته، فهي تؤدي إلى خير
المذاهب في مدى حياته بعلمه وعقله وتفكيره ولا يحتاج لمن يرشده إليه) ! ! !
لعَمْرِي إن هذا الكاتب لم يكتب هذا تحت ضوء العلم والفلسفة، بل كتبه وهو
غريق في تخيلات من الفلسفة وأوهامها، وآراء فجة في حقيقة الدين لم يتم
نضجها، وتجارب في مخاطبة الأرواح لم تبلغ درجة الحقائق العلمية، فمثَله فيها
{كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 40)
يرد على هذا الرأي أو المذهب أو الدين مسائل كثيرة متشابكة نذكر منهم ما
يتبادر إلى الذهن بالاختصار، فإن بسطها لا يمكن إلا بتأليف سِفْر خاص.
***
(مطبوعات دار الكتب المصرية)
أخرجت دار الكتب المصرية من مطبوعاتها الدورية في هذه الفترة ديوان
أيدمر المحيوي وديوان جران العود النميري على أدق ما يكون من الصحة وجمال
الطبع، وخدمة لنشر العلم والأدب جعلت ثمن النسخة الواحدة من كل منهما 25 مليمًا
للأفراد و20 مليمًا لباعة الكتب أو لمن يشتري عشر نسخ فما فوق.
ثم أنجزت طبع كتاب (ديوان نابغة بني شيبان) من فحول شعراء الدولة
الأموية، وهو كسائر مطبوعات الدار في دقة التصحيح وجمال الطبع، وثمن النسخة
الواحدة منه 40 مليمًا للجمهور، و30 مليمًا لأصحاب المكتبات أو لمن يشتري
عشر نسخ فأكثر. وتطلب مطبوعاتها منها ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(جريدة الجامعة الإسلامية)
جريدة يومية سياسية ذات 8 صحائف تصدر في ثغر يافا الفلسطيني لمنشئها
ورئيس تحريرها الأستاذ الشهير بعلمه وقلمه ووطنيته الشيخ سليمان التاجي
الفاروقي، وحسبي أن أقول في تقريظها: إن مسماها مصدق لاسمها، فهي تتحرى
في تحريرها وما تختار نقله عن صحف العالم مصالح المسلمين العامة من دينية
وسياسية، ولا تتحيز إلى حكومة من الحكومات الإسلامية دون أخرى، ولا إلى حزب
من الأحزاب الوطنية الفلسطينية أو زعيم دون آخر فيما فيه خلاف، بل تسالم الجميع
وتوادهم في دائرة المصلحة العامة، ولكن بلغت سعة الحرية منها أنها تنشر رسائل في
مدح خطة حكومة الجمهورية التركية وإطراء زعيمها فيما يخالف كاتب هذه الرسائل
فيه كل مسلم يدين الله تعالى بما جاء به محمد رسول الله وخاتم النبيين، ولعل عذرها
في هذه الحرية أنها تقبل الرد على هذه الرسائل لتمحيص الحقائق، وما ذكرت هذا إلا
ليكون استدراكًا على ثنائي عليها؛ لئلا يعد إقرارًا لهذه الرسائل، وتنبيهًا للمدافعين
عن الإسلام من قرائهم.
فأهنئ الأستاذ الفاروقي المجاهد الشجاع بجريدته، وأحث المسلمين على
تعضيده بنشرها ونشر آرائهم الإصلاحية فيها، وقيمة الاشتراك السنوي فيها في
فلسطين جنيه فلسطيني ونصف جنيه، وفي خارجها جنيهان وقيمة الجنيه
الفلسطيني والجنيه الإنكليزي واحدة، ومثلهما الدينار الحجازي والعراقي.
__________(33/141)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
(حال المسلمين أو العرب مع دول الاستعمار)
بيَّنا في فاتحة منار هذا العام حال الدول والشعوب الإسلامية في العالم كله،
ومنه أن دول الاستعمار المعادية للإسلام قد تقلص ظل نفوذها وبغيها عن مسلمي
الأعاجم ووجهت ظلمها وقهرها للأمة العربية في مهدها من جزيرة العرب وما
حولها من آسية وفي أفريقية، وهي الشعوب التي بذلت دماءها وأموالها في سبيل
هذه الدول في الحرب العالمية الكبرى. فهي تكافئهم على هذا بسلب ما بقي لهم من
استقلال وثروة ووحدة في آسية والقضاء على دينهم ولغتهم وثروتهم في أفريقية،
لماذا؟ لأنهم جهلاء متفرقون لا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم؟ فإن قوة العرب
في جزيرتهم كافية لكف عدوان الإنكليز عن الحجاز وفلسطين وسورية، لو لم
تجعل هذه الدولة بأسهم بينهم شديدًا، وتهددهم بتخريب بيوتهم بأيديهم.
وأما فرنسة فلا تزال تهدم دينهم في سلطنة المغرب الأقصى وإمارة تونس
اللتين علاقتها بهما علاقة حماية مشترط فيها سلامة دينهم وجنسيتهم بأشد مما تفعل
في الجزائر التي فتحتها منذ مائة سنة، وقد بلغ من اضطهادها للحرية الدينية فيها أن
منعت من عهد قريب علماء المسلمين من الوعظ الديني وقراءة الدرس في التوحيد
والفقه من جميع المساجد.
وقد كاد ينتهي العام الثالث على إصدارها الظهير البربري المشهور (في 16
مايو) الذي يخولها إخراج شعب البربر من دائرة الشريعة الإسلامية وجعلهم من
أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وهي لا تزال مصرة على تنفيذه بكل ما أوتيت من قوة.
وهي على هذا تنشئ سكك الحديد لوصل المغرب بمستعمراتها الداخلية في
إفريقية لتتمكن من حشد الجيوش منها إلى الساحل المغربي ونقلها إلى أوربة عند
اشتعال جحيم الحرب الآتية التي ستكون هي أكبر الأسباب لاشتعالها بسياستها
العسكرية المسرفة، ومحاولتها قتل الشعب الألماني صبرًا وقهرًا بحرمانه من
الاستعداد للدفاع عن نفسه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
* * *
(الجنسية الفرنسية في تونس)
وضعت الدولة الفرنسية منذ عشر سنين نظامًا لتجنيس مسلمي الإمارة
التونسية بجنسيتها لأجل إخراجهم من دينهم ومن جنسيتهم التونسية المعترف بها في
عقد حماية فرنسة لها، وقد حدث في الشهر الماضي أن مات أحد هؤلاء المتجنسين
فمنع الشعب المسلم أهله من دفنه بين المسلمين في مقابرهم لأنه مرتد، فتصدت
السلطة الفرنسية لقمع هذه الحركة وأرادت أن تستعين على هذه الجناية بفتوى
بعض العلماء الرسميين بنفوذ الوزير تُوهِمُ العامة أنه يمكن للمتجنس بالجنسية
الفرنسية أن يظل مسلمًا بأن يتوب من ذنبه، وحينئذ يصح أن يصلى عليه إذا مات
ويدفن في مقابر المسلمين، ولكن من المتفق عليه عند العلماء أن ركن التوبة الأول
هو الرجوع عن الذنب الذي صار به كافرًا مرتدًّا، وهو في هذه المسألة التجنس
المعلوم، يقال: إن الفتوى الرسمية صدرت، وإن العلماء الأحرار أنكروها،
والشعب نبزها ونبزهم، والرسميات لا مزية لها ولا رجحان على غيرها في عقائد
الإسلام؛ إذ ليس فيه باباوية ولا عصمة، فالجمع بين الإسلام والجنسية الفرنسية
مُحَالٌ، فحيا الله الشعب التونسي، وننصح لعلمائه وحكومته بألا تخذله في دينه،
ومن خذله منهم خذله الله وسنعود إلى الموضوع، إن شاء الله تعالى.
* * *
(فرنسة وسورية الشمالية)
لا تزال فرنسة مُصِرَّةً على تقسيم سورية إلى عدة دول وحكومات للإجهاز
عليها واستعبادها: دولة مسيحية في لبنان ودولة علوية في اللاذقية ودولة إسلامية أو
عربية في الشام ودولة دُرْزِيَّة في جبل الدروز. ولما رأت نفسها مضطرة لدى جمعية
الأمم إلى إلغاء الانتداب اقتداء بإنكلترة، خلقت مجلسًا نيابيًّا بقوتها العسكرية ومال
الحكومة السورية ومساعدة أنصارها الخونة وألفت حكومة سورية من أعوانها،
أرادت أن تضع مع هذه الحكومة ومجلسها معاهدة تحل محل الانتداب وتعني بالدولة
السورية المدائن الأربع المحصورة بين الصحراء وسورية الساحلية، فشعر الشعب
بإيقاظ زعمائه المخلصين بخطر هذه المعاهدة فهب لمقاومتها فنحثه على الثبات،
ونوجه نظر الدولتين العربيتين السعودية والعراقية إلى ما يجب عليهما من العطف
عليه، فإنه ذنبه الذي لا يغفر هو العروبة والإسلام، وتعذر جعله فرنسيًّا كاثوليكيًّا
كما يرجون من الدُّرُوز والنُّصَيْرِيَّة.
__________(33/151)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لبنان الكبير وطن مسيحي
(هكذا يقول بطرك المَوَارِنة الزعيم الديني السياسي)
نشرت جريدة المقطم رسالة لمراسلها اللبناني تاريخها 14 فبراير سنة 1933
فرأينا أن نسجلها في المنار؛ لأنها من أهم وثائق التاريخ لهذا الانقلاب الطارئ على
هذا الطارئ، وهذا نصها:
(في لبنان اليوم حركة خواطر لأسباب متعددة منها: انقضاء نحو ثمانية
أشهر على تعليق دستوره بحجة إصلاحه وتعديله وعدم ظهور شيء حتى الآن من
هذا التعديل. ومنها خوف أهل لبنان من العودة إلى الحكم المباشر. ومنها عدم
مفاتحة لبنان وأهله بأمر تحديد العلاقات بينهم وبين المنتدبين وإفراغ هذه العلاقة في
قالب معاهدة على المثال الذي جرى في بغداد والذي سيجري في دمشق. ومنها
المعارضة التي تتململ اليوم في لبنان لزحزحة حكومته الوقتية متوسلة بوسائل لا
تنتسب إلى برامج معينة في السياسة الوطنية.
هذه الأمور وغيرها مما تسبب عنه قلق في الأفكار في لبنان وحركة في
الخواطر دعاني إلى البحث في المراجع العالية من زمنية ودينية يرجع إلى رأيها
في حقيقة ما يتوقع أن يتم بهذه الأمور لإطلاع القراء على هذه الحقيقة فقصدت يوم
أمس إلى (بكركي) مقر كبير أحبار الطائفة المارونية غبطة البطريرك أنطون
عريضة لأخذ رأيه؛ ورأي البطريركية المارونية ما برح عليه المعول في شؤون
لبنان السياسية وإليه يستند المنتديون في كل ما يريدون إجراءه.
(دخلت على غبطة السيد البطريرك وهو في خلوته وأعلمته بمهمتي
فاستقبلني بترحاب فقلت: نحن اليوم يا صاحب الغبطة في دور دقيق جدًّا من حيث
مصير البلاد اللبنانية لا سيما أن سورية جارتنا تتحفز إلى الاستقلال الناجز على
مثال ما جرى في العراق فهل يمكن أن تتكرموا برأيكم في مصير لبنان، وفي
موقفه من هذا التحول في الانتداب في سورية؟
فقال غبطته: نحن طلبنا الانتداب الفرنسوي بمطلق إرادتنا ونحن نريد أن
يبقى عندنا الآن، ليس لأننا غير أكفاء للقيام بما هو مطلوب منا كشعب؛ بل لأن
للظروف أحكامًا، وأما أهل سورية فلهم رأيهم، وهم أدرى بما يوافقهم، فإذا كانت
المعاهدة أوفق لهم فنحن نرى الآن أننا ما زلنا في حاجة إلى هذا الانتداب الذي طلبناه
بمحض إرادتنا.
فقلت: يتحدثون كثيرًا اليوم بالوحدة السورية ويذكرون أسماء البلدان التي
يمكن أن تشترك في هذه الوحدة ويقولون: إنها إذا تمت على أساس اللامركزية لا
يضار لبنان بشيء. فهل لغبطتكم رأي في ذلك؟
فقال: إن لبنان كان لبنان، ونريده أن يبقى لبنان، فسورية بحالها ونحن
بحالنا.
فقلت: ولكنهم يا صاحب الغبطة يتشبثون بإرجاع الأجزاء التي ألحقت بلبنان
إلى سورية.
وما أتممت عبارتي هذه حتى التفت إلي العميد اللبناني بعينين برق نورهما
وقال:
ومتى كانت سورية مملكة لها هذه الأجزاء وسلبناها منها، إن هذه الأجزاء
هي أصلا للبنان وقد سلبت منه في الأزمان الماضية فإذا استعادها إليه اليوم استعاد
ما هو ملكه، واسترد ما هو حق له، وهي بلدان لبنانية الأصل أعيدت إلى لبنان.
ألم يكن لبنان ممتدًّا حتى إنطاكية وحتى عكا أو ما وراءها في الأيام السالفة؟ ولهذا
فإذا أعيد إلى ما كان عليه فإعادته هذه يجب ألا تعد تطاولاً منه على حق غيره،
وهذه الأجزاء التي يتألف منها الوطن اللبناني اليوم إنما كانت مع لبنان المعروف
في أيام المتصرفين أجزاء من ولايات أنشأها الترك فحلوا بسلخها عن لبنان الإمارة
اللبنانية، واليوم أعيد الحق إلى نصابه ولبنان إلى أصحابه.
ونحن نريده لعوامل شتى أن يبقى على ما هو عليه، والظروف تجبرنا على
ذلك.
(وهنا ذكر المكاتب حديثًا في دستور لبنان والحكم الوقتي فيه قال في آخره)
فقلت هنا: إن الإشاعات التي يتناقلها الناس اليوم متناقضة، والآراء فيها
مختلفة، فمنهم من يستحسن أن يكون للبنان حاكم من أهله، ومنهم من لا يريد أن
يكون للبنان إلا حاكم فرنسوي، وقبل أن أتم كلامي قال البطريرك: لا! لا! إننا
لا نريد حاكمًا فرنسويًّا للبنان، بل نريده لبنانيًّا محضًا.
فقلت: وماذا ترون في حاكمه الحالي فقال: إننا طلبنا أن يكون الحاكم
مارونيًّا، فقلت: لا أعلم إذا كنتم غبطتكم قد اطلعتم على البيان الذي أفضى به
المسيو بونسو أمام لجنة الانتدابات في جامعة الأمم، وفيه يذكر لبنان بين البلدان
التي قبلت الانتداب في هذه البلاد بطيبة خاطر، وذلك لاختلاف مذاهب سكانه،
وكيف سرد للجنة إحصاء لسكان لبنان وقال: إن جميعهم من الأقليات التي لا يمكن
لواحدة منها أن تسود الأخرى.
فقال غبطته: نعم نحن قبلنا الانتداب بطيبة خاطر، وأما الأقليات والأكثريات
وقولهم فيها فلا يعنينا ولبنان وطن مسيحي)
(المنار) في هذا الحديث عِبَر كثيرة للمسلمين لا نريد الآن أن نشرحها:
(منها) أن الرئيس الديني لمذهب الموارنة الكاثوليكي هو الزعيم السياسي
الأكبر لهم، وقد جعلوه بقوة فرنسة زعيمًا ورئيسًا سياسيًّا لجميع اللبنانيين
والمسلمون فيهم أكثر من الموارنة.
(ومنها) أن هذا الزعيم العام يطلب أن يكون حاكم لبنان مارونيًّا ويقرر أن
لبنان هذا وطن مسيحي. وقد كان لهذه الكلمة هزة في نفوس الطوائف الإسلامية
وبعض المسيحيين الذين لا يزالون يقولون: إن الأوطان في هذا العصر يجب أن
تكون للأقوام لا للأديان، فأراد بعض هؤلاء أن يزيلوا سوء تأثير كلمة البطرك
فنقلوا عنه أنه قال: إن كون لبنان وطنًا مسيحيًّا لا يمنع أن يكون فيه غير
المسيحيين، وهذا مما يعلم بالبداهة فإن العبرة بالحاكمية والسيادة العليا وفي جميع
الأوطان الأوربية وغيرها سكان وطنيون من غير أهل دين الدولة ذات السيادة.
يا حسرة على لبنان، كان متمتعًا باستقلال عديم المثال، فسلبته منه (الأم
الحنون) وجعلته شر آلة لسلب استقلال سورية كلها، وأبناؤه البررة لها لا
يشعرون، فلا قومية ولا وطنية ولا سياسة ولا إدارة، فأين ما كانوا يدعون؟
__________(33/153)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاتفاق بين الدولة السعودية
وحكومة شرق الأردن
من أهم أنباء العالم الإسلامي فوز السياسة الإنكليزية بحمل كل من ملك
العربية السعودية وأمير شرق الأردن على الاعتراف بحكومة الآخر، والاتفاق
بينهما على نحو مما سبق في التأليف بين الأول وملك العراق وحكومتيهما. وإن
هذا الاتفاق ليسر كل عربي وكل مسلم، وإن استاؤوا من كونه بسعي الإنكليز
لمصلحة الإنكليز بشرط ألا يتضمن نصه الرسمي اعتراف الأول بقاء منطقة العقبة
ومعان الحجازية تابعة لإمارة شرق الأردن الإنكليزية، (نعم هي إنكليزية بالفعل
سواء سمي استيلاؤها انتدابًا أو ملكًا أو خدمة أو عبودية) فإن كانت نتيجة هذا
الاتفاق بقاء السلطة البريطانية في خليج العقبة وتصرفها فيه، وفي منطقته إلى
معان، فالربح والفوز لها وحدها، والغبن والخسار على الإسلام والمسلمين ولا
سيما عرب الحجاز ونجد، وحكومة الحجاز تكون شريكة لحكومة شرق الأردن
الصورية في إثمه الذي كان لاصقا بأميرها وأخيه وحدهما. أقول هذا على فرض
تسليم الملك السعودي بذلك وهو ما لا أظنه فيه، بل يغلب على ظني أن تبقى
المسألة معلقة ومؤجلة إلى مفاوضة أخرى. والواجب على المسلمين على كل حال
أن يهبوا في كل قطر لحمله على مطالبة الإنكليز بالخروج منها وإرجاعها إلى
الحجاز، وكذا سكة الحديد الحجازية بما سأعود إلى بسطه بعدُ.
__________(33/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عسرة الحجاز وهضم حقوقه
يقول بعض حجاج هذا العام: إن ألوفًا من أهل الحرمين يموتون جوعًا في هذا
العام بشدة العسرة وقلة الحجاج ولا سيما أهل البادية وحكومة مصر تتمتع بمئات
الألوف من أوقاف الحرمين، وهي لا ترحمهم ببذل حقوقهم لهم، وأهلها أقرب
المسلمين إليهم، وهي أعلمهم بحالهم، بل اشتهر أن هذه الحكومة تستولي على ريع
أوقاف الحرمين الأهلية المستحق للحجاز من نظارها وتمنعهم من إرساله إلى
مستحقيه، أفلا تخاف وترعى حرمة رسوله صلى الله عليه وسلم في جيرانهما وأهل
حرمهما؟ دع حقوق الإسلام الخاصة، والرحمة الإنسانية العامة؟
ولكن لعنة الله على السياسة التي لا تعرف دينًا ولا رحمة ولا إنسانية.
__________(33/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نداء من حزب الاستقلال العربي في فلسطين
إلى كل عربي كريم، إلى كل هيئة عربية،
إلى كل صحيفة عربية في أنحاء الأرض
يبعث حزب الاستقلال العربي في فلسطين نداءه هذا، وحالة العرب في
فلسطين قد انتهت إلى ما تهلع له القلوب، وتضطرب النفوس، وتهتز المشاعر،
إذ أخذ المستقبل المشؤوم يبدو كالحًا مظلمًا، والخطر الملاشي لكيان العرب يتجسم
يومًا فيومًا، ويحدق بهم إحداقًا مفزعًا منبعثًا من ناحيتين كبيرتين، هما ناحية بيع
الأراضي خاصة، وناحية الحكم الاستعماري المباشر في فلسطين عامة، وكلتا
الناحيتين تؤديان إلى تلاشي العرب وانهيار بنيانهم القومي، وانسلاخهم عن أرض
آبائهم وأجدادهم بفعل السياسة البريطانية الصهيونية.
أما مشكلة الأرض، فقد بلغت حدها الأكبر من الخطر، إذا نشط اليهود في
المدة الأخيرة لابتياع الأراضي نشاطًا عظيمًا، وهي الأراضي العربية القليلة التي
بقيت بأيدي العرب، والتي إذا تسنى لليهود ابتياعها - وأكثرها واقع في السهول
الساحلية ذات القيمة الزراعية الجيدة - أصبح اليهود يملكون معظم الجهات الساحلية
الخصبة في البلاد، سلسلة متصلة الحلقات، وظاهر ما في هذا من خطر ينذر
البلاد بسوء المصير، يضاف إلى هذا الخطر، خطر آخر مُمَاشٍ له جنبًا إلى جنب،
وهو الهجرة الصهيونية وإغراق فلسطين بسيل عرم من المهاجرين اليهود يدخلون
البلاد بجوازات سفر وبطرق غير مشروعة، كل هذا نتيجة استقتال اليهود لبناء
المملكة اليهودية في فلسطين، على أنقاض الكيان العربي المتداعي إلى السقوط
والانهدام.
ولقد أصبح أكثر من ستة وثمانين ألف عائلة عربية لا أرض لها ومن دون
مأوى ولا كسب، وثبت هذا بشهادة التقارير الرسمية التي وضعها الخبراء الإنكليز
الذي كلفوا درس الحالة درسًا دقيقًا، وكانت النتيجة الواقعة حتى اليوم أن انتقلت
أجود الأراضي إلى اليهود، وانزوى العرب في المناطق الجبلية القاحلة.
ولذلك باتت فلسطين تشهد كل يوم مآسي انهدام مكانها، بذهاب قرية بعد
أخرى، والأراضي قطعة بعد قطعة، وتشرد المزارعين وهيامهم على وجوههم إلى
حيث الفناء والدمار، هم وعيالهم وأولادهم!
يجري هذا كله جريًا مُطَّرِدًا سنة فسنة، والسلطة الإنكليزية في فلسطين مُمْعِنَة
في حكم البلاد حكمًا استعماريًّا مباشرًا ثقيل الوطأة، مسلحًا بأقسى ما عرفه البشر
من ضروب التقنين والتشريع والأنظمة، مما تدأب السلطات البريطانية في وضعه
وتكبيل البلاد به، وتمهيدًا لإنشاء الوطن القومي اليهودي، وقد بلغت الحال خلال
الخمس عشرة سنة الأخيرة من الويل والإرهاق مبلغًا يعز وصفه ويصعب تصويره،
فأصبح العرب وليس لهم من أمر بلادهم ووسائل حمايتهم شيء، ولم تلتفت
السلطات البريطانية إلى شيء من أنين الشعب العربي وتظلمه وشكاته، طالبًا
وضع حد لهذه الغزوة الصهيونية المجتاحة، وسن قانون عاجل يمنع بيع الأرض
من العرب إلى اليهود منعًا باتًّا، ويغلق باب الهجرة الصهيونية، وطالبًا أن يتسلم
مقاليد حكم نفسه بنفسه، حفظًا لكيانه، وهو العلاج الطبيعي الوحيد الذي بغيره
تظل فلسطين تتردى في الهوة السحيقة حيث الفناء المنتظر، فتمثل فاجعة الأندلس
ثانية دون أن يغني فيها ندب ولا عويل!
ويُسار بالوطن القومي اليهودي في قلب البلاد العربية وعلى كتف الجزء
الشمالي من جزيرة العرب، والأقطار العربية المجاورة لم تقم بعمل بعد تشعر منه
السياسة البريطانية بتضافر العرب على دفع الكارثة، ودرء هذا الخطر الذي إذا
استفحلت غزوته، فسيشمل غير فلسطين لا محالة، كما أخذت الدلائل في شرق
الأردن تدل عليه في هذه الفترة الأخيرة.
فحزب الاستقلال العربي في فلسطين، وهو يرى كل هذا حاضرًا، ويقيس
على الواقع، المصير المتوقع مستقبلاً، يناشد كل عربي كريم وكل هيئة عربية،
في أنحاء الأرض، ويناشد أهل البلاد العربية الشقيقة، إلى التضافر والتآزر مع
إخوانهم عرب فلسطين في رد هذه النكبة التي كادت تأتي عليهم، وإلى الوقوف في
وجه السياسة الإنجليزية موقف المدافع عن حياته وبقائه وكيانه، ابتغاء وضع حد
لهذه الحالة المروعة التي كادت تفتك بقطر عربي وتذهب به فريسة المطامع
الاستعمارية والصهيونية، بيت المقدس 3 شوال 1351 28، ك 2، 1933.
__________(33/157)
الكاتب: موسى كاظم الحسيني
__________
كتاب اللجنة العليا لصندوق الأمة بفلسطين
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فبالنظر لما يعهده المسلمون فيكم من
الغيرة على تراثهم الديني، والذَّب عن مقدساتهم، والرغبة في المحافظة على
كيانهم، يرى فريق منهم كان له شرف الحظوة لسدانة أولى القبلتين وثالث الحرمين
الشريفين، وما يحيط بها من مقدسات إسلامية، وبقاع جبلت بدماء المجاهدين الذين
لاقوا ربهم فيها دفاعًا عن كيانها جيلاً بعد جيل، أن يرفعوا لجنابكم هذه الكلمة
الموجزة عما وصلت إليه حالتها من خطر الخروج - لا سمح الله - من أيدي
المسلمين إلى أيدي اليهود، إن لم يتداركها المسلمون وعلى الأخص ملوكهم
وأمراؤهم وزعماؤهم بعنايتهم ويعملوا متكاتفين لإنقاذها قبل أن يقع المصاب ويحل
الندم، ولات ساعة مندم.
إن السياسة الصهيونية التي ابتليت بها فلسطين وأهلها ترمي إلى (وضع
البلاد في حالات سياسية واقتصادية وإدارية تساعد على إنشاء وطن قومي فيها
لليهود) وكانت أهم مساعي اليهود في تنفيذ هذه الفكرة منذ البدء متجهة إلى
الاستيلاء على أراضي البلاد المقدسة بأي وسيلة كانت، وإغراقها بالمهاجرين من
شذاذ الآفاق من يهود العالم، وإن الاستيلاء على الأراضي هو الذي يخيف المسلمين
ويجعل مقامهم فيها بعد الحصول إليه لا سمح الله مستحيلاً؛ لأن من لا أرض له لا
وطن له، ولا يمكن لقوم أن يعيشوا في بلاد أراضيها ليست لهم مهما كثر عَدَدُهم
وعُدَدهم. ولما كان بيع الأراضي وشراؤها أمرًا اقتصاديًّا تابعًا للقوانين والنواميس
والأصول الاقتصادية فقد وجد المسلمون في فلسطين وغير فلسطين، بعد معالجتهم
لهذا الموضوع مدة عشر سنوات أن من العبث العمل لحل هذه المعضلة بغير النواميس
والأصول. فالمسلم ذو العائلة مضطر عند الحاجة لبيع أرضه لإعالة أطفاله، والمدين
منهم يُرْغَمُ على بيع أرضه بواسطة المحاكم، وليس في أسواق الأراضي من يشتري
غير اليهود بأسعار بخسة. ولذلك كان من الحكمة والمصلحة لحفظ كيان المسلمين أن
تؤلف شركة لإنقاذ أراضي فلسطين لشرائها ممن يضطر إلى بيعها ثم تقسيمها
وتأجيرها واستثمارها لمنفعة الشركة، وفي ذلك حفظها من الضياع وإصلاحها
واستبقاؤها في يد العرب.
هذا هو الحل الوحيد الذي اتفقت عليه الآراء، وهذا ما أقره ممثلو الأمة
الإسلامية في مؤتمرهم الإسلامي العام المنعقد في المسجد الأقصى ببيت المقدس في
27 رجب 1350 كانون الأول 1931، لذلك وجدت لجنة صندوق الأمة العليا
الممثلة للمؤتمر العربي الفلسطيني الذي يتكلم باسم عرب فلسطين أن تنفذ هذه الفكرة،
فشكلت شركة باسم (شركة إنقاذ الأراضي في فلسطين) وجعلتها شركة مساهمة،
وتجدون …. طيه نسخة من نظام هذه الشركة القانوني برأسمال قدره عشرة
آلاف جنيه تزداد باضطراد إلى أن تبلغ مئات الألوف.
واللجنة إنما قامت بعملها هذا، مستندة على ما سوف تلاقيه من ملوك
المسلمين وعظمائهم، من الإقبال على ابتياع أسهمها دفاعًا عن كيان هذه البلاد
الإسلامية المقدسة واستثمارًا لأموالهم فيكون في اشتراكهم فيها ربح من أموالهم
ودفاع مجيد عن ثالث الحرمين وأولى القبلتين.
إن أهل هذه البلاد الذين هم سدنة أماكنها المقدسة من عامة المسلمين يعملون
لإنقاذها مُضَحِّينَ بأموالهم وأنفسهم فمن العدل أن يقوم المسلمون البعيدون عنها وهم
أصحابها، وعليهم إثم التواني في الدفاع عن كيانها أن يمدوا يد المساعدة في مثل
هذا الأمر فيكونوا قد استثمروا أموالهم واشتركوا في الجهاد دفاعًا عنها، والله لا
يضيع أجر المحسنين.
بيت المقدس في 10 شوال سنة 1351 ... رئيس اللجنة العليا لصندوق الأمة ... ... ... ... ...
و5 فبراير سنة 1933 ... ... ... ... ... موسى كاظم الحسيني
ـــــــــــــــــــ(33/159)
المحرم - 1352هـ
مايو - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوطنية والقومية والعصبية والإسلام
(س1-6) من صاحب الإمضاء:
صاحب الفضيلة والعالم العلامة الشيخ رشيد رضا أطال الله عمره.
تحية وسلامًا. وبعد، فإن في بلادي إندونيسيا الآن حركة استقلالية قوية
وكفاحًا مستمرًّا بين الإندونيسيين والمستعمرين، ولسوء الحظ ظهر في وسط هذا
الجهاد، وفي خلال هذه المعمعة والنضال فريق من علماء الدين، والحاملين لواء
الحق، يحرمون الوطنية، ويحاربون الوطنيين باسم الدين الإسلامي وتعاليمه
ويرمونهم بالمروق، ويغرون العداوة بين العامة والزعماء والقادة حتى أصبحوا بين
نارين نار المستعمرين، ونار علماء الدين، وهذا بلا شك بلاء عظيم.
أعلم تطور الحركة الوطنية في مصر، وأعلم أن رجال الدين فيها كانوا في
طليعة المجاهدين، والحاملين لواء الوطنية، وما كانوا يومًا ما من ألد أعدائها، نعم
أذكر رجال الأزهر، علماءها وطلابها الذين يقودون المظاهرة تلو المظاهرة،
ويسقطون في الميدان والشوارع، فلأجل هذا كله توجهت إلى مقامكم الكريم
لاستجلاء هذه الأمور والاستفهام عن الأسئلة الآتية، فإذا تكرمتم بالجواب فقد أسديتم
للأمة الإندونيسية نعمًا عظيمة، وبينتم لها طرق الهدى، وسبل الحق، وهذه
الأسئلة هي ما يأتي:
(1) أصحيح أن هناك أحاديث تحرم الفكرة الوطنية القومية؟
(2) هل قوله: (لا عصبية في الإسلام) وقوله: (ليس منا من دعا بدعاء
الجاهلية) حديثان صريحان في تحريم الوطنية؟
(3) هل هناك فاصل بين العصبية والوطنية؟ وهل الوطنية داخلة في
معنى العصبية؟ ما هي العصبية عند العرب؟
(4) ما وجهة نظر الإسلام نحو الفكرة الوطنية، وهل هي تعارض الوحدة
الإسلامية؟ وما المقصود بالوحدة الإسلامية؟
(5) المعروف أن الشيخ محمد عبده الفيلسوف العظيم أبو الوطنية
والوطنيين؛ لأن في بيته في حلوان نشأ سعد واجتمع رجالات مصر، وما رأيكم
في هذا باعتباركم ناشر مذهبه وناشر تاريخ حياته!
(6) ما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم؟
هذه هي الأسئلة التي أرجو أن تتكرموا بالجواب عنها ويستحسن الجواب
على صورة مقالة متسلسلة، ولكم مني بالنيابة عن الأمة الإندونيسية جزيل الشكر
والسلام
... ... ... ... ... ... ... ... نصر الدين طه الإندونيسي
(جواب المنار) هذه الأسئلة في موضوع مسألة واحدة ذات شعب، وقد
قدمناها على غيرها؛ لأنها أهم من كل ما لدينا من الأسئلة، فنجيب عنها جوابًا
واحدًا مجملاً مختصرًا؛ لأن ما بعد هذه الورقة من هذا الجزء قد طبع فنقول: إن
العصبية عند العرب نسبة إلى العَصَبَة بالتحريك، وهم قوم الرجل الذين يتعصبون
له، أي يحمونه ويحامون عنه وينصرونه ظالمًا كان أو مظلومًا، وأصل العصبة
أقارب الرجل الذين يرثونه ثم توسعوا فيها، وهي مأخوذة من العصب، وهو شجر
اللبلاب الذي يلتوي على الشجر ونحوه.
ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أنه يحرم تعصب الظلم للأقارب وللقوم
والموطن ويحرم العداوة والشقاق بين المسلمين بتعصب كل فريق لقومه أهل بلده أو
إقليمه على إخوانهم في الدين وغيرهم إلا أهل الحرب، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه
وسلم بقوله: (العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) رواه الإمام أحمد، ومن
المعلوم من الإسلام بالضرورة أيضًا أنه يفرض على أهله عداوة من يعتدي عليهم من
الأجانب وقتالهم فقد صرَّح جميع الفقهاء بأن الجهاد يكون فرضًا عَيْنِيًّا إذا اعتدى العدو
على المسلمين أو استولى على بعض بلادهم، وهذا دفع للظلم، فمن الجهل الفاضح
أن يُحَرَّم عليهم، ويُسْتَدَلَّ على تحريمه بعصبية الجاهلية المنهي عنها في بعض
الأحاديث كالذي كان بين الأوس والخزرج من الأنصار رضي الله عنهم، هذا مجمل
الجواب عن الأسئلة الثلاثة الأولى.
وأما فكرة الوطنية العصرية فهي عبارة عن اتحاد أهل الوطن المختلفي
الأديان وتعاونهم على الدفاع عن وطنهم المشترك وحفظ استقلاله، أو إعادته إن فقد،
وعلى عمرانه، فهي لا تظهر في جزائر إندونيسية كظهورها في مصر، ونظر
الإسلام فيها أنه يوجب على المسلمين الدفاع عمن يدخل في حكمهم من غيرهم
ومساواته بهم في الأحكام الشرعية العادلة، فكيف لا يجيز اشتراكهم معهم في الدفاع
عن البلاد وحفظ استقلالها والعناية بعمرانها؟ وقد رفع الصحابة رضي الله عنهم
الجزية عمن شاركهم من أهل الذمة في الحرب في خلافة عمر رضي الله عنه، كما
بيَّنَّاه بالشواهد في الجزء العاشر من تفسير المنار.
وأما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم فهو أن يكون أسوة
حسنة لأهل وطنه على اختلاف مللهم ونِحَلِهِم ومشاركًا لهم في كل عمل مشروع
لاستقلاله وترقيته بالعلم والفضيلة والقوة والثروة على قاعدة الشرع الإسلامي في
تقديم الأقرب فالأقرب في الحقوق والواجبات، وأن لا يغفل في خدمته لوطنه وقومه
عن كون الإسلام قد كرَّمَه ورفع قدره بجعله أخًا لمئات الملايين من المسلمين في
العالم فهو عضو لجسم أكبر من قومه، ووطنه الشخصي جزء من وطنه الملي وإنه
يجب عليه أن يتحرى جعل ترقي الجزء وسيلة لترقي الكل.
وأما الوحدة الإسلامية فهي تتحقق ببضع روابط بيَّنَّاها في كتابنا (الوحي
المحمدي) وفي تفسيرنا ومنارنا، فراجعوها وراجعوا في الجزء الأول من تاريخ
الأستاذ الإمام (ص917) رأيه في الوطنية والدين، وفي الجزء الثاني منه مقالاته
في الجنسية وفي التعصب.
__________(33/161)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمتنا لتصدير كتاب
نقض مطاعن في القرآن الكريم
للأستاذ الفاضل الشيخ محمد عرفة
وكيل كلية الشريعة بالأزهر والمدرس فيها
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) ، {قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) .
إن من أكبر مصائب الأمة الإسلامية أن يبلغ بها الهوان في أكبر أمصارها
وأشهرها بالعلم، وأرجاها للحياة، أن تعلم أفرادًا من نابتتها من العلم ما ترجو أن
يكونوا به جندًا لها ينصرها على من يهاجمها من الأعداء في دينها وشرفها وأدبها،
فينقلبوا أنصارًا لأعدائها، ويهاجموها في أمنع معاقلها وحصونها، ويحاولوا هدم ما
لم تكن لولاه شيئًا مذكورًا، وإنما به كانت أمة عزيزة شديدة القوى، مرجوة الندى،
مرهوبة الشذا، ذات هداية عليا، وتشريع عادل، وحضارة زاهية به دانت لها
الأمم الكثيرة، وبه نالت الإمامة والملك، ثم يوجد من حكامها ووزرائها من يكرمهم
ويأتمنهم على تربية نشئها، وتعليمه بلغتها، ما هو شر من تعليم المجاهرين
بعداوتها، الذين يدعونها إلى الخروج عن دينها، ليتم لهم إخضاعها لسلطان أجنبي،
بغير منازع وجداني.
كان أجرأ هؤلاء العَقَقَة [1] كاتب بدأ تعليمه في الأزهر في الجامعة المصرية
في أول العهد بإنشائها، وصحب في هذا العهد من لقح ذهنه بالإلحاد، ثم أرسلته
الجامعة إلى فرنسة ليدرس أدب اللغات فيها، فغذت فرنسة ذلك اللقاح بما ظهر أثره
في العمل؛ إذ عاد إليها فجُعِلَ من أساتيذها ثم عميدًا لكلية الآداب فيها، وهو أستاذه
الأول في أفكاره، والمُرْكِس له في تياره.
حذق في صناعة الكتابة، فكان فيها ذا رشاقة خلابة، ألف كتبًا وأنشأ مقالات
دس في بعضها سموم الإلحاد، وفي بعض آخر مخدرات الإباحة والإغراء
بالشهوات، فنهد للرد عليه فريق من العلماء والأدباء، حتى ضج في الشكوى منه
مجلس النواب في عهد رياسة سعد باشا زغلول فأوشك أن ينتقم منه، ورفع أمره
إلى القضاء فكاد يقضي عليه، بَيْدَ أن أنصاره الأقوياء من كبار الوزراء آزروه
وظاهروه حتى أنقذوه. ثم قدر الله تعالى أن تخرجه وزارة المعارف من الجامعة في
العام الماضي في إثر حملة شديدة جديدة في مجلس النواب، أظهرت للأمة من
جنايته على طلبة كلية الآداب فيها ما يرى القراء نقضه في هذا الكتاب.
سُرَّ جميع أهل الغيرة على الدين بإخراجه من الجامعة، وإنه ليسرهم أن
يسمعوا اليوم من الأزهر الشريف صوتًا جهوريًّا في نقض ما أذاعه مجلس النواب
من طعن هذا الكاتب على القرآن العظيم، صوت عالم أزهري، وأديب عصري،
وكاتب مجيد غير سياسي، ينقض هذه المطاعن الأخيرة، وأن يصدر نقضه لها
عن دار المنار، التي أُسِّسَتْ من أول يوم لخدمة الإسلام، فكلانا بريء من سياسة
الأحزاب فلا نحن من أحزاب الحكومة ولا من أحزاب المعارضين لها، ولا من
خصومهم ولا من خصومها، وإنما ننصر ديننا، ابتغاء مرضاة ربنا، فيما يجب
علينا لأمتنا ودولتنا.
ونتمنى لو يصرح هذا الطاعن بأن جميع ما صدر عنه من الطعن على القرآن
قولاً في الدرس، وكتابة في الطرح، كان باطلاً، وأنه رجع عنه وتاب منه. وأنه
يؤمن بأن القرآن كلام الله كله حق {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) فإن ما نقل عنه من أنه قال: إنه يؤمن بالله ورسله لا يكفي في
صحة توبته مما ذكر، على أن هذه المطاعن التي ألقاها في دروسه كانت بعد تلك
الكلمة التي كان سببها تحقيق النيابة العامة معه في مطاعن كتابه (في الشعر
الجاهلي) .
اختار الأستاذ صاحب هذا النقض للمطاعن الأخيرة أن يطبعه في مطبعة دار
المنار لأنها أحق به، وأجدر بنشره، بل رغب إليَّ أن أشركه في أجره، بالوقوف
على تصحيحه، وبما يَعِنُّ لي من تعليق عليه، وبمقدمة تصدير له، فأقرن كلمه
الطيب بكلمي، وأعزز قلمه البليغ بقلمي، وإنها لرُغْبَى محبوبة للمؤمن بالطبع،
ومظاهرة على الحق واجبة في الشرع، وتعاون على البر والتقوى، أمرنا الكتاب
العزيز بها، وهو قد وفَّى النقض للمطاعن الجديدة حقه، وقَفَّى عليه بما كان من رد
له على ما قبلها من خطيئاته، فأدى الواجب في جزئيات المطاعن الخاصة، وزاد
عليه، وليس عليَّ إلا أن أقول كلمة وجيزة في النازلة وأهلها من الوجهة العامة.
النابتة العصرية من الكُتَّاب:
نبغ في الربع الثاني من هذا القرن الهجري نابتة من كُتَّاب الأدب والسياسة
والتاريخ، اقتفوا أثر الإفرنج في الأساليب، وما يسمونه النقد التحليلي في الكتابة،
ومزج الكلام بالنظريات الحديثة والمسائل العلمية، فكان لما يكتبون رواج ووقع
حسن عند جميع المتعلمين على المناهج الحديثة، وأصاب بعضهم به شهرة بما
تنشره لهم الجرائد التي يؤيدون سياستها، وما تقرظه من مصنفاتهم، ناعتة إياهم
بأجمل النعوت، والألقاب المحببة إلى النفوس، وناهيك بدعوى تجديد حضارة
الأمة، وقيادتها إلى حيث تساوي أمم الإفرنج في عظمتها، وتمتعها بزينة الدنيا
وطيباتها.
وإن لبعض هؤلاء الكُتَّاب مصنفات حرة مستقلة، وهم الذين يخدمون العلم
والتاريخ والأدب بباعث حب التحقيق، وإن لبعضٍ آخر أهواء سياسية وإلحادية،
لمنافع لهم شخصية، على ما بيَّنَّاه في المنار بالتفصيل، أشرنا إليه آنفًا بالإجمال،
وهو موضوع كلامنا هذا، وشره وأضره الطعن على القرآن الحكيم.
إذا كان يوجد في الأوربيين من يتمحل الطعن على الإسلام، ولا يتنزه عن
التسامي إلى انتقاد القرآن، فلهم على ذلك باعثان: باعث ديني وباعث سياسي.
وذلك بأنهم رأوا أن الإسلام قد غلب النصرانية على أمرها في الشرق، وكاد
يغلبها في الغرب أيضًا، بعد اعتزاز دولها، واستبحار ثروة كنائسها وإحكام نظمها،
فلم يجدوا وسيلة لصد تياره عن بلادهم، وسلبه لملكهم وتعريبه لشعوبهم إلا
بمحاربته بالافتراء عليه والطعن فيه، وبقتال أهله بالسلاح، ثم بالسياسة، فأحكموا
نظام الحربين بعد التمهيد لهما بتربية الشعوب النصرانية على بُغْض المسلمين،
وتلقينهم في البيوت والمدارس أن الإسلام هو العدو الأكبر للمسيحية، وما هو إلا
أخو المسيحية وصديقها، والمُدَافع عن حقها، والمتمم لإصلاحها، والمبرئ لنبيها
عليه الصلاة والسلام من طعن المفترين وشطط الغالين.
ويوجد منهم قوم آخرون لا يدينون بدين، وقد رأوا من معجزات القرآن ومن
أنزل عليه القرآن في العلم وهداية البشر وإصلاح شئونهم ما يلجئهم إلى الإيمان
والإذعان؛ إذ لم يجدوا لهذه المعجزات تأويلًا ينظمونها به في سمط السنن الكونية،
فتكلفوا التأويل لها؛ لإبطال كونها من خوارق العادات والآيات الإلهية، فهذه أسباب
طعن الإفرنج ومريديهم وتلاميذهم من النصارى والملاحدة.
وأما المسلم فلا يعقل أن يبعثه شيء على الطعن في كتاب الله وفي هدي
رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وآله، وهو برهان الكفر والردة، وكبرى
الجنايات القاتلة لهذه الأمة، فإن خفي عليه برهان شيء من عقائده، أو صحة شيء
من آياته، وجب عليه أحد أمرين: إما الجد في طلب العلم بالبحث عما جهل
والسؤال عنه، وإما تفويض الأمر في ذلك إلى الله تعالى.
بيد أن في المسلمين الجغرافيين زنادقة منافقين، وإن منهم ملاحدة شاكِّينَ،
وإن من زنادقتهم غاوين مشككين، يستخدمهم شرار أعداء الإسلام الدينيين
والسياسيين، وإن منهم من يزدلف إليهم بالتشبه بهم، وبدعوى (التنور) وحرية
الفكر والفلسفة، وإن من النابتة والعامة من ينخدع بشبهات هؤلاء وأولئك، وتغره
دعايتهم بما يزينها من خلابة القول، ووهم التجديد العصري، والانسلاخ من تقاليد
القديم الذي يصفونه بالخلق البالي، وإن كان كالفلك لا تخلق جدته، وكالشمس
والقمر لا تبلى محاسنه، ولا ينطفئ نوره، وهو القرآن الحكيم.
وإن لهذا التجديد دعاة من ملاحدتنا يوهمون الدهماء في بلاد الإسلام العربية
والأعجمية أن الإفرنج ما صاروا أقوى منا وأرقى ثروة وحضارة، وتمتعًا باللذات
والشهوات، إلا بالانسلاخ من الدين، فأول ما يجب علينا أن نفعله إذا أردنا أن
نكون مثلهم أن نتجرد أولاً من ديننا، فنكون إباحيين عبادًا لشهواتنا، ثم نطلب
علومهم وفنونهم فنكون مثلهم، وهذا غش وخداع بالكذب والبهتان، فهم أشد من
شعوب الشرق كلها إحكامًا لربطتهم الدينية وعناية بتعليم الدين ونشره، وبذل
الملايين في سبيله [2] .
ولكن لهؤلاء الدعاة للإلحاد والإباحة شبهات من فلسفة الإفرنج وأصول النقد
عندهم يروجون بخلابتها الطعن على القرآن بما يفترون عليه، فنحن نشير إليها
أولا ونُقَفِّي عليها ببطلان بناء نقدهم على قواعدها، فإذا هي وأهلها كمن قال الله
تعالى فيهم: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)
قواعد النقد العصري
من أصول النقد العلمي الفلسفي للكلام الذي يسمونه النقد التحليلي أن يعرف
أولا تاريخ صاحبه في مزاجه وتربيته الدينية والأدبية، وقومه وعشرائه، ووطنه
وحكومته، وأخلاقه ومعيشته، وأهله وولده، وعوارض حياته، وأطوارها
الاجتماعية والسياسية والشهواتية وغيرها، فمن المعلوم بالطبع والعقل أن كل ما
يعرض لإدراك الإنسان ووجدانه يكون له أثر في كلام صاحبه.
فلو كان الإنسان مفطورًا على الصدق وألا يقول إلا ما يعتقد، وألا يكتم شيئًا
مما يعتقد، وعلى التوفيق بين اعتقاده وما يعارضه من شعوره ووجدانه، من حب
وبغض، وخوف وطمع، لكان طريق النقد التحليلي للكلام مُعَبَّدًا مستقيمًا قَلَّمَا يضل
سالكه أو يعثر.
ولكن الإنسان خلق قادرًا على الصدق والكذب، وعرف من سيرة أفراده أنهم
يتبعون أهواءهم ومنافعهم، في كلامهم فيرجحون بها الكذب على الصدق، أو إخفاء
الحق على إظهاره، إما لجلب منفعة أو لدفع مضرة، إلا من كان له عقيدة دينية أو
حكمة عالية تعصمه من الكذب الصريح ولو بالتأول، وقليل ما هم. ولذلك قال
بعض الأذكياء: إنما وظيفة اللسان في الإنسان إخفاء الحقيقة عن الناس، ولا ريب
في أن الشعراء وكُتَّاب السياسة المكتسبين بشعرهم هم أبرع الناس في الكذب والإفك،
وإبراز الباطل في صورة الحق، والرذيلة في ثوب الفضيلة، والعكس. فهذه
مَدْحَضَةٌ من مداحض النقد التحليلي في الناقدين والمنتقدين، تتيح لصاحب البصيرة
أن يظهر خطأ هؤلاء الكتاب عندنا في كثير مما قالوه ويقولونه في تراجم شعراء
العربية ونقد رجال السياسة.
ومن هذه المداحض بعض ما يضعونه من الأصول والقواعد الواهية لطبائع
الأمم وأحوالها الاجتماعية ويرجعون إليها في نقدهم، كالذي كانت الشعوبية تقوله
في ذم العرب، ومنه بعض ما قاله الحكيم ابن خلدون بسريان دعايتهم في رأيه على
استقلاله فيه، وبنى عليه زعمه أن أكثر حملة العلم في الإسلام من العجم، دع ما
تخرص به بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم في هذا الباب، وهو ما
يعتمد عليه مقلدتهم منا في نقدهم التحليلي، تراهم يعرفون بداوة العرب ويجهلون
حضارتها القديمة في جزيرتها، ولا سيما السعيدة منها، وفعل جواليها في الحضارات
الكلدانية في العراق والفينيقية في سورية والمصرية في مصر.
ومن فروع الأغلاط الراجعة إلى هذه الأصول التي أخذها كثيرون بالتسليم
فجعلوها من القضايا البرهانية، قول بعض السابقين: إن سبب وضع علماء
الأعاجم لأكثر معاجم اللغة العربية ولكتب فلسفتها من النحو والبلاغة هو شعورهم
بالحاجة إليها لفهم هذه اللغة التي كان يفهمها أهلها بالسليقة.
وهذا قول باطل فمن ثم كان تعليله باطلاً، فإن الواضع لأول معجم للغة هو
الخليل بن أحمد وهو عربي، وأكثر واضعي سائر المعاجم من العرب كالفيروزآبادي
وهو قرشي صديقي، وابن سيده وهو عربي أندلسي، وابن منظور وهو عربي
أنصاري خزرجي، ولا تتسع هذه المقدمة للتمثيل لسائر العلوم اللغوية الشرعية.
ومن فروعها ما جرى عليه الدكتور طه حسين في محاضراته الأخيرة في
شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي، فقد تمحل فيما حاوله تبعًا لغيره من إثبات
نسب أعجمي لبعض هؤلاء الشعراء وغيرهم، وتمييز شاعريتهم عن غيرها من
شاعرية أقرانهم، بتأثير الوراثة الأعجمية في عقولهم ومخيلاتهم، في إثبات
الأنساب الأعجمية لبعض هؤلاء الشعراء نظر تاريخي ظاهر، وأضعف دلائله
الأسماء والألقاب، والنسبة إلى البلاد، ولكن النظر في إثبات الوراثة الأعجمية في
شعرهم أقوى وأظهر، فقد أتى على جيل الروم قرون كثيرة لم ينبغ فيها فيلسوف
ولا شاعر يقرن بشعراء العرب في جاهليتهم فضلاً عن شعراء حضارتهم، على أن
ملكة الشعر لم تكن شائعة منتشرة في الروم كالعرب فيرثها أكثر من كان من سلائلهم،
وإن بعدت من عهد علمهم وحضارتهم.
إذا تمهد هذا أقول:
نقد كُتَّاب الإفرنج للقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ومقلدهم المسلم:
إن كُتَّاب الإفرنج من دعاة النصرانية والملاحدة قد وضعوا القرآن المجيد
الحكيم والنبي الأمي الصادق الأمين على مشرحة النقد التحليلي، وأعملوا فيهما
مُدَاهم ومباضعهم، وآلات التحليل عندهم، اتِّباعًا لقواعدهم وأصولهم التي أشرنا
إليها، فكان عاقبة ذلك أن آمن من كان سليم الفطرة منهم غير جامد على الأفكار
المادية بنبوة محمد ورسالته، وكون القرآن كلام الله تعالى ووحيه إليه صلى الله
عليه وسلم، وتمحل بعضهم من التعليل والتأويل للمعجزات والآيات العلمية ما رآه
أقرب للجمع بين المعتاد والمعهود في استعداد البشر العقلي والروحي وسنن
الاجتماع، وما ثبت في تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم مما هو من خوارق
العادات، مع اجتناب المبالغة في ذم ولا مدح كموسيو مونتيه [3] ومنهم من عرضه
في قالب المدح بمثل ما شرحه كارليل في كتابه (حياة محمد) عليه الصلاة والسلام.
وأصر الفريق الثالث على افتراء الكذب والبهتان، وأعني بهذا الفريق دعاة
الكنيسة، وأعوانهم من رجال السياسة.
فأما رجال هؤلاء الطعانون المفترون، فالباعث لهم على عملهم خدمة ملتهم
ودولهم، وجهاد أقوى عدوٍّ لتعاليم كنائسهم وعظمتها على قاعدتهم المشهورة عنهم
بلفظ (الغاية تبرر الواسطة) يعنون أن الجريمة التي تكون وسيلة إلى مقصد حسن
- كالكذب - تكون بهذه النية من أعمال البر الشريفة، وهم مأجورون عليه من
جمعيات كنائسهم في الدنيا، والمؤمن منهم بكنيسته وقاعدتها المذكورة يرجو على
عمله ثواب الآخرة ودخول الملكوت.
وأما أولئك الناقدون من علمائهم المستقلي العقل مادحهم وقادحهم فإنهم رأوا
أنفسهم تجاه أعظم حادث في تاريخ البشر: رجل أمي ظهر في قوم أميين مشركين
من أبعد الشعوب عن الحضارة، وهداية الديانة، والتشريع والفتح وسياسة الشعوب،
جاءهم بكتاب فاق جميع كتب الأنبياء والحكماء في عبارته وهدايته، فجمع به
وعليه كلمتهم المتفرقة، وألف بين قلوبهم على ما كان من إحنة وضغن، وهذَّب
طباعهم على كبر السن ففتحوا العالم وصاروا أئمة أمم الحضارة وسادتها وملوكها،
كتاب معجز بأسلوبه ونظمه وعلمه، ونبي ذو معجزات في نفسه وأخلاقه وأعماله
وأمته، لا جرم أن هذا الحادث التاريخي الأعظم يحتاج إلى فهم ونقد وتعظيم وإكبار.
مع تكلف إدماجه في المعتاد من كبار العقول وأعلياء الهمم من الناس.
وأما مدرس الأدب المسلم في الجامعة المصرية التي أسستها الأمة المصرية
المسلمة بأموال أغنيائها وأوقافها، وكفلتها الدولة المصرية الإسلامية، فما الباعث
له على الطعن في نبيه الكريم، وكتاب ربه العلي العظيم، وجعل الطعن عليهما
درسًا في الأدب يلقح به أذهان طلبة كلية الآداب مصرِّحًا فيه (بأن الباحث الناقد
والمفكر الجريء لا يفرق بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) والمفروض أنه
مؤمن بأن القرآن كلام الله ووحيه، فلا يدخل في عموم تلك القواعد الموضوعة
لنقد كلام البشر؟
هل يستطيع مسلم جريء أو متهور ألا يفرق بين كتاب الله وبين أي كتاب
أدبي آخر، وإن كان ككتاب ألف ليلة وليلة، أو جريدة العجائب مثلا؟
أم هل يستطيع كافر بالله وكتابه ورسوله وقد أوتي حظًّا من بلاغة اللغة أو
نصيبًا من أدب النفس وعلم الأخلاق، أو خَلاقًا من علم الاجتماع وفلسفة التاريخ،
ألا يفرق بين القرآن العظيم الحكيم، وبين أيّ كتاب آخر؟
أم هل يُصَدَّق مَن يدعي عدم التفرقة في قوله، وقد اقتصر في نقده على
الطعن، وأسرف فيه حتى أربى على أولئك الأعداء الطعانين بما لا يعقل أنه يعتقده،
وهو ما يرى القارئ بيانه في هذا النقض؟
ألا إن من وراء المعقول أن يكون هذا من النقد النزيه، الذي يعبرون عنه
بالبريء فما سببه إذًا وما الداعي إليه؟
الفرق بين السور المكية والمدنية
من هذه المطاعن ما سببه الجهل بالمكي والمدني من السور، ومنها ما منشؤه
الجهل بما يدرك منها بالسمع والبصر كالذي زعمه في قصر الآيات في القسم المكي،
وطولها في القسم المدني، وهو ما ذكره علماؤنا ولم يبينوا سببه، ونحن نبينه هنا
بالإيجاز فنقول:
إن طول الآيات وقصرها مَنُوط بموضوعها، ولا دخل فيه لمكان نزولها،
فالآيات أو السور التي يراد بها الوعظ والزجر يحسن فيها أن تكون أقصر من آيات
الأحكام، وهي تكثر في القسم المكي؛ لأنه هو المناسب لحال المخاطبين، من
المشركين المعاندين، كما تكثر الأحكام التفصيلية في السور المدنية؛ لأن الخطاب
بها للمؤمنين المكلفين، على أن الآيات الطويلة التي قال: (إن الآية الواحدة منها
تزيد على عدة سور بتمامها من القسم المكي) قليلة جدًّا، بل لا تظهر تمام الظهور
إلا في آية الأحكام المالية من الدَّيْن والرَّهْن وكتابتها والاستشهاد عليها من سورة
البقرة، فهي أطول آية في القرآن تبلغ في المصاحف المطبوعة اثني عشر سطرًا،
وهي تزيد على عدة سور من صغار المفصل التي تتلى في الصلوات القصيرة
مكيها ومدنيها، فسورة النصر منها مدنية، وهي سطران فقط، وسورة الزلزلة
مدنية وهي أربعة أسطر، ومثلها سورة العاديات والمعوذتين، وكذا العصر في قول
وهي سطر واحد.
وآيات الأحكام التي قلما تبلغ نصف تلك الآية الطولى قليلة جدًّا كآيتي
المواريث في سورة النساء ودونها الآية التي في آخرها، وآية الوضوء وآية
الوصية في السفر من سورة المائدة [4] وما عدا ذلك من آيات السور السبع الطول
والمئين معتدل بين الطول والقصر، ومنها المكي والمدني، وإنما تكثر الآيات
القصيرة في قسم المفصل من القرآن لحكمتين: (أولاهما) أن أكثره وعظ وزجر
وعبر، وسوره أكثرها مكي، وهو المناسب لمقتضى الحال في مكة وأهلها لما كان
عليه أكابر أهلها في جحودهم وعنادهم وطول باعهم في البلاغة، لا لانحطاط
بيئتهم وسذاجتهم كما زعم، فإنهم كانوا أرقى العرب ذكاء ونباهة وبلاغة [5] .
(وثانيتهما) أنه أكثر ما يُتْلَى في الصلوات فرضها ونفلها، طويلها
وقصيرها، فالمناسب أن تكون آياته قصيرة وسوره قصيرة أو متوسطة ليكون كل
ما يقرأ منها مستقلا بالفائدة المتدبرة، والطاعن يجهل كل هذا على ظهوره؛ لأن
درس التفسير وحكمة القرآن لم يكن مما يُعْنَى به.
ومن هذه المطاعن ما سببه الجهل بفنون البلاغة أو الغفلة عنها أو تقليد
الإفرنج، وهو ما عبر عنه بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني، وقد سبقه إليه مستر
سايل وغيره، ولا يتسع هذا المقام لبيانه.
أخلاق النبي وأفعاله قبل الهجرة وبعدها:
تكلف النقاد من الإفرنج قبله أن يجدوا فرقًا بين السور المكية والمدنية وبين
أخلاق النبي وأحواله في مكة؛ إذ كان فقيرًا ضعيفًا، ثم في المدينة بعد أن صار
غنيًّا قويًّا، وما كان شرعه في البلدين إلا شرعًا في إبطال الباطل وإحقاق الحق،
وتقرير قواعد الإصلاح وإقامة ميزان العدل، وما كان في الحالين إلا مثلا في
الخلق والعلم (والشمس رَأَد الضحى كالشمس في الطَّفَل) وما كان مكي القرآن
ومدنيه إلا سواء في البلاغة المثلى على ما قيل في تعريفها من مطابقة الكلام
لمقتضى الحال، وعلى ما نقول من أنها عبارة عن بلوغ المتكلم به ما يريد من إصابة
موقع الإقناع من العقل، والوجدان في القلب.
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1) {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} (الزمر: 23)
فكان مقتضى الحال في مكة - وأهلها مشركون منكرون للبعث، مستكبرون
بما لهم من الثروة والرياسة في العرب، في الذروة من بلاغة اللسان، ولوذعية
الأذهان، وجرأة الجنان أن يخاطبوا بالنذر القارعة، والحجج الصادعة، بأبلغ
العبارات، وأفصح البينات، في الدعوة إلى التوحيد وأصول الدين، وقواعد
التشريع، وعقائل الفضائل، وهو ما ألممت ببيانه في مقدمة الطبعة الثانية للمجلد
الأول من المنار، التي كانت في سنة 1327هـ إذ قلت:
(قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل وقرع الأذهان بالخطابيات
الصادعة من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية، ولا سيما المنزلة في أوائل
البعثة قوارع تصخ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف،
وتَدُعُّ العقول إلى إطالة الفكر، في الخطبين الغائب والعتيد، والخطرين القريب
والبعيد، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال
وعذاب الآخرة، وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك، أنذرت
السور المكية أولئك المخاطبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام
عن ضلالهم وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة
السهلة، وليست بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد
الآباء والأجداد، بصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد.
(راجع تلك السور العزيزة ولا سيما قصار المفصل منها ك {الْحَاقَّةُ * مَا
الحَاقَّةُ *} (الحاقة: 1-3) ، و {الْقَارِعَةُ * مَا القَارِعَةُ} (القارعة: 1-2) ،
و {إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ} (الواقعة: 1) ، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) ،
و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق
: 1) ، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: 1) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) ، و {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: 1) .
تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعِبَرها، تفزعهم من
سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي صلى الله عليه وسلم من مكان إلى مكان:
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 50-51) {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ
صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (هود: 5) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في الأوامر
والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) إلى الآية 37 منها، وقوله بعد إباحة الزينة
وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
***
قصص القرآن ومزاياها،
والتشريعان الإسلامي والإسرائيلي
هذا ومما امتازت به السور المكية قصص الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وما
في معانيها من أصول دين الله العام، ومن بيان سننه تعالى في الأقوام، ومن العبر
والمواعظ في التهذيب، ونزاهتها من كل ما يُخِلُّ بالآداب، ومن سوء القدوة في
الأخلاق والأعمال، وهي تفضل بذلك كله قصص التوراة كما فصلناه في تفسير
المنار، وكذلك تفضلها وتفضل سائر كلام البشر بما في نظم عباراتها، واختلاف
أساليبها، من روعة البلاغة ودلائل الإعجاز الخاصة بها، وناهيك بإيرادها في
بعض السور بمنتهى الإيجاز والاقتصار على موضع العبرة، وفي بعضها بالإسهاب
والبسط المشتمل على كثير من أصول الهداية وسنن الاجتماع وأمهات الفضائل،
وفي بعض آخر بما هو وسط بينهما، مع اختلاف النظم والأسلوب والفواصل في
كل منها، بما يتجلى به الإعجاز أظهر التجلي من ناحية البيان، فوق الإعجاز من
ناحية الإخبار بالغيب، وتصحيح أغلاط التاريخ المأثور عند أهل الكتاب، وبيان
خلاصة دين الله (الإسلام) في العقائد والهداية التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام،
ونزاهتهم عما وصمتهم به كتب اليهود من النقائص والآثام.
ولو أن هذه القصص جاءت في السور المدنية لقال المغرور بفلسفة نقده
التحليلي: إن محمدًا أخذ أكثرها من التوراة؛ لأن أهل مكة كانوا يجهلونها، بل
كانوا يجهلون هذا النوع القصصي في كلامهم تاريخيه ووضعيه جميعًا، وقد
عدوا هذا من عيوب الشعر العربي ونقصه عن شعر الأعاجم، ولكانت هذه الشبهة
على قوله هذا أدنى أن تشتبه على طلبة الجامعة المصرية والعوام، من شبهته على
وجود تشريع الأحكام الشخصية والمالية والزوجية في القسم المدني، فإن الفرق بين
التشريعين الإسلامي والإسرائيلي في هذين النوعين وفي غيرهما عظيم جدًّا، كما
أن سبب تفصيله في المدينة دون مكة واضح جدًّا، وهو أن التشريع العملي مرتبط
بسلطان الحكم التنفيذي، فلا تشريع لمن لا يملك حكم التنفيذ، فالإسلامي أرقى
وأعلى من الإسرائيلي من كل وجه، وناهيك بكونه تشريعًا عامًّا لجميع البشر في
جميع الأزمنة والأمكنة، ومن أسسه: المساواة في الحق والعدل بين جميع الشعوب
والقبائل، وجميع الأفراد فيهما، لا يميز فيه بين ملك وسوقة، ولا بين شريف
ووضيع، أو غني وفقير أو قوي وضعيف، والتشريع الإسرائيلي خاص بشعب
خاص مبني على تفضيله على جميع الشعوب بنسبه (لحكمة موقوتة بيناها في
مواضع من تفسير المنار) فلا يستطيع هذا الشعب نفسه تنفيذه في هذا العصر إن
عاد له الملك الذي يسعى له، بل هم قد تركوا معظم أحكامه من قبل أن يفقدوا الملك،
والقرآن يعيب عليهم تحريف كتابهم وجهلهم به، وعدم إقامته، وإيمانهم ببعضه
وكفرهم ببعض، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن النظر في كتبهم،
وأخبرهم أن نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لو كان حيًّا لما وسعه إلا اتباعه؛
لأنه خاتم النبيين الذي جاء بالدين الكامل والشرع العام لجميع البشر، كما بشَّر الله
به موسى في التوراة، وكما بشر به عيسى عليه الصلاة والسلام المصلح في
شريعته، زد على هذا نعيه عليهم فساد أخلاقهم ولا سيما الحسد، والبخل، وأكل
السحت، واستحلال أكل أموال الناس بالباطل، ووصفهم بأنهم لا يفقهون ولا
يعقلون.
ألا يستحيي من يعلم هذا من مؤمن بالقرآن ونبي القرآن، أو كافر حر الفكر،
أن يفضل السور المدنية على المكية بتأثير مجاورة اليهود - وهذا حكمه عليهم -
ويدعي استمداد المهاجرين من ثقافتهم وتشريعهم، وهم الذين أصلحوا جميع شعوب
البشر بهداية القرآن، والتأسي بأكمل الخلق على الإطلاق؟ ؟ وقد أجمع مؤرخو
الإفرنج وغيرهم على أن أظهر أسباب نجاح الإسلام في انتشاره السريع وفتوحه
الكثيرة الظافرة ما كان عليه أهل الملل كلها من فسوق وفساد، والدول كلها من ظلم
واستبداد.
هذا ما يتسع له المجال من الفرق بين السور المكية والمدنية بالإجمال، وقد
التزمنا في تفسير المنار أن نكتب في آخر تفسير كل سورة خلاصة كلية لما في
السورة من الأصول والقواعد العامة التي تشتمل عليها، ومنها الفرق بين المكي
والمدني بالتفصيل. فمن راجع خلاصة سورة الأعراف المكية في الجزء التاسع من
تفسير المنار يرى في باب توحيد الله إيمانًا وعبادة وتشريعًا 12 أصلاً، وفي باب
أصول التشريع 9 أصول، وفي باب آيات الله وسننه في الخلق والتكوين 14 أصلاً،
وفي باب سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران 7 أصول.
ثم إذا راجع خلاصة سورة الأنفال المدنية في الجزء العاشر يجد في أولها
مقدمة في الفرق بين السور المكية والمدنية هذا نصها:
(ينبغي أن يتذكر القارئ أن جُلَّ السور المكية في أصول الإيمان الاعتقادية
من الإلهيات والوحي والرسالة والبعث والجزاء وغيرهما من عالم الغيب، وقصص
الرسل مع أقوامهم. ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب
والفضائل الثابتة، كما بيناه في خلاصة كل من سورتي الأنعام والأعراف. ويتخلل
هذا وذاك مُحَاجَّة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول، ودحض شبهاتهم،
وإبطال ضلالاتهم، وتشويه خرافاتهم.
وأما السور المدنية فتكثر فيها قواعد الشرع التفصيلية، وأحكام الفروع
العملية، بدلا من أصول العقائد الإيمانية. وقواعد التشريع العامة المجملة، كما
تكثر في بعضها محاجة أهل الكتاب، وبيان ما ضلوا فيه عن هداية كتبهم ورسلهم،
ودعوتهم إلى الإيمان بخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وفي
بعضها بيان ضلالة المنافقين ومفاسدهم كما يرى القارئ للسور المدنية الطول
الأربع (جمع الطولى) المتقدمة، وكل من هذا وذاك يقابل ما في السور المكية من
بيان بطلان الشرك وغواية أهله.
في سورة البقرة تكثر محاجة اليهود، وفيها تذكير كثير بقصة موسى معهم،
وفي سورة آل عمران تكثر محاجة النصارى [6] وفي سورة المائدة تكثر محاجة
الفريقين، وفي سورة النساء تكثر الأحكام المتعلقة بالمنافقين، ويليها في فضائح
المنافقين سورة التوبة الآتية. وتكثر في هذه السور الثلاث أحكام القتال، كما تكثر
في هذه السورة (أي سورة الأنفال) اهـ.
ثم إذا راجع خلاصة سورة براءة (التوبة) المدنية يجد في أولها ما نصه:
(هذه السورة آخر السور المدنية الطول نزولاً فيقل فيها ذكر أصول الدين، وما
يناسبها من الحجج العقلية والسنن الكونية، وكذا أنواع العبادات البدنية. اهـ.
ثم إذا هو قرأ الأبواب والفصول التي لخصنا فيها ما في السورتين من
الأصول والقواعد يجد أكثرها في قواعد التشريع الخاص بالقتال والصلح والعهود،
وأحكام المشركين والمنافقين وأهل الكتاب في ذلك، وكذا القواعد والأصول المالية،
وكل ذي إدراك يفهم أن هذا كله لا يعقل أن يكون إلا في القسم المدني دون المكي.
الحروف المفردة في أوائل بعض السور
إن هذه المسألة ما كان ينبغي لمسلم أن يقلد دعاة النصرانية في تشكيك طلاب
العلم في القرآن بها وجعلها من مباحث النقد التحليلي في الأدب، (أي كما فعل طه
حسين) وقد فنَّد الأستاذ الناقض لمطاعنه رأيه فيه، وذكرنا فيما علقنا عليه في
حاشيته ما سبقه إليه بعض المستشرقين منه، ونذكر هنا المختار عندنا في هذه
المسألة، وهو ما كتبناه في تفسير {المص} (الأعراف: 1) من أول سورة
الأعراف في الجزء الثامن من تفسير المنار وهو:
(المص) هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف،
ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا: ألف. لام. ميم. صاد. والمختار
عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير
مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد
هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء. فهي كأداة الافتتاح (ألا) وها
التنبيه، وإنما خصت سور معينة من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا
الضرب من الافتتاح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلوها على المشركين
بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة، وكلها مكية إلا الزهراوين
البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر
الكتاب إلا سورة مريم وسور العنكبوت والروم وسورة ن، وفي كل منها معنى مما
في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب.
فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها،
ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءًا كل منها بقوله
تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَاب} (مريم: 16) والمراد بالكتاب القرآن. فكأنه قال
في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ} (مريم: 16) وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في
سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا
إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:
49) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ
الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:
102) وختمت هذه السورة (أي سورة مريم) بإبطال الشرك وإثبات التوحيد.
ونفي اتخاذ الله تعالى للولد، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، فهي بمعنى سائر
السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم
النبيين وصدق كتابه الحكيم.
وأما سورة العنكبوت وسورة الروم، فكل منهما قد افتتحت بعد (الم) بذكر
أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة، فالأولى الفتنة في الدين وهي إيذاء الأقوياء
للضعفاء واضطهادهم؛ لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة. كان مشركو
قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه،
وأكثرهم من الضعفاء الذين لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء. وكان
المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم فبين الله في فاتحة
هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها
الصادقون من الكاذبين؛ ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وتكون العاقبة
للمتقين الصابرين. فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها.
والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه وبما سيعقبه مما هو في ضمير
الغيب، ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي قد طال أمره بينهما
فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم
الفرس في مدى بضع سنين، وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على
المشركين، وقد صدق الخبر وتم الوعد، فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات
القرآن، والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولو فات من تلاها
عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئًا، فكانت
جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان، وكان هذا بعد
انتشار الإسلام بعض الانتشار، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله
عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس، ولا سيما في موسم الحج. وكان
السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) وأما سورة (ن) ففاتحتها وخاتمتها في
بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون
عنه إلخ.
وقد بينت بعد ما ذكر حكمة هذا التنبيه الذي كان من إصلاح القرآن في
أساليب اللغة العربية، وكونه مما يقتضيه علم النفس، وبلاغة القول، وتأثير
الخطاب، فيراجع في التفسير فإنه مهم جدًّا.
(نصيحة) قد علمت أيها المسلم القارئ لهذه المقدمة، وهذا الكتاب أن
الدكتور طه حسين تكلم في القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولا
بإخلاص في النقد التحليلي، الذي يعلو القرآن على مدارك أهله وعقولهم وعلمهم
باللغة والدين والتشريع، وإذ كان القرآن أصل الدين فلا ينبغي للمسلم أن يأخذ علم
بلاغته وآدابه، ولا علم هدايته وتشريعه، إلا عن خواص العلماء بتفسيره، ويجب
أن يرجع إليهم فيما عسى أن يقرأه أو يسمعه لغيرهم من نقد أو طعن أو رأي فيه
يخفى عليه.
أما دعاية التجديد التي يبثها الملاحدة الإباحيون بعضهم لبعض ويخدعون بها
التلاميذ الأغرار، والمفتونين بتقليد الإفرنج فيما يسهل عليهم من طُرُز (بضمتين
جمع طراز) الزينة والشهوات، فليخبرونا أي شيء جديد جاءوا به مما يرقي الأمة
في اتحادها وأخلاقها وقوتها وعزتها لنبين لهم خطأهم فيه، ونحن نقول: إنهم ما
جاءوا بشيء جديد نافع قط، بل بالضار المفسد للأمة على أنه غير جديد، بل هو
الذي أفسد أمم الحضارة القديمة وأسقط دولها، وعقلاء أمم أوربة يخافون سقوطها
بمقتضى سنة الله فيمن قبلها.
وأما الأسلوب العصري في النقد الذي اعترفنا بحسنه في جملته فهو قديم أيضًا
وأول واضع لأصوله حكيمنا ابن خلدون، وجرى عليه شيخنا الأستاذ الإمام في رده
على موسيو هانوتو بما حمل هذا الوزير على اعتذاره للإمام، وجرى عليه أيضًا
في مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية الذي طبع مرارًا، ومنه هذا
النقض.
وأما ما يكتبه هذا الرجل وأمثاله في مسائل الأدب اللغوي والتاريخ فمنه
الصحيح المقبول، ومنه الزائف المردود، وإن تطبيق الحكم على الصحيح منها قد
يكون خطأ ظاهرًا، وقد يكون محل نظر واستدلال، كما وقع للحكيم ابن خلدون
واضع هذا الفن، وهذا شأن جميع علماء النظر العقلي والشرعي وغيرهم، فإن
خطأ الفقهاء في تطبيق الأحكام على قواعد الأصول أكثر من خطئهم في القواعد
نفسها.
ومن راجع ما كتبه بعض الحُذَّاق في النقد التحليلي التفصيلي لكتاب (في
الأدب الجاهلي) علم قيمة بضاعته المزجاة فيه، والتقليد المحض لكبار الحكماء
والعلماء ينافي العلم الصحيح، فما القول بتقليد من دونهم، و (الحكمة ضالة
المؤمن أين وجدها فهو أحق بها) {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .
__________
(1) جمع عاق بالتشديد اسم فاعل من العقوق وقد اخترته على العاقين على ثقل لفظه لمناسبة معناه، وللإشارة إلى عدم استعمال عقولهم في عقوقهم، على أن الإدغام يخفف الثقل.
(2) إن دول أوربة لتجدد العناية بالدين تعليما وتربية وقد قرأت اليوم برقية في الصحف بأن حكومة النمسة أمرت بجعل إقامة شعائر الدين في مدارسها إجباريا.
(3) هو مدرس اللغات.
(4) ومثلهما في الطول آية قيام الليل من سورة الزمل وهي من أول ما نزل بمكة وقيل أول سورة كاملة نزلت فيها.
(5) وتظهر البلاغة في الآيات القصيرة بأتم ما تظهر في الطويلة ولا سيما آيات القصص.
(6) كان سبب هذا مجيء وفد نصارى نجران ومحاجة النبي صلى الله عليه وسلم لهم.(33/193)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإسلام ووثنية الهند وزعماؤها
مقابلة ومقارنة ومفاضلة في التوحيد والتصوف
بمناسبة شهرة غاندي في العالم
الفصل الأول
(1) الإسلام نشأته الأولى وحاله اليوم:
الإسلام دين ودولة، ملة وأمة، ساد العالم بيسر تعاليمه الدينية وسماحتها
وقلتها وموافقتها للفطرة، وبعدل دولته العام، ومساواته بين البشر في الأحكام،
وجعل السلطان فيه للأمة التي تختار لنفسها الإمام، ويعد إجماعها من أصول
الأحكام، فتح بهذه المزايا ثلاثة أرباع العالم القديم في ثلاثة أرباع قرن تقريبًا،
واهتدى به عشرات الملايين فيه من جميع الأمم باختيارهم قبل أن يتم القرن الأول.
بيد أنه ابْتُلِيَ بعد عصر النور المحمدي وعصر الخلفاء الراشدين المهديين ببدع
تغلغلت في تعاليمه وتربيته الدينية بالتدرج فَكَثَّرَتْهَا وعَقَّدَتْهَا حتى جعلتها أضعاف ما
جاء الرسول الرءوف الرحيم عن رب العالمين، وجعلتها حَرَجًا لا يطاق احتمالها،
وسرت سموم فسادها في دوله فجعلتها استبدادية، وسلبت منها سلطة الأمة على
خلفائها وسلاطينها، بتأويلات رجال الدين والشرع وتحريفهم لها؛ لأجل أن
يشاركوا الحكام في السيادة عليها واستغلال ثروتها، ولكن انتهى بهم ذلك إلى عصر
ما عاد يطيق فيه الحكام أحكامهم فصاروا يبعدونهم من مناصب السياسة،
ويحرمونهم من منصات الرياسة، إلا أفرادًا منهم يخضعون العوام لنفوذهم، ثم أدى
ذلك إلى ترك بعض أحكام الشرع الإسلامي نفسه، ثم إلى ترك بعضهم له كله
أصوله وفروعه.
قام في الأمة رجال مصلحون يدعون الأمة إلى الرجوع إلى دينها الذي وصفه
الله باليسر وبرَّأه من الحرج، وترك كل ما عرض لأهله من الخرافات والبدع،
وإلى استعادة حقها في المراقبة على حكامها، والشورى في أحكامها، فناوأهم
زعماء البدع والخرافات من ناحية، وأرباب الاستبداد من ناحية ثانية، وما زالت
الحرب بين الفريقين سِجَالاً في جميع الأقطار الإسلامية، لم يستطع قطر منها، ولا
شعب أن يبلغ من الإصلاح العام، ما بلغته أوربة واليابان، ولا وثنيو الهند في
هذه الأيام، وسبب ذلك أن السواد الأعظم من شعوب الأمة لم يبلغ من الرشد أن
يفقه ما دعاه إليه المصلحون فيؤلف لهم عصبية تنصرهم على المبتدعين الخرافيين،
وعلى المستبدين المستكبرين، ولذلك كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى يقول: يا
وَيْح الرجل الذي ليس له أمة.
إن شئتم أيها المسلمون أن تفقهوا كلمة هذا الإمام المصلح الكبير فقد ضرب
الزمان لكم أكبر مثل لفقهها، ترونه بأعينكم، وتسمعون أخباره كثيرًا في صحفكم،
وهو زعيم الهند الكبير المهاتما غاندي.
(2) زعيم الهندوس وزعيما الإسلام وأمة كل منهما:
أتظنون أيها المسلمون أن غاندي أوسع من السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ
محمد عبده المصري علمًا بما تصلح به الأمم وتعتز وتنال حقوقها؟
أتحسبون أنه أشد غيرة على قومه ووطنه منهما على أمتهما وأوطانهما؟
أتحسبون أنه أقوى منهما إيمانًا، أو أقوى حجة وبرهانًا، أو أجرأ جنانًا
وأفصح لسانًا؟ أتتخيلون أنه أقوى منهما إرادة، أو أصح عزمًا وأشد حزمًا؟
أم تذهبون إلى أن سبب فوزه في سياسته، سخاؤه ببذل روحه في سبيل أمته
(وهو آخر ما أعجب به العالم من أخباره) وأنهما كانا يبخلان بها في سبيل أمتهما؟
كلا إن كل هذه الفروض والظنون والأوهام بعيدة عن ساحة حكيم الشرق
والأستاذ الإمام، فطالما عرَّضَا حياتهما للموت والقتل، بل يعتقد أكثر الناس أو
جميعهم أن أولهما قد قتل بالسم قتلا، ويظن بعضهم أن الثاني كذلك، ويرى أكثرهم
أنه قتل قهرًا. وكان على الرأي الأول مستر ألفرد بلنت صديق الإمام، كما صرَّح
به في مذكراته التي نشرت بالعربية في العام الماضي.
وأما هذا الوصال في الصيام الذي يصومه غاندي على دينهم في تعذيب الجسد
لتربية النفس فقد حرَّمه وأبطل قاعدته الإسلام الذي أعطى الجسد حقه والروح حقها،
على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل في الصيام وينهى عنه، ويعلل
وصاله بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه، أي يعطيه قوة الطاعم الشارب كما قالوا.
على أن هذين الإمامين المجددين قد فعلا لأمتهما وأوطانها ما لم يفعل غاندي
لأمته ووطنه: هما اللذان نفخا فيها روح الإصلاح الديني والسياسي والأدبي فسرى
في جميع شعوبها ولكنه لما يبلغ كماله بعدُ، إنما ظهر غاندي في أمة فيها ألوف من
رجال التعليم العالي والتربية الصوفية المبنية على الإيمان بوحدة الوجود، وقوة
الإرادة وبذل المال والنفس فيما توجبه العقيدة، مع ثروة واسعة، وجمعيات منظمة،
فوجه إرادته إلى إكمال ما بدأ به غيره من السعي للوحدة والاستقلال.
وأما أمتهما الإسلامية فكانت عند ظهورهما معتلة منحلة، ليس فيها تربية
دينية ولا سياسية، ولا جمعيات إصلاحية، وإنما كان التعليم الديني مناقشات لفظية
في عبارات كتب هي أبعد عن العلم الصحيح من كل ما كتب سلفهم في عصر حياة
العلم، وكان أهل هذا التعليم العقيم في عزلة عن العالم لا يشعرون بشيء من أطوار
الأمم في ترقيها وتدليها، وقوة دولها وضعفها، وما تجدد لها من التربية والتعليم
والتشريع المُوجِب للتجديد. وكان تعليمها المدني قاصرًا على فئة قليلة تعلم؛ لتكون
آلات وأدوات في معمل الحكومة.
يمتاز غاندي ويَفْضُل جميع زعماء قومه بجمعه بين الزعامتين الدينية
والسياسية، وفي كهنتهم من الصوفية من هم أعلم منه بالدين وأشد انقطاعًا للتنسك
فيه، وفي زعمائهم السياسيين من هم أعلم منه بالقوانين وسنن الاجتماع، ولكن
الجمع بين الدين والدنيا إيمانًا وعلمًا وعملاً هو الذي آتاه من القوة والتأثير في
جمهور أمته ما لم يؤت أحد من هؤلاء، ولا من أولئك، وبقدر استمساك أمته به
واتباعهم له كان تأثير نفوذه في الدولة البريطانية، فهي في كل بلاد تملكها أو
تستعمرها تحترم رجال الدين والدنيا وتستميلهم إليها بقدر نفوذهم في شعوبهم، فما
القول فيمن يجمع بين النفوذين الروحي والسياسي؟ على أنها لم تر بُدًّا من سجنه،
ومنع قومه من لقائه.
ولقد كان كل من زعيمي الإسلام الأفغاني والمصري عالمًا دينيًّا، وصوفيًّا
روحانيًّا، وعالمًا بكل ما يحتاج إليه الإصلاح العام من علم الدين وفلسفة النفس
والأخلاق وسنن الاجتماع وعِبَر التاريخ، وكان كل منهما كاتبًا بليغًا، وخطيبًا
مفوَّهًا، ولو وجدا في الأمة الإسلامية ما وجد غاندي من قومه الهندوس لكان ما
أحدثاه من الانقلاب تامًّا كاملاً في شعب مستقل أتم الاستقلال، ولكان ذلك يسري
إلى سائر الشعوب الإسلامية كما كانا يريدان.
(3) اقتباس غاندي الإصلاح الذي دعا إليه الأفغاني:
فالعبرة لنا معشر المسلمين في هذا الفوز الكبير لوثني الهند أن نعلم أن
الإصلاح الذي تكون به الأمة عزيزة مستقلة لا بد أن يكون دينيًّا دنيويًّا، ونحن
أولى بهذا من الهندوس؛ لأنهم إنما أخذوه عنا، ألم تروا أن زعيمهم الأكبر
(غاندي) قد صرَّح أخيرًا بأنه يتشبه بنبينا وبعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام،
ألم تَرْوِ لنا جرائدنا عنه في العام الماضي أنه نصح في بورسعيد لمن زاره من
طلاب العلم بمصر من إخواننا مسلمي الهند أن يتشبهوا بالخلفاء الراشدين في
سيرتهم العالية، ولا سيما تقشفهم وعدم مبالاتهم بالشدائد؟
ألم تنقل لنا قبل ذلك جرائد الهند فسورية ومصر ما أثنى به على نبينا صلى
الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام القويم وشهد بأنه حق وأمر قومه بأن يدرسوه
باحترام ويحبوه، (وقد نشرنا ترجمة قوله في الجزء الثاني من منار السنة الماضية
المجلد 32) .
ألم تعلموا أن انقسام الهندوس إلى طبقات بعضها مقدس وبعضها رجس
وبعضها بين بين، هو من أصول دينهم، وأن الإسلام هو الذي جاء بالأخوة العامة
وبالمساواة بين جميع البشر وعدم التفاضل بينهم بالطبقات والأجناس والتقاليد، بل
بتقوى الله وهي معرفته والتقرب إليه بتزكية النفس بالعبادات والفضائل، بعد
التخلي عن الشرك والرذائل؟ وأن هذا الذي يدعو إليه غاندي الآن هو من إصلاح
الإسلام؟
ولقد دعانا المصلحان المجددان الأفغاني والمصري من قبله إلى الجمع بين
الإصلاح الديني الروحي والدنيوي المدني والسياسي، دعوانا بأن نكون وسطًا بين
الدجالين الخرافيين الدينيين، والمتفرنجين الماديين الإباحيين، وضربا لنا على ذلك
الأمثال، وأقاما الحجج والبراهين، بأنه سبيل الفوز والفلاح في الدنيا والدين
فحزبهما هو الحزب الوسط الذي اعترف بسداده عقلاء الأوربيين، وبأنه لا يرجى
بدونه حياة ولا استقلال المسلمين، كما بينا ذلك مرارًا في المنار، وفيما بسطناه من
سيرتهما في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام، ولا سيما فاتحته وخاتمته.
(4) الدين عندنا وعند الهندوس والوثنية:
المعروف عند المسلمين بالإجمال في كل العالم أن دين الإسلام دين التوحيد
الخالص، وأن دين الهنود من البراهمة والبوذية والسيخ وكذا البرس وغيرهم
أديان شرك ووثنية، وأن دين أهل الكتاب دين توحيد طرأ عليه ابتداع الشرك
والوثنية.
ويقل في المسلمين من وصل علمه في هذه الأديان إلى تفصيل لهذا الإجمال
ولا سيما مسلمي العرب والترك والفرس، وقد يوجد من يعلم هذا في علماء الهند
الذين اطلعوا على أديان أقوامها وتاريخها ولا سيما مذهبهم في التصوف وتربيتهم
عليه.
إن التوحيد هو أصل دينهم أو أديانهم أيضًا، وقد طرأت عليه الوثنية طروءًا،
ولهم فيها فلسفة تجتمع مع وحدة التجلي والشهود ووحدة الوجود عند صوفيتنا،
وقد سرى ضرب من وثنيتهم ووثنية غيرهم من أهل الأديان القديمة التي أصلها
التوحيد إلى أكثر النصارى وضرب منها إلى مبتدعي المسلمين الذين نراهم عند
الشعور بالحاجة إلى السلطان الإلهي الغيبي الأعلى لجلب نفع أو دفع ضر من غير
طريق الأسباب يتوجهون إلى غير الله من الصالحين، فيدعونهم ويستغيثون بهم،
إما وحدهم وإما لتوسيطهم عند الله بما يسميه عوامهم سوقًا أو سياقة فيقولون: يا
سيدي فلان أنا سايقك على الله أو على النبي ويسميه خواصهم توسلاً. وقلما يوجد
بين هذين الفريقين من يتوجه إلى الله وحده مخلصًا له الدين كما أمر الله تعالى في
آيات الأمر باتباع الحنيفية ملة إبراهيم وهو التوجه إليه وحده دون سواه، وفي
دعاء افتتاح الصلاة المقتبس منها (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
حنيفًا وما أنا من المشركين) إلخ.
(5) طغمة الدعاة لعبادة القبور باسم التوصل:
ويوجد من أصحاب العمائم من يدعو إلى ذلك التوجه المشترك المنافي
للحنيفية، ويحتج له بأن الذي يدعو غير الله من أحبابه إنما يقصد بدعائه إياهم
واستغاثته بهم تقريبهم إياه إليه عز وجل. قال بعضهم في توجيهه من كتاب ألفه
للدعوة إليه: وكل ما في الأمر أنه يرى نفسه مُلَطَّخًا بقاذورات المعاصي أبعدته
الغفلات عنه تعالى أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه
وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم فإن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين،
وشؤم المعاصي معروف أثره في الحرمان من الخيرات) إلخ ما قال، وقرر أن
الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم
أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها، وفي خارجها، وأدخل هذا في باب
الكرامات، التي جعلوها عملا كسبيًّا لهم جاهلين لمعنى كونها من خوارق العادات،
وواطأه على ضلاله وإضلاله 63 عالمًا أزهريًّا كما ادعى وذكر أسماءهم
وإمضاوات أكثرهم بخطوطهم، وبَنَى على هذا أنه انعقد عليه الإجماع؛ لأن سائر
علماء الأزهر يوافقونهم فيه، وأنه يجب على جميع المسلمين اعتقاده والعلم به،
وإنما الإجماع الأصولي اتفاق مجتهدي هذه الأمة وليسوا منهم، بل هو يقول
كجمهورهم: إن المجتهدين قد انقرضوا من القرن الثالث، فلو أجمع جميع علماء
الأزهر لما كان إجماعهم حجة شرعية.
هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم بقوله:
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) إلخ، وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ
هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين،
فهو مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع) الحديث وهو متفق عليه.
ما شرع الله تعالى للعاصي أن يتوجه إلى أحد غيره من أوليائه الميتين ولا
الأحياء ليقربه إليه، بل قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن
رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: 53-54) الآية، وقال بعد ذكر مضاعفة العذاب
للمشركين والقتلة والزناة: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 70) فشرع للعصاة التقرب
إليه بالتوبة من الذنب والإنابة والرجوع إليه عز وجل، والآيات والأحاديث
المحكمات في هذا المعنى كثيرة هي أصل الدين في المسألة وشرع لكل مؤمن أنه
يتوجه إليه حنيفًا أي مائلاً عن كل ما سواه، وأن يدعوه كفاحًا في كل ركعة من صلاته
بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 5-6)
فيجب أن يطلب منه وحده دون سواه أن يهديه الصراط الذي استقام عليه أحبابه
المُنْعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا أن يطلب ذلك ممن
يعتقد أو يظن أنه منهم، بل قال تعالى لأكرمهم عليه السلام: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) أي الهداية بالفعل، وإنما
عليه صلى الله عليه وسلم هداية التعليم المُرَادة بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) وفاقًا لقوله له: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقال له: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21)
أي ولا نفعًا ولا غيًّا ففيه احتباك: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن
دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 22-23) إلخ، والآيات في
هذا المعنى عديدة.
الفصل الثاني
(6) توحيد الإسلام والهندوس ومبتدعتهما وصوفيتهما:
إن كتاب الله تعالى قد علَّمَنَا أنه بعث في كل أمة من الأمم رسولا يدعوهم إلى
عبادته وحده واجتناب الشرك والطاغوت وإلى العمل الصالح، وأنه لما بعث محمدًا
خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كانت جميع الأديان قد فسدت ببدع الوثنية فَبَيَّنَ
الإسلام الذي جاء لجميع أهلها دين الله الحق، وأن أساسه التوحيد المجرد، ولا
تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم
الأزهري، وأستاذه الدجوي للمستغيثين بالبدوي والدسوقي والمتبولي وأبو سريع
وغيرهم ممن لا يُحْصَى عددهم، واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين ليس
لأحدهم أن يتقرب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين
ليقربه إليه زلفى.
ولا تظنوا أنه ليس عندهم صوفية لهم من الخوارق ما حار أكبر علماء
الإنكليز وغيرهم في فهمه أو تأويله، بل اعترف قدماء صوفيتنا بكشفهم وخوارقهم
وسموها ظلمانية أو صورية ولا أنه ليس عند طغمة مقلديهم من الحكايات التي
يستدلون بها على قضاء الأموات لحاجات المستغيثين بهم ما هو أكثر وأكبر من
الحكايات التي يتناقلها عَوَامنا، وأكبر مما ينقله النصارى عن سيدة لورد في فرنسة
وغيرها.
إن عند الهندوس علماء أقدر من هذا العالم، ومن الذين أجازوا كتابه بزعمه
(وهم 63 معًا من المنسوبين إلى المذاهب الأربعة) على تأويل بدعهم بفلسفة أرقى
من هذه الفلسفة الباطلة التي نقلنا لكم كلمة منها، حتى إنهم أقنعوا كثيرًا من الإنكليز
بدينهم فدخلوا فيه، ونشرت الصحف أن أحد دعاة النصرانية من الأميركان قد دخل
فيه هو وامرأته، والمعجبون من الإفرنج بدين غاندي كثيرون، وقد قال بعضهم:
إنه لم يوجد في البشر أحد يشبه المسيح مثله أو غيره، فهذا بعض أثر الهندوس في
خدمة دينهم الوثني، فماذا يفعل علماؤنا في خدمة دين التوحيد المُصْلِح لجميع
الأديان؟
ها أنا ذا أذكر لكم محاورة دارت بيني وبين أحد كهنة الهندوس في مدينتهم
المقدسة (بنارس) في التوحيد عندهم وعندنا، بعد أن نشرت لكم مسامرة في انتقاد
كتب التوحيد وتعليمه عندنا، كانت بيني وبين الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر
فأقمت بها الحجة على أن تعليم التوحيد في الأزهر ومعاهد التعليم التي على منهاجه
لا يصلح في عصرنا هذا للعوام، ولا للخواص، وما يجب من إصلاحه، ولم يرد
عليها شيخ الأزهر بكلمة.
(7) محاورة بيني وبين كاهن هندوسي في التوحيد ووحدة الوجود:
في ضحى يوم الأربعاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة 1330 (8 ...
أبريل سنة 1912م) وصلت إلى بنارس (مدينة الهندوس المقدسة) فاستقبلني في
محطتها (محمد ممنون حسن خان) المعاون المسلم لواليها الإنكليزي، وهو شهم
أفغاني الأصل، وأنزلني ضيفًا مكرَّمًا في داره بضاحية المدينة، وهي في حديقة
غناء غبياء فيها بعض الشجر المقدس عن الهنود كالبيبل والبيبر، وإذ كنا جالسين
في ظل شجرة منها متدلية الأغصان مفتحة الزهر الأبيض جاء كاهن من كهنة الدين
لزيارة مهراجا من أمرائهم محجور عليه لمرض عقلي بكفالة مضيفي، هو مرسل
من قبل زوج المهراجا، فلما علمت أنه من علماء دينهم أحببت البحث معه بما
أدونه هنا.
قلت: ما الذين جعل هذا النوع من الشجر وأشرت إلى الشجرة التي فوقنا
مقدسًا؟ قال: إن أوراق هذه الشجرة إذا وضعت على المجدور لا يلبث الجدري أن
يذبل ويزول من قريب.
قلت: إن صح هذا فهو لا يوجب لشجرة قداسة دينية، فإن لشجرة الخروع
زيتًا يطهر الأمعاء من الفساد فيشفي من الذرب والهيضة، وأن لشجرة الكينا مادة
تزيل الحمى، ولكل شجرة وكل مخلوق خاصية أيضًا.
قال: نعم وإن كل ذلك أو كل ما في الوجود ما ظهر الفيض الإلهي (ونطق
كلمة الفيض بالظاء وكان يتكلم باللغة الأوردية، ويترجم لي كلامه ترجماني السيد
عبد الحق الأعظمي رحمه الله تعالى) فالله تعالى يعبد ويتوجه إليه بمظاهر وجوده
ومجالي فيضه وآياته في خلقه.
وذكر أن مذهبهم هذا في وحدة الوجود هو الذي ينتهي إليه كبار العارفين منا
كشمس الدين التبريزي ومحيي الدين بن عربي وأمثالهم.
فرددت عليه بكلام حاصله أن التوحيد الحق الذي جاء به الإسلام المجرد من
شوائب الشرك، الوسط بين إفراط صوفية الهند وغيرهم وفلسفتهم في وحدة الوجود،
وتفريط المشركين منهم ومن سواهم في تعديد الإله المعبود، هو التوجه إلى الله
تعالى وحده غير مقترن بأحد من خلقه، مهما تكن مراتبهم في مظاهر فيضه،
وحظوظهم من خواصه وآياته في خلقه، وهو المُعَبَّر عنه بالحنيفية والموصوف
صاحبها بالحنيف، فهكذا يتوجه إليه المسلم الموحد الحنيف عند الدعاء والصلاة
والذكر، يلاحظ أنه هو العلي العظيم القاهر فوق عباده، فلا يصوب نظر قلبه إلى
ما دونه عند وقوفه في حضرة مناجاته، وبسط أكف الحاجة إلى كرمه، والسجود
والذل لعظمته وكبريائه، وهو قد كرَّم الإنسان بالعبودية له، وفرض عليه مخاطبته
كفاحًا بغير وساطة كما ترى في سورة الفاتحة، وفي غيرها من آيات كتابه، كقوله
فيها وهو ما نقرؤه في كل ركعة من صلاتنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقوله في غيرها: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) .
وأما إذا نظر المسلم إلى كل من هؤلاء المخلوقات وحده فمقتضى كمال
التوحيد ألا يحجبه شيء من آياته تعالى فيها وما أودع فيها من جمال وخواص
ومنافع لعباده عن كونها من آلائه ومظاهر فيضه، وتجليات أسمائه وصفاته، ولا
عن تسخيره بعضها لبعض في عالم الأسباب، ووقوف كل منها في محيطه، لا
يتجاوزه إلى مشاركته تعالى في شيء مما هو فوق الأسباب المسخرة والسنن العامة
في خلقه، فهو يعطي كل مخلوق منها حقه، ويعطي ربها وخالقها حقه، ومن ثم
لا يشركها معه بشيء ما من التقديس والتعبد، لا بالذكر ولا بالدعاء ولا بالتوجه،
ولا بوضعها أو وضع شيء مما يذكر بها من صورة أو تمثال أو قبر في بيوت
العبادة تفعلونه في هياكل هذه المدينة (بنارس) وغيرها اهـ.
(8) معابد الهندوس ومعابد غيرهم:
في بنارس هذه قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه (ويقال:
إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب،
كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره من أئمة أبنائه (عليهن السلام
والرضوان) في كربلاء والكاظمية وغيرها، وبجانب قبة آدم تمثال العجل الأحمر
الذين يزعمون أنه كان يمتطيه في انتقاله من مكان إلى آخر، وترى الأزهار
منثورة عليه ومن حوله.
وجميع هذه القبور تُعْبَد بالطواف حولها والتمسح بها، وتلاوة الأدعية
والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور
لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنِّحَل أو التعبدات
فيها أن علماء وثني الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس
لهم فلسفة في عباداتها، كيف وهم أئمة الفلسفة الأولى، ولا سيما فلسفة علم النفس
والأخلاق والتصوف وتربية الإرادة، وعنهم أخذ غيرهم من الشعوب، وقد بينت
هذه الحقائق في مواضع من المنار وتفسير القرآن.
أفيصح لنا معشر المسلمين أن نرى وثني الهند يقتبسون من ديننا الحق ما
يصلحون به دينهم الفاسد، ويبقى فينا من يصرون على البدع الوثنية التي اتبعنا بها
سننهم وسنن من قلدهم قبلنا من أهل الكتاب؟ أما آن لنا أن نعلم أننا في مصر
وغيرها مهملون لعلم التوحيد وهو أعلى العرفان الذي يصلح النفوس ويزكيها،
ويربأ بها أن تقبل الاستبداد، أو تدين بالذل والعبودية لغير خالقها، وكذا تعليم
أخلاق الإسلام وتاريخه، وأن وثني الهند وأهل الكتاب أشد عناية بتعليم دينهم منا؟
أما آن لنا أن نعلم أن فشو هذه الخرافات وتأييد بعض المعممين لها باسم الإسلام،
هو أكبر أسباب ترك أكثر معلمي المدارس العصرية لهداية الإسلام، وحسبان
بعضهم أنه كغيره من الأديان الوثنية الخرافية؟
(9) الإسلام بين الخرافيين والإباحيين:
لقد كاد الإسلام يضيع بين فريقين أحدهما غلبت عليه الخرافات والبدع
الملصقة بالدين، فهو يطلب سعادته في الدنيا والآخرة من قبور الميتين، والآخر
استحوذت عليه الشهوات البدنية فارتكس في حمأة الإباحة، المفسدة للصحة، المفنية
للثروة، الهادمة لبناء الأسرة. وكل من الفريقين في ضلال مبين، العارفون
بحقيقة الإسلام الجامع بين مصالح الدنيا والآخرة قد أصبح صوتهم خافتًا لفقد الزعامة
التي تجمع شملهم، وتصدي الخرافيين لمحاربتهم، وتأييد الزعامة الدينية لهؤلاء
بمجلة الأزهر، ولم يسبق لهذا نظير في القرون الأخيرة، فالأمة ضائعة بين
الخرافيين والإباحيين.
كتب بعض رجال التاريخ في بعض الصحف أن السيدة زينب بنت الإمام
الحسين السبط عليهما السلام غير مدفونة في المشهد المبني لها في المسجد المضاف
إلى هذا الاسم، فتصدى الخرافيون للرد على هؤلاء المؤرخين، وكان دليلهم على
الإثبات قول الشعراني: إن شيخه عليًّا الخواص قد علم بالكشف وجودها في هذا
القبر، وهذا الكشف الذي يدَّعُونه ليس بحجة شرعية ولا عقلية ولا لغوية، وكتب
الشعراني هذا طافحة بالخرافات التي لا يقبلها عقل ولا دين، ولعلها أقوى أسباب
الاستمساك بها عند كثير من المعممين.
من هذه الردود أن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً في الموضوع نشره في
المقطم يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الإمام الحسين
في القبر المنسوب إليه: (إنك جئتَ تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية
… تريد أن تطير البقية من دينهم، وذكر أن وجود أبناء النبوة بين ظهرانيهم كما
يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. وأن الأمة عامتها وخاصتها يرون الأنوار
النبوية تتلألأ في مقاماتهم، والعزة الهاشمية تتجلى على أضرحتهم، ويحسون بذلك
أثناء الزيارة ويشعرون أنهم يتوسلون بهم إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم فتقضى،
وفي شفاء مرضاهم فيشفون) .
ويحتجون بمثل هذا على وجود رأس الحسين عليه السلام في المشهد
المعروف بمصر، وأنه حي فيه يقضي حوائج المستغيثين به، ولا ندري ما يقولون
في حكمة حياة الرأس وحده في مصر والجسد وحده في العراق، وكون كل منهما
حيًّا يقضي حوائج الناس أي فلا حاجة مع وجود هذه المقامات إلى الطب والأطباء،
ولا إلى الأسباب الدنيوية في قضاء الحاجات، بل لا حاجة إلى دعاء الله تعالى
وحده فيما وراء الأسباب والعادات.
(10) اقتراح مؤتمر ديني:
أيها المسلمون: إن دعاة البدع الخرافية قد نظموا دعايتهم وألفوا لها عصبية
يؤيدونها بإيهام العامة إجماع علماء الأزهر عليها (وحاشاهم) وبمجلة مشيخة
الأزهر، وهو ظاهر فيها، والأزهر قوة معنوية لا تُنْكَر، والعامة قوة أكبر وأخطر،
والله أجل وأكبر، ودينه أظهر وأنور، ومعاذ الله أن يجمع علماء الأزهر على
بدع أحدثها ملاحدة الباطنية وغيرهم بعد عصر النبوة، وعهد الأئمة وخير قرون
الملة، ولكن آن لأهل البصيرة من المسلمين أن يستبينوا حقيقة هذه الدعاية الجديدة
ويمحصوها في جرائدهم بأقلام الأحرار من علماء الأزهر الذين لا يخافون انتقام
أستاذهم الأكبرة، وأن يلخصوا هذه البدع في قضايا كلية، ويطالبوا مجلس الأزهر
الأعلى بعقد مؤتمر إسلامي عام لبيان الحق فيها، فإن لم يفعل فليطالبوا الحكومة
بذلك، فإنه لا يوجد في رجال الحكومة من يستطيع الإيمان بهذه الخرافات المبتدعة،
بل هي أكبر أسباب فشو الإلحاد في نابتة الأمة، وإننا سنبين صفة هذا المؤتمر
وموضوعه في مقال خاص، إذا أيدت الأمة طلبنا له.
__________(33/211)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعليق على خطبة ملك المملكة العربية السعودية
التي لخصناها في الجزء الماضي
إن ما قرره هذا الملك العربي الهمام من أسباب ضعف المسلمين وتفرقهم هو
الحق الواقع الذي لا يقبل المراء ولا المكابرة، وإن ما ذكره من نعم الله تعالى عليه
بالإمارة والملك وحب قومه وطاعتهم له صحيح يعرفه له ولهم كل من له وقوف
على تاريخه فيهم، وكذلك ما قاله من حبه للسلم والوفاق، ومن دلائله اتفاقه مع
سيادة إمام اليمن حتى إذا ما وقع الخلاف على جبل عرو حكَّمَه الإمام يحيى فيه
فحكم على نفسه، وترك ذلك الجبل الحصين له، وكان هذا الحكم موضع إعجاب
الشعوب العربية والأعجمية، واستغراب الدول الغربية.
وكذلك قوله: إنه مسلم سلفي يدعو إلى الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون، والأئمة المجتهدون،
فهو حق تشهد له به خطبه وسيرته في أحكامه بقدر استعداده واستعداد علماء بلاده،
على انتقاد يوجه إلى بعض رجال حكومته، منه ما خوطب به ومنه وما لا يحيط
به علمًا، ومنه ما يقول: إنه ضرورات قضى بها ضعف الأمة وضعف استعدادها،
وكثيرًا ما أشرنا إلى هذا في المنار، وفصَّلْنَاه لجلالته في المكتوبات الخاصة.
وأما الشيء الجديد المهم في الخطبة فهو قوله: (أنا مبشر أدعو لدين الإسلام
ولنشره بين الأقوام) فهذا نعده وعدًا منه لا يمكنه إيفاؤه إلا بتأسيس جماعة ومدرسة
للدعوة والإرشاد كالذي سبق لنا في مصر، والذي قرر مثله المؤتمر الإسلامي الذي
عقد في العام الماضي في بيت المقدس.
وكذلك قوله: إنه يبذل كل مجهوداته لتوحيد الأمة العربية وجمع كلمتها، فهو
وعد تطالبه به الشعوب العربية عالمة أنه أقوى دولها وحكوماتها، وأن مقامه في
قلب جزيرتها من الحجاز ونجد يعطيه من قوة المركز ما يزيد قوة جيشه أضعافًا
مضاعفة، وحسبنا من قوة جيشه وتأمين بلاده، وحفظ مركزه من التعدي الخارجي
وتمكنه من العمل، وإنما يعوزه العلم والمال وهما مما يأتي به الرجال، إذا صحت
النية ووضع النظام لكل عمل من الأعمال، ومتى وثق المسلمون بهذا فإن عربهم
وعجمهم يبذلون له ما يستطيعون من المساعدة، وفقه الله تعالى ووفق سائر
المسلمين لإحياء مجد الإسلام.
__________(33/223)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة التجنيس الفرنسي
أتى على دولة فرنسة قرن كامل منذ تم لها الاستيلاء على قطر الجزائر
الإسلامي، وهي تدبر المكايد لتحويل أهله عن دينهم، وكان الطريق المعبد لها
ولغيرها من دول الإفرنج الدعوة إلى النصرانية التي يسمونها (التبشير) ولهم فيها
فنون وشؤون، والتعليم المدرسي، وهو قسمان تبشيري وإلحادي، والتعليم لا يفيد
إلا في الأحداث، لذلك ابتدعت فرنسة طريقين آخرين لتحويل المسلمين الكبار
الراشدين عن الإسلام، آخرهما انتزاع شعب البربر المسلم من الإسلام بالقوة
العسكرية القاهرة، وهو قريب العهد، وأولهما تجنيسهم بجنسيتها الذي يكون
لصاحبه جميع ما للفرنسي الأصلي من الحقوق القانونية وعليه ما عليهم.
وهو موضوع حديثنا في هذا الفصل، ومقتضى هذا التجنيس أن يمرق المسلم
من جنسيته الإسلامية ويؤثر أحكام القانون الفرنسي على أحكام كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم في النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك، وهو ارتداد
عن الإسلام صريح لا يحتمل التأويل، ولذلك لم يكن يقدم عليه إلا من لا حظَّ له من
الإسلام إلا التسمية بالأعلام التي لا تزال خاصة بالمسلمين كمحمد ومحمود
ومصطفى، وإنما يقدم عليه من غير المارقين المنافقين من لا يعلمون في الغالب
أنهم يكونون به كفارًا خالدين في جهنم، فإن سلطان الإسلام على قلوب البشر يمنع
أجهلهم بعقائده وأحكامه أن يؤثر عليه غيره، ويرتد عنه ارتدادًا يكون به عدوًّا لله
ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحرم على المسلمين أن يزوجوه مسلمة وأن يدفنوه
في مقابرهم، حتى لا تجاور روحه النجسة أرواح موتاهم الطاهرة، فكان الجاهل
بهذه الأحكام وبما هو أشد منها في الإسلام يرى بأنه يمكنه أن يتجنس بالجنسية
الفرنسية ويظل مسلمًا، وأن هذا ليس إلا ذنبًا يمكن أن يغفره الله له بالكفارات
وغيرها؛ لأنه لم يرغب فيه إلا ليدفع عن نفسه ظلم حكومته للمسلمين وإرهاقها لهم
في أمور دينهم ودنياهم، ويتمتع بمساواة الفرنسيين في حقوقهم، على أن هذه
الحقوق لا تكون تامة له، وإن عادى المسلمين، وعبد المسيح وأمه والقديسين، أو
كفر كملاحدتهم بالله وملائكته وكتبه ورسله أجمعين.
ثم إن فرنسة أدخلت خديعة التجنيس في المملكة التونسية منذ عشر سنين كما
ذكرنا مخالفة في ذلك شروط الحماية المعقودة بينها، وبين حكومة باي تونس ومنها
المحافظة على جنسية التونسيين الإسلامية، ولكنها رأت أن الذين يقبلون جنسيتها
من أهل تونس أقل ممن يقبلونها من أهل الجزائر؛ لأن التونسيين أعلم بأحكام
الإسلام من الجزائريين، ولهم حكومة ملية صورية، فحاولت حمل الناس عليه بقوة
السيطرة الرسمية، فخذلت إذ كان فعلها إيقاظًا للشعب كله، فهب يدافع عن دينه،
فقاومته حكومة الحماية بقوتها، وقوة الحكومة المحلية التي هي آلة بيدها، فلم تزده
القوتان الرسميتان إلا شجاعة وإقدامًا وثباتًا، سنة الله في يقظة الشعوب من رقادها
بالاضطهاد والقهر.
دفنت السلطة متجنسًا بعد آخر في مقابر المسلمين بالقوة العسكرية، وبنت
قبورهم بالأسمنت والحديد كما تبني الحصون الحربية، وجعلت لها حرسًا من الجند
شاكي السلاح، فدرى بالكارثة من لم يكن يدري من العوام والخواص، ففهم الشعب
المؤلف من ميلوني مسلم أنه يراد إخراجه من دينه بالقوة القاهرة، فهاج هيجة عامة
لم يبال فيها ما تكون العاقبة، قيل له: إن الحكومة أصدرت فتوى شرعية من
شيخي الإسلام شيخ الجامع الأعظم، وهو المفتي المالكي ومفتي الحنفية فزاده ذلك
هياجًا؛ لأن مسألة ارتداد المتجنس بالجنسية الفرنسية صارت عنده من المسائل
المعلومة بالضرورة لما سبق لنا ولغيرنا من الإفتاء بذلك من قبل ولإفتاء بعض
علمائهم وعلماء الشرق في هذا العهد، والشعوب الإسلامية لا تقيم وزنًا للعلماء
الرسميين الذين يرونهم آلات في أيدي الحكومات الإسلامية، ولا سيما الخاضعة
لنفوذ أجنبي، وناهيك بالخضوع للنفوذ الفرنسي.
كان أعظم مظهر لهيجان الشعب التونسي إضراب طلاب العلم في جامعة
الزيتونة الأعظم وأكثر شيوخهم عن الدروس، ومشاركتهم لسائر الأهالي في الإنكار
بالمظاهرات وكانت المظاهرات العامة عظيمة، وكانت الخطب والأناشيد التي
ألقيت فيها جد مؤثرة، أنذرت الحكومة الزيتونيين وغيرهم بطشتها بهم فتماروا
بالنذر، ولم يبالوا العقاب المنتظر، وأنشأت محكمة عرفية لعقابهم بالفعل فما زادتهم
إلا إقدامًا وإيمانًا، وإنه ليجب علينا أن نوجه نظر الأمة الإسلامية في هذه المسألة
إلى قضيتين: إحداهما دينية تعبدية، والثانية إسلامية سياسية شرعية.
مسألة التجنس من الوجهة الدينية التعبدية:
فأما الدينية المحض فإنني أرى بعض المسلمين قد شبه عليهم الحكم كون
تجنس المسلم بالجنسية الفرنسية ونحوها يُعَدُّ ردة ومروقًا في دين الإسلام ويرجحون
أنه معصية من كبائر المعاصي التي يمكن أن يقترفها صحيح الإيمان، كالزنا
والسرقة وشرب الخمر وغيرها من الكبائر التي يتحامى أهل السنة تكفير المسلم بها؛
إذ يقولون في كتب العقائد: ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن قوله صلى الله
عليه وسلم: (لا يزني الزاني حيث يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وهو متفق على
صحته يجب تأويله بنفي الإيمان الكامل أو بغير ذلك.
وقد قال لي أحد أصدقائي من فضلاء المسلمين: إذا كان الذي يقبل الجنسية
الفرنسية أو غيرها من جنسيات الدول غير الإسلامية يُعَدُّ كافرًا فلا يصح إسلام أحد
من الذين يسلمون في أوربة وأمريكة وهم كثيرون ويزدادون في هذه السنين عامًا
بعد عام، وإن لي أصدقاء منهم أثق بصحة إسلامهم وكانوا يرجعون إليَّ في كثير
من مسائل العبادات والأحكام الإسلامية التي تخفى عليهم إذ كنت بينهم.
قلت له: إن الفرق عظيم بين الفرنسي الأصلي المقيم في بلاده تحت سلطان
دولته إذا أسلم، وكان قانون دولته يكرهه على أحكام غير أحكام الإسلام، وبين
المسلم الأصلي الذي يختار لنفسه ترك أحكام الشرع حتى المجمع عليها المعلومة من
الدين بالضرورة ويستبدل بها أحكام الجنسية التي يختارها عليها.
إن صفة الفرنسي الذي يهتدي إلى الإسلام أنه قد آمن بعقائده وأخذ بعباداته،
وفضل شريعته على كل ما يخالفها من شرائع دولته، فيجب عليه العمل بكل ما
يقدر عليه منها وما يعجز عنه وأمكنه أن ينفذه بصورة لا تعارضها حكومته فعل،
كالوصية بجعل تركته من بعده لوارثيه الشرعيين في حكم الإسلام، وما عجز عنه
من كل وجه يكون معذورًا فيه.
وأما صفة المسلم الذي يختار الجنسية الفرنسية وأمثالها على الإسلامية فهو أنه
قد فضَّل شرع المكذبين لله ولكتابه ولرسوله خاتم النبيين على شرع الله، وآثر
الاعتزاز بهم على الاعتزاز بدين الله، وأعان المعتدين على المسلمين في دينهم
وشرعهم وملكهم فيما يبغونه منهم، وما يبغون إلا محو الإسلام من الأرض دينًا
وتشريعًا وسلطانًا، وجعل الآخذين به عبيدًا أذلاء لهم، وهذا عين وَلاَيَتهم التي نهى
الله تعالى عنها وقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) فأنى لمسلم
أن يجعله من المسلمين بعد إخراج الله تعالى إياه منهم وجعله من أعدائهم؟
ومن هذا الوجه كتبت عند البحث في هذه المسألة أول مرة أن الذي يقبل هذه
الجنسية مختارًا عالمًا بمعناها وأحكامها لا يكون مرتدًّا عن الإسلام بقبولها، بل لا
بد أن يكون كافرًا بما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه من قبلها.
فإن المؤمن الموقن لا يمكنه أن يفعل ما ينافي إيمانه عامدًا متعمدًا، وأما المعاصي
التي قال علماء السنة: إنها لا تنقض الإيمان فهي ما يفعله المؤمن بجهالة من
ثوران شهوة أو غضب عليه تنسيه وعيد الله تعالى على الذنب، أو تضعف
عزيمته أن تتغلب على هوى النفس، كما قيل في تأويل حديث (لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن) إلخ وتأويل معصية آدم إذ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) حتى إذا تذكر الوعيد،
دفعه عنه بضرب من التأويل، كالرجاء في المغفرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً} (النساء: 17-18) فليراجع ما كتبناه في أحكامهما من الجزء الرابع من
تفسير المنار من شاء.
والآيات التي تدل على كفر هذا المتجنس من كتاب الله تعالى غير آية التولي
التي أشرنا إليه آنفا، وما في معناها كثيرة أظهرها في هذا المقام قوله تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات، فهي
صريحة في أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهو كل ما يخالف حكم
الله من أحكام المخالفين إنما هم منافقون غير مؤمنين بما أنزل الله وإن لم يتحاكموا
بالفعل؛ لأن الإرادة وحدها تنافي الإيمان، فكيف إذا نفذها مريدها بالفعل تنفيذًا
دائمًا؟ فراجع تفسيرها في الجزء الخامس من تفسير المنار.
ومنها قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:
115) فإن هذا المتجنس مشاق للرسول باختياره شرع الأجنبي على شرع الله على
لسانه، ومتبع غير سبيل المؤمنين في أزواجهم من زواج وطلاق وما يتعلق بهما،
وفي فرائض المواريث وغير ذلك من الأحكام الشخصية والمدنية، بل هو بهذا
التجنس راضٍ ببذل ماله ونفسه في قتال المسلمين إذا دعته دولته إلى ذلك وهي
تدعوه عند الحاجة قطعًا.
ففي المسألة أحكام كثيرة مجمع عليها معلومة من دين الإسلام بالضرورة
يستحل المتجنس مخالفتها، واستحلالها كفر بالإجماع، والأصل في الاستحلال عدم
المبالاة بأمر الله ونهيه لا النطق باللسان فقط، وقد قال الفقهاء: إن من اعتقد قبح
شيء من هذه الأحكام القطعية أو فضَّل غيرها يكون مرتدًّا عن الإسلام، وهذه
مسألة في غاية البداهة.
مسألة التجنس من الوجهة الشرعية السياسية:
وأما القضية السياسية الإسلامية في المسألة، وقد أشرنا إليها في عرض
الكلام فنوجز الكلام فيها كالقضية الأولى ومجال التطويل فيها أوسع فنقول:
إن الإسلام دين روحاني، ونظام دولي اجتماعي سياسي، وكل جانب من
جانبيه هذين معزز للآخر مكمل له، ولذلك كانت غايته سعادة الدارين الدنيا
والآخرة فموضوع الجانب الأول تزكية النفس البشرية بالعقائد الصحيحة والعبادات
المعقولة، والأخلاق العالية، والأعمال الشريفة النافعة؛ لتكون أهلا لجوار الله
تعالى في جنات الآخرة، وموضوع النظام الدولي حماية هذا الدين وكفالته والدفاع
عنه وعن أهله وأوطانه بالقوة، وإقامة الحق والعدل والحرية بين أهله وجميع
التابعين لدولته من غير أهله؛ لإقامة العمران، وإظهار سنن الله وأسرار خلقه
بترقي نوع الإنسان، فالجانب التعبدي الروحاني من الإسلام يكمل النظام المدني
بنفخ روح الصدق والإخلاص فيه حتى لا تكون السياسة وسيلة لمطامع الدنيا
وشهواتها وظلم الأقوياء للضعفاء فيها، والنظام المدني السياسي يكفل الجانب
التعبدي ويمكنه بجعل المتعبدين به أحرارًا أعزاء، آمنين على أنفسهم في إقامته
لوجه الله تعالى لا يخافون فيه لومة لائم، ولا اعتداء معتدٍ، كما بين الله لهم ذلك
فيما وعدهم به من استخلافهم في الأرض بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55)
ومن المعلوم بالبداهة أن المتجنس بالجنسية الفرنسية إن أمكن عقلا وصح
شرعًا أن يظل متمسكًا بالجانب الروحي من الإسلام بأن يكون مؤمنًا بأن كل ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين حق يجب اتباعه فيه بتأوله أنه يقدر على
القيام بعباداته، ويكون عاصيًا معذورًا، فلا يمكن عقلاً ولا شرعًا أن يدعي أنه
يظل مستمسكًا بالجانب الآخر من الإسلام، وهو السياسي الاجتماعي، فإنه لا معنى
للتجنس إلا خروجه منه، ومن المعلوم بالضرورة أن كلا من جانبي الإسلام شرع
الله ودينه، فالمروق من هذا مروق من ذاك وخذل له وجناية عليه.
أيها المسلمون الغافلون!
لماذا فرض الله الجهاد عليكم بأموالكم وأنفسكم وجعله أقوى آيات الإيمان؟
أليس لتأييد دولة الإسلام وحكمه، والدفاع عن داره وأهله؟ لماذا فرض الله الهجرة
لحرية العقيدة والوجدان، قبل أن يفرض الجهاد؟ أليس لأجل تأسيس دولة الإسلام؟
لماذا فرض الله الولاية والبراءة وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض في النصرة
كما أن الكافرين بعضهم أولياء بعض عليهم؟ ألم تعلموا أن الله تعالى جعل من
شروط صحة الإسلام: الإيمان بالكتاب كله، وجعل الكفر ببعضه كالكفر به كله،
ولم يفرق بين التعبدي والسياسي منه؟
ومن أدلة هذا وشواهده أن الله وبَّخ اليهود واحتج عليهم في قتالهم مع مخالفيهم
من العرب لإخوانهم المحالفين لغيرهم ثم فدائهم لأسراهم بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) فهو
تعالى قد سمى مخالفتهم لشريعتهم في المسائل الحربية كفرًا جزاؤه الخزي والذل في
الدنيا وأشد عذاب النار في الآخرة، أفيُعَدُّ مثله من المسلمين إيمانًا وإسلامًا ويجعل
جزاؤه عز الدنيا وسعادة الآخرة؟ وهل حال المسلمين في تونس وغيرها تدل على
ذلك؟
أتريدون مع هذا أن تجدوا للخارجين من ولاية الإسلام وجنسيته إلى ولاية
المحادين له مخرجًا لفظيًّا من أحكام الردة لإثبات إسلامه ودفنه في مقابر المسلمين
خداعًا لعامتهم ليقبلوا الخروج مما خرج منه، والدخول فيما دخل فيه، إلى أن
يزول الإسلام كله من بلادكم بجهل عامتكم، ونفاق خاصتكم؟
أرأيتم هذه الصراحة في بيان حقيقة دينكم التي قلما يتجرأ غير صاحب المنار
على الجهر بها في صحيفة تنشر؟ إنها لهي بعض ما يجب أن تعلموه وتعملوا به،
ولو صرح لكم بكل ما يجب عليكم لرجت الأرض رجًّا، وقامت عليه جميع دول
أوربة وصحفها بل على الإسلام كله، على أنه قد بين كل شيء في فرص أخرى،
ولكن أكثر المسلمين لا يقرءون، وأكثر الذين يقرءون منهم لا يفقهون، وأكثر
الذين يفقهون على قلتهم في أنفسهم متحيرون، ولا يدرون ما يعملون {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا
لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 51)
وأما أنتم أيها الفرنسيس فحسبكم بغيًا وفجورًا، وحسبكم اضطهادًا لدين الحق،
واستعبادًا للمستضعفين من الخلق، واعلموا أن الإسلام لا يزول بزوال الدولة
العثمانية، وارتداد الحكومة التركية، وأنكم لم تصيروا آلهة العالم بضعف الدولة
الألمانية، وأن صداقة الإسلام خير لكم من عداوته، فاطلبوها تجدوها، قبل أن
تحتاجوا إليها فلا تجدوها والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
__________(33/224)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التبشير أو التنصير في مصر
ماضيه وحاضره ومساعدة الحكومة له
ليس في مصر من الحملة الدولية الصليبية على الإسلام كل ما في
المستعمرات الأوربية منها، ليس فيها مسألة كمسألة البربر في المغرب ومسألة
العلويين في سورية، ولا كمسألة التجنيس في إفريقية الفرنسية كلها، ولا كمسألة
الجلاء والإبادة في طرابلس الغرب وبرقة؛ إذ لا مجال فيها لهذه الحملات وهي
ذات حكومة إسلامية مستقلة بنفسها، معترف باستقلالها من جميع الدول، وما كانت
سيادة الدولة العثمانية السياسية عليها إلا مزيد حصانة لها ووقاية من هذا النوع من
الحرب الصليبية.
بيد أن استقلالها وتلك السيادة عليها من قبل لم يكونا واقيين لها ولا للإسلام
فيها ولا في تلك الدولة من سائر أنواع الحرب الصليبية، فقد اعتدى على استقلالها
الفرنسيس ثم الإنكليز، وقد اعتدى على إسلامها الفريقان وغيرهما بالتعليم الإلحادي
وبجميع وسائل التنصير من دعاية لسانية وكتابية وتعليم وتطبيب وإغراء وإغواء
بالمال والشهوات وغير ذلك، وقد وجدوا من حكومتها المتفرنجة كل مساعدة مالية
وإدارية على جميع ذلك، وكان نجاحهم في التعليم الإلحادي أتم من غيره، فهو الذي
جعل نفوذهم السياسي والأدبي والاقتصادي يعلو ولا يعلى، ويحطم كل ما تحته من
نفوذ للحكومة المصرية، ومن حرمة للأمة المصرية، واشتد هذا النفوذ من إسماعيل
باشا إلى اليوم، فكانت مدارس الأجانب الإلحادية والتنصيرية تُسَاعَد من الحكومة
المصرية بالمال وبهبة المباني والأراضي، وبإعفاء ما يرد لها من بلادها من الكتب
المراد بها هدم الإسلام ومن الأدوات المدرسية وغيرها من رسوم المكس (الجمرك)
وكان الوزراء والكبراء ثم الأوساط فالفقراء - وما زالوا - يعلمون أولادهم ذكرانًَا
وإناثًا فيها، ويفضلون تربية القسيسين والرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات
على تربية المدارس المصرية الأميرية وغيرها، ولم يكن أحد ممن يقذفون بأولادهم
أو ينبذونهم فيها يبالي عاقبة هذا التعليم في جنايته على الدين والدنيا: أما الدنيا فلأن
زمامها في أيدي هؤلاء الإفرنج فصارت تطلب بالزلفى عندهم، ولقد قال اللورد
سالسبوري: إن مدارس المبشرين أول خطوات الاستعمار فإن أول عملها إحداث
الشقاق في الأمة التي تنشر فيها.. وأما الدين فلأنه لم يعد مما يراد في مصر من
التربية والتعليم، إذ قررت الحكومة المصرية جعل ما كان واجبًا من تعليمه والعمل به
أمرًا اختياريًّا لا شأن له ولا يطالب التلاميذ به، فصار الدين في مدارسها كالشيء اللقا
(اللقا بالفتح ما يُلْقى ويطرح لعدم الحاجة إليه) وهي تعلم أن أئمتها من الإفرنج
يجعلونهما من الفرائض القطعية التي لا هوادة فيها، ويجبرون عليهما كل من يعلمونه
من أبناء دينهم ومن المسلمين.
زال ما كان من رسوم ماثلة للدين من مدارس الحكومة على ما كان من قلة
غنائه، وتعليم الأزهر وملحقاته للدين أصبح عقيمًا في هذا العصر على أنه
محصور بين حيطانه في دروس تلك الكتب التي صار ضرها أكبر من نفعها كما
بيَّناه بالبرهان مرارًا، وأقمنا الحجة اللسانية به على شيخ الأزهر لهذا العهد في
محفل حافل، والخرافات الدينية فاشية في الأمة من جهة، ونزغات الإلحاد
والتفرنج من جهة ثانية، فخلا الجو للمبشرين في التعليم الديني بالأساليب العصرية
الموافقة لأذهان التلاميذ، ومبدأ الدين فطري في أنفس البشر، فإن لم يوجد من
يلقن النشء دين الفطرة المعقول قبلوا من يلقنهم أي دين كان قبل الرشد واستقلال
العقل.
ذلك، ولم يوجد في مصر هيئة دينية حكومية ولا ملية تتولى أمر التربية
الإسلامية العامة ومراقبة سيرها في الأمة، ولا العناية ببث التعليم الديني السهل
والوعظ العام في طبقات الأهالي ولا سيما تعليم البنات، وإرشاد الأمهات،
كالهيئات البطركية والحاخامية عند النصارى واليهود، ولم يوجد فيها جمعيات
إسلامية تتولى ذلك بنظام عام، إلا ما تجدد في هذه السنين الأخيرة من الجمعيات
الوعظية الضيقة النطاق، الضعيفة التأثير.
أول من فطن لمقاومة التنصير:
كان أول من فطن من المسلمين بأمر تنصيرهم في مصر المصلحان العظيمان
السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده في القرن الماضي. وقد كان أول
حادثة علمت في عهدهما مثل حوادثهم التي فطن لها الجمهور في هذا العهد، أن
طغمة التبشير الأمريكانية نصَّرَتْ فتًى مصريًّا وصارت تعرضه للوعظ العام الذي
يحضره كثير من المسلمين في كنيستهم بحي الأزبكية، فكبر ذلك على السيد فعهد
إلى جماعة من الإيرانيين بخطفه من الكنيسة ووضعه في مكان خفي ففعلوا وذهب
هو وتلميذه الأكبر الى ذلك المكان واستتابا الفتى، وأقنعاه بأن الإسلام هو دين الله.
وسعيا لتلافي مثل هذا الأمر لدى الحكومة فلم يسمع لهما أحد، وقد ركبا مرة عربة
وذهبا إلى محافظ العاصمة في يوم مطير كثير الوحل للاستعانة به على إنقاذه فلم
يحفل بسعيهما، فقال السيد للشيخ: إنه والله ليس في مصر مسلم غيري وغيرك.
أول من اقترح مراقبة الحكومة للمدارس الأجنبية فتقرر:
قد كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أول من فكر في خطر المدارس
الأجنبية على مصر فاقترح على مجلس المعارف الأعلى الذي ألف في مصر بسعيه
سنة 1398 هـ (1881 م) أن يقرر جعل جميع مدارس الأجانب في القطر
المصري تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها وقد كان من معارضة أعضائه من الأجانب
لهذا الاقتراح ما كان، وكان من فوزه فيه بالوسائل الذي اتخذها له ما هو من
عجائب أعماله في خدمة الأمة (يراجع ذلك في ص 144 من تاريخ الأستاذ الإمام) .
وكان يجب على الحكومة المصرية أن تتخذ هذا القرار قانونًا متبعًا دائمًا ولكن
البلاد نكبت في ذلك العهد بالاحتلال الإنكليزي في إثر الثورة العرابية ففقدت
حكومتها كل سلطان كان لها على التعليم وغير التعليم، وألقيت مقاليد وزارة
المعارف المصرية في يد قسيس إنكليزي (مبشر) جعل سكرتيرًا لها فمستشارًا،
وكان من أمر التعليم الإسلامي والتربية في مدارسها ما أشرنا إليه آنفًا، وقد
اعترفت إنكلترة لمصر بعد الحرب الكبرى بالاستقلال مقيدًا بتحفظات لا تمس
التعليم الحكومي ولكن الدين الإسلامي لم يزدد بذلك إلا ضعفًا في مدارس الحكومة
والأوقاف العامة والخاصة بالبيت المالك ويعارضه قوة دين النصرانية في جميع
المدارس الأجنبية.
مساعدة الاحتلال للتنصير واضطهاد المنار:
بلغ من مساعدة الاحتلال الإنكليزي لدعاية المبشرين بسيطرتها على الحكومة
أن أمر اللورد كتشنر وزير الأوقاف بإلغاء المستشفى الذي بنته الوزارة في مصر
القديمة بجوار مستشفى هرمن التبشيري؛ لأنه يصرف كثيرًا من فقراء المسلمين
عنه فيحرمون من التبشير بالنصرانية، فوعده الوزير بأن سيبحث له عن مكان
بعيد عن مستشفى التبشير يصلح له فينقله إليه، ولكن الله تعالى صرف اللورد
المستبد عن هذه البلاد قبل أن ينفذ أمره هذا.
وقد أمر اللورد بما هو شر من ذلك استبدادًا وتحكمًا في هذه الحكومة الصورية
لمساعدة النصرانية على الإسلام، أمر بتعطيل مجلة المنار؛ لأنها ترد على
المبشرين، وبنى ذلك على مقالة نشرت فيه بإمضاء الدكتور محمد توفيق صدقي
رحمه الله تعالى قالوا: إنها شديدة اللهجة، وقد كتب اللورد على الجزء الذي نشرنا
فيه تلك المقالة بخطه ما كتب، وأرسلها إلى النائب العام ليقيم الدعوى على صاحب
المنار ويحكم بعقابه وتعطيل مجلته.
وكان النائب العام عبد الخالق ثروت باشا والوزارة وزارة محمد سعيد باشا
(رحمهما الله تعالى) فكبر عليهما أن يعطلا المجلة الإسلامية الوحيدة التي تنشر
وتفاوضا في الأمر فاتفقا على أن يحاولا إقناعي بترك الرد على المبشرين والكلام
في النصرانية ليتوسلا بذلك إلى إقناع اللورد بعدم تعطيل المنار، فكلمني ثروت
باشا بالمسرة (التلفون) أنه يريد أن يكلمني في أمر مهم في داره إن لم يكن لدي
مانع من زيارته فيها في تلك الساعة أو عندي، وكنت في مدرسة الدعوة والإرشاد
فأجبته مخبرًا بوجود المانع فجاء بنفسه وأطلعني على الكتابة الإنكليزية التي كتبها
اللورد على المنار وأخبرني الخبر وسألني عن رأيي فيه، فقلت له: إنني لن أدع
الرد على المبشرين ما داموا يطعنون في الإسلام ويدعون المسلمين إلى دينهم؛ لأن
الرد عليهم وتفنيد شبهاتهم فرض من فروض الكفاية لا أرى في البلاد مجلة ولا
جريدة تقوم بها، فإن تركتها كنت آثمًا كجميع القادرين عليها. قال: إن دولة
رئيس النظار يسوءه تعطيل المنار كما يسوءني وأود أن تساعدنا على اتقاء هذا
الشر، وهو يرجوك أن تقابله في داره وتأتي معك بالدكتور محمد توفيق صدقي
وتخبره بالوقت الذي تحضران فيه وأنا سأكون عنده لننظر في المسألة ففعلت.
جئت الوزير الرئيس بالدكتور في الموعد الذي اتفقنا عليه، وكان قد علم من
النائب العام أنني لن أكف عن الرد على المبشرين فأمر بدخولي عليه وحدي أولا
وبوضع الدكتور في حجرة الانتظار إلى أن يطلبه؛ لأنه كره أن يسمع ما يدور بيننا
من الكلام الحر الصريح، وكان ثروت باشا قد حضر، فبدأ الوزير يذكرني
بسيطرة الإنكليز على البلاد وشأن المبشرين عندهم وأنهم ضاقوا ذرعًا بما ينشر في
المنار من الطعن في دينهم حتى طلبوا من الحكومة محاكمته لعقابه وتعطيله، وأنه
يشق عليه ذلك؛ لعلمه بقيمة خدمة المنار للإسلام، ويرغب إليَّ أن أكف عن ذلك
ليتخذه حجة على إقناع اللورد كتشنر بالعدول عن اقتراحه أو أمره الذي علمته.
قلت: إن ما أنشره في المنار قسمان: أحدهما تفسير آيات القرآن التي نزلت
في شأن النصارى ودينهم فلا بد من بيان معانيها وإقامة ما عندنا من الدلائل الدينية
والعقلية والتاريخية على صحتها، وثانيهما مقالات في الرد على المبشرين المعتدين
علينا في بلادنا: وهذا فرض من فروض الكفاية إلخ.
قال: إنك لا تقتصر على الرد بل تهاجمهم كثيرًا.
قلت: ما يوجد في المنار من هجوم فهو في ميدان الدفاع إذ كانوا هم المعتدين
في الأصل، وإنما يتحقق معنى هجوم الاعتداء في إعلان الحرب وبدئها لا في كل
معركة منها، فإذا كان لهم الحرية في هذا دون المسلمين في حكومتنا فلتحكم عليَّ
هذه الحكومة بما تشاء … وتكلمت كلامًا شديدًا في حقوق الإسلام ووجوب الهجرة
من مصر إذا فقدت حرية الدين، وأجابني الوزير بصراحة غريبة في استبداد
الإنكليز لا حاجة إلى شرحها.
ثم قال: إن ما تكتبه أنت بقلمك تتحرى فيه الأدب واتقاء ما يمنعه القانون
ويعاقب عليه، ويمكننا أن ندافع عنك بأن مجلتك دينية تقوم بوظيفتها، وليس كذلك
تلميذك الدكتور محمد توفيق صدقي فهو شديد اللهجة ويكتب ما يعد طعنًا صريحًا في
الديانة المسيحية لا بيانًا لعقائد الإسلام ولا مناظرة للمبشرين، فأرى أن تساعدنا
عليه عند الكلام معه وإنذاره.
ثم طلب الدكتور فحضر فكلمه الوزير بأن ما يكتبه في الديانة المسيحية ليس
من شأنه، وقد يفضي إلى عقابه وعزله من وظيفته في الحكومة، وهو يمضيه
باسمه مع ذكر وظيفته، والذي ينبغي له أن يكتبه في المنار وغيره هو الوصايا
الصحية والمقالات العلمية والطبية، فإن كان لا بد له من كتابة مثل هذه الردود
فيجب عليه اجتناب ما يعد طعنًا لا بحثًا وأن لا يمضيه باسمه الصريح. فوعد
الدكتور بذلك.
هذا ملخص ما وقع في هذه الحادثة، وقد كتبت عقبها في آخر المجلد السادس
عشر من المنار ما نصه:
حرية المسلمين الدينية بمصر
لدعاة النصرانية (المبشرين) عدة مدارس ومستشفيات وصحف في مصر لا
غرض لهم منها إلا تنصير المسلمين، وقد ساعدتهم الحكومة المصرية على إنشاء
مدارسهم ومستشفياتهم باسم نشر العلم وعمل الخير، ثم إنهم ينشرون في كل سنة
عدة كتب ورسائل في الطعن في القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام، وتنفير
المسلمين من الإسلام. دع النشرات والأوراق الصغيرة التي ينثرونها في
المستشفيات، والخطب التي يلقونها فيها، وفي سائر معاهد التبشير، وقد عز
عليهم مع هذا أن يكون للمسلمين في هذا القطر الإسلامي كله صحيفة إسلامية واحدة
ترد عليهم وتدافع عن الإسلام، فسعوا بواسطة بعض قناصلهم إلى لورد كتشنر
ورغبوا إليه أن يأمر الحكومة المصرية بإلغاء المنار وإبطال صدورها، وبمحاكمة
صاحبها هو والدكتور صدقي الذي يساعده في الرد عليهم! أليس من عجائب الغلو
في تعصب القوم أن يسعى إلى هذا أو يتحدث به أو يفكر فيه بعض أبناء الأمتين
الأمريكية والإنكليزية، أعرق أمم الإفرنج في احترام الحرية؟
وقد سئلنا عما يُنْشَر في المنار من الرد على النصارى فأجبنا: أننا أقدمنا على
هذا العمل مدافعين لا مهاجمين، وأن هؤلاء المبشرين قد كتبوا في الطعن في ديننا
أضعاف ما كتبنا، وأن هذا الرد واجب علينا شرعًا، بل هو من فرائض الكفاية إذا
لم يقم به بعض المسلمين أَثِمَ الجميع، وأنه يجب على المسلمين الهجرة من البلاد
التي ليس لهم حرية فيها في إظهار دينهم والدفاع عنه، وأننا مع هذا نفضل أن
يسكت هؤلاء المعتدون عنا ونسكت عنهم.
على أن مجالهم في الرد علينا أوسع؛ لأننا نؤمن بنبيهم وكتابهم الذي أنزله
الله عليه، ونعد الطعن فيه كفرًا كالطعن في نبينا بلا فرق، فلا نستطيع أن نقول
كما يقولون، ولا أن نخوض كما يخوضون.
ألا إنه لم يكن يظن أحد من الناس أن الحرية التي كانت مصر تفاخر فيها
أوربة من كل وجه تتضاءل بعد لورد كرومر حتى يطمع الطامعون فيها بمثل ما
ذكرنا، وهي التي رفعت اسم إنكلترة حتى صار جميع مسلمي الأرض يفضلونها
على جميع دول أوربة، ضعفت في مصر الحرية السياسية فخفف على الناس
المُصَاب فيها راحتهم من أولئك الأحداث السفهاء، فإذا اضطهدت الحرية الدينية
فأي شيء يخفف على المسلمين مصابها ويعزيهم عنها؟ على أن الذي ظهر لنا أن
أولي الشأن قد أقنعوا أولئك السعاة المحالين) بل لورد كتشنر) بأنهم هم المعتدون،
وأنه يصدق على المنار وعليهم (واحدة بواحدة بل بمئات، والبادئ أظلم) اهـ.
هذا ما فعله المبشرون في مصر من السعي لتعطيل المنار، وقد فعلوا مثله
في السودان فكانت حكومته أطوع لهم؛ لأنها إنكليزية خالصة فصادرت كل ما
أرسل إلى السودان حتى المسجل منه وأحرقته ومنعت دخوله في تلك البلاد،
واستمر هذا المنع إلى سنة 1345 ثم طلبنا من حكومة السودان الحاضرة الإذن به
فأذنت.
كان يقع لنا مثل هذا فلا نهن لما أصابنا في سبيل الله، ومشيخة الأزهر لا
تبدئ في الدفاع عن الإسلام ولا تعيد، والأمة في شغل عن المبشرين بالسياسة أو
الشهوات، حتى تفاقم شرهم، وصار مثل القس زويمر منهم يدخل الأزهر ويزور
بعض علمائه في بيوتهم داعيًا إلى النصرانية، حتى كاد يبطش به صديقنا الأستاذ
الشيخ علي سرور الزنكلوني في الأزهر مرة واشتهرت الحادثة، ولكن الأمة قد
استيقظت في هذه السنة بكثرة ما تنشره الجرائد من حوادث كاستمالتهم للشبان
بالنساء الجميلات، وقلب أفكارهم بالتنويم المغناطيسي، وإغوائهم للبنات في
مدارسهم، بالترغيب والترهيب، وكذا الضرب والتعذيب، وليس للحكومة عندهم
أدنى قيمة، وسنبين في الجزء التالي ما يجب عمله في كف عدوانهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/231)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(بقية ما كتبناه للجزء الماضي من الرد على كتاب فريد أفندي وجدي
(الإسلام دين عام خالد) وزعمه فيه أن الإسلام هو أن يعمل كل إنسان بعلمه وعقله
وتفكيره بدون تلقين من أحد، وهو ما فسر به دين الفطرة، أي الطبيعة. وهذا
الزعم هدم لدين القرآن لا تفسير له، ولا توحيد لجميع الأديان، كما يزعم، ويعلم
القارئ ببطلان زعمه بالإيجاز مما يأتي:
(1) الإنسان عالم اجتماعي يعيش بالتعاون العلمي والعملي، وتنمى معارفه
كلها بتلقي بعض أفراده من بعض حتى إنه يستحيل أن يكون لكل فرد دين هو وليد
فكره وعقله وحده لم يتلق منه شيئًا من عشرائه، ومن انفرد بشيء فقلما يوافقه عليه
قومه، إذن يستحيل أن يكون ما ذكره هو الدين في كل قوم أو في البشر كلهم،
فتعين أنه يريد أن يكون لكل فرد دين يصح أن يسمى الإسلام.
(2) إن كانت الطبيعة التي يولد عليها كل طفل من البشر هي دين الله
الحق الذي سماه الإسلام، فكل ما يهتدي إليه الإنسان من أول نشأته إلى آخر حياته
بعلمه وتفكيره وعقله هو دين الإسلام، ومنه عبادة بعض الحشرات وغيرها من
حيوان ونبات وجماد، وهو يقتضي أن قبائل الهمج من معطلة ووثنية كلهم على
الإسلام، وأن الذي لا يصح أن يكون من دين الإسلام هو ما جاءهم به النبيون
المرسلون؛ لأنه تلقين تلقوه من الوحي ولقنوه للناس، لم يكن مما وصلوا إليه
بعلمهم وتفكيرهم.
(3) هل فهم أولئك العلماء المنتهون من تراجم القرآن بلغاتهم (وهو يشهد
لها بالصحة والدقة في تحديد معانيه) هذا المعنى الذي قرَّره في الآية؟ وهل كان له
من الوقع العظيم في عقولهم ما وصفه وصاروا به مسلمين مؤمنين بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم، ويكون القرآن كلام الله تعالى؟ أم هي مترجمة بلغاتهم بغير
المعنى الذي فسرها هو به، فيكون إيمانه موقوفًا على اطلاعهم على تفسيره؟
وكيف السبيل إلى اقتناعهم بتفسيره لها في هذه الحال وترجيحه على ما يخالفه من
فهم علمائهم وعلماء المسلمين كافة؟
(4) إذا أعجب هؤلاء العلماء المنتهون بهذه الآية من القرآن، وبالآية
الجامعة بين تنزيه الخالق عز وجل ووصفه ببعض صفات خلقه وهي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وأكبروا مخاطبة البشر بهما من
زهاء أربعة عشر قرنًا كما قال، واتخذوهما منهاجًا من مناهجهم العلمية الكسبية
بعقولهم، يسيرون عليها في تطلابهم للوصول إلى روح الوجود العام، أو وصاله
وصال العشاق للمعشوقات، وكان الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي يعدهم بهذا
مسلمين دائنين بدين القرآن، وإن لم يتبعوا ما أنزله الله تعالى فيه من عقائد
وعبادات وآداب وشرائع، ولم ينتهوا عما نهى عنه من المحرمات والرذائل؛ لأن
هذه الأصول والفروع من الدين مما يحتاج إليه من دونهم من الطبقتين الوسطى
والدنيا في رأيه، إن فرضنا صحة هذا كله فأي ربح للإسلام القديم وأهله منهم في
حفظ دين القرآن وتجديدهم إياه بفلسفته هو، وما هو إلا إسلامه دون إسلام محمد
صلى الله عليه وسلم وأتباعه؟ أم يريد أن يكونوا أتباعًا له في هذا، فيسمون
محمديين وجديين؟
(5) مَن هؤلاء العلماء المنتهون وكم عددهم؟ أليسوا أفراد الفلاسفة والعلماء
الذين انقطع كل منهم لإتقان مسألة أو مسائل من النظريات العقلية والاجتماعية
أو العلوم والفنون فلا يكاد يعنى بغيرها؟ إن هؤلاء إذا وافقوا القرآن في بعض آياته
فإنما يوافقونه كما يوافق كل منهم غيره فيما يستحسنه من رأيه، لا لاعتقادهم أنه
كلام (روح الوجود العام) الذي هو أقرب وسائل الوصول إليه والزلفى عنده،
وإنما هو الوسيلة إلى ذلك ببيان الرسول له بأمره، ولن يكونوا مسلمين إلا بهذا
الإيمان، وبما يستلزمه من الأعمال، ولن يصلوا إلى أعلى ما يمكن للبشر أن
يصلوا إليه في الدنيا من معرفة الله عز وجل والكمال في حبه المؤهل لما هو
فوق ذلك في الآخرة إلا بهذا الإيمان والإسلام، دون الإسلام الذين اخترعه محمد
فريد أفندي وجدي.
(6) إن تسميته ما فعلته الجمهورية التركية من رفض الإسلام كله وإجبار
شعبها على اتباع ترجمة القرآن بالتركية وكتابته بالحروف اللاتينية والتعبد بها من
اعتقادهم أنه حرام أو كفر، قد يكون عنده من إسلام المنتهين وهو في اعتقاد جميع
المسلمين كفر وارتداد عن الإسلام ممن كان مسلمًا، فما باله يخاطب به المسلمين
في جريدة سياسية يومية (جريدة الجهاد) مُلَبِّسًا عليهم بأنه مجدِّد للإسلام؟
(7) ليخبرنا الأستاذ فريد أفندي وجدي عمن يعرف في قومه الترك من
هؤلاء العلماء المنتهين الهائمين في حب روح الوجود العام المتطلعين لوصاله؟ هل
مصطفى باشا كمال وعصمت باشا وأمثالهم من رجال الحرب منهم؟ وما حقيقة
العبقرية التي زعم أن الترك فاقوا بها غيرهم من الشعوب فأقر هو بسببها حكومتهم
العسكرية على رفضها للشريعة الإسلامية المشتملة على كل ما تحتاج إليه الطبقة
الوسطى والطبقة الدنيا من هداية الدين مما لا يوجد في غيرها، وقد فضلت هذه
الحكومة شرائع سويسرة وإيطالية وغيرهما عليها، ولم تستطع أن تسن شريعة
تركية لائقة بعبقريتها؟
إن كانت هذه العبقرية هي استبسالهم في ظفرهم على اليونان الضعيفة في
عقر دارهم وقلب وطنهم وهو الأناضول فكيف يطمع في إقناع الأمم الفاتحة التي
قهرت الترك، ومن هم أقوى من الترك بقبول الإسلام الصحيح أو بإسلامه هو،
وكلها متعصبة لأديانها؟
إن من أعجب ما في مصر من الفوضى الدينية والأدبية أن ينشر فيها مثل هذا
الإلحاد السخيف، ويوجد في المسلمين مَن يثني عليه، وعلى كاتبه بنصر الإسلام،
والانفراد ببيان حقيقته للأنام، وينشر هذا الثناء في الجريدة التي نشرته، ثم لا
يجد من شيخ الأزهر، ولا هيئة كبار العلماء فيه، ولا محرري مجلته التي سميت
باطلاً (نور الإسلام) من يخطئه ويبين له ولقراء كلامه أنه دعوة إلى إبطال
الإسلام.
وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة؛ إذ لقيته في دار سفارة
الدولة الأفغانية - وكان قد نشر مقالاً في الانتقاد على فريد أفندي وجدي فقلت له:
إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد على مجلتكم، وإن الثناء عليها من فئة لا
تخلو من بعض الأزهريين، والسكوت عليها منكم ومن سائر العلماء، يتضمن
نقض نقدكم، وترجيح فهمه للإسلام على فهمكم، الذي هو فهم المشيخة الرسمية
وأتباعها فسكت، وكلمت أيضًا بعض من لقيت من علماء الأزهر في هذا المعنى.
وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في حقيقة
الوحي المحمدي وحجة القرآن على جميع البشر الذي نشرت أكثره في تفسير المنار
وطبعته في كتاب مستقل، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل،
ومنه تفسير دين الفطرة، فلما أهدى إليَّ الكتاب صار من الواجب عليَّ شرعًا أن
أعجل بهذا النقد له قبل صدور كتاب (الوحي المحمدي) .
__________(33/238)
ربيع الأول - 1352هـ
يونيه - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم الشرع فيمن يساعد اليهود على امتلاك فلسطين
ببيع أرضها وغير ذلك
(س7) من حضرة صاحب الإمضاء إلى صاحب المنار، بعد خطاب
طويل:
لقد وصلت حالة البلاد الفلسطينية إلى درجة من أسوأ الحالات وأصبح هذا
القطر العربي الإسلامي مهددًا بخطر الاضمحلال والزوال بسبب ما تسرب إلى
أيدي أعداء البلاد من الأراضي المقدسة التي تعد بحق هي الحصون التي يجب على
كل مسلم أن يدافع عنها إلى آخر نسمة من حياته.
ولقد أعلن اليهود مرارًا أنهم يريدون الاستيلاء على هذه البلاد المقدسة استيلاء
أبديًّا تامًّا، وأن يجعلوها يهودية، كما أن إنكلترا إنكليزية، وقد بدأت نتائج غزوتهم
تظهر جلية واضحة، فقد أصبح عدد كبير من المسلمين مشردين بلا مأوى، وهذه
مقدمة لتشريد بقية السكان وإجلائهم عن بلادهم، كما أنهم استولوا على مرافق البلاد
الاقتصادية ولم يبق للمسلمين غير القليل من أراضيهم التي إن لم يحافظوا عليها
أصبحت فلسطين المقدسة يهودية بالفعل بعد زمن قليل.
إن أعداء البلاد يريدون فتحها والاستيلاء عليها بالمال، ولو أنهم أرادوا
افتتاحها حربًا وقعد أحد أبنائها عن الجهاد أو قام يساعد الخصوم على امتلاكها لقلنا:
إنه خارج على دينه وقومه، فما رأيكم فيمن يساعدهم على تمليكهم البلاد وهذا
لا يقل خطورة عمن يقعد عن الجهاد أو يساعد الخصم؟
وهل يجوز لمن يؤمن بالله واليوم والآخر، وبكتاب الله وشريعته ورسوله أن
يبيع أرضه لليهود بعد أن يعلم أنه إن فعل ذلك مكَّنَهم من مقدسات المسلمين وساعدهم
على القضاء على الإسلام، وطرد إخوانه من بلادهم؟ وما حكم أمثال هؤلاء في
الإسلام، رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشبان العربي بفلسطين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد يعقوب الغصين
(الجواب)
(بسم الله الرحمن الرحيم) رَبِّ آتني حكمًا وفهمًا وعلمني من لدنك علمًا،
أما بعد فإن حكم الإسلام في عمل الإنكليز واليهود الصهيونيين في فلسطين
حكم قوم من أهل الحرب أغاروا على وطن من دار الإسلام فاستولوا عليه بالقوة
واستبدوا بأمر الملك فيه، وشرعوا في انتزاع رقبة أرضه من أهله بتدابير منظمة
ليسلبوهم المِلْك (بكسر الميم) كما سلبوهم المُلْك (بضمها) وحكم من يساعدهم
على عملهم هذا (امتلاك الأرض) بأي نوع من أنواع المساعدة وأية صورة من
صورها الرسمية (كالبيع) وغير الرسمية (كالترغيب) حكم الخائن لأمته وملته،
العدو لله ولرسوله وللمؤمنين، الموالي لأعدائهم وخصومهم في ملكهم وملكهم، لا
فرق بينه وبين المجاهد معهم للمسلمين بماله ونفسه، فالذي يبيع أرضه لليهود
الصهيونيين في فلسطين والذي يسعى في شراء أرض غيره لهم من سمسار وغيره
كالذي يساعد أي قوم من الأجانب على قومه فيما يحاولون من فتح بلادهم بالسيف
والنار، وامتلاك أوطانهم، بل أقول ولا أخاف في الله لومة لائم، ولا إيذاء ظالم:
إن هذا النوع من فتح الأجنبي لدار الإسلام هو شر من كل ما سبقه من أمثاله من
الفتوح الحربية السياسية والدينية على اختلاف أسمائها في هذا العصر؛ لأنه سلب
لحق أهل الوطن في ملك بلادهم وحكمها، ولحقهم في ملك أرضها لأجل طردهم
منها. ومن المعلوم بالبداهة أنه إذا بقي لنا ملك الأرض تيسر لنا إعادة ملك الحكم،
وإلا فقدناهما معًا.
هذا وإن فقد فلسطين خطر على بلاد أمتنا المجاورة لهذا الوطن منها، فقد
صار من المعلوم بالضرورة لأهل فلسطين والمجاورين لهم، ولكل العارفين بما
يجري فيها من عزم اليهود على تأسيس الوطن القومي الإسرائيلي واستعادة ملك
سليمان بقوة المال الذي هم أقطاب دولته الاقتصادية، وبقوة الدولة البريطانية
الحربية أن هذا الخطر سيسري إلى شرق الأردن وسورية والحجاز والعراق، بل هو
خطر سينتقل من سيناء إلى مصر.
وجملة القول أن الصهيونية البريطانية خطر على الأمة العربية في جميع
أوطانها الأسيوية وفي دينها ودنياها، فلا يعقل أن يساعدها عليه عربي غير خائن
لقومه ووطنه، ولا مسلم يؤمن بالله تعالى وبكتابه العزيز وبرسوله محمد خاتم
النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه، بل يجب على كل مسلم أن يبذل
كل ما يستطيع من جهد في مقاومة هذا الفتح، ووجوبه آكد على الأقرب فالأقرب،
وأهون أسباب المقاومة وطرقها المقاومة السلبية، وأسهلها الامتناع من بيع أرض
الوطن لليهود، فإنه دون كل ما يجب من الجهاد بالمال والنفس الذي يبذلونه هم في
سلب بلادنا وملكنا منا.
ومن المقرر في الشرع أنهم إن أخذوها وجب على المسلمين في جملتهم بذل
أموالهم وأنفسهم في سبيل استعادتها، فهل يعقل أن يبيح لنا هذا الشرع تمهيد السبيل
لامتلاكهم إياها بأخذ شيء من المال منهم وهو معلوم باليقين؛ لأجل أن يوجب علينا
بذل أضعاف هذا المال مع الأنفس لأجل إعادتها لنا وهو مشكوك فيه؛ لأنه يتوقف
على وحدة الأمة العربية وتجديد قوتها بالطرق العصرية، وأنَّى يكون ذلك لها وقلب
بلادها وشرايين دم الحياة فيها في قبضة غيرها؟ فالذي يبيع أرضه لليهود في
فلسطين أو في شرق الأردن يعد جانيًا على الأمة العربية كلها. لا على فلسطين
وحدها.
ولا عذر لأحد بالفقر والحاجة إلى المال للنفقة على العيال، فإذا كان الشرع
يبيح السؤال المحرم عند الحاجة الشديدة، ويبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير
للاضطرار، وقد يبيح الغصب والسرقة للرغيف الذي يسد الرمق ويقي الجائع من
الموت بنية التعويض، فإن هذا الشرع لا يبيح لمسلم بيع بلاده وخيانة وطنه وملته
لأجل النفقة على العيال، ولو وصل إلى درجة الاضطرار، إن فرضنا أن
الاضطرار إلى القوت الذي يسد الرمق يصل إلى حيث لا يمكن إزالته إلا بالبيع
لليهود وسائر أنواع الخيانة، فالاضطرار الذي يبيح أمثال ما ذكرنا من المحظورات
أمر يعرض للشخص الذي أشرف على الموت من الجوع وهو يزول برغيف واحد
مثلا، وله طرق ووسائل كثيرة.
وإنني أعتقد أن الذين باعوا أرضهم لهم لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله
ولرسوله ولدينه وللأمة كلها، كخيانة الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام
وإذلال أهلها، وهذا أشد أنواعها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27-
28) .
__________(33/273)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة غيبية ومالية
(س8-11) من صاحب الإمضاء في مركز المنصورة مصر:
حضرة صاحب الإرشاد الأستاذ المجاهد في الله شيخ الإسلام السيد محمد رشيد
رضا.
سلام الله عليكم أهل البيت ورحمته وبركاته. وبعد فإني ألتمس من فضيلتكم
الفُتْيَا على ما يأتي بأدلتكم العقلية المنطقية، وبراهينكم النقلية الصحيحة، راجيًا
نشرها في المنار؛ ليعم النفع ولكم الشكر منا والثواب من ربنا.
(1) هل شُقَّ صدرُ النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجت منه علقة سوداء،
أو علقتان وما الحكمة في ذلك؟ والقلب الذي هو بيت الحكمة غير محسوس، فهل
يريد أهل السير بتلك الروايات التي أخالها ضعيفة تنقية قلبه الجسمي الصنوبري أم
قلبه الروحي؟
(2) ما معنى خاتَم النبوة، وهل كان يُرَى وما الحكمة؟ أهو معجزة نقول
للناس هذا خاتم الأنبياء بدليل هذا الطابع أم ماذا؟
(3و4) إن فلانا يدخر أمواله في صندوق التوفير ويأخذ نظير ذلك ربحًا
ولئن سألته ليقولن لك هذا حِلٌّ، أفتى به الأستاذ الإمام، فما حكم هذا، وحكم
المودعين في المصارف والبنوك بربح مقدر معروف؟
(5) يزعم أحد المبشرين أن الجن لم يساعدوا سليمان وأنه لم يعرف منطق
الطير، وأن الهدهد لم يكن هو السبب في اتصال ملكة سبأ به، وراجع من
الإصحاح الثاني بالإصحاح التاسع من أخبار الأيام الثاني، ولولا أن أحد المسلمين
المثقفين بالعلوم الحديثة استحسن رأيه وصوَّبه ما كنت اكترثت بكلام هذا المبشر
الضليل، فهل حقًّا لم يرد ذلك في الكتب التي بأيديهم، وهل تؤول تلك الآيات
المحكمة عندنا نظرًا لإرضاء عقلية متعلمنا المخصص في التاريخ كما يزعم (أعوذ
بالله من هذا التعليم) أفتنا على عجل بربك الذي وقفت نفسك على إظهار دينه الحق
وتطهيره من أدناس المبطلين، وسلام عليك وعلى جميع المصلحين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الغفار الجيار
... ... ... ... ... مدرس بمنية محلة دمنة مركز المنصورة
(8) شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج ابن إسحاق وابن راهويه وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم
وابن عساكر من طريق عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حديثًا طويلاً عن حليمة
بنت الحارث السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة منه أنه صلى الله
عليه وسلم كان بعد شهرين أو ثلاثة من سنته الثالثة خلف بيوتهم مع أخ له من
الرضاعة فجاء أخوه يشتد فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب
بياض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائمًا منتقعًا لونه
فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني ما شأنك؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بياض
فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئًا فطرحاه ثم رداه كما كان. وفيه أنهما
خشيا أن يكون قد أصيب فرداه إلى أمه. إلخ
(أقول) من المعلوم أن عبد الله بن جعفر لم يسمع هذا الحديث من حليمة بل
قال الذين أخرجوه عنه: إنه قال: حُدِّثْتُ عن حليمة، ولم يذكر مَن حدثه به، وقد
أخرجه ابن إسحاق من طريق نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع
الحديث، وعبد الله بن جعفر ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها.
وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة
مخالفة للأولى في سياقها، وفي موضع وقوعها إلخ، وهي التي يذكرونها في بعض
قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الفلابي عن يعقوب بن جعفر بن
سليمان عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، وقد قال الدارقطني في
محمد بن زكريا الفلابي مخرجه: إنه كان يضع الحديث وصرَّح غيره بكذبه أيضًا.
وأخرج مسلم عن شيبان بن فروخ حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع
الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا
حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ ثم أعاده في
مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قتل
فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره اهـ.
أقول: هذه الرواية تقوي رواية عبد الله بن جعفر عن حليمة ويحتمل أن
يكون أنس سمعها منه فهو لم يقل: إنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ولا
من غيره، وحماد بن سلمة تركه البخاري وهو من أثبت من رَوَى عن ثابت
البناني، ولكنه تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، على أن أنسًا رضي الله عنه كان
بعد كبر سنه ينسى بعض ما حدَّث به، ويقال: إن مسلمًا تحرى من رواية حماد
عن ثابت ما سمعه منه قبل تغيره.
ثم أخرج مسلم عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك
يحدثنا عن ليلة أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة
نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصة نحو حديث
ثابت البناني وقدم فيه شيئًا وأخر وزاد ونقص اهـ. وهي معارضة بما يأتي،
وهو أصح منها.
أقول: رواية شريك عن أنس في قصة الإسراء والمعراج طويلة، وفيها أنها
كانت قبل البعثة، وهي مخالفة لرواية ثابت البناني من كل وجه، وقد أخرجها
البخاري برمتها في التوحيد، وفيها أن القصة ومنها شق الصدر كانت رؤيا منامية.
وأقوى الروايات في شق الصدر ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس
ابن مالك عن مالك بن صعصعة من حديث الإسراء والمعراج الطويل، وليس لمالك
هذا غير هذا الحديث الذي يرويه أنس عنه وفيه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
حدَّثه عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحِجْر -
مضطجعا - إذ أتاني آتٍ فَقَدَّ - قال: وسمعته يقول فشقَّ - ما بين هذه وهذه - أي
أشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب
مملوءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد) . هذا لفظ البخاري وزاد مسلم (ثم
حشي إيمانًا وحكمة) إلخ، ومن المعلوم بالضرورة أن الإيمان والحكمة ليسا مادة
جسمانية فتوضع في القلب الجسماني.
وجملة القول: أن الروايات في شق الصدر مختلفة من عدة وجوه، وأقواها
أنه كان ليلة الإسراء بعد البعثة، وحملها بعضهم على التعدد، وقد كانت في حالة
بين النوم واليقظة، وفي رواية شريك في حالة النوم؛ لأنه يقول في أولها: (بينا
أنا نائم) في أخرها (ثم استيقظت) والاختلاف فيها كالاختلاف في سائر أخبار تلك
الليلة، سببها أنها أخبار عن أمور غيبية فالإحاطة بها تتعذر أو تتعسر.
والظاهر من مجموعها أنها تمثيل لحفظ نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقلبه
من حظ الشيطان من سائر بني آدم بالوسوسة والإغواء، فالمراد منها أن الله تعالى
طهَّر نبيه وصفيه من كل ما لا يليق بمنصبه الأعلى من الشهوات والأهواء التي
هي موضوع وسوسة الشيطان، وكثيرًا ما تتمثل المعاني بالصور الحسية في المنام
وفي الكشف الروحاني كما ثبت في رؤى النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة، وفي
رؤيا يوسف عليه السلام، والرؤى التي أولها لصاحبيه في السجن ثم لملك مصر.
وقد استشكل بعض الفقهاء استعمال طست الذهب وأجابوا عنه بأنه كان قبل
تحريم استعمال أواني النقدين، وهي غفلة تامة من وجوه من أظهرها أن جبريل
عليه السلام مكلف في عالم الغيب وفي تصوير الحقائق للنبي صلى الله عليه وسلم
بالصور الحسية، وأن يتبع فروع الشريعة العملية، وقد لمح هذا الحافظ ابن حجر
فقال بعد ذكر جوابهم الأول: ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص
بأحوال الدنيا وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب فيلحق بأحكام
الآخرة، والظاهر ما حققناه؛ إذ لا يعقل سواه، وقد علمت منه أن دعوى رؤية
أخي النبي في الرضاع لشق الصدر ورؤية أنس لأثر المخيط فيه لا تصحان، ولو
كان في صدره أثر خياطة لرواها أمهات المؤمنين وغيرهن لغرابتها، ولما هاجر
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أنس ابن عشر سنين وخدم النبي صلى
الله عليه وسلم عشر سنين، ومات سنة 93 على الأرجح فكان عمره 103 سنين
رضي الله عنه.
(9) خاتم النبوة ومعناه:
ثبت في أحاديث الصحيحين وغيرهما أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم
علامة تسمى خاتم النبوة، وهي غدة بين كتفيه مثل بيضة الحمامة تشبه الخال
الكبير، وقد اختلفت الروايات في حجمه ولونه وصفته وكونه بين كتفيه أو مائلا
إلى الكتف الأيسر عند غضروفه، وفي بعضها أن حوله ثآليل. والروايات
الصحيحة فيه متقاربة، وثم روايات باطلة لا حاجة إلى الإشارة إليها، ردها الحافظ
ابن حجر وغيره.
والمشهور أن هذا الخاتم كان من العلامات المأثورة عن علماء أهل الكتاب
لنبي آخر الزمان كما ورد في رواية إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وفي
بعض روايات بحيرا الراهب، وهذه لا تصح، وفي بعض الروايات أن الملك
ختمه بهذا الختم عقب شق صدره فظهر أثره فيه ولم يخلق معه، وقالوا: إن حكمته
الإشارة إلى عصمته صلى الله عليه وسلم من وسوسة الشيطان في تفصيل لهم
معروف، والله أعلم.
(10 و11) صندوق التوفير والبنوك:
ذكرنا في المنار مرارًا، وفي تاريخ الأستاذ الإمام أن الحكومة لما أرادت
إنشاء صندوق التوفير في مصلحة البريد طلب سمو الخديو جماعة من علماء
المذاهب الأربعة في الأزهر لمقابلته في قصر القبة وسألهم عن طريقة شرعية له،
فوضعوا له طريقة مبنية على قاعدة شركة المضاربة فاستفتت الحكومة فيها مفتي
الديار المصرية وكان الأستاذ الإمام رحمه الله فوافق عليها فاعتمدت الحكومة على
ذلك فنفذت المشروع.
وأما الذين يودعون أموالهم في المصارف بربح معين فله صور كثيرة، فمنه
ما يدخل في شركة من الشركات التجارية أو الصناعية أو التجارية المشهورة في
بنك مصر، وما ليس كذلك فما كان منه يستغل كصندوق التوفير فله حكمه، وما
كان دينًا للبنك بربح سنوي فهو ربا ظاهر، ونحن قد وضعنا كتابًا خاصًّا في أحكام
الربا والشركات المالية العصرية طُبِعَ أكثره وشغلتنا الشواغل ومنها العسرة عن
إتمامه، ونرجو أن يتم في هذا العام فيكون كافيًا في هذه المسائل الكثيرة التي نُسْأَل
عنها فنرجئ الجواب.
(12) تسخير الجن لنبي الله سليمان:
هذه مسألة واردة في كتاب الله تعالى ليس لمسلم أن يعتد فيها بكلام نصراني
مبشر ولا منفر، ولا باستحسان مسلم مثقف بالعلوم العصرية لقول المبشر، ولعله
أبعد منه عن الإسلام، وأما ما يحتج به المبشر والمثقف من عدم ورود ذلك في
أخبار الأيام ولا أخبار الملوك من أسفار العهد العتيق، فلا حجة فيه علينا، ودليلنا
المنطقي الجدلي على رده أن السكوت عن ذكر الشيء لا يقتضي عدم وقوعه أو
نفي وجوده، ودليلنا الشرعي أن كتبهم التشريعية التي صدقها القرآن - وهي التوارة
والإنجيل والزبور - لا حجة علينا فيما عندهم منها؛ لأنه قد ثبت بنص القرآن أنها
محرفة، وأنها لم توجد كاملة صحيحة كما أنزلت، وإن الله تعالى أنزل القرآن
مهيمنًا عليها، فما وافقه منها فهو المقبول، وما خالفه فهو مردود، وما كان بينهما
فهو موقوف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ولأن ما
قررناه فيه قد أثبتناه بالدلالة التاريخية من كتبهم وكتب التاريخ القديمة والحديثة،
وقد فصلنا هذا وذاك في المنار، وفي التفسير أيضًا. فإذا كان هذا حكم الشرع في
كتبهم التشريعية المنزلة، فأي قيمة تبقى لكتبهم التاريخية الموضوعة؟ وهل يقول
مسلم أو عاقل: إننا نتأول كتاب الله تعالى لأجل أن نوافقها فيما سكتت عنه أو فيما
خاضت فيه؟
وأما تأويل أمثال هذه الآيات؛ لأنها من الخوارق الغيبية التي أيد الله بها
بعض أنبيائه فلا يقول به إلا من كان تدينه بالوحي صوريًّا، لا إيمانًا حقيقيًّا، وإنما
يشترك في جواز التأويل أن يكون لظواهر غير قطعية الدلالة عارضها ما هو
قطعي شرعًا أو عقلاً، وكون أمور الغيب مخالفة للمعهود المألوف في عالم الشهادة
المادي لا يقتضي تأويلها؛ لتوافق السنن المادية، فلكل عالم سننه، وقد أقمنا
الدلائل على آيات الأنبياء وخوارق العادات مرارًا آخرها ما حققناه في كتاب
(الوحي المحمدي) الذي صدر حديثًا فراجعوه، وفي تفسير هذا الجزء شيء في هذا
المعنى فتأملوه.
__________(33/276)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة كتاب الوحي المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل
عمران: 18-20)
ارتقاء البشر المادي وهبوطهم الأدبي
وحاجتهم إلى الدين
إن من المعلوم اليقيني الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تَثِبُ في هذا
العصر وُثُوبًا يشبه الطفور، وتؤتي من الثمار اليانعة بتسخير الطبيعة للإنسان ما
صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة، وكأن أقطارها بيوت لهذه المدينة، وكأن
شعوبها أسر (عائلات) لأمة واحدة في هذه البيوت (الأقطار) يمكنهم أن يعيشوا
فيها إخوانًا متعاونين، سعداء متحابين، لو اهتدوا بالدين.
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن البشر يرجعون القهقرى في الآداب
والفضائل على نسبة عكسية مُطَّرِدَة لارتقائهم في العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها،
فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل، وجرأة على اقتراف الجرائم، وافتنانًا في
الشهوات البهيمية، ونقض ميثاق الزوجية، وقطيعة وشائج الأرحام، ونبذ هداية
الأديان، حتى كادوا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين
وأدب وعرف وعقل، بل رجع بعضهم إلى عيشة العري في أرقى ممالك أوربة
علمًا وحضارة، كما يعيش بعض بقايا الهَمَج السُّذَّج في غابات أفريقية وبعض
جزائر البحار النائية عن العمران.
وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد
جناية عليهم وعلى الإنسانية - من جنايتهم على أنفسهم - بإغرائها أضغان التنافس
بينهم، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون في الاستعداد للحرب العامة
التي تدمر صروح العمران التي شيدتها العصور الكثيرة، في أَشْهُرٍ أو أيام معدودة،
وتفني الملايين فيها من غير المحاربين كالنساء والأطفال، وبصرفها معظم
ثروات شعوبها في هذه السبيل وفي سبيل ظلمها للشعوب الضعيفة التي ابتليت
بسلطانها، وسلبها لثروتهم وحريتهم في دينهم ودنياهم، فالعالم البشري كله في شقاء
من سياسة هذه الدولة الباغية الخبيثة الطوية، وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء
أخطارها لم يزد نارها إلا استعارًا، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التي
تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم في سبيل الإصلاح الإنساني العام لبلغ البشر بها
أعلى درجات الثراء والرخاء.
كل ما ذكر معلوم باليقين، فهو حق واقع ما له من دافع، ومن المعلوم من
استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها، ونمت بنمائها،
فكان هذا برهانًا على أن العلوم والفنون البشرية المحض غير كافية لجعل البشر
سعداء في حياتهم الدنيا، فضلا عن سعادتهم في الحياة الآخرة، وإنما تتم السعادتان
لهم بهداية الدين، فالإنسان مدني بالطبع، أو بالفطرة كما يقول الإسلام.
من أجل ذلك فكر بعض عقلاء أوربة وغيرهم في اللجوء إلى هداية الدين،
وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها، وتمنوا لو يبعث
في الغرب أو في الشرق نبي جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها، ويقوِّمُ بها
منئادها؛ لأن الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر، وقد فسد حال جميع أهلها،
وكان ما يسمونه دين المحبة مِصْداقًا لآية: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (المائدة: 14) .
الحجب بين الإفرنج وحقيقة الإسلام:
بيد أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة دين القرآن، وهو الدين الإلهي العام، والمانع
لهم من معرفته ثلاثة حُجُب تحول دون النظر الصحيح فيه، وعدم فهمهم للقرآن كما
يجب أن يُفْهَم، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز:
(الحجاب الأول) الكنيسة أو الكنائس التي عادته منذ بلغتها دعوته،
وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال
الزور والبهتان، ما لم يعهد مثله في أهل ملة من البشر في زمن من الأزمان،
وألَّفَت في ذلك من الكتب والرسائل والأغاني والأناشيد والقصائد، ما يعرف بطلانه
كل مؤرخ مطلع على الحقائق، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته من أركان
التربية والتعليم في جميع المدارس التي يتولى أتباعها تعليم الناس فيها، فما من أحد
يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح وللمسيحيين
كافة فيجب عليه عدواتهم ما استطاع، والحق الواقع أن الإسلام هو صديق
المسيحية المتمم لهدايتها، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق
الذي بشَّر به المسيح عليه السلام
(الحجاب الثاني) رجال السياسة الأوربية، فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من
الكنيسة، وتلقوا مفترياتها في الطعن عليه بالقبول، وضاعف هذه العداوة له
والضراوة بحربه، طمعهم في استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم.
وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبًا وافتراء على الإسلام - ومن أسس
الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار - فأي شيء يكثر فعله
على رجال السياسة، وأساس بنائها الكذب وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان
والقسوة والأثرة والخداع، وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كل يوم في
المستعمرات الأوربية؟ بل نحن نعلم أن سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو
السياسة لا الدين نفسه، وإن قاعدتهم المشهورة (الغاية تبرر الواسطة) سياسية لا
إنجيلية، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله، وإن
دينية.
(الحجاب الثالث) سوء حال المسلمين في هذه القرون الأخيرة، فقد فسدت
حكوماتهم وشعوبهم، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم، حتى
صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا في دينهم، وأمكن لهؤلاء
الأعداء أن يقنعوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج في مدارسهم السياسية
والتبشيرية من ملتهم، حتى نابتة المسلمين أنفسهم، وهم يختارون من هذه النابتة
الأفراد التي تتولى أعمال الحكومة والتعليم في مدارسها في كل قطر خاضع لنفوذ
دولهم الفعلي، بأي اسم من أسمائه من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب، أو
لنفوذهم السياسي والتعليمي كما فعلوا في بلاد الترك وإيران، لتساعدهم على هدم
كل شيء إسلامي فيها من اعتقاد وأدب وتشريع، وقد كان السيد جمال الدين
الأفغاني حكيم الإٍسلام موقظ الشرق يرى أن هذا الحجاب أكثف الحُجُب الحائلة بين
شعوب أوربة والإسلام، ونقل لي الثقة عنه أنه قال: إذا أردنا أن ندعو أوربة إلى
ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين، فإنهم ينظرون إلينا من خلال
القرآن هكذا: - ورفع كفيه وفرَّج بين أصابعهما - فيرون وراءه أقوامًا فشا فيهم
الجهل والتخاذل والتواكل فيقولون: لو كان هذا الكتاب حقًّا مصلحًا لما كان أتباعه
كما نرى.
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر
المسلمين فأنصفوه فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة، ومن مباحث عامة في العلم
والدين، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة، ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم
يكن مُبَيِّنًا لحقيقته كلها، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم، وكان جُلُّ تأثيره في
أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا في بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم
آخرون، فهي لم تهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام.
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب، وأعني به الفهم الذي تعرف به حقيقة
إعجازه وتشريعه، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذي لا يحتاج البشر معه إلى
كتاب آخر ولا إلى نبي آخر - فله أسباب.
الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:
(أولهما) جهل بلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في
أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس المؤمنين والكافرين به جميعًا، فأحدث بذلك ما
أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية في العرب والانقلاب العام في البشر، كما
شرحناه في هذا الكتاب، وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها علماء
المسلمين موضوع تحدي البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه، وجعلوا
عجز العرب الخُلَّص عن معارضته بها، ثم عجز المولَّدين الذين جمعوا بين ملكة
العربية العلمية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان، هو الحجة الكبرى على نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادًا
متفرقين منهم - فما القول في غيرهم؟ فعلماء المسلمين في هذه القرون يحتجون بعجز
أولئك ولا يدعون أنهم يدركون سر هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه، بل قال بعض
علماء النظر المتقدمين منهم: إن الإعجاز واقع غير معقول السبب، فما هو إلا أن
الله تعالى صرف الناس عن معارضته بقدرته والصواب أن منهم من حاول المعارضة
فعجزوا؛ إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التي تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا،
ومن متأخري هؤلاء من ادعى النبوة كمسيح الهند القادياني الدجال، ومن ادعى
الألوهية (كالبهاء) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس؛ لئلا يفتضحوا به بين
الناس.
(ثانيها) أن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها علماء الإفرنج في فهم القرآن
كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر،
وإنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم، وقلما يكون فهمه تامًّا صحيحًا،
ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما: قصور
فهمه وقصور لغته، وقد اعترف لي ولغيري بهذا مستر (محمد) مارما ديوك بكتل
الذي ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ 3 سنوات فعرض على بعض علماء
العربية المتقنين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه، وصحح
بمساعدتهم ما ذاكرهم فيه.
واعترف بذلك الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي الذي كلفته وزارتا
الخارجية والمعارف الفرنسية لدولته بترجمة 62 سورة من السور الطول والمئين
والمفصل التي لا تكرار فيها ففعل. وقد قال في مقدمة ترجمته التي صدرت سنة
1926 ما معناه:
(أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جل وعلا، فإن الأسلوب الذي
ينطوي على كُنْه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًّا. والحق
الواقع أن أكثر الكُتاب ارتيابًا وشكًّا قد خضعوا لسلطان تأثيره (في الأصل: لتأثير
سحره، يعني تأثيره الذي يشبه السحر في كونه لا يعرف له سبب عادي) وإن
سلطانه على الثلاثمائة الملايين من المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ
الحد الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة
محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن.
(ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو [1] كان نثرًا جد
طريف، يفيض جزالة في اتساق نسق، متجانسًا مسجعًا، لفعله أثر عميق في نفس
كل سامع يفقه العربية (لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان
أداء تأثير هذا النثر البديع (الذي لم يسمع بمثله) بلغة أخرى، وخاصة اللغة
الفرنسية الضيقة (التي لا سعة فيها للتعبير عن الشعور) المرنة (التي لا تتنازل
عن حقوقها) والقاسية، وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات
العصرية ليست لغة دينية وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية) اهـ.
ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متواليات بمحاولة نقل شيء من
القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل (وتساءل هل
أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا؟ يعني أنه يشك في ذلك) .
(ثالثها) أن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربي،
وطريقته في مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض في
الآيات المتفرقة في السور - وهو ما بينا سببه وحكمته في هذا الكتاب - قد كان
حائلاً دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكل نوع من أنواع
علومه ومقاصده في باب خاص به، كما فعلوا في آيات الأحكام العملية من العبادات
والمعاملات، دون القواعد والأصول الاجتماعية والسياسية والمالية التي يرى
القارئ نموذجها في هذا الكتاب؛ إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر في
هذا العصر.
وقد عني بعض الإفرنج بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن
بحسب معانيها، ووَضْع كل منها في باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه، ولكنه أخطأ
في كثير من هذه المعاني وقصَّر في بعض، على أن أخذ القواعد والأصول العامة
من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في بيان
القرآن وتنفيذه لشرعه، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده، كما يعلم من يراجع
في ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه في كتابنا هذا من مقاصد القرآن
بالاختصار، وما فصلناه منها في تفسير المنار.
(رابعها) أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه
وسلم بالحكم وتتولى نشره بالعلم، ولا جمعيات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه
بالحجة، وليس لأهله مجمع ديني علمي يُرْجَعُ إليه في بيان معاني القرآن وهدايته
في سياسة البشر ومصالحهم العامة التي تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات
العلوم والفنون، وفيما يتعارض من العلوم ونصوص الدين فيرجع إليها علماء
الإفرنج في استبانة ما خفي عليهم من نصوصها.
وأعجب من هذا وأغرب أن المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون
الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم له كما
أمره الله تعالى فيه بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنها
استغناء تامًّا بأخذ عقائدهم عن كتب المتكلمين، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن
كتب علماء المذاهب غير المجتهدين، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على
البشر، ولا سيما أهل هذا العصر الذي ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية،
حتى صار المسلمون منا، يأخذون عنهم ما كانوا يأخذون عنا، بل فيها من آراء
المتكلمين والفقهاء، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعد حجة على الإسلام وأهله،
كما أن سوء حال المسلمين في فُشُوِّ الجهل في شعوبهم والفساد والانحلال في
حكوماتهم قد اتُّخِذَ حجة على دينهم، فصاروا فتنة للذين كفروا به.
وإذا كان هذا حال المسلمين في فهم القرآن وهدايته، فيكف يكون حال
الشعوب التي نشأت على أديان أخرى ألفتها، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم
عن غيرها، ودول حربية قد عادوا الإسلام منذ بضع قرون، بما لو وجهوه إلى
الجبال لاندكت وزالت من الوجود، ولكنه دين الله الحي القيوم فهو باقٍ ما دام البشر
في الأرض لا يزول أو تزول.
هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية
من الأجانب ومن المسلمين أيضًا وتمنيهم لو يبعث نبي جديد بهداية إلهية عامة كافية
لإصلاحهم.
ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكل ما تحتاج إليه جميع
الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية وجب على العقلاء الأحرار والعلماء المستقلين
الذين يتألمون من المفاسد المادية التي تفاقم شرها في هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك
الحجب التي تحجبهم عن النظر فيه، وإزالة الموانع التي تعوقهم عن فهم حقيقته.
***
بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام
بما تقوم به الحجة على جميع الأنام
أما بعد فإنني أقدم لهم هذا الكتاب الذي صنفته في إثبات (الوحي المحمدي)
وكون القرآن كلام الله عز وجل، وكونه مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه البشر من
الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي. وقد أطلت في بيان هذه
المقاصد الأساسية بعض الإطالة؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التي يشكو منها
عقلاء هذا العصر، وأما توفية هذا الموضوع حقه فلا يكون إلا في سِفْرٍ كبير يجمع
مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها في أمور معاشهم ومعادهم، وهو ما
أبينه في تفسير المنار بالتفصيل في شرح آياتها، وبإجمال قواعد كل سورة
وأصولها في آخر تفسيرها.
على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض، وإنما بدأت منه
بفصل استطرادي لتفسير آية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2) إلخ من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أن القرآن
وحي من الله تعالى كان محمد صلى الله عليه وسلم يَعْجَزُ كغيره عن مثله بعلمه
ولغته، وأنه أعم وأكمل وأثبت من كل وحي كان قبله، وأن حجته قائمة على
المؤمنين بالوحي وغيرهم، ثم بدا لي في أثناء كتابته أن أجرده في كتاب خاص
أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج واليابان إلى الإسلام، بتوجيهه أولا
إلى علمائهم الأحرار، حتى إذا ما اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم،
ولهذا زدت فيه على ما كتبته في التفسير، ووضعت له الخاتمة التي صرحت فيها
بالدعوة وجعلتها هي المقصودة بالذات منه.
ولو أنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة في موضعها، على أن
بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار متعمد فيها. ولكنني كتبته في أوقات متفرقة،
وحالات بؤس وعسرة، لا أراجع عند موضوع منها ما قبله، ولا أعتمد إلا على ما
أتذكره من القرآن نفسه، على صعوبة استحضار المعاني المتفرقة في سوره، وإلا
بعض الأحاديث في مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها، وإني أحيل
القارئ له في كل إجمال على مراجعة تفسير المنار في تفصيله، وفي كل إشكال
على مراجعة محرره: محمد رشيد رضا
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) يعني العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى في حواضرهم كمكة ويثرب.(33/282)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة كتاب المنار والأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ
الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا
وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) .
أحمد الله تعالى أن أنفقت 35 عامًا من عمري هي سن الشباب والكهولة في
الإصلاح الإسلامي العام وإصلاح الأزهر خاصة مع التزام الأدب والتواضع مع
أهله، واجتناب الدعوى، وإنني أوذيت في هذه السبيل بكل ما أوذي به طلاب
الإصلاح من قبلي فصبرت، وكان أغرب ما لقيته من الأذى بعد أن قامت الحجة
على صحة كل ما طالبت به الأزهر من الإصلاح، فتقرر فيه رسميًّا (إلا شيئًا
واحدًا وهو العناية بعلوم السنة) أن كوفئت من جمود مشيخة الأزهر الظواهرية،
وكنودها في مجلتها الخرافية، بما اضطرني إلى مكاشفة الأمة بفضيحة جهلها في
المنار وفي الجرائد اليومية، وأن أجمع مقالات ردي عليها في هذا الكتاب، وأن
أضع له مقدمة في خلاصة ماضي الأزهر وحاضره ودلائل مستقبله وخاتمة في
خلاصة جهادي في سبيل إصلاحه.
المقدمة
دخل الجامع الأزهر منذ سنتين في عهد جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى،
فإدارته تبث له دعاية سياسية في الجرائد التي تؤيد السياسة المصرية الحديثة، يُرَادُ
بها إقناع العالم الإسلامي بأن الأزهر الحديث أحق من الأزهر القديم في بث علوم
الإسلام والزعامة الدينية للمسلمين كافة، وإن لم يصرحوا بتفضيل الجديد على
القديم إلا بالثناء على ما استُحْدِثَ فيه، وجعله مناط الآمال، والجدارة بشد الرِّحَال،
ويعارض هذه الدعاية شكوى شديدة من سوء إدارة الأزهر الجديدة، وذبذبة التعليم
والتربية الخلقية والمادية فيه، وإفساد السياسة له، والخشية على مستقبل الدين
بتفرنجه.
أما تلك الدعاية فمصدرها سياسي محض، لا يؤيدها أحد من أهل الرأي
المعروفين من المسلمين، وأما هذه الشكوى التي تعارضها وتنقضها فأكثرها بأقلام
جماعة من علماء الأزهر الأحرار ومن غيرهم من الأدباء والشعراء، وتؤيدها
جميع صحف الأحزاب المصرية التي يثق بها السواد الأعظم من الشعب المصري،
فهي لا تخلو من السياسة أيضًا، وإنما هي سياسة وطنية تعارض سياسة تأييد
الحكومة الحاضرة باسم الأزهر أو من قِبَل شيخ الأزهر. ولهؤلاء العلماء والكتاب
وأصحاب الجرائد مطاعن بينة صريحة في فساد إدارة الأزهر لم نر أحدًا من قبل
مشيخته فَنَّدَهَا أو كذَّب أخبارها، بل بلغنا من ثقات الأزهريين أن الرأي العام أو
الغالب في الأزهر مخالف لسياسة شيخه، ولكنهم يخشون مغبة معارضته، وقد
سمعت رجلاً من كبار المسلمين أولي المكانة الدينية والعامة من غير المصرية يقول:
إن الأزهر لم يكن في عهد ولا في عصر من العصور أدنى مما هو الآن.
مدار الدعاية السياسية الجديدة للأزهر على جعله جامعة عصرية بمقتضى
قانونه الجديد ونظامه الجديد، وإنشاء الكليات فيه على نظام المدارس المدنية،
وتقرر إرسال بعثة من طلابه إلى أوربة لدراسة بعض علومها ولغاتها، وما حدث
بذلك للذين سيتخرجون فيها من الآمال في الرقي العصري - والتفصي من عقال
ذلك النظام القديم الذي انتهى بأهله إلى احتقار الأمة للأزهريين، وهضمها لحقوقهم
الدينية والأدبية، ونُبُوّ الأنظار عن زيهم، ونفور الطباع من أدبهم، حتى صار
بعضهم يفضلون الزي الإفرنجي والطربوش على زيهم المعروف، ويخشى أن
يفعلوا كما فعل جميع طلاب دار العلوم، بل ظهرت بوادر هذا من أناس منهم.
ومن رأي المعارضين أن هذا الأمل والرجاء الجديد، هو أخوف ما نخافه
على هذا المعهد الإسلامي القديم، الذي نفتخر بقدمه، وما كان له من خدمة العلوم
الدينية، والفنون العربية منذ القرون الوسطى، وأنهم يخشون على خريجي كلياته
أن يضيعوا القديم، ولا يتقنوا الجديد، فيكونوا في تجديدهم كالنساء: أسرف دعاة
التجديد بذم ما كان من تشددهن في الحجاب ووصف مساويه من ضعف الصحة
والجهل بفن التربية والتدبير المنزلي والاقتصاد، والحرمان من مجامع العلم،
والأدب والسياسة، وفي دعوتهن إلى السفور والاختلاط بالرجال في المحافل العلمية
والأدبية.
فكانت عاقبة تحقير القديم وتزيين الجديد لهن أن زدن على السفور الذي هو
كشف الوجه ما نراه من هتك الستور، والخروج إلى الأسواق والمتنزهات كاسيات
عاريات، والرقص مع الرجال، والسباحة معهم في البحار والأنهار، فأضعن
جميع فضائل الحجاب القديم، واستبدلن بها جميع رذائل التفرنج الجديد، ولم
يستفدن شيئًا من المنافع الاجتماعية والاقتصادية، كان يتعذر عليهن استفادته مع
المحافظة على الحياء والصيانة الإسلامية.
هذا ما يخشاه أكثر المسلمين على الأزهر من نظامه الحديث حتى دعاة التجديد
العصري، وقد نشر بعضهم هذا الرأي في الصحف، وعبر عنه الشاعر الأديب
محمد أفندي الهراوي في قصيدة أنشدها في الحفلة السنوية لجمعية الشبان المسلمين
بقوله فيها مخاطبًا جلالة الملك:
والأزهر المعمور أين مكانه؟ ... سل عنه أين؟ وأنت فوق مكانه
فرحوا وهم يبنون كلياته ... فليفرحوا بالطوب تحت دهانه
من يوم أن نقلوه من جدرانه ... قد طار سر الله عن جدرانه
فاسأل عن الأخيار من علمائه ... واسْأَلْ عن الأطهار من شبانه
المتقين الله حق تقاته ... الحافظين لدينهم وكيانه
العالمين بشرعه وكتابه ... العاملين بروحه وبيانه
والزي! حتى الزي لم يبقوا له ... ظلا لجبته ولا قفطانه [1]
مولاي يا ملك البلاد. وذخرها ... وملاذ هذا الدين عند هوانه
مصر بأزهرها القديم كما بدا ... بالطابع الموروث منذ زمانه
فأعد إليه عهده واستبقه ... تدفع به الإلحاد في عدوانه
ليس هذا الشاعر ومن على رأيه بمخطئين في خوفهم على الأزهر في هذا
الطور من الانقلاب السريع، ولكنهم لم يحيطوا بحال الأزهر علمًا؛ إذ ظنوا أن في
شيوخه وطلابه في هذا القرن من يشبهون علماء القرون الخالية في الانقطاع للعلم
لوجه الله تعالى، مع الزهد في حطام الدنيا ومناصبها، وعزة النفس، وعلو
الأخلاق، الذي كان به علماء الدين موضع ثقة الشعب واحترام الحكام، بحيث
يرجى أن تجد الأمة منهم مثل الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي كان يصرح بأن
أمراء مصر الترك هم من الرقيق الذين لا تجوز معاملتهم معاملة الأحرار في زواج
ولا بيع ولا شراء، فضلا عن عد أحكامهم شرعية تجب طاعتها، فتعطلت
بتصريحه مصالحهم، فلما هدده السلطان وأنذره العقاب شرع في الهجرة إلى الشام
بأسرته، وهى وطنه الأصلي، وشرع أهل مصر في اتباعه، حتى اضطر
السلطان إلى الركوب خلفه بنفسه واسترضائه، ولم يرض ويرجع عن فتواه ببطلان
إمارتهم إلا بعقد مجلس من التجار باعهم هو فيه بالمزاد، وأعتقهم الذين اشتروهم
في الحال، كما حكاه السبكي في طبقات الشافعية.
أو بحيث يوجد فيهم مثل الشيخ القويسني من المتأخرين الذي لم يفرح محمد
علي باشا الكبير بموافقته له على عمل من أعماله إلا مرة واحدة فافتخر بذلك،
وصرح بأن هذه أول مرة قال له الشيخ القويسني شيخ الأزهر: أحسنت وأصبت،
وكيف لا يُسَرُّ محمد علي بذلك وهو مَدِينٌ بإمارته للأزهر وزعماء رجال الدين وهم
الذين اختاروه لحكم البلاد ونصبوه واليًا عليها، وألزموا الدولة العثمانية صاحبة
السيادة الرسمية إقراره عليها، وفي عهد دولته بدأ ينحط نفوذهم وتزول زعامتهم،
حتى وصلت إلى ما يعلمه كل أحد في هذا العهد الذي يُرْشَق فيها شيخ الأزهر في
الجرائد يومًا في إثر يوم بأرجال من سهام النقد والتجريح، والتثريب والتفنيد، لا
في سوء إدارة الأزهر وكونه صار في عهده بيئة تجسس ومحاباة فقط، بل في
التقصير في المصالح الإسلامية العامة وفي مقاومة البدع الخرافية، وفي الدفاع عن
العقائد الدينية، وعن شعوب المسلمين الذين تحاول بعض دول الاستعمار ردهم عن
دينهم بالتنصير التعليمي والإجباري وإخراجهم من جنسيته وجامعة شريعته وإدخالهم
في جنسيتهم وجامعة دولتهم، بل تجرأ دعاة النصرانية (المبشرون) في هاتين
السنتين على ما لم يكونوا يتجرءون عليه في مصر من إهانة الإسلام بالقول والفعل،
وفتنة تلاميذ مدارسهم ولا سيما البنات عن دينهم، وإدخالهم في النصرانية بضروب
من الحِيَل والأذى، حتى هاج ذلك عامة الأمة وخاصتها، ونقمت من مشيخة الأزهر
تقصيرها، وإنه ليعز علينا ما وصلت إليه مشيخة الأزهر في هذا العهد من احتقار
الأمة لها، وكثر طعنهم في الصحف عليها، وما يقوله الناس في مجالسهم الخاصة،
وأنديتهم وسمارهم العامة، لهو شر مما يكتبونه في الصحف؛ لأن الحرية القانونية في
الكلام أوسع وأسلم عاقبة من الكتاب، وعقاب القانون على النشر، ويلخص رأي
الأكثرين بكلمة وجيزة هي آخر ما سمعته في هذا الموضوع من عالم أديب من أبناء
كبار الشيوخ الذين كانوا يحضرون دروس الأستاذ الإمام في الأزهر، قال: إن حال
الأزهر الآن شر مما كان في كل زمان، وإن حاله غدا لشر مما هو الآن، ولا يرجى
صلاحه ألبتة. وهذا عين رأي المرحوم سعد باشا زغلول كما نقلته عنه في المنار
وعقب وفاته.
وبلغ من مقت الأمة لشيخ الأزهر الظواهري أن تصدَّى بعضهم لاغتياله،
حتى صار في وجل دائم على حياته، إذا خرج لزيارة بعض مشاهد الصالحين
للتبرك والتوسل الذي نشأ عليه تربية ووراثة، يعود من غير الطريق الذي ذهب
منه.
وأما رأيي الخاص في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله فهو مخالف لكل
الآراء التي يتحدث بها الناس من بعض الوجوه إن لم يكن من جميعها، وهاك
خلاصته:
ماضي الأزهر وأطواره فيه:
الأزهر لم يُؤَسَّس على التقوى من أول يوم كما يدعون. وإنما كان كمسجد
الضرار، أسسه الباطنية سنة 360 هـ لبثِّ دعوتهم الإلحادية التي بيَّنها العلامة
المقريزي في خططه، ومنها يُعْلم صدق قول حجة الإسلام أبي حامد الغزالي فيهم:
ظاهرهم الرفض , وباطنهم الكفر المحض. ومن أعلم بكنه حالهم من أبي حامد
صاحب الحجج البالغة في مناظرة دعاتهم، والمصنفات القيمة في الرد على نحلتهم
(كفضائح الباطنية، والمستظهري، والقسطاس المستقيم) ؟ ويليه تلميذه القاضي
أبو بكر بن العربي الذي وقف على دخائلهم في أثناء رحلته إلى المشرق وناظرهم
كما ترى في كتابه العواصم والقواصم، ولا يزال يجهل هذه الحقائق أكثر المسلمين،
ويظن بعضهم أن الطعن في الفاطميين كان من دعاية العباسيين، لا فرق بين
الطعن في نسبهم والطعن في دينهم.
وبعد أن ثُلَّ عرشهم، وقضى على دعوتهم سلطان الإسلام المجاهد صلاح
الدين يوسف الأيوبي، سنة 567 دخل الأزهر كغيره من المساجد والمعاهد
المصرية في حوزة أهل السنة، ولكن ظل مدة مائة سنة لا تقام فيه الجمعة إذ
حصرت إقامتها في مسجد الحاكم لسعته، أعيدت إليه سنة 665 وقد خرب الأزهر
كغيره بزلزال سنة 702 ثم جدده بعض أمراء دولة المماليك البحرية وأنشئوا
بالقرب منه عدة مدارس، ووقف على طلاب العلم فيه كثير من الأوقاف. وقد تخرج
فيه كثير من العلماء الذين كانوا يقومون بمناصب القضاء العام والحسبة
والإفتاء والتدريس، ولبعضهم مصنفات مفيدة في علوم اللغة والشرع والتاريخ.
وكان ازدهار العلم فيه وفي غيره من مدارس مصر من أوائل القرن الثامن
إلى آخر القرن العاشر، وطفق بعده يرجع القهقرى بسرعة كان من أهم أسبابها
تفضيل مصنفات المتأخرين على كتب الأئمة الأولين، حتى صار أهل كل جيل
يدرسون كتب شيوخهم من الحواشي التي وضعوها على كتب من قبلهم من
المتأخرين، ثم صاروا يضعون لبعض هذه الحواشي تقارير يوضحون بها
غوامضها، وابتدعوا في التعليم المناقشة في عبارات المؤلفين في درجاتها الأربع:
المتن، الشرح، الحاشية، التقرير. فانحصر الغرض من التدريس والتأليف في
عبارات هذه الكتب التي صنفت كلها بعد ذهاب دولة العلم، حتى صار عبارة عن
التعبد بهذه المناقشة التي عبر عنها شيخنا الأستاذ الإمام بقوله: إنهم يتعلمون كتبًا لا
علمًا، وبقوله في رسالة التوحيد في وصف هذه الكتب: اختارها العجز وفضلها
القصور.
ولكن الأوقاف على الأزهر وأروقته ظلت تتوالى من الأمراء والأغنياء وهي
التي حفظته وجعلته مثابة إلى الآن أتى على الأزهر ثلاثة قرون لم يَنْبُغْ فيها عالم
مستقل في علم من العلوم كعلماء القرون الأولى أو الوسطى إلى القرن العاشر كابن
عبد السلام وابن دقيق العيد من الجامعين، والحافظ العراقي والحافظ العسقلاني من
المحدثين، وكذا السخاوي والسيوطي من بعدهما، وكابن هشام من علماء العربية،
ومن الغريب الذي كان مجهولاً في مصر أنه نشأ في القرون الثلاثة الأخيرة أفراد
من علماء الشرع المستقلين والإحصائيين في سائر الأقطار الإسلامية كالمقبلي
والشوكاني وابن الوزير والمرتضى الزبيدي في اليمن، والشهاب الآلوسي في
العراق، وابن عابدين في الشام، والسيد جمال الدين في الأفغان، والسيد حسن
صديق خان في الهند، وناهيك بنهضة علوم الحديث في الهند من عهد ولي الله
الدهلوي إلى الآن، وفي هذه القرون ضعفت علوم الحديث في الأزهر حتى ذابت
وزالت، ولم يبق لها مدرس مفيد، ولا طالب مستفيد.
وما زال العلم في الأزهر يهبط ويتدلى، ويتقلص كالظل ويتولى، والشعب لا
يشعر بما يصيبه لغلبة الجهل عليه، حتى جاءت الدولة العلوية بالنهضة المدنية
العصرية وصارت تبعث البعوث إلى أوربة لتلقي العلوم والفنون فيها، فكان هذا
العصر عصر القضاء المبرم الأخير على دولة الأزهر وعزه ومكانته في الأمة،
وخدمته للملة، وإن كان الإقبال على المجاورة فيه قد زاد ولم ينقص، فأبناء
الفلاحين قد كثروا فيه بعد وضع نظام الجندية وإعفاء طلبة العلم من خدمتها
بالشخص أو المال، والمجاورون من الأقطار كثروا لقلة العلم في بلادهم ووجود
جراية الوقف التي يستعينون بها، كذلك ظل عدد طلاب العلم يكثر والعلم نفسه يقل،
وهاك بيان سبب ذلك مجملاً:
دخلت البلاد المصرية في طور جديد بتجدد الدولة ما كان يمكن أن يبقى علم
الأزهر فيه على ضعفه كافيًا للأمة في تقرير عقائدها والدفاع عنها، ولا في طريقة
تدريس الشريعة والتأليف فيها، ولا في الأدب النفسي واللغوي، ولهذا آل الأمر في
هذه الدولة إلى ترك أحكام الشريعة المدنية والجزائية (العقوبات) والسياسية
والعسكرية والمالية، ونسخها بالقوانين الأوربية، وكثرت المدارس الإفرنجية
والأميرية المقلدة لها من عهد إسماعيل باشا، ثم جاء الاحتلال الإنكليزي فكانت له
السيطرة على مدارس الحكومة، وكادت تلغى المحاكم الشرعية لشدة شكوى الأمة
منها، لولا ما تصدى له الأستاذ الإمام من إصلاحها وتولى جميع أعمال الدولة حتى
التعليم في مدارسها من يتعلمون فيها أو في مدارس أوربة، فصار المتخرجون في
الأزهر كالعالة على الأمة يعتقد حكامها وزعماؤها أنهم لا يصلحون لعمل ما فيها،
واشتد التفرنج من عهد إسماعيل باشا وما فيه من حرية الإلحاد والفسق والسرف
والبذخ حتى كاد يقضي على الأمة والدولة، ولم يرتفع من الأزهر صوت في إنكار
شيء من ذلك، ولم يتخرج فيه أو يخرج منه عالم يدعو إلى الإصلاح والتجديد،
ولا كتاب مؤلف فيه علم جديد، من دفاع عن الإسلام أو دعوة إليه - إلي أن ظهر
الموقظ المجدد الأفغاني وتلاه المصلح المصري. فكان الثاني أول أزهري دعا إلى
إصلاح الأزهر بعد عودته من النفي، وكانت مجلتنا (المنار) لسان حاله، وأقوى
مُظَاهِر له في إصلاحه.
تجديد الحكيم الأفغاني والمصلح المصري للأزهر وغيره:
وفد السيد جمال الدين الأفغاني على مصر في أواخر القرن الثالث عشر
للهجرة (سنة 1286) في عهد الخديو إسماعيل باشا، وحال البلاد وأزهرها على
ما نعلم، فكان أول من أيقظ الأفكار إلى وجوب التجديد والإصلاح الديني والمدني،
فاستفاد منه بعض شبان الأزهر دون شيوخهم، وكان الذي تولى السعي لإصلاح
الأزهر مريده الأكبر وخليفته الوحيد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كما يعلمه جميع
المتعلمين في هذه البلاد في الجملة، وإنما تفصيله الأتم الأوفى في مجلدات المنار
وفي التاريخ المفصل الذي دَوَّنَاه في سيرته وسيرة السيد جمال الدين، وقد علم منه
أن الأزهر كان كالمحتضر؛ لأن الحكومة سائرة بالأمة إلى غاية لا تشعر فيها بأن
لها أدنى مصلحة في الأزهر، فكان لا بد له من إصلاح يقنع الأمة والحكومة بأنه لا
بد لهما منه، وهذا بعض ما كان يقصده الأستاذ الإمام.
وأما غرضه الأسمى من إصلاحه فهو تخريج نشء جديد من جميع الشعوب
الإسلامية جامع بين التقوى والأخلاق الفضلى وبين العلم الاستقلالي المثمر لترقية
اللغة وإحياء علوم الدين، والتمكن من الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه.
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: إنني بذرت في الأزهر بذرًا إما أن ينبت
ويثمر فيصلح به الأزهر ويقوم بما يجب عليه للإسلام، وإما يسقط الأزهر ويزول.
وإننا نرى أن ذلك البذر قد نبت نباتًا حسنًا وطفق يثمر أطيب الثمرات، ولو
أتيح له بعده من يتعاهده بسقيه وتنقيته من الأعشاب والحشرات لأثمر وأينع وأتى
أكله مضاعفًا، وهاك الإشارة إلى فوائد ذلك الإصلاح سالبًا وموجبًا:
(1) وضع النظام لإدارة الأزهر والمعاهد التابعة له، وقضى عشر سنين
في تنفيذه قاسى فيها ما قاسى من المعارضة والمناهضة، حتى صار النظام مألوفًا
متفقًا عليه، وإنما يعوزه التنقيح، والحرية في حسن التنفيذ.
(2) كان من تأثير قراءته لأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز فيه ثمرة ظاهرة
في اللغة وآدابها، فكثر الكتاب المجيدون، والخطباء المرتجلون.
(3) كان من تأثير قراءته للبصائر النصيرية في المنطق ومن أسلوبه في
سائر دروسه أن ضعفت جهالة التقليد الأعمى لعبارات الكتب، وقويت مكانها فكرة
الاستقلال في الفهم، والاستدلال الصحيح في العلم، ولكن هذا خاص ببعض
الأذكياء من تلاميذه وتلاميذهم، ولا سيما أساتذة مدرسة دار العلوم منهم.
(4) كان من تأثير قراءته لرسالة التوحيد وتفسير القرآن الحكيم أن عرف
الكثيرون عقائد الإسلام معرفة استقلالية برهانية لا كلامية تقليدية، واهتدوا إلى ما
في القرآن من الحكم والفضائل والآداب، ووجوب الاهتداء به في الوعظ والإرشاد
والأخلاق الدينية، وعرف قليلون ما فيه من الإصلاح السياسي والحكمة الاجتماعية.
(5) تبع ما ذكر من إصلاح اللغة والفكر والدين التصدي لمقاومة ما أفسد
المسلمين من البدع والخرافات والتقاليد والعادات، فصار أنصارها يقلون بالتدريج
البطيء، وعاقبتهم الانقراض والزوال، وإن راجت سوقهم في هذه الأيام، فظهر
في كل من جاوه والجزائر شيخ أزهري من أنصار البدع القبوريين، كل منهما
يخذل السنة وعلماءها، وينصر البدع ودعاتها، معتزًّا بالنسبة إلى الأزهر، وَوُجِدَ
من وعاظ الأزهر في الأرياف من نهى المسلمين عن الصلاة خلف أمام سلفي العقيدة
يقول: إن الله تعالى مُسْتَوٍ على عرشه فوق السموات من غير تمثيل ولا تأويل.
ولكن أكثر الوعاظ الظاهرين سلفيون أو غير خرافيين.
(6) تبع ذلك اقتناع كثير من النابتة الجديدة بضرر الأسلوب الأزهري
السابق في التعليم وهو قراءة الكتب التي يسمونها المخدومة أي المركبة من المتون
والشروح والحواشي والتقارير ومناقشة كل منها لعبارات التي قبلها، حتى
تقرر أخيرًا تحضير بعض الدروس بعبارات جديدة.
(7) الاقتناع بالحاجة إلى العلوم الرياضية والاجتماعية والصحية والتاريخ
الطبيعي والسياسي وتقويم البلدان وغير ذلك - بعد أن قامت قيامة الشيوخ لمقاومة
تعليم الحساب العلمي وتقويم البلدان، وقد وقع الاتفاق أخيرًا على الزيادة على هذه
العلوم.
(8) الاقتناع بوجوب (التخصص) لإتقان بعض الطلاب لبعض العلوم
والاكتفاء بقدر الحاجة من غيرها، وكان الأستاذ الإمام قد وضع الأساس للتعليم
القضائي والنظام لمدرسته، فكان لمدرسة القضاء الشرعي -بتولي أنجب تلاميذه
للتدريس فيها - أفضل أثر علمي ظاهر في أكثر ما ذكرنا من أنواع الإصلاح
واحتاج الأزهر إلى خريجيها وخريجي دار العلوم في تنفيد نظامه الجديد.
كل هذه الأنواع من الإصلاح وجدت في الأزهر، وكان للمنار من النصيب
فيه مع الأستاذ الإمام وبعده ما نبينه في خاتمة هذا الكتاب، ولا يمكن نزعها منه،
ولكن الترقي فيها وإتقانها يتوقف على حسن الإدارة، ووجود الرجال أولي الكفاية
والكفاءة العلمية والخلقية والإخلاص مع الاستقلال في العمل وأنى له بهم؟
حاضر الأزهر ومستقبله، وما يمكن أن يصلح به:
إن الأزهر لم يستطع الرجوع إلى عهد القرن الماضي؛ وما كان فيه من بقايا
الصلاح والقناعة، ولم يستطع السير على النظام الجديد في أنواع ترقيه،
واضطربت أحواله فتدخلت الحكومة في أمره، ووضعت له قانونًا جديدًا نُقِّحَ فيه
النظام الذي كان قبله، ولكنه وُضِعَ فيه تحت سيطرة الحكومة (خلافًا لخطة الأستاذ
الإمام الذي كان واقيًا له من ذلك كما بيَّناه في المنار وفي تاريخه) فوقع في مأزق
جديد وهو التجاذب والتدافع بين البلاط والوزارة، واحتيج إلى تنقيح آخر ووضع
له قانون جديد أدخله في طور عصري مدني هو باعث الخوف عليه كما تقدم.
والتحقيق أن الأزهر لن يصلح ويصير أهلاً لخدمة الإسلام، والدفاع عنه،
والدعوة إليه بما تقتضيه علوم هذا العصر وحضارته، إلا بعد أن يصير مستقلا
بنفسه في إدارة التعليم والتربية بدون سيطرة عليه فيهما. وبعد أن تكون نفقته من
الأوقاف وخزينة المالية رهن تصرفه بنص الدستور لا سيطرة عليه فيها، وبعد أن
يكون رئيسه وأعضاء إدارته منتخبين من أهله انتخابًا حرًّا بنظام، وبعد أن تكون
رتب العلم فيه من نفسه لا من الحكومة ولا من ملك البلاد، ولا يرجى أن يرتقي
الأزهر إلى هذه الحرية بالتربية الحاضرة فيه ولا بمثل التربية القديمة، وإنما كان
يُرْجَى أن يبلغها ويرتقي إليها بإدارة الأستاذ الإمام لو تم له الأمر فيها.
في هذه الأثناء ولي أمر المشيخة ورياسة المعاهد الدينية الأستاذ الجليل الشيخ
محمد مصطفى المراغي وكان رئيس المحكمة الشرعية العليا من بعد أن كان قاضي
القضاة في السودان، وهو ممتاز بعزة النفس والعزيمة واستقلال الفكر ومتانة
الأخلاق ومعرفة حال الزمان، ومتمرسًا بدقة النظام، فَسُرَّ به مُحِبُّو الإصلاح
والتجديد من علماء الأزهر وطلابهم وسائر فضلاء الأمة وابتأس الجامدون
والخرافيون منهم، خوفًا منه على جاههم ورزقهم، ولكنه أمنهم من خوفهم، وأقرهم
على أعمالهم ورواتبهم، وحاول تنفيذ التجديد بالقادرين عليه من غيرهم، والبحث
عنهم أينما كانوا من أرض الله تعالى.
وضع القانون الجديد للأزهر برأيه، وعرضه على أهل الحل والعقد من
رجال الوزارة ومندوبي البلاط الملكي وتولى الدفاع عنه بنفسه، حتى إذا ما وقع
الخلاف بينه وبينهم في بعض مواده الأساسية وتعذر عليه الإقناع بوجهة نظره،
استقال من منصب المشيخة ورياسة المعاهد غير آسف على جاهها، ولا مُبَالٍ بكبر
راتبها، فساءت استقالته جميع محبي الإصلاح من الأزهريين وغيرهم، وعدوه
مليمًا في فعلته، مع الإعجاب بعزة نفسه وعلو سجيته؛ لأنه كان خير رُبَّان لهذه
السفينة في هذا الطور الانتقالي الخطر، يرجى أن يبلغها ساحل المستقبل
الاستقلالي آمنة من الغرق في لُجَج الحياة المادية والتفرنج، ولقد كان بعض
المعجبين بالأستاذ من أهل الرأي يخشون أن يعجز عن تحقيق هذا الرجاء فيه، ولو
كان القانون موافقًا لرأيه، فكيف وقد زال رجاؤه هو فيه فاستقال. وخلفه من علمنا،
ورأينا من سوء إدارته ما رأينا.
ولي المشيخة والرياسة بعده الأستاذ الشيخ محمد أحمد الظواهري، ففرح به
الجامدون والبدعيون، ووجم المستقلون المجددون، وخابت آمال المصلحين، ولا
سيما الإدارة لاعتقاده استحالة الإصلاح به، ثم كان من سيرة الظواهري ما أسخط
الفريقين إلا أفرادًا منهم، ولكنه قذف في قلوبهم الرعب من أول عهده؛ إذ عزل من
مدرسي الأزهر سبعين أو أكثر ممن يعتقد أنهم مخالفون له في رأيه، وقد أوتوا من
الشجاعة ما يربأ بهم أن يتملقوا له، فعلموا أنه مستبد في الأزهر (دكتاتور)
ومعاهده بقوة الحكومة، وأنه أقنعها بأنها لا تجد أحدًا غيره يرضيها بكل ما تريد
فيحل محله، وكان هذا سبب الشكوى العامة من سيرته، والتشهير بأعماله وإدارته
في الصحف، وعدم وجود أحد من الأزهريين ولا من غيرهم يدافع عن شيء من
مساوي إدارته، ولو جمعت المطاعن التي سددت سهامها إليه وإلى الأزهر في عهده
لبلغت سفرًا كبيرًا، وهي لا تزال تزداد وتتكرر على الأيام، ومن أسبابها تحريه
الجمع بين إرضاء الخرافيين والمتفرنجين، وأكثرها يرجع إلى السياسة الحزبية
والأهواء الحكومية، التي ما دخلت في عمل إلا أفسدته وفاقًا للمثل المأثور عن
الأستاذ الإمام.
وخلاصة القول في الأزهر: أن رياسة الظواهري له قد دهورته في أسفل
المهاوي بموقفه بين الإسلاس لتقحم التفرنج المادي فيه ازدلافًا للحكومة، وتأييد
الخرافات والبدع إرضاء للعامة، ولكل من الطرفين المتقابلين فئة تنصره في
الأزهر، وسيكون النصر لفئة التفرنج، فيكون بيدها أمر مستقبله الاستقلالي وإزالة
سلطة الحكومة منه بعد اعتزازها بها الآن. ككل انقلاب سياسي واجتماعي حدث
في الشرق، وهو خطر على الدين إلا أن ينتصر حزب التجديد والإصلاح المعتدل
الجامع بين مصالح الدنيا والدين، والمشيخة الظواهرية خصم لهذا الحزب فهي
تمهد سبيل الانقلاب المادي للأزهر بضعفها أمام فئته، وسوء إدارتها الإسلامية
وإننا نلخص انتقاد الأمة عليها في الجرائد بما يلي:
(1) مقاومة مشيخة الأزهر للمؤتمر الإسلامي العام وإظهارها العداوة له
والصد عنه، وهو أفضل عمل اجتماعي عمل لمصلحة المسلمين في هذا العهد.
(2) البيان السخيف الضعيف الذي أصدرته المشيخة لتأييد الوزارة على
الأمة فيما تشكو منها، وكان من الممكن أن يكون بيانًا شرعيًّا عادلاً لا يستطيع أحد
نقضه.
(3) عزل سبعين عالمًا من مدرسي الأزهر باتهام خيارهم بالميل إلى الوفد
المصري وبعضهم بالميل إلى الحزب الحر الدستوري، وذنبهم الحقيقي ما قررناه
آنفًا.
(4) محاباة بعض الأساتذة والموظفين والتحامل الجائر على بعض. ومن
ذلك أن أحد مفتشي الأزهر المنتمين إلى حزب الاتحاد ركب في الدرجة الثانية من
السكة الحديدية، وقد أخذ أجرة الدرجة الأولى فكان سارقًا للفرق في أجرتي الدرجتين
وقد أكثرت الجرائد من سؤال شيخ الأزهر عن هذه المسألة وما فعله فيها فلم يرجع
إليها جوابًا.
(5) عناية مشيخة الأزهر بالاحتفال بزيارة ملك إيطالية الرسمية لمصر مع
العلم بما فعلته دولته في طرابلس وبرقة من التقتيل والتنكيل بمسلمي طرابلس وبرقة
ولا سيما السادة السنوسية، وما نشرته الصحف من إهانتهم لمساجدهم وزواياهم
وللمصاحف الشريفة أيضًا، وناهيك بأنشودة الجيش الطلياني هنالك التي كانت من
أقبح أناشيد أجدادهم في الحرب الصليبية الكبرى إهانة للمسلمين ولخاتم النبيين وسيد
ولد آدم أجمعين، عليه الصلاة والسلام، ولقد أهان المسلمون طلبة الأزهر الذين
أخرجتهم المشيخة للوقوف في طريق ملك إيطالية حفاوة به.
(6) امتناع علماء الأزهر وخطبائه في الأزهر وغيره من المساجد من
إجابة الدعوة التي وجهها المؤتمر الإسلامي العام إلى مسلمي الآفاق بصلاة الغائب
على المرحوم السيد أحمد الشريف السنوسي المجاهد في سبيل الله، المهاجر
المُخْرَج من وطنه كجده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدوان إيطالية، بل كان
منهم من صدَّ الناس عن هذه الصلاة فصلوها بالرغم منهم، وأنا أعلم أن بعض
الخطباء لم يكتف بالامتناع عن هذه الصلاة وقد طولب بها حتى أرسل بعض خدم
المسجد يطلب شرذمة من البوليس لمنع المسلمين منها، فما جاء البوليس إلا وقد
قضيت الصلاة وانفضَّ المصلون، ولكن هذا من سخفه لا بإغراء أحد.
(7) موافقة شيخ الأزهر في مجلس الشيوخ الرسمي للحكومة على جميع
مشروعاتها حتى المخالفة للشرع.
(8) امتناع شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه من الاحتجاج على الدولة
الفرنسية فيما قررته وشرعت فيه من إخراج شعب البربر في المغرب الإسلامي من
الدين الإسلامي وإدخاله في النصرانية، وقد اضطرب له العالم الإسلامي كله،
وطولب الشيخ الظواهري بذلك مرارًا فلم يستجب، حتى إذا ما زار مصر عالم
مغربي اشتهر بأنه من أنصار سياسة فرنسة في بلاده وطعنت فيه الجرائد الإسلامية
أشد الطعن احتفى به الشيخ وكرَّمَه تكريمًا.
(9) امتناع شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه من الاحتجاج على ما فعلته
فرنسة من منع علماء المسلمين في الجزائر عن وعظ المسلمين وتعليمهم دينهم في
المساجد، ثم من محاولتهم تجنيس مسلمي تونس بالجنسية الفرنسية وإخراجهم من
حظيرة الجنسية الإسلامية بجعل أنكحتهم ومواريثهم تجري بمقتضى القانون
الفرنسي.
(10) امتناع شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه أن يكونوا قادة الأمة في
مقاومة الحملة الأخيرة الفظيعة التي حملها دعاة النصرانية على الإسلام في مصر
بإهانته في مدارسهم والطعن فيه وإخراج تلميذات مدارسهم منه بالتوريط
وبالإكراه وتنصيرهن وتزويجهن من النصارى إلخ ما هو شغل الجرائد الإسلامية
الشاغل في هذه الأيام.
(11) مطالبته الحكومة بمصادرة كتاب تاريخ بغداد الشهير لأحد حفاظ
الأمة الأعلام الإمام أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 قبل
إتمام طبعه؛ لأن فيه طعنًا على الإمام أبي حنيفة في ترجمته له منه على طريقة
المحدثين في نقل الروايات التي يرونها في كل من يترجمونه من جرح وتعديل.
(12) مجلة المشيخة المسماة نور الإسلام يمنعها الشيخ الظواهري من
الدفاع عن الإسلام بالرد على الطعانين فيه والمعتدين عليه وعلى أهله، وكنا قد
اقترحناه عليها من أول ظهورها، فكان مبدأ سخطها علينا، ويغريها بالطعن على
الوهابية؛ لأن الدولة المصرية ساخطة على دولتهم السعودية فيما هو مثار العداوة
بين الشعوب الإسلامية. ثم إنها بسيطرته تدافع عن الخرافات والبدع الفاشية في
البلاد، والمُفْسِدة للعقائد والأخلاق والآداب، وتأولها للمفتونين بها بضروب السخف
والاحتمالات التي يتأولون بها أغلاط المؤلفين فيما يدعون أن فائدته على بطلانه
تشحيذ الأذهان، حتى إذا ما أنكرنا عليها بعض هذه الجهالات تجرأت على الطعن
علينا بما كان سببًا لفضيحة جهلها في العالم الإسلامي كله في مقالاتنا التي نشرناها
في المنار وفي أشهر الجرائد المصرية وجمعناها في هذا الكتاب.
كان من خذلان المشيخة في الطعن في المنار داعية السنة، أن انتدبت له
شيخًا من أنصار البدعة، فكان سببًا لإظهار عدة فضائح لها ولمجلتها، وإظهار
صاحب المنار عليهم بالعلم والعمل والأخلاق، وكان شر فضائحها في العلم الجهل
الأعمى بعلوم السنة كلها، وشر فضائحها في الأخلاق افتراء الكذب والبهتان الذي
لا شبهة عليه من سوء فهم المفتري، ولا من استنباط الاحتمالات السخيفة المألوفة،
كما يرى القراء بيانه مفصلا في مقالاتنا، والكذب شر الرذائل كلها على الإطلاق
ولا أستثني الكفر بالله فإنه كله كذب، وقد غفل عن هذا جماعة الكتاب الذين
يطعنون على هذه المشيخة بإفساد أخلاق رجال الدين، وأي فساد شر من الكذب
وقول الزور في العلم والدين؟
ومن خير ما نحمد الله تعالى عليه من إظهارنا عليهم، ولا سيما الشيخ
الظواهري، ومن اختصه للطعن علينا منهم، أن علم جماهير الناس أن الرد على
المنار كان من أمانيهم التي يرتقبون سنوح الفرصة لها، ويستعدون لها بمراجعة
مجلدات المنار السابقة، حتى إذا ما سنحت الفرصة وصار الأول رئيسًا للأزهر
والثاني محررًا في مجلته، ونشرا ما نشرا فيها من الطعن على المنار، ظهر أنه
كله جهل وكذب وسباب، وتأييد للبدع.
ولو أن الشيخ الظواهري وفَّى لنا بما وعدنا به من نشر ردنا على مجلة
الأزهر فيها ببيان حججنا عليها في مسائل الطعن من غير تعرض منا للطاعن ولا
لغيره لاكتفى أمر ظهور هذه الفضائح كلها أو جلها، وأمر تحدينا له ولهيئة كبار
العلماء في علوم الحديث، ولأدى واجبًا شرعيًّا لقراء المجلة بإيقافهم على الحقيقة
في تلك المطاعن وحكم الشرع فيها، ولكنه وعد ولم يف فنال جزاءه.
أفرأيتم من كانت هذه سيرته العلمية والدينية هل يمكن أن يكون وسطًا بين
حزب الجمود الخرافي القديم، وحزب التفرنج الجديد، فيوجه الأزهر إلى الجمع
بين علوم الدنيا وهداية الدين؟ أم المنتظر منه أن يكون هو الهادم الأخير لخير
القديم بنصره لشره، والممهد به لشر الجديد الذي بَيَّنا تشاؤم أذكياء الأمة المخلصين
منه؟
وإنه ليؤلمني ألذع الألم أن تضطر الأمة الإسلامية وصحفها إلى هذا التشهير
بسيرة الرئيس لأكبر مصلحة إسلامية في مصر، ونحن نرى إجلال جميع الطوائف
لرؤسائها الدينيين، وسأبين رأيي في المَخْرَج منه، وفيما يجب أن تكون عليه
الرئاسة الإسلامية من النظام، وما يجب لها من الاحترام، وهو ما أوجه إليه
الأنظار، وأدعو للسعي له حزب التجديد والإصلاح، والعاقبة للمتقين. اهـ
(كتبت هذه المقدمة في أول ربيع الأول سنة 1352)
_______________________
(1) يشير الشاعر إلى ما اشتهر في مصر من لبس بعض المتخرجين في الأزهر للزي الإفرنجي ومن كون بعض طلابه يلبسون في الدروس الجبة والقفطان وفي الليل زي الأفندية كما كان يفعل طلبة دار العلوم قبل إجبارهم على نزع الجبة والقباء والعمامة، ولكنه عبر عنه بكلمة عامة مبالغة في التشاؤم.(33/290)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ولاية العهد للدولة العربية السعودية
وكتابان إسلاميان تاريخيان
كانت حكومة الحجاز وحكومة نجد وملحقاتها كل منهما مستقلة بنفسها إلا أن
ملكهما واحد يلقب بملك الحجاز ونجد وملحقاتها، وكان هذا التفريق خطأ عائقًا دون
الوحدة القومية الخاصة التي تربطهما، والتمهيد للوحدة العربية العامة التي يدعو
إليها المصلحون، فقرر أولو الأمر توحيد الحكومتين وجعلهما دولة واحدة بالاسم
المذكور في العنوان، واحتفل بذلك في مكة المكرمة بحضور جلالة الملك عبد
العزيز الفيصل مؤسس هذه الدولة المباركة في منتصف جمادى الأولى سنة 1351
ثم إنه في 16 المحرم من سنتنا هذه 1352 قرر أركان حكومة الحجاز مبايعة سمو
الأمير سعود نجل جلالته الأكبر بولاية العهد للمملكة، وفي 20 المحرم بايعه أهل
الحل والعقد من الحجازيين والنجديين في مكة المكرمة ومنهم العلماء والشرفاء
وأمراء بيت الملك السعودي الذي كانوا فيها. وقبل البيعة بالنيابة عنه سمو أخيه
الأمير فيصل نائب الملك لحكومة الحجاز؛ إذ كان سموه في نجد، ثم تقرر إرسال
وفد من مكة إلى الرياض عاصمة نجد برياسة الأمير فيصل فبايع سموه مع أهل
الحل والعقد من العلماء والأمراء هنالك وقبل المبايعة بمكة أرسل جلالة الملك برقية
إلى سمو الأمير سعود ينبئه بالبيعة ويوصيه بالوصايا العالية، فرد الأمير رجعها
بما يليق ببره وحسبه وأدبه، ثم أرسل إليه جلالة والده الكتاب التاريخي الآتي وهو
المقصود لنا بالذات؛ لأنه نموذج كامل لاتباع هذا الملك لسنة الخلفاء الراشدين
والسلف الصالحين في هديه وحكمه ويتضمن معاني وصايا البرقية وزيادة وهو:
كتاب جلالة الملك
برقيتك وصلت، وقد أحطنا علمًا بما جاء فيها، وهذا أملنا فيك، نرجو أن
الله يرزقنا وإياك الهدى والتوفيق.
وقد أحببت أن أكرر عليك نصائحي، توجه فيصل وإخوانك إلى الرياض
وبرفقتهم وفد من الحجاز. والحقيقة أننا رأينا في الحجاز أمرًا ما كنا نظنه. نحن
كنا على يقين من إخلاصهم وولائهم. ولكن الأمر تجاوز الحد وفوق ما كنا نظن،
فقد شاهدنا منهم محبة وشفقة على ولايتهم ونصحًا للمسلمين عظيمًا. نرجو أن
يوفقنا الله وإياهم للخير. وأما أهل نجد فقد كتبنا لهم كتابًا وعرفناهم أننا أجبنا
طلبهم فيما يتعلق بولاية العهد، وأما الأمر الذي أكرره عليك وأوصيك به فهو:
(الأمر الأول) تقوى الله والمحافظة على ما يرضيه وتفهم أن الحجة قائمة
على البشر بعد ما أرسل الله أفضل رسله وأنزل أفضل كتبه، فلا يوجد بعد كتاب
الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه حجة لأحد؛ لأنها المبينة المبشرة بالخير
بحذافيره، والمحذرة والمنذرة عن الشر بحذافيره، فلا حجة ولا معذرة بعد ذلك. ثم
تفهم أننا نحن آل سعود ما أخذنا هذا الأمر بحولنا ولا بقوتنا إنما مَنَّ الله به علينا
بسبب كلمة التوحيد.
وتفهم أن كلمة التوحيد معناها الإخلاص لله بالعبادة والانقياد له بالطاعة، أما
الإخلاص فهو عبادته وحده والاعتصام به والالتجاء إليه وترك ما سواه، وأما
الانقياد فهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل بالجميع بإخلاص ونية ومتابعة.
فبحول الله وقوته ما اعتصم أحد بالله وقام بسنة رسوله إلا وفق وهدي، والكلام
بذلك يطول وزبدته ما ذكرنا.
(الأمر الثاني) معلومك أننا في آخر زمان، ولقد أصبح الشح مطاعًا
والهوى متبعًا وأعجب كل ذي رأي برأيه، فبموجب هذا يخشى من التغيير والتغير.
قال الله سبحانه في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وزبدة الحياة قائمة على قواعد (الأولى) ما ذكرنا أعلاه
(والثانية) مكارم الأخلاق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله
عنها: (يا عائشة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة) وقال الشاعر:
لو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
كل الأمور تبيد منك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باق
وحسن الخلق يشتمل على أمور كثيرة منها: معاملات الخلق بالإنصاف
والعدل ومنها: حفظ سمت العرب وأخلاقهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق) ومنها بذل النفس والمال والنصح في محاله ومواجبه.
(الأمر الثالث) الحزم في جميع الأمور: منها ما رواه بعض الأدباء عن
انحطاط دولة بني العباس فقال أحدهم للآخر: إنهم قربوا أعداءهم تأليفًا لهم،
وأبعدوا أصدقاءهم وثوقًا بهم، وخزنوا المال، وأهملوا الجند، وتركوا حقوق الناس،
فلما وقع الأمر، وادلهم الخطب، وثب عليهم عدوهم، وتباعد عنهم صديقهم،
وصار الجند في ضعف، ولم ينفع المال لفوات الفرصة.
ويجب الحزم في مواقف أهمها تقريب المتقدمين من جميع الأصناف سواء
منهم من كان قريبًا أو بعيدًا، وأخذ خواطرهم، وعدم تركهم سدًى وإبعادهم بعلة
بسيطة لا تلحق بالدين ولا بالولاية، وأن يتألف من كان من الرعية على قدر عقله،
ويجلب خيره ويدفع شره، وأن تكون الحامية موجودة في كل محل ممن يوثق به
وثبتت بالتجربة أفعاله، وأن يؤمر الناس جميعهم بالمعروف وينهوا عن المنكر،
وأن يعاملوا بالعدل، ولا شيء أعدل من شريعة محمد، أما في الأمور التي تحيلها
الشريعة إلى الولاية فهذه ينظر فيها حسب المصلحة والأشخاص والأوقات بدون
تشنيع أو تنفير، وعدم مداهنة أو إرخاء العنان، والدليل على ذلك قوله تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:
125) وقوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:
159) .
ثم بعد ذلك تفهم أن كل شيء له حامية ومرجع، ومرجع المسلمين وحماة
دينهم علماؤهم، فالعلماء كالنجوم، زينة للسماء، وقدوة للسائرين، ورجوم
للشياطين، وليس العلماء في المقام على السواء، منهم من يؤخذ عمله ورأيه،
ومنهم من يؤخذ علمه ولا يناقش في الرأي؛ لأن أخذ الرأي من الكبير الذي يعرف
الأمور، وعدم العمل برأيه ليس بطيب، إنما يعمل مثل ما قال النبي صلوات الله
وسلامه عليه (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) [1] والعمدة على كل حال على ما
جاء في كتاب الله وسنة رسوله والسلف الصالح والخلفاء الراشدين، ومن حذا
حذوهم من الأمم ورؤساء المسلمين سابقًا ولاحقًا.
وعليك بحفظ العهود والمواثيق كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ
العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: 34) سواء كان العهد مع بار أو فاجر، عملاً
بقوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (الأنفال: 58) لأن الغدر مذموم في الشرع
وعاقبته وخيمة مع أي كان [2] .
ثم عليك أيضًا النظر في مصالح المسلمين وولايتهم في الصلح والحرب وفي
جميع الحوادث، فما كان من التمادي فيه مصلحة للمسلمين أو كف شر، فهذا
واجب العمل به، وما كان منه سعي وراء طمع أو إرهاق للنفوس فيجب التروي
فيه كما قال الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
وكما قيل:
وأحزم الناس من لم يرتكب عملاً ... حتى يفكر ما تجني عواقبه
والتبصر والتفكر والتعقل مذكور في كتاب الله وهو المُعَوَّلُ عليه.
ثم بعد ذلك عليك النظر في أقوال الناس وأهوائهم وآرائهم والتثبت في ذلك
كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) فالتأني في تبين
أمور الناس والتفكر فيه وعدم العجلة به يظهر الحقيقة ويحل المشكل.
ثم بعد ذلك عليك النظر في حال النفس، وما تحتوي عليه من عز وشرف
ولذات، فهذا أمر شاق وجهاد كبير، ولا علاج له إلا ثلاثة أمور:
(الأول) التضرع إلى الله بقول: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي
فبالاستعانة به يُكْفَى ابن آدم شر كل شيء.
(الثاني) يعرض الإنسان ما بدا له وما طمح إليه على كتاب الله وسنة
رسوله فما وافقهما عمل به وما خالفها تركه والله سبحانه خير عِوَض في كل حال
من الأحوال
(الثالث) النظر في أفعال الرجال من أهل العلم والعمل والحقيقة؛ لأن في
اتباعهم خير قدوة.
ثم عليك بعد ذلك النظر في المعاملات الداخلية من أي جهة كانت سواء في
الأمور الاقتصادية، أو في حالة الأمراء وأعمالهم مع الولاية والرعية، أو في
الوزراء وسيرتهم، أو في حالة الناس فيما بينهم، فإذا دقق الإنسان النظر في هذا
مع إخلاص النية وحسن القصد تبين له الأمر، وكان على بصيرة وهداية.
ثم بعد ذلك عليك النظر في الأمور الخارجية وأحوال الزمان وتقلباته مع
الدول، ومعرفة الحكومات ومواقفها ونواياها (نياتها) وقواعد سياستها التي تسير
عليها في علاقاتها الخارجية. والدول كالأفراد تتألف وتتفق طبقًا للأغراض
والمصالح، وأساس صلاتها قائم في تبادل المصالح وتقارض المنافع ودفع الأذى
وحماية الثغور، فعليك التبصر في سياسة كل دولة ومعرفة أغراضها معرفة حقيقية
تمكنك من انتهاج خطة صريحة حيالها، فيما يُولِّيكَهُ الله من بلاد أنت المسئول عن
المحافظة على حرماتها ودفع العدوان عنها، وجلب الخيرات واستكثار المصالح
والمنافع لها.
وعليك الحذر والتأني في تلقي ما يُنْقَل إليك من الأخبار عن نوايا الدول،
وخذ ما يلقى إليك بالعقل والروية ولا تَسِرْ فيه بحكم الهوى والأماني، واحذر من
كلام يظهر لك في ظاهره النصح، وهو كلام حق يُرَاد به غيره، واتخذ ديدنك
النظر فيما كان من أفعال الحكومات ومواقفها تجاهنا، واجعل سياستك قائمة على
مصافاتها باطنًا وظاهرًا ومسالمتها سرًّا وعلانية، واعلم أيضًا مقامك ومقام بلادك
بين المسلمين وبين أبناء قومك العرب، ولا تنس واجبك تجاه كل مسلم وكل عربي،
واعمل في كل ذلك كما قيل: لكل مقام مقال ولكل يوم شأن.
الحقيقة أنني قد أطلت عليك الكلام، وهذا شيء لم أرده ولا يمكن أن تعمله
بالعجلة. ولكن إذا أحسنت النية من جهة الله وسألته التوفيق، واستخرت وشاورت
أهل الخبرة الناصحين، وكل فن عرفته من المختصين به فبحول الله وقوته على
طول الزمان تحصل النتيجة.
أحببت أن أبين لك ذلك حتى تضعه نصب عينيك وتفكر فيه في فراغك؛ لأن
هذا من واجبات الدين وواجبات الولاية، ومن الخواص التي لا يستغني عنها ولاة
الأمور. نرجو من الله أن يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه وصلى الله على محمد
وآله وصحبه وسلم، يوم الجمعة أول صفر سنة 1352
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز
***
جواب سمو ولي العهد
مولاي جلالة الملك المعظم:
عرضت على جلالة سيدي ما كان من أمر البيعة، وقد قرئ كتابكم الملوكي
الذي حوى تلك النصائح الثمينة لخادمكم. والحقيقة أنه يصعب عليَّ بيان ما كان لها
من الوقع العظيم على مملوككم، وعلى جميع المسلمين الحاضرين، فإنها من أثمن
النصائح وأجلها قدرًا، وقد قوبلت من الجميع بالدعاء لجلالتكم بطول العمر ودوام
التأييد والنصر. ومعلوم سيدي أننا لو فعلنا مهما فعلنا لا نتمكن من الرد على
جوابكم، إلا أننا نسأل الله أن يديم بقاءكم ولا يرينا ولا المسلمين فيكم أي مكروه،
وأن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا. وأرجو من الله، ثم من حضرة سيدي
الدعاء لمملوكه بالهدى والتوفيق، وأن الله يرزقنا السعي فيما يرضي وجهه،
ويوفقنا لخدمتكم وخدمة عامة المسلمين والله يديم جلالتك ذخرًا وسندًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الابن سعود
(المنار) إن وصية هذا الملك بالاهتداء لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين واتباع العلماء
وتقديم العقلاء، وقد وقعت أحسن موقع من قلوب جماعة المسلمين، ونوهت بها
جرائدهم في المشرق والمغرب الإسلاميين، ولو سئلت عنها مجلة مشيخة الأزهر
(نور الإسلام) لأفتت بأنها ضلالة من ضلالات الوهابية يحرم على المسلمين
الموافقة عليها؛ لأن الإسلام في رأي هذه المجلة هو ما يذكر في كتب المقلدين
للمذاهب الكلامية والفقهية فقط، وأما الأمر بالاهتداء بالقرآن والسنة فهو إضلال
وإغواء، ونعوذ بالله من إغواء هذه المجلة، فهي شر من الشيطان؛ لأنه يوهم
عوام المسلمين أنه من أحكام دين الله، وهو هدم له من أساسه.
ومما يستغربه أهل هذا العصر من وصايا هذا الملك لولي عهده أمره بمصافاة
المعاهدين سرًّا وجهرًا، فإن هذا من فضائل الإسلام، التي تخالفها سياسة هذا
الزمان، وقد يكون في الصدق من الفوائد ما ليس في الكذب والخداع.
__________
(1) الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي مسعود البدري ولها تتمة أولها (ثم الذين يَلُونهم ثم الذين يَلُونهم) إلخ والأحلام والنُّهَى: العقول.
(2) المنار: في هذه الوصية إجمال؛ إذ المراد بها أن الإيفاء بالعهد واجب شرعًا مع المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وأن الغدر بنقض العهد ولو بالسر والحيلة محرم شرعًا، فإن خاف الإمام الخيانة من المعاهدين نبذ إليهم عهدهم على سواء، ولا يعاملهم بالخيانة والغدر في الخفاء، وحكمة الإجمال أن مثل هذه المسألة لا تفصل للعوام.(33/305)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقاومة المبشرين وتخاذل المسلمين
تشتد جرأة دعاة التنصير في مصر عامًا بعد عام بما ظهر لهم من ضعف
الغيرة الإسلامية وانهماك المسلمين في الشهوات والأهواء حتى كادت الإباحة تعم
الطبقات الوسطى تقليدًا للطبقات العليا في التفرنج والفسق، لا في الفضيلة والعلم.
وقد تفاقم الأمر في هذا العام، وظهر احتقارهم للأمة والحكومة فعرفه الخاص والعام،
وأكثرت الجرائد من نشر حوادثهم المنكرة، ولا سيما إغواء البنات في المدارس،
فهب بعض أولي الغيرة للدفاع عن دينهم وشرفهم، ووجهت دعوة خاصة للاجتماع
في نادي جمعية الشبان المسلمين للبحث في طرق المقاومة والدفاع، فاستجاب لها
جمهور عظيم من الطبقات المثقفة، من المستقلين والمنتمين إلى الأحزاب المختلفة،
وعقدوا جلسة اختاروا لرياستها الأستاذ الأكبر الحازم الشيخ محمد مصطفى
المراغي، فوضعوا أساسًا لاجتماع آخر ينظر فيه ما وضعوه من المبادئ العامة
للعمل لتقرير ما يرونه منها وتأليف جمعية لتنفيذه.
وقد اقترحت في هذه الاجتماع الأول خمسة أمور:
(1) أن توجه الدعوة إلى العلماء في مصر وغيرها.
(2) إلى خطباء المساجد ووعاظها للاشتراك في العمل.
(3) أن يكتب إلى بطاركة الطوائف المسيحية كلها خطاب من الجمعية
الرسمية بعد تأسيسها يبين لهم فيه أن العمل لمقاومة أعمال دعاة التنصير المعتدين
على المسلمين الطاعنين على دينهم وكتابهم ونبيهم، يُتَحَرَّى فيه عدم مقابلتهم بمثل
مطاعنهم، ويُتَّقَى فيه كل قول وعمل يُخِلُّ بما بين المسلمين وسائر الطوائف التي
تعيش معهم في هذا القطر الآمن الحر بالمودة والتعاون على جميع المصالح والمنافع
الوطنية.
(4) إلى الحكومة بما يجب عليها.
(5) تأليف لجنة للدعاية والنشر تؤلف وتترجم الكتب والرسائل وتنظم
الأناشيد والقصائد، وتنشرها في البلاد الإسلامية كلها.
كان هذا الاجتماع في 29 صفر الماضي ثم عقد الاجتماع الثاني بعد أسبوع،
ولم أحضره لعذر عرض لي، وقد قرروا فيه تأليف جمعية عامة باسم (جمعية
الدفاع عن الإسلام) وانتخبوا لها لجنة تنفيذية وانتخبوا للرياسة العامة الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأن تكتب اللجنة خطابًا يوجه إلى جلالة الملك،
وخطابًا آخر إلى الحكومة المصرية، وثالثًا إلى الأمة، ورابعًا إلى وزراء الدول
المفوضين لدى الحكومة، ثم شرعت في العمل ووضعت له نظامًا عامًّا ربما ننشره
في جزء آخر.
وكانت الجرائد قد أكثرت من مطالبة مشيخة الأزهر بالعمل في هذه السبيل،
وطفق بعضها يدعم المطالبة بشيء من اللوم والتثريب، فاجتمعت هيئة كبار العلماء
برياسة رئيسها الشيخ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في اليوم الثالث من شهر ربيع
الأول وقررت أمرين: (أحدهما: مطالبة الحكومة بأن تسن تشريعًا حازمًا حاسمًا
يجتث بذور هذا الفساد، ويستأصل شأفة هذا المرض الوبيل الفتاك، كي يطمئن
المسلمون على الدين الإسلامي والقرآن المجيد، وكي يكون أولادهم وإخوانهم
وأقاربهم في مأمن من أن تصل إليهم يد بالاعتداء والإغراء لتحويلهم عن دينهم،
وقد عهدت الهيئة إلى رئيسها شيخ الجامع في تنفيذ ذلك.
والأمر الثاني: إصدار بيان إلى الأمة الإسلامية نشرت نصه، وخلاصته ذكر
مجمل مما نشر في الجرائد من أعمال هؤلاء الدعاة إلى التنصير والنصح للأمة
بالحذر وما يجب عليها من إحباط أعمالهم، وحثها على إنشاء مثل ما لهم من
المستشفيات والمدارس والملاجئ التي هي وسائل التنصير عندهم.
فأما هذا النصح فهو حسن، وهو أسهل ما يكتب وأهون ما يقال، وأما ذلك
التشريع الذي قرروا مطالبة الحكومة به فهو غريب غير معقول، ولن يكون له عند
الحكومة نصيب من القبول، ولا ندري كيف ينفذه شيخ الأزهر وهو أتبع للحكومة
من ظلها، وأغرب ما فيه جعل الغاية منه اطمئنان المسلمين على الدين الإسلامي
والقرآن المجيد، فهل ترى هيئة كبار علماء الأزهر أن المسلمين مضطربون
خائفون على زوال الإسلام والكفر بالقرآن، مما يبثه دعاة التنصير السفهاء من
الزور والبهتان؟ ثم هل تعتقد الهيئة (بارك الله فيها) كما يدعو شيخ الأزهر - أن
يزول هذا الاضطراب والزلزال، ويخلفه الأمن والاطمئنان، بتشريع حازم يضعه
مجلس الوزراء؟ وكيف يضع ما يعجز عن تنفيذه؟
ندع بسط الكلام في هذه المسألة إلى أن ينفذ شيخ الأزهر قرار هيئة علمائه إن
نفذه، وقبل الانتقال إلى غيره نقول: إن جميع مطاعن الكفار في القرآن لا يُخْشَى
أن تصرف المسلمين عن هدايته وتحجب عنهم نوره بقدر معشار ما تفعله مجلة
مشيخة الأزهر (نور الإسلام) في تحريمها عليهم الاهتداء بهذا النور المبين؛
لزعمها أنه غير جائز إلا للأئمة المجتهدين، فإنها طعنت في الإمام الشوكاني أقبح
الطعن؛ لأنه أنكر على المقلدين العمل بكلام علماء مذاهبهم المخالف لكتاب الله
تعالى، وحثهم على تقديم كلام ربهم على كلام علماء مذاهبهم، وعدت هذا طعنًا
منه في أئمة المذاهب، كأن مفتي هذه المجلة وناشر هذا الضلال فيها وهو من هيئة
كبار العلماء التي تريد حماية القرآن من المبشرين يرى أنه لا يوجد في كلام علماء
المذاهب ما يخالف القرآن إلا كلام أئمتهم، فامنعي أيتها الهيئة لكبار العلماء أفرادك
عن صد المسلمين عن هداية القرآن والاستضاءة بنوره قبل أن تطالبي الحكومة
بوضع شريعة تمنع المبشرين من عملهم وما هي بفاعلة.
وقع تأليف جمعية الدفاع عن الإسلام (من أحرار العلماء وزعماء الأحزاب،
وكبار الكتاب ومديري الجرائد المشهورة) كالصاعقة على رءوس الحكومات التي
تنتمي إليها جمعيات التنصير وتتولى حمايتها، وحسبوا ألف حساب لتنبيهها الشعور
الإسلامي العام لعداوة من يعادون الإسلام ويحقرونه ويحاولون إطفاء نوره،
وأعلنت الجرائد الإنكليزية الكبرى في عاصمتهم هذا الخوف، وظاهرتها الجرائد
الألمانية والأميركانية، ودب دبيبها إلى الجرائد اللاتينية، فاستولى الرعب على
الحكومة المصرية كدأبها مع الإفرنج عامة، والإنكليز خاصة، فبادرت إلى منع
(جماعة الدفاع عن الإسلام) من عقد الاجتماعات العامة لدعوة المسلمين إلى التعاون
على هذا الدفاع ببذل المال، وما يجب في ضمن دائرة القانون والاعتدال من
الأعمال، ثم منعت سائر الجماعات والخطباء من مثل ذلك، وأمرت مشيخة
الأزهر بتأليف لجنة من هيئة كبار العلماء تقوم بما تراه الحكومة من العمل الواجب
الذي لا يثير سخط الأجانب، فنفذت مشيخة الأزهر الأمر، ولم يلبث أن انكشف
الستر، وذاع السر، بما نشرته جريدة التيمس الإنكليزية الشهيرة، ثم بما فاه به
معالي وزير المعارف في خطبته المأثورة، وهكذا شأن المسلمين منذ حل غضب
الله عليهم، وبخذل بعض كبرائهم بعضًا في كل مصالحهم، ومن فروع هذا الخذلان
طعن بعض جرائد المسلمين على لجنة الدفاع عن الإسلام، واتهامها بضد سعيها أي
بمصانعة الإنكليز والتقصير في مقاومة التبشير، وإنما كانت هذه الجرائد هي
الخادمة للإنكليز وللمبشرين بهذا الطعن، وإن كانت تعاليم في السياسة.
__________(33/311)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(نقض مطاعن في القرآن الكريم)
كتاب جديد صنَّفه الأستاذ الشيخ محمد عرفة من علماء الأزهر المدرسين
ووكيل كلية الشريعة فيه، وكان القصد من تصنيفه الرد على مطاعن في القرآن
العظيم عُزِيَ إلى الدكتور طه حسين الكاتب الشهير أنه ألقاها على طلبة كلية الآداب
أيام كان مدرسًا فيها، شرع الأستاذ المؤلف في هذا الرد، وجاءني بالقسم الأول منه،
ورغب إليَّ أن أطبعه له في مطبعة المنار وأتولى تصحيحه وأعلق عليه من
الحواشي ما أراه عند التصحيح، وأن أضع له مقدمة تؤيد موضوعه، فأجبته إلى
ذلك.
شرعت في الطبع وكتبت المقدمة التي رآها قراء المنار في الجزء الماضي
منه وأطلعته عليها فسُرَّ بها، ولما تم طبع النقض ملتزمًا فيه ما ذكره في أوله من
الشرط، عَنَّ له الزيادة عليه، ثم استحسن أن يضم إليه ما كان كتبه في الرد على
كتاب الدكتور طه (في الأدب الجاهلي) ونشره في الصحف ليحفظ ذلك في كتاب
واحد، فكان كتابًا جامعًا في بابه، فصيحًا في عبارته، قويًّا في حجته، حسن
الوقع عند قرائه، أحسنت الصحف تقريظه، وأثنى كثير من كبار الكتاب على
مؤلفه، وأطنب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان في تقريظه في كتاب خاص
أرسله إليَّ.
وكان من تأثير وقعه أن أنكر الدكتور طه حسين في جريدة كوكب الشرق التي
يتولى تحريرها ما عُزِيَ إليه من تلك المطاعن أنه ألقاه في كلية الآداب، فسررنا
بهذا الإنكار، وتمنينا لو كان قبل ذلك، ونتمنى بعده لو يكتب مقالا آخر حافلاً في
دلالة إعجاز القرآن على أنه وحي من الله عز وجل أنزله على محمد رسوله الله
وخاتم النبيين، وأن كل انتقاد وجه إلى سماء عصمته فهو من أباطيل أعدائه من
دعاة النصرانية أو الملحدين، ليهدم بذلك ما اشتهر به من الطعن في الدين وغيره
وصنفت فيه كتب أخرى، فقد ظهر مما بثه بعض الكُتَّاب في هذه الأمة من فساد
العقائد، وإباحة الفواحش والرذائل، وانفصام عُرَى الآداب والفضائل، ما ينذرها
بالانقراض والزوال، بما هو مشاهد من إباحة الأعراض المخربة للبيوت المفنية
للأموال، وإن الدكتور لأقدر من علماء الأزهر على مقاومة هذا التيار بقلمه السيال،
إذا حوله من السحر الحرام إلى السحر الحلال.
ومن سخافة مجلة نور الإسلام أن عداوتها العلمية الدينية للمنار لإظهار جهلها
والرد على بدعها قد ظهر أثرها في الأمور الإدارية والأخبار التاريخية،
والمجاملات الصحفية، فإنها قرظت هذا الكتاب فلم تذكر أنه طبع في مطبعة المنار،
وأن صاحب المنار صحَّحه وعلق حواشيه، وكتب له مقدمة نفيسة زادت رده قوة
على قوة، بل نقلت منه عبارة من عباراته في الرد قصر فيها المؤلف فوضع لها
المصحح حاشية طويلة نفيسة نقلتها نور الإسلام مع أصلها، فدل ذلك على أنها من
قلم المؤلف وهو كذب وزور، وكان يجب أن تتنزه عنه مجلة دينية هي لسان
مشيخة الأزهر، فإن كانت فعلت ذلك عن غفلة لا عن عمد فالواجب عليها وقد
علمت الحق أن تبينه في جزء آخر، فهل هي فاعلة؟
المُطَالب بهذا الواجب مديرها عبد العزيز بك محمد الذي كان صديقنا ومن
مشتركي المنار من أول العهد بظهوره، ومن أكثر الناس زيارة لنا. فاستفاد منا ثم
جفانا بدون سبب، وذلك أن الأستاذ الإمام كان أمره بترجمة كتاب (إميل القرن
التاسع عشر) للمنار خاصة فكان يترجمه ترجمة كثيرة الأغلاط العربية فنصححها
بما تعلم به الكتابة وتنقيح الإنشاء في الجملة، ولولا تصحيحنا لما كانت الترجمة
تفهم [1] وبعد إتمام نشرنا إياه في المنار طبعناه مرتين بنفقتنا ونفقته وجعلنا حق
الطبع محفوظا لنا كلينا، وحقه أن يكون لنا وحدنا. فلما راج الكتاب طلب مني أن
أكتب له أنني جعلت له حق إعادة الطبع فامتنعت؛ لأنه باطل لا موجب له، وما
زال يلح حتى قلت: أتخاف إن طبعته أن أرفع عليك قضية؟ إنك إن طبعت تفسير
المنار لا أقاضيك. فما كان منه إلا أن طبع الكتاب وحده وادعى أن حق الطبع له
وحده وحذف من مقدمته ما كان اعترف به من الفضل لي بتصحيحه، وكان حسن
ظني في دينه ومودته ألا يفعل، ولكنه فعله مرة بعد مرة، ولم أرفع عليه قضية
بهذا الاعتداء فكان جزائي منه الهجر والعداء بعد طول الود والولاء.
بلغت صفحات هذا الكتاب 168 صفحة من قطع رسالة التوحيد، وثمن
النسخة منه خمسة قروش يضاف إليها أجرة البريد (للخارج 3 قروش) ويطلب
من مكتبة المنار بمصر.
***
(الوحي المحمدي)
(ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام)
(دين الأخوة الإنسانية والسلام)
جمعنا ما كتبناه في التفسير من مباحث إثبات الوحي المحمدي وإعجاز القرآن
وحاجة جميع البشر إلى هدايته في كل زمان ومكان، وكونها هي العلاج الوحيد
لمفاسد الإلحاد والإباحة وتعادي الشعوب والدول واستعدادها للحرب العامة المدمرة
للعمران، وزدنا عليها، وتحدينا علماء الإفرنج وغيرهم بها، ودعوناهم بما أقمنا
على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من البراهين العلمية والفلسفية والاجتماعية إلى
الاهتداء بالإسلام؛ لإنقاذ حضارة العصر وأهلها به من الخطر المنتظر.
جمعنا ذلك في كتاب واحد ووضعنا له مقدمة بَيَّنا فيها شعور علماء الإفرنج
إلى هداية الدين والحُجُب الثلاثة التي حالت بينهم وبين فهم القرآن، وكونه كلام الله
الذي لا يحتاج البشر معه إلى هداية أخرى، ويراها القراء في هذا الجزء بلغت
صفحاته زهاء مائتي صفحة وزعنا منه نسخًا كثيرة على الجمعيات الإسلامية
والصحف الشرقية والغربية وعلماء الإفرنج المستشرقين، وقد شهد من اطلع عليه
من علماء الدين وعلماء الدنيا بأنه لم يُؤَلف مثله في الإسلام، وأنه يغني عن جميع
ما كتب العلماء في عقائد الإسلام في إثبات النبوة وإعجاز القرآن، وأنها كلها لا
تغني عنه، فهو الجدير بتدريسه لطلبة المدارس الثانوية والعالية، وأن يعتمد عليه
في دعوة أمم المدنية إلى الإسلام وفي صد هجمات الملاحدة والماديين على الدين،
وفي إلقاء شبهات دعاة التنصير في أسفل سافلين، وسيترجم ببعض اللغات الشرقية
والغربية، ويظهر إن شاء الله تعالى أنه خير مفسر للمثل العظيم في نور الله الذي
يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم
تمسسه نار.
وقد جعلنا ثمنه رخيصًا جدًّا لا يكفي ما يباع منه نفقة ما يوزع منه مجانًا،
فالنسخة من الورق الصقيل الجيد ثمانية قروش مصرية، ومن الورق المتوسط
خمسة قروش فقط. وأجرة البريد قرشان.
***
(صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان)
من المشهور أنه لما ظهر الإصلاح والتجديد الإسلامي في جزيرة العرب
بدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب الشهير خافت منه الدولة التركية أن يوقظ الأمة
العربية من رقادها، ويُخْرجها من ظلمات جهلها وتفرقها الذي عادت به إلى
جزيرتها جاهليتها، فتُجدِّد ملكها، وتُحيي الخلافة الإسلامية الميتة، فيتقلص ظل
الحكم التركي عن البلاد العربية كلها، فاتفقت مع أشراف الحجاز وحكومة مصر
على مقاومة هذه الدعوة بنشر دعاية في جميع البلاد الإسلامية من عربية وغير
عربية، تصف به دعوة تجديد الإسلام بأنها ابتداع مذهب جديد مخالف للمذاهب
الإسلامية المتبعة عند أهل السنة ولمذاهب الشيعة بالأولى، ولم تكتف بذلك بل
حاربت العرب طلاب التجديد ونبزتهم بلقب الوهابيين. وهذا أمر معلوم وقد بيناه
مرارًا بمناسبات مختلفة. وبيَّنا أيضًا أن كثيرًا من العلماء المنافقين قد تقربوا إلى
حكامهم بتأليف كتب في الرد على هؤلاء المجددين، الذين عرف علماء الإفرنج
ومؤرخوهم من حقيقة أمرهم ما لم يعلمه أكثر علماء المسلمين.
وأقول الآن: إن الشيخ أحمد زيني دحلان الذي كان مفتي مكة المكرمة وكبير
علمائها قد ألف في أواخر القرن الثالث عشر كتابًا أو رسالة في الطعن على هؤلاء
الوهابية رآه الحُكَّام أجمعَ ما كُتِبَ في الافتراء عليهم وعلى شيخهم، وفي الاحتجاج
على بدع القبوريين المنكرين عليهم فنشروه في الأقطار، ووافق أهواء مبتدعة
الزمان، فأخذوا أقواله ونُقُوله بالقبول والتسليم حتى الآن، فكل ما رآه المطلعون
على مجلة مشيخة الأزهر (نور الإسلام) من الطعن فيها على الوهابية وانتزاع
الشبهات لعابدي القبور على شرعية عبادتها هو بعض من كتاب دحلان هذا.
وقد كتب في الرد على دحلان غير واحد من العلماء فكان أقواهم حجة،
وأتمهم استقصاء، عالم من أعظم علماء الهند أدرك الشيخ دحلان ولقيه وناظره في
مكة المكرمة في فجر هذا القرن (وقد توفي الشيخ دحلان سنة 1304منه) ولما
عاد إلى الهند رد على كتابه في سفر كبير سماه (صيانة الإنسان، عن وسوسة
الشيخ دحلان) لم يدع له صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وحكم الدلائل الصحيحة
فيها.
هذا العالم الكبير هو الشيخ محمد بشير السهسواني المفسر المحدث الأصولي
الفقيه النظار الذي اعترف له منصفو علماء عصره بأنه بلغ رتبة الاجتهاد، ومن
مناقبه أنه ناظر مسيح الهند القادياني الدجال فألقمه الحجر، حتى فر من إتمام
المناظرة واعتذر، وقد طبع هذا الكتاب بالهند في عصر مؤلفه وعزي إلى أحد
تلاميذه كما يفعل بعض العلماء مثل هذا لحكمةٍ تقتضيه، وقد توفي الشيخ بشير في
سنة 1326 فرثاه بعض العلماء بمرثية جاء فيها أن تاريخه عدد كلمة (مغفور)
بالجمل.
ثم أعيد طبع هذا الكتاب في هذه الأيام على نفقة جماعة من الحجازيين
والنجديين في مطبعة المنار طبعًا جميلاً متقنًا وصدر بترجمة للمؤلف منقولة من
كتاب (الياقوت والمرجان، في ذكر علماء سهسوان) مترجمة بالعربية عن اللغة
الأوردية بقلم أحد علماء الهند، يليها مقال طويل لنا في التعريف بالكتاب وبيان
مزاياه، وقد بلغت صفحات الأصل وحده 576 صفحة.
ومن أهم مباحثه الحافلة الوافية التي زدناها بيانًا في المقدمة، تحقيق المراد
من كلمتي (السنة والجماعة) ومعناهما في الأحاديث النبوية وآثار السلف الواردة
في الحث على اتباعهما والترهيب من مفارقتهما، وكذا كلمة (السواد الأعظم) ،
والفرق بين المراد من هذه الكلمات في عصر السلف وفي هذا العصر، وتضليل
أدعياء العلم المعاصرين ومن على مقربة منهم بإيهامهم الناس في كل قطر أن أكثر
الذين يسمون المسلمين في كل عصر يصح فيه أن يطلق عليهم اسم جماعة
المسلمين، وأن حكمهم حكم الذين كان يطلق عليهم ذلك في عصر الصحابة
والتابعين، الذين كان إجماعهم حجة في الدين حتى عند من ينكر حجية الإجماع
الأصولي أو وجوده من غير الصحابة كالإمام أحمد، ويجزم بأن أكثرهم كانوا على
الحق والهدى، وأن رأي مخالف الأكثر من أفراد علمائهم محل اجتهاد ونظر، وهذا
الإضلال الذي ينشره بعض محرري مجلة مشيخة الأزهر كالشيخ يوسف الدجوي لا
يصح إلا قاعدة للذين يقولون: إن دين كل قوم ما هم عليه، أو ما عليه الأكثرون
منهم، وإن كان مخالفًا لنصوص كتابهم، وما كان عليه نبيهم وأصحابه، فهذا
الكتاب يقيم لك الحُجَج على أن مخالفي الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح إلى
اتباع البدع أو المعاصي لا يصح أن يسموا جماعة المسلمين الذين وردت الأحاديث
والآثار باتباعهم، خلافًا لمجلة مشيخة الأزهر فإنها تدعي أنهم هم الجماعة في
عصرنا، وأن المنكر عليهم وهابي منكر على المسلمين خارج على جماعتهم، وأن
احتجاجه على ذلك بآيات القرآن في أصول التوحيد، وبالأحاديث الصحيحة المتفق
عليها في لعن الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، والذين يضعون عليها
السرج والمصابيح، وقوله صلى الله عليه وسلم فيهم: (أولئك شرار الخلق عند الله)
احتجاج باطل - ولم يبق عليهم إلا أن يعدوا منع السواد الأعظم من مسلمي مصر
للزكاة، وترك الجماهير الكثيرة منهم للصلاة، وسباحة الألوف من نسائهم مع
رجالهم في شواطئ البحار والأنهار، ومجاهرتهم بشرب الخمور والمخدرات - كلها
من أفعال المسلمين التي يُعَدُّ المُنْكِرُ عليهم فيها بترك دينهم وهابيًّا ضالاًّ أو مجتهدًا
مضلاًّ.
فهذا الكتاب يبين لك ما ورد في الأخبار والآثار في جماعة المسلمين مع
تخريجها وما قاله أئمة العلماء فيها، وما ورد في هدي سلف هذه الأمة الصالح،
ولا سيما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما يقابله مما ورد في خلفهم الطالح
كأهل هذه القرون الأخيرة من اتباع سنن من قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى
صح فيهم ما صار يتمثل به خطباؤهم من فوق منابرهم بهذه الجملة المأثورة (لم
يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه) .
فينبغي لكل مسلم أن يطالع هذا الكتاب في هذا العصر ولا سيما أهل مصر،
وهو رخيص الثمن تُبَاع النسخة من ورقه النباتي بخمسة عشر قرشًا، ومن الورق
الأبيض الأجود بثمانية عشر قرشًا، وأجرة البريد في مصر قرشان، وفي الخارج
خمسة قروش.
***
(التوحيد)
جريدة دينية أدبية يصدرها في سنغافورة الأستاذ الفاضل الشهير الشيخ عبد
العزيز الرشيد صاحب مجلة الكويت التي كان يصدرها في الكويت من قبل، والأستاذ
كاتب عالم معتدل فنتمنى لصحيفته الرواج.
__________
(1) أعتقد أنه لا تزال بعض أصول هذه الترجمة محفوظة عندي.(33/314)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفيات الأعيان
(الشيخ عبد الفتاح الزعبي الجيلاني)
توفي في هذا الصيف، ولم أعلم بوفاته في وقتها فكتبت إلى أكبر أنجاله
(الشيخ محمد والشيخ علي) تعزية سألتهما في كتابها عن تاريخ الوفاة وسببها،
وعن مسائل أخرى أحب ذكرها في ترجمته، فمضى زُهَاء شهرين ولم يرجع إليَّ
الجواب.
السيد عبد الفتاح هو نقيب السادة الأشراف في طرابلس الشام والخطيب
المدرس للجامع الكبير المنصوري فيها، وسيد كبرائها وأعيانها، وشيخ الطريقة
القادرية، من أسرة الزعبية التي تقيم في قرية مشحة وحصن الأكراد من ملحقات
طرابلس وينتهي نسبهم إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الحسني أكبر أئمة الصوفية
وأقطابهم في عصره. طلب العلم في طرابلس على شيخ الشيوخ العلامة الشيخ
محمود نشابة، ولم أسمع منه أنه أدرك جده الشيخ نجيب الزعبي وكان من كبار
العلماء، وممن أخذ عنه العلامتان الشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ أحمد أفندي
سلطان، وكان السيد عبد الفتاح من أذكى الأذكياء، وأفصح الفصحاء، له شعر
كثير، وديوان خطب جمعية خرجت له أحاديثه، وكان الحكام يهابونه لجرأته على
النقد.
كان رحمه الله تعالى من أصدق أصدقائنا وبين بيتهم وبيتنا مصاهرة فقد كانت
عمته زوج عم والدي السيد أحمد أبي كمال، خطبها إلى جده الشيخ نجيب أكبر
وجهاء طرابلس وأغنيائها فأبى؛ لأنهم لم يكونوا شرفاء النسب، وكان كبار الشرفاء
إلى عهده يحافظون على هذا، وأقدر أنه أتم في العقد التاسع من عمره أو كاد وقد
تزوج في شيخوخته عذراء وله منها أطفال. وآخر ما كتبه إليَّ تقريظ للجزء
العاشر من تفسير المنار، تمنى فيه أن يجد قوة لقراءة هذا التفسير درسًا في الجامع
الكبير، رحمه الله رحمة واسعة، وأحسن عزاء أنجاله وسائر أسرته الشريفة.
***
(الشيخ محمود خطاب السبكي)
بعد صلاة الجمعة 14 من شهرنا هذا (ربيع الأول) فجأت المنية هذا الأستاذ
الكبير، والعلم الشهير، وقد كان إمامًا في الهداية إلى العبادة والتقوى والنهي عن البدع
والمعاصي يتبعه ألوف كثيرة منتشرون في القطر المصري كله ينسبون إليه، وكان
مواظبًا على التدريس وله مصنفات كثيرة مطبوعة آخرها شرح لسنن أبي داود صدر
منه خمسة أجزاء، ولم أطلع على شيء منها، فرحمه الله تعالى، وجزاه أفضل
الجزاء.
__________(33/320)
جمادى الأولى - 1352هـ
سبتمبر - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
(س13-15) من صاحب الإمضاء في برلين (أوربة) بعد مقدمة طويلة.
(1) لِمَ فضَّل الله تعالى اليهود وهم أرذل الأقوام وأشنعهم ومفسدون في
الأرض، وكل الفساد الأخلاقي والاقتصادي والسياسي ناشئ منهم فقط كما قال تعالى:
{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12) وإنهم أشد الناس
عداوة للناس ولا سيما للمسلمين. فإذن ما معنى قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ
عَلَى العَالَمِينَ} (البقرة: 47)
(2) لِمَ ورد في كلام الله القديم قصص بعض الرسل كنوح وإبراهيم
وموسى وعيسى عليهم السلام مرارًا كثيرة مثلا قصة عيسى عليه السلام أكثر من
سبع عشرة مرة وقصة موسى عليه السلام أكثر من سبع وعشرين مرة إلخ.
(3) لماذا جمع أبو بكر وعثمان - أيْ الهيئة المخصوصة لجمع القرآن زمن
خلافتهما - على غير ترتيب نزوله؟ فإن أمكن اليوم جمعه على ترتيب نزوله؟ فإن
أمكن أيصح؟ تلميذكم الداعي المخلص:
... ... ... ... ... ... ... عالم جان إدريس
... ... ... ... ... ... ... ... في برلين
(أجوبة المنار)
13- معنى تفضيل بني إسرائيل على العالمين على مفاسدهم:
إن تفضيل بعض الشعوب على بعض من الأمور النسبية التي تختلف
باختلاف الأجيال والزمان والمكان؛ وباختلاف مراد المفضل من التفضيل، وإذا
أطلق التفضيل في كتاب الله يراد به الديني منه، وإلا بينه كقوله تعالى: {وَاللَّهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل: 71) وإنني أبين جواب السائل
بشيء من التفصيل.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) ويقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 26) فعلم منه
أن التفضيل خاص بالمهتدين بكتب الله تعالى للأنبياء الذين بعثوا فيهم من ذرية
إبراهيم بعد نوح عليهما السلام.
وقد كان الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في غيرهم من الشعوب
والمهتدون منهم أكثر من غيرهم لأولئك الأنبياء، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ} (النمل: 15) فهذان نبيان من أعظم أنبيائهم يحمدان الله تعالى أن فضلهما على كثير
من عباده المؤمنين لا على جميعهم.
وإن من قواعد الشرع الإلهي العام أن الغُرْم على نسبة الغُنْم فمن كان ثوابه
على الإيمان والطاعة مضاعفًا كان عقابه على الكفر والمعصية مضاعفًا وقد أنذر
الله بني إسرائيل على لسان موسى ومن بعده من أنبيائهم أشد النذر إذا هم نقضوا
عهده بالكفر والمعاصي كما تراه في كتبهم المقدسة من العهدين القديم والجديد، وفي
القرآن العظيم المهيمن على جميع تلك الكتب، وفيه وصف لشدة كفرهم وبغيهم
وقتلهم الأنبياء بغير حق، وما عاقبهم به من اللعن وسلب الملك وضرب الذلة عليهم
بفقد الملك، وتسليطه عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وأنهم لن
يعتزوا بأنفسهم، بل بسيادة غيرهم، كما قال تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ
النَّاسِ} (آل عمران: 112) فحبل الله شرعه الإسلامي الذي أمنهم على أنفسهم
وأموالهم ودينهم، فرفع ظلم الرومان وغيرهم عنهم، وحبل الناس خضوعهم للدول
التي تحميهم، وكل هذا معروف في تاريخ دول الإسلام، وواقع مشاهد في بعض
بلاد أوربة الآن، وإن اعتزوا في بعض آخر وأحدثوا ما نعلم من انقلاب.
وأما ما يؤيد تفضيلهم على غيرهم من ناحية الخصائص القومية والوراثة
والتربية فيؤخذ من التاريخ الديني والمدني، وهو ما أجمله لنا القرآن على سنته في
بيان سنن الاجتماع بالإيجاز، إلى ما فصلته أسفار التوراة من معاندة موسى عليه
السلام في صحاري سيناء بعد إنقاذ الله تعالى إياهم على يديه من استعباد فرعون
وقومه وإذلالهم لهم، وتعبر عنهم أسفار التوراة بالشعب الصلب الرقبة، حتى
انقرض في مدة التيه - وهي أربعون سنة - أولئك الأذلاء الجبناء الذي تربَّوْا تحت
حجر الوثنية والعبودية، ونشأ فيه جيل جديد تربى في حجر الشريعة المؤسسة على
عقيدة التوحيد الخالص وآيات النبوة، وقشف البادية، فسلطهم الله على أولئك
الوثنيين المفسدين في بلاد فلسطين ونصرهم عليهم، وأدال لدين الله وشرعه من
عبادة الأوثان، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ *
مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ *
وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُّبِينٌ} (الدخان: 30-33) فالمراد بالعالمين
الذين اختارهم عليهم القبط والفلسطينيون الذين نصرهم عليهم، وأنشأ لهم ملكًا
عظيمًا من بعد ذلهم.
ثم سلبهم الله هذا الملك بما كفروا من نعمه، وأشركوا في عبادته، كما بيَّنَ
تعالى هذا في أول السورة التي سميت باسمهم؛ إذ قال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء:
4) إلى قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 8) وهو بيان لما
عوقبوا به من القتل والسبي مرة بعد أخرى، ولسنة الله فيهم بعد ذلك.
وقد انقضى كل ما كان لبني إسرائيل من التفضيل الديني على غيرهم إلى
الفرع الآخر من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهم العرب ببعثة محمد رسول
الله وخاتم النبيين الذي بشرهم الله تعالى به على لسان موسى وعيسى ومن كان
بينهما من النبيين كما بيَّناه بالشواهد الكثيرة في مواضع من تفسير المنار أوسعها
تفسير آية الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) من الجزء التاسع.
وقد بيَّن الله لهم وللناس غرورهم بما كان من تفضيل الله لسلفهم من الأنبياء
والذين اهتدوا بهم بأنه ليس اختصاصًا ومحاباة منه لهم لذاتهم أو لنسبهم بينه في
آيات منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة:
18) الآية ومنها قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ} (الجمعة: 6-7) ومنها الآيات الكثيرة في لعنهم والغضب عليهم
ومقاصدهم وعقابهم. راجع في سورة المائدة (5: 41 -51 و58 -70و76 -
82) وغير ذلك في غيرها.
وأما ما يستنكره السائل من أعمالهم الإفسادية في العالم ولا سيما روسية
وألمانية، فحكمته أن الله تعالى ينتقم بقوتهم في التدبير المالي والمكر والكيد السري
(كالماسونية) من أشد شعوب الأرض ضراوة بالحروب، واستذلال الشعوب،
واستخدام دين المسيح لنقيض ما جاء به من الزهد والتواضع والإيثار، فلولا كيد
اليهود في ثل عرش ذلك السلطان الديني الدنيوي في أوربة لمحت العصبية
الصليبية آية الإسلام من الشرق كما محتها من أكثر أوربة، ولأطفأت نوره، ولما
وجدت هذه الحضارة المؤسسة على قواعد العلوم والفنون والحرية التي نفخها روح
الإسلام في الأندلس والشرق ثم انتقلت إلى إيطالية وفرنسة فسائر بلاد الغرب.
على أن الشعوب الأوربية الحربية بالطبع الموروث قد كفرت بنعم الله تعالى
في العلم كما كفرت من قبل بنعمته في هداية الدين، فهي تستخدمها في الاستعداد
لدك معالم الحضارة والعمران وإبادة بعض شعوبها لبعض، فاليهود يكيدون لهذه
الدول وشعوبها في شرق أوربة وآسية بالبلشفية، وفي غربها بخصيمتها الرأسمالية،
والغرض من الكيدين إزالة بغي القوة النصرانية ثم القوة المادية لشعوب أوربة إلا
التي تساعدهم على غرضهم الأساسي، وهو تجديد ملك يهودي يكون له النفوذ
الأعلى في العالم.
فهم الذين ثلوا عرش السلطان البابوي بقوة العلم والمال؛ لأنه كان يضطهدهم
في كل مكان، وهم الذين أضعفوا سلطان الحكم القيصري بمجلس الدوما أولا، ثم
قوضوه بالحكومة الشيوعية آخرًا؛ لأنه كان يضطهدهم أيضًا وهم الذين ساعدوا
جمعية الاتحاد والترقي على تقويض سلطان الخلافة التركية تمهيدًا لتمكينهم من
امتلاك فلسطين لا لاضطهاد الترك لهم، فإنهم لم يضطهدوهم وهم الذي قوَّضوا
صرح القوة الألمانية في الحرب الأخيرة بما نفثوه من سموم الثورة في أسطولها
وفي جيشها وبما جاهدوا بأموالهم وكيدهم في حمل الولايات المتحدة على مساعدة
أعدائها الحلفاء عليها، ثم سعوا لنشر الشيوعية فيها حتى لا تقوم لها قائمة مسيحية
ولا قومية، وما كان هذا إلا خدمة لإنكلترة وجزاء على عهدها بلسان لورد بلفور
على تأسيس وطن قومي وملك يهودي في فلسطين، فكيدهم لألمانية كان ككيدهم
الدولة العثمانية، لا ككيدهم لدول اللاتين وللقيصرية الروسية، ومن الناس من يرى
أن إضعاف ألمانية وانتصار الحلفاء عليها كان خيرًا للإنسانية وأنا أرى عكسه.
فأنت ترى أن هذا الشعب أفضل من جميع شعوب الأرض عزيمة ووحدة
وأثرة وذكاء، وإقدامًا وثباتًا، واعتزازًا بنفسه، وأما ضرره لغيره فهو يجري فيه
على ما تعلمه من شعوب أوربة لبعض، وشره ما كان من دفع الفاسد بالفاسد
ويجري على سنة الاجتماع البشري والطبيعي المسماة برد الفعل، وقاعدة إذا جاوز
الشيء حده، جاور ضده أو انقلب إلى ضده، ووفاقًا للحديث المشتهر على ألسنة
العامة: (الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه) . رواه الديلمي في مسند الفردوس
بلفظ (عدل الله) ولكن بغير سند، وقال الحافظ ابن حجر: إنه لا يعرف له رواية
غيره.
ولا يمكن أن يغلب على أمره إلا بقوة الحق والعدل والهدى التي كفل الله نصر
أهلها على من يقاومها، وهذه القوة لا توجد إلا في دين الإسلام دين القرآن وسنة
محمد عليه الصلاة والسلام، التي فتح بها خلفاؤه العالم وطهروا ما ظهروا عليه منه
من الوثنية والظلم والمنكرات وعبادة البشر من الكهنة والملوك، وقد بينا هذا
بالتفصيل في كتابنا (الوحي المحمدي) الجديد.
وقد تنبهت الشعوب اللاتينية والجرمانية للانتقام منهم، ولا يزال
الأنكلوسكسون ينتصرون لهم بسبب نفوذهم المالي، ولكن الدولة الإنكليزية هي التي
ستقضي عليهم القضاء الأخير، بمساعدتهم على تأسيس الملك اليهودي في فلسطين،
بظلم للعرب شديد وبغي فظيع، بالرغم من وعيد الله لهم على لسان رسله، ولا
سيما المسيح الحق ومحمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهما، وسيكون هذا
الجمع بين الظلم والبغي الإنكليزي والطمع اليهودي قاضيًا على نفوذ إنكلترة في
الشرق خلافًا لما يظنان، معجلاً لحياة الأمة العربية خلافًا لما يبغيان، بمقتضى سنة
رد الفعل في الاجتماع، بل عجل الله للإنكليز الانتقام بزوال نفوذهم المعنوي
وصيتهم الأدبي بفضيحتهم في فلسطين وسيتبعه النفوذ المادي ولو بعد حين، وأما
اليهود فهم على ما ذكرنا من مزاياهم قد سُلِبُوا الاستعدادَ للملك بفقدهم لملكة الحرب
إذ قال فيهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) وبشدة
أثرتهم المالية وعصبيتهم النسبية والدينية، التي بَغَّضَتْهُم إلى جميع شعوب البشر
مَسُودِينَ، فكيف إن صاروا سائدين، وقد قال الله فيهم: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ
فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} (النساء: 53) وقد ورد في أخبار نبينا الغيبية أنه
قال: (تقاتلكم اليهود فتظهرون عليهم حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم ههنا
ورائي يهودي تعال فاقتله) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
***
14- حكمة تكرار قصص بعض الأنبياء في القرآن:
إن هؤلاء الأنبياء الذين كرَّر القرآن ذكرهم هم الذين كانوا معروفين في بلاد
العرب وما جاورها من طريق أهل الكتاب، ولهذا التكرار حكمتان: (إحداهما)
بيان هدايتهم الصحيحة التي شوهتها روايات اليهود والنصارى بما جهلت به حقيقة
دين الله وهدايتهم فيه بما يُرْجَى تأثيره كما فصلناه في كتاب (الوحي المحمدي) في
بحث حكمة التكرار في القرآن، وفي بحث إصلاح الإسلام لتعاليم الرسل قبل محمد
عليه الصلاة والسلام. (ثانيهما) إقامة الحجة على إعجاز القرآن في أسلوبه
ونظمه وبلاغته كما ترى بيانه في تفسير هذا الجزء.
***
15- جمع القرآن على غير ترتيب النزول:
من المعلوم من تاريخ الإسلام بالإجماع أن بعض السور نزلت متفرقة في
أوقات مختلفة، وأنه كلما كملت سورة كان جبريل عليه السلام يقرئها النبي صلى
الله عليه وسلم كاملة، وكان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم أي يدارسه كل ما
تم من القرآن في كل سنة، وأنه في آخر سنة من عمره عارضه القرآن كله مرتين
بهذا الترتيب الذي لقَّنَه لأصحابه ولكتبة الوحي، وكان يقرؤوه في الصلاة وغيرها،
ويحفظه كثير منهم ويقرؤونه بهذا الترتيب الذي في المصحف ولأجل هذا كتبوه،
وبه يظهر تناسبه والتئامه وإعجازه، ويسهل حفظه ومدارسته على الصغار والكبار،
فترتيب القرآن ترتيب توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، ولا
يمكن جمعه بحسب النزول إلا بالنسبة إلى فائدة في كتابته على هذا الترتيب وخلط
السور الصغيرة بالكبيرة. وأما ترتيب آياته في كل سورة مما نزل متفرقًا فمتعذرٌ،
والتصدي لما علم منه ممنوع بالإجماع، وهو ضار غير نافع، فإن آيات الربا من
سورة البقرة، وقوله تعالى بعدها: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة:
281) الآية هي آخر الآيات نزولاً، وأكثر السورة نزل عقب الهجرة. ولما
أنزلت هذه الآيات أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في مكانها؛ لمناسبتها لما
قبلها وما بعدها من الآيات المالية من الصدقة والدَّيْن. ولو وضعت مع آخر ما نزل
من السور لوضعت في سورة النصر، ولا مناسبة بينهما، فكل تغيير في القرآن
ضارٌّ، ومحرم بالإجماع.
__________(33/347)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فصول من ترجمتي منقول من كتاب المنار والأزهر
تَأَلُّهي ونسكي وتصوفي
نشأت في حجر العبادة، فألفها وجداني ونشطت فيها أعضائي من الصغر،
فَخَفَّتْ عليَّ في الكِبَر، كنت من سن المراهقة أذهب إلى المسجد في السَّحَر، ولا
أعود إلى البيت إلا بعد ارتفاع الشمس، حتى كانت والدتي رحمها الله تعالى تقول:
إنني منذ كبر رشيد ما رأيته نائمًا، فإنه ينام بعدنا ويقوم قبلنا، وقد اتخذت لنفسي
حجرة خاصة من غرفتين في أعلى ركني مسجدنا البحريين للمطالعة والعبادة،
وهذه الغرفة كان يخلو فيها جدنا السيد علي الكبير الذي بنى المسجد قدس الله روحه،
والغرفة الأخرى كانت لخادمه المسمى بالأعرج، وكان أهل القرية يعتقدون أنه
من الجن ويتناقلون في ذلك حكايات غريبة. وكانت هذه الغرفة ملتقى العلماء
والأدباء الذين يزوروننا في القلمون يطالعون ويراجعون فيها ويتحاورون، وكان
شيخنا الجسر يستقرئني فيها إما بعض فصول الفتوحات المكية، وإما بعض فصول
كتاب الفارياق …
وكانت تلذ لي صلاة التهجد تحت الأشجار من بساتيننا الخالية، وأفكر في
صدق من قال: أهل الليل في ليلهم أنعم من أهل اللهو في لهوهم، وقول آخر: لو
يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف. نعم إن للبكاء من خشية الله وتدبر
كتابه في صلاة الليل حيث يعلم المصلي أنه لا يسمع صوته أحد إلا الله لذة روحية
تعلو كل لذات الضحك واللهو على اختلاف أسبابها.
وكان كبير أسرتنا الشيخ السيد أحمد أبو الكمال الذي تقدم ذكره يُدَارس أولاد
الأسرة القرآن في رمضان لأجل تجويده، فكنا نقرأ معه كل يوم نصف ختمة:
خمسة أجزاء من بعد شروق الشمس إلى صلاة الظهر إلى العصر، كل واحد يقرأ
ثمن الجزء ويسمع الآخرون، وكان يحضر هذه المدارسة معنا عنده السيدة زلفى ابنة
بنته وكانت صبية ولم يكن فينا أحد بالغًا غير ابنه السيد محمد كمال وهو خالها،
وكان يقرأ في غير رمضان عشرة أجزاء كل يوم.
والسيدة زلفى هذه كانت تكتب إن شاءت وتطالع الكتب وهي أم السيد عبد
الرحمن عاصم تلميذي ووكيل المنار، وهو ابن عمي السيد محمد كامل وزوج
شقيقتي ويعيشان معي. وأما عمي - والده - فهو على قدم عمه في الانقطاع للعبادة
والنسك، ويقوم بوظائف الإمامة والخطابة والتدريس في مسجدنا، وقد عني بكتاب
إحياء العلوم كما عنيت به. وكان يعاشرني معاشرة الصديق، ويفيدني في كثير من
مسائل العربية والدين، ثم فقته في ذلك حتى كان يحضر درسي؛ لتواضعه
وإخلاصه أطال الله بقاءه.
وكنت أقرأ ورد السحر في غير رمضان وحدي وفي رمضان مع الجماعة،
وكنت إذا بلغت قوله في الجيمية:
ودموع العين تسابقني ... من خوفك تجري كاللجج
ولم يكن حضرني البكاء أسكت فلا أقرأ البيت حياء من الله تعالى أن أكذب
عليه، ولما اشتغلت بالسنة وعلمت أن قراءة هذا الورد وأمثاله من البدع التي
جُعِلَتْ من قبيل الشعائر والشرائع التي شرعها الله تعالى على ما فيه من الأمور
والأقسام المنتقدة شرعًا تركت قراءته واستبدلت بها قراءة القرآن.
وكنت أواظب على قراءة دلائل الخيرات وتلقيت الإجازة بها عن الأستاذ
العابد العالم الشيخ أبي المحاسن القاوقجي بسنده إلى مؤلفها، ثم تركتها بعد اشتغالي
بكتب السنة كما تركت ورد السَّحَر، واستبدلت بها وردًا آخر في الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم ليس فيه شبهة بدعة من توقيت وجهر وصِيَغ منكرة ومضاهاة
للشعائر الموهمة للمأثور عن الشارع.
وقد حبب إليَّ التصوفَ كتابُ إحياء العلوم لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي،
فكنت أجاهد نفسي على طريقة الصوفية بترك أطيب الطعام اكتفاء بقليل من الزعتر
مع الملح والسماق، وبالنوم على الأرض وغير ذلك، حتى إنه لم يعد يشق عليَّ
ترك أطيب الطعام الحاضر عمدًا، ولكنني حاولت أن أتعود احتمال الوسخ في البدن
والثياب وهو غير مشروع فلم أستطع، وقد ذكرت هذا وذاك للأستاذ الإمام بمناسبة
عرضت فقال لي: وأنا كذلك، وقال مثل هذا في غيره مما اتفق وتشابه من
نشأتي ونشأته.
وقد طلبت من أعبد عباد شيوخ الطريق في عصرنا الشيخ أبي المحاسن محمد
القاوقجي أن يسلكني الطريق على أصولهم في الرياضة والخلوة والترقي في منازل
المعرفة، وصرحت له بأنه لا يعجبني أن أسلك طريقة الشاذلية الصورية بقراءة
أورادها وحضور اجتماع أذكارها، وكنت حضرت هذا عنده مرارًا وحفظت حزب
البر بقراءته معهم، فاعتذر، وقال لي: يا بني إنني لست أهلاً لما تطلب فهذا
بساط قد طُوِيَ وانقرض أهله، فرحمه الله رحمة واسعة.
ثم أخبرني صديقي الأستاذ العلامة الشيخ محمد الحسيني أنه قد ظفر بصوفي
خفي من النقشبندية يرى هو أنه وصل إلى رتبة المرشد الكامل فسلكت هذه الطريقة
معه وقطعت مراتب اللطائف كلها، ورأيت في أثناء ذلك كثيرًا من الأمور الروحية
الخارقة للعادة كنت أتأول الكثير منها وعجزت عن تأويل بعضها، إلا أنها من
خصائص الروح التي تظهرها الرياضة وكثرة الذكر والفكر، ولكن هذه الثمرات
الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها
بدعة كما حققت ذلك بعدُ.
كان الورد اليومي لي في هذه الطريقة ذكر اسم الجلالة (الله) بالقلب دون
اللسان خمسة آلاف مرة مع تغميض العينين وحبس النفس بقدر الطاقة، وملاحظة
ربط قلبي بقلب الشيخ، وهذا النوع من الذكر غير مشروع، بل هو مخالف لجميع
ما ورد في الذكر المأثور، وهذه الرابطة محل إنكار خاص عند علماء الشرع،
وهي مقررة في غير هذه الطريقة، وقد تكون بصفة مخلة بالعقيدة، إذا عبدت
عبادة شرعية، فإن مقتضى التوحيد أن يتوجه العبد في كل عبادة إلى الله وحده
حنيفًا مسلمًا له الدين، فالتوجه فيها إلى الشيخ قد يكون من الشرك الخفي، وإن لم
يقصد به عبادته، وإنما يمكن تفسيرها بأنها ضرب من التربية الروحية الصناعية
المجربة في إظهار ما أودعه الله في النفس من الأسرار والسنن الإلهية المخالفة
للسنن المودعة في المادة، وبأن الرابطة فيها كالرابطة بين المقتدي وإمام الصلاة لا
يقصد بها شيء من إشراكه في عبادة الذكر، ولا تعظيمه بنوع من تعظيم عبادة
الرب، ولا تتضمن الاعتقاد بأنه قادر على شيء من النفع أو الضر، من غير
طرق الأسباب المشتركة بين الخلق، وإنما هي عندهم وسيلة سببية في ربط
الأرواح بعضها ببعض، من المريد إلى الشيخ فمن فوقه من شيوخ السلسلة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عدها عبادة شرعية فهو مبتدع بلا شك، وهذا
التوجيه لها قلما يخطر ببال أحد من سالكيها.
وجملة القول: أنني كنت أعتقد أن سلوك طريقة المعرفة وتهذيب النفس
والوقوف على أسرارها جائز شرعًا لا حظر فيه، وأنه نافع يُرْجَى به من معرفة
الله ما لا يوصل إليه بدونه، ولكنني لم أعتقد قط أن الشيخ الذي أرتبط به فيه قادر
على شيء مما تقدم، ولم أكن أستحضره ولا أتصوره في أثناء الذكر وإنما أتصور
عند البدء به أنني ربطت قلبي بسلسلة من القلوب المخلصة لله تعالى هو طرفها
الأدنى فزدت فيها حلقة جديدة، وأن هذه الرابطة لها تأثير في الإمداد الروحي كما
تصل مصباحًا كهربائيًّا بالسلك الممتد إلى مولد التيار الشامل لمصابيح الدار كلها أو
البلد كله.
ومن الغريب أن الإنسان بعد طول الإكثار من هذا الذكر يصير يسمع للقلب
صوتًا، وأغرب منها أن يسمع غيره صوت قلبه. أخبرتني والدتي -تغمدها الله
ووالدي برحمته ورضوانه- أنها وضعت أذنها مرة على صدر عمها السيد الشريف
الصالح عبد الرزاق حبلص فسمعت منه ترداد اسم الجلالة: الله، الله، الله. وقد
أدركت أنا عمها هذا وأنا صغير ولم أكن أعلم من أمر هذه الطريقة شيئًا. وقد لقنني
الأستاذ بعد الانتقال من اللطائف كلها أو عند لطيفة السر الذكر بكلمة التوحيد باللسان.
(نسيت الآن) .
هذا ما أقول في الورد الشخصي والرابطة، وللطريقة النقشبندية ورد آخر
مشترك يسمى الختم، وهو عبارة عن اجتماع من كان حاضرًا من أبناء الطريقة
على ذكر وقراءة لبعض سور القرآن والتوجه إلى استحضار بعض أرواح سلسلة
الطريقة مع تغميض العينين، واستحضار الروح لا يتضمن شيئًا من عبادتها بدعاء
ولا تعظيم تعبدي، والاستمداد الروحي ليس عبادة بالفعل ولا بالقصد، إلا أن يكون
من جاهل بالشرع شيخه أجهل منها وأضل سبيلا، وإنما هو من قبيل ما يُحْكَى عن
الإفرنج من ذلك، وقد سبقهم إليه الصوفية، وسأذكر بعض ما حققته فيه. ولكنه لا
يخلو من مثار فتن دينية، وخوف اختلال في القوى العقلية، بما يعرض للجاد
المجد فيه من العوارض غير الطبيعية، ولذلك اتفق الصوفية العارفون على أنه لا
يجوز سلوك طريقة الرياضة عندهم إلا بإرشاد شيخ عارف.
قد سلك الطريف ثم عادا ... ليخبر القوم بما استفادا
* * *
ما يعرض لسالك الطريق
من الأمور الروحية الغريبة
أول ما عرض لنا من ذلك أن كانت تتمثل لنا ونحن في الختم مغمضي
الأعين صورة من يذكر الشيخ اسمه من رجال السلسلة لعقد الرابطة به وأعلاها أبو
بكر الصديق رضي الله عنه، وفوقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا بعد
تكرار، وكنت أعتقد أنه خيال يثيره التخيل، ويدعي الشيخ أن الروح نفسها
تحضر الختم وتتجلى للمستعد، وكل شيوخ الطريق يدَّعون هذا ويزعمون أن روح
النبي صلى الله عليه وسلم تحضر مجالسهم، فمنهم الكاذبون الدجالون، ومنهم
المتخيلون الممثلون، وقد أطلت في تحقيق هذه المسألة في بحثي الفياض في
الكرامات، الذي كتبته في كتابي (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية)
الذي ألفته وأنا تلميذ ثم عدت إليه في المجلد الثاني من المنار ثم في المجلد السادس
منه، ثم ألممت به في مجلدات أخرى.
ثم عرض لي ولغيري في أثناء استحضار هذه الأرواح بالتخيل أن نميز بينها
باختلاف صورها ونشم للروح رائحة عطرية مُنْعِشَة لا نظير لها فيما يعرف من
الأعطار. فكنت في أول العهد بها أظن أن الشيخ يحفظ في جيبه قارورة أو حُقًّا فيه
هذا النوع من العطر فيفتحها في أثناء الختم ولا يراه منا أحد، وهذا من خواطر
السوء في الشيخ لا تبيحه آداب الطريقة، بل هو من عوائق السلوك، ولكن
الرائحة لم تكن تستمر، ثم صارت تعرض لي في أثناء وردي الخاص، فأظن أنها
ذكرى في النفس، تعدى أثرها إلى الأنف بالوهم، وبعد التكرار اعتقدت أن ما
يقوله كبار الصوفية من أن للأرواح الشريفة الزكية العالية رائحة طيبة ذكية صحيح،
وأن تجلي الأرواح صحيح في الجملة.
ومما كنت قرأته في الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي (وهو من
أكابر الصوفية الروحانيين على ما عرض له من الاختلال في معلوماته الدينية
والكشفية) أن الشيخ عبد القادر الجيلي كان يعرف مقامات الرجال العارفين بالشم
وأنه شم محمد بن قائد فقال له: لا أعرفك، وكان ابن قائد يرى لنفسه مقامًا عاليًا
فعرف من إنكار عبد القادر له قصوره، فَعَلَتْ همته حتى صار من الأفراد.
ويذكر في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي الصوفي الفقيه المشهور أنه لما جاء
طرابلس تَرَجَّلَ قبل أن يبلغ مقبرتها في المكان المعروف بباب الرمل فترجل من
معه وسألوه عن السبب فقال: إننا قربنا من مكان فيه بعض قبور الروحانيين.
ومما أخبرني به صديقي الأستاذ المصدوق الشيخ محمد كامل الرافعي أن والده
الشيخ عبد الغني كان يشم لبدنه ولثيابه رائحة مسكية في أثناء خلوته وانقطاعه فيها
لذكر الله تعالى، ومما يتناقله أهل القلمون أنه لما نبش قبر السيد أحمد أخي جد
والدي الذي تقدم ذكره، وأن مصطفى آغا بربر تزوج ابنته كانت رائحة ترابه ذكية
كالمسك حتى إن بعض الناس أخذوا منها في جيوبهم ما يحفظونه في بيوتهم.
وأخبار الشيخ علي العمري الطرابلسي المعاصر لنا في الرائحة كثيرة،
ووقائعه فيها مشهورة في طرابلس والآستانة ومصر وكانوا يسمونه شيخ المسك،
إذ كان ينفخ على الشيء كمنقوع الشاي والقهوة وعلب التبغ فتصير رائحتها مِسْكِيَّة.
وقد أخبرني المشير العثماني أحمد مختار باشا الغازي عنه ببعض ما وقع له
في أثناء زيارته لمصر وإقامته في قصر القبة ضيفًا عند الخديو محمد توفيق باشا
الذي استحضره من طرابلس لأجل استشفاء بنت له مريضة برقيته وبركته بعد أن
عجز عن مداواتها الأطباء فشفيت، والمسألة مشهورة في طرابلس الشام وعند
الخواص في مصر.
قال لي مختار باشا: إن الشيخ العمري كان يزورني بعد العصر في كل يوم
فيشرب الشاي معي ثم نخرج إلى التنزه في الجزيرة ونعود عند الغروب فيذهب هو
إلى قصر القبة وأجيء أنا إلى قصر الإسماعيلية هنا (حيث حدثني) .
قال: فكان إذا أحضر الشاي ينفخ على الإبريق والفناجين فنجد للشاي رائحة
المسك، فقال لي شوقي باشا: (هو زوج بنت الغازي ووالد وزير الجمهورية
التركية المفوض بمصر اليوم) في إحدى الليالي: إن المسك طيب شرقي أو عربي
معروف ويمكن للشيخ أن يرش شيئًا من مسحوقه في الشاي بخفة لا نشعر بها، فإذا
كان هذا التعريف (التطييب) للشاي أمرًا روحانيًّا أي يحدث بالتوجه الروحي
المعروف عند الصوفية، فلماذا لا يطيبه لنا بعطر كذا الإفرنجي (وذكر لي الباشا
اسم عطر إفرنجي لم أحفظه) .
قال: فلما كان اليوم التالي وجاءنا الشيخ علي العمري وأحضر الشاي نفخ عليه
أو فيه فإذا رائحته هي رائحة الطيب الذي ذكره شوقي باشا ليلاً ولم يكن معنا أحد.
أقول: وقد كنت بعد ذلك أشم أحيانًا هذه الرائحة في الدار وغيرها، ثم تذهب
من نفسها بسرعة، وقد يكون بعد السؤال مني لمن في الدار: هل تشمون رائحة
طيب؟ فيقال: لا، وقد عرض لي في رمضان شيء من هذا القبيل لا أذكره،
وكان قبل سلوك الطريق، ولكن كنت ربما أقرأ في النهار منه ختمة كاملة في حقل
لنا.
* * *
تحقيق مسألة رؤية الأرواح
وجملة القول: أنني ما زلت أعالج هذا الأمر حتى أمكنني أن أعرف الفرق
بين استحضار الصوفية للأرواح ورؤيتها، وما يحكيه الإفرنج من ذلك، والفرق
بين التخيل المحض والكشف الصحيح، وما يكون في يقظة تامة وهو لا يعدو
اللمحات القصيرة، وما يكون من غيبة عن الحس، وهو ما يسمونه بين النوم
واليقظة كما قال بعضهم.
ومن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى جهرًا فقد فاه مشتطًّا
ولكن بين النوم واليقظة الذي ... يحاول هذا الأمر مرتبة وسطى
وعلمت من الفرق بينها ما أعتقد أنه أصح مما نقله ابن المبارك عن شيخه
عبد العزيز الدباغ، ومنه ما وقع لشيخنا الأستاذ الإمام، وأن ما يسمعه الرائي من
الأرواح في هذه الغيبة هو مثل الذي يرونه ويسمعونه في الرؤى المنامية لا يوثق
بصحته ولا بضبطه، بدليل أن كل ما نقل عن أشهر الروحانيين منهم متعارض
يدل على أنه كان على قدر معارفهم ومعلوماتهم وما يناسبها من مداركهم، كما
أشرت إليه في جواب من سألني عن دعوى شيخ التيجانية وتخريفه ونشرته في
فتاوى المجلد الثاني والثلاثين من المنار ص99، فسأل عنه بعض أتباعه مجلة
الأزهر فردت عَلَيَّ بما لا تعقله من علم الصوفية ولا من علم الشرع، فالحق ما قاله
علماء الشرع من أن الرؤى والكشف لا يُعْتَدُّ بهما شرعًا، ولا يحتج بما يرى ولا
بما يسمع فيهما.
ويعجبني ما نقله الشعراني عن شيخه علي الخواص في كتابه الدر والجواهر
أنه سأله لماذا يؤول العلماء ما يشكل من كلام الأنبياء دون ما يشكل من كشف
الأولياء فيردونه؟ فقال: لأن النبي معصوم فلا بد من حمل كلماته على الصحة
والولي غير معصوم، فيحتمل كلامه الخطأ. اهـ بالمعنى، ولكن الباجوري نقل
عنه في حاشيته للسنوسية ضده، وإذا حكمنا الشرع حكم لنقله الأول وهو الحق.
* * *
الروحانية والتجرد
وخطاب أرواح البشر والشياطين
كان مما وقفت عليه من أسرار النفس غير ما تقدم من تجلي الأرواح مسألة
التجرد وغلبة الروح على الجسد التي تنتهي إلى ما ينقلونه في بحث الكرامات من
المشي على الماء والطيران في الهواء، ومن دون ذلك قطع المسافات في زمن قليل،
ذلك أنني كنت في أثناء شهر رمضان لا أذكر من أي سنة أتحنث وأطالع الربع
الرابع من إحياء علوم الدين فلما كان آخر يوم منه بلغت كتاب التوحيد والتوكل،
وقد أحييت معظم ليلة عيد الفطر بالتكبير مع جماعات من أهل بلدنا الذين يبيتون في
المسجد كيلا تفوتهم صلاة العيد، وكان منهم شيخ كبير السن عاش في صباه
وكهولته عزيزًا منعمًا وافتقر وذل في شيخوخته فكان لرفع صوته الأجش بالتكبير
مع شيبته التامة ضراعة خشوع مؤثرة، حتى إذا كان السحر صليت صلاة الليل
والوتر إحدى عشرة ركعة وفاقًا للسنة الصحيحة كالعادة، وعدت بعد صلاة الفجر
إلى التكبير مع الناس في المسجد إلى وقت صلاة العيد، وبعد أدائها صعدت إلى
غرفة خلوتي وأتممت قراءة ما بلغته من الإحياء، وفيه ذلك البحث البليغ العظيم
التأثير في الفناء في التوحيد فما أتممته إلا وشعرت بأنني في عالم آخر من اللذة
الروحية، وأنه لم يبق لي وزن فكأني روح بغير جسم، ثم عدت أرجع إلى حسي
فذكرت ما علي من الذهاب إلى تهنئة والدي بالعيد، وكان يزور قبر والده وأجداده
بعد الصلاة ويقرأ سورة يس، ثم يُمَدُّ له سماط فيفطر مع من يوجد من الفقراء ومن
شاء من غيرهم، فنزلت من الغرفة وكأنني ريشة طائر وشعرت بأنني لو ألقيت
بنفسي من النافذة إلى الأرض لا أكون إلا كما تقع الريشة، وأنه يمكنني المشي على
الماء دون الطيران في الهواء، واعتقدت بل أعتقد حتى اليوم أنني لو تركت الطعام
زمنًا طويلا مع ملازمة مثل تلك الحال من الذكر والعلم الإلهي الأعلى لقويت معي
تلك الروحانية ووصلت إلى غاية ما يذكر عن الروحانيين، ولن يكون ذلك لو كان
إلا كشفًا لشيء من استعداد الأرواح قد يفقد صاحبه ميزان بشريته التي هي جسد
وروح، فما تعلقت ذلك ولا تكلفته وما كنت متكلفًا في شيء من أمري، ولله الحمد.
ولم أكن أذكر مثل هذه الأحوال لأحد كما هو شأن الصادقين المخلصين الذي
قرَّره الغزالي وغيره ومنه كتمان كل ما هو غير معتاد، والصوفية الصادقون
متفقون على هذا، وعلى أن مبادئ هذه البوارق واللوائح والأذواق مشوقات
منشطات للسالك، وأن الذي يغتر بها ينقطع وإلا فقل هو هالك، وقد نفعني ما كنت
قرأت في كتاب الغرور من الإحياء، ولا سيما غرور الصوفية قبل ذلك. ثم رأيت
شيخنا الأستاذ الإمام عليه، كان يقول: إن هذه أحوال غير طبيعية لا يجوز
التحدث عنها إلا مع أهلها؛ لأنها تكون لغيرهم فتنة، وإن الشيخ محيي الدين قد
أفسد التصوف بإطلاق العنان لقلمه بشرح كل ما يعرض له، وأنه انقطعت معه
سلسلة التوازن فخلط الحق بالباطل.
وهذا الذي كان يراه شيخنا هو الحق، فإن الذين أوغلوا في الروحانيات قد
فتنوا أنفسهم وفتنوا كثيرًا من الناس، واختل ميزان عقلهم فيما يتصورون، وفيما
يصدقون، وفيما يقولون ويكتبون، كما تراه في كتب الشعراني من الخرافات
والخيالات التي لا يميز فيها بين معقول ولا مشروع، وفي مقدمة صحيح مسلم عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم
إلا كان لبعضهم فتنة) .
ومما افتتن به الجماهير من الناس بهؤلاء الروحانيين ظنهم أن كل من يصدر
عنه أمر خارق للعادة يكون وليًّا معصومًا وإن ضل وغوى، وخرف وهذى، وإن
له عند الله ما يشاء في الدنيا، والحق الذي عرفناه بوزن الكشف بميزان الشرع
والعقل أن الذي تعرض له بعض المزايا الروحانية، من عملية أو علمية، هو
كالباحث الذي تكشف له بعض الحقائق الكونية، والاختراعات الصناعية، كل
منهما بَشَرٌ يخطئ ويصيب في كل علم وحال وعمل، وتحكم عليه الشهوات
والخرافات والأهواء في غير ما أصاب فيه، وما تسمعه من الجاهلين بالقرآن من
زعمهم أن قوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: 34) يراد به
هؤلاء الذين تصدر عنهم بعض الغرائب الروحانية من صحيحة أو وهمية، فراجع
هذه الآية وما في معناها من سور النحل والفرقان والزمر والشورى وق تجدها كلها
في أهل الجنة وما لهم فيها من النعيم. وهم المؤمنون المتقون. فاغتنم هذه الحقيقة
العليا، فإنك ربما لا تجدها في كتب، واعتبر بما أذكره بعدها.
وأما ما قاله شيخنا في الروحاني الكبير الشيخ محيي الدين بن عربي فهو
موافق لما نقله لي علي بك شوقي وزير الترك المُفَوَّض في مصر عن والده شوقي
باشا الذي سبق ذكره قريبًا.
زارني هذا الوزير إثر قدومه إلى مصر في هذا العهد لعلمه بما كان بيني
وبين والده وجده لأمه أحمد مختار باشا من الصداقة، فذكرت له أن والده كان
يحدثني بمناجاته للأرواح وحديثه مع السيدة مريم العذراء عن حملها بالسيد عيسى
المسيح عليهما السلام وغير ذلك، وأنه كان يكتب ذلك، فهل وجدتم في تركته ما
كتبه في هذه الشئون؟ قال: نعم.
وأخبرني أن مما قرأه فيه من مناجاة والده لروح الشيخ محي الدين بن عربي
أنه سأله عن منزلته في عالم البرزخ، فقال له: إن منزلته دون مقامه من معرفة
الله تعالى، وإن سبب ذلك أن اختلط عليه الأمر في عالم المثال، فكتب ما ضل به
كثير من الناس، فصاروا خصومًا له عند الله تعالى، وكان من عقابه على ذلك أنه
حبس عن الارتقاء إلى المنزلة التي هي لمن كان له مثل معرفته، وأنه هو توسل
إلى خصومه ليعفوا عنه، فلم يقبلوا، وأنه يرجو أن يعفوا عنه في موقف الحساب
فيعفو الله عنه. اهـ.
هذا ما فهمته من السفير مما قرأه فيما كتبه والده، وسأبدي رأيي فيه وفي
أمثاله عندما أجد فرصة واسعة لكتابة بحث طويل في مسألة الأرواح التي تشغل
العالم المدني في هذا العصر، وأقتصر هنا على كلمة وجيزة اقتضتها الضرورة:
* * *
استحضار أرواح الموتى
وتلبيس الشيطان فيه
لا شك أن قليلاً من الناس يرون بعض الأرواح في حالات مخصوصة
واستعداد خاص، وإن تربية الإرادة بالرياضة عند الصوفية أقوى وسائل هذه
الرؤية، وإن منها ما يستعين عليه الإفرنج بما يسمونه الوسيط من أولي الاستعداد
الفطري، وفائدة الرياضة والعمل الكسبي في ذلك صرف الإرادة عن الأشياء
الكثيرة المفرقة؛ لقوة إدراك النفس وتوجيهها إلى شيء واحد، والراجح عندي أن
أكثر هذه الأرواح التي يرونها هي أرواح الشياطين من قرناء أولئك لا الميتين
أنفسهم، وأن بعض الصوفية الذين كانوا يغيبون عن حسهم وعقلهم في رياضتهم
كانت تستهويهم الشياطين وتوحي إليهم ما يظنون أنه حقائق كوشفوا بها من الله
مباشرة أو من تلقين أرواح شيوخهم المعتقدين، فكل ما خالف الشريعة من كشفهم
فهو من الشيطان، ومنه ما يحكيه الشعراني عن السيد البدوي أنه كان يجمع أرواح
الميتين من البلاد المختلفة ويسوقهم إلى حضور مولده الذي هو مجمع البدع والفسق
والخرافات والضلال، ومنه ما يحكيه الشيخ محيي الدين بن عربي من كشفه الذي
تخيل به أن فرعون موسى كان من أكابر العارفين بالله وأوليائه المقربين عنده،
وإذا كان التيجاني من أصحاب الرياضات والأحوال فكل ما خالف الشريعة من
كلامه - وهو كثير- فهو من وحي الشيطان، وإن لم يكن منهم فهو كذب واختلاق
لكسب الشهرة والمال، وإن أسندوه إلى روح النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولا يهولنك أيها المؤمن العاقل المتبع هذا القول فتستبعده على أناس نقلت
عنهم حكم حسنة معقولة، وأفهام في القرآن مقبولة، وأعمال أو أحوال روحية
خارقة للعادة، فقد قال علماء الكلام: إن خوارق العادات قد تقع للكفار والفجار،
وإنها تختلف باختلاف مَن تقع لهم، وقال بعض كبار الصوفية الراسخين المهديين:
إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء فلا تغتروا به أو لا تقتدوا به حتى تنظروا حاله
عند الأمر والنهي، وإنما العصمة عند أهل السنة للأنبياء في التبليغ عن الله عز
وجل دون أمور الدنيا، وكذا عن معصيته عز وجل.
(فإن قيل) : وهل تتمثل الشياطين بصورة الأنبياء عليهم السلام أو كبار
الأولياء؟
(قلنا) : إن إغواء الشياطين لمن اختل عقله بشدة الجوع والخلوة والسهر
والتخيل كثير، وإن إيهام الشيطان لأحدهم أنه نبي أو ولي يكلمه أو يكشف له
الحقائق مع تمثله له بصورة نورانية أو بغير تمثل واقع، ولا يقتضي أن يكون قد
تمثل بصورة النبي الحقيقية، وقد نقل عن الولي الكبير الشهير المتفق عليه الشيخ
عبد القادر الجيلاني أنه قال: تراءى لي نور عظيم ملأ الأفق وسمعت منه صوتًا
يقول لي: يا عبد القادر أنت عبدي وقد أحللت لك المحرمات (قال) فقلت له:
اخسأ يا لعين، فتحول ذلك النور دخانًا مظلمًا، وقال لي: قد نجوت مني بعلمك
بأمر ربك، وفقهك في أحوال منازلاتك، وقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من
أهل الطريق. فقلت: لله الفضل. فقيل له: كيف علمت أنه شيطان؟ قال: بقوله
قد أحللت لك المحرمات.
ومن ليس لهم من العلم بالشريعة مثل ما للشيخ عبد القادر يضلون بهذه الأنوار
الشيطانية، وهو لولا تلك الكلمة لاعتقد أن ذلك النور من تجلي الرحمن، وللشيطان
مع كبار الصوفية العرافين مناظرات ومجادلات. منها قوله لبعضهم وقد غاب اسمه
عني الآن: ألست أنا شيئًا؟ قال الصوفي: بلى؟ قال: وإن الله تعالى يقول:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) فهي تسعني. قال: فقلت له:
اقرأ ما بعدها يا ملعون يعني: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف: 156)
الآية فقال: التقييد صفتك لا صفته.
وقد نقل عن بعضهم أنهم قالوا: إن التكاليف خاصة بغير الواصلين، وأما
الواصل الذي بلغ مرتبة اليقين فإن التكليف يرتفع عنه ويباح له كل شيء،
ويتأولون لهذا قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر: 99)
وإنما اليقين في الآية الموت، وسيد الموقنين وأكملهم صلى الله عليه وسلم قد التزم
العبادة إلى أن توفاه الله ورفعه إلى الرفيق الأعلى.
ومن أولئك المفتونين بوحي الشياطين من ظن أنه تجاوز درجة الأنبياء،
ومنهم ابن سبعين الذي قال: لقد تَحَجَّرَ ابن آمنة واسعًا بقوله: (لا نبي بعدي)
ومثل هذا الكلام هو الذي جَرَّأَ ميرزا غلام القادياني على ادعاء النبوة.
وقد نقل النصارى ما هو أعظم من ذلك، عمن هو أعظم من أولئك، وهو
النبي المعصوم عندنا الذي أعاذه الله وأمه من الشيطان في اعتقادنا، وقد اتخذوه ربًّا
وإلهًا لهم؛ إذ ذكروا في أناجيلهم أن الشيطان قد جرب السيد المسيح وهو إمام
الروحانيين عليه السلام، فقد حملت به أمه بنفخة من روح الله جبريل عليه السلام،
وكانت آياته كلها روحانية، ففي الفصل الرابع من إنجيلي متى ولوقا أنه صام
أربعين يومًا فجاع فأخذه الشيطان في تلك المدة وجربه عدة تجارب منها أنه أصعده
إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وطلب منها أن
يسجد له؛ ليعطيه ذلك كله فأجابه يسوع: اذهب يا شيطان إنه مكتوب (للرب إلهك
تسجد، وإياه وحده تعبد) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرؤى الصالحة
وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لي في الرؤيا
ورؤية كل منا في صورة الآخر
إن الرؤى الصالحة التي رأيتها والتي رآها الناس لي كثيرة في جميع أطوار
عمري، ومنها ما كان يقع في اليقظة كما رأيته في النوم بعينه، وما كان تأويله
ظاهرًا لا يحتمل المراء، والعباد وأهل الصلاح يهتمون بأمر هذا الرؤى ولا سيما
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والمشهورين من الصالحين، ومنهم الذين يتيهون
بها غرورًا، وأحسن ما قيل فيها الحكمة المأثورة ولا أذكر قائلها: الرؤيا تَسُرُّ ولا
تَغُرُّ، ومن أحسن ما سرني من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم القديمة أن سمعته
يقول لي: (اثبت على ما أنت عليه) وقد رأيته في هذا العام وندمت أن لم أكتب
هذه الرؤيا ولا أمثالها لأرويها بنصها.
وإنني أذكر أحدث ما رآني فيه أو رآه لي بعض الأحياء مع النبي صلى الله
عليه وسلم بنصه، فمنه ما رواه لي ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم عن رجل
حدثه في طرابلس الشام أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا فشكا له سوء
حال أمته وما فشا فيها من البدع والمعاصي وعدم تصدي أحد من العلماء ولا من
غيرهم للإنكار على أهلها وإرشادهم قال: حتى إن السيد محمد رشيد رضا مقصر،
أو كلمة بهذا المعنى.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن محمد رشيد يفعل في كل وقت ما
يرى أنه الواجب) .
وروي لي في السنة الماضية (سنة 1350) عن الفاضل الأديب الأستاذ
عمر الرافعي أحد أنجال علامة العصر وفقيهه وصوفيه الشيخ عبد الغني الرافعي
رحمه الله أنه رآني في الرؤيا بهيئة جميلة نورانية تمثلت له فيها بصورة النبي
صلى الله عليه وسلم قال للسيد عاصم: رأيت أن الناس في بلاد الشام في هرج
ومرج ينتظرون حضور السيد (إياي يعني) ليخطب فيهم خطبة تكون فيصلاً في
موقفهم، ثم حضر السيد فسألته هل كتب الخطبة التي يريد إلقاءها؟ فقال: إنني
أخطب ارتجالاً وليس من عادتي كتابة الخطب، قلت: إن هذه خطبة سيترتب
عليها عمل عظيم فينبغي كتابتها، وألحفت عليه في الرجاء بأن يملي علينا خطبته
لنكتبها فاستجاب لنا، وطفق يملي، وأنا أكتب فإذا تعبت ساعدتني (الخطاب للسيد
عاصم) ولما أتم السيد إملاءه أعجبت بالخطبة جد الإعجاب.
وطفقت أنظر إليه نظر الإجلال والإكبار، والسيد يزداد في نظري جمالاً
ولطافة ونورانية حتى قلت له: أنت السيد رشيد أم النبي صلى الله عليه وسلم اهـ.
ثم نظمها وأرسل إليَّ ما نصه:
(عمر الرافعي يقدم لمعاليكم واجب التبريك بشهر رمضان المبارك، ويرجو
الله أن يديمكم منار حق وهدًى لهذه الأمة، ويلهمكم الدعاء له في خلوة من خلواتكم مع
الله، ثم يقص على سيادتكم رؤياه التي رآها لكم حديثًا وهي كما يأتي:
أعلامة الدنيا لك الله مرشدًا ... بعلمك أهل الحق في الغرب والشرق
تمثلت لي مولاي (رؤيا) كقادم ... علينا خطيبًا جاء يصدع بالحق
وما زلت تصفو في جمالك مشرقًا ... صفاء منار الحق في مفرق الطرق
فأدهشني هذا الجمال الذي أرى ... ولم أره والله في سائر الخلق
فقلت بنفسي ذا رشيد مصدقا ... أم المصطفى؟ والله أعلم بالحق
عن طرابلس الشام ... ... ... ... 25 شعبان سنة 1351
ولقيت في أواخر شهر ذي القعدة من تلك السنة رجلا يريد الحق، ولم أكن
أعرفه بالرؤية ولا بالسماع فأخبرني أنه رآني في رؤيا فقصها على العلامة الشريف
الأستاذ السيد عبد الرحيم عنبر فقال له: إن هذه رؤيا صادقة ويحتمل أن يكون
الذي رأيته هو النبي صلى الله عليه وسلم فإنني أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
في صورة السيد محمد رشيد رضا إلخ. وبعد أشهر زرت الأستاذ السيد عبد الرحيم
عنبر وسألته عن هذه الرؤيا فذكرها وقال لي: إنني كثيرًا ما رأيت النبي صلى الله
عليه وسلم وقد رأيته مرة في صورتك وهي أبهى وأجمل مما أنت عليه ولكنها
صورتك.
وبعد كتابة ما تقدم بشهر، وقبل طبعه قَصَّ عليَّ الأديب محمود أفندي
منصور الإسكندري رؤيا ثم كتبها لي وهي: (رأيت فيما يرى النائم رسول الله
صلى الله عليه وسلم جالسًا في صدر مجلس وأنت بجانبه فتحدثت إلى صديق كان
بجانبي عن جماله صلى الله عليه وسلم قائلا له: انظر يا أخي هذا هو النبي صلى
الله عليه وسلم، ألا ترى أن أصدق من وصف جماله الخلقي تلك المرأة القائلة: إن
جماله لا يطمع الناظر فيه، كما أن جلاله لا يفزع الناظر منه؟ أولا ترى أن
النسب له دخل كبير في الشبه، فهذا السيد رشيد أقرب الناس شبهًا به؟ (ثم قال) :
ولقد أولت هذه الرؤيا بصدق دعوتكم وقيامكم بالعمل بمقتضى كتاب الله وسنة
رسوله، ثم قصصتها على نفر من إخواني فأولوها بتأويلي هذا. اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(33/365)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المكاشفات
مما أثمرته العبادة والمراقبة قبل سلوك الطريق وبعده المكاشفات بقسميها
الصوري والمعنوي أو الظلماني والنوراني كما يقول الصوفية، والمراد بالثاني
المعرفة بالحقائق، وقد سبقت الإشارة إليه في الكلام على الاستعداد النفسي
وتحصيل العلم، وبالأول الشئون الدنيوية، وكانت كثيرة جدًّا بحيث يتعذر كتمانها
كلها، كنت أكتم ما لم يعلمه الناس، وأما ما يقع لي معهم فقد كنت أسمي بعضه
مصادفة وبعضه رأيًا أو خاطرًا، وإن كان في موضوع طويل الأمد كثير الحوادث،
ومنه ما كنت أرجح أنه كذلك وأؤكده فيقبله بعض الناس دون بعض.
من هذا أنني كنت في دار آل الرافعي بطرابلس في أثناء زيارتي للبلاد عقب
إعلان الدستور العثماني سنة 1326 في فصل شتاء سنة 1908 فقلت: الله أعلم
أنه سينزل من السماء ثلج الآن، فنزل الثلج بعد دقائق قليلة ونزول الثلج في بلادنا
الساحلية نادر، وإنما يكثر نزول البرد. فقال ريس صيد بحري من القلمون كان
حاضرًا: من أين علمت؟ قلت: إنه ليس بعلم وإنما هو شعور من برد الهواء أو
لذعه؟ قال: أيش شُغْلنا نحن؟ يعني أن الملاحين أعلم منا بأحوال الجو والطقس.
ثم انقطع الثلج مدة وأراد هذا الرجل وغيره الانصراف فقلت غير مالك للساني: الله
أعلم أن الثلج سيعود، فلم يلبث أن عاد، فقال الريس: وهذه؟ قلت: كتلك، فلمعت
الدموع في عينيه.
والحق أن مثل هذا ليس له قيمة المكاشفات التي سببها توجه الإرادة، ولكن
الرجل كان من المتشبعين بحسن الاعتقاد من قبل هجرتي إلى مصر ويحفظ عني
أمورًا غريبة عنده، منها أنه استشارني في تربية ابنه وتعليمه فذكرت له ما سيكون
من أمره في مستقبله بتفصيلٍ حفظه فوقع كله، وهذا ليس بغريب أن يقع بصحة
الرأي، ولو لم يكن سامعه يعتقد صلاح قائله وولايته لما كان يعده كرامة له، وقد
كان الشيخ يوسف النبهاني يبحث عن أمثال هذه الأخبار عمن اشتهروا بالصلاح
ليدونها فيما يجمع من كرامات أهل عصره، ويَعُدُّنِي أنا والأستاذ الإمام والسيد
الأفغاني من أعداء الصالحين؛ لأننا أعداء الخرافات التي هي برهان الولاية في
رأيه الأفين، ولا يزال يقع لي مثله كثيرًا في الدار فتقول أم الأولاد: إنك تكاشف
علينا، فأبتسم.
وأذكر عن ولد هذا الريس (رحمه الله) وهو حي يرزق أنه دخل عليَّ مرة
في غرفتي فوقع في قلبي أنه كان يغازل امرأة فذكرت له الأثر المروي عن الخليفة
الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه، وهو أنه دخل عليه رجل فقال له:
أيدخل أحدكم عليَّ وأثر الزنا ظاهر على عينيه؟ فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا ولكنها فراسة المؤمن) . اهـ ذكرته له بلهجة
الإنكار، ففهم واعترف خجلاً.
وجاءني السيد علي عبد القادر يريد أن يسأل عن شيء، فقلت له قبل السؤال:
إنك تريد أن تعلم ما ورد فيما يُقْرَأُ بعد الفاتحة في راتبة الفجر، وورد أنه كان
صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الكافرون والإخلاص، وورد بسورة الانشراح
والفيل (ولا يصح) وورد في الركعة الأولى آية {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) من سورة البقرة وآية {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) من آل
عمران، فقال: من أين علمت؟ وقد يكون لمثل هذا أو بعضه ما يشعر به عند
الذي يحاسب نفسه دقيقًا على طريقة الغزالي، وإن منه لوقائع لا يمكن أن تخطر
بالبال، ومنه ما هو نتيجة التوجه المعروف عند الصوفية، وهاك حادثة منه:
كنت أترك غرفتي في أعلى المسجد مفتوحة وأنام في الدار لعلمي بأنه لا يعقل
أن يسرق لي أحد من أهل القلمون شيئًا، وكان في الغرفة صندوق صغير أضع فيه
بعض الأوراق وما عندي من السبح وهي كثيرة كانت تُهْدَى إليَّ، وأحيانًا أضع فيه
الدراهم، ومع هذا أترك مفتاحه فيه لئلا أحمله فيسقط مني وأحتاج إلى كسر
الصندوق. وقد رأيت الصندوق في صبيحة بعض الأيام مبعثر الورق والكيس الذي
فيه السبح مسروقًا فطلبت من ساعتي أن تشد لي الفرس فشدت فركبتها وذهبت إلى
طرابلس ولم أنزل حيث كنت أربطها عادة عند مدخل المدينة بل قطعت الأسواق
راكبًا إلى أن وصلت إلى دكان عند الجسر الشمالي، فنزلت أمامه وقلت لصاحبه:
أين السبح التي اشتريتها اليوم؟ فأخرج لي الكيس، فأخذته ودفعت له ما اشتراها
به وهو قليل، وكان السارق خادمًا لصديقنا الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني
الشهير وكان مصطافًا في القلمون كعادته، والخادم وهو من قرية المينا لا من
القلمون ولا من طرابلس، وقد علم بأنني عثرت على سرقته فلم يعد إلى خدمة
سيده، ثم إنني عدت إلى عادتي في ترك مفتاح الصندوق فيه ومفتاح الغرفة في
بابها ثقة مني بأهل بلدي.
* * *
الانتقام في الدنيا
من كل من آذانا
تذكرت بهذه الحادثة أنه كان مشهورًا عند أهل بلدنا فوق احترامهم لشخصي
أنه لا يعتدي أحد علينا إلا وينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة، حدَّثَ بعضهم عن
نفسه أنه ذهب يحتطب مرة من شجر الزيتون فانتهى إلى كرم لعم والدي الذي سبق
ذكره في هذه الترجمة فصعد شجرة زيتون ليقطع منها (قال) : وقلت في نفسي:
يقول الناس: هؤلاء أولاد جد (أي جدهم وليٌّ) لا يعتدي أحد عليهم إلا أصيب (أنا
رايح شوف أيش يصير لي) ولم أكد أشرع بقطع فرع من الزيتونة إلا وسقطتُ
منها على الأرض سقطة مؤلمة فتبتُ.
وهذه مسألة مما يعدها الكثيرون من كرامات المعتقدين، فإن كان ما يذكرون
في بلدنا من انتقام الله من كل من آذانا من الحكام وغيرهم حقًّا، فأنا ما أظن أنه
استقراء تام، على أنني لم أعلم أن أحدًا آذانا ولم يلق جزاءه في الدنيا، وقد آذانا
رجل من أهلنا إيذاء ماليًّا كان جُلُّه خاصًّا بي، ثم كان عاقبته أن اضطر إلى السفر
إلى مصر لطلب الرزق، وأن صار يطلب مني الإحسان إليه المرة بعد المرة فأفعل،
ولا أزال أعنى بولده وأهله بعد موته، ولله الحمد.
وكان آخرُ المعتدين عليَّ بالطعن وقول الزور رجلاً معدودًا من كبار العلماء
المشهورين في مصر، فسلط الله عليه من العلماء والكتاب من شهره أنواعًا من
التشهير في علمه وأخلاقه وأمانته المالية والعلمية … ومع هذا أصرح بأنني لا
أغتر فأقول: إن لي خصوصية عند الله تعالى وإنه انتقام لي خاص، وإنما هو جارٍ
بأسبابه الظاهرة، وقد يدخل في معنى ما ذكرته في تفسير قوله تعالى في البغاة: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (يونس: 23) الآية، ولكن جمهور الناس
يعدون مثله من كرامات الأحياء والميتين، ويذكر الشعراني وأمثاله من ناشري
الخرافات في كرامات السيد البدوي وغيره وقوع البلاء والمصائب على المعترضين
عليهم أو على موالدهم بحق، فذكرته عبرة لهؤلاء ولغيرهم.
* * *
استجابة الدعاء
أحمد الله تعالى ولا أحصي ثناء عليه أنه استجاب دعائي له بالإيمان
والإخلاص والتوجه الصادق في أمور كثيرة جدًّا لا أحصيها، منها ما ظهر لي
بالتدقيق في السنن والنواميس التي ترتبط بها الأسباب بالمسببات، أنه من توفيق
الأقدار للأقدار، وعلم ما لم أكن أعلم، وتسخير ما لا يصل إليه كسبي من الأشياء
والأشخاص، ومنها ما لم تظهر لي فيه الأسباب، حتى صح أن يُعَدَّ من خوارق
العادات.
ثم أحمده عَوْدًا على بدء، ودوامًا أسأله الثبات عليه إلى آخر العمر، أن ظهر
لي فيما لم يستجبه لي بعينه أن استجابه بالمعنى المقصود منه، وفيما لم يستجبه
بعينه ولا بالمعنى المقصود منه أن كان الخير لي في عدم استجابته كله، وأذكر منه
دعائي وتضرعي إليه عز وجل أن يسخر لي رجال الدولة العثمانية فيما طلبته منهم
ومكثت عندهم سنة كاملة أسعى له عندهم، وهو إنشاء جمعية ومدرسة للدعوة
والإرشاد، أو للعلم والإرشاد في عهد ظهور العصبية الطورانية ونجوم قرون
الإلحاد، فقد تم إنشاء الجمعية رسميًّا وتم صدور الأمر من مجلس الوزراء
بتخصيص المال اللازم للمدرسة، ولكن لم يتم تأسيسها بالفعل المقتضي لإقامتي في
الآستانة، وكان الخير لي أن عدت إلى مصر فأسست الجمعية والمدرسة فيها، ثم
ظهر لي أن عدم السكنى في الآستانة كان خيرًا لي بما كان في أثناء الحرب الكبرى
من بغي الترك على العرب وتقتيل زعمائهم وطلاب ارتقائهم، وقد كنت في مقدمتهم،
وحكم عليَّ بالقتل (الإعدام) مرتين أو أكثر، نعم إن الأجل محتوم، والعمر
محدود معدود، ولكنه مرتبط بالأسباب في نظام القدر المعلوم، على أن المقام في
تلك البلاد في زمن تلك الحرب كان محفوفًا بالقهر والفقر والخوف والذل، ولا سيما
مثلي من العرب، ودعاة الدين ورجال السياسة، وأين منه المقام في مصر التي
كانت جديرة بأن يحسدها الملوك والأمراء في كل قطر، أمان واطمئنان، وسعة في
الرزق وجميع مرافق الحياة؟ وأما حالها بعد الحرب، فهو شر عليَّ مما كان في
زمن الحرب.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/367)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شفاء المرضى بالرقية ونحوها
أذكر من أمثلة انتفاع المرضى التي لا تُحْصَى حادثة مشهورة في القلمون،
وهي أن عمر قدور كسن الصياد رمى شبكته ليلاً في البحر فسمع حيث وقعت
صوتًا رُعِبَ منه، فعاد إلى بيته مصروعًا واشتد عليه الصرع، فكان لا يعي،
وييبس جسده كأنه لوح من الخشب، ويرى نفرًا من الجن يجتمعون حوله قد ضربه
واحد منهم ضربة صرخ منها صرخة مزعجة فطلبوني لأراه وأرقيه، فقلت: بل
أدعو له، فعادوا إليه فألح في الطلب، وكان من أغرب ما قاله أنْ أخبرَ بالحال
الذي كنت عليها في خلوتي ليلاً، قال: إنه جالس متكئ ورأسه على عصا قصيرة
شبه الباكورة (يعني المحجن) وأنه قال للذي ضربني: ضربة بضربة فاتركوه.
ثم عادوا إليَّ وألحوا في طلب الذهاب معهم فذهبت فوجدته مستلقيًا جامدًا لا يعي،
فوضعت يدي على رأسه وتلوت قوله تعالى بعد البسملة: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ العَلِيمُ} (البقرة: 137) فأفاق في الحال، وقام كأنما نشط من عقال.
وقيل لي مرة: إن محمد زيدان مصاب بصداع شديد يصرخ من شدته بأعلى
صوته فكتبت له ورقة وضعوها على رأسه فشعر بأن رأسه انشق وخرج منه الوجع
في الحال، ثم كانوا يعيرون ذلك الحجاب لكل مصاب ويذكرون أنه يُشْفَى إلى أن
خطر في بالهم أن يفتحوه ليروا ما كتب فيه، فرأوا فيه حرفًا واحدًا من حروف
المعجم كتب بعدد مخصوص، فاحتقروا ذلك فلم يعد ينفعهم كما قيل لي بعد ذلك
بسنين، وكنت أكتب نشرة للحمى فتشفي بإذن الله تعالى.
ومن هذا النوع مسألة رقية غريبة فعلتها من تلقاء نفسي، وهي أنني كنت
جائيًا من طرابلس إلى القلمون فوجدت بالقرب منها رجلاً من معارفنا من نصارى
أنفة (من لبنان) وهو إسكندر الخوري الذي أظن أنه لا يزال حيًّا، أو أخوه
مالك الخوري وهو عاصب رأسه من صداع شديد فيه، فسألته فأخبرني فقلت له:
ادن مني فدنا فقلت له: إن الإنجيل يروي عن سيدنا المسيح عليه السلام أنه قال:
وهذه الآيات تتبع المؤمنين يضعون أيديهم على المرضى فيبرءون، ووضعت يدي
على رأسه ورسمت عليه كلمة كنت مُجازًا بها فذهب الوجع في الحال، فتعجب
وصار يهز رأسه لأجل أن يحرك الوجع ليعود فلم يعد، وكم فعل هذا غيره
استغرابًا من سرعة البرء.
ومن التأثير في غير الآدميين أن الوالدة رحمها الله استكتبتني حجابًا طلبه منها
بعض نساء الأعراب لوضعه على غنمهم؛ لأن الموت فشا فيها، وبعد سنة أو أكثر
جاءني بدوي من مشايخ قبيلة أخرى فشكا إليَّ وقوع الموت في غنمه وطلب مني
حجابًا ليضعه على رأس أكبر كبش فيها لمنع الموت، فقلت له: إن الحجاب لا
يمنع وقوع الموت في الغنم، ولا بد أن تكون غنمكم قد أكلت زهر الدفلى وورقها
أو نباتًا آخر ضارًّا، فاسأل عن طبيب بيطري وأخبره بما تعلم من حال الغنم
يرشدك إلى ما ينفع فيها، قال: بل الحجاب هو الذي ينفع. قلت: أنا أعتقد أنه لا
ينفع، قال: وكيف نفع غنم بني عليوه؟ ؟ وأنا لم أكن أذكر مسألة هؤلاء ولكن
الوالدة ذكرتني بها، فاعتقدت أن ذلك من قبيل المصادفات التي كبرتها الأوهام، ثم
تركت هذه الحجب والنشرات للمرضى والمعقودين عن النساء وكذا الرقى إلا نادرًا
لحديث في صحيح مسلم (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) واجتنبت فتح هذا
الباب عليَّ بعد هجرتي لمصر؛ لأن الفتنة فيها بهذه الأمور أكبر إلا لأهل الدار
قليلاً.
ولما كنت مسافرًا من البصرة إلى بغداد في إحدى بواخر الدجلة سنة 1330
انتقلت من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثالثة في مقدمة الباخرة لأرى حركتها، وكان
هنالك كثير من الفقراء فوجدت بينهم فتاة مريضة مضطجعة فقيل لي: إنها يتيمة
فقيرة، وقد اشتدت عليها الحمى فرثيت لها ورقيتها فقامت في الحال، كأنما نشطت
من عقال، وشكت الجوع فأمرت أحد الخدم بأن يأتيها بصحن حساء من مطبخ
الباخرة، ويقيد ثمنه في حسابي ففعل، فأكلتْ، واشتد عجب الفقراء الذين كانوا
معها من نساء ورجال.
ولكن هذه الحمى (وهي الملاريا) كانت أصابتني في البصرة ككل من كان
يدخلها، ثم عادت إليَّ في الباخرة ولم أرق نفسي ولم يرقني أحد، ورقية الإنسان
لنفسه مشروعة، وأما استرقاؤه فينافي كمال التوكل، وقد حققت الموضوع في
المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/371)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تكفير أزهري للمؤمنين بظواهر القرآن
وطعنه في دين الدعاة إلى الاهتداء بالكتاب والسنة
من الأئمة كابن حزم وابن تيمية والشوكاني والأستاذ الإمام
قد علم الخواص والعوام ما يبثه بعض محرري مجلة الأزهر المسماة باطلاً
بنور الإسلام، من الصد عن الاهتداء بالكتاب والسنة والطعن في المهتدين بهما من
المتقدمين والمتأخرين، ومن تأييد البدع والدعوة إليها والدفاع عن متبعيها المتقدمين
والمتأخرين كالمفتونين بعبادة القبور، من دعاء للموتى واستغاثة بهم فيما لا يقدر
عليه إلا الله، وطواف بقبورهم ونذور لها، ولم يكتف هذا المحرر بالنشر في هذه
المجلة حتى بدأ يبث ذلك في جريدة جديدة اسمها الإسلام؛ لأنه بلغه أنها يقرؤها
كثير من العوام، الذين لا يزالون يقبلون كل ما ينسب إلى علماء الأزهر، ثم في
جريدة المقطم السياسية لعلمه بأنها منتشرة في غير مصر من البلاد العربية، فهو
يريد تعميم ضلالته.
وآخر ما نشره في هذا الشهر (جمادى الأول - سبتمبر) مقالة في جريدة
الإسلام صرَّح فيها بكفر من يؤمن بظاهر آيات الصفات من القرآن، ومقالة في
المقطم لا غرض له منها إلا الطعن على صاحب المنار، والأستاذ الإمام، بعد أن
طعن في الشهرين اللذين قبله في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي
الشوكاني؛ لدعوتهم الأمة إلى اتباع القرآن والسنة دون من يخالفهما كائنًا من كان.
أما جريدة الإسلام فقد أرسلت إليها مقالة في تفنيد ما نشرته له في هذه المسألة
فلم تنشرها خلافًا لما يجب عليها من تحذير قرائها العوام من الاغترار بقول هذا
الحامل للقب الأزهري: إن الإيمان بظاهر القرآن كفر، ونخشى أن يكون رئيس
تحرير هذه الجريدة يعتقد ذلك؛ إذ لم يتعقبه ولم ينشر الرد عليه بل طالب مرسله
بأن يبين له اسمه ليرى رأيه فيه! ! والمسألة مسألة عقيدة دينية لا شأن للأشخاص
فيها، ولكن نشرته جريدة السياسة الغراء، وهذا لا يسقط الإثم عن جريدة الإسلام
فيجب عليها أن تبين لقرائها ما يوجبه عليهم دينهم من الإيمان بظاهر القرآن، أو
بتحريف الدجوي أو تأويله نشرته له، وإن كان هذا هو الواجب عندها فكيف
السبيل إلى تلقينه لكل قارئ للقرآن الكريم، ومقتن للمصحف الشريف؟
وأما جريدة المقطم فإن ما نشره فيها من الطعن في الأستاذ الإمام وإسناده إلى
صاحب المنار فهو كذب وتحريف بجهل وسوء نية نبينه ليقيس عليه قارئها غيره
مما ينشره هذا الشيخ، ويعلم أن سبب إعراضنا من قبل ومن بعد عن الرد عليه هو
ما صرَّحنا به في المنار من عدم ثقتنا بنقله ولا بعلمه ولا بفهمه ولا بحسن نيته.
قال في مقالة المقطم الذي صدر في تاريخ 16 جمادى الأولى 6 سبتمبر ما
نصه:
(ومن الغريب أن صاحب المنار يقول: إن مشيخة الأزهر تمنع الاهتداء
بكتاب الله وسنة رسوله) إلى أن قال: (وإني لأعجب له كيف يقول: إن الأستاذ
الإمام كان ينقم على الشيخ أحمد الرفاعي وأمثاله عدم الأخذ من القرآن والسنة،
فهل يريد أن يقول: إن الأستاذ الشيخ محمد عبده كان مجتهدًا يأخذ من الكتاب
والسنة، وهو الذي يرميه في الجزء الأول من المنار سنة 1350 صحيفة (21)
بالجهل بالسنة، وأنه كان يجمع الصلوات؟ ومعنى ذلك عند كثير ممن يقرأ عبارته
هذه أن الشيخ عبده كان لا يصلي، فهل يتفق هذا والاجتهاد في الدين؟ وهل يرى
صاحب المنار أن الجهل بالسنة لا ينافي الاجتهاد؟ ا. هـ بحروفه.
هذا نص ما نشر في المقطم بإمضاء (يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء
بالأزهر الشريف) وإننا نبين ما في هذا القول من الكذب والتحريف والجهل
بأصول الدين وفروعه؛ ليعتبر به مَن يظنون أن جميع أعضاء هيئة كبار العلماء
بالأزهر ثقات يصدقون فيما ينقلون، وأمناء على العلم والدين فيما يثبتون وينفون.
وإنني قبل أن أنقل لهم نص عبارة تلك الصفحة بحروفها أبين لهم أنها جاءت
في مقدمة الجزء الأول من (تاريخ الأستاذ الإمام) في سياق الاستدلال على أنني
سلكت في هذا التاريخ مسلك المؤرخ العادل فيما للأستاذ رحمه الله تعالى وما عليه،
لا مسلك دعاة الأحزاب السياسية والاجتماعية والدينية الذين يقتصرون في الكلام
عن زعمائهم وأئمتهم على بيان ما لهم دون ما عليهم، فالعبارة مجملة في المقدمة
مبينة بالتفصيل في موضعها من التاريخ، وهذا نص عبارة المقدمة:
فإذا رأى القارئ أنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي
كان بها جديرًا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام، أثبت أنه كان
مقصرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من
علماء الأزهر.
هذا نص العبارة بحروفها، وهاك بيان ما فيها من افتراء الكذب والجهل.
الشواهد على افتراء هذا الطاعن الكذب:
(الفرية الأولى) زعم هذا المفتري أنني رميت الأستاذ الإمام بالجهل بالسنة
بالإطلاق الذي يدل على أنه غير عالم ولا مطلع على كتب الحديث كالصحيحين
وموطأ مالك والسنن الأربعة وشروحها وكتب الجرح والتعديل أيضًا.
ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن رواية الحديث وحفظه قد فقدا من الأزهر
منذ قرون كما بينته في كتابي (المنار والأزهر) وكذلك العناية بالجرح والتعديل،
وهذا لا يقتضي الجهل المطلق بالسنة نفسها في هذه القرون، فإن العلم بها من كتبها
المدونة التي شرحها الحفاظ والفقهاء كافٍ فيما اشترطه علماء الأصول للاجتهاد كما
سيأتي، وهو الذي كان له بقية في عهد تلقي الشيخ محمد عبده للعلم في أواخر
القرن الهجري الماضي، وزالت في هذا القرن باعتقاد مثل الرفاعي وتلاميذه
ومتبعيه كالدجوي والظواهري أنه لم يبق للعلماء بها حاجة في معرفة الإسلام
والعمل به؛ لأن العمدة في عقائده عندهم كتب المتكلمين، وفي أحكامه كتب
المتفقهين المقلدين، وأما حكمه وآدابه وسياسته وحججه على المخالفين فمما لا يخطر
ببالهم أنها من هدايته، وأنها تطلب من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وقد أقمنا
عليهم الحجة بالمنار وبتفسير المنار، وبكتاب (الوحي المحمدي) المقتبس من
نوره، والذي شهد من اطلع عليه من علماء العصر وعقلائه بأن لم يسبق له نظير
في إثبات النبوة المحمدية، وحجة الإسلام على أهل العلوم المادية، والحضارة
العصرية.
وجملة القول أن قولي: إنه مقصر في الرواية والحفظ والجرح والتعديل
كغيره لا يقتضي عدم علمهم بهذه الثلاثة مطلقًا، وأن عدم العلم لا يدل على جهلهم
بالسنة نفسها، فكيف أباحت له ديانته التعبير بذلك ونقله عني؟
(الفِرْيَتَان الثانية والثالثة) نقله عني أنني قلت: (إنه كان يجمع الصلوات)
هكذا بالجمع والإطلاق وهو كذب مفترًى، وهذا نص عبارتي بحروفها:
(وإنني على إعجابي بقوة تدينه، وحسن تعبده، ومحافظته على تهجده،
صرحت بأنه كان يجمع بين الصلاتين في الحضر أحيانًا ترخصًا اجتهاديًّا خالف فيه
المذاهب الأربعة، ولكنه وافق حديثًا صحيحًا أخذ به غيرهم من الأئمة) .
فزَعْمه أنني قلت: إنه كان (يجمع الصلوات) بهذا الإطلاق يتضمن فريتين
(أولاهما) دلالة اللفظ على أنه كان يجمع الخمس كلها، وأنا لم أقلها، وإنما قلت:
(بين الصلاتين) والعامي يعلم الفرق بين الصلاتين والصلوات كلها، وكل متفقه
في دينه يعلم أن الجمع بين الصلاتين كالظهر مع العصر والمغرب مع العشاء
مشروع دون جمع الصلوات كلها. (الثانية) دلالة الإطلاق على أنه كان يفعل ذلك
دائمًا، وأنا لم أطلقه في الصلاتين كما أطلقه هو في الجمع، بل قلت: إن الأستاذ
قد يفعله أحيانًا أخذًا بحديث صحيح في الجمع بينهما أعني في الحضر.
وأقول هنا: إن هذا الحديث الذي أشرت إليه قد رواه الإمام مالك في الموطأ
والإمام الشافعي في سننه، ومسلم في صحيحه، وأصحاب السنن عن ابن عباس
رضي الله عنهما حاصله أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر
والعصر جميعًا ثمانيًا والمغرب والعشاء جميعًا سبعًا من غير خوف ولا سفر ولا
مطر (لئلا يحرج أمته) .
(الفرية الرابعة) قوله: إن معنى عبارتي عند كثير ممن يقرؤها (أن
الشيخ عبده كان لا يصلي) بهذا الإطلاق، وقد رأيتم أن عبارتي صريحة في
الإعجاب بقوة تدينه، وحسن تعبده، ومحافظته على تهجده، فهل يكون المتصف
بهذه الصفات - ومنها المحافظة على التهجد بالصلوات في جنح الظلام - تاركًا
للصلوات الخمس المفروضة على الإطلاق؟ كلا إن المفتري نفسه -على سوء فهمه
وسوء نيته- لا يفهم هذا من العبارة، ويعلم أنه لا يوجد عاميٌّ يفهمه منها فضلاً عن
خاصيٍّ، ولهذا حرَّفها بما تقدم فكيف أباح علمه ودينه وأمانته ذلك؟
(الفرية الخامسة) زعمه أنني قلت: (إن الأستاذ الإمام كان ينقم على
الشيخ أحمد الرفاعي عدم الأخذ من الكتاب والسنة) وأنا لم أقل هذا، وإنما نشرت
في السنة الأولى من المنار الذي صدر في شعبان 1316 (محاورة في إصلاح
التعليم في الأزهر أنكر فيها الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي قوله عن علم
الحديث: لا حاجة إليه في هذه العصور ألبتة، وقوله في تعليله إنه: (لا يجوز
لمسلم أن يأخذ بالحديث بل الواجب الأخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء
مذهبه للأخذ بحديث مخالف له فهو زنديق) .
قلت: (فتعجب الأستاذ وقال: أنا أرى أن الذي يترك كلام صاحب الشريعة
المعصوم الذي يعتقد صحته وأنه قاله، ويأخذ بكلام فقيه يجوز عليه ترك الحق
عمدًا وخطأ هو الزنديق) .
(فقال الشيخ صاحب الكلمة (أي الرفاعي) يجوز أن يكون الحديث الذي
يأخذ به ضعيفًا أو موضوعًا) فأجابه الأستاذ (إن كلامنا في حديث يُعْتَقَدُ أن النبي
صلى الله عليه وسلم قاله ولا أقدر أن أفهم معنى إسلام رجل ينبذ ما يعتقد أن النبي
صلى الله عليه وسلم قاله لقول أيِّ إنسان من الأناسي) .
فعلم من هذا أنني لم أقل: إن الأستاذ الإمام نقم من الشيخ أحمد الرفاعي عدم
الأخذ من الكتاب والسنة أي الذي هو شأن المجتهد، فالأستاذ الإمام كان يعلم أن
الرفاعي هذا لم يكن مجتهدًا ولا ممن يبيح الاجتهاد، وسأذكر الفرق بين ما قلته وما
افتراه هذا المدعي للعلم عليَّ، ولو كان رواة الكتاب والسنة كلهم مثله لضاع الإسلام
كله، ولم يثق أحد منه بشيء، ولكان المسلمون في دينهم كالذين من قبلهم في
تحريف بعض كتبهم وإضاعة بعض.
هذه خمس شواهد على افتراء هذا العضو من هيئة كبار العلماء وتحريفه
للكلم، وتجرده من الأمانة في العلم، والصدق في النقل، ومن فقد الأمانة والصدق،
فأي شيء يبقى عنده من فضيلة العلم؟ إلا أن فقدهما ثبوت لثلثي النفاق [*]
والثلث الثالث من العلم الفهم، وهاؤم اقرءوا الشواهد من عبارته المتقدمة على مبلغ
حظه منه.
الشواهد على عدم الفهم أو العلم
(الشاهد الأول) فهم عضو هيئة كبار العلماء المذكور أن ما قلته في إنكار
الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي يدل على أنني أقول: إنه مجتهد يأخذ من
الكتاب والسنة، والعبارة لا تدل على ذلك بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام،
فإن موضوعها أن يعرف مسلم حديثًا صحيحًا ويعتقد أنه صحيح كأن يطلع في كتب
الحديث الصحاح عليه، أو يرى في الكتب المعتمدة أنه رواه الشيخان في صحيحهما
أو أصحاب السنن وصححوه، ثم يقول له أحد المنتمين إلى فقه المذهب بوجوب
مخالفته له وأنه إنما يجب عليه العمل بالمذهب دون الحديث، فهل مقتضى دين
الإسلام أن يطيع المسلم هذا الفقيه أو اللابس لباس العلماء الفقهاء. وإن كان يعتقد
أنه بطاعته يكون عاصيًا لرسول الله؟ أو أن يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما أمره الله، وكما بلغ عباده قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) وقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً
خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: 14) .
قال الشيخ أحمد الرفاعي عفا الله عنه , ويقول الشيخ الدجوي تاب الله عليه:
إنه يجب عليه أن يتبع العالم المنتمي للمذهب، ويحرم عليه أن يتبع الرسول صلى
الله عليه وسلم لأن اتباع الرسول اجتهاد خاص بالمجتهدين، بل قال الأول: إن
الذي يقول: أتبع الرسول في مثل هذا الحديث دون المذهب فهو زنديق، ونحن
نقول: إن هذا ليس من دعوى الاجتهاد المطلق في شيء، كما يعلم من تفسير
علماء الأصول للاجتهاد وهو استفراغ الفقيه الجهد لتحصيل الظن بحكم شرعي،
ومن اتفاقهم على أن ما فيه نص يمتنع الاجتهاد فيه.
مثال ذلك أن يرى المسلم المتعلم في صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن
أو يسمع من قارئها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد (يحذر ما صنعوا) ولعن المتخذين عليها السراج، وهذا الأخير في السنن
الأربع وغيرها، فيعتقد أنه يحرم عليه ما ذكر، ومنه نذر الشمع وإيقاده على قبر
من قبور أهل البيت أو غيرهم من المشايخ المعتقدين وهي كثيرة، ثم يفتيه الشيخ
الدجوي أو الشيخ الظواهري مثلاً بأنه مشروع ويثاب عليه بناء على أنهما من
علماء المذهب ونقلته، فهل الواجب عليه أن يعمل بما فهمه من الحديث أم بقول
الشيخ الأكبر شيخ الأزهر والشيخ الدجوي مفتي مجلة نور الإسلام؟ بل نقول: هل
يكون زنديقًا إذا عمل بالحديث وامتنع من نذر الشمع أو تقديمه لأجل أن يوقد على
القبور، وإن خالف مفتيه منهم ما يعتقده هو من حديث الرسول الصحيح الصريح
في لعن فاعله، وإن كان أيضًا لا يأمن أن يكون جاهلاً بالنص النبوي وبمذهب
الإمام معًا، ولا أن يكذب في الفتوى، وأن يتبع فيها المنفعة والهوى، كما يعلم من
كثير منهم، فهم يفعلون البدع والخرافات التي لم يقل بها إمام مجتهد قط، ويدعون
فيما يبغون من اتباع الناس لهم حمل الناس على اتباع الأئمة الذين هم أعلم بالسنة؟
إن غرور بعض علماء السوء بنسبتهم إلى الأزهر، ومجازفتهم بإطلاق لقب
الكفر والزندقة على من لا يقلدهم في دينه على جهلهم وعدم أمانتهم، ويخالف في
ذلك ما يعلم من كلام الله ورسوله النبي الواضح - لهو مصاب في الإسلام كبير، إن
كلمة الزنديق التي أطلقها الشيح أحمد الرفاعي على من يخالف فقيه مذهبه ويتبع
الرسول صلى الله عليه وسلم دونه معناها من لا دين له، ويقول بعض الفقهاء: إن
الزنديق كافر لا تقبل توبته فلا بد من قتله، ولو كانت حكومة عصرنا تأخذ بأقوالهم
لفعلوا بنا شرًّا مما فعلته الكنيسة في عهد محاكم التفتيش المشهورة في قرونها
الوسطى من قتل الناس وتعذيبهم حتى بالنار لمخالفتهم لفهم رؤسائها. ولكن الله عز
وجل يقول في رسوله صلى الله عليه وسلم في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) .
بل الأمر في صد المسلمين عن دين الله بدعوى حماية المذاهب أعظم من
ذلك، وهو حمل الناس على تقليدهم في مسائل الاعتقاد والإيمان بما يخالف ظاهر
القرآن، كما فعل هذا الطاعن في الأستاذ الإمام في المقال الذي نشره في جريدة
الإسلام فقد صرح فيه بكفر من يؤمن بظاهر القرآن في صفات الله عز وجل، فهو
قد بدأ يجعل جريدة الإسلام كمجلة نور الإسلام، صادة عن اتباع القرآن، واتباع
خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام في كل من العقائد والعبادات والأعمال،
بتأويلات مبتدعة اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان، وهو ليس بأهل للاجتهاد
فيما دون هذا من فروع الأحكام، ولا فيما يعيش به من شراب وطعام، وهم
يقررون أن المقلد في عقيدته مختلف في صحة إيمانه، وإننا نذكر هنا عبارته مع
الإشارة إلى بطلانها بالإيجاز استطرادًا.
قال في أول الصفحة 13 من السنة الثانية من جريدة الإسلام:
(يتمسك كثير من الناس بظواهر الآيات وهو غلط فاحش يؤدي إلى الكفر،
وقد قال لي قائل: يجب اعتقاد أن الله في السماء فإنه يقول: {أَأَمِنتُم مَّن فِي
السَّمَاءِ} (الملك: 16) إلخ فمن لم يعتقد ذلك فهو كافر، فقلت له: إن من يعتقد
ذلك على ظاهره فهو الكافر) .
هذا نص عبارته بحروفها، لم ننقلها كما ينقل أقوالنا بحسب ما يزعم من
معانيها مع تحريفها، وإننا لم يبلغنا أن أحدًا من مبتدعة هذه الأمة ولا من أهل
الكتاب تجرأ على مثل هذا القول في كتاب ربه، فزعم أن المؤمن به على ظاهره
هو الكافر به، أي دون من يحرفه أو يتأوله برأيه أو تقليده ولو لبعض أدعياء العلم.
نعم إنه علَّل زعمه أن المؤمن بظاهر القرآن هو الكافر بقوله: (فإنه جعل لله
ظرفًا يحيط به، ومكانًا يستقر فيه، ومن اعتقد ذلك فيه، فقد شبهه بخلقه، ومن
شبَّهَه بخلقه فهو كافر) وهذا الاستدلال باطل من وجوه أكتفي منها في هذا
الاستطراد من ناحية اللغة بأن لفظ السماء في أصل اللغة: ما علاك، ولا يلزم أن
يكون ظرفًا ولا مكانًا، بل المعلوم من جملة الآيات أن المراد بالسماء في هذا المقام
إما العلو المطلق، وإما العرض الذي هو أعلاها، واستواؤه تعالى على عرشه
يقتضي أنه فوقه بالمعنى اللائق به، وأنه فوق جميع خلقه بائن منهم حيث لا مكان
ولا زمان {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (البروج: 20) .
وأكتفي من جهة العقيدة بأن الإيمان بظاهر القرآن واجب بالإجماع فإن أو هم
تشبيهًا جزمنا بأن التشبيه غير ما ورد بدليل العقل والنقل، وفوَّضْنَا الأمر في كيفية
ذلك وتأويله أي ما يؤول إليه إلى الله عز وجل، لقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) وهو ما كان عليه سلف الأمة
من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه المجتهدين، وكل مسلم يعتقد أن ربه
وخالقه مُنَزَّه عن مشابهة عبيده المخلوقين، ولا يحتاج إلى تأويل كلامه برأيه
كالملاحدة أو المبتدعين، ولازم المذهب ليس بمذهب، على أن اللزوم هنا ممنوع،
وناهيك بمنعه في باب التكفير.
وإذا كان من يؤمن بحقيقة الآية ويتأول ظاهرها المشكل عنده بما يعطيه
أسلوب اللغة لا يكون كافرًا، ولكنه إذا خالف فيه المأثور عن السلف يكون مخطئًا
أو مبتدعًا، وإذا أطلق العنان لكل متأول تتفرق الأمة شيعًا، فكيف يحكم بكفر
المؤمن بالظاهر المأمور به في ضمن الإيمان بكتاب ربه، ومقتضى إيمانه بالظواهر
أن يكون منزهًا له عن التمثيل بخلقه؟
وجملة القول أن تكفير هذا الدعي في نسب العلم لمن يؤمن بظاهر الآيات
المتشابهات، وهو تكفير لسلف الأمة من الصحابة والتابعين وحفاظ الحديث والأئمة
المجتهدين، وهو عين ما يتهم هو به أئمة المحدثين، ومن بعدهم من السلفيين، ولا
شبهة له إلا دعوتهم الناس إلى اتباع ما أنزل الله، وما بيَّنه به رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولكنه لا يفهم ذلك ولا يعقله؛ لأنه لا يفهم القرآن ولا لغته، ولا يعلم
ما ورد من بيان السنة له، ولا آثار السلف الصالح في عقائد الملة، فعلم منه أن ما
كفرهم به هو صحيح الإيمان، وأن ما يدعو الناس إليه هو عين الكفر والابتداع،
فإن كان معذورًا بالجهل، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى بعد ما هديناه إليه من العلم،
وآية التوبة أن ينشر هذه الحقيقة في المجلتين اللتين يبث فيهما دعوته إلى ترك
الناس عقائد القرآن وهداية السنة.
* * *
ثم أعود إلى بيان بقية الشواهد على جهله بالاصطلاحات العلمية فأقول:
(الشاهد الثاني) في سؤاله إياي هل أريد أن أقول: إن الشيخ محمد عبده
كان مجتهدًا يأخذ من الكتاب والسنة وقد رميته بالجهل بالسنة - إلى قوله - (وهل
يرى صاحب المنار أن الجهل بالسنة لا ينافي الاجتهاد) ؟
أقول: (أولاً) قد علم مما سبق في بيان مفترياته أنني لم أرم الأستاذ الإمام
بالجهل بالسنة ولا بترك الصلاة (وثانيًا) أنني لم أعن بعبارتي تلك أن الأستاذ كان
مجتهدًا وهي لا تدل على هذا (وثالثًا) هب أنني أردت منها أنه كان مجتهدًا وهو
كذلك، فما ذكرته من تقصيره في الحفظ والعناية بالجرح والتعديل لا ينافي الاجتهاد
كما صرح به علماء الأصول الذين قرأ المفتري كلامهم، ولم يفهمه أو نسيه أو
تناساه، اتباعًا لهواه في الطعن على المرحوم الأستاذ الإمام وعلى صاحب المنار.
قال التاج السبكي في الكلام على ما يُشْتَرَط في المجتهد من العلم بالحديث من
جمع الجوامع (ويكفي في زماننا الرجوع إلى أئمة ذلك) قال شارحه المحلي في
بيان هؤلاء الأئمة من المحدثين كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم فيعتمد عليهم
في التعديل والتجريح لتعذرهما في زماننا.
(الشاهد الثالث) إن فرضنا أنني عنيت بإنكار الأستاذ الإمام على الشيخ
أحمد الرفاعي أنه يدل على جواز الاجتهاد في موضوعه الذي بَيَّناه آنفًا فهو يصدق
بالاجتهاد الجزئي دون الاجتهاد الكلي الشامل لجميع الأحكام، وقد صرح علماء
الأصول بجوازه، وهو بديهي، وإن لم يصرحوا به، ولا سيما الاجتهاد في بعض
الأحكام الجزئية كالذي فسرنا به المسألة، وهو إيقاد السُّرج على القبور، وقولهم:
يشمل الاجتهاد في بعض أبواب الفقه برمتها كالفرائض فمن العلماء المتأخرين من
نبغ فيه دون بقية الأبواب، فجوازه وإمكانه في المسائل الجزئية أَوْلَى.
فعُلِمَ مما ذكر كله في هذا العضو من أعضاء هيئة كبار العلماء في الأزهر
الشريف أنه لا ثقة بنقله ولا بصدقه ولا بأمانته ولا بفهمه، وأنه مغرور بلقبه وبثقة
شيح الأزهر به، لموافقته له في رأيه ومشربه، حتى بلغ من غروره الطعن على
أئمة الكتاب والسنة في مجلة المشيخة وغيرها والتسلق إلى محاولة تصحيح
أغلاطهم. وتنفير الناس من كتبهم الداعية إلى الاهتداء بالنصوص، وزعمه أنهم
بهذه الدعوة يكفرون جميع المسلمين؛ لأن اتباع الكتاب والسنة حتى في العقائد
يؤدي عنده إلى الكفر والمروق من الدين.
فعلى شيخ الأزهر أن يَكُفَّهُ عن إفساد عقائد عوام المسلمين الذين يغترون بلقبه
وثقة المشيخة به، وإلا كان شريكًا له في إثمه، وإن ادعى الشيخ الأكبر أنه مصيب
فإنا ندعوه هو - أي شيح الأزهر - ومن شاء من هيئة كبار العلماء المنافقين لهما (إن
وجدوا) إلى المناظرة الكتابية في هذه المسائل، وعرض ما يكتب على علماء الأمة
وعقلائها في العالم الإسلامي كله، فالعلم بالإسلام حر مطلق من قيود الرياسة
الدولية والشهادات الرسمية، والسيطرة الكهنوتية، والسلام على من اتبع الهدى.
__________
(*) إشارة إلى حديث (آية المنافق ثلاث …) وهو معروف متفق عليه.(33/373)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ويل للعرب من شر قد اقترب
(أفلح من كَفَّ يده) (حديث صحيح)
نشرت هذه المقالة في بعض الجرائد المصرية عند انتشار البرقيات بقرب
الحرب بين المملكتين اليمانية والعربية السعودية
استيقظوا أيها النائمون، تنبهوا أيها المغرورون، استذل الإسلام في الأرض
وصاح النذير بجزيرة العرب.
احتلال عسكري في مصر وسيناء، صهيونية بريطانية في فلسطين، تأسيس
قوة بحرية برية في خليج العقبة الحجازي للأسطول الإنكليزي، ومرفأ له وللبواخر
في حيفا، حظائر للطيارات الحربية في مصر وشرق الأردن والعراق، حكم عسكري
فرنسي في سورية ولبنان، حكم إنكليزي في عرب البحرين والكويت وعمان،
حكم إنكليزي في عدن، وحماية على تسع مقاطعات من عرب اليمن، البحر
الأحمر العربي الإسلامي صار بحرًا إنكليزيًّا قد تشارك إيطالية إنكلترة فيه بمقامها
في مصوع وما تسعى إليه من نفوذ واستعمار في تهامة اليمن كما شاركتها في النفوذ
والإشراف على مصر بمقامها في برقة واحتلالها لجغبوب، لم يبق للأمة العربية
التي تمتد ممالكها من ساحل المحيط الغربي إلى بحر عمان والمحيط الهندي إلا
جزيرة العرب هي البقعة الوحيدة التي ليس فيها ملك ولا حكم لمستعمري الغرب
ولا لابس برنيطة يسيطر عليها بالأمر والنهي، وهي مهد الإسلام، ومهبط
الوحي، وفيها بيت الله قبلة الصلاة، وشعائر الله، والمشعر الحرام، وعرفات
موقف الحجيج العام، بل هي ملجأ الإسلام ومعقله ومأرزه الذي يأرز إليه ويعتصم
به عندما تتداعى إليه الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها كما ثبت في الأحاديث
الصحاح، ولذلك (وصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى
في جزيرة العرب دينان) .
ها هي ذي جزيرة العرب، يطوقها المستعمرون الفاتحون من البر والبحر
والجو، وليس لهم فيها شبر من الأرض، ولا أحد من أبناء جلدتهم، الذين
يتدخلون في البلاد لحمايتهم، وفيها زهاء مليون من شجعان العرب المسلمين
المسلحين، ولكنهم أعداء أنفسهم، بأسهم بينهم شديد، يخربون بيوتهم بأيديهم،
ويكيد لهم أبناء جنسهم ودينهم الذين في خارج بلادهم، ويسعون لإثارة العداوة
وتأريث الفتنة وإيقاد نار الحرب بينهم.
كان في هذه الجزيرة عند انتهاء الحرب العالمية أربع حكومات مستقلة: اليمن
وعسير والحجاز ونجد، وكان دعاة الجامعة العربية يدعون رؤساء هذه
الحكومات إلى الاتفاق الحلفي بينهم، فتعذر ذلك عليهم، فسقطت حكومتان وبقي
حكومتان، إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال، وكان مما سر رجال الأمة
العربية والشعوب الإسلامية كافة أن إمامي هاتين الحكومتين الإمامية والسعودية من
أعظم من أنجبت الأمة عقلاً وأخلاقًا وديانة وسياسة وغيرة وحرصًا على صيانة مهد
العرب ومشرق نور الإسلام من التفرق والاختلاف الذي يضعف كلا منهما،
ويفضي إلى تدخل النفوذ الأجنبي في وطنهما، وهو لهما بالمرصاد.
وقعت في مملكة كل منهما فتن داخلية من شأنها أن تغري الطامع في بلاد
جاره باغتنام الفرصة، فلم يفقد أحد منهما رشده، ولا تجاوز حده، ثم عرضت
لهما تجربة أخرى فاختلفا على موقع جبل عرو المشهور بامتناعه وهو في منطقة
عسير السعودية، وقيل: إن جيش سيف الإسلام ولي عهد الإمام قد اقتحم عقابه،
وإن الجيش السعودي قد زحف لحفظه واسترداد ما اقتحم منه، وقيل: إن القتال
بين الدولتين واقع، ما له من دافع، فما لبثنا أن سمعنا ما لم يسمع بمثله أحد
بين خصمين متنازعين ورأينا ما لم تر قبله عين من حكم بين حكومتين، ذلك أن
الإمام يحيى كتب إلى الملك عبد العزيز آل سعود كتابة أخوية إسلامية يحكمه في
القضية راضيًا بحكمه سواء أكان له أم عليه، فما كان من هذا إلا أن حكم له على
نفسه، ونزل له عما يعتقد أنه من حقه، فدهش لهذا التحكيم والحكم الشرق
والغرب، وفرح به العرب والعجم من المسلمين، واغتم له دعاة التفريق
والتعادى من المفسدين.
فما عدا مما بدا؟
ما هذه الصيحة التي أفزعت المجامع؟ ما هذه الصرخة التي مزقت المسامع؟
ما لنا نسمع في هذا الأسبوع أن زحوف الأمير أحمد سيف الإسلام القائد العام
لليمن قد استولت عنوة على مقاطعة نجران، واقتحمت حدود العسير بعد خيبة الوفد
السعودي الذي يقيم لدى الإمام العظيم منذ شهور للمفاوضة في عقد معاهدة ودية
حلفية بين المملكتين تحد الحدود، وتسد ذرائع الخلاف، وتحول دون أسباب الشقاق،
بل توحد قوى الدولتين وتضمن تكافلهما وتعاونهما على حفظ مهد الأمة العربية
وقلب الإسلام وقبلته، وحرم الله وحرم رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله وصحبه، وسائر المعتصمين بحبل الله وحبله.
قد يدل على كذب الخبر من أصله أو على المبالغة فيه ما اشتهر عن الإمام
الهمام من تقوى الله وحفظ حدوده وكراهة سفك الدماء، ومن ترجيح السياسة السلبية
على الإيجابية ما لم تلجئ الضرورة إلى الثانية، ومن الأناة وطول التروي في
الأمور، ومن الحذر الشديد من فتح أصغر المنافذ للنفوذ الأجنبي في بلاده فهو لم
يتورط إلا في الاتفاق المعلوم مع دولة إيطالية، ولكن هذا الاتفاق علمه ما لم يكن
يعلم فاشتد حذره وتضاعف، ثم إنه يعلم مع هذا أن الخطر على بلاده أشد من
الخطر على المملكة السعودية لمواقع ثغورها على البحر الأحمر، ولأن ينابيع
الثروة فيها أغزر، وليس لها من مناعة القداسة الدينية ما لجارتها الحجاز.
ولكنه يطمع في ضم عسير إلى اليمن، ويجد من دعاة الفتن خصوم الملك
السعودي من يزينون له هذا الطمع، ويسمونه حقًّا من حقوقه؛ لأنها -بزعمهم-
مرسومة في مصور تخطيط البلدان من اللوح المحفوظ من توابع المملكة اليمانية
الإمامية فلهذا يتريث بل يمتنع عقد المحالفة السياسية العسكرية الجغرافية مع ملك
المملكة العربية السعودية على علمه بشدة الحاجة بل الضرورة الداعية إليها.
فإذا كان نبأ هذه الصيحة الجديدة صحيحًا وأن اليد العاملة في محاولة
الاستيلاء على عسير كلها أو بعضها بعد الاستيلاء على نجران هي يد ولي العهد
الشاب العسكري المتوثب. فالمعقول أن يكون قد زين للإمام الحكيم المتقي أن
الفرصة الآن سانحة لتحريض قبائل عسير المجاورة لليمن على تجديد الثورة ببذل
شيء من المال لهم، وقد ضعفت القوات السعودية من البلاد بعد إخماد نار الثورة
والتنكيل بمضرميها، فإذا احتل الجيش المتوكلي ما يريد احتلاله من البلاد يرى
الملك عبد العزيز نفسه أمام أمر واقع، فيضطر إلى الاعتراف به وبناء الاتفاق
عليه، كما حكم على نفسه بالتخلي عن جبل العرو من قبل. ولما هو عليه من
العسرة المالية التي تحول دون تجهيز جيش عرمرم يكافح به الثورة الجديدة وما
وراءها من الجيش اليماني، مع شدة حرصه على اتفاق الحكومتين.
هذا أقرب ما نعقله لإرضاء الإمام الحكيم العليم بالإقدام على هذا العدوان
الشديد الخطر، الذي يستهدف البادئ بالشر فيه لسخط الأمة العربية كلها والعالم
الإسلامي كله ولسخط الله تعالى فوق كل شيء.
إذا فرضنا أن الإمام يحيى لا يبالي سخط المسلمين البعيدين ولا العرب
القريبين، أو لا يصدق أنهم يسخطون للتعادي والتقاتل الذي يضعف هذه البقية من
البلاد العربية، فهل يجهل أن الله تعالى يسخطه أن يسفك دماء المسلمين لأجل
توسيع مملكته على سعتها، وقابليتها لعمران عظيم يغنيه عن زيادة مساحتها؟ أم هل
يجهل سوء عاقبة هذا القتال، وما يستلزمه من ألوف الرجال وبدر الأموال، التي
لا يمكن تعويضها إلا في زمن طويل؟ كلا إنه ليعلم حق العلم كل ما ذكر، وإنه
ليعلم أن هذا التعادي والاقتتال خطر عليه وعلى أمته ومهد دينه، وأن الملك
السعودي ليعلم هذا حق العلم، وإنما قللنا من ذكره في هذا التذكير؛ لأن الذي روي
عنه في هذه المسألة هو أفضل وأكمل ما يُطْلَبُ منه، وهو أنه بلَّغ الإمام أنه لا
يعتدي، وإنما يدافع إذا اعْتُدِيَ عليه ويقبل التحكيم في الخلاف، والمرجو أن يقدر
الإمام هذا الخطاب قدره، وإنا لننتظر ما يجيئنا الغد من الخبر اليقين، فنعطيه حقه
من النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وليتذكر الفريقان ما رواه أبو
داود والحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم (ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح
من كف يده) (والسلام على من اتبع الهدى)
هذا ما نشر عقب انتشار الخبر في الصحف وذعر الأمة به ثم جاءنا كغيرنا
من الإمامين كليهما ما هو صريح في مبالغة الجرائد في التشاؤم وتبرؤهما من
إرادة الحرب، وتفاوضهما الودي للاتفاق، لكننا نرى أنه لا سبيل إليه إلا بالمعاهدة
واجتناب اعتداء الحدود في عسير ونجران بعد الاتفاق عليها كما هي.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/383)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الملك فيصل الحسيني الهاشمي
في اليوم السابع عشر من شهر جمادى الأولى وهو السابع من أيلول (سبتمبر)
فُجِعَتْ المملكة العراقية الطريفة العتيدة، والأمة العربية العريقة التليدة، بوفاة
الشريف فيصل ملك سورية الأول المؤسس بالأمس القريب، فملك العراق الأول
المؤسس إلى هذا اليوم العصيب، ابن المرحوم الشريف حسين ملك الحجاز الأول
المؤسس من قبله، ووالد الملك غازي الأول الوارث من بعده، فاهتزت لموته
البلاد العربية وزلزلت الأمة زلزالاً شديدًا، وكان لنعيه رنة عالية في الغرب رجَّع
صداها الشرق كله بما لم يتفق مثله لملك من كبار الملوك ولا لعظيم من عظماء
الفاتحين.
توفي فجأة في مدينة (برن) عاصمة (سويسرة) من أوربة بسكتة عرضت
لذلك القلب الخفاق بحب قومه ووطنه، فما سكن بالموت خفقانه، وسكت جيشانه،
إلا وخفقت أسلاك البروق الكاتبة والناطقة في الخافقين معلنة نعيه، مكبرة خطبه،
معددة مناقبة، مثنية على سياسته، وتلتها صحف العالم تتلو آيات التأبين والرثاء،
وتردد شهادات الحمد والثناء، ولا سيما الصحف العربية في مصر والشام والعراق
فسائر الآفاق، ولا تزال أنهارها تفيض بذلك إلى الآن.
وقد حنط حيث توفي وحمل في تابوت إلى إيطالية فاحتفلت به حكومتها
احتفالاً عظيمًا، ثم حمل منها ومن كان معه من الآل والوزراء والبطانة والحاشية
على طرَّادة حربية إنكليزية إلى حيفا حيث كانت تنتظر الوفود من فلسطين وشرق
الأردن وسورية ولبنان، فكان يومًا يُذَكِّر بيوم الحشر، في ازدحام الأقدام،
واشتراك الجميع في الكرب، وإكبار الخَطْب، ووَجِيف القلوب، وفيض الدموع،
وهنالك صُلِّيَ على جنازته، ثم حمل على طيارة مع بعض من حضر من أهله
وخاصته وتبعها طيارات أخرى تقل سائر من كان معه وبعض المشيعين له إلى
بغداد، ولا تسل عما جرى هنالك من استقبال الشعب العراقي لمؤسس ملكه،
وواضع بناء مجده، وقد عاد إليه جسدًا محنطًا بغير روح، على مثل الطيارات
التي حملته من بينهم في هذا الصيف مرتين غادية رائحة وهو يكاد يكون روحًا
بغير جسد، ولو لم يعرف الشعب من جهاده في سبيله إلا عمله في هذا الصيف
لكفى. فإن ما فعلته حكومته وشعبه، رجاله ونساؤه حَضَره وبدوه ليجل ويكبر عن
الوصف والإحاطة.
شهدت بمشهده بغداد ما لم يشهده بلد من البلاد، كانت كلها مأتمًا ممثلا لمناحة
شعب كامل، كأنه أم رءوم ثاكل، رنات نواح وعويل، في كل دار وكل سبيل،
وحداد عام شامل لشعب كبير، لعله لم يعرف له في الدنيا من نظير. لا في حشر
الخلائق له، ولا في الحزن عليه، ولا في تشييعه ودفنه، فإن قارئ وصفه في
الصحف ليكاد يستصغر ما رثى به بلغاء الشعراء المتقدمين أعظم عظماء
الممدوحين، وكنا نعده من الغلو الخيالي والتصوير الشعري.
فارقهم أول مرة بقصد الاستشفاء في سويسرة مما عرى ذلك الجسم الضاوي
الهزيل من الضعف وتصلب الشرايين، فكانت طيارته كأنها تحمل روحًا من علو
الهمة وحب القومية، أو كأن هذا الروح هو الذي يحملها فحط رحاله في عمان من
شرق الأردن فالقدس فمصر، وكان يَلْقَى في كل مكان من حفاوة المستقبلين
والمودعين، ما لم يعهد مثله فيما سلف من السنين، إلا عند دخوله الشام فاتحًا، ثم
عند تتويجه فيها ملكًا، وصرَّح له كل من استقبله من العرب الفلسطينيين
والسوريين أنه مناط آمالهم في الدفاع عنهم، والسعي لكشف ما حل من الظلم
والهضم والقهر الاستعماري ببلادهم، فوعدهم خيرًا، بل قدمت إليه عشرات من
وثائق التوكيل الرسمي عليها توقيع الجم الغفير من السوريين في ذلك.
وما كاد يستريح من وعثاء السفر في سويسرة حتى حدثت في العراق فتنة
خروج الأشوريين على حكومته، وإيقاد نيران الثورة عليها بمساعدة السلطة
العسكرية الفرنسية في مصر لها، وإظهار الجرائد الإنكليزية في بلاده لمظاهرتهم
والدفاع عنهم، والطعن على حكومة العراق وإنذارها سوء العاقبة على ما تصدت له
من تأديبهم.
فَكَرَّ راجعًا من سويسرة إلى العراق طائرًا بذلك الروح القوي القادر،
المتواري في ذلك الشخص الشخت الضامر، الذي يصارع الخطوب، ولا يشكو
الأين واللغوب، حتى كأنه لا يشعر بالكلال والإعياء، فتولى تلافي ثورة
الأشوريين بتدبيره الحكيم، ورأيه الحازم السديد، وعاد أدراجه على طيارته من
بغداد إلى أوربة، فأقنع أولي الأمر في إنكلترة بما لحكومة العراق من الحق في
تأديب هؤلاء الثوار، وبما لها هي من المصلحة في تأييدها لها، وفي كف تحامل
الجرائد الإنكليزية عليها، وخطلها في تهديد حكومتها، ثم في نصرها عند عرض
المسألة على جمعية الأمم.
بعد هذا الجهاد العنيف والكفاح في كارثة العراق التي تصدت فرنسة لإثارتها
وإثارة تعصب أوربة الديني بها على استقلاله، لإحباط السعي لاتحاد سورية به،
تضاءل جسد فيصل وانحطت قواه البدنية عن حمل قواه الروحية والعقلية، فأراد
أن يستريح ويستسلم لمعالجة الأطباء، وأراد القدر المحتوم أن يخطئ في استراحته
ومعالجته، بقدر ما وفق وأصاب في سياسته، فكان توقله في الحبل للرياضة خطأ
مضنيًا، وتداويه بالحقن غير الموافق لمرضه خطأ مرديًا، فقضيا عليه في يوم
وليلة قضاء مبرمًا، فسبحان الحي الذي لا يموت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34) إنا لله وإنا
إليه راجعون.
هذه خاتمة جهاد فيصل وخاتمة عمره، قد أظهرت للعالم كله ما لم يكن يعلمه
إلا الأفراد من علو همته، وتفانيه في توطيد استقلال دولته، وتمهيد السبيل لتوحيد
أمته، هذا ما تجلى لقومه ووطنه فيه من عمل، وما تجدد لهم به من أمل، عرفه
من كان ينكره، وأكبره من كان يستصغره.
وليس من موضوع المنار تلخيص أمثال هذه الأخبار الطولى من الصحف
اليومية، فليس المنار بمجلة تاريخ وأخبار، وإنما هي صحيفة ذكرى واعتبار،
وعلم وإصلاح ديني واجتماعي، وسيجمع الناس بعض ما نشر في الصحف العربية
من تأبين فيصل ورثائه، ووصف مآتمه وعزائه، وتفصيل تاريخه في أسفار لا في
سفر واحد.
وستقام له حفلات تأبين ورثاء لذكرى يوم الأربعين وغيره في بغداد وعمان
والقدس والشام ومصر وغيرهن من الأمصار، على أن السابقين إلى ذلك لم يتركوا
لأنفسهم ولا لغيرهم مقالاً جديدًا، فقد غلوا في الشعريات غلوًّا كبيرًا، فماذا عسى
أن يقول المقتصد خلقًا ودينًا، وأي تأثير يكون لقوله في أمثال هذه المجامع في هذه
الكارثة؟ ألا إنني قد دعيت إلى حضور ما ذكرت من الأمصار وإلى غيرها، أو
إرسال شيء يقال فيها، وإني لمعتذر لما عدا حفلة القاهرة منها، ولمعترف بعجزي
عن وصف هذه الفجيعة بفيصل بالوصف المحيط بها، ولمرجئ ما أراه من الواجب
عليَّ من الاعتبار الإصلاحي بها إلى جزء آخر.
بيد أني أشهد في هذا التأبين الوجيز أن الأمة العربية خسرت بفقد الملك
فيصل سياسيًّا محنكًا لا يناظره فيها نظير، ولا يقارعه قريع ولا يلز به قرين، بل
تباري به دهاة ساسة الأوربيين وقرومهم المقرمين، وفقدت زعيمًا عصريًّا، وملكًا
مدنيًّا حازمًا غير مستبد، كبيرًا غير متكبر، متواضعًا عن غير ضعة، حليمًا في
غير ضعف، قد مارس الأيام، وعجم عود الزمان.
وأختم القول الآن بالواجب أداؤه، الممتنع إرجاؤه، وهو تعزية إخوة الفقيد
وأسرته الهاشمية عامة وجلالة نجله الذي خلفه على عرش العراق الملك غازي
الأول، خاصة فأسأل الله تعالى أن يحسن عزاءه وسلوته عن والده البر الرحيم،
بحسن القيام بما أورثه من الملك والمجد العظيم، وأن يوفقه فيه للنهوض بأعبائه،
ويجعله خير أهل لما ترجوه بلاده وأمته من سياسته، بالاعتماد على المجربين من
رجال حكومته، بعد تحري مرضاة الله عز وجل وشكره على نعمته، وبناء دعائم
الإصلاح على أساس شريعته، فإن الشعب العراقي قد دخل في طور جديد من
الحياة الدولية، ولبلاده سلف عظيم من الدولة العباسية، التي كانت مؤسسة لأرقى
دولة مدنية في عصرها علمًا وفنًّا، وتشريعًا وقوة وفتحًا، وثروة ونعمة وعمرانًا،
والأمة العربية التي بتوحيدها ووحدتها أوجدتها، ثم فقدتها بتفرقها وغفلتها، قد
استيقظت بعد رقاد لبثت فيه عدة قرون، ووجهت عنايتها لتجديد المجد الذي ابتدأه
سلفها فأخرجوه من ظلمات العدم إلى نور الوجود، ولكنها متفرقة في المذاهب
الدينية، مختلفة في الآراء والأفكار العصرية، متفاوتة في أسبابها من التربية
والتعليم، مبتلاة بما ينافي تأسيس القوة من الترف وحب الزينة والتمتع بالشهوات،
وحولها خصوم لُدّ وأعداء ما من صداقتهم بُدّ، وإن في هذا القرآن والسنة المحمدية
التي شرَّف الله بها العرب على جميع الأمم لعلاجًا لكل تلك الأدواء، وإن نجاح
العرب في هذه العصر بدون هذا العلاج ضرب من المُحَال.
__________(33/387)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(مجمع البيان. في تفسير القرآن)
لمؤلفه العلامة الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أكابر علماء
(الشيعة) الإمامية في القرن السادس. وهو مطبوع طبعًا حجريًّا في طهران ونسخه
نادرة الوجود وغالية الثمن، ولهذا انتدب لإعادة طبعه بالحروف الجميلة زميلنا
الأستاذ الفاضل الشيخ عارف الزين، صاحب مجلة العرفان الغراء ومحيي آثار
علماء الشيعة في هذا العصر، وهذا التفسير أفضل ما نعرفه منها؛ لاعتداله وحسن
ترتيبه وفصاحة عبارته، فهو يتكلم أولا على القراءات حيث تتعدد، وثانيًا على
مفردات اللغة وشواهدها، وثالثًا على وجوه الإعراب إذا خفيت، ورابعًا على
أسباب النزول إذا رُوِيَتْ، وخامسًا على المعنى من مأثور ومعقول وما فيه من
المذاهب إذا اختلفت.
وقد تم في رمضان سنة 1350 طبع المجلد الأول منه فكان طبعًا جيدًا لكن
على ورق غير جيد، وفيه تفسير جزء من تجزئة الأصل ويشتمل على تفسير سورة
الفاتحة والبقرة وآل عمران بعد مقدمات أحدها في ترجمة المؤلف للعلامة السيد
محسن الحسيني العاملي والثانية في مباحث التفسير من معناه وفائدته والحاجة إليه
وأقسامه وأذواق المفسرين وطبقاتهم للأستاذ العالم الأديب الشيخ أحمد رضا، وقد
أشار في آخرها إلى دروس الأستاذ الإمام في الأزهر واقتباسها في المنار، ولكنه لم
يذكر أن تفسير المنار مستقل، وأنه قد صدر منه إلى وقت كتابته لها تسعة أجزاء.
ويلي هاتين المقدمتين مقدمة المؤلف وهي جامعة لبضع مسائل في القرآن
سماها فنونًا.
بلغت صفحات هذا المجلد 562 صفحة بدون الفهرس من القطع الكامل وقد
جعل الأستاذ القائم بطبعه قيمة الاشتراك في المجلد منه جنيهًا عثمانيًّا ونصف جنيه
بنقد الذهب واعدًا بأنه كلما اجتمع لديه منها ما يكفي نفقة جزء منه طبعه، وهو
معذور؛ لأنه إن قدر على طبع الجزء منه بماله في هذه العسرة فلا يثق بأن يجتمع
له ما أنفقه نقدًا إلا في عدة سنين نسيئة، لا لقلة المال عند المسلمين من شيعة
وسنيين، بل لقلة الدين، والانصراف عن فهم كتاب الله إلى الإسراف في الشهوات
المضيعة للدنيا، والعصبيات المضيعة للآخرة والدنيا معًا.
***
(حاضر العالم الإسلامي)
(لمستر لوثروب ستودار - والأمير شكيب أرسلان)
(الطبعة الثانية بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر في أربعة
أجزاء)
نشرت مكتبة البابي الحلبي الطبعة الثانية من هذا الكتاب في هذا العام
(1352) في مجلدين كبيرين في كل منهما 782 صفحة كصفحات المنار بحروف
جديدة على ورق جيد. فهو من أحسن الكتب طبعًا، وكانت الطبعة الأولى في
جُزْءَيْنِ فقط، فهذه الزيادة جاءت مما أضافه إليها أمير البيان الأمير شكيب أرسلان
من الحواشي والتعليقات الجديدة على الأصل، فصارت جديرة بأن تجعل هي
الأصل بطولها وتحقيقها وتعدد مباحثها، ويجعل كتاب لوثروب حاشية أو ذيلاً لها،
ولعله لا يزيد عن ربعها.
الكتاب قد اشتهر عند قراء العربية في المشرق والمغرب شهرة تغني عن
التعريف به، وقد قرَّظنا الطبعة الأولى منه عقب صدورها سنة 1343 فهي قد
نفدت نسخها الكثيرة في بضع سنين فشرع الأمير بعد ذلك في كتابة الزيادات التي
أشعره بالحاجة إليها ما تجدد في العالم الإسلامي وشعوبه من الأحداث المهمة
بالحرب العالمية العظمى والمصائب والكوارث والنوازل التي ألمت بالمسلمين
وبأكثر البشر بربح إنكلترة وفرنسة وإيطالية للحرب، وتحكمهم الجائر في إرث
الأرض، وقد بيَّن أمير البيان الحاجة إلى هذه الزيادة بقلمه البليغ في مقدمة الطبعة
الثانية فقال:
(ولما كان قد مضى على الطبعة الأولى سبع سنوات تامات، جرى خلالها
حوادث ومهمات، ووقائع هامات، وحصل ما يسوء وما يسر، وطرأ ما هو حلو
وما هو مر، وبالإجمال تجددت قضايا تهم التاريخ العام، فضلاً عن تاريخ الإسلام،
وذلك لأن الحرب العامة كانت أشبه بزلزال جيولوجي عام، كاد أن يأتي الأرض
من قواعدها، فكثرت على أثرها الانقلابات والتحولات، وازدادت قابلية الأمم
للتأثرات، وتم في هذه السنين السبع بين طبعتي الكتاب الأولى والثانية ما لا
يحصل أكثر منه في الحِقَب الطوال، كان لا مندوحة لنا عن مراجعة النظر في
الحواشي التي علَّقناها على الكتاب أول مرة؛ لنضم إليها ما جدَّ من الوقائع التي
جرت خلال هذه الأعوام الأخيرة، ونردف الأول بالآخر، والأصل بالفرع،
وتكون الحواشي التي توخينا تعليقها على موضوع من مباحث العلامة ستودارد قد
جاءت بتمام البحث، ووفت بالغرض، ونقعت الغلة، ولم تبق في النفس حاجة،
وأتت بصورة الوقائع متسلسلة من الأول إلى هذه الساعة، ثم إنه لم ينحصر الأمر في
سرد الوقائع ولا في تقييد ما تجدد في هذه الأعوام الأخيرة من الحوادث، بل تعداه إلى
إكمال مباحث كان ضيق الوقت قد قضى باختصارها، ومطالب ألجأ تحرُّج المكان
دون استنزافها إلى أصبارها، فأطلقنا هذه المرة فيها للقلم عنانًا، وأرهفنا للتحقيق
سنانًا، وأكملنا ما كان قضى ضيق الوقت بإبقائه ناقصًا، أو برده عن محله ناكصًا.
(وأما كتابنا هذا في أجزائه الأربعة هذه المرة، فإنه إلى أن يُتَاح للإسلام
حظ هذا العمل الكبير، يكون من الكتب التي تفي بجانب من هذا العوز، ويجوز
أن يقال: إنه معلمة إسلامية صغيرة، بل هو في المباحث الجغرافية والتاريخية
والإحصائية عن أقطار الإسلام النائية وبقاعه المجهولة فَذٌّ في بابه، وكذلك يمتاز
هذا الكتاب بالمباحث السياسية التي قيض لمحررها أن يعلمها من عين صافية، وأن
يقف على الرواية الوثقى منها بطول خبرته، وقرب سنده، واستمرار مزاولته لهذه
الأمور من 47 سنة. وفيه بعدُ تراجمٌ وأخبارٌ، لم يسجلها كتاب ولا جرى بها قلم،
فلا يجدها الناشد في غيره، إذ هي نتيجة مشاهدات الكاتب وما رآه بالعين وما
سمعه بالأذن وما كان له فيه أخذ ورد. وعلى كل حال ففي هذا الكتاب من الطريف
ما لا يسع إنكاره الجاحد، ولا يضيره مراء الحاسد. ولا شك في أن الأمة
الإسلامية الناهضة إلى تجديد تاريخها، النازعة إلى النماء بجميع فروعها
وشماريخها، ستتفطن إلى كل ما يعوزها من هذه المقاصد الجليلة، ومن جملتها
تأليف المعلمة الكبرى التي هي من ضرورات رقيها وأشراط نموها وبالله التوفيق،
ومنه نستمد الهداية إلى أقوم طريق، وصلى الله على النبي العربي العريق، وعلى
آله وصحبه وسلم.
هذا ما كتبه الأمير شكيب في التعريف بالحواشي التي علقها على كتاب
(حاضر العالم الإسلامي) وما زاده فيها، ومن أعلم منه بها وهو أبو عذرتها،
وغارس فسيلتها، وجاني ثمرتها، وقد يظن من يقرؤها وحدها أنه ربما كان مبالغًا
في وصفه لها، وما هو إلا مقصر كل التقصير، وما كان التقصير من شأن قلمه
في يوم من أيام عمره، وإنما كان الآن أمرًا لازمًا لتسمية مصنفه الكبير، حواشي
معلقة في أذيال كتاب ستودارد الصغير، وإنه لأَجَلّ من أن يكون أصلاً له أو مَتْنًا
ويقل ذلك الأصل أن يجعل ذيلاً له أو ذنبًا، ولكنه ظلم نفسه ظلمًا علميًّا أدبيًّا،
أعقبه ظلمًا ماليًّا ماديًّا، ومن شاء أن يعلم كُنْهَ هذا الظلم مجملاً، فلينظر في فهرس
الكتاب قبل أن يعلمه بقراءته كله مفصلاً.
على أن اسم (حاضر العالم الإسلامي) لو وضع لتعليق لمصنف الأمير
شكيب هذا وحده، لكان ظلمًا له وهضمًا لحقه، وتصغيرًا لقدره، وإنما الجدير به
أن يسمى (غابر العالم الإسلامي وحاضره) أو تالده وطارفه، فإن مقدمته في
نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه، ويليها الكلام في الفتح العربي والبعثة المحمدية
وأقوال جمهرة من العلماء والفلاسفة والمؤرخين الأوربيين في النبي صلى الله عليه
وسلم ومنه خلاصة كتاب (حياة محمد) لإميل درمنغهم الكاتب الفرنسي الذي اشتهر
بهذا الكتاب، ويلي ذلك فصول ضافية في علو الإسلام وعظمته، وسبب هبوط
أهله في هذا الزمان، وفي مدنية الإسلام والرد على حسادها المكابرين، وارتقاء
اليونان والرومان العلمي المدني قبل النصرانية وانحطاطهم بعد انتحالها، والمدنية
العربية وخدمتها للطب ثم الكلام في الفرس والترك والتشيع والتعصب والتسامح
والخلافة والملك وهدي الخلفاء الراشدين وسيرة عمر وعدله خاصة، وكل ذلك في
لباب الإسلام وماضيه لا في حاضره.
أخذت هذه المباحث 258 صفحة من الجزء الأول، ووضع بعدها الفصل
الأول من كتاب ستوارد وموضوعه اليقظة الإسلامية وهو في 16 صفحة، ويليه
ترجمة القس زويمر الأمريكاني أوقح أعداء الإسلام من دعاة النصرانية وأشدهم
إفسادًا، فترجمة الأستاذ الإمام وصاحب المنار من أشهر أنصار الإسلام ودعاته
وهي للأمير شكيب، ووضع بعدها الفصل الثاني من كتاب ستودارد وموضوعه
الجامعة الإسلامية وصفحاته 41 وسائر الجزء للأمير، وهو في بيان حال الدول
المستعمرة والإسلام - وأثر الدولة الروسية في الشرق- والفتوحات الإسلامية في
الهند وحال هذا القطر العظيم في هذا العصر- والإسلام في جاوى ومسلمي فيلبين
- الجزائر الشرقية الهندية الهولندية - وكلها للأمير، وقس الجزء الثاني على الأول
بل لم أر في فهرسه لستوارد شيئًا.
وجملة القول أن هذا الكتاب معلمة (دائرة معارف) للإسلام وشعوبه وخواص
رجاله لا يستغني مسلم قارئ عن الاطلاع عليه والاستفادة منه، وهو يغني عن
مئات من الكتب التي طرقت مباحثه، ولا يغني عنه غيره في أبوابه، إلا أن تُعْنَى
دولة أو جمعية إسلامية غنية بوضع دائرة معارف إسلامية يتولى تحرير كل
موضوع منها علماء أخصائيون في علومهم وفنونهم، كما تمنى الأمير شكيب ونوَّه
في مقدمته وكما يتمنى كل مسلم يعرف حاجة المسلمين إلى معرفة أنفسهم وتاريخ
دينهم وحضارتهم، وإن أهم ما فيه بيان الحرب الصليبية التي يجردها الإفرنج
لمحو الإسلام واستعباد المسلمين، بما يسمونه الاستعمار، ودعاية التنصير
ومطاعن المستشرقين، وسنقتبس بعض الأشعة من شمسه المشرقة، وبعض الجذى
من ناره المحرقة، لعل المسلمين يستفيدون منها ما يضيء لهم الطريق، ويحول
عنهم نار الحريق.
هذا وإن ثمن النسخة من مجلدي الكتاب معًا مائة قرش مصري وما هو بكثير.
***
(كتاب الوحي المحمدي)
لقد كان لهذا الكتاب من حسن الوقع والتأثير في العالم الإسلامي فوق ما كنا
نحسب ونقدر، فلم تمض على صدوره ثلاثة أشهر إلا وصار المطلوب من نسخه
أكثر من الموجود منها حتى امتنعنا من بيعه للمكتبات بالجملة فطلبت إحداها
خمسمائة نسخة فأعطيناها مائة لكيلا تنفد النسخ كلها قبل أن يتيسر لنا إعادة طبعه
وقد قررت وزارة معارف أفغانستان ترجمته بالفارسية ونشره في مدارسها وطلبت
عدة نسخ منه بالعربية؛ لتوزيعها على العلماء بالعربية. وقرَّظه صاحب الجلالة
المتوكلية الإمام يحيى حميد الدين وطلب نسخًا كثيرة منه لنشرها في اليمن وشرع
آخرون بترجمته باللغات التركية والأوردية والإنكليزية، وسننشر بعض ما قرَّظه
به كبار العلماء والكُتَّاب في مصر وغيرها.
***
(نداء الجنس اللطيف - في حقوق النساء في الإسلام)
(لصاحب الفضيلة مفتي طرابلس الشام)
لحضرة الأخ الفاضل السيد عاصم آل رضا حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تناولت بيد الشكر والاحترام
هديتكم السنية كتاب (حقوق النساء في الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي
العام) تأليف العلامة الشهير، الأستاذ الكبير، دائرة العلوم المعارف، من تالد
وطارف، مفخرة الأمة المحمدية، طراز العصابة الهاشمية، خادم دين الإسلام،
وسنة سيد الأنام، عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأزكى السلام، أعنيه
ابن عمكم السيد الشيخ محمد رشيد فيا لله ما أعلا وأغلا هذا الكتاب المستطاب،
الذي تمثلت فيه روح حكم أحكام الدين بلا ارتياب، فكان بموضوعه فصل الخطاب
لما حوى من الاقتدار، في استخراج درر الحقائق من أصداف بحار الكتاب والسنة
وعلوم الأئمة الأخيار الخفية في هذا الزمان عن كثير من المسلمين والأغيار.
إن هذا العصر لمحتاج إلى عالم خبير، مثل ابن عمك النِّحْرِير، الذي دأبه
في الغابر والحاضر بيان حكم الدين الإسلامي المبين، ونشر ثقافته وحضارته بين
العالمين.
أسأل الله أن يكافئ هذا العالم العامل النافع الجليل بالخير والأجر الجزيل،
بمنه تعالى وكرمه مجردًا لشكري العظيم بادرت بتقديم هذا الرقيم راجيًا إبلاغ
حضرة المشار إليه فائق الاحترام، وأزكى التحية والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
__________(33/391)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصل الشيعة وأصولها
من تأليف علامتهم الكبير ومجتهدهم الشهير الشيخ محمد الحسين آل كاشف
الغطاء النجفي، وهي مطبوعة في مطبعة مجلة العرفان بصيدا وقد جعلها الأستاذ
صاحب هذه المجلة هدية للذين وَفَّوْهُ اشتراك المجلة وهي تباع لغيرهم بقيمة عشر
فرنكات على صغرها، فإن صفحاتها مع مقدمتها 138 صفحة من القطع الصغير،
ولكنها وصلت إلينا رسالة من بغداد فيها كتاب اسمه (الشيعة) تأليف (السيد محمد
صادق السيد محمد حسين الصدر) .
فأما (كتاب الشيعة) فلا نتكلم فيه؛ لأنه صدع جديد لبناء وحدة الإسلام،
بالطعن على أهل السنة والجماعة من الصحابة الكرام، وحُفَّاظها ومدونيها من
الأئمة الأعلام، كاد يضرم نار الثورة في العراق، فأنا أغضي عن هذا الكتاب
المُبَارز للسنة وأهلها بالعداء وإعلان الحرب، وهو فيه كالصعو الذي يهاجم الصقر،
وأما الرسالة فهي دعاية فرقة، في دعوى وحدة، لهذا أخصها بكلمات من النقد
والعتب، أو التذكير والوعظ، يظهر بها لمؤلفها الأجل أنه جدير فيها بضرب المثل:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
هي مُصَدَّرَة بمقدمة وجيزة بإمضاء (عبد الرزاق الحسيني) كتبها ببغداد في
غرة ذي الحجة سنة 1350 خلاصتها أنه تجول في معظم القصبات والقرى الريفية
في العراق، وأنه صادف أن زار في العام الماضي مصر وفلسطين وسورية،
واتصل بالطبقة المثقفة في هذه الأقطار العربية كلها، فسمع منها ما كان يسمعه من
أهل الدليم في العراق من الطعن الغريب في طائفة الشيعة (قال) : (وخلاصة ما
كنت أسمعه أن للشيعي ذَنَبًا لا يختلف عن أذناب البهائم، وأن لهم أرواحًا تتقمص
أجساد بعض الحيوانات بعد أن تفارق أجسادهم، وأنهم لا يعرفون الأكل مثلما تعرفه
بقية الطوائف) وأنهم وأنهم وأنهم (إلى آخر ما هنالك من عجائب وغرائب) اهـ.
بنصه، مع حذف أكثره.
ثم ذكر أنه كان ولا يزال يقرأ في كتب من يدعون البحث والتحقيق العلمي
من أهل السنة، ما هو أغرب مما سمعه عن الشيعة، وأنه كان يكاتب الإمام
العلامة المؤلف بذلك كله فيدله على أكثر مما قرأ ومما سمع، وأنه في أثناء هذه
المكاتبة (كان سماحته يبث الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، ويدعو المسلمين إلى
سحق التقاطع من أجل الفوارق المذهبية، فكان بحق أول من شق هذا الطريق
المؤدي إلى فلاح الإسلام) ! ! !
ثم استدل على هذه الدعوى بما تجشمه سماحته من عناء السفر ووعثائه
لحضور المؤتمر الإسلامي العام في القدس وعبر عنها الكاتب الحَسَنِي (بأرض
الميعاد) لأجل أن يخطب لدعوة المسلمين إلى هذه الوحدة التي لم يعن بها غيره.
هذه المقدمة أول شاهد في هذا الكتاب على دعاوي القوم وغلوهم فيما لهم وما
عليهم، وقد أقرها المؤلف عليها، وبنى تأليفه هذا على صحتها وصحة ما هو شر
منها، فكانت داعية شقاق، وإن قنعت بقناع صلب الوفاق؛ لأنها تقنع كل من
قرأها من الشيعة أن جميع أهل السنة عاميهم وخاصيهم أعداء لهم قد أخرجهم الشنآن
من حظيرة العقل والفهم، فلا علاج لهم بما يبذله المؤلف من علاجهم بالعلم،
ومحاولة إقناعهم بأن مذهب الشيعة هو الحق بل هو الإسلام دون ما خالفه.
إننا لم نسمع في عمرنا الطويل كلمة واحدة مما نقله عن المثقفين في مصر
وسورية وفلسطين، لا من المثقفين الذين يجلون عن هذه الجهالات أن تصدقها
عقولهم، أو ترويها ألسنتهم، ولا عن العوام الخرافيين منهم، ونحن أعلم بهذه
البلاد وأهلها منه، ولم نر في كتب أحد ما هو أغرب منها كما ادعى، وأي شيء
أغرب من جعل خلقة الشيعي مخالفة لخلقة سائر البشر، فإن فرض أنه سمع كلمة
سخيفة كهذه جديرة بالسخرية من بعض أعراب الدليم الأميين في العراق، أفلم يكن
له من عقله ما يزع تعصبه أن يلصقها بالطبقات المثقفة في مصر وفلسطين
والشام؟ وإننا قد سمعنا من أخبار الشيعة في العراق وإيران وجبل عامل من
الأقوال والأعمال في عشر المحرم وغيره حتى في البيوت ما لم يخطر في بالنا أن
نكتبه تمهيدًا للاتفاق؛ إذ من الضروري أنه مثار للشقاق.
يلي هذا الشاهد على غلوه في هجو أهل السنة في أرقى البلاد العربية
والإسلامية غلوه في إمامه المؤلف بجعله هو العالم المسلم الفذ الذي عني بدعوة أهل
السنة إلى الاتحاد ونبذ عصبية المذاهب المفرقة بالسعي العظيم الذي انفرد به،
وقاسى الأهوال والشدائد في سبيله، وهو قبوله دعوة المؤتمر الإسلامي العام
ومجيئه من أرض العراق إلى أرض جارته فلسطين ليلقي خطبة فيه! !
بخ بخ، أليس لأحد من علماء أهل السنة وفضلائهم شيء من مشاركة علامة
الشيعة في هذا الفضل، وقد جاء بعضهم من أقطار أوربة وبعضهم من أقطار
الشرق، وكانوا كلهم متفقين على جمع كلمة المسلمين، ونبذ التفريق الذي دعا إليه
بعض علماء الشيعة كالسيد عبد الحسين نور الدين، ولم يسمع بمثله في العالمين؟
ولا يزالون يسعون إليه كما فعله صاحب كتاب الشيعة في هذا العام؟
إن أول صوت سمعه العالم الإسلامي كله في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية
العامة، والاتفاق بين أهل السنة والشيعة خاصة، هو صوت الحكيمين الإمامين
السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، ومقالات العروة الوثقى
في ذلك محفوظة أعيد طبعها، وتاريخ (الأستاذ الإمام) مفصل لها وقد نشرنا
دعوتهما وأيدناها بمقالاتنا وسعينا العملي منذ 36 سنة، ولكننا نغضي النظر عن
ذلك، وننظر إلى عمل المؤتمر الإسلامي وحده.
ألم يكن لرئيس المؤتمر الإسلامي الداعي إليه وأعضاء اللجنة التحضيرية
التي وضعت نظامه من الفضل ما يفوق فضل علامة الشيعة بإجابة الدعوة؟ ألم
يكن للرئيس من فضل السبق إلى التأليف والاتحاد تقديمه إياه على جميع من حضر
المؤتمر من علماء السنة وسادتهم بإمامة الصلاة في الاجتماع العام للمؤتمر في ليلة
ذكرى الإسراء والمعراج؟ وقد علمت باليقين أن السيد أمينًا الحسيني شاور في هذا
التقديم له غير أعضاء اللجنة من كبار علماء السنة، فوافقوه على ذلك؛ لأن
الغرض منه التأليف والوحدة لا لسبب آخر، ولم يكن أحد منهم سمع في هذا
الغرض من سماحة كاشف الغطاء كلمة، فلأهل السنة السبق إلى هذه الدعوة، ثم
في تكريمه وتقديمه لأجل الوحدة.
ومما انتقده جمهور أعضاء المؤتمر على الأستاذ الشيخ محمد آل كاشف
الغطاء أنه اتخذ هذا التقديم في تلك الليلة الحافلة حقًّا له شرعيًّا، ومنصبًا رسميًّا،
فكان يتقدم من تلقاء نفسه الجميع في كل صلاة جماعة يحضرها، ولم يزاحمه أحد
من أهل السنة فيها، ولم يتواضع هو مرة فيدعو غيره من العلماء أو السادة الشرفاء
إلى مشاركته أو النيابة عنه على فرض أنه هو صاحب الحق، ولكنه يقدم غيره من
باب التواضع وحسن الذوق.
أو لم تكن هذه المنة للمثقفين من أهل السنة كافية لإبطال تلك التهمة، فتمنع
السيد عبد الرزاق الحسني وأستاذه علامة الشيعة ومجتهدهم من تشهير مثقفي أهل
السنة كلهم بها وجعلها سبب تأليف هذه الرسالة وإنما هي دعوة لأهل السنة إلى مذهب
الشيعة.
نعم إنه قد ذكر كل من مؤلفها ومؤلف كتاب (الشيعة) أن الداعي أو الدافع
الداعّ لهما إلى ما كتبا هو ما جاء في كتاب (فجر الإسلام) في الطعن على الشيعة
لمؤلفه الأستاذ أحمد أمين ومساعده الدكتور طه حسين المصريين، ولم أكن رأيت
هذا الطعن ولا طالعت هذا الكتاب، ولكني أعلم كما يعلم العالمان الشيعيان وغيرهما
أن مؤلفي كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام ليسا من دعاة مذهب السنة والرد على
مخالفيه في ورد ولا صدر، وقد ذكر مؤلفها فيها أن الأستاذ أحمد أمين صاحبه
اعتذر عما كتبه في الشيعة بأنه نقله عن بعض كتب التاريخ المشهورة التي اطلع
عليها ولم يطلع على ما يخالفها، ثم أشار إلى ما يبرئهما من كل تعصب مذهبي أو
غرض ديني، بل إلى ما هو شر من ذلك، وهو ما اشتهر عن أحدهما من الطعن
في أصل الدين؛ إذ قال: ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفاء أن لا تتعكر،
ونيران البغضاء أن تتسعر، وأن تنطبق علينا حكمة القائل: لا تنه عن خلق وتأتي
مثله لعرفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الإلحاد والزندقة، ومن الذي
يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة اهـ.
وجملة القول أنه ما كان ينبغي للعلامة كاشف الغطاء أن يوافق تلميذه السيد
الحسني على ما رمى به أهل السنة مثقفيهم وعامتهم من هذا الطعن غير المعقول،
وأن يزيد عليه بما يوهم أنه قليل مما يعلمه هو، وأن يجعله هو وما كتب في فجر
الإسلام داعيًا أو دافعًا إلى كتابة هذه الرسالة وما فيها مما يسوء أهل السنة من
الدعوى العريضة لنفسه وهضم حق غيره من أهل السنة على الإطلاق، ثم أن
يجعل ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها ردًّا عليه وإقناعًا للفريقين بالاتفاق مع
إقرار كل منهما للآخر على مذهبه، فإن الرسالة صريحة في ضد ذلك. وأما ما
كتبه في أصل الشيعة وأصولها فإننا نخصه بمقال ننشره بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
ـــــــــــــــــ(33/401)
رجب - 1352هـ
أكتوبر - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
سماع الغناء من آلتي الحاكي (الفونغراف) والمذياع (الراديو)
(س16) من صاحب الإمضاء في مليبار (الهند) تأخر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم.
إلى حضرة السيد الجليل المحترم صاحب الفضل والفضيلة محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله ونفعنا وجميع المسلمين بعلومه.
بعد التحية اللائقة بمقامكم الشريف وجزيل السلام ورحمة الله وبركاته
أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم منكم بالإجابة عليه سريعًا، ولكم
منا جزيل الشكر، ومن المولى عظيم الثواب والأجر.
هو: ما حكم آلتي الغناء المسماتين بفونوغراف وهارمونيا، هل يجوز
استعمالهما للمسلمين في الأفراح وغيرها، وهل يجوز الالتذاذ بسماع غنائهما أم لا؟
فالمرجو من فضيلتكم أن تجيبوا جوابًا شافيًا في العدد القريب من مجلتكم
المنار الغراء، لا زلتم ملجأ للمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد الكود نجيري
(ج) حكم الآلات الناقلة للأصوات أنه يجوز استعمالها والسماع منها لما
يُسْمَع من الناس وغيرهم بدونها، بل ربما كان السماع منهما جائزًا لما يُحْظَر
سماعه من الألسنة لعارض، كالسماع من المرأة لما يثير الافتتان بها عند من لا يعد
السماع منها محظورًا لذاته وهو الصواب، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلى الإطالة
إلا إذا كان للسائل شبهة فيها، وعليه إذًا أن يبينها في السؤال. فإن كان يرى أن
سماع الغناء محظور؛ لأنه مستلذ مطلقًا أو في غير العرس وقدوم المسافر كما يقول
به بعض الفقهاء وهو ما تشير إليه عبارته فسماعه من الآلة كسماعه من الناس وقد
بيَّنا في المجلد العشرين أن سماع الغناء ليس محرمًا لذاته فراجعوه.
* * *
حكم سماع القرآن من الآلات الحديثة
(س17) من صاحب الإمضاء بأسيوط
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فقد دار الحديث بيني وبين جماعة من إخواني
في سماع القرآن الكريم من الحاكي (الفنوغراف) هل يحل أو لا يحل؟ وهل إذا
كان جائزًا تترتب عليه آثاره من سجود عند سماع آية سجدة أو لا؟
وهل إذا سمع الإنسان قارئًا يقرأ القرآن في التليفون أو الراديو يكون كذلك أو
إن ذلك مشروط بالسماع من إنسان عاقل.
وكثر الجدل بيننا في هذا، وأخيرًا قد رأينا أن نتوجه بالسؤال لفضيلتكم علَّكم
تتكرمون بإفادتنا، أبقاكم الله ذخرًا للإسلام ومصدر نفع للمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمود حسين مهدلي
... ... ... ... ... ... ... المحامي الشرعي بأسيوط
(ج) القرآن هو القرآن وسماعه هو سماعه، لا يختلف حكمه باختلاف
وصوله إلى السمع بواسطة آله تنقل الصوت أو بغير واسطة؛ إذ الأداء واحد،
والمؤدي واحد، ومثله نقل القرآن بالكتابة لا فرق فيه بين رسمه بالقلم تحركه اليد،
ورسمه بالآلة الكاتبة أو آلة التلغراف أو آلة الطبع، ولا بين الحروف الكوفية
والنسخ وغيرهما على اختلاف الأشكال فيها، ما دام المقروء واحدًا لا يختلف وهو
المقصود منها. إذا علم هذا تبين به أن على سامع القرآن من الآلة أن يستمع له
وينصت متأدبًا معتبرًا، وأنه يسن له السجود إذا سمع آية سجدة وكان متوضئًا.
وقد كنت سئلت عن السماع من (الفونوغراف) في أثر شيوعه في بلاد
الإسلام ونشرت منها سؤالين في المجلد السادس (سنة 1325) وَرَدَا من سنغافورة
وأجبت عنهما جوابًا مفصلاً فيه بنيت فيه أن حكم سماع القرآن منه على قصد
السامع، وذكرت أن الأستاذ الإمام كان يتأثم منه مطلقًا، وأن بعض أصحاب العمائم
أباحه مطلقًا، وأن رأينا ما ذكرنا من قصد السامع هل الاتعاظ والاعتبار والتفقه
المأمور بها من يسمع القرآن؟ أم التلهي من بعض الناس؟ وجزمنا بأن هذا هو
المحظور؛ لأنه من اتخاذ الدين هزوًا ولعبًا، وذكرنا فيه حكم الأسطوانات هل
تسمى قرآنًا، ويكون لها حكم المصحف أم لا. فتراجع في ص 429-442 من
المجلد السادس.
ثم سُئلنا عنه في سنة 1345 فأجبنا عنه في صفحة واحدة من المجلد 28
(وهي ص 120) أحلنا فيها على الفتوى الأولى.
* * *
درجة حديث قراءة سورة يس على الميت
(س18) من صاحب الإمضاء في الجزائر
بما أننا على مذهبكم الحق مذهب السلف الصالح، وكان من مذهب مالك
رحمه الله كراهة القراءة على الجنائز وكراهة رفع الصوت خلفها، ولكن أتباع
مالك في المغربين تأصلت فيهم عادة قراءة سورة يس ورفع الصوت بلا إله إلا الله
خلف الجنازة بالرغم من إجماع مصنفي وشراح فقه مالك على كراهة ذلك، وأنها
ليست من فعل السلف كذا قالوا كلهم، ولكن كلهم قالوا: لا بأس بقراءة سورة يس
ما لم يقصد بها الاستنان محتجين بهذا الحديث الذي في النسائي ورواه أبو الدرداء
وإن الحديث - بزعمهم - مقدم على قول مالك إنه يعني شأن القراءة يس أو غيرها
ليست من فعل السلف، وكذا تمسكوا بأخبار واهية من أن عبد الله بن عمر أمر
بقراءة سورة البقرة إلى غير ذلك مما تمسكوا به؛ ولأنهم يتقاضون على ذلك الأجرة،
وإن الطبقة القراء الصغار عاشوا في هذه البدعة فانتصر لهم الفقهاء والشيوخ
الخرافيون كالدجوي إلخ، فالرجاء أن تفيدونا بدرجة الحديث هل يُعْمَل به كما ذكر
أو لا؟ ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الزواوي
(ج) حديث (اقرءوا يس عند موتاكم) وفي رواية (على موتاكم) هو
لمعقل بن يسار وهو ضعيف بالاتفاق، والمراد فيه من الموتى من حضرهم الموت
كما صرَّح به بعض المحدثين والفقهاء في شرحه، وما ذكرتم من مذهب مالك
رحمه الله في المسألة هو الحق وما ذكرتم من مخالفته فهو بدعة، والحديث المذكور
لا يُحْتَج به، وتجدون تفصيل الكلام في مُخَرِّجِيه ودرجته ومعناه وعمل الناس به
مفصَّلاً في الصفحة 265-268 من الجزء الثامن من تفسير المنار (الطبعة الأولى)
وهو في أثناء البحث الواسع المفصل في القراءة على الموتى وللموتى من آخر
تفسير سورة الأنعام.
* * *
أسئلة من بيروت
(س19-25) من صاحب الإمضاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة الآتية
راجيًا التكرم بالإجابة عليها.
(1) هل يجوز الاعتقاد والعمل بالأحاديث الموضوعة (المكذوبة)
والضعيفة في فضائل الأعمال وغيرها أم لا؟
(2) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان يجوز العمل بهما أم لا؟
وهما (يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) وفي رواية أخرى (آخر أربعاء في الشهر
يوم نحس مستمر) ، (يوم السبت يوم مكر وخديعة، والأحد يوم غرس وبناء،
والإثنين يوم سفر وطلب رزق، والثلاثاء يوم حديد وبأس، والأربعاء لا أخذ ولا
عطاء، والخميس يوم طلب الحوائج، والجمعة يوم خطبة ونكاح)
(3، 4) هل يستحسن زيارة المريض يوم الأربعاء والتزوج في شهر
جمادى الأولى والثانية أم لا؟ وهل ورد في ذلك كله شيء صحيح يُعْتَمَدُ عليه أم لا؟
(5) هل إذا أذنب الإنسان في الشهور والأيام الفاضلة كشعبان ورمضان
ويوم الخميس والجمعة وغيرها يزداد عذابه وعقابه في القبر وفي الآخرة عن باقي
الشهور والأيام الأخر أم لا؟
(6) هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح يُعْتَمَد عليه في
أفضلية الأعداد والسنين، والشهور والأيام، والأوقات والمأكولات، والمشروبات
والملبوسات وغيرها أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
(19) العمل بالأحاديث الموضوعة والضعيفة:
العمل بالأحاديث الموضوعة غير جائز بالإجماع بل بالبداهة، فإنها ليست
بأحاديث وإطلاق لفظ (حديث) على الموضوع مشروط بوصفه بالموضوع أو
المصنوع أو المكذوب، فالمراد باللفظ ما قيل إنه حديث وليس بحديث، وأما
الحديث الضعيف فقد اختلفت العلماء في جواز العمل به مع عدم الاستدلال به على
حكم شرعي فقيل بمنعه مطلقًا، وقيل بجوازه بشروط بيَّناها في المنار مرارًا آخرها
الفتوى 20 من المجلد 31 ص 127 فراجعوها.
(20) أحاديث يوم الأربعاء وأيام الأسبوع:
هذه الأحاديث موضوعة باطلة، وقد بيَّنا ذلك بالتفصيل في المجلد التاسع
والعشرين من المنار فتراجع في (ص 524) .
(21، 22) عيادة المريض يوم الأربعاء:
يوم الأربعاء كغيره من الأيام لا فرق بينها في زيارة الأهل والأصدقاء
وغيرهم وعيادة المرضى إلا إن كان الزائر أو العائد يعلم أن بعضهم يتشاءم ببعضها
ويكرهه فلا ينبغي له أن يؤذيه فيها.
(23) التزوج في شهري جمادى:
هذان الشهران كغيرهما من الشهور في التزوج فليس لهما مزية شرعية في
استحسانه ولا كراهته فيهما ولا مزيد فضيلة.
(24) الذنوب في الأيام والشهور الفاضلة:
الأيام والشهور في ذاتها لا تفاضُل بينها، وإنما الفضيلة فيما يُعْمَل فيها
ففضيلة رمضان في عبادة الصيام، وفضيلة الأشهر الحرام الثلاثة في أداء مناسك
الحج والسفر إليها والرجوع منها، وكان رجب يشاركها فيما سميت لأجله بالحرم
وهو تحريم القتال فيها، وفضيلة يوم عرفة وأيام التشريق ويوم الجمعة بما يعمل
فيها معروفة. ومن المعلوم بالبداهة أن الأيام التي شرع الله تعالى فيها عبادة خاصة
بها يكون فعل المعاصي فيها أقبح منه في غيرها وأدل على ضعف الإيمان وتعظيم
شعائره، وأن الجرأة عليها فيها تكون أفعل في إفساد النفس وتدسيتها الذي هو منشأ
عقاب الآخرة، كما أن تزكيتها هي منشأ ثوابها كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن
زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) ولكن لا يمكن تعيين زيادة
العذاب عليها في البرزخ الذي يعبر عنه بعذاب بالقبر ولا في الآخرة إلا بنص من
الشارع.
(25) أفضلية بعض الأزمنة والمآكل والملابس على بعض:
تقدم آنفًا أن بعض الأيام والشهور أفضل من بعض بما يُشْرَع فيها من عبادة
تُقَرِّبُ إلى الله تعالى وتُرْضِيه ويستحق بها العامل مزيد ثوابه إذا كان مخلصًا فيها،
وورد في الكتاب والسنة تفضيل بعض الأوقات بجعل ذلك كالدعاء، والاستغفار في
الأسحار، وصلاة التهجد وساعة الإجابة في يوم الجمعة وحكمة إبهامها، وأما
المآكل والأشربة والملابس فقد يفضل بعضًا بضعًا بمنافعها الصحية ولَذَّاتها لا
لِذَاتِهَا، وورد في بعضها أحاديث قليلة بيناها بمناسبات مختلفة، يقل فيها ما هو
ديني منها كملابس الإحرام بالحج والعمرة، وإن مثل هذه الأسئلة المجملة المبهمة
عن أمور كثيرة من الإرهاق الذي لا سبب له إلا تلذذ السائل لا الحاجة الدينية،
فالمرجو أن لا يسأل أحد إلا عن أمر معين يحتاج إلى معرفة حكمه أو حكمته.
* * *
شرب الدخان في مجلس القرآن
(س26) من صاحب الإمضاء من دمنهور:
حضرة أستاذي الجليل السيد رشيد رضا صاحب المنار، السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته. وبعد فنرجو نشر رأيكم في شرب الدخان في مجالس القرآن على
صفحات المنار، ولكم منا الشكر، ومن الله جزيل الثواب.
... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الرحمن الحاوي
... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بدمنهور شبرا
(ج) سبق لنا جواب عن مثل هذا السؤال في المنار خلاصته: أن هذا
العمل تابع للاعتقاد الشخصي والعرف، فمن كان يعتقد أن التدخين مباح وعرف
قومه وأهل بلده أنه لا ينافي الأدب فلا يُحْظَر عليه، ومن اعتقد أنه حرام أو مكروه
ففعلُهُ له في مجلس القرآن يزيده غلظة، وهكذا إذا كان عرف الناس أنه ينافي
الأدب فليس له أن يفعله، وإن اعتقد إباحته، والله أعلم.
__________(33/429)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
المستشرقون في موقفهم الخطير إزاء الإسلام
بقلم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان
(ونشرت في جريدة الجهاد)
هذه مسألة جلى لا يتنبه إليها الشرقيون كما يجب أن يتنبهوا، وكما هو شأنهم
في كثير من المسائل، ولكن عليهم من الآن فصاعدًا بعد أن زعموا كونهم تقدموا
ورقوا أن يتنبهوا لهذا الموضوع، وذلك أن أوربة عالم كبير قد أخذ بزمام العالم كله
في الوقت الحاضر وهو يتلقى معلوماته عن الشرق والشرقيين من طريقين:
أحدهما: طريق القناصل والسفراء والمعتمدين الرسميين وهؤلاء يكتبون عن
الشرق والشرقيين كل شيء ولا يكتمون حكوماتهم عنهما حديثًا إلا أن حكوماتهم
تتصرف بتقاريرهم كما تشاء بحسب أهوائها ومصالحها فهي تكتمها أحيانًا وقد
تطمسها طمسًا تامًّا حتى كأنها لم تُكتب ولم تتقدم، وهي تفشيها أحيانًا إذا اقتضت
ذلك سياستها، وكثيرًا ما تكتم شيئًا منها وتنشر شيئًا، وبالاختصار جميع تقارير
سفراء أوربة وقناصلها في الشرق هي رهن أغراض النظارات الخارجية في أوربة،
وإذا قلنا: إنها رهن أغراض نظارات أوربة الخارجية، فمعنى ذلك أنها رهن التغطية
والتمويه والتلفيق والتبديل والتعديل والفصل والوصل، وإنه لا شيء هناك يقال له
حقيقة بل لا يوجد هناك إلا ما يقال له: (مصلحة) .
وأما الطريق الثاني لمعرفة أحوال الشرق والشرقيين فهو طريق الاستشراق،
وذلك أنه يوجد في أوربة طبقة من المتعلمين تعنى خاصة بدرس اللغات الشرقية،
وكل ما يتعلق بالشرق وأهله، وهم يتنوعون في هذه الدروس فمنهم من يتخصص
بعلوم الصين، ومنهم من يتخصص بعلوم اليابان، ومنهم بالمعلومات عن الهند أو
عن الجاوى، ومنهم من يجعل همته منصرفة إلى الاستقصاء في أخبار فارس،
ومنهم من يوجه نظره إلى تركستان وغير ذلك. وإنَّ جانبًا عظيمًا من الاستشراق
وربما يكون هو الأعظم متوجه إلى درس الإسلام والبلاد الإسلامية من مشرقها إلى
مغربها.
وإن هذه الطبقة التي تعنى بشأن الإسلام والمسلمين هي التي تكيف المعلومات
الإسلامية في أوربة بكيفية نظرها وتمثيلها للعالم الإسلامي إن خيرًا فخير، وإن
شرًّا فشر، هذه الطبقة هي الترجمان الذي يلقي إلى ستمائة مليون أوربي وصف
أحوال الإسلام والمسلمين، فإن كان هذا الترجمان أمينًا تلقى هؤلاء الستمائة مليون
أوربي تلك المعلومات على وجهها، واعتدلوا بحق الإسلام والمسلمين، وإن كان
الترجمان خائنًا أو لئيمًا يُحَرِّف الكلم عن مواضعه ويقلب الحقائق عمدًا لمرض في
نفسه أو لإحنة في صدره، أمكنه أن يهيج من أحقاد الأوربيين الكامنة على
المسلمين، وأن يثير من عداوتهم لهم ما ليس لضرره حد؛ لأن العالم الأوربي إذا
فكر قال، وإذا قال فعل، وإذا فعل قام بانقلابات كثيرة، هذا إلى اليوم، ولا نعلم
ماذا يكون في الغد؟
فهل هذه الطبقة التي يصح أن يقال: إنها ترجمان العالم الإسلامي لدى العالم
الأوربي هي أمينة أم خائنة في الترجمة؟ الجواب عليه هو هذا البحث الذي نريد
الآن أن ننبه الأفكار إليه بعد أن نقرر أن هذه الطبقة هي التي تصور أحوال
المسلمين للأوربيين بحسب درجتي صدقها وكذبها أو درجتي علمها وجهلها.
من هؤلاء المستشرقين فئة ما استشرقوا ولا خَطَوْا خطوة في هذه السبيل إلا
لأجل أن يتعقبوا عورات الإسلام ومثالبه، ويخوضوا في أعراض المسلمين،
ويبحثوا عن زلاتهم؛ ليجسموها ويُبْرِزُوها لأنظار الأوربيين بالشكل المُسْتَبْشَع الذي
تنفر منه طباعهم، وتثور حفائظهم، وذلك حتى يزدادوا بغضًا للإسلام وبعدًا عنه،
وهذه الفئة من حيث إن أصل استشراقها هو العمل لخدمة المسيحية وتشويه الإسلام
بما أمكن لا تقتصر على تجسيم العورات إذا وقعت عليها، بل يبلغ بها سوء القصد
أن تقلب الحقائق قلبًا، وأن ترتكب التزوير عمدًا، وأن تأخذ بالحوادث الجزئية
فتعممها فتجعل منها قواعد، وكل شيء تعمله هذه الفئة على قاعدة (أن الغاية تبرر
الواسطة) فالإسلام بزعمها هو شر محض، فينبغي تنفير الناس منه بالحق
وبالباطل، وهذه الفرقة من المستشرقين كثيرة العدد يطول بنا تعدد أسمائها، ومن
جملتها لامانس اليسوعي البلجيكي ومارتين هارتمان الألماني، ومرغليوث
الإنكليزي، وفنسنك الذي ذكر عنه الدكتور حسين الهراوي أنه طعن في الرسول
عليه السلام، وأنا لم أقرأ طعن هذا، ولكنني قرأت مطاعن الآخرين، وقد نشرت
في (حاضر العالم الإسلامي) أسماء مشاهير المستشرقين الممتازين في التحامل
على الإسلام، فليراجع ذلك من أراد في ذلك الكتاب.
ومن المستشرقين فئة أخرى غرضهم أيضًا أن يخدموا المدنية الأوربية
والثقافة المسيحية، وأن يبثوها بما أمكنهم بين المسلمين، ولكنهم لا يستبيحون ما
تستبيحه الفئة الأولى من الكذب والبهتان، وقلب الحقائق واللوذ بكل عضيهة
للتمثيل بالإسلام وأهله، كلا هؤلاء يلتزمون في مباحثهم الطريقة العلمية التي
تقتضي معرفة الحق في أي جانب كان، ولكنهم لا يتحرجون عند أول فرصة تلوح
لهم أن يتولجوها ويحملوا على الإسلام باسم العلم بزعمهم، وأن يجسموا الهنات،
وأن يعمموا الجزئيات في الأحايين، وأن يتجاهلوا ما عندهم من الطامات الكبرى
التي لا تقاس إليها معايب الإسلام في كثير ولا قليل فهذه الفئة يتألف منها أكثر
المستشرقين وهم يعدون إجمالاً من ذوي الفضل على العلم، وممن يلزم أن يستفاد
منهم، ولكن مع دوام الحذر مما يلقونه أحيانًا من السموم بحق الإسلام مما يكون
ضرره أشد من ضرر الفئة الأولى التي بهتانها ظاهر للعيان، يمكن أن توصف هذه
الفئة (بالعدو العاقل) ومن هؤلاء الأستاذ ماسينيون الأفرنسي وسنوك هور كرونيه
الهولندي وغيرهما.
ومن المستشرقين فئة ثالثة قليلة العدد في أوربة إلا أن منها رجالاً محققين،
وهؤلاء يتحرون مزيد التحري، وينصفون الإسلام إنصافًا تامًّا لا يشوبه أدنى
تحامل، وإن بدر منهم انتقاد للإسلام في شيء فيكون عن اعتقاد أو وجهة نظر
نظروها أو خطأ وقعوا فيه لا عن سوء نية، ولا عن تعمد انتقاص، ولا أعلم في
هذه الطبقة أشهر من غولد سيهر المجري الذي هو في الحقيقة أفهم الأوربيين
لقواعد الإسلام ومنهم في الحياة الأستاذ كامفماير الألماني والأستاذ مونتا السويسري،
ومنهم كاراده فو الفرنسي صاحب كتاب مفكري الإسلام، ومنهم الدكتور مايرهوف
الألماني، ومنهم غروسه الفرنسي، ومنهم رينه الإفرنسي الذي بلغ به استشراقه
من حب الإسلام أن دان بالإسلام وحج البيت الحرام، ومنهم علماء آخرون
لست الآن في مقام استقصاء من جهتهم.
ولا شك أن الفئة الأخيرة قد خدمت الإسلام خدمات جلى في أوربة وحولت
كثيرًا من العقائد الباطلة بحق الإسلام عن مجراها الأول، وخففت كثيرًا من الأحقاد،
وصححت جمهرة من الأوهام، ولكنها مع الأسف لم تقدر أن تنسف تلك الجبال
المتراكمة من البغض والعدوان والعقائد الفاسدة بحق الإسلام والمسلمين؛ لأن التيار
الأصلي الباقي من القرون الوسطى لا يزال شديدًا.
كان زميلي إحسان بك الجابري يتحدث منذ يومين إلى مهندس كبير قد يكون
أشهر مهندس في سويسرة وهو من كبار المفكرين فقال لزميلي: نشأنا من الصغر
في بغض الإسلام وربانا آباؤنا ومعلمونا على مبادئ من العداوة للإسلام نحن الآن
نعلم بطلانها، لكننا بحكم الاستمرار لا نقدر أن نتخلص منها)
إن غوته الشاعر الألماني الأكبر الذي يقول الألمان: إنه أكبر دماغ ظهر في
ألمانية، وكان شبان الألمان ينتحرون من تأثير بعض رواياته الشعرية، نعم غوته
هو نفسه قال - وكلامه هذا مُدَوَّنٌ عنه-: إذا كان هذا هو الإسلام أفلسنا كلنا
مسلمين؟
هذا الرجل الذي سحر ناشئة الألمان في عصره ولا يزال يسحرها إلى الآن قد
عجز عن أن ينسف ما تراكم من الأوهام المتكاثفة بحق الإسلام في ألمانية، هذا
والألمان أقل الأمم الأوربية تحاملاً على الإسلام والمسلمين فما ظنك بغيرهم؟
حرَّر الأستاذ الحجة السيد رشيد رضا في المدة الأخيرة كتابا أسماه (الوحي
المحمدي) من أنفس ما كتبه المسلمون في هذا العصر وكل عصر، وكأنما كتبه
تلقاء الانتقادات الأوربية التي تتوجه على الإسلام، إما عن تحامل وعداوة، وإما
عن جهل المستشرقين حقائق كثيرة فاتتهم، أو عن جهل المؤلفين المسلمين أنفسهم
بحقائق دينهم وبكيفية الدفاع عنهم إلا من عصم ربك، أو بعدم فهم الكثيرين منهم
لأسرار الشرع المحمدي، وقد أهديناه إلى من نحسن الظن فيهم من المستشرقين
فلعلهم ينتدبون لترجمته إلى اللغات الأوربية [1] فتتبدد به أوهام، وتنقشع ضلالات،
ويتجلى ما في المطاعن على أحكام القرآن من المُحَالات، فالذي يوفق إليه الأستاذ
صاحب المنار في هذا الباب لا يوفق إليه غيره.
وأما الخلاصة التي أريدها من هذه المقدمات فليست إخراج المستشرق فنسنك
من المجمع اللغوي المصري، هذا شيء يعني الحكومة المصرية ورعاياها
المصريين وهي أدرى بشغلها، وأنا لست من مصر ولا أقدر أن أطأ بقدمي أرض
مصر، ولكن أريد تنبيه اللجنة المنتدبة لترجمة الإنسيكلوبيذية الإسلامية إلى العربية
إلى شيء وهو أنه مع كون ترجمة هذه الإنسيكلوبيذية هي في الدرجة القصوى من
الإفادة، بل هي ضرورية لناشئة العالم الإسلامي لا تخلو من تحاملات منكرة على
الإسلام، ومن غلطات وخبطات علمية في مباحثها التي تولاها بعض الفئة الأولى
المتحاملة من المستشرقين، فإن تحرير هذا الكتاب تشطره عدد كبير من
المستشرقين، وكل منهم كتب بحسب معرفته، ومنهم من كتب بمقتضى هواه أيضًا،
فعلى لجنة الترجمة التي يجب أن يكون فيها الأديب والمؤرخ والجغرافي والفلكي
والرياضي والكيماوي والجيولوجي والطبيب والفقيه والفيلسوف والمتكلم؛ لتكون
الترجمة صحيحة أن يكون بجانبها لجنة تضع في الحواشي تصحيح ما يجب
تصحيحه من الأغلاط، وتستدرك أيضًا على فوات المتن، وإلا فنكون أدخلنا في
عقول ناشئتنا الجديدة ضلالات لا تحصى باسم العلم والفن وحرية الفكر والاستنتاج
التحليلي وغير ذلك من الألفاظ التي يلوكها بعض الأوربيين في تسمية سمومهم
الخبيثة، ودسائسهم المنكرة لحمل المسلمين على اتخاذ ثقافتهم، والتحول عن
الإسلام، فنحن من هذا البلاء في المقيم المقعد الذي يكفينا بدون ترجمة أنسيكلوبيذية
إسلامية يحرر فيها لامنس وأضرابه، فكيف إذا أصبحنا نأخذ أخبار الإسلام
والمسلمين عن هؤلاء ولا ننبه عليها؟
إليك الدليل على تحامل لامنس ومحاولته قلب الحقائق العلمية ما أرسل به إليَّ
أحد أصحابي من مصر من مقال في الأهرام ينقل كلام لامنس عن عرب الأندلس
وهو بحرفه: (لم يكن بين المسلمين الذين قاموا بفتح الأندلس إلا القليل من
العنصر العربي الخالص، فكان منهم قواد العسكر وأصحاب الرتب فيه ليس غير.
أما أكثرية الجيش فكانت مؤلفة من البربر والأفريقيين وفضلا عن ذلك فإن عدد
العرب الأقحاح كان ينقص باطراد متواصل بسبب الحروب الأهلية. فإذا تقرر هذا
رأينا أنفسنا مدفوعين إلى الإقرار مع الأستاذ ريبيره بأن نسبة العنصر العربي في
تكوين الشعب الأسباني المسلم قليلة جدًّا، ومن ثم فلا شيء يجيز لنا نعت مسلمي
الأندلس بالعرب، إلى غير ذلك من الهذيان الذي هذاه لامنس اليسوعي ومن قبله
صاحبه العالم الأسبانيولي. العرب يفتخرون بمدنيتهم الأندلسية، والإسلام يتخذها
حجة على أهليته للتمدين والتثقيف والسبق في ميدان الحضارة، وهذا بيت القصيد،
فلامنس اليسوعي يريد إنكار هذه الحقيقة التي تأتي بعكس ما يقرره دائمًا هؤلاء
المتحاملون من أن الإسلام لم يوفق حتى الآن إلى تأسيس مدنية راقية. ولما كانت
هذه المقالة قد طالت وكان الرد على كلام لامنس هذا بالأدلة العلمية القاطعة يأخذ
بعض أعمدة من (الجهاد) فإننا نرجئ هذا الرد إلى عدد قادم إن شاء الله.
(المنار) أشكر لصديقي الأمير شكيب هذا البيان لحقيقة حال جماعة
المستشرقين وأصنافهم الثلاثة، ثم أشكر له سلفًا ما سيرد به على لامنس اليسوعي
المشهور بغلوه في عيوب طغمته وشرها الكذب، وتحريف الكلم فيما ينشرون من
الكتب، والخيانة في العلم والأدب لخدمة سياستهم الدينية على قاعدتهم المشهورة
(الغاية تبرر الواسطة) عرفت هذا منذ كنت تلميذًا بتحريفهم لكتاب الألفاظ الكتابية،
وإني على اعتقادي بأن أمير البيان سيفضح لامنس في رده عليه بما هو أحق به
وأهله، وقلَّ أن يقدر عليه غيره، لا يسعني إلا أن أسبقه فأقول للامنس: إن
العرب نزلوا كالغيث من سماء الإسلام على جميع الأقطار فأحيوا جميع الشعوب
الآسيوية والأفريقية والأوربية وأصلحوا إفساد حضارتهم ومللهم وأديانهم على قلة
عددهم في كل قطر، فإن كانوا وجدوا عونًا لهم من أبنائهم البربر الذين مدينوهم
بالإسلام على فتح الأندلس، فالفضل الأول على الفريقين لهم، وإلا فلماذا لم يفعل
ذلك البربر في أنفسهم قبلهم، فالعرب كانوا أقلية في غير الأندلس، ولكن قليلهم لا
يقال له قليل، فهم كالملح قليله يصلح الطعام، وكالنور شعلة منه تطرد الظلام،
ولولا أن تداركوا العالم بالإسلام، لقضت محاكم التفتيش الكاثوليكية على حضارة
جميع الأقوام.
__________
(1) إنني طلبت من صديقي الأمير شكيب عناوين من يعرف من المستشرقين الذين يعرفون لغتنا وأرسلت كتاب الوحي إلى كل من أرسل إليَّ عناوينهم، ووعد بإرسال غيرها وغرضي من الإرسال إليهم إقامة حجة الإسلام عليهم بوقفهم على حقيقته والوقوف على آرائهم فيه بعدُ، وإني لأنتظر منه إرسال عناوين أخرى.(33/435)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصل الشيعة وأصولها
قرظنا في الجزء السابق هذه الرسالة التي ألفها علامة الشيعة ومجتهدها الشيخ
محمد آل كاشف الغطاء الشهير؛ لدعوة أهل السنة إلى مذهبه ونشرها الأستاذ
اللبيب الأريب زميلنا صاحب مجلة العرفان، ورأينا من الواجب علينا أن نكتب
مقالاً آخر نبين به بعض ما انتقدناه عليها من جهة الغلو الذي اعتاده علماء الشيعة
حتى صارت العادة عندهم عبادة، ومن ناحية ضعفهم في علم الحديث ولا سيما
روايته وما يصح منه وما لا يصح بحسب أصول العلم وقد نشير إلى ناحية ثانية
هي ناحية التاريخ، ولا نعرض للخوض في مسألة الإمامة ولا مسألة عصمة الاثني
عشر التي هي أساس المذهب؛ لأنها مفروغ منها في المؤلفات القديمة وليست
عملية في هذا الزمان، وما كان الجدال في أصول المذاهب إلا ضررًا لأهله في
دينهم ودنياهم في كل زمان، وشر ضرره تفريق الكلمة وتمزيق نسيج الوحدة؛ لأنه
مبني على عصبية المذاهب، ولن تكون إلا تقليدية وما أضيع البرهان عند المقلد،
وأبدأ بكلمة في الغلو فأقول:
من هذا الغلو إطراء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه المتضمن لاحتقار
الإسلام وما يستلزمه مما لا يحسن التصريح به، بما أنكرناه على السيد عبد الحسين
نور الدين العاملي من قبل فلم يمنع ذلك الأستاذ كاشف الغطاء أن يعيده مُقِرًّا له من
بعد؛ إذ قال في أول ص 21 بعد ذكر من سمى من الصحابة في الشيعة ما نصه:
(ولكن ما أدري أهؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام أم إمام الشيعة علي بن أبي طالب
الذي يشهد الثقلان أنه لولا سيفه ومواقفه في بدر وأحد وحنين والأحزاب
ونظائرها لما اخضر للإسلام عود وما قام له عمود حتى كان أقل ما قيل في ذلك
عنه المعتزلي أحد علماء السنة (! !) :
ألا إنما الإسلام لولا سهامه ... كعفطة عنز أو قلامة ظفر
هذا ما كتبه مجتهد النجف الأكبر وعلامته الأشهر ثم فسره بمختصر مما فسره
به عبد الحسين نور الدين العاملي وضرب له هذا المثل الشعري الإلحادي.
الله أكبر ودينه الإسلام أعلى وأظهر وأذكى وأطهر وأعز وأقهر من تشبيه هذا
المعتزلي الرافضي - لا السني - له بضرطة أنثى المعز وقلامة الظفر.
نعم إن دينًا سماه الله دينه وأتمه وأكمله ووصفه بما وصفه ووعد بإظهاره
على الدين كله وإتمام نوره بقدرته وفضله، وبعث به خير خلقه محمدًا رسول الله
وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وجعل ملته هي الباقية إلى يوم الدين وأيده
بملائكته فوق تأييده بالمؤمنين، وإن دينًا هذا شأنه يجب على كل مؤمن به أن يوقن
أنه أجل وأكبر وأعظم وأعلى وأسمى وأرفع وأمنع من أن يتوقف ظهوره ونوره
ونصره وبقاؤه على جهاد أي فرد من أفراد المؤمنين، وأن يكون من امتهنه بأنه
لولا فلان من أتباعه لكان كضرطة أنثى المعز أو قلامة الظفر التي تلقى وتداس
بالنعال جديرًا بأن يكون من أجهل الناس به وأبعدهم عن الإيمان به واتباعه، وإن
وصفه مجتهد الشيعة بأنه من المعتزلة علماء السنة، ومتى كان المعتزلة من علماء
السنة , فأين علم هذا المجتهد الكبير بالمذهب والتاريخ؟
لو كنا نريد أن نتكلم في أصول المذاهب لبينا للقارئ أي الفريقين تبعت
المعتزلة فيما خالفوا فيه السنة من تحكيم عقولهم في تأويل كلام الله وكلام رسوله
وغير ذلك.
وشر من قول هذا المعتزلي بل الزنديق المحتقر للإسلام قول من جعل ذمه
وإهانته له أقل ما يقال فيه , فأي شيء أقل من ضرطة العنز وقلامة الظفر؟ ! أهذا
هو مذهب الشيعة الذي يدعي العلامة كاشف الغطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم
هو الواضع له فهذا مثل من غلو القوم اللاشعوري.
نعم إنه ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع أصل مذهب
الشيعة وأن خيار أصحابه تلقوه عنه، ثم كان أئمة الإسلام من مدوني كتب السنة
حفاظ الحديث والمفسرين وسائر علماء الملة منهم إلخ.
من الغريب أن يحتج على هذا الأصل بروايات يعزوها إلى الكتب المعتمدة
عند أهل السنة، وما أدري أعلمه بالروايات المعتمدة عند أهل السنة كعلمه بكون
المعتزلة منهم؟ أم هو يتعمد التدليس والإيهام؟ كل ذلك جائز، وهو ما تراه في
أول ص 41 وما بعدها جوابًا عن سؤال أورده:
قال: (إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب
الشريعة الإسلامية - يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبًا إلى جنب
وسواء بسواء، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في
حياته، ثم أثمرت بعد وفاته. وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشريفة لا من طريق
الشيعة ورواة الإمامية حتى يقال: إنهم ساقطون؛ لأنهم يقولون بالرجعة أو أن
راويهم (يجر إلى قرصه) بل من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم، ومن
طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع. وأنا أذكر جملة ما علق
بذهني من المراجعات الغابرة، والتي عثرت عليها عفوًا من غير قصد ولا عناية:
(فمنها ما رواه السيوطي في كتاب (الدر المنثور، في تفسير كتاب الله
بالمأثور) في تفسير قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) قال:
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه
وسلم فأقبل علي عليه السلام فقال: (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون
يوم القيامة) ونزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7)
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ} (البينة: 7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (أنت
وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين) (؟)
وأخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم (ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ
خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت
الأمم للحساب تدعون غرًّا محجلين) انتهى حديث السيوطي، وروى بعض هذه
الأحاديث ابن حجر في صواعقه عن الدارقطني وحدَّث أيضًا عن أم سلمة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في
الجنة) .
(وفي نهاية ابن الأثير ما نصه في قمح: وفي حديث علي عليه السلام قال
له النبي صلى الله عليه وسلم: (ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين
ويقدم عليه عدوك غضابًا مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح)
انتهى وببالي أن هذا الحديث أيضًا رواه ابن حجر في صواعقه وجماعة آخرون من
طرق أخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث.
(والزمخشري في (ربيع الأبرار) يروي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى وأخذت أنت
بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم فترى أين يؤمر بنا) .
ولو أراد المتتبع كتب الحديث مثل مسند الإمام أحمد بن حنبل وخصائص
النسائي وأمثالهما أن يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه. وإذا كان نفس
صاحب الشريعة الإسلامية يكرر ذكر شيعة علي ويُنَوِّهُ عنهم بأنهم هم الآمنون يوم
القيامة وهم الفائزون، والراضون والمرضيون، ولا شك أن كل معتقد بنبوته
يصدقه فيما يقول، وأنه لا ينقل عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فإذا لم يصر
كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيعة لعلي رضي الله عنه فبالطبع والضرورة
تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة
معناه لا بضرب من التوسع والتأويل.
تعليقنا الوجيز على هذه الدعوى وأدلتها:
أقول: (أولا) إن هذه الأحاديث التي اعتمد عليها في بيان أصل الشيعة لا
تصح رواية لشيء منها ألبتة، ولذلك لم يخرج شيئًا منها مصنفو الصحاح كالإمام
مالك والبخاري ومسلم ولا من بعدهما - ولا أحد من أصحاب كتب السنن كالأربعة
المشهورة، ولا مما قبلها من المسانيد كمسند الإمام أحمد ومسند إسحاق بن راهويه
ومسند ابن أبي شيبة ومسند الطيالسي، على ما في هذه السنن والمسانيد من
الأحاديث الضعيفة، بل لم يخرجها الحاكم في مستدركه ولا عبد الرزاق في مسنده
ولا مصنفه على ما فيها من الأحاديث الموضوعة وشدة عنايتهما بجمع مناقب علي
وآل بيته عليهم السلام، وإنما خرَّجها بعض الذين عنوا بجمع كل ما روي من
الشواذ والمناكير والموضوعات أيضًا، ولا سيما رواة التفسير المأثور التي عني
السيوطي بجمعها في كتابه الدر المنثور ويكثر إيراد مثلها المصنفون في المناقب
والفضائل بغير تمييز، ولا سيما الجاهلين بعلم الرواية ومنهم الواحدي والزمخشري
الذين أوردوا في تفاسيرهم الأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة
ونقلها عنه البيضاوي. وكلها موضوعة، اعترف واضعوها بوضعها عند سؤالهم
عنها كما نقله السيوطي في الإتقان (ص 155 ج 2) وقد اشتهر عن الإمام أحمد
أنه قال: ثلاثة ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازي - يعني من الأحاديث
المرفوعة - وذلك أن أكثر ما روي فيها مراسيل لا يعلم الساقط من سندها وتكثر
فيها الإسرائيليات وأقوال أهل الأهواء.
ثانيًا: إن ما نقله السيوطي منها في تفسيره (الدر المنثور) من الروايات عن
ابن عساكر وابن عدي وابن مردويه هو حديث واحد في موضوعه، وهو سبب
نزول آية البينة، وهو لم يذكره في كتابه (الباب المنقول في أسباب النزول) لأنه
من القشور الواهية لا من اللباب، ولهذا لم يروها الإمام الطبري ولم ينقلها الحافظان
البغوي وابن كثير وأمثالهما في تفاسيرهم ولا مفسرو المعقول.
(ثالثًا) إن ما ينقله السيوطي في هذه الكتب لا يقال: إنه هو الذي رواه كما
يقول الاستاذ كاشف الغطاء فيه وفي الزمخشري وابن حجر الهيتمي ويقول مثله
غيره من علمائهم في كل ما ينقلونه عن أي كتاب ألفه أحد المنسوبين إلى مذهب
السنة ليحتجوا به على أهل السنة كما بيناه في الرد على الأستاذ السيد عبد الحسين
نور الدين العاملي فالفرق بين الراوي والناقل معروف عند جميع أهل الحديث
وجميع أهل العلم، وأكثر الذين رووا الأحاديث بأسانيدهم لم يلتزموا الصحيح منها
بل منهم من تعمد رواية كل ما سمعه حتى الموضوع المفترى اعتمادًا على التفرقة
بينهما بمعرفة رجال أسانيدها، ومنهم من اجتنب الموضوع دون الضعيف، وأكثر
الغافلين عنهم من غير المحدثين كالرمخشري والرازي لا يميزون بين الصحيح
وغيره، وما كل المميزين يلتزمون نقل ما يصح أو يبينون درجته إلا قليلاً، ولا
سيما أحاديث المناقب والفضائل حتى مناقب النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل
نبوته ومناقب آله وأصحابه ومن دونهم فأكثر روايات دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم
وحلية الأولياء ضعيفة وفيها موضوعات كثيرة.
(رابعًا) أن الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي وهو من مثل الفقهاء غير المحدثين
نقل في كتابه الصواعق ما رآه من هذه الروايات التي فيها ذكر الشيعة وصرَّح
بضعف بعضها وكذب بعض. و (قال) في ص 94: إن المراد بشيعته أهل السنة
والجماعة لا مبتدعة الروافض والشيعة فإنهم من أعدائه لا من شيعته وأورد عنه
كرم الله وجهه ما استدل به على ذلك، وأعاد هذا في ص 95 ثم قال في 98 بعد
الإحالة على ما تقدم فيهم، وفي رواية أحمد في المناقب التي ذكر فيها اللفظ إنما هم
شيعة إبليس، ثم قال: فاحذر من غرور الضالين وتمويه الجاحدين الرافضة
والشيعة، ثم ذكر حديث الدارقطني عن علي وأم سلمة، وهو حجة له على
الشيعة ولذلك يذكر كاشف الغطاء نصه، بل كشف عن بعضه وغطى بعضًا، فنص
الأول: (يا أبا الحسن أما أنت وشيعتك ففي الجنة، وإن قومًا يزعمون أنهم يحبونك
يصغرون الإسلام ثم يلفظونه، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة يقال لهم
الرافضة، فإن أدركتهم فقاتلهم إنهم مشركون) وفي رواية أم سلمة زيادة في
علامتهم من ترك الجمعة والجماعة والطعن على السلف (قال) : وشيعته هم أهل
السنة؛ لأنهم هم الذين أحبوه كما أمر الله ورسوله، وأما غيرهم فأعداؤه في الحقيقة
إلخ.
(خامسًا) علم من هذا أن قوله: إنه ينقل الأحاديث الشريفة في أصل مذهب
الشيعة من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم ومن طرقهم الوثيقة إلخ غير صحيح
فإنه لم يذكر شيئًا من طرق الأحاديث التي نقلها، وإنما نقلها من غير كتب رواتها،
بل لا يعرف تلك الطرق ولا رآها، ولو رآها لما عرف صحيحها من سقيمها، فإن
ادعى أنه يعرف هذا وذاك، وأنه قال ما قال عن معرفة، فإننا نسأله: لِمَ لَمْ يذكرها؟
ثم نتحداه بأن يبين لنا هذه الطرق، وينقل لنا أقوال علماء الجرح والتعديل في
رجال أسانيدها، ومن المعلوم بالبداهة أن نقل هذا بعد تحدينا إياه به لا يدل على أنه
كان يعلمه قبله، وهو على كل حال لن يكون إلا حجة عليه.
(سادسًا) قوله: إنه لا ينقل من طريق الشيعة؛ لئلا يقال ما ذكره - فيه:
إن أئمة أهل الحديث لا يقولون مثل هذا القول فيهم كلهم، وقد عدلوا كثيرًا من
رجال الشيعة في الرواية فليأتنا بما شاء من رواياتهم بطرقهم المتصلة إن وجدت.
(سابعًا) إن ما نقله عن ربيع الأبرار للزمخشرى المعتزلي هو باطل المتن
على حسب أصول المعتزلة والشيعة الذين يُحَكِّمُون عقولهم في الروايات الصحيحة
فيردونها أو يؤولونها بل يؤولون آيات القرآن التي توهم التشبيه بزعمهم، فكيف
يقبلون حديثا لا يصح له سند، ولا يظهر له تأويل تقبله اللغة، وهو جعل الشيعة
كقطار آخذ كل واحد منهم بحجزة الآخر، وهي معقد إزاره يكون أوله رب العالمين
له حجزة يأخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ} (الصافات: 180)
وجملة القول: أن هذه الروايات التي أوردها الأستاذ كاشف الغطاء لا يصح
منها شيء ألبتة، ولا يعتد بإيهامه لقارئ كلامه أنها أقرب ما علق بذهنه عرضًا من
روايات المحدثين الكثيرة المعتمدة أو المتواترة عند أهل الحديث، وأنه لو شاء
لأورد أضعافها وجعلها في معنى الوحي الواجب اتباعه، فلو كان في كتب الصحاح
أو السنن شيء منها، ولو واحدًا لكان أولى منها كلها. ولو رجعنا إلى أسانيدها
وبيَّنا علة كل منها لطال الكلام في غير طائل، وإنما البينة على المدعي وإنا نتحداه
ونتحدى غيره أن يأتونا بسند حديث واحد (منها) رجاله رجال الصحيح.
ثم نقول (ثامنًا) إن فرضنا أنه صح حديث مرفوع في ذكر شيعة علي فإننا
ننقل الكلام إلى المراد منه في اللغة، وقوله تعالى في موسى عليه السلام: {هَذَا
مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: 15) فنقول: إنهم هم الذين اعتقدوا أنه
هو الذي كان على الحق فنصروه على من عادوه وتبرءوا منه وحاربوه من
الخوارج، وكذا معاوية وأتباعه خلافًا لابن حجر الهيتمي وأمثاله الذي يخرجون
هؤلاء منهم بحجة أنهم كانوا مجتهدين متأولين فلهم أجر واحد، ولعلي وأتباعه
أجران، فإن متبع الحق مستقل الفكر فيه بلا هوى ولا تعصب لمذهب يجزم بأن
معاوية نفسه كان باغيًا خارجًا على الإمام الحق كالخوارج، وأنه طالب ملك،
ويؤيد ذلك إكراه الناس على جعل هذا الملك لولده يزيد المشتهر بالفسق، وأن بعض
الخوارج كانوا متأولين كبعض أصحاب معاوية الذين اعتقدوا أنه كان على حق في
مطالبته بدم عثمان، فمجموع كل من الفريقين بغاة خارجون على إمامهم الحق،
وأفرادهم يتفاوتون في النية والقصد، كتفاوتهم في العلم والجهل، وحكمه كرم الله
تعالى وجهه عليهم في جملتهم هو الحق، وهو أن بغيهم لا يُخْرِجهم من الإسلام،
وإن كلمته عليه السلام: (إخواننا بغوا علينا) لكلمة لو وزنت بالقناطير المقنطرة
من اللؤلؤ والمرجان، لكانت ذات الرجحان في هذا الميزان.
هذا ما يصح به تفسير شيعته في عهده، فإن صح إطلاق هذا اللقب على أحد
من بعده فيجب إطلاقه على كل من يقولون: إنه كان هو الإمام الحق في زمن
خلافته كما كان على الحق في مبايعة الأئمة الثلاثة من قبله، وجميع أهل السنة
يقولون بهذا حتى الذي يعذرون بعض المخالفين له بالتأويل على قاعدتهم فيمن
يخالف بعض ظواهر القرآن والسنة الصحيحة عندهم متأولاً.
ولا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر لفظ الشيعة في الحديث على فرض
صحته بمذهب ديني فإن أساس الدين الإلهي الوحدة والاتفاق في جميع العقائد
والمقاصد والأصول القطعية، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) الآية، فالشِّيَع
في الدين باطلة، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء منها بنص القرآن فكيف
يكون هو الواضع لأصولها.
كذلك لا يصح أن يكون الغلاة في علي وأولاده وأحفاده عليهم السلام من
شيعته، ولو بالمعنى الأعم؛ لأن الغلو في دين الله مذموم في كتاب الله وعلى لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم وقد روي عنه في نهج البلاغة وغيره أنه قال: (هلك
فيَّ رجلان: مُحِبٌّ غالٍ، ومبغض قَالٍ) ، ولا شك في أن من أقبح الغلو فيه أن
يقول: إن دين الله الإسلام لم يكن لولا سيفه إلا...... ولا نحب أن نتوسع في بيان
غلو من يبرءون أنفسهم من الغلو ويخصون به من اتخذوه إلهًا، على أن الشيعة
الإمامية يعدون منهم خلفاء مصر العبيديين كما شهد لهم عميدها الشريف الرضي،
وهم الذين يقول شاعر المعز منهم فيه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار
دع دعايتهم الإلحادية التي فصَّلها المقريزي في خططه. وقال فيهم حجة
الإسلام الغزالي: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، فهل هذا كله مما
وضعه النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الشيعة؟
وخلاصة الخلاصة أن ما نقله مجتهدهم من الروايات لإثبات أصل مذهب
الشيعة لا يصح أن يثبت بها أي مسألة من الفروع العملية كالطهارة والنجاسة والبيع
والإجارة، وأنها لا تدل على شيء من أصول هذا المذهب، في عصمة الأئمة وفي
الإمامة وفي تحكيم الآراء العقلية في العقائد الدينية ولا من فروعه، كذلك لا يصح
شيء مما قاله في عدِّ بعض الصحابة وغيرهم من أتباع هذا المذهب، وليس من
غرضنا أن نتكلم في المذهب نفسه، ولا في فرق الشيعة من غلاة، وهم درجات
من باطنية وظاهرية ومن معتدلين كالزيدية. فإن الخوض في هذا كان أكبر
المصائب الممزقة للأمة الإسلامية. ولا يزال الذين يثيرونها لأجل المحافظة على
جاههم ومنافعهم أشد الناس جناية عليها، وإن سخر بعضهم منها بزعمه الدعوة إلى
التأليف بين فرقها، وجمع كلمتها. وما هو إلا داع إلى مذهبه، مضلل لمتبعي
غيره، وهذا هو التفريق بعينه:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
__________(33/441)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مباحث الربا والأحكام المالية
(كنا شرعنا في كتاب بحث فياض في تحرير حقيقة الربا وأحكامه وما
يتعلق به من الأحكام المالية في العقود والشركات والمصارف وغيرها؛ لكثرة ما
يستفتينا الناس فيها من الأقطار المختلفة، بدأناه برسالة الاستفتاء في حقيقة الربا
التي نشرتها حكومة حيدر آباد الآصفية الهندية ووزعتها مطبوعة على أشهر علماء
الأقطار الإسلامية، وسألتهم عن رأيهم في إفتاء مفتيها في المسائل الأربع التي
حصرت الموضوع فيها، وقفينا عليها بتخطئة ما اعتمده محرر هذه الرسالة في
حقيقة الربا؛ بناء على مذهب الحنفية وبنى عليه فتواه، وبينا آراء محققي
المفسرين من علماء مذاهب السنة في القرآن والشيعة وأقوال المحدثين والفقهاء،
وجعلنا نتيجة هذه النقول بيان حقيقة الربا القطعي المنصوص فيه، وهو ربا النسيئة،
وعقدنا بعده فصلاً مهمًّا في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته بالقطعي والظني
المنصوص، وإبطال دليلهم على هذا الإلحاق. وانتهى بنا البحث إلى الوعد بالكلام
على الحِيَل في الربا وغيره في أول المجلد 31 (ص37) .
وههنا وقفنا، وأرجأنا وسوَّفْنَا في إنجاز وعدنا، إذ كنا عزمنا على تحرير
الموضوع بالاستقصاء لأدلته وفروعه بنصوص المختلفين فيه، وهو ما حال دونه
كثرة أعمالنا إلى الآن، ورأينا أنها لا تزال تزداد، فرَّجَحْنَا أن نكتفي بخلاصة آراء
فقهاء المذاهب ورأينا فيها وهو ما يرى القارئ في الفصل التالي.
***
فصل في الحيل في الربا وغيره
الحيلة اسم أو هيئة من حال الشيء يحول إذا تغير حاله أو لونه أو صفته أو
وضعه أو مكانه، وأصلها حولة كحكمة، فقلبت الواو ياء؛ لكسر ما قبلها. قال في
الأساس: حال الرجل يحول حولاً إذا احتال ومنه (لا حول ولا قوة إلا بالله)
وحال الشيء واستحال تغيَّرَ، وحال لونه، وحال عن مكانه تحول - إلى أن قال -:
وحاوله طلبه بحيلة اهـ. وفي المصباح المنير: والحيلة الحذق في تدبير الأمور،
وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود، وأصله الواو، واحتال طلب الحيلة
اهـ.
وقال الراغب في مفردات القرآن: والحيلة والحويلة: ما يتوصل به إلى
حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه
حكمة؛ ولهذا قيل في وصف الله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} (الرعد:
13) - بكسر الميم - أي الوصول في خفية من الناس إلى ما فيه حكمة، وعلى هذا
النحو وصف بالمكر والكيد لا على الوجه المذموم، تعالى الله عن القبيح اهـ.
وذكر قبل ذلك أن من الأمثال (لو كان ذا حيلة لتحول) .
وأقول: إنه قال في المكر والكيد كما قال في الحيلة والمحال أنه يكثر
استعماله فيما فيه خبث أو قبح، وسببه كما بيناه في التفسير أن أكثر ما يخفي الناس
هو ما يعد عندهم قبيحًا أو ضارًّا ولو بأعدائهم وخصومهم، وما لو ظهر لحبط وفسد
عليهم وعجزوا عن إتمامه كما يقع في الحرب وشئون السياسة. ولم يرد لفظ الحيلة
في القرآن إلا فيما هو واجب منها، وهو قوله بعد وعيد الذين يتركون الهجرة من
دار الكفر والظلم إلى الإسلام والعدل: {إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (النساء: 98-99) الآية.
وأول من أدخل الحِيَل في الشرع أبو حنيفة وأصحابه، وأول من ألف فيها
القاضي أبو يوسف ألف كتابًا مستقلاًّ سمَّاه (كتاب الحيل) وتبعه فقهاء مذهبهم فهم
يذكرون في كتب فقههم أبوابًا للحيل التي يصفونها بالشرعية، ووافقهم الشافعية في
أصل جواز الحيل، وقال بحظرها فقهاء المالكية والحنابلة.
وفي الجامع الصحيح للبخاري كتاب خاص سماه (كتاب الحيل) فتح فيه
أبوابًا أورد فيها ما صح على شرطه متعلقًا بالحيل والدلالة على كراهة الشرع لها.
أولها (باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها) وأورد
فيه حديث (إنما الأعمال بالنية) الذي افتتح به صحيحه برواية (بالنيات) أشار
بهذه الترجمة إلى أن جميع الأحكام الشرعية من فعل وترك تدخل في عموم هذا
الحديث خلافًا لمن خصَّه بالعبادات وما في معناها كالأيمان. وسائر أبوابه في
الصلاة والزكاة والنكاح والبيوع والغصب والهبة والشفعة والاحتيال للفرار من
الطاعون واحتيال العامل (أي عامل السلطان) ليهدى له. وقد كتب الحافظ ابن
حجر على عنوان (كتاب الحيل) في شرحه له (فتح الباري) ما نصه:
الحيل: جمع حيلة وهي ما يُتَوَصَّل به إلى مقصود بطريق خفي، وهو عند
العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال
حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو
مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي
مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة.
ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول، هل يصح مطلقًا، وينفذ ظاهرًا
وباطنًا أو يبطل مطلقًا أو يصح مع الإثم؟ ولمن أجازها مطلقًا أو أبطلها مطلقًا أدلة
كثيرة فمن الأول قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} (ص:
44) وقد عمل به صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى وهو من حديث
أبي أمامة بن سهل في السنن ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2) وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن
فيه تخليصًا من الحنث، وكذلك الشروط كلها، فإن فيها سلامة من الوقوع في
الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال: (بع الجمع بالدراهم
ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) .
(ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث: (حرمت عليهم الشحوم
فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها) وحديث النهي عن النجش، وحديث: (لعن المحلل
والمحلل له) .
والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم هل المعتبر في صيغ العقود
ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحِيَل، ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ
ظاهرًا وباطنًا في جميع الصور أو في بعضها، ومنهم من قال تنفذ ظاهرًا لا باطنًا،
ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه
القرائن الحالية. وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية؛ لكون أبي يوسف صنَّف
فيها كتابًا لكن المعروف عنه، وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق قال
صاحب المحيط: (أصل الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} (ص: 44)
الآية وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت
لإبطال حق مسلم فلا، بل هي إثم وعدوان) اهـ.
أقول: إن هذا الأصل لا ينفعهم، فإنه تخفيف من الله على نبيه أيوب عليه
السلام فهو نص إلهي استثنائي لا يصح أن يقيس عليه من قال: إن شرع من قبلنا
شرع لنا، فضلا عمن يقول: ليس شرعًا لنا، وهو الحق بنص القرآن أو هو من
قبيل خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم في شرعنا. ومثله احتيال يوسف عليه
السلام لأخذ أخيه مع عدم المخالفة لشرع ملك مصر، وهو مما يستدلون به على
شرعية الحيل، فإن الله تعالى قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يوسف: 76) فهو
إذًا إذن منه تعالى، فلا يقاس عليه ما يفعل مخالفة شرعه، وسيأتي الكلام على ما
أشار الحافظ من الأحاديث في أدلة الفريقين.
ثم كتب الحافظ في الكلام على حديث النية منه ما نصه متعلقًا بالموضوع:
(واستدل به من قال بإبطال الحيل، ومن قال بإعمالها؛ لأن مرجع كل من
الفريقين إلى نية العامل. وسيأتي في أثناء الأبواب التي ذكرها المصنف إشارة إلى
بيان ذلك، والضابط ما تقدمت الإشارة إليه: إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو
مطلوب، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم، ونص الشافعي على كراهة تعاطي
الحيل في تفويت الحقوق، فقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من
محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله: (وإنما لكل
امرئ ما نوى) فمن نوى بعقد البيع الربا، وقع في الربا، ولا يخلصه من الإثم
صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللاً، ودخل في الوعيد على
ذلك باللعن، ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل
الله أو تحليل ما حرم الله كان آثمًا، ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على
الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له، والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له.
(واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون؛ لأنهما ليسا
من أهل العبادة، وعلى سقوط القود في شبه العمد؛ لأنه لم يقصد القتل، وعلى
عدم مؤاخذة المخطئ والنَّاسِي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما، وقد تقدم ذلك
في أبوابه، واستدل به لمن قال كالمالكية: اليمين على نية المحلوف له ولا تنفعه
التورية، وعكسه غيرهم، وقد تقدم بيانه في الأيمان.
(واستدلوا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا (اليمين على نية
المستحلف) وفي لفظ له (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) وحمله الشافعية على
ما إذا كان المستحلف الحاكم، واستدل به لمالك على القول بسد الذرائع واعتبار
المقاصد بالقرائن كما تقدمت الإشارة إليه.
(وضبط بعضهم ذلك بأن الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلم ثلاثة أقسام:
(أحدها) أن تظهر المطابقة إما يقينًا وإما ظنًّا غالبًا. (والثاني) أن يظهر
أن المتكلم لم يرد معناه إما يقينًا وإما ظنًّا (والثالث) أن يظهر في معناه ويقع التردد
في إرادة غيره وعدمها على حد سواء، فإذا ظهر قصد المتكلم لمعنى ما تكلم به أو
لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره، وإذا ظهرت إرادته
بخلاف ذلك، فهل يستمر الحكم على الظاهر، ولا عبرة بخلاف ذلك أو يعمل بما
ظهر من إرادته؟
(فاستدل للأول بأن البيع لو كان يفسد بأن يقال هذه الصيغة فيها ذريعة إلى
الربا، ونية المتعاقدين فيها فاسدة لكان فساد البيع بما يتحقق تحريمه أولى أن يفسد
به البيع من هذا الظن، كما لو نوى رجل بشراء سيف أن يقتل به رجلاً مسلمًا
بغير حق، فإن العقد صحيح، وإن كانت نيته فاسدة جزمًا، فلم يستلزم تحريم القتل
بطلان البيع، وإن كان العقد لا يفسد بمثل هذا فلا يفسد بالظن والتوهم بطريق
الأولى) .
(واستدل للثاني بأن النية تؤثر في الفعل، فيصير بها تارة حرامًا وتارة
حلالاً كما يصير العقد بها تارة صحيحًا وتارة فاسدًا كالذبح مثلاً، فإن الحيوان يحل
إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذا ذبح لغير الله والصورة واحدة، والرجل يشتري
الجارية لوكيله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحد، والأول قربة
صحيحة، والثاني معصية باطلة، وفي الجملة فلا يلزم من صحة العقد في الظاهر
رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة في الباطن والله أعلم. وقد نقل النسفي
الحنفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من
أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق. اهـ.
هذا ما كتبه الحافظ في الفتح في حديث النية، ونقلناه كله؛ لما فيه من الفوائد
ويقول: إن فقهاء المذاهب كعلماء القوانين الوضعية يستنبطون الأحكام من عبارات
نصوص المذهب من غير نظر في النيات الباعثة على الأعمال، ولا في موافقة
حكم التشريع وعلله الدينية، وما يرضي الله ويثيب عليه، وما يُسْخِطه ويعاقب
عليه، ويسمون هذه الأحكام شرعية فيفهم الناس أنها شرع الله الذي خاطبهم به
ويحاسبهم عليه، فما صححوه منها فهو الحلال الذي يرضيه، وما أبطلوه فمخالفته
حرام يسخطه، وليس الأمر كذلك بإطلاقه، بل الحق ما تقدم أنفًا بالإجمال مجملاً،
وهنا تحقيق القول فيه مفصلاً مؤصلاً.
التحقيق الفلسفي في المسألة:
التحقيق في هذه المسألة: أن الأحكام الشرعية لها نصوص تبينها وتضبطها،
وحِكَم هي المقصودة بالتشريع والمراد منه، وعلماء الحقوق وفلسفة القوانين
يعبرون عن هذا الحكم بروح القانون، وعن الأول بحرفية القانون أو بالمعنى
الحرفي له، وهم متفقون على أن القاضي العادل هو من يجمع في أحكامه بين
موافقة نص القانون ومدلوله اللفظي الذي هو هيكله الظاهر، وبين روحه والمقصود
منه في الباطن، وهو الحق والعدل والإصلاح بين الناس في القضايا الشخصية،
سواء كان الخصم الشخصي فيها فردًا، أو جماعة كالشركات أو مصلحة عامة
كالحكومة، فإذا تعارض نص القانون الحرفي هو وروحه الذي تتحقق به حكمة
الشارع وغرضه فإنهم يسمون من يرجح الأول قاضي القانون، ويسمون من يرجح
الثاني قاضي العدل والإنصاف، والفقهاء يفرقون أيضًا بين ما يثبت قضاء وما
يجب تدينًا.
فالمراتب ثلاثة: أعلاها الجمع بين مدلول اللفظ وحكمته المقصودة منه،
وهما كالجسد والروح للشخص، ودونها المحافظ على الحكمة وإرجاع اللفظ إليها
ولو بضرب المثل من التأويل، ودونهما الجمود على الظواهر اللفظية.
وموضوع الحِيَل في الشرائع والقوانين والعقود والوعود والأيمان والنذور بيانًا
وإفتاءً وحكمًا وتنفيذًا دون هذه الثلاثة، وهو التحول عن مدلول اللفظ الحرفي
بتأويل أو تحريف أو معارضة تقتضي ترجيح غيره عليه، وإنما يفعله الإنسان هربًا
وتَفَصِّيًا مما يوجبه عليه النص، والمؤاخذة في القضاء الدنيوي إنما تترتب على
مخالفة النص التي تسمى عصيانًا للشرع والقانون، فإن كان النص قطعي الدلالة
فلا مفر من العقاب على مخالفته، وإن كان غير قطعي بأن كان محتملاً لمعنيين أو
أكثر كان الترجيح لأحد معانيه بالاجتهاد، وكان أقوى وجوه الترجيح مراعاة غرض
الشارع وحكمته من النص. وفقهاء الشرع والقانون متفقون على هذا الأصل، ومن
كان يدين الله بعلمه وعمله فهو أولى بمراعاته عندما يؤلف أو يفتي أو يحكم.
فمن رجَّح معنى على معنى بالاحتمال اللفظي المخالف لروح التشريع وحكمة
الشارع منه كان متبعًا للهوى لا للحق، والله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام:
{فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: 26) وهذا
الأمر والنهي من أصول الشرع الديني الإلهي الذي لا يُنْسَخ ولا يتغير بتغير
الشرائع، فهو كالتوحيد في العقائد.
وقد بينا في التفسير وغيره أن نصوص الكتاب والسنة قسمان (أحدهما) ما
كان قطعي الدلالة كالرواية وهو الذي عليه مدار التشريع العام الذي عليه مدار
الاجتهاد، والواجب أن يعذر المختلفون بعضهم بعضًا فلا يكون سبب للتفرق
والعداء بالاختلاف وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل لأمته، وجرى
عليه خلفاؤه وعلماء صحابته، وأئمة السلف الصالح من بعدهم قبل حدوث
عصبيات المذاهب والشِّيع، مثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 219) فهم منها بعض
الصحابة تحريم ما إثمه أرجح من نفعه فتركوا الخمر والميسر، ولم يفهم هذا
الآخرون ولعلهم الأكثرون فظل شرب الخمر شائعًا مباحًا كالميسر الذي كان قليلاً،
ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركهما؛ لأن دلالة الآية على تحريمها غير
قطعية إلى أن نزلت آيات سورة المائدة القطعية الدلالة فتركهما الجميع، وصار
صلى الله عليه وسلم يعاقب من يشرب الخمر. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم
يعذر المختلفين في فهم كلام الله تعالى، وكلامه الظني الدلالة دون القطعي،
وشواهده كثيرة.
وأما الفقهاء المقلدون فإن منهم من يجعلون نصوص علمائهم أصولاً شرعية
دينية يوجبون الاعتماد على مدلولها اللفظي في العمل والقضاء ويبيحون الحيل
لتطبيق ذلك عليها، وإن خالف ما هو معلوم بنص المعصوم من مراد الله تعالى
وحكمته، وما كان مجمعًا عليه، فهم من الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع، حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه. قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قل: فمن؟) رواه البخاري
ومسلم وغيرهما، وشر ما اتبعوا فيه سننهم جعل كتبهم ككتاب الله تعالى في التحليل
والتحريم بنصوصها ومفاهيمها، بل جعلها مقدمة عليه في العمل، كما فعل أولئك،
وقد شرحنا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً
مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) [1] .
واعلم أن هذه الحيل المبسوطة في كتب الحنفية تكاد تعلم الناس التفصي من
أكثر أحكام الشرع الدينية والدنيوية، فلو لم يتعد أصحابها نصوص كتبهم إلى
نصوص الكتاب والسنة لما كانت جناية على الدين مضعفة أو قاتلة لسلطانه على
القلوب كما علمت مما تقدم في الفتوى الهندية من تعريف الحنفية للربا، وكونه
خاصًّا ببيع المواد الستة المنهي عنها، وما ترتب على ذلك من الأحكام المخالفة
لنص القرآن والربا القطعي المعروف عند نزوله، وعرَّفه الشافعية بأنه (عقد على
عِوَض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في
البدلين أو أحدهما) فهذا التعريف يُدْخِل في الربا القطعي ما ليس منه، ويخرج منه
ما هو منه، ويحتمل من الحِيَل ما لا يقبله النص الشرعي كما سيأتي.
والعمدة عند الشافعية في الحيلة حديث أبي سعيد المتفق عليه في إنكاره صلى
الله عليه وسلم بيع الصاعين من التمر الرديء كالجنيب بصاع من الجيد كالبرني
وأمره ببيع الرديء بالدراهم وشراء الجيد بها. قالوا: فهذا نص في جواز مطلق
الحيلة في الربا وغيره؛ إذ لا قائل بالفرق.
(للموضوع بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع تفسيرها في ص 363 من جزء التفسير العاشر.(33/449)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الملك فيصل العبرة بحياته ووفاته
رحمه الله تعالى
ولد فيصل بن حسين في مكة المكرمة وربي في طفولته بالبادية كما كان يربى
شرفاؤها وكبراؤها من قبل الإسلام، ويعلم هذا جمهور مسلمي الأرض من سيرة
المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم ربي التربية الثانية في مراهقته وصباه في
الآستانة عاصمة آل عثمان، كأمثاله من أولاد كبار شرفاء مكة المرشحين للإمارة،
وكان غرض الدولة التركية من ذلك معروفًا لجميع الذين يعرفون سياستها في
الشعب العربي ولا سيما شرفاء مكة، ومنها أنها كانت تحول دون تعليم نابتتهم في
المدارس المدنية الرسمية وغير الرسمية، وكان آباؤهم يكفونها أمر تعليمهم في
المدارس الدينية لعدم شعورهم بالحاجة إليه، بل كانوا يترفعون عنه؛ لأن أرفع أمر
النابغ فيه أن يكون قاضيًا أو مفتيًا أو مدرسًا في مسجد، فكان قلما يتعلم أحد منهم
إلا ما يتفق له في منزل أبيه، ولن يكون تعليمًا أصوليًّا يتقن به علمًا أو فنًّا يكون
به أهلاً للنهوض بعمل عظيم، ومرجعًا أو مرشدًا وإمامًا للعاملين، ولا لما دون ذلك
مما يترفعون عنه من قضاء أو إفتاء أو تعليم، ولقد مرت القرون وتعاقبت الأجيال
ولم تخرج لنا هذه الأسرة الهاشمية رجلاً عظيمًا في علم نافع ولا عمل رافع، ولا
إصلاح ديني ولا اجتماعي ولا سياسي، وما زالت إمارة الحجاز موروثة فيهم من
قبل دولة الترك بقرون، وما كانت تزداد البلاد في عهدهم إلا خرابًا، ولا أهلها إلا
تبابًا، ولو قام فيها مصلح عظيم منهم لكان تأثيره في إحياء مجد الإسلام بالعرب
ومجد العرب بالإسلام ما يفوق تأثير سبعين مصلحًا من غيرهم، لما لهم من المكانة
الموروثة في أمتهم، وإن في سيرة فيصل لمثلاً لهم وعبرة لأولي الألباب من أمتهم.
لم يكن لفيصل قبل الحرب العامة ميزة في أسرته ولا قومه تلهج بها الألسنة
وتجري بذكرها الأقلام، أو تشير بها الأكف أو تشخص إليه الأبصار، إلا ما بلغني
من خبر شجاعته وأن أخاه عبد الله فاخر بعض الشجعان وهدَّده مرة فقال: تراني
أنا راعي الهدلة [1] تراني أنا أخو فيصل. وكان من تأثير تربية الآستانة في نفسه
أن سياسته كانت تركية محضًا فلم يكن يفكر في أن لأمته العربية وجودًا يجب أن
يعنى به. ولقد سمعت من لسانه في أول حديث دار بيني وبينه في بيروت (في
14 جمادى الأولى سنة 1338 - 4 فبراير سنة 1920) أنه كان يرى الخير لوالده
وأهل بيته بل لأمته في الإخلاص لدولة الترك ودوام الانتفاع أو قال الترقي بهم،
وأنه إنما تحول عن هذه السياسة لما جاء الشام قبيل الحرب وبعدها، ورأى قومه
كلهم على خلاف رأيه، على حد قول الشاعر
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وإنه يومئذ اتفق مع إخواننا في الشام على العمل للقضية العربية، وانتظم في
جمعيتهم السرية. ثم كان من عمله في الثورة العربية التي أعلنها والده ما كان به
أظهر رجالها، وحارب الترك مع الإنكليز حربًا كسبته وكسبت العرب ثناء رسميًّا
له قيمة سياسية عظيمة. ودخل دمشق عقب انسحاب الترك منها دخول الفاتح
الظافر، وسافر بعد ذلك إلى أوربة وشهد مؤتمر الصلح الأكبر، ودخل في إثر ذلك
أبواب السياسة، ثم بايعته الأمة السورية وجعلته ملكها، ثم نادت بسقوطه وتحدثت
بالهجوم والدمور عليه للفتك به، فوضع الحرس الحجازي المسلح على بابه، إذ
أذيع فيها قبوله لإنذار الجنرال غورو المُخْزِي، وزاد السخط عليه بدخول دمشق
في الليلة التي دخلها الجيش الفرنسي محتلا لها، مؤملا أن يرضى ببقائه ملكًا فيها،
ولكنه أخرجه منها ليلا، ثم كان من أمر توليه ملك العراق ما كان، وما لقي فيه من
مقاومة وما طرأ عليه من أطوار، وما زال يرسب ويطفو، ويسف ويسمو، حتى
صار سياسي الأمة العربية المحنك، وجذيلها المحكك وتجلى فيه من عبقرية الذكاء
والحزم، ونباهة الشأن وإدارة الملك، ما انتهى به أمره إلى ما علمنا من ثقة به
موطدة، وآمال بسعيه معلقة، وأحزان عليه صادقة، وألسنة بإطرائه ناطقة، دلت
على أن المستقبل الذي أمامه كان عظيمًا، وأنه كان قوميًّا عامًّا، لا وطنيًّا خاصًّا.
كان لفيصل كثير من أخلاق الزعامة والرياسة، وشمائل السياسة والكياسة،
كالسخاء والنجدة، والحلم الواسع، والصبر على المكاره، وقوة الأمل، والدهاء
والمكر، وكان جذابًا خلابًا، عذبًا سائغًا، هينًا لينًا، سهلاً متواضعًا، سريع
الغضبة سريع الفيئة، لا ييأس ولا يوئس مخالطه منه، وكل أولئك من أخلاق
الزعامة والرياسة، وما كان يخلو من بعض الصفات القاطعات لطريقها، والمانعات
لتحقيقها، منها مبالغته في المواتاة لكل معاشريه والاستجابة لمطالبهم المتناقضة،
ومساعدتهم على الأعمال المتعارضة، ومنها أنه كان على شدة صراحته يكاد يتعذر
على أقرب الناس إليه أن يعرف كُنْه سريرته، ويثق بإصراره على رأيه، وثباته
على ما يبديه له منه. هكذا كان عهدي به في دمشق.
ولولا ما أوتي من المرونة والحلم، والحرية واللطف، والاعتبار بالحوادث،
وممارسة الكوارث، وتربية نفسه بها، والارتياح إلى إعطاء كل ذي حق حقه فيها
لكان الخوف عليه أكبر من الرجاء فيه، وبهذا فضل والده وأخاه الذين سبقاه إلى
التفكير في القضية العربية، والخروج على الدولة العثمانية من قبل أن يُتَاح لهما
القيام بإعلان الثورة، ويفتح لها باب الرجاء في سيادة الأمة.
ليس من مذهب المنار تدوين وقائع التاريخ، ولا من مشربه سرد المناقب
والمثالب، وإنما صاحبه قرآني يبحث عن العبرة، ويجليها في قالب الحكمة
والموعظة الحسنة، وقد علم الذين تتبعوا ما كتبت في المسألة العربية، والواقفون
على الكثير من عملي فيها بالمشاركة أو بالمعاشرة، أنني اشتغلت مع هؤلاء الثلاثة
فيها اشتغال تجربة لهم؛ لوجودهم في الميدان، لا اشتغال واثق بهم، وإن التجارب
أسفرت عن خيبة الأمل في كل منهم، واعتقاد أنهم مستسلمون للسياسة البريطانية،
التي أعتقد أنها موجهة إلى القضاء الأبدي على الأمة العربية، وعلى تجديد مجد
الإسلام أيضًا.
ثم تجدد لي أمل في إمكان الانتفاع بدهاء الملك فيصل وحنكته ومركزه العظيم
في إنعاش سورية التي تتردى في مهاوي الهلكة بشدة شنآن فرنسة للإسلام وسياستها
المستعجلة المتهورة في ذلك، التي لا تقبل هوادة، ولا يتخلل حملاتها العنيفة فترة
ولا هدنة، ولا تخفف شدتها رأفة ولا رحمة.
تجدد عندي هذا الأمل في العام الماضي وأظهرته في هذه العام، فعلمت أنه
جدير بأن يكون رجاء لا تمنيًا، وأن تكون دائرته أوسع من سورية، وأن مودة
فيصل للدولة البريطانية لا تحول دون الانتفاع به فيما ينأى بخطرها الذي يخشاه
العرب قليلا، أو لا يزيده دنوًّا؛ إذ بلغني أنه قد اشتد شغفه بفكره الوحدة العربية،
وأنه يدرس كل ما يزيده علمًا بالاستعداد لها ما كتب بلغتها وباللغات الغربية،
كتاريخ الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية.
ثم علمت علمًا صحيحًا أنه موطن نفسه على السعي لسورية وفلسطين معًا،
متوسلاً بنفوذه عند الدولة الإنكليزية، وأنه يعتقد أن وجود الملك عبد العزيز بن
السعود في الحجاز رحمة للعرب والجزيرة، وأنه لا يوجد في الأمة العربية من
يقدر على حفظ الأمن فيها ودرء الفتن وتقدم العمران مثله أو غيره، وأنه يجب
الاتفاق والتعاون معه، على أنه كان يرى مع هذا أنه لا يرجى أن يكون لهذا الرجل
الفذ الوحيد في مواهبه، من يستطيع من ولده أو غيرهم أن يضطلع بما اضطلع هو
به، وقصارى هذه الآراء والأفكار أنه يجب أن يكون هو قطب الرحى للأمة
العربية والمؤسس لوحدتها.
الأمير عبد الله:
ولعل أخاه الأمير عبد الله لو ابتلي بمثل ما مارسه من خطوب، وتدافعه ما
أشرنا إليه من طفو ورسوب، لمحصت ما في صدره من الشغف بلقب الملك
وعظمته الباطلة، ولو كان هبة تستخدمه بها دولة العدو الغاصبة، وسكنت بعض
ما قلبه على ابن السعود من الضغن والحفيظة ولكن كان من سوء حظه وحظ أمته
أنه تَأَمَّرَ على بدوٍ جاهلين، وإن كانوا مسلحين، وحَضَرٍ أكثرُهُمْ متملقون
مسترزقون: والمجاهدون منهم قليلون مستضعفون، فلم يلق منهم ما لقي فيصل في
الشام ثم في العراق من معارضة ومناهضة، ومشادة ومحادة، كانت خيرًا له من
المواتاة والموادة، وإنني أبسط ما بلوته بنفسي من خير الأخوين من مبتدئه إلى
منتهاه بالإيجاز:
عرفت الشريف عبد الله في الآستانة سنة 1328 (الموافقة سنة 1910م)
وكان عبيد الله أفندي مبعوث أيدين وصاحب جريدة العرب الخادعة يطعن في والده
الشريف حسين أمير مكة المكرمة طعنًا مسمومًا نافذًا، ولم يدافع عنه أحد من أبناء
الأمة العربية، وكان هذا قد أطراني في جريدته إطراء ظاهرًا وسماني مجددًا، ثم
لما شعر بنجاح مشروع الدعوى والإرشاد الذي دعت إليه الدولة الاتحادية قلب لي
ظهر المِجَنّ، واتهمني بالتفريق بين الترك والعرب، فقامت عليه قيامة الجرائد
العربية في سورية ومصر والمهاجر السورية، وفي الآستانة نفسها أيضًا،
فافترصت هذا وقلت للشريف عبد الله: إنني أريد أن أُسِرَّ إليك حديثًا، فهش لي
وأقبل عليَّ، فقلت له: ألا ترى أن هذا التركي المتعصب البذيء يطعن في والدك
وهو سيد العرب فلا يلقمه أحد منهم حجرًا، حتى إذا ما قال فيَّ كلمة طعن، مع
كلام كثير في الثناء والمدح، فُوِّقَتْ إليه السهام، وسُدِّدَتْ إلى صدره أسنة الأقلام،
وأنا دون والدك مقامًا ومنصبًا، فلماذا؟
أليس إخواني العرب يرون أنني أُعْنَى بقومهم، وأبذل بعض الخدمة لهم؟
وأنهم لا يرون لأحد منكم لقومه عملاً، ولا يسمعون منكم في مصلحتهم قولاً؟ قال
نعم: إني لأشكر لك مصارحتي بهذه الحرية، وبهذا فتح باب الكلام بينا في المسألة
العربية، ودعاني إلى طعامه في دارهم في محلة بيوكدره على البوسفور وامتدت
المودة.
ولما زار مصر سنة 1330 ونزل ضيفًا على الخديو في قصر عابدين هو
وأخوه فيصل زرته وأطلعته على قانون (الجامعة العربية) فابتهج به ورغب
الانتظام في سلك الجمعية، فحلفته يمينها الغليظة الغموسي، وأخذت عليه ميثاقها
الشديد، وأطلعني على ما بعثته به حكومة الدولة إلى والده، وهو قتال السيد محمد
الإدريسي، فكاشفته برأيي في ضرره فوافقني عليه، وعاهدني على بذل جهده،
في إقناع والده به.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الهدلة لقب فرس من جيادهم يفخرون بها.(33/457)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ثورة المرأة الإباحية
وخطرها على الأسرة فالأمة
لقد كان من فوضى الأقلام، وحرية الإباحة والإلحاد، أن تصدى للتحرير في
الصحف، وتصنيف الكتب والقصص، أفراد من المتفرنجين الإباحيين، انتحلوا
لأنفسهم دعوى التجديد وزعامة الحضارة فوجهوا دعوتهم إلى النساء والشباب،
لأنهما أسرع انخداعًا وأسلس قيادًا، وما زالوا يشوهون لهم كل قديم كانوا عليه،
ويزينون لهم كل جديد ضار يغرونهم به، ولا سيما حجاب النساء وعفافهن، ولزوم
بيوتهن، وطاعة رجالهن، وخدمة أولادهن، (ولكل جديد لذة) حتى هتكن
الحجاب، وألقين جلابيب الحياء، ونشز الأزواج على بعولتهن، وتمرد العذارى
على آبائهن، وخرجن في الشوارع والأسواق (كاسيات عاريات، مائلات مميلات)
كما ورد في الحديث الصحيح وصفًا لنساء سوف يأتين ممن سيدخلن النار، ثم
صارت الجمعيات النسوية يجمعن بين النساء والرجال في محافلهن الخاصة بهذه
الصفة للرقص المشترك وتعاطي كئوس الخمر.
ثم صار هؤلاء وهؤلاء يخرجن من البيوت إلى سواحل البحار بأُزُر الحمام
بتبخترن بالشوارع مَرِحات فرحات، مزوزكات مترنحات، حتى إذا التقين بالرجال
على الشاطئ خاصرنهم إلى حيث يسبحن معهم فنونًا من سباحة الإباحة، لم يبق
معها للدين ولا للشرق ولا للعفاف ولا الصيانة قيمة.
ثم كان من عاقبة هذا الاختلاط والامتزاج، أن قل الزواج، وتفاقم فشو الخنا،
واستشرى خداع الشبان للعذارى عن عفافهن بعد عِشْرة طويلة أو قصيرة بحيلة
اختبار الخطبة، وكثر تقتيل النساء، وتقاتل الرجال لأجل النساء، وتضاعف عدد
اللقطاء، اكتظت المحاكم الشرعية بقضايا الطلاق، وطلب فسخ عقد الزواج
وطفقت الصحف تنشر من فضائحها ما يُعَلِّمُ الجاهلين والجاهلات طرقها، ويُجَرِّئ
الفريقين منهم على طروقها، وانتهى الفساد في البيوت وخارج البيوت إلى دركة
كثرت منها شكوى الكتاب حتى المفسدين منهم.
وقد نشر في هذه الصيف المتولي أحد كبار الأدباء البارعين (ع. ع) [*]
مقالات بليغة في جريدة البلاغ الشهيرة عنوانها العام (مصر الشاعرة)
وصف فيها هذا الفساد وخطره على الأسرة فالوطن فالأمة وصفًا فلسفيًّا شعريًّا، كان
لها صدًى في جميع الجواء، حمل فيها حملات صادقة على الثائرات على الدين
والحياء والأدب والتقاليد، المتمردات على حقوق الزوجية الطاهرة المطهرة،
وصفات الأمومة المقدسة، شكت من لذعاتها امرأة شاعرة، فكتبت إليه تبوح
بشكواها، وتستعطف قلمه القاسي على بنات جنسها، وتحرضه بحق على الرجال
الذين هم المفسدون للنساء، فأجابها بجواب فصيح صريح، يمليه وجدان مسلم
شريف، قرأته فأبكاني فأحببت أن أنقله مع الكتاب لقراء المنار وأسجلهما فيه، وها
هما ذان:
الرجل والمرأة
(قال) حمل إليَّ البريد في الأسبوع الماضي هذا الكتاب.
سيدي الأستاذ المحترم:
إني أقرأ الرسائل القيمة التي تكتبها عن مصر الشاعرة بشوق وإعجاب؛ لأنها
تكشف عن صفحة عظيمة لمصر العزيزة، ولا يفوتني أن أنبه إلى قراءتها أبنائي
الناشئين وبناتي الناشئات لحسن أسلوبها وعلو مغزاها. ولكن يا سيدي دهشت كل
الدهشة حين قرأت مقالك الأخير فوجدتك فيه ثائرًا على المرأة ثورة شديدة عنيفة،
وفي هذا الحديث الطويل رأيتك تتكلم عن هذا المخلوق المسكين بروح تَنُمُّ عن
المقت والحقد والكراهة، فهل يدرك الأستاذ ما في هذه الكتابة بهذه الروح من
الخطر الشديد؟ وفرقٌ يا سيدي بين مَن ينصح ومَن يثور، والمرأة المصرية أولى
بالتشجيع وأحق بالإنصاف منكم يا معشر الكتاب، وهي لا تنكر عليكم أن ترشدوها
إلى مواطن الضعف ولكن بروح العدل والرفق، وأنا كامرأة مصرية في حاجة إلى
من ينصحني، ولست في حاجة إلى من يهينني، ولماذا يا سيدي تخشى على
الرجل الوقوع في شَرَك المرأة الخادعة، ولا تخشى على المرأة الوقوع في شَرَك
الرجل الخادع؟ إن الرجل يا سيدي هو ربان السفينة فهو مسئول أولاً وأخيرًا عن
كل ما يصيبها من عطب وما يصيب ركابها من خطر، فأما أن تكون القيادة له
واللوم على غيره فذلك ظلم وإجحاف.
وفي الختام أرجو ألا أكون تجاوزت الحد في خطاب الأستاذ الأديب الكبير
وتفضلوا بقبول فائق التحيات.
... ... ... ... ... ... ... ... ف. ك
والكاتب يشكر للسيدة الفاضلة عنايتها بمصر الشاعرة، ويسره أعظم السرور
أن يجد في العنصر النسوي إقبالاً على جانب من جوانب المجد الأدبي للوطن
الكريم.
أما ثورتي العنيفة يا سيدتي المهذبة فلم أعلنها إلا على المرأة الثائرة العنيفة،
والثورة عدل ونصفة، والعنف على العنف رفق ورحمة.
إن المرأة المصرية تسير الآن في صورة عصبية حادة، وفي يمينها السلاح
القاتل، وفي يسارها النار المحرقة، وتحت قدميها الهاوية السحيقة، وهي حين
تسقط يسقط معها الطفل، ويسقط معها الرجل، ويسقط معها الوطن، وهي لا
تسقط إلا مرة واحدة، ثم لا تعود إلى النهوض أبد الدهر.
نحن لا نتحدث يا سيدتي عن تحديد التبعة بين الرجل والمرأة، فكلاهما له
عقل يزجره إذا انحرف، ودين يهديه إذا ضل، وكلاهما على سواء في الجزاء
والمكافأة وفي الثناء والمذمة، ولكن الفرق البعيد بينهما في قوة الاحتمال عند
الصدع، وفي إمكان النهوض عند العثار، وفيما يلحق المجتمع الإنساني إذا سقط
من رض وانكسار.
فالرجل قد يكبو ثم ينهض، وقد يميل ثم يعتدل، وقد يأثم ثم يبر، وقد يجمح
ثم يتئد، ولكن إلى اليوم لم يخلق الله المرأة التي تسقط السقطة ثم تعود إلى ما كانت
عليه من خير وصلاح؛ لأنها تقاوم الإثم بضميرها المرهف، وحيائها القوي، وهو
يقاومه بعقله ومنطقه، وإذا انثلم الضمير انكسر، وإذا انهتك الحياء زال، أما العقل
والمنطق فقد يخطئان ثم يصيبان، وقد يغيبان ثم يحضران.
وهنالك الفرق البعيد في أثر الانحراف، فالرجل ينحرف وفي بيته المرأة
الصالحة تصون الأسرة وترعى البنين، والمرأة تنحرف فلا تصلح أن تكون زوجة
ولا تصلح أن تكون أمًّا، ولا تصلح أن تكون رباط أسرة، ولا تصلح أن تكون
قوام بيت، بل كل أولئك يكون مائلاً متداعيًا مصدوعًا، والأسرة هي العضو في
جسم الوطن، فإذا مزق العضو سرى الفساد منه إلى الجسم كله.
فنحن إذا صحنا هذه الصيحة الصارخة، وإذا ثُرْنَا هذه الثورة الصاخبة،
فلأننا نرى الجذام قد أخذ يدب إلى جوف الوطن، ويسير إلى قلبه، ولا بد من حسم
الداء قبل أن يستفحل، ولا بد من وقاية القلب قبل أن ينتهك ويفسد.
لا تعجبنك يا سيدتي هذه القيثارة الجوفاء التي يغني عليها شباب الكُتَّاب في
هذا البلد نشيد الإعجاب بالمرأة، والإغراء للمرأة، فإن من الطير ما يميل بإذنه إلى
الصوت العذب والإيقاع الحسن والنغم الجميل، فلا يزال يدنو منه حتى تأخذه
الحبائل، فلا يجد في الأرض مقعدًا ولا في السماء مصعدًا.
إن هذا الكاتب الذي تأخذين عليه كتابته الثائرة عن المرأة المصرية قد كتب
ثلاثة مجلدات في تاريخ المرأة، وهو فخور بأنه نشر الصفحة المطهرة لأعظم
امرأة في الوجود، وهي المرأة المسلمة في عصر عظمة الإسلام، فهو إذن لم يكتب
ما كتب عن حقد وموجدة، ولا عن مقت وكراهة، ولكنه كتب عن علم وبصيرة،
وعن حزن وإشفاق، وهو لا يزال منذ خمس عشرة سنة يبكي زوجته التي لم تدم
له أكثر من عام ونصف عام، ولا يزال يتخذ قبرها روضته، ويتخذ ذكرها سلوته،
إلى اليوم وبعد اليوم، فإذا رأيتني قسوت على المرأة فلأنني ضنين بها على
الحال التي حالت عليها، وعلى المآل الذي آلت إليه.
فقسا ليزدجروا ومن يك راحمًا ... فليقس أحيانا على من يرحم
إن المرأة يا سيدتي ثائرة في هذه الأيام على أنوثتها الكاملة، والأنوثة الكاملة
هي الفطرة التي فطر الله عليها المرأة وركَّب منها فضائلها ومزاياها التي يسمو إليها
الرجل، فهو مبعث الرحمة الشاملة، والوجدان اليقظ، والحياء القاني، والحنان
الفياض، وهي السبيل إلى الوفاء للبيت، والولاء للزوج، والفناء في الولد،
والإيثار للأسرة، والتضحية في سعادة الجميع، وهي سر القوة المعنوية، والنفوذ
الروحي، والسلطان النفسي للمرأة، وهي آية ما يجده الرجل من الراحة والسكون
حين يثوي إلى زوجته الصالحة، وهي التي يقول فيها البارئ الحكيم جل ذكره
وتعالت آيته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ
بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فإذا تأثرت
هذه الأنوثة بالنقص والفساد، أو الميل والانحراف، انطفأ نور ضميرها، وذهب
خفر حيائها، واتضع سمو روحها، وانفصمت عروة قوتها، وانهتك ستر صيانتها،
وأصبحت متعة مبتذلة يشعر من تذوقها أنه محتاج إلى سواها.
وفي كثير من المواطن تكون آثار الرجولة الكاملة، فالأمومة في نظر الدين
الحنيف، وفي نظر العرف الرشيد أسمى وأفضل من الأبوة، وأسو الجراح، وجبر
العظام، وري العطاش، وتأسية المصاب، وإغاثة الملهوف، أبر وأطهر من
تفجير الدماء، وتمزيق الأشلاء وإثارة النار الشعواء، والداهية الدهياء، وهي في
أنوثتها الكاملة أوثق دينًا، وأنصع يقينًا، وأمتن إيمانًا، وأخلص إحسانًا من الرجل.
والإسلام في نشأته الأولى، وفي عظمته الرائعة، وفي قوته الصادعة، وفي
مجده الخالد، وفي فتحه العظيم، مدين لتلك القوة المعنوية التي استوحتها المرأة من
أنوثتها الكاملة، وإن أول صوت آمن بالنبي وشد عضده، وقوَّى عزمه، وآزره
على الخطوب، وأيده في مغالبة الدهر هو صوت امرأة، حتى إذا ماتت تلك المرأة
العظيمة بكاها الرسول الكريم بكاءه على حده القاطع وركنه الشديد.
فهل بقيت للمرأة تلك النفس الراضية المطمئنة، وتلك الروح الشفافة العالية،
وتلك القوة المعنوية القاهرة؟ ! لا يا سيدتي الفاضلة، لم يبق للمرأة من هذه الآيات
الثلاث آية واحدة.
كانوا يقولون: انتظروا حتى تسفر المرأة فهي محجوبة لا ترى النور ولا
تحس الحياة، وهي مكتوفة لا تملك الأمر ولا تقوى على العمل، وهي مستعبدة لا
ترفع الرأس ولا تدفع الهوان، فالآن قد سفرت المرأة عن وجهها ويديها، وعن
صدرها وذراعيها، وعن حيها ودارها، وعن ليلها ونهارها، وعن رغائبها
ومآربها، وأصبحت تملك أمرها كله، وحقها كله، فأين هي الآن من فطرة المرأة
وفكرة المرأة؟ أين أثرها الحسن الجميل في البيت والأسرة، وفي الزوج والولد،
وفي البر والرحمة، وفي الحنان والإحسان؟
لقد نالت المرأة الحرية، فكانت حريتها حرية النفس والعاطفة، لا حرية
العقل ولا حرارة الدم فاندفعت كما ينبثق الماء الكثير من الثقب الصغير، وأخذت
تنظر إلى البيت كما ينظر السجين الطليق إلى سجنه القديم، وسارت هي من
طريق والرجل من طريق والولد من طريق، وتهادت الفتاة في وضح النهار وفي
دلج الليل مع ابن العم وابن الخال على الحقيقة والمجاز، ومع من تدعوه الخطيب
أو القريب إلى مسارح السينما وأندية اللهو، وإلى حيث لا يعلم الأب والأم، وإلى
حيث لا ينظر الرقيب والحسيب! فهل هذا العبث من الحرية هو ما كان يطلبه
أنصار النور وأنصار السفور؟
لقد امتشقت المرأة سلاحًا من الجرأة وعدم المبالاة، وكان هذا الأسلوب
السخيف من حرية النفس والعاطفة جلاء لهذا السلاح القاتل المسموم، وسبيلاً إلى
هذا البلاء الشامل المحتوم، وكان هذا المزمار المشئوم الذي يحمله شباب الكتاب أو
المتشببون منهم وسيلة إلى ارتداد السلاح إلى صدر المرأة الضعيف، وإصابتها في
الصميم من قلبها الصغير.
اسمعي يا سيدتي وأرعيني سمعك فإني سأقص عليك قصة وقعت وكنت أحد
شهودها، ولو لم ترها عيناي، وتسمعها أذناي لما أمكن أن تخطر في بال، أو
تجول في خيال، وها قد مضى على ذلك الحادث اثنان وعشرون يومًا ولا والله ما
فارقني لحظة من الزمن ولا خطرة من التفكير.
كان ذلك في القناطر الخيرية، وكنت إذ ذاك مع ولديَّ الصغيرين، وكان كل
شيء في الوجود حسنًا جميلاً، وكان بي زهو الشريف العقيلي حين يدرج إلى
الروض، لولا أنني لم أحمل إليه الشراب لأني لا أحب الشراب.
ورأيت ولديَّ قد استخفتهما الطفولة وازدهاهما المنظر البديع فأخذا يسرحان
بين الظلال، وأخذت أكتب عن (مصر الشاعرة) وكان هذا الذي أكتبه هو المقال
الثالث في الشريف العقيلي، وكنت أرى لهذا الشريف حقًّا على ألا أكتب عنه إلا
بين الزهر والماء.
كتبت ثلاثة أسطر ثم رفعت رأسي فرأيت رجلاً حسن السمت، ممشوق القامة،
منسق الثياب، يصعد بأقصى سرعته درج مقصف الحديقة حيث كنت، ولم يكن
غيري هناك.
ونظرت إلى الرجل فإذا هو صديق يجمعني به عهد الطلب وصلة الأدب
فناديته، ولكنه كان في شغل عني بما هو فيه، فلم يسمعني ولم يرني، واكتفى بأن
أرسل إلى المقصف نظرة لهيفة لم تستغرق أكثر من ثانيتين، ثم عاد يثب إلى
الأرض وثبًا، ويجري ملء عنانه باحثًا بين رُبَى الحديقة وخمائلها، وبين ظلالها
ومناهلها ثم عاد إلى المقصف أسرع مما مضى، فلم أجد بدًّا من أهدئ لهفة صديقي
القديم، وإن ظن بي بعض الفضول.
هنالك اعترضت طريقه وقلت له: تعال يا فلان! ما هذا الذي أنت فيه؟
وأراد صديقي أن يطوي صدره على سره، وأن يطبق فاه على غليله، فهز رأسه
وقال: لا شيء. قلت: كلا بل هناك شيء خطير، وأنت هنا وحدك لا يعينك أحد،
وأنا أولى بك من أي رجل سواي، قال: إذن فدع مكانك وأقبل معي، قلت: أنا
معك وأومأت إلى ولدي فأقبلا، ثم قال لي وأنا أسير معه على غير هدًى: لقد
حدثني في التليفون من أثق به أنه رأى زوجتي في مقصف محطة القاهرة مع رجل
لا يعرفه، وعرف من حديثهما أنهما ينتظران القطار الذاهب إلى القناطر، وأصغى
صاحبي إليها فوجدهما يتكلمان عن صلة مجرمة وحب أثيم. هناك اتخذت سيارة
من قلب القاهرة فأخذت تطوي الأرض حتى بلغت هذا المكان، قلت: وما لك لا
تفترض الكذب والوقيعة في حديث محدثك، قال: كلا إن محدثي من أقرب الناس
إليَّ، وأعطفهم عليَّ، وأحبهم إلى نفسي، ولا غاية له في الكذب، ولا مأرب له
في الوقيعة، قلت: إن القطار الذي أشار إليه لم يأت بعد وهنا خرج صاحبي عن
حيرته وتنفس الصعداء، وقال: هلم بنا إلى المحطة واتخذنا السيارة إلى المحطة،
وأوينا إلى ركن من مقصفها، وما يزال على وصول القطار عشر دقائق.
ومرت هذه الدقائق كأنها حين من الدهر، وكنت أشعر أننا قادمان على حدث
عظيم، وأخذت أحادث صاحبي حديثا متقطعًا لأشغله عما هو فيه من رجفة وذهول،
فيعطيني عينه وأذنه، ويصرف عني قلبه وإدراكه.
وأقبل القطار ثم وقفت فقلت لصديقي: اسكن ولا تضطرب وإلا أفلت الأمر
منك، وكاد المسكين يُجَنُّ حين رأى زوجته وهي تسير بجانب رجل ينطق كل
شيء فيه بحقارته وبذاذته ووخامة ظله وتبطله، وإنه ممن يعيشون على حساب
النساء، وأراد الصديق أن يثب ليعترض الطريق فقلت له: رويدك، ونظرت إلى
المرأة فرأيتها تسير بجانب الرجل الأجنبي بغير حذر أو مبالاة، وهي تكلمه في
صفو لا يشوبه كدر، وسرنا وراءهما حتى ركبا إحدى المركبات اليدوية فلم يجد
الصديق المسكين بُدًّا من اعتراض المركبة.
ونظرت المرأة إلى زوجها! فهل تحسبها صعقت الصعقة القاتلة! هل
اضطرب قلبها، وماد جسمها، واختلفت قدماها فسقطت بغير حراك؟ ! هل ذهبت
إلى القطار فألقت بنفسها تحت عجلاته؟ ! هل أغرقها العرق وأدركتها الذلة
فتوارت عن عيون الناس؟ ! هكذا كنا نتصور لو ألفنا رواية خيالية عن سقطة
المرأة وخيانة الزوجة، ولكن لم يكن وربك شيء من هذا! بل إنها نظرت إلى
عشيقها الصعلوك وقالت له ها هو! تعال نر من معه من النساء! وقالت لزوجها:
أنا جئت به ليشهد عليك، فقد قالوا لي: إنك مع امرأة لا بد أن أعرف أين هي؟
ولا بد أن أذهب بها وبك إلى البوليس! ! وتكاثر الناس على موقف المرأة التي
تقوم بدور تمثيلي لا تحسنه أية ممثلة في مصر وغير مصر. ولم يجد صاحبي بدًّا
من العودة إلى القطار، وكان قد بقي على قيامه خمس دقائق، ولم تتركه المرأة
حتى تبعته وصاحبها الصعلوك يقول لها بمرأى ومسمع من الناس: تعالي يا شيخة!
سيبك منه! ! وهي تقول: لا لا بد أن أذهب فأخلص منه. واجتمع الزوجان في
ديوان من الدرجة الأولى حيث يركب الزوج، وجلست مع ولديَّ في ديوان بجانبهما،
وركب صاحبها في مركبة الدرجة الثانية حيث قطعت هي التذكرة.
وأشفقت على صاحبي من هذا الموقف فوقفت في ردهة العربة وكانت المرأة
الفاضحة المفضوحة لا تزال تصيح وتصخب وهي طورًا تقول: أرني أين
صاحبتك أين خبأتها! وتارة تقول مشيت معه! فليكن! سأمشي كل يوم مع واحد!
سأمشي مع من أشاء أنا لا أحبك! أنا أكرهك! أنت شريكي؟ ! ولم يزد الرجل
الكريم الشريف على أن فصلها بالطلاق، وأشفقت عليه من هذا الموقف المر
فاجتذبته، وانتقلت به إلى حيث أقيم وأصيب المسكين برعاف نازق تفجر منه دمه
حتى جرى على أرض العربة، ورغم عنايتي به لم ينقطع النزيف حتى انتهينا إلى
محطة القاهرة فأسعف بالعلاج.
ولهذه المرأة بنون وبنات ولها مع زوجها أعوام وأعوام، وبينما الدم ينزف
من الرجل والخطر يحيط به كان يتكلم في غيظ محرق وفي بكاء مر عما بذله لهذه
المرأة من ود وإخلاص، وعما قدمه لها من بر ومعروف.
أرأيتك يا سيدتي الفاضلة المهذبة كيف يكون جموح المرأة إذا اندفعت، وكيف
يكون استهتارها إذا انكشفت؟ وكيف تكون سقطتها إذا انطفأ نور الضمير، وارتفع
عنها ستر الحياء؟ !
أكانت تصلح هذه المرأة لو خفي أمرها عن زوجها أن تكون زوجة، وأن
تكون أمًّا، وأن تكون عماد بيت ورباط أسرة؟
لقد قصصت هذه الفاجعة على صديقي ضابط مكتب الآداب، وكنت أظنها
منقطعة النظير فابتسم وقال: وكم في البلد من فجائع وكم فيها من أقاصيص! وأخذ
يحدثني عن أشباه تلك الفاجعة وعما هو أشد هولاً وأدل على عدم المبالاة منها، ولا
أريد أن أقص عليك بعض ما قص عليَّ، ففي أيسره ما يجف من ذكره القلم
واللسان، وكله يدل على أننا نترامى في هاوية مظلمة الطريق سحيقة القرار.
أتعرفين يا سيدتي كم عدد المواليد الأبرياء الذين قتلوا يوم ولدوا، ومنهم من
ذبح بمدية كما يذبح الجمل الصغير، ومنهم من ضغط على عنقه بيد قاتلة جبارة
فاختنق، ومنهم من ترك حبله السري فتسمم دمه، ومنهم من بقر بطنه وألقي في
صناديق القمامة، ومنهم من قذف به في بئر معطلة أو ساقية مهجورة، ومنهم من
وُئِدَ حيًّا في التراب، ومنهم من ترك بين المقابر فأكلته الكلاب؟ !
مائتان وخمسة وأربعون ضحية ضُحِّيَ بها في خلال عام واحد بمدينة القاهرة
وحدها فذهبت تشكو إلى بارئها ظلم الأبوة السافلة الفاسدة والأمومة السفاحة الجاحدة.
مائتان وخمسة وأربعون ضحية ترى الموت الأحمر يوم تتنسم الحياة، وتساق
إلى العدم يوم تساق إلى الوجود، وما أسلفت من ذنب، وما اقترفت من جريرة،
وما أساءت إلى إنسان، فبأي ذنب قتلت هذه الضحايا البريئة؟ ولأي سبب قتلت؟
أليس ذلك نتيجة اندفاع الفتاة من غير رقيب أو حسيب!
وما يدرينا لعل من لم تصل إليه الأيدي، ومن لم تهتد إليه العيون من تلك
الضحايا أضعاف من كشفته المصادفات. ومن أعجب العجب أن هذه الحوادث كلها
إلا ثلاثًا منها قيدت ضد مجهول، فأين هو هذا المجهول، ومن هو هذا المجهول؟
وتأبى شرطة المدينة إلا أن تنام ملء أعينها حتى يأتي هذا المجهول فيقول: اذهبوا
بي إلى النار فقد مزقتُ جسدًا طاهرًا وأزهقتُ روحًا بريئة.
يقولون: وكم من مثل هذا في أوربا! وهكذا يقدر للأمم المغلوبة على أنفسها
أن تأخذ غثاء البحر ولا تغوص على أصدافه، وكم في أوربا من جد وهزل، وقوة
وضعف، وسمو وانحطاط، فما لنا لا نتكئ إلا على الجانب الأخَسِّ من جانبيها؟
ما لنا ننظر من أوربا جانب الانخلاع والابتذال، ولا ننظر منها جانب الجهد القاهر
والعمل الجبار؟ في أوربا مرض قاتل يساور جسمًا قويًّا فهو يغالبه ويقاومه حتى
يقضي الله أمره فيه. وهاهم (أولاء) أولو الرأي وعلماء الاجتماع الأوربيون
يقولون: إن أوربا تنتحر في هذا السبيل الذي نحن فيه، وها هو (ذا) زعيم أوربا
موسوليني يسد سبيل الغواية، ويدرأ سبل الفساد، ويأخذ النساء بالقصد والاحتشام
أخذًا لا رفق فيه ولا هوادة.
في المرأة المصرية الآن عجز ظاهر عن الزوجية الصالحة والأمومة الصالحة،
وهذه الأمومة الصالحة هي المرتبة الثانية بعد الرسالة والنبوة، وإذا أخلصت لها
المرأة أنشأت الأمة التي لا يصرعها غالب، وابتنت الوطن الذي لا تصدعه حادثة،
ولا تكاد اليوم تجد رجلاً يحمد مغبة الزواج، ولا طفلاً يدل على حسن أثر الأم،
ووزارة المعارف المصرية تعين المرأة المصرية على هذا العجز وتدفعها إلى هذا
العبث، فهي تعلم الفتاة في كل مراتب التعليم كما تعلم الفتى، وتربيها على الغرار
الذي تربيه عليه. وهكذا تلبس المرأة لبوس الرجل فلا تصلح أن تكون رجلاً ولا
امرأة. وكان من أخطر عواقب هذه المأساة أن أعلن الفتيات المتخرجات في
الجامعة المصرية تمردهن على الحياة النسوية فآثرن العمل خارج المنزل على
العمل داخله، وبذلك فررن من الميدان الذي هيأهن الله له، وانخلعن عن المملكة
التي توجهن الله فيها، وانسلخن عن الفطرة التي فطرهن الله عليها.
إن الوطن لا يزيد شيئاً إذا ضمت إليه كاتبة في وزارة أو مُدرسة في مَدرسة،
أو معيدة في كلية أو محامية في محكمة، ولكنه يزيد زيادة صالحة إذا أضيفت إليه
أم صالحة مثقفة تعرف للأمومة حقها من العمل الصالح الجليل.
لا سبيل إلى رياضة المرأة وإصلاح أمرها إلا بأن يكون الدين أساس التربية
النسوية في المنزل والمدرسة، فهو وحده الذي يعصمها من السوء، ويصرفها عن
الزلل، وهي بما لها من رقة العاطفة ويقظة السريرة، وانتباه الضمير، ودقة
الوجدان تتصور عظمة الله، وتستشعر حبه وخشيته أشد مما يتصور الرجل
ويستشعر.
الدين وحده هو الذي يروض المرأة على الصبر والاحتمال، وعلى الصدق
والإخلاص، وعلى الأمانة والوفاء، وعلى الزوجية الصالحة والأمومة السعيدة،
وذلك ما عرفته المدارس الأوربية فيما عرفته من قواعد إصلاح المرأة فما لنا لا
نعرفه وما لنا لا نأخذ به؟
أيها المصريون: إن النار تشيع في أحشاء الوطن، وتوشك أن تحرق ما أبقاه
الضنى من قلبه، وإن أمر المرأة هو مقتل هذا البلد، وإن مسألة المرأة هي الأولى
والأخيرة وهي الحياة والموت، هذه كلمتي أيتها السيدة الفاضلة، ولعل فيها مقنعًا
لك.
وتفضلي بقبول تحيتي وإجلالي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ع
__________
(*) الذي بلغني أن صاحب هذين العينين البصيرتين هو الأستاذ عبد الله عفيفي شاعر القصر الملكي العالي.(33/462)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فجيعة الإسلام
باغتيال الغازي محمد نادر خان مللك الأفغان
اتفق أن تأخر صدور هذا الجزء من المنار عن تاريخه المبين في الصفحة
الأولى إلى أن فاجأنا قبل طبع هذه الكراسة الأخيرة منه نبأ البرقيات العامة باغتيال
شرير أثيم، وشيطان رجيم، للملك المصلح العظيم، السياسي الحكيم، وأبي
الشعب البر الرحيم، الغازي محمد نادر خان، ملك الأفغان، فكان لنبأ اغتياله
دهشة واضطراب، وحسب له المفكرون كل حساب، وأول ما حسبوه وقدروه أن
هذا الأمر الإمر، والحادث المنكر، من كيد أمان الله خان الملك الطريد وحزبه
حزب الإلحاد والإفساد، وأنه يخشى أن تتجدد بذلك الفتنة والثورة في تلك البلاد،
فإن صح هذا وكان لهذا الحزب بقية نفوذ في أفغانستان، خشينا أن يعقب هذه
الجريمة جرائم، وأن تجر هذه الجريرة وراءها عدة جرائر، ويشتد التنازع فيها
بين الإيمان والكفر، والعرف والنكر، والفضيلة والرذيلة، والصيانة والإباحة،
حماها الله وحفظها من ذلك.
جاء النبأ العظيم يوم الخميس 20 رجب فأقبل العلماء والأمراء والوزراء
والوجهاء على دار السفارة الأفغانية في العاصمة يعزون وزيرها المفوض الأستاذ
محمد صادق المجددي الذي هو خير ممثل لهذا الملك المسلم المجدد لهداية الإسلام
وحضارته، ويسألونه عما ورد عليه من الأخبار الرسمية، وظلوا يترددون على
دار السفارة ثلاث ليال وثلاثة أيام من بعد صلاة العصر إلى منتصف الليل، ويكرر
كل فوج منهم السؤال في كل وقت عن أنباء الفجيعة، وعن حال البلاد بعدها من
حيث السكينة والطمأنينة فكانت البرقيات كل يوم باعثة على الاطمئنان، وإجماع
الأمة على مبايعة نجل الغازي الشهيد محمد ظاهر خان، وهو شاب يافع يناهز
العشرين. وقد بشرنا الوزير المجددي بحسن تربيته الإسلامية العسكرية فنهنئه
ونعزيه داعين له بأن يكون خير خلف لوالده في إقامة دين الإسلام، وحضارته
الجامعة بين القوة والثروة والفضيلة والعرفان، ونسأله تعالى أن يتغمد سلفه الغازي
الشهيد بالرحمة والرضوان.
وقد أخرنا بعض ما كان جمع من هذا الجزء لإيداعه هذا النبأ وشعور
المسلمين به وفيه، وسنعود إلى الموضوع، وذكر بعض مناقب نادر خان في
الجزء التالي، إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/473)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دائرة المعارف الإسلامية
كان علماؤنا هم الذين سنوا سنة وضع المعاجم التاريخية بأنواعها، وضعوها
أولا لرجال الحديث النبوي، ثم لطبقات العلماء من فقهاء وأدباء وأطباء وغيرهم،
ولكل من يعنى الناس بتاريخهم من الملوك والوزراء والقواد وغيرهم ثم للأنساب
وللبلدان والأمكنة، ثم وضعوا المعاجم للاصطلاحات العلمية وأصغرها كتاب
التعريفات للسيد علي الجرجاني وآخر ما وصل إلينا منها (كشاف اصطلاحات
الفنون) ثم للكتب المصنفة.
ولكن علماء الإفرنج الذين اقتبسوا العلم والحضارة من سلفنا وكتبنا العربية قد
كملوا هذا النوع من التأليف فوضعوا المعاجم الجامعة لجميع شعب التاريخ وأنواع
العلوم والفنون ويسمونها (أنسكلوبيذية) وسماها علماؤنا (دارة المعارف) ثم ارتأى
بعضهم أخيرًا أن تسمى الموسوعات أو المعلمة. ولكل شعب من شعوب العلم
والحضارة دائرة معارف جامعة بلغتها غير المعاجم العلمية والفنية الخاصة. وتبلغ
الدائرة منها عشرات من الأسفار الكبيرة، ويتولى تأليف كلٍّ أفرادٌ كثيرون من
الإخصائيين في العلوم والفنون توزع المسائل على كل منهم فيما يتقنه في وقت
واحد.
هذا النوع من المعاجم الجامعة ضروري لكل أمة لها لغة راقية مدونة كمعاجم
اللغة يتوقف عليها تقدمها العلمي، وقد كان أول من تصدى لسد هذه الخلة في
نهضتنا العربية الحديثة المعلم بطرس البستاني الشهير صاحب المعاجم العربية
والمصنفات والصحف في بيروت في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي،
وقد حبذ رأيه هذا والي سورية التركي والصدر الأعظم للدولة وشجَّعاه ووعداه
بالمساعدة، وسبق إلى هذه المساعدة إسماعيل باشا خديو مصر فاشترك بألف نسخة
من كل جزء يصدر من هذه الدائرة وأهدى مؤلفها مكتبة كبيرة من مطبوعات مصر
للاستمداد منها، وكانت قيمة الاشتراك ألف جنيه مجيدي، وصرح بأن هذا المعجم
ضروري للأمة، ولكن البستاني توفي بعد إصدار عدة مجلدات فتولى العمل بعده
نجله سليم البستاني فانتهى عمله بإتمام الجزء التاسع، وبعد وفاته تولى ذلك سليمان
البستاني بمساعدة أخويه نسيب ونجيب فأصدر الجزءين العاشر والحادي عشر الذي
انتهى بخلاصة تاريخ الدولة العثمانية من حرف العين. وكان المعلم بطرس أصدر
الجزء الأول في سنة 1876 م ثم كان صدور الجزء الحادي عشر في سنة 1900
وحال دون المضي في العمل كساد العلم وعدم وجود أمير ولا كبير كإسماعيل باشا
يساعد عليه، وهو يحتاج إلى نفقات كثيرة ومساعدين على النسخ والترجمة من
اللغات المختلفة.
ثم تصدى الكاتب الاجتماعي محمد فريد أفندي وجدي لإصدار معجم عصري
جديد يحل محل دائرة آل البستاني فألف كتابًا سماه كنز العلوم واللغة ووصفه بقوله:
(دائرة معارف عامة تحتوي على فصيح اللغة العربية وخلاصات العلوم النقلية
والعقلية والتاريخية والعمرانية وتراجم المشاهير وفيها من الفوائد الطبية والعلاجية
والوسائل الحيوية ما يحتاج الإنسان إليه في سائر أحواله المعيشية) وشرح هذه
المقاصد بالتفصيل في صفحة ونصف صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير،
وقد بدأ بطبعه في سنة 1323 وأتمه في آخر سنة 1324 فبلغت صفحاته 858
صفحة وأتمه بذيل لما فاته من المواد في 16 صفحة.
ولما صدر الكتاب تبين أنه لم يف بشيء مما ذكره في مقدمته وأعلنه في
الجرائد والنشرات (الإعلانات) ومن المعلوم بالضرورة أن هذه الصفحات لا تسع
أقرب تلك المقاصد وأسهلها تناولاً على المؤلف، وهو فصيح مفردات اللغة العربية
فضلا عن خلاصات جميع العلوم النقلية والعقلية إلخ إلخ، والمؤلف لم يدرسها كلها
ولا بعضها درسًا يتسنى له به أن يكتب خلاصات لها، فدراسته لم تَعْدُ المدارس
الأميرية الثانوية.
انتقد الناس هذا الكتاب بما كان من غلو مؤلفه في الإعلان عنه كعادته،
وربما كنا من أشدهم انتقادًا فكسبنا به عداوة بعد صداقة، ولكن الكتاب راج بتأثير
الإعلان وتقريظ بعض الجرائد التي تراعي في تقريظها إرضاء المؤلفين بدون
وقوف على ما كتبوا، وهذا الرواج حمله على تأليف معجم آخر مبسوط سماه
(دائرة معارف القرن العشرين) بلغ عشرة أجزاء، وقد وصفه بما وصف به كنز
العلوم واللغة وهو كالشرح له، فما كان من هذا الشرح منقولا من الكتب بنصه فله
حكم تلك الكتب، وما كان منه منقولاً بالمعنى مع التصرف بزيادة أو نقصان ففيه ما
لا يحصى من الخطأ والغلط، حتى روي أن أحمد باشا تيمور المؤرخ الأديب
واللغوي المشهور جمع من الأغلاط التاريخية في هذه الدائرة جزءًا كبيرًا، وسئل
عنه أحد علماء الأطباء المشهورين فقال: إن ما رآه فيه من المسائل الطبية كثير
الغلط، ونقول نحن: إن ما فيه من الغلط والخطأ في العلوم الدينية من نقله وآرائه
لعله أكثر من غيره.
من ذلك تعريفه للحديث في مادة (حدث) بأنه ما روي عن الرسول صلى الله
عليه وسلم من (الكلام) . ومنها ما ذكره من سبب تدوينه، ومنها ما ذكره من
تشكك الأئمة فيه، ومنها ما ضبطه من عدد ما صح عن بعضهم بسبب تشكيكهم
كقوله: إنه لم يصح عن البخاري إلا (2600) فقد صح عنه أضعاف ذلك، وإنما
اختلف الحفاظ في عدد أحاديث جامعه الصحيح بسبب ما فيه من التكرار للحديث
الواحد مختصرًا ومطولًا وموصولاً وغير موصول في الأبواب المختلفة، وهذا
العدد مع زيادة اثنين عليه هو ما حرَّره الحافظ ابن حجر للمتون الموصولة غير
المكررة. ومن المعلوم أن له في أسانيد جامعه هذا شرطًا خاصًّا به لم يشترطه في
غيره مما يصححه في سائر كتبه، ومنه بعض أحاديثه المعلقة فيه، ولا محل
لتفصيل هذا هنا.
(ومنها) قوله: إن أول من ألف الحديث الإمام مالك في الموطأ.
(ومنها) أنه عندما ذكر (المجموعات الشهيرة بالكتب الستة الصحيحة)
أخرج منها جامع الترمذي ووضع فيها سنن الدارقطني، وهذا لم يقله أحد، كما أنه
لم يقل أحد: إن هذه الستة كلها صحاح، وإنما التزم الصحيح في المتون المسندة
منها البخاري ومسلم فقط. وأصحاب السنن يروون الحسان والمعلولة مع بيان
العلل ويكثر في الترمذي الضعاف وهي في ابن ماجه أكثر بل لا تخلو من
الموضوع.
فهذه بضعة أغلاط في كلمة (الحديث) وهي من أهون أغلاطه في المسائل
الإسلامية، فإن الغلط في أصول الاعتقاد وتفسير القرآن.
وجملة القول أن هذه الدائرة لا يوثق بها ولا يعتمد عليها، ولكنها راجت
عند جمهور الناس على قصورها وقلة مادتها لشدة الحاجة إلى هذه المعاجم حتى إن
وزارة المعارف أخذت منها نسخًا لمكتباتها لعدم وجود معاجم علمية تامة باللغة
العربية غيرها، وإن كان ينقصها مواد كثيرة ضرورية في كل مقصد وموضوع من
موادها، وهذا محل الشاهد، ولا نقصد به هذا الكتاب الذي لم نطلع عليه مجتمعًا
إلا من عهد قريب.
بعد هذه المقدمة أقول: إن علماء الإفرنج لم يرو غليلهم من العلم كثرة وجود
هذه المعاجم عندهم حتى انتدب جماعة من علماء المشرقيات منهم إلى وضع معجم
خاص بالشؤون الإسلامية، وهو الذي اشتهر بدائرة المعارف الإسلامية، وقد صدر
منه بضعة أجزاء ولم يتم، وقد أوشك أن يتم كما قيل، وإذا كنا في أشد الحاجة إلى
معجم علمي عام بلغتنا، فإننا لفي أشد الضرورة إلى مثل هذا المعجم الخاص بملتنا
وأمتنا.
وإذا كان لعلماء الإفرنج الذين ألفوا لنا هذا المعجم منة علينا؛ لأنهم فعلوا لنا
ما لم نفعله لأنفسنا، فإن من أكبر العار علينا أن لا نبادر إلى نقله إلى لغتنا، وإن
لمن ينقله إليها لمنة يجب أن نشكرها لهم بالقول والفعل، ونحمد الله أن نهض لأداء
هذا الواجب جماعة منا فشرعوا في ترجمته بلغة الإسلام العامة التي يقرؤها
المسلمون من جميع الشعوب وهي العربية، وإن قراءته لأنفع لنا من قراءة الأصل
بلغاته الثلاث (الإنكليزية والفرنسية والألمانية) للأسباب الآتية: -
(1) إن حاجة الإنسان إلى معرفة نفسه في المرتبة الأولى، وحاجته إلى
معرفته غيره فيما دونها من المراتب العديدة، لا فرق في هذا بين الأفراد
والجماعات والأمم، وهذا أول معجم عام في هذه الموضوع.
(2) إن معرفة النفس لا تتم في صحتها أو كمالها، إلا بالوقوف على آراء
الأغيار فيها من المستقلين في الرأي والجائرين فيه، ولا سيما الخصوم منهم، ولن
نجد هذا كله إلا عند جماعة هؤلاء الإفرنج المستشرقين.
(3) إن المواد التي يعتمد عليها المؤلفون لهذا المعجم في أوربة غزيرة،
وإن طريقتهم في النقل والتمحيص معبدة عندهم، وإن الشعوب الإفرنجية كلها تعتمد
على تحقيقهم وحكمهم لنا وعلينا، وإن أكثر المعجبين بعلوم أقوامهم وحضارتهم منا
يقبلون ما يكتبونه عن ديننا وحضارتنا وتاريخنا، بل الأمر أعظم من ذلك، وهو
أن ملاحدتنا والمرتابين واللاأدريين من أقوامنا يقبلون كلامهم في الكتاب المعصوم
والنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم أيضًا.
(4) إن هذه الترجمة تنقل كلام هؤلاء المؤلفين نقلاً صحيحًا، وتعلق عليه
في الحواشي ما تراه محتاجًا إلى التصحيح والتصويب أو التحقيق، ويستعين
المترجمون على هذا بالإخصائيين من علمائنا في كل مادة من المواد تحتاج إلى هذا،
فبهذا نكون مشاركين للمؤلفين في تأليفهم هذا، ويكون اسم (دائرة المعارف
الإسلامية) موافقًا للمسمى بقدر ما يتفق لها من تحقيق واضعي هذه الحواشي لها.
وأما الذين تولوا أمر الترجمة فهم الأساتذة محمد ثابت أفندي (ليسانس
وماجستير في الفلسفة، وأحمد الشنتناوي (ليسانس في التاريخ وفي الفلسفة)
وإبراهيم خورشيد (ليسانس في التاريخ) وعبد الحميد يونس. وقد عنوا بإصدارها
في أجزاء متفرقة كأجزاء المجلات في كل شهرين جزء، وصدر الجزء الأول في
شهر جمادى الآخرة الماضي الموافق لشهر أكتوبر، وصفحاته 64 من القطع الكامل
منها مقدمة وجيزة في أربع صفحات وفيها حواش بإمضاء الأساتذة إبراهيم مصطفى
ومحمد مسعود ويوسف الدجوي، ومحمد فريد وجدي وأحمد زكي باشا.
وحاشيتا الأستاذين الدجوي ووجدي في موضوع خاص بالقرآن من كلام
الدائرة في إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ففيها أن القرآن سمى أباه آزر مخالفًا
لاسمه في التوراة، فأجاب الدجوي عنها بالاحتمالات التي نعهدها ونعرفها ولا يقبلها
أحد من متعلمي هذا العصر فضلاً عن الإفرنج، والثانية في زعمها (أن شخصية
إبراهيم كما في القرآن مرت بأطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسسة للكعبة)
وأوردت الشواهد من السور المكية فالمدَنِيَّة على هذه الدعوى الخاطئة الكاذبة،
فأجاب عنها فريد أفندي وجدي بكلام طويل أكثره يدور حول الموضوع ويحلق فوقه
عن قرب أو بعد من حيث بقيت أكثر الشبهات رابضة في مكانها، وسأبين هذا في
مقال خاص إن شاء الله تعالى
فأنصح لمترجمي الدائرة أن يعرضا كل ما له علاقة بالدين الإسلامي، ولا
سيما الكتاب العزيز والسنة السنية على أعلى علماء الأزهر علمًا ورأيًا ومكانة وهما
الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق والشيخ عبد المجيد سليم
مفتي الديار المصرية ليكتبا أو يختارا من يكتب فيه ما يبين الحق ويدفع شبهات
القوم بما تقوم به الحجة، ولا يكون موضعًا للنقد، وسببًا للأخذ والرد، فتضعف به
الثقة بالدائرة، وأنصح لقراء المسلمين حينئذ من جميع الأقطار أن يشتركوا في هذا
المعجم ويقتنوه، وقيمة الاشتراك في ستة أجزاء يتألف منها من 64 صفحة من
القطع الكامل 40 قرشًا في القطر المصري و70 في خارجه منها أجرة البريد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(33/474)
الكاتب: عبد الظاهر أبو السمح
__________
مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة
أسست في مكة المكرمة مدرسة لإحياء علم الحديث بهذا الاسم، وقد جاءنا من
مديرها بيان لذلك قال فيه بعد مقدمة وجيزة ما نصه:
ولما كان المسلمون في أشد الحاجة إلى إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ لأن حياتهم متوقفة على ذلك، وكانت مكة المكرمة مهبط الوحي، ومشرق
نور الرسالة، وفيها قبلة المسلمين، فكَّر جماعة من أهل الغيرة في إنشاء مدرسة
بها لهذا الغرض، وقد وفقنا الله تعالى -وله الحمد والمنة- لافتتاحها في 12 ربيع
الأول سنة 1352 بعد الاستئذان من أولي الأمر، ولم يبق إلا مساعدة المسلمين لها
بآرائهم السديدة، وبما تجود به نفوسهم الكريمة من مبرات وخيرات، وبكل ما
استطاعوا من معونة عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة
: 2) ? {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) .
ولا ريب أن هذا العمل من خير الأعمال وأفضلها، ومن الجهاد في سبيل الله
فقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال صلى الله
عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق،
ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) رواه البخاري وغير خَافٍ أن مكة
المكرمة هي أم القرى وموضع احترام المسلمين جميعًا، ويسرهم أن تكون كما كانت
من قبل مورد العلماء، وملتقى الفضلاء.
فهذا أوان العمل، ومن وثق بما عند الله ووعده أنفق في سبيله قال تعالى:
{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد:11)
وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39)
وقال سبحانه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96) .
علوم المدرسة:
أما علوم المدرسة فهي الحديث دراية ورواية، والتفسير وكيفية التفقه فيهما
اقتداء بأئمة الهدى، ولا بد من قراءة الكتب الستة التي هي دواوين السنة والتفقه في
أسانيدها ومتونها وحفظ جملة صالحة منها مع حسن استحضار كثير من مظان
الحديث واللغة العربية ألفاظًا وأسلوبًا وقواعد وآدابًا.
التعليم فيها: أما التعليم فيها فمقرر مجانًا وتصرف الكتب والأدوات للطلبة بلا
مقابل، وبعض الطلبة تعطى لهم إعانات مالية أيضًا. ومدة الدراسة ثلاث سنين
مؤقتًا، وقد تُزَاد إذا دعت المصلحة.
طريقة التعليم:
أما طريقة التعليم فهي كما يأتي: -
(الأول) إلقاء الدروس باللغة العربية الفصحى وتعويد الطلبة الكلام الفصيح.
(الثاني) تعليم القواعد بطريقة الاستقراء والاستنتاج والإكثار من التمرينات.
(الثالث) إشراك الطلبة في الدرس حتى لا يكون كالخطابة والمحاضرة تلقى
عليهم وهم سكوت، ثم ينصرفون.
(الرابع) تعويد الطلبة التفكير الصحيح وحرية الرأي وتثقيف عقولهم.
وللمدرسة هيئة إدارية متشكلة من أعيان الحجاز وعلمائه الموقعين على هذه
النشرة.
الأعضاء المستشارون: وكذلك لها أعضاء مستشارون في سائر الممالك
الإسلامية من العلماء والأعيان، فالمدرسة ترحب بكل غيور على السنة وتدعوه إلى
معاونتها بكل ما أمكن من جاه ومال ورأي وعلم، والله لا يضيع أجر من أحسن
عملاً.
طريقة الإعانة المالية:
(1) إذا كان المتبرع بمكة المكرمة فنرجوه أن يسلم الإعانة لمدير المدرسة
أو لأمين صندوقها ويأخذ سند الاستلام.
(2) وأما من كان في الخارج فعليه أن يرسل الأوراق المالية ضمن
ظروف مسجلة باسم المدير أو يرسل حوالة على البريد أو أحد البنوك أو أحد التجار
المعتبرين باسم المدير، ويوضح اسمه وعنوانه حتى نرسل إليه الوصولات، وكل
من لم يصله الوصل في ظرف شهرين، فله أن يراجع المدير بشأن إعانته وليس
لدار الحديث وكيل طواف متنقل في البلاد يجمع باسمها الإعانات فنحذر الناس من
المحتالين وننصحهم ألا يعطوا أحدًا شيئًا باسم دار الحديث، وليعلموا أن ليس في
الحجاز كله دار حديث مصرَّح لها رسميًّا غير التي بمكة. وفي الختام نسأل الله
تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وينجحنا في مقصدنا، وهو تخريج طائفة من
العلماء المحققين المستقلين في الفكر، والمتبعين للسلف الصالح في فهمهم للدين
والعمل به والدعوة إليه، وما ذلك على الله بعزيز (وقد ضافت الصفحة عن ذكر
أسماء سائر المؤسسين) .
... ... ... ... ... ... ... ... مدير المدرسة
... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد أبو السمح
__________(33/479)
شعبان - 1352هـ
نوفمبر - 1933م(33/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استفتاء في مسائل نصرانية في القرآن
(س27 - 34) من الأستاذ صاحب الإمضاء بمصر:
حضرة الأستاذ الكبير خليفة الأستاذ الإمام ووارثه السيد محمد رشيد رضا
أحييك بتحية الإسلام، وبعد فإن لي مناقشات كثيرة مع بعض دعاة النصرانية، وقد
دعاني ذلك إلى التسلح بالأدلة والبراهين التي تدحض حججهم، وتزهق باطلهم،
وقد عَنَّ لي أن أسأل سماحتكم في بعض أشياء أريد شفاء النفس منها، وهي:
(1) ذكر القرآن الكريم الحواريين وأثنى عليهم في غير موضع، والقارئ
لكتب النصارى يجد أن هؤلاء الحواريين يدينون بالتثليث وبالصلب، وبكل ما
يعتقده المسيحيون على العموم فكيف نوفق بين هذين الأمرين؟
(2) وصف القرآن الكريم أهل الكهف بالتوحيد، والمعروف أن قصتهم
وقعت بعد المسيح بنحو 250 سنة، أي في الزمن الذي غيرت فيه المسيحية،
وانقلبت رأسًا على عقب، وقد ساق الدميري القصة وذكر في خلالها أنه لما أحياهم
الله وخرج أحدهم يلتمس لهم طعامًا، دهش حينما رأى في بيوت المدينة علامة أهل
الإيمان، وقد فسرها الأب شيخو بأنها الصليب. فما الرأي في هذا؟
(3) ذكر القرآن في سورة يس قصة أصحاب القرية، وما كان إرسال
الرسل إليها، ثم التعزيز بثالث، ويفهم من ذلك أن هؤلاء الرسل من الله طبعًا مع
أن المفسرين يقولون: إنهم بعض الحواريين، وذكر بعضهم أسماءهم بالفعل ومنهم
بولس الذي تبين مما قرأته من الكتب أنه مخترع الديانة المسيحية، وواضع أسسها
الجديدة.
(4) لي أصدقاء من المسيحيين المعتدلين يعتقدون في المسيح ما يعتقده
المسلمون فيه من أنه رسول فحسب، ولكنهم يؤمنون بالصلب، وحجتهم في ذلك
أن اليهود يقولون به، والمسيحيون مطبقون عليه، والتاريخ يؤيده بشهادة من
حضروا أو كتبوا. فما رأيك في إيمان هؤلاء خصوصًا وهم يعترفون بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم، وبماذا نزيل هذا الوهم من نفوسهم.
(5) اليهود يعتقدون بظهور مسيح يحيي مجد إسرائيل، فهل يعتقدون مع
هذا أنه ابن الله، وأنه يصلب إلخ، أو أنهم يقولون: إنه رسول كسائر الرسل لا
يمتاز عنهم في شيء، وإذا صح هذا فكيف يزعم النصارى أن كتب اليهود
وأسفارهم القديمة تبشر بالمسيح على الصورة التي يزعمونها له، والتي انتهت بما
انتهت به؟
(6) لليهود توراة وللنصارى كذلك توراة، فهل بينهما اختلاف، وهل
اليهود أقرب في ديانتهم من حيث التوحيد إلى المسلمين أم إلى النصارى، وإذا
كانوا أقرب إلى المسلمين كما يظهر لي، فلم كانت العداوة بيننا وبينهم أشد مما هي
بيننا وبين النصارى كما ذكر القرآن الكريم في سورة المائدة، وكما هو متوارث
لدينا؟
(7) هل يوجد من أحبار النصارى غير القديس برنابا من قال بالتوحيد
المحض وبرسالة المسيح فقط، وبنفي الصلب، وهل يوجد من بينهم بعد ظهور
الإسلام من اعترف برسالة سيدنا محمد، ولو إلى العرب خاصة.
(8) أرى تناحرًا كبيرًا بين الإسلام والمسيحية في هذه الأيام، وأرى تيقظًا
من المسلمين، ونشاطًا من الدعاة المسيحيين، ولدي كثير من عقلاء الأوربيين
غيروا رأيهم في الإسلام، فهل يمكن لنا أن نتفاءل بأن الإسلام يظفر بالمسيحية،
ولو بعد حين طويل مع ما نراه من وقوع بلاد المسلمين في براثن الاستعمار
المسيحي، أرجو إجابة شافية عن كل ذلك، ولكم الشكر الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... المخلص علي الجندي
... ... ... ... ... ... الأستاذ بمدرسة الناصرية الأميرية
أجوبة المنار بالإجمال
تابعة بالعدد للفتاوى السابقة
27- حواريو المسيح وعقيدتهم:
مما قصَّه علينا كتاب الله تعالى من أخبار المسيح عيسى بن مريم عليه السلام
أنه كان له حواريون رضوا أن يكونوا أنصارًا له لم يذكر لنا أسماءهم ولا أنسابهم،
وفي كتب النصارى أنه كان له تلاميذ اثنا عشر ذكرت أسماؤهم في الرسائل التي
يسمونها الأناجيل، وليس فيها أنهم كانوا يدينون بالتثليث ولا أن هذا التثليث
المعروف عن النصارى كان معروفًا عندهم، ولكن أشار إليه يوحنا وهو لم يكن
منهم. ونعلم من تاريخ الكنيسة ومن التاريخ العام أن هذه العقيدة وثنية قديمة
ألصقت بالنصرانية بعد مرور قرون عليهم، ولكن في هذه الأربع قصة صلب
المسيح، وأن تلاميذه كانوا معه عندما أخذته الحكومة الرومانية بآراء اليهود لصلبه
وأسلمه واحد منهم، وفي القصة ما فيها من الاختلاف بين مدونيها من الأربعة وبين
غيرهم ممن كتبوها ورفض مجمع نيقية كتبهم وأناجيلهم عندما أسس هذه النصرانية
المعروفة بأمر القيصر قسطنطين الوثني وسياسته ومقتضى إرادته، ومنها إنجيل
برنابا الذي ترى فيه قصة الصلب موافقة للقرآن كما ترى التوحيد في أبلغ الآيات
البينات، والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في أجلى العبارات، وقد كان برنابا
حاضرًا تلك القصة فهو يخبر عن عيان، على أن القصة عند الأربعة لا تدل على
هذه العقيدة البولسية الكنسية المضاهئة لعقيدة الهندوس في قصة كرشنا وثالوثهم
الهندي القديم وأمثالها من عقائد التثليث المصري والأوربي القديم، فيقال: إن
الحورايين كانوا يعتقدونها.
28- توحيد أهل الكهف وشرك قومهم:
الواجب علينا في قصص القرآن أن نفقهها ونتدبر حكمة الله تعالى فيها ونعتبر
بها كما أنزلها، من غير زيادة عليها أو نقص منها بآرائنا أو بالرواية عن غير
المعصوم فيها، وقد فتن أكثر المفسرين للكتاب العزيز بالروايات الإسرائيلية في
قصصه وكثيرها كذب مفترى، وما فيها من صحيح فلا حاجة بنا إليه، حتى صرنا
نحتاج إلى التوفيق بين نصوص الوحي الحق المعصوم وبينها، وإلى ما هو شر من
ذلك.
فأول ما أجيب به السائل الفاضل أن يضرب عرض الحائط بكل ما روي في
القصة مما لا تدل عليه عبارتها سواء منه ما رواه الدميري والمفسرون، وما قاله
(شيخو) الجزوبتي (فالأول) قد يكون ناقلاً كغيره عن الإسرائيليات الموضوعة
(والثاني) قد يكون مُحَرِّفًا لقصة مروية أو مصنوعة، وقد عهدنا التحريف وافتراء
الكذب من دعاة الكنيسة، ولا سيما هؤلاء الجزويت.
أقول: ثانيًا: إن المعلوم من كلام الله الحق المبين، ومن بعض نصوص ما
يسميه النصارى بالأناجيل وغيره من كتب العهد الجديد، ومن روايات التاريخ
الصحيح، أن المسيح عليه السلام وأتباعه كانوا موحدين لله تعالى مثله على عقيدة
التوراة.
وقد علم من التاريخ أن الملك قسطنطين مؤسس التثليث في هذه النصرانية قد
نَكَّلَ بالموحدين الخُلَّص وشرد بهم من خلفهم، وأن من بعده من خلفائه في كفالة هذا
الدين الرسمي كانوا ينتقمون من الموحدين ويعاقبونهم، وإنما كان ذلك في الربع
الثاني من القرن الرابع، حتى صاروا يكتمون عقيدتهم، ويوصي بها بعضهم بعضًا
ومن يأتي بعدهم، ويبشرونهم بالنبي الأعظم، الذي بشر به موسى وعيسى ابن
مريم عليهما السلام كما ورد في قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى أن ظهر
المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا يزال فيهم موحدون، بل كثير بعد انتشار
الحرية في أوربة إلى هذا اليوم.
(وثالثًا) : إن المحققين من مفسرينا لم يثبت عندهم أن أصحاب الكهف
كانوا من النصارى، فالحافظ ابن كثير قال في تفسيره: وقد ذكر أنهم كانوا على
دين المسيح عيسى بن مريم فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية
بالكلية إلخ.
(ورابعًا) إن فرضنا أنهم كانوا على دين المسيح، وأنه ظهر لهم بعد
استيقاظهم وخروج أحدهم من الغار علامة الصليب، فإن هذا لا يكون معارضًا
للقرآن، فكلام الله هو الحق، ومخالفه هو الباطل، لا فرق فيه بين قديم وجديد
فالمتقدمون كانوا يكذبون كالمتأخرين، وقد يكذب غيرهم من بعدهم عليهم وعنهم
وإنما جئت بهذه القضايا الكلية ليقاس غيرها.
29- رسل أصحاب القرية:
إن أكثر المفسرين نقلوا ما أشرتم من تفسير أصحاب القرية وأنها أنطاكية وأن
الرسل الثلاثة الذين جاءوها هم رسل المسيح، ومنبع هذه الروايات كعب الأحبار
ووهب بن منبه اللذان بَثَّا في المسلمين أكثر الإسرائيليات الخرافية، وابن عباس
رضي الله عنه قد روى عن كعب. وقد فَنَّدَ الحافظ ابن كثير هذه الروايات من ثلاثة
وجوه (أحدها) أن ظاهر القصة أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل لا رسل
المسيح إلخ. (ثانيهما) أن أهل أنطاكية التي أرسل إليها المسيح رسله قد آمنوا،
بل كانت أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت مركز بطركية إلخ (ثالثها) أن الله
تعالى قد أخبر أن أهل هذه القرية قد أهلكهم الله تعالى بصيحة واحدة فإذا هم
خامدون، وقد ثبت أن الله تعالى لم يهلك بعد نزول التوراة أمة من الأمم بعذاب
الاستئصال إلخ، فراجع القصة في المجلد السابع من هذا التفسير (طبعة المنار)
ولا تنس أن بولس كان عدوًّا للمسيح، وإنما أظهر الإيمان لمن يسمونهم الرسل بعد
رفعه، وبرنابا هو الذي قدمه لهم.
30 - حكم الذين يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
وبقصة الصلب:
إن من ذكر السائل من أصدقائه الذين يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته، وبأن المسيح رسول أيضًا لا إله، وهم مع ذلك يصدقون قصة الصلب لا
بد أن يكونوا يفهمون أن قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: 157)
لا يدل على نفي هذه القصة من أصلها، بل يتأولون نفي الصلب بنفي قتله وموته
به كما يدعي النصارى لإثبات عقيدة الفداء الوثنية، فعلى هذا يجوز عندهم أن
يكون الصلب الصوري وهو التعليق على الخشبة قد حصل، ولكن لم يكن مفضيًا
إلى موته عليه السلام، بل أنجاه الله ورفعه إليه، وإنني رأيت بعض المسلمين
يعتقد هذا لظنهم أن قصة الصلب متواترة تواترًا حقيقيًّا فهي قطعية يجب تأويل
ظاهر الآية للجمع بين القطعيين كما إذا قيل فلان شنق وقتل شنقًا؛ لأنه ثبت قطعًا
تعليقه بحبل المشنقة، وكان سقط مع الحبل أو أفلت منه فنجا ولم يقتل كما يقع
كثيرًا، ففي مثل هذه الحالة يكون صادقًا من يقول: إنه لم يقتل ولم يشنق، وما
قتلوه أو ما شنقوه بل أنجاه الله، وقبول هذا التأويل أهون من تكفير من يتأول
ظاهر الآية عن اعتقاد، والمَخْرَج من هذا الوهم أن يعلموا أن قصة صلب المسيح
غير قطعية وغير متواترة، وأن المسيحيين اختلفوا فيها من العصر الأول. وقد
بيَّنا هذا بالدلائل الواضحة في تفسير الآية، وجمعنا ذلك في رسالة طبعت على
حدتها باسم (عقيدة الصلب والفداء) ونشرنا معها بحثًا في تأييد قولنا للدكتور محمد
توفيق صدقي رحمه الله تعالى.
31- مسيح اليهود المُنْتَظَر والمسيح الحق:
مسألة مسمى التوراة عند الفريقين مسألة طويلة معقدة، وأما مسألة المسيح
فاليهود يعتقدون أن مسيحهم المنتظر ملك مؤيد من الله تعالى يعيد لهم ما سُلِبَ منهم من
ملك سليمان لا نبي مرسل، والنصارى يعتقدون ما علمت، والبشارات في كتبهم
إشارات ورموز يحملها النصارى على الملك الروحي، واليهود على الملك السياسي
والمالي! !
وقد فصلنا المسألتين في تفسير المنار فراجعهما فيه مع حقيقة التوراة.
32- عداوة اليهود ومودة النصارى للمسلمين:
قد بينت في تفسير آية المائدة في هذا الموضوع أنها نزلت في يهود الحجاز
ونصارى الحبشة وموضوعها العداوة والمودة لا العقيدة، فراجعه. وأما قولكم: إن
مضمون الآية في الفريقين متوارث بين المسلمين إلى اليوم فهو خلاف الواقع؛ لأن
اليهود بعد الفتوحات الإسلامية لم يعادوا المسلمين كما عادوهم في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الحرية ولم ينجوا من اضطهاد النصارى لهم
إلا في ظل الحكومات الإسلامية في فلسطين وسورية ثم في الأندلس ثم في الترك،
وإنما يعادوننا اليوم في فلسطين؛ لأنهم يريدون سلبها منا، وأما النصارى فقد أسسوا
عداوة الإسلام بالحروب الصليبية ويغذيها الاستعمار الأوربي والتعليم الكنسي
الإفرنجي إلى اليوم، وإذا لم توجد هذه الأسباب يكون النصارى بطبيعة دينهم أقرب
إلى المودة مع المسلمين؛ لأن اليهود أصحاب أثرة وعصبية نسبية موسوية، وقد
بينت هذا في تفسير الآية أيضًا.
33- التوحيد أصل دين النصرانية:
ذكرت في جواب السؤال الأول آنفًا وهو فتوى (27) أن التوحيد هو أصل
النصرانية وقديم فيها، وقد فصلت هذا في التفسير أيضًا فراجعه في مواضعه،
وبعد ظهور الإسلام أسلم أكثر نصارى جزيرة العرب وسورية ومصر وإفريقية إلخ،
ومنهم طائفة أثبتت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب وحدهم وتسمى
العيسوية.
34- عاقبة التناحر بين المسلمين ونصارى الإفرنج:
لا شك عندي في أن ما ذكره السائل من التمادي بيننا وبين الإفرنج الذين
اتخذوا النصرانية آلة لمقاومة الإسلام والقضاء عليه لمصلحتهم الاستعمارية ستكون
عاقبته للمسلمين بشرطها الذي بينه الله لنا في كتابه وقد فصلت هذا مرارًا
كثيرة في التفسير، وفي المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام، فإنه كان يعتقد هو
وأستاذه حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله أرواحهما أن جميع
شعوب الإفرنج سيدخلون في الإسلام وينهضون به، وقد أقمت الحجج على هذا
وبنيت عليه دعوتهم إلى الإسلام في كتابي (الوحي المحمدي) وهو الكتاب الذي
يترجم الآن في بضع لغات، وقد نفدت نسخ طبعته الأولى في أربعة أشهر ويعاد
طبعه مرة ثانية في هذه الأيام.
__________(33/507)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات المنكرة في الدين
ومشيخة الأزهر
كثرت في هذا القرن المطبوعات المشتملة على ما يخالف أصول الدين
ويصد عن هدايته مما يكتبه الزنادقة والملاحدة بسوء نية، ومما يكتبه الجاهلون
المغرورون بمعارفهم الناقصة، كما كثرت في ذلك ما يكتبه الفريقان في المجلات
والجرائد اليومية، ومنه ما هو مخالف لأصول الدين وفروعه في قوالب مدح له
ودفاع عنه.
وكان مشايخ الأزهر في غفلة معرضين عن ذلك كله لا ينكرون منكرًا ولا
يؤيدون معروفًا إلا قليلاً منهم في قليل مما يسألون عنه، حتى ظهرت في هذه
السنين الثلاث مشيخة الظواهري فكانت بدعًا من كل ما سبقها في أمور كثيرة منتقدة
منها طلب مصادرة بعض المطبوعات بحق وبغير حق، ومصادرة كتب تقر ما هو
شر منها وأضر وأشد مخالفة للإسلام وجناية عليه، وقد أنكر عليها الكتاب من
الأزهريين وغيرهم بعض ذلك كطلبها من الحكومة منع نشر كتاب (تاريخ بغداد)
الشهير للإمام الحافظ الخطيب لأن فيه طعنًا على الإمام أبي حنيفة في ترجمته أورده
المؤلف بالروايات كما أورد كثيرًا من الثناء عليه.
ثم إنني علمت أخيرًا أن شيخ الأزهر طلب مصادرة كتاب فني في حيوية
الأرض بناء على اشتماله على كفر صار به مؤلفه مرتدًّا عن الإسلام، ونشر هذا
الخبر في جمادى الأولى، ولم أر نص ما قررته مشيخة الأزهر في ذلك، ولا ما
نشرته جريدة الأهرام من خبره، ولكنني علمت مضمونه من مقالة نشرها مؤلف
هذا الكتاب في جريدة الأهرام، فرأيت أن المسألة تحتاج إلى بيان وتفصيل ينبغي
أن يطلع عليه مؤلفه، وكل من قرأ الخبر فأرسلت إلى الأهرام المقالة الآتية في ذلك،
فكان لها تأثير حسن عند علماء الأزهر وغيرهم، وأثنى لي عليها من أعرف
ومن لا أعرف، وإنني أنشرها هنا لئلا تضيع وهذا نصها:
(كتاب حيوية الأرض المُصَادَر، وحقيقة الإسلام)
قرأت اليوم (غرة جمادى الآخرة) ما نشر في الأهرام لمؤلف هذا الكتاب ولم
أطلع على ما نشر (في 27 جمادى الأولى 17 سبتمبر) من خبر مصادرة الحكومة
له بطلب مشيخة الأزهر؛ لاشتماله على كفر صريح خلاصته أن الأرض كائن حي
فيه جميع وظائف الأحياء الفنية، وأن له إلهًا مدبرًا في داخله هو كالمخ في تدبير
حياة الإنسان، وأن لكل جرم من الأجرام السماوية - من سدم وشموس وكواكب
وأقمار - إلهًا مستقلاًّ كإله الأرض، وأن كل جماعة من هذه الأجرام تكون وحدة
سديمية لها إله، وأن للسدم كلها إلهًا واحدًا هو إله الكون كله، وهو يقيم الدلائل
الفنية على رأيه هذا كما يقول. بل يستدل عليه ببعض الآيات القرآنية بحسب فهمه
لها.
وذكر في مقاله هذا أنه أرسل إلى فضيلة شيخ الأزهر خطابًا مسجلاً أعلن له فيه
استعداده مع السرور لتبادل الرأي معه بشأن الكتاب قائلا له: (وثقوا أنني لن أهرب
من الحق إذا بدا لي، ولن أصر على الباطل إذا تبينته) .
ثم قال في آخر المقال:
(وبعد فإنني لم آسف على مصادرة الكتاب بقدر ما أسفت على وصفي
بالكفر في الوقت الذي أقول فيه (أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) ومع
ذلك فإنني أَتَأَسَّى بمصائب غيري. وقد صدق من قال: إن من يرى مصيبة غيره
تهون عليه مصيبته، والمصيبة التي أمامي هي مصيبة الأستاذ فريد وجدي فإنه لا
لسبب سوى إبداء رأيه في المحكم والمتشابه من القرآن يرميه بالكفر والإلحاد
حضرة مصطفى صبري أفندي شيخ الإسلام بتركيا سابقًا. فما عسى يا ترى ما
سيقوله عني) ؟ اهـ.
أقول: إن مسألة مؤلف كتاب حيوية الأرض (وهو الأستاذ محمد أفندي
النويهي المدرس بمدرسة الأمير فاروق الابتدائية في المنيا) يجب النظر فيها من
ثلاث جهات: (1) حكم الدين الإسلامي فيها. (2) ما يجب على مشيخة
الأزهر فيها وفي أمثالها. (3) الفرق بينها وبين مسألة الأستاذ محمد فريد أفندي
وجدي التي لم يفهمها؛ إذ ظن أن شيخ الإسلام كفره بسبب إبداء رأيه في المحكم
والمتشابه لا لسبب سواه.
(1) أما حكم الدين في مسألته، فإنما يعرف ببيان حقيقتها وهي: رجل
مسلم يشهد أن لا إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله، عرضت
له شبهة علمية فنية اعتقد بها تعدد الآلهة أو الأرباب في الكون على الوجه الذي
تقدم تلخيصه، ويرى أن اعتقاده هذا لا ينافي إسلامه، ولا يكذب نصًّا من كلام الله
ولا من كلام رسوله، بل هو يتأول بعض آيات القرآن ويراها دالة عليه، فما حكم
الإسلام فيه؟
الجواب: أن القول بتعدد الآلهة والأرباب المدبرة لأمور الأحياء في الكون
نقض للتوحيد الثابت بنصوص الكتاب والسنة القطعية عليها المعلومة من الدين
بالضرورة، وأن الشبهة العلمية الفنية التي عرضت لقائله تنافي كونه جاحدًا معاندًا،
وكونه مكذبًا بالله ولرسوله بالتعمد، فهو متأول فيما هو كفر قطعي، فلا يحكم
عليه بالارتداد عن الإسلام إلا بعد دحض شبهته، وإقامة الحجة عليه بالتوحيد
الخالص، وهذا أمر يسير غير عسير، فإذا رجع عنها - وهو المرجو - كان
إسلامه صحيحًا، وإن أصر عليها - وهو مستبعد - كان مرتدًّا تجري عليه أحكام
المسلمين، وسأبين بطلان شبهته هذه.
(2) وأما الواجب على مشيخة الأزهر فهو أن تبادر إلى تفنيد أمثال هذه
الشبهات، وإثبات الحق للجاهل المتأول بالبراهين والبينات، فالتأول من موانع
تكفير الشخص المعين، ومجاله في زماننا أوسع؛ لأن ما كان معلومًا بالضرورة
من قبل لم يعد معلومًا فيه، وقد تأكد هذا الواجب على رئيسها الأستاذ الأكبر في
هذه النازلة بعرض الحكومة كتاب (حيوية الأرض) عليه، وزاده تأكيدًا ما كتبه
إليه مؤلفه من استعداده ورغبته في البحث معه فيه، ووعده باتباع الحق إذا تبين له
، وإنما تقوم الحجة عليه بتبين الحق له كما قال الله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115)
وقد علم من مقال الرجل أن شيخ الأزهر لم يبال بكتابه، ولم يطلبه إلى
رحابه، ولا ندري ما عذره في نظر المسلمين وما يكون عذره عند ربه، ولا سيما
إذا كان حكم عليه بالكفر كما يفهم من مقاله، وما أظن أن يتجرأ على هذا التكفير
على إطلاقه، وهو يسكت على ما هو شر منه، على أنه لا يجوز السكوت عنه،
فليت إدارة الأهرام تستخرج لنا قرار المشيخة الرسمي فيه بنصه، فإنها أقدر من
غيرها على هذا الاستخراج كما علم بالتجارب.
(3) وأما الفرق بين هذه المسألة ومسألة الأستاذ فريد أفندي وجدي فهو بعيد
مما ذكره مؤلف كتاب (حيوية الأرض) ومما فهمه خطأ من المقالات التي نشرتها
جريدة الأهرام في مسألة المحكم والمتشابه من الآيات.
كان أول ما تصدى له شيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي من الرد على
محمد فريد وجدي أفندي هو دفاعه عن حكومة الجمهورية التركية إذْ أعلنت رسميا
مروقها من الإسلام واختيارها اللادينية (لا ييك) عليه، وتفضيل القوانين الأوربية
على شريعته، وإجبار شعبها على ترك التعبد وتلاوة القرآن باللغة العربية وترجمته
باللغة التركية وكتابة ترجمته بالحروف اللاتينية إلخ؛ ليقرءوا هذه الترجمة دون
القرآن العربي المنزل من السماء كسائر أذكار الصلاة إلخ، ففريد أفندي وجدي عَدَّ
هذا من التجديد العصري الذي اقتضاه ارتقاء الشعب التركي فأصبح لا يليق به
التشريع الإسلامي العتيق البالي، وشيخ الإسلام يعتقد كغيره أن هذا في جملته كفر
وارتداد عن الإسلام ممن فعله وممن يقره ويستحسنه.
وتلا ذلك مباحث نشرها فريد أفندي وجدي في جريدة الجهاد عنوانها (الإسلام
دين عام خالد) ثم جمعت في كتاب مستقل، وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف
لعقائده المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وكل ما كان كذلك فهو مروق
من الإسلام الذي درسه شيخ الإسلام في مدارس الآستانة من تفسير وحديث وتوحيد
وفقه وهو عين ما يُدَرَّس في الأزهر، وفي سائر بلاد الإسلام، وقد رد على بعضه،
وهو أولى من كتاب حيوية الأوض بالمصادرة؛ لأن ما فيه من مخالفة عقائد
الإسلام قد يخفى على الجمهور، وما في كتاب حيوية الأرض من مخالفة أصل
التوحيد فهو لا يخفى على أحد من المسلمين.
وتلا هذا مقال نشره فريد أفندي في جريدة الجهاد وغيرها عنوانه (الإسلام
يدعو إلى الأخوة العالمية العامة، وإلى توحيد الأديان، وتحكيم العقل والعلم في
العقائد) وفي آرائه في ذلك ما ينافي الإسلام المعروف في كتاب الله وسنة رسوله،
وما أجمع عليه المسلمون من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وفريد
أفندي وجدي قد صرح وما زال يصرح أن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون
ينقضه العقل وعلم هذا العصر، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما يفسره
هو به، ثم صرح بأنه كشف شيئًا جديدًا في القرآن يمكنه الاستناد عليه في أساس
رأيه، وهو تحكيم العقل والعلم في العقائد الإسلامية بلا قيد ولا شرط، وهو الآيات
المتشابهات.
ومما بناه على هذا الأساس أن الآيات (المعجزات) التي أيد الله تعالى بها
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعذاب النار الموصوف في القرآن، كل ذلك
مخالف للعقل والعلم فلا يمكن الإيمان به (أي على ظاهره) وإن ما فهم هو به
المتشابهات والمحكمات يبيح لنا عدم الإيمان بذلك كله، كما تدل عليه آياته فهو من
المتشابهات إلخ، والمتشابه لا يمس العقائد القطعية، بل أنكر عليه عدة دعاوى
مخالفة لأصول الإسلام وعقائده هو يدعو إليها ويناضل عنها، مع علمه بأنه متبع
فيها لغير سبيل المؤمنين، فهذا هو الفرق بينه وبين مؤلف كتاب (حيوية الأرض)
الذي خالف عقيدة واحدة بشبهة فنية هو غير جازم بها، ويصرح بأنه مستعد
للرجوع عنها إذا تبين له خطؤه فيها، وسأنشر مقالاً في تحقيق الحق في المتشابهات
يتبين به خطأ الإمام الرازي فيما نقل عنه فريد أفندي وجدي ولم يفهمه، لا رأيه
وحده [1] .
ثم أقول لصاحب هذا الكتاب أن شبهته هذه نظرية فنية هي لم تبلغ أن تكون
من ناحية الفن نفسه عقيدة قطعية لا يمكن نقضها، وبناء على هذا يصرح بأنه
مستعد للمناقشة فيها من ناحية الدين، كما أنه مستعد لذلك من ناحية الفن بالأولى،
فهم ظنية راجحة عنده يقابلها من قطعيات الدين ومن ظواهره الراجحة ما يبطلها
لهذا يجب عليه ترك ما استنتجه منها، وهو كون المركز الحيوي المُدَبِّر للأرض
هو إلهها أو إله أهلها، وحينئذ لا يضره في دينه اعتقاد أصل نظريته هذه. وإنني
أذكر له في هذا المقال المختصر عدة مسائل، أرجو أن تكون كافية لإقناعه بحقيقة
توحيد الإسلام.
(المسألة الأولى) إذا ثبت أن للأرض مركزًا لتدبير كل ما فيها من نظام أو
حياة فهذا لا يقتضي أن يكون هذا المركز أو ما فيه من مصدر التدبير إلهًا يعبد؛ إذ
لا يمكن أن يكون هو الرب الخالق العليم القدير الفعال لما يريد الذي يُدْعَى لكشف
الضر عمن يشاء وهبة النفع لمن يشاء كما أن دماغ الإنسان الذي هو مصدر النظام
الحيوي في شعوره ومداركه ليس ربًّا لجسده يستحق العبادة ويُدْعَى لجلب النفع
وكشف الضر، وإنما رب الناس ملك الناس إله الناس هو الله الذي أثبت المؤلف
أنه رب الكون كله، وهذا هو اعتقاد الإسلام.
(المسألة الثانية) أنه قد ورد في نصوص الكتاب العزيز والأحاديث النبوية
أن الله تعالى قد وكل بالعالم ملائكة من عنده لتدبير أموره من السماء إلى الأرض
وقد اتفق مفسرو السلف على تفسير قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات:5)
بهذا النوع من الملائكة، وفي الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر أنواع منها كالملك الذي ينفخ الروح في الجنين عندما يتم تكوينه في
الرحم، والملائكة الذين يتعاقبون على الإنسان في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} (الانفطار: 10- 11) وفيها ذكر الملائكة
الذين ينزلون في السحاب، وملك الجبال، وملك الموت وملائكته وحملة عرش
الرحمن الذي هو مركز التدبير العام للعالم كله كما بيَّناه في تفسير قوله تعالى:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: 3) .
فإذا صح بالأدلة الفنية أن للأرض حياة، وأن لهذه الحياة مركزًا عامًّا فالأقرب
إلى الشرع حمل هذا على ملك من هؤلاء الملائكة المدبرات لأمور العالم، ويخالف
أصول الشرع وعقائده تسمية ذلك إلهًا، والدعوة إلى عبادته، فإذا كان مؤلف هذا
الكتاب مؤمنًا بأن القرآن كلام الله تعالى، وأن محمدًا رسول الله، وليس لنا أن نشك
في إيمانه - فيجب عليه أن يتوب من هذه النزغة كما وعد شيخ الأزهر في الخطاب
الذي أرسله إليه بأنه يرجع إلى الحق إذا تبين له، وإنه لفاعل إن شاء الله تعالى.
(المسألة الثالثة) أن الأستاذ المؤلف لا بد أن يكون مطلعًا على ما سبق إليه
فلاسفة اليونان والرومان وغيرهم من الشعوب القديمة الذين كانوا يقولون: إن لكل
شيء عام ذي نظام روحًا هو المتصرف فيه وقد يسمونه ربًّا أو إلهًا، حتى الأمور
النفسية والاجتماعية، فيقولون: إله الحب، وإله الحرب، وإله البحر إلخ، وما
قالوا هذا القول إلا استنادًا إلى شبهة فنية كشبهته، أو تحريفًا لنص ديني مأثور عن
بعض الرسل الذين كانوا قبلهم بلغوا أقوامهم أن لله تعالى ملائكة سخرهم لإدارة
العالم، وقد علم أن الإسلام أبطل كل أنواع الوثنية القديمة والحديثة، وجدد عقائد
الأنبياء المرسلين الذين درست بعضهم أديانهم وحُرِّفَ بعض، فلا ينبغي لمسلم أن
يشتبه عليه شيء منها.
(المسألة الرابعة) أن ما استدل به على شبهته من تأويل الآيات في مُحَاجَّة
إبراهيم عليه السلام لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب من سورة الأنعام تأويل بعيد
عن أصول الإسلام وعقائده، وغير مُجْدٍ في إثبات مذهبه المبتدع، وليراجع معناها
في تفسير المنار.
(المسألة الخامسة) أن قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب
الناس على قدر عقولهم قد اشتهر على الألسنة أنه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم لفظه (أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم) وهو لا يصح مرفوعًا،
بل طرقه كلها ضعيفة، ولكن روى البخاري من كلام علي كرَّم الله وجهه أنه قال:
(حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟) وذكر مسلم في
مقدمة صحيحه أن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قومًا
حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ، ومراد الصحابيين الجليلين رضي
الله عنهما مراعاة عقول الناس وأفهامهم في تعليمهم ووعظهم وهو ما اتفق عليه
علماء فن التربية والتعليم في مراعاة درجات طلاب العلم وأسنانهم، وليس معناه
هنا وهناك أن يعلموهم خلاف الحق أو أن يكتموا الحق عن كل أحد، ولا أنه يوجد
في كلام الله وكلام رسوله شيء غير صحيح.
ومن يريد أن يكتب في أصول الإسلام والجمع بينه وبين المسائل العلمية
والفنية فعليه قبل كل شيء أن يكون على بينة تامة من كل منهما وما يصح منهما
وما لا يصح، والأستاذ فريد أفندي وجدي يتدهور أحيانًا في مباحثه لعدم وقوفه على
ما يصح وما لا يصح من الأحاديث أو من معانيها ومعاني الآيات كعَدِّه من أصول
الإسلام في مباحثه الأخيرة حديث (الدين هو العقل فمن لا عقل له لا دين له)
وحديث (الدين المعاملة) ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ولا ذاك،
ولا يصح أيضًا ما فسرهما به.
هذا ما أراه كافيًا لبيان الحق في شبهة الأستاذ مؤلف كتاب (حيوية الأرض)
دفعني إليه ما آنسته في كلامه من الإخلاص والرغبة في تمحيص الحقيقة، فإذا رآه
كافيًا فليحمد الله تعالى ويدعو لي بخير، وإن بقيت الشبهة متمكنة منه فالذي أراه أن
يقابلني لنتحدث فيها، فإن اللسان أقدر على البيان من القلم، والسلام. اهـ.
(المنار) لما نشرت هذه المقالة في الأهرام كتب الأستاذ محمد فريد أفندي
وجدي ردًّا عليها نشرته له الأهرام ننشره ونرد عليه لتمحيص الحقيقة، وما نحن
عليه من حسن النية، على ما فيه من مدحه لنفسه وكتابه بما لا نصدقه كله. هذا
نصه:
دفع تهم ورد عدوان
من فريد إلى رشيد
قرأت في (الأهرام) كلامًا عني للأستاذ رشيد رضا وقرأت في الصدد نفسه
حكمة للجاحظ وهي قوله: (الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان،
فيهن تمام كل دين، وصلاح كل فساد، وأضدادهن سبب كل فرقة، وأصل كل
فساد) فعجبت من هذا الاتفاق، ورجوت الله أن يجعلنا من أهل الصدق والوفاء
والصبر والحلم.
عهدت الشيخ رشيد رضا مناظرًا عنيفًا، ولكني ما كنت أعهده كما أراه أخيرًا
مُتَقَوِّلاً متجنيًا يضع قلمه حيث أراد لا يبالي أين وقع، ولا يكترث أخطأ أم أصاب؟
هاجمني الشيخ رشيد، وأنا آمَنُ ما أكون منه آخِذًا عليَّ أمورًا:
(أولها) ما كتبته في المحكم والمتشابه نقلاً عن ثقات المفسرين فحكم
بخطئي وخطأ إمامهم فخر الدين الرازي.
(ثانيها) ادعى عليَّ أني أؤيد ما رضيه الأتراك من مبدأ اللادينية، ومن
إيثارهم القوانين الأوربية على شريعة الإسلام، ونقل عني أني قلت: إن كل هذا
اقتضاه رقي الشعب التركي الذي أصبح لا يناسبه التشريع الإسلامي العتيق البالي
(اللهم عفوًا) .
(ثالثها) أني كتبت فصولاً في جريدة الجهاد تحت عنوان الإسلام دين عام
خالد وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف لعقائده.
(رابعها) أني نشرت بالجهاد تحت عنوان الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية
العامة، وإلى توحيد الأديان، وتحكيم العقل والعلم في العقائد، وأن في آرائنا في
ذلك ما ينافي الإسلام.
(خامسها) أني صرحت بأن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون ينقضه
العقل وعلم هذا العصر، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما أفسره أنا به
(أعوذ بالله)
(سادسها) أني أنكرت معجزات الأنبياء وعذاب النار.
(سابعها) أني استندت في إشادتي بالعقل على حديث لا يصح عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
هذه جملة التهم التي رماني بها:
فأما عن الأمر الأول، فإني منتظر أن أقرأ فيما وعد بنشره خطئي وخطأ إمام
المفسرين.
وأما عن الأمر الثاني فإني قد كتبت في مجلة الفتح، وهي الصحيفة التي
رضيها مناظري مجالاً لمساجلتي، قولي وهو:
(أما ما ذكره الأستاذ (أريد مناظري ذلك) من أن الحكومة التركية تمنع
الأذان والصلاة بالعربية، وتعاقب من يؤديهما بها، فالجواب عليه هو ما ذكرته
مرارًا (أريد في الأهرام والفتح) وهو أن الأتراك في حالة ثورة لم تنته بعد،
والثورة تدفع إلى كثير من (الإفراطات) وضربْتُ مثلا بالأمة الفرنسية التي تجرأت
على حذف الدين أصلاً من مجتمعها في إبان ثورتها ثم أعادته بعد أن هدأت
أعصابها وثاب إليها اتزانها) .
فهل فهمت من هذا أنني أقررت الأتراك على ما صنعوا، وقد وصفته بأنه
نتيجة ثورة، والثورة فيها إفراط وتفريط وغلو، وشبهت عملهم بعمل فرنسا إبان
ثورتها؟
فأنا اليوم أطلب إليه أن يأتيني بالأدلة على ما عزاه إليَّ من نص كلامي،
لأنها تُهَمٌ تضر بمثلي ضررًا لا حدَّ له، وتحط من كرامتي إلى مدًى بعيد، وها أنا
أفصل له طلباتي مستشهدًا جميع قراء (الأهرام) عليها فإليه:
أ: من أي كلام لي أخذ عليَّ أني أستحسن مبدأ اللادينية؟
ب: ومن أي قول لي أخذ تفضيلي للقوانين الأوربية على شريعة الإسلام،
وقد قلت في جميع كتبي بأن شريعة الإسلام أكمل الشرائع، وأن أوربا لما تصل
إلى مثلها، وأنها شريعة خالدة تصلح لكل زمان ومكان، وأن العالم كله سيعول
عليها في المستقبل؟
ج: ومن أيَّةِ كتابة لي استمد اتهامي بما ذكره عني من أني قلت: إن الشعب
التركي أصبح لا يناسبه التشريع الإسلامي العتيق البالي (أستغفر الله) أنا الذي
أعلنت على رءوس الأشهاد أن العالم المتمدن كله سيؤوب إليها، ودللت على ذلك
في بحوث مستفيضة؟
وأما عن الأمر الثالث، وهو أني كتبت مقالات تحت عنوان (الإسلام دين
عام خالد) فيها ما هو مخالف لعقائده، فإني أرجوه أن يبين لي تلك المخالفات واحدة
واحدة، وإني لسائله في هذه المناسبة سؤالات أرجوه الجواب عليها.
أ - إن هذه المقالات نشرت في جريدة يومية منذ سنتين فما الذي حمله على
السكوت عليها إلى هذا اليوم؟ أما خشي أن يفتتن الناس بها، وقد رأى عشرات
منهم يحبذونني بسببها كتابة على صفحات تلك الجريدة، ويثنون عليَّ من أجلها
نثرًا وشعرًا، وأخذ جماهير منهم يتحدثون بحسن وقعها في مجالسهم وأنديتهم؟ فأي
مانع منعه طوال تلك الفترة من التنبيه على أخطائها، فأخفى ما في نفسه حتى
جمعت تلك المقالات إلى كتاب تخاطف الناس منه بضعة آلاف وجال جولته في
الآفاق، وقرَّظته الصحافة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وشرع في
ترجمته الهنود إلى لغتهم وبعض الجماعات الإسلامية في أوربا إلى الفرنسية
والإنجليزية والجاوية وغيرها، فهلا دفعه الواجب الديني إلى تدارك ذلك الخطر
قبل استفحاله وتلافيه قبل استشرائه؟ إنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولكنه اليوم بعد أن
لم يبق بلد إسلامي في الأرض لم يتناول هذا الكتاب بالإعجاب هب يعلن على
رءوس الأشهاد أن فيه أمورًا مخالفة لعقائد الإسلام، فهلا كانت تلك الغيرة الوثابة
منه والخطب سهل، وتدارك الخطأ فيه ميسور إن كان هناك خطأ؟
هذا الذي حيَّرني من أمر الشيخ وحيَّر جميع الذين قرأوا ما كتبه عنه بالأمس؟
ب: لقد وضع الشيخ كتابًا بعد كتابي بنحو سنتين أسماه (الوحي المحمدي)
فلماذا لم ينبه فيه على أخطائي فيما تصدى له فيه من أمثال مباحثي كما جرت به
عادة المؤلفين، وثار في الأيام الأخيرة يُعْلِم الناس بأني قد شططت فيما كتبت،
ويجرؤ على أن يتقول عليَّ ما لم أقل؟
وأما الأمر الرابع، وهو قول الشيخ رشيد بأني قد نشرت بالجرائد مقالاً تحت
عنوان (الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية وتوحيد الأديان إلخ) وفيه ما يخالف
الإسلام الحق، وقد مرت على نشر ذلك المقال شهور، فلماذا لم ينبه الناس إلى تلك
المخالفات من نص أقوالي، وكان هذا واجبًا عليه للمسلمين جميعًا وهو خبير بما
يجر إليه إهماله؟
وأما الأمر الخامس وهو أني قد صرحت بأن الإسلام الذي جرى عليه
المسلمون ينقضه العقل، وأنه لا يقبل إلا بما أفسره أنا به، فهو من أغرب ما يوجه
إليَّ من التهم، فإني قد صرحت في كتاباتي كلها بأن الإسلام حاصل على جميع
المقومات الأدبية التي تجعله دين الكافة في كل زمان ومكان، وبأنه في غير حاجة
لإصلاح جديد، وأن أسلافنا قد قاموا منه على طريقة فنحن ندعو إليها ونشيد
بذكرها، فأنا أطالب الشيخ رشيدًا بأن ينقل من كلامي ما يثبت هذه التهمة ليطلع
عليه القارئون.
وأما عن الأمر السادس وهو أني أنكرت معجزات الأنبياء وعذاب النار، فأنا
أكلفه بأن يثبت ذلك من نَصّ أقوالي، وقد كتبت للأهرام مقالاً قبل نشرها لمقالة
الشيخ بينت فيه مذهبي في ذلك، وقد نشرته الأهرام اليوم، فأنا أسمح له بأن يغفله
من حسابه، وأريده على أن يأتيني بما اتهمني به من أقوالي التي نشرت قبله.
وأما عن الأمر السابع وهو أني قد استندت في إشادتي بالعقل على حديث لا
يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأجيب بأني قد نقلته من المؤلفات المتداولة
في أيدي المسلمين، فهب أنه لم يصح أليس يؤيد الكتاب معناه؟
فما هو ذلك الحديث الذي شن عليَّ الشيخ رشيد غارة شعواء من أجله؟ هو
(الدين هو العقل ولا دين لمن لا عقل له) ألم يقل الله تعالى في الكتاب عن الكافرين:
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} (الملك: 10-11) وهو أنهم ما كانوا يسمعون ولا يعقلون {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ
السَّعِيرِ} (الملك: 11) وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (يونس: 100) وكرَّر سبحانه في الكتاب قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة:
44) مرات كثيرة؟ ؟ أليس معنى هذا كله أن الدين هو العقل وأن لا دين لمن لا
عقل له؟
وكيف يكون على دين قيم من ليس له عقل يفرق به بين الحق والباطل،
وبين الرشد والغي؟
ألم يقل أئمتنا: إنه لا بأس من رواية الأحاديث وإن كانت ضعيفة إن وافقت
ما نص عليه الكتاب من كل وجه؟
وبعد، فإن الناس اليوم يتساءلون ما الذي يدفع الشيخَ رشيدًا منذ اجتمعت
القوى وتراصت الصفوف لحماية الدين ودفع الشبهات عنه لأن يندس في الجماعة
يفرق وحدتها، ويجوس خلال الصفوف يخل تلاؤمها، يطعن في هذا ويُشَنِّع على
ذاك، ويملأ الصحف كتابات في خلافات لفظية يحول بها طوائف من المسلمين إلى
ناحيته لدرء عاديته، وكف ثائرته؟
لو كانت ثائرته هذه في حق صُرَاح لوجب عليه في هذه الظروف تهدئتها،
فكيف وهي في باطل محض لا مبرر له؟
فهل هو يرى أن هذا الظرف أحسن الظروف لحملته الشعواء على إخوانه
المسلمين، وللإعلان بأنه هو وحده حامي حمى الدين، وملاذ اللائذين؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد وجدي
(المنار)
لما قرأت هذا الرد وما فيه من الدعاوى والتلبيس بادرت على الرد عليه
بمقالتين أرسلتهما إلى الأهرام، وهذا نص الأولى.
***
آراء فريد وجدي في الإسلام
(كلمة تمهيد عجلى)
في ضحوة هذا اليوم (13 جمادى الآخرة 3 أكتوبر) قرأت في عدد الأهرام
الذي صدر فيه مقالة عنوانها (دفع تهم ورد عدوان. من فريد إلى رشيد) وإمضاء
(محمد فريد وجدي) بسط فيها ما عرضت لذكره في مقالي عن (كتاب حيوية
الأرض) من تلخيص ردود الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في آخر عهد
الدولة العثمانية على ما أنكره عليه لمناسبة اقتضت ذلك ولم تكن اتهامًا مستأنفًا مني،
بل حكاية وجيزة لاتهام غيري.
بسط فريد أفندي التهم المحكية عن شيخ الإسلام في سبع فأنكر بعضها،
وأجاب عن بعضها، وسألني سؤالين:
(أ) السبب الذي حملني على السكوت عن مقالاته التي نشرها في بعض
الجرائد اليومية (يعني الجهاد) حتى إذا جمعت في كتاب وصف تخاطف الناس
الألوف منه وشروع الهنود إلى ترجمته بلغتهم إلخ، هببت أعلن على رءوس
الأشهاد أن فيه أمورًا مخالفة لعقائد الإسلام. قال (فهلا كانت هذه الغيرة الوثابة
منه والخطب سهل، وتدارك الخطأ ميسور إن كان هناك خطأ؟ هذا الذي حيَّرني
من أمر الشيخ وحيَّر جميع الذين قرأوا ما كتبه بالأمس) !
(ب) لقد وضع الشيخ كتابًا بعد كتابي بنحو سنتين أسماه الوحي المحمدي
فلماذا لم ينبه فيه على أخطائي فيما تصدى له من أمثال مباحثي كما جرت به عادة
المؤلفين وثار في هذه الأيام) إلخ.
كلمتي اليوم في الجواب عن هذين السؤالين؛ لأن الباعث عليهما اتهامي
بسوء النية واتباع الهوى فيما كتبت، فأنا أنشر ما أبرئ به نفسي من هذه التهمة
لأن رأس مالي وأساس عملي هو الإخلاص لله وحده فيه فأقول:
(1) إنني كنت أتصفح بعض مقالات (الإسلام دين عام خالد) في جريدة
الجهاد؛ إذ كانت تلقى إليَّ في أول النهار وأنا منهمك في عملي من تفسير القرآن
والفتاوى للمنار وغيرها، ثم صدرت في كتاب مستقل في أثناء سنة 1351 وأما
كتابي (الوحي المحمدي) فقد شرعت في نشر مباحثه في المنار في شهر المحرم
من هذه السنة 1351 وهي ملخصة مما نشر قبل هذه في تفسير المنار، فأنا لم
أكتب هذه المباحث بعد نشر كتابه (كما زعم) فيقال لماذا لم أضمنها الرد عليه
على فرض أنني أستحسن ذلك؟ وإنني لم أعلم شيئًا مما ذكره من الإعلان لكتابه
هذا فيكون حسدي له هو الباعث على الكلمة التي لخصتها من ردود شيخ الإسلام
عليه.
(2) إنه لما أصدر الكتاب ووصل إليَّ نسخة منه فصارت المقالات
مجموعة عندي يمكن الرجوع إليها بادرت إلى تقريظه في جزء المنار الذي صدر
في شهر ذي الحجة من السنة نفسها 1351 ثم فيما بعد هذا الجزء وأثنيت على ما
فيه من محاسن وانتقدت ما فيه من شذوذ ومساوئ بالإجمال، ووعدت بتفصيل النقد
والرد بعد أن يتيسر لي مطالعة الكتاب كله، وأشرت في الرد المجمل إلى مبلغ علم
فريد وجدي أفندي بالإسلام، وما سبق له قبله من الشذوذ ومخالفة ما أجمع عليه
المسلمون.
فلا وجه لما زعمه من تحيره وتحير جميع الذين قرأوا ما كتبته عنه بالأمس
ولا أدري من أين علم بتحيرهم جميعهم، بل أدري أنه يقول بغير علم، وكل من
يرى منه هذه الدعوى يوافقني على هذا؛ لأنه ضروري.
(3) إنني ذكرت في أول تقريظي ونقدي للكتاب ما كان بيني وبين فريد
وجدي أفندي من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى لهجرتي إلى مصر (1315هـ -
1898م) ثم ما كان من تخالف ونقد، ثم قلت: (ونحن قد أمسكنا عن الرد على
ما نراه أحيانًا في كتبه وفيما ينشره في الجرائد؛ لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل
المذموم أو لما هو شر منه) .
وأزيد على هذا أنني أكره نشر الجدل الديني في العقائد في الجرائد اليومية لما
يحدثه من الاضطراب والشكوك في إيمان ضعفاء العلم والإيمان، ولذلك أكتفي غالبًا
في بيان ما أعتقده من بيان الحق وإبطال الباطل على ما أنشره في مجلة المنار،
ولا أنشر شيئًا من ذلك في الجرائد اليومية إلا لضرورة.
(4) إذا رأيت شيئًا من الباطل في بعض الجرائد ثم رأيت غيري رد عليه
أحمد الله وأشكره أن قام بالواجب الكفائي غيري، ومنه رد الأستاذ التفتازاني على
فريد أفندي وجدي في مسألة ترجمة القرآن والتعبد بها وما فيها من مخالفة الإجماع
لرأي شاذ منقول عن الإمام أبي حنيفة خالفه فيه جميع أصحابه وعلماء مذهبه ونقلوا
عنه الرجوع عنه، ومنه رد شيخ الإسلام مصطفى صبري عليه في هذا الموضوع
وغيره مما هو موضوع كلامنا الآن. على أنني قد بينت الحق في هذه المسائل كلها
في المنار وفي تفسيره من قبل ذلك الجدل الذي أكرهه في الجرائد، فقراء المنار لا
يخشى عليهم أن يضلوا مع الضالين فيها، وليس في استطاعتي أن أنشر في كل
جريدة ردًّا على ما ينشر فيها مخالفًا لدين الحق، وأنا وحيد في تحرير مجلتي
وتصحيحها، وفي تأليف التفسير وغيره من الأعمال العلمية والإدارية وغيرها،
وإنما القادر على القيام بهذه الواجبات شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بما عنده
من العلماء والكتاب الموظفين.
(5) إنني قد أنحيب في تقريظ هذا الكتاب ونقده باللائمة على شيخ الأزهر
وهيئة كبار العلماء فيه ومجلته الدينية التي هي لسان حاله أن يسكتوا على مثل هذا
الإلحاد في الإسلام، ثم قلت في آخر الصفحة 240 من مجلد المنار 33 ما نصه:
(6) وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة (أي مجلة نور
الإسلام) إذ لقيته في دار سفارة الدولة الأفغانية - وكان قد نشر في المجلة مقالاً في
الانتقاد على فريد أفندي وجدي. قلت له: إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد
على مجلتكم، وإن الثناء عليها من فئة لا تخلو من بعض الأزهريين والسكوت
عليها منكم ومن سائر العلماء يتضمن نقض نقدكم، وترجيح فهمه للإسلام على
فهمكم الذي هو فهم المشيخة الرسمية وأتباعها، فسكت، وكلمت أيضًا من لقيت من
علماء الأزهر في هذا المعنى) .
فعلم من هذا أنني لم أسكت عن الإنكار على مقالات (الإسلام دين عام خالد)
بل سعيت إلى دحض باطلها من أقوى الطرق قبل أن أنتقدها في المنار، وقبل أن
تجمع في كتاب تتخاطفه الأيدي إلخ.
(7) وأقول الآن: إن كلامي هذا مع الأستاذ العلامة الشيخ محمد الخضر
رئيس تحرير مجلة نور الإسلام لسان مشيخة الأزهر قد كان في العام الماضي.
وأما من تكلمت معهم من العلماء في الموضوع فكانوا أشد مني إنكارًا على تلك
المقالات، وعلمت أن بعضهم كلم أصحاب الشأن في تلك الجريدة وبيَّن لهم أن
الخطأ فيها من وجوه منها ما هو في القرآن نفسه، وعلمت أخيرًا أن أحدهم عرض
على الجريدة أن تنشر له مقالات في الرد على فريد أفندي وجدي في كتابه هذا وفي
تفسيره ودائرة معارفه فلم تقبل منه ذلك.
(8) إن كتابي (الوحي المحمدي) يتضمن الرد على ما أنكرته في كتابه
(الإسلام دين عام خالد) بطبيعة موضوعه كما تقدم، وأستشهد على هذا بنقل ما يأتي
من آخر صفحة240 من مجلد المنار 33 وهذا نصه:
(وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في
حقيقة الوحي المحمدي وحجة القرآن على البشر الذي نشرت أكثره في المنار
وطبعته في كتاب مستقل، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل،
ومنه تفسير دين الفطرة. فلما أهدي إليَّ الكتاب أي (الإسلام دين عام خالد) صار
من الواجب عليَّ أن أعجل بهذا النقد له قبل ظهور كتابي (الوحي المحمدي) اهـ.
فعلم بهذه المسائل والشواهد بطلان ما اتهمني به فريد أفندي من أنني سكتُّ
على منكراته عند نشرها وهببت اليوم للرد عليها، وإن الحق الواقع أنني أنكرت
عليها عقب علمي بها في وقته، وأنني لم أذكرها في مقالي الأخير الخاص بمسألة
(كتاب حيوية الأرض) إلا عرضًا لتخطئة صاحب هذا الكتاب في زعمه أن شيخ
الإسلام التركي كفَّر فريد أفندي لرأي رآه في تفسير المتشابهات وأنني لخصت في
هذه التخطئة ما حفظته من ردود شيخ الإسلام عليه من باب الحكاية، فإن ظهر عند
البحث التفصيلي في هذه المسائل أنني أخطأت في شيء مما فهمته من ردوده أو من
كلام فريد نفسه فإنني أستغفر الله منه، وموعدنا في هذا ما بعد هذه الكلمة التمهيدية
العجلى.
وبعد: فإن فريد أفندي قال في آخر مقالته هذه: (إن اليوم الناس يتساءلون
ما الذي يدفع الشيخ رشيد منذ اجتمعت القوى، وتراصت الصفوف لحماية الدين
ودفع الشبهات لأن يندس في الجماعة يفرق وحدتها، ويجوس خلال الصفوف يخل
تلاؤمها، يطعن على هذا ويشنع على ذاك، ويملأ الصحف كتابات في خلافات
لفظية يحول بها طوائف من المسلمين إلى ناحيته؛ لدرء عاديته، وكف ثائرته،
ولو كانت ثائرته هذه في حق صُرَاح لوجب عليه في هذه الظروف تهدئتها، فكيف
وهى في باطل لا مبرر له) اهـ بحروفه.
ما هذه القوى التي كانت متفرقة فاجتمعت، وأين هذه الصفوف التي كانت
متصدعة فتراصت، وأية حماية للدين ودفع للشبهات ظهرت من جهاد هذه
الصفوف، وهجوم قوى هذه الزحوف، حتى وجب ترك الحق الصراح لأجلها؟
إننا والله لم نر من ذلك شيئًا، ولا سمعنا له نبأ، ولكننا عهدنا مثل هذه الجَعْجَعَة
والدهدهة من مثيرها، فهي لا تخيفنا، على أننا ما استحدثنا شيئًا جديدًا كما علم من
مقالنا هذا، ولا خطر في بالنا تحويل طوائف من المسلمين إلينا بذلك! !
قال فريد أفندي وجدي: إنني هاجمته آخذًا عليه سبعة أمور أخذها من مقالي
في كتاب (حيوية الأرض) وطالبني بالأدلة من نص كلامه ليطلع عليه العارفون.
أي وليطلعوا على ما يرد به عليها بالطبع.
ثم إنه يدعي بعد ذلك أن الناس يتساءلون عن الدافع لي إلى كتابة مثل هذا وقد
أبهمه وكبره، وقال: إني ملأت الصحف به (منذ اجتمعت القوى وتراصت
الصفوف لحماية الدين ودفع الشبهات عنه) ووصفه بما نقلته بنصه في آخر مقالي
التمهيدي الأول، ومنه أنه كان يجب عليَّ تهدئة هذه الثائرة في هذه الظروف لو
كانت في حق صُرَاح! !
فما باله إذًا يفتح على نفسه بابًا واسعًا أو أبوابًا لنشر ما ننكره عليه من
مخالفته لأصول الإسلام وفروعه، والظاهر أنه يعني بجمع القوى وتراص
الصفوف مشروعًا جديدًا هو قائد جيشه ورئيس أركان حربه، وإن لم ير أحد جنديًّا
واحدًا منه، ولا هجمة على ملحد ولا مبتدع.
فهذا شيخ من كبار الأزهر يكفر من يؤمن بكذا من ظاهر القرآن ويطعن على
أئمة السنة الأعلام [2] وهؤلاء القاديانية يدعون جهرًا إلى مسيحية مبتدعة في
الإسلام وبقاء النبوة بعد محمد خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا
مؤلف ادعى أن للأرض إلهًا مستقلاًّ يجب على أهلها عبادته وأن لكل كوكب ونجم
مثل ذلك، وللعالم كله إلهًا واحدًا، وفريد أفندي وجدي يقول مثل قوله هذا إلا أنه
يعبر بالأرواح لا بالآلهة، وهذا مقبول ويعبر عن رب العالمين بروح الوجود العام،
وهذا مردود، فإنه يشبهه بالبحر المحيط، ويزعم أن سائر الموجودات سابحة فيه
كالحيتان فمن الذي رد عليهم.
الظاهر لنا أن الإسلام الذي عبأ هذه الصفوف ورصَّها للدفاع عنه هو إسلامه
الذي بيَّنه في كتابه (الإسلام دين عام خالد) بعد أن بينه في دائرة معارفه، وهو
غير الإسلام الذي يعرفه علماء المسلمين في الأزهر وملحقاته من المعاهد الدينية
وفي سائر بلاد الإسلام، وإنما هو إسلام يقرر بأنه لا وجود له في الخارج، وأنه
يستحيل عقلاً أن يوجد إلا بعد أن يرتد جميع مسلمي الأرض عن إسلامهم ويصير
الباقون على عقائده وتقاليده كالذين ألحدوا وارتدوا عنه في كفرهم ومروقهم فبعد ذلك
يقبلون أصول دين القرآن التي هي الإسلام وحدها في رأيه.
فعلى هذا لا يمكن أن يكون جمع القوى ورص الصفوف للدفاع عن دين
المسلمين المعروف أو الموجود؛ لأنه في رأيه باطل يجب زواله والانملاس منه
كما فعل نصفهم إلا أن يكفر الجميع ويتخلصوا من جميع علاقات الإسلام القديم.
وسأنقل عبارته في هذا الموضوع بحروفها [3] .
وإنما ذكرت هذا لأبين له أن الخلاف بيننا وبينه في حقيقة الإسلام وحقيقة
شريعته، فالمناظرة في بعض الفروع التي أنكرناها عليه بالإجمال وبناؤها على ما
طالبنا هو به من نقل نصوصها وحصر البحث فيها مناظرة عقيمة يطول أمرها
بغير طائل؛ لأنه يستطيع أن يجادلنا فيها عدة أشهر كمجادلة الأحزاب السياسية في
مبادئها ونصر زعمائها، فقد رأينا منهم من كتبوا مقالات في الزعيم المصري
الكبير الشهير هبطوا به فيها إلى أسفل سافلين، ثم كتبوا فيه مقالات أخرى رفعوه
بها إلى أعلى عليين.
فيجب إذًا تحديد المسائل التي ننكرها من آراء فريد أفندي وجدي في أصول
الإسلام وحقيقته، ثم أن نرجع إليها بعض الفروع المبنية عليها، مثال ذلك أنه كتب
مقالات كثيرة في الدفاع عن حكومة الجمهورية التركية فيما فعلته موافقًا لشرطه في
إمكان وجود الإسلام الذي يفقده، وهو مروقها وارتدادها عن الإسلام الذي كان هو
الدين الرسمي للدولة، واستبدالها بالشريعة الإسلامية قوانين أوربة إلخ.
فالذي يحل النزاع بيننا وبينه بل بين المسلمين وبين كل من يدافع عن هذه
الحكومة هو أن يصرح لنا فريد أفندي وجدي بحكم دين الإسلام الحق عليها هل هي
مارقة منه مرتدة عنه أم لا؟ وهل هي مُصِيبة في هذه الردة والكفر بحسب رأيه في
شرط إمكان الرجوع إلي الإسلام الحقيقي الذي يفهمه هو؟ أم هي ضالة عنه مضلة
لمن يتبعها في ردتها؟
ولا يقنعنا في جوابه عن دفاعه عنها أنه قال في بعض جداله للمعترضين عليه:
(إن الحكومة التركية في حالة ثورة كالثورة الفرنسية لا تخلو من إفراط وتفريط)
فهذه المسألة ليست محل نزاع في جملتها، ولا في كل عمل من أعمالها السياسية
والعسكرية والإدارية والاقتصادية، ولا في فرع واحد من فروعها الدينية كترجمة
القرآن وتحريم قراءته بالنص الذي نزل من عند الله، بل النزاع في الأصل الديني
العام، وهو الارتداد عن الإسلام.
وأضرب مثلا آخر للمناظرة أو المجادلة في المسائل الفرعية، وهو ما أجاب
به عن إنكاري عليه الاستدلال على دعاويه في أصول الإسلام بالأحاديث التي تصح
لها رواية في كتب السنة أو ما حكمت عليه هذه الكتب بالضعف والإنكار أو الوضع
أي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فريد أفندي وجدي يكثر من الاحتجاج بهذه الأحاديث في مسائل تتعلق بأصول
الإسلام، وقد وجد في عبارتي الأخيرة التي أنشأ يرد عليها حديثين منها، أكثر من
ذكرهما في مقالاته الأخيرة وهما جملة (الدين العقل ... ) وجملة (الدين المعاملة) .
فأجاب عن الأول دون الثاني من ثلاثة وجوه: (أحدها) أنه نقله من
المؤلفات المتداولة في أيدي المسلمين. (والثاني) أنه إن لم يصح فإن القرآن يؤيد
معناه (والثالث) أن أئمتنا قالوا: (إنه لا بأس من رواية الأحاديث (كذا) وإن
كانت ضعيفة إن وافقت ما نص عليه الكتاب من كل وجه) .
وهذه الوجوه حجة عليه لا له، وبيانه من وجوه (1) إن الكتب المتداولة
بين أيدي المسلمين فيها الأحاديث الباطلة والموضوعة فلا يجوز لمن يريد الاحتجاج
في أصول الدين ولا فروعه أن ينقل من كل كتاب متداول بين الأيدي أي حديث فيه،
وإنما يجب النقل عن كتب صحاح الأحاديث أو ما دونها من الكتب التي تخرج ما
فيها وتبين درجته، بل أفتى حفاظ السنة وفقهاؤها بأنه لا يجوز هذا للخطيب ونحوه
فضلا عن المستدل. سئل عن هذا شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فأجاب جوابًا قال
فيه: (وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه
من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك، ومن فعله عزر
عليه التعزير الشديد) إلخ (راجع ص 32 من الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي) .
(2) إن آيات الكتاب التي أوردها لا تؤيد معنى الحديث الذي فسره هو به
وهو وجوب تحكيم عقول الناس في نصوص كتاب الله وفي سنة رسوله، فهذا
المعنى من الأصول التي خالف فيها فريد أفندي وجدي جميع أئمة المسلمين كما
سنبينه بالتفصيل.
(3) إن رواية الأحاديث الضعيفة جائزة، وإن لم تكن موافقة لما نص عليه
الكتاب من كل وجه كما قال، ولذلك رواها الحافظ في المسانيد وكتب السنن،
والفرق كبير بين روايتها بأسانيدها وبين نقلها بدون رواية ولا معرفة للاستدلال بها
على أصول الدين كما يفعل فريد أفندي وجدي كثيرًا.
(4) إن أصول الدين وعقائده إنما تؤخذ من نصوص القرآن القطعية، ومن
الأحاديث المتواترة التي تفيد القطع، دون الأحاديث الأحادية التي لا تفيد إلا الظن
لقول الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) وغير ذلك
من الآيات التي بمعناها. وأما الأحاديث الضعيفة فلا يحتج بها على أحكام الطهارة
والنجاسة فضلاً عن عقائد الدين وأصوله. وفريد أفندي يحتج بما دونها على أصول
الإسلام وهي الأحاديث الموضوعة.
فلا بد قبل الشروع في مناظرته في آرائه في الدين من الاتفاق على طرق
الاستدلال في هذه المناظرة كالاتفاق على المسائل الأصلية التي يجب البدء بها؛
لأن غيرها تابع لها، وكل ما ذكرته هنا فهو من باب المثال، لا لجعله موضوع
البحث والجدال.
وإن لديَّ الآن كتابه الجديد في الإسلام ومقالاته التي كتبها بعده. وقد
استحضرت في هذه الأيام دائرة معارفه المملوءة بالأغلاط الدينية والعلمية
والتاريخية كغيرها من كتبه، فأبدأ بتلخيص آرائه المنكرة مما عندي، ثم أراجع
مقالاته التي رد عليها الأستاذ التفتازاني والأستاذ مصطفى صبري في دار الكتب
المصرية عند الحاجة إليها. وكتبه في 15 جمادى الآخرة - 5 أكتوبر.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
اقتراح
قبل إرسال هذا إلى الأهرام ألقي إليَّ جزء مجلة الأزهر لهذا الشهر فوجدت فيه
أن الأستاذ فريد أفندي وجدي قد عُيِّنَ مديرًا ورئيس التحرير لهذه المجلة فأقترح عليه
أن تكون المناظرة فيها؛ لأنها أولى من الجرائد اليومية ومن غيرها بذلك.
... رشيد رضا
هذا ما نشرته في جريدة الأهرام وكنت متوقعًا أن يجادل فيه فلم يفعل، ولو
فعل لما أغنت عنه الوظيفة الجديدة من شيء، وإن اغتر بها وتفنج وظهر أنها هي
مراده بتراص الصفوف الذي تهكمنا به، وبعد أن علمت بخبر جعله رئيسًا لمجلة
مشيخة الأزهر فقد كتبت فيه ما يلي للجزء الماضي فحال دون نشره فيه ما هو أهم
منه.
***
رياسة فريد أفندي وجدي لمجلة
مشيخة الأزهر (نور الإسلام)
قد خاب أملي وسعي لجعل هذه المجلة في أعلى درجة تدخل في حدود الإمكان،
بما يليق بشرف الأزهر ومكانته في الإرشاد وبث العلم والإصلاح، ذلك السعي
الذي بدأته بذلك التقرير الذي اقترحه عليَّ الأستاذ المصلح الشيخ محمد مصطفى
المراغي في عهد رياسته لمشيخة الأزهر ومعاهده، وقفت عليه بتقريظي ونصائحي
لها بعد ظهورها في عهد رياسة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري فكانت
أسوأ مظهر لإدارته للأزهر ولعلم الأزهر، إذ أراد أن يجمع بها بين البدع
والخرافات القديمة لإرضاء العوام الذين تربوا كتربيته في جحور المشاهد، وحجور
الموالد، وبين إدخال الأزهر في مأزق التفرنج إرضاء للمتفرنجين من رجال الدولة
وأمثالهم، كما بينته في ردي على بدع المجلة، وعلى ما افترته عليَّ بالتفصيل،
وأجملته في مقدمة كتاب (المنار والأزهر) .
وقد تبعني في ردي على هذه المجلة وعلى المشيخة كثير من علماء الأزهر
وغيرهم فنشروا في الجرائد مقالات كثيرة في مساوئ إدارة الشيخ الظواهري
وسيرته فيها، وفي الرد على المقالات والفتاوى التي يحررها لسان حاله الشيخ
يوسف الدجوي، ولم يوجد أحد من الأزهر ولا من غيرهم يدافع عنهما، فصارت
المجلة محتقرة مبتذلة منبوذة عند جميع الطبقات الراقية من الدينيين والمدنيين، ولم
يحل دون ذلك جعل الأستاذ الشيخ محمد حسين الخضر التونسي رئيسًا لتحريرها
على أدبه واعتداله؛ لأن رياسته كانت اسمية وإرادته ضعيفة، فلم يستطع الامتناع
عن نشر الخرافات وتأييد البدع فيها، وهو يرى أن الدجوي ينطق بلسان رئيسه
ورئيسها، ولم تفدها إدارة عبد العزيز بك محمد من رجال القضاء الأهلي أيضا؛
لأنه ظهر أنه أقرب إلى مذهب الظواهري والدجوي ومشربهما منه إلى إصلاح
الأستاذ الإمام الذي كان ينتمي إليه في حال حياته.
وأخيرًا رأى بعض أصحاب النفوذ العالي في الأزهر أنه لا سبيل إلى جعل
هذه المجلة مقبولة في نظر الطبقات العليا والوسطى من المسلمين، إلا بتولية أمر
إدارتها وتحريرها لرجل من الأفندية العصريين، لا صلة له بالأزهر بسبب، ولم
يأخذ عنه شيئًا من علم ولا أدب، فاختير لذلك الكاتب الاجتماعي محمد فريد أفندي
وجدي فولاه شيخ الأزهر الرياستين للمجلة في مكان عبد العزيز بك محمد والشيخ
محمد خضر براتب كراتبيهما، فكان هذا كإفتاء وقضاء رسميين على تعليم الأزهر
وكفاءته وكفايته بأنه لا يوجد في خِرِّجِيه أحد يصلح لهاتين الرئاستين كلتيهما ولا
لإحداهما، وهما يؤيدان انتقادنا الأدبي النزيه المتواضع على التربية والتعليم فيه
واقتراحاتنا الكثيرة لإصلاحهما منذ 35 سنة، على أننا لم نقل فيهم قولاً في معنى
هذه الفعلة من رئيسهم.
وقد كان من مثار العجب أن تولية الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي لهاتين
الرياستين قد جاءت في إثر مقالات للعلامة الشيخ مصطفى صبري آخر من تولى
مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية في الطعن على بعض آرائه في بعض أصول
الدين وفروعه نشرت في جريدة الأهرام، ومنها مسألة ترجمة القرآن التي أيد كبار
شيوخ الأزهر رأي شيخ الإسلام فيها بالحق على رأي فريد أفندي، وبعد انتقاد
مجلة المنار على كتاب فريد أفندي (الإسلام دين عام خالد) وبيان ما فيه من
مخالفة العقائد الإسلامية والاستدلال عليها بالأحاديث الموضوعة، وذكر بعض هذا
الانتقاد عرضًا في مقالة لنا نشرتها جريدة الأهرام، فأجاب عنها فريد أفندي في
مقالة ففندت رده في مقالتين، ونشر الثلاث الأهرام ثم سكت وسكتنا، بل جاءت
هذه التولية بعد رد على آراء فريد أفندي وجدي في مجلة نور الإسلام نفسها بقلم
رئيس تحريرها، وإنما نذكر هذا هنا لبيان غرابة توليته لرياستي مجلة الأزهر في
هذا العهد، وفي هذا الحال، وليس في الأزهر من معقول ولا مُحَال.
على أنه قد ظهر أول جزء من مجلة المشيخة بعد توليه لرياستها خاليًا من
مقالات الدجوي وفتاويه الخرافية والبدعية. وبلغني من بعض علماء الأزهر
المطلعين أن الدجوي جاءه بمقالتين كعادته إحداهما في تأييد خرافات القبور التي
يعبر عنها كأمثاله باسم (التوسل) والأخرى في الرد على بحث للمنار في حديث
الذباب وكون أحد جناحيه داء، والآخر دواء فردهما له أو عليه.
فهذا أول إصلاح سلبي في تطهير المجلة له قيمة كبيرة فنشكره له، وقد بينا
في تقريظ كتابه المذكور في المنار ما له من مقالات نافعة للمسلمين وما يمكنه أن
ينفعهم به إذا لم يتعده إلى الخوض في العقائد وأصول الدين. ونسأل الله تعالى أن
يوفق مشيخة الأزهر لكل ما فيه النفع للمسلمين.
__________
(1) تقدم في تفسير [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ] (يونس: 39) في الجزء الخامس تحقيق المراد من التأويل في القرآن وبين خطأ الرازي فيه.
(2) هو الشيخ يوسف الدجوي نشر مقالة قال فيها: إن من يؤمن بقوله تعالى: [أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ] (الملك: 16) على ظاهرها فهو كافر، وقد رددنا ضلالته هذه في الجرائد.
(3) كنت أريد نقل عبارته في هذا المعنى من دائرة معارفه وفي المقالة التي بعد هذه ولكن الأهرام أقفلت الباب وسكت هو عن الرد.(33/513)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحاجة إلى هذه الترجمة
نشر في الجزء الخامس فصل من ترجمتي عن كتاب المنار والأزهر
وهذا الفصل خاتمة تلك الترجمة منه
هذه خلاصة ترجمتي في نشأتي وتربيتي وتعليمي وتصوفي التي أعدني الله
تعالى بها لإنشاء المنار، وللتصدي للإصلاح الإسلامي العام، حكيت بعض ما
تذكرته منها حكاية تاريخية ساذجة، ولم يكن يخطر ببالي أن أكتب شيئًا منها قبل
الشروع فيها للسبب العارض الذي ذكرته، ولا أن أطيل فيها عُشْر هذه الإطالة، ثم
تذكرت أنها من مادة تاريخ الإصلاح الإسلامي في هذا العصر؛ لأنني بفضل الله قد
صرت من رجاله الذين لهم فيه أثر قد يذكره مؤرخوه ويبحثون في أسبابه من جميع
نواحيها، فلا يجدون في قرية القلمون حيث ولدت ونشأت ولا في طرابلس حيث
تعلمت أحدًا يرويها لهم، فقد كاد ينقرض الجيل الذي يعرفها فيهما، وأعلم الأحياء
بها عمي السيد محمد كامل العابد الزاهد القدوة وهو من شهداء الله على خلقه، ولم
يكتب من تاريخ بيتنا شيئًا، لا يطوف بنفسه طائف الشعور بالحاجة إلى هذه الكتابة،
ولو وجد داعيتها قبل شيخوخته لكان قادرًا عليها، وقد ذكرت فيما سبق أشهر
أسماء من بقي من العارفين بها، وممن فاتني ذكره منهم صديقي العلامة الفقيه
الشاعر الأديب الشيخ إسماعيل الحافظ، وقد كان صديقي السيد عبد الحميد
الزهراوي نادرة الزمان كتب مقالاً في وصف نشأتي ونشره في بعض الصحف لا
أدري أيها: الجريدة أم المؤيد أم الحضارة؟ وكان من زهدي المعيب في نفسي أنني
لم أحفظ نسخة منها.
وأما سيرتي الشخصية والاجتماعية في مصر فيعرفها مجملة أو متفرقة كثير
من أصدقائي وتلاميذي، وإن أعلمهم بها وبسيرتي السياسية الإسلامية والعربية
والمنزلية ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم لأنه يعيش معي من زهاء ربع قرن،
على أنني كنت وما زلت أكتم أثر أعمالي التي يمكن كتمانها، وقد كتبت قليلاً من
المذكرات فضاع بعضها، ويمكنني كتابة سفر كبير في أعمال السياسية وحدها
محفوظة كلها ما كان منها في الآستانة وما كان في مصر، وفي كل منهما عِبَر
للمسلمين في وزرائهم وأمرائهم وغيرهم، وفي مجلدات المنار وتاريخ الأستاذ الإمام
مادة غزيرة لهذه الترجمة.
وقد طلبت مني إحدى الجمعيات العلمية في شيكاغو ترجمة حياتي غير مرة فلم
أكتبها لها زاهدًا في الشهرة، وألف أحد علماء الأمريكان المستشرقين اللاهوتيين [1]
كتابًا باللغة الإنكليزية موضوعه (الإسلام وروح العصر بمصر) Islam
and Modernism in Egypt جعل فصوله الأولى في ترجمة حكيمينا
الإمامين المصلحين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري اقتبس
أكثر مادتها من مجموعة مجلدات المنار، يليها فصلان في ترجمة صاحب المنار
وفي خطة المنار نفسها ترجم لي بعضها بالعربية فرأيته يتحرى فيه الصدق في
التاريخ، وهو قد قدمه إلى مدرسته التي تخرَّج فيها فنال شهادة علم اللاهوت، الذي
صار به داعية للنصرانية على مذهبه البروتستنتي، وقلما عرفت أحدًا من هؤلاء
المبشرين يتحرى الصدق.
***
أهم ما في هذه الترجمة من العِبَر
إنني أذكر قارئ هذه الخلاصة من طلاب العلوم الدينية والمَيَّالِينَ إلى الإصلاح
الإسلامي بمسائل مجملة منها، عسى أن ينتفع بها المستعد لها، ولهذا أقتصر على
الكسبي منها دون الوراثي والوهبي، وإن كان بعض ما يكتسب عادة بإرشاد المربي
والمعلم أو بفهم المتعلم قد كان عندي أشبه بالوهبي الإلهامي، إذ لم يعن والدي ولا
غيره من أساتذتي بتوجيهي إلى وجهة معينة في العلم ولا في العمل، ولا الاستعداد
للمستقبل، وقد تذكرت في هذه الدقيقة كلمة لمستر متشل إنس الذي كان وكيلاً
للمالية بمصر، وكان هو الرجل الوحيد الذي عاشرته وكثر اجتماعي به ومذاكرتي
له من الإنكليز في مصر، وكان الأستاذ الإمام هو الذي عقد صلة التعارف بيننا
لأسباب ظهرت لي بعد، وبينت بعضها في تاريخ الأستاذ الإمام، وكان هذا الرجل
من أشد الإنكليز بل الناس استقلالا في فكره، وحرية في رأيه، وهو لا يزال حيًّا
في بلاده، وقد قال كلمته هذه بعد طول الخبرة والبحث معي في المسائل السياسية
والدينية، ورأى مني ما لم يعهده في مصر من الحرية والاستقلال والشجاعة وعزة
النفس، وهي: يظهر أن والدك قد عني عناية خاصة بتربيتك وتعليمك فوق ما هو
معهود ومعروف في الشرق … وقد نقلت عنه في المنار أنه صارحني ثلاث مرات
بأنه إذا كان الإسلام ما أمثله أنا والشيخ محمد عبده فهو مسلم.
والحق أنني لا أعرف شيئًا من عناية والدي الخاصة بي إلا ما ذكرت من
كراهته لإقامتي في طرابلس لطلب العلم قبل بلوغي سن الرشد وثقته التامة من
ديانتي وأخلاقي، خشية أن تعبث بي معاشرة أهل الهزل والمجون في المدينة
(البندر) وليست هذه المنة بقليلة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وهذا ما أريد الاعتبار به مما ذكرته في هذه الترجمة تحدثًا بالنعمة، وتذكيرًا
بمواضع العبرة.
***
أهم الفوائد والعبر
لطلاب العلم الديني من هذه الترجمة
1- طول المكث في المدارس ضار:
كتب لي أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر في شهادة العالمية أو (إجازة
التدريس) أنني طلبت العلم عنده مدة ثماني سنين تلقيت فيها المنقول والمعقول إلخ
(وكنت في هذه المدة أتلقى عن غيره أيضًا) والعبرة في هذا أن طول مدة التلقي
والأخذ عن المعلمين لعلوم وفنون قليلة كالعربية والشرعية تضعف في الطالب ملكة
الحكم، والاستقلال في العلم، وتحصر علمه فيما يسمع ويقرأ، حتى لا يكاد يجد
غيره فيما يقرر أو يملي أو يصنف أو يفتي، ومن كان هذا كل علمه فلا علم له،
وإنما هو ينقل ما عند غيره علمًا كان أو ظنًّا، حقًّا أو باطلاً، خطأً أو صوابًا.
وقد قال لي الأستاذ الإمام عندما عرضت عليه أن يكون الشيخ عبد العزيز
جاويش من إخواننا خواص مريديه بعد عودته من أوربة: أيّ العلوم حصل في
إنكلترة؟ قلت: لما أسأله عن ذلك لقرب العهد بعودته، ولكنه ذكي فصيح ذو همة
وغيرة، قال سله عن مدة إقامته في الأزهر قبل دخول مدرسة دار العلوم فإن كانت
طويلة تزيد على بضع سنين فاعلم أنه قد فقد قوة الاستعداد للعمل، وأنه لم يحصل
شيئًا يعتد به.
2- النية وصحة القصد وتوجه الإرادة:
قال نبي الرحمة، ومعلم الكتاب والحكمة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل
امرئ ما نوى) وإن لصحة القصد، وتوجه الإرادة إلى الأمر، أعظم التأثير في
النجاح والفوز، ولا شيء أنفع لطالب العلوم الدينية من الإخلاص لله تعالى فيها،
وقصد تزكية نفسه وتثقيفها بمعرفته الصحيحة وعبادته المشروعة، ثم تعليم الناس
وهدايتهم، وأن يكون قدوة لهم في الحق والخير، وتدبر ما علمنا الله تعالى من
دعائه بقوله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) وقوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5)
وإن بين هذه الفتنة بتنفير الكفار عن الإسلام، والإمامة للمتقين فيه، لدرجات بعيدة
في الإيمان والصلاح، ودركات في الكفر والضلال.
لما اشتغلت بطلب العلم في طرابلس وعرفت الأستاذ العلامة الشيخ محمد
إبراهيم الحسيني وكان عائدًا من الأزهر وصحبته بالتبع لصحبة صديقنا المرحوم
الشيخ محمد كامل الرافعي كما تقدم في الترجمة قال لي مرة: إنني بعد أن أتم
مطالعة أعلى كتب الأصول والكلام والبلاغة سأذهب إلى الآستانة وأقرأ درسًا في
جامع السلطان أحمد، وذكر ما يتوقع لهذا الدرس من حسن التأثير والشهرة، وما
يعقبه من الفوائد، فقلت له ما معناه: إنه لخير لك أن تنوي بقراءة هذه الكتب
التقرب إلى الله تعالى والاستعداد لخدمة دينه ونفع عباده، وإن منافع العلم بالجاه
والمال قد تأتي تابعة لذلك، ولا يصح أن تكون متبوعة له، ولا مقصودة لذاتها، ثم
رجع الأستاذ عن ذلك الرأي بعد أطوار مرت عليه كما تمر على أمثاله من كبار
الأذكياء.
إن الذين اشتغلوا بعلوم الدين بقصد إصلاح أنفسهم وإصلاح غيرهم في كل
جيل كانت الدنيا أشد انقيادًا لهم ممن طلبوها بالدين وعلومه، ولكن أكثر أولئك قد
زهدوا فيها، وآثروا ما عند الله تعالى على جاهها ومالها، ولقد قال لي شيخنا
الأستاذ الإمام: إنني لولا قصد التوسل بدخول الحكومة المصرية إلى التمكن من
إصلاح الأزهر لأبيت قبول أي وظيفة فيها، وقال لي: لو كنت أريد أن أكون غنيًّا
لكنت من أكبر الأغنياء. فليعتبر طلاب العلم في الأزهر وغيره ممن يقصدون الجاه
أو الثروة بتاريخ الأستاذ الإمام وعاقبة أمره، وما رفع الله من ذكره، وبغيره ممن
لا غرض لهم من علم الدين إلا عرض هذا الأدنى؛ ليروا كيف كان قدوة صالحة
في حياته وبعد مماته، وإنهم سيرون وسوف يرون من سوء سيرة تجارة الدين أن
بعض الفقر خير من الثراء، وأن من الخمول والخفاء، ما هو أشرف من الشهرة
والجاه، وأن الغاية للمتقين، والخزي والسوء على المنافقين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: 88) .
3- الاستقلال والتقليد في طلب العلم:
أنصح لكل طالب علم أن يتوخى الاستقلال بفهم ما يلقنه من مسائل العلم، ثم
الاقتناع بما يفهمه، وأن لا يكتفي بفهم أستاذه للعبارة دون فهمه هو، ولا باقتناع
أستاذه بأن ما فهمه هو الحق في نفسه إذا لم يقتنع هو بذلك، فالعلم بعبارة المعلم أو
المؤلف غير العلم بمعناها، والعلم بصحة المعنى مرتبة فوق مرتبة فهمه من العبارة،
وفوقهما مرتبة العبرة الباعثة على العمل بالعلم والإخلاص فيهما، ولن تكون
عالمًا بالشيء نفسه إلا إذا كنت مقتنعًا واثقًا به، ولا يحصل هذا في غير البديهيات
إلا بالاستدلال، وقد يقع التقليد بالدليل كما يقع بأصل المطلب فاحذر هذا.
واعلم أيها الطالب المعلم أن ما يسمى بالاجتهاد في جميع أبواب الفقه هو
مرتبة عالية من مراتب العلم الاستقلالي بالأحكام الشرعية، سواء أريد به الاجتهاد
المطلق أو الاجتهاد في مذهب واحد، وما أنصح لك به من الاستقلال في فهم كل ما
تتلقنه، والاقتناع بصحته دون ذلك: وهو أدنى مراتب العلم، وهو ما لا تكون ذا
علم صحيح في أي علم من العلوم أو فن من الفنون بدونه، وهو ما لا ترتقي عن
دركة الجهل المطلق أو الجهل التقليدي مع فقده، فأنت محتاج إلى الاستقلال في كل
علم تطلبه وكل مرتبة من مراتبه، فلا تقلد من قالوا: إن بعض العلوم قد أحاط به
العلماء الأولون علمًا، فليس على من بعدهم إلا أن يقلدهم في كل ما دونوه فيه بغير
بحث ولا محاولة تمحيص ولا تحقيق.
إنما الإحاطة بالعلم من صفات الله الخاصة به، وقد أمر الله رسوله خاتم
النبيين بطلب المزيد من العلم بقوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114)
فكل ما كتبه البشر، وكل ما يكتبونه ما كان ولن يكون إلا ناقصًا قابلاً للكمال، ولا
أستثني من ذلك علوم الحديث في الجرح والتعديل ونقد الرجال، وأجهل الجهل
بالشيء ما كان قابلا للاحتمال.
4- آية العلم الصحيح النافع:
العلم الصحيح ما كان صفة للنفس، والعلم النافع ما كان باعثًا على العمل
الصالح، والعمل الصالح ما صلحت به نفس العامل، وكان قدوة حسنة لكل من
عرفها، وآية ذلك كله شعورها بجهلها ونقصها، وبحاجتها إلى الاستزادة من العلم
والاستفادة من كل شيء، وإلى المزيد من الأدب وتثقيف العقل وتزكية النفس، ولا
أحفظ عن أئمتنا في هذا المعنى أبلغ من بيتين للإمام الشافعي (رضي الله عنه هما
أدل على علمه وفضله من مجلد يؤلف في مناقبه، وهما عين الحق، فلا تحسب أنه
قالهما من باب التواضع، قال:
كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
5- آيات تزكية النفس الروحانية:
قال الله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20-21) وقال عز وجل: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ
عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) الآية، وقال تبارك اسمه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة: 257) الآية، فمن لم ير فيه
شيئًا من آيات ربه، ومن لم يتألق في قلبه شعاع من نور ربه، فإسلامه صوري
وراثي، وإيمانه تسليمي ظني أو جدلي، وهاتان الثمرتان للدين لا تؤتيهما شجرة
الإيمان الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع، إلا بمجاهدة النفس: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) مع كثرة
الذكر بالقلب واللسان له، وأجمعه تدبر كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ
ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 41-43) .
ولكن الذين يدعون هذه الآيات في أنفسهم كثيرون، وتراهم في ظلمات لا
يبصرون، يضلون الجاهلين بخرافاتهم ويأكلون أموالهم بالباطل، ولا يستفيد أحد
منهم علمًا نافعًا، ولا هدًى رافعًا، وإنما الإسلام علم وهدًى، فلا تغتر بدعوى حي
ولا ميت ولا بشهرته، ولا بخوارق العادات الصورية ولا المعنوية له، واعتبر بما
أفشيته لك على خلاف عادتي، من تجاربي واختباري في بدايتي، ومنه أن بعض
الأمور الروحانية التي تثمرها رياضة التصوف قد تكون فتنة تعقب صاحبها ضلالة،
وأن بعض الأنوار التي تتراءى لبعضهم خيالات شيطانية، وأن المكاشفات التي
تحصل لهم كلها خواص نفسية، هي كغيرها مما يكشفه العلم من السنن كانت
ضلالاً له وطغيانًا، وأعني بالإيمان اليقينَ بعالم الغيب، وبالهدى الاعتصامَ بعروة
الشرع، فمن لم يؤت نصيبًا من ذلك كان عرضة إما للشك المادي، وإما للتقليد
الخرافي، فلا تُنْكِر الخواص الروحانية اليوم خاضعًا للأفكار المادية الإفرنجية،
وهي من مفاسدهم بشهادة أعلم فلاسفتهم، ثم تعود غدًا فتقلدهم بإثباتها إذا انتصر
المؤمنون بها على جاحديها فإنهم قد شرعوا في البحث عنها بوسائل العلم العصري،
وقد آمن الألوف منهم بماديها، ولما يصلوا إلى غايات صوفيتنا فيها، ولو طلبوها
من طريقهم لوصلوا إلى ما انتهوا إليه، أو لسبقوهم فيه، وسيسلكون كل طريق له
فإنهم ما شرعوا في شيء وتركوه، وأبعد الفروق بين الفريقين أن هؤلاء شاكون
مجربون، وأن أولئك مؤمنون يطلبون أعلى مقام في العرفان، وهو معرفة الخالق
بآياته في الأنفس والآفاق، وتجلي أنواره فيما له من الأسماء والصفات.
وإني ليسوءني أن يزورني بعض علمائهم من الشعوب المختلفة ليذكروني فيما
وصل إليه علمي واختباري منها، وأن يجعلني بعض جماعاتهم عضو شرف فيه [2]
ثم لا أجد أحدًا من المسلمين يسألني عن شيء من هذا، حتى الذين يرجعون إليَّ
في التفسير والحديث والعقائد وحكم الشريعة، وقد كان هذا من أسباب ما كتبته في
المسألة. وأهم منه التمهيد لما أريد كتابته في مسألة استحضار الأرواح. وأنتقل بعد
هذه المقدمات إلى تلخيص الشواهد على خدمتي للأزهر، وما كان لها من التأثير.
__________
(1) هو مستر تشارلز أدمس الدكتور في الفلسفة واللاهوت بالإرسالية الأمريكانية بالقاهرة.
(2) هي جمعية العلوم الروحانية والأبحاث النفسية، بمملكة رومانية العظمى كما جاء في خطابها إلي في أول يناير سنة 1933.(33/536)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما بين الإمامين في جزيرة العرب
من فضل الله على الأمة العربية وعلى العالم الإسلامي أن استقر أمر الحكم
في جزيرة العرب وتوطد لإمامين عاقلين تقيين، ومليكين مكينين قويين، قادرين
على حفظ الأمن، كل منهما في داخل بلاده، وعلى حفظها من العدوان الخارجي
عليها باتحادهما وتحالفهما، ومن ثم كان عقلاء المسلمين كافة، وعقلاء العرب
خاصة في أشد الحرص على إيجاد هذا الاتحاد والتحالف بينهما، وهذا ما سعى إليه
الكثيرون منهم، وكان كاتب هذا (صاحب المنار) بحمد الله وتوفيقه منهم بل أولهم،
وقد عارض هذا السعي الحميد سعي ذميم إلى إفساد ذات البين كان أشد نشاطًا،
ولكنه لم ينل منهما منالاً، وإنما كان العائق عن عزم الحلف وإبرام الميثاق اختلافًا
بينهما في بعض الصفات النفسية والأخلاق، فالإمام يحيى حميد الدين يغلب عليه
خلق المحافظة على القديم، وطول التروي في كل جديد، وإن كان جيدًا مفيدًا،
فسياسته سلبية في الغالب، ورث هذا الخلق إرثًا، ومرن عليه بما كان من مكافحته
كأسلافه للدولة التركية قتالاً دفاعيًّا، وسياسة سلبية لحفظ استقلالهم، وحكم الإمامة
في بلادهم.
وأما الملك عبد العزيز آل سعود فهو مجدد إيجابي السياسة والإدارة، كما يعلم
من تاريخه منذ كان ضيفًا في الكويت لاجئًا إلى شيخها إلى أن استعاد بعزمه وحزمه
إمارة آبائه المسلوبة إلى أن صار صاحب سلطنة واسعة يديرها بالتجديد المدني فقد
جدد في الحجاز في بعض سنين ما لم تفعله الدولة التركية، ولا بعضه في أربعة
قرون. ولهذا كان هو البادئ بدعوة الإمام يحيى إلى الاتحاد والحلف، وكان هذا
يرجئ ويسوف، وكل منهما يعتقد أن الخير له ولبلاده ولأمته ولملته في هذا الاتفاق
الحلفي، وهو على هذا عامل بمقتضى خلقه وشعوره، المختلفين بين إقدام وإحجام،
وإيجاب وسلب، حتى انتهى هذا إلى تعبئة الجيوش وتوقع إيقاد نار الحرب،
والعقلاء من جميع الشعوب والملل مجمعون على أن الاتفاق السلمي خير لكل منهما
من كل ما يتصور من الربح في نيل مراده، وأن الحلف الثابت المطمئن خير من
السلم المضطرب.
كثر تخبط الجرائد العربية في أسباب الاختلاف الذي أثار الخوف من الحرب
فحمل ذلك كل فريق على نشر بيان في الحقيقة التي يراها في جريدة العاصمة التي
هي لسان حاله، فرأيت أن أنشر كلا منهما ليبنى عليه الحكم العادل، ويحفظ
للتاريخ، وأبدأ بما نشره في جريدة (الإيمان) اليمانية، فإني أشم من مقالها عرف
المعارف الإمامية، وهذا نصها: من العدد 85 الذي صدر في جمادى سنة 1352.
] وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [[*]
لم يكن من دأبنا وقد علم كل من قرائنا ما لجريدتنا من الخطة والطريقة إظهار
الولع في تتبع هذيان المفترين، وهوس الكاذبين ومقابلته بالرد على صفحات هذه
الجريدة لأنا نعلم أن الحقائق من شأنها التغلب على الباطل، وسرعان ما انكشف كذب
الكاذبين فافتضحوا، وخسروا فيما افتروه فما ظفروا ولا ربحوا، قبل أن نعمل قلمًا
في رد، أو نتكلف لبيان تضليلهم برسم أو حد، ولو ذهبنا إلى عد ما جرى من هذا
القبيل لطال أمد التعداد، واستنفدنا كمية غير يسيرة من الوقت والمداد.
وفي هذه البرهة رأينا بعض الجرائد اندفعت لنقل الأخبار القصيرة عن
الوضعية في جزيرة العرب، فقلنا هذه شنشنة أخزمية لها حكم ما قبلها من ذهابها
في مدارج الرياح، وانكشاف كذبها مقرونًا بالإيضاح.
ولكن ما مرت الأسابيع حتى رأينا أحوال أولئك المخبرين والمفترين قد
تطورت إلى فصول طوال استغرقت أعمدة من الجرائد، واشتملت على كثير من
المكايد والغش والخداع للعرب خصوصًا، وللإسلام وللمسلمين عمومًا، وكل هذا
جاء مبنيًّا على ما تخيلته أدمغة أولئك من وجود توتر في العلائق بين جلالة مولانا
الإمام وجلالة الملك عبد العزيز بن سعود، وانتسج هذا الوهم بخيوط أن هنالك وفدًا
سعوديًّا عاد من اليمن إلى غير ذلك من التخيلات والاستنتاجات الفاسدة التي يكذبها
الواقع بأعظم دافع.
فلم نجد بدًّا من الدخول في ميادين الرد بقصد بيان الحقيقة وتنوير الأذهان لأنا
رأينا صدى تلك النشريات المفتراة أثرت على نفوس ذوي الغيرة حتى كان منهم
الناصح، ومنهم المتوجع، ومنهم المستغرب ظنًّا بأن تلك النشريات مع تكررها
وطول الأخذ والرد فيها لها نصيب من الصحة، وأقل من هذا كاف في إلجائنا إلى
الخروج من الخطة التي ألفناها واعتادها القراء منا.
لقد عجب واستغرب جدًّا كل سكان جزيرة العرب سواء كانوا في اليمن أو في
الحجاز أو في نجد ما يشيعه خَدَمَة الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة
الذي هو أجلى من شمس النهار، وما يخلقونه من زعم توتر العلاقات بين حضرة
مولانا الإمام أيده الله وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود،
وأن في أنحاء الجزيرة ما يعد من مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام
مجال الطعن والضرب، وتصوير ما انطوت عليه تلك النفوس الشريرة من أن في
البين موقف عدوان، أو موقف دفاع ونسبة الرغبة في تحرج الحالة التي توهموها
واختلقوها إلى جلالة مولانا الإمام مد الله في عمره، ونسبة حضرة سمو المولى
العلامة سيف الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله إلى أنه ذو تشوق لإضرام
نار الحرب بين الطرفين، كأنه من أعتام الأعلاج، أو من ذوي الزيغ والاعوجاج.
كل هذا محض الافتراء، وقد خاب من افترى، فلا توتر علاقات، ولا
احتشاد، ولا تأهب ولا غير ذلك مما هذى به المهوسون خدمة لأعداء الإسلام
وترويجًا لبضاعة تخذيلهم، فلم يحدث بين حضرة مولانا الإمام وبين حضرة الملك
عبد العزيز بن سعود ما يقدح زند العدوان، ولا ما يثير عجاجة تكهن هؤلاء الكهان،
ولم يجر سوى ما استمر من الجميل، وحسن الرعاية من الجانبين، والمراجعات
الودية بين الطرفين مستمرة، والأحوال كما هي عليه مستقرة.
وأنى يكون من مثل جلالة مولانا الإمام أيده الله سعي فيما يخالف صالح
المسلمين وهو -والمنة لله- أولى الناس برعاية الإسلام والمسلمين، وإقامة شريعة
سيد المرسلين، وهل يقبل ذو العقل السديد والرأي الرشيد أن يكون من جلالة
مولانا الإمام في الحال الحاضر ميل إلى إثارة فتنة تخالف صالح الإسلام والمسلمين،
وهو الذي لم يزل دوي الصراخ من أفراد شعبه يتردد في كل آن في مقامه
الشريف الإمامي بطلب الإنصاف في شهداء تنومة الذين يربو عددهم على ثلاثة
آلاف شهيد قتلوا ظلمًا وهم عُزَّل من السلاح، آمِّينَ بيت الله الحرام لأداء فريضة
الحج وركن الإسلام، وفيهم العلماء والفضلاء والأشراف فلم يكن من جلالته غير
إرشادهم إلى الصبر والترويح عليهم بالوعود الجميلة؛ لأن المصلحة العامة اقتضت
في رأي جلالته أن لا يكون الإلحاح على حضرة الملك عبد العزيز في إنجاز حكمه
في شأنهم بعد أن حكَّمَه مولانا الإمام عقيب الواقعة، وأجاب بكل إنصاف، ومرت
على ذلك طوال الأعوام والسنين.
وهو الذي رأى بعينه كيف تطورت الأحوال في قطعتي عسير وما إليها
والمخلاف السليماني، وكيف كان فصلها عن أمها اليمن، وهي منها جغرافية،
وسكانها من أهل اليمن نسبًا، ولم يقابل ذلك بغير المراجعة الودية، والصبر
الجميل.
وهو الذي سعى السعي الكامل للإصلاح في الفتنة التي نشبت بين السيد حسن
الإدريسي وبين حضرة الملك عبد العزيز فلم يقل: فرصة سانحة أو جاءت لما
عندي مزاجًا، وهو الذي له المواقف الحميدة، في كل حادث وقع بين متجاورين
من قبل أن تَعرف جزيرة العرب ما ولد لها من الوضعيات، وما تَكَيَّف لها من
التطورات.
أفمن كان هذا ماضيه وحاله يصح في مدارك العقول السلمية أن يكون مُريدًا
لتأجيج نار الهيجاء يا ذوي الحِجَى، وهل يصح أن ينسب إليه أنه ممن يبذر البوس
لتشتعل نيران حرب البسوس؟ كلا ثم ألف كلا، ولكن هنالك أصابع خفية،
وأهواء ردية، ونفوس شريرة، أرادت أن تنتزع من العدم اختلافًا، ومن صلاح
الأحوال في الجزيرة العربية اختلالاً، ومن تبادل الوداد بين جلالتي الملكين توترًا
في العلائق وانقطاعًا، فكان لتلك النفوس الشريرة ما أرادت من الاختلاق فحسب،
وأما الحقائق فهي على نقيض ما قالوا على طول الخط، والهوى يعمي ويصم.
وأما ما قالوه عن حضرة صاحب السمو الملكي المولى العلامة سيف الإسلام
أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله فذلك عين قول الزور، والإفك المعدود في وخيم
الفجور، فهو أعظم من تعقد على فضائل سداده الخناصر، وتستمد من إرشاداته
حقائق الصلاح السوافر، وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن
العلماء العاملين، الجامعين بين الرجاء فيهم للدنيا والدين، وهو أشد الناس رعاية
للصداقة بين جلالة والده مولانا أمير المؤمنين وبين حضرة الملك عبد العزيز، فكم
قابل وسائل ذوي الفتنة بالرد، ومنع المتحرشين أعظم منع جاوز الحد، وشهادة
الواقع لا تحتاج إلى برهان، وهي بمرأى ومسمع من بني الإنسان.
وإنا لنعجب أن كل ما نراه من الصيحة في الفلاة برغم أولئك المفترين لما
كان في وادي نجران من سعي في إصلاح جماعات تجاوز إضرارهم أسرهم
وإخوانهم إلى مجاوريهم، ولم يكن ضررهم بأقل من سفك الدماء، والتعرض
للسبيل، ودوام الغزو والغارات، وعدم الانقياد إلى شريعة الإسلام في شيء، ولم
يكن المراد منهم سوى ترك تلك العادات القبيحة التي ليس لها في عادات المسلمين
من نصيب، والإقبال إلى شريعة الله من بعيد منهم وقريب، وإذا كانوا يرون أن
ذلك هو العدوان فمتى كان نجران، وهو من اليمن وإلى اليمن إلى غيره يُنْسَب،
وفي غيره يُذْكَر، وإلى هذه الساعة لم ينصب فيه علم لأحد غير ذويه، ولا دان
بطاعة لا لحضرة الملك عبد العزيز ولا سواه، ومع ما ذكرناه فإنه دفعًا لتشويش
الأفكار، ومنعًا لتحرش الفجار، كان من مولانا الإمام قبل توجه الأجناد إلى تلك
البلاد الكتابة لحضرة الملك عبد العزيز عن ذلك الشأن فرجع جواب حضرة الملك
عبد العزيز حاويًا لكل إنصاف واعتراف فما هذا التضليل؟ يريدون أن يجعلوا من
الحادث الضئيل، ما يروع من التهويل.
وأعظم من هذا اندلاع لسان بعض المفترين بأن الوفد السعودي الذي بارحنا
قريبًا قوبل بغير التجلة والاحترام وكرم الوفادة، والإعظام في الاستقبال والإقامة
وفي العودة، وهذا محض الإفك الصريح، فألسن الوفد هي الحكم والشاهد في هذا
الشأن، لا ما يفتريه ذوو الهذيان.
ونعود إلى ما بدأنا به فنقول: لم يكن الحادي لنا إلى طروق هذا الموضوع
والنزول إلى ميدانه سوى بيان الحقيقة، فليكف المفترون أقوالهم المزورة،
وليستحيوا من جميع العالم فقد تعدد افتضاحهم مرة بعد مرة، وليخلعوا عن جسومهم
ثياب النفاق وليطهروا قلوبهم من الخبث والشقاق، وليعضوا أناملهم من الندم على
ما كان، فهم إلى التوبة أحوج من سواهم، أخذ الله بنواصينا إلى ما فيه رضاه،
ونزهنا من العد فيمن خسر دينه ودنياه، والله الهادي. اهـ بنصه.
ويليه بيان وجهة الحكومة العربية السعودية نقلاً عن جريدتها (أم القرى)
وهذا نصه:
بين الرياض وصنعاء
(من عدد أم القرى الذي صدر في أول رجب سنة 1352)
انتشر في الآفاق خبر ما سمي خلافًا بين الرياض وصنعاء، ولم تشأ أن
تتعرض هذه الجريدة لأمر ذلك الخلاف، رجاء أن يحل الأمر بالتي هي أحسن؛
لما نعلمه من محبة جلالة الملك وسيادة الإمام يحيى للاتحاد والاتفاق، ولا نزال
نرجو كما يرجو سائر العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينتشر في
القريب العاجل خبر انتهاء ذلك الخلاف فيفرح المسلمون والعرب باتحادهم واتفاقهم
وجمع كلمتهم، وكنا نود السكوت إلى النهاية حتى ننشر الخبر الحاسم في الأمر،
لولا أننا اطلعنا على كتاب من سيادة الإمام يحيى أرسله لتحسين الفقير في دمشق
نشرته جريدة فلسطين يشير فيه سيادته للأمور التي هي موضوع الخلاف بين
البلدين، وقد سألنا عن بعض المصادر المطلعة عن حقيقة ما أشار إليه سيادته في
كتابه فأطلعنا على بعض المعلومات التي نوردها للرأي العام العربي والإسلامي
ليكون على بينة من الأمر.
(1) دافع سيادته عن (نجله العلامة سيف الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين)
ونفََى عنه حبه لإضرام نار الحرب بين الجهتين، ونحن نثق أن نجل سيادته
وسيادته لا يحبون أن تشتعل نار الحرب بين البلدين؛ لأنه لا يقدم عليها طائعًا مَن
في قلبه ذرة من إيمان، أو مسكة من عقل؛ لأن الحرب معلوم نتائجها ومضارها.
(2) ذكر سيادته أنه (لم يحدث بينه وبين جلالة الملك ما يقدح زند العدوان
وأنه لم يحدث إلا الجميل وحسن الرعاية من الطرفين) وهذا شيء نتمنى أن يدوم
وأن يصل الفريقان لحل المشكل، ولا يزال جلالة الملك على اتصال بَرْقِيٍّ مع
سيادته لإنهاء ذلك المشكل بالتي هي أحسن، ولا شك أن سيادته كما ذكر عن نفسه
أنه من أولى الناس برعاية الإسلام والمسلمين، وأحق الناس بمنع الإفساد والفتن
وإيقاد نار الشقاق بين المسلمين.
(3) أشار سيادته إلى ما يسمعه (من شعبه السعيد مما يثير الحفيظة) عن
قتل من قتل من اليمانيين في الحادثة التي تسمى حادثة العصبة أو حادثة تنومه،
وأنه ما يزال يصبر شعبه (بحسن العبارات وألوان الاعتذارات) إلى آخر ما ذكره
سيادته في هذا الباب. ونرى بهذه المناسبة أن نبسط حقيقة هذه القضية ليكون
الناس على بينة منها:
إنه إلى حدوث حادث العصبة لم يكن بين جلالة الملك وبين سيادة الإمام يحيى
أي صلات من التعاقد والتعاهد، ولا هناك أي مخابرة في مسابلة أو مسير،
والحادث وقع قبل أي مكاتبة أو استئذان في مرور هؤلاء، وصادف أنه يوم
مرورهم كان عبد العزيز إبراهيم (أمير المدينة الحالي) أميرًا في أبها ومرت
العصبة في (خميس) وكان لا بد لهم في وصولهم إلى مكة من مرورهم في بني
شهر، وكان جماعة بني شهر وعلى رأسهم الشبيلي أغروا بتحريضات من الملك
حسين غفر الله له بقتال جلالة الملك والانتقاض عليه، وكان ابن إبراهيم أمير أبها
يعلم بوجود قوة من الإخوان مشتبكة بالقتال مع بني شهر في الطريق، وخاف أن
يحدث على العصبة حادث في طريقهم؛ لأنهم سيسيرون في المحل الذي يشتبك
القتال فيه فحذرهم ونصحهم بعدم التقدم في طريقهم ذلك، فرفضوا وأصروا على
المسير معتزين بقوتهم وجمعيتهم، وصدف أنه يوم وصلوا وادي تنومه الواقع بين
بني الأحمر وبني الأسمر كانت رحى القتال دائرة بشدة، وكانت الخيالة في أسفل
الوادي، والمشاة قد تسلقت الجبال لاحتلال الأماكن المنيعة فيها، فوصل الخبر
للخيالة أن جمعًا عظيمًا جاءكم من الوادي لقتالكم، فأرسلت الخيالة للمشاة بالعودة
من الجبال لقتال الذين أتوا مع الوادي، ورغمًا عن أن وصول مثل هذا العدد في
مثل تلك الساعة الرهيبة من ساعات الحرب يدعو للريبة ولعدم التساهل، فإن جند
الإخوان على ما به من شدة وغلظة وقسوة في الحروب أرسل خيالة تستطلع خبر
القادمين فأعلموهم أنهم العصبة وأنهم يريدون المرور، فأشاروا عليهم بالعودة فأبوا
وصمموا على المسير وقتال من يقاتلهم، ثم ساروا بهيئة حربية وحصل إطلاق
بعض العيارات النارية منهم للإرهاب والمرور.
فلم يكن من جند الإخوان في ذلك الموقف إلا أن قابل العدوان بأشد منه وكانت
المعركة المؤسفة التي قتل فيها من قتل، ثم عاد الإخوان فأتموا المعركة مع جند
الملك حسين، وهم يعتقدون أن هذه العصبة لم تقدم في تلك الساعة من اليمن إلا
نصرة للملك حسين، وتأييدًا للعصاة، ولم يتصل الخبر بجلالة الملك حتى تأسف
للحادث أي أسف، وكتب لسيادة الإمام يحيى كتابًا رقيقًا يظهر أسفه لذلك الحادث،
وأمر حالاً بجمع جميع ما وجد من متاع كان من تلك العصبة ورده إلى سيادة الإمام
يحيى، ولم يُخْلِ الإخوان من المسؤولية في ذلك رغم الشبه التي كانت لديهم في
قدوم العصبة في ذلك الوقت فجازاهم بعد ذلك بالجزاء الذي يستحقون.
هذا هو الحادث كما هو بغير زيادة أو نقصان، فهل يرى ذو الحجى والعقل
بأن على جلالة الملك أو على جنده تبعة شيء من ذلك الحادث بعد ما كان من نهي
أمير أبها لهم عن المسير، وبعد أن كان من الجند من منعهم عن التقدم وعصيانهم
للفريقين؟ ثم لم يكن من الإمام يحيى طلب سابق يطلب الرخصة لهم، فهل هناك
عرف دولي يقضي بمسؤولية حكومتنا في ذلك؟ إنا نترك الحكم في ذلك لعلماء
الإسلام كما نتركه لعلماء الحقوق من الباحثين.
(4) ذكر سيادته أنه (قد علم من تحت أديم السماء ما كان من فصل قطعة
من اليمن الميمون عن أمها اليمن الخضراء مع علم كل ذوي العقول أن قطعتي
عسير وما يليها، وجيزان وما يليها من اليمن جغرافية ونسبًا) إلى آخر ما ذكر
سيادته في هذا الباب.
إن هذه القضية قضية اليمن لليمانيين، وكلمة الوحدة اليمانية، وأن عسير من
اليمن وجيزان من اليمن، وأكثر من هذا سمعناه قبل اليوم، وكنا نعرض عن
البحث فيه؛ لاعتقادنا أن هذه دعوى لا يتمسك بها ذو دين، ولا من يفهم معنى
القوميات في العصر الحاضر، كما أنه لا يوجد دليل ديني ولا تاريخي يعطي
لصنعاء ومن فيها حق التحكم في كل ما تدعي به من اليمن.
أما الدين فإن الإسلام قد آخى بين المسلمين ولم يسمح بجعل الفروق القبيلية
أساسًا للحكم والسلطان، وكل من اطلع على الحديث يرى الأحاديث الكثيرة في نفي
العصبية في الإسلام.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الأقوال في ذلك مما لم يرو
له صلى الله عليه وسلم لفظ مثله في نهي أو زجر حفظًا لجامعة الإسلام، فقد روى
صاحب مشكاة المصابيح في باب المفاخرة والعصبية عن أبي بن كعب قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه) إلى
آخره، رواه في شرح السنة، وقد شرح الحديث بما لا نرى في هذه العجالة مناسبة
لإيراد ما ذكره في ذلك الشرح، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم دخل
اليمن في الإسلام أرسل معاذًا رضي الله عنه من مكة ليعلم أهلها الإسلام فلم يجعل
صلى الله عليه وسلم لليمن قومية خاصة، ولا كيانًا خاصًّا، ولا مزية خاصة،
وإنما هي بلد من بلاد العرب دخلت في الإسلام فكانت جزءًا من أجزاء بلاد الإسلام
الذي لا فضل لعربي على عجمي فيه إلا بالتقوى، فكل دعوى في الإسلام إلى
العصبية باطلة ساقطة، الإسلام دين واحد، والمسلمون أمة واحدة، والعرب
بعضهم أكفاء لبعض إلا ظنينًا بولاء أو نسب.
ومما نذكره بهذه المناسبة مع شكر الله وحمده ما قام به جلالة الملك حفظه الله
تعالى في الجزيرة العربية من إبطال العصبيات القبيلية ومنع الغارات والشحناء بين
العرب في سائر ما امتد إليه حكمه في دياره، فقد كانت القبائل يتحامى بعضها على
بعض، كلٌّ يدعو قَبِيله ونفيره ويستعديه على أخيه، فدعاهم لتوحيد الله ونبذ ما
كانوا عليه من الشرك والضلال، فانقادوا لذلك طوعًا أو كرهًا، وجعل منهم أمة
واحدة لا تشعر بغير الشعور الإسلامي، ولا تعرف غير الإسلام مذهبًا دينيًّا
وسياسيًّا، ولا تتخلق بغير أخلاق العرب التي أقرها الإسلام، فالحمد لله على نعمه،
ونسأله المزيد من فضله وكرمه.
أما دعوى الوحدات الجزئية من الأمة الواحدة فقد انتشرت هذه الفكرة ويا
للأسف عن طريق مدارس التبشير المسيحية في مصر وسوريا ليفسدوا على
المسلمين عقائدهم الدينية، وعلى العرب جامعتهم العربية السياسية، فألقوا في
أذهان الأطفال ألفاظًا طربت لها آذانهم صغارًا، وأثرت في نفوسهم كبارًا، فظنوا
أن ذلك طريق العزة لهم والمنعة، وما علموا أن ذلك سبب لضعفهم وتفكيك
لأوصالهم، قالوا لهم نكاية بالترك والسوريين يومئذ: مصر للمصريين، ثم صاروا
يقولون: سوريا للسوريين، والعراق والحجاز للحجازيين ونجد للنجديين، واليمن
لليمانيين، ثم زادوا هذا الخرق اتساعًا في سوريا خاصة، فقالوا: فلسطين
للفلسطينيين والشام للشاميين، وحلب للحلبيين وبيروت للبيروتيين …. إلخ
وهكذا كانوا:
وتفرقوا شيعًا فكل قبيلة ... فيها أمير المؤمنين ومِنْبَر
متى ضعفت جامعتهم وتفككت أوصالهم ضاعت عزتهم، وفقدوا المهم من
شأنهم، وأصل هذا دعوة دعا إليها (مونرو) رئيس في الولايات المتحدة جعل هذا
شعارًا لأميركا فقال: (أميركا للأميركيين) منعًا لعدوان أوربا عن أميركا، ومثل
هذا اللفظ وإطلاقه على أميركا وسير أميركا عليه ليس منه إلا حفظ لشأن أميركا
وطرد لأوربا عنها، فأميركا دول متفرقة بينها، ولكنها إزاء أوربا والمجموعة
الدولية أمة واحدة وبلد واحد، أما في بلاد العرب فإن هذه الدعوى السخيفة التي
انتشرت فيها لم تنشر إلا من أهل السوء وأعداء العرب والإسلام، ولم يقصد منها
غير طعن العرب والإسلام في الصميم، وتفكيك أوصال الصلات بينهم، ومن كان
فيه مسكة من دين أو قليل من العلم بعلم الاجتماع وتكوين الأمم يربأ بنفسه عن مثل
هذه النغمة التي تناقض الدين وتنافي ما بنَى عليه علم الاجتماع قواعده في تكوين
الشعوب والأمم في العصر الحاضر، على أن هذا الباب طويل عريض لا يتسع
المجال لبسط الكلام فيه فنرجئه لفرصة أخرى ولمقام آخر، والمهم فيه الإشارة إلى
ما نرى من أمر الإسلام في مثل هذه الدعاوى المحلية والإشارة لأغراض المفسدين
في تفريق شمل الأمة العربية والأمة الإسلامية.
وإذا انتقلنا من هذا البحث إلى التاريخ القريب نجد أن هذه القطعة من البلاد
العربية والتي تسمى عسير منذ نشأة آل سعود الأولين كانت تابعة لهم وخاضعة
لحكمهم، وظلوا فيها إلى أن وقعت الحرب بين آل سعود والترك حيث كانت الغلبة
للترك، وكان آل عايض من أمراء آل سعود في تلك الأطراف، ثم نشأت بعد ذلك
سيادة آل حميد الدين في أعالي اليمن، كما نشأت سيادة الإدريسي في بعض جهات
تهامة، إلى أن حصل ما حصل في استرداد جلالة الملك لإمارة آل عايض ثم حماية
الأدارسة ثم نقض الإدريسي للعهد، ونكثه ثم إلحاق تهامة وعسير بالمملكة العربية
السعودية التي تدين بدين الإسلام، وتحيي مآثر العرب التي أقرها الإسلام، وتنفي
دعوة الجاهلية، ولو سئلت رأيها من قبلها في التقدم إلى هذا الأماكن لاختارت عدم
التقدم لها، ولكن بليت بكل ناحية من بلاد العرب بمن ينغص عليها السكون
والراحة، فتقدمت للدفاع فأعان الله حتى أعطى الله ما أعطى وهو المعطي وهو
المانع لا مرد لحكمه ولا معقب لأمره.
وليس هذا مجال شرح أسباب احتلال كل قطعة من قطع البلاد العربية لتبرير
موقف حكومتنا؛ لأن أكثر ذلك أصبح مشهورًا ومعروفًا عند أكثر المشتغلين
بالقضية العربية.
ومن هذا يتبين أن دعوى صنعاء بأنها أم اليمن، وأنها ينبغي أن تجمع اليمن
إليها، أمر ظهر من صنعاء في مواقف كثيرة، ولو أردنا أن نسمح لأنفسنا بالاسترسال
وبالتسليم جدلاً بدعوى الجاهلية لكان هناك مجال للقول بأن اليمن لليمانيين
ولا يَمُتُّ مَن في اليمن بنسب إلى قريش وقريش في الحجاز وأهل اليمن من اليمن
كما أن الأدارسة لم يأتوا لتهامة إلا من أفريقيا، وهم ينتسبون لقريش أيضًا. على
أن هذا مما نحمي لساننا عن قوله، ولا ندعو إليه وننتهي بنهي الرسول صلى الله
عليه وسلم عنه.
وسيادة الإمام يحيى سبق أن أعطى من في تهامة عهودًا ومواثيق ثم أوقع بهم
أي وقيعة، وننشر في عقب هذا المقال نص العهد الذي قطعه للزرانيق والقبائل
وذلك بتوسط والي اليمن الأسبق محمود نديم؛ ليعرف الناس حقيقة ما هو واقع في
تلك النواحي، والذي نعلمه أن جلالة الملك لم يسمع لمن في تلك الجهات نداء، ولا
أجاب لهم استصراخًا، رغم اختلافهم مع من في صنعاء في المذهب وذلك تفاديًا
وبعدًا عن الشحناء.
ولقد كان من العجب العجاب تلك الجموع المتتابعة التي لا تزال تتابع والتي
أرسلها سيادة الإمام يحيى إلى نجران وهم لم يجنوا ذنبًا ولم يقترفوا معه إثمًا فاحتل
ديارهم وحرق بيوتهم وقطع نخيلهم وشرَّد بهم وهم من العرب، ولا نعلم لهم ذنبًا
اللهم إلا أن يكونوا لأنهم ينتسبون إلى نجد، وأنهم عاهدوا جلالة الملك وبايعوه على
بيعة آبائهم وأجدادهم لآباء جلالته وأجداده كما نشرنا ذلك في حينه في أم القرى عدد
388 بتاريخ 14 محرم سنة 1351.
ورغم هذا كله فالذي نعلمه أن جلالة الملك لا يزال يكرر مراجعة سيادة
الإمام يحيى لحل المشاكل المعلقة، ويعمل كل ما يستطيعه في سبيل السلم، ولنا
الأمل الكبير إن شاء الله تعالى أن تُكَلَّل المساعي بالنجاح فيسر العرب والمسلمون
بحفظ قواتهم وجمع كلمتهم.
وقد اتصلت بنا عدة وثائق عن الموقف الحاضر توقفنا عن نشرها رجاء أن
ينتهي الأمر إن شاء الله تعالى فلا تحوجنا الظروف لنشر شيء قد يوجب انتقاد
الناس لفريق من العرب مما لا نحب أن نسمعه إلا إذا أرغمنا عليه، فلا حول ولا
قوة إلا بالله. اهـ.
(المنار) هذا ما نشرته أم القرى من الرد على ما كتبه الإمام يحيى لتحسين
باشا الفقير القائد العسكري عنده الداعية له في سورية فنشره في بعض جرائدها،
وقد كتب في معناه وبلفظه كتبًا أخرى لأناس آخرين في سورية ومصر، والغرض
منها كلها إقامة الحجج أنه لا يريد قتال ملك العربية السعودية إلا أن يبدأه بالقتال
بغيًا وعدوانًا، إذًا لا يوجد ذنب ولا سبب يبيح له هذا القتال، ولكن في هذه
المكتوبات كلها أنه مهضوم الحقوق بسلب عسير منه، وأن لقومه ثأرًا على
النجديين لا يفتئون يطالبونه به، والذين لا يفتئون يطالبونه به، والذين ينتصرون
له على الملك عبد العزيز ينشرون هذه المكتوبات، ومنهم من شرح معانيها وكبرها
، ونوَّه بقوة الإمام وعظمها، وذلك كله من أسباب تفاقم الخلاف الذي حمل جريدة أم
القرى على هذا الرد الشديد اللهجة، بأسلوب دفع الشبهة وإقامة الحجة، ونشرت
بعده الملحق الذي أشارت إليه فيه.
ونحن قد كاتبنا كلا من الإمامين، بما نراه من إصلاح ذات البين وجاءنا من
كل منهما رجع مكتوباتنا، ولم ننشر شيئًا منها كعادتنا، وعلمنا أن الملك ينكر على
الإمام أمورًا لم ينشرها، بل جعلها موضوع المفاوضة الخاصة بينهما، ولكن حشد
الجيوش وحشرها على الحدود متصل من كل منهما، والملك عبد العزيز واسع
الصدر والحلم، صريح في حزم وعزم، إذا شرع في شيء لا ينثني عن إمضائه إلا
إذا ثناه القدر، وهو لا يطلب من الإمام يحيى إلا توقيع معاهدة صريحة تقر الحدود
وتضمن الحقوق بما يسد ذرائع العدوان، فلا يتكرر ما وقع في جبل عرو ووادي
نجران، فنسأل الله أن يصلح ذات بينهما بغير قتال، ويحسن العاقبة والمآل.
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(*) (الجاثية: 7) .(33/543)