الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها
قد صار من المعروف عند جماهير الواقفين على شؤون الأقطار العربية
وأهلها أن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود قد عمل في جزيرة العرب
عملاً لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام من تحويل الأعراب من عصبية
جاهلية ووثنية وأمية إلى التوحيد والعلم والحضارة بالتدريج، جدد بذلك ما كان قد
رث واخلولق من الإصلاح الديني والنهضة العلمية التي قام بها الشيخ محمد عبد
الوهاب، وأعاد بناء ما كان قد تهدم من دولة أجداده بعداوة الدولة العثمانية لهم
ومجاهدتهم إياهم بالسيف والنار، ثم بالدعاية المنفرة عن إمارتهم بدعوى كونها
ناصرة لمذهب مبتدع جديد مخالف للسنة، خوفًا من تجديدها لملك الأمة العربية،
وانتزاعها منها ما تدعيه من منصب الخلافة الإسلامية، بل وسع تلك الدولة حتى
استقام له الأمر في معظم الجزيرة العربية، فأقام فيها الدين، وأحيا سنة الخلفاء
الراشدين، بما نصب من قسطاس العدل المستقيم، ومد من ظل الأمان الوارف
الظليل، فأغنى الحاج عن الحرس والبذرقة [1] وهيَّأ لهم وسائل الصحة والراحة.
وكان مما حاوله ولما يدرك فيه كل ما أمَّله، إبطال البداوة من نجد وملحقاتها،
وإزالة جهالاتها ومنكراتها، فبنى لهم المهاجر، وهيَّأ لهم فيها أسباب الزراعة
والعمران، بقدر ما في الإمكان، ولقد كان كل ما في الإمكان قليلاً، لم ينتزع من
قلوبهم ما رسخ فيها من جفوة البداوة، ولم يثقف من طباعهم ما ورثته من حمية
الجاهلية؛ وإنما صبغها التعليم الناقص بصبغة دينية، فصار ما ألفوه من الغزو لأجل
السلب والنهب، واستباحة سفك الدماء لأخذ الثأر، أو شفاء حفائظ الصدر، مشوبًا
بقصد نشر التوحيد وإزالة الشرك، ولا يتم هذا إلا بمعرفة ما يتوقف عليه من أحكام
الشرع.
وهم لم يعرفوا كلهم من تلك الأحكام وجوب طاعة الإمام في المنشط والمكره،
وتحريم الأثرة عليها والاستبداد دونه في الجهاد والأمان، وإقامة الحدود وتقرير
العقوبات، فظل الراسخون في البداوة الجاهلية، والعصبية العمية، يخضع كلٌّ
لرئيس قبيلته، ويقاتل تحت رايته، ويطيع الإمام صاحب البيعة بطاعته، لا بأمر
الله واتباع شريعته، وهذا عين العصبية التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم،
وتبرأ من فاعلها بقوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على
عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن
مطعم رضي الله عنه، ولم يعلموا أيضًا بحظر الغلو في الدين، ولا أنهم كانوا من
الغالين بتكفير من لم يثبت كفره، أو عقاب من لم تشرع عقوبته، ولا أن حق إقامة
الحدود وعقوبات التعزير للإمام أو نائبه، وكذلك إزالة المنكر والنهي عنه إذا لم
يكن من المجمع عليه، وأما أهل الحضر منهم فيعلمون أكثر هذه الأحكام.
وقد علم قراء المنار ما كان من أمر فيصل الدويش وقومه في غزو أطراف
العراق والكويت بدون أمر الإمام، ومن إصرارهم على ذلك بعد نهيه اياهم عنه،
ومن عقده مؤتمر الشورى العام في الرياض عاصمة نجد في العام الماضي،
واقتراحه عليهم أن يبايعوا غيره إذا لم يكونوا راضين بحكمه، وحثهم على انتقاد
كل ما يرونه من أعماله مخالفًا لشرع الله أو لمصالحهم، وما كان من مصارحة
بعضهم إياه بما أنكروه من أخذه ببعض مستحدثات الصناعة المدنية كالسيارات
والتلفون لجهلهم بحقيقتهما، ومن اقتناعهم بعدم حظر ذلك وأمثاله كما أفتى بذلك
علماؤهم، ومن إجماعهم على إنكار ما فعلته حكومة العراق من إقامة الحصون في
مراعي نجد ودون مياهها، وتفويضهم الأمر إليه في السعي لإزالة هذه الحصون
بكل وسيلة ممكنة حتى القتال، وما تلا ذلك من تجديد مبايعته، وإيجاب طاعته،
وشذ عن ذلك غلاة المعتدين بإغواء زعيمين من شيوخهم هما فيصل الدويش
وسلطان بن بجاد، وأذاعوا أن الإمام عبد العزيز بن سعود أبطل فريضة الجهاد
وقتال المشركين فوجب عصيانه، حتى اضطر إلى قتالهم وإخضاعهم في العام
الماضي بالقوة؛ ولكن فيصل الدويش هذا فر واختفى حتى ظن أنه قُتل.
ولما عاد الإمام إلى الحجاز بعد هدوء الحال في نجد عاد هذا الخارجي
المتعصب إلى بث الدعوة لعصيانه، وثبت عند حكومة نجد والعارفين من أهلها أن
أعداء ملكهم افترصوا هذه الفتنة فأرسلوا دعاتهم من العراق والكويت إلى نجد
يحملون الألوف الكثيرة من الريالات والروبيات لمساعدة العصاة وتعميم الدعاية إلى
الخروج عليه، فانتشرت في القبائل والهجر أو المهاجر التي لا تزال تغلب على
أهلها أخلاق البداوة وعاداتها، ولكن باسم الدين ودعوى مخالفة الإمام عبد العزيز
لأحكامه بموالاة المشركين من أهل العراق والإنكليز حماتهم، ومنع المسلمين من
مجاهدتهم (ويعنون بالمسلمين أنفسهم) وكذا إقراره مشركي الحجاز وغيرهم من
أهل الأمصار على ما هم عليه، وسماحه لهم بالحج من غير أن يستتيبهم من
الشرك، ويلقنهم التوحيد الخالص … وحاولوا نشر هذه الدعاية في بدو الحجاز كما
نوَّه بذلك ناشرها في مصر، وبنوا على ذلك الدعوة إلى ترك الحج في هذا العام.
وللمسلمين في هذه الفتنة عدة عبر:
(1) أن سيئي النية من النجديين في هذه الفتنة هم أفراد من الزعماء
كفيصل الدويش، هذا الذي منعه الإمام ابن السعود من استغلال قوته في السلب
والنهب، والتلذذ بما ألفوا من الغزو، وقد ذكر الملك في كتاب أرسله إلي في العام
الماضي أنهم اثنان فقط (يعنى الدويش وابن بجاد) ولعلهم زادوا في هذا العام فكان
منهم بعض شيوخ عتيبة والعجمان وغيرهم ممن أظهروا الخروج على الإمام،
وهذا من الأدلة على ما هو مقرر في الشرع وجميع قوانين الأمم من وجوب توحيد
السلطة، وحظر وجود زعماء في المملكة، يمكنهم الانفراد بالحرب أو أي عمل من
أمور الدولة، بدون أمر الممثل للسلطة العليا من إمام أو ملك أو رئيس.
(2) أن العلم الناقص المعبَّر عنه بالجهل المركب قد يجني على الأفراد
والأمة ما لا يجني عليها الجهل البسيط؛ فإن عوام القبائل النجدية التي خُدعت
بدعاية رؤسائها الطامعين، وأعدائها الدساسين، لا تعلم أن الإسلام الذي تحبه
وتتفانى في الدفاع عنه يحرِّم عليها الخروج على الإمام، وتفريق كلمة الأمة وإن لم
يفض إلى القتال، فكيف إذا جُعل وسيلة لسفك الدماء، وقتل المسلمين الموحدين
بعضهم لبعض؟ كما فعل الدويش وأمثاله في نجد، فالدويش يدَّعي أن الامام ابن
سعود أخطأ وعصى الله تعالى في منعهم من قتال أهل العراق والكويت، وأن علماء
نجد شايعوه على ضلاله وعصيانه، ولو كان لخواص قومه - ولا أقول لكل قومه -
علم بشريعة الإسلام، لعرفوا أنه هو المخطئ لا الإمام، وأنه لا يمكن أن يكون
أعلم من علماء نجد الموافقين للإمام بالشريعة، ولعرفوا أن مذهب أهل السنة أنه لا
يجوز الخروج على الإمام بمثل هذا الخطأ إن صح أنه خطأ.
ولو كان لهم عقل ورأي لعلموا أنه ليس من الدين ولا من العقل ولا من
مصلحة أمتهم وبلادهم أن يقتتلوا لخلاف وقع بين إمامهم وشيخ قبيلتهم؛ لأن هذا
يفضي إلى ضعف أهل التوحيد كلهم، وتمكين الكفار من إزالة ملكهم أو إضعافه.
(3) أنما منع الملك عبد العزيز آل سعود هؤلاء الغزاة من أهل بلاده أن
يغزوا العراق والكويت وشرق الأردن حبًّا في السلم وحرصًا على الوحدة العربية
والجامعة الاسلامية، فكان جزاؤه من رؤوس هذه البلاد أن يغروا هؤلاء الغزاة
أنفسهم بقتاله، ويساعدوهم على إيقاع الاختلال في بلاده، أملاً في ثل عرشه،
وعودة الحجاز إلى عشاق المُلك من بيت حسين بن علي بمساعدة الإنكليز الذين
ولُّوهم مُلك العراق وشرق الأردن، ويرجون أن يفوا بوعدهم إياهم بسائر البلاد
العربية، وقد تناقل المشتغلون بالقضية العربية عن بعض أفراد هذا البيت وأشدهم
صراحة في عداوة ابن السعود أنه قال جهرًا عندما تجددت فتنة نجد في الصيف
الماضي وقبل علم الجمهور بها: إن عبد العزيز بن سعود لن يعيش أكثر من شهر
بعد هذا اليوم، فعُلم من ذلك أنه كان من جملة الدسائس السعي لاغتياله.
وتناقلوا أيضًا أن عليًّا ملك جدة الغابر، وعبد الله ملك شرق الأردن الحاضر،
لم يزورا والدهما حسينًا ملك العرب أو الحجاز السابق، إلا لإقناعه بالانتقال إلى
العراق حيث فيصل ملكها اللاحق، أو معان التي سلخها نجلاه من المملكة الحجازية،
ووضعاها تحت تصرف الجلالة البريطانية إلا ليتولى إدارة هذه الفتنة، وأنهما
سعيا لدى الإنكليز للإذن بهذه النقلة.
وتناقلوا أيضًا أن سفر الأمير عبد الله من شرق الأردن إلى بغداد لعقد المؤتمر
السري مع أخويه الملكين علي وفيصل في وقت اشتعال فتنة فلسطين وتهيج عرب
شرق الأردن لمساعدة إخوانهم في القدس على اليهود - إنما كان لأجل التدبير الذي
يجب التعاون عليه في مسألة نجد، ولا شك عندنا في براءة حكومة العراق وزعماء
العراق من هذه الأعمال والدسائس، وفي كراهتهم لها؛ لأنهم من أخلص زعماء
العرب لأمتهم، وأكبر رجائها في تأسيس وحدتهم.
وقد صرَّح داعية هؤلاء الحجازيين في مصر أمام بعض من كلمه فيما يذيعه
من تكبير أمر هذه الفتنة بأنهم متفقون مع فيصل الدويش فيها.
وأما شيخ الكويت الغني (المصحَّف) فهو يحمل غلاًّ وإحنة على ملك الحجاز
ونجد؛ لأنه أمر بتحويل تجارة نجد عن ثغر الكويت إلى ثغور بلاده في الحسا هربًا
من المكس (الجمرك) الذي تأخذه حكومته عليها، وهو حق شرعي قانوني لا
يختلف فيه اثنان، وهذا منتهى شوطه في الانتقام، إلا أن يريد الإنكليز تضحيته
في هذا الميدان، كما ضحوا بكثير من الملوك والأمراء في الشرق والغرب كانوا
أقوى منه وأغنى، وأعلم بالسياسة وأدرى.
(4) لم تكتف الدعاية الشريفية الحجازية، بما ذُكر من الأعمال السياسية،
لاستعادة ملك الحجاز إلى الإمبراطورية البريطانية، بل نشط عمالها لإعادة الدعوة
إلى ترك الحج التي كانوا بدءوا بها في السنة الأولى لاستيلاء ملك نجد على الحجاز،
وقد بثوا هذه الدعوة في جميع الأقطار التي لهم أعوان وعمال فيها، ولو وصلت
فتنتهم إلى الحجاز، وأمكنهم إثارة بعض بدوها للقتال والاعتداء، لراجت دعوتهم
بدعوى الخطر على الحجاج، وأما احتجاجهم السابق عليها بالطعن في مذهب أهل
نجد وملكهم فلم يعد له أدنى تأثير عند أحد من المسلمين، بعدما تواتر بنقل مئات
الألوف من حجاج جميع الأقطار في هذه السنين أن الحجاز في عصر ابن السعود
خير مما كان في عصور الدول السابقة من الأمويين والعباسيين إلى الترك
العثمانيين، أمانًا وراحة وصحة وحرية شرعية لجميع المذاهب الإسلامية، بل لا
يُسئل هنالك أحد عن مذهبه.
الآراء في هذه الفتنة
إن الناس قد اضطربوا في أخبار هذه الفتنة لتعارض أخبارها باختلاف
مصادرها، فأهل الغيرة على الإسلام، ودعاة الوحدة العربية، ومحبو الرابطة
الشرقية، وأعداء السياسة الاستعمارية، وخصوم الدولة البريطانية منهم خاصة -
كلهم يتمنون النجاح لابن السعود في القضاء على هذه الفتنة بمنتهى السرعة؛ لأن
كل فريق منهم يعلم حق العلم أنه الركن الركين لمصلحتهم وسياستهم، وما قرأت
لأحد ولا سمعت من أحد ولا عن أحد منهم غير ذلك، إلا عن شيخ واحد من أكبر
سدنة القبور المعبودة أظهر التمني لانتصار الخارجي على إمامه الشرعي، جاهلاً
أن ذنب إمامه عنده أنه منعه هو وغلاة أتباعه من قتال القبوريين، وأنه يسمح لهم
بالحج والعمرة، وجاهلاً بما يخشاه أولئك المسلمون من عرب وعجم، والعرب من
مسلمين ونصارى، من أن تكون الدسائس الإنكليزية هي المحركة أو المغذية
للخوارج على ابن السعود بعد فشلها في محاولة الإيقاع بينه وبين عرب العراق
وشرق الأردن، وبعد أن أظهر العطف على عرب فلسطين، وأعلن رسميًّا أنه
يسره ما يسرهم، ويسوءه ما يسوءهم، وساعدهم بالمال، وخشي أن يساعدهم
بالرجال، وإنني أرى المتمرسين بالسياسة والملمين بها في بلدنا هذا لا يشكُّون في
هذا، ويعدون من آياته ما ذاع من سعي بعض الإنكليز لنصب الأمير عبد الله ملكًا
على فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، المقيد بالوطن القومي اليهودي
الصهيوني، ولم يغتر أحد من الذين يعرفون كنه هذا الأمير وأسرته بما أنذر به
السلطة الإنكليزية في القدس من عاقبة هيجان عرب شرق الأردن على اليهود،
ورغبتهم في الزحف لمساعدة إخوانهم في فلسطين بالسلاح - وبدوهم لا يزالون
مسلحين - وغرضه من هذه السلطة التي هو موظف تحت سيادتها، إما التعجيل
بإطفاء نار الفتنة، وإما إرسال جيش إنكليزي إلى شرق الأردن لصد قبائله المسلحة
عن الزحف إلى فلسطين لقتال اليهود، فإن من المعلوم بالبداهة عند العارفين أن
الباعث على هذا الإنذار والاقتراح هو خوف الأمير عبد الله المذكور على إمارته
وعلى نفسه إذا استمرت الثورة، وعجز عن الاستمرار على صد هذه القبائل عن
الزحف كما فعل أول مرة.
وقد كثر سؤال الناس إياي عن رأيي في الفتنتين، وعاقبة الثورتين، حتى
أنه جاءني في ذلك بعض الكتب من الشرق الأدنى والمغرب الأقصى.
فأما ثورة فلسطين فقد فضحت أسرار اليهود ومكرهم، وشوَّهت دسائس
الإنكليز وظلمهم، وأيقظت شعور الجامعة الإسلامية، وأحيت عصبية الأمة العربية،
فاتحد المسلمون والنصارى لأول مرة في جميع البلاد التي يقيمون فيها من أوطانهم
ومهاجرهم، وأما اليهود فلم يتفقوا على تأييد الأوهام الصهيونية، بل كثر المنكرون
عليها، إرضاء لأوطانهم التي يتمتعون بالنعيم فيها، وقد شرعنا في كتابة مقال طويل
في المسألة نشرنا الفصل الأول منه في هذا الجزء وسيأتي الرأي الناضج فيما بعده.
وأما ثورة نجد فقوة الثائرين فيها لا تُذكر تجاه قوة حكومة البلاد ونفوذ ملكها
الديني والشخصي، الذي عرف العالم من أمره في حادثة المحمل المصري ما كان
مثار عجب وإعجاب ومدعاة ثناء بإطناب، إذ خرج عبد العزيز آل سعود ليلاً مع
بعض آل بيته، فصاح بالنجديين وهم ثمانون ألفًا أو يزيدون، وقد ثاروا للانتقام
من حرس المحمل الذي أطلق النار عليهم برعونة من أميره، فردهم بكلمة منه عما
كان يتوقع من قطع دابر ذلك الحرس الضعيف، بقوة ذلك الحشد النجدي الكثيف،
وطالما انتصر قليلهم على الجيش العثماني القوي الكثير.
نعم إن هذه الثورة كانت عليه نفسه، لأجل زلزال هذه السلطة الروحية له،
أو إزلتها من قومه، وأنها تغلغلت في أحشاء البلاد لما تقدم وكما تقدم في صدر هذا
المقال؛ ولكنه قضى على ما كان منها في داخل البلاد، ولم يبق إلا اللاجئون إلى
الكويت يعتصمون بحماية الإنكليز لها، ويستمدون الميرة والسلاح والكراع منها،
لولا عجزهم وخوفهم لما آووا إليها، لعلمهم بأنه مقيد في المعاهدة بينه وبين الدولة
البريطانية بعدم الاعتداء عليها، على أنهما مقيدان معًا بأن لا يقع في البلاد
الخاضعة لنفوذ كل منهما أي دعاية أو عمل عدائي للآخر، ولهذا يجب التفاوض
بين الحكومتين في هذه المسألة قبل تحكيم السلاح فيها.
وأنا لا أظن كما يظن الكثيرون أن الإنكليز ينقضون عهدهم مع ملك الحجاز
ونجد بما اعتادوا من تأويل العهود، ونقض العقود، وإخلاف الوعود، عندما يرون
ذلك من مصلحتهم، إذ لا اظن أن هذا من مصلحتهم الآن، وأما الدسائس الخفية
التي اشتهروا بها، فلا أستطيع أن أنفيها ولا أن أثبتها، ومقتضاها القضاء على
سلطان ابن السعود قبل استكمال قوته وتجديد وحدة العرب بحكمته، فإن لم يقدروا
لم يكن لهم مندوحة عن استبقاء مودته، والاكتفاء من الطمع في البلاد العربية
بالمنافع الاقتصادية والأدبية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) البذرقة: الجماعة تتقدم القافلة للحراسة، معربة أو مولدة، وبالمعجمة أو المهملة أو بهما معًا، أقوال كما في المصباح.(30/394)
جمادى الآخرة - 1348هـ
ديسمبر - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستفتاء في حقيقة الربا
لبعض كبار علماء الهند
(تابع ما نُشر في الجزء الرابع)
لبعض الأعلام ههنا كلام، فلابد علينا أن نذكره مع ما له وما عليه، وهو أن
القرض ليس غير البيع ومباينًا له بل داخل فيه؛ لأن القرض مبادلة انتهاء كما
صرَّح به بعض الفقهاء فهو قسم من أقسام البيع لا غير؛ وإنما جوَّز فيه النسأ مع
كونه من الأموال الربوية للضرورة ودفع حاجة الفقراء، وهذا لا يخرجه عن البيع.
قال القاضي ابن رشد الحفيد المالكي: فإن العقود تنقسم أولاً بقسمين: قسم يكون
معاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة
ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) يختص بقصد المغابنة، وهي البيوع والإجارات
والمهور والصلح والمال المضمون بالعقد وغيره (والقسم الثاني) لا يختص بقصد
المغابنة؛ وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض [1] (والقسم الثالث) فهو ما
يصلح أن يقع على الوجهين جميعًا أعني قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة
والإقالة والتولية [2] قال الشاه ولي الله في حجة الله البالغة في ذيل البيوع المنهي
عنها: وكذلك الربا وهو القرض [3] على أن يؤدي إليه أكثر وأفضل مما أُخذ سحت [4]
باطل؛ فإن عامة [5] المقترضين بهذا النوع هم المفاليس المضطرون، وكثيرًا
ما لا يجدون الوفاء عند الأجل، فيصير أضعافًا مضاعفة لا يمكن التخلص منه أبدًا،
وهو مظنة لمناقشات عظيمة، وخصومات مستطيرة، وإذا جرى الرسم باستنماء
المال بهذا الوجه أفضى إلى ترك الزراعات والصناعات التي هي أصول المكاسب
ولا شيء في العقود أشد تدقيقًا واعتناء بالقليل وخصومة من الربا، وهذان الكسبان
(أي الميسر والربا) بمنزلة السُّكر مناقضان لأصل ما شرع الله لعباده من المكاسب
وفيهما قبح وشناعة، والأمر في مثل ذلك إلى الشارع، إما أن يضرب له حدًّا
يرخص فيما دونه ويغلظ النهي عما فوقه، أو يصد عنها رأسًا، وكان الميسر
والربا [6] شائعين في العرب، وكان قد حدث بسببهما مناقشات عظيمة لا انتهاء لها
ومحاربات، وكان قليلهما يدعو إلى كثيرهما، فلم يكن أصوب ولا أحق من أن
يراعى حكم القبح والفساد موفرًا فنهى عنهما بالكلية [واعلم] أن الربا على وجهين:
حقيقي [7] ، ومحمول عليه، أما الحقيقي فهو في الديون [8] وقد ذكرنا أن فيه قلبًا
لموضوع المعاملات، وأن الناس كانوا منهمكين فيه في الجاهلية أشد انهماك، وكان
حدث [9] لأجله محاربات مستطيرة، وكان قليله يدعو إلى كثيره فوجب أن يُسد بابه
بالكلية؛ ولذلك نزل في القرآن في شأنه ما نزل (والثاني) ربا الفضل والأصل
فيه الحديث المستفيض (الذهب) -الحديث -هو [أي ربا الفضل] مسمى بربا
تغليظًا وتشبيهًا [10] له بالربا الحقيقي على حد قوله عليه السلام: (المنجِّم كاهن)
وبه يُفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة) [11] ثم كثر في
الشرع استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه أيضًا [12] والله
أعلم. انتهى [13] .
وكذا قال العلامة الإمام ابن الهمام الحنفي بعدما فسر الربا بقوله هو من البيوع [14] المنهي عنها قطعًا قال: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران: 130) أي الزائد [15] في القرض [16] والسلف على القدر المدفوع
والزائد في بيع الأموال الربوية عند بيع بعضها بجنسه، وسنذكر تفصيلهما، ويقال
لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي حرَّم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع، وأن
يزاد في بيع تلك الأموال بجنسها قدرًا ليس مثله في الآخر [17] وذلك الكلام أتى
في كتاب الصرف بحديث عمر (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء) ثم قال: وقيل:
معنى قوله (ربا) أي حرام بإطلاق اسم الملزوم على اللازم، ولا مانع من حمله في
حقيقته شرعًا، وأن اسم الربا تضمن الزيادة من الأموال الخاصة في أحد العوضين
في قرض أو بيع اهـ الظاهر من مجموع كلامه أن الزيادة في القرض ربا،
والربا من البيوع المنهي عنها، فيفهم منه أن القرض من البيوع.
وفي الملتقى: الربا هو فضل مال خالٍ عن عوض شرط لأحد العاقدين في
معاوضة مال بمال - وذكر العلامة الشيخ زادة في شرح العاقدين: أي البائعين أو
المقترضين [18] فعلى هذا يكون الربا في القرض أيضًا فيكون بيعًا، وكذلك الفقهاء
بأجمعهم يذكرون الربا في كتاب البيوع والربا في القرض أيضًا، فيكون القرض
بيعًا. قال العلامة العيني في شرح البخاري واختلف في عقد الربا هل هو منسوخ لا
يجوز بحال، أو هو بيع [19] فاسد إذا أُزيل فساده صح بيعه؟ فجمهور العلماء على
أنه بيع منسوخ، وقال أبو حنيفة: هو بيع [20] فاسد إذا أزيل فساده انقلب
صحيحًا [21] قال شيخ الإسلام المرغيناني في باب البيوع الفاسدة من فتاوى التجنيس
والمزيد: رجل طلب من آخر قرض عشرة دراهم بأكثر: لا يجوز؛ لأن فيه ربا
اهـ[22] . يمكن أن يتوهم من هذه العبارات أن القرض فيه الربا، ولا ربا في غير
البيع.
والجواب عنه أولاً تصريح العلماء والفقهاء بأن القرض غير البيع، قال
الشيخ ولي الله عليه رحمة الله في شرح الموطأ بالفارسية: (معنى قرض تمليك
شيء) است بآن شرط كه رد كند بدل أو وآن بيع نيست لمكه عقد يست كه ابتداء
معنى تبرع دارد واخرا معنى مبادلة [23] قال ابن الهمام إن القرض تبرع لأنه صلة في
الابتداء وإعارة حتى يصح القرض بلفظ أعرتك اهـ (فتح القدير) قال الشاه ولي الله
رحمة الله عليه: مبنى القرض على التبرع من أول الأمر وفيه معنى الإعارة [24] .
قال ملك العلماء في البدائع: لأن القرض للحال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله
عوض للحال؟ فكان تبرعًا فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وكذا قال في
مبحث تأجيل القرض: لأن القرض تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، وأنه
لا يملكه من لا يملك التبرع؟ وقال الحداد في شرح القدوري في هذا المبحث: لأنه
(القرض) اصطناع معروف، وفي جواز تأجيله جبر على اصطناع المعروف،
وقال الحداد في البيوع: والبيع في اللغة: مبادلة مال بمال آخر، وكذا في الشرع؛
لكن زِيد فيه قيد التراضي لما في التغالب من الفساد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 205) ويقال: هو في الشرع عبارة عن إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما
معنى التبرع، وهذا قول العراقيين كالشيخ (أي أبي الحسن القدوري) وأصحابه،
وقيل: هو عبارة عن مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع، وهو قول الخراسانيين
كصاحب الهداية وأصحابه اهـ.
فالقرض على رأي الجمهور عقد تبرع كما مر بخلاف البيع؛ فإنه ليس فيه
تبرع على كلا الحدين، فغير التبرع لا يكون تبرعًا، بل هما متباينان وأحكامهما
مختلفة، فالقرض معروف هو صدقة وتبرع وعبادة، والبيع ليس كذلك، والقرض
عارية في الابتداء، والبيع ليس بعارية لا في الابتداء ولا في الانتهاء، فالقرض
شبيه بالعارية من حيث الابتداء وشبيه بالبيع من حيث الانتهاء، ووجه الشبه
المبادلة؛ لكن تكون في البيع ابتداءً وانتهاءً، وفي القرض حين الأداء وبه لا
تخرج عنه كونها تبرعًا، قال السرخسي في شرح السير الكبير [25] هو كلام
يحتمل القرض، ويحتمل الصدقة فكل واحد منهما تبرع، والقرض أقل التبرعين؛
لأنه يوجب البدل اهـ. ففيه تصريح أن البدل لم يُخْرِج القرض عن كونه تبرعًا.
والحق أن المبادلة في البيع ركن، وفي القرض ليست بركن، نعم تستلزمه،
وفرق ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع
هو الثمن، وغرض كل منهما إخراج ما في ملكه وتحصيل عوضه، والأحكام
تترتب على الالتزام لا على اللزوم، قال ملك العلماء: إن البيع مبادلة شيء مرغوب
فيه بشيء مرغوب فيه [26] ، وقال في (كتاب البيوع) أما ركن البيع فهو مبادلة شيء
مرغوب بشيء مرغوب، وذلك قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل اهـ. وظاهر أن
القرض ليس فيه مبادلة شيء بشيء مرغوب فيه، بل الغرض الأصلي الذي وضع له
القرض هو إنجاح حاجة المحتاج إليه، ولذا قال الشيخ ولي الله رحمه الله أن القرض
تمليك الشيء ليسترد [27] مثله وهو ليس ببيع، بل هو عقد في أوله تبرع، وفي آخره
مبادلة [28] قال ابن عابدين رحمه الله: ههنا أصلان (أحدهما) أن كل ما كان مبادلة
مال بمال يفسد بالشرط الفاسد كالبيع وما لا فلا [29] كالقرض [30] وأيضًا قال العلامة
المذكور في نشر العرف: في دليل محمد رحمه الله؛ لأن القرض أسرع جوازًا من
البيع؛ لأنه مبادلةٌ صورةً، وتبرعٌ حكمًا [31] فهذا تصريح منه أن القرض ولو كان
مبادلةً صورةً، لكن ليس له حكم المبادلة شرعًا، قال القاضي سناء الله في تفسيره:
لأن الشرع اعتبره عارية كأن المؤدى عين المدفوع. ولعله باعتبار مقاصد العاقدين
لأن الاعتبار في العقود للأغراض والمعاني لا للصورة، ومن ذهب إلى أنه مبادلة
انتهاء فهو صرَّح أيضًا أنه تبرع في الابتداء، والبيع ما يكون مبادلة في الابتداء كما
هو مبادلة في الانتهاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله إنه إعارة وصلة في الابتداء حتى
يصح بلفظ الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضة في
الانتهاء، وكذا قال الحداد في شرح القدوري، والقرض ليس هو بمبادلة في الابتداء
اهـ. فعلى هذا لا يكون بيعًا؛ لأن الفقهاء صرَّحوا أن البيع مبادلة ابتداء كما هو
مبادلة انتهاء، وإذا فات عن أحد الطرفين كونه مبادلة يفوت كونه بيعًا، قال ملك
العلماء في البدائع في دليل قول الإمام: إن ولي الصغيرة لا يملك الهبة بالعوض بدليل
أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير معاوضة في
الانتهاء، وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد هبة فلا يتصور أن تصير معاوضة بخلاف
البيع؛ لأنه معاوضة ابتداء وانتهاء وهو يملك المعاوضة [32] .
اعلم أن ملك العلماء أخرج الهبة بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة
في الابتداء فبعين هذا الدليل يخرج القرض أيضًا من البيع؛ لأنه ليس بمعاوضة في
الابتداء بالاتفاق كما مر عن العلامة الشامي أن القرض وإن كانت صورته صورة
المبادلة لكن هو في حكم التبرع شرعًا، قال العيني في شرح الهداية: والمعول على
النكتة الأولى [33] لا على النكتة الثانية [34] لأن على النكتة الثانية يلزم أن لا يصح
القرض أصلاً اهـ. قال صاحب العناية: وهذا يقتضي فساد القرض لكن ندب الشرع
إليه وأجمعت الأمة على جوازه فاعتمدنا على الابتداء [35] وقلنا بجوازه بلا لزوم (باب
المرابحة والتولية) .
والحق في هذا الباب ما نقل القهستاني عن النهاية وغيره لأنه موافق للدراية،
وهو أن القرض ليس فيه مبادلة أصلاً لا في الابتداء ولا في الانتهاء بل في كليهما
عارية، لفظه: إلا أن التعويل على أنه عارية ابتداء أو انتهاء [36] قال الشلبي إن
بدل القرض في الحكم كأنه عين [37] المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة
الشيء بجنسه نسيئة وهو حرام، وإذا كان كذلك يكون عارية ابتداء وانتهاء [38]
ويحصل من هذه أن الأصل في البيع أن يكون غرض العاقدين التزام المبادلة، ولا
يكون القصد والغرض من طرف إلا المبادلة، وأما العقود التي لا يكون غرض
المتعاقدين فيها التزام المبادلة بل يلزمها المبادلة، فهي ليست ببيع كما في القرض؛
لأن فيه ليس غرض المقرض ليتبادل دراهمه، بل غرض الطرفين إنجاح الحاجة
فقط ولزوم المبادلة من غير قصد والتزام، فلا يصير من هذا اللزوم بيعًا، كذا
صرَّح ابن القيم في الأعلام، لفظه: وأما القرض فمن قال إنه خلاف القياس فشبهته
أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض، وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع
بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة فقال: (أو منيحة
ذهب أو منيحة ورق) وهذا من باب الإرفاق لا من باب المعاوضات فإن باب
المعاوضات أن يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض
من جنس العارية والمنيحة وإفقار الظهر لما يعطى فيه من أصل المال ليتنفع فيه
أصل المال بما يستخلف منه ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلا فنظيره ومثله،
فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارة بمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم
يعيدها، أو شجرة ليأكل ثمرها ويسمى عريَّة فإنهم يقولون: أعاره الشجر وأعاره
المتاع ومنحه الشاة وأفقره الظهر وأقرضه الدراهم واللبن والتمر، ولما كان
يستخلف شيئًا بعد شيء كان بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى
المنافع وليس هذا من باب البيع في شيء، بل هو من باب الإرفاق والتبرع
والصدقة، وإن كان المقرض قد ينتفع أيضًا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا
كرهها من كرهها، والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص [39] المقرض، بل
ينتفعان بها جميعًا [40] فالعلامة ابن القيم صرَّح فيه بأشياء (الأول) من شبه
القرض بالبيع فقد غلط فإذا كان تشبيهه بالبيع غير صحيح فكونه بيعًا أولى أن
يكون غير صحيح (والثاني) أنه تبرع (والثالث) أنه ليس من باب المعاوضات
(والرابع) أن المعاوضة أصلها أن يعطي شيئًا على وجه لا يعود إليه، والقرض
ليس على هذا الوجه، فظهر بهذا تسامح ابن رشد حيث عدَّ القرض من باب
المعاوضات.
وثانيًا: بأن جمهور [41] الفقهاء يستدلون على حرمة منافع القرض بحديث
سوار المتروك: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) فلو كان القرض بيعًا لم يحتاجوا
إلى هذا الدليل الضعيف، بل الطريق الواضح والحجة المستقيمة أن القرض بيع،
والزيادة في بيع الأموال الربوية ربا، فاستدلالهم بهذا الحديث الضعيف، وعدولهم
عن الصراط السوي دليل على أن القرض ليس بيع، ولو كان بيعًا عندهم ما تركوا
هذا الدليل القوي والحجة المستقيمة، وأيضا يعلم من استدلالهم بهذا الحديث
الضعيف أنه ليس في هذا الباب حديث صحيح يحتج به وهو أحسن وأقوى من هذا
كما مر بيانه.
وثالثًا: بأن العلامة الكاساني قد استدل على حرمة المنافع بدليلين، الأول
حديث سوار المتروك، والثاني أن لهذا شبهًا بالربا حيث قال: وأما الذي يرجع إلى
نفس القرض فهو أن لا يكون فيه جر منفعة، فإن كان لم يجز لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر نفعًا؛ ولأن الزيادة المشروطة تشبه
الربا لأنه فضل لا يقابله عوض، والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب [42] ، فإن كان القرض بيعًا فكان الفضل (أي نفعه) ربا حقيقة لا شبيهًا له.
وقد سلَّم بعض الأعلام لما شافهتهم في هذه المسألة أن القرض المطلق ليس
ببيع؛ لكن إذا زيد فيه شرط النفع يصير بيعًا لأنه حينئذ يفوت فيه كونه تبرعًا
وصدقة، فإذًا يكون بيعًا، وإذا صار بيعًا يجري فيه جميع أحكام بيع الأموال
الربوية، فيكون الفضل أيضًا ربا، أما قولنا: فإذًا يكون بيعًا، فلأن القرض
معاوضة حقيقة؛ لكن لكونه تبرعًا في الابتداء خرج عن حكم المعاوضات، فإذا
اشترط فيه النفع من أول الأمر فلم يبق إذًا التبرع فيعود إلى حقيقته، فيصير بيعًا
لأنه يصدق عليه إذًا أنه معاوضة ابتداءً وانتهاءً.
وفيه (أولاً) إنا لا نسلِّم أن يصدق عليه أنه معاوضة ابتداء وانتهاء؛ لأنه لا
عوض له في الحال كما مر عن ملك العلماء، وقد أخرج ملك العلماء الهبة بالعوض
عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء، وإن كانت معاوضة في الانتهاء
فهذا الدليل يجري ههنا أيضًا، ويخرج القرض عن البيع بعين هذا الدليل، قال:
بدليل أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير
معاوضة في الانتهاء وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد، فلا يتصور أن تصير معاوضة
بخلاف البيع [43] .
(وثانيًا) أن ملك العلماء قد ذكر: أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب
بشيء مرغوب اهـ. وفي القرض الطلب والرغبة عن (؟) الطرفين مفقودان
ألبتة، فلا يمكن أن يوجد البيع عند فوات ركنه على أن في القرض يعطي المقرض
ولا يريد ألا يعود إليه ما أعطى بخلاف البيع؛ لأن كلاًّ منهما يريد وينوي أن لا
يعود إليه ما خرج عن يده.
(وثالثًا) أن القرض وإن اشترط فيه الزيادة فلا يصير بيعًا أيضًا لأمور
(الأول) أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد؛ لأن مبنى القرض على التبرع وإذا
اشترط فيه الزيادة فات عنه كونه تبرعًا، ومن الأصول أن الشرط إذا كان خلاف
مقتضى العقد يفسده؛ ولكن القرض من العقود التي لا تفسد بالشروط الفاسدة، بل
الشرط يصير ملغى والعقد صحيحًا فإذا بقي القرض على صحته لم يصر بيعًا، قال
الشاه ولي الله رحمة الله عليه: وجائز نيست اقراض بشرط زيادة يارد صحيح
عوض مكسريا آنكه در شهر ديكر بدهد درين صورتها شرط لغوشود زيراكه عبد
الله بن عمر بإبطال شرط فرمودندنه ببطلان عقد [44] قال شيخ الإسلام في الهداية:
لأن الشرط الفاسد في معنى الربا، وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات
(كتاب الهبة) قال الإمام السرخسي في المبسوط: لو قال أقرضني عشرة دراهم
بدينار فأعطاه عشرة دراهم بدينار فعليه مثلها، ولا ينظر إلى غلاء الدراهم
ورخصها، وكذلك كل ما يكال ويوزن، فالحاصل هو أن المقبوض على وجه
القرض مضمون بالمثل، وكل ما كان من ذوات الأمثال يجوز فيه الاستقراض،
والقرض لا يتعلق بالجائز من الشروط، فالفاسد من الشروط لا يبطله؛ ولكن يلغو
شرط رد شيء آخر فعليه أن يرد مثل المقبوض [45] فهذا تصريح منه أن الشروط
الفاسدة لا تبطل القرض، بل يكون القرض باقيًا على أصله وتبقى قرضيته ولا
تزول، أي لا ينقلب بالشروط الفاسدة إلى البيع، وقال في موضع آخر: ولو
استأجر منه ألف درهم أو مائة بدرهم أو ثوب لم يجز، قال لأنه ليس بإناء ويريد
ألا ينتفع به مع بقاء عينه، ومثله لا يكون محلاًّ للإجارة؛ وإنما يُردُّ عقد الإجارة
على ما ينتفع به مع بقاء عينه، وقد بيَّنا أن الإعارة في الدراهم والدنانير لا تتحقق،
ويكون ذلك قرضًا فكذلك الإجارة [46] ، فإذا لم تنقلب إجارة الدراهم والدنانير بشرط
النفع إلى البيع، فالقرض أولى بل لا ينقلب إليه وإن اشترط فيه النفع.
(والأمر الثاني) أن الفقهاء يصرِّحون أن النفع المشروط في القرض شبيه
بالربا، فلو يستحيل القرض بشرط النفع إلى البيع لصار هذا النفع ربا حقيقة لا
شبيهًا به.
(والأمر الثالث) لو صار القرض بشرط النفع بيعًا لكان بيع الصرف،
وبيع الصرف إذا لم يكن فيه تقابض البدلين في المجلس أو يكون فيه شرط الزيادة -
يفسد، ويتعين النقد في الصرف إذا فسد بيع الصرف، فلا تكون هذه الدراهم والدنانير
ملكًا للمستقرض، فلا يكون الربح والمنفعة الحاصلة منه طيبًا مع أن الفقهاء
صرَّحوا بأنه طيب. في العالمكيرية: من استقرض من آخر ألفًا على أن يعطي
المقرض كل شهر عشرة دراهم، وقبض الألف وربح فيها طاب له الربح [47] .
(والأمر الرابع) أن القرض إذا اشترط فيه النفع يكون مكروهًا عند الفقهاء
قال محمد رحمة الله عليه في كتاب الصرف أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره
كل قرض جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد بأن
أقرض غلة ليرد عليه صحاحًا أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في
العقد فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به (عالمكيري) وأخرج الزيلعي
عن عطاء: كانوا يكرهون كل قرض جر منفعة اهـ. فلو ينقلب القرض من شرط
النفع إلى البيع لكان نفعه حرامًا لكونه ربا لا مكروهًا؛ لأن المكروه غير الحرام
ودليلاهما متغايران، قال العيني: أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من
الكبائر [48] قال ابن الهمام وأحسن ما هنا عن الصحابة والسلف مارواه ابن أبي شيبة
في مصنفه: حدثنا خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كل قرض
جر منفعة [49] ، أي الصحابة يكرهون النفع المستحصل من القرض، فهذا دليل على
أن الصحابة أيضًا يفرقون بين النفع المستحصل من القرض وبين الربا حيث يجعلون
الأول مكروهًا والثاني حرامًا، هذا ومن ادعى أن القرض مطلقًا بيع أو بشرط النفع،
فلابد عليه من البيان ودعوى البداهة في موضع الخلاف غير مسموعة، وقد [ظن
بعضهم] أن بيع خمس ربابي بست ربابي يكون ربا بالاتفاق، لكن إذا أقرض خمس
ربابي بشرط أن يرد عليه ست ربابي كيف لا يكون هذا ربا مع أنه لا فرق بينهما إلا
في اللفظ؟ [ويزال] بأنه لا مجال للقياس فيما ورد به النص لأن الشارع
عليه السلام [50] جعل الأول بيعًا وربا لا الثاني. قال ابن قيم الجوزية: وكذلك صورة
القرض وبيع الدراهم بالدراهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا
معصية باطلة بالقصد [51] .
وكذا [ما ظن] أن نفع القرض ربا حقيقة وداخل في نص القرآن، وهو أمر
بديهي لا يحتاج إلى البيان [مدفوع] بأن لو كان أمرًا بديهيًّا، لا يمكن أن يخفى على
الأئمة والفقهاء دخول هذا النفع في نص القرآن، ولم يحتاجوا إلى الاستدلال عليه
بالحديث الضعيف تارة، وبالقياس على ربا البيع تارة، وبالقياس على ربا الجاهلية
مرة وبالآثار حينًا، وكذلك ما يختارون في حده ومسائله يعارض هذه الدعوى، فهذا
كله دليل على أنه ليس بمندرج في نص القرآن عندهم ويؤيده أيضًا عدم ورود النقل
عن واحد من الائمة بأن هذا النفع هو ربا منصوص.
وهذا المسلك - أعني أن آية الربا مجملة - هو ما عليه الأئمة المجتهدون
والفقهاء المحققون؛ لكن في الآية مسلك آخر وهو أن الآية ليست بمجملة حتى تحتاج
إلى التفسير، بل هي مفصلة واللام في (الربا) للعهد، وأشير بها إلى ما هو
المتعارف عند نزول القرآن بينهم أي ربا الجاهلية.
وفي هذا المسلك (أولاً) أنه لم يتبين إلى الآن بسند صحيح مرفوع ربا
الجاهلية في أي شيء كان، فهو مجهول، ولعل هذا وجه عدول الأئمة والمحققين عن
هذا المسلك، نعم آثار التابعين تدل على تعيين ربا الجاهلية، فبعضها يدل على أنه
كان في البيع كما روى الطبري عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة [52] أن ربا
أهل الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند
صاحبه قضاء زاد وأخر عنه، فقال جل ثناؤه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} (البقرة: 275) ..
إلخ قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد [53] قال: كانوا يتبايعون إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا
عليهم وزادوا في الأجل فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} (آل عمران: 130) ... إلخ،
وفيه أيضًا: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك [54] في قوله تعالى:
{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: 278) قال: كان
ربا يتبايعون به في الجاهلية فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم اهـ. قال
ابن جرير: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: 280)
هذا في شأن الربا وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون فلما أسلم من أسلم منهم أمروا أن
يأخذوا رؤوس أموالهم، قال الإمام الشافعي في تفسير أخذ رؤوس الأموال إنه يكون
فسخًا للبيع الذي وقع على الربا [55] وقال الزرقاني في شرح الموطأ وهو أيضًا
يشبه حديث زيد بن أسلم [56] في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا
للذي عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم
في حقوقهم، وزادوهم في الأجل، وقال السيوطي في الدر المنثور عن سعيد بن
جبير [57] يعني الذين نزل فيهم أنهم {قالوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة:
275) كان الرجل إذا حل ماله على صاحبه يقول المطلوب للطالب: زدني في
الأجل وأزيدك على مالك، فإذا فعل ذلك قيل لهم هذا ربا، قالوا سواء علينا إن زدنا
في أول البيع أو عند محل المال، دليل على أن المراد بالمال ههنا هو ثمن المبيع
وإلا كان الجواب منهم: سواء علينا اشتراط الزيادة في أول العقد أو عند محل المال،
في الفتح: أن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم
يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخَّر عنه.
و (أما ما قال) الجصاص الرازي الحنفي: والربا الذي كانت العرب تعرفه
وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة ما استقرض على ما
يتراضون به ولم يكونوا [58] يعرفون البيع بالنقد ومتفاضلاً إذا كان من جنس واحد
هذا ما كان المتعارف المشهور بينهم اهـ. وقال أيضًا: فأبطل الله تعالى الربا الذي
كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبًا أُخر [59] من البياعات وسماها ربا اهـ. وقال
أيضًا: إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلاً بزيادة مشروطة اهـ. وقال
أيضًا: فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية، وهو القرض
المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض [60] (فلم يرد بها أثر) ولا دليل
عليه بل في قول هذا الإمام ما يخالفه وهو دليل على أن المراد بالقرض هو الثمن
المؤجل.
وخالفه المفسرون أيضًا - صراحة - كما قال ابن العربي المالكي: اختلفوا
هل هي عامة في كل تحريم ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟ والصحيح
أنها عامة لأنهم كانوا يتبايعون ويربون وكان الربا عندهم معروفًا، يبايع الرجل
الرجل إلى أجل فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي؟ يعني: أم تزيدني على مالي
عليك وأصبر أجلاً آخر؟ اهـ ثم أتى بأدلة على هذا المدعى ثم قال: وتبين أن
معنى الآية وأحل الله البيع المطلق الذي فيه العوض على صحة القصد والعمل
وحرم منه ما وقع على وجه الباطل، وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم، فتزيد
زيادة لم يقابلها عوض، وكانت تقول إنما البيع مثل الربا، أي إنما الزيادة عند حلول
الأجل آخرًا مثل أصل الثمن في أول العقد، فردَّ الله تعالى قولهم وحرم ما اعتقدوه
حلالاً عليهم (أحكام القرآن) .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران:
130) قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئًا، قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون
البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل
{لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) (أحكام القرآن)
ودلالة كما نقل عن حبر الأمة وسيد المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله
عنه في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) الزيادة
في آخر البيع بعدما حل الأجل كالزيادة في أول البيع إذا بعت بالنسيئة {وَأَحَلَّ
اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) الزيادة الأولى (وحرم الربا) الزيادة الأخيرة،
قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في درج الدرر {قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) قاسوا أن الزيادة في آخر العقد كهي في أول العقد، قال
الواحدي في تفسيره الوجيز {إِنَّمَا البَيْعُ} (البقرة: 275) وهو أن المشركين
قاسوا أن الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة في الربح.
وقال الواحدي في تفسير قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران:
130) قال المفسرون: هو أنهم كانوا يزيدون على المال ويؤخرون الأجل كلما أخر
عن أجل إلى غيره زيد زيادة. قال مجاهد: يعني ربا الجاهلية [61] وقال في تفسير
{إِنَّمَا البَيْعُ} (البقرة: 275) وذلك أن المشركين قاسوا الزيادة على رأس المال
بعد محل الدين كالزيادة في الربح في أول البيع اهـ.
وفي فتح البيان: أي إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند
حلوله؛ فإن العرب لا تعرف ربا إلا ذلك [62] وفي نيل المرام: ومعنى الآية أن الله
أحل البيع وحرَّم نوعًا من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا اهـ. قال العلامة
الطحاوي في شرح معاني الآثار تحت تفسير حديث (إنما الربا في النسيئة) إن
ذلك الربا إنما عنى به القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان
يكون له على صاحبه الدين فيقول له أجلني منه إلى كذا وكذا درهمًا أزيدكها في
دينك اهـ. فالعلامة الطحاوي يقول: إن اللام في (الربا) الذي رواه أسامة في
الحديث للعهد، والمراد به ربا القرآن فعنده هذا الحديث لا يحمل على العموم، بل
أُخْرِج مخرج التفسير في تفسير ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وقد عرفت
أن النسيئة لا تكون إلا في البيع وهو الثمن المؤجل فتعيين العلامة الطحاوي ربا
الجاهلية بربا البيع موافق للتفسير الذي أثر عن ابن عباس في الربا أنه زيادة في آخر
البيع بعدما حل الأجل إذا بيع نسيئة.
وبعض الآثار تدل على أن ربا الجاهلية كان في دين مؤجل وحق إلى أجل،
وجميع هذه الآثار متفق على أنه كان في دين مؤجل، والدين المؤجل ليس بقرض
لغة. قال الإمام الرازي في تفسيره: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأن القرض
أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حَبًّا أو تمرًا وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه
الأجل، والدين يجوز فيه الأجل اهـ. ثم قال: والقول الثاني إنه (أي الدين)
القرض هو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن فيه أن يشترط فيه الأجل، والدين
المذكور قد اشترط فيه الأجل، وفي المغرب هو (القرض) مال يقطعه الرجل من
أمواله فيعطيه عينًا فأما الحق الذي يثبت له دينًا فليس بقرض، وفي الكليات لأبي
البقاء والدين بالفتح عبارة عن مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما
وإيفاؤه واستيفاؤه لا يكون إلا بطريق المقاصة عند أبي حنيفة والدين ما له أجل
والقرض ما لا أجل له اهـ. ثم أورد ما قال صاحب المغرب وقال: وهو المعول
عليه اهـ (تحت لفظ الدين) وقال: وأما إطلاق لفظ الأداء والقضاء على الدين فليس
لاتحاد معناهما، بل باعتبار أن له شبهًا بتسليم العين وشبهًا بتسليم المثل اهـ (تحت
لفظ الرد) فشرط الأجل منافٍ لحقيقة القرض، فالقرض لا يندرج في الدين المؤجل
فلا يجوز أن يراد بالدين القرض إذا كان فيه أجل، وأما ما ذكر الراغب الأصفهاني
وابن الأثير ووجيه الدين التهانوي أنه يشمل القرض، ففيه أولاً أنه خلاف التحقيق،
ومع هذا لا يدل على أن الدين المؤجل أيضًا يشمل القرض.
والحجة القوية على أن المراد في كلام الذين ذكروا في تفسير ربا الجاهلية
لفظ الدين مطلقًا هو الثمن المؤجل هي أن شراح قولهم قد فسَّروه به، قال البيهقي:
فيقول له صاحب الدين: أتقضي أم تربي؟ فإن أخَّره زاد عليه وأخَّره، ثم نقل في
توضيحه ثانيًا (قول الشافعي وأحمد) وهذا فيما رواه مالك بن أنس في الموطأ عن
زيد بن أسلم أنه قال: كان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل
فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه
وأخَّر عنه في الأجل (قال الشافعي) فلما رد الناس إلى رؤوس أموالهم كان ذلك
فسخًا للبيع الذي وقع على الربا [63] .
ظهر من كلام الشافعي أمران: الأول أن ربا الجاهلية كان في البيع، والثاني
أن المراد برأس المال الذي ورد في القرآن هو الثمن الذي جُعل في ابتداء البيع،
وكذا المراد من حق إلى أجل هو الثمن المؤجل وكذا العلامة الزرقاني أتي برواية
زيد بن أسلم في البيع حيث قال: وهو أيضًا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل
الجاهلية: إنهم كانوا إذا حلَّت ديونهم قالوا للذي عليه الدين إما أن تقضي وإما أن
تربي فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل اهـ.
وأما (ما قال الإمام الرازي) وتبعه النيسابوري: أما ربا النسيئة فهو الأمر
الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن
يأخذوا كل شهر قدرًا معينًا ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حل الدين طالبوا
المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا
الذي يتعاملون به اهـ - فلا ثبوت له من النقل وهو أيضًا خلاف ما صرَّح به نفسه
من أن الآية مجملة والدين غير القرض.
هذا، فإن سئل عن حكم النفع المشروط في القرض شرعًا عند الفقهاء يجاب أن
نفع القرض مكروه، كما قال عطاء: كانوا يكرهون كل قرض جرَّ منفعة، وكما نقل
الإمام محمد رحمه الله في العالمكيرية بلفظ: قال محمد رحمه الله في كتاب الصرف
أن أبا حنيفة رحمه الله كان يكره كل قرض جرَّ منفعة. قال الكرخي: هذا إذا كانت
المنفعة مشروطة في العقد بأن أقرض غلة ليرد عليها صحاحًا أو ما أشبه [64] ذلك فإن
لم تكن المنفعة مشروطة في العقد فأعطاه القرض أجود مما عليه فلا بأس به اهـ.
واستدل [65] عليه بوجوه: الأول قياسه على الربا المنصوص والمقيس عليه
عند البعض الربا الذي يكون في بيع الشيء بجنسه متفاضلاً والأمر المشترك
المبادلة، وهو كما يكون في البيع يكون أيضًا في القرض، فكما يكون هذا الفضل
في البيع ربا كما صرَّح به ملك العلماء الكاساني وعند البعض المقيس عليه ربا
الجاهلية، والأمر المشترك الزيادة في مقابلة الأجل؛ لأن في ربا الجاهلية كما تكون
الزيادة بمقابلة الأجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل كذا في القرض كما صرَّح
به ابن رشد، وفيه نظر وهو أن القياس لا يصح عند الشارع، فكيف يصح هذا
القياس مع هذا الفارق؟ وأما في الثاني فلأن الزيادة في الجاهلية كانت بعد حلول
الأجل لا في ابتداء العقد والكلام في الزيادة التي تكون من أول العقد وليس هذا من
ذاك.
(والثاني) حديث [66] (كل قرض جر منفعة) وهو وإن كان ضعيفًا غير
صالح لثبوت الربوية؛ لكن أدناه أن تثبت به الكراهة.
(والثالث) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القرض صدقة) وقال ابن
عمر: السلف على ثلاثة أوجه: سلف تريد به وجه الله فلك وجه الله. وفي المدونة:
قال ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن ابن شهاب وأبي الزناد وغير واحد
من أهل العلم أن السلف معروف، أجره على الله فلا ينبغي لك أن تأخذ من صاحبك
في سلف أسلفته شيئًا ولا تشترط إلا الأداء - فعلى هذا أي إذا كان القرض عبادة
وصدقة فحكم الاستئجار والاستنفاع عليه كحكم الاستئجار على الصدقات والعبادات
كالاستئجار على تعليم القرآن وتعليم الفقه والحديث والاستئجار على قرآن التراويح
والاستئجار على سائر أمور الدين من الوعظ والتذكير والإفتاء وخدمة المدارس
الدينية والأذان والإمامة وغيرها، وعلم الصواب عند الله.
ما قولكم أيها العلماء الكرام في أجوبة الأسئلة المذكورة؟ هل هي صحيحة
أم لا؟ بيِّنوا ونوِّروا قولكم بالدليل
الأسئلة
(1) لفظ الربا في آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275)
مجمل أم لا؟ سيما عند الأحناف، وعلى الإجمال: ما التفسير الذي ورد عن
الشارع؟ أعني في القرآن والحديث الصحيح.
(2) بيِّنوا معنى الربا عن القرآن والأحاديث الصحيحة؟
(3) النفع المعيَّن المشروط في القرض ربا منصوص أم لا؟
(4) النفع المشروط في القرض لو قيل هو ربا، فما الدليل عليه من الأدلة
المعتبرة عند الفقهاء الكرام؟
الأجوبة
هو المصوَِّب
(1) الربا المذكور مجمل عند الأحناف وغيرهم من الأئمة حتى يصح أن
يقال اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له عند الجمهور (انظروا ص
274-278 ج 4 المنار) .
(2) الربا هو الفضل الخالي عن العوض [67] في البيع (مبسوط - عناية
شرح هداية - انظروا ص 281و282 منه) والدليل على هذا المعنى ما رواه
عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة) ... إلخ (انظروا ص 278و279 منه) .
وعلى هذا المعنى تدل أيضًا آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) لأن على تقدير إجمال الربا وكون الحديث تفسيرًا لها لا يكون ربا القرآن
غير ربا السنة، فربا القرآن عين ما ثبت كونه ربا بالحديث (انظروا ص 282
منه) .
(3) النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من
القرآن ومن حديث صحيح (انظروا ص 283 إلى ص 291 منه) .
(4) النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث
استدل على كونه ربا تارة بالقياس (انظروا ص 436 ج 6 منه) وتارة بحديث
(كل قرض جر منفعة) وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق
(انظروا ص 437) فلا يصح، وأما في الثاني فلأنه ليس بصحيح بل هو ضعيف
فغير صالح للاحتجاج ولو سلم بصحة القياس ففيه أن الأحكام القياسية [68] تقبل
التغير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن كان له وقوف على حال هذا
الزمان وخبرة بأهله، فلا محيص له بدون أن يفتي بجوازه كما في الاستئجار على
تعليم [69] القرآن والأذان والإمامة وغيرها والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن
السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس لا على غيره من الأدلة، ومن ادّعى
فعليه البيان والله أعلم بالصواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المستفتى ... ... ... ...
تكملة
لما تنبه الشيخ سناء الله رحمه الله على أن نفع القرض المشروط لا يدخل في
الربا المحرم بالنص على المسلكين، فقال مخالفًا لما عليه الجمهور: إن المراد بالربا
معناه اللغوي وهو الزيادة، وهي عبارة عن فضل يعلو على المماثلة والمساواة [70]
فأوجب تعالى في المبايعة والمقارضة المماثلة والمساواة، فالمعتبر فيها المماثلة
بالأجزاء كيلاً أو وزنًا إن اتحد جنس البدلين، وكانا من ذوات الأمثال وعند
اختلاف الجنس تكفي المماثلة المعنوية وهي القيمة، وجعلت القيمة مماثلة للبدل لأن
مالكي البدلين رضيا عليه عند المبادلة فيصير كل من البدلين مثلاً لمجموع [71]
البدل الآخر باصطلاحهما.. انتهى ملخصًا عن عبارته الشريفة في التفسير
المظهري، ويختلج في صدري أنه على هذا لا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه
بأكثر من الثمن الذي اشتراه به؛ لأنه الفضل لغة مع أنه جائز باتفاق الأمة وعند
الشيخ أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لما جعل القاضي القرض قسمًا للبيع، فهو دليل على أن القرض عنده غير البيع فلا يصح به الاستشهاد على كون القرض بيعًا؛ لكن أوردناه ههنا لأنه صرَّح بأن المعاوضة تكون في القرض أيضًا، ويمكن أن يتوهم منه أن كل عقد تكون فيه المعاوضة هو قسم من أقسام البيع.
(2) (بداية المجتهد ص 121 ج-2) .
(3) هذا حد للربا غير مأثور عن السلف ولا دليل عليه، بل هو خلاف القرآن والسنة الصحيحة وجمهور العلماء.
(4) لابد أن يقوم عليه دليل من الشارع عليه السلام والأداء أكثر وأفضل مما أخذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة مطلقًا.
(5) لا يكفي أمثال هذه التدقيقات الفلسفية لإثبات حكم شرعي، بل لابد أن يكون عليه نص عن الشارع عليه السلام.
(6) لا شك أن الربا كان شائعًا في العرب؛ لكن الكلام في تعيينه ولم يظهر عن الآثار المنقولة عن التابعين إلا أنه كان في البيع أو الدين، ولا أُثر عن أحد منهم أنه كان في القرض، والفرق بين البيع والقرض والدين سيأتي إن شاء الله.
(7) والعجب أن ما يدَّعي أنه ربا حقيقي فلا ذكر له على لسان الشرع، وأما المحمول عليه والمشبه به فهو مروي عن جماعة من الصحابة، وكذلك الفقهاء لا يذكرون الربا الحقيقي إلا تبعًا واستطرادًا، ويأتون جميع الفروع والتفاصيل في باب الربا الغير الحقيقي.
(8) لا إنكار من أن ربا الجاهلية كان في الديون كما يدل عليه بعض روايات التابعين؛ لكن المراد من الديون في كلامهم ديون البيع، أي إذا ابتاعوا نسيئة فما ثبت في ذمتهم من الثمن المؤجل هو الدين كما جاء مصرحًا في بعض الروايات، وكما صرَّح بها الإمام الشافعي والبيهقي والزرجاني حيث حملوا الدين المطلق على ديون البيع كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله.
(9) لم نر له أثرًا في أيام العرب ووقائعهم لا في الجاهلية ولا في الإسلام، ووقائع هذه الأيام لا تعرض علينا؛ لأن أعظم أسباب الخلاف والمناقشة هو نظام السياسية الحالية، ولذا ترى أن كثرة الوقائع والمقدمات لا تختلف بهذا الباب.
(10) قال ذلك تبعًا لابن القيم من أن الربا الثابت بالحديث ربا غير حقيقي، وهذا ليس بصحيح؛ لأن جمهور العلماء قالوا بإجمال الآية، ويكون الحديث مفسرًا للآية فهذا يكون ربا حقيقيًّا؛ لأنه ليس في القرآن ربا سوى ما ثبت كونه ربا بالسنة فلا نجترئ على أن نقول إن ما ثبت كونه ربا من القرآن والحديث هو ربا غير حقيقي والذي لم يرد فيه حديث ولا أثر خالٍ عن العلة يكون ربا حقيقيًّا.
(11) لعله أراد بها القرض وليس بصحيح؛ لأن النسيئة في اللغة هي الثمن المؤجل لا كل ما يكون في الذمة من الدين أو القرض.
(12) لفظ (أيضًا) ليس على محله؛ لأن في الشريعة ليس ربا إلا ما ثبت كونه ربا من الحديث.
(13) ص 99 ج - 2.
(14) هو موافق لما عليه الجمهور من أن الربا داخل في البيع.
(15) هذا خلاف ما قال أولاً من أن الربا بيع، وأيضًا هو صرَّح بنفسه في التحرير أن الآية مجملة والحديث يفسرها، فكيف يصح منه هذا القول؟ .
(16) وكذا فسَّر الآية الشيخ سناء الله في تفسيره تبعًا له.
(17) فتح القدير باب الربا.
(18) زاد بعضهم في تفسير العاقدين تحت حد الربا لفظ المقرضين؛ لكن هذه الزيادة خلاف ما عليه المحققون ولا دليل عليها ويأباها قولهم: في معاوضة مال بمال.
(19) لا يصح به الاستشهاد، بل هو دليل على أن الربا بيع ويؤيده صنيع العلماء، أعني ذكر الربا بأحكامه في البيوع لا في الفرض.
(20) هذا يدل على أن أبا حنيفة رضي الله عنه ذهب إلى أن الربا بيع.
(21) (كتاب البيوع ص 435 ج 5) .
(22) ليس فيه أنه ربا منصوص، فيمكن أنه أراد به ربا قياسيًّا؛ لأن الفقهاء لا يذكرون الأحكام الثابتة عن القياس مفصولة عن الأحكام الثابتة بنص القرآن أو بنص الحديث.
(23) مسوى (ص 357 ج2) .
(24) حجة الله (ص 105 ج 2) .
(25) (ص 268 ج 4) .
(26) بدائع كتاب الأشربة ص 115.
(27) فيه دلالة على أن المبادلة ليست فيه.
(28) معربًا عن المسوى شرح الموطأ الفارسية ص 357 ج 2.
(29) فيه دلالة على أن القرض ليس فيه مبادلة، والإلزم فساده بالشرط الفاسد مع أنه لا يفسد بالشرط الفاسد، بل يلغو الشرط ويبطل.
(30) رد المحتار، باب ما يبطل بالشروط الفاسدة ولا يصح تعليقه.
(31) ص 122 حكم الشارع عليه السلام على كونه تبرعًا، ولم يحكم بأنه مبادلة ولم يعتبرها.
(32) (ص 153 ج 5) .
(33) هي العارية.
(34) هي المبادلة.
(35) (أي العارية) .
(36) (جامع الرموز ص 406 ج 2) .
(37) فلا يتصور الربا في القرض؛ لأن الربا هو الفضل والفضل والمساواة إضافة تقتضي الطرفين، بحيث لا يمكن وجودها بدون الطرفين، ولما كان في القرض رد المثل في حكم رد العين كما صرَّح به الفقهاء لا يتحقق في القرض الطرفان فلا يتحقق الفضل.
(38) حاشية تبيين الحقائق شرح كنز قبيل باب الربا.
(39) يوهم ظاهره أن المنفعة لو تخص المقرض لا تجوز ففيه أنها كما تجوز فيما لم يخص المقرض، كذا تجوز إذا خصت بالمقرض ومن فرق فلا بد عليه من فارق.
(40) (ص 145 ج 1) .
(41) وكذا العلامة البغوي والمفسر الصوفي الشهير بالخازن قد أخرجا حكم نفع القرض عن ربا البيع، وأثبتا له حكمًا من دليل؛ لكنه غير دليل ربا البيع فتفريق الدليلين يدل على أن القرض عندهما أيضًا ليس ببيع.
(42) بدائع الصنائع (ص395 ج 7) .
(43) بدائع (ص 153 ج 5) .
(44) مسوى ص 357.
(45) (ص 30 ج 4) .
(46) (ص 39 ج 4) .
(47) (274 ج 3) .
(48) عمدة القاري (ص 434 ج 5) .
(49) فتح القدير كتاب
الحوالة.
(50) مثاله كمن باع خمس ربابي بخمس ربابي نسيئة لا يجوز بخلاف من أقرض خمس ربابي ليعيدها بعد أيام، فالأول بيع وفيه ربا وهو حرام ومعصية، والثاني ليس ببيع وليس فيه ربا بل هو قربة وصدقة.
(51) أعلام (ص 53 ج 2) .
(52) قال أحمد: قتادة أعلم بالتفسير وباختلاف العلماء، وأحفظ أهل البصرة ووصفه بالحفظ والفقه وأطنب، وقال: قلَّ من تجد أن تقدمه، قال الثوري: أوكان في الدنيا مثل قتادة؟ قال الذهبي: مع حفظ قتادة وعلمه كان رأسًا في العربية واللغة وأيام العرب والنسب.
(53) الإمام المكي المقري المفسر الحافظ لزم ابن عباس مدة وقرأ عليه القرآن، وكان أحد أوعية العلم، قال: عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ قال قتادة وخصيف: أعلمهم بالتفسير مجاهد، وقال ابن جريج: لأن أكون أسمع من مجاهد أحب إلى من أهلي ومالي، قال مجاهد: ربما أخذ لي ابن عمر بالركاب.
(54) قال سفيان: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك (إتقان) قال الذهبي لولا تأخر موته لذُكر مع وكيع بل مع ابن المبارك روى عنه البخاري وخلق ولنبله وعقله يلقب بالنبيل، قال ابن شبة والله ما رأيت مثله.
(55) كتاب المعرفة للبيهقي باب الربا - قلمي.
(56) الفقيه المدني كان له حلقة للعلم بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
(57) الفقيه الكوفي المقري أحد الاعلام إذا حج أهل الكوفة وسألوه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير؟ ويقال له: جهبذ العلماء، قال ميمون: مات سعيد بن جبير وما على الأرض إلا وهو محتاج إلى
علمه، قال قتادة: كان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير.
(58) هذه قرينة على أن المراد بالقرض ههنا هو الدين لا القرض الذي يوجد من غير بيع لأن الدراهم المثمنة في بيع النسيئة دين على ذمة المشترين وليست بقرض وكذلك التأجيل قرينة على ذلك كما سيأتي.
(59) علم منه أن ههنا أنواعًا باطلة من البيوع فكونه بيعًا قرينة على أن المراد بالدراهم هي الدراهم المثمنة وبالقرض الدين.
(60) (أحكام القرآن ج1 ص 464 إلى 469) .
(61) (حاوي مجمع المعافى قلمي ص159) .
(62) (ص 336 ج-1) .
(63) كتاب المعرفة باب الربا.
(64) أي بأن رد زائدًا على القدر المدفوع.
(65) ولا يجوز أن يستدل على حرمة نفع القرض بأنه حرم في التوراة وشرائع من قبلنا حجة عند الحنفية؛ لأنها حجة بشرط النقل في شرعنا وعدم الرد عليها، وهو لم ينقل في شرعنا فلا حجة فيه.
(66) وأثر عبد الله بن سلام مضطرب ومعلول كما مر تفصيله، وأما الآثار الأخر فضعاف كلها وبعضها مع ضعفه لا يدل على كون المنافع ربا، والكلام في حجية الآثار مشهور لا سيما إذا كان مدركًا بالقياس، وأما إتيانها موضع تفسير إجمال القرآن فلم يقل به أحد.
(67) زاد الفقهاء في تعريفه قيد المشروط لكن ينبغي تركه كما مر.
(68) في مجلة الأحكام (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) وفي شرحه: كغلق باب المسجد في غير وقت الصلاة يجوز في زماننا صيانة عن السرقة - قال ابن عابدين في رد المحتار وأنت خبير بأن أكثر الأحكام تغيرت لتغير الأزمان (كتاب الصوم ج 2 ص 147) وقال في نشر العرف: فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام (ص125 رسائل ابن عابدين ج2) وأيضًا، وقد أسمعناك ما فيه الكفاية من اعتبار العرف والزمان واختلاف الأحكام
باختلافه (128) ونقل في هذه الرسالة أن العلامة شمس الأئمة نقل عن الإمام الفضلي في نزع الناس عن عاداتهم حرج، ثم قال ولقد صدق الفضلي في قوله ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج فهو نظر إلى أن ذلك غير ممكن عادة، فأثبت الضرورة وقال: إن المستحيل العادي لا حكم له، وإن أمكن عقلاً 140.
(69) مع أن حرمة الاستئجار في البعض منصوصة ولكن بحسب حاجة الناس، أفتى الفقهاء الكرام بجوازه، فعلى هذا النفع المشروط في القرض أولى بأن يفتى بجوازه لأنه ليس منصوصًا عليه بالحرمة (إذ الناس ناس والزمان زمان) .
(70) قد مر أن المماثلة لا توجد في القرض لأنه ليس فيه وجود الطرفين.
(71) فيه أن القرض ليس فيه المبادلة عند الشرع، وهذا الشيخ أيضًا أقام عليه الأدلة، ثم قال: أعطى الشرع لمثله حكم عينه (تفسير مظهري)
(انتهى الاستفتاء وسنبين رأينا فيه في الجزء الآتي) .(30/419)
الكاتب: اليزيدي
__________
ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام
المُعَنْوَن بحياة محمد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
مقدمة وتمهيد:
حياة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اشترك في درسها الكُتاب والفلاسفة
والمؤرخون ورواة الأخبار منذ ما ينيف على العشرة قرون، وإن منهم إلا من بخسه
حقه، وقصر عن وصف نقطة من بحر مزاياه، ومع هذا فلا لوم عليهم ولا عتاب
مهما تفاوتت مداركهم، واختلفت أساليبهم، وتباينت مذاهبهم ومللهم؛ لأنه عظيم بل
أعظم من أظلته السماء، ولا ترتقبوا مني دليلاً على ما أدعي فإني أقصر باعًا ممن
تقدمني لهذا الباب، والقصور لا يمنع من ابتلي به عن إدراك النقص فيما يرى أو
يسمع، فها أنت ذا تأخذ على ممثل التصنعَ في القول أو تعيب عليه الخفةَ في
الحركات؛ ولكنك لا تستطيع أن تأتي بأحسن من صنعه، وهذا مثل واضح ضربته
حتى تعلم أنه ليس من شروط المنتقد أن يكون أعلم ممن تصدي لانتقاده أو - على
الأقل - في درجته، فإذا فهمته حق فهمه علمت أنني لا أدعي تفوقًا أو علمًا؛ وإنما
ألاحظ أن خزائن الكتب العربية خالية من تأليف يحتوي على درس دقيق لحياة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كل ما كتب إلى الآن في هذا الموضوع إلا
بمثابة مواد يجب على طائفة من العلماء أن يحللوها، ثم يرتبوها ويبوبوها بعد أن
يضيفوا إليها ما غفل عنه المتقدمون، وعند ذلك يضعون بين يدي الخاص والعام
أحسن تعريف بذلك النبي العظيم الذي لم يأت التاريخ بمثله.
فهو الرسول الوحيد الذي استطاع أن يأتي أمته في ظرف عشرين سنة بخير
دنياها وسعادة أخراها: شرَّع لها العبادات - سنَّ لها قوانين الزواج والطلاق
والإرث - شرح لها طرق الكسب والمعاش - أشرع لها منهج المعاملات - علمها
سياسة البلاد - قرر لها أنواع الأحكام - بيَّن لها آداب الأكل واللبس والزيارة -
زرع في قلوب أهلها الرأفة والشفقة - وحَّد صفوفهم - حرَّم عليهم ما فيه مضرتهم،
على حين كان مشتغلاً بحاجات بيته الطاهر، ناشرًا لدعوته الصادقة محاربًا
للمشركين الذين كانوا يكيدون له الكيد ليل نهار.
أرجو أن يسمع علماء المسلمين ندائي على خمول مصدره، فيصنفوا لنا كتابًا
تستنير به بصائر الجاهلين، وترتاح إليه قلوب الحائرين، ويزيد المهتدين إيمانًا
مع إيمانهم.
بمثل هذا الكتاب ينقطع سيل الحملة التي أرسلتها الكنيسة على الملة الإسلامية
بأن قلدت الجيوش من الدجالين أمضى ما لديها من الأسلحة وأوعزت إليهم أن ينالوا
من الديانة الإسلامية ما استطاعوا حتى تبطئ في السير أو ترجع القهقرى.
أنا مستيقن وأنتم معي - معشر المسلمين - بأنهم لن يصيبوا منها شيئًا؛ لأن
الله يأبى إلا أن يُظهرها على الدين كله بالرغم من المعاند والملبس، ومع هذا يجب
علينا - وخصوصًا العلماء منا - أن نعارض خطة الكنيسة في هذا الصدد، وأن لا
نغفل عن جماعة المفسدين المضلين الذين يريدون أن يزعزعوا بسطاء العقول
والجهلة ويزيغوهم عن معتقداتهم ثم يقودوهم إلى النصرانية.
فالتدارك التدارك قبل أن يتسرب الخراب إلى الطائفة المحمدية؛ لأن
خصومنا لا يذرون طريقًا مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها، ولا تركن إلى ما
يدَّعونه من اللادينية والتسامح والإخلاص للعلم وغير ذلك من زخرف القول وخادع
الألفاظ، فما فرَّط في دينهم اليوم إلا المسلمون، وما جاوز حدود التسامح إلا هم،
فلو أنهم أقاموا شعائره واتبعوا أوامره لما تجاسر أحد أن ينسب إليه الجمود، بل أن
يطعن فيه وفي صاحبه عليه الصلاة والسلام، فيدَّعى أن القرآن المرسوم في
المصاحف غير القرآن المنزَّل من السماء، وأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم
كان يأخذ عن اليهود والنصارى.
نعم ذلك ما جاء في كتاب ظهر منذ عام باللغة الإفرنسية بعنوان (حياة محمد)
صلى الله عليه وسلم، وقد سبقني إلى انتقاده صديقي أحمد بلافريج حيث نشر
عنه في العدد 146 من مجلة الفتح الغراء كلمة لاحظ فيها على المؤلف - مسيو
درمنغام (Dermcnghem. E. M) خطأين عظيمين، ثم بيَّن كلاًّ منهما
وناقش مرتكبهما الحساب، وبذلك أدى واجبه نحو الأمة الإسلامية فجزاه ربنا خيرًا.
وأنا أريد أن أقتفي أثره وأعرض على قراء المنار الكرام ما بدا لي من
الملاحظات عند تلاوة (حياة محمد) صلى الله عليه وسلم.
اقتنيت هذا المؤلَّف وأملي أن أجد فيه ما لم أقف عليه في غيره من الكتب لما
عُرف به أدباء الغرب اليوم من البحث والتنقيب، فلم يخب ظني إذ عثرت فيه
حقيقةً على آراء هي - في نظر المؤلف - أنفس من أن تسكن بطون كتبنا القديمة،
وقد أشرت إلى البعض منها آنفًا، وبقي علي أن أنقل إلى القارئ كلام المسيو
درمانغام فيها، ثم أعلق عليه ما خطر لي من الأفكار عند تلاوته، وسأقتصر في
انتقادي على نقطتين بارزتين في الكتاب، ولو أردت أن أُبيِّن كل ما احتوى عليه
من الزلات كبائرها وصغائرها لما اكتفيت بضعف صحائفه وليس ذلك من المتيسر
لي.
قال في صفحة 135 عند كلامه على كتاب الله العزيز (القرآن أقرب إلى
المسيحية من السنة على ما هو عليه الآن، وأما إذا اعتبرنا كيفية تدوينه فيمكننا أن
نتساءل هل كان أصله (كذا) يزيد شبهًا بها من الفرقان الموجود الآن؟ وعلى كل
حال فالحديث هو الذي حفر هوة بين الديانتين) .
ثم خط على صفحة 276 ما معناه (غير صعب على عقولنا وهي أشد معرفة
بأفعال الله من معاصري النبي (عليه السلام) ومن علماء المسلمين [1] أن نؤمن
بوجود فرق بين كلام الله القديم وبين الفرقان المحفوظ في الصدور المرسوم على
الأوراق، وقد يظهر ذلك الفرق بعد الدرس والتفكير وربما برز عند مجرد النظر) .
ثم كتب على صفحة 283 (لم يدون القرآن إلا بعد نزوله بمدة، وقد ضعفت
عندئذ ذاكرة القوم وكثر بينهم الخلاف فيه، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله
عليه وسلم بسبعين سنة) .
وقال في الصفحة التي بعدها (بأية وسيلة يمكننا أن نتوصل إلى معرفة
الشروح والتأويلات التي أدرجت في القرآن وما هي نسبتها منه؟ ترى هل هو
مجرد عن الحديث النبوي؟)
تلك آراء المسيو درمانغام في القرآن الكريم، وإلى هذا الحد وصل سوء ظنه
بالصحابة الأجلاء الذين يأبى حتى البليد أن يتهمهم بتحريف أو تزوير في كتاب
الله [2] لِما عُرفوا به من الإخلاص لهذا الدين الحنيف والاعتصام بحبله والاعتناء
بقانونه ودستوره الذي هو القرآن العزيز، لا شك أنه لا ينكر هذا كما أنه لا ينازع في
قوة الحافظة عند العرب لرواية أخبارهم وأشعارهم مع الغريب من ألفاظها والمعقَّد من
معانيها، فكيف وما ذكرتَ يجوِّز في حقهم نسيان آيات من كتاب نزل عليهم من عند
الله واستولى على حواسهم بفصاحته وسلاسة معانيه وعذوبة ألفاظه وصدق روايته؟
وكيف ننسب إليهم زيادة أو نقصًا فيه، وهم يعلمون أن من بدَّل منه حرفًا يصلى
سعيرًا؟ عار على المفكر أن يرميهم بشيء من ذلك لمجرد شكوك ساورت عقله أو
شبه ضعيفة تراءت لخياله.
على أنهم كانوا رضي الله عنهم يكتبون القرآن عند نزوله، إما من تلقاء
أنفسهم وإما بأمر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وقد جمعه كثير منهم إلا
أن ثلاثة مصاحف هي التي اختصت وقتئذ بالثقة، منها: مصحف سيدنا زيد بن
ثابت، وقد كان عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته ووافق
عليه، وزيد هذا هو الذي كُلِّف من لدن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيام
خلافته بكتب المصحف، وبقي ذلك المصحف عند أبي بكر حتى مات رحمه الله،
ثم انتقل إلى عمر رضي الله عنه حتى توفي، فبقي عند ابنته أم المؤمنين حفصة
إلى أن طلبه منها سيدنا عثمان رضي الله عنه، ثم أمر زمرة من الصحابة الأعلام
أن يأخذوا منه عدة نسخ ليفرقها في أنحاء المملكة.
وكل ذلك مبسوط في محله؛ وإنما أوردته لأبين للمسيو درمانغام أن القرآن
جُمع أول مرة بعد ممات النبي عليه السلام بنحو سنتين، وثانيًا بعده بما دون
العشرين، وأما حديث السبعين عامًا فلم يقله إلا هو، وله أن يراجع التاريخ
الإسلامي ليتأكد لديه صحة ما ذكرت، وعليه أن يدرس حياة سادتنا أبي بكر وعمر
وعثمان رضوان الله عليهم ليعلم أنه يستحيل في حقهم أي تحريف أو تبديل في
القرآن، أليس عمر هو الذي كاد يقضي على أعرابي سمعه يتلو آيات بقراءة
مخالفة لما أخذه هو عن رسول الله؟ بلى هو ذاك الفاروق الذي لو روى لنا القرآن
وحده لما ارتبنا في صحته؛ لأننا لا ننقاد لسلطان الخيال وندع نور الحق جانبًا،
ولأننا لا نعقل وجود (فرق بين كلام الله القديم وبين القرآن المحفوظ في الصدور) .
ولكنا نعلم أن في نفس المسيو درمانغام حاجات يحول دون الوصول إليها
القرآن، وقد حسب أنه ينال مقصوده بالتكلم في الذكر الحكيم والطعن في خاتم
المرسلين، وما غايته إلا تقريب الديانة الإسلامية من الملة المسيحية حتى يسهل
على أصحاب الأولى أن يمروا إلى الثانية؛ لأنه من المخلصين لها (دينًا أو سياسة)
فكأنه يقول: الإسلام فرع من النصرانية، وقد كان القرآن (الأصلي) أقرب
إليها من الفرقان الموجود الآن، وإنما بعد عنها بتحريف من الصحابة والفقهاء،
فالأوفق والأنسب الرجوع إلى الأصل [3] .
وهذه مكيدة من سياسة الكنيسة اليوم في التبشير فقد أمرت خدامها أن لا
يصادموا المسلم بادئ بدء بدعوته إلى النصرانية، بل أن يقوضوا دعائم الإسلام
واحدة فواحدة، ويشككوا بسطاء العقول من أهله في معتقداتهم حتى إذا ما بقوا
حيارى ومرت بهم قافلة أخرى من المبشرين ساقتهم معها إلى الصليب.
غير أن المسلمين لا ينخدعون لها ولا يخالجهم ريب في القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) لأنهم يتلون ويسمعون {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فيقولون: صدق الله العظيم.
ولو أقامت الكنيسة الإنجيل كما أُنزل من عند الله لكُنا وأهلها أمة واحدة؛
ولكن رجالها بدَّلوا فيه وغيَّروا [4] ثم أبوا أن يرضوا عن سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم حتى يتَّبع ملتهم، فنهانا الله تعالى أن نؤمن لهم.
وأما مسيو درمانغام فنظره أن مسألة الصلب وحدها هي التي أبعدت الإسلام
عن النصرانية، وهو لا يستعبد أن تكون تلك المسألة من المحرفات في الكتاب قال
في صحيفة) 130 (130) .
(إذا اعتبرنا أن القرآن لم يُجمع إلا في عهد عثمان والحجاج (كذا) …
وأن الألفاظ لم تكن مشكولة بنقط أو حركات بحيث كان في الإمكان النطق بها
بكيفيات مختلفات يبقى لنا أن نتساءل فيما إذا كانت هذه الآية {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ....} (النساء: 157) تكفي لأن تكون سدًّا مانعًا بين ديانتين متحدتين
في كل ما سوى هذه المسألة، زد على ذلك أن تلك الآية تناقض ما جاء في سورة
آل عمران {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ....} (آل عمران:
55) وفي سورة المائدة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة:
117) وفي سورة مريم {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ....} (مريم:
33) اهـ.
نحن لا نرى تناقصًا بين آيات (الوفاة) وبين آية نفي (الصلب) وقد قال
بعض المفسرين: إن الله توفى المسيح قبل أن يرفعه، وهو تأويل معقول المعنى؛
لأن سيدنا عيسى عليه السلام كان لابد له من الموت؛ لأنه إنسان يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق ويتعب كسائر الناس، والموت لا يقتضي أن يكون بسبب
الصلب أو القتل، بل المتبادر من التوفي أنه عليه السلام مات حتف أنفه بدون فعل
أحد، وذلك لا ينافي الرفع، ألم تر أن الله يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) فلم العناد إذًا، وقد ذُكر في القرآن أن اليهود قتلوا أنبياءهم
كيحيى وزكريا؟ ثم هب أننا عمدنا إلى آية الصلب فغيرناها حسب رغبتك،
أفتظن أن ديانتينا تصيران متشابهيتن؟ كلا إننا نقول (الله أحد) وقومك يقولون:
الله ثالث ثلاثة، ونحن نقول: إن عيسى المسيح عبد الله ورسوله وهم يقولون (إن
الله هو المسيح عيسى بن مريم) وقد قال الله تعالى لرسوله محمد خاتم النبيين
{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) فأينك وما أحدثته - في زعمك - آية الصلب من التباين؟
وأينك وتآخي الديانتين والمسلمون لا يزالون يتلون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا
اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (المائدة: 51) .
أتكون كل هاته الآي وما في معناها مما ذكره مزيدة في القرآن بقصد إبعاده
عن المسيحية؟ أم تريد أن تحذف كل ما في هذا المعنى من القرآن لنندمج في
النصارى؟ ذلك ما لسنا بفاعليه وإن بدل الهلال غير الهلال؛ لأن الخلاف بيننا في
أس الاعتقاد أعني (التوحيد) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) .
اللهم اجعلنا من المخلصين في الإيمان بك والاتباع لرسولك إلى الأبد.
والآن سأرجع بك أيها القارئ إلى الصحيفة 117 من كتاب المسيو درمانغام،
حيث يستخدم قوة خياله وسوء نيته في الحط من قدر صاحب الشريعة عليه السلام.
قال هنالك (والذي لا ريب فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تأثر بديانة
المسيح، بل إن الرهبان والنصارى المقيمين بمكة وبعض المفكرين من العرب
كزيد بن ثابت هم الذين الذين زرعوا فيه العاطفة الدينية قبل عهد الرسالة) [5] .
هذا مما لا يشك فيه كاتب (حياة محمد) ولكن ما أدلته وحججه؟ أَنَزَل عليه
الوحي بذلك؟ أم تسار مع النبي صلى الله عليه وسلم بطريق استحضار الأرواح؟
ذلك ما أهمل ذكره، وكل ما برهن به على ما ادعى هو زعمه وجود بعض
النصارى بمكة وضواحيها! مع أنه لا يجهل أن الإنجيل كان في ذلك العهد محفوظًا
عند رجال الكنيسة بحيث كان يستحيل أن تجد من بين مطلق المسيحيين من يروي
شيئًا من تعاليمه، وإليك كلامه عن ذلك في الصحيفة 63 (63) : (كان محمد
صلى الله عليه وسلم يميل إلى ديانة المسيح غير أنه كان لا يعرف عنا إلا شيئًا نذرًا،
وما كان يمكنه أن يأخذ عن النصارى المقيمين بمكة؛ لأنهم جهلاء لا يتفقون على
رواية) .
الله أكبر، الآن حصحص الحق وظهر تناقض المؤلف وخباله! فمن جهة
يزعم أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام كان يأخذ عن النصارى الذين كانوا بمكة،
ومن جهة كان يثبت أنه ما كان يمكنه الأخذ عنهم لأنهم يجهلون تعاليم المسيح ولا
يتفقون على شيء منها، اللهم إن عقولنا تعجز عن الجمع بين هذين المعنيين، بيد
أنها تعلم أن جل النصارى اليوم لا يعرفون من الإنجيل شيئًا مع تعدد طرق النشر
وأساليبه، فما بالك في عهد لم تكن فيه مطبعة ولا جريدة؟ ... وعليه فعمَّن أخذ
صلى الله عليه وسلم التفاصيل عن أخبار الأمم السالفة، ندع الجواب للمسيو
درمانغام، وربما يجيبنا بأنه كان عليه السلام يتلقى ذلك من طريق الوحي حيث
إنه لا ينكر تلك المعجزة، وإن حاول غير مرة في كلامه عنها أن يظهر لنا نبينا في
صورة (درويش هندي) أو (فقير صوفي) في لجة الارتباك، قال في صحيفة
62 (62) ما معناه (انقطع محمد - عليه السلام - عن الناس وحببت إليه الخلوة،
وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقيين، فكأنه كان بتأمله وبطول تفكيره في
خلوته يستجمع قواه العقلية وينمي حاسة الاختراع فيه؛ وبذلك لا يصيبه تعب ولا
ملل من بعد… وبعبارة كان محمد صلى الله عليه وسلم مقر أزمة وكان يفزع إلى
الجبال ليحلها) .
مفهوم هذا الكلام أنه عليه السلام كان يعتزل الناس ليخترع لهم دينًا جديدًا وإلا
فما معنى؟ قوله (وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقين..) نعم نحن لا ننكر أنه
كان قبيل إبان الوحي يتردد إلى غار حراء ولكن عسير علينا - والله - أن ندرك ما
كان يدور في خلده آنئذ وإن كنا من الشرقيين الذين ينسب إليهم واسع الخيال، فإن
استطاع المسيو درمانغام أن يأتينا بحجة على ما يقول فإنا مستعدون لقبولها بل
ولقبول ما جاء في الصحيفة (66) من كتابه وإليك ترجمته:
(علم محمد صلى الله عليه وسلم من طريق نصارى سورية ومكة أن هناك
دينًا سماويًّا، وأن الله كان يبعث بأوامره لبعض الأمم ليلقنهم الحقيقة، وذلك
بواسطة رجال يصطفيهم ليرشدوا الناس ويردوهم إلى الجادة كلما حادوا عنها، كما
علم أن ذلك الدين كان واحدًا؛ وإنما الناس يحرفونه في مدة الفترة، وطالما تمنى
أن يقيض الله للأمة العربية من يرشدها لأنها كانت تائهة في فيافي الضلال) .
فعاطفة مثل هاته غير مستحيلة في حق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مع
ما عُرف عنه من مكارم الأخلاق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) كما أننا
لا نشك أن الدين الذي أتى به كل الرسل واحد في أصوله الاعتقادية، وهي توحيد
الله والوحي والبعث والجزاء وأصوله العملية وهي الفضائل والأعمال الصالحة،
وإنما يختلفون في الفروع والشرائع العملية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) وقد أمرنا بأن نؤمن بهم، وأن لا نفرق بين أحد منهم، فما جاء به
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو عين ما أنزل على كل من سادتنا نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين في أصوله، إلا أن
قومهم من بعدهم حرَّفوه حسب أهوائهم وأغراضهم وإلا لاتبع اليهود والنصارى
سيدنا محمدًا عليه السلام ( {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157)
وأما دعواه أن النبي عليه السلام علم ذلك من طريق نصارى سورية فهي من
الغرابة بمكان، بل مثال متناه في الجسارة على البهتان.
وبعد هذا كله إذا فرضنا أنه عليه السلام أخذ ذلك عنهم، فمن أين يا ترى
تلقى ما يحويه الفرقان من الحكم والأحكام والآداب؟ إذا كان من طريق الوحي
وهو الحق واعترف به المسيو درمانغام، فإذًا ما وجه الحاجة إلى النصارى أو
غيرهم؟ أليس الذي علَّمه ما ذكر بقادر على أن يقص عليه أخبار الأمم الماضية؟
بلى! وهو العليم القدير.
فكفوا معشر المسيحيين عن غلوكم وتحاملكم وحوِّلوا جهودكم شطر الهمج من
الوثنيين، وأما المسلمون فهم لا يرضون بدينهم بديلاً لما يجدون فيه من خير
الدارين، ولقد كانوا أرقى الأمم وأعزها وأكرمها وأشدها بأسًا يوم كانوا متمسكين به،
ولديهم من المجلدات القناطير المقنطرة شهادة على ذلك، وهذه الآثار لا تزال
قائمة ناطقة في كل بلد فتحوها؛ ولكنهم اشتغلوا بعد ذلك بالسفاسف وتمسكوا
بالقشور من أمر دينهم فحقت عليهم كلمة العذاب، ولئن لم يستدركوا ما فاتهم بأن
يعلِّموا أولادهم تعليمًا دينيًّا عربيًّا؛ فإنهم لا يلبثون أن يصبحوا مذبذبين بين الإسلام
والنصرانية والإلحاد، لا إلى هذا ولا إلى تلك ولا إلى الآخر، والوقت حرج لا
يدع مجالاً للتردد، فإما علينا وإما لنا.
... ... ... ... ... ... ... الرباط (المغرب الأقصى)
... ... ... ... ... ... ... ... ... اليزيدي
في (8) جمادى الأولى عام (1348) ، (12) أكتوبر (1929)
(المنار)
إذا كان درمانغام هذا يؤمن بالله تعالى ويعقل أفعاله وحكمه أحسن
مما كان يعقلها الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما ادعى - فليخبرنا
بالبرهان الذي قام عنده على نبوة موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعته
وآخرهم المسيح عليهم السلام، وعلى أنها وحي من الله دون نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم وشريعته، مع أن القرآن أعلى من التوارة وغيرها من كتبهم في العلوم
الإلهية والتشريع الأدبي والمدني، وإخباره بالغيب أصح من إخبارهم رواية وأصرح
منها وأثبت، وقد كان أميًّا نشأ بين أميين من حيث نشأ موسى في بيت ملك كان
أرقى ما في الأرض علمًا وتشريعًا، فإن كان يعقل هذا ويتكلم عن اعتقاد ورغبة في
الجمع بين الديانتين فعليه أن يدعو النصارى إلى الإسلام مصلح النصرانية،
وخاتمة الأديان الإلهية.
__________
(1) المنار: وغير صعب على عقول المسلمين أن يؤمنوا بأن هذا الكاتب وأمثاله يفترون ويقولون
في القرآن والحديث ما لا يعملون وما لا يعتقدون لتشكيك المسلمين وإضعاف دينهم ليخنعوا لهم
ويقبلوا ظلمهم، فإن بناء سياستهم على الكذب والخداع أمر مشهور يعرفه حتى الرعاع، ودعواه
أنهم أعلم بأفعال الله تعالى من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم غرور باطل ودعوى لا تقوم
عليها بينة، فهم أجهل الخلق بأفعال الله.
(2) المنار: لا شك أن هذا الرجل سيئ النية، متعمد للكذب لتشكيك قراء كتابه من عوام المسلمين، فما كتبه تقولات - لا آراء - أملاها الجهل وقلة الحياء، وأي جهل ووقاحة أشد من دعوى من
يزعم أن القرآن كُتب بعد انتهاء مدة الخلفاء الراشدين ويزيد ومعاوية الأصغر ومروان أي في عهد عبد الملك و4 من بني أمية أي في عهد عبد الملك بن مروان فهل كان المسلمون في هذه المدة بغير قرآن؟ .
(3) المنار: لا حاجة إلى مزاعم هذا الرجل في إرجاع المسلمين إلى القرآن، فعقيدتهم التى يكفر عندهم كل من خالفها أنه هو الأصل القطعي، وأن الحديث الذي يخالفه مخالفة حقيقية لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ ولكن هذا الأصل ينقض النصرانية المعروفة بأشد مما تنقضها الأحاديث كما يأتي.
(4) المنار: إن النصارى أضاعوا الإنجيل الذي أوحاه الله تعالى إلى عيسى عليه السلام؛ وإنما هذه الكتب المسماة بالأناجيل عندهم تاريخ أو تواريخ له، فيها شيء من ذلك الإنجيل الذي نقل عنه لوقا ذكره بقوله (16: 15 وقال لهم اذهبوا إلى العالم، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) اهـ. وقال الله تعالى: [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] (المائدة: 14) فالقرآن هو المهيمن على هذه الكتب كلها، وهو دين الله الأخير المكمل لما جاء به جميع الأنبياء من دين الله الواحد في أصوله وأهمها وأعظمها التوحيد، والناسخ لجميع ما خالفه من شرائعهم وهو الذي حفظ دونها، فالنصرانية هي التي يجب أن ترجع إليه دون العكس الذي يحاوله المبشرون بدين الكنائس، بل بأديانها المتعارضة، وإنجيل برنابا أصح عندنا من هذه الأناجيل الكنسية، وهو ناطق بالتوحيد وبراهينه وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
(5) المنار: من حسن حظ المسلمين أن هؤلاء الذين يطعنون في دينهم يفضحهم في كذبهم وافترائهم جهلهم بالإسلام وتاريخه، فزيد بن ثابت الذي زعم هذا المفتري أنه كان يزرع عاطفة النبوة والرسالة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنصاري من يثرب كان عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة طفلاً فيها، ولم يره قبلها، وقد استصغر يوم بدر فلم يؤذن له بالقتال لصغره! ! .(30/440)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها
حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب
والرأي في مستقبل العرب والشرق
(2)
حقيقة حال الإنكليز
قد بيَّنا في الفصل الأول من هذا المقال حقيقة حال اليهود: ما يعدُّ لهم وما يعد
عليهم، ومنه ما هو خفي عن أكثر الناس.
وأما الإنكليز فأمرهم مشهور عند قراء الصحف وغيرهم لكثرة خوضها في
سياستهم وأعمالهم، ونقلها مناقشات برلمانهم فيها، ونقل أقوال صحفهم وصحف
الأمم الأخرى في نقدها مدحًا وذمًّا، وإنما تخفى على الكثير منهم أخلاقهم وصفاتهم
العامة، وما طرأ عليها من تغير، فنذكر ما يعنينا من ذلك.
كان القوم مشهورين بالصدق والعدل والحزم والتدبير ومراعاة حرية الناس في
أديانهم وآرائهم، وبالوفاء بالوعود والعهود في معاملاتهم الشخصية والدولية، كما
اشتهروا بالدسائس والحيل والكيد والمكر، والعجب والكبر، والرياء والإفك [*] ،
ولم يكن كل ما يقال في الشهرتين حقًّا ولا كله باطلاً؛ وإنما مرجع أكثر ما يوصفون
به من فضيلة إلى أخلاق الأفراد ومزايا الشعب يفيض شعاعه على الحكومة، كما أن
مردَّ أكثر ما يوصفون به من رذيلة إلى الحكومة، وقد يثور غباره في وجوه الشعب،
وما كانت تمدح به حكومتهم وحدها، فمنه ما هو حق إلا أنه نسبي لا تام في الغالب،
ومنه ما هو من تأثير الدعاية (البوربغنده) التي لم يتقنها أحد كإتقانهم، ولا تنفق في
سبيلها دولة كإنفاقهم، وأعني بالنسبي أمرين (أحدهما) ما يكون من المقايسة بين
الإنكليز وغيرهم من المستعمرين ولا شك أنهم أمثل وأعقل وأنبل (وثانيهما) ما
يكون من التوازن بينهم وبين الحكومات الوطنية للبلاد التي يتولون أمرها بالأسماء
المختلفة أو المختلَقَة التي يضعونها لها كغيرهم (كالحماية والاحتلال والإجارة
والانتداب) وما غُلب أولو سلطان وإمارة على حكمهم وانتُزعت منهم بلادهم، إلا
بظلمهم وإسرافهم في أمرهم، فهؤلاء القوم يتحرون أن يكونوا أقل منهم ظلمًا، وأمثل
حكمًا، ولو لم يفعلوا إلا النظام في الظلم، والمساواة بين كبير الناس وصغيرهم في
الحكم، لكفى ذلك مروِّجًا للدعاية لهم، والتنويه بفضلهم على غيرهم، على أنهم لا
يساوون أنفسهم بغيرهم من أهل هذه البلاد، ولا يتنزهون عن محاباة صنائعهم
وأعوانهم على تمكين نفوذهم فيها، ولا يتقون ظلم أي زعيم وإذلال أي عزيز يطالب
باستقلالها، أو يأنسون منه خطرًا على حكمهم، أو اشمئزازًا من ظلمهم.
وللإنكليز مزية أخرى على غيرهم من المستعمرين، ولا سيما اللاتين وهي -
كما قال لنا الدكتور يعقوب صروف من دعاتهم وسماسرة سياستهم - أنهم يسمحون
لأهل البلاد التي يسوسونها بشيء من ثروتها ومظاهر الحكم والجاه فيها يتمتعون به
في ظلهم، من حيث يعترق الآخرون لحمها، وينتقون المخ من عظمها، ويستأثرون
بالكبير والصغير من الحكم والنفوذ فيها، وقد قلدتهم دولة أخرى في نصب تماثيل
للحكم في بعض مستعمراتها من أهلها؛ لكنها لم تدع لهم أدنى نصيب من مسمى
الأسماء التي تفضلت عليهم بها، فكانت أضر على أهل بلادهم منها على أهل البلاد
التي لم تنصب فيها شيئًا من هذه التماثيل.
وأما فضيلة الإنكليز العليا فهي أنهم أدنى إلى مراعاة سنن الاجتماع، ومسايرة
ما يتجدد فيه من الأطوار والأحوال؛ ولكن بعد طول الروية والاختبار، والتنازع
بين طرفي التفريط والإفراط، كما يعلم من الفرق البيِّن بين إدارتهم في مصر
والسودان، وفي الهند وزنجبار، بسبب اختلاف حال كل من القطرين الزوجين
المتقابلين في العلم والجهل، والقرب والبعد من قوة الرأي العام، وكما ظهر أخيرًا
من التفاوت في تصرفهم وسياستهم في القطرين العربيين المتجاورين، فلسطين
وشرق الأردن من جهة والعراق من جهة أخرى بسبب التفاوت بين حاليهما في القوة
والضعف، ففي العراق مئات من الألوف الشاكي السلاح، وألوف كثيرة من
الضباط العلماء بفنون القتال، وقد أضرموا نار ثورة قُتل فيها عشرات الألوف من
الرجال، وأُنفق فيها الملايين من المال، ومن ورائهم زعماء سياسيون يعرفون
كيف يطالبون بالحرية والاستقلال، وقد قربوا منهما، ولن يرضوا بما دونهما.
فأما أهل شرق الأردن فقد سيموا من الخسف والاستعباد، ما لا نظير له في
بلد من البلاد، إذ باعهم أميرهم لملك الإنكليز بيعًا سياسيًّا بعقد معاهدة لا يطيق ذلها
أحد، ولا يقيم على خسفها إلا عير الحي والوتد، فاكتفى أذكاهم فهمًا وأقواهم عزمًا
باسترحام الأمير لتعديل بعض مواد العقد، وتخفيف وطأة ما فيه من أحكام الرق، وهم
قادرون الآن على تمزيق ذلك الصك، ونبذ ما انتحله عاقده من حق المُلك، وهي قدرة
لا تدوم لهم، إذا طال أمد هذا الحكم عليهم.
وأما أهل فلسطين، فقد انحصر همهم في مقاومة الوطن القومي للصهيونيين،
ومطالبة الإنكليز بنظام حكم نيابي يساوي بينهم وبين غرباء اليهود المعتدين، ونرى
الإنكليز لا يسمعون لهم شكوى، ولا ينصفونهم في دعوى، بل يحابون اليهود
وينصرونهم عليهم، ويمهدون لهم انتزاع رقبة أرضهم من أيديهم، والاستيلاء على
مرافقها ومنافعها، والاستئثار معهم بمصالح حكومتها، وغرضهم الباطن من ذلك
تفريق الوحدة العربية في قلب بلادها، وإيجاد أعداء للعرب من غير الإنكليز
يشغلونهم بهم عن عداوتهم، ويعلِّقون أمل الفريقين ببقاء حكمهم عليهم.
وأما سببه الظاهر فهو أن اليهود أقوى من العرب أهل البلاد مالاً واتحادًا
ونفوذًا ماديًّا ومعنويًّا في إنكلترة وسائر أوربة وفي الولايات المتحدة الأمريكية
وغيرها، لا الوفاء بما يسمى (وعد بلفور) والإبرام لعهده، فكم من وعد أخلفوه،
وكم من عهد نكثوه؟ كوعودهم لمصر ومعاهدة السودان معها، ولقد وعدوا العرب بما
عاهدوا عليه الملك حسينًا من قبل أن يَعِدوا اليهود، وكان وعدهم له باستقلال جميع
البلاد العربية بحدودها الطبيعية الشاملة لجزيرة العرب والعراق وفلسطين وسورية
ومنها كليكية صريحًا جليًّا مع استثناء لعدن وتحفظ في سواحل سورية الشمالية
(لبنان) والبصرة، وأن للعرب لقوة في بلادهم أعظم من قوة اليهود؛ ولكنهم كانوا
يجهلون قدرها وإقامة البرهان المقنع للإنكليز عليها، وهي قوة الوحدة فيما لهم من
الكثرة، وسنبين قيمتها في الفصل الثالث من هذا المقال.
فالإنكليز كغيرهم من أهل أوربة لا يعرفون حقًّا إلا للقوي، ولا يفون بوعد
ولا عهد إلا للقوي، ولا يعدلون في حكم إلا مع المتساوين في القوة أو الضعف،
فإن تنازع الأقوياء مع الضعفاء كانوا مع الأولين على الآخرين، بل أقول: إنهم لا
يحترمون ولا يخافون ولا يرجون إلا القوة، ولا يستحيون من وصف الشرقيين
عامة والعرب خاصة بهذه الصفة، ولعمري إنها عامة في البشر؛ ولكنها في
الغربيين أقوى وأظهر، وأعم وأشمل، لاستحواذ الأفكار المادية عليهم، وانحلال
عرى الملكات الأدبية من قلوبهم، حتى إن أحد كتاب فرنسة طعن في الجيوش
المغربية الإسلامية التي استبسلت في الدفاع عن وطنه وقومه بأن الدافع لهم إلى ذلك
حب الشهرة بالشجاعة والنجدة، لا الإخلاص لدولته في الطاعة والمحبة،
فالأوربيون يحتقرون الشرقيين ويسخرون منهم، كلما رأوا أثرًا من آثار السلطة
الأدبية في أعمالهم.
ولقد شهد فيلسوف الإنكليز ومفخرهم، بل شيخ فلاسفة أوربة كلها في علوم
الأخلاق والاجتماع بأن الأفكار المادية التي ظهرت أولاً في الشعب اللاتيني فأفسدت
أخلاقه قد دب دبيبها إلى الشعب الإنكليزي، فطفقت تفتك بأخلاقه، فهي تعدو في
سيرها فيه المرطى، وتنهزم من طريقها الفضيلة فترجع القهقرى، حرب ساحقة
ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم، وقد وقعت هذه الحرب من بعده، وكان فتكها
بأخلاق الشعوب وفضائلها، أضعاف فتكها بجحافل جيوشها وفصائلها، وصياصيها
ومعاقلها، وأساطيلها الحربية والتجارية، بل سرت عدوى هذا الفساد إلى جميع
الأمم في سائر البلاد.
كان لكل من إنكلترة وفرنسة اسم سمي ومقام علي في العالم بما نبغ في
بلادهما من العلماء والأدباء والشعراء والمخترعين والفنيين، وبما كانتا تبثان من
الدعاية لأنفسهما في برقيات شركاتهما وصحفهما وكتبهما، وألسنة من يتربى ويتعلم
في مدارسهما، وكذا ألسنة من يستميلون ويصطنعون في البلاد المختلفة وأقلامهم،
وقد كان من الإفراط والغلو في هذه الدعاية في مدة الحرب على طولها ما أعقب رد
الفعل على مدى أطول وسوء تأثير أعرض وأعمق.
كانوا يذيعون في كل يوم أن الدولة الألمانية دولة عسكرية قاسية القلب، فظة
الطبع، مسرفة في الطمع والجشع، والضراوة بسفك الدماء، والنهم بسلب الأموال،
وأنها لا تبغي من هذه الحرب إلا استعباد البشر، والاستبداد في حكم الأمم.
وأما هم فلا يبغون من قتالها إلا الدفاع عن أنفسهم وعن إخوانهم في الإنسانية،
ووقايتهم من الخطر الذي يتهدد حريتهم، واستقلال جميع الشعوب كبيرها
وصغيرها، قويها وضعيفها؛ لأن الحرية القومية كالحرية الشخصية حق طبيعي
عام للبشر، فإن ظفروا كانت العاقبة سعادة جميع البشر، وإن خسروا حاق الشقاء
بجميع البشر! ! وقد كان القدح المعلى في تعميم هذه الدعاية للدولة البريطانية،
وكان ممن خدع بها دولة الولايات المتحدة، وكان أول مخدوع رئيس حكومتها
الدكتور ولسن ذو النزعة الدينية، والعاطفة الإنسانية الأدبية، فانبرى لمساعدتهم؛
وإنما كان النصر الأخير لهم بمساعدته المادية، وبما وضعه للصلح من القواعد
(الأربع عشرة) السياسية الأدبية، وكان أول من خُدع بهذه القواعد الاشتراكيون
والعمال من الألمان ومنهم بحارة الأسطول، فأكرهوا دولتهم على طلب الصلح،
حتى إذا ما قضي الأمر، قلب الحلفاء للرئيس ولسن ودولته ولجميع البشر ظهر
المجن، وظهر من طمعهم وقسوتهم وضراوتهم وجشعهم ونهمهم أضعاف ما كان من
قبل.
أخلفوا الوعود، ونقضوا العهود، وكان جزاء العرب من الانضواء إليهم،
والخروج معهم على دولتهم العثمانية طلبًا لاستقلالهم، أن عاملتهم إنكلترة وفرنسة
شرًّا مما عاملت به جميع أعدائها من استعباد واستبداد، وسفك دماء وسلب أموال،
حتى إنهم كانوا يدمرون القرية الآمنة المطمئنة من البلاد التي كانت تحارب دولتها
تحت رايتهم على من فيها من رجال ونساء وأطفال لتهمة واهية لم تقرن ببحث ولا
تحقيق، وحتى إنهم سلبوا من مملكة الحجاز سكة الحديد الإسلامية التي جعلها
الشريف حسين تحت تصرفهم في الحرب، وكان جيشه يدمر بديناميتهم جسورها
ويقلع حديدها في أرض الحجاز نفسها، معتقدًا أنها تبنى بأموال الإنكليز بعد الحرب
وتكون له هي والبلاد المنشأة فيها! ! فلا غرو أن يزول كل ما كان لهاتين الدولتين
من حرمة ومكانة أدبية في الشرق، وأن يعتقد شعوبه أنهم شر البشر على البشر،
وأنه لا حرية ولا حرمة ولا حياة للإنسانية إلا بنقض غزلهم، ونكث فتلهم، بل
بتقليص ظلهم الاستعماري من الوجود، وهذا ما أفادت الحرب شعوب الشرق في
مقابلة ما خسروا بها.
كان سبب نجاح الإنكليز في الاستعمار الذي استولوا به على ما يقرب من
ربع البشر أنهم لم يكونوا يدخلون قطرًا إلا بدعوى قصد الخير له ولأهله: تارة
لإنقاذ الشعب من ظلم أمرائه وحكامه، وتارة لحفظ عروش أولئك الأمراء من
الثورات والفتن والفوضى، كما كان سبب نجاحهم في السياسة أنهم لم يكونوا
ينقضون عهدًا أو يتفصون من عقاله إلا بضرب من التأويل يظهرون فيه أنهم على
حق، كما قال أعظم ساسة أوربة في القرن التاسع عشر البرنس بسمارك وزير
ألمانية ومؤسس وحدتها للسنيور كريسبي وزير إيطالية في حديث لهما في تسيير
سياسة أوربة: وماذا نفعل بإنكلترة؟ قال كريسبي: نقيدها بمعاهدة، قال بسمارك:
ولكن الإنكليز أبرع الناس في التفصي من عُقَل المعاهدات بالتأويل ... ونقول نحن:
إنهم إنما يحتاجون إلى التأويل مع الدول القوية، وأما الشعوب الضعيفة كالعرب فلا
يحتاجون معهم إلى تأويل، على أنهم سمُّوا استعباد البلاد العربية التي وعدوها
الاستقلال: انتدابًا يراد به المساعدة على النهوض بأعباء الاستقلال بعد زمن غير
طويل! !
لكن هذا الظلم والاستبداد الذي ابتدعوه في فلسطين شيء غريب في تاريخهم
وتاريخ الاستعمار والاستعباد، لم يخلق مثله في البلاد، وهو لا يتفق في صورة من
الصور ولا معنى من المعاني التي وضع لها لفظ الانتداب.
هو خَلْق شعب جديد يُجتلب من أوشاب أوطان كثيرة في مشارق الأرض
ومغاربها إلى وطن شعب آخر لينزعه منه ويحل محله فيه، وتمكينه من ذلك بالظلم
والمحاباة في هاتين السنتين، ولا سيما أثناء الثورة الفلسطينية ما عجب منه
واستغربه جميع الناس في جميع أقطار الأرض.
فلئن كان هذا من غرائب ظلم الإنكليز، فأغرب منه قدرة اليهود على
توريطهم فيه، وإصرارهم عليه بعد ظهور فضيحتهم، وهتك سريرتهم، ولهذا
يخاف اليهود أن لا يدوم هذا الإصرار، وأن يُكره الشعب الإنكليزي حكومته على
إنصاف العرب والاعتراف بحقوقهم في يوم من الأيام، وهذا ما جرَّأهم على محاولة
انتزاع هذا الوطن من العرب بالمناجزة، دون ما ألفوه هم والإنكليز من نيل مآربهم
بالمطاولة، فأوقدوا نار الثورة الحاضرة، ظانين أنه يمكنهم إقناع الشعب البريطاني
وسائر شعوب المدنية من وضع تبعته على العرب بالدعاية الكاذبة، فبدا لهم من الله
ما لم يكونوا يحتسبون، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وظهر للشعب الإنكليزي
ولغيره ما لم يكونوا يعرفون، وكانت هذه الفتنة نصرًا من الله للعرب والمسلمين،
إذ نبهت شعوبهما كلها إلى التعاون على حفظ حقوقهما الوطنية والدينية في فلسطين.
وجملة القول في الإنكليز أنهم لا يزالون أقرب إلى العقل والفضيلة من
غيرهم، وبذلك يمكن الاستعانة بشعبهم على حكومتهم، وقد كان اليهود أقدر من
العرب على ذلك إلى أن أحبطت الثورة التي أثاروها عملهم، وعلَّمتْ العرب كيف
يظهرون له حقهم، ثم وُجد في هذا الشعب مَن بحث حتى عرف حق العرب واعترف
به في بعض جرائده الكبرى، وأخذ يقيم الحجج على ما للدولة من المصلحة في
اتباعه، ثم على العرب دون غيرهم إقناعها بالقول والعمل، بما في مودتهم من
النفع، وبما في عداوتهم من الضرر بل الخطر، وإنهم لفاعلون إن شاء الله تعالى.
(3)
ماضي العرب وحضارتهم
(1) العرب أعرق الأمم في التاريخ ذكرًا، وأرسخهم في الحضارة قدمًا،
فقد ثبت عند المحققين من علماء التاريخ والآثار واللغات، الذين يستمدون علومهم
من العاديات أن قدماء المصريين والكلدانيين والفينقيين كانوا من جزيرة العرب،
وهم مؤسسو أقدم الحضارات، وأن شريعة حمواربي التي عثر عليها منقبو الآثار
في العراق من الألمان عربية، وهي أقدم الشرائع التامة المدونة، وكان معاصرًا
لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم من أنباط العرب القحطانيين، وجد
العرب العدنانيين، إخوة العبرانيين، فبنو إسرائيل فرع من الأرومة العربية
السامية.
ذلك أصل الحضارة القديمة التي استمد منها اليونان فالرومان مدنيتهم، وأما
الحضارة الحديثة فواضعو أساس علومها وفنونها هم العرب العدنانيون في العهد
الإسلامي، كما يشهد لهم بذلك الحكماء والمؤرخون المنصفون من علماء الإفرنج
على ما بينهم وبين الدول الأوربية ودعاة الدين من التنازع والتخاصم.
ولا ننكر أن العرب استمدوا من كُتب اليونان والفرس والهنود الذين كانت
حضاراتهم قد درست وعفت رسومها ودُفنت كتبها في أرماس خزائن الملوك
والبيوتات، فنبشوا تلك القبور، وأحيوا تلك الرمم، وصححوا واستدركوا، وزادوا
واستنبطوا، وقرنوا العلم بالعمل، واستقلوا في ذلك حتى صار لهم فن مستقل
خاص بهم، ووضعوا من العلوم ما لم يكن لغيرهم، وكان ذلك كله في وقت قريب
خارق للعادة، فقد حقق حكيم الاجتماع الفرنسي الأكبر الدكتور (غوستاف لوبون)
في كتابه (تطور الأمم) أن ملكة الفنون لا تحصل في الأمم إلا في ثلاثة أجيال:
جيل المقلدين وجيل المخضرمين وجيل المستقلين، قال: وشذ العرب وحدهم
فاستحكمت لهم ملكتها في جيل واحد صار لهم فيه فنون خاصة بهم، وفي كتابه
(حضارة العرب) الذي صنَّفه قبل هذا الكتاب بعشرات السنين تفصيل لهذه الشهادة
والدلائل عليها والرسوم الممثلة لها، وقد صرح فيه وفي غيره ولا يزال يصرح
بأن العرب أساتذة أوربة في مدنيتها الحاضرة.
أنبياء العرب وملوكهم
(2) قد كان في العرب أنبياء مرسلون، وكان فيهم ملوك استشاريون
مقيدون، كملكة سبأ التي قالت لرجال الدولة {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً
أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32) وكان الدين هو المرشد الأول إلى الحضارة
فيهم وفي جميع الأمم، وأكثر ما بقي من آثار فنون الأقدمين وصناعاتهم عليه
الصبغة الدينية الباعثة عليه كأهرام مصر وبرابيها ونواويسها، وكذلك شرائعهم
وآدابهم، وإنما كانت تغلب البدع الوثنية على عقائد الدين الصحيحة وأحكامه التي
يجمعها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ومن أهم أركان العمل الصالح
العدل والصدق والأمانة، كما أن أعظم أركان الإيمان التوحيد، وفي آثارهم
المنقوشة ومخلفاتهم الباقية ما يدل على جميع ذلك، وممن حفظ لنا القرآن ذكرهم
من أنبياء العرب هود وصالح وشعيب حمو موسى الكليم مؤويه مدة فراره من
فرعون، واختلف العلماء في نبوة تُبَّع، وذي القرنين أعظم ملوك الحضارة
والفنون والسياحة في الأرض ولقمان الحكيم، وحسب العرب أن منهم محمدًا
رسول الله وخاتم النبيين، وهو الذي أكمل الله به الدين، وأتم نعمته ورحمته على
العالمين {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) .
منهج الإسلام والعرب في إصلاح شأن البشر
(3) إن منهج الإسلام في رفع شأن البشر هو أن إصلاح الأنفس بالعقائد
الصحيحة الداحضة للأوهام والخرافات، والأعمال الصالحة الصادة عن الفواحش
والمنكرات، والأحكام العادلة المساوية بين الناس في الحقوق والمعاملات - مقدَّم
على الترقي في العلوم والفنون والصناعات.
وهذا المنهج هو الذي سار عليه العرب المسلمون في أنفسهم وفي غيرهم في
أثناء الفتوحات، وقد شهد لهم به المؤرخ الصادق، والاجتماعي المنصف
(غوستاف لوبون) بكلمة تشبه كلمات بلغائهم في إيجازها وسعة معانيها وهي قوله
(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) ويؤيد هذه الشهادة العقل
كالنقل، فإنه لولا فضائلهم - ورأسها العدل والرحمة - لما أمكنهم أن يثلوا عرش
كسرى وقيصر في الشرق في أقصر مدة، وكانت حكوماتهما أرقى حكومات
الأرض قوة وحضارة وثروة ونظامًا؛ وإنما ثل العرشين التليدين الراسخين أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب بسيوف الصحابة رضي الله عنهم في الربع الأول من
القرن الأول للهجرة، ثم امتدت الفتوحات في الشرق والغرب، وقبل أن يتم
القرن حاصروا الروم في القسطنطينية وفتحوا كاشغر من ممالك الصين ودخلوا
أرضها من أقصى الشرق، وفتحوا أفريقية ومراكش والأندلس من أقصى
الغرب، فلولا عدلهم وفضلهم، وتفضيل جميع الشعوب إياهم على حكامهم، لما
أمكنهم ذلك مع البعد الشاسع عن وطنهم، ومهد سلطانهم في جزيرة العرب، بل
كانت تلك الفضائل هي السبب في دخول الناس من جميع الشعوب في دين الله
أفواجًا طائعين مختارين، وتبع ذلك تعلمهم اللغة العربية لغة هذا الدين وشريعته
وناشريه بمحض الرغبة، لا بدعاية الجمعيات ولا بإلزام الحكومة أو نفوذها (كما
يفعل الإفرنج في هذا العصر) .
المانع من استيلاء العرب على العالم كله
(4) لقد كان مقتضى هذا الإصلاح الإسلامي العربي أن يعم الأرض
ويملك أهله من العرب، سائر ممالك الشرق والغرب؛ ولكن حال دون ذلك تعارض
المانع والمقتضي، أما المقتضي فقد عرَّفناه إجمالاً بما تقدم، وأما المانع الذي حال
دونه فهو (على قاعدة تقابل العدم بالملكة) عدم الاستقامة على ذلك المنهج
الإصلاحي الذي شرعه الإسلام وسار عليه الرسول وخلفاؤه الراشدون، وكان أول
من سنَّ الخروج عنه معاوية بن أبي سفيان، ببغيه على أمير المؤمنين علي عليه
السلام والرضوان، ثم بإكراهه الناس على بيعة ولده الفاسق يزيد، واحتكار
السلطان لبني أمية، فهدم بذلك الحكم الإسلامي الشوروي المبني على أساس سلطة
الأمة، وأقامه على الأساس الوراثي المبني على تغلب القوة، فما زالت القوة تعمل
عملها حتى سلبتهم هذا المُلك المغصوب، وتغلغل نفوذ أعاجم الفرس في الدولة
العباسية، ثم قضى عليها همج الشعوب التركية، فتفرقت السلطة، وتمزقت الوحدة،
وزلزلت العدالة، وزالت الخلافة.
من ثم قال أحد علماء الألمان المتعصبين لجنسيتهم أنه ينبغي لنا أن نقيم
لمعاوية تمثالاً من الذهب في أعظم ساحة من عاصمتنا (برلين) وينبغي مثل ذلك
لجميع شعوب أوربة، إذ لولاه لكانت هذه الشعوب كلها عربية تدين بالإسلام، وبين
ذلك بنحو ما قلناه آنفًا؛ ولكن قال أحد أحرار فرنسة ما معناه: لقد كان من سوء
حظ أمتنا أن كان أكثر الجيش الذي فتح به العرب القسم الجنوبي من بلادنا من
بربر أفريقية الذين لم يتمكن الإصلاح الإسلامي من أنفسهم فكانوا ينقضون العهود
ويعتدون على الكنائس وغيرها، حتى أثاروا العصبية والنخوة في أنفسنا، وراجت
دعوة الاستنفار العام لقتالهم وإخراجهم من ديارنا، ولو كان أكثرهم من العرب الذين
عرفنا سيرتهم العادلة في الشرق والأندلس لما وقع من ذلك العدوان شيء، ولما
راجت الدعوة إلى قتالهم وإخراجهم، وإذًا لسبقنا أوربة في الحضارة بضعة قرون.
إسقاط حرمة الخلافة وإضاعتها
(5) كان إسقاط حرمة الخلافة أولاً بقتل الخليفة الثالث، ثم بالخروج على
الرابع، من مقدمات سقوط وحدة السلطة العربية التي انتهت بتعدد السلاطين ودول
الطوائف، وكان اتساع دائرة الفتوحات في الشرق والغرب وصعوبة المواصلات
مما يتعذر معه وحدة السلطة بدون خضوع ديني لمقام الخلافة يملك على النفس
وجدانها وعملها، فيحول بذلك دون الخروج على الحكومة والاستبداد دونها، ولئن
رتق بنو أمية ما فتقوا بتمكنهم من جمع الكلمة، وتوحيد السلطة، وتوجيه المسلمين
إلى الجهاد في الكفار، وفتح الأمصار، وحمد لهم الجمهور هذا على كراهته لفسوق
أكثرهم، فلقد كان رتقهم له بالعصبية مع الإسراف في الترف والتفريط في العلم
والتقوى رتقًا واهيًا، ولمقام الخلافة منافيًا، ولذلك كان أمده قريبًا.
قضى بنو العباس على بني أمية بقوة العصبية التي ابتدعوها، ثم قضوا بها
على خلافة النبوة التي تقلدوها، واعتمدوا فيها على الأعاجم فكانت بذلك شرًّا مما
قبلها، وإنما امتاز أوائلهم بالعلم، فبلغ الذروة في عهد المأمون، كما كان لهم مزيد
حرمة عند الأمة بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكن شان عِلمَ المأمون
نصرُه للبدعة، وما كان ينبغي للخليفة أن يتعدى حدود قطعيات الكتاب والسنة،
ويضطهد حرية الاجتهاد في العلم والدين، بنصر فريق على فريق من الباحثين،
فالملك يجب أن يكون - كما يقول ساسة هذا العصر - بمعزل عن المذاهب
والأحزاب، ثم ما زال يضعف العلم ويتضاءل نفوذ النسب، وتتفرق قوى العرب،
وتحل محلها عصبية العجم، حتى صار الخليفة شبحًا من أشباح اللعب، يُزين
بالحرير والذهب، ويُستنطق بما لا يريد أو بما لا يفهم، ويوقع على ما لا يقرأ أو
على ما لا يعلم، ويتحرك بتحريك البطانة والحاشية والحرس، وإنما يُعظَّم تعظيمًا
صوريًّا، ويُمَكَّن من اللذات البدنية ما دام مواتيًا، فإن نبا أو أبى قتلوه ونصبوا شبحًا
آخر مكانه، لا يرى وسيلة لاستدامة اللذة والفخفخة والزينة، إلا التجرد من الأمر
والنهي والرأي والإرادة.
سعي الفرس لإسقاط مُلك العرب
(6) بدأ زنادقة الفرس بالسعي لهدم مُلك العرب لاستعادة دولتهم الفارسية
وملتهم المجوسية، من طريق الدسائس الدينية والسياسية، وإحياء العصبية
الشعوبية، وتوسلوا إلى ذلك بتفريق الكلمة من طريق التشيع لأئمة البيت من آل
علي وفاطمة عليهم السلام، فشعر بذلك آل العباس رضي الله عنهم فنجحوا
باستمالة دعاية الثورة والقوة، وبقيت للعلويين دعايتا الألوهية والعصمة، وقد فطن
الخليفة العباسي الأول لخطر زعامة الثورة وإدارة الحكومة، فاحتكروا موارد
الأموال، واصطنعوا الرجال، وتم هذا الأمر للبرامكة منهم في عهد الرشيد أو كاد؛
ولكنه فطن لذلك فبطش بالبرامكة تلك البطشة الكبرى، بيد أن قوة الترك الجندية
الوحشية، قد قدرت على ما عجزت عنه سياسة الفرس الدينية والأدبية، فإنما
أثمرت دسائس شيعتهم الباطنية في إفريقية دون بلادهم وما يقرب منها، فكانت
الدولة التي أسسوها بمصر- هي الفاطمية أو العبيدية - عربية محضة باقتضاء
موقعها، ولم تستطع التغلب على الدولة العباسية بتعميم دعايتها، وأما الذين سلبوا
ملك العرب وقوضوا هيكل حضارة العرب فهم الترك، وكان الجاني الأكبر في
إدخالهم في الدولة والاعتماد على جندهم في حفظ سلطان الخلافة - هو المعتصم
الجاهل بالسنة والناصر للبدعة، وأنى له أن يفهم مغزى قول الرسول صلى الله
عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم) أو يحذر ويتقي مضمون قوله صلى الله
عليه وسلم: (أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) يعني الترك.
سلب الترك لمُلك العرب
(7) مهد التتار السبيل لبني عمهم الترك باجتياح سلطنة الخلافة العباسية
العربية بالتقتيل والتدمير والتتبير، وكان الفرس قد سبقوا إلى إضعافها بالتفريق
والتدبير، أفرطوا في تقديس الخلفاء العباسيين وتفخيمهم بالألقاب والزينة
والاحتفالات الرسمية؛ ولكنهم فرَّطوا في طاعتهم، وأزالوا ما كان من حصر وحدة
الرياسة فيهم، ففرَّقوا السلطة، واستبدوا بالدولة، وغلبوا الخليفة على أمره، وافتاتوا
عليه في حكمه، حتى تجرأوا على قتله، فوهت قوة الوحدة، وكثر السلاطين في
الدولة، ووقف سير العلم والحضارة؛ لأن العلم كان عربيًّا وكان المرشد إليه القرآن
العربي، وكان العرب هم الذين أحيوا منه ما أماته الزمان، وجددوا ما أخلقته صروف
الحدثان، وجاراهم فيه مواليهم وتلاميذهم من الفرس والسُّريان، وكانت الحضارة
عربية بالتبع للعلوم والفنون العربية، وكان الترك أبعد شعوب البشر عن العلم
والحضارة؛ وإنما عندهم من آلة المُلك: الحرب والعصبية، فكانت دولتهم دولة حرب
وفتح، لا دولة علم وفن.
وكان أكبر سيئات الترك العثمانيين إيثار لغتهم الهمجية، على اللغة العربية،
لغة الدين والعلم والأدب والحضارة، وتحريهم إضعاف الأمة العربية واستذلالها لئلا
يعود إليها حقها في الخلافة الإسلامية وحكم المسلمين؛ فإن الله تعالى بعث رسوله
محمدًا خاتم النبيين في الأمة العربية، وأنزل عليه كتابه المعجز للبشر باللغة
العربية، فجعل هدايته لهم عربية وحكمهم به عربيًّا فقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً
عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) ولذلك انتهت عداوة دولتهم للغته بعداوتها له، وهؤلاء
خلفاؤهم الكماليون يعدون التكلم بالعربية والتعلم للعربية وكتابه التركية نفسها
بالحروف العربية من أكبر الجرائم السياسية التي يعاقب قانونهم مجترحها، فلا
غرو أن يقول رسول الله النبي العربي فيما يعد من دلائل نبوته بخبر الغيب (أول
من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) وهو يدل بالإشارة أو فحوى
العبارة إن لم يكن بنصها على أن سالبي ملك أمته لا يعدون منها، وقال الحافظ ابن
حجر في شرح البخاري أن المراد هنا بالأمة أمة الجنس لا أمة الدين. ونحن لا
نطعن في إسلام الشعب التركي نفسه؛ وإنما نطعن في جهل دولته وعصبيتها،
التي انتهت بضعف دينها ودنياها، ثم بما يشكو منه كل مسلم منهم ومن غيرهم من
نبذ خلفها لكتاب الله وشرعه ظهريًّا.
استقلال العرب وحالهم بعد الحرب
(8) تغلب الترك العثمانيون على الدولة العباسية في الشرق، وخذلوا
الدولة الأموية في الغرب (إذ استنصرت بهم على الأسبانيين فلم تنصرهم)
واستولوا على مهد الحضارة العربية في العراق وسورية ومصر، فأضعفوا
الحضارة والعلم في هذه البلاد؛ ولكنهم لم يستطعيوا إماتة اللغة العربية فيها، ولا
الإدالة للغة التركية منها، ودان لهم أمراء الحجاز؛ ولكنهم ظلوا أصحاب السيادة
والنفوذ فيه وحاولوا بعد ذلك كله قهر عرب الجزيرة وإخضاعهم لحكمهم فظلوا
يقاتلونهم عليها أربعة قرون ونيف، فنقصوها من أطرافها، واستولوا على ثغورهم
البحرية؛ ولكنهم عجزوا عن قهر أئمة اليمن وأمراء نجد وإخضاعهم لحكمهم،
فالعرب الصرحاء الخُلَّص ظلوا في عقر جزيرتهم مستقلين في حكم أنفسهم، لم
يقهرهم الترك عليها، بل ظلوا يدافعونهم عنها وينتصرون عليهم فيها، حتى إذا
مزقت الحرب الأخيرة سلطنتهم الواسعة، ظهرت جزيرة العرب في الوجود مستقلة
تامة الاستقلال سالمة من كل نفوذ أو امتياز للدول الأجنبية فيها، إلا ثغر عدن الذي
اغتصبته الدولة البريطانية في القرن الماضي والمقاطعات التسع اليمنية التي تدَّعي
حمايتها ولا تتدخل في أمر حكوماتها، وإلا ما كان وهبه الملك علي بن حسين من
أرض مملكة الحجاز لإمارة شرق الأردن، وهو ثغر العقبة المنيع على البحر
الأحمر والمنطقة الممتدة منه إلى معان أهم المحطات لسكة الحديد الحجازية، فكل
من هذا وذاك موضع نزاع بين الإنكليز والدولتين العربيتين المستقلتين في جزيرة
العرب: مملكة اليمن الإمامية ومملكة الحجاز ونجد الملكية، وقد اعترفت الدولة
البريطانية بالاستقلال التام المطلق لهذه الدولة دون تلك، وعقدت معها معاهدة على
قاعدة المساواة؛ ولكن بقيت منطقة العقبة ومعان موقوفة لتحل عقدتها بالمفاوضة
السياسية، وأما الاعتراف باستقلال اليمن فقد تعددت فيه المراسلات والمفاوضات
بين الدولتين البريطانية واليمانية، ولابد أن تنتهي قريبًا برجوع الأولى عن كل حق
تدعيه فيما عدا منطقة عدن، فإنه يستحيل تركها إياها لليمن.
حال الممالك العربية اليوم
(9) ذلك شأن مهد الأمة العربية ومنبت أرومتها، ومعقل قوتها، لم يغلبها
عليه كله أحد، فهي لا تزال فيه عزيزة النفس، قوية البأس، مرفوعة الرأس،
وأما ما يتصل به من مواطن حضارتها وعمرانها، وعواصم خلافتها أو سلطانها،
وهي مصر وسورية والعراق فقد احتل أكثره الإنكليز وبعضه الفرنسيس قبل
الحرب وبعدها، وجعلوا حكوماتها العربية تحت سيطرتهم العسكرية بدعوى
مساعدتها على إصلاح شؤونها إلى أن تقوى على النهوض بأعباء استقلالها المعترف
لها به بنفسها، ولا تزال هذه الشعوب العربية تنازع هاتين الدولتين في دعواهما ما
تسميانه حق الاحتلال والانتداب، ولابد من وصولهما إلى حقهما في الاستقلال
المطلق في يوم من الأيام.
(ولا ننسى الممالك العربية الإفريقية الأربع فهي لابد من استقلالها أيضًا؛
فإن استعباد الأمم الكبيرة بالقهر العسكري لن يدوم إذا هي عرفت نفسها وحال العالم
وسنن الاجتماع فيه؛ ولكن كلامنا الآن ليس فيها) .
استحالة ظهور اليهود على العرب
(10) عُلم مما تقدم أن الأمة العربية أقوى وأعز وأفضل من الشعب
اليهودي ماضيًا وحالاً، وأرجى منه استقبالاً، فهي لا تزال ذات مُلك وسلطان،
وممالك وأوطان، ولغة حية، وشرع نافذ وعادل، فإن كانت ثروة اليهود النقدية
أكبر؛ فإن ثروة العرب الطبيعية أعظم، ألا وهي ثروة الأرض التي هي أصل كل
ثروة بأقواتها ومعادنها، وهم يملكون عشرات الألوف والأميال منها، وإن كان
اليهود أقدر على تسخير القوة البريطانية بدهائهم ومكرهم وأموالهم، فالعرب أقدر
على إبطال كيدهم هذا بكثرتهم، إذا هم جمعوا كلمتهم، وبنفوذهم في العالم
الإسلامي الذي يعطف عليهم لأنهم قوم نبيهم، وأرومة دينهم، وحفظة قبلتهم،
وعُمَّار مساجدهم الثلاثة المقدسة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى،
فإن لم يقدروا على ذلك بالإقناع البرهاني الذي يفضلونه، فسيقدرون عليه بالدفاع
الحربي الذي لا يخافونه، وقد علم زعماء الأمتين، أن ما بذلتاه من الدماء والأموال
في سبيل الدفاع عن الدولتين، لو بذلتاه في سبيل حريتهما واستقلالهما، لكان كافيًا
لهما، وأن تلك الملايين من رجالهم التي سخرتها الدولتان لأنفسهما في الحرب ما كان
يمكنهما تسخيرها بالقوة، وأنها لو ثارت عليهما في وقت ضعفهما لما فقدت في قتالهما
عُشْر ما فقدته في قتال أعدائهما، وإذًا لخسرتا الحرب وفاز بها أعداؤهما.
وقد رأوا بأعينهم، وخبروا بأنفسهم، ما كان من تأثير الثورة المصرية
الصغيرة العزلاء على بريطانية العظمى بعد الحرب الظافرة هي فيها على حين كان
جيشها من جميع الأسلحة يموج في أرض مصر، كما تموج أساطيلها في كل بحر،
وعلموا أنه لولاها لم ترفع تلك الحماية التي ضُربت عليها، ولم يعترف لهم
بالاستقلال المقيد فيها، ثم رأوا ثورة العراق التي فتحتها الدولة البريطانية فتحًا،
وأخذنها عنوة لا صلحًا، وجعلتها تابعة للإمبراطورية الهندية، وكيف كانت سببًا
لتأسيس حكومة وطنية فيها كما تقدم قريبًا، ثم رأوا الثورة السورية، وما أبلت في
القوى الفرنسية، على قلة الموقدين لنارها، وقلة ما أتيح من الوقود لها، وكونها
كانت في دائرة ضعيفة من البلاد لم تتعد النار إلى غيرها.
فهل تظن هذه الطغمة من اليهود الصهيونيين أنهم ينتزعون من قلب هذه الأمة
العزيزة قطرًا من أشرف أقطارها وأعزها، بعد أن استيقظت من رقدتها، وشعرت
بقيمة نفسها، وهبت لاستعادة وحدتها، على اختلاف مواطنها وعقائدها وتربيتها؟
وما كان ضعفها الماضي إلا بتفرقها وجهلها بقوتها ومكانتها، ومتى كان الغنى
والثراء، والمكر والدهاء، والكيد والرياء، من الضعفاء الجبناء، يطرد الأمم
القوية من أوطانها، ويغلبها على ملكها وسلطانها، والحق لها، والسيف بيدها؟
وهم إنما يعتمدون على قوة غيرهم، ولن يدوم لهم تسخيرهم، وعلى تفرق
خصومهم وقد زال، ولم يبق لاتحادهم إلا النظام وهو إن شاء الله قريب المنال.
تأثير ثورة فلسطين في العرب والمسلمين
(11) لقد كانت الثورة التي أوقد اليهود الصهيونيون نارها في فلسطين بعد
تلك الثورات الموضعية على أقوى دول الأرض، وبعد تلك اليقظة الشرقية العامة
التي أحدثتها الحرب، وبعد خيبة آمال بعض الشعوب الشرقية، التي كانت
مخدوعة ببعض الدول الغربية - آخر صيحة داعية إلى وحدة الشعوب العربية،
وتعاطف الشعوب الإسلامية، فقد اضطرب لها المسلمون والنصارى جميعًا في
سورية ولبنان والعراق والحجاز ونجد واليمن ومصر وتونس والجزائر ومراكش،
واهتز لها المهاجرون من العرب في العالم الجديد من الشمال إلى الجنوب، وظهر
أثر ذلك جليًّا قويًّا في جرائد هذه البلاد وجماعاتها بالاحتجاج والانتصار وجمع
الإعانات، وهي أول حركة عربية سياسية أظهر العطفَ عليها ملوكُ العرب
المستقلون، فقد أرسل صاحب الجلالة السعودية عدة كتب وبرقيات في إظهار
عطفه وعطف أهل مملكته النجدية والحجازية على عرب فلسطين - على بعده
واشتغاله بقمع ثورة داخلية في نجد - منها ما هو باسم سماحة زعيمها السيد أمين
الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين، ومنها ما هو
للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر (وسننشر ذلك) ومنها ما هو
لصاحب الجلالة البريطانية ملك الإنكليز، وقد تبرع لمنكوبي العربَ في هذه الثورة
بخمسمائة جنيه، وتبرع نجله ونائبه في الحجاز بمائة جنيه، وأُلفت بأمره لجنة
لجمع الإعانات بمكة جمعت مبلغًا يعد كبيرًا من أهل الحجاز، وتبرع صاحب
الجلالة اليمانية الإمام يحيى حميد الدين بثلاثمائة جنيه، وشارك العرب في هذا
الشعور والعطف على أهل فلسطين مسلمو الأعاجم، ولا سيما في الهند وجاوة
بالاحتجاج والإعانات، بل شارك الهندوس مسلمي الهند في عطفهم هذا، وتمنى
الجميع لو يرسلون جيشًا منهم إلى فلسطين لحماية المسجد الأقصى وأهله من عدوان
اليهود.
بل هذه أول مرة صرَّح فيها شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية في مصر
بالعطف على المسلمين في أثناء ثورة سياسية بينهم وبين شعب أجنبي تؤيده الدولة
البريطانية، بعد أن أجرَّت السلطة المصرية ألسنة علماء الأزهر وألجمتهم،
وحرَّمت عليهم ما هو مباح لجميع المصريين من إبداء رأيهم في الأمور السياسية،
وقد كانوا من قبل أصحاب الرأي الأعلى والقدح المعلى في جميع المصالح الإسلامية
والوطنية، حتى إنهم هم الذين ولَّوا محمد علي باشا على مصر.
ومما يصح أن يذكر بالإعجاب أن صوت الأستاذ الأكبر محمد مصطفى
المراغي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية قد ارتفع في هذه المسألة في
وقت خرست فيه ألسنة جميع أمراء مصر وكبرائها الأحرار حتى غير المقيدين
بسياسية الحكومة ومشربها، لا الوزراء والرؤساء الرسميين وحدهم، وهو من
كبارهم، فهذا فتح جديد في النهضة العربية واليقظة الإسلامية معًا (وسننشر
كلامه) .
وقد كنت اقترحت على سلفة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي في أول
العهد بظهور الطمع الصهيوني في المسجد الأقصى، والعثور على صورة لقُبة
الصخرة يعلوها العلم الصهيوني - أن يكتب فتوى على سؤال في ذلك تتضمن ما
يجب على المسلمين من استنكار ذلك، ووجوب حماية المسجد الأقصى عليهم …
فاعتذر رحمه الله فألححت عليه وأكثرت من اللوم حتى غضب، فقال: يا سيد
رشيد أتظن أنه ما بقي أحد يغار على الإسلام غيرك؟ والله إننا نغار مثلك؛ ولكنك
أنت مطلق ونحن مقيدون، وأنت تعلم أننا ممنوعون من كل شيء يتعلق بالسياسية !
مستقبل العرب مع الإنكليز
(12) إننا نرجو أن يحيط الشعب الإنكليزي العاقل بما ذكرنا وذكر غيرنا
من الحقائق، فنجد منه عونًا على حكومته بتغيير سياسته مع الأمة العربية،
والجلاء عما تحتله من بلادها الحجازية واليمنية وغيرها، والاتفاق مع حكوماتها
على ما يضمن له مصالحه الاقتصادية ونفوذه الأدبي في جميع بلادها، فوالله لو أن
في الشعب الفرنسي من الروية والتدبير مثل ما في الشعب الإنكليزي لأمكنه إكراه
دولته على تأليف دولة سورية واحدة تقضي على نفوذ الدولة البريطانية في الأمة
العربية كلها، ثم في سائر الشعوب الشرقية المتصلة بها.
كان من آفات الظفر في هذه الحرب أن الغرور قد استحوذ على عقول
الظافرين، وإن كان ظفرهم بقوة غيرهم لا بقوتهم، فلولا الولايات المتحدة
لاستولت ألمانية على جميع ممالكهم، وكان من آفات هذا الغرور أن الدولة
البريطانية ظنت أن قوة السلاح خير لها من قوى التدبير والعقل والإصلاح، وأنها
قد ورثت جميع السلطنة (الإمبراطورية) العثمانية باحتلال القسطنطينية، وأنها
ستملك بلاد إيران والأفغان بالأساطيل الجوية، كما رسخ قدمها في مصر وسائر
البلاد العربية، وأنه قد تم ما كانت تحلم به من امتداد إمبراطوريتها من حدود برقة
إلي حدود الصين من الغرب إلى الشرق، ومن الإسكندرية إلى الكاب من الشمال
إلى الجنوب، فبدا لها من جميع هذه البلاد ما لم تكن تحتسب، بل بدا لها من الهند
ينبوع ثروتها الثرور، وسوق تجارتها التي لا تبور، ما لم يكن يخطر لها ولا
لغيرها ببال، إذ هب مئات الملايين فيها يطلبون الاستقلال، وينذرون الدولة قرب
الزوال، وطفق الباحثون من علمائها يبحثون في هِرمها، ويقدرون ما بقي من
عمرها، على قاعدة قول الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه ... ترقب زوالاً إذا قيل تم
ولكن هذا كله قد كبح جماح ذلك الغرور، وتغلب حزب العمال المعتدل على
حزب المحافظين المغرور، وجنح حزب الأحرار إلى العمال، فمن ثم قويت الآمال
بمراعاة هذه الدولة العظيمة لمقتضى الحال، وطول بقائها في أوربة كلسان
الميزان.
بشارات أنبياء اليهود في المسيح والمُلك
(13) اليهود الماديون واللادينيون يتكلون على إنكلترة في إعادة ملك
سليمان وهيكله إليهم كما تقدم؛ ولكن دين الإنكليز وشرفهم ومصالحهم المرتبطة
بأربعمائة مليون من المسلمين ومن العرب غير المسلمين أيضًا تأبى عليهم ذلك، على
تقدير قدرتهم عليه.
واليهود المتدينون يعتمدون على بشارات أنبيائهم، وهذه البشارات مبهمة
ومشروطة باتباعهم لوصايا التوراة كلها، وقد تركوا هذا عندما كان ممكنًا، وقد
أصبح غير ممكن، ثم إنه مقيد بمجيء المسيح وجريان ذلك على يديه، وقد جاء
المسيح الحق عليه السلام فكفر أكثرهم به، فأيد الله تعالى من آمن به على من كفر
كما قال عز وجل في آخر سورة الصف {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت
طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14) وقد
كتبنا مقالاً طويلاً في بيان تلك البشارات وما كان من قيودها وشروطها وما تقتضيه من
حرمانهم من أرض الميعاد والمُلك إلى الأبد، سننشرها في الجزء الآتي إن شاء الله
تعالى.
أنباء خاتم النبيين في أمر اليهود مع المسلمين
(14) إن عندنا معشر المسلمين بشارات من خاتم النبيين وواسطة
المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم أوضح وأفصح وأصرح من بشارات أنبياء
اليهود، كأخبار المسيح الدجال الذي يظهر فيهم، فيتعصبون له ويقاتلون المسلمين
والنصارى في فلسطين وغيرها، فيُخذلون ويغلبون على أمرهم، ومنها ما رواه
البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا
يهودي ورائي فاقتله) وله روايات أبسط من هذه الرواية، فاحذروا أيها
الصهيونيون المتهورون أن تعجِّلوا بفتح باب البلاء على أنفسكم، بل احذروا وقد
فتحتموه أن تصروا عليه، وأرجئوه إلي مجيء مسيحكم، فإنا له مرجئون،
وانتظروا فإنا منتظرون.
__________
(*) الإفك: صرف الشيء عن وجهه الحق إلى غيره.(30/450)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السيد عبد الباسط فتح الله
وفاته وملخص ترجمته
في غرة جمادى الأولى من هذا العام رزئت مدينة بيروت، بل القطر
السوري، بل الأمة العربية والملة الإسلامية بوفاة فرد من أفرادها، وبدل من أبدالها،
وشهيد من شهداء الحق، وحجج الله تعالى على الخلق، صديقنا الوفي وأخونا في
الله عز وجل، وأحد تلاميذ شيخنا الأستاذ الإمام ومريديه في ديار الشام، وبتربيته
وإرشاده كان من أركان الإصلاح في العلم والعمل، والأخلاق والأدب، ومن الكُتاب
المجيدين، والخطباء المؤثرين - الأستاذ السيد عبد الباسط فتح الله رحمه الله تعالى
وأثابه، وأحسن مرجعه إليه ومآبه، ثم أحسن عزاءنا وعزاء أهله ووطنه عنه،
وعظَّم أجرنا جميعًا بمصابنا فيه، توفاه الله تعالى عن ستين سنة هجرية كاملة، إثر
مرض طويل أعيا الأطباء، وتعذر الشفاء. وقد كبر مصابه على عارفي فضله،
فأبَّنوه عند دفنه، ثم أقاموا له حفلة تأبين في اليوم الأربعين من تاريخ فقده، تبارى
فيه خطباء بيروت وشعراؤها في رثائه، وذكر مناقبه نظمًا ونثرًا.
وإننا نقتبس ترجمته التاريخية مما ألقاه في تلك الحفلة صديقنا وصديقه الأستاذ
الشيخ أحمد عمر المحمصاني الشهير، وهو مأخوذ من ترجمته لنفسه التي نشرتها
مجلة المجمع العربي في دمشق ومما عرفه المترجم بنفسه منه وعنه بطول المعاشرة
في القرب، وكثرة المكاتبة في البعد، كُنا قد كلفناه كتابة ذلك لأجل نشره في المنار،
فكتبه وألقاه في حفلة التأبين ثم أرسله إلينا فلخَّصنا بعضه وتركنا أقله وأثبتنا أكثره
بحروفه
فمما ذكره المترجم أن كلاًّ من والديه رحمهما الله تعالى (من أسر بيروت
القديمة ولنسبهما صلة بأهل البيت النبوي الكريم) ومما بلغنا من صفة والده أنه كان
رجلاً صالحًا تقيًّا، وحدَّثنا الفقيد عنه أن الشيخ يوسف النبهاني (الخُرافي الحشوي
المعروف) حمله عند سفره إلى الحج بعض كتبه لأجل توزيعها في المدينة المنورة
فكان من أمره أنه قبل وصوله إلى المدينة بليلة واحدة - على ما أذكر - رأى النبي
صلى الله عليه وسلم في منامه فأمره ألا يدخل مدينته بتلك الكتب، وفهم منه أنه
صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنها، فألقاها أو دفنها في مكان قبل دخولها، ولما
عاد من الحج جاء الشيخ النبهاني للسلام عليه في داره وكان عنده كثير من الزائرين،
فلما دخل عليه ودنا منه ليعانقه لم يملك لسانه أن قال له: يا شيخ يوسف إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم غير راض عنك، فبُهت النبهاني وأحجم لقوله، واستغرب
الحاضرون ذلك ووجموا لسماعه، فذكر لهم رؤياه المذكورة، ثم قال المترجِم:
(نشأته) ولد عام 1288 هجرية، وتعلم القراءة والخط وأوليات الحساب
في مدرسة المرحوم الشيخ حسن البنا، ثم في سنة 1300 دخل المدرسة السلطانية
التي فتحت في بيروت، فتعلم فيها العربية والتركية والإفرنسية وما إليها من الفنون،
وكان من أساتذته فيها أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده، وعنه أخذ علوم
البيان والمنطق والتوحيد والأحكام العدلية (مجلة الأحكام الشرعية) وكانت له به
عناية خاصة، فقرأ له في بيته أثناء العطلة المدرسية وليالي رمضان فصولاً من
متن التهذيب في علم الكلام والسيرة النبوية.
(ولما اضطرب نظام المدرسة بتدخل السلطة العسكرية في إدارتها برحها
الأستاذ الإمام، فتبعه المترجَم ولزم مجلسه حتى أشار عليه بدخول الكلية البطركية
لإتمام ما كان حصَّله في المدرسة السلطانية من اللغة الإفرنسية والفنون، فدخلها
عام 1888 وحضر فيها دروس أستاذ اللغة العربية الشيخ إبراهيم اليازجي،
ودروس غبطة الحبر العلامة البطريرك ديمتريوس القاضي في الآداب الإفرنسية
والتاريخ القديم والحكمة الطبيعية، واكتسب من ميل هذا الحبر ورعايته، ما لا يقل
عن اهتمام الأستاذ وعنايته، ثم خرج من هذه الكلية وقد نال شهادتها العلمية، مع
جائزة الشرف في العلوم العربية) .
(وكان يختلف أثناء العطلات المدرسية، وفي أوقات الفراغ بعدها إلى
مجالس الأستاذ المحدث الشهير الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت السابق
رحمه الله، فسمع منه مع فريق من طلبة العلم جملة صالحة من صحيح البخاري) .
وهنا ذكر المترجِم شيئًا من سيرته في حياته العلمية ثم قال:
(خدمته للعلم) بيد أن مشاغله الإدارية والتجارية لم تكن تمنعه مما يهوي
إليه فؤاده من خدمة العلم ونشره، فقد دعاه الأستاذ الناهض المقدام الشيخ أحمد
عباس إلى معاونته على تأسيس مدرسته الشهيرة (بالمدرسة العثمانية) فلبَّى الدعوة،
ونشط للخدمة، إذ وجد فيها متسعًا لتحقيق أمانية في الإصلاح، وظل يتبرع
بمشاطرة الأستاذ - المشار إليه - تدبير مدرسته وتنظيمها، ويلقي فيها المحاضرات
الأدبية، ويعطي الدروس في الجغرافية والطبيعيات والتعريب، إلى أن قضت
السياسة التورانية بإقفالها أوائل أيام الحرب.
(على أن سعيه نحو غايته من بث العلم لم يكن لينحصر في سبيل تعليم
البنين وتربيتهم، بل كان تثقيف البنات والوفاء لهن بحقهن من العلم والتهذيب مناط
همه الأكبر، فبالرغم من المصاعب الجمة التي كانت تعترض الساعين في تنوير
الأمة (خصوصًا العربية) أيام عبد الحميد قد وُفِّق مع طائفة من المفكرين
الناهضين لتأسيس (جمعية ثمرة الإحسان) بُغية تحسين حالة الأنثى المسلمة،
وأنشأوا لها مدرسة حَوَت العدد الجم من البنات، ومن تلميذاتها اليوم من تدير إحدى
مدارس الحكومة، واشترك كذلك مع فريق من أصحاب الشأن في تأسيس (جمعية
مآثر التربية) التي غايتها معاونة الطلبة المعوزين على تحصيل العلم العالي أو
الإخصاء في أحد فروعه في كليات بيروت أو جامعات أوربا، ومن أبنائها من هم
اليوم في عداد الأطباء، والمحامين وأهل القضاء.
وانتُخب لعضوية (جمعية المقاصد الخيرية) وما زال يدأب في خدمة
مدارسها وأنظمتها على نحو خدمته للمدرسة العثمانية، ومدرسة ثمرة الإحسان من
قبل، كما أنه قام بتدريس الديانة والتهذيب للصفوف المؤلفة من البنات المسلمات
في المدرسة السورية الأهلية) .
(أثر قلمه) تراه وهو في غضون تلك الأعمال السابقة يغتنم الفرصة،
ويفترص المناسبة لبث الأفكار الصحيحة والمبادئ السليمة، ويلفت الأنظار إلى
حقائق الأمور وتعرُّف المصلحة العامة والاعتدال في الأخذ بالجديد والمحافظة على
القديم، عاملاً بسنة أستاذه الإمام في الدعوة إلى ترك الجمود على التقليد الضار،
وخلط الدين في كل شأن من شؤون الدنيا.
(تلك المقاصد والموضوعات تراها منبثة في مقالاته وخطبه جارية من بيانه
مجرى الدم من جثمانه، فمن غرر مقالاته المشهورة: النهضة الاقتصادية، الألفة،
التمدن، الصدق، التعصب، العلم روح المدنية، والمدنية معنى الإنسانية، الميسر
وأضراره، ذكرى من سفر في وصف قلعة بعلبك، المداواة الحديثة، تأثير السجايا
في الأعمال، لبوس الصيف والنسيج الوطني، الرقيقة إمبراطورة (كتبها عن
هنري إمبراطورة الصين) العافية نور على هام الأصحاء لا يدركه إلا الضعفاء،
غريبة في عالم الصناعات، العبادة عادة والدين المعاملة، بحث في الصحافة،
اللجان الخيرية، في الكستنا أو الشاه بلوط، الإسلام (مقالة رد فيها على مقال
للمسيو كولرات نُشرت في جريدة الدبيش كولونيال بعنوان ضد الإسلام) تصويت
النساء، في شأن المرأة، في المدافعة الملية، الهرم، وصية منتحر، احتفال
الجمعية الكيماوية، الحكم على الكلاب بالإعدام (يداعب فيها البلدية) المحاميات،
عبد الله باشا فكري والهيئة الجديدة (قرَّظ بها رسالة عبد الله باشا فكري وزير
معارف مصر في المقارنة بين الهيئة الجديدة وتطبيقها على النصوص القرآنية)
ذكرى العاقل وتنبيه الغافل (قرَّظ بها رسالة بهذا العنوان للأمير الكبير السيد عبد
القادر الجزائري) مجالس الوعظ في رمضان، الظاهر المألوف من المفروش
والملبوس، كلمة في بلدية بيروت، وهذه نشرت في جريدة ثمرات الفنون مع كثير
من المقالات.
وله مقالة عنوانها (التجارة محور السياسة) نُشرت في الثمرات عدد
1284 أتى فيها بالعجب العُجاب في بيان سر الاقتصاد عند الأمم الراقية، وأن
التجارة هي حفظ السعادة وقوام العمارة، إلى أن ختمها بقوله: ولو بحثت من
الأمور السياسية في أدقها وما قد لا يُشتم منه ريح التجارة لتحققت أن التجارة سره
ولبابه، مهما اختلفت مظاهره وتلونت أثوابه، ولأدركت أن التجارة هي غاية السلم،
غاية الحرب، محور السياسة، فضلاً عن أنها قطب رحى الحياة المدنية.
وله مقالة عنوانها (الإصلاح من طريق العلم والتهذيب) نشرت في العدد
الأول من مجلة الكشَّاف، ومما يناسب أن يخص بالذكر في هذا المقام دلالة على
شعوره الأدبي ما كتبه بُعيد خروجه من المدرسة في بيان حاجة العربية إلى تأسيس
مجمع علمي ينقسم إلى شعب تتفرغ كل منها للعمل في سد جانب من عوز اللغة
(الأمر الذي لم يتم لنا إلا بعد ثلاثين سنة) .
وإذا تأملت في مقالاته فإنك تجد رجلاً اجتماعيًّا يخوض في مواضيع شتى،
وهو هو بقلمه المتين، وعبارته الجيدة، وحجته الناصعة، فبينا تراه يكتب في
موضوع أخلاقي يشبعه درسًا، فإذا به في مقال آخر يصف شيئًا فيقربه إليك كأنك
تراه ماثلاً أمامك، وتارة تجده في موضوع أدبي أو علمي أو اجتماعي أو زراعي
أو تاريخي يوضح لك المحجة، ويقرع الحجة بالحجة.
وأما خطبه الممتعة فحدِّث عن البحر ولا حرج، ومن الذي لا يذكر مواقفه
في المدرسة العثمانية (الكلية الإسلامية الآن) وأقواله التي تملك الآذان بلا
استئذان، مع ثبات جأش، وقوة عارضة، ومتانة في الجمل والكلمات، ورقة في
الأسلوب والعبارات، والذين شهدوا خطبه في معنى المسلم وفي الأخوة الدينية،
وعن المدرسة الإسلامية في أول نشأتها، وفي الروايات الأدبية وتأثيرها،
ومحاضرته عن أبي العلاء المعري وعن التمثيل وفوائده يعرفون المواهب التي
وهبه الله إياها، ويدركون عظيم الخطب بفقد الأمة له، وهي في أشد الحاجة إلى
العاملين المخلصين المصلحين) .
رحم الله منك نفس كريم ... وقليل من النفوس الكرام
ثم ذكر مما ترجمه بالعربية عن الفرنسية (كتاب التدريس العلمي ليولبرت
أحد نظار المعارف الإفرنسية، وكتاب فلسفة السياسة لغوستاف لوبون، وكتاب
الرين ووستفاليا لجول هوره، وترجمة فصل من كتاب سر تقدم الألمان، وهذه
الأربعة لم يتمكن من إتمامها، وقد أتم تعريب رسالة (مسألة النساء) لأرنست
لوكوفي وجعل لها مقدمة جليلة جدًّا.
ومن أهم مميزات الفقيد: الإنصاف في المناظرة والمحاورة، وهذا مما
امتاز به وعرفه له مخالطوه ومعاشروه، كما أنه من أكبر الأدلة على المتانة
والرسوخ في العلم، ومن أجل المواهب التي يؤتاها النابغون، ولا يوجد بعد العلم
حلية لأهل العلم مثل الإنصاف فيه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35) .
ومن أعظم مميزاته اعتناؤه الكلي بالتنظيم في الأعمال التي أدارها
وبالأخص فيما يتعلق بالعلم والتعليم، وما دخل في مصلحة إلا وكان له فيها الأثر
الخالد. ...
وقد ظهرت هذه الميزة في رئاسته لنادي رأس بيروت فقد وضع نظامه
وأحكم أساسه، وتولى بنفسه إلقاء المحاضرات الممتعة والمواضيع النافعة مع بعض
إخوانه، ولو قُدِّر لهذا النادي البقاء لكان من مفاخر بيروت الجميلة، ومن أهم
الأندية في البلاد؛ ولكن مداهمة الحرب العامة ذهبت بكل ما كان يُنتظر من هذا
النادي الجليل في الإصلاح المطلوب.
إن الفقيد بسيرته هذه وعلمه الجم، وعلمه الخالص الأتم، كان حجة الله
على كثير ممن عرف العلوم العصرية واللغات الأجنبية، ولم تكسب أمته من علمه
ومعرفته شيئًا يرقيها ويفيدها بنقل أو تعريب، أو دفاع عن حوزتها وكيانها وعمّا
يتهمها به الأعداء من الطعن في معتقداتها أو الحط من مفاخر أسلافها.
وحجة الله أيضًا على كثير ممن تذوقوا العلم فوقفوا عند القشور، واشتغلوا
بسفاسف الأمور، ولم ينفذوا إلى اللباب، فأضاعوا أنفسهم وأمتهم وضاعوا عن
الصواب.
حياة كلها علم وعمل، وجهاد وأمل، ودعوة إلى الحق، وثبات وصدق،
وصبر واحتمال، وسير حثيث إلى الكمال، مع إنصاف في المناظرة، وأنس في
المحاورة، ووقوف عند الحدود الشرعية، ودعاء إلى السنة السنية، ونفور من
البدع، لا تأخذه في الحق لومة لائم.
فهذه آثار ناطقة بسمو مداركه وعلو مكانته، في أي بحث طرقه، أو أي
موضع تناوله، كان ابن بجدته، فقد جمع ما تفرق في غيره اهـ.
هذا وإنني أختم هذه الترجمة بالتنويه بمقال كتبه لنا باقتراحنا عن سيرة
الأستاذ الإمام في بيروت ليُنشر في الجزء الأول من تاريخنا له، فرحمهما الله تعالى
وحشرنا وإياهما مع {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} (النساء: 69) .
__________(30/469)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فريضة الحج
ودعاية ملاحدة السياسة الشريفية لتركها
بفتاوى يفترونها
لما ولَّى الله إمام السُّنة الملك عبد العزيز بن سعود أمر حرمه وحرم رسوله،
لم يجد أعداؤه وسيلة للحيلولة بين العالم الإسلامي وبين رؤية عدله وإقامته لشرع
الله وإحيائه لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا دعوتهم إلى ترك فريضة الحج
وهدم هذا الركن العام من أركان الإسلام انتقامًا منه لهدمه هياكل الوثنية التي بنيت
على قبور آل البيت والصالحين برغم السنة النبوية.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله فرض الحج بنص كتابه
المحكم على من استطاع إليه سبيلاً، وقال عقب ذلك: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) فمن استحل تركه بغير فقْد هذا الشرط
(الاستطاعة) فهو كافر خارج من دين الإسلام؛ ولذلك لم تؤثر تلك الدعاية إلا في
بعض الجاهلين، والحجاج يزدادون عامًا بعد عام، وينشرون فضل ابن السعود في
العالم.
وقد علمنا في هذه الأيام أن دعاة بيت المُلك المفقود من الحجاز جددوا هذه
الدعاية نفسها، وأرسلوا الكتب من مصر إلى جاوة وسنغافورة وعدن واليمن
والهند وسائر الأقطار الإسلامية التي لهم معارف فيها يحثونهم على صد الناس عن
الحج، بدعوى أن مُلك ابن سعود في الحجاز وفي نجد أيضًا على وشك السقوط
بانتصار بعض الخارجين عليه في نجد بقيادة ابن الدويش، ويستندون في هذه
الدعوى على ما ينشرون في جرائد مصر من الأراجيف؛ ولكنهم من جهة أخرى
يشيعون أن الدويش هذا متفق مع أولاد الملك حسين والإنكليز على ثل عرش ابن
سعود ليعيدوا الحجاز إلى الملك حسين أو نجله علي، فإن كانوا واثقين بهذا وبقرب
وقوعه فالمعقول أن يدعوا الناس إلى الإقبال على الحج لا على تركه.
وقد ورد عليَّ اليوم كتاب من بعض المسلمين الغيورين على دينهم في عدن،
ذكروا فيه أن دعاة هدم ركن الإسلام العام عادوا إلى الدعاية الأولى بتفنن جديد في
الكذب، فقد جاءوا فيه بعد رسم المخاطبة:
(لا يخفاكم يا سيدي أنه جاء أخيرًا إلى هذه البلدة فرقة من الناس أذلهم الله
وأصابهم بداء البغض لجلالة الملك عبد العزيز آل السعود أيَّده الله، ولا عمل لهم
إلا التجول في الأسواق وثلب هذا الملك الجليل الوافر العرض، وكنا لا نلتفت إليهم
ولا نأبه بما يقولون حتى ابتدءوا ينشرون الفتاوى بأن الحج لا يجب في هذه الأيام
بسبب وجود الحكومة النجدية في البلدان المقدسة.
وأخيرًا أظهروا للناس أنهم كاتبوكم وأقنعوكم بالأدلة وأجبروكم على
الموافقة على فتواهم هذه.
أما نحن فإننا أخبر بهم، ونعلم أنه لا يرضى بقولهم إلا مخبل؛ ولكن
خشينا على عامتنا أن يسري إليهم هذا الداء، أي داء بغض العرب الناشئ عن
بغض مليكها الجليل.
فبادرنا بكتابة هذه الأسطر إليكم راجين منكم جوابًا تخدمون به الدين
والدولة، ونرجو أن يكون ردكم على صفحات الشورى الغراء؛ لأنها أشهر الجرائد
هنا وتطَّلع عليها أكثر أهالي هذه البلدة، وفي الختام اقبلوا فائق الاحترام) اهـ.
(الجواب) كنت أود لو أرسل إليَّ هؤلاء الغيورون نسخة من الفتوى التي
أشاروا إليها لنرى على أي قاعدة من قواعد الجهل والكفر استحل هؤلاء المساكين،
هدم هذا الركن الإسلامي الركين، وأي نص من نصوص الكتاب والسنة أو من
اجتهاد الأئمة أوردوا في فتواهم استدلالاً على أن وجود الحكومة السعودية في
الحجاز مُسْقِط لفريضة الحج عن المستطيع خلافًا لنص كتاب الله تعالى؟ إذ لا يبعد
أن تدل الفتوى على أن فرض استقبال الكعبة المشرفة في الصلاة قد سقط عن
المصلين بوجود هذه الحكومة هنالك، وولايتها على بيت الله تعالى! فإن الجهل
ليس له حد يقف عنده.
يسهل علينا أن نقنع كل مسلم، وإن كان عاميًّا جاهلاً بضلالة هؤلاء الداعين
لهم إلى هدم بعض أركان دينهم اتباعًا لأهواء السياسة والملك، إذ لا يجهل أحد منهم
أن الحج من أركان الإسلام المفروضة على كل مستطيع له، وكتاب الله وكتب
السنة الصحيحة موجودة بين أيديهم فكذبهم عليهما مفضوح، وإذا كان كذبهم علينا
ظاهرًا أنكره العقلاء بدلالة عقولهم، وها نحن أولاء نظهره لغيرهم على صفحات
هذه الجريدة وغيرها، فكيف بكذبهم على الله ورسوله وأئمة المسلمين؟
وأما الذي يصعب إظهار كذبهم وافترائهم فيه فهو ما يرجفون به في تعظيم
أمر ثورة الدويش في نجد على ملكه وإمامه، وبيان أن ما يتوقعونه من الشر
ويفرحون به ليس خيرًا لهم، بل هو شر لهم ولغيرهم، ولماذا يصعب إظهار
افترائهم فيه؟ لأنهم يدعون أن ما يقوله كل أحد غيرهم كذب، وأن ما يقولونه هم
هو الحق والصدق وحده، فليس علينا إلا أن ننتظر قليلاً كما انتظرنا كثيرًا في
حادثة حصر الإمام ابن سعود لجدة والمدينة المنورة وما كانوا يذيعونه من أخبار
ضعفه وقرب طرده من الحجاز، فظهر كذبهم وإرجافهم للعالمين، والعاقبة للمتقين.
(علاوة) هذا ما كتبناه في اليوم الذي وصلت إلينا فيه رسالة عدن ونشرناه
في جريدة الشورى إجابة لطلبهم، وقد كتبنا في الجزء الماضي مقالة مستقلة في
فتنة نجد: أسبابها ونتيجتها وأهمها الدسائس الشريفية، ومن توفيق الله تعالى لابن
السعود حماقة أعدائه وجهل دعاتهم التي تنتهي دائمًا بظهور خذلان الله تعالى لهم
{أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
__________(30/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية
استبشر طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وجناحيها من الشرق والغرب بما
ظهر من الشيخ محمد مصطفى المراغي منذ ولي أمر الأزهر من فكر ثاقب، وعقل
راجح، وعلم واسع، وهمة عالية، وشجاعة أدبية ظاهرة، وما أنتجت هذه المزايا
من قانون للإصلاح مبيِّن لأقوم مناهجه، وأرفع معارجه، وأبعد مقاصده، وما بذل
من جهد، وأنفق من وقت في السعي لإقرار الحكومة إياه، وصدور المرسوم
الملكي بتنفيذه، ثم راعهم في آخر يوم أو آخر ساعة من هذه المرحلة أن علموا أن
الاستاذ الأكبر قد استقال من منصبه؛ لأن جلالة الملك توقف عن إصدار المرسوم
به، فوجمت النفوس، وضاقت الصدور، وأكبر الناس الأستاذ المراغي في
استقالته، وعدم مبالاته بجاه المنصب الرفيع وما يتقاضاه من ألوف الجنيهات فيه،
أضعاف ما أكبروه فيما أشرنا إليه من مزاياه، إذ به ثبت لهم أن الرجل قد وقف
حياته على خدمة دينه وإن بذل في سبيله دنياه، وعلى رفعة شأن ملته وأمته، لا
على منفعة نفسه وأهله وولده، وأن نفسه الزكية نسخة من نفس شيخه الأستاذ الإمام،
وأنه لابد للمسلمين أن يستفيدوا من مواهبه في يوم من الأيام، وقد نوَّهت بذلك
الجرائد وعدُّوا استقالته إحدى الكبَر، والنذر والعِبر.
ويظن الكثيرون أن لدسائس خصوم الإصلاح تأثيرًا في الصد عنه اليوم كدأبهم
بالأمس؛ ولكننا نعلم أن ذلك القانون الإصلاحي هو رغيبة جلالة الملك فلا قنوط
بما عرض دونه ولا يأس، وقد عادت الحياة الدستورية إلى البلاد، ولن ترضى
الأمة أن يظل الأزهر على ما انتهى إليه أمره من اضطراب.
ولما أصر الأستاذ المراغي على استقالته بعد مراجعة أولي الشأن له في
الرجوع عنها صدرت إرادة جلالة الملك بجعل صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد
الظواهري شيخًا للأزهر، ورئيسًا للمعاهد الدينية، وهو من تلاميذ الأستاذ الإمام
أيضًا فلا يخفى عليه شيء من حاجة الأزهر إلى الإصلاح؛ ولكنه يؤثر التريث
فيما يراه منه، ومداراة المعارضين فيه، ونسأل الله تعالى أن يوفقه ويوفق ولاة
الأمور إلى ما فيه الخير للمسلمين، واغتنام الفرص قبل فواتها آمين.
__________(30/478)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
كتب التاريخ العصرية في مصر وسورية
كنا من أول العهد بهجرتنا إلى مصر منذ ثلث قرن نعجب لتقصير المصريين
في تأليف كتب لتاريخ هذا القطر وغيره على الطريقة العلمية الحديثة، التي
درسوها وعرفوا فلسفتها ومناهجها وأساليبها، ثم زال العجب فرأينا القوم ينسلون
للتأليف في أنواع هذا التأريخ من كل حدب، وقد قرَّظنا في العام الماضي كتاب
(حوليات مصر السياسية) لصاحب السعادة صديقنا أحمد شفيق باشا، ثم صدر في
هذه الأيام (الحولية الثالثة) من هذه الحوليات، وهي تدخل في المجلد السادس من
تاريخه الكبير، إذ كانت الأولى والثانية في الجزأين 4و5 وهما لحوادث سنتي
1924 و1925، فالثالثة لحوادث 1926 وثمن هذا الجزء ثلاثون قرشًا يُضاف
إليها أجرة التجليد والبريد لمن طلبه من الخارج وهو يباع في مكتبة المنار.
(تواريخ سعادة أمين سامي باشا)
أمين سامي باشا عالم نحرير، ومؤرخ محقق، ومهذب متدين، ولعله فاق
جميع علماء فن التربية والتعليم عندنا في الجمع بين العلم به والعمل، وقد خدم
وزارة المعارف عشرات السنين خدمة جليلة من أهمها نظارة مدرسة دار العلوم التي
يتخرج فيها معلمو الدين والفنون العربية في جميع المدارس الأميرية، فكانت
التربية في عهده خيرًا مما آلت إليه من بعده، على ما كان من مراقبة الإنكليز
للمدارس التي كان من مقاصدها الخفية إطفاء نور الإسلام، والوقوف بالعلم عند
حدود التقليد ومظاهر النظام؛ ولعله لو ظل ناظرًا لها إلى اليوم لما تفرنج طلابها
في الأزياء، ولما نزعوا العمائم وتركوا الصلاة! لا أقول كلهم، بل أكثرهم أو
كثير منهم.
وقد أخرج للناس في شيخوخته كتابين جليلين لم يسبقه إلى مثلهما سابق،
وهيهات أن يدركه في موضوعهما لاحق:
(الأول: كتاب التعليم في مصر)
وهو كتاب جامع لما يهم العلماء والخواص معرفته من أحوال التعليم في
مصر في العصور الأولى بالإجمال، وفي هذا العصر بالتفصيل، وقد وضع فيه
لحالة المدارس في أيامنا إحصاء دقيقًا في جداول متنوعة يرى المطلع عليها عدد
المشتغلين بالتعليم ونسبتهم إلى الألف على مقدار انتشار التعليم في كل محافظة أو
مديرية بالنسبة إلى سكانها، وعلى نسبة المصريين والمصريات الذين في
مدارس الأجانب، ونسبة الأجانب الذين في المدارس المصرية، ونسبة
المحرومين من التعليم إلى المتعلمين من بالغي سن التعليم الأولي والابتدائي إلى
غير ذلك من البيانات المفيدة التي تظهر من الجداول الإحصائية الموضوعة بدقة لا
يعادلها إلا الحذق في استخراج النتائج منها، وفيه بيان مناهج التعليم كلها ولوائح
الشهادات والدبلومات من وقت تقريرها إلى الآن، ويزدان بعشرات من الصور
لولاة الأمور ووزراء المعارف وأعضاء البعثات التي أرسلتها الحكومة إلى أوربة،
فهو كتاب لا نظير له، ولا غنى عنه، وهو مطبوع في المطبعة الأميرية على ورق
جيد من القطع الكامل، ومجلد بالقماش تجليدًا حسنًا، وثمنه جنيه مصري.
(الثاني: كتاب تقويم النيل وعصر محمد علي باشا)
وهو جزآن: الأول منه مؤلف من مقدمة في 134 صفحة ما عدا الخرائط
تضمنت كل الحقائق المتعلقة بأمر النيل، وفيها رسوم (خرائط) ملونة تمثل
حركات الرياح، وضغط الجو، وبحيرة تسانا، ومخارج الأنهر التي تسبب
الفيضان، ووقوع الأمطار، ويلي المقدمة المقصد الأول من الكتاب وهو تقاويم النيل
من ابتداء السنة الأولى من الهجرة إلى سنة 922هـ 622م، ويليه المقصد الثاني،
وهو الفوائد التاريخية الصحيحة وسلسلة تاريخ مصر على التفصيل وتاريخ الخلافة
الإسلامية على الوجه العام في ذلك الزمن كله، وصفحاته 251 وهو كسابقه طبعًا
وقطعًا وتجليدًا، وثمنه جنيه مصري.
(الجزء الثاني منه) وهو يشتمل على ما علم من أمر النيل في كل سنة
ابتداء من سنة 923هـ لغاية سنة 1264 هـ (1517 م إلى 1848م) وصحفه
حافلة بالفوائد التاريخية المحققة الدقيقة الصحيحة في ذلك الزمن، وبالأخص عصر
محمد علي باشا، الذي أُنقذت مصر في عهده من وهدة الانحطاط التركي، وارتقت
مرتبة عالية من مراتب الرقي.
وهو مزدان بإحدى وخمسين صورة من صور محمد علي باشا، وصور
رجال عصره النادرة مع نهاية الإتقان والوضوح، وصحفه 622 صفحة، وطبعه
كسابقه من كل وجه، وثمنه 150 قرشًا، وتُطلب هذه الكتب كلها من مكتبة المنار
في شارع الإنشاء بمصر.
__________(30/479)
شعبان - 1348هـ
يناير - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جوابنا عن أسئلة الربا في الفتوى الهندية
أشهد أن رسالة الاستفتاء في مسألة الربا رسالة نفيسة، وأن كاتبها المستفتي
المفتي قد حقق الموضوع أحسن تحقيق في مذهب الحنفية، فهو حقيق بأن يُعَدُّ بها
مجتهدًا في المذهب - لا في الكتاب والسنة - على سعة اطلاعه في التفسير
والحديث، وإننا نبين رأينا مجملاً مختصرًا في المسائل الأربع التي لخص بها
الرسالة، وأفتى فيها وعرض فتواه على علماء المسلمين في الأمصار مستفتيًا عنها،
ثم نعود إلى تحقيق البحث بما أرانا الله تعالى من فقه الإسلام، غير مقيد بمذهب
من مذاهب أئمته الأعلام؛ لأن الموضوع من المسائل التي تنازعوا فيها في جملتها
والله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وأخونا
العلامة الهندي الفقيه الحنفي قد حاول هذا وأراده؛ ولكنه نظر في أدلة الكتاب
والسنة بمنظار الفقه الذي انطبع في نفسه، وغلبت عليه ملكته، فأقول متوجهًا إلى
الله تعالى داعيًا ضارعًا أن يلهمني الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب:
الفتوى الأولى
(قال) الربا المذكور (يعني في آية البقرة) مجمل عند الأحناف وغيرهم
من الأئمة، حتى يصح أن يقال: اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له
عند الجمهور.
(أقول) قوله: إن الربا المذكور مجمل عند الأحناف، صحيح، وقوله:
باتفاق الأمة عليه، غير صحيح، وقوله: إن حديث عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة)
تفسير له، غير مسلّم، بل المتبادر منه بحسب القواعد أن الألف واللام فيه للعهد،
والمعهود من الربا عند المخاطبين به في عصر التنزيل شيئان (الأول) ربا الجاهلية
الذي وضعه وأبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله تحت قدميه كدماء الجاهلية
وثاراتها، وهذا ما سمي في اصطلاح النحاة بالعهد الخارجي (الثاني) قوله تعالى
(3: 13) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران:
130) فهو قد نزل قبله بلا نزاع لأنهم قالوا: إن آيات أواخر سورة البقرة في الربا
وقوله تعالى بعدها {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: 281) الآية آخر
ما نزل من القرآن، وإن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم توفي ولم يفسرها لنا، ولو كان حديث عبادة وغيره تفسيرًا لها لما قال عمر
هذا، وهو من رواة هذا الحديث والعاملين بمضمونه كما هو مقرر في كتب السنة،
وإنما يعني رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقل فيها شيئًا زائدًا على ما
كانوا يعلمونه من آية سورة آل عمران، ومن ربا الجاهلية وإبطاله صلى الله عليه
وسلم له، وهذا الربا هو الربا الذي يصدق عليه تعليل التحريم بقوله
تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279)
والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت يكون المراد بالثاني عين الأول.
الفتوى الثانية
(قال) (الربا هو الفضل الخالي عن العوض في البيع) وذكر أن الفقهاء
زادوا فيه قيد (المشروط) وأنه لا حاجة إليه، واستدل عليه بحديث عبادة وبالآية
بناء على تفسير الحديث المذكور لها.
(أقول) هذا الحد غير مسلَّم؛ لأن ما بني عليه وجُعل دليلاً له غير مسلَّم
كما تقدم، وقد ذكر هو في رسالته كغيره حدودًا أخرى أعم منه حتى علماء الحنفية
أنفسهم لم يقيدوا فيها الربا بالبيع.
الفتوى الثالثة
قال: (النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من
القرآن ومن حديث صحيح) .
(أقول) لو كان يريد بكونه غير منصوص نص القرآن لسلَّمنا قوله؛ فإن ربا
القرآن خاص بربا النسيئة الذي تكون الزيادة فيه لأجل تأخير الدين، لا في العقد
الأول؛ فإن الزيادة فيه عوض مقابل للانتفاع بالمال، لا لأجل الإنساء وتأخير
القضاء؛ ولكنه يريد ما هو أعم منه، وقوله (ومن حديث صحيح) يعني به (ولا
من حديث صحيح) كما يعلم من القرائن (وهو على سعة فقهه غير دقيق في اللغة
العربية كما هو شأن علماء الأعاجم الذين يتعلمون العلوم الشرعية والفنون العربية
بترجمة كتبها ولا يدرسونها دراسة مستقلة) وقد بنى هذا على ما جزم به من أن
القرض غير الدين، كما أنه لا يدخل في معنى البيع الذي حصر الربا فيه، فهو
موافق لاصطلاح الفقه عندهم؛ ولكن القرض في اللغة العربية دين [*] ، والأصل
في الربا أن يكون في الديون سواء كان أصلها ثمن مبيع أو عينًا كما سنحققه، وآفة
العلم بالكتاب والسنة المانعة من الاستقلال في فهمهما تحكيم الاصطلاحات الفقهية
الحادثة وغيرها من الاصطلاحات في لغتهما العربية التي كان يفهمها أهلها منهما،
وحديث النهي عن بيع النقدين وأصول الأقوات إلا يدًا بيد مثلاً بمثل ليس تفسيرًا
لربا القرآن، ولا حصرًا للربا في البيع؛ وإنما هو لسد الذريعة لارتكاب ربا القرآن،
وإلا فهو لذاته ليس فيه من المفسدة ما يقتضي هذا الوعيد الشديد في آيات البقرة.
الفتوى الرابعة
(قال) النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث،
استُدل على كونه ربا تارة بالقياس وتارة بحديث (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق فلا يصح، وأما في الثاني
فلأنه غير صحيح بل هو ضعيف فغير صالح للاحتجاج، ولو سلم صحة القياس
ففيه أن الأحكام القياسية تقبل التغيير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن
كان له وقوف على حال هذا الزمان وخبرة بأهله فلا محيص له بدون (كذا) أن
يفتي بجوازه كما في الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها،
والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس
لا على غيره من الأدلة، ومن ادعى فعليه البيان والله أعلم بالصواب اهـ.
(أقول) الظاهر أن هذه الفتوى هي المقصودة بالذات من وضع هذه الرسالة،
وخلاصتها أن النفع المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص في القرآن،
ولا الثابت بحديث صحيح، ولا بقياس صحيح، وعلى فرض صحة القياس تجوز
مخالفته للضرورة أو الحاجة إليه في هذا الزمان، كما هو الشأن في الأحكام القياسية،
وقد أورد بعض أقوال الفقهاء على هذا في الحاشية، وهو اجتهاد في مسألة
اختلف فيها الفقهاء له وجه فقهي ظاهر، وحسبنا هذا بيانًا لرأينا في الفتوى،
وسنبين رأينا في أصل مسألة الربا في مقال خاص كما وعدنا، والله الموفق.
(رأينا في رسالة الفتوى من مراجعتها بعد الطبع أغلاطًا بعضها من الأصل
ولعل بعضها من الطبع، وسنبين ذلك في جدول مع أغلاط أخرى عثرنا عليها في
الأجزاء السابقة) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) قال في حقيقة الأساس: ودنت وتدنيت واستدنت: استقرضت، ودنته وأدنته ودينته: أقرضته اهـ، ونصوص سائر كتب اللغة في ذلك معروفة.(30/501)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة مختلفة من بيروت
بسم الله الرحمن الرحيم
(س 39 - 46) من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام، مفتي
الأنام، ومرجع العلماء الأعلام، شيخ الإسلام، الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد
أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنني لما رأيت الأحوال الحاضرة
في مصر من التهتكات الموبقة التي تصرع شرف الإنسانية وتهدم دعائم الفضيلة
تزداد حينًا بعد حين، وتفشو في تلك البلاد من أدناها إلى أقصاها دفعتني الغيرة
الدينية إلى استجواب فضيلتكم عما يأتي:
(1) إن تهتك النساء وتلبسهن بجميع أنواع التبرج الشائن من لبس الرقيق
الشفاف، والضيق الذي يجسِّم أعضاءهن ويصفها، فضلاً عن القصير الذي تبدو
دونه السيقان والسواعد والأعناق وأعالي الصدور مع كمال زينتها وتمام تحليتها -
لمن أكبر دواعي الفساد، وأقوى أسباب الفتنة في الدين والأخلاق والحياة، وإنه
يتفاحش إلى حد مستفظع، فلمَ تغض الحكومة المصرية الإسلامية الطرف عن ذلك
وما معنى كونها إسلامية؟ ألم يكن من واجبها كبح جماح الفتن، وقضم علائق
الفحش الذي يؤدي إلى ضعف قوتها ووهن شوكتها بانغماس رعيتها فيه؟
(2) أليس من الواجب على علماء هذا القطر أن يقوموا بصد ذلك التيار
الجارف بكل ما استطاعوا من قوة سواء لدى الحكومة أو الشعب الغافل؟ ألم يكن
سكوتهم عن ذلك ذنبًا عظيمًا وإثمًا مبينًا؟
(3) ما السبب الداعي لسكوت الحكومة والعلماء عن ذلك مع أنه أكبر
ضرر وأعظم خطر على الأمة المصرية وما جاورها من البلاد الإسلامية كالسودان
وكذلك الحجاز ونجد وغيرها؟
(4) إن مجلتكم المنار من الأمور المهمة التي تبث في نفوس المسلمين في
جميع الأقطار روحًا إسلامية عالية، وتنفي عنها كل جرثومة من الرذائل حتى
غدت مطمح أنظار المسلمين جميعًا، ومحط آمالهم في جميع الأصقاع والأنحاء
فكان عليها أن لا تألو جهدًا في محاربة كل هذه النقائص والمنكرات بعزيمة لا
تعرف الفتور، وهمة لا يعتورها وهن، فما سبب الإحجام عن الاستمرار في ذلك
الجهاد الشريف مع أنها عنوان الفضائل الإسلامية؟
(5) إن انتشار الإلحاد بصورة هائلة في جميع العالم الإسلامي ليدعو إلى
الدهشة والحيرة فما سبب ذلك؟ على أنه يوجد في تلك البلدان التي وقعت تحت
أنياب الإلحاد علماء إسلاميون بكثرة لا تقع تحت حصر، فهل العلماء يقومون
بواجبهم الديني في الإغارة على جنود المادة والطبيعة بكل وسيلة تُستطاع تحصينًا
للدين وحفظًا له أن يمسه شرر ذلك وخطره منها؟ قد اعتنق الجم الغفير من
المسلمين هذه العقيدة الباطلة ونبذوا الدين وراءهم ظهريًّا، أما كان الواجب على
العلماء الفطاحل أن يتخذوا جميع الاحتياطات اللازمة في تفنيد آرائهم، وبيان فساد
معتقداتهم، حتى يتضح الحق ويزهق الباطل ليكون ذلك حصنًا منيعًا لحفظ الدين
في نفوس أبنائه؟
(6) هل يحسن من المسلمين أن يأخذوا أزواجهم إلى البلاد الأوربية للنزهة،
فيتزينون بزيهم ويخلع النساء عن أنفسهن ثياب الحشمة التي هي من شعائر الدين
والفضيلة، ولا ندري ما يكون سبب ذلك من أضراب المنكر فما حكم هذا؟
(7) فما دواء كل ذلك؟ وما هي الطريقة التي يجب على الحكومة والعلماء
عملها لمنع هذه المسائل كلها؟
(8) إن في مصر، بل في جميع البلاد الإسلامية مدارس أجنبية أنشئت
للدعاية إلى الإلحاد أو المسيحية ومقاومة الإسلامية، وآثارها الفاسدة ظاهرة للعيان،
فما السبب الداعي لانكباب المسلمين عليها ووضع أبنائهم وبناتهم تحت نيرانها
وضلالها؟ حتى أنه يبلغ عدد البنات المسلمات في هذه المدارس مبلغًا عظيمًا،
رأيت ذلك وأنا في مصر ورأيتهن لابسات القبعة (البرنيطة) سافرات عن وجوهن
وغير ذلك، فما الواجب على المسلمين تجاه هذه الحالة؟
(9) هل يجوز للعامي الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا مطلقًا أن يقرأ الكتب
الدينية الإسلامية ككتب الفقه وفتاوى العلماء وغيرها لأجل أن يعمل بها وهو يلحن
في القراءة أم لا؟ تفضلوا بالجواب على صفحات مجلة المنار الأغر ليكون النفع
عامًّا؛ ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي ... اليماني
... ... الطالب سابقًا بالأزهر الشريف
أجوبة المنار، على هذه الأسئلة على ما فيها من التكرار، الموجب للاختصار
39- تهتك النساء وإقرار الحكومة المصرية له
تهتك النساء في مصر يفحش ويتفاقم شره، ويستشري ضره عامًا بعد عام
حتى صار يخشى منه انفصام عرى الأُسر (العائلات) وانتكاث فتل الأمة، وأما
سبب سكوت الحكومة المصرية عليه وإقرارها له فهو يرجع إلى التفرنج وسيطرة
الإفرنج على البلاد بامتيازاتهم وبمساعدة أعوانهم المتفرنجين من رجال الحكومة
وغيرهم.
والإفرنج المستعمرون يعنون بإفساد دين الأمة وأخلاقها لتنحل جميع الروابط
التي تكون بها أمة لها كون خاص، ومقومات ومشخصات تحيا بها وتأبى بطبعها
أن تكون مستعبدة مستعمرة لغيرها، وكان بدء هذا الفساد الديني الأخلاقي في عهد
إسماعيل باشا أي قبل الاحتلال البريطاني، فكان ممهدًا لكل ما فعله رجاله من
مقاومة التعليم الديني على ضعفه في مدارس الحكومة، ومن حرية الفسق والفجور،
وقد صار الألوف من رجال الحكومة ملاحدة معطلِين أو فاسقين لا يصلون ولا
يصومون ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله من السُّكر والزنا والقمار، بل منهم من
يهزءون بمن يرونه يصلي ويصوم، ويعدونه متأخرًا أو رجعيًّا! !
وأما تسمية الحكومة إسلامية فمعناها أنها تمثل شعبًا أكثر أفراده مسلمون،
فهي تراعي شعائرهم ومواسمهم وتقاليدهم الدينية سواء كانت ثابتة في أصل دينهم
أو مبتدعة فيه كالموالد وبناء المساجد والقباب على قبور الصالحين وتشييدها
ووضع السرج عليها من أموال الأوقاف، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة لعن من
يفعلون هذا، وليس معناه أنها حكومة إسلامية كحكومة الخلفاء السابقين أو الحكومة
السعودية في نجد والحجاز والحكومة الإمامية في اليمن - تقيم الشريعة وتلتزمها في
سياستها وجميع قوانينها، وتمنع المنكرات الدينية كلها.
وجملة القول: إن ما فشا في البلاد من تبرج النساء وتهتكهن ما كان ليفشو إلى
هذه الدركة السفلى لولا استحسان الكثيرين من رجال الحكومة، ومن في طبقتهم من
الأغنياء المترفين له، ومجاهرتهم في اقترافه.
40- ما يجب على العلماء من مقاومة هذا الإلحاد والفساد
إن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وأنكره الإلحاد والفساد - من
الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، وهذه الفريضة هي سياج الدين وحفاظ
الفضيلة في الأمة ووقايتها من الرذيلة أن تفشو فيها، بل إنكار المنكر واجب في
الإسلام باليد فاللسان فالقلب، وهذا أضعف الإيمان كما ثبت في الحديث الصحيح
المشهور، والعلماء أول المطالبين بإقامة هذه الفريضة لعلمهم بوجوبها وشدة خطر
تركها وما لها من أحكام؛ ولأن كلامهم أجدر بالقبول والتأثير، وسبب تقصير
أكثرهم في إقامتها ضعفهم في الدين والأخلاق، وامتهان الحكام لهم بامتهانهم
لأنفسهم، كما قال شاعرهم الحكيم:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنَّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
وقد كان من سيرتنا في المنار من سنته الأولى (سنة 1315) إلى اليوم
مطالبتهم بإقامة هذه الفريضة والإنحاء عليهم باللائمة لتقصيرهم فيها، حتى أنهم
كرهونا وقاومونا وصاروا يصدون العامة عن قراءة المنار لأجل ذلك، وكان أول
من لامنا واعتذر عن العلماء في سكوتهم عن إنكار المنكرات شيخنا الأستاذ العالم
العاقل الشيخ حسين الجسر عفا الله عنه، فقد رد علينا في جريدة طرابلس،
واضطررنا إلى الرد عليه في المجلد الثاني من المنار من غير تصريح باسمه،
ونحمد الله تعالى أن كثر في هذه السنين العلماء والوعاظ الذين يقاومون الإلحاد
والفساد، وينهون عن الفواحش والمنكرات الفاشية والبدع والخرافات المزمنة،
ووزارة الأوقاف تساعدهم على ذلك، وهذا من فوائد كون دين الحكومة الرسمي
الإسلام، وإن تألفت في مصر جمعيات تعنى بذلك كجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية،
وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية في القاهرة، وقد سبقتها ولحقتها
جمعيات أخرى في البلاد المصرية تدعو إلى هداية السلف الصالح وترك البدع كلها،
وإننا ولله الحمد نساعد أكثر هذه الجمعيات ولنا فيها الإخوان والمريدون
المخلصون، وأنشئت لبعض هذه الجمعيات ولبعض الأفراد مجلات وجرائد تقوم
بهذا الواجب أيضًا.
41- عمل مجلة المنار وما وصفها به السائل من الإحجام
إننا قد أنكرنا تبرج النساء وتهتكهن مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة في مجلدات
المنار المتعددة، ولا نزال نعود إلى الإنكار عند سنوح المناسبة، كما ننكر دائمًا
على سائر المعاصي والبدع، ونرد على أهل الإلحاد والشيع، ونفنِّد شبهات
المبشرين، وزيغ الماديين، ونبين في مقابلة هذا الكفر والضلالة، ما جاء به
الإسلام من الهداية، وكونها هي السبب الوحيد لسعادة الدنيا والآخرة، والجامع
الأعظم لكل ما يجب من تخلية وتحلية، هو تفسيرنا للكتاب الحكيم، الذي شهد له
العلماء في مصر وغيرها، العارفون بما يحتاج إليه المسلمون وسائر البشر في هذا
العصر من الإصلاح بأنه خير تفسير لكتاب الله عز وجل، الذي أكمل الله به الدين،
ويليه باب الفتاوى العامة التي نشرح فيها ما يسألنا عنه القراء من جميع الأقطار
من حل المشكلات، والترغيب في الواجبات، والترهيب عن المنكرات، ويليه
باب المقالات الشارحة لأهم ما يهم المسلمين من أمر دينهم وأمتهم وحكومتهم ... إلخ،
وكثيرًا ما لامنا القراء على عدم فتح أبواب في المنار للمباحث الأدبية واللغوية
والفنية وغيرها مما يحبه جماهير الناس، فيكون مرِّغبًا في قراءته؛ لأنهم يملون
بالطبع من جعل جميع مباحثه في المسائل الإسلامية التي يُقصد منها إحياء هداية
الدين والدفاع عنه، فلا نجد فيه سعة لما يقترحونه وإن كان فيه مصلحة لنا.
فإذا كان السائل يرى من الواجب أن نكتب في كل جزء منه مقالاً في إنكار
تبرج النساء وتهتكهن، وأن ترك هذا إحجام عن الواجب - فنحن لا نوافقه على هذا
الرأي ولا نظن أن أحدًا من أهل الرأي يوافقه عليه، وقد ثبت في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول الناس بالموعظة خشية السآمة والملل من
التكرار.
42- سبب فشو الإلحاد وما يجب على العلماء من مقاومته
أما سبب فشو الإلحاد فقد بيَّناه في المنار مرارًا، وهو أمران أهمهما عدم
التعليم الإسلامي الصحيح الذي يقتضيه حال هذا العصر، وعدم التربية الملية
الوجدانية على هدايته، والثاني فشو الأفكار المادية والشبهات العلمية على الدين في
المدارس المصرية من أجنبية وأميرية وتولي المتخرجين فيها لأمور الحكومات
وسائر المصالح العامة.
وأما ما يجب على العلماء من مقاومة ذلك وصد تياره، فالقول فيه كالقول في
مسألة مقاومة البدع والمنكرات، أكثر العلماء الرسميين المقلدين يعجزون عن
مقاومة شبهات الإلحاد، إما لأنهم لا يفهمونها ولا يفهمون الدين كما يجب أن يفهمه
من يقوم بذلك بالحجة والبرهان، وإما لضعفهم في البيان أو في الغيرة على الدين،
على أنه قد وجد فيهم وفي غيرهم أفراد يقومون بهذا الواجب على قوة أو ضعف
ولو تم للإستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما كان يحاوله من إصلاح الأزهر ولم يصده
عنه الجمود والاستبداد، أو لو تم لنا ما قمنا به بعده من إنشاء جمعية ومدرسة
للدعوة والإرشاد، ولم يقض عليها نفوذ الاستعمار وفشو الإلحاد، لما خطر هذا
السؤال لملقيه علينا ببال.
43- سفر النساء المسلمات إلى أوربة مع أزواجهن ... إلخ
من الغريب أن يسأل مسلم: هل يحسن هذا الأمر أم لا؟ وأن يسأل عن حكمه
مع علمه بما فيه من المنكرات التي ذكر بعضها، وأن من النساء من صرن يسافرن
إلى أوربة منفردات أو مع أخدانهن من الرجال، وأمثال هؤلاء لا يخطر لهم الدين
ببال، ولا مراعاة أحكامه في حرام ولا حلال، ويقل فيهم من يسافر مع امرأته
ويكون ملازمًا لها في سفرها، فلا يخالف أحكام الإسلام وآدابه إلا فيما يجب عليها
من الستر وعدم الخلوة بأجنبي، وعدم حضور مجالس السكر ورقص الخلاعة
وأمثال ذلك.
44- تعليم أبناء المسلمين وبناتهم في المدارس الأجنبية
من إلحادية وتبشيرية
تقدم أن أحد سببي فشو الإلحاد والإباحة في المسلمين تعلمهم في هذه المدارس
مع تركهم لتعلم دينهم وتربيتهم، وأما سبب انكبابهم عليها فثلاثة أمور (1)
الشعور العام بأن ما فيها من العلوم والفنون ضروري للحياة المدنية الراقية في هذا
العصر (2) الجهل بما فيه من الضرر والفساد الديني والقومي مع ظهور نتائجه
(3) عدم وجود حكومة إسلامية أو جمعيات إسلامية راقية تكفل لهم تحصيل ما
يشعرون بأنه لا بد منه من العلوم والفنون على الوجه الذي يُرجى نفعه، ويُؤمن
ضرره، بإنشاء مدارس راقية في تعليمها وتربيتها ونظامها، تشتمل على التعليم في
جميع مراتبه لجميع العلوم النافعة، وما وجد من المدارس الإسلامية لبعض الأفراد
أو الجمعيات، لم يقصر المسلمون في الإقبال عليها، وإن لم تبلغ درجة الكليات
والجامعات الأجنبية في استعدادها ومرغباتها.
وهنالك سبب رابع هو أعم الأسباب، وهو التقليد والتيار الاجتماعي الذي
يجرف الجماهير، إلى حيث لا يعلمون من المصير، وقد سألت رجلاً عطارًا: لمَ
ترسل ابنتك إلى المدرسة وما تقصد أن تستفيد منها؟ قال: لا أدري! أنا أعمل كما
يعمل الناس.
45- الدواء لجميع هذه العلل
والواجب على الحكومة والعلماء عمله
قد طرقنا أبواب هذا البحث مئات من المرات منذ أنشئ المنار إلى اليوم - أي
في مدة ثلث قرن - بعنوان الداء والدواء وباسم الاصلاح وبغير هذا من الأسماء،
ولا يزال المسلمون يتساءلون عنه، ولا يفقه أكثرهم ما كتب ولا ما قيل، وذلك أنه
ليس لهم حكومة إسلامية ولا هيئات إسلامية تقوم بما يجب من ذلك، والخلاصة
المختصرة التي نجيب بها هذا السائل أن الدواء الوحيد لذلك هو قيام حكومة إسلامية
راشدة توفَّق لأعوان من عقلاء العلماء بكل مصلحة من المصالح، ولا سيما التعليم
والإرشاد، ومساعدة العالم الإسلامي لها أينما وجدت، وكان هذا رأي حكيم الإسلام،
وموقظ الشرق الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى الذي سعى طول
حياته لأجله، فإن لم توجد هذه الحكومة فالدواء تربية عدد كثير من المسلمين
وتعليمهم ما يجب من مداواة الداء والعمل بعد الشفاء، وكان هذا رأي حكيم الإسلام
الثاني شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) وقد بيناهما مرارًا.
هذا وإننا نرى في آفاق الأقطار الإسلامية المظلمة، وما يحيط بها من
الأخطار نورًا يبشرنا بتحقيق أمل حكيمينا المصلحين كليهما، فأما أمل الثاني فما
أشرنا إليه في هذه الأجوبة من وجود أفراد من العلماء المصلحين وجماعات للهداية
الصحيحة وأكثرهم من تلاميذه أو الآخذين عنهم، وأما أمل الأول فهو وجود
الحكومة السعودية في نجد والحجاز، فإذا كان ما ظهرت آياته في الأقطار الإسلامية
من التنبه والشعور بالحياة الملية والإصلاح الإسلامي قويًّا؛ فإنه يؤيد هذا الرجل
النادر المثال في استعداده للإصلاح الاسلامي الديني المدني (ألا وهو عبد العزيز
آل السعود) يؤيده بالرجال وبالمال وبالرأي العام.
46- قراءة العامي لكتب الدين
قد سبق أن سُئلنا هذا السؤال وأجبنا عنه، وخلاصة ما يقال فيه أنه لا ينبغي
للعامي أن يعتمد على فهمه في قراءة كتب الفقه والعقائد، بل عليه أن يتلقى ذلك عن
العلماء، ثم يطالع ما يسهل فهمه مع مراجعتهم فيما يشكل منه.
__________(30/504)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم من يتجسس على المسلمين من توبة وإمامة وغيرهما
(ص 47 - 53) من صاحب الإمضاء في الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حضرة صاحب الفضيلة العلامة شيخ الإسلام الأستاذ سيدي محمد رشيد رضا
حرسه الله تعالى وحفظه لدين الإسلام، آمين.
بعد واجب السلام والاحترام، فأرجو من فضيلتكم الجواب عن الأسئلة الآتية:
ما حكم الشرع في رجل مسلم كان في أثناء الحرب العظمى متوظفًا عند دولة
أوربية مسيحية إمامًا يصلي على قتلى رعاياها من المسلمين، ثم هذه الدولة
المسيحية أرسلته جاسوسًا لها في بلاد إسلامية، وقد علمت دولة إسلامية بتجسسه
وعزمت على إلقاء القبض عليه وشنقه، ومع الأسف قد علم بذلك وهرب إلى تراب
الدولة المسيحية التي يتجسس لها، ثم بعدما قضت هذه الدولة مآربها به أرجعته
لوطنه وأعطته في مستعمرتها وظيفة إمام في مسجد إسلامي جزاء لخدمته إياها وهو
إلى الآن يصلي خلفه المسلمون ويُدعى مصلحًا! ! !
(1) هل من فعل هذه الجرائم يُقبل إسلامه؟ (2) هل يقتله الشرع
الإسلامي؟ (3) هل تجوز الصلاة خلفه؟ (4) هل توبته (وفيها ريب) تقبل
بعدما تجسس لدولة مسيحية على إخوانه المسلمين؟ (5) هل صلاته وصومه
يكفر عنه هذه السيئات، ويعد مؤمنًا بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟
(6) هل يجوز للمسلم أن يتجسس على إخوانه المسلمين لينال حطام الدنيا، ثم
بعد ذلك يتوب توبة نصوحًا؟ هل تُقبل منه وتُغفر سيئاته؟ (7) هل يجوز للمسلمين
أن يسمعوا إرشادات خائنين مثل هذا الجاسوس التائب؟
نرجو من فضيلتكم الجواب الكافي، لقد كثر بوطننا أنواع هذا الخائن لأمتهم
ودينهم حتى تكشف خزعبلات هؤلاء الجناة وينقطع تيارهم، فهم أكثر سبب
مصائبنا ودمارنا، ولولا هؤلاء الخائنين لما وصلنا إلى ما نحن فيه، وإننا منتظرون
الجواب بالمنار الأغر ودمتم للإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الجزائري
(ج) من يرضى لنفسه أن يكون جاسوسًا لأعداء المسلمين في حربهم لهم
يبين لهم عورات المسلمين ومواضع ضعفهم وقوتهم وغير ذلك مما يُعَدُّ من أسباب
فتكهم بهم وانتصارهم عليهم - لا يُعقل أن يكون مؤمنًا صادقًا؛ لأن هذه ولاية لأعداء
المسلمين عليهم في الحرب {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51) فهو في الغالب منهم في دينهم ومذهبهم أو منافق يُعَدُّ
منهم في الكفر الجامع بينهم والفاصل بينه وبين الإسلام، كما قال تعالى في منافقي
المدينة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} (الحشر:
11) الآية.
وقد استدل عمر بن الخطاب على نفاق حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله
عنهما) بإرساله كتابًا إلى مشركي مكة يخبرهم فيه بعزم النبي صلى الله عليه وسلم
على فتح مكة ليتخذ له يدًا عندهم، مع اعتقاده أن الله تعالى لابد أن ينصر رسوله
عليهم علموا أو لم يعلموا، واستأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فلم يأذن له
بذلك، لما ثبت عنده صلى الله عليه وسلم من إيمان أهل بدر (وكان حاطب منهم)
ومن مغفرة الله لهم، وسأل حاطبًا عن سبب إرسال الكتاب فاعتذر له وقبل عذره،
وفي هذه المسألة نزلت صورة الممتحنة، ويؤخذ منها أن بعض القرائن التي تدل
على الكفر والنفاق قد تكون دلالتها غير قطعية في الباطن، مهما تكن واضحة في
الظاهر؛ لأن صاحبها قد يكون متأولاً، وقد تكون له نية صحيحة في التجسس بأن
تكون لدرء الضرر عن المسلمين الذين يتجسس عليهم، فهذا الفعل نفسه معصية لا
كفر، ولكن قد يكون سببه الكفر، ولا يجوز لأحد من الناس قتله بسابق عمله؛
وإنما يرجح حسن الظن في الرجل الذي يكون حاله في الاعتصام بدينه قبل ذلك
وبعده قويًّا ظاهرًا، وقليل ما هم.
حدَّثني المعاون المسلم لوالي (بنارس الهندية) في بنارس وكنت ضيفًا عنده،
وهو أفغاني الأصل أن حكومة الهند الإنكليزية جعلته من الرجال الذين يقومون
بخدمة الأمير حبيب الله خان أمير الأفغان مدة زيارته لبلاد الهند، وأن غرضها من
ذلك أن يكون جاسوسًا عليه.
قلت له: وكيف اعتمدت عليك حكومة الهند في هذا وأنت مسلم مستمسك بعروة
دينك وأفغاني الأصل، وهي تعلم أن الأفغان من أشد الناس تعصبًا لدينهم ولجنسهم
كما علمنا نحن من حكيمهم بل حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين الحسيني
رحمه الله تعالى؟ قال: نعم إن الحكومة كانت تعلم أنني لا يمكن أن أخبرها بشيء
يضر الأمير، وتعلم مع هذا أنني لا أكذب، فكل فائدتها أن أقول الحق فيما لا يضر
فإنه ينفعها في تمحيص ما يخبرها به سائر الجواسيس الذين كانوا يحفُّون من حول
الأمير.
وأما توبة الجاسوس من ذنبه، والمنافق من نفاقه، والكافر من كفره فهي
صحيحة مقبولة إذا كانت توبة نصوحًا، ويترتب عليها صحة صلاته والصلاة خلفه؛
ولكن لا يجوز لمسلم أن يُقْدِم على مثل هذا التجسس طمعًا في حطام الدنيا
واعتمادًا على التوبة بعد ذلك، كما أنه لا يجوز فعل أي ذنب ومعصية اتكالاً على
التوبة والمغفرة؛ ولكنه إن فعل وكان صحيح الإيمان على ضعف فيه فلا يبقى
أمامه إلا التوبة والإكثار من الأعمال الصالحة رجاء في قوله تعالى: {إِنَّ
الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) .
وأما سماع المسلمين لإرشاده ونصحه بعد علمهم بما سبق من جرمه، فيتوقف
على ما يظهر لهم من حاله بعد التوبة، فمن ثبت عنده صدق توبته وحسن حاله
بعدم اجتراحه لما يجعله محلاًّ للتهمة فلا بأس بسماعه لنصحه وإرشاده فيما لا محل
له فيه للشك والتهمة، ومن كان لا يزال يسيء الظن به فهو بالضرورة يعرض عن
سماع نصحه، وينبغي للجمهور أن يظهروا المقت من سابق عمله فيما لا مفسدة فيه
ليكون ذلك عبرة لغيره.
***
تفسير الشيخ طنطاوي جوهري
(س54) من حاضرة تونس لصاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن عبد الله، وآله
ومن والاه.
حضرة صاحب الفضيلة العالم الهمام، مرشد الأنام لحقيقة الإسلام، سيدي
محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء، حاطه الله بالرعاية وأطال له البقاء،
آمين.
بعد إهداء طيب سلامي، وأداء لائق احترامي، لسامي مقامكم، وشريف
قدركم الأسنى، فأنهي لجنابكم الأعلى، أني طالعت بعض ما كتبه الشيخ سيدي
طنطاوي جوهري المحترم على سورة البقرة ووسمه بالتفسير، وبما أن نفسي لم
تطمئن لبعض ما قرأته فيه لتطبيقه الآيات على الاختراعات العصرية، والسنن
الطبيعية، مما يظهر لمثلي القاصر أن آي الذكر الحكيم، وحديث رسوله الكريم،
بعيدة كل البعد عن هذا المسلك الذي سلكه الشيخ المذكور، وبناء على ظني بأنكم
اطلعتم على كله أو جله لاهتمامكم المتزايد وغيرتكم على السنة والكتاب الحكيم
وتسرون بخدمتها الخدمة المرضية، كما أنكم تفحمون من يتنكب الصراط السوي،
تقدمت لفضيلتكم مؤملاً أن تبينوا لنا ولجميع قراء المنار الأغر رأيكم وحكم الله في
التفسير المذكور بيانًا شافيًا واضحًا حتى يصح لنا أن نقول بأن كل ما خطه قلم
الشيخ طنطاوي الموقر وجزم بأنه مأخوذ من الآيات القرآنية، ومستمد من الأحاديث
النبوية، هو في محله موافق لما أراد الله من الآية، مطابق لمغزى حديث رسوله
صلى الله عليه وسلم مقبول من لدن العلماء الفضلاء ولا محل لنقده، ولا سبيل
لتفنيده، بل عمله هذا مصيب فيه كل الإصابة، الجائز عليه الثواب والإثابة،
يوجب من المسلمين له الشكر والثناء الجزيل، ويرغب النشء وغيرهم مطالعته،
والتعويل على كتابته، مع إدامة النظر والاعتبار في دقائقه، وختامًا نكرر القول
بأننا نترجى الجواب السريع الشافي، والحكم النزيه الوافي، من رأيكم المصيب،
وإنصافكم المعهود، ولكم من الله جزيل الشكر والإحسان، والثواب والإعانة من الله
الرحمن.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد خوجه
(ج) إنني كنت رأيت الجزء الأول من هذا التفسير في دار صديق لي منذ
بضع سنين، وقلبت بعض أوراقه في بضع دقائق فرأيته أحق بأن يوصف بما
وصف به بعض الفضلاء تفسير الفخر الرازي بقوله: فيه كل شيء إلا التفسير،
وقد ظُلم الرازي بهذا القول فإن في تفسيره خلاصة حسنة من أشهر التفاسير التي
كانت منتشرة في عصره، مع بعض المباحث والآراء الخاصة به، كما أن فيه
استطرادات طويلة من العلوم الطبيعية والعقلية والفلكية والجدليات الكلامية التي بها
أعطي لقب (الإمام) لرواج سوقها في عصره. والأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم
بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر،
ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم
لن يقووا ويثروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها
مع محافظتهم على عقائد دينهم وآدابه وعباراته وتشريعه، ويعتقد حقًا أن الإسلام
يرشدهم إلى هذا، بل يوجبه عليهم، فألَّف أولاً كتبًا صغيرة في الحث على هذه
العلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم
توسع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم،
ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كما
يدعي الجامدون من تحريمه له أو صده عنه؛ ولكن الأمر الأول هو الأهم عنده،
فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها وما فيها من الهدى والأحكام والحِكَم بقدر ما
عني به من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه (ولهذا قلنا إنه أحق من
تفسير الرازي بتلك الكلمة التي قيلت فيه) .
ولا يمكن أن يقال إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنه
مراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا، إذ يصح أن يقال حينئذ إنه
يمكن تفسير كلمة {رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) بألف سفر أو أكثر من الأسفار
الكبار تضعه جمعيات كثيرة كل جمعية تعنى بعالم من العالمين، فتدون كل ما يصل
إليه علم البشر فيه، ولا يمكن أن يقال إنه لا يمكن انتقاده، بل الانتقاد على ما فيه
من التفسير ومن مسائل العلوم ممكن {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76)
وقد قلنا إنه لم يعن بقسم التفسير منه كثيرًا ولا سيما التفسير المأثور، وأما هذه
العلوم فالبشر يتوسعون فيها عامًا بعد عام، فينقضون اليوم بعض ما أبرموا بالأمس،
فليس كل ما دوَّنه أهلها صحيحًا في نفسه، فضلاً عن كونه مرادًا لله من كتابه،
وإنما أُنزل الكتاب هدى للناس لا لبيان ما يصلون إليه بكسبهم من العلوم
والصناعات؛ ولكنه أرشد إلى النظر والتفكر فيها ليزداد الناظرون المتفكرون إيمانًا
بخالقها، وعلمًا بصفاته وحكمه.
وأما السؤال عن رضاء الله عنه وإثابته عليه فلا يقدر بشر على الجواب عنه
بالتحقيق؛ لأن علمه عند الله تعالى وحده؛ وإنما نقول بحسب قواعد الشرع الإلهي
إنه إذا كان قد ألَّفه لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته فإن الله تعالى يثيبه عليه، فما
أصاب فيه فله عليه أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتهاد وحسن النية، وما أخطأ
فيه فله عليه الأجر الثاني مع رجاء العفو عن الخطأ، وهذا ما نظنه فيه.
وجملة القول إن هذا الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا
الجواب، وصاحبه جدير بالشكر عليه والدعاء له؛ ولكن لا يُعوَّل عليه في فهم
حقائق التفسير وفقه القرآن لمن أراده؛ فإنه إنما يذكر منه شيئًا مختصرًا منقولاً من
بعض التفاسير المتداولة، ولا يُعتمد على ما يذكره فيه من الأحاديث المرفوعة
والآثار لأنه لا يلتزم نقل الصحيح، ولا ذكر مخرِّجي الحديث ليُرجع إلى كتبهم
فلابد من مراجعتها في مظانها، وما ينفرد به من التأويلات فهو يعلم أنه يخالف فيه
جماهير العلماء وهم يخالفونه؛ وإنما راجعت بعضه في أثناء كتابة هذا الجواب
فزادني ثقة بما قلته فيه من قبل، والله أعلم.
***
جدال في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
ودعائه والاستغاثة به
(س 55) من صاحب الإمضاء في عدن
حضرة السيد الفاضل الأجلّ العلامة السيد محمد رشيد رضا، أمتع الله بحياته
الإسلام والمسلمين.
سلامًا واحترامًا، سيدي العلامة الفاضل، أولاً أرجوكم أن تعذروني ولا
تؤاخذوني إذا وجدتم في كتابي هذا لحنًا أو ركاكة أو سوءًا في التعبير لأني قبل كل
شيء عدني، والتعليم عندنا لا يكاد يكون له وجود.
كثر عندنا في هذه الأيام لفظ المتوهبين - لا الوهابيين - وزاد، وليس عندنا
من ينكر على الإمام محمد بن عبد الوهاب مذهبه؛ ولكن لسوء الحظ أوقع القدر لهذا
المذهب بين ناس يجهلون حقيقته حق الجهل، وإليكم ما صار اليوم في محفل كان
يضم جمعًا من الناس.
قام رجل من القوم بعد جلوس طويل أضناه قائلاً: يا رسول الله أنت لها.
فاعترضه أحد المتوهبين بقوله: إن الرسول له الشفاعة لا غير، قال له نعم،
قال ولا يمكن لرسول الله أن يشفع إلا بإذن ربه، قال نعم، ثم رجع قائلاً الرجل
الأول إن رسول الله هو الشفيع المشفع يوم القيامة ورددها نحو مرتين أو ثلاثًا، إلا
أن ذلك الرجل المتوهب كما يسمي نفسه كلما سمع ذلك الرجل يلفظ بهذه الكلمات
ويأتي إلى يوم القيامة إلا ويلحقه: بإذن ربه، وهكذا عدة مرات فردَّ عليه بأن
الشفاعة حقيقة بإذن الله، وهذا معلوم أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، فلم يرق هذا
الجواب في عين صاحبنا المتوهب، وقال: لا يمكن أن تلفظ بتلك الكلمات ما لم تلفظ
بالإذن، فأجاب ذلك الرجل على متوهبنا: حسبما يظهر أن تعقيبك (بإذن الله) هو
كرهك لأن تسمع هذه الخصوصيات خالية من ذكر (بإذن الله) مع أنه معروف،
فأجابه لا، ولكن بقي ذلك الرجل يردد كلمات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو الشفيع المشفع فلم يتركه ذلك الرجل إلا لاحقًا به في كل مرة: (بإذن الله) .
فما الذي يفهمه سيادة مولانا من هذا الرجل بلفظه تلك الكلمات خالية من (بإذن
الله) محذور عليه فيها؟ وهل مجبور ذلك بتلفظها؟ وهل يُفهم من حضرة المتوهب
أنه يريد إفهام من حضر أنه لا يمكن للرسول أن يشفع إلا بإذن الله مع معرفتهم
لذلك ومصارحتهم له به مرارًا؟ أو المراد به أنه لا يطيق هذا سماع تلك الكلمة
خالية من (بإذن الله) لئلا يتوهم أن النبي يشفع بدون إذن الله؟
ثم طار البحث إلى أن توصلوا إلى فضل رسول الله وجاهه العظيم عند الله
وأن الله سبحانه وتعالى يغار على رسوله من كل ما يمس كرامته، فلم يسع ذلك
المتوهب إلا أن قال لأحد الحاضرين عندما قام من مجلسه وقال (يا رسول الله) إلى
أن قال له ماذا تعني بذلك؟ أتظن أن رسول الله يقدر ينفعك أو يرد عنك أي مُلمة؟
ها أنا الآن في مُلمة ادع رسول الله الآن يحضر يريحني منها، وهل في وسعه ذلك؟
فلم يسع أولئك القوم عندما سمعوا ذلك التهكم إلا أن قالوا إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يضر ولا ينفع، وأن النافع والضار هو الله، وإنما محبتنا للرسول
دائمًا تجعلنا نناديه ونصلي عليه، وما كان أليق بك يا حضرة الواهب تطلب
حضور رسول الله لأن يدفع عنك الملمة لتمتحن اقتداره وقدرته، هذا ما صار
بحضورنا وجمع من الناس ورجانا من سيدي الإمام حرسه الله أن يفيدنا بما يراه في
كلام الفريقين، وهل يليق التعريض لكرامة الرسول إلى هذه الدرجة؟ أفيدونا حزتم
خير الدنيا والآخرة سواء بالكتابة إلينا حسب عنواننا أو في مجلتكم الغرَّاء حفظكم
الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي لكم بالخير
... ... ... ... ... ... جعفرعلي
(ج) هذه الملاحاة والمجادلة والمماراة قبيحة يمقتها الله تعالى والمؤمنون
العارفون بدينهم، وقد أخطأ فيها الفريقان: أخطأ هذا الرجل الذي تسمونه المتوهب
في صفة إنكاره العنيف، وفي قوله إنه لا يجوز لأحد أن يسند الشفاعة إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا مقترنة بكلمة (بإذن الله تعالى) وإننا نجد علماء السنة
من الحنابلة الوهابيين ومن سائر المنتمين إلى المذاهب والمجتهدين يذكرون شفاعته
صلى الله عليه وسلم عند المناسبة بدون وصلها بهذا القيد الذي يعتقدونه لقوله تعالى:
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) كما يعتقدون أن المشفوع
له لابد أن يكون ممن ارتضى له هذه الشفاعة لقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ
ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) فلماذا لم يوجب هذا الرجل هذا القيد أيضًا؟
وأما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما يُعَدُّ منافيًا لكرامته عرفًا ولو بالأسلوب
دون النص ففيه خطر عظيم على الإيمان، وقد حرَّم الله تعالى أن يُدعى باسمه في
حياته، ولم يكن الأعراب الذين كانوا ينادونه (يا محمد) يقصدون الإخلال
بالتعظيم الواجب له صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه مخل به في عرف أدباء الحضارة
ولذلك علمهم الله تعالى ما يجب عليهم من الأدب بنهيهم عن ذلك في قوله: {لاَ
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) وكون النافع
الضار بالذات هو الله تعالى لا ينافي نفع المخلوقات بالسببية قال الله تعالى:
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وقال حكاية عن امرأة
فرعون التي شهد بإيمانها {عَسَى أَن يَنفَعَنَا} (القصص: 9) تعني موسى عليه
السلام، وقد نهى الله ورسوله عن المضارة، وهي المشاركة في الفعل الضار.
وأخطأ ذلك الرجل في ملاحاته ومماراته المثيرة للغضب بالتكرار وباتهامه
بأنه لا يحب أن يسمع وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالشفيع ... إلخ،
وكلمته الأولى التي أنكرها المتوهب وهي (يا رسول الله أنت لها) لا يفهم منها
الشفاعة يوم القيامة إلا بقرينة سابقة، وهي تستعمل عند الجاهلين بحقيقة التوحيد
المصابين بدخائل الشرك، بمعنى الاستغاثة والدعاء الذي هو عين العبادة بنص
الحديث ونصوص القرآن أيضًا.
فدعاء الأنبياء والصالحين بعد موتهم لقضاء الحاجات عبادة لهم؛ لأنه ليس
من الأسباب التي يكون فيها الدعاء والطلب من العادات، وهو غير دعاء الأحياء
فيما هو داخل في العادات والأسباب كما شرحناه مرارًا كثيرة، وهذا هو الذي أنكره
الرجل لما يعهده من كثير من الجاهلين من جعله كدعاء الله تعالى؛ لأنه في غير
الأسباب التي مكَّن الله الناس منها.
وجملة القول أن دعاء المخلوق للمخلوق لكشف ضر أو جلب نفع إن كان دعاه
لأمر عادي داخل في سنة الله في الأسباب والمسببات كأن يدعو رجلاً حيًّا لمساعدته
على رفع حمل وقع، أو إطفاء نار اشتعلت في داره أو متاعه أو للصدقة عليه،
فهذا يسمى دعاء عادة وسبب لا عبادة للمدعو، وإن كان لأجل ضر أو نفع ليس مما
يقدر عليه المدعو بكسبه أو دعاء لميت قد انقطع عمله الدنيوي بموته؛ فإن دعاءه
يكون عبادة للمدعو سواء كان يعتقد أنه يقدر أن يقضي حاجته بنفسسه أم أنه
يقضيها بوساطته عند الله تعالى، وثبوت الشفاعة يوم القيامة عند الله تعالى بإذنه
لمن ارتضى لا يبيح للمسلم أن يدعو من كان أهلاً لهذه الشفاعة، كما يُدعى الله فيما
لا يقدر عليه إلا الله من أمور هذا العالم، بل هو عين ما أنكره في التنزيل من
المشركين في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ
هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) فالرجل المتوهب خاف على منادي
الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشرك الفاشي فأنكر عليه، فأغلظ كل منهما
فيما ينكر عليهما وعلى من يشاركهما في جدلهما، فعسى أن يتوب كل منهم إلى الله
تعالى.
***
حكم الأعياد السياسية والوسامات الدولية
(س 56 و 57) من الحجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحكم الشرعي في عيد جلوس الملك ابن السعود
الأستاذ الحكيم والعلامة العظيم، مولانا السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة
المنار الغرَّاء لا زال في مقام كريم آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فلما كان سيادتكم الركن الركين للسلفيين أهل السنة والجماعة جئت
مسترشدًا عن جواز عمل الحكومة الحجازية بإحداث عيد ثالث سموه (عيد جلوس
الملك الإمام عبد العزيز السعود) أيَّده الله آمين، وإن ما ورد في السنة من إبطال
النبي صلى الله عليه وسلم للأعياد السابقة وجعله للأمة الإسلامية عيدين: عيد
الفطر والأضحى، وما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه
اقتضاء الصراط المستقيم والإمام ابن شامة في كتابه (الباعث على إنكار البدع
والحوادث) رحمه الله تعالى لا يخفى على فضيلتكم، فأرجو بيان الحكم الشرعي
في المسألة لأن بعض الإخوان السلفيين منكرون لإحداث هذا العيد فعسى أن يظهر
لنا الحكم فيه.
إحداث الأوسمة من غير النقدين الذهب والفضة
هل يجوز إحداث أوسمة مثل سائر الدول تكون من المعدن الجيد غير الذهب
والفضة؛ فإنه يحسن بالحكومة الحجازية النجدية أن تُحْدِث أوسمة تعطيها لمن قام
يخدمها من رجالها ورجال الدولة فهل يسوغ شرعًا أم لا؟
مستفيد من الحجاز
(ج) بلغني أن بعض الإخوان الذين أشار إليهم السائل قالوا بتحريم فعل
هذه الحكومة الإسلامية ما تفعله سائر الحكومات من إحداث الأعياد السياسية، كعيد
جلوس ملك البلاد في الحكومات الملكية، وعيد الجمهورية في الحكومات الجمهورية،
وعيد الاستقلال في البلاد التي استقلت بعد عبودية، وإني لأعجب من جرأة كثير
من العلماء المتقدمين والمتأخرين على التحريم الذي جرَّأ العوام على مثل ذلك،
وهو تشريع ديني من حق رب الناس على عباده، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل:
116) الآية، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقد عرَّف علماء الأصول التحريم بأنه (خطاب الله المقتضي
للترك اقتضاء جازمًا) والدليل على اشتراطهم كون دلالة الخطاب الإلهي على
وجوب الترك قطعية - أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم
يعُدُّوا قوله تعالى في الخمر والميسر: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة:
219) تحريما قطعيًّا على الأمة، وفي حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى في خيبر أن يقرب المسجد من أكل شيئًا من
الثوم، فقال الناس: حرمت حرمت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
(أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي؛ ولكنها شجرة أكره ريحها) ولكن
الذين يتجرءون على تحريم ما أحل الله تعالى لا يتدبرون هذه الآيات والأحاديث،
وحديث أبي سعيد هذا صريح في أن أكل الثوم مما أحل الله تعالى، والظاهر أنه
أحله بالآيات العامة في إباحة ما أخرجته الأرض، وهي الدليل على كون الأصل
فيها الإباحة من غير نص على كل نوع منها.
فإن استدلوا على تحريم هذه الأعياد السياسية بحديث أنس عند النسائي وابن
حبان: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان في كل سنة يلعبون فيهما،
فقال: (قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى) قلنا إن
الحديث لا يدل على ذلك دلالة قطعية ولا ظنية راجحة، بل غايته أنه أراد صلى
الله عليه وسلم أن يجعلوا العيدين الإسلاميين بدلاً من ذلك العيد الجاهلي، وما ندري
ماذا كانوا يعملون في ذلك اليوم من منكر، وحسبنا أن نعلم أنه من عادات الجاهلية،
وأن من المصلحة إزالتها ونسيانها، والاستغناء عن عيدهم فيها بالعيدين
الإسلاميين اللذين يجمع فيهما بين ذكر الله تعالى بالتكبير وصدقة الفطر والأضاحي،
وبين السرور واللهو المباح كغناء الجاريتين وضربهما الدف عند عائشة رضي
الله عنها بإذنه صلى الله عليه وسلم ورضاه، واللعب المباح كلعب الحبشة في
المسجد.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر حديث أبي سعيد هذا في الفتح وقفى عليه بقوله:
واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص
الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيمًا لليوم فقد
أشرك اهـ. فأمثال هذا الحنفي من الفتانين من المنفرين عن الإسلام بتشديداتهم
بغير علم.
ولا يصح بحال من الأحوال أن تقاس الأعياد السياسية الدنيوية على أعياد
المشركين الدينية؛ وإنما يظهر القياس عليها في أعياد الموالد التي يحتلفون فيها
بتعظيم الأنبياء والصالحين، فيجعلونها من قبيل الشعائر الدينية الإسلامية فهذا من
قبيل التشريع الذي لم يأذن به الله، والأعياد السياسية ليس فيها من هذا المعنى
شيء؛ وإنما يحكم عليها بما يفعل في احتفالاتها، فإن كان فيه منكرات محرمة
كشراب الخمر مثلاً كانت حرامًا وإلا فلا.
فإن قيل: وما تقول في إنفاق المال فيها؟ فالجواب أن إنفاق المال في المباح
مباح، وفيما فيه مصلحة راجحة مستحب، وهذا ظاهر في إنفاق الأفراد لأموالهم،
وأما إنفاق الحكام لأموال الأمة فلا يظهر فيها الأول، بل لابد في حل الإنفاق لولي
الأمر أن يكون فيما يرى فيه مصلحة للأمة.
وكذلك إحداث ما يدل على خدمة بعض الأفراد للأمة وحكومتها من وسام
وغيره إذا ثبت لأولي الأمر أن فيه مصلحة كان جائزًا لهم، أو مستحبًّا، وإن اشتمل
على مفسدة محرمة كان محرمًا، وإن لم تكن فيه مصلحة ولا مفسدة كان عبثًا
مكروها والله أعلم.
__________(30/511)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
السيرة النبوية
بقلم المسيو مونته المستشرق السويسري
تقدم لنا في الجزء الماضي من المنار كلام على ترجمة جديدة للقرآن بقلم
المسيو مونته مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، ونقلنا إلى العربية المقدمة
التي صدَّر بها هذه الترجمة.
وترانا الآن ناقلين بعض فصول مما حرَّره الأستاذ مونته بعد المقدمة لما فيها
من الآراء الجديرة بالمطالعة، ولما فيها من الإنصاف وإن كنا ننبه القراء إلى أن
المسيو مونته لم يكن مسلمًا، وأن شهادته بحق الإسلام لا يمكن أن تُحمل على تأثير
عقيدة أو تربية إسلامية.
تكلم المسيو مونته على العرب قبل الإسلام توطئة لموضوع البعثة المحمدية
فقال: جاء الإسلام في الشرق انقلابًا عميقًا إلى أقصى ما يمكن في الأفكار السياسية
والدينية والفلسفية والأدبية قد قلب الأدب الذي كان في الشرق رأسًا على كعب،
بحيث نجد من الضروري أن نبين ببعض لمحات كيف كانت بلاد العرب مهد
الإسلام قبل أن قام محمد بالإصلاح الذي قام به.
إن التقاليد العربية قد هضمت كثيرًا من حق الدور العربي الذي سبق الإسلام
وحقرت الأجداد الذين كانوا وثنيين، ولم تنظر إلى الأحوال الاجتماعية التي كانت
عليها بلاد العرب القديمة، وأطلقت على ذلك الدور لقب (الجاهلية) وليس هذا
مطابقًا للواقع [*] .
فيكفي أن نذكر تلك (المعلقات) الخالدة طرائف إبداع أولئك الشعراء الوثنيين،
وأن نروي أشعار امرئ القيس وطرفة وزهير وعنترة ... إلخ؛ لنحكم بظلم
هذه التقاليد، كلا لا يجوز أن نسمي الدور الذي فيه ارتقت الفصاحة العربية هذا
الارتقاء كله، وبلغت فيه لغة العرب درجة الكمال (جاهليًّا) .
ثم أورد الأستاذ مونته شواهد على عبقرية أولئك الشعراء من كلام عنترة،
وأخذ يبين ما فيها من إبداع وانتهى إلى القول (بأن الروايات التقليدية والأشعار
الباقية من الدور المتقدم على الإسلام والأغاني الهُذَلية أناشيد شهيرة طبعها مع
ترجمتها فلهاوزن الألماني سنة 1881 قد تُظهر عرب الجاهلية بمظهر أمة غير
قارئة ولا كاتبة وغير مهذبة، بل أمة من بعض الجهات بربرية، إلا أنها أمة كانت
على بعض أخلاق عظيمة هي الأصل في عظمة الأمة العربية في كل عصر) قال:
إن العرب قبل الإسلام كانوا بحسب هذه التقاليد ماديين لا يعرفون سوى
الحرب والعشق والخمر والميسر، وإنه لم يكن ثمة مبادئ عالية يلوون عليها، وفي
ذلك بدون شك مبالغة لأننا في الحقيقة نجد في جانب هذه المعيشة المادية الخشنة
عند العرب عاطفة شديدة للحرية تجعل هذا الشعب محبوبًا عندنا، وإن فضائل
الأنفة والحمية هي كلها من مزايا العرب، فالعربي يبذل حياته بلا مبالاة دفاعًا عن
قضية يراها حقًّا، ويرى على نفسه فرضًا لا محيد عنه أخذ ثارات ذوي قرباه،
وإنك تجد حس الشرف والحياء بالغًا عنده الحد الذي ليس وراءه حد، وقد قال أحد
شعراء الحماسة: إن الشجرة لا تعيش إلا إذا دامت لها قشرتها، وإن الإنسان لا
حياة له إلا إذا بقي فيه الحياء.
نعم بجانب هذه الفضائل الباهرة ظلمات شديدة، مثل إباحة تعدد الزوجات
بدون تحديد، والإذن للرجل بالطلاق بدون أدنى قيد، والنظر إلى المرأة بنظر
احتقار زائد، ووأد البنات، والغزو والسلب وقتل الإنسان للإنسان لأخذ ماله،
فأما الديانة فعبادة أوثان فظة وعادات مناسبة لهذه العبادة، وكانوا يعبدون الأشجار
والأحجار، وكانت الكعبة هي مركز الوثنية وفيها ثلاثمائة وستون صنمًا من أصنام
القبائل المتعددة، وكانت قريش سادة مكة وأسواقها، تحرص على سدانة هذا المعبد
لأجل أن تستجلب إليها العرب بواسطته.
ثم ذكر مونته الأصنام وعدَّد أسماءها كاللات والعزى ومناة وسواع
ويغوث ... إلخ؛ ولكنه قال: إن عبادة هذه الاصنام قبل الإسلام بقليل كان عراها
الفتور، وأصبحت من قبيل العادة، وكانت الشكوك تحوم حول مسألة الآخرة؛
وإنما كانوا يزورون القبور ويقولون للميت: لا تبعد! .
ثم ذكر أنه مذ القرن السادس للمسيح ظهرت روح دينية كان يقال لأصحابها
(الحنفاء) فكانوا يؤمنون بإله يجعلونه فوق كل شيء [1] ، وكانت اليهودية
والنصرانية دخلتا إلى جزيرة العرب؛ وإنما كان يمثلهما بعض تجار لا سيما تجار
الخمر، وكان منهما بعض نساك متعبدين مبعثرين في الفلوات لكن لم يكن لهم تأثير
من جهة مصير الأمة العامة، وبالإجمال كانت حالة العرب الاجتماعية من الجهة
الدينية والأدبية من الانحطاط الشديد بحيث كان من الضروري لها (ظهور مصلح
كبير) .
ثم ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وذكر معنى اسمه المشتق
من الحمد، وروى قصة أبرهة وغزو مكة على فيل أبيض، إلى أن قال:
إن عبد المطلب كان قد مسه الفقر بسبب ما كان ينفقه على الحجاج في مكة،
فلما مات عبد الله والد محمد بعد ولادة ابنه بقليل لم يترك له من الإرث سوى بيت
سكن وجارية وخمسة جِمَال، وبحسب عادة القوم أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم
إلى مرضع بدوية ورُبي في البادية، ولما كان في السادسة من عمره تُوفيت أمه،
فكفله جده عبد المطلب، ولما مات عبد المطلب بعد ذلك بسنتين كفله عمه أبو طالب،
ورعى محمد الغنم في حداثة سنه، ولما صار في الرابعة والعشرين من عمره
اتجر لخديجة أرملة كانت موسرة، فكان يذهب بقوافلها ويأتي فأحسن العمل حتى
مالت خديجة إليه وتزوجت به وهي في الأربعين من العمر، وكان هو ابن خمس
وعشرين سنة، ومع هذا الفرق في العمر كان الزواج سعيدًا جدًّا حتى أن عائشة
التي تزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فيما بعد كانت تغار من خديجة بعد موتها
لشدة ما كانت تسمعه من تذكر محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة، وكان محمد
صلى الله عليه وسلم معروفًا بالاستقامة، وكان الجميع يلقبونه بالأمين.
(وليس في أيدينا صورة خِلقية حقيقية لمحمد تمثل لنا شكله، بل جميع
الصور والتماثيل التي نشرت عنه - الإفرنج المولعون بالصور والتماثيل جعلوا منها
أيضًا للنبي صلى الله عليه وسلم - هي من عمل الخيال) .
إلى أن قال:
(إن الروايات العربية تركت لنا عنه هذه الصورة، وهي أنه كان مهيبًا
عظيم الرأس، عريض المنكبين، مستدير الوجه، يُشْعِر وجهه الصدق، أسود
العينين، مستطيل الحواجب، أقنى الأنف، كث اللحية، وكان زائد الشعور رقيق
الإحساس إلى الدرجة القصوى) .
(وقد زعم بعضهم أن شدة إحساس محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت
تحصل له منه نوبات شديدة قد تحولت إلى مرض عصبي هو مرض الصرع،
وليس في اليد ما يثبت هذا القول الذي منشؤه رواية عربية لم تسمع إلا بعد عصر
محمد بمدة طويلة وآراء بعض المؤرخين البيزنطيين المعروفين بالعداوة لشريعته،
فلا نجد في هذه الأقاويل شيئًا متينًا نبني عليه) .
قال: (وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا ببساطة المشرب، محبوب
الأخلاق، حلو الحديث، ذا تأثير خاص في حديثه، وكان من أخص مزاياه صحة
الحكم وصراحة القول وشدة الاقتناع) .
ثم ذكر مونته ما قاله أبو الفدا من شمائله صلى الله عليه وسلم مما لم نجد
لازمًا ترجمته لأن أصله عربي جدير بالقارئ أن يراجعه في تاريخ أبي الفدا بنصه
الأصلي؛ ولكننا نقول: إن على كل من يعنى بتهذيب النشء وبطبع الشبان على
الأخلاق الفاضلة أن يقرأ لهم هذه الشمائل النبوية التي ليس في تحريرها شيء من
المبالغة المعهودة في وصف الأنبياء والرسل؛ وإنما هي حكاية أحوال النبي الكريم
كما كانت بدون زيادة ولا نقصان، ولعمري لا يقرؤها من كانت له صفحة نفس
صافية شفافة ويتأمل فيها إلا استهل الدمع من محاجره.
ثم أشار مونته إلى تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقال إنه اجتمع
له إحدى عشرة زوجة، وذلك أن العرب يومئذ كانوا يكثرون جدًّا من الزوجات،
قال: (فلا يصح لنا أن نشتد في الحكم من هذه الجهة، ونطبق عليها قاعدة الزوجة
الواحدة التي هي عمدة المدنية الحديثة) ثم ذكر الأستاذ مونته أنه مع عاطفة محمد
صلى الله عليه وسلم إلى النساء لم يكن يرى فيهن درجة الرجال؛ وإنما وصف
منهن بالكمال آسية امرأة فرعون، ومريم أم عيسى وخديجة زوجته الأولى
وفاطمة ابنته.
قال: (ولم يوح إلى محمد حتى بلغ الأربعين من العمر إلا أنه كان قبل ذلك
كثير التأمل في الخلوات، وكانت تعتريه نوبات عصبية [2] يشهد أثناءها مشاهد
إلى أن تَمَثَّلَ له المَلَك السماوي، ولا شك أن هذه الحوادث الروحية التي وقعت له
إنما جرت من ثورة نفسه القوية في أعماق ضميره على عبادة الأوثان، وعلى حطة
الآداب اللتين كان عليهما أهل عصره) .
إن المسيو مونته ليس مسلمًا ليعتقد في البعثة ما نعتقده نحن بتمامه؛ لكنه في
كلامه هذا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء زعمه من نفسه بدون
أن يعتقده، وهذا خلافًا لكثير من مؤلفي الإفرنجة الذين كانوا يطعنون في محمد
صلى الله عليه وسلم ويجعلونه قائلاً ما لا يعتقد، ولقد ضعف هذا الرأي في
الأعصر الأخيرة ومال أكثر المؤرخين من عهد كارليل الإنكليزي إلى اليوم إلى
الرأي الذي عليه الأستاذ مونته، وهو أن محمدًا كان صادقًا وأنه لم يُحَدِّث بما لم
يشهد ولم يسمع، وأننا إذا أمعنا النظر في عبارة مونته نفسها لا نجد فيها شيئًا
ينافي نزول الوحي من الله على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في قوله (إنه كانت
تَحْدُث له نوبات عصبية تتمثل له في أثنائها الملك) لا يفيد بالضرورة أن النوبات
العصبية هي نفسها التي مثَّلت الملك.
وكذلك في قوله (إن نفس محمد صلى الله عليه وسلم ثارت في أعماق ضميره
على ما كان فيه أبناء عصره من عبادة الأصنام وانحطاط الآداب) لا يوجب أن يكون
الوحي هو عبارة عن ثورة نفسية لا غير.
بل الحق عز وجل الذي له خرق العوائد في المعجزات له أن يهيئ المعجزة
بأسباب طبيعية تمشي على النواميس الكونية إلى أن تتجلى أخيرًا بالأمر الإلهي
المباشر [3] ، فالله تعالى الذي أراد أن يهدي البشر، وأن يردعهم عما كانوا
منغمسين فيه من إلحاد في الدين وإباحة في العرض، قد أراد أن يؤيد رسالاته
السابقة إليهم التي طال عليها الأمد وقست من بعدها قلوبهم، وأن يعززها برسالة
جديدة مبنية على العقل الذي ليس وراءه للمرء مذهب، وأن يجعل هذه الرسالة
خاتمة الرسالات كما كان العقل هو خاتمة الأدوات التي بها يعرف المخلوق خالقه،
فكذلك ابتعث من البشر أشدهم قبولاً للوحي السماوي وأعظمهم ثورة على عبادة
الأوثان وأكثرهم استعدادًا (فطريًّا لا كسبيًّا) لإدراك طرف من خزائن الغيب الذي
لا يعلمه بأجمعه إلا الله، وما تمثل المَلَك إلا للذي أوجد فيه الله هذا الاستعداد التام،
فأنت ترى أن كلام مونته وإن لم يكن مسلمًا لا يناقض عقيدة الإسلام في كيفية
الوحي الذي أوحاه الله لرسوله.
ثم قال مونته ما ترجمته بالحرف:
(فالرسول الإلهي الملك جبريل تجلى على محمد لأول مرة في جبل حراء
بقرب مكة وبيده ورقة وقال له مرتين (اقرأ) فأجابه محمد (لست بقارئ) فتلا
جبريل الآيات الآتية التي تجدها في السورة السادسة والتسعين {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) السورة [4] )
(ثم غاب الملك بعد أن ألقى هذه الكلمات، فذعر محمد صلى الله عليه وسلم
من هذه الرؤيا، ولم يعرف ماذا يقول عنها ولجأ إلى زوجته خديجة التي وجد
عندها المعونة الروحية التي كان ينشدها، ولما لم تكرر عليه هذه الرؤيا في المدة
التالية لتلك الليلة الخالدة الذكر خشي أن يكون قد مسه الشيطان لأن الاعتقاد بقوة
الأرواح الخفية وتأثيرها كان منتشرًا في بلاد العرب، ولقد كان محمد في أوقات
أخرى معتقدًا بأنه مظنة لطف مخزون خاص، وأن كل ما كان يراه كان حقًّا، إلا
أنه أخذته الشكوك هذه المرة ووقع في الحيرة، فأصبح لا يعلم أهناك رسالة إلهية أم
أصابه مس؟ ففي هذا الدور الذي تطاول نحو ثلاث سنوات كانت زوجته خديجة
واسطة إلهية في إنعاشه وتسرية ما به وإقصاء الأفكار السيئة عنه وتشجيعه على
القيام بتأدية الرسالة التي كان يعتقدها في نفسه)
(وفي أثناء هذه الأزمة ظهر له الوحي ثاني مرة بواسطة جبريل، الذي
بحسب الروايات ناداه: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فجاء إلى زوجته خديجة
وقد ثقلت عليه الأفكار إلى حد أن أخذ يرتجف، وقال لخديجة أن تغطي رأسه أملاً بأن
يتفادى ثقل ما يرى، وإذ ذاك سمع صوتًا إلهيًّا يقول له: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ
فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر: 1-3) السورة [5] .
ومن ذلك الوقت تتابع الوحي وكانت وحدانية الله ورسالة محمد هما قاعدة ذلك
الوحي الذي كان محمد مقتنعًا أنه نزله الله عليه) .
انتهى كلام الأستاذ مونته في هذه المسألة فلنقابل به كلام علمائنا أنفسهم ولنتخذ
مثالاً طبقات ابن سعد، قال:
الروايات في بدء الوحي
(أخبرنا محمد بن حميد أبو سفيان العبدي [6] عن معمر عن قتادة في قوله:
{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87) قال: هو جبريل، أخبرنا محمد بن عمر
قال: حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، قالت: فمكث على ذلك ماشاء الله
وحُبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه منها، وكان يخلو بغار حراء يتحنث
فيه الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله (تحنث وتحنف بمعنى تعبد) ثم
يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، أخبرنا محمد
ابن عمر قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن
عكرمة عن ابن عباس قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو
بأجياد إذا رأى ملكًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء يصح:
يا محمد أنا جبريل يا محمد أنا جبريل، فذُعر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك
وجعل يراه كلما رفع رأسه إلى السماء، فرجع سريعًا إلى خديجة فأخبرها خبره
وقال يا خديجة والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئًا قط ولا الكهان، وإني
لأخشى أن أكون كاهنًا، قالت: كلا يا ابن عم لا تقل ذلك، فإن الله لا يفعل ذلك بك
أبدًا إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإن خلقك لكريم. ثم
انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهي أول مرة أتته فأخبرته ما أخبرها به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: والله إن ابن عمك لصادق، وإن هذا لبدء نبوة،
وإنه ليأتيه الناموس الأكبر فمُريه أن لا يجعل في نفسه إلا خيرًا.
أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا خديجة إني أرى ضوءًا، وأسمع صوتًا لقد
خشيت أن أكون كاهنًا، فقالت: إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله، إنك تصدق
الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم) ثم أورد ابن سعد روايات أخرى كلها في
هذا المعنى وبألفاظ لا تكاد تفترق عما ذكرناه. [7]
ثم أورد ابن سعد الروايات عن كيفية بدء التنزيل، فحذفنا الأسانيد حبًّا
بالاختصار واعتمادًا على تواتر ذلك، قال: كان أول ما أُنزل على النبي صلى الله
عليه وسلم: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) فهذا صدرها
الذي أُنزل على النبي يوم حراء، ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله.
ثم روى روايات متعددة حذفنا أسانيدها: بأن رسول الله لما نزل الوحي عليه
بحراء مكث أيامًا لا يرى جبريل، فحزن حزنًا شديدًا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة
وإلى حراء مرة يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك
عامدًا لبعض تلك الجبال إلى أن سمع صوتًا من السماء فوقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم صعقًا للصوت، ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء
والأرض متربعًا عليه يقول: يا محمد أنت رسول الله حقًّا وأنا جبريل، قال:
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وربط جأشه، ثم تتابع
الوحي بعدُ وحمي.
والحاصل أن ما ذكره مونته يطابق روايات أصحاب السير التي اتفقوا عليها
وتواترت ولم يفعل مونته ومن في ضربه من مؤرخي الإفرنج المتأخرين ما كان
يفعله مؤرخوهم في القرون الوسطى، أو ما يفعله المكابرون منهم اليوم الذين
يريدون إيجاد الحوادث على وفق هواهم فيوردون في تواريخهم ما يوافق مقصدهم
وينبذون ما يخالفه أو يكذِّبونه بدون دليل أو بأدلة واهية كأدلة لامنس اليسوعي.
فالأستاذ مونته يقول بالحرف:
(كان محمد نبيًّا صادقًا كما كان أنبياء إسرائيل القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا
ويوحى إليه، وكانت العقيدة الدينية وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه، كما كانتا
متمكنتين في أولئك الأنبياء أسلافه، فتُحْدِث فيه كما كانت تُحْدِث فيهم هذا الإلهام
النفسي، وهذا التضاعف في الشخصية اللذين يوجدان في العقل البشري المَرائي
والتجليات والوحي والأحوال الروحية التي هي من بابها) .
فالأستاذ مونته لا يتهم مقدار ذرة محمدًا بعدم الصدق والأمانة، وكأنه يقول
لأهل أوربة: لماذا لا تعتقدون بمحمد ما دمتم معتقدين بنبوات أنبياء التوراة؟ فإن
نبوتهم مثل نبوته، ونبوته مثل نبوتهم. نعم إن مونته يريد أن يكون الوحي واقعًا
بأسباب طبيعية من قبل شدة الاعتقاد وانفعال النفس بمؤثرات خارجية من جهة
استفظاع عبادة الأوثان وما أشبه ذلك؛ ولكن هذا التعليل لا ينفي وقوع الوحي
بالأمر الإلهي وتهيئة ما يتمثل للأنبياء بالأمر الإلهي، وأن ما ينفث في روعهم ويقع
في أسماعهم إنما هو بالأمر الإلهي [8] وإذا أراد الله شيئًا هيأ أسبابه {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ
وَالأَمْرُ} (الأعراف: 54) .
ثم تساءل مونته عما إذا كان محمد تلقى علمًا وما العلم الذي تلقاه؟ وأجاب أنه
يستحيل الجواب على هذا السؤال، وإنما بحسب القرآن والسنة ينبغي أن يكون
أرقى أهل عصره وقطره، ثم بحث في أمية النبي الكريم وذكر ما قيل فيها وذهاب
بعضهم إلى كونه أميًّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة وذهاب الآخرين إلى أنه يبعد أن
يكون أميًّا من نطق بمثل هذا الكتاب البالغ حد الكمال البياني.
وعلماؤنا متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا؛ لأنهم لم يجدوا
دليلاً ولا شبهة على أنه كان يحسن القراءة والكتابة، وليس إعجاز القرآن البياني
بالذي يُصادم روايات أمية الرسول، فإن شعراء العرب الكبار كأصحاب المعلقات
مثلاً بلغوا أمد الفصاحة الأقصى الذي يمكن البشر، ولم يكونوا يقرءون ولا يكتبون،
فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن ينزل على لسانه هذا الكلام الأعلى، وأن
يبقى مع ذلك أميًّا لا يقرأ ولا يكتب [9] .
قال مونته:
(ومن أشد الآيات سطوعًا في دعوة محمد الدينية أن الذين آمنوا به قبل كل
الناس كانوا أهله وأقرب الناس إليه، وهو بين مؤسسي الديانات الوحيد الذي كان
له الامتياز على الجميع بأن يستجلب إلى عقيدته أقرب الخلق إليه بالدم أو بالمودة،
فقد آمنت به قبل الجميع خديجة امرأته ودُعيت بحق أم المؤمنين، ثم ابن عمه علي
ابن أبي طالب ومعتقه زيد أحب الناس إليه وصديقه عثمان وأبو بكر أبو امرأته
عائشة) انتهى.
وهذا الرأي في أن الإيمان بمحمد من أقرب الناس إلى محمد هو من أنصع
الدلائل على صدقه؛ لأنه لو كان ثمة أقل داعٍ للشبهة لكان هؤلاء الخلطاء الملازمون
الأقربون أجدر بأن يلحظوه - هو رأي عدد كبير من الباحثين والمؤرخين والعلماء
الاجتماعيين المعاصرين، ومنهم المستر ولز الإنكليزي الشهير الذي أخرج في سنة
1926 كتابًا عظيمًا في التاريخ العام، ولم يخلُ في كلامه على السيرة النبوية من
بعض أوهام إلا أنه أنصف في كثير من المواضع من جملتها هذه النقطة، وسننقل
إلى المنار طائفة من كلام ولز عن الرسول وعن الخلفاء الراشدين وعن مدنية
العرب الباهرة، كما أننا سنعود إلى كتابي الأستاذ السويسري مونته وعلى الله
التوفيق.
لوزان 5 يناير سنة 1930 ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(*) المنار: قد بيَّنا مزايا العرب قبل الإسلام بما لم يبلغ موسيو مونته أقله، ونقول مع هذا أن المراد بتسميتهم جاهليين: وثنيتهم وأميتهم، فهي جاهلية بالنسبة إلى الإسلام وما نالوا من سيادة وحضارة وعلم.
(1) المنار: الحنيفية هي دين إبراهيم وإسماعيل، والثاني هو الذي بثها في العرب، ثم طرأت عليها الوثنية.
(2) المنار: الحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تعتريه قبل النبوة نوبات عصبية إلخ؛ وإنما صار يعرض له في حالة تجلي الملك له ما يشبه ذلك وهو ما عبر عنه ابن خلدون بالانسلاخ من البشرية والاتصال بالملكية، وكان عند انجلاء هذا التجلي يتلو ما تلقاه فيه من القرآن، وقد يكون سورة طويلة كسورة الأنعام، وما كان للنوبات العصبية أن تثمر في أثنائها هذا العلم والعرفان، وفي عاقبتها هذه القوة في الإيمان والإيقان، والمضاء في إصلاح العقول والأرواح والأبدان، وكل ما يرفع قدر الإنسان.
(3) المنار: في هذه العبارة غموض سيأتي بيان الحق فيه (ص533) والأصل في المعجزات أن تكون خرقًا للعوائد ومخالفة للأسباب الطبيعية مع جواز أن تكون جارية على سنن ونواميس غيبية.
(4) الذي نزل منها يومئذ هو الآيات الخمس الأولى وآخرها [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] (العلق: 5) .
(5) المنار: الذي نزل منها يومئذ سبع آيات آخرها [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ] (المدثر: 7) .
(6) كذا في الأصل والصواب (المعمري) نسب إلى شيخه معمر؛ لأنه رحل إليه ولازمه.
(7) المنار: رواية الصحيحين في هذه المسألة أوسع وأتم وأصح ومنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: (لقد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلّ، وتُكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) .
(8) هذه العبارة أوضح مما سبق في معناها في ص 529، ويظهر منها أن الكاتب أراد أن يوجه كلام مونته فيما فهمه في معنى الوحي، ويجعله غير منافٍ لما نعتقده من معناه، ولعلنا نوضح هذا باصطلاحاتنا العلمية إذا قلنا إن مونته يجعل وحي النبوة والرسالة حالة نفسية، أو كوحي الإلهام فإن كلاًّ منهما عبارة عن معنى يلقى في نفس الإنسان في حالة وجدانية خاصة يثق بها ويعمل بموجبها غير متردد كما وقع لجان دارك الفرنسية، وكما ينطلق النحل بوحي غريزة في عمله المنظم، وكل من هذا وذاك يُسند إلى الله تعالى لأن كل شيء في الكون بخلقه، قال تعالى:
[وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً] (النحل: 68) إلخ، وقال في الإلهام: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ] (القصص: 7) إلخ؛ ولكن وحي الرسالة والتشريع فوق وحي الإلهام من عدة وجوه، أولها صفة الوحي بالمعنى المصدري، وثانيها متعلقه أي المعنى الحاصل بالمصدر، ثالثها وضوح هذا المعنى وهو الموحى به وكثرته ودوامه واشتماله على علم كثير كله فوق علم الموحى إليه وأعلى من جميع خواطره النفسية، رابعها علمه القطعي بمصدره، وأنه الله تعالى وضبطه إياه وعدم تفلت شيء منه، خامسها وهذا ما عناه الأمير بالأمر الإلهي، ولعلنا نشرح ذلك كله في مقال خاص مع بيان الطرق الثلاثة للمعنى الأول المبينة في قوله تعالى: [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ] (الشورى: 51) .
(9) هذا التعليق غير كافٍ، بل يجب أن يعلم مونته أن كونه صلى الله عليه وسلم أميًّا أمر قطعي رواية وعقلاً؛ فإنه منصوص في عدة آيات من القرآن المتواتر، والمعقول الذي لا يُعقل غيره أنه لو كان القرآن من كلام (محمد) بإلهام أو بغير إلهام لما صح عقلاً أن يصف فيه نفسه بهذا الوصف إذا كان غير صحيح، وأن يحتج به على المكذبين له بمثل آية [وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ] (العنكبوت: 48) ولأنه لو احتج عليهم بهذا وهم يعلمون خلافه لأعطاهم حجة على تكذيبه في أنفسهم وألسنتهم، وأما قول مونته بذهاب آخرين إلى أنه يبعد أن يكون أميًّا من نطق بهذا الكتاب البالغ حد الكمال البياني، فيقال فيه إنه رأي لا رواية، والمثير لهذا الرأي إرادة الهرب من البرهان اللازم اللازب على كون هذا القرآن لا يمكن أن يصدر عن أمي فلا مفر لمن يؤمن بالله عن الإيمان بأنه وحي من لدنه، وأنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم شيء منه إلا وعي هذا الوحي وحفظه وما كان يلقى إليه.(30/524)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
(في كلية الحقوق من الجامعة المصرية)
وقعت هذه المناظرة بالصفة المبينة في المقالة الأولى من المقالات الآتية،
فكان لها تأثير عظيم في جميع الطبقات المصرية في العاصمة وسائر البلاد، وظهر
لنا من هذا التأثير بما رأيناه منه وما سمعناه عنه وما قرأناه بشأنه في الصحف: أن
ما كان يذيعه دعاة الإلحاد من انتشار إلحادهم في النابتة العصرية المتعلمة حتى كاد
يكون عامًّا فيهم - كذب وبهتان، بل السواد الأعظم من شباننا سليم العقيدة يؤمن
بالله وبكتابه العزيز المعجز للبشر إلى آخر الدهر، ورسوله محمد خاتم النبيين
صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ويغارون على الإسلام ويؤيدون من يدافع عنه،
على ضعف تعليم الدين في المدارس كلها، وإهمال تربيته الصحيحة فيها وفي أكثر
البيوت أيضًا، وعلى ما في هذه البلاد ولا سيما عاصمتها من حرية الكفر والفسق.
وإننا ننشر هذه المقالات التي كتبناها ونشرناها في جريدة كوكب الشرق
الشهيرة إجابة لاقتراح بعض طلاب الجامعة الغيورين، وسننشر بعدها بعض ما
نُشر في الجرائد في موضعها وما كان من تأثيرها.
المقالة الأولى
في صفة المناظرة
كان بعض طلبة كلية الحقوق من الجامعة المصرية زاروني في مكتبي
وأخبروني أن لجنة الخطابة والمناظرات للجامعة تختارني لمناظرة الأستاذ عبد
الوهاب عزام في موضوع (حرية المرأة كالرجل) إذا كنت أقبل أن أكون
المعارض له فيه، فقلت: لا مانع لدي من القبول.
ثم زارني اثنان آخران بعد المغرب من يوم الثلاثاء (سابع شعبان ويناير معًا)
وألقيا إليَّ طائفة من رقاع الدعوة من تلك اللجنة (لحضور مناظرتها الأولى التي
تقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء 8 يناير سنة 1930 بكلية الحقوق
بحدائق الأورمان بالجيزة برياسة النائب المحترم محمد توفيق دياب موضوعها
(يجب مساوة المرأة بالرجل) [1] .
(وسيؤيد الرأي الدكتور محمود عزمي والآنسة هانم محمد الطالبة بكلية
العلوم، وسيعارض الرأي حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا ومحمد
أفندي شوكت التوني الطالب بكلية الحقوق) هذا نص الدعوة.
فلم أجد بدًّا من قبول الدعوة مع العتاب على ترك استشارتي في الأمر قبل
يومين أو ثلاثة أيام، لعلمي [2] أنها مناظرة بين الدين والإلحاد.
وقد ذهبت قبيل الموعد، ولما دخلنا حجرة المناظرة ألفينا مدارجها مكتظة بطلبة
كليات الجامعة وغيرها من المدارس وبعض مجاوري الأزهر الشريف وفي أدناها
كثير من كبار الفضلاء والأستاذِين، كان تجاهي منهم صديقنا أحمد شفيق باشا من
عشاق العلم والعمل، ثم اشتد الزحام حتى كثر الواقفون في أثناء المدارج وجوانبها
وأعلاها وفي طريقها أيضًا وقدَّرهم الرئيس بألف نسمة أو أكثر.
وما زال الناس يهرعون حتى غص بهم المكان وصاروا يتدافعون في الأبواب،
وكاد يتعذر حفظ النظام؛ ولكن الرئيس الموكول إليه ذلك تمكن بحزمه وفصاحته
وصوته الجهوري من تسكين المتحركين، وتسكيت المتكلمين، ثم من كف تصدية
المصفقين، وافتتح الكلام ببيان موضوع المناظرة والتعريف بالمتناظرين: الموجب
منهم للموضوع، والسالب المعارض له، والمؤيد لكل منهما، وما للسامعين من
حق إبداء الرأي بالكلام في كل من جانبي السلب والإيجاب، وبيان الوقت المحدد
لكل متكلم، وهو عشرون دقيقة لكل من الأولين، وخمس عشرة دقيقة لكل من
الرديفين، وخمس دقائق لمن يريد تأييد أحد الجانبين.
ثم طريقة أخذ الأصوات، وهي أن يخرج الذين يرون عدم المساواة من الباب
الأيمن، ويخرج الذين يرون وجوب المساواة من الباب الأيسر، فيجد كل منهم
صندوقًا خارج الباب يضعون فيهما البطائق المطبوعة التي وُزعت عليهم بعد أن
يكتب كل منهم فيها اسم من يؤيده ويرى رأيه، وإمضاءه هو، ثم على لجنة
المناظرت أن تحصي بطاقات أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وتعلن النتائج لمن
شاء الانتظار، ومن لم يشأ قرأها في الصحف غدًا.
ثم أذن للدكتور محمود عزمي بالكلام.
خطاب محمود عزمي
كان هذا الخطاب مكتوبًا بالأسلوب الخطابي الذي يُقصد به التأثير بخلابة
القول وما يزينها من المعاني الشعرية، ولعله ينشره في بعض الجرائد اليومية التي
يبث فيها دعايته وآراءه [3] وقد بدأه بقضايا ظن أنها كليات لأشكال منطقية يلزم من
تسليمها النتيجة المطلوبة، والحق أنها في عرف المنطق الصحيح إما شخصية وإما
جزئية لا يصح تأليف الأشكال المنتجة منها، وأن ما قد يضاف إليها من الكليات لا
يمكن أن يكون مسلَّمًا فيحتج بنتيجتها، وقد سماها منطقية وهي تسمية مردودة عند
من له إلمام بعلم المنطق، وما في باب الحجة والقياس من الشروط في تأليف
الأشكال المنتجة للبرهان.
ذلك أنه ذكر أسماء بعض النساء في أوربة وفي الشرق من معاصرات
وغابرات (كمدام كوري وملكة هولندة وأميرة لوكسمبرج وخالدة أديب والأميرة
نازلي هانم وهدى هانم ومي وسيزا نبراوي وإحسان أحمد وأم المحسنين وأم
المصريين من المعاصرات، وكسارة وهاجر ومريم وفاطمة وعائشة وكليوبترة
وشجرة الدر وغيرهن من نساء التاريخ)
فالقضايا التي تتركب من هذه الأسماء تسمى في المنطق قضايا شخصية لا
يصح أن يتألف منها منفردة ولا مجتمعة قياس برهاني على وجوب مساواة النساء
للرجال في جميع الحقوق والواجبات، وذكر أيضًا بعض أعمال النساء العامة في
أوربة وما كان من جهودهن في إبان الحرب العظمى، وهؤلاء وإن كن كثيرات لا
يصح الاحتجاج بهن على المطلوب؛ لأنها جزئيات لم تصل إلى حد الاستقراء التام
الذي يفيد البرهان اليقيني، ولا الاستقراء الناقص المنطقي الذي يفيد الظن دون
اليقين.
فالاستقراء عند المنطقيين: قول مؤلف من قضايا ناطقة بالحكم على
الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، فإن كان الحكم فيها على جميع الجزئيات سمي
استقراء تامًّا، كقولنا: كل جسم متحرك بالقوة أو بالفعل. وإن كان الحكم فيه على
أكثر الجزئيات سمي استقراء ناقصًا، ومثَّلوا له بقولهم: كل حيوان يتحرك فكه
الأسفل عند المضغ، بناء على أن أكثر ما عُرف من أنواع الحيوان كذلك لا كلها.
وقد قال موجب المساواة بعد ذكر ما تقدم: إنه يدل عليها دلالة منطقية، ولهذا
ذكرنا الاصطلاح المنطقي في إبطال قوله، وأن المنطق لا يدل على ذلك دلالة
يقينية ولا ظنية، وأما أسلوبه الخطابي أو الشعري في منطقه هذا فهو أنه قال: ما
كنت أحسب وقد ملأت الدنيا أنباء الفُضليات من النساء اللاتي يضربن الآن بسهم
في مختلف نواحي النشاط البشري الراقي وفي الملك الدستوري النابه (؟) وفي
إدارة شؤون الدول وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب ولا يزال يطن في آذاننا جميعًا
دوي تلك الجهود الهائلة التي قام بها النساء خلال الحرب الكبري وقد استحلن عمالاً
خشنين (؟) يبرزن (؟) على الرجال في المعامل والمصانع المدنية منها
والعسكرية وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب وتعاليم التاريخ العام والخاص منتشرة
بينكم فتعرفون منها ما كان على البشرية من فضل لسارة وهاجر وأم هارون ومريم
وفاطمة وعائشة ... إلخ - وأنتم تتبعون أثر الأميرة نازلي واجتماعات قصرها في
تكييف مَلَكَة التفكير العام عند من تدينون له بالزعامة فيما شهدت منكم من حركة
قومية ... إلخ.
وما زال يقول (ما كنت أحسب) ويذكر جملاً حالية معروفة حتى جاء بإتمام
الجملة فقال: ما كنت أحسب وكل هذه الظروف تكتنفنا أن وجوب تسوية المرأة
بالرجل في الحقوق والواجبات يمكن أن يكون محل مناظرة!! لأنها في رأيه كما
نقل عن الأستاذ (لالند) قد (كانت يوم قال بها (المفتون الأول) خيالاً من
الخيالات؛ ولأنها أصبحت اليوم بدهية من البدهيات، وحقيقة من الحقائق العلمية
التي لا يماري فيها إنسان) .
ولعمري إن هذا قول لا يقوله إنسان يفهم معنى البداهة ومعنى الحقيقة العلمية
إلا على سبيل الخلابة، إذ ليست المسألة من البديهيات ولا من الحقائق العلمية في
عُرف هذا العصر، فالبديهي في عرف أهل المنطق ما لا يتوقف حصوله على نظر
ولا كسب كتصور الحرارة والبرودة والتصديق بأن النقيضين لا يجتمعان ولا
يرتفعان، ولو كانت كذلك لما احتيج إلى المناظرة فيها كما قال، ولما كانت نتيجة
التصويت فيها تأييد المعارضة ونبذ بدعة المساواة المطلقة بالأكثرية الساحقة الماحقة،
بل لما كانت هذه النظرية من البدع العصرية التي نجم قرنها في هذا القرن
المضطرب، الذي لم يستقر بعد على حال من القلق.
بعد إلقاء الدكتور عزمي لهذه المقدمات العقيمة، التي لا تنتج على تقدير
تسليمها، وما هي على علات بعضها بمُسلَّمة - شرع في بيان الحقوق فقال: إن
أولها حق الوجود واستنشاق الهواء كالرجل؛ لأنها كائن موجود مثله سواء، وإن
النتيجة المنطقية لذلك هي تمزيق الحجاب وهتك الستر والاختلاط مع الرجال في كل
مجال، فهو القاعدة الأولى لحق الوجود، وأفاض في مدح هذا الاختلاط وعدَّه من
مهذبات الرجل في ملبسه وزينته وكلامه وتفكيره، واستشهد على ذلك برحلته الأخيرة
إلى فرنسة فذكر أنه كان يحلق ذقنه كل يوم مرة أو مرتين لأجل الاجتماع بالنساء؟ !
وذكر أيضًا من مزايا هذا الاجتماع بهن التفكير الطاهر البريء! ! (سبحان
الله وبحمده) ثم ثنَّى بذكر حق تعلم المرأة لأجل التثقف وتهذيب نفسها وغيرها
كالرجل.
وانتقل منه إلى حق الحياة في المجتمع، ومنه أن يكون لها حق اختيار الزوج
وحق الطلاق، واتقاء ما يهدد حياتها من عواصف تعدد الزوجات.
وقفى عليه بحق الاشتراك مع الرجل في تربية الأولاد وتوجيه أنفسهم إلى
الأعمال.
وعطف على هذا حق الامتلاك بالإرث والكسب، فارتطم ههنا في حمأة
مصادمة الشرع، إذ زعم أنه يجب مساواة الأنثى للذكر في الإرث، فكان كعاصفة
على البحر، اضطرب جمهور الموجودين لها كاضطراب الموج، واصطخبوا
كاصطخابه عندما يتكسر على الصخر، وأرادوا منعه من الكلام، فقام الرئيس
ورفع عقيرته بالتضرع إليهم أن يحفظوا النظام، ولما أمكن إتمام القول لجأ إلى
التأويل، فزعم أن مسألة الإرث عند كثير من علماء الشرع ليست كمسائل العبادات
التي تجب المحافظة عليها والجمود على نصوصها، بل هي من مسائل المعاملات
المالية التي يجوز تعديلها وتغييرها بحسب تطور الزمان والمكان (! !)
قال: وإذا تعنت معنا أصحاب الجمود على الآراء الدينية فلماذا لا يتعنتون في
تعديل قواعد الحدود الشرعية كرجم الزاني والزانية، وقطع يد السارق ورجله من
خلاف (أو قال أيدي وأرجل وفيه ما فيه على كل حال) فإن الحدود قد عُطِّلت وهم
ساكتون، فليسكتوا إذًا على تغيير أحكام الميراث، والدليل على أن هذه الأحكام لا
يمكن الاستمرار عليها أن المسلمين أنفسهم قد شعروا بذلك فرأوا الخروج من هذا
الجمود بالوقف الذي هو عبارة عن حيلة يجيزها الإسلام الصحيح للخروج من
الشيء إلى ما هو أوسع منه، وقد جزم الحكم بأن أبناءنا سيرون هذا التغيير إن لم
نره نحن! !
وختم هذه الحقوق بالحق السياسي، وهو أنه لما كانت المرأة عنده كالرجل من
كل وجه وجب أن يكون لها الحق في جميع أعمال الحكومة ووظائفها والانتخاب
لمجالسها، وقد حال انتهاء مدة كلامه بيان إفاضته فيها، فسكت مسخوطًا عليه من
الكثيرين، وصفق له الأقلون، وقد علمت بعد الخروج أن أكثرهم من غير
المسلمين وأقلهم من ملاحدتهم، وقد عبَّر عن ذلك من نقل أخبار المناظرة لجريدة
الأهرام (أحمد الصاوي) بغير تدقيق بقوله (إلى هنا هتف الشباب لمحامي الشباب)
وما كان ثمة من هتاف، ولولا رواية الأهرام لم نذكر هذه المسألة.
ردنا الإجمالي
ما كان الوقت الذي وُقِّت لنا بالذي يتسع للرد التفصيلي، وبيان ما في هذه
المسائل من حق وباطل، ولا بالرد الإجمالي المفيد على كل منها، فاكتفيت بتفنيد
مقدماتها في فاتحة الكلام، وأرجئ الرد التفصيلي إلى المقالات التالية التي اقترحها
عليَّ الكثيرون من أولئك الطلاب النجباء، وأذكر أولاً ملخص الرد الإجمالي الذي
ألقيته في مجلس المناظرة، مع شرح قليل أميزه عنه لتعميم الفائدة.
قمت بإذن الرئيس، فقوبلت بتصفيق قوي شديد من جميع الجوانب طال أمده،
حتى تعبت مع حضرة الرئيس في التوسل إلى الجمهور بالكف عنه، وقد سكت
عن ذكر هذا راوية الأهرام، وما قاله عني بعضه غير صحيح، وبعضه غير دقيق،
كما يعلم من بياني الآتي له.
المقالة الثانية
في ردي الإجمالي في المناظرة
شهادة راوية الأهرام
أراد راوية الأهرام (أحمد الصاوي) أن ينصر ما خذل الله والمؤمنون من
دعاية الإلحاد، ويخذل ما أيَّد الله والمؤمنون من حق الدين وإصلاح الإسلام، فسمَّى
الداعي إلى ترك القرآن ونبذ الإسلام (محامي الشباب) وزعم أن الشباب هتفوا له،
وهذا يتضمن الشهادة على جميع أولئك الشبان بالإلحاد، وهي من شهادة الزور
التي يسجلها عليه الدكتور عزمي نفسه ويُبرئ منها ذلك الاجتماع، فقد قال لي
الدكتور عزمي على مسمع من الناس: إنك غلبتني، فإن الذين أعطوني أصواتهم
261 وليس لي غيرهم، وإن الذين أعطوك أصواتهم 363، وإن الأكثرين خرجوا
من غير أن يعطوا أصواتهم (إذ لم يكن معهم بطائق التصويت) ولو أعطوها
لكانوا كلهم معك ولعلهم 700 أو يزيدون، وهذا من حرية عزمي وصراحته النادرة.
ثم قال راوية الأهرام: وقام الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ رشيد رضا فكان
من اللباقة بحيث لا يصطدم بالصخر مغمض العينين، فاعتذر بأنه لم يحضر
الموضوع، وأنه لم يسمع به إلا يوم أمس، وما كان له نصف ساعة يستجمع فيها
ما هو بحاجة إليه من وثائق الدفع ... إلخ.
وأقول: ما كان له لولا ما ذكرت من نزعته وشهادته أن يسمي دفاعي بالحجة
والبرهان، عن الحق الذي أنزله الله تعالى في القرآن: اصطدامًا بالصخر الجلمود،
ويزعم أنني اعتذرت عن ضعفي بعدم الاستعداد لهذا اليوم الموعود، فوالحق
الذي قام به الوجود، ما كان صخره عندي إلا زبدًا أو غثاء سيل، أو ضغثًا جمعه
حاطب ليل، وما ذكرت ما تقدم شرحه في صدر المقال الأول إلا بيانًا للواقع
ومخالفته للمعتاد، وسيعلم أنني قبلت لأنني لا أراني في حاجة إلى الاستعداد،
ويشهد لي طلبة الحقوق الذين كلموني في أول مرة أنني اشترطت عليهم أن أتكلم
بالارتجال، وذلك أن هذه المسائل قد قتلتها بحثًا بالقول والكتابة، والدرس والخطابة،
ومن فروعها مسألة الجمع بين الذكران والإناث في المدارس الثانوية والعالية،
وكانت الجامعة المصرية قد جعلتها موضوع مناظرة بيني وبين الدكتور محمود
عزمي نفسه في السنة الماضية، ثم أمرت الحكومة بمنعها قبل موعدها بساعة أو
نصف ساعة، فكتبت رأيي في مقال للمنار، وجعلته قبل نشره موضوع محاضرة
ألقيتها في جمعية الشبان المسلمين، فعسى أن تنشرها جريدة كوكب الشرق بعد
انتهاء هذه المقالات.
قاعدتان أساسيتان للرد
ذكرت قاعدتين أساسيتين لمعارضة الخصم (إحداهما) الحاجة إلى الدين
وفائدته في الأمم، وبيان نصوص الإسلام القطعية الدائمة التي لا يجوز فيه لأحد
نقضها ولا تغييرها ولا التبديل لأحكامها، والنصوص التي يجوز الاجتهاد فيها،
ومن النوع الأول آيات المواريث وبناؤها على كون الأنثى ترث نصف ما يرث
الذكر خلافًا لما زعمه الخصم من جواز تعديلها، وذكرت في هذا البحث حكمة
وجود أحكام ثابتة في الشرع وفائدته في ثبات الأمة، كما بيَّنت فيه حكم الضرورة
التي تبيح المحرَّم لذاته كأكل الميتة، والحاجة التي تبيح المحرَّم لسد الذريعة كرؤية
الطبيب لبدن المرأة وعورة الرجل.
(الثانية) معنى الحق والواجب، ومن يجعل الحق حقًّا على الناس والواجب
واجبًا؟ أأفراد الناس من الخطباء وغيرهم كمحمد رشيد ومحمود عزمي؟ أم رب
الناس وخالقهم؟ ومن شرع لهم الرب هذا الحق من أهل الحل والعقد الذين يمثلون
الأمة في سياستها ومعاملاتها الاجتهادية؟ وراوية الأهرام لم يفهم ما قلناه في هاتين
القاعدتين ولم يذكره كما قيل.
كلامنا الوجيز في الحقوق السبعة
قلت فيما ذكره الخصم في المقدمات من نابغات النساء: إن المرأة إنسان فلا
يستنكر أن يظهر في بعض النسوة عالمات فاضلات ومهذبات نابغات ... إلخ،
أشرتُ بهذا إشارة يفهمها الذكي إلى أن وجود من ذكرهن ليس دليلاً على مساواتهن
للنابغين من الرجال على قلة أولئك وكثرة هؤلاء، أعني أن قداسة مريم أم عيسى
وفاطمة بنت محمد عليهما السلام هي دون قداسة عيسى ومحمد عليهما صلوات الله
وسلامه، وأن فقه عائشة رضي الله عنها لا يساوي فقه الخلفاء والعبادلة رضي الله
عنهم، وأن سياسة الأميرة نازلي لا تسمو فتصل إلى سياسة سعد باشا وإن زعم أن
اجتماعات قصرها كانت هي العاملة في (تكييف ملكات التفكير العام عنده) وإنني
أعرف تلك الاجتماعات وقد حضرت بعضها مع سعد وأستاذه وأستاذنا الإمام
(رحمهم الله أجمعين) وإنما الفضل الأول لتكوين ملكات التفكير في عقل سعد هو
الأستاذ الإمام وكان سعد يعترف بهذا قولاً وكتابة، وقد نشرنا بعض مكتوباته له في
المنار، ونقلها عنا كوكب الشرق المنير، وعلى هذا يُقاس سائر النابغات في
الشرق والغرب.
بطلان كلامه في السفور والمخالطة
ثم قلت فيما سمَّاه (حق الوجود واستنشاق الهواء) إنه ثابت بنفسه في الواقع
وخلق الخالق، فالكلام فيه من تحصيل الحاصل، فلا يحتاج وجود النساء إلى
إثبات الخطيب لحقيته بالدلائل، فالنساء موجودات بدون حاجة إليه؛ وإنما الباطل
هو استدلاله به على وجوب تمزيق المرأة للحجاب والستور، الذي يعبرون عنه
بالسفور، واختلاط النساء بالرجال الذي ذقنا مرارته وتجرعنا غصصه بخروجهن
كاسيات عاريات يسبحن مع الرجل على شواطئ البحار، ويرقصن معهم في
مواخير الفساد، وكان من سوء تأثيره ما تردد الجرائد الشكوى منه من إعراض
الشبان عن الزواج، وأن عقلاء أوربا يشكون منه كما يشكو عقلاؤنا وفضلاؤنا،
ويخافون أن يقضي على تكوين الأسرة (العائلة) الذي يفضي إلى القضاء على
الأمة، ولا منجاة من هذا الخطر إلا بأحكام الإسلام وآدابه في الستر والصيانة كما
سنبينه في التفصيل الآتي:
حق المرأة في التعلم
وأما حق المرأة في التعلم فقد قلت فيه: إن الله تعالى فرض طلب العلم على
النساء كما فرضه على الرجال - فهو واجب عليهن في الدين، وحق لهن على
الوالدين والأولياء، ومن العلم ما هو واجب عيني على الصنفين، وما هو واجب
كفائي، ومنه ما هو واجب عيني على أحدهما دون الآخر كالأحكام الخاصة بالنساء
فيما هو خاص بطبيعتهن كبعض أحكام الطهارة المعروفة، وما يَحْرُم عليهن في تلك
الأحوال، فهي أحكام تجب على كل امرأة ولا تجب إلا على بعض الرجال حفظًا
للعلم ... إلخ.
فكل علم تنتفع به المرأة في تهذيب نفسها وتربية أولادها وتدبير منزلها، فهو
حق مشروع، وقد جعل الشرع لها حق حضانة الأطفال دون الرجل، ولا يمكنها
القيام بها كما يجب إلا بمعلومات كثيرة تدخل في عدة علوم من أهمها على الصحة،
ولها أن تتعلم كل علم نافع للبشر وإن لم يكن مفروضًا عليها إذا كان لا يشغلها عن
المفروض من علم وعمل.
قلت: وما ظَلَمَ النساء مَن ظَلَمهن من الرجال إلا بسبب امتهان الأقوياء غير
المهذبين بتهذيب الدين للضعفاء، وذلك شأن كل قوي غير مهذب من ذكر وأنثى مع
من هو أضعف منه حتى الوالدين مع الأولاد، والعلم قوة يُحترم المتسلح بها بالطبع،
فتعلم النساء العلم الصحيح النافع يُثمر لهن احترام أزواجهن وغير أزواجهن لهن،
كما يحترم الوالدان الولد المتعلم المهذب، ويحتقران أخاه الجاهل الفاسد الأخلاق.
ومما أزيده على ذلك الإجمال في المناظرة أنني قد بيَّنت هذا الموضوع أحسن
البيان في مواضع من المنار أعمها ما قلته وما نقلته عن الأستاذ الإمام في تفسير
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:
228) في الجزء الثاني من تفسير المنار وسأذكر بعضه في هذه المقالات.
وأما حق الحياة في المجتمع فقد بيَّنت حكم الشرع فيما ذكره منه، وهو حق
اختيار الزوج، وحق الطلاق كالرجل، وحق صيانة نفسها من ضرر تعدد الزوجات.
قلت: إن الرضا بالزوج حق شرعي قررته السنة الصحيحة للمرأة، وأن من
قال من الفقهاء بجواز إجبار الأب لبنته البكر على الزواج قد اشترطوا له شروطًا
ولصحته شروطًا منها الكفاءة وعدم العداوة الظاهرة بينها وبين الولي، وعدم العداوة
الظاهرة أو الباطنة بينها وبين الرجل الذي يراد تزويجها به، وقرأت أبياتًا فقهية في
هذه الشروط.
وأما الطلاق فلو جُعل حقًّا مطلقًا للنساء كالرجال لفسدت البيوت، وانقطع
سلك نظام (العائلات) بالإفراط فيه كما تُحدِّثنا الصحف عن أعظم أمم الغرب مدنية
ولا سيما الأميركان، على أن للمرأة أن تشترط في عقد النكاح أن يكون أمرها بيدها،
وهذا الشرط يعطيها حق تطليق نفسها، وقد فعل هذا كثيرات، ومن الفقهاء من
أباح للزوجة أن تشترط على الزوج أن لا يضارها بزوج أخرى، وسنبين هذا في
مقال آخر إن شاء الله تعالى.
وأما حق الامتلاك للنساء كالرجال، فالشرع الإسلامي فيه أوسع الشرائع
وأرحمها، ومن رحمته وحكمته أحكام الإرث، وقد تكلمت في ذلك حتى أسكتني
الرئيس بانتهاء الوقت، فلا أذكر مما قلته شيئًا في هذا الإجمال، بل أدعه للتفصيل
تفاديًا من التكرار، وكذلك الحق السياسي وحسبنا ما كتبناه اليوم.
(يُنظر الجزء التالي)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) وضع هذا العنوان خطأ من لجنة المناظرة لأنه حكم بالباطل في موضوع تطلب المناظرة فيه.
(2) هذا تعليل لقبول الدعوة على شذوذها وعدم لياقة المناظرة بي، ووجهه أنني أريد إظهار ضلال هذه الآراء في المدرسة الجامعة.
(3) كنت ظننت أنه ينشره , ولعله لم يفعل لما ظهر من قوة حجتنا على بطلانه.(30/535)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مُلك اليهود وهيكلهم
ومسيحهم والمسيح الحق
(خلاصة تاريخية دينية في مُلك إسرائيل ومسيحهم، وحكم النصرانية
والإسلام فيهم، وما ورد في ذلك من أنباء النبيين، ننشرها إيضاحًا لما كتبناه في
مسألة الصهيونية وثورة فلسطين)
كان إسرائيل - وهو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام -
يعيش هو وأولاده في براري فلسطين، ولما مكَّن الله تعالى لولده يوسف في أرض
مصر جذبهم إليها، فكثروا فيها حتى صاروا شعبًا كبيرًا؛ ولكنهم ظلوا محافظين
على نسبهم ومقوماتهم، فسامهم الفراعنة في مصر سوء العذاب، واضطهدوهم أشد
الاضطهاد، ولم يقووا على سحقهم، ولا على إدغامهم في قومهم، حتى أرسل الله
تعالى فيهم نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فنجّاهم بما أيده به من
الآيات من ظلم آل فرعون، ورباهم في التيه أربعين سنة رأوا فيها من آيات الله ما
لم يره غيرهم من الشعوب، وقاسى موسى في سياستهم من العناد واللدد، والإدلال
والصلف، ما يقضي التاريخ منه العجب، حتى إن التوراة وصفتهم عن وحي الله
تعالى بالشعب الصلب الغليظ الرقبة.
وكان استذلال الفراعنة لهم قد سلبهم الشجاعة والبأس، فجبنوا عن دخول
الأرض المقدسة إذ كان لابد من قتال أهلها الجبارين، فقضى التيه على أولئك
الجبناء الأذلاء، ونشأ فيه جيل جديد قوي الأبدان، قوي الجنان والإيمان، فقاتل
أهل البلاد المقدسة التي خرج من مصر ليتبوأها، فكتب الله له النصر عليهم فغلبهم
على وطنهم ليديل للتوحيد من الشرك، وللعدل من الظلم، وللفضيلة من الرذيلة،
وكان له هنالك تاريخ مجيد: أنبياء وملهمون، وقضاة عادلون، وملوك معمرون
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) .
ثم دب إليه الفساد فعبد الأوثان، وفسق عن أمر الديّان، وكفر بنعم الرحمن،
وقتل الأنبياء، وظلم الأبرياء، فسلط الله عليه الأمم القوية فانتقمت منه أشد الانتقام:
ثلت عرشه وخرَّبت عاصمة ملكه (أورشليم) وهدمت بيت الرب المعروف
بهيكل سليمان المرة بعد المرة، وسلبت ما كان فيه من القناطير المقنطرة من الذهب
والفضة، التي ضاعف قيمتها ما فيها من لطيف الصنعة، والأثارة الدينية والتاريخية
للملة والأمة، وسَبَتْ النساء والرجال والأطفال وأجلتهم عن الديار، وكان هذا تربية
بالشدة والذلة، بعد أن أبطرتهم تربية النعمة والعزة، ثم رحمهم الله تعالى فعطف قلب
مَلِك بابل عليهم فأعادهم إلى وطنهم، وأذن لهم بإعادة هيكلهم، وإقامة ما حفظوا من
شريعته وشريعتهم، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) حتى إذا ما استمرءوا مرعى النعمة، وأنسوا من أنفسهم القوة
عادوا إلى طغيانهم وبغيهم، فعاد نزول العقاب الإلهي عليهم. وما زالوا كذلك حتى
أحاط غضب الله تعالى بهم، وقضى القضاء الأخير بزوال ملكهم، وتسجيل الذل
الدائم عليهم بجعلهم تابعين لغيرهم، كما أنذرهم أنبياؤهم وقص الله ذلك في آخر كتبه
السماوية الإنجيل فالقرآن على لسان آخر رسله عيسى فمحمد عليهما الصلاة والسلام
قال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا
تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الآيات: 4- 8) سورة بني إسرائيل أو الإسراء.
أفسدوا أولاً بعبادة الأوثان والظلم فسلط عليهم البابليين الوثنيين فجاسوا خلال
مملكتهم وجعلوها تابعة لهم تؤدي إليهم الخراج، وكان ذلك في القرن السابع قبل
المسيح، ثم أعاد لهم الكرة وأمدهم بالمال والقوة فأفسدوا المرة الثانية، فأعاد انتقامه
منهم، وهو المراد بوعد الآخرة، ثم عطف عليهم بالرحمة، منذرًا لهم بأنهم إن
عادوا إلى الفساد عاد إلى النقمة، فعادوا فسلط الله عليهم الرومان الوثنيين
المصريين وغير المصريين، فالمسيحيين، فالمسلمين.
كانت أولى تلك النكبات الكبرى نكبة بختنصر ملك بابل في سنة 586 قبل
الميلاد بعد عصيان اليهود عليه وكانوا خاضعين لملكه، فأثخن في جيشهم فكان
يقطع أجساد العسكر إربًا إربًا وسمل عيني ملكهم، وأرسله إلى بابل ودمر المدينة
المقدسة (أورشليم) والهيكل وأحرقهما بالنار (وكان في الهيكل تابوت العهد وفيه
توراة موسى بخطه وألواح العهد) وقتل جميع أهلها إلا قليلاً منهم أرسلهم إلى بلاده
عبيدًا.
ولما عاد بعضهم من السبي إلى بلادهم سنة 535 قبل الميلاد بأمر ملك بابل
شرعوا في إعادة بناء الهيكل بمساعدة أهل الجوار، فلم يتيسر لهم فتركوه سنة
522، ثم عادوا إليه سنة 519 وأتموه سنة 515 قبل الميلاد، وحسنت حالهم بعد
السبي إذ كان خير تربية لهم فمقتوا عبادة الأوثان، ثم أحسن معاملتهم الإسكندر
المقدوني، وفي أيامه خلصوا من سلطة الفرس، ثم وقعوا بعده تحت سلطان مصر
تارة، وسلطان سورية أخرى، ولم يكن المصريون يعرضون لهم بشيء من أمور
دينهم؛ ولكن بطليموس الرابع غضب عليهم فأهانهم، ودخل قدس الأقداس في
هيكلهم فنجسه وأهان الدين فيه سنة 217، فدخلوا في حماية ملك سورية باختيارهم
فرارًا من ظلمه، وكانوا متقلبي الأحوال مع هؤلاء الحكام المجاورين حتى إذا ما
استولى الرومان على هذه البلاد كلها كانت بلاد اليهودية ولاية رومانية، فظلمهم
الروم أيضًا ظلمًا شديدًا لا يُطاق.
ولما عجزوا عن حمل أعباء الظلم يئسوا من الحياة وخرجوا على الروم
مستبسلين طالبين للاستقلال، وذلك في سنة 66 بعد الميلاد فضيَّق الروم عليهم
الخناق، وكانت البطشة الكبرى خاتمة هذا القتال إذ استولى (تيطوس) على
أورشليم سنة 70 وتبرها تتبيرًا، وتركها أكوامًا من الرماد السود وأحرق الهيكل مع
المدينة، ولم يُبق من تلك الأبنية الفخمة شيئًا إلا بعض أبراج السور تركها مراصد
للجيش الروماني، وذلك بعد حصار خمسة أشهر يقال إنه هلك في أثنائه ألف ألف
نفس ومائة ألف نفس، واسترق الباقي من اليهود، فهاجر كثير منهم إلى إيطالية
وجرمانية من أوربة واستوطنوها، وزال استقلال اليهود السياسي من الأرض فلم يقم
لهم بعد ذلك ملك مستقل، وقطَّعهم الله في أقطار الأرض كما أوعدهم على ألسنة
أنبيائه الذين يؤمنون بهم والذين كفروا بهم، أي من داود إلى عيسى ومحمد عليهم
الصلاة والسلام.
إنما تم عز القوم وبلغوا ذروة المجد في المُلك على عهد داود وسليمان عليها
السلام، وكانا نبيين مؤيدين بوحي الله وتوفيقه، وكان داود عليه السلام رجل حرب
وهو الذي فتح مدينة الرب (القدس) ووطد دعائم الملك، وبعد استوائه عليها جمع
الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من أدوات البناء لأجل بناء بيت للرب تقام فيه
شعائر الدين، فأوحى الله تعالى إليه - كما في تاريخهم المقدس - بأن بيت عبادته
لا يبنيه رجل سفك دماء عباده؛ وإنما الذي يبني بيته هو ابنه وخليفته سليمان،
وكذلك كان، ذلك بأن الله لا يحب الفساد ولا سفك الدماء ولا يأذن بالقتال لرسله
وعباده المؤمنين إلا لضرورة الدفاع عن الحق والعدل، والإدالة لهما من البغي
والظلم، كما قال في كتابه العزيز: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ} (البقرة: 251) وكما قال في تعليل إذنه لنبينا صلى الله عليه وسلم
وأصحابه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:
39-41) .
وكان داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء يوصون بني إسرائيل بإقامة شريعة
موسى ووصاياه، ويقيدون كل وعود الرب لهم بالأرض المقدسة والملك فيها - وهم
غرباء عنها - بإقامة هذه الوصايا كلها وينذرونهم فقد كل شيء بإخلالهم بشيء منها
وفاقًا واتباعًا لما جاءهم به موسى عليه السلام عن الله تعالى كما ترى في الفصل
(27 - 32 من سفر التثنية خاتمة التوراة) ومن تلك النذر بعد النذر واللعنات
التي تقشعر منها الجلود قوله بعده (28: 63 وكما فرح الرب ليحسن إليكم
ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت
داخل إليها لتمتلكها 64 ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى
أقصائها) وتكررت هذه الوصية والنذر التي علق الرب عليها إطالة أيام شعب
إسرائيل في الأرض التي وعدهم إياها أو عدم إطالتها، فهو - تعالى عن الظلم
والمحاباة - لم يهبهم إياها لذواتهم ولا لنسبهم، بل لإقامة الحق والعدل فيها فكانت
هبة مشروطة بشرط فسلبت بفقده.
وفي الفصل التاسع من سفر الملوك الأول أن الرب تراءى لسليمان بعد أن أتم
بناء بيت الرب (الهيكل) ووعده بأنه إذا سلك كما سلك أبوه داود بسلامة القلب
والاستقامة وعمل بجميع الوصايا وحفظ جميع الفرائض والأحكام؛ فإنه يجعل
كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد كما وعد أباه داود، وأنذره انتقامه منهم إذا كانوا
ينقلبون هم أو أبناؤهم ولا يحفظون وصاياه وفرائضه، ويذهبون فيعبدون آلهة
أخرى قال (7 فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها، والبيت
الذي قدسته لاسمي - أي الهيكل - أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في
جميع الشعوب 8 وهذا البيت يكون عبرة) ... إلخ، وأعاد هذا بعينه في الفصل
السابع من سفر الأيام الثاني، ومثله في أسفار أشهر أنبيائهم، وكذلك كان، ومرت
على ذلك القرون بعد القرون، وهم لا يزالون يزعمون أن أرض فلسطين ملك لهم
بوعد ربهم، فهم يحفظون وعده وينسون شرطه ولا يحفظون وعيده، وهو الصادق
في وعده ووعيده، والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود بل
يجوز، فهم لا حق لهم في هذه البلاد لا بنصوص كتبهم ووعد ربهم ولا بعرف
سائر الشرائع وقوانين الأمم.
ومن أغرب أحوال هذا الشعب أنه استحوذ عليه الغرور والعجب بكتبه
وأنبيائه ورسله حتى صار يحتقر جميع البشر، بل حتى صار يرى نفسه فوق
الأنبياء والكتب التي لولاها ولولاهم لم يكن شيئًا مذكورًا، فقد خالف عقائد التوراة
وأحكامها ووصاياها ونُذُرها وتهديدها، ووصايا سائر أنبيائهم ونُذُرهم، وقد حل به
ما أنذروه من العقاب والشقاء المرة بعد المرة، حتى قضي عليه القضاء الأخير
الذي لا مرد له، وإننا نفصل ذلك بعض التفصيل.
إن القوم أَلِفوا الشرك وعبادة الأوثان في مصر فأخرجهم الله تعالى منها
ليعبدوه وحده مع نبيه موسى عليه السلام، خرجوا وجاوزوا معه البحر فرارًا من
فرعون وقومه بعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى
أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) ولما ذهب موسى لمناجاة ربه في الجبل اتخذوا العجل الذهبي
وعبدوه حتى عاد وحرَّقه (سحقه بالمبرد) ونسفه في اليم نسفًا، ثم إن سلائلهم
الذين نشأوا في حجر التوحيد والمعجزات لما رأوا ما عليه أهل البلاد التي أعطاهم
الله إياها ونصرهم على أهلها ليقيموا التوحيد مقام الشرك - أعجبهم عبادتهم للأوثان
فعبدوها مثلهم وبنوا مذابح لصنمهم (بعل) وبعد أن ضعفت عبادة بعل وغيره في
زمن صموئيل وداود عليهما السلام عادت في أيام سليمان حتى جاء في سفر الملوك
الأول (11: 4) أن سليمان نفسه مال وراء الآلهة الغريبة، وكان لنسائه مذابح
وثنية خاصة؛ لأنهن كن وثنيات (برأه الله مما قالوا) ولما انقسمت المملكة بعده
إلى مملكتين - ليهوذا وإسرائيل - كان تاريخها جهادًا مستمرًّا بين عبادة الله وعبادة
الأصنام، حتى قيل: إنه لم يكن في زمن إيليا النبي في جميع إسرائيل من لم يسجد
لبعل إلا بضعة آلاف!
بشارة الأنبياء بالمسيح والنبي
كان أنبياء بني إسرائيل ينذرونهم سخط الله عليهم وعقابه على كفرهم وتركهم
لوصاياه، وكذلك كانوا يبشرونهم برفع عذابه عنهم إذا تابوا من ذنبهم، وأنابوا إلى
ربهم، ومما بشروهم به أنه تعالى سيرسل فيهم مسيحًا ملكًا يجمع شملهم، ويعيد
لمملكة صهيون مجدها، وأنه سيبعث نبيًّا رسولاً من بني إخوتهم (أي العرب)
كموسى - أي صاحب شريعة وسيف [*]- يجدد ملة إبراهيم وينصر التوحيد وأهله
على الشرك وأهله، فكانوا ينتظرون مسيحًا مبشَّرًا به يعبرون عنه (بالمسيح)
معرَّفًا، ونبيًّا مبشرًّا به يتناقلون خبره معرَّفًا أيضًا، وفي آخر نبوة ملاخي آخر
أنبيائهم قبل المسيح أن الرب سيرسل إليهم (إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم
والمخوف) وإيليا عندهم هو إلياس عليه السلام وكان قد خفي عليهم ما آل إليه أمره.
فكان اليهود ينتظرون إيليا والمسيح والنبي، ففي إنجيل يوحنا أنه لما ظهر
يوحنا أي الذي يلقبونه المعمدان (هو يحيى عليه السلام) أرسل إليه اليهود من
أورشليم بعض الكهنة واللاويين ليسألوه من هو؟ فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا،
أإيليا أنت؟ قال: لا، آلنبي أنت؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت لنجيب الذين
أرسلونا؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي
(1: 9 - 23) .
أما إيليا فلم يأت؛ ولكن النصارى يقولون: إن الوعد بمجيئه رمزي وقد
حصل، وأما المسيح فقد ظهر مؤيدًا بالآيات البينات فكذَّبه أكثرهم وطعنوا في والدته
الطاهرة، وحاولوا قتله كما قتلوا زكريا ويحيى من خيار أنبيائهم، فنجاه الله تعالى
منهم واشتبه أمره عليهم وعلى غيرهم، وكذلك النبي الأعظم (محمد صلى الله عليه
وسلم) الذي بشر به أشهر أنبيائهم وفاقًا لبشارة التوراة، ومن أوضحها بشارة إنجيل
عيسى عليه السلام في كثير من الآيات والأمثال التي ظهر مصداقها فيه دون غيره،
جاء مؤيدًا بالكتاب العزيز الذي هو آية في نفسه، متضمنه للآيات الكثيرة في نظمه
وأسلوبه وأخباره وعلومه وتشريعه، فكذبوه كما كذَّبوا عيسى وقاتلوه بعد أن حاولوا
قتله اغتيالاً كدأبهم في قتل الأنبياء من قبله، فنصره الله عليهم وفاقًا لأخبار التوراة
والنبوات أيضًا [تراجع نصوص البشارات التي أشرنا إليها في تفسير قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) في الجزء التاسع من تفسيرنا (ص ج 9) ] .
ذلك بأنهم صاروا قومًا ماديين لا يهمهم من أمر الحياة إلا الغنى والملك، فلما
رأوا أن المسيح ليس هو الملك الذي يطلبونه كذبوه ورأوا أن ما ذكره الأنبياء عن
(مسيا) من الملك والسلطان لا تصدق نصوصه بحملها عليه، إذ كان يقول: إن مُلكه
ليس من هذا العالم. وإنما يريدون مُلكًا من هذا العالم، كما هو ظاهر بشارات داود
وأرميا وزكريا وغيرهم، ولولا الآيات الباهرة التي أيَّد الله بها عيسى عليه السلام
لكان تأويل المسيحيين لتلك البشارات مردودًا بالبداهة كما قال السيد جمال الدين في
مقام الاحتجاج على بعض النصارى أنهم فصَّلوا من قطع متفرقة من العهد العتيق
قميصًا وألبسوه لِيسُوعِهم.
وقد كانت نذره النبوية عليه السلام أوضح من نذر غيره من الأنبياء ومتأخرة
عنهم، إذ قال كما في إنجيل متَّى في سياق توبيخ الكتبة والفريسيين (23: 37
يا أورشليم يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، كم مرة أردت أن أجمع
أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا 38 هو ذا بيتكم يترك
لكم خرابًا) يعني الهيكل … وقال أيضًا (24: 1 ثم خرج يسوع ومضى من
الهيكل فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل 2، فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع
هذه؟ الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض) ثم أخبرهم بأنه
سيظهر كثيرون كل منهم يدعي أنه هو المسيح ويضلون كثيرين وتكون فتن كثيرة،
وتقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة ... إلخ، ومثله في لوقا (121: 5) ...
إلخ.
وقد صدق قوله عليه السلام بما فعله تيطس بعد اجتماع الأسباط في أورشليم
من تدميرها وإحراق الهيكل (سنة 70م) كما تقدم، وصدق أيضًا فيما أخبر من
قيام المسحاء الكذبة وكان أشهرهم (ياركوكبة) الذي قام سنة 135 ب م، فثار معه
اليهود فقاتلهم الرومانيون حتى روي أنهم قتلوا منهم نصف مليون أو 600 ألف
نفس وخرَّبوا أورشليم وجعلوها مستعمرة رومانية، وبقي آخرهم وهو المسيح
الدجال الأكبر الذي يمهدون البلاد له.
وقوله عليه السلام: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا ينقض - يقتضي
صدقه أن تيطس لم يُبق من بناء الهيكل شيئًا، وأن الذين يزعمون أنه قد بُني شيء
من بعض جدران السور الخارجي له كاذبون، وكل من صدقهم يكون مكذبًا للإنجيل.
وقد كانت أحداث الزمان مؤيدة لقوله عليه السلام وزيادة في إيمان المؤمنين
به وأعظمها أن الإمبراطور يوليانس أراد إعادة بناء الهيكل سنة 363 بعد الميلاد،
ونشط اليهود في تنفيذ إرادته فلما حفر الفعلة الأساس فاجأتهم براكين جهنمية
مزعجة أظلم المكان بما أحدثته من الدخان والغبار، وتكسرت أدوات العمل بما أثار
الانفجار من قذائف النار، فولوا الأدبار، ولم يعقبوا بعد ذلك الفرار، وحاول
اليهود العمل ثانية فشعروا بقوة خفية تدفعهم بعنف عظيم ذُعروا له فولَّوا مدبرين،
وتركوا أدوات العمل يائسين.
ومن ثم اعتقد النصارى أن جميع بشارات أنبياء بني إسرائيل انتهت بظهور
المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وأنه لن يعود لليهود ملك مستقل، ولا هيكل
تُقام فيه شعائر دينهم المنسوخ، وأن جميع تلك البشارات المخصصة لتلك النذر
والتخويفات قد انحصرت بمن اتبع المسيح الحق منهم إذ لا مسيح بعده، وصار
أتباعه هم شعب الله الخاص والكافرون به هم أعداء الله.
ثم جاء الإسلام فكان أعظم مظهر لبشارات المسيح ونُذُره من الوجوه التي
فهمها أتباعه الأولون قبل البدع والتقاليد التي أيدها ونشرها ونصرها الإمبراطور
قسطنطين ومَن بعده، فأورث الله أهله البلاد المقدسة وبنوا مسجد الله المسمى
بالأقصى في مكان الهيكل المدمَّر لإقامة عبادة الله تعالى وحده، فلم يصدهم عنه من
الموانع الخارقة للعادة التي صدت الإمبراطور يوليانس واليهود؛ لأن الإسلام جاء
مصدقًا لموسى وعيسى والنبيين الذين بشَّروا به، لا مكذبًا كاليهود.
ومما أخبر به الله تعالى في كتابه القرآن أنه جعل الذين آمنوا بالمسيح واتبعوه
فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة، وأنه ضرب على اليهود الذلة بفقد المُلك إلى
يوم القيامة، ومما أخبر به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر دجالون
يكون آخرهم الدجال الأكبر الذي يدعي أنه هو المسيح الموعود به فيتخذه اليهود
ملكًا يحاربون تحت رايته في البلاد المقدسة، وأن الله تعالى يُظهر المسلمين عليهم
فيقتلونهم تقتيلاً، ويُظهر المسيح الحق بما شاء الله فيقضي على المسيح الدجال،
وتظهر لجميع الأمم حقية الإسلام وبعد ذلك تقوم الساعة العامة الكبرى كما أنبأ
القرآن، دون ما ينتظر الأقوام.
ونتيجة ما تقدم كله أن اليهود الصهيونيين والمؤيدين لهم من المغرورين
يحاولون نقض عقائد المسلمين والنصارى، وتكذيب عيسى ومحمد عليهما الصلاة
والسلام وهم زهاء نصف البشر في الأرض وأصحاب الملك والملك في الشرق
والغرب، وكان من أعظم أسباب غرورهم تمكنهم من استخدام عظمى الدول
المسيحية في الأرض على التمهيد لهذا التكذيب وهي الدولة البريطانية.
إننا نعلم أن الإنكليز استخدموا اليهود لإضعاف العرب بإيجاد عدو لهم في
بلادهم يقطعون صلة بعضها ببعض، ويشغلون كلاًّ منها بالآخر متكلاً على الإنكليز،
وأقل فائدة لهم في ذلك أن يحولوا مقاومة العرب لاحتلالهم بلادهم إلى اليهود،
كدأبهم الذي ضربنا له مثل السيل يقذف جلمودًا بجلمود؛ وإنما عجبنا من سكوت
الدول والأمم المسيحية لهم على إيواء أعداء المسيح إلى بلده، وهو يستلزم تكذيب
نذره.
وأعجب من ذلك أن دسائس اليهود تمكنت من إغواء كثير من نصارى أوربة
وأمريكة وإقناعهم بأن الإيمان بالكتاب المقدس يقتضي مساعدتهم على العودة إلى
فلسطين وامتلاك أورشليم ... إلخ، تصديقًا للأنبياء وتحقيقًا لظهور المسيح الذي
يختلف الفريقان في شخصه وعمله، فاليهود يعنون مسيحهم الملك الدنيوي الذي
يعيد ملك سليمان لهم، والنصارى يعنون المسيح عيسى بن مريم الذي يجيء في
ملكوته ليدين العالم.
وقد بلغ الهوس بجمعية تلاميذ التوراة أن نشرت في سنة 1920 كتابًا عنوانه
(ملايين من الذين هم أحياء اليوم لن يموتوا أبدًا) ملخصه أن نبوات العهدين القديم
والجديد تفسر بأن استعمار اليهود الصهيونيين لفلسطين تمهيد لتفسيرها كلها بإقامة
(مملكة مسيا) على حساب نظام اليوبيل اليهودي وأن هذا الأمر يتم سنة 1925،
فيقوم الأموات من قبورهم ويرجع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقدماء الأنبياء
المؤمنين إلى أورشليم، ويتم الأمر فلا يموت بعد هذا أحد! !
وسننشر بعض نصوص هذا الهوس المسيحي الذي كذَّبه الزمان بعد خمس
سنين من نشره؛ وإنما غرضنا هنا التنبيه لهذه الدسائس اليهودية والأوهام الدينية،
وإعلام الإنكليز بأن حكومتهم قد فتحت باب فتنة دينية دنيوية تكون عاقبتها شرًّا
عليهم وعلى البشر عامة مما يظنون ويقدرون، فاتفاق العرب مع الذين يريدون
سلب وطنهم وتقطيع روابط أمتهم، والجناية على دينهم ودنياهم - ضرب من المحال
وأنه لا علاج لهذه الفتنة إلا القضاء على هذه المطامع، وقد أعذر من أنذر.
__________
(*) في الفصل 18 من سفر تثنية الاشتراع يقول موسى (ع م) للشعب (17 قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا (18) أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيتكلم بكل ما أوصيه به) ولم يُقم الرب من بعد موسى نبيًّا مثله صاحب شريعة مستقلة غير محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع أنبيائهم كانوا تابعين لشريعته حتى عيسى عليه وعليهم السلام؛ وإنما نسخ الله تعالى على لسان عيسى قليلاً من أحكام التوراة (وفي الفصل 33 منه جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران) وفاران مكة كما يعلم من سفر التكوين 21: 21 إذ يقول في إسماعيل (21 واسكن في برية فاران) .(30/546)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(الجزء الثالث من كتاب الأعلام)
سبق لنا تقريظ لهذا الكتاب بعد صدور الجزأين الأول والثاني منه، وقد بُدئ
هذا الجزء بحرف الكاف، وأتم بحرف الياء، فبلغت صفحات الأجزاء الثلاثة به
1187 صفحة، فحق على جميع كتاب العربية ولا سيما المصنفين والمؤرخين
ومحرري الصحف أن يشكروا لمؤلفه أديب الشام وشاعرها الأستاذ (خير الدين
الزركلي) الشهير هذه المنة التي لا يستغني عنها أحد منهم، فلعمري إن حاجتهم
إلى هذا الكتاب كحاجتهم إلى معجم من معاجم اللغة، وينبغي أن لا يخلو منه مكتب،
وأن يكون بين الأيدي بجانب أساس البلاغة والقاموس ونحوه، كذلك خزائن
الكتب العامة والخاصة ينبغي أن يكون في كل منها عدة نسخ من هذا الكتاب؛ لأنه
كما ادّعى واضعه في فاتحته - وصدق - قد ملأ فراغًا في الخزانة العربية قد تُرك له
مدة هذه القرون الطويلة، بجمعه أسماء أشهر الرجال والنساء من العرب
والمستعربين من عهد الجاهلية وأول الإسلام إلى هذا العصر ما عدا الأحياء من أهله،
وضبط الأسماء والألقاب وحدد سني الوفاة لمن عُرفت سنة وفاته وهم الأكثرون
بالتاريخين الهجري والميلادي، وبيَّن أهم المزايا والكتب التي صنَّفها المصنفون منهم
مع الرمز إلى ما طُبع منها وما لم يُطبع، وأنه قد لخَّص ترجمة أعظم رجل ذُكر فيه،
بل أعظم رجل خلقه الله (محمد رسول الله وخاتم النبيين) في 3 صفحات وبضعة
أسطر فقط.
وقد وعد بوضع جزء رابع يستدرك به ما فاته في هذه الأجزاء، ولما كان قد
دعا قراء الكتاب إلى نقده، فالمرجو من قرائه من أهل العلم وأصحاب الاطلاع
على المطبوعات أن يبينوا له ما يعثرون عليه من سهو أو غلط ليدونه في جزء
المستدرك ليتم به ضبط الكتاب بالدقة اللائقة به.
وأذكر من ذلك أنه غلط في ترجمة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) فذكر
أنه وُلد في عين شمس وهو إنما سكنها في بضع السنين الأخيرة من عمره، وذكر
من مؤلفاته (تفسير القرآن الحكيم) وقال: إنه لم يتمه، والصواب أنه ليس له إلا
تفسير (جزء عم) فقط، وله كتب أخرى لم يذكرها، أشهرها كتاب (الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية) و (رسالة الواردات) ومنها حاشيته على عقائد
الجلال الدواني وكلها مطبوعة.
وقد راجعت أخيرًا ترجمة الحافظ الذهبي فرأيته يضع عند ذكر كتابه (ميزان
الاعتدال) حرف (خ) للإشارة إلى أنه مخطوط لا مطبوع، والصواب أنه قد طُبع
في الهند ثم في مصر، ولعل هذا من غلط الطبع ولابد من تصحيحه في المستدرك.
***
صحف إسلامية عربية
يسرنا أن تكثر الصحف الإسلامية الرشيدة في أوطاننا العربية في هذا العصر
الذي طغى فيه طوفان الإلحاد، واستشرى وباء الفساد، وكثرت صحفهما في البلاد،
وجهر كُتَّابهما بالدعوة، مساعدة للمبشرين على نكث فتل الأمة، وتقطيع روابط
الملة، وإننا نذكر المهم من هذه الصحف:
(مجلة الشبان المسلمين)
(مجلة إسلامية علمية تهذيبية تصدرها جمعية الشبان المسلمين مرة في
الشهر، ويحررها نخبة من أعضائها، رئيس التحرير المسئول: الدكتور يحيى
أحمد الدردير) وإنه ليسرنا أن يوفق الله تعالى هذه الجمعية النافعة لإصدار
مجلة إسلامية تكون أكبر عون لها على ما تقصد من تأسيسها وهو التهذيب
الإسلامي مع العلم العصري والتربية الملية الوطنية، وهذا ضرب من التجديد
النافع المطلوب، المقاوم لتجديد الإلحاد والفسق والفجور، الذي تَنَحَّلَه أفراد مكنتهم
فوضى الآداب وحرية الفساد من انتحال لقب التجديد لأنفسهم، وهم لا يبغون منه
إلا الكسب بإفساد الشعب.
وإنه ليسرنا أن يكون صديقنا الدكتور أحمد يحيى الدردير رئيس التحرير لهذه
المجلة النافعة، فقد عرفناه من اختلافنا إلى نادي الجمعية لإلقاء بعض المحاضرات،
أو رد الشبهات، أو لسماع مثل ذلك، أو لمحض الزيارة والمذاكرة، أنه خير
أهل لهذه الخدمة بما له من الاطلاع الواسع على العلوم والفلسفة، ولا سيما علم
النفس والتربية، مع البصيرة والوجدان في الدين واليقين فيه، والغيرة عليه، وإنه
ليسرنا أيضًا أن تبارى أقلام خيار الكُتَّاب المسلمين في تحرير هذه المجلة، في
العلوم والأعمال المختلفة، فهي بذلك قد استكملت الأسباب العلمية الأدبية لها،
وقيمة الاشتراك السنوي في مصر 25 قرشًا لعضو الجمعية، و30 قرشًا لغير
العضو، وفي غير مصر 30 لعضو الجمعية، و40 لغير العضو، وهو مبلغ قليل
فنحث المسلمين كافة وطلاب العلوم وطوالبها خاصة على الإقبال على هذه المجلة
والاشتراك فيها وعلى الاشتراك في جمعيتها أيضًا.
وبهذه المناسبة يسرنا أن نعلن للعالم الإسلامي أنه صار لدينا بمصر ثلاث
مجلات لجمعيات إسلامية، تؤازرها مجلات أخرى في سائر الأقطار، وهي:
(مجلة مكارم الأخلاق)
وهي أقدمها لأنها تناهز عمر المنار في نشأتها الأولى، وقد جدد شبابها
تولي الأستاذ الشيخ محمود محمود من أستاذي مدرسة المعلمين العليا رياسة
تحريرها، وناهيك به علمًا وفضلاً وغيرة، فهي الآن خير مما كانت منذ وجدت،
و (مجلة الهداية) .
ولدينا في خارج مصر (مجلة الإصلاح) الحجازية و (مجلة الكويت) وقد
دخلتا مع مجلة الهداية جميعًا في السنة الثانية فنهنئهن بذلك، و (مجلة الشهاب)
الجزائرية و (جريدة الإصلاح) الجزائرية.
(الجامعة الإسلامية)
(صحيفة إسلامية: علم. أخلاق. أدب. تاريخ) تصدر في حلب مرتين في الشهر موقتًا، مديرها ومحررها الأستاذ محمد علي الكحال، قيمة الاشتراك السنوي فيها أربعون قرشًا مصريًّا ولطلاب العلم وطوالبه 32 قرشًا، وإنا لنتمنى لهذه الجريدة النجاح والفلاح.
(المستقبل)
(صحيفة نقد وأدب وفن ودعاية لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ إبراهيم
صالح شاكر) تصدر مرتين في الشهر في مدينة بغداد، وعسى أن يُقْبِل عليها قراء
العربية في جميع البلاد، فإنها تعنى بالدعاية العربية، بلغة فصيحة عربية، يتغلغل
الإخلاص للوحدة العربية في أحشائها، ويفيض من جميع جوانبها، وعسى أن تجد من
الإقبال ومن الحرية ما يمكِّن صاحبها الغيور من جعلها أسبوعية، ثم من تكبير حجمها
مع بقائها أسبوعية، ومن إبقاء اشتراكها على ما هو الآن: عشر روبيات في العراق
و15 روبية في سائر الآفاق.
__________(30/556)
الكاتب: فؤاد صروف
__________
المجمع المصري للثقافة العلمية
بيان عام
صحت عزيمة طائفة من المشتغلين بالعلم ونشره في هذا القطر على تأسيس
مجمع علمي يدعونه (المجمع المصري للثقافة العلمية) تكون أغراضه:
(أولاً) نشر الثقافة باللغة العربية.
(ثانيًا) ترقية اللغة العربية بكتابة المباحث العلمية بها ونشرها.
(ثالثًا) إنشاء رابطة للمشتغلين بالعلم من أبناء اللغة العربية.
والطريقة التي ينوي أن يجري عليها لتحقيق أغراضه هذه هي:
(أولاً) عقد مؤتمر سنوي لإلقاء الخطب العلمية وتلخيصها ونشرها ملخصة
في الصحف السيارة والمجلات، ثم طبعها كاملة في مجموعة توزع وتباع.
(ثانيًا) إلقاء خطب علمية دورية.
(ثالثًا) عدم تعرضه للسياسة والدين.
أما لغته فاللغة العربية، وأما مركزه فالقاهرة عاصمة المملكة المصرية.
وفيما يلي أسماء الفضلاء الذين قبلوا حتى كتابة هذه السطور أن ينتظموا في
هيئة مجلسه التأسيسي:
الدكتور علي إبراهيم بك - رئيس ... الدكتور محمد رضا مدور
المجمع لسنة 1930 ... الدكتور كامل منصور ... ... ... ...
الدكتور محمد شاهين باشا ... ... ... الدكتور جرجي صبحي
الدكتور فارس نمر ... ... ... ... الدكتور علي حسن ... ... ... ... الدكتور خليل عبد الخالق ... ... ... الدكتور أحمد زكي أبو شادي ... ... ... ... الدكتور عبد العزيز أحمد ... ... ... الدكتور شخاخيري ... ... ... الدكتور علي مصطفى مشرفة ... ... الأستاذ إسماعيل مظهر ... ... ... ... الدكتور حسن بك صادق ... ... ... الأستاذ سلامة موسى ... ... ... ... الدكتور محمد شرف ... ... ... ... الأستاذ فؤاد صروف سكرتير عام دائم
... ... ... ... ... ... الأستاذ كامل كيلاني مساعد سكرتير
وقد اجتمع المجلس التأسيسي، وقرر أن يعقد مؤتمره السنوي الأول في الثاني
من فبراير الذي يبتدئ في يوم الجمعة 7 فبراير، وينتهي في 14 منه، وسيعلن
عن برنامج هذا المؤتمر، وأسماء الخطباء وموضوعات خطبهم ومكان إلقائها في
أواسط يناير القادم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد صروف ... ... السكرتير العام الدائم
(المنار)
استغربنا تأليف إدارة المقطم والمقتطف لهذا المجمع من الدكاترة الكرام،
وبعض الملاحدة المفسدين للأديان والآداب الذين جهر بعضهم بالدعوة إلى الإلحاد،
ولا سيما الطعن في الإسلام، وإلى إفساد الآداب الدينية والمدنية بما يسميه الأدب
المكشوف، وأما الأطباء فالخدمة التامة الخاصة بهم موضوعها حفظ أبدان البشر من
الأمراض ومعالجة ما يعرف لها منها، ويقل فيهم من يجد وقتًا للعناية بالثقافة التي
هي موضوع هذا المجمع إن كان مستعدًّا لها من قبل.
وكان يجب أن يكون أكثر أعضاء هذا المجمع من كبار المدرسين في
المدارس العالية ومنها الأزهر الشريف، ومن كبار الكتاب المحررين والعلماء
المؤلفين للكتب النافعة، وأن يكون فيها من يمثل الجمعيات الأدبية والأخلاقية ومنها
جمعيتا الشبان المسلمين والشبان المسيحيين، ولا يعقل أن تبحث اللجنة المؤسسة
لهذا المجمع عن عقائد من تعرف فيهم الصفات المؤهلة له، وتشترط فيها شيئًا،
ولكن يجب أن لا تقبل من يكون داعية للإلحاد والفوضى الإباحية في الآداب
مشهورًا بالطعن في رجال الدين، ولا من يكون معروفًا عنه أنه يبغي بالثقافة
العلمية نسخ الثقافة الدينية وإقامتها مقامها، ولا يكفي في تأمين المتدينين على
أديانهم أن يشترط في خطب المؤتمر عدم التعرض فيها للسياسة والدين؛ فإن أشد
المتعرضين للدين وقاحة وطعنًا يدعي عدم التعرف له.
ثم إن المقاصد التي ذكرت في البيان مجملة مبهمة وحاصلة بدون تأليف مجمع
خاص لأجلها إلا مسألة المؤتمر، وهي مسألة قد سبقت جمعية الرابطة الشرقية إلى
درسه والسعي له فما معنى افتئات هؤلاء عليها فيه؟ ولماذا لم يشتركوا معها في
سعيها؛ حتى إذا ما اجتمع المؤتمر اقترح عليه تأسيس المجمع اللغوي الأدبي
المطلوب، إن لم تسبق إلى تأسيسه الحكومة المصرية؟ وكذلك الرابطة بين رجال
العلم هو من موضوعها.
__________(30/559)
رمضان - 1348هـ
مارس - 1930م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستفتاء في حقيقة
الربا القطعي المحرم لذاته والربا الظني المنهي عنه
لسد الذريعة، والبيع والتجارة
(4)
ليس في الشريعة الإسلامية مسألة مدنية وقع فيها الخلاف والاضطراب منذ
العصر الأول، ثم مازالت تزداد إشكالاً وتعقيدًا بكثرة بحث العلماء إلا مسألة الربا،
فهي تشبه مسألة القدر في العقائد، فأما ما جاء من النصوص القرآنية في المسألتين
فبيّنٌ كالشمس لا مجال للشبهات فيه، وأما السنة العملية القطعية في مسألة الربا
فهي تنفيذ لحكم الكتاب الإلهي، وأما الأحاديث النبوية القولية فهي قسمان: (الأول)
نص صحيح الرواية قطعي الدلالة في حصر الربا فيما حرمه الله منه في كتابه وهو
(ربا النسيئة) الذي لم تكن العرب تفهم منه غيره؛ لأنه هو المعروف عندهم دون
غيره وهو حديث أسامة المرفوع المتفق عليه (لا ربا إلا في النسيئة) هذا لفظ
البخاري ولفظ مسلم (إنما الربا في النسيئة) و (الثاني) نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن البيوع التي قد تؤدي إليه لسد الذريعة دون ارتكابه (كنهيه صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية سدًّا لذريعة الزنا
المحرَّم بنص كتاب الله تعالى) وهو حديث عبادة وغيره الذي كرره المفتي الهندي،
وهذا هو الذي سموه (ربا الفضل) .
ولما حرَّم الله الربا في كتابه وتوعد عليه قرن تحريمه بحِلِّ البيع وحِلِّ التجارة
التي هي أعم من البيع، فعُلم من ذلك أن حقيقة الربا المحرم غير حقيقة البيع
والتجارة المحللين، وذلك أن البيع والتجارة معاوضات في الأعيان والمنافع بين
طرفين يتراضيان باختيارهما على المبادلة فيها - وأما الربا المنصوص في القرآن
فليس فيه معاوضة بين متعاقدين في شيئين، بل هو عين يأخذه أحد الطرفين من
الآخر بغير مقابل له من عين ولا منفعة، بل لأجل تأخير قضاء دين مستحق عليه
إلى أجل جديد لعجزه عن قضائه حالاً.
وقد بيَّن بعض العلماء المستقلين في الفهم هذه المعاني كلها؛ ولكن الذين
أولعوا بتكثير الأحكام في الحلال والحرام وضعوا لأنفسهم قواعد للاستنباط ومناطات
للتشريع أدمجوا بمقتضاها الربا المحرم القطعي بالنص الإلهي - المتوعد عليه فيه
بالوعيد الشديد لما فيه من الضرر الفظيع والظلم العظيم - في البيع المنهي عنه لسد
الذريعة، إذ لا ضرر فيه يقتضي الوعيد الشديد بحسب أصول الشرع وحكمة
الحكيم الرحيم فيه، ومنهم من سوَّى بينهما، ولم يكتفوا بذلك، بل وضعوا بآرائهم
أحكامًا جديدة في الربا ليس فيها نص من الشارع قطعي ولا ظني، ولا تتفق مع
أصول الدين ولا حكم التشريع، ولا تعليل النص لتحريم الربا بقوله عز وجل:
{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) كقولهم
إن علة الربا هي كون ما يتبايع به الناس مكيلاً أو موزونًا، فكثَّروا بذلك مسائل
الربا وخرجوا بها عن محيط المعقول والمنقول معًا، فجعلوها من التعبديات التي لا
تثبت إلا بنص صريح قطعي من الشارع وخالفوا بهذا أئمتهم وسلفهم الصالح الذين
كانوا يتقون الجرأة على التحليل والتحريم بالاجتهاد والرأي لما ورد فيه من الوعيد
الشديد في كتاب الله تعالى.
قاعدة السلف في التحريم الديني
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل:
116) وقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) وقال جل جلاله:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف:
33) وقال تبارك اسمه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) يعني أن شرع الدين هو حق الله تعالى وحده حتى أن جمهور
الأئمة المحققين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرِّم على الأمة شيئًا
برأيه، وأن ما ثبت عنه من تحريم شيء غير منصوص في القرآن فهو استنباط
من القرآن بما أراه الله تعالى فيه بإذن الله له فيه بمثل قوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) وقوله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) مثال ذلك تحريمه
صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح أخذه صلى الله
عليه وسلم من تحريم الجمع بين الأختين لعلمه بأن علتهما وحكمتهما عند الله تعالى
واحدة، وتحريمه الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة أخذه من قوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) بجعل الإسراف فيما يلابس الأكل
والشرب كالإسراف فيهما كما يظهر لنا، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل
ذوات الناب والمخلب من الوحش والطير المخالف لنصوص القرآن من حصر
محرمات الطعام في أربع، فهو للكراهة لا للتحريم كما فصلناه في تفسير {قُل لاَّ
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (الأنعام: 145) الآية فكل ما
زاده الفقهاء على ما ذكر بقياس جميع أنواع استعمال الذهب والفضة على الأكل
والشرب ينافي هذا الاستنباط على مخالفته للنص، فمن اعتقده فله أن يعمل به في
نفسه؛ ولكن ليس له جعله حكمًا عامًّا للأمة، فيكون تشريعًا لم يأذن به الله، وهو
مما عدَّه الله تعالى شركًا في آية (الشورى: 21) وفي معناها قوله تعالى في أهل
الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) روى
أحمد والترمذي وابن جرير في حديث إسلام عدي بن حاتم وكان نصرانيًّا أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال له: إنهم لم يعبدوهم، فقال
صلى الله عليه وسلم: (بلى إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام
فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) وله ألفاظ أخرى، وقال الربيع: قلت لأبي العالية:
كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما
يخالف قول الأحبار، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
وقال الرازي في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث والأثر في الآية: قال شيخنا
ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة
الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت
مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون
إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن
سلفنا وردت عن خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا في عروق
الأكثرين من أهل الدنيا اهـ.
وأقول: قد ذكرت في (رسالة اختلاف الأمة وسيرة الأئمة) التي بيَّنت فيها
مزايا كتابَي المغني والشرح الكبير في الفقه الإسلامي، ثم جعلتها خاتمة لكتاب
(يسر الإسلام وأصول التشريع العام) أن أئمة الأمصار وغيرهم من علماء السلف لم
يكونوا يجزمون بتحريم شيء على سبيل القطع وجعله تشريعًا عامًّا إلا إذا ثبت
عندهم بنص قطعي الرواية والدلالة، وأوردت الشواهد من سيرتهم في ذلك، ثم
إنني وجدت نصًّا لفظيًّا صريحًا في الموضوع أعم مما ذكرت، وهو ما في كتاب
الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في مسألة (سبايا الملك) من (كتاب
سير الأوزاعي) ما نصه (ص319 ج7) .
(قال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: إذا كان الإمام قد قال: من أصاب شيئًا فهو
له - فأصاب جارية لا يطؤها ما كان في دار الحرب، وقال الأوزاعي: له أن
يطأها، وهذا حلال من الله عز وجل بأن - ولعله قال: فإن - المسلمين وطئوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابوا من السبايا في غزاة بني المصطلق قبل أن
يقفلوا، ولا يصح للإمام أن ينفل سرية ما أصابت ولا ينفل سوى ذلك إلا بعد
الخمس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كان ينفل في البدأة الربع،
وفي الرجعة الثلث.
(قال أبو يوسف: ما أعظم قول الأوزاعي في قوله: (هذا حلال من الله)
أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، إلا
ما كان في كتاب الله عز وجل بينًا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم
وكان أفضل التابعين أنه قال: إياكم أن يقول الرجل إن الله أحل هذا أو رضيه،
فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول إن الله حرَّم هذا [1] ، فيقول الله:
كذبت لم أحرم هذا ولم أَنْهَ عنه. وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه
حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا: هذا مكروه، وهذا لا
بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام، فما أعظم هذا؟) اهـ.
هذا ما نقله الشافعي عن أبي يوسف، ثم نقل عنه أن ما قاله الأوزاعي من
حِل السبية فهو مكروه، وهو تفسير لقول أبي حنيفة (لا يطؤها ما كانت في دار
الحرب) ولم يستحل أحدهما أن يقول: هذا حرام، وقد ردَّ الشافعي هذا القول
وصحح قول الأوزاعي؛ ولكنه لم ينكر ما نقله أبو يوسف عن السلف في التحليل
والتحريم؛ وإنما صحح قول الأوزاعي بأن دار الحرب لا تحرِّم ما أحلَّ الله من
السبي والغنائم في أول سورة الأنفال وفي آية الخمس منها، ثم قال: (فإن الخمس
في كل ما أوجف عليه المسلمون من صغيره وكبيره بحكم الله إلا السلب للقاتل في
الإقبال الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قتل اهـ. وتراجع عبارته
هنالك، فإنما غرضنا هنا أن الشافعي موافق مقر فيما يظهر لما نقله أبو يوسف من
سيرة السلف في اجتناب التحليل والتحريم إلا ما كان في كتاب الله بينًا بنفسه لا
يحتاج إلى تفسير، والشافعي ممن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل في
الدين شيئًا إلا من كتاب الله تعالى، على أنه لا يضيره أن يخالفه هو أو غيره
بالتحريم الديني بالقياس.
فالحق أن القياس غير حجة في التعبديات ولا إثبات عبادة ولا تحريم ديني لم
يرد به نص صريح من الشارع كما بيَّنا في التفسير وغيره ولا سيما كتاب (يسر
الإسلام وأصول الشرائع العام) .
وبهذا أخذ علماء الأصول في تعريفهم للفرض أو للإيجاب بأنه خطاب الله
المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريفهم للحرام بأنه خطاب الله المقتضي للترك
اقتضاء جازمًا، وقد مثلنا لهذا في تلك الرسالة وغيرها بأن آية البقرة في الخمر
والميسر تدل على طلب تركهما دلالة ظنية راجحة؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يجعلها تشريعًا عامًّا موجبًا لتركهما على الأمة حتى إذا ما أُنزلت آيات سورة
المائدة الصريحة في الأمر باجتنابهما تركهما جميع الصحابة رضي الله عنهم، وصار
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاقب من شرب الخمر، وكذلك خلفاؤه من بعده.
(فإن قيل) إن ما ذكرت مخالف لقول جمهور علماء الامة من أن الأدلة
القطعية إنما تشترط في العقائد وأصول الدين، وإن الأحكام العملية تثبت بالأدلة
الظنية، وإن علماء الأصول أدخلوا القياس في تعريف الإيجاب بأنه خطاب الله
المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريف التحريم بأنه خطاب الله المقتضي للترك
اقتضاء جازمًا بقولهم إنه دليل على خطاب الله تعالى المقتضي لذلك.
(قلت) إن القياس الأصولي المعروف ليس من خطاب الله تعالى الذي ذكره
الإمام أبو يوسف وغيره في موضوعنا، ولا مما هو أعم منه، وليس دليلاً عليه
أيضًا وأما ما أدخلوه في القياس الجلي من الأحكام التي نص الشارع على علتها أو
قطع فيها بنفي الفارق فمنكر وحجية القياس شرعًا لا يسمونه قياسًا، بل يدخلونه في
معاني النص من منطوق أو مفهوم، ويجد القارئ تفصيل هذا البحث في كتاب
(يسر الإسلام وأصول التشريع العام) وإنما ذكرناه هنا مقدمة تمهيدية وسيعاد عند
ذكر المسائل العملية المتعلقة بالربا في آخر هذا البحث، إذا تمهد هذا أقول:
ربا الجاهلية المحرَّم بالقرآن
كان الربا معروفًا عند العرب في الجاهلية بالمعنى الذي ذكرناه، وسننقل
الشواهد عليه فليس هو من الاصطلاحات الشرعية الحادثة في الإسلام، وقد ذكره
تعالى في سورة الروم المكية التي نزلت قبل الهجرة ببضع سنين بالذم مقرونًا بمدح
الزكاة قبل فرض الزكاة الذي كان في السنة الثانية من الهجرة وقبل تحريمه (الربا)
بالنهي الصريح عنه في أواخر سني الهجرة، ثم بالوعيد الشديد عليه في آخر ما
نزل من القرآن؛ وإنما جاء في السور المكية بيان أصول الواجبات والمحرمات
بوجه إجمالي (كآية الأعراف: 33) .
قال تعالى في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ
يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم:
39) .
ثم قال في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 130) قال بعض العلماء: إن
تحريم الربا كان سنة ثمان أو تسع من الهجرة، وأسقط النبي صلى الله عليه وسلم
ربا الجاهلية في حجة الوداع سنة عشر.
ثم نزلت آيات سورة البقرة المشتملة على الوعيد الشديد قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم بقليل، فكانت مع آية الوصية العامة بالتقوى المتصلة بها آخر ما
نزل من القرآن كما رواه البخاري في كتاب البيوع وكتاب التفسير من صحيحه،
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم مكث بعدها سبع ليالٍ، وقيل تسعًا، وقيل 21
كما ذكره الحافظ في الفتح، وروى أحمد وابن ماجه نحو هذا عن عمر رضي الله
عنه، وزاد عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل فيها شيئًا.
هذا، وإن ومن أصول التشريع أن الوعيد الشديد لا يكون إلا على كبائر
الإثم والفواحش التي يعظم ضررها ومفاسدها؛ ولكن المفتي الهندي الحنفي اعتمد
في فتواه قول من قال من فقهاء مذهبه وغيرهم: إن لفظ الربا فيها مجمل بيَّنه النبي
صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الأجناس الستة إلا يدًا بيد مثلاً بمثل كما تقدم
شرحه، ومقتضاه أن من صرف قطعة الريال من الفضة بالأربع القطع المساوية لها
في الوزن مع تأخير القبض يكون ظالمًا محاربًا لله ولرسوله بنص القرآن وملعونًا
مرتكبًا لإحدى كبائر الموبقات بنص الأحاديث الصحيحة الواردة في حظر الربا -
فهل يُعقل هذا في دين الرحمة وسنة نبي الرحمة؟ فنحن نورد ما يخالف رأيه
والأقوال التي احتج بها، ثم نلخص الموضوع في مسائل معدودة، فنقول:
أقوال أئمة الفقه والتفسير والحديث في الربا والبيع
قد تقدم أن الاساس الذي بنى عليه المفتي الهندي الفاضل فتواه هو أن لفظ
الربا في آية البقرة مجمل لا يُعلم المراد منه إلا ببيان الكتاب أو السنة، وأن هذا
البيان هو حديث عبادة وأبي موسى وغيرهما في بيع الأشياء الستة كما تقدم،
ولذلك كان ربا القرآن هو عين الربا المراد بهذا الحديث لا معنى له غيره.
والحق أن القول بأن لفظ الربا في الآيات مجمل، قول ضعيف مرجوح، وأن
أكثر علماء الأمة المجتهدين والمنتسبين إلى المذهب المشهور على خلافه، فزعمه
اتفاقهم عليه باطل، بل ذكره بعضهم احتمالاً وردَّ الآخرون هذا الاحتمال وجزموا
ببطلانه، وأنه على فرض كونه مجملاً لا يصح أن يكون حديث عبادة في بيع
الأشياء الستة يدًا بيد مثلاً بمثل بيانًا له؛ لأن هذا الحديث في الصرف وما في معناه
ولا تنطبق عليه نصوص الآيات في أحكامها ولا في حكمتها، ولا في تعليلها، ولا
في وعيدها، فهو قد خرج بها عن موضوعها من كل وجه، وجمهور علماء السلف
والخلف على أن الربا في جميع الآيات مراد به ربا الجاهلية، وأنه كان في تأخير
الديون المؤجلة، فإن شمل غيرها فإنما يشمله بعموم اللفظ، ونحن نورد الشواهد
على صحة قولنا من الكتب المشهورة المعتبرة حتى كتب بعض الحنفية أنفسهم الذين
اعتمد المفتي الهندي على أقوال بعضهم دون بعض، ثم نحقق أصل الموضوع كما
وعدنا، وإن كنا قد سبقنا إلى هذا التحقيق في تفسيرنا للآيات من زهاء ربع قرن
كما يراه القارئ في الجزء الثالث من تفسير المنار، فعسى أن يكون ما نحققه أتم
وأبين بما فيه من التطبيق ورد الشبهات والرجوع إلى أصول التشريع.
(1) ما قاله الإمام الشافعي في البيع:
ذكر بعض العلماء عن الإمام الشافعي أن لفظ (البيع) في القرآن مجمل بيَّنته
السنة، وقالوا عنه: إن لفظ (الربا) مجمل مثله، نقل ذلك المفتي الهندي عن
الرازي، وأنه اختاره؛ ولكن الشافعي ذكر في الأم أن لفظ (البيع) عام أُريد به
الخاص، ويُحتمل أن يكون مجملاً، وترجيحه للأول هو المصرح به في كتب فقهاء
الشافعية، وهذا نص عبارته في كتاب البيع (ص2ج3) :
أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي رحمه الله قال قال الله تبارك وتعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29) وقال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) (قال الشافعي) وذكر الله البيع في غير موضع من كتابه بما يدل على
إباحته، فاحتمل إحلال الله عز وجل البيع معنيين، أحدهما: أن يكون أحل كل بيع
تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراضٍ منهما، وهذا أظهر معانيه.
(والثاني) أن يكون الله عز وجل أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد، فيكون هذا من
الجمل التي أحكم الله فرضها بكتابه وبيَّن كيف هي على لسان نبيه، أو من العام
الذي أراد به الخاص، فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أُريد بإحلاله منه وما
حرَّم، أو يكون داخلاً فيهما، أو من العام الذي أباحه إلا ما حرَّم على لسان نبيه
صلى الله عليه وسلم منه وما في معناه، كما كان الوضوء فرضًا على كل متوضئ
لا خُفين عليه لبسهما على كمال الطهارة، وأي هذه المعاني كان فقد ألزمه الله تعالى
خلقه بما فرض من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما قبل عنه فعن
الله عز وجل قبل؛ لأنه بكتاب الله تعالى قبل، (قال) فلما نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن بيوع تراضى بها المتبايعان استدللنا على أن الله عز وجل أراد
بما أحل من البيوع ما لم يدل على تحريمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم دون
ما حرَّم على لسانه.
(قال الشافعي) فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي
الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في
معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى
المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى
اهـ.
(2) ما نقله الحافظ في عموم لفظ البيع:
قال الحافظ ابن حجر في شرح أول كتاب البيع وقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} (البقرة: 282) من صحيح البخاري ما نصه: (والبيوع جمع
بيع، وجُمع لاختلاف أنواعه، والبيع نقل ملك إلى الغير بثمن، والشراء قبوله،
ويُطلق كل منهما على الآخر، وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه
لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالبًا، وصاحبه قد لا يبذله له، ففي
تشريع البيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج، والآية الأولى أصل في جواز
البيع، وللعلماء فيها أقوال أصحها أنه عام مخصوص؛ فإن اللفظ لفظ عموم يتناول
كل بيع فيقتضي إباحة الجميع لكن قد منع الشارع بيوعًا أخرى وحرمها، فهو عام
في الإباحة مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه، وقيل: عام أريد به الخصوص،
وقيل: مجمل بينته السنة، وكل هذه الأقوال تقتضي أن المفرد المحلى بالألف واللام
يعم، والقول الرابع: إن اللام في (البيع) للعهد، وأنها نزلت بعد أن أباح الشرع
بيوعًا وحرم بيوعًا فأريد بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) أي الذي
أحله الشرع من قبل، ومباحث الشافعي وغيره تدل على أن البيوع الفاسدة تسمى
بيعًا، وإن كان لا يقع بها الحنث لبناء الأيمان على العرف، والآية الأخرى تدل على
إباحة التجارة في البيوع الحالة، وأولها في البيوع المؤجلة اهـ.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لعله سقط من هنا: (أو نهى عنه) بدليل ما بعده.(30/585)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نظرية داروين والإسلام
جواب إشكال ألقيناه في نادي الخطابة لجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة،
وكنت أردت أن أكتب في موضوعه محاضرة طويلة فلما لم أجد فراغًا لذلك،
اخترت نشره لأنه مفيد في موضوعه بالإجمال، وهذا نصه:
أعطاني أحد الشبان في الليلة التي تكلمت فيها على مسألة القدر في موقفي
على هذا المنبر ورقة وضعتها في جيب جبتي، ثم قرأتها بعد عدة أيام، إذ كنت
نسيتها فإذا فيها مقدمة فيما يسمى مذهب داروين يتلوها بضعة أسئلة يرى كاتبها أنها
من أقوى الحجج والبراهين القطعية الناقضة الهادمة لما عبَّر عنه (بنظرية الخلق
الإلهي) والحق المقرر عند علماء الكون المحققين من المتلقين لمذهب داروين
بالتسليم وغيرهم، أنه نظرية أو مجموع نظريات قابلة بذاتها للثبوت وللبطلان،
أي بصرف النظر عما يعارضها من نصوص الأديان المستندة عند أهلها على
أصول قطعية مؤيدة بالبراهين، ومن مذهب الروحانيين الذين لا يقتصرون في
تعليل أمور الخلق والتكوين على سننن المادة ونواميسها وحدها.
وأما خلق الله لكل شيء فليس مسألة نظرية إلا عند ملاحدة الماديين، وهم
شرذمة قليلة من مجموع الشعوب، والسواد الأعظم من علماء الكون والفلاسفة
وغيرهم من البارعين في جميع العلوم والفنون، ومن العوام السليمي الفطرة - يوقنون
بأن للعالم خالقًا عليمًا حكيمًا، ويقيمون على ذلك الدلائل العقلية والعلمية اليقينية،
والمِلِّيُون من أهل العلم والفلسفة يؤيدون بهذه الأدلة نصوص مللهم، وغير المليين
منهم وهم قليل فريقان: أحدهما ينكر بعض نصوص الأديان، والآخر لا يثبتها ولا
ينفيها، ومن هؤلاء عالم كبير من علماء الإنكليز نقل إلينا المقتطف عنه أنه سئل
قبل موته: هل يؤمن بالإله الخالق؟ فقال ما معناه: ليس عندي أدنى شك في وجود
إله للطبيعة؛ فإنه لا يمكن لعاقل أن ينظر في هذا الكون العظيم، وما فيه من دقائق
النظام وعجائب الإبداع ويعتقد أنه وُجد بالمصادفة، أو أنه يستند إلى مبدأ ضرورة،
فالمعقول الذي لا أعقل غيره أن للطبيعة - مادتها وقواها - خالقًا قادرًا ذا علم
وحكمة - وربما قال: عاقلاً - وأما إله الكنيسة فليس عندي ما يثبته ولا ما ينفيه
اهـ.
ولقد سبق هذا العالم الإنكليزي إلى مثل كلمته في إثبات وجود الخالق عالم من
كبار علماء الكلام في الإسلام، لا أذكر الآن أهو النسفي صاحب العقائد المشهورة أو
غيره؟ قال: اتفق البشر على الإيمان بوجود صانع خالق للعالم ما عدا شرذمة قليلة
ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو - أي زعمهم هذا - بديهي البطلان.
وقد انقسم علماء الغرب في نظرية داروين إلى أنصار يؤيدونها بمقالاتهم
ومصنفاتهم بمعنى أنها أقرب ما وصل إليه علم البشر من التعليل المعقول لاختلاف
الأنواع ونظام الخلق، لا بمعنى أنها حقائق قطعية كالقواعد الرياضية لا يمكن
نقضها، وكم نقض تقدم العلوم نظريات كانت مسلَّمة مثلها لأنها كانت أقرب ما
عُرف في موضوعها إلى العقل - وإلى خصوم يردون عليها ويوردون الشكوك
والاحتمالات في أصولها وفروعها، وقد كان الرجحان العلمي لأنصارها إلى عهد
قريب، إذ دخل العلم المادي في طور جديد، واتسعت دائرة علم النفس، وكثر أنصار
الروحيين الذين يثبتون بالاختبار ما أثبتته جميع الأديان من أقدم عصور
التاريخ، من أن للبشر أرواحًا مستقلة لها أعظم التأثير في خلقهم وتكوينهم وعلومهم
وأعمالهم.
إنني بعد قراءة تلك الورقة ذكرت هذه المسألة في أول مرة حضرت هذا
النادي، فلخصت المسألة وذكرت بالإجمال الموجز رأي علماء المسلمين فيها،
وصرحت بأنني مستعد لإلقاء محاضرة مفصَّلة فيها، فكان أن إدارة جمعية الشبان
المسلمين جعلت هذه الليلة موعدًا للمحاضرة بدون استشارتي، وطبعت ذلك وآذنتني
به أول من أمس، وأنا في شغل شاغل عن المراجعة والتفكر في الموضوع، وعن
كتابة ما ينبغي فيه؛ لأنه ليس من الموضوعات التي يكفي فيها الجواب عن الأسئلة
التي كتبها صاحب الورقة، والجواب عنها في غاية السهولة، بل هنالك أصول
وفروع تتعلق بها أهم من تلك الأسئلة أرى أن شبابنا في أشد الحاجة إلى تمحيصها،
ولما أجد فراغًا في هذين اليومين لكتابة محاضرة حافلة كاملة؛ لذلك رأيت أن
أكتفي الليلة بذكر نص الورقة المشار إليها، والأجوبة عن أسئلتها بالإجمال، وما لا
يدرك كله لا يترك قله.
نص الورقة
(لقد غفل المسلمون واستهتروا بدينهم حتى تركوا الملحدين يأخذون منه
مآربهم، وينالون منه ويتطاولون عليه بحججهم الناصعة الواضحة القوية يريدون
هدم صرحه، أولئك الذين غفل عنهم المسلمون وتركوهم يعملون بنشاط حتى تغلبوا
على الإسلام؛ وذلك مما دفعني لأن أقف موقفي هذا راجيًا من حضرة الأستاذ أن
يُدلي بواضح حججه وبيانه مجيبًا على ما سأقدمه من الأسئلة، ولا أريد تخلصًا من
الإجابة فقد تخلص مني الكثيرون لقلة اطلاعهم) .
(هنالك نظرية علمية حديثة ظهرت في القرن الماضي وشاعت الآن في
جميع أنحاء العالم لما لها من حجج وأدلة لا يمكن أن يخطئها أحد، تلك هي نظرية
التطور التي تقول: إن جميع الأجناس ترجع إلى أصل واحد، قامت هذه النظرية
وناقضت نظريتنا وهي نظرية (الخلق الإلهي)
(1) هل خلق الله جميع الكائنات في عصر واحد أم استمرت عمليته إلى
عصور متفاوتة؟ وهل لا يزال الخلق مستمرًّا؟
(2) ما معنى وجود حفريات جيولوجية مشابهة لحيوانات موجودة الآن مثل
(أوفبوس) Evobeppus التي تشبه الحصان، والهومتدرتال التي تشبه الإنسان
الحالي؟ وهل هناك صلة ما بين هذا الحصان مثلاً والحيوان الذي يشبهه مثل
الصلة بين الحصان والبغل؟
(3) ما معنى وجود أعضاء في جسم الحيوان أو النبات لا وظيفة لها مطلقًا،
بل قد تكون هذه الأعضاء مضرة في الإنسان أكثر مما تفيده؟
(4) ما معنى قدرة بعض الناس على حركة آذانهم وعجز الآخرين عن ذلك؟
(5) ما فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر؟
(6) لماذا يمر الجنين بأطور مختلفة من الحياة: تراه في حداثته جرثومة،
ثم يصير مثل الأسماك، ثم مثل الزواحف.. إلى أن يصل إلى شكله النهائي؟
وهل هذا يدل على أن هناك علاقة بين الإنسان وتلك الحياة التي مر بها الجنين؟
وإن صح ذلك كان هذا أقطع دليل على صحة نظرية التطور. اهـ بحروفه.
إنني قبل الجواب أنصح لإخواني وأبنائي في السن من السامعين - على حفظي
لدرجاتهم في العلم والفضل - أن يكون غرضهم من السماع لما أقوله هو التعاون بيني
وبينهم فيما أوتينا من علم وبيان على تحقيق ما بين هذه النظرية، وما بين نصوص
ديننا من خلاف ووفاق على قاعدتنا التي نقررها دائمًا، وهي أن من معجزات
الإسلام أنه قد جاء به نبي أمي مر على بعثته 13 قرنًا ونصف، ولم تقم حقيقة
علمية قطعية تنقض نصًّا من نصوصه القطعية، ولا تنفي أصلاً من أصوله
الاعتقادية، وإياكم ثم إياكم أن تعدوا الكلام الذي ألقيه من قبيل المناظرات العلمية أو
المذهبية بين خصمين يكون هم كل منهما الظهور على خصمه، وتتبع عثراته
ومؤاخذته في تقصيره، وسيعلم من لم يكن يعلم أنه ليس بين نظرية الخلق
التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي، كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة،
وأن اليهود والنصارى الذين يدينون لله تعالى بقداسة التوراة لم يكبروا أمر هذه
النظريات ودلائلها كما كبرها حضرة الفاضل الذي كتب هذه الورقة، ولا عدُّوها
قطعية ولا أبطلت ثقتهم بالتوراة.
ولعله ما كبَّرها هذا التكبير إلا لحفز الهمة للعناية بها وإقامة الحجج البالغة
على تأييد الدين الذي هو مناط سعادتنا في الدنيا والآخرة، بعد هذا أقول:
(أولاً) إن الملحدين لم ينالوا من المسلمين ما نالوا (بحججهم الناصعة
الواضحة القوية) كما قال، بل لأنهم يتلقون الكفر عنهم قبل أن يعرفوا الإسلام
معرفة صحيحة، وبدون أن يتربوا عليه تربية عملية تغذي المعرفة الصحيحة،
فمنهم من يتعلم ويتربى في مدارس دعاة النصرانية التي أُسست لأجل هدم الإسلام
وتحويل أهله عنه إلى النصرانية أو إلى الإلحاد، وقد قال موسيو جول سيكار
الفرنسي في كتابه الحديث (العالم الإسلامي في الممتلكات الفرنسية) ما معناه أن
المسلم يتعذر أن يتحول عن الإسلام إلى النصرانية، فالطريقة المثلى لتنصير
المسلمين إيقاعهم في الإلحاد والتعطيل أولاً؛ حتى إذا ما أصبحوا بغير دين وزال ما
للقرآن من السلطان على عقولهم سهل حينئذ تنصيرهم؛ لأن البشر لا يستطيعون
أن يعيشوا بغير دين.
ومنهم من يتعلم في المدارس المصرية وأمثلها مدارس وزارة المعارف،
وليس فيها من التربية الدينية شيء حتى أن الصلاة لا تُقام فيها، وقد قل من يصلي
فيها حتى أن الذين يناط بهم تعليم الدين فيها وهم خريجو مدرسة دار العلوم صاروا
يتركون الصلاة إلا قليلاً، ولا سيما الذين استبدلوا الزي الإفرنجي بالعمامة والجبة
والقباء.
(ثانيًا) إن الملاحدة ما تغلبوا على الإسلام كما قال، وإنما تغلبوا على
بعض التلاميذ والأحداث من المسلمين الجغرافيين، فانتزعوهم من حظيرة الملية
الإسلامية لما لهم في هذا من المقاصد الدينية والسياسية التي يجهلها هؤلاء التلاميذ
وآباؤهم الأغبياء.
(ثالثًا) إن قوله: إن الحجج والأدلة على نظرية التطور لا يمكن أن يخطِّئها
أحد، مخالف للواقع، فقد خطَّأها كثيرون بحق وبغير حق.
الأجوبة المجملة عن أسئلته
أما السؤال الأول فجوابه أن النصوص تدل على أن الله تعالى خلق الخلق
بالتدريج على نظام مقدر في علمه، مثاله أن الله تعالى قال في سورة الانبياء {أَوَ
لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) الرؤية هنا علمية معناها أو لم يعلموا، والرتق المادة
المتصل بعضها ببعض، وهي التي عبَّر عنها في سورة فصلت بالدخان، وهو اسم
للمادة الرقيقة الخفيفة التي دون الماء ومنها بخار الماء ودخان النار وغيره مما
يسمى في الاصطلاح العلمي بالسديم والغاز، ومنه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) .
والفتق هو الفصل بين أجزاء المادة، فهذه الآية توافق رأي علماء الكون في
هذا العصر كما هو ظاهر، ولم يكن رأيهم هذا مما يخطر في بال أحد من العرب
الأميين، ولا من غيرهم في ذلك العصر، وهي جديرة بأن تُعَدَّ من معجزات القرآن
العلمية عند الذين استنبطوا هذا الرأي من مباحث علمية دقيقة بعد بطلان نظرية
قدماء علماء الهيئة من اليونان وغيرهم.
وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام،
وفي بعضها زيادة {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} (هود: 7) واليوم في اللغة
العربية هو الزمن الذي يُعرف أو يُحد بوقوع شيء فيه طال أو قصر، وقد قال الله
تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقال:
{تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج:
4) ومنه أيام العرب المشهورة في وقائعهم وحروبهم كيوم ذي قار ويوم أوارات ...
إلخ، فالمراد بأيام خلق السموات والأرض عصور تم في كل عصر منها طور من
أطوار خلقها وقد فصلت بعض التفصيل في سورة فصلت، وهذه الآيات تتفق مع
مذهب النشوء دون نص التوراة الذي أذكره إن شاء الله في البحث التفصيلي إن قُدِّر
لي كتابة محاضرة فيه. ويقول الله تعالى في خلق الإنسان: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ
مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون: 12) وقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح:
14) فهو تعالى لا يزال خلاقًا عليمًا حكيمًا.
وأما السؤال الثاني فجوابي عنه أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات
الجيولوجية بعضها مع بعض ولا مشابهة بعضها لبعض الحيوانات الباقية، كما
أنني لا أعلم سبب التشابه بين الحيوانات التي لم يوجد ما يدل على وجودها في
عصور طبقات الأرض القديمة، وسبب التشابه بين النبات الذي من فصيلة واحدة
أو فصائل مختلفة كالتشابه بين ورق الزيتون وورق الرمان، ومذهب داروين في
تعليل أمثال هذا التشابه لا يقوم دليل قطعي ولا قريب من القطعي على صحته،
وإن كان أكثر ما فيه من تعليل يعد إلى الآن أقرب من غيره إلى إثبات حكمة الله
تعالى في نظام خلقه، وإذا فرضنا وصوله إلى درجة اليقين لم يكن ناقضًا لنص من
نصوص الدين القطعية ما دام لا ينافي كون الله هو الخالق لذلك بهذا النظام.
وإنه ليوجد بين بعض الجماد وبعض النبات من التشابه، وبين بعض النبات
وبعض الحيوان من التناسب ما تحار العقول في سببه، ويمكن استنباط أسئلة
لا تحصى من هذه الأمور لا يمكن الجواب العلمي عنها {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .
ومما يقال فيه على غير طريقة داروين: إن الخالق الحكيم المختار جعل من
آيات النظام في خلقه هذا التشابه وهذا الاختلاف بين أنواع المخلوقات، وجعلها
درجات بعضها أعلى من بعض في الأجناس والأنواع الدنيا والوسطى والعليا
تشترك في بعض مقوماتها ومشخصاتها، وتختلف بالفصول التي تميز بعضها من
بعض كما يقول علماء المنطق، وقد قال بعض علمائنا من قبل وجود داروين: إن
المخلوقات في جملتها من جماد ونبات وحيوان وإنسان ومَلَك تقوم بنظام متناسب ذو
درجات ترتقي من الأدنى إلى الأعلى، فأعلى أفق الجماد يتصل بأدنى أفق النبات،
وأعلى أفق النبات يتصل بأدنى أفق الحيوان، وأعلى أفق الحيوان يتصل بأدنى أفق
الإنسان، وأعلى أفق الإنسان يتصل بأفق الملائكة الذين هم الواسطة بين الخالق
تعالى وبين عباده في الخلق والأمر؛ ولكن هذا التشابه والتناسب بين هذه الدرجات
لا يقتضي أن يكون بعضها قد تحول عن بعض؛ وإنما تقتضي هذه الوحدة في نظام
الوجود أن يكون صادرًا عن خالق واحد عليم حكيم {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن
تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) .
وأما الجواب عن السؤال الثالث، وهو: ما معنى وجود أعضاء في أجسام
الأحياء ليس لها وظيفة؟ فأقول فيه أولاً: إن عدم علمنا إلى اليوم بأنه ليس لها
وظيفة ولا فائدة لا يقتضي عدم وجود ذلك وإمكان الوقوف عليه في وقت من
الأوقات، وأن يكون غير قول داروين بأنها أعضاء أثرية، وقد كان مجهولاً إلى
القرن الماضي، وثانيًا أن العلم بسبب وجود هذه الأعضاء وحكمتها ليس من علم
الدين الذي يُسئل مثلي عنه، وإني لأعلم مما أقرأ من مباحث علماء الكون في
الكتب والصحف أنهم يعترفون بأن ما يجهلون من أسرار هذه الموجودات أضعاف
أضعاف ما علموا منها، وأنهم كلما ازدادوا علمًا بكشف شيء جديد منها علموا من
جهلهم ما لم يكونوا يعلمون، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
كلما أدبني الدهـ ... ـر أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
ويعجبني قول الدكتور يعقوب صروف في مقالة له في أعجب ما وصل إليه
علماء العصر من عجائب علم الفلك وغيره، أنهم لا يزالون مع هذا يجهلون كنه
حبة الرمل، ومخ النمل، علم واسع وجهل مطبق، يدل على سعة علم الخالق عز
وجل.
(وثالثا) يقولون: إنها كانت أعضاء تؤدي وظيفتها في طور من أطوار
الحياة للحاجة إليها فيه، ثم زالت هذه الحاجة فزالت الوظيفة كما يقولون في المِعى
الذي لا يهضم إلا النبات، وهذا - وإن صح - لا ينقض عقيدة من عقائد الإسلام،
ولا يعارض نصًّا من نصوصه القطعية، كما أنه ليس برهانًا قطعيًّا على تحول نوع
من أنواع الحيوان إلى آخر، ولا سيما الإنسان الذي هو سيد عوالم هذه الأرض،
وإن دارون وأمثاله من العلماء الذين عرفوا كثيرًا من أسرار خلقته الجسدية
الحيوانية، قد جهلوا ما هو أعظم منها من أسرار حياته الروحية والعقلية، وكذا
مزية النطق التي عدَّها الحكماء الأولون هي الفصل الظاهر المميز له على جميع
الحيوانات حتى القريبة الشبه الحيواني منه، ويصدق عليهم قول المتنبي في الخيل:
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وأما الجواب عن السؤال الرابع، وهو: ما معنى قدرة بعض الناس على تحريك
آذانهم دون بعض؟ فجوابه أن معناه أنه يوجد في الناس من يتمرنون على تحريك
بعض أعضائهم بأعمال بما يعجز عنها من لم يتفق له ذلك، والأقرب أن مسألة
تحريك الآذان من هذا القبيل، وقد يكون سبب سهولته على بعض الناس دون
بعض أن بعض أجدادهم كانوا يعيشون عيشة يحتاجون فيها إلى إصغاء شديد يؤثر
في الأذن. والاستدلال به على كون الإنسان كان حمارًا أو حصانًا أو قردًا، ثم صار
إنسانًا، وقد بقيت في بعضه هذه المزية من مزايا أصوله السابقة - استدلال ضعيف
وسخيف، فإذا لم تصل تلك التعليلات المعقولة في نفسها والمبينة من نظام الكون
وحكمة الخالق فيه ما ليس في غيرها إلى كونها دليلاً على نظرية التحول، فهل
يصح أن تدعم بتحريك بعض الناس لأذنيه؟ ولماذا لم يكن هذا التحريك عامًّا إذا
كان سببه ما ذكر؟ وإنني لما علمت بهذه المسألة منذ سنين كثيرة حاولت أن أمرن
أذني على الحركة، فصعب علي ذلك؛ ولكنني كررت المحاولة فحركتهما.
وأما جواب السؤال الخامس عن فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر
فهو ما قاله بعض أئمة سلفنا: من قال لا أدري فقد أفتى، وإنني لست من علماء
هذا الشأن، وقد قلت فيهم ما نقلته عن جمهورهم من أن ما يجهلون من أسرار خلق
الإنسان وغيره حتى حشرتي النمل والنحل أضعاف ما يعلمون؛ ولكن من استطاع
أن يقيم لي من جوابه عن هذا السؤال حجة أو شبهة على بطلان نص من نصوص
كتاب الله؛ فإنه يجدني مستعدًّا لدحض حجته، أو بطلان شبهته، إن شاء الله تعالى.
__________(30/593)
الكاتب: غوردون كاننج
__________
الانتداب في البلدان العربية
بقلم الكابتن غوردون كاننج
آراء حرة حكيمة في إمكان الجمع بين مصالح الإنكليز والعرب ترجمت
بالعربية، ونشرت في جريدة العهد الجديد البيروتية خادمة القومية العربية منذ
أشهر، فاخترنا نقلها إلى المنار مع توجيه أنظار الدولة السعودية العربية إليها،
وهذا نصها:
كان من أعظم أسباب سقوط الإمبراطوريات القديمة إسراف القوة الرئيسية
تدريجًا بالتوسع المطرد في الممتلكات، ونرى في عصرنا هذا أن الإمبراطورية
الفرنسوية في خطر الانحلال لهذا السبب نفسه، إن مستشاري الإمبراطوريتين
ويلوح أنهم من طراز قديم (سابق لتاريخ البشر) ممن لهم خبرة بفنون الحرب
يصرحون أن الضرروة تقتضي بصيانة الممتلكات الموجودة بضم ممتلكات أخرى.
معلوم أن زيت البترول بات من أهم مطالب العالم في هذه الأيام، فأصبحت
موارده من الضرورات الأولية لكيان الدول العالمية، فالبترول إذا كان من العوامل
التي اجتذبت إنكلترا إلى العراق وفلسطين وإيران التي اضطرت بحكم أحوال
خصوصية إلى الانسحاب منها، ومتى كانت إنكلترة موطدة في العراق وفلسطين،
ففرنسا لا يمكنها أن تتخلى عن بقعة مجاورة ترتكز إليها وتتخذها قاعدة لحماية
مصالحها، وهذا ما بعث على عقد اتفاق (سيكس - بيكو) وتنفيذ هذا الاتفاق كان
مضرًّا بالاتفاق الذي عُقد بين الملك حسين والحكومة البريطانية مع أنه كان في
تاريخ سابق لاتفاق (سيكس- بيكو) ومما يدل على أن إنكلترة قد سلَّمت أنها حنثت
(في يمينها ونقضت عهدها) مع الملك حسين أنها أوجدت عرش العراق للملك
فيصل بعدما طردته السلطات الفرنسية من سورية.
وقد أثر ذلك تأثيرًا سيئًا في سمعة إنكلترا وهيبتها في الشرق الأدنى والشرق
الأوسط؛ لأن العناصر العربية أدركت أنها بيعت لمشترٍ أقوى وأقدر، فقد كانت
مقتضيات مواصلة الحرب أهم من كل شيء، وفوق كل شيء حتى أن الشرف
البريطاني ترك جانبًا وعُد من سقط المتاع، وكانت هذه الاتفاقات الحربية المختلفة
هي السبب الأكبر الذي جعل معاهدة فرساي وغيرها من المعاهدات شؤمًا وهولاً
وأسبابًا للقلق الحالي.
والغاية من مقالتي هذه أن أقترح علاجًا لمسألة بلدان الانتداب في الشرق
الأدنى والشرق الأوسط التي عانت هول تلك المعاهدات، وفي أي علاج يتناول
مصالح عدة أمم لا يمكن لأية أمة منها أن تكون راضية كل الرضاء، ولا بد من
مراعاة مبدأ الأخذ والعطاء من كل جانب.
وللبحث في هذه المسألة لا أرى من الضرورة الدخول في تفاصيل إدارة
شؤون بلدان الانتداب خلال السنوات الثماني الأخيرة؛ لأن هذه الوجهة من المسألة
كانت موضوع البحث في عدة جرائد ومؤلفات، فالغلطات التعسة والأخطاء
المحزنة التي ارتكبتها فرنسة وإنكلترة قد اعتُرف بها، وليست المصاعب التي جابهها
كلاهما مما يستحق العطف؛ لأنها من المصاعب التي أوجدتها إنكلترا وفرنسا، وقد
أصلحت إنكلترة جانبًا عظيمًا من أخطائها ولا سيما علاقاتها مع العراق، وأخذت
فرنسا بإرشاد المسيو بونسو تحاول إصلاح عواقب إداراتها الوضعية في سورية.
إن الغلطة الرئيسية التي ارتكبها كل من إنكلترة وفرنسة هي عدم العمل
بمقتضى البند الثامن والعشرين من عهد جمعية الأمم، وقالت المس هويت في
كتابها عن الانتداب ما يلي:
(أما إذا كانت هذه الرغائب قد نفذت، فأمر مبهم غامض، وأما إذا كان هنالك
لأولئك الناس رغائب جلية فأمر أغمض وأكثر إبهامًا، وبالحقيقة وواقع الأمر أن
أهل بلدان الانتداب لم يُستشاروا) والأسلوب الذي اتبع في هذه البلدان في تقسيمها
إلى دويلات أوجد على سطح الكرة الأرضية بلقانًا آخر، وهو أسلوب سقيم من
الوجهة الاقتصادية نظرًا للتعريفات الجمركية بين تلك الدويلات وعرقلتها لحركة
التجارة.
وبلدان الانتداب المعروفة بحرف (أ) هي كما يلي:
1- العراق: وضع انتدابه في شهر إبريل سنة 1920، ووافقت عليه جمعية
الأمم في سبتمبر سنة 1924، ويبلغ عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة.
2- سوريا: وضع انتدابها في شهر إبريل سنة 1920 ووافقت عليه جمعية
الأمم في يوليو سنة 1922، ويبلغ عدد سكانها 000,250,2 من المسلمين،
و000,40 من الدروز، و 000,400 من المسيحيين منهم 000,150 ماروني.
3- فلسطين: وضع انتدابها في شهر إبريل سنة 1920، ووافقت عليه
جمعية الأمم في شهر يوليو سنة 22، ويبلغ عدد سكانها 000,75 نفس 87 في
المئة منهم عرب.
4- شرقي الأردن: ويبلغ عدد سكانه 000,200 نفس.
وفي شبه جزيرة العرب بلدان تحت الحماية البريطانية وهي عدن وعمان
والكويت، وبلدان مستقلة وهي نجد والحجاز والعسير واليمن وحضرموت،
ومجموع عدد سكان هذه البلدان كلها يتراوح بين خمسة عشر مليون نسمة (هي لا
تقل عن 25 مليونًا) .
أما إذا كان إصلاح الانتداب قد وُضع على قاعدة المثل الأعلى أو ابتُكر
كمرادف للضم والتملك فليس من موضوع البحث في مقالتي هذه؛ ولكن الأرجح أن
جانبًا عظيمًا من عدد السكان المبين آنفًا متحد في مطالبه ورغبته في التخلص من
الوصاية الأجنبية وإن كان مختلف الأجزاء غير متفق على شكل الحكومة التي يجب
أن تحل محل حكومة الانتداب أو دولة الحماية.
فهل مقتضيات الإمبراطورية البريطانية تتطلب أن تكون إنكلترة في فلسطين
والعراق وشرقي الأردن؟ وهل من الضروري أن تكون فرنسة في سوريا؟
إن جواب البلدين [1] هو (نعم) فإذا كانت إحدى الدولتين في سورية لابد أن
تكون الأخرى في فلسطين والعكس بالعكس، وتقول إنكلترة: نعم لأدافع عن قناة
السويس ضد مهاجميها من الشرق، ولأدافع عن مصالح بريطانيا في بترول
الموصل والمحمرة، وتقول فرنسا: نعم لأدافع عن خط أنابيب البترول وسكة الحديد
المزمع مدها إلى الموصل وبغداد ومن كل منهما إلى حيفا وهذه الفكرة الثانية لتنمية
التجارة ومصالح الصناعات، ويتبعها ويترتب عليها الحماية العسكرية، وهكذا
تظل الدول الأوربية الإدارية تثير كتلة متجمعة من الرأي العدائي في تلك البلاد
التي قد تصبح بقوة الاتحاد قوة خطرة خطيرة، فالأفضل والحالة هذه الاعتماد على
عقل سكان البلاد، وعلى عهد صداقة يقوم على قاعدة التعاون التجاري والكسب
المتبادل.
السبب الأول يمكن درؤه باتفاق متبادل يعقد بين إنكلترة وفرنسا للانسحاب في
وقت واحد من سورية وفلسطين وشرقي الأردن، ولكن فرنسا تقول: محال عليَّ
أن لا أحمي الأقلية المسيحية، ونحن نرى اليوم أن هذه الأقلية المسيحية هي أيضًا
تطلب جلاء فرنسة عن البلاد.
وتقول إنكلترة: إن ذلك مستحيل، لا يمكننا أن ننسحب وندع الإسرائيليين
تحت رحمة العرب، والحال أن اليهود والعرب كانوا في عهد تركية عائشين معًا
في وفاق تام، وأن تصريح بلفور هو سبب الاضطراب الحالي بين العرب واليهود
وتأسيس هذا الوطن القومي لليهود لم يلق تعضيدًا حقيقيًّا من زعماء اليهود، فقد
أيدوا الفكرة عن غير طيبة خاطر ماليًّا وأدبيًّا، ولم يوافقوا قط على فكرة مغادرة
مَواطن إقامتهم للإقامة بذلك الوطن القومي.
وكان معظم المهاجرين من اليهود القاطنين في شرقي أوربا الذين ذاقوا الذل
والهوان، وعانوا الشيء الكثير من الاضطهاد والظلم، وقد برهنت الأيام على أن
الصهيونية صناعة خائبة عقيمة وجناية سياسية، فالصهيونيون المقيمون الآن
بفلسطين قد وُجدوا هناك بمساعي إنكلترة وجهودها، ولا بد من الاعتراف بهم
وحمايتهم ومساعدتهم.
يعتقد معظم الناس أن العرب يعجزون عن إظهار مقدرتهم بتقديم خطة إنشائية،
وأما أنا فأعتقد أنهم قادرون، ليس بناء على تاريخ عنصرهم الماضي فقط، بل
لما يحرزه أبناء العرب المهاجرون من النجاح الباهر في المراكز الصناعية
والتجارية العصرية في بونيس أيرس ونيويورك وغيرها من أنحاء العالم المتمدن،
وليس من الضروري الرجوع بالقارئ إلى الحكومات العربية السديدة الخطوات في
العهود الغابرة، وحسبي أن أقول: إنه في القرن الثامن بعد الميلاد في عهد الخلفاء
الراشدين [2] ببغداد كان في وسع التاجر المتجول أن يسافر من البصرة إلى دمشق
مثقلاً بالسلع والنضار بغير أن يعتدي عليه أحد، وفي عام 980 ميلادية كان
المسافر يقطع الشقة بين المهدية [3] والقاهرة بلا خوف ولا وجل من قطاع الطرق،
فإذا كان العرب قد استطاعوا في تلك الأيام تأمين الطرق بهذه الكيفية فمن الأكيد
المحقق أنهم قادرون على ذلك في هذه الأيام [4] ولا بد لنا من تسليم أنهم يحرزون
هذه المقدرة بالإرث، ولكن هل يحرزون الإرادة والعزيمة على إظهار هذه المقدرة؟؟
إن على العرب أن يبرهنوا على ذلك الآن، ولا يكفي أنهم شديدو الرغبة في
طرد المعلم من بلادهم فهذا لا يعدو سياسة الهدم؛ ولكن يجب عليهم أن يظهروا
مقدرتهم على التعمير والإنشاء.
أما فيما يتعلق بالمخاوف التي قد تتطرق إلى قلوب الإنكليز بأن الأقليات
المسيحية واليهودية لا تطيق الأغلبية الإسلامية، فلا بد من قول شيء في ذلك:
إن الأقليات المسيحية واليهودية كانت تُعامَل على الدوام خير معاملة في
البلدان الإسلامية إلى أن تأتي دولة أوربية وتستخدم تلك الأقليات لقلب الحالة كما
حدث في مسألة الأرمن والأتراك [5] ، نعم إنه في الأنحاء البعيدة المنعزلة من العالم
الإسلامي قد لا يخلو الأمر من تعصب ضد المذاهب الأخرى؛ ولكن هذا كان كذلك
بين مختلف الطوائف المسيحية، على أن زعماء العرب في هذا العصر وفي
العصور السابقة كانوا دائمًا يعملون على تلافي هذا التنافر وإصلاح ذات البين، فإذا
كان التعصب الديني قد أخذ مجراه في زمن من الأزمنة فقد كان المسلمون من غير
مذهب الحاكم ينالهم من الاضطهاد ما ينال المسيحيين، ومن الواجب أن تتخذ مبادئ
نجران كالمثل الأعلى للزعيم المسلم، وكلمة الإمام علي: (إن دم الذمي كدم المسلم)
هي أيضًا خير مثال.
واليوم نرى الموارنة في لبنان والمسيحيين العرب في فلسطين ومسلمي الشام
وفلسطين والعراق قد أخذوا يُعرضون عن الفوارق في المذاهب والعقائد، ويجنحون
إلى المثل الأعلى والمذهب العميم، وهو أننا جميعًا إخوان في الإنسانية، وأول
خطوة في هذا السبيل هي السعي إلى توحيد بلاد العرب، وقد أخذ أبناء العرب
المثقفون المتنورون في هذه الأيام يتطلعون إلى هذه الغاية، ويبثون الدعوة إليها في
عدة أنحاء، وزعماء العرب أدرى مني بالمنهج الذي يجب أن ينهجوه للحصول
على الوحدة العربية والتخلص من وصاية الأجنبي والتقدم الحثيث في التعاون مع
خير الطبقات الأوربية، وإني أقترح ما يلي على سبيل التجربة:
أولاً - المبادرة إلى عقد مؤتمر في القاهرة يُدعى إليه مندوبون من جميع
البلدان العربية.
ثانيًا - ينتخب هذا المؤتمر مجلسًا دائمًا يكون مقره في القاهرة أو جدة أو
الشام (ولما كانت القاهرة مركزًا حسنًا تتوفر فيها أسباب المواصلات مع جميع بقاع
الأرض العربية قد تكون لائقة لأن تصبح بمثابة جنيف للغرب) .
ثالثًا - على هذا المجلس الدائم أن يظل على اتصال وثيق بالبلدان العربية،
وأن يعمل على عقد مؤتمر كل سنة أو سنتين.
رابعًا - على هذا المؤتمر السنوي أن يتخذ الإجراءات اللازمة لإيجاد اتحاد
عربي، وأن ينتخب زعماءه ويتفق على زعيمه الأكبر.
خامسًا - تكون مهمته توحيد الأمة العربية ببث دعوة مبنية على الفطنة
والحصافة.
سادسًا - يجب وضع خطة للتعليم تمكِّن كل دولة في خلال الخمس عشرة
سنة المقبلة من الحصول على سبيل مطرد من الشبان المتدربين على فن الإدارة
الحكومية والعلوم والفنون والشؤون الصحية وما إلى ذلك.
فإذا استطاع العرب أن يصلوا إلى هذا التوحيد فيحتمل أن تتمكن إنكلترة من
رفع حمايتها عن جميع البلدان العربية عدا عدن، وأن تعقد معاهدة ومحالفة بين
سلطات الاتحاد العربي والإمبراطورية البريطانية، وإني أعتقد أن حلاًّ كهذا يكون
أفضل ضمان لسلامة المواصلات الإمبراطورية، وتوطيد أركان القوة في هذه
البلدان من الشرق الأوسط وتوحيدها بتخليص الإمبراطورية البريطانية من إنفاق
عدة ملايين من الجنيهات كل عام.
ويغلب على ظني أن العرب يجب ألا يتصوروا - وهم يتصورون - أنه يتسنى
لهم الوصول إلى هذه الغاية بغير مساعدة من الغرب، ويجب ألا يغرب عن بال
إنكلترة وفرنسة أن أمة تحت التدرب والتعليم لا يمكن أن تحرز المسئولية اللازمة إلا
بالممارسة والاختبار، وبهما دون سواهما تتعلم هذه الأمة اجتناب الأخطاء والوصول
إلى مستوى مرضٍ من الحكم الذاتي.
وزعامة الدعوة إلى الوحدة العربية يجب أن تخرج من دمشق، وربما قبل
مضي وقت طويل يعود العالم العربي إلى ازدهاره ويناعته، ويدهش العالم بثقافته
وعلمه كما كان في سالف الأحقاب.
وما هو تأثير هذا كله في إنكلترة فيما يتعلق بالإمبراطورية البريطانية،
الجواب عن ذلك من الوجهة السلبية أنه يوجد القوة العسكرية في مركز واحد،
ويقلل من تبعة التورط، ويؤدي إلى اقتصاد المال، ومن الوجهة الإيجابية
الابتكارية يضم جميع العنصر العربي إلى دائرة الصداقة الخالصة، ويوجد زبائن
أقوياء أغنياء بالتقادم في المعيشة المصرية وبالتعاون التجاري الوثيق مع الغرب،
وحيث كان زبون واحد في الماضي يقوم اثنا عشر زبونًا جديدًا محله.
إن مشروعًا هكذا يتطلب وقتًا للنضوج؛ ولكن الوقت لا يجدي ولا يغني فتيلاً
إذا كان زعماء العرب في هذا العصر لا يعدون التربة ويتعهدونها بسماد العقل
والفطنة وينثرون فيها بذور الاتحاد والوئام.
لإنعاش هذا المشروع وإبلاغه طور الإزهار والإيناع يجب أيضًا أن تنقى
أرضه من الأعشاب البرية، وأن يروى ويسقى ليس بمساعي زعماء العرب
الشجعان فحسب، بل بمساعي الأوربيين أيضًا، ولا سيما رجال الإنكليز ذوي
البصيرة النيرة والنية الحسنة.
ولكي ينتج هذا المشروع خير النتائج من الضروري الحصول على تعضيد
إنكلترة ومعاونتها، فللعرب أن يقتبسوا العلوم عن الألمان والفنون عن الفرنسويين؛
ولكن العلوم السياسية، وفن معاملة المذاهب المختلفة، وتحمل الفوارق الدينية
وواجبات الشرف والنزاهة يجب أن يتعلموها من إنكلترة ومن الرجال الإنكليز.
وقد يطول العمر على ثقافة إنكلترة وتبقى مكرمة محترمة مرغوبًا فيها خلال
أجيال كثيرة مقبلة، ويكون مثلها في هذا العصر مثل ثقافة الرومان والعرب من قبل.
وأختم مقالي هذا بكلمات أوناموتو: إني أقصد الحث وإذكاء وطيس الحماسة
والاقتراح لا الإرشاد والتعليم.
نعم يجب الوصول إلى اتفاق متبادل بين فرنسا وإنكلترة تتفقان فيه على
سحب كل شيء فيه شبهة للعسكرية من سورية وفلسطين وشرق الأردن، وأن تقدما
للبلاد خبراء لتنمية فن الإدارة الحكومية والفنون والصناعات عندما يطلب منهم
العرب ذلك بأنفسهم.
والحامية البريطانية التي تُسحب من مصر وفلسطين يمكن أن تعسكر لمدة 15
سنة في جوار بورت فؤاد بعد استئذان الحكومة المصرية، فتكون منها قوة مركزية
متأهبة في أية لحظة للدفاع عن مصالح بريطانيا العظمى في شرقي البحر الأبيض
المتوسط وللتعاون مع الحكومة المصرية على حماية القناة ودرء الاعتداء على حرية
الشعب المصري.
ولكن قبلما يتسنى نقل هذا الاقتراح إلى حيز الفعل يجب على العرب أن
يمدوا أيديهم للعمل، ويقدموا برهانًا حاسمًا على استطاعتهم إيجاد مشروع ابتكاري
يتسنى به ملافاة حدوث الفوضى عندما تنسحب القوات البريطانية والفرنسوية من
البلاد، فعلى نواب العرب أن يقدموا مشروعًا يبينون به ما يلي:
1- أنهم أهل لإدارة شؤون بلادهم بأنفسهم، وأن الانتداب غير لازم.
2- أن جميع المشروعات التجارية مثل سكك حديد بغداد - حيفا، ومنابع
البترول في الموصل والمحمرة تقدم لها التسهيلات اللازمة لترقيتها وإنمائها وأن
يسمح للمشروعات الأوربية بالاشتراك مع المشروعات العربية أن ترقي مؤهلات
البلاد التجارية والصناعية تحت شروط عادلة مرضية للجميع.
3- أن تستطيع الحكومات العربية تقديم الضمان الوافي لتأمين معاملة الأقليات
المسيحية في سورية، والأقلية اليهودية في فلسطين، وتنفيذه. وأن تمنح الوطن
القومي اليهودي قسطًا معينًا من الحكم الذاتي، وهذا الوطن القومي يجب أن يكون
مثالاً مصغرًا لمركز روحي تثقيفي فقط.
4- أن يستطيع زعماء نواب العرب أن يقدموا برهانًا حاسمًا على موافقتهم
على إنشاء اتحاد دول عربية تحت سيطرة ابن سعود إذا كان ذلك ممكنًا.
(المنار)
هذا كلام كله حسن لو أيَّده العمل من جانب إنكلترة وفرنسا! وأما
زعماء العرب فإنه يسهل عليهم كل ما اقترحه الكاتب المنصف عليهم، ولعلهم
عندما قرأوه تبادر إلى أذهان أكثرهم المثل (اقرأ تفرح جرب تحزن) وإن كانوا
يعلمون أنه خير لهم وللدولتين معًا؛ لأن الوحدة العربية المشار إليها لابد أن تكون
لأن جميع أهل الرأي والمكانة في الأقطار السورية والعراقية والحجازية والنجدية
متفقون على بذل الأنفس والنفائس في سبيلها، فإن لم يوجد في عقلاء الدولتين
أحدهما أو كلتيهما من يواتيهم على ذلك بالسلم والمودة، فسيكون سببًا لسفك دماء
غزيرة وإضاعة ملايين كثيرة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
__________
(1) يعني أن جواب الدولتين معًا أن وجود كل منهما في موضعها يقتضي الأخرى؛ لأن مقتضى الشركة في الحرب الاشتراك في الغنيمة، وفي انفراد إحداهما غبن وخسار للأخرى، وذكر بعد هذا الجواب المشترك ما تقوله كل منهما في الاحتجاج لنفسها، ومنه ما تدَّعيه أو تُوجِده من الشقاق بين الأقلية والأكثرية من الأهالي لتبني عليه أن العدل والرحمة توجب عليها أن تبقى في البلاد لمنع القوي بكثرته من ظلم الضعيف بقلته! والحال أن هذه الدعوى إن صحت تكون من دفع الظلم القليل المحتمل بالظلم الكثير العام المحقَّق، وهو ظلم جميع أهل البلاد باستذلالهم وسلب استقلالهم والتصرف في رقبة بلادهم! ! .
(2) لعل الأصل (العباسيين) لأنه هو الصواب.
(3) بلد بتونس.
(4) هذا الدليل القياسي الصحيح مستغنى عنه الآن بتأمين الملك السعودي ما بين خليج فارس إلى الأحمر، مثل ذلك التأمين أو أشد وأكمل، وهو ما لم تصل إلى مثله فرنسة ولا إنكلترة.
(5) مازلنا منذ أنشأنا المنار نبين أن هذا التعصب لم يكن العرب يعرفونه في عصور الدول العربية؛ وإنما أوجده الأعاجم ولا سيما الإفرنج، وكل ما جهر به نصارى لبنان وحكومتهم من ذلك في هذا العهد، فالفرنسيون هم الداعون لهم إليه.(30/601)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
(في كلية الحقوق من الجامعة المصرية)
- 3 -
رأي الآنسة هانم محمد
نهضت الآنسة هانم محمد الطالبة في كلية العلوم لتأييد الأستاذ محمود عزمي
في وجوب المساواة [*] ، فصفق لها الجمهور تصفيق الترحيب والتكريم، فشرعت
في قول كان مكتوبًا واضطرت إلى الخروج عنه أو الزيادة فيه للرد عليَّ، فكانت
مظهر الأنوثة المهذبة في خشوع الصوت ولين القول وضعف الحجة، وحكاية
الأقوال المشهورة في الموضوع، كقولهم: إن النساء نصف الأمة، فإذا مُنعن من
العلم والعمل كالرجال كان هذا المنع قضاء على نصف الأمة بالشلل، وحينئذ يتعذر
عليها العمل، وضربت مثلاً قول الغربي للشرقي: (محال يا صاحبي أن تلحقني
وأنا أسير إلى المحطة متكئًا على ذراع زوجتي، وأنت تسير حاملاً زوجتك على
ظهرك) .
واحتجت أيضًا بمساواة نساء الفلاحين لرجالهم في جميع الأعمال الزراعية،
ومثل هذا وذاك ليس في شيء من وجوب المساواة التي هي موضوع المناظرة،
وإن أُخِذ على ما صوَّرته به، فجُعل من القضايا المسلّمة، فالآنسة كانت بحالها
ومقالها وجدالها آية بينة على تفاوت استعدادَيْ الذكر والأنثى وعدم جواز تساويهما
في جميع الحقوق والواجبات.
وأحسن ما قالته بداهة، وألطفه في الجدال موقعًا، وأدله على ثبات الجأش
وتعود محاورة الرجال كلمة لها أزالت بها سوء تأثير كلمة قبلها استنكرها السامعون
منها فابتدروها يتنادرون عليها، فصاح بهم رئيس الجلسة صيحة منكرة ورفع
عقيرته بعذلهم والتثريب عليهم، وإننا نشير إلى هفوتها ألطف إشارة، ليدرك
القارئ حسن موقع تلك العبارة.
ذلك أنها أرادت أن تحتج على وجوب المساواة في الحقوق والواجبات
بالمساواة في القوة والحواس والملكات، فذكرت المساواة في الأعضاء، بعبارة
ساذجة تسيغها غرارة العذراء، دون أبناء البلد من الأدباء، إلا أن تكون بحضرة
النساء، وكأن الذين اضطربوا لها، وتهامسوا يتنادرون عليها، قد راعوا عقيدتها
ومذهبها في مساواتهم، فجعلوها كواحد منهم؛ ولكن رئيس الجلسة خالفهم في ذلك
واشتد في الإنكار عليهم كما تقدم، وهذا دليل على أنه لا يرى وجوب المساواة
المطلقة ولا جوازها.
وبعد أن سكنت الزعازع، وسكت المنازع، جهرت الفتاة بكلمتها ملقية إياها
بهدوء وسكينة وهي (لو كنتم معتادين على الاختلاط لما حدث مثل هذا الضجيج)
وإنما يصح هذا القول في الرجال الذين اعتادوا مخالطة النساء وهم يعتقدون أن ما
بينهم وبينهن من الفرق - بل الفروق - في المدارك والعواطف وغيرها لا يبيح لهم
من الحرية في حضرتهن ما يستبيحونه عادة فيما بينهم، ولعمري إن الرجل الذي
يتفق له حضور مجلسهن وهو غير معتاد له لأجدر بالأدب والحياء فيه من غيره؛
وإنما ترجُّل المرأة ومزاحمتها للرجل فيما يعده من خصائص الرجال هو الذي
يُذهب كرامتها النسائية من نفسه حتى يظهر ذلك في معاملته لها، وقد حدَّثونا عن
ظهور هذه المعاملة لهن في أوربة في هذا العهد الذي قوين فيه على مباراة الرجال
في الكسب، وزاحمنهم بالمناكب بما اضطرتهم إليه ضرورات الحرب،
وللضرورات أحكام تُقَدَّر بقدرها، ولا يجوز أن تتجاوزها فتُجعل أصلاً دائمًا.
كتب بعضهم مقالاً في استقلال المرأة الغربية الاقتصادي الذي انتزعت به حق
الاستقلال السياسي، فصارت ترى نفسها مساوية للرجل في كل شيء قال فيه:
(يدهش الرجل الشرقي منا إذا زار أوربة، وكان يسمع أن المرأة عندهم محل كل
تبجيل واحترام- يدهش إذ يرى في قطار مزدحم امرأة تفتش عن محل خال فلا
تراه، والرجال من دونها قعود لا يخلون لها محالهم) أي خلافًا للمعهود معهن من
قبل ولا يزال معهودًا عندنا من إيثار الرجل المرأة على نفسه في مكان جلوسه.
ثم إن الآنسة طفقت تردُّ عليَّ حتى في إنكار سباحة النساء مع الرجال
ورقصهن معهم، وكان خيرًا لها لو لم تفعل، بل كان خيرًا لها وأليق بها أن تقول:
إن هذا إسراف من الفريقين في الشر، ونحن إنما نريد المساوة في العلم الصحيح
والعمل النافع للأمة، وإن أطلقته وجعلته عامًّا.
وأما الطلاق فقد ذكرتْ في الرد عليَّ أن الرجل كثيرًا ما يرسل إلى المرأة
كتاب طلاقها وهي لا تدري له سببًا، وأنا لا أنكر وقوع هذا وقبحه؛ ولكني أقول
لو أعطيت المرأة حق الطلاق أيضًا، وهي أكثر من الرجل انفعالاً وأسرع هربًا مما
يسوء إذا استطاعت إليه سبيلاً - فإن هذا الطلاق القبيح الضار يتضاعف أضعافًا،
وهو مخرب البيوت، ومقطع سلك النظام.
رد شوكت أفندي التوني
ولما انتهى وقت الآنسة هانم محمد نهض الشاب الأديب شوكت أفندي الطالب
في كلية الحقوق فاستقبله الشبان بتصدية الفتوة والقوة؛ لأنه من أفصحهم لسانًا،
وأقواهم جنانًا، فاستهل رده عليها بأسجاع فصيحة بدأها بذكر ما كان من عادته
وآدابه في تكريم النساء ومقابلته لمن تلقاه منهن بالاحترام والود، ونثره بين يديها
زهر النرجس وورق الورد (وكأنه ذكر ورقه دون زهره اجتنابًا لشوكه وإن كان
هو نفسه شوكة وردية) وأنه لما رآهن قد شببن عن طوقهن، وخرجن من قرارة
ضعفهن وضؤولتهن، اضطر أن يصارحهن بحقيقة حالهن.
وما كاد ينطق بهذه الألفاظ حتى استشاط الرئيس غضبًا، وألقى عليه من
سماء الرياسة شهبًا، وحرَّم عليه أن ينطق بمثل هذه الألفاظ التي تخدش منهن
ملمس الكرامة، فاعترض عليه كثير من الشبان، وعدُّوا هذا المنع تحكمًا منافيًا
لحرية الكلام! فأجاب بأنه يحترم الحرية كل الاحترام، بشرط أن لا تمس الكرامة،
وتعد من الإهانة.
ثم عاد الخطيب إلى سياق دفاعه، مصرحًا بطاعته لحضرة الرئيس في
أسلوبه مع إصراره هو على رأيه، وطفق يرد على الدكتور عزمي أولاً فبيَّن أن
العلماء والأطباء متفقون على أن المرأة أضعف من الرجل جسمًا وعقلاً وأعجز عن
إتقان الأعمال ولا سيما الشاقة، وأن النابغات منهن لا يبلغن شأو النابغين من
الرجال ولا يقربن منهم، ولما شرع في التفصيل بدأ بذكر من تولين الملك والحكم،
فعارضه الرئيس بما بدأ به من وصف مذموم لهن، رأى أنه لا يليق ذكره في ذلك
المجلس الذي يحضره جماعة العقائل والأوانس، وهذا مبني على عدم جواز
المساواة بين الرجال والنساء، فهو يتضمن ترجيحه لرأينا، وإن استنبط بعض
الحاضرين من جملة مسلكه أنه كان علينا لا على الحياد، وقد كلمني بعضهم في
ذلك فلم أوافقه عليه، فانا موافق للرئيس شعورًا ووجدانًا على تقييد حرية اللسان في
مجالس النساء، بحيث لا يُذكر فيه كل ما يُذكر عادة في مجالس الرجال، وإن كان
النساء يقبلن مثله وأكثر منه في مجالسهن الخاصة.
وأرى مع هذا الشعور الذي مكَّنته في نفسي التربية والعادات أن النساء
اللواتي يدّعين مساواة الرجال ويناظرنهم في ذلك ويزاحمنهم بالمناكب، لا يكرهن
أن يقال على مسامعهن كل ما يقال على مسامعهم، وأن من تكره منهن ذلك أو ترى
فيه امتهانًا لها لا ينبغي لها أن تكون مترجلة ولا طالبة مساواة، ولا تعذر في
مطالبة الرجل بهذا الأدب معها، ولا في لومه على تركه وحسبانه إهانة لها.
وجملة القول إن شوكت أفندي ما جاء شيئًا فريًّا في مناظرته، ولا خرج عن
حد المعقول في نظريته، ولا تعدى قوانين علمه (الحقوق) في مرافعته، وإنما
خالف فيها شعور الذين يبالغون في التفرقة بين الرجال والنساء، ومذهب الذين
يحرِّمون تمزيق الحجاب بينهما ولا يبيحون المخالطة المطلقة حتى في الرقص
والسباحة والسياحة والخلوة عملاً بحكم الدين فيهن، وصيانة لأمزجتهن الرقيقة
وعواطفهن الدقيقة عن مهاب الأهواء التي يخشى عليهن من عواقبها ما هو شر
وأدهى وأمر مما يخشى على الرجال، وإنما خالف هذا الشعور وهو من أهله،
وخرج عن جادة هذا المذهب وهو مذهبه ليقنع طوالب المساواة المطلقة وأنصارهن،
أنها شر لا خير لهن، وأن أنصارهن لا يطيقون احتمال عواقبها فضلاً عنهن،
وإلا فلماذا أنكروا على جمهور الشبان انتقاد هفوة الفتاة وهم يعترفون بأنها هفوة،
ولم يعذروا الفتى فيما أداه إليه اجتهاده من جفوة؟
وأختم هذا الوصف الإجمالي للمناظرة بانتقاد لجنة المناظرات في الجامعة
على تقصير وقت المتناظرين في الموضوعات الكبيرة، ذات القضايا الكثيرة، مع
عدم حصر الموضوع وبيانه لكل منهما قبل الدخول فيها، وقد اضطر الرئيس
الحافظ للنظام في مناظرتنا إلى منع السامعين من بيان آرائهم في تأييد كل منا
لضيق الوقت، وضياع طائفة كبيرة منه في الإخلال بالنظام، وسأتكلم في سائر
فصول هذا المقال في تفصيل ما أجملت من المسائل كما وعدت.
- 4 -
تأثير المناظرة والآراء فيها
لخَّصت في مقالاتي الثلاث الأولى ما دار في مجلس المناظرة، ثم عرض لي
من الشواغل ما صرفني عن الشروع في التحقيق التفصيلي الذي اقترحه علي بعض
طلاب الجامعة النجباء، ولا سيما طلاب كلية الحقوق منهم، وقد زارني في هذه
الأيام بعض الأفاضل من أستاذي المدارس الثانوية والعالية وغيرهم شاكرين
ومهنئين بالفلج والظفر في نصر الحق على الباطل، والدين على الإلحاد،
ومستحسنين لنشر الموضوع في جريدة كوكب الشرق، ومقترحين لنشره في المنار
أيضًا، وجاءتني مكتوبات وبرقيات في ذلك في بعضها إطراء لي وإغراق في
الطعن والزراية على مناظري، ورأيت من المتكلمين معي في ذلك من يعتقدون أن
هذه المناظرة كانت ممالأة مدبرة من دعاة الإلحاد والإباحة على الدين ورجاله،
أعدوا لها عدتهم، ولم يخبروني بها قبل موعدها بيوم واحد إلا لأخذي على غرة
حتى لا أجد وقتًا للاستعداد، ولا للاستشارة، ولا لدعوة من أعلم أنهم على عقيدتي
ورأيي، وهذا خلاف للمعروف والمألوف وللأدب أيضًا، وأنه لولا (طيبة القلب)
لما قبلت، وأنه كان ينبغي لي أن أدعو إخواني وتلاميذي لحضور المناظرة لتكثير
الأنصار وإن كان الوقت الذي أُعطي لي قصيرًا لا يتسع لرؤية كثير منهم أو
مخاطبتهم بالتيلفون - وأن أشترط إخراج الفتاة من المناظرة ... إلخ.
قلت لأخلص أصدقائي من هؤلاء الذين كلموني في مكتبي: أما إجابة الدعوة
بالقبول فلم يكن منه بدٌّ ولا عنه مندوحة بعد طبع اللجنة لرقاع الدعوة ونشر خبرها
في الصحف، لما يتوقع لردها من سوء التأويل، وكثرة القال والقيل.
وأما ما ذكرتم من التدبير والسعي من جماعة الملاحدة فمعقول، ومن دلائله ما
علمته علم اليقين من توزيع بعض أركانهم لرقاع الدعوة على من يختارون قبل أن
أراها وأن أعلم بموضوعها وموعدها، ومن براهينه ما صرَّح به مناظري بعد
انتهاء المناظرة لبعض أصحابه من أن فلانًا - من غلاة دعاتهم إلى ترك الشريعة
الإسلامية - هو الذي لقّنه ما قاله في مجلس المناظرة من أن بعض علماء الإسلام -
ويعني نفسه - يقولون: إن جميع أحكام المعاملات الشرعية يجوز للمسلمين تركها إذا
رأوا ذلك من مقتضيات الزمان والمكان، وأما الذي لا بد منه في الإسلام فهو
العبادات فقط، ولا يبعد أن يكون من آيات ذلك أنهم لم يرسلوا لي إلا عشر رقاع
من رقاع الدعوة، بناء على أن حضور المناظرة مباح لا يتوقف على حملها، وقد
أعطيت بعضها لبعض من قبل من أعضاء مجلس إدارة الرابطة الشرقية عندما
أُلقيت إليَّ (وعلمت أن بعضهم كان يحمل طائفة منها! !) وبقي سائرها عندي إلى
الآن.
هذا وإنني بعد أن عدت من نادي الرابطة الشرقية إلى الدار رأيت فيها ورقة من
بعض طلبة الأقسام العالية في الأزهر الشريف يطلبون مني أن أضع لهم في مكتبة
المنار طائفة كبيرة من تلك الرقاع ليحضروا المناظرة مؤيدين لي لعلمهم بأنني
أنصر الدين وما شرعه الله تعالى للناس - وكانوا قد أرسلوا إلى المكتبة بعض
إخوانهم لطلب الرقاع قبل أن أعلم بخبرها، على أنني لم أترك لهم شيئًا من القليل
الذي بقي معي.
ولعل من آيات ذلك التدبير ما ظهر عند أخذ بطائق التصويت ممن حضر
المناظرة من الأزهريين على قلتهم وغيرهم أن أكثرهم لم يُعطوا منها شيئا، ويمكن
الرد على هذا الاحتمال بأن رئيس الجلسة خاطب جمهور الحاضرين على مسمع منا
بأن من لم يكن أخذ منها قبل المناظرة يمكنه أن يأخذ بعدها، ولكن تبين أن هذا لم
يكن ممكنًا.
وأما طعن من ذكرت آنفًا على محمود عزمي أفندي نفسه بالإلحاد وسوء النية
فقد شاركهم فيه كثيرون من طلبة الجامعة الذين مشوا معي بعد الخروج من مجلس
المناظرة، وطعنوا في أستاذ آخر من إخوانه ومدرسي الجامعة وناقشهم في ذلك
بعض الطلبة من القبط، وأنكروا عليهم رميهم للأستاذين بسوء النية وكونهما
يتقاضيان على الطعن في الإسلام أجرًا، فرد عليهم الطلبة المسلمون بقولهم: وماذا
يعنيكم منا في دفاعنا عن ديننا وأنتم أقباط لا علاقة لكم بذلك؟
مع هذا كله ومع العلم بأن بعض الجرائد الإفرنجية انتصرت للأستاذ محمود
عزمي أفندي عليَّ، وطعنت على الجمهور الذين أيدوني بما يطعن به الإفرنج على
كل مسلم معتصم بدينه - مع هذا وذاك لا أزال مصرًّا على ما كتبته من إعجابي
بحرية الرجل وصراحته وإنصافه فيما صرح به أمامي وأمام غيري من الثناء علي
والإعجاب بما قلت في الرد عليه، ومنه قوله لي على مسمع من صاحب جريدة
كوكب الشرق، وعبد الخالق باشا مدكور، وعبد الله بك البشري في إدارة الكوكب:
إننا نبالغ فيما نطلب للنساء من الحقوق في مقابلة ما نعلم من مبالغة رجال الدين في
هضم حقوقهن لنصل إلى الاعتدال الذي يقول به مثلك، أو نحن نعلم أنه لا سبيل إلى
إجابتنا إلى كل ما نطلب لأنه من المحال - أو ما هذا مؤداه.
نعم لقد أكبرت من إنصافه في هذا المقال، وزاد إعجابي به ما علمته من أنه
قال هذا أو ما يقرب منه في مجالس أخرى، ومنه ما كتبه عنه صديقه صاحب
جريدة الشورى الغراء، فقد كتب في العدد الذي صدر في 15 شعبان (ويناير)
خبر المناظرة، وكان من حاضريها ثم قال في آخر ما كتبه:
(وجاء الأستاذ عزمي ثاني يوم الاجتماع إلى إدارة الشورى مسرورًا مبتهجًا،
فقلنا وكيف تُسر وقد انتصر عليك السيد رشيد بالأمس؟ فقال إنني لم أستغرب
هذا وكنت أتوقعه؛ ولكنني طلبت للمرأة كل شيء ليصرِّح رجال الدين الإسلامي
للمرأة ولو ببعض الشيء، وقد رأيت أن السيد رشيد كان عظيمًا جدًّا في رده علي،
إذ أنه أجاد وأحسن، وكان مثلاً لمشايخ المسلمين، ولولا الضجة التي قامت في
النهاية لألقيت كلمة في الثناء عليه) اهـ. فأنا أثني على نيته هذه كما أثنيت على
كلماته المنصفة، وما رأيت له شبهًا في دعاة الإلحاد إلا زعيمهم السابق الدكتور
شبلي شميل، فقد كان يعترف بما يظهر له من الحق في المسائل ولو كان مخالفًا
لرأيه، وأما الإلحاد فهو مجاهر بشر أنواعه وهو التعطيل المطلق لا نبذ الشرائع
الإلهية فقط، ويروى أنه لما سأله رجال الإحصاء عن دينه قال اكتبوا (لا ديني)
ويقال إن زوجه اليهودية الأصل مثله.
وقد كثر كلام الناس في رئيس الجلسة النائب المحترم توفيق أفندي دياب
أيضًا فانتقدوا شدته وحدته في الإنكار، وضعفه في حفظ النظام، ورموه بالمحاباة
للفريق الموجب لمساواة النساء بالرجال بما حباه من عطف، على الفريق السالب
بما قابله به وقابل مُظهري الميل له من عنف.
فأما الشدة والحدة، فقد اعتذر هو عن بوادرها في الجلسة، وأما الضعف في
حفظ النظام الذي أثار الشدة والحدة، فسببه شذوذ كثير من حاضري المناظرة في
إظهار ما استحسنوا وما استهجنوا بما لا يبيحه النظام في أثناء المناظرة، وعدم
طاعتهم له بما به أمر من معروف، وما نهى عنه من منكر، فمن لم يسمع منهم
نئيم جرس المدرسة الصغير الذي كان يدقه بيده، فقد صخ سمعه جرس صوته
الخارج من حنجرته؛ وإنما سبب هذا الشذوذ كثرتهم وقلة حضور بعضهم لأمثال
هذه المناظرات في مثل هذا المكان، وعدم تعود ما يلزم فيها من نظام.
وأما المحاباة لخصمنا علينا وإظهار ضلعه معه فلا أوافق لامزيه بتوخيه له؛
وإنما كان الذي أظهره علنًا هو ما بينته من قبل من استنكاره الشديد لأي مغمز أو
ملمز للنساء جنسهن وأفرادهن، كاللائي ولين أمر المُلك في غابر التاريخ فيما
حظره على شوكت أفندي حظرًا باتًّا لا هوادة فيه، وهذا أدل على إنكار فطرته
وذوقه لمساواة النساء بالرجال منه على وجوب المساواة المطلق كما بينته في المقالة
الثالثة، وكنت أريد الاقتصار على ما تقدم في شأن المناظرة ورئيسها وخصمي فيها،
بيد أن كثرة كلام الناس فيها وكتابتهم أيضًا أوجبا عليَّ هذا البيان، وسأشرع غدًا
في التحقيق التفصيلي في الموضوع إن شاء الله تعالى.
التحقيق التفصيلي في موضوعات المناظرة
- 5 -
معنى الحق وموضوعه وأقسامه:
كتبت منذ أربع وعشرين سنة مقالة طويلة عنوانها (الحق والباطل والقوة)
نشرتها في (ج1 م9 من المنار الذي صدر في غرة المحرم سنة 1324) قلت فيها:
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع، والباطل هو ما لا
ثبوت أو لا تحقق له في نفسه، وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يمحق ما كان ثابتًا
متحققًا، كما هو الشأن في الموجود والمعدوم، والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا
مجال فيه لاختلاف العقلاء، إن يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية،
والدينية والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك
حق وباطل.
ثم بيَّنت أن الحق والباطل يتنازعان في الفلسفة والنظريات العقلية والوجود
والسنن الكونية (أي الطبيعية) والسنن الاجتماعية والقوانين والمواضعات العرفية
والدين والشريعة الإلهية، وفصَّلت القول في هذه الأمور الكلية تفصيلاً بالبينات
والدلائل.
والذي يقتضيه المقام من الكلام في الحقوق هنا أن ما جعله الله تعالى حقًّا
بالخليقة والفطرة لا يدخل في موضوع بحثنا ولا مناظرتنا؛ لأنه لا نزاع فيه كما
بيَّناه في ردنا على ما سماه مناظرنا (حق الوجود واستنشاق الهواء) ومنها ما جعله
الله تعالى حقًّا فيما شرعه لنا من الدين، وهذا لا يتنازع فيه اثنان ممن يدين الله
بالدين الذي جعله حقًّا ما داموا يؤمنون به؛ وإنما يجوز لهم التنازع فيما تختلف فيه
أفهامهم من أدلته إذا لم تكن قطعية كما سنبينه، ولهذا قلنا إن المناظرة التي دعينا
إليها مناظرة بين الدين والإلحاد، وما أجبنا الدعوة إليها على ما كان من شذوذ لجنة
المناظرة والخطابة معنا فيها إلا للدفاع عن الدين، وبيان علو حقه على باطل
الملحدين والمعطلين {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ *
لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ} (الأنفال: 7-8) وأما ما يُسمى
حقًّا بالعرف العام أو الخاص أو القوانين الوضعية فإن أهله يلتزمونه ما دام
الاصطلاح والعرف متبعًا والقانون نافذًا، وقد يكون في نفسه حقًّا بموافقته للمصلحة
وإقامة العدل، وعدم منافاته لهداية الدين وقطعيات الشرع، وقد يكون باطلاً
باشتماله على شيء من المفاسد أو الظلم، فتحسن المناظرة فيه للتمييز بين الحق
والباطل، وإقناع أهل العرف أو الحكومة الواضعة للقانون بالرجوع إلى ما يقوم
الدليل على أنه هو الحق، إذ لا يمكن تقرير الحق فيه إلا بإرجاعهما عن اقتناع،
فأما الحكومات فيسهل إقناعها على العالم بالأصول التشريعية التي تعتمد عليها في
وضع قوانينها، وأما الأمم فلا بد في إقناعها من معرفة عقائدها وتقاليدها ومراعاتها
في ذلك، على أن إرجاعها بالعقل عن عرف عام بمجرد إقامة الدليل على كونه
باطلاً أو ضارًّا غير ممكن فلا بد من الاستعانة على ذلك بالتربية والتعليم.
وأما الحق في النظريات العقلية والفلسفة فسبيله أدق، ومسلكه أعسر،
والاتفاق عليه أعز، والذين يقتنعون به أقل؛ وإنما تفيد هذه النظريات في التقوية
عند بعض الناس دون جمهورهم لما فيها من الخلاف وكثرة المذاهب، وكدورة
المشارب.
الحقوق العشرة المدعاة للنساء:
بعد هذا التمهيد أقول: إننا إذا لفتنا نظرنا عن تعبيرات مناظرنا الضعيفة،
ومؤيدته النحيفة فيما سماه حق الوجود واستنشاق الهواء، وحق الحياة في المجتمع،
وحصرناه في الحقوق الشرعية والعملية التي تقابل الواجبات، ألفيناه قد ادَّعى
للنساء الحقوق العشرة الآتية لتحقيق مساواتهن للرجال التي يدعي وجوبها، وهي:
(1) رفع الحجاب وتمزيق الأستار (2) الاختلاط بالرجال بلا شرط ولا قيد
(3) تعلم المرأة ما يتثقف به وتثقف غيرها (4) الاشتراك مع الرجل في تربية
الأولاد (5) الامتلاك بالإرث والكسب (6) المساواة بين الذكور والإناث في
الميراث (7) وجوب الاعتراف بما تشاء (8) جميع أعمال الحكومة ومصالحها
(9) التصويت في انتخاب المجالس البلدية والتشريعية وغيرها (10) عضوية
هذه المجالس ورياستها، هذا ما قرره محمود أفندي عزمي؛ ولكنه أجمل القول في
الحقوق الانتخابية والتشريعية لانتهاء الوقت المحدد له كغيره.
إن بعض هذه الأمور حق لا نزاع فيه، وبعضها منكر دينًا وشرعًا وعقلاً
وأدبًا وقانونًا وعرفًا، وبعضها منكر في بعض هذه المناطات للحقوق دون بعض،
ومن العجيب أن مناظرنا الموجب للمساواة بين الجنسين ومؤيدته فيه لم يذكرا
الوظائف الطبيعية التي تخالف فيها المرأة الرجل فتكسبها من الحقوق ما ليس له،
وتفرض عليها من الواجبات ما لا تفرضه عليه كالحمل والولادة والرضاعة، ولم
يُلما بالسنن الاجتماعية التي هي قوام تكوين الأسرة التي هي قوام تكوين الأمة،
وهي تقتضي توزيع الأعمال المنزلية وغيرها بين النساء والرجال.
ولكن الشرع الإسلامي الذي هو نظام دين الفطرة لم ينسهما، فأعطى كلاًّ من
الرجل والمرأة من الحقوق وفرض عليه من الواجبات ما يناسب فطرته وقواه
البدنية والعقلية، وهما وأمثالهما من النساء الثوائر والرجال الثائرين على الدين
المطلق، يجهلون هذا الدين القويم وهذا الشرع العادل أصوله وفروعه.
ألم تر أن محمود عزمي أفندي، وهو من حملة لوائهم يقول: إننا نطلب للمرأة
كل شيء ليسمح لها رجال الدين ببعض الشيء، ويقول بعبارة أخرى: إننا نبالغ
ونغلو في حقوقها في مقابلة مبالغة رجال الدين في هضم حقوقها؟ وهو يخص
علماء الأزهر في هذا بالذكر، وإن لم ننقله عنه، وعلماء الأزهر لا يقولون إلا بما
في كتب المذاهب الأربعة المتبعة المشهورة، وهذه الكتب تبالغ في حقوق النساء
مبالغة لا يعد ما يقابلها من الواجبات عليهن فيها شيئًا، وسنشير إلى ذلك في محله..
وجملة القول إن الشرع الإسلامي قد أبطل كل ما كان عليه جميع أمم الأرض
من هضم حقوق النساء وإهانتهن واحتقارهن وأعطاهن من الحقوق ما لم يسبق له
نظير في دين ولا شرع ولا عُرف أمة من الأمم، وما لم يبلغ شأوه فيه قانون مدني
إلى هذا العهد، وإن هذا الغلو فيهن الذي ابتدع في هذا العهد شر لهن سيظهر فساده
الكبير وضرره الخطير بعد حين.
وإننا قبل بيان الحق التفصيلي في ذلك نقول كلمة في معنى الدين ووجه حاجة
البشر إليه، وما في الاعتصام به من المصالح، وما في ترك هدايته من المفاسد،
وما يهدد مصر من الخطر في دعاية الإلحاد والإباحة التي فشت فيها في هذا العهد،
وموعدنا المقالة الآتية.
هداية الدين وجناية الإلحاد
- 6 -
لا شك في أن الذين يدعوننا إلى المساواة المطلقة بين النساء والرجال حتى
في أحكام المواريث والطلاق، وإلى إباحة الاختلاط بينهما في كل شيء حتى
الرقص والسباحة في البحر - يقصدون بهذه الدعوة أن نترك ديننا وننبذه وراءنا
ظهريًّا، وربما كان هذا هو المقصد الأصلي لهم وكان ذاك وسيلة له أو مقصدًا
ثانويًّا؛ فإن هذه الدعوة ليست كدعوة أحد الفساق صاحبًا له إلى شرب الخمر أو
لعب القمار معه، أو دعوة أحد الأشقياء لآخر منهم إلى مساعدته على سرقة دار أو
قتل نفس؛ فإن كلاًّ من هذين الفاسقين يعلم أنه يدعو إلى شر محرَّم له فيه منفعة
متوهمة أو مظنونة، وقد يتوب من العودة إليها في يوم من الأيام، وربما تلومه
نفسه أو يحيك في صدره استقباح فعله في أثناء اقترافه له، وهو على كل حال لا
يدَّعي أنه يعمل حسنًا أو أنه يدعو إلى خير.
وأما أولئك الدعاة إلى مخالفة الدين حتى فيما هو قطعي من نصوصه،
ومجمع عليه بين أهله، فيدّعون أنهم يدْعون الأمة إلى ما هو خير لها وأصلح
لأمورها، وأنهم لا يريدون على ذلك جزاء ولا منفعة، ولا يصدقهم أحد من العقلاء
في هذه الدعوى؛ فإنهم يعلمون أنه لا توجد أمة من الأمم مجردة من الدين، بل
يعلمون أن الأمم الإفرنجية التي يوهمون الأغرار من الشبان والشواب أنهم يقلدونها
ويتبعون خطوات حضارتها - هي أشد أمم الأرض عصبية لدينها وعناية بنشره،
وأنهم ما أسسوا المدارس الكثيرة في بلادنا إلا لأجل دعوتنا إليه وإدغامنا فيه، وهم
يبذلون في سبيل ذلك الملايين من الجنيهات على جمعيات الدعوة إليه والتبشير به.
الدين هداية روحية، لا تتم تربية الأنفس على الأخلاق الكريمة والفضائل
وصدِّها عن الرذائل وتثقيفها بالعمل الصالح بدونه، لما سنشير إليه في هذا المقال
وطالما بسطناه في التفسير والمنار، وهم يبغون حرماننا من ذلك كله.
الدين رابطة من أقوى الروابط البشرية، وجامعة من أعظم الجامعات
السياسية، وفصل من الفصول المنطقية المقومة للشعوب التي يتألف منها أو ينقسم
إليها نوع الإنسان، ودين الإسلام أقواها في هذه الروابط والجوامع والمقومات،
فهو يهب كل فرد من أفراده ملايين من الإخوة الروحيين يعطفون عليه ويحنون إليه
في كل قطر من الأقطار التي يقيمون فيها كما جرَّبنا ذلك في سياحاتنا الواسعة،
وهؤلاء الدعاة إلى الإلحاد يريدون حرماننا من هذا كله.
الدين حاجة من حاج الفطرة البشرية، بل ضرورة من ضروراتها الاجتماعية،
بل غريزة من غرائزها النفسية، فإن اختلف بعض الحكماء في بعض هذه الثلاث،
فلن يتفقوا على إنكارها كلها، وقد قال حكيمنا الإسلامي المصري الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده قدَّس الله روحه في رسالة التوحيد: (فبعثة الأنبياء صلوات الله
عليهم من متممات كون الإنسان ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع،
منزلة العقل من الشخص) .
وجد أفراد من البشر في أمم مختلفة اهتدوا بعقولهم إلى كثير من الفضائل
والآداب ودعوا إليها وهم الذين يسمون الحكماء؛ ولكنهم لم يبلغوا من القداسة
والهداية أدنى ما بلغ الأنبياء، ولم تهتد أمة من الأمم وتصلح وتتهذب بعلوم أحد
منهم وفلسفته، كما اهتدت كل أمة باتباع رسول الله إليها ما دامت متبعة له،
وهؤلاء الملاحدة يتوخون إبعادنا عن هذه الهداية.
إن من أصحاب العلم الناقص كثيرًا من المعجبين بعلوم هؤلاء الحكماء
القاصرين عن إدراك علو رتبة الأنبياء عليهم، إذ لم ينقل عن الأنبياء من العلوم
والفنون الكسبية ما نُقل عنهم؛ ولكن الحكماء المهتدين بالدين الذين يعقلون ما له من
العلو والسلطان على العقول وعلومها الكسبية يدركون ذلك.
كان للفيلسوف الإسلامي الأكبر الرئيس أبي علي بن سينا (الذي لُقِّب المعلم
الثاني عند من يُلقِّبون فليسوف اليونان الأكبر أرسطو بالمعلم الأول) خادم ذكي
لزم خدمته في السفر والحضر لإعجابه بعلومه ومعارفه الواسعة، حتى إنه كان
يفضله على الرسول الأعظم ومصلح البشر الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم،
وكان لا يخجل من مصارحته بذلك ومكاشفته بتعجبه منه لاتباعه لمن يزعم هو أنه
دونه، فصبر عليه الفيلسوف إلى أن وجد فرصة لإقناعه بضلاله.
ذلك أنه كان في أصفهان في ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرد، فأيقظه من
نومه ليأتيه بماء يتوضأ به، فاعتذر لكسله وتألمه من البرد بأن الليل لا يزال طويلاً،
فأيقظه مرة ثانية فاعتذر، فأيقظه الثالثة في وقت آذان الصبح إذ كان المؤذن
يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. وسأله: ما هذا الذي نسمع؟ قال: الأذان، قال:
ماذا يقول المؤذن؟ قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال له الرئيس حينئذ ما معناه:
لقد آن لي أن أفهمك الفرق بيني وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستمع لما أقول: إنني لم أر أحدًا من الناس معجبًا بي كإعجابك وأنت خادمي وأنا
أدعوك في داخل الدار لإتياني الماء المرة بعد المرة، وأنت تخالفني وتعتذر لي،
وهذا المؤذن الفارسي يقف في هذا البرد القارس في أعلى المنارة يشيد بالشهادة
لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة احتسابًا لوجه الله تعالى بعد وفاته بزهاء
أربعمائة سنة، فتاب ذلك الخادم المغرور وأناب؛ ولكن ملاحدة زماننا لا يتوبون
بمثل حجة الرئيس ابن سينا، ولا بما هو أنصع منها، ولا يعقلون سر سلطان
النبوة على الأنفس.
وأراني ههنا قد وجدت مناسبة قوية لبيان حقيقة يجهلها هؤلاء المغرورون
ببعض قشور الفلسفة التقليدية لبعض علماء الإفرنج، وهي أن الدين لم يكن له من
التأثير في هداية البشر وإصلاحهم ما ليس للعلوم والفلسفة البشرية إلا لأن مصدره
السلطان الإلهي الأعلى الذي هو فوق قوى البشر العقلية والحسية، ذلك بأن الإنسان
يشعر بغريزته أن كل ما هو تحت إدراك عقله ومشاعره فهو دونه، وهو لا يدين
لما هو دونه ولا لمن هو مثله؛ وإنما يدين لمن هو فوقه لا في شخصه فقط، بل
في نوعه وجنسه الأعلى ذي السلطان الغيبي الذي يشعر به وجدانه، ولا يحيط به
عقله وجنانه، وهو لا يتم تهذيبه وصلاحه بإقناع أمثاله من البشر له باتباع الحق
والهدى وترجيحهما على الباطل والهوى، إن أمكن هذا الإقناع، ووقع عليه
الإجماع، فكيف إذا اختلفت فيه الآراء، وعصفت بأهلها الأهواء، كدأب البشر في
كل آرائهم ونظرياتهم في الآداب والسياسة وشؤون الاجتماع، قلما يتفقون وقلما
يعملون بما يتفقون على حسنه إذا خالف شهواتهم النفسية، أو عارض مصالحهم
القومية أو الدولية؛ وإنما تذعن الأنفس البشرية للحق إذا كان إيمانًا وجدانيًّا، وتقف
عند حدود الفضائل إذا كان وضعها وحيًا إلهيًّا، وتطيع الأمر بالخير والنهي عن
الشر إذا كان الوازع فيهما نفسيًّا، ولا معنى للدين إلا هذا، ولهذا لا يكون إلا
وضعًا إلهيًّا، وقد وضع بعض فلاسفة أوربة قواعد جميلة معقولة سموها الديانة
الطبيعية؛ ولكن لم يتدين بها أي شعب من شعوبها ولا فرد من أفرادها.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) يجب أن تعلم هذه الفتاة هي وأهلها أنها إذا كانت تعتقد ما يعتقده عزمي في هذه المساواة،
وتنكر حقية ما قرره الإسلام وحسنه، فهي مرتدة لا يجوز لمسلم أن يتزوجها ولا ترث المسلمين ولا
يرثونها.(30/610)
الكاتب: طنطاوي جوهري
__________
تفسير الشيخ طنطاوي
حضرة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار:
قرأت ما كتبتموه تحت عنوان (تفسير الشيخ طنطاوي جوهري) وشكرتكم
على حسن ظنكم بما أفضتم من الثناء كقولكم ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا
وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلهم العلوم ... إلخ) .
فهذا بعض ما أشكركم عليه؛ ولكني لا يتسنى لي أن أغض الطرف عما جاء
مخالفًا لما ذكرتم كقولكم (إنه لا يعول عليه في حقائق التفسير فإنه إنما يذكر شيئًا
مختصرًا منقولاً من بعض التفاسير المتداولة ... إلخ) ما ذكرتم بعدما قلتم (ويعتقد
حقًّا أن الإسلام يرشدهم إلى العلوم، بل يوجبها عليهم) وقلتم: (وجملة القول أن هذا
الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا الجواب وصاحبه جدير
بالشكر عليه والدعاء له) .
وإذن أقول: يظهر لي أن الأستاذ إذ جمع بين الثناء والنقد رمى لثلاثة
أغراض (الغرض الأول) أنه يهيج بالأول أذكياء الأمة وعقلاءها لقراءته (الثاني)
أنه يثير بالنقد حمية الجامدين الذين هو يجاهدهم إذ يطمعون أن يجدوا فيه مواطن
ضعف أو نقص فيقرأوه وتكون النتيجة انتشار العلم عند الطائفتين لأن الحقيقة
يخدمها الضدان مَن هو لها ومن هو عليها.
(والغرض الثالث) أن يحثني أن أكتب في المنار مقاصد الكتاب بدليل أنه
صرح فيه بأنه ما قرأ إلا بعض أوراق في بضع دقائق.
ولا ريب أن الذي انتشر الآن من تفسير الجواهر خمسة عشر مجلدًا انتهت
إلى آخر سورة السجدة، فإذن وجب عليَّ أن أبين ما في الكتاب، فإذا وسع المنار ما
أسطره في صحائفه كنت شاكرًا للأستاذ؛ ولذلك أقول: إن صاحب الدار أدرى بما
فيها، والضيف الذي لا يمكث فيها إلا بمقدار زمن يشرب فيه الشاي له العذر فيما
يصفها به؛ ولذلك أقول: إن طريقتي في التفسير أن أقسم كل سورة أقسامًا كل قسم
منها تذكر آياته أولاً مشكلة، ثم أقفي بالتفسير اللفظي ملخصًا مستوفيًا مفصِّلاً جميع
الأحكام وهي قليلة في القرآن ومبينًا التفسير المأثور، وقد نبذت خلاف الفرق
الضالة والجدل الممقوت، فهذا لا سبيل إليه؛ لأنه ضياع لوقت هذه الأمة، بل أوفق
بين الأقوال بقدر طاقتي، ولست أذكر من الإعراب إلا ما تمس الحاجة إليه بأسلوب
يوافق ذوق العقلاء المسلمين في زماننا، وعدلت عن الطريقة العتيقة إلى طريقة
مدرسية صالحة لفهم المسلمين؛ وإنما نهجت هذا المنهج ليكون الأسلوب سهلاً يسر
القارئين، لا معقدًا يقعد بهمم الكثيرين.
ثم بعد ذلك التفسير لكل قسم أُبيِّن ما يشير إليه من الحقائق العلمية الصادقة
وأُبيِّن كيف يكون تكذيب الخرافات ليرتقي الشعب الإسلامي مراقي الفلاح؛ وإنما
اخترت ذلك ليأخذ كل قارئ من التفسير ما شاء، فمن شاء التفسير المتداول فلديه
خلاصته منقاة مصفاة، ومن أراد العلم وجماله فإنه يجده في مكان خاص غير
ملتبس بالتفسير اللفظي.
وأنا أحمد الله عز وجل إذ وفقني أن أُبيِّن للمسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها أن العلوم التي غفل عنها المتأخرون، وامتلأت بها الأقطار ونبذها
المسلمون وكرهوها - ظنوها ضد الدين، وهذه هي المصيبة الدهياء التي حلت بديار
الإسلام كما ذكره الأستاذ ووافقني عليه، أليس هذا بعينه هو فقه التفسير؟
أفلم يقل بهذا المتقدمون مثل الإمام الغزالي ونصه (أن من زعم أنه لا معنى
للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في
الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي
حده ومحطه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم،
قال علي رضي الله عنه: (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) فإن لم يكن
سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم؟ وقال أيضًا: إنه صلى الله عليه وسلم دعا
لابن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل) فإن كان
التأويل مسموعًا كالتنزيل ومحفوظًا مثله فما معنى تخصيصه بذلك؟
وقال أيضًا: أعظم علم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته، إذ لم
يدرك أكثر الخلق منها إلا أمورًا لائقة بأفهامهم، ولم يعثروا على أغوارها، وأما
أفعاله فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها. إلى أن قال: ولهذا إذا قرأ التالي:
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: 63) {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة:
58) {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (الواقعة: 68) {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي
تُورُونَ} (الواقعة: 71) لا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني
فليتأمل في المني، وهو نطفة متشابهة الأجزاء، ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى
اللحم والعظم والعروق والكبد والعصب، وكيفية تشكيل أعضائها بالأشكال المختلفة
من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات
الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها، ثم إلى ما ظهر منها من الصفات
المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والتكذيب والمجادلة. إلى أن قال: فليتأمل
هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب، وهو الصفة التي صدرت منها هذه
الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع، إذًا أقول: لقد استُوفيتْ هذه
المباحث وأمثالها في التفسير واضحة بالصورة الشمسية ظاهرة للعيان مورثة لليقين.
ثم ذم من يقتصر من فهم ملكوت السموات والأرض على أن يعرف لون السماء
وضوء الكواكب، فقال: وذلك مما تعرفه البهائم ... (وأقول: حرام علي أن أسمع
هذا القول، ولا أرفع هذا العار والجهل عن هذه الامة التي هي خير أمة أخرجت
للناس) .
ثم قال: ولله تعالى في ملكوت السموات والأنفس والحيوانات عجائب يطلب
معرفتها المحبون لله تعالى؛ فإن من أحب عالمًا فإنه لا يزال مشغولاً بطلب
تصانيفه اهـ. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: إنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا
الجهل والغفلة عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعم إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إذا
عرفوا النعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه الحمد لله، الشكر لله ... إلخ) .
أنا لا أود أن أطيل النقل فأكابر العلماء المتقدمون في القرون الأولى لما رأوا
صغار علماء زمانهم ليس لهم إلا حفظ الروايات والجدل والفتاوى والاقتصار على
علم الفقه، وأنهم اتخذوه سُلمًا لتولي القضاء والإفتاء في ذلك الزمن - تبرءوا منهم
وأخذوا يقولون للمسلمين: كلا أيها المسلمون، إن هؤلاء يقصدون الدنيا، هم
طلاب مال، لا تقفوا عند حدهم. هنالك اجتمع صغار العلماء وكادوا لهم، وسلَّطوا
عليهم ضعاف الملوك حسدًا وبغيًا، فأمر الخليفة العباسي في بغداد رجلاً يُسمى
(ابن المارستانية) فأحرق كتب الفلك والنبات والحيوان وغيرها في الرحبة ببغداد،
فأزال الله مُلك أولئك الجاهلين بدخول التتار لما جهلوا علوم القرآن.
ولما حسد علماء المغرب الإمام الغزالي إذ انتشرت كتبه في بلادهم أيام
حكم المرابطين - أمر علي بن تاشقين فأحرق تلك الكتب، فمزَّق الله ملكهم وخَلَفَهم
الموحدون، فلما أمر الله بغروب شمس الدولة لهؤلاء أيضًا في القرن السادس نفى
أميرُ المؤمنين العلامة ابن رشد لأنه قال: أيها المسلمون هذه العلوم يطلبها القرآن
وهي تفسير لآياته، فحسده فقهاء زمانه فصار الأمير يقرأ كتبه سرًّا ويأمر جهرًا ألا
تُقرأ، فلهذه الأسباب نشر تلاميذ ابن رشد بعد اضطهادهم هذه العلوم في ألمانيا أولاً
ثم في سائر أوروبا وصارت بلاد الإسلام قفرًا منها وحوشًا يبابا (اقرأ ما كتبه
العلامة سديو الفرنسي والأستاذ سنتلاته التلياني: الأول في كتابه خلاصة تاريخ
العرب، والثاني في كتابه تاريخ الفلسفة العربية) .
ومن عجب أن دولة العباسيين بالمشرق، ودولتي المرابطين والموحدين
بالمغرب كانوا على وتيرة واحدة، فهم جميعًا في أول الدولة أحرص الناس على
العلوم فترتقي الدولة، وفي آخرها أزهد الناس فيها فيزول الملك، تشابهت قلوبهم،
ومثلهم في ذلك دولة الترك البائدة كما جاء في كتاب كشف الظنون نقلاً عن رسالة
الخبايا في الزوايا.
يقول طنطاوي الذي احترق فؤاده أسفًا على الأمة المحمدية: لقد قرأت هذا
التاريخ في كتب مختلفة، فتقطع قلبي أسى وحسرة، وعرفت أن الناس يسارعون
إلى الجهل كابرًا عن كابر، وهم يتلاحقون غافلين، ويظن قوم أن العلم شيء
والدين شيء آخر، وهذا جهل فاضح، وهذا هو الذي جعل المسلمين - في مصر
وفي غير مصر - أقل الأمم علمًا بهذه العلوم، فالمتعلمون من المسلمين القراءة
والكتابة في بلادنا يُعدُّون على الأصابع في كل قرية من القرى، وهذا لأن وعاظنا
لم يحثوهم على ذلك كما يحث الواعظون من الأمم الأخرى في سائر الأقطار، ولقد
وفقني الله عز وجل وسهَّل لي تعلم هذه العلوم في المدارس أولاً، ثم قرأتها في كتب
عربية، وأخرى أجنبية، أفلا يجب عليَّ نشرها؟ ألم يكن ظهور التصوير الشمسي
آية كبرى في زماننا؟ حتى تمكنت به من إظهار عجائب تشريح الإنسان وتبيان
الأعضاء الباطنة مصورة كالكبد والطحال والبنكرياس، وهكذا عجائب النبات
وإلقاحه المصوَّر المفسِّر لآية {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49) وآية {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) وبهذه الصور
ظهر في تفسير الجواهر معجزات جمة في هذا الزمان مصداقًا لقوله تعالى: {أَوَ
لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) أفلا ترى صورًا
جميلة من العجائب في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم:
22) بكسر اللام، فإن هذه لم تظهر حق ظهورها للخاصة إلا في هذا الزمان.
ومن ذا كان يظن أن جبال الثلج تظهر مرسومة في الجو ومعها الطيارة في
زماننا، وترسم في الجواهر تفسيرًا لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ
فِيهَا مِن بَرَدٍ} (النور: 43) وقد كان المفسرون قبلنا يؤولونها، أليست هذه
معجزة إسلامية لم تعرف عيانًا إلا الآن في تفسير الجواهر؟ أليس هذا وأمثاله من
أسرار القرآن كانت خافية فظهرت؟ فأنا أحمد الله وأقول: وجب عليّ نشرها،
وعلى كل من قرأ هذا التفسير.
ولما رأى المسلمون في الأقطار صور النبات وأوراقه الموضوعة وضعًا
هندسيًّا بدرجات محددة، مرسومًا على هيئة دوائر أفقية تارة، ورأسية تارة أخرى
لآية {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: 19) ورأوا الوزن ظاهرًا
في الكيمياء العضوية للذرات الداخلة في تركيب النبات في جداول موضحة في
(الجواهر) طلبوا المزيد من هذه العجائب، فهل يتسنى لي أن أنام عن نشر هذه
العلوم التي أنعم الله عليَّ بها، وجعل أفئدة من المسلمين تهوي إلى تفسير الجواهر،
ووفقني أن أكون على منهج السلف الصالح، وأن أكسر هذا الجمود المخيم على
العقول وأتباعد عن المناقشات اللفظية والمجادلات المخزية التي انحطت بها المدارك
في الأمم الإسلامية، وأن أفسر القرآن باليقين لا بالظن، ولا أضيع على المسلمين
أوقاتهم بتضارب الروايات، وأن أرجع بالأمة إلى سبيلها أيام مجدها وأنا واثق بما
أقول؟ وإذا لم يكن هذا أسرار القرآن وفقه القرآن فهل يكون فقهه في آيات الفقه
المعروف وحدها، وما هي إلا مائة وخمسون آية من نحو ستة الآف؟ كلا والله كلا،
الفقه علم واحد، والعلوم تُعَدُّ بالعشرات موزعة على آي القرآن وتركها يجعل جميع
المسلمين آثمين.
إني إذا ما كتمت هذا العلم خوفًا من حاسد أو جاهل مقلد، فإني أخاف الله رب
العالمين، ومن نكب عن هذه الطريقة فذلك لأنه مقتصر على ما غلب عليه ونافع
بوجهته {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) هذا ما أشهد الله عليه
وأشهد خواص المسلمين أن هذه الطريقة قد أرضت الخواص في الشرق والغرب؛
حتى إنهم في الهند وبلاد جاوى وسومتره وشمال إفريقيا والفرس وبلاد العراق
وبلاد البوسنة والهرسك ببلاد النمسا حفزوني أن أزيد هذه المباحث إيضاحًا، فلبيت
طلبهم وقرأت {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: 108)
الآية فهي هدى وشفاء للذين أوتوا العلم، والمقلدون والجهال لا يعلمون، وها هو ذا
الأستاذ صاحب المنار فتح لهم الباب بالأسلوب الحكيم الذي لأجله كتبت هذا المقال،
وسأتبعه بآخر متى اتسع لي الوقت واتسع صدر المنار إن شاء الله تعالى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... طنطاوي جوهري
(المنار)
إنني لا أبخل على هذا الكتاب بنشر هذا الإعلان الطويل له حبًّا
في العلم، ومن حق العلم عليَّ أيضًا أن أقول: إنني قد راجعت هذا التفسير بعد
إعطاء مؤلفه صديقي هذه الرسالة؛ حتى إنني سهرت إحدى الليالي في تصفح
الجزء الأول الذي ذكرته في الفتوى، فرأيتني قد ازددت علمًا بصحة ما كتبته ولم
يظهر لي أنني أخطأت في شيء منه؛ وإنما ذكرت أحسن ما علمت من فائدة،
ورأيت كل ما ذكره من المزايا هنا تفصيلاً لما أجملت واقتصرت في انتقاد ما قصر
فيه على كلمة وجيزة لئلا أكون منفرًا عن كتاب صديق أكرمه وأحسن الظن بعمله
وإخلاصه، ورأيت أن ما كتبه في انتقادها أو الجواب عنها، لا ينقض حرفًا منها،
وبيانًا لهذا أقول الآن ما يوضح تلك الكلمة في هذا التفسير:
الجزء الأول منه يحتوي تفسير الفاتحة والبقرة وهما زهاء جزئين ونصف من
أجزاء القرآن الثلاثين، وفيهما من أصول الدين وفروعه ما ليس في عدة أجزاء منه،
وصفحات هذا الجزء 238 صحفة كبيرة أكثر ما فيها لا يصح أن يرجع إليه في
حقائق تفسيرها؛ ولكنه نافع في نفسه، ومنه ما ليس له مناسبة قوية بالموضع الذي
وضع فيه ولبعضه مناسبات قوية في سور أخرى، فأول ما ذكره في تفسير البسملة
أنه جعل متعلق الظرف في (بسم) التبرك وفسَّر (الرحمن) بالمنعم بجلائل النعم
و (الرحيم) بدقائقها، وهذا هو المشهور الذي يذكره شراح الكتب لخطبها وليس من
التحقيق في شيء، وقد بيَّنا التحقيق في الظرف ومعنى الاسمين الكريمين في تفسير
المنار، ولم يذكر حقيقة معنى صفة الرحمة أيضًا. هذا مَثَل للتقصير في تفسير أول
آية في كتاب الله تعالى.
ثم إنه شرع بعد هذا التفسير المختصر المنقول في الكلام على عجائب
الحشرات من الإكسيلوكوب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرها ... وكان المناسب
أن يؤخر الكلام في عجائب النحل والنمل إلى السورتين المسمَّاتين باسميهما.
وأما تفسير سورة البقرة، فكان يجب أن نجد فيها البيان المفصل الأوفى لتفسير
آيتي التحدي بإعجاز القرآن منها، وهي قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) ... إلخ، ورأيته قد
اقتصر من تفسيرها على كلمة وجيزة ثانوية في موضعها تقل عن سطر واحد فقال:
(ولما لم يكن من المعاندين من العقل والمعرفة ما به يعرفون نظام هذا العالم،
ويدركون أن الأصنام لا تستحق العبادة - أخذ يصف لهم ما جاء على لسان الرسول
من البلاغة، ويتحدى بما يعجزهم كأنه يقول: إذا عجزتم عن إدراك ما أبدعته في
الأرض والسماء، ولم تبلغ عقولكم كنهه، وغلبت عليكم الجهالة ولم تفهموا إلا ما دار
في أنديتكم من أحاديث البلاغة وآيات الفصاحة، فاسمعوا لهذا القرآن، وإلا فائتوا
بمثله، فلما عجزوا أوعدهم بالنار ووعد المتقين بالجنة) اهـ.
فهل يصح أن يُعَدَّ هذا من حقائق تفسير الآيتين اللتين هما أهم آيات السورة،
بل أهم آيات القرآن كلها في إثبات حقية الرسالة وصدق خاتم النبيين فيما جاء به
عن الله تعالى بالبرهان القطعي؟ اللهم لا، بل ليس هذا مبينًا لمعنى ألفاظ الآيتين
ونظمهما، ولا مما يفهم منه معناهما الإجمالي فضلاً عن بيان ما به كانت سورة من
القرآن معجزة، وبيان القطع بأنهم لن يأتوا بسورة من مثله.
ولما كان هذا التحدي بالقرآن قد ذُكر في سورتي يونس وهود أيضًا راجعت
ما كتبه في تفسيرهما لعله استدرك فيه ما فاته في تفسير آيتي البقرة، فلم أجد فيهما
غناء.
ولو شئت أن أورد كثيرًا من الشواهد على قولي بأنه لا يُرجع إليه في حقائق
تفسير الآيات، لفعلت ولا محاباة في العلم والدين.
وأما ما يورده في التفسير من الأحاديث والآثار فهو ينقله من أي كتاب رآه
فيه، لا يلتزم كتب أئمة الحديث، ولا يلتفت إلى تخريجهم وتصحيحهم، فيكون منها
ما ليس بحديث أصلاً كالموضوعات ومنها الضعاف والواهيات، ولا حاجة إلى
إيراد الشواهد على ذلك إلا إذا أنكره الأستاذ علينا.
وإذا كان الأستاذ لم يُعن بالتزام الأحاديث الصحيحة والحسنة فيما يورده في
تفسيره مع سهولة ذلك بالرجوع إلى كتب الصحاح والسنن وكتب الجرح والتعديل -
فأجدر به أن لا يُعنى بتمحيص التفسير المأثور عن التابعين ومن بعدهم، ولا
باجتناب الإسرائيليات الباطلة منها أو التنبيه على بطلانها، كما ترى في تفسيره
لقصة البقرة وهاروت وماروت والذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم والذي أماته الله
مائة عام ثم بعثه.
ومما أشرنا إلى انتقاده بعض التأويلات التي انفرد بها، ونذكر منها تأويله
لمسألة الشفاعة في الجزء الأول، فهو قد ذكر تأويلاً لابن عربي في غير محله،
ووعد بأن يرد إليه الآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ولم يفعل، وقد حررنا
هذا في تفسيرنا غير مرة ولا حاجة إلى بسطه هنا، وأما تأويله لنزول المسيح فلم
ينفرد به، وكان حسبه منه أنه ليس مما ثبت في القرآن.
وجملة القول إن مزية هذا التفسير الصحيحة هي ما بيَّنا في الفتوى التي ينتقد
صديقنا بعض ما فيها، وكنت أظن أنه يعتمد ذلك لما كتبه في تقريظ الجزء التاسع
من تفسير المنار، وهو أن من المفسرين من جعل جل عنايته في مباحث اللغة
والبلاغة، ومنهم من جعلها في الأحكام الفقهية أو الكلامية وما يتعلق بها ... إلخ،
فأراد هو أن يجعل جل عنايته في التذكير بعجائب صنع الله تعالى في الخلق،
وحث المسلمين على العلوم التي تتوقف على إتقانها سيادة الدنيا وعزة الأمة وقوتها
فيها، ويدل على هذا ما يضعه من الفهارس للأجزاء؛ فإن المؤلف يكتب في فهرس
كتابه أهم مسائله عنده، وأنت تجد أول فهرس الجزء الأول الحث على العلوم
الكونية في الخطبة، وعجائب الحيوان والحشرات والنبات في تفسير الفاتحة ... إلخ؛
ولكن لا ترى فيها ذكرًا لإعجاز القرآن والتحدي به، ولا لهدايته، ولا لأهم
أصول التشريع التي بيَّناها بالعدد في أول تفسير السورة من الجزء الأول من
تفسيرنا.
ثم إنه ذكر أنه اقتدى في طريقته هذه في التفسير بالإمام الغزالي، أي ما قاله
في كتابه جواهر القرآن وكتابه الإحياء. ونقول: إنه قد فاته منه غرضه الأسمى،
وهو ما يسميه الغزالي فقه الدين، وهو غير فقه الفقهاء الذي يعنون به الأحكام
العملية من ظواهر العبادات ووسائلها والمعاملات التي هوَّن صديقنا أمرها تبعًا له،
وظن أنه عني بما فضله عليها وهو الفقه الحقيقي عنده؛ ولكنه لم يعط هذا حقه فيما
نرى.
ذلك أن الذي أُشربه قلبنا من كتب الغزالي من نشأتنا العلمية الأولى هو أن فقه
الدين ولبابه هو ما شرع الله الدين وأنزل القرآن لأجله، وهو الهدى والتقوى
وتزكية النفس بمعرفة الله تعالى وخشيته والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة،
وتفسير صديقنا لا يُعنى بهذا كما يجب، وما ينقله من كتب علماء الكون من
عجائب المخلوقات فجله غير موجه إلى هذا الغرض الأسمى؛ وإنما هو موجه إلى
الترغيب في هذه العلوم من جهة كونها وسيلة إلى ترقي الحضارة والعمران وأسباب
الاستقلال والملك، ولعمري إن هذا من فروض الكفايات وهو مطلوب في الإسلام
كعلم الأحكام العملية؛ ولذلك حمدناه منه وشكرنا له، وحسبنا هذا التذكير، وعسى
أن يكون سببًا لاستدراك أخينا الأستاذ المفسر لما قصر فيه فيما بقي منه.
__________(30/624)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عيد الجلوس لملك الحجاز ونجد
احتفلت الحكومة الحجازية والشعب الحجازي في شهر شعبان الماضي بذكرى
مبايعة الحجاز للملك عبد العزيز آل سعود احتفالاً رسميًّا دعيت إليه كبرى صحف
مصر اليومية، فأرسلت كل منها مندوبًا من محرريها إلى الحجاز حضر الاحتفال،
وعاد ينظم عقود الثناء على ما رأى وسمع في جدة ومكة من الإصلاح المدني
والديني، وعلى شمائل الأمير فيصل نائب ملك الحجاز (والده) وفضائله، وقد
كان هذان الثناءان اللذان اتفق فيهما أولئك المندوبون الذين تختلف آراؤهم ومذاهب
جرائدهم في كل شيء ذا قيمة عظيمة وتأثير حسن جدًّا في مصر، وفي قراء هذه
الجرائد في غير مصر بالطبع بسبب الاتفاق من المختلفين في الرأي والسياسة عليه
من ناحية، وعدم شبهة المصانعة والمداهنة من الناحية الأخرى، فكان من الدعاية
المفيدة التي جاءت من نفسها.
وقد أنكر بعض إخواننا السلفيين من هذه الحكومة الشرعية السنية مجاراة
الحكومات الدنيوية في ابتداع الأعياد السياسية لذاتها، ولما يلزمها من المنكرات
عادة كإنفاق المال في غير المصارف الشرعية، وتكليف الرعية بعض النفقات
والأعمال التي ربما لا يفعلونها مختارين، وقد رأى القراء الاستفتاء الذي نشرناه
عن بعضهم في الجزء الماضي، وأن بعضهم أسرف فقال بتحريمه مطلقًا، فأنكرنا
هذا الإطلاق الذي يتجرأ على مثله كثير من المتدينين بغير علم وفيه من الخطر
على الدين فوق ما يدعون تحريمه (كما يُعلم مما نقلناه عن الإمام أبي يوسف في
باب الفتاوى من هذا الجزء) ولا يتضمن إنكارنا هذا أننا لم ننكر ذاك، بل أنكرناه
وإن لم نحرمه تحريمًا، وكتبنا إلى بعض رجال الحكومة بذلك وخصصنا إنفاق
المال بالذكر، ولو كان لنا رأي فيه لنهينا عنه؛ لأننا نعلم أن جماهير أهل الدين
والرأي من المسلمين ومن غيرهم من العقلاء يرون أن التزام هذه الحكومة
الإسلامية السذاجة والقصد واجتنابها للفخفخة ومظاهر العظمة الدنيوية، وتقليد
المفتونين بها - هو خير لها ولشعبها، وأرجى لما يحب جميع المسلمين من قوتها
وعزتها.
وأقول على سبيل الاستطراد: إنني أحب لهذه الدولة وإمامها وآله ورجال دولته
أن لا يعنوا بسائر الاحتفالات الدنيوية، وما يكون فيها من المدائح الشعرية، فوالله
إن عمر بن الخطاب كان أعظم في أنفس العرب والعجم من جميع الأمم من معاوية
وغيره من ملوك الأمويين والعباسيين الذين فتنتهم زينة الحياة الدنيا.
وإننا نقرأ في أخبار العالم عن العلماء والكُتَّاب الذين لقوا الإمام عبد العزيز آل
سعود أنهم قد أكبروا من أخلاقه وشمائله التواضع والسذاجة العربية التي تقرب من
البداوة مع عنايته بأسباب الحضارة النافعة للشعب، كالعمران وتسهيل المواصلات
ومراعاة الصحة ونشر التعليم، وما نحن في نصيحته بمتهمين.
__________(30/633)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتنة نجد - عاقبتها
كتبنا في الجزء الخامس الذي صدر في سلخ جمادى الأولى من هذا العام مقالة
عنوانها (الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها) بيَّنا فيها ما ينبغي أن يعتبر به
المسلمون منها، وما للناس ولا سيما أصحاب الصحف من الآراء المختلفة فيها،
وأن الذين كبروها في نظر غير العارفين بكنه قوة ملك الحجاز ونجدهم (دعاة
الهاشميين) كمحرري جريدة القبلة للملك حسين من قِبَل عبد الرؤوف الصبان
وطاهر الدباغ، فالأول تولى كبر الإرجاف في مصر، والثاني تولى كبره في
سنغافورة وجاوة، وكان لسان حالهم في مصر جريدة الأهرام، وفي جاوة جريدة
حضرموت، وكانت الأهرام تنشر مقالات بإمضاء (عربي مطلع) قلما كتب أحد
في الاختلاق ومكابرة الحقائق مثلها، وقد انتهت الفتنة وقُبض على فيصل الدويش
وجريدة حضرموت تنشر مقالات الدباغ الخبيثة.
وفي أثناء هذا النصر المبين نشر مراسل الأهرام (عربي مطلع) أن كل ما
ينشر من أخبار انهزام فيصل الدويش، ومن قرب استيلاء ابن السعود عليهم، كذب
وإرجاف، وأن الفتنة قد عمت نجد كلها ووصلت إلى الحجاز! ! فيا لله العجب من
جرأة هذا الجاهل، ولكن من نشر عجوز الصحف العربية له هذا البهتان المفضوح
الذي لا يخفى على محرريها.
وكان من أهم مقاصد هؤلاء الناشرين صرف قلوب المسلمين عن أداء فريضة
الحج بإيهامهم أن أعراب الحجاز قد شرعوا في التألب على الحكومة السعودية،
وإيقاد نار الثورة عليها بالتبع لقبائل نجد، وأنه لا يجيء موسم الحج في آخر سنة
1348 إلا وقد تقلص ظل الحكومة السعودية عن الحجاز ونجد معًا، وربما بقي
للحرب والقتال بقية تحول دون أداء الفريضة! !
ثم نشرنا في الجزء السادس الذي نشر في سلخ جمادى الآخرة استفتاء من
عدن ذكر مرسلوه أن بعض دعاة الفتنة من أعداء ابن السعود شرعوا في نشر فتاوى
زعموا فيها أن الحج لا يجب في هذا العام على المسلمين، أو ما دام علمه - علم
التوحيد - منشورًا في الحجاز، وقد فنَّدنا زعمهم وبيَّنا أن من يستحل صد الناس عن
أداء فريضة الحج يكون مرتدًّا عن الإسلام.
وقد كثر سؤال الناس إيانا في أثناء الفتنة بالمشافهة والمكاتبة عن حقيقة الأمر
فيها، وما نرى من عاقبتها؟ ومما كنا نقوله إن الله تعالى يقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وستعلمون لمن تكون هذه العاقبة؟ ومما كتبناه من الأجوبة
في المنار أننا لا نظن كما يظن الكثيرون أن الإنكليز ينقضون عهدهم مع ملك
الحجاز ونجد، وكذلك كان ألَّف الملك عبد العزيز جيشًا من حضر نجد يبلغ زهاء
أربعين ألفًا، فطاردوا العصاة حتى فروا إلى حدود الكويت والعراق، ثم اضطر
فيصل الدويش وابن مشهور من زعماء الدولة، وابن حثلين أكبر زعمائهم إلى
تسليم أنفسهم للإنكليز حماة الكويت والعراق، وطلبوا أن يكونوا تحت حمايتهم ومن
رعيتهم، وهكذا يكون أهل الدين الخارجين على إمامهم بدعوى منعه إياهم من جهاد
الكافرين والمشركين! ! وكان من هنالك من رجال الإنكليز يريدون حمايتهم وجاء
في البرقيات العامة أنهم قرروا إرسالهم إلى الهند وجعلهم ضيوفًا سياسيين في
جزيرة سيلان؛ ولكن ملك الحجاز ونجد ألح في طلبهم ولم يمكن إقناعه بما دون
ذلك، فجاءت الأوامر من حكومة لندرة بإسلامهم له، فحملوا إلى معسكره لدى
الحدود في طيارة عسكرية فتسلمهم معتقلين، أذلاء صاغرين مخذولين، وكان ذلك
اليوم يومًا مشهودًا أعز الله فيه عبده وهو العزيز المقتدر الذي وعد بنصر من
ينصره، وكانت العاقبة للمتقين، كما كنا نقول بهداية الكتاب المبين، وكان تأثير
ذلك في معسكره، ثم في سائر نجد وغيرها من بلاد العرب عظيمًا جدًّا.
__________(30/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاتفاق العربي
بين مملكة الحجاز ونجد ومملكة العراق
قد كان بدء خروج فيصل الدويش على ملكه وإمامه اعتداؤه على نجد بغزو
القبائل والسلب والنهب كدأب قبائل الأعراب في كل حياتهم البدوية، وكان كثير من
الناس يظنون أن ذلك العدوان بإيعاز خفي من الملك عبد العزيز وإن أنكره وتنصل
منه في الظاهر، ثم ظهرت الحقيقة فكانت عاقبة نجاح الملك في تأديب الخارجين
وما خسره في ذلك من المال، وما أدت إليه الفتنة من سفك الدماء النجدية من
الجانبين - حجة حسية قطعية على حسن نية الملك عبد العزيز ورغبته في الاتفاق
وحسن الجوار بين الممالك العربية ولا سيما العراق، وبذل السعي من قبله وقبل
الحكومة العراقية، في أثناء وجوده بقرب الحدود لعقد مؤتمر عربي يضع قواعد
لهذا الاتفاق، وأوعزت الحكومة البريطانية إلى ممثليها في العراق والخليج
الفارسي أن يدخلوا في ذلك، وأن يجتمع ملك الحجاز ونجد وملك العراق ويعقدا
رابطة الاتفاق بحضرتهم، بل في بارجة بريطانية حتى لا يفوتهم شيء مما يجري
بينهما، بل يكون كل شيء بموافقتها وكذلك كان، فالتقى الملكان العربيان في
بارجة إنكليزية في ثغر الكويت فتعانقا وتبادلا عبارات الود والأخوة، واجتمع
رجالهما فوضعا بمراجعتها مواد مكتوبة لتكون أساسًا لكتابة معاهدة رسمية بين
الحكومتين مبنية على اعتراف كل منها بالأخرى، وتبادل المفوضين الرسميين
بينهما، ومنع تعدي قبائل كل منهما على الأخرى، وتبادل تسليم المجرمين، وتنقل
العشائر، وحل ما يقع من المشكلات على الحدود بالتحكيم، وأما المشكلة الكبرى
ومنشأ كل خلاف وتنازع بينهما وهو ما بنته حكومة العراق من المخافر أو المعاقل
العسكرية في المنطقة المختلف عليها بين العراق ونجد، فقد تقرر إرجاؤها ستة
أشهر لتأليف لجنة تحكيم من الفريقين يكون حكمها فيه قطعيًّا يقبله كل منهما، إن لم
يتفق كل منهما فيه بالمفاوضة، وقد سرَّ جميع زعماء الأمة العربية وأهل الرأي
فيها ومحبيها من غيرها هذا الاتفاق، وكانوا يودون أن لا يكون للأجنبي شأن في
ذلك؛ ولكن هذا فوق الإمكان.
__________(30/636)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كلمة شيخ الأزهر السابق
في حوادث فلسطين
نوّهنا في مقالنا الذي نشرناه في جزء المنار السادس في موضوع ثورة
فلسطين أن أعظم رجال الإسلام في الحكم والعلم قد أيدوا مسلمي فلسطين تجاه
عدوان اليهود عليهم، ولا سيما ملك الحجاز ونجد وشيخ الأزهر، وإننا نسجل هنا
حديثًا للثاني نُشر في المقطم الذي صدر في 15 ربيع الآخر سنة 1348 تحت
عنوان (رأي ناضج) في حوادث فلسطين وهذا نصه:
كتب أحد مندوبي المقطم في الإسكندرية يقول:
رأيت اهتمام الناس في مصر شديدًا بما هو واقع في جارتنا فلسطين من
الحوادث الجسام الموجبة للأسف، فخطر لي أن أقصد حضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وأكبر رأس
بين مسلمي الشرق لأستطلع رأي فضيلته في الحوادث المذكورة.
قصدت وزارة الأوقاف ببولكلي حيث يشتغل فضيلة الأستاذ من أوائل هذا
الصيف في أعماله الخطيرة، فلما دخلت مكتبه وكان مُكبًّا على ما بين يديه من
الأوراق المكدسة، رفع رأسه وقابلني بابتسامته العذبة الخلابة.
ولما كنت أعلم أن وقت فضيلته ثمين لا يتسع للتحيات المألوفة، بادرته
بإعلان الغرض الذي جئت لأجله، ثم وجهت إلى فضيلته ما عنَّ لي من الأسئلة
التي أجابني عليها بصراحة وبلا تردد، وقد دوَّنت ما دار في شكل حديث استأذنت
فضيلته في نشره على صفحات المقطم، فتفضل وأذن لي بذلك خدمة للمصلحة
العامة، وإظهارًا لرأي يمثل الرأي العام في مصر في هذا الشأن، وهذا نص
الحديث:
س - ما رأي فضيلتك في حوادث فلسطين؟
ج - إن حوادث فلسطين مأساة تدعو إلى أشد الأسف والحزن.
س - هل ترى أن سبب هذه الحوادث يرجع إلى الدين؟
ج - لا أعتقد هذا، فإن المسلمين وَسِعوا مخالفيهم في الدين في جميع
العصور الماضية، وعاملوهم بمنتهى الكرم حتى كانت هذه المعاملة من أهم
الأسباب الباعثة على انتشار الدين الإسلامي؛ ولكن أرى أن أسبابًا مدنية خُلطت أو
سُترت بأسباب دينية، فأثارت كوامن الحقد والخلاف الديني سواء كان حقيقًا أم
مصطنعًا يفعل في الجماهير ما لا تفعله الأسباب المدنية وحدها.
ويظهر أن العرب والمسلمين في فلسطين يرون نفوذهم يتقلص في بلادهم
ويخشون عاقبة خروج البلاد من أيديهم ووقوع الآثار المقدسة والمسجد الأقصى
تحت سلطان غيرهم، وهذا في نظرهم موت مادي وأدبي.
س - ما هو طريق استئصال هذه الفتن؟
ج - لقد عهد الناس في الدولة البريطانية المحافظة على التقاليد واحترام
العقائد والعواطف، والرجاء معقود بأن تعمل بريطانيا العظمى على استئصال أسباب
الخلاف ليعيش الناس في سلام، وتهدأ تلك النفوس الثائرة، والمسلمون لا يحتملون
أي اعتداء كان على المسجد الأقصى، ومن شأن ذلك أن يستفز عواطفهم في جميع
الأقطار الإسلامية.
س - قيل إن العلماء يريدون بحث الحالة والاحتجاج على حوادث فلسطين؟
ج - لا شك أن علماء الأزهر يشاركون إخوانهم العرب في مصائبهم وآلامهم
ويستنكرون الاعتداء عليهم؛ ولكنهم لا يريدون الإسراع في حكمهم، ويفضلون
انتظار نتيجة التحقيق الذي نؤمل أن يتم بطريقة منزهة عن الغرض بعيدة عن
التحيز، وأن يؤدي آخر الأمر إلى إصدار حكم في مصلحة العرب والمسلمين.
__________(30/637)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تهنئة المنار لجريدة الفطرة الإسلامية
لما وصلت إلينا الأعداد الأولى من جريدة الفطرة - بعد جعلها يومية - بادرنا
إلى تهنئتها بكتاب خاص، ولم نحب أن نؤخر التهنئة إلى أن يصدر جزء من المنار
يفتح فيه باب التقريظ، فنشرت كتابنا مع مقدمة له تتضمن ذكر التعاون بين
الصحيفتين، فرأينا أن ننشر ذلك لهذا الغرض نفسه، وهذا نص ما جاء فيها:
كتاب كريم من علامة أكرم
ورد علينا الكتاب الكريم، الذي سنتشرف بنشره في هذه الصحيفة، من
حضرة العلامة المفضال والفهَّامة الأسنى الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ
مجلة (المنار) الإسلامية وصاحبها، التي نشاركها في بث الدعوة الإسلامية جهارًا،
ونزاملها في قطع دابر الزندقة والزنادقة، والإلحاد والملحدين من بني قومنا وسواهم،
ويرى حضرة القارئ شدة تيقظ الأستاذ الرشيد الجليل إلى صحيفتنا وشدة طربه
بظهورها يوميًّا، وتقديره قدرها من الجهاد في تعزيز المبادئ الإسلامية، والغاية
التي فيها مجد هذه الملة الحنيفية، ما لو شاركه فيه بقية العلماء لكان في مصر اليوم
صحيفة يومية إسلامية تتفوق على أكبر جريدة في العالم.
على أنَّا نحن أعرف الناس بما يقيم حضرة الأستاذ من إقامة الدين الحق
والجهاد في تعزيزه، وما يكابده في تلك الشرعة العظمى من الجهاد الدائب والنصب
ما هو من شمائل أولي العزم الذين لا تلويهم لاوية عن نصرة هذا الدين الذي كثر
محاربوه اليوم حتى ممن يدَّعون الانتساب إليه.
على أن ما يلاقيه جناب الأستاذ الأكبر من مثالب عباد الوسطاء والشفهاء
وأهل الغلو في الدين، والمبتدعة من نابتة التفرنج، وعشاق التبرج الجاهلي
المسمى بالتجدد العصري للخنا والفجور، لا يمكن أن يكافحه ويجالده إلا من كان
مثله صابرًا مرابطًا معتمدًا في جهاده على العزيز العليم، وقد اندمجنا في طريقته
(طريقة أهل اليقين) ونحن على وثاق في أننا سنكون الغالبين إن شاء الله؛ لأن هذا
هو وعد الله، وإن وعد الله حق وهو أصدق القائلين {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 56) .
ننشر كتاب جناب الأستاذ الذي رفعنا به - بفضله ومحض كرمه - ونحن
نحض جميع الغيورين على التضافر في الاشتراك بمجلة (المنار) التي يجاهد فيها
الأستاذ ويناضل عن الدين وفضائله، والإسلام ومجده وآدابه في سائر مرافق الحياة
الراقية، ونأمل من كل من يستلمها من قبل، أن يكون عند الحد المفروض على كل
شهم ذي مروءة، فيبعث لجنابه بالاشتراك فورًا ويسلفه به، وبكل متأخر في الذمة،
إيفاء بالحق وقيامًا بالواجب.
وهذا هو كتاب فضيلته حقق الله له ولنا كبار الآمال، وأمدَّنا بروح منه، إنه
هو الكبير المتعال، قال حضرته لا فض فوه ولا كلَّ في الحق قلمه:
مصر في 19 جمادى الأولى سنة 1348 هجري، الموافق 22 تشرين 2
سنة 1929م.
حضرة الزميلين الكريمين خادمي الملة الإسلامية والأمة العربية صاحب
ورئيس تحرير صحيفة الفطرة الغرَّاء:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فإنني أهنئكما بما وفقتما له،
وما صادفتماه من الفوز بجعل (الفطرة) جريدة يومية، وأشكر لجاليتنا الكريمة في
الأرجنتين مساعدتها الثمينة على ذلك، ولا سيما المتبرعين بالدراهم، وأتمنى
(للفطرة) دوام التوفيق والارتقاء، وأحمد الله تعالى أن رأيت إخواننا المسلمين قد
تنبهوا لما كانوا غافلين عنه من أسباب ضعفهم في دينهم ودنياهم، وما بين سعادتي
الدارين من الارتباط والاشتراك في الإسلام على فشو الإلحاد والفسق في هذا الزمان،
ولقد شَرَعتُ في إيقاظ المسلمين ودعوتهم إلى الإصلاح الديني والمدني والسياسي
منذ ثلث قرن، فلقيت منهم مقاومة وإيذاء شديدًا، وبقيت إلى السنة الخامسة من
إنشاء المنار مدينًا لبعض الأصدقاء بشيء من المال، ولم ألق من أحد من أغنيائهم
وكبرائهم مساعدة مالية تذكر، فالحمد لله ثم الحمد لله أن أحياني حتى شاهدت
الصحف التي تخدم الإسلام تؤيد وتعضد، وإن كانت (الفطرة) لم تصر جريدة يومية
إلا بعد سلخ سبع سنين كاملة في مضيق الأسبوع، فإن هذا ليس بكثير في جالية
قليلة لا يبلغ عدد المسلمين فيها عدد مدينة كبيرة من مدن القطر المصري، وقد
عجز مسلمو مصر إلى اليوم عن إنشاء جريدة يومية تخدم الإسلام وتناضل دونه،
وإن لم تكن دينية محضة كما كانت جريدة المؤيد، والسلام عليكم وعلى من لديكم
من الأعوان والإخوان.
... ... ... ... ... ... من الزميل المخلص منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(30/639)
ذو القعدة - 1348هـ
أبريل - 1930م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن
أقوال أشهر المفسرين في ربا القرآن
من المجتهدين والمنتسبين إلى المذاهب المشهورة
ما قاله ابن جرير:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 في تفسيره
(جامع البيان) في الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (البقرة:
275) ... إلخ ما نصه:
(يعني بذلك جل ثناؤه الذين يربون، والإرباء: الزيادة على الشيء، يقال
منه: أربى فلان على فلان - إذا زاد عليه - يربي إرباء، والزيادة هي الربا، وَرَبَا
الشيء: إذا زاد على ما كان عليه فعظم فهو يربو ربوًا؛ وإنما قيل للرابية لزيادتها في
العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: رَبَا يربو، ومن
ذلك قيل: فلان في رُبَا قومه، يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا: الإنافة
والزيادة، ثم يقال: أربى فلان أي أناف صيره زائدًا [1] .
(وإنما قيل للمُربي: مربٍ لتضعيفه المال الذي كان على غريمه حالاً أو
لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل
حل دينه عليه؛ ولذلك قال جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وبمثل الذي قلنا قال أهل التأويل) .
ثم روى عن مجاهد أنه قال في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية
يكون للرجل على الرجل الدَّين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه،
وعن قتادة قال: إن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل
ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه، وهنا ذكر تفسير الوعيد بتشبيه آكلي
الربا بمن يتخبطه الشيطان من المس، ثم قال في تفسير: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا
البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) ما نصه:
يعني بذلك جل ثناؤه ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم
كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا
أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلَّ بهم
من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله
لعباده مثل الربا، وذلك أن الذين يأكلون الربا من أهل الجاهلية كانوا إذا حل مال
أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحق زدني في الأجل وأزيدك في مالك،
فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا
زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
البَيْعَ} (البقرة: 275) إلى آخر الآية، ذكرها وقال في تفسيرها ما نصه:
يعني جل ثناؤه: وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، وحرَّم الربا
يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادة غريمه في الأجل وتأخير دينه عليه،
يقول عز وجل: وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع، والأخرى من وجه
تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ... إلخ.
فأنت ترى أنه حصر الربا المراد من الآية في ربا الجاهلية، وبيَّن أن ربا
الجاهلية خاص بأخذ الزيادة من المال لأجل تأخير أجل الدين بعد استحقاقه، وهذا
يشمل ما كان من الدين قرضًا، وما كان ثمن مبيع على قول قتادة، ومن المفسرين
من يقول: إن كل ديونهم في الجاهلية كانت قروضًا، ولم يكونوا يعرفون البيع إلى
أجل كما ستراه في النقول الآتية، ولم يفهم المفتي الهندي هذا مع شدة ظهوره لما
تمكن في نفسه من تقليد الحنفية وما فهمه منه فجعله أصلاً يُرد إليه غيره، فإن
وافقه وإلا رده من أصله وحكم بأنه خطأ.
ما قاله الجصاص:
قال العلامة أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي المتوفى سنة
370 في تفسيره (أحكام القرآن) بعد أن بيَّن في تفسير آيات البقرة لفظ الربا في
اللغة، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم إياه على ربا النسيئة في حديث أسامة بن
زيد وجعل عمر منه السلم في السن، وقول جماعة الحنفية إنه مجمل بيَّنته السنة،
وبيَّنه صلى الله عليه وسلم نصًّا وتوقيفًا - بعد هذا قال:
(والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير
إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون
البيع بالنقد، وإذا كان متفاضلاً من جنس واحد (؟) هذا كان المتعارف المشهور
بينهم؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ
اللَّهِ} (الروم: 39) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال
العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة المقرض، وقال تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) إخبارًا عن الحال التي خرج عليها الكلام
من شرط الزيادة أضعافًا مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به،
وأبطل ضروبًا أخرى من البياعات وسمَّاها ربا فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن
تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم ودنانير إلى أجل مع
شرط الزيادة اهـ. وقد ذكر بعده ما يدخل في عموم اللفظ من المعاني بناء على
قول أصحابه بأنه مجمل بيَّنته الأحاديث.
ما قاله الكيا الهراسي [*] :
قال العلامة الكيا الهراسي من محققي الشافعية في تفسيره لآيات سورة البقرة
من كتابه (أحكام القرآن) المحفوظ في المكتبة المصرية العامة ما نصه:
الربا في اللغة الزيادة، وربما لا تعرف العرب بيع الدرهم بالدرهم نساء، إلا
أن الشرع أثبت زيادات جائزة وحرم أنواعًا من الزيادة، فجوَّز الزيادة من جهة
الجودة، ولم يجوِّز (الزيادة) من جهة المدة، وإذا اختلف الجنس يجوز بيع بعضه
ببعض متفاضلاً نقدًا متماثلاً نسيئة، وكل ذلك لا يقتضيه لفظ الربا؛ ولكن ذلك لا
يمنع التعلق بعموم اللفظ، وعموم اللفظ يقتضي تحريم الزيادة مطلقًا إلا ما خصَّه
الشرع.
قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) يقتضي جواز ما لا زيادة فيه
إلا ما خصه الشرع، فنحن نحتاج إلى البيان فيما لم يرد باللفظ، وفي تخصيص
بعض ما أريد باللفظ، والله تعالى حرَّم الربا، فمن الربا ما كانوا يعتادونه في
الجاهلية من إقراض الدنانير والدراهم بزيادة، والنوع الآخر إسلام الدراهم في
الدراهم والدنانير من غير زيادة.
(قال) ورأى ابن عباس أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله
ربا النساء لا ربا الفضل فإنه قال {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (البقرة: 275) ، {وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (البقرة: 278) ، وقال: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: 280) وقال تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ، وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: (كل
ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم.. (وذكر الحديث) .
(ثم قال) وإذا كان الربا ينقسم أقسامًا، فالذي في القرآن يدل على تحريم
الزيادة من غير نظر في جنس المال؛ لأن ذلك يعد زيادة في الشيء، ولا يقال كل
الربا (؟) .
ومن أجل ذلك جوَّز بعض العلماء - وهو مالك - الأجل في القرض إلا أنَّا منعنا
من ذلك لا من جهة الآية، بل من جهة أخرى، والذي كان في الجاهلية كان
القرض زيادة وما كانوا يؤجلون إلا ـة [2] في نفس الشيء.
ونُقل عن الشافعي أن لفظ الربا كان غير [3] معلوم أورث إجمالاً في البيع،
والصحيح أن الربا غير مجمل ولا البيع كما ذكرنا، فإن ما لا زيادة فيه جار على
حكم عموم البيع، نعم خصَّ من الربا زيادة أُبيحت، وخصَّ من البيع بياعات نهي
عنها، وعموم اللفظ معتبر فيما سوى المخصص.
وردَّ الله تعالى على المشركين في قولهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا} (البقرة: 275) وذلك أنهم زعموا بأنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على
وجه الربا، وبين الأرباح المكتسبة بضروب البياعات من حيث غاب عنهم وجه
المصلحة، وتحريم الزيادة على وجه دون وجه، فأبان الله تعالى أنه عز وجل إذا
حرَّم الربا وأحل البيع فلابد أن يشتمل المنهي على مفسدة، والمباح على مصلحة
وإن غائبًا عن مرأى نظر العباد، فعلى هذا كل ما وجد فيه حد البيع، فيجوز أن
يحتج فيه بعموم البيع اهـ. ما قاله الكيا الهراسي في الموضوع، وقد علمت أن
الإمام الشافعي رجَّح أن لفظ البيع عام لا مجمل.
ما قاله القرطبي:
قال العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة
671، وهو من محققي المالكية في مسائل آيات البقرة من تفسيره المشهور (جامع
أحكام القرآن) وهو المتعلق بموضوعنا.
(الرابعة عشرة) قوله تعالى: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275)
أي إن الزيادة عند حلول الأجل آخرًا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن
العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دَينها قالت للغريم: إما أن
تقضي، وإما أن تربي - أي تزيد في الدين - فحرَّم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم
بقوله الحق: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وأوضح أن الأجل
إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أُنظر إلى الميسرة، وهذا الربا هو الذي نسخه النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة: (ألا إن كل ربا موضوع، وأول ربا أضعه
ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه
وأخص الناس به.
ثم قال (الخامسة عشرة) قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275)
هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه
كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: 1- 2) ثم
استثنى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العصر: 3) وإذ ثبت أن البيع عام
فهو مخصوص بما ذكرنا من الربا، وغير ذلك مما نهي عنه، ومنع العقد عليه
كالخمر والميتة وحَبَل الحُبلى وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة المنهي
عنه، ونظيره {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} (التوبة: 5) وسائر الظواهر هي التي
تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص، وهذا مذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم هو
من مجمل القرآن الذي فُسر بالمحلل من البيع وبالمحرم من الربا، فلا يمكن أن
يستعمل به إحلال البيع وتحريمه، إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله
عليه وسلم وإن دل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل، وهذا فرق ما بين العموم
والمجمل، فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل،
والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان، والأول أصح، والله
أعلم.
(المسألة الثامنة عشرة) قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) الألف
واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيَّناه، ثم تناول ما حرَّمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من
البيوع المنهي عنها اهـ.
ما قاله الطبرسي:
قال العلامة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطبرسي المتوفى سنة 561
في تفسيره (مجمع البيان) وهو من محققي الإمامية:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) معناه بسبب قولهم
إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا، قال ابن عباس: كان الرجل
منهم إذا حل دينه على غريمه فطالبه به، قال المطلوب منه: زدني في الأجل
وأزيدك في المال، فيتراضيان عليه ويعملان به، فإذا قيل لهم: هذا ربا، قالوا: هما
سواء، يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الأجل عند
محل الدين سواء، فذمهم الله به وألحق الوعيد بهم، وخطَّأهم في ذلك بقوله:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي أحل الله البيع الذي لا ربا
فيه، وحرَّم النوع الذي فيه الربا، والفرق بينهما أن الزيادة في أحدهما لتأخير
الدين، وفي الآخر لأجل البيع، وأيضًا فإن البيع بدل لبدل؛ لأن الثمن فيه بدل
المثمن، والربا زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس،
والمنصوص عن النبي تحريم التفاضل في ستة أشياء: الذهب والفضة والحنطة
والشعير والتمر والملح، وقيل: الزبيب. قال عليه السلام: (إلا مثلاً بمثل يدًا بيد،
من زاد أو استزاد فقد أربى) لا خلاف في حصول الربا في هذه الأشياء الستة،
وفي غيرها خلاف بين الفقهاء اهـ.
أقوال المُحَدِّثين في ربا القرآن:
روى مالك عن زيد بن أسلم في تفسير آية آل عمران قال: كان الربا في
الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل، فإذا حل قال: أتقضي أم تربي؛
فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه وزاد الآخر في الأجل، ذكره الحافظ في الفتح،
وذكر الحنابلة عن أحمد مثله، وأنه سئل عن الربا الذي لا يشك فيه فأجاب بمثله.
وروى الطحاوي محدِّث الحنفية في أول باب الربا من كتابه (معاني الآثار)
حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد رضي الله عنهم: (إنما الربا في النسيئة)
(وسيأتي) ثم قال:
(قال أبو جعفر) فذهب قوم إلى أن بيع الفضة بالفضة والذهب مثلين بمثل
جائز إذا كان يدًا بيد، واحتجوا في ذلك بما رويناه عن أسامة بن زيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز بيع الفضة
بالفضة، ولا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد.
وكانت الحجة لهم في تأويل حديث ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهم الذي
ذكرناه في الفصل الأول أن ذلك الربا إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في
النسيئة، وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدين فيقول أجلني منه إلى كذا،
وكذا بكذا وكذا درهمًا أزيدكها في دينك، فيكون مشتريًا لأَجَلٍ بمال، فنهاهم الله
عز وجل عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: 278) ثم جاءت السنة بعد ذلك بتحريم الربا في التفاضل
في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة وسائر الأشياء المكيلات والموزونات على ما
ذكره عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
رويناه عنه فيما تقدم من كتابنا هذا في باب بيع الحنطة بالشعير، فكان ذلك ربا
حُرِّم بالسُّنة وتواترات به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قامت بها
الحجة، والدليل على أن ذلك الربا المحرَّم في هذه الآثار هو غير الربا الذي رواه
ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - رجوع
ابن عباس رضي الله عنهما إلى ما حدثه به أبو سعيد رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مما قد ذكرناه في هذا الباب، فلو كان ما حدَّثه به أبو سعيد
رضي الله عنه من ذلك في المعنى الذي كان أسامة رضي الله عنه حدَّثه به، إذًا لما
كان حديث أبي سعيد عنده بأولى من حديث أسامة رضي الله عنه؛ ولكنه لم يكن
علم بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربا حتى حدَّثه به أبو سعيد رضي
الله عنه، فعلم أن ما كان حدَّثه به أسامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان في ربا غير ذلك الربا. اهـ.
أقول: أما حديث أسامة فقد رواه الشيخان وغيرهما كما تقدم ومنهم الطحاوي
من طريق ابن عباس، وكان ابن عباس يفتي به، وروى مسلم أن أبا نضرة سأله
عن الصرف فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس - ورووا أن ذلك ذُكر لأبي
سعيد الخدري رضي الله عنه، وأن أبا سعيد سأل ابن عباس عن قوله، أسمعته من
النبي صلى الله عليه وسلم أم وجدته في كتاب الله تعالى؟ فقال: كل ذلك لا أقوله
وأنت أعلم برسول الله مني؛ ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لا ربا إلا في النسيئة) هذا لفظ البخاري، وذكر الطحاوي أن أبا سعيد قال له
(أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدينار بالدينار، والدرهم
بالدرهم لا فضل بينهما) وذكر أنه نزع عن هذه الفتوى، وروى الحاكم من طريق
حيان العدوي أن أبا سعيد ذكر له حديث التمر بالتمر ... إلخ، فاستغفر وتاب عن
ذلك، وحيان ضعَّفه غير واحد.
قال الحافظ في الفتح: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في
الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل منسوخ؛ ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال،
وقيل: المعنى في قوله (لا ربا) الربا الأغلظ المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول
العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي
الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو
بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة
على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم اهـ.
وهذا الأخير هو الصحيح المعتمد كما وضحه الطحاوي، والقول بأن دلالة
حديث أسامة على نفي ربا الفضل دلالة مفهوم، غير صحيح، فإن قوله (لا ربا)
نفي لجنس الربا، فيدخل في عمومه ربا الفضل بالنص، وقوله: (إلا في النسيئة)
استثناء من العموم فبقي غيره منفيًّا، وهل يقول الحافظ: إن نفي كلمة التوحيد
لألوهية غير الله تعالى بالمفهوم؟
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا في الأصل المطبوع في المطبعة الأميرية، ويظهر أنه سقط منه مرجع الضمير المنصوص في (صيره) ولعله (المال) .
(*) هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، وكان لقبه عماد الدين، ثم اشتهر بلقب الكيا الهراسي، والكيا بكسر الكاف وفتح الياء المثناة ومعناها باللغة العجمية الكبير القدر المقدَّم بين
الناس، قاله ابن خلكان، ولم يذكر (الهراسي) إلى أي شيء ينسب، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي سنة أربع وخمسمائة، قال التاج السبكي في طبقات الشافعية: الإمام شمس الإسلام أبو الحسن الجويني الكيا الهراسي الملقب عماد الدين أحد فحول العلماء، ورؤوس الأئمة فقهًا وأصولاً وجدلاً وحفظًا لمتون أحاديث الأحكام، ثم ذكر أنه تخرج بإمام الحرمين، وقال - كابن خلكان - وكان ثاني الغزالي بل أملح وأطيب في النظر والصوت، وأبين في العبارة والتقرير منه، وإن كان الغزالي أحد وأصوب خاطرًا وأسرع بيانًا وعبارة منه، ومما قالاه فيه: وكان يحفظ الحديث ويناظر فيه وهو القائل: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح.
(2) ههنا كلمة مطموسة أيضًا، ولعلها (نسيئة) .
(3) قد طُمس أول هذه الكلمة.(30/665)
الكاتب: سليمان الندوي
__________
تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها
ترجمة مقال للعلامة السيد سليمان الندوي الهندي
(كلمة للمترجم) من المصائب التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر
انتشار فرقة دعواها أن قانون الإسلام هو (القرآن وحده) وأن السنة إنما كانت
أحكامًا مؤقتة لأهل عصر النبي عليه السلام، والآن أصبحت عديمة الجدوى، فهي
تنكر الاحتجاج والعمل بالحديث مهما بلغت درجته من الصحة والشهرة والقبول عند
علماء المسلمين، وهذه الطائفة توجد في سائر الممالك الإسلامية؛ ولكنها في الهند
أخذت شكلاً منظمًا وسمت نفسها (أهل القرآن) وألفت كتبًا ورسائل كثيرة، ولا
زالت تنشر المقالات في المجلات الهندية، وقد رد عليها علماء الهند أحسن رد
جزاهم الله خيرًا، ومنهم حضرة الأستاذ السيد سليمان الندوي؛ فإنه كتب مقالة
نفيسة في مجلته الشهيرة (معارف) الهندية في الرد على هؤلاء بكلام معقول،
فأحببت ترجمتها بتصرف يسير لعل الله ينفع بها من لا يمكنه الاطلاع على أصلها،
والله الموفق.
... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... عبد الوهاب بن عبد الجبار الدهلوي
... ... ... ... ... ... ... ... بمكة المكرمة
قال الأستاذ حفظه الله:
تمهيد:
يسرنا ويسوءنا معًا حال بعض شباننا المتعلمين، يسرنا أنهم وجهوا قسطًا من
عنايتهم إلى البحث عن المسائل الدينية ولم يعتبروا ذلك تضييعًا لأوقاتهم، ولم يعدوا
الدين شيئًا عبثًا لا يستحق العناية والاهتمام، فمن هذه الجهة يستحقون المدح
والشكر، ويسوءنا أنهم ينشرون آراءهم ونتيجة أبحاثهم ويدعون المسلمين إليها قبل
التحقيق التام وعرضها على العلماء الأعلام، وهذا يؤدي إلى إضلال كثير من
العوام.
وإشاعة الحق - وإن كانت واجبة - يجب على من يقوم بها أن يتثبت ويتحقق
أولاً كون ذلك الشيء حقًّا، ثم يسعى في نشره وإلا كان إثمه أكبر من نفعه.
هؤلاء الشبان يدّعون أنهم قادرون على استنباط كل شيء من القرآن الشريف
بدون رجوع إلى بيان صاحب الرسالة الذي أُنزل عليه القرآن، فتراهم يُكثرون من
ذكر المسائل العجيبة التي استنبطوها بزعمهم من القرآن، ويردون كل ما ثبت
بالسنة ولم يجدوه في القرآن، ومن الغريب أن كثيرًا من الأحكام التي يردونها نجد
أصلها موجودًا في القرآن عند إمعان النظر، وأغرب من ذلك تناقضهم واختلافهم
في ما يستنبطون من القرآن، فكل واحد منهم مستقل بنفسه مخالف للآخر.
كيف نفهم القرآن:
قد كتبت مرارًا أن البحث في هذه المسائل الجزئية - التي يستنبطونها والتي
يردونها - لا تجدي نفعًا، بل يجب أن نبحث في المسائل العامة، والقواعد الكلية
التي تشمل هذه الجزئيات كلها، فأول ما يجب تمحيصه من هذه المسائل هو: كيف
نفهم القرآن؟ أو بعبارة أعم من هذه: كيف نفهم مراد القائل من كلامه؟ لا يخفى
أن علم أصول الفقه جُل مباحثه تدور حول هذه المسألة، أعني طريقة فهم معنى
الكلام والاستنباط منه.
مثلاً إذا وردت في القرآن الكريم كلمة لها معاني متعددة عند العرب، أو كلمة لها
معنى حقيقي ومعنى مجازي، فكيف نعين المعنى المراد بتلك الكلمة؟ أو ورد لفظ
عام، فكيف نعلم أن المقصود منه جميع أفراده أو بعضه؟ أو ورد حكم مطلق، فكيف
نعرف هل هو باق على إطلاقه أم استثني منه شيء؟ [1] إلى غير ذلك من المسائل.
وهناك أمر آخر، وهو أن المعاني المفهومة من الكلام على أنواع، فمنها ما
يُفهم من ألفاظه صراحة، ومنها ما يُفهم منه بطريق الإشارة والكناية، ومنها ما يُفهم
من سياق الكلام، فلا يقال لشيء منها: إن هذا الكلام لا يشمله، فكذلك الأمر في
القرآن، أعني إذا كان الشيء غير مذكور فيه صراحة؛ ولكنه يُفهم من سياقه أو
إشاراته فلا يقال: إنه ليس في القرآن مطلقًا.
النبي كان مأمورًا بتبيين القرآن:
قال الله تعالى مخاطبًا لنبيه عليه السلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) فلأجل هذا كان الصحابة يرجعون
إليه في فهم كل ما أُشكل عليهم فهمه أو استنباطه من القرآن، ويستفتونه فيما يقع
لهم من الحوادث، فيبين لهم النبي عليه السلام ما أُشكل عليهم ويعلمهم ما خفي
عليهم. مثلاً نزلت آيات الصيام ولم يذكر فيها حكم الأكل والشرب بالنسيان في
الصوم، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال يا رسول الله أكلت
ناسيًا في الصوم، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن صومه صحيح؛ لأن الخطأ
والنسيان معفو عنهما مستنبطًا من قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ
وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: 5) فهل يقال إن هذا الحديث مخالف للقرآن
لأنه ليس فيه أن الصوم لا يفسده الأكل بالنسيان، أو يقال إنه لم يكن للنبي عليه
السلام أن يستنبط هذا الحكم من الآية الأخرى التي لا تتعلق بالصوم؟
وهنا نريد أن نسأل هؤلاء المنكرين على الحديث: إذا كان يجوز لكم أن
تستنبطوا من القرآن كل ما تريدون وتفسرونه كما تفهمون، مع بُعدكم عن العصر
والمحيط اللذين نزل فيهما القرآن، ومع كونكم أعجامًا من غير أهل اللسان، أفما
كان يحق هذا لمن نزل عليه القرآن، وأُمر بتبيينه وكان أفصح أهل اللسان؟ بلى
هو أحق الناس بالبيان والاستنباط من القرآن.
تفاوت الأفهام:
ثم لا يخفى على أحد أن كل الناس ليسوا سواء في الاستعداد والفهم، وصفاء
الذهن، ولهذا السبب يقرأ القرآن الحكيم كل أحد؛ ولكنهم يختلفون في فهم معانيه،
فالعالم يفهم منه ما لا يفهم الجاهل، والعلماء أيضًا متفاوتون في الفهم والعلم
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إلى
العلماء في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وبين
اختلاف الناس في درجات الفهم بقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) .
كيف وجدت الأحاديث:
إذا سلَّمنا هذين الأمرين - أعني أن النبي عليه السلام كان مأمورًا بتبيين
القرآن، وأحق الناس به وبالاستنباط منه، وأن الناس متفاوتون في الاستعداد والفهم -
فلنتصور أنه إذا نزل حكم في القرآن في واقعة ما، ثم بعد ذلك حدثت حادثة أخرى
مثلها أو تشابهها أو تختلف عنها قليلاً في الظاهر، واشتبه على بعض الصحابة أن
ذلك الحكم هل ينطبق على هذه الحادثة الجديدة أم لا؟ فما الطريقة المعقولة لحل هذا
الأشكال؟ أليست الطريقة المعقولة أن يرجعوا إلى صاحب الوحي ويسألوه عن ذلك؟
فإذا سألوا النبي عليه السلام، فماذا كان يجب عليه أن يعمله؟ أيسكت عن جوابهم
ويتركهم حيارى؟ أم يكتفي بتلاوة الآية التي ما فهموها تمامًا، ولم يظهر لهم وجه
انطباقها على الواقعة الجديدة؟ أم يوضح لهم ما أُشكل عليهم بحيث يطمئن إليه
الخاطر؟ لا شك أن الصورة الأخيرة هي المتعينة؟ فإذا أجاب على سؤالهم وبيَّن لهم
ما اشتبه عليهم، فهل كان يحرم عليهم أن يخبروا غيرهم بتلك القصة، أو إذا وقعت
تلك المسألة لغيرهم فهل كان محظورًا عليهم أن يُعلِّموه كما علَّمهم الرسول عليه
السلام؟ لا أظن أن عاقلاً يقول بهذا، بل كل عاقل يقول إنه كان الواجب عليهم تعليم
الجاهل وهداية الحيران، وكذلك فعلوا! فهذا هو (الحديث) في اصطلاح المسلمين.
الرواية أمر ضروري:
لا مندوحة لعلم من العلوم ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية
لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضرًا في كل الحواداث، فإذًا لا يتصور علم
الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهًا أو تحريرًا، وكذلك المولودون بعد
تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم، هذه تواريخ الأمم الغابرة
والحاضرة والمذاهب والأديان ونظريات الحكماء والفلاسفة وتجارب العلماء
واختراعاتهم هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟
فهل كان الدين الإسلامي بدعًا من الحوادث حتى لا تُنقل أحكامه وأخباره بهذا
الطريق؟ أم كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال الرسول عليه السلام وأخباره
غير الرواية؟
لنفرض أن هؤلاء المنكرين على رواية الحديث أصبحوا زعماء لمن كان على
شاكلتهم، فهل هناك طريقة - غير الرواية - لتبليغ استنباطاتهم وتحقيقاتهم لأفراد
جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم أو الذين سيولدون بعدهم، خصوصًا إذا كانوا
في بلاد لا توجد فيها المطابع ووسائط الاستخبار الحديثة، مثل البريد والبرق،
وتكون صناعة الورق معدومة والأمية منتشرة (كما كان الحال في جزيرة العرب
عند ظهور الإسلام) ؟
القرآن أيضًا منقول بالرواية:
ثم نسأل هؤلاء: أليس القرآن الكريم أيضًا منقولاً بالرواية؟ نعم إن هناك فرقًا
بينه وبين الحديث، وهو أن القرآن منقول بالتواتر والحديث منقول برواية رجال
معدودين؛ ولكنهم ليسوا مجاهيل، بل رجال مشهورون، أحوالهم معلومة، وأسانيدهم
محفوظة، وهذا الفرق يقتضي التفاوت في درجات اليقين والوثوق، لا في نفس
القبول والاعتبار، وهذا الفرق مسلَّم عند كل مسلم، لا يقول أحد منهم بأنهما متساويان
من كل جهة.
أصول الحديث:
ولما كانت الأحاديث أخبارًا وجب أن نستعمل في نقدها وتمييز الصحيح من
غيره أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا، أعني إذا
سمعنا خبرًا فماذا نعمل؟ ننظر أولاً في حال الراوي الذي سمعنا منه هذا الخبر،
هل هو ممن يُعَوَّل على روايته أم لا؟ ثم ننظر في حال من روى عنه هذا الرجل
وهكذا إلى أن تنتهي الوسائط، ثم نتحقق هل الراوي الأعلى كان حاضرًا الواقعة أم
لا؟ وهل كان بإمكانه فهمها وحفظها؟ ثم ننظر في الأمر المروي هل يلائم أحوال
الرجل الذي نُسب إليه وهل يمكن وقوعه في ذلك العصر والمحيط أم لا؟
فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث وسموها (أصول
الحديث) وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها، ولا زال الباب مفتوحًا لمن
أراد أن يأتي البيوت من أبوابها.
الحديث تاريخ الإسلام:
لا يخفى أن القرآن الحكيم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية
والدنيوية، ولهذا بيَّن لهم طريق العمل وسبل النجاح، وأعلن أن الأمة التي تعمل
بهذا القانون تكون لها الخلافة في الأرض، وتنال من السعادة والسيادة ما لا مزيد
عليه، وتكون خير أمة أُخرجت للناس، وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً
مهانًا في الأرض، وشقيًّا في الدنيا والآخرة.
فإذا سَأَلَنا أحد: هل وُجدت أمة في زمن من الأزمان عملت بهذا القانون؟ وهل
نالت به ما وعدت؟ ومتى كانت تلك الأمة وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون،
وأين التاريخ الصحيح لأعمالها؟ نقول له: نعم وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب
الحكيم، واتخذته قانونًا أساسيًّا لها مدة كبيرة فصدقها الله وعده، وأنعم عليها
بالخلافة والسيادة في الأرض، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها،
وكانت أمة لا نظير لها في تاريخ العالم، وتاريخ أعمالهم المجيدة وطريقة تنفيذهم
لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها، كل ذلك ثابت ومحفوظ بصورة عديمة المثال؛
فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها في كل شؤونها بقانونها مثل
تاريخ هذه الأمة، وهذه الأمة هي الرسول عليه السلام وأصحابه والتابعون لهم
بإحسان، وهذا التاريخ هو الحديث! فبالحديث يُعلم كيف عمل الرسول
وأصحابه بالقرآن، وبه يُعرف أن القرآن قانون قد عُمل به ونجحت أصوله
الإدارية والسياسية والمدنية والأخلاقية ... إلخ، وليس هو مجموعة نظريات
محتاجة للإثبات بالتجربة والتطبيق، وأما إذا عملنا برأي المنكرين للحديث فيضيع
تاريخ الإسلام الذهبي، ولا يقدر أحد أن يثبت أن القرآن قد عملت به أمة من الأمم
ونجحت في تأسيس حكومة مدنية مطابقة لتعليماته، فهل يرضى المسلمون بهذا؟ لا
والله لا المسلمون يرضون بهذا، ولا العلم ولا التاريخ يرضيان به {فَمَالِ هَؤُلاءِ
القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) ؟ .
أقسام الحديث:
ولننظر ماذا يوجد في الحديث، وأي مقدار منه يصلح أن يكون مجالاً للبحث
والمناقشة:
(1) لا يخفى أن القسم الأعظم من الحديث هو تاريخي، أعني أنه يشتمل
على أخبار الرسول عليه السلام وأصحابه الكرام ووقائعهم وبيان جليل أعمالهم،
وهذا القسم غير قابل للبحث والمناقشة عند كل ذي عقل سليم؛ لأنه عبارة عن جزء
من تاريخ العالم مثل سائر تواريخ الأمم، إلا أنه يمتاز عنها بصحة المأخذ، وضبط
الرواية وتسلسل الأسانيد، ومطابقتها لأصول النقد، بحيث إن هذا الوصف لا
يشاركه فيه تاريخ أمة من الأمم، لا الرومان ولا الفرس ولا اليونان ولا الهند ولا
مصر ... إلخ.
(2) والقسم الثاني أخلاقي تهذيبي يحتوي على الحِكَم والآداب والنصائح
مثل مدح الصدق والعدل والإحسان والاتحاد والتعاون وسائر الفضائل والحث عليها،
وذم الكذب والظلم والفسق والفساد وسائر الرذائل والصد عنها، فهذه الأمور
تؤيدها الفطرة الإنسانية، وأصولها موجودة في القرآن فهل فيها شيء يستحق الرد؟
(3) العقائد أصول العقائد مذكورة في القرآن مثل التوحيد والصفات
الإلهية والرسالة والبعث وجزاء الأعمال، ولا يوجد في الحديث الصحيح إلا ما
يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها، أو يكون من جزئياتها ونظائرها، ولا يوجد
فيها ما يكون مخالفًا لعقائد القرآن أو زائدًا عليها، بحيث لا يكون له أصل في
القرآن، وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة في العقائد تجد مثلها في القرآن،
ويجري فيها ما يجري في القرآن من التفويض أو التأويل حسب اختلاف مدارك
الأفهام والطبائع الإنسانية، فمنها ما يقبل التسليم والتفويض، ومنها ما لا يقنعه إلا
التأويل الموافق لعقله والذي يطمئن به قلبه، وأما الأحاديث التي فيها مخالفة للقرآن
أو العقل السليم فلا تجدها إلا من الموضوعات [2] والواهيات، ومثلها لا يجوز
ذكرها فضلاً عن التمسك بها، وهذا بإجماع المسلمين، وفوق هذا العقد أجمع
المسلمون أيضًا على أن العقائد لا تثبت إلا بالقرآن؛ لأن مبنى العقائد على اليقين،
واليقين لا يحصل إلا بالوحي المتواتر وهو القرآن أو الحديث المتواتر؛ ولكن
الحديث المتواتر حسب تعريف الأصوليين وشروطهم غير موجود، فرجع الأمر في
العقائد إلى القرآن وحده، وهذا الإجماع إنما حصل لعلمهم أن الاحاديث الصحيحة
ليس فيها ما يعارض العقائد القرآنية أو يكون زائدًا مستقلاًّ عليها.
(4) الأحكام: هذا القسم أكثره ثابت بالأحاديث المستفيضة المشهورة،
وهي ما رُويت بطرق كثيرة صحيحة؛ ولكنها لم تبلغ حد التواتر، وبعضه بالآحاد
ولكنها صحاح، وأما الاحاديث الضعيفة فقد أجمع المحدثون والفقهاء أنها لا تقبل
في الأحكام [3] ، والمحققون لا يقبلونها في غير الأحكام أيضًا.
فأما الاحتجاج بالخبر المستفيض المشهور فلا يتصور وجود عاقل يُنكر ثبوت
الحكم بمثل هذا الخبر ولزوم العمل لمن يبلغه، وإلا بطل نظام العالم، فهذه قوانين
الحكومات، إذا نُشرت في عدة جرائد معتبرة يلزم العمل بها لكل أحد من رعايا تلك
الحكومة، ولا يسعه الاعتذار بأنها لم تبلغه بالتواتر.
وأما الآحاد الصحاح فكذلك العمل بها جارٍ في سائر أنحاء العالم إذا أتانا رجل
معتبر، وبلَّغنا أن فلانًا يطلبك فحالاً نلبي طلبه، ولا نسأله أن يأتينا بالشهود على
صحة قوله، إلا إذا وُجدت هناك قرينة مانعة عن قبول خبره فحينئذ نتثبت قبل
الذهاب.
وهكذا الأمر في الأحاديث الآحادية الصحيحة: تقبل في الأحكام ويعمل بها ما
لم يوجد أمر مانع من قبولها مثل كونها مخالفة للقرآن أو الحديث المشهور، أو
كونها متروكة العمل في زمن الخلفاء الراشدين والصحابة، ففي هذه الحالة يحق
لكل عالم أن يتوقف عن العمل بها، وأن يبحث عنها إلى أن يزول الإشكال ويطمئن
إليه الخاطر. وأما ترك العمل بالآحاد الصحاح مطلقًا من غير وجود علة مانعة من
قبولها فغير معقول ومخالف لما هو جار في سائر المعاملات الدنيوية.
السنة مأخوذة من القرآن:
على أننا نعتقد مثل كثير من العلماء المحققين أن الأحكام التي توجد في
الأحاديث الصحيحة هي مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبي عليه
السلام من القرآن بتأييد إلهي، وشرح رباني، ولذلك يجب علينا قبولها والعمل بها
بشرط ثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الفهم والاستنباط يسمى في
اصطلاح القرآن تارة (تبيينًا) وتارة (إراءة) قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) وقال جل شأنه:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء:
105) .
تقصير العلماء في خدمة القرآن:
الحق يقال إن علماءنا قصَّروا في خدمة القرآن من هذه الناحية، أعني أنهم لم
يُؤلِّفوا كتبًا كافية في علوم القرآن - أعني عقائد القرآن، وفقه القرآن، وأخلاق
القرآن، وسياسة القرآن إلى غير ذلك - بل نبذوه وراءهم ظهريًّا، وصدقت علينا
الآية {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:
30) والحال أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقدمون القرآن على كل شيء في
استنباطاتهم واستدلالاتهم؛ ولكن عصرهم لم يكن عصر تدوين وتأليف ولهذا لم
يؤلفوا فيه الكتب؛ وإنما كان هذا من فرائض الذين جاءوا بعدهذم؛ ولكنهم غفلوا
عن أداء الفرض واشتغلوا بآراء الرجال والحكايات الإسرائيلية والمسائل الخلافية
والجدل، والسبب في ذلك أن القرآن الكريم ليس مرتبًا على الأبواب، فيصعب
على كثير من الناس البحث عن مطلوبهم فيه، حتى المسائل المنصوصة فيه،
فضلاً عن الاستنباط منه، والعلماء الذين ألَّفوا الكتب في أحكام القرآن أيضًا تبعوا
ترتيب التفاسير، ولم يرتبوها على الأبواب فبقيت الصعوبة كما كانت، ولما كانت
كتب الحديث والفقه والفتاوى مبوبة مرتبة انصرف الناس بسهولة إلى الأخذ منها،
وتركوا النظر والتدبر في القرآن والرجوع إليه قبل كل شيء حين الاستنباط
والاستدلال، والخلاصة أن الحاجة داعية إلى أن يوجه علماؤنا عنايتهم إلى تأليف
كتب مبسوطة سهلة مبوبة في علوم القرآن [4] ويبينوا وجه التوفيق والارتباط بين
الآيات والأحاديث الثابتات، ويقربوها لأفهام أهل هذا العصر؛ وبذلك يخدمون
الدين خدمة كبيرة، ويكون ذلك أكبر باعث لاتحاد كلمة المسلمين، وصيانة الشبان
عن الإلحاد والمروق من الدين وما نظنهم إلا فاعلين ذلك إن شاء الله.
معنى السنة والفرق بينها وبين الحديث:
كنا عقدنا مقالنا هذا لبيان السنة والدعوة إليها؛ ولكن اقتضت الحال أن نبحث
أولاً عن الحديث الذي هو أعم من السنة، وإذ انتهى ذلك فلنبحث في معنى السنة،
ولنذكر الفرق بين السنة والحديث؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفرقون بينهما
ويجعلونهما في منزلة واحدة، وينشأ من ذلك ضرر كبير.
الحديث كل واقعة نُسبت إلى النبي عليه السلام ولو كان فعلها مرة واحدة في
حياته الشريفة، ولو رواها عنه شخص واحد، وأما السنة فهي في الحقيقة اسم
ًللعمل المتواتر - أعني كيفية عمل الرسول عليه السلام - المنقولة إلينا بالعمل
المتواتر، بأن عمله النبي عليه السلام ثم من بعده الصحابة، ومن بعدهم التابعون
وهلمَّ جرا، ولا يُشترط تواترها بالرواية اللفظية، فيمكن أن يكون الشيء متواترًا
عملاً ولا يكون متواترًا لفظًا، كذلك يجوز أن تختلف الروايات اللفظية في بيان صورة
واقعة ما فلا يسمى متواترًا من جهة السند؛ ولكن تتفق الروايات العملية على كيفية
العمل العمومية فيكون متواترًا عمليًّا، فطريقة العمل المتواترة هي المسماة بالسنة
وهي المقرونة بالكتاب في قوله عليه السلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما
تمسكتم بهما: كتاب الله تعالى وسنة رسوله) وهي التي لا يجوز لأحد من المسلمين
كائنًا من كان تركها أو مخالفتها وإلا فلا حظ له في الإسلام.
مثلاً: إذا علمنا أن النبي عليه السلام من حين فُرضت الصلوات الخمس
واظب عليها مدة حياته الشريفة في هذه الأوقات المعلومة، وبهذه الهيئة المعروفة،
وكذلك الصحابة بعده، والتابعون بعدهم، ثم المسلمون إلى يومنا هذا سواء منهم
الذين وجدوا قبل تدوين كتب الحديث، والذين وجدوا بعدهم، واتفق المسلمون قرنًا
بعد قرن مع اختلاف أعصارهم وبلدانهم وأفكارهم ونِحَلهم على أن النبي عليه السلام
والصحابة كانوا يصلون خمس مرات في اليوم والليلة في هذه الأوقات المعلومة بهذه
الصورة المخصوصة وبهذه الأركان - فهذا هو التواتر العملي وإنكاره مكابرة بل
جنون.
لا يتجرأ عاقل أن يقول: إن تعيين هذه الأوقات للصلاة أو هذه الأركان، هو
من وضع المحدِّثين أو الفقهاء وقلدهم فيها المسلمون؛ لأننا لو فرضنا أن كتب الحديث
والفقه ما وجد منها شيء ففي تلك الحالة أيضًا كانت الصلاة تكون معروفة بهذا
الشكل منقولة إلينا بالتواتر العملي، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج وسائر
الفرائض والمحرمات.
وتدوين كتب الحديث إنما كان بمنزلة تسجيل لتاريخ هذا العمل
المتواتر بصورة صحيحة محفوظة، فهل هذا التسجيل لكونه وقع في القرن
الثاني أو الثالث يُسقِط ذلك التواتر العملي عن درجة الاعتبار أو ينقص من
قيمته؟ كلا بل زادت قيمته ودرجته بهذا التسجيل التاريخي الخالد الذكر العديم
المثال.
حقيقة السُّنة:
قد ظهر مما تقدم أن بين الحديث والسُّنة فرقًا كبيرًا، فالحديث هو الرواية
اللفظية لأقوال الرسول عليه السلام وأعماله وأحواله، وأما السنة فهي الطريقة
المتواترة للعمل بالحديث، بل بالقرآن أيضًا.
مثلاً ورد في القرآن الأمر بإقامة الصلاة وبين فيه بعض تفاصيلها أيضًا،
فالرسول عليه السلام صلى بموجب ذلك وقال لنا: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
واستمر على تلك الكيفية وكذلك الصحابة فالتابعون وسائر المسلمين، وهكذا الأمر في
الصيام والزكاة والحج وسائر الأوامر القرآنية، فالصورة العملية التي رسمها الرسول
عليه السلام لألفاظ القرآن هي السنة، وهي في الحقيقة تفسير عملي للقرآن، وهي من
هذه الحيثية أعلى من الروايات اللفظية بمراتب كثيرة.
الألفاظ المرادفة للسنة:
وردت في القرآن الكريم وكلام الرسول وأقوال الصحابة كلمات أخرى مؤدية
لمفهوم السنة مثل السبيل، والصراط المستقيم، والأسوة الحسنة، وكلها تفيد معنى
الطريقة المسلوكة ومعنى الاتباع، يعني أن الطريق الذي سلكه النبي عليه السلام
وأصحابه والمؤمنون هو السنة، هو السبيل، هو الصراط المستقيم، وهذا المفهوم
هو الذي وضع له إمام أهل السنة مالك رحمه الله كلمة (الموطأ) وسمى به
مجموعة رواياته [5] ومعنى الموطأ في اللغة الطريق الممهد الذي وطئه الناس كثيرًا،
فكأنه يعني به الطريق الذي مهده ووطأه النبي عليه السلام وأصحابه الكرام، وهو
طريق الإسلام والتفسير الصحيح للقرآن.
الكتاب والسنة:
كثيرًا ما ترد في الحديث كلمتا (الكتاب والسنة) مقرونتين كما ورد في
الوصايا النبوية الشريفة قبيل وفاته (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما
كتاب الله تعالى وسنة رسوله) فالمراد بهذه السنة المقرونة بالكتاب هو عمل
الرسول المتواتر، وطريقه المسلوك الممهَّد الذي هو التفسير العملي الصحيح للقرآن،
وليس المراد بها كل رواية رويت بالسند اللفظي! فلان عن فلان.
السنة والبدعة:
لعلك فهمت الآن حقيقة السنة التي ورد الأمر باتباعها والوعيد الشديد لتاركها
المخالف لها كقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي) وقوله: (من رغب عن سنتي
فليس مني) فهذا الشيء أعني السنة يقابلها (البدعة) ومعناها اللغوي (الأمر
المستحدث) والشرعي ما بينه النبي عليه السلام بقوله: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) وهاتان الكلمتان تستعملان دائمًا ككلمتين متضادتين؛ لأن
السنة هي الطريق الذي كان عليه الرسول وأصحابه، والبدعة هي ترك ذلك
الطريق والانحراف عنه وسلوك طريق آخر مخترع [6] ، فلهذا كانت الأولى هداية
والثانية ضلالة.
أثر السنة في جمع كلمة المسلمين:
المسلمون متفقون في أشياء كثيرة، ومختلفون في أشياء أخرى، وهذا
الاختلاف يرجع ابتداؤه إلى القرن الأول، ولكن إذا دققنا النظر وجدنا أن المسائل
التي اختلفوا فيها هي من قبيل النظريات التي لا يمكن فيها التمسك بالشهادة العلمية،
مثلاً أكبر المسائل النزاعية بين أهل السنة والشيعة هي مسألة الخلافة هل هي
بالنص أو بشورى المسلمين؟ وأهم المسائل الخلافية بين المعتزلة والأشاعرة
والماتريدية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة، هل تكون بهذه الأبصار أم لا؟ فهذه
وأمثالها كلها أمور نظرية، أعني أنها ليست من الأمور العملية المحسوسة، ولا
يتأتى فيها شهادة العمل [7] ، وأما المسائل العملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج
والجهاد فلم يختلف المسلمون فيها اختلافًا كبيرًا، والسبب في ذلك أن سنة الرسول
عليه السلام كانت دائمًا نصب أعينهم ومثلاً أعلى لهم، وهذا من الخصائص
الكبرى للإسلام.
وأما الاختلاف في مثل الفاتحة خلف الإمام، ووضع اليدين في الصلاة،
ورفع اليدين، فإذا طرحنا الغلو والتعصب من الفريقين رجع الأمر إلى المناقشة في
الأفضلية، وكذلك الأمر في المسائل الاجتهادية والأمور المتجددة في المعاملات
والقضاء والسياسة الإسلامية، فالاختلاف فيها إنما هو في اختيار الجانب الراجح
حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة وعقلية الشعوب الإسلامية.
معيار السنة والبدعة:
من القواعد المسلمة في جميع الأديان والمذاهب، أن أحسن العصور لكل دين
ومذهب إنما هو عصر صاحب المذهب نفسه، ثم عصر خلفائه وأصحابه الذين
أخذوا منه الدين ولازموه في السراء والضراء، ثم يطرأ عليه الضعف شيئًا فشيئًا
ويتسرب إليه الخلل وتختلط فيه الأشياء الدخيلة المنافية لروحه وتعاليمه - فإذا
طبقنا هذه القاعدة الكلية (التي هي موافقة للعقل وللناموس الطبيعي أيضًا) على
الإسلام وجب أن يكون عصره الذهبي الخالي عن التحريف والشوائب، هو عصر
الرسول عليه السلام وخلفائه الراشدين، فكل أمر وجدناه معمولاً به في ذلك العصر
علمنا أنه من الدين ويقال له سنة، وكل ما حدث بعده عرفنا أنه دخيل في الدين
ويُسمى بدعة، فهذا هو المعيار للسنة والبدعة، أو بعبارة أخرى لما هو من الدين
ولما ليس منه. فكل من يدعي أن الأمر الفلاني من الدين، والأمر الفلاني ليس
منه، فعليه أن يزن دعواه بهذا الميزان ويثبت أن الشيء الذي يزعم أنه من الدين
كان موجودًا في زمن الرسول وأصحابه، وأن الشيء الذي يعده دخيلاً فيه لم يكن
في ذلك العصر.
مثلاً: ادّعت طائفة في زماننا أن الصلوات المفروضة على المسلمين في
اليوم والليلة إنما هي مرتان أو ثلاث، وأن طريقة الصلاة كذا وكذا لا كما يصليها
المسلمون، فالواجب على هؤلاء أن يثبتوا أن النبي عليه السلام وأصحابه ما كانوا
يصلون في اليوم والليلة إلا مرتين أو ثلاثًا، وأنهم ما كانوا يصلون إلا بالطريقة
التي يدعيها هؤلاء، وأنه بعد تدوين كتب الحديث صار المسلمون يصلون خمس
مرات، وزادوا فيه كذا وكذا من الأركان تبعًا للمحدثين والفقهاء، فإن لم يستطيعوا
إثبات ذلك - ولن يستطيعوه إلى يوم القيامة - يكون مآل دعواهم أن النبي عليه
السلام أخطأ في فهم الوحي الذي أُنزل عليه (حاشاه من ذلك) وأن هؤلاء الأعاجم
الجهلة وفقوا لإصلاح ذلك الخطأ وبيان الصواب، فهل يمكن لمسلم، بل لعاقل أن
يتفوه بهذا الكلام الجنوني؟ أعاذنا الله من ذلك.
اشتقاق كلمة السنة:
زعم بعض الجهلة من أعداء السنة أن كلمة السنة مأخوذة من كلمة (مسناة)
العبرانية، وعلل دعواه بأنه كما أن اليهود تركوا التوراة وعملوا بمجموعة الروايات
الإسرائيلية وسموها (مسناة) فكذلك المسلمون لما تركوا القرآن وعملوا بالأحاديث
اشتقوا لها اسمًا من (مسناة) اليهودية وسموها (سنة) ، وهذا زعم باطل، وادعاء
فاسد، ويكفي في الرد عليه أن كلمة السنة وردت في القرآن الكريم في مواضع
متعددة بهذا المعنى، أعني معنى العادة والطريقة المستمرة مثل قوله تعالى في سورة
الإسراء: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} (الإسراء: 77) وقوله في
سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر: 13) وفي سورة فاطر:
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43)
فالمسلمون اقتبسوا كلمة السنة من القرآن وخصصوها في الاستعمال بسنة الرسول
وأصحابه.
هذا ما أردنا بيانه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى
على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تعليق المنار:
نشكر لصديقنا العلامة السيد سليمان الندوي هذا المقال النفيس في الرد على
أعداء السنة المبتدعين، وهذه البدعة قديمة العهد؛ ولكن لم نعلم أنها صارت مذهبًا
يُدعى إليه في الهند إلا من مقاله هذا، وقد كنا فتحنا باب المناقشة في هذه البدعة
في المجلدين التاسع والعاشر من المنار أي منذ سنة 1324 (الموافق سنة 1906م)
فكانت موضوع مناظرة، وكان حكم المنار فيها في الجزء 12 من ذلك المجلد أن
الإسلام هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما قلناه في الحكم
(وإنما السنة سيرته صلى الله عليه وسلم في الهدي والاهتداء بالقرآن، وهو أعلم
الناس به وأحسنهم هديًا، وإطلاقها على ما يشمل الأحاديث اصطلاح حادث، إلى
أن قلنا: فما مضت السُّنة على أنه حتم في الدين فهو حتم، وما مضت على أنه
مستحسن مخير فيه فهو كذلك في الدين، وفصَّلنا ذلك ثم أعدنا هذا البحث مرارًا
آخرها ما نشرناه في فتاوى الجزء السابع من المجلد التاسع والعشرين) .
ومن الغريب أننا نرى أمم العلم والحضارة تعنى بحفظ ما يُنقل عن علمائها
وأدبائها في التشريع والحقوق والحكم والآداب، ويفاخر بعضها بعضًا بهم وبآثارهم،
ونرى هؤلاء المخذولين من مبتدعة المسلمين لا يكتفون بهضم حقوق علماء ملتهم
ومؤسسي حضارتها ومجدها بالعلم والعمل والسياسة والآداب، بل ينبذون سنة
الرسول الذي يدَّعون اتباع ملته وما روى سلفهم عنه من التشريع والحكم والآداب،
ومنهم من يدَّعي اتباع سنته العملية التي تلقاها عنه أصحابه بالعمل دون ما ثبت
عنه بالأحاديث القولية، وإن كانت صحيحة المتون والأسانيد لا يعارضها معارض
من القرآن ولا قطعي آخر يثبته العلم والعقل، ويدَّعون أنهم يتبعون نصوص
القرآن كأن فهمهم وبيانهم له وحرصهم على العمل به فوق فهم من أوحي إليه وكلفه
الله تعالى بيانه بالقول والعمل، وعصمه من الخطأ في كل ما يبلِّغه عنه من
نصوصه، ومن المراد منها أي من كل ما هو دين وشرع.
وإذا كان السيد الندوي يعجب من صدور هذا الضلال عن بعض الأعاجم في
الهند، فنحن أحق بالعجب منه عندما نرى بعض هؤلاء المعادين لهديه صلى الله
عليه وسلم من الناشئين في البلاد العربية الذين تلقوا شيئًا من فنون لسان العرب
كان يجب أن يكونوا به أصح فهمًا للقرآن من أولئك الأعاجم الذين عناهم أخونا
السيد الندوي، وأغرب ما رأيناه من تأويل هؤلاء لآيات القرآن بما تتبرأ منه لغته،
وما مضت به السنة النبوية وإجماع الأمة سلفها وخلفها من قول وعمل - هو زعم
بعضهم أن القرآن يدل على بطلان التسري، وتأويله بل تحريفه لمثل قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) وقوله:
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن
فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} (النساء: 25) بأن المراد بما ملكت الأيمان الخوادم الحرائر! !
ونحمد الله تعالى أنه لم يوجد في هذه البلاد أتباع لهذا الرجل كما وجد أمثاله في
الهند في هذه الأثناء، ومن قبلها حين قام مرزا غلام أحمد القادياني يدَّعي أنه هو
المسيح، وحرَّف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما تتبرأ منه اللغة العربية
حقيقتها ومجازاتها وكناياتها.
وقد علم الأستاذ الندوي وغيره أنه كان قام في هذه البلاد من زعم أن الإسلام
الذي يجب على الناس الاهتداء به هو العبادات فقط، أي كما يفهمه هؤلاء المبتدعة
الذين لا يقيم أكثرهم لها ركنًا، وأما ما في القرآن والسنة من الشرائع والأحكام
السياسية والاجتماعية والمدنية والعقوبات فلا يوجب الله - بزعمه - عليهم اتباعها! !
بل يبيح لهم أن يتبعوا أي قانون بشري يخالفها.
والذي نعلمه بالاختبار أن بعض هؤلاء الدعاة إلى هدم الإسلام جاهل غبي قد
فتن بحب الظهور، وبعضهم ملحد يدعو المسلمين إلى الإلحاد لهوى في نفسه، أو
خدمة لبعض الدول الطامعة في بلاد الإسلام واستعباد المسلمين، التي علمت
بالاختبار أنهم لا يقبلون الاستعباد ما داموا مستمسكين بعروة الإسلام دين السيادة
والعزة والملك، الذي نسخ جميع الشرائع وجعله الله الدين الأخير الكامل للبشر كلهم
إلى أن تقوم الساعة، فيجب على جماعة المسلمين في كل قطر أن يقيموا الحجج
المعقولة على ضلالة جميع هؤلاء المبتدعة ووجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي سلف الإسلام الصالحين، وعدم الاعتداد بإسلام
من لا يهتدي بالسنة، ولا بمن يحرِّف القرآن بتفسير يخالف قواعد اللغة
وضروريات الدين وإجماع السلف الصالحين؛ فإن غايتهم أن لا يبقى من الإسلام
شيء، خذلهم الله أجمعين.
__________
(1) المنار: الذي يقابل الإطلاق هو التقييد، والاستثناء مما يخصص العام، ولا ندري هل عبَّر
الأستاذ باللفظ الاصطلاحي فيهما وتصرف فيه المترجم، أم هو الذي تعمد ترك الاصطلاح لأفهام الجمهور.
(2) المنار: هذا غير مسلم إلا إذا أريد بالصحيح صحيح المتن والإسناد معًا، وبالموضوع ما يجزم بوضعه لمخالفة معناه للقطعي في الدين أو في الوجود والحس أو في العقل، ومنه بعض ما استشكله شراح الصحيحين وغيرهما، وأجابوا عنه حتى بما لا يرضاه المستقل الفهم في بعضه.
(3) هذا الإجماع غير مسلم على إطلاقه أيضًا.
(4) المنار: هذا ما ننويه ووعدنا به منذ عشرات السنين على وجه أوسع مما اقترحه صديقنا الكاتب، وأسأل الله التوفيق.
(5) المنار: هذا غير مسلم، ففي الموطأ كثير من الأحاديث القولية الآحادية من مرفوع وموقوف ومرسل، ومنها ما لم يبلغ أن يكون سنة متواترة بعمل جميع الصحابة والتابعين به على ما قاله الكاتب في معنى السنة؛ ولأجل ما فيه من المسائل المختلف فيها أبى الإمام مالك ما عرضه عليه هارون الرشيد من تعليق الموطأ في الكعبة وحمل الناس على ما فيه وعلل إباءه بقوله له: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكل
مصيب اهـ، وإنما سماه (الموطأ) لأن علماء المدينة واطأوه ووافقوا عليه.
(6) المنار: لا يشترط في تحقق البدعة ترك شيء من السنة، فكل ما أحدثه الناس من قول وعمل في الدين وشعائره مما لم يؤثَر عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، فهو بدعة وضلالة، فبين ترك السنة والابتداع عموم وخصوص يجتمعان في بعض الأمور ويوجد كل منهما وحده.
(7) فيه أن الخلافة من الأمور العملية؛ ولكنها من عمل جماعة المسلمين لا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكفر مخالفها، وإجماعهم العملي دليل على عدم وجود نص قطعي فيها، وسيدنا علي وآله عليهم السلام لم يحتجوا على ما يعتقدون من أولويته بالنص، بل وافقوا الجمهور وبذلك كان إجماعًا عمليًّا.(30/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
الرد التفصيلي في موضوع المناظرة
- 7 -
سلطان الدين الأعلى
إن الشعور بقوة فوق قوى الطبيعة، وسلطان غيبي أعلى من نواميس الخليقة،
وجدان غريزي في أنفس البشر؛ لذلك كانوا ولا يزالون يخضعون خضوع التعبد
لكل ما يظهر لهم أنه صادر عن ذلك السلطان الغيبي الأعلى لمخالفته السنن
الطبيعية ومجيئه على غير نظام الأسباب والمسببات؛ وإنما يخطئون أحيانًا في
التمييز بين الحقيقي والوهمي من خوارق العادات، فالأول كالآيات التي أيَّد الله
تعالى بها أنبياءه المرسلين، والثاني كالمصادفات والسحر وشعوذة الدجالين،
وأشهر الأمثلة لهما الآيات التي أيَّد الله بها نبيه موسى عليه السلام، والتخيلات
الصناعية التي جاء بها سحرة فرعون.
ولما كانت تلك الآيات الكونية لا يؤمن بها إلا من شاهدها مدركًا للفرق بينها
وبين السحر والشعوذة، ومن ثبت عنده الأمران بالتواتر القطعي، ولما كان اجتماع
الأمرين عزيزًا نادرًا بعد طول الزمان، وكان ذلك محتملاً للشك والتأويل والاحتمال،
جعل الله تعالى آية خاتم النبيين حسية عقلية، دائمة باقية، وجعل دلالتها على
رسالته علمية برهانية، ألا وهي ظهور أعلى العلوم الإلهية، والقواعد الأدبية،
وأرقى الأصول التشريعية، من سياسية ومدنية وشخصية، وأنفع الوصايا الصحية،
وأصلح السنن الاجتماعية، والإرشاد إلى العلوم الصحيحة، وأبلغ الحكم العقلية،
والمواعظ التاريخية، في كتاب معجز للبشر بأسلوبه ونظمه وتأثيره وهدايته
وبلاغته، واشتماله على أخبار الغيب الماضية والحاضرة والمستقبلة، وكون هذا
كله جاء على لسان نبي أمي لم يقرأ قبل هذا الكتاب سطرًا، ولا نظم شعرًا، ولا
ارتجل خطبة، ولا نطق بحكمة. وقد جاءه هذا كله دفعة واحدة بعد بلوغ أشده،
واستكماله للأربعين من عمره، ثم كان من تأثيره في قلب نظام الكون كله،
واستيلاء قومه الأميين بهديه وتأثيره على أعظم أمم الأرض ودولها علمًا وحضارة
وقوة وثروة، حتى صاروا يدخلون في دينه أفواجًا ... إلخ، فأي برهان على
الوحي الإلهي والتشريع السماوي أظهر وأبهر وأنور وأقهر للقلوب والعقول من هذا؟
من أعظم ما انفرد به هذا التشريع الإلهي دون سائر الشرائع السماوية
والأرضية - إبطال ظلم جميع البشر وتحقيرهم للنساء وهضمهم لحقوقهن فيما
سنبين نماذجه العليا في مقالاتنا هذه، ولو لم يكن منه إلا قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:
228) وإلا قول نبيه صلوات الله وسلامه عليه في تربيتهن وتعليمهن (أيما رجل
كانت عنده وليدة فعلَّمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها
فله أجران) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا دواد من
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وإلا قوله صلى الله عليه وسلم في
تكريمهن: (ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم) رواه ابن عساكر من
حديث علي كرَّم الله وجهه - لو لم يكن إلا هذا وذاك لكفى تفضيلاً للإسلام على
جميع الشرائع والقوانين، وإذا لم يكن هذا الإصلاح العظيم وحيًا لذلك النبي الأمي
فمن أين جاء؟
ولكن هؤلاء الملاحدة يدعوننا إلى نبذ هذا الإصلاح الذي تخضع له أنفس
المؤمنين سرًّا وجهرًا متى علموه وتربوا عليه، وإلى تقليد البلاشفة وأمثالهم من
ملاحدة الإفرنج وممن سرت إليهم عدواهم وهم يئنون منها، ويود حزب تجديد
الإلحاد والإباحة لو يزجوننا فيها.
مع هذا كله نرى السواد الأعظم من شعوب أوربة كلها يخضعون لغير
المعقول من الدين مما ليس له نظير في الإسلام كالتثليث وألوهية المسيح واستحالة
الخبز والخمر إلى لحمه ودمه حقيقة لا مجازًا، بل يخضع الملايين منهم للخرافات
الوهمية باسم الدين كالعين المقدسة التي يزعمون أنها تشفي المرضى في فرنسة.
نعم إن هذه العقائد وأمثالها كانت سببًا لكثرة الإلحاد في أوربة، ولرواج
الأفكار المادية التي أفسدت الأخلاق، وقوَّضت أركان الفضائل حتى في المتدينين،
كما كان سلطان البابوات الشديد الوطأة على العقول والأبدان والحكام سببًا لما نجم
في القرون الوسطى من قرون الإلحاد، ولحدوث ما يسمى مذهب الإصلاح، وقد
بلغ طغيان الأفكار المادية والإسراف في الشهوات البدنية حدهما الأقصى في أثناء
حرب المدنية الأخيرة وبعدها، ثم طفق الناس هناك يتلمسون هداية الدين للخروج
من هذه الفوضى التي دمرت تلك القيصرية الروسية الواسعة بالحكم البلشفي أو
كادت، فالحكومة البلشفية هي الدولة الوحيدة التي تُكره الشعوب المقهورة بقوتها
على ترك أديانهم، وإباحة الفجور لنسائهم ورجالهم، وقطع أسلاك عقود الزوجية،
ونثر ما كان يجمعه نظامها من أفراد الأسرة، وجعل القول للمرأة فيمن تلصق به
ولدها، فالقانون البلشفي يجبر كل رجل على نفقة من تلصقه به من أولادها [1]
فعظمت الخطوب، وتفاقمت الكروب، واستشرى الفساد، وخرب كثير من البلاد،
وهلك الملايين من العباد، وحل الرعب في كبريات الدول، أن تسري إلى شعوبها
عدوى هذا الخلل، وصارت كل حكومة من حكومات الأرض تضرب الحَجْرَ
السياسي لمنع هؤلاء الناس من دخول بلادها، وتخشى من عاقبة تفلت أحدهم أشد
مما تخشى من المصاب بأشد الأمراض الوبائية أن يندس فيها، إذ لا عاصم من
عدواها إلا الاعتصام بالدين، وقد كادت تنقسم عروته بالفوضى الأدبية، وشعر
العلماء والحكماء وكذا الحكام بوجوب تجديد هدايته، وطفقوا يؤلفون الجمعيات
ويصنفون الكتب في ذلك، وقد ذهبوا فيه خمسة مذاهب: مذهب العصريين،
ومذهب الأصوليين، ومذهب الروحانيين، ومذهب العلم المسيحي، ومذهب
الكاثولوكية البابوية.
يجد القارئ بيان هذه المذاهب في الجزء الثالث من مجلد المنار الثلاثين (أي
مجلد هذا العام الهجري) وإنما نقول بالإجمال: إن العصريين يرجحون استقلال
العقل في العقائد ويلتزمون تعاليم الكنيسة في الأمور الأدبية والمواعظ، وقد كثروا
بعد الحرب في بلاد الإنكليز، وأما الأصوليون فيرجعون في الدين إلى عقائد أهل
القرن السابع عشر وهو التسليم والإذعان لنصوص التوراة بظواهرها حتى
التاريخية، ورد كل ما يخالفها من أحكام العقل ومقررات العلم ولا سيما مذهب
النشوء والارتقاء، وأكثر أتباع هذا المذهب في الولايات المتحدة، وأما الكتب التي
يؤلفونها فمنها ما هو مدح في الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها ما
هو في التنفير عنه خوفًا من انتشاره، ومنها ما هو نفي لألوهية المسيح، وتفصيل
هذا كله في المنار.
أَفَلَسْنَا نحن المسلمين أحق وأجدر باتباع نصوص ديننا القطعية، وكلها موافقة
للعقل والعلم والمصلحة، وباتباع الراجح من نصوصه الظنية الاجتهادية أيضًا،
وهي واقية لنا من مفاسد البلشفية، ونزعات المادية، ومفاسد الإباحية، وحافظة
لصحتنا الجسدية، وفضائلنا النفسية؟
أوليست مصر أولى البلاد الإسلامية بالاعتصام بهذا الدين القويم من سائر
الأقطار الإسلامية؛ لأن لها فيه من الفوائد والمصالح الدينية والأدبية والسياسية
والاقتصادية ما ليس لغيرها؟
بلى، إن مصر مرشحة بل مرجحة بعد سقوط الدولة العثمانية لزعامة العالم
الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وهؤلاء الملاحدة يريدون حرمانها من هذه
الزعامة بما يبثون فيها من دعاية الإلحاد الذي يضرها ولا يفيد إلا الأجانب
الطامعين فيها.
بلى، إن مصر كانت مع وجود الدولة العثمانية زعيمة الأمة العربية في لغتها
وعلومها الأدبية والدينية، وهؤلاء الملاحدة يريدون إسقاطها من هذه الزعامة
بالطعن في اللغة العربية، والآداب العربية، والثقافة العربية، والمدنية العربية
والديانة العربية، ويحاولون أن يبتدعوا لها ثقافة أوربية ومدنية فرعونية، ولو كان
للفراعنة لغة حية مدونة لقلدوا الترك بوجوب استبدالها باللغة العربية، وتحريم تعلم
اللغة العربية! فانظروا أيها المسلمون الغافلون فيما يريده منكم هؤلاء الملحدون
الإباحيون، وما يظاهرهم به إخوانهم المنافقون {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء: 89) {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ
أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) وإن حزب الله هم
المفلحون.
***
حكم الله في المساواة بين الرجال والنساء
- 8 -
أبدأ هذا الرد التفصيلي بالكلام العام في موضوع المساواة الذي فسرت به الآية
الكريمة التي ذكرتها في المقالة السابقة، وقد كنت نشرته في الجزء العاشر من مجلد
المنار الثامن الذي صدر في جمادى الأولى سنة 1323 (يوليو1905) أي قبل أن
تُخلق الآنسة هانم محمد، وقبل أن يصير محمود عزمي كاتبًا، وهذا نصه نقلاً عن
الجزء الثاني من التفسير مع اختصار قليل، قال تعالى:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:
228) .
هذه كلمة جليلة جدًّا جمعت على إيجازها ما لا يؤدَّى بالتفصيل إلا في سفر
كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرًا
واحدًا عبر عنه بقوله:] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34) الآية، وقد أحال في معرفة ما لهن
وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم، وما
يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة
تعطي الرجل ميزانًا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال، فإذا هَمَّ
بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس
رضي الله عنهما: (إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية) .
وليس المراد بالمثل المثل لأعيان الأشياء؛ وإنما أراد أن الحقوق بينهما
متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا للرجل عمل يقابله لها،
إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق
والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلاًّ
منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره
ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدًا
يستذله ويستخدمه في مصالحه، لا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة
المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.
قال الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه: هذه الدرجة التي رُفع النساء إليها لم
يرفعهن إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم
قبل الإسلام ولا بعده، وهذه الأمم الأوربية التي كان مِن تَقَدُّمها في الحضارة
والمدنية أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم
والفنون - لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها، ولا تزال قوانين
بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها.
وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة
عشر قرنًا ونصف، وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في
كل شيء، كما كن في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالاً، ونحن لا نقول إن
الدين المسيحي أمرهم بذلك؛ لأننا نعتقد أن تعليم السيد المسيح لم يخلص إليهم كاملاً
سالمًا من الإضافات والبدع، ومن المعروف أن ما كانوا عليه من الدين لم يُرَقِّ
المرأة؛ وإنما كان ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي.
وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن
النساء يفخرون علينا، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء، ويزعم الجاهلون
منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا.
ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن أحد السائحين من الإفرنج زاره في الأزهر
وبينا هما ماران في المسجد رأى الإفرنجي بنتًا مارة فيه فبهت وقال ما هذا؟ أنثى
تدخل الجامع! ! فقال له الإمام: وما وجه الغرابة في ذلك؟ قال: إننا نعتقد أن
الإسلام قرر أن النساء ليس لهن أرواح، وليس عليهن عبادة فبين له غلطه وفسَّر له
الآيات فيهن، قال: فانظروا كيف صرنا حجة على ديننا، وإلى جهل هؤلاء الناس
بالإسلام حتى مثل هذا الرجل الذي هو رئيس لجمعية كبيرة فما بالكم بعامتهم؟
إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهن إلا ما ميزهم به من
الرياسة، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكِّنهن من
القيام بما يجب عليهن، ويجعل لهن في النفوس احترامًا يعين على القيام بحقوقهن
ويسهل طريقه، فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدبًا عالمًا بما يجب عليه
عاملاً به، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه، وإذا بدرت منه بادرة في حقه رجع
على نفسه باللائمة فكان ذلك زاجرًا له عن مثلها.
خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات
والمعاملات، كما خاطب الرجال، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن،
وقرن أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم
المؤمنات كما بايع المؤمنين، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم، وأجمعت
الأمة على ما مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا
والآخرة، أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات
والحقوق لربهن ولبعولتهن ولأولادهن ولذي القربى وللأمة والملة؟
العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه؛ إذ يستحيل أن تتوجه
إلى المجهول المطلق، والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببًا
للعناية بفعله والتوقي من إهماله، فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات
والحقوق مع الجهل بها إجمالاً وتفصيلاً؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة
نصفها كالبهائهم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا للناس؟ والنصف الآخر
قريب من ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلا قليلاً مما يجب عليه من ذلك، ويترك الباقي ومنه
إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه أو إلزامه إياه بما له عليه من
السلطة والرياسة.
إن ما يجب أن تعلمه المرأة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود؛ ولكن ما
يُطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات-
إن كانت في بيت غنى ونعمة - يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، كما
يختلف بحسب ذلك الواجب على الرجال، ألا ترى الفقهاء يوجبون على الرجال
النفقة والسكنى والخدمة اللائقة بحال المرأة؟ ألا ترى أن فروض الكفايات قد
اتسعت دائرتها، فبعد أن كان اتخاذ السيوف والرماح والقسي كافيًا في الدفاع عن
الحوزة صار هذا الدفاع متوقفًا على المدافع والبنادق والبوارج، وعلى علوم كثيرة
صارت واجبة اليوم، ولم تكن واجبة ولا موجودة بالأمس؟ ألم تر أن تمريض
المرضى ومداواة الجرحى كان يسيرًا على النساء في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم وعصر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم، وقد صار الآن متوقفًا على تعلم فنون
متعددة وتربية خاصة؟ أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام؟ أتمريض المرأة
لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع على عورته، وتكتشف مخبآت
بيته؟ وهل يتيسر للمرأة أن تمرض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون
الصحة وبأسماء الأدوية؟
نعم يتيسر لكثيرات قتل مرضاهن بزيادة مقادير الأدوية السامة، أو جعل
دواء مكان آخر.
(وقد ذكرنا في التفسير ههنا كلامًا للمحدثين والفقهاء في حقوق كل من
الزوجين على الآخر، كقول الأكثرين إن المرأة لا يجب عليها للرجل غير الطاعة
في نفسها دون خدمة الدار، ورده بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بنته فاطمة بخدمة
البيت، وبأمر علي بما كان في خارجه، وجزم بعض المحققين من الحنابلة أن ذلك
يرجع إلى عرف الناس، ثم قلنا) .
وما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم بين بنته وربيبه وصهره (عليهما
السلام) هو ما تقضي به فطرة الله تعالى، وهو توزيع الأعمال بين الزوجين:
على المرأة تدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب
خارجه، وهذا هو المماثلة بين الزوجين في الجملة، وهو لا ينافي استعانة كل
منهما بالخدم والأُجراء عند الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، ولا مساعدة كل منهما
للآخر في عمله أحيانًا إذا كانت هناك ضرورة، ورأوا ذلك هو الأصل والتقسيم
الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس، وهم لا يستغنون في ذلك ولا في غيره عن
التعاون {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (المائدة: 2) وما قاله
الشيخ تقي الدين وما بيَّنه في الإنصاف من الرجوع إلى العرف لا يعدو ما في الآية
الشريفة قيد شعرة.
وإذا أردت أن تعرف مسافة البعد بين ما يعمل أكثر المسلمين وما يعتقدون من
شريعتهم، فانظر في معاملتهم لنسائهم تجدهم يظلمونهن بقدر الاستطاعة لا يصد
أحدهم عن ظلم امرأته إلا العجز، ويحملونهن ما لا يحملنه إلا بالتكلف والجهد،
ويكثرون الشكوى من تقصيرهن، ولئن سألتهم عن اعتقادهم فيما يجب لهم عليهن
ليقولن كما يقول أكثر فقهائهم إنه لا يجب لنا عليهن خدمة ولا طبخ ولا غسل ولا
كنس ولا فرش ولا إرضاع طفل ولا تربية ولد ولا إشراف على الخدم الذين
نستأجرهم لذلك، إن يجب عليهن إلا المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع،
وهذان الأمران عدميان، أي عدم الخروج من المنزل بغير إذن، وعدم المعارضة
بالاستمتاع، فالمعنى أنه لا يجب عليهن للرجال عمل قط، بل ولا للأولاد مع
وجود آبائهم.
وأما قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) فهو يوجب
على المرأة شيئًا، وعلى الرجل أشياء، ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة
والقيام على المصالح المفسَّرة بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ
اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) فالحياة الزوجية
حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس؛ لأن المجتمعين لا بد أن تختلف
آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس
يُرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كل على ضد الآخر، فتنفصم عروة الوحدة
الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على
التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعًا بحماية المرأة والنفقة عليها،
وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف ... إلخ.
انتهى ما أردنا نقله من تفسيرنا للآية.
***
مسألة المساواة في الميراث
- 9 -
أول من ابتدع الدعوة إلى المساواة بين الذكران والإناث في الإرث وغيره
شاب قبطي اسمه سلامة موسى اشتهر عنه شدة البغض والشنآن للإسلام وللعرب؛
لأنهم فتحوا بلاده وجعلوها إسلامية عربية، وكان يفضل على ذلك أن تظل خاضعة
للرومان المسيحيين على ظلمهم لقومه القبط، وما هو معلوم بالتواتر من عدل العرب
فيهم الذي لولاه لم يدخلوا في الإسلام أفواجًا بمحض اختيارهم حتى كان هذا سببًا
لتبرم بعض عمال المسلمين بذلك وشكواه منه للخليفة الأموي العادل عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه بتقليله مال الجزية فأجابه عمر بتلك الكلمة المأثورة التي
تشبه كلمات جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي (أن محمدًا صلى الله
عليه وسلم بُعث هاديًا ولم يبعث جابيًا) فلهذا البغض والشنآن للعرب والإسلام -
ولسبب آخر يتعلق بالمبشرين كما يقال - أخذ سلامة موسى عهدًا على نفسه أن
يطعن فيهما، وينفر مسلمي مصر ويصدهم عنهما، بالدعوة إلى الإلحاد تارة وإلى
الاندغام في الإنكليز تارة، وآخر ما رأيناه له دعوتهم إلى دين البابية البهائية الذين
جعلوا أساس دينهم القول بألوهية بهاء الله المدفون في عكا، وعبادته، وغرضه من
هذا تحويل المسلمين عن الإسلام، ولو إلى عبادة الشيطان، وقد راجت دعايته
الإلحادية عند بعض الملاحدة من المسلمين بعنوان التجديد فشايعوه عليها عدة
سنين [2] ؛ ولكننا نراهم في هذه الأيام قد شعروا أنهم مخطئون خاطئون، إلا قليلاً
منهم لا يزالون مخدوعين.
منذ سنتين ألقى سلامة أفندي موسى محاضرة في جمعية الشبان المسيحيين!
بدعوى وجوب مساواة المرأة للرجل في الإرث أينما كان مصدره بناءً على أن
الإسلام ظلمها بتفضيل الرجل عليها، ثم تمكَّن من نشر هذه الدعاية الباطلة في
مجلة الرابطة الشرقية في العام الماضي حتى اضطر رئيس الجمعية إلى الرد عليه
فيها، وكاد هو وأمثاله يُحْدِثون في الجمعية شقاقًا يقضي عليها، وقد ردَّ عليه
كثيرون في ذلك الوقت وأخلفت ظنه (جمعية الاتحاد النسوي المصري) إذ حاول
إغواءها بإغرائها بالمطالبة بهذه المساواة فكتبت هدى شعراوي هانم يومئذ ردًّا عليه
نشرته في الجرائد صرَّحتْ فيه بأنه ليس من موضوع هذه النهضة النسائية الخروج
عن الشريعة أو عليها بتغيير أحكام الإرث في الإسلام.
ثم إن محمود عزمي أفندي من زملائه أعاد هذه الدعاية في مناظرته لنا في
كلية الحقوق من الجامعة المصرية، واستند فيها إلى شبهات عاطلة، ودعاوى
باطلة، بيَّنا فسادها هنالك بالبرهان، وأيَّدنا فيها الرأي الإسلامي العام، وأنكر
الأمير عمر طوسون باشا الشهير على الحكومة السماح للملاحدة بمثل هذا الجهر في
الطعن على الإسلام والدعوة إلى ترك نصوصه القطعية في مدارسها الرسمية وهي
حكومة إسلامية، وكتب بذلك إلى سعادة وزير المعارف وهو وزير متدين ولله الحمد،
لا يسمح بما كان يسمح به غيره من قبل.
بيد أننا رأينا بعد هذا كله قبطيًّا آخر كاثوليكيًّا يقدِّس نصوص الكتب السماوية
سواء أكانت معقولة أم غير معقولة، وهو لم يشتهر بالإلحاد، ولم نعرف عنه قبل
اليوم طعنًا في الإسلام، قام يعزز سلامة موسى ومحمود عزمي في الغلو في مسألة
مساواة النساء للرجل، فجهر بمسألة وجوب مساواة الميراث في محاضرة ألقاها في
الجامعة الأميركانية التبشيرية محتميًا بما لها من الامتيازات الأجنبية، فكان أشد
قذعًا وفحشًا في الطعن على الإسلام وعلى المتدينين به، واستهزاء بمن أنكر حق
النساء في هذه المساواة منهم من أمير ووزير وعالم نحرير (وهو الدكتور فرج
ميخائيل) .
ولم يكتف بالجهر بهذا السوء باللسان، بل طبعه لتعميم الدعاية في البلاد، قد
بدهه بعض الشبان المسلمين بالإنكار في وجهه عند التصريح بهذه المسألة، ثم ذهب
أفراد منهم إلى مكاتب جميع الجرائد اليومية فأخبروها بما كان، ومنهم من كتب
إليها بالرد والإنكار، فأجمعت على استقباح ذلك واستفظاعه، ثم دعته النيابة العامة
للتحقيق معه تمهيدًا للحكم عليه بما يستحقه جرمه، وكانت فعلته داعية لسؤال بعض
نواب الأمة حكومتها في المجلس: ماذا فعلت في مقاومة هذا الهجوم على دين الأمة
وحكومتها، الذي يخشى أن يكون موقدًا لنار الشقاق الديني فيها؟
إننا ندع هذا المتهور وشأنه مع الحكومة، فلا نتصدى للبحث في العقاب
القانوني الذي يستحقه، ونختص بكلامنا ما يجب علينا شرعًا من الدفاع عن ديننا
في جملته، وتحذير المسلمين من دسائس الطاعنين به، ومن تفنيد شبهاتهم على ما
يدعون من ظلم الإسلام للنساء في هذه المسألة وغيرها.
أول ما أقوله في الواجب الأول: إن أمر الدين ليس كأمر القوانين والعرف
القومي في جواز وضع نصوصه موضع البحث والنظر لنترك ما لا نستحسنه منها
ونُبقي ما نستحسنه، بل مقتضى الدين عند جميع الأمم أن يخضعوا ويدينوا لله
تعالى بقبول كل ما هو قطعي منه كما هو، سواء أدركوا وجه حسنه ومنفعته أم لا،
فشأنهم فيه كشأن المريض مع الطبيب النطاسي الماهر يقبل قوله في مرضه وما
يصف له من الدواء من غير أن يقيم له الدلائل والبراهين على فائدة الطب وعلى
وجوب جعل الدواء مركبًا من أجزاء معدودة، على نسب بينها محدودة، هذا مع
القطع بأن الأطباء كثيرًا ما يجهلون حقيقة المرض، وكثيرًا ما يُخطئون في وصف
الدواء له، وأن طبيب الأرواح والاجتماع بهداية الدين وأصول الشرع هو الله
المنزَّه عن الجهل والخطأ، وإنما يجوز للناس أن ينظروا في أدلة الأحكام الدينية
للتمييز بين القطعي منها وغير القطعي وعن حكمة التشريع والمصلحة التي أناط بها
الشارع الحكم.
حضرت منذ ثلاثين سنة ونيف مجلسًا من أرقى مجالس أركان النابغين من
هذه الأمة في دار المرحوم سعد باشا زغلول في حي الظاهر كان منهم أحمد فتحي
زغلول وقاسم أمين، وكان واسطة عقدهم الأستاذ الإمام رحمهم الله أجمعين، وبقي
من الأحياء الذين حضروا تلك الجلسة الشيخ محمد زيد بك الفقيه المشهور، دارت
المذاكرة بينهم كعادتهم في الأحكام الفقهية والقانونية والمقابلة بينها وما ينتقد منها،
فجرى على لسان أحدهم التمثيل بمسألة الربا، فقال المرحوم قاسم أمين: هذه
المسألة منصوصة في القرآن الكريم، فيجب علينا أن نأخذها قضية مسلَّمة بدون
بحث وإلا كنا غير مسلمين؛ وإنما نبحث في الأحكام الشرعية الراجعة إلى اجتهاد
المجتهدين، فوافق الجميع على قوله هذا.
وللفيلسوف ابن رشد حكيم الإسلام في الأندلس الذي كانت فلسفته من أعظم
أسباب نهضة أوربا العلمية كلمة في هذا الموضوع، وهي أن الفيلسوف لا يستبيح
لنفسه جعل الدين موضع بحث ونظر في قبوله، والحاجة إلى الاهتداء به أم لا؟
(أو قال كلمة بهذا المعنى) وعلل ذلك بقوله: لأن هذا بمعنى التشكيك في الفضيلة
هل هي حاجة من حاج البشر أم لا؟
وسأبين تفنيد ما زعمه عزمي من جواز ترك جميع أحكام الإسلام الدنيوية
ومنها الإرث واستبدال غيرها إذا ظهر بمقتضى تغير أحوال الزمان والمكانة عدم
صلاحيتها، وأفصِّل ما أجملته في الجامعة من انقسام نصوص الدين إلى قطعي
الرواية والدلالة لا مجال للاجتهاد فيه، وما هو غير قطعي فيجوز الاجتهاد فيه،
وما يبيح ترك كل منهما بإذن الشارع من اضطرار وغيره وحكمة هذا التقسيم
ومصلحة المكلفين فيه.
وإنما أقول هنا بالاختصار: إن مثل هؤلاء الثلاثة الجاهلين بنصوص الإسلام
ومعانيها وأصولها وحكمها، والكافرين بكتابه ورسوله، ليسوا أهلاً لأن يأخذ
المسلمون بآرائهم وأقوالهم في شيء مما ذكر، حتى أن ما يتعلق من ذلك برأي
الأطباء كالمرض المبيح للفطر في رمضان، وترك استعمال الماء في الوضوء
والغسل، والاضطرار المبيح لأكل المحرَّم أو شربه - لا يجوز الأخذ فيه بقول مثل
الطبيب فخري ميخائيل في تعصبه وظهور تحامله على الإسلام وإهانته للمسلمين.
وما جرَّأ هؤلاء على هذا العدوان واحتقار المسلمين وحكومتهم معًا إلا
الإسراف في حرية الإلحاد والفسق في هذه العاصمة الذي لا نظير له في أوربا ولا
أمريكة حتى صاروا يعتقدون أن المسلمين لم يبق عندهم مسكة من الغيرة الدينية
والحمية الملية، وهو يعلمون أنه لا يستطيع أحد في مدرسة من مدارس أوربا أن
يجاهر بالطعن في الإنجيل ولا في التوراة من الجهة التي يؤمن النصارى بها، وقد
بلغ من تعصب طلبة العلم في الولايات المتحدة أن أقاموا النكير على أستاذ مدرسة
قرر فيها نظرية دارون المشهورة المخالفة للتوراة حتى اضطرت حكومة تلك الولاية
إلى إخراج الأستاذ من المدرسة، وتحريم تقرير هذه النظرية في مدارسها كلها.
إنني لا أعقل أن تكون هذه المسألة التي اضطرب المسلمون كلهم لها (مسألة
الإرث) هي المقصودة بالذات من هذه الدعاية، ولا أن المقصود بالذات إعطاء
النساء ما يعتقد هؤلاء الدعاة أنه حق لهن حبًّا بالعدل وكراهة للظلم، ولا أعقل أنهم
يعتقدون أن استحسانهم لهذه المساواة واستقباحهم لما هي مخالفة له من حكم الله يقنع
المسلمين أمة وحكومة برفع هذا الظلم المزعوم، وتقرير ذلك العدل الموهوم، كيف
وهم يَدُعُّون النساء دعًّا إلى مهاوي الهلكة لهن ولبيوتهن (عائلاتهن) .
وإنما المقصود بالذات صدهم للمسلمين عن الإسلام نفسه وتحويلهم عنه
بإبطال ثقتهم به وغيرتهم عليه، وتقطيع الروابط التي تربطهم بالأمة العربية
العظيمة، وفصم عروة الجامعة التي تضم إليهم 350 مليونًا من البشر لا يرون
لملتهم زعيمًا بعد الدولة العثمانية أولى من مصر، ولا يخفى ما وراء ذلك وما
يلزمه من الفوائد لهم ولمن يستخدمهم.
وما أطمعهم في هذه الأمنية إلا إخوانهم من ملاحدة المسلمين الذين كانوا أجرأ
منهم وأسبق إلى الجهر العريان بالطعن في الثقافة الإسلامية والحضارة العربية
والآداب العربية كما تقدم في مقال سابق، وإلا ما علموا من حرمان النشء
الإسلامي الحديث من التعليم الإسلامي والتربية الإسلامية في البيوت والمدارس معًا،
وما يشاهدون من ثورة النساء وخروجهن إلى الإباحة لا إلى التبرج فقط، فأرادوا
أن يجعلوا جندهم في تجديد الإلحاد من الشبان والنساء، ولذلك يكثرون اللهج بالثقة
بهما.
والدليل على أن هذا غرضهم ما صرحوا به في الاستدلال على وجوب قبول
المساواة بين المرأة والرجل في الميراث، وهو أن المسلمين قبلوا ورضوا بترك
حكومتهم لإقامة حدود القرآن على السارقين والزناة، وبحكم المحاكم الأهلية في
الدماء والأموال وترك حكم الشريعة، فلماذا لا يرضون إذًا بترك أحكام الإسلام في
الأمور الشخصية؟ وأما أحكام العبادات فهم يشاهدون درجة التهاون بها، ولا
يشكون بقرب زوالها.
وقد فنَّدت هذا القياس الشيطاني الفاسد في محاضرتي الأخيرة في الجمعية
الجغرافية الملكية من بضعة وجوه، وضربت له مَثَلَ مَن قصَّر في حفظ ماله
وصيانته لغصب بعضه ولم يسع لرده، فقيل له إنك عرضت بعض مالك للزوال
فيجب عليك أن تعرض الباقي حتى تبقى معدمًا! !
وسأذكر في الفصل الآتي تلك الأدلة، بل الشبهات التي أوردها كل من عزمي
وفخري مع تفنيدها وأحذف ذلك من المحاضرة.
***
تفنيد شبهات المساواة في الميراث
- 10 -
إن لنا في الكلام في هذه المسألة مسلكين (أحدهما) ما هوَّن به دعاة الإلحاد
على المسلمين ترك حكم الله في المسألة (وثانيهما) ما يرجحون به حكمهم على
حكم الله عز وجل، ويحتجون به على تفضيله عليه، مع علمهم بأن أعظم شعوب
أوربة وأعدلها في نظرهم وعرفهم - كالدولة البريطانية - لا تورث النساء ألبتة،
ومن هؤلاء الملاحدة من دعا أهل هذه البلاد إلى تسليم أمرهم إليها، وترك قوميتهم
إلى قوميتها، ووطنيتهم إلى وطنيتها.
أما المسلك الأول فإننا نبدأ القول فيه بتفنيد ما زعمه عزمي أفندي من أن
بعض علماء المسلمين قال إنه يجوز لهم ترك جميع أحكام الشريعة الدنيوية حتى
الثابت منها بالنصوص القطعية إلى ما يرونه خيرًا منها؛ لأنها أحكام تختلف
المصلحة فيها باختلاف الزمان [3] ومنها الأحكام المالية كالميراث وغيره؛ وإنما
الذي يجب المحافظة عليه أحكام العبادات فقط، ثم نفنِّد ما اشترك فيه معه غيره
كالدكتور فخري ميخائيل فرج، فنقول:
تفنيد دعوى كون الأحكام الدنيوية في الإسلام اختيارية
إن هذا الزعم الذي جهر به عزمي في مجلس المناظرة لم يقل به عالم من
علماء المسلمين المتقدمين ولا المتأخرين، ولا يتجرأ عليه إلا بعض الزنادقة الذين
لا يبالون ما يقولون، فإنه مخالف لنصوص الكتاب والسنة وللإجماع والقياس،
فالقول به كفر صريح يعد صاحبه به مرتدًّا عن الإسلام بالإجماع.
لا فرق عند علماء المسلمين بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات في أدلة
ثبوتها ووجوب العمل بها، إلا ما يقوله بعض أئمتهم من أن مدار ثبوت العبادات
كالتحريم الديني على نصوص الكتاب والسنة دون الرأي والاجتهاد؛ وإنما يختص
الاجتهاد بصفة العمل بها كالاجتهاد في القبلة مثلاً - ومن أن المعاملات المالية
والسياسية وغيرها هي التي فوَّض الشارع إلى الأمة الاجتهاد فيها واستنباط الأحكام
للمصالح التي لا نص له فيها، ومن القواعد المسلَّمة عند جميع الفقهاء أنه لا اجتهاد
في مورد النص، وعلماء القوانين الوضعية يوافقون علماء الشرع على أن الاجتهاد
المخالف لنص القانون باطل؛ وإنما محله تفسير القانون وتطبيقه على القضايا،
وفي هذه المسائل تفصيل يتوقف بيانه على ذكر مذهب الظاهرية، ومذهب أهل
الرأي، ومذهب فقهاء الحديث، وليس هذا المقام بالذي يتسع لهذا كله ولا بالذي
يقتضيه، وحسبنا أن نفنِّد ذلك الزعم الإلحادي بإثبات الإجماع الذي لا نزاع فيه
على أن نصوص الشارع القطعية الرواية والدلالة تجب المحافظة عليها، ولا يجوز
رد شيء منها، ولا تركه بدون عذر شرعي. وإن من جحد شيئًا منها عالمًا به فهو
مرتد عن الإسلام خارج من الملة.
وأما ما كان غير قطعي الرواية أو غير قطعي الدلالة فهو محل للاجتهاد عند
من كان أهلاً له من العلماء، وقد ضربت له المثل في مجلس المناظرة بآية البقرة
في تحريم الخمر والميسر وهي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) فإنها تدل
على التحريم دلالة ظنية راجحة؛ ولكنها غير قطعية، والحكم في مثلها أن من فهم
منها الدلالة على التحريم وجب عليه العمل بمقتضى فهمه كما وقع من بعض
الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم تركوا الخمر والميسر عقب نزولها، وبقي بعضهم
يشرب الخمر ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك؛ لأنه اجتهاد في
موضعه، حتى إذا ما نزل النص القطعي الدلالة على التحريم في آيات سورة
المائدة أهرق الصحابة كلهم ما كان عندهم من الخمر حتى صارت تجري كالسيل
في شوارع المدينة، وصار النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب من ثبت عليه شربها.
هذا حكم المسائل الظنية التي يجوز فيها الاجتهاد، أعني حكمها في حق
الأفراد من الناس، وأما ما كان منها متعلقًا بالمصالح العامة والحقوق، فإذا ثبت
منها شيء عند أولي الأمر وأمر به الإمام وجبت طاعته فيه، فلا يجوز لأحد أن
يخالف الحكومة في أمور المصالح العامة ولا في الحقوق عملاً باجتهاده.
ومسألة الميراث التي هي موضوع مناظرتنا مع الملاحدة وبعض النصارى
المعتدين على ديننا من المسائل القطعية الرواية والدلالة، أما الرواية فهي آيات
القرآن وكلها متواترة قطعية بغير خلاف، وأما دلالتها على ما ذكر فهي قطعية
أيضًا لأنها لا تحتمل في لغة القرآن معنى غير المعنى المتبادر منها، ولا يشتبه في
هذا أحد له أدنى إلمام بهذه اللغة، وأولها قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) ويلي هذا النصوص في الإخوة
والأخوات والأزواج وكلها صريحة قطعية؛ وإنما يوجد في مسائل الإرث قليل من
الأحكام الاجتهادية الأخرى.
والدليل من نص القرآن على أن أحكام الإرث محكمة لا اختيار لأحد في
تركها، وأن الله تعالى يعاقب من عصى أمره فيها يوم القيامة ويثيب من أطاعه
قوله عز وجل عقبها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: 13-14) .
فأي مسلم يؤمن بالله وكتابه وبرسوله يرضى بأن يعرِّض نفسه للحرمان من
ذلك الفوز العظيم بمثوبة الله بتلك الجنات الخالدة الدائمة، ولصلي تلك النار الخالدة
والعذاب المهين فيها، بإيثاره للنظريات الفاسدة التي يدعوه إليها أفراد من الملاحدة
والقبط المساعدين لدعاة النصرانية (المبشرين) على إفساد عقائد المسلمين
وتحويلهم عن شريعتهم، ليسهل عليهم استعباد الأجانب لهم؟ .
حسبنا في المسلك الأول هذا التفنيد الموجز لزعم عزمي أنه يوجد في علماء
المسلمين من يبيح لهم ترك ما شرعه الله تعالى من أحكام المعاملات الدنيوية المالية
والشخصية والسياسية، وهو ما صرَّح به إلا لأن هؤلاء الملاحدة يبغون غش
الصحيحي العقيدة من المسلمين وخداعهم لهدم الإسلام كله؛ فإنهم إذا تركوا قسم
الأحكام المذكورة من شريعتهم يسهل عليهم أن يكون جميع حكامهم من الملاحدة
والإفرنج، فلا يبقى للإسلام حكومة في هذه الأرض، فيكونون كاليهود بل أذل؛
فإن اليهود استعاضوا عن عزة الملك بعزة الثروة التي لها الشأن الأكبر في إدارة
أمور الدنيا، على أنهم على قلتهم وتفرقهم لا يزالون يسعون لإعادة ملكهم، فإن كان
أكثر الناس يجهلون سعيهم فقد ذكرتهم به ثورة فلسطين الأخيرة، وهم يعتقدون أن
إقامة دينهم لا تتم بدون ملك؛ لأنه دين تشريع وحكم، والمسلمون أحق منهم بهذا
الاعتقاد. وإن أكبر الجهاد الذي يجاهدهم به أعداء دينهم موجه إلى هدم سيادته
الحكمية التشريعية، وهم يعلمون أن القسم التعبدي الروحي لا يلبث بعد ذلك أن
يزول معظمه، ويبقى قاصرًا على عدد قليل في كل بلد أو قطر.
هذا ما انفرد به عزمي بوحي شيطاني من أحد أركان حزبه، وأما ما اتفق
عليه عزمي وفخري فهو محاولة إقناع المسلمين بترك أحكام دينهم في الميراث وكذا
في الطلاق وغيره من أحكام الزوجية بقياسه على ترك الحكومة المصرية لإقامة
الحدود الشرعية وغيرها من أحكام العقوبات والمعاملات المدنية.
والفرق بين هذا وما قبله في إيذاء المسلمين واحتقارهم أن هذا دعوة لهم إلى
ترك ما يؤمنون بأنه من أحكام الله التي وعد من أطاعه فيها بسعادة الدنيا والآخرة،
وأوعد من عصاه فيها بالعذاب المهين، أي إلى نبذ عقيدتهم، وتوطين أنفسهم على
سخط ربهم وغضبه وعقابه بدعوى أنه لا مندوحة لهم في هذا العصر عن ذلك،
فهذا احتقار لهم وسخرية منهم ما بعدها غاية في الإيذاء المعنوي؛ وإننا قد اطلعنا
على كثير مما كتبه أعداء الإسلام والمسلمين في الدين والسياسة فلم نرهم على
تعصبهم وتشويههم لمحاسن الإسلام يدعون أن تفضيل الذكور على الإناث في
شريعته كان سببًا من أسباب ضعفهم المدني أو الاجتماعي، بل هذا مما انفرد به
هذان القبطيان وأعوانهما من ملاحدة مصر.
وأما ما قبله فهو خداع يتضمن رمي مسلمي مصر بالجهل بدينهم، وأنهم بلغوا
من ذلك ما يؤهل مثل عزمي في مجاهرته بالإلحاد بل التعطيل التام، لأن يقبل قوله
في الصد عن أكمل هذه الأديان، وأقواها حجة وأعظمها أثرًا في الحضارة
والعمران، ويصدق بأن بعض علماء المسلمين قال بجواز ترك أحكام القرآن
الدنيوية؛ لأنها بزعمه اختيارية.
وقد بدا لهم من هذا التهور ما لم يكونوا يحتسبون، فصاح شبان المسلمين
المتعلمين في وجوههم الصيحة بعد الصيحة في الجامعة المصرية، ثم في الجامعة
الأميركية، وكانوا يظنون أنهم جندهم الذي يدين لهم بالطاعة العمياء والتقليد لخدعة
التجديد، وتبارت أقلام الكتاب المرهفة في حلبة الصحف في تفنيدهم والإزراء بهم.
نعم غرَّ فخري ميخائيل قول راوية الأهرام في مناظرة الجامعة (أن الشباب
صفَّق لمحامي الشباب) إذ لم يقرأ أو لم يصدِّق مما كُتِبَ في الصحف عن تلك
المناظرة إلا شهادة الزور التي رواها للأهرام (أحمد الصاوي) من أنصار التجديد
الإلحادي، غرَّه هذا وصدَّقه فصرَّح في محاضرته المنكرة بأنه يعتمد على الشباب
المسلمين في مناقشة الذين يتحككون بالشريعة الإسلامية في هذه المسألة دفاعًا عن
حق المرأة - فجبهه من حضر من أولئك الشبان الأباة الضيم في وجهه، ودمغوه
بالإنكار في أثناء إلقائه لسخفه؛ ولكن كان قد طبعه ووزَّعه على الناس، وإننا ننقل
نص عبارته لأنها أوسع وأوضح من عبارة عزمي في مناظرته، ثم نقضي عليها
بتفنيدها من الوجوه التي أجملناها في محاضرتنا في قاعة الجمعية الجغرافية الملكية
كما وعدنا، وهذا نص عبارته الركيكة المعسلطة:
عبارة الدكتور فخري في المساواة في الإرث:
وإذا تحكك المدافعون عن نظرية حق البنت في الميراث؛ فإننا نتركهم
يتحككون بأحكام الشريعة في هذه المسألة، ونتركهم يصرخون ويستصرخون وزير
المعارف وغيره لحماية الإسلام كما يدَّعون، نترك عليهم المفكرين الحديثين من
شبان المسلمين يناقشونهم الحساب دفاعًا عن حق المرأة، ولكن قبل تركهم نسألهم
سؤالاً واحدًا في خشوع واحترام لأشخاصهم بغض النظر عن ادعاءاتهم:
أيها السادة: لماذا لا تطالبون بتطبيق أحكم الشريعة الإسلامية في مسائل
السرقة والزنا والقتل؟ ولماذا تُجيزون للقاضي الأهلي أن يحكم على أي واحد منا
بالإعدام ولا يحكم في مسألة نفقة شهرية؟
ولما تجيزون للقاضي الأهلي أن يحكم على أي واحد منا بتجريده من ثروته
وإعلان إفلاسه، ولا يحكم في مسألة طلاق بسيطة؟ لا تتذمرون من أن القاضي
الأهلي أصبح مختصًّا في الحكم على كل ما يتعلق بكرامتنا وبشرفنا وبأعراضنا
وبثروتنا وبحريتنا وبإعدامنا أو تخليصنا من الإعدام، وتعرضون لمجرد مناقشتنا
في مسألة بسيطة وهي حظ الأنثى في الميراث ... حقًّا ما أكثركم غيرة على الشريعة،
وما أحركم هيامًا بالدين.
(أيها السادة إن كنتم غيورين على الشريعة فنادوا - إن كنتم شجعانًا - بتطبيق
أحكام الشرع الشريف في كل شيء) .
(وأما كنتم لا تغارون على الشرع أو الدين، بل إنكم تغارون على (ميراث
العمارات والأفدنة والطين) ، فسيروا في طريقكم، ودعوا المفكرين الحديثين في
طريقهم كل يعمل بعقيدته وإيمانه، والله ولي التوفيق) اهـ.
وهذا الكلام يتضمن الطعن على جميع المسلمين بجعلهم أحدهما منافق وهو
الذي يدَّعي الغيرة على الدين والمحافظة على أحكامه، وهو فريق الشيوخ والكهول،
وغير المفكرين الحديثين من الشبان، وفريق مارق ملحد وهو فريق الشبان
المفكرين الذين هم محل أمله وأمل أمثاله في القضاء على البقية الباقية من الإسلام
اتباعًا لأهوائهم وشهواتهم، وانخداعًا بأوهامهم التجديدية، ولولا سوء اعتقاده
بغرارة هؤلاء الشبان، وانسلاخهم من كل وجدان وغيرة على شرف دينهم، لما
تجرأ على التهكم باستصراخ أمير من أكبر أمراء هذا الشعب [4] لوزير المعارف
بأن يمنع مثل هذه التصريحات المنكرة في الإسلام على مسمع من طلاب العلم في
مدارس هذه الحكومة الإسلامية.
وما كررنا هذا المعنى في كشف عوار هذه الدعاية الإلحادية إلا لتستقر في
أذهان الشبان وغيرهم، وليعرفوا قيمتهم عند هؤلاء الناس وما يريدون.
وموعدنا المقال الحادي عشر في الرد العلمي العقلي عليهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أثبت هذا كاتب أمريكاني وانتقده الأمير شكيب وسننشر انتقاده.
(2) إن جريدة السياسة قد عُنيت بنشر الدعاية الإلحادية، وسلامة موسى يصرِّح بأن عقيدته وعقيدة صديقة محمد حسين بك هيكل رئيس تحرير السياسة واحدة.
(3) قد رأينا هذا الزعم الباطل مكررًا في كتاب (السفور والحجاب) الذي نُشر في بيروت باسم الآنسة نظيرة زين الدين فردَّ عليه كثير من علماء المسلمين وكتابهم، وكان جُل ما عنوا بالرد عليه مسألة الحجاب، وهذا الزعم شر ما فيه؛ لأنه هدم لنصف الإسلام سيلزم هدم النصف الآخر.
(4) هو الأمير عمر طوسن باشا المشهور.(30/690)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
مشروع فرنسي عظيم الشأن في الحجاز
رأينا في بعض الجرائد الفرنسية أن بعض مسلمي أفريقية الفرنسية طلبوا من
الدولة الفرنسية أن تبني للحجاج منهم دارًا فرنسية كبيرة في مكة المكرمة، وأخرى
في المدينة المنورة يأوون إليهما، ويجتمعون فيهما مدة وجودهم في البلدين
المكرمين لأداء مناسك الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقت الدولة هذا
الطلب بالقبول والارتياح، وكان أول من تبرع له بالمال وزارة الحربية في باريس
تبرعت بمائة ألف فرنك.
نبأ عجيب غريب، وتبرع أعجب وأغرب، متى كان مسلمو المستعمرات
الفرنسية يعتقدون أن فرنسة تحرص على تسهيل أداء فريضة الحج لهم، وتهتم
براحتهم ورفاهتهم في سفرهم إلى الحجاز وإقامتهم فيه، وهم يرون بأعينهم
ويسمعون بآذانهم ما كانت تضعه من العواثير في سبيل أداء هذه الفريضة، وما
فعلته بأوقافهم وبتعليمهم الديني وغيره في الجزائر وما تفعله الآن في المغرب
الأقصى؟ وهل يُعقل أن يطلبوا منها أن يكونوا في البلاد المقدسة الحرة مستظلين
بعلمها وتحت مراقبة جواسيسها كما يكونون في بلادهم؟ لا يعقل بشر أن يُحبوا هذا
ويطلبوه.
ثم ما شأن وزارة الحربية الفرنسية من هذا المشروع فتتبرع له؟ أليس لأن
المرجع إليها في حفظ العَلَم الفرنسي وكرامته والدفاع عنه إذا أهين حقيقة أو ادعاء
عند الحاجة إلى هذا الادعاء، وأنه تمهيد لتدخلها في شؤون الحجاز؟
لا يرتاب عاقل في أن هذا الطلب تدبير سياسي في هذه الدولة نفَّذه لها بعض
صنائعها من المغاربة كالسي قدور بن غبرايط. وهي معذورة في السعي إلى سبق
دول أوربة كلها إلى تأسيس مكان نفوذ لها في البلاد المقدسة التي لا يبيح الإسلام
لأحد من غير المسلمين أن يملك شبرًا من أرضها، أو أن يدخلها زائرًا أو تاجرًا أو
عابر سبيل؛ ولكن يُستغرب أن يُطلب مثل هذا من الملك عبد العزيز آل سعود مع
العلم بصلابته في دينه وشجاعته وعدم إمكان التسلط على إرادته بشيء من
الترهيب أو الترغيب! لهذا نقول: إن الذين دبَّروا لفرنسة هذه المكيدة لم يحسنوا
التدبير، ولو أحسنوه لوضعوه في صورة غير مشوهة كهذه الصورة، ولأقنعوها
بأن تقدم بين يديه توددًا أمثل من التودد الذي كانوا شرعوا فيه مع الملك حسين لمثل
هذا الغرض، وهو ما حملته بعثة الحج المغربية من الهدايا.
كان من المعقول أن تمهد فرنسة بالاعتراف لحكومة الحجاز بأن سكة الحديد
الحجازية هي وقف إسلامي على مصالح الحرمين لتسهيل الحج، وأن الحق في
إدارتها واستغلالها لهذه الحكومة، وأن تقدم لها حاصل ريع ما استولت عليه منها
في سورية من عهد إدارتها له إلى اليوم، وأن تعترف لها أيضًا بحق صافي ريع
أوقاف الحرمين في تونس والجزائر والمغرب الأقصى، وتُطْلِعَهَا على حساباتها،
وتؤدي إليها ما فضل منها ولو بعد ما أنفقته على مسجد باريز.
بعد مثل هذا التودد تطلب أو تشترط على حكومة الحجاز أن تبني من ريع
هذه الأوقاف معهدًا صحيًّا لحجاج المغاربة في مكة المكرمة، وآخر في المدينة
المنورة يكون خاصًّا بهم، لا تباح الإقامة فيه لغيرهم بتقديمه عليهم إذا وُجدوا، وأن
يكون الحق في إدارته لمصلحة الأوقاف الحجازية، وحسْب فرنسة من فائدته سهولة
مراقبة حجاج المغاربة في الحجاز على من يتولون تدبير أمورهم في السفر إلى
الحجاز، واستمالتها للمسلمين بالعناية المعقولة بأمرهم. مثل هذا يُحتمل أن تقبله
الحكومة السعودية لما يظهر فيه من أمارات حسن النية، وأمن سوء العاقبة التي
عرفت من الأوربيين وسائلها ومقاصدها، ومنها أن التساهل معهم بإباحة الانتفاع
بشيء ما من بلاد الشرق يجعلونه حقًّا لهم إلى الأبد، ومن هذا القبيل ما يسمونه
بالامتيازات الأجنبية في مصر وسائر البلاد التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية
بالفعل أو تحت سيادتها، ومنه وجود قناصلهم في جدة، وأعجب منه مسألة زيارة
اليهود لجدار المسجد الأقصى المسمى بالبراق، كان تساهلاً من المسلمين ورحمة
باليهود الذين لم يرحمهم أهل ملة في الأرض غيرهم، والآن يحاولون أن يجعلوه
بنفوذ الدولة الإنكليزية حقًّا لهم، ووسيلة إلى ما هو أعظم منه.
تعليم البنات ونفقته على الوالد
تناقلت الجرائد في هذه الأيام أن أحد قضاة الشرع في مصر حكم لامرأة على
رجل بنفقة ابنته منها إلا أجرة تعليمها في المدرسة، فقد أثبت في الحكم أنها ليست
عليه شرعًا! فكان هذا الحكم مدعاة الاستغراب والقيل والقال؛ لأن تعليم البنات صار
في هذا العصر من أهم الواجبات عند جميع طبقات الناس، فترى بعضهم يقدح في
هذا القاضي، وبعضهم وهم الملاحدة يقدحون في الشرع نفسه، وكل منهما جاهل
مسيء، ولا يمكن العلم بخطأ هذا القاضي إلا من نص الحكم الذي كتبه ونطق به
فإن من تعليم البنات ما هو واجب مفروض شرعًا، ومنه ما هو فضيلة مندوب
شرعًا، ومنه ما هو محرَّم أو مكروه شرعًا، وما يدرينا لعل هذا القاضي علم أن
تلك الوالدة تعلِّم بنتها في مدارس الراهبات أو غيرها من مدارس دعاة النصرانية
التي يُلَقَّن فيها التلاميذ عقائد دين أهلها، ويُجبرون على حضور عباداته في كنيسة
المدرسة، فهل يقول مسلم يؤمن بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم: إن
التعليم في هذه المدارس شرعي يوجب الشرع نفقته على والد البنت؟ كلا إنه لا
يقول هذا إلا ملحد في الإسلام أو جاهل لعقائده وأحكامه كالذين يعلِّمون بناتهم
وأبنائهم في هذه المدارس، ولا يبالون ما تجنيه على دينهم.
وإذا بحث المسلم العالم بدينه عن كثير من مدارس البنات التي تُسمى إسلامية
يجد في تعليمها من المنكرات الشرعية ما لا يسعه القول بإباحته، وقد بلغنا أن خير
هذه المدارس في أصل وضعها وهي مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية لا يمرن
فيها البنات على صلاة الفريضة، فماذا يقال في غيرها؟
احتج بعض الجرائد على حكم هذا القاضي بحديث (طلب العلم فريضة على
كل مسلم) وزادوا فيه نقلاً عن أمثالهم من الجاهلين بالحديث (ومسلمة) وما هي
منه ولكنها مرادة كسائر نصوص الشرع العامة التي يذكر فيها (المسلمون أو
المؤمنون) من باب التغليب، فالأصل في جميع أحكام الشرع أن تكون للمؤمنين
والمؤمنات إلا ما خص بأحدهما كأحكام الحيض والنفاس الخاصة بالنساء، وأحكام
الجهاد الخاصة بالرجال مثلاً، وقد بيَّنا ذلك في مواضع آخرها مقالات (المساواة
بين الرجال والنساء) التي تنشر في جريدة كوكب الشرق، وفي المنار.
__________(30/710)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة مصر والسودان
ومشروع المعاهدة بين مصر والإنكليز
علم الإنكليز بما علمتهم ثورة مصر سنة 1919 أن قولهم: إننا ندير الأحكام في
مصر برجال - أي بآلات - من أهلها، قد بطُل وتعذر بقاؤه، فوطنوا أنفسهم على
الاعتراف باستقلال مصر المقيد بما علمنا، والاستقلال بالحكم في مملكة السودان
الشاسعة الواسعة، وطرد المصريين منها مع الاستمرار على أخذ المال الكثير من
خزينة مصر باسم السودان في كل سنة، فافترصوا الوقت المناسب لتنفيذ ذلك
فنفذوه، وأما مصر فسلكوا في معاملتها مسلك المضايقة لحكومتها في كل تصرف،
والمعارضة لما يقرره (برلمانها) حتى في الأمور الداخلية حتى رموها بالشلل،
وكان ما كان من إفضاء ذلك إلى إلغاء حكومة الدستور وتعطيل البرلمان وتأليف
وزارة محمد محمود باشا سليمان زعيم الحزب الدستوري الذي يعتمدون عليه
بمصر، وفي إثر ذلك سقطت وزارة المحافظين البريطانية المثيرة لهذه المشاغبات،
والمدبرة لهذه المضايقات، والمديرة لهذه المكايدات، وتبعها إلجاء المندوب السامي
البريطاني المنفذ ما أشرنا إليه من السياسة السوءى إلى الاستقالة من منصبه، ثم
وضع أساس الاتفاق على حل عقد المشكلة المصرية بمعاهدة تُعقد بين الحكومتين
كما بيَّنا ذلك كله في أجزاء منار هذا العام (الهجري) الثاني والثالث والرابع.
ورأى الإنكليز أن المعاهدة التي عرضوا مسائلها على محمد محمود باشا
وتراضوا معه عليها لا تكون شرعية إلا إذا وافق عليها برلمان مصري، ومن ثم
سعوا إلى تغيير الوزارة (الدكتاتورية) وإعادة الحكم الدستوري إلى مصر بعد أن
آنسوا من رئيس الوفد المصري ميلاً إلى الاتفاق معهم على هذا الأساس في الجملة،
وقد كان ذلك أمرًا مفعولاً، فتألفت وزارة مؤقتة برياسة عدلي باشا يكن لإعادة
انتخاب النواب المصريين، فكان ذلك وكانت الأكثرية العظمى في مجلس النواب
الجديد للوفد المصري وكذلك مجلس الشيوخ، ومن ثم تألفت الوزارة الدستورية
الجديدة برياسة مصطفى باشا النحاس رئيس الوفد وتلا ذلك تأليف وفد من وزارته
لمفاوضة الحكومة البريطانية في المعاهدة الجديدة على ذلك الأساس بعد الاتفاق على
ما يعرضه الوفد من التحوير والتعديل الذي أشرنا إليه في جزء المنار الرابع (ص
315 م 30) بقولنا في المشروع: (ومن الناس من يظن كما نظن أن البرلمان
الوفدي لا يرده ردًّا ولكنه يتوخى خدمة البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال،
ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما تخشى مغبته من إطلاق) وقد كتبنا هذا قبل
تأليف البرلمان الجديد.
ذهب وفد المفاوضة إلى لندن للمفاوضة، فتلقته الحكومة البريطانية بالحفاوة
والإكرام والمآدب، وكان من إكرامه مقابلة (الملك صاحب الجلالة البريطانية) له
بالمجاملة، ثم دارت المفاوضات بينه وبين حكومة العمال، وتواترت الأنباء البرقية
اليومية بأن الفريقين المتفاوضين حريصان على الاتفاق لم يظهر منهما إلا حسن
النية التي تبشر بكل خير، حتى إذا ما جاء دور البحث في السودان تصادما فيه
تصادمًا كاد يحبط كل ما تقدمه من تساهل، ويعيد مصطفى باشا النحاس بخفي
حنين كما عاد سلفه سعد باشا قبله.
ظهر للوفد المصري أن الإنكليز يريدون الانفراد بالحكم في السودان، أي
جعله بريطانيًّا محضًا لا حظ لمصر من الشركة الفعلية فيه، وأن يكون ذلك بإقرار
الوفد، وتصديق البرلمان المصري على الحالة الحاضرة فيه، ويأبون أن يكونوا
شركاء لمصر فيه بالمساواة الفعلية، وهو حق مصر وحدها وليس لهم أدنى حق
قانوني بهذه الشركة التي عقدوها سنة 1899 مع بطرس باشا غالي الذي كان وزير
الخارجية المصرية، إذ لا حق له بعقد هذه الشركة، وكان لورد كرومر أراد يومئذٍ
أن يحمل مجلس النظار المصري على عقد تلك الشركة، فكلَّم رئيسه مصطفى
فهمي باشا في ذلك فأجابه أن الفرمانات السلطانية بالاستقلال الإداري لمصر لا تبيح
للحكومة المصرية ذلك فهو حق السلطان العثماني وحده، فلما لم يمكن جعل عقد
الشركة بقرار من مجلس النظار بناء على أنه لا حق له في عقدها رضوا بما دونه،
وهو عقدها مع وزير الخارجية.
وقد قلنا في آخر الجزء الثالث (ص420 م 30) بعد بيان مشروع الاتفاق
الذي حمله محمد محمود باشا ما نصه (مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على
الإطلاق؛ لأن مصر لا حياة لها بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن،
والنيل الآتي منه بمنزلة الدم الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته) .
فأي خزي أخزى من إعطاء مصر السودان العظيم الشأن للإنكليز بصفة
رسمية تتفق عليها الحكومة والأمة الممثلة في برلمانها؟ وحرمان نفسها من هذه
المملكة العظيمة التي هي أصل وجودها ولا بقاء لها إلا بها؟
نعم إن الإنكليز مستولون على السودان بالقوة التي مكنها فيه إهمال مصر
السابق من عهد إرسال إسماعيل باشا إليه (غوردون) الإنكليزي وإعطائه حق
التصرف فيه وإعانته على ذلك بالمال؛ ولكن هذا الاستيلاء غصب همجي لا حق
قانوني، فإذا لم يقرِّه البرلمان المصري فلمصر الحق في كل وقت بالمطالبة به
بلسان القانون الدولي والحق الطبيعي، ثم بالقوة عند سنوح الفرصة، ولا ييأس من
فرص الزمان إلا الجبناء الجاهلون، كما أنه {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ
الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .
لا يخفى على أحد من رجال الوفد ولا غيرهم أن هذه المعاهدة التي تدور
المفاوضة بشأنها مقيدة لاستقلال مصر بقيود ثقيلة فيها خطر كبير، وأن النص فيها
على انتهاء الاحتلال لا معنى له في الواقع إلا انتقال الجيوش المحتلة من القاهرة
إلى منطقة الإسماعيلية وما وراءها إلى السويس من أهم المواقع العسكرية في البلاد،
وأنها تتضمن خطرًا آخر هو شر من التحفظات الأربعة التي قيد به تصريح
فبراير سنة 1922 المشهور، وهي القيود العسكرية المعروفة، وما عدا ذلك من
المزايا فيها كالدخول في عصبة الأمم وحماية الأجانب وإلغاء المحاكم القنصلية فهو
قليل ضئيل حقير، إذا بيع به السودان العظيم الضخم الكبير.
لذلك نجزم بأن قطع المفاوضات وفشل مشروع المعاهدة خير وأبقى على
مصر، وأضمن لحياتها في المستقبل من إعطاء السودان للإنكليز عطاء رسميًّا.
إن طبيعة الاجتماع البشري سائرة سيرًا سريعًا إلى القضاء على استعباد
أقوياء الشعوب لضعفائها باسم الاستعمار وغيره من الأسماء الخادعة كالحماية
والانتداب، وإذا كانت الهند مصدر ثروة الإنكليز وعظمتهم وهيكل إمبراطوريتهم قد
هبت تطلب الاستقلال المطلق، وهي تسير إليه سيرًا طبيعيًّا لا شك في وصولها
إلى الغاية منه، فهل يليق بمصر أن تهب السودان لهم هبة رسمية؟
إن هذا لا يعقله أحد أوتي مسكة من العقل والشرف.
__________(30/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصر والحجاز
ومفسدة عالم جريدة الأهرام
كل مسلم مخلص لدينه في الحجاز ومصر يتمنى الاتفاق والاتحاد والتعاون
بين حكومتيهما، وكذلك غير المسلمين من سكان مصر المخلصين لها يتمنّوْن ذلك،
وقد أظهرت هذا التمني جميع الجرائد المصرية المعتبرة وأكثرت من التساؤل عن
المانع للحكومة المصرية من الاعتراف بحكومة الحجاز السعودية، وقد اعترفت بها
الدول الأوربية العظمى والدول الشرقية وهي التركية والإيرانية والأفغانية وآخرها
العراقية.
بعد هذا كله رأينا مقالاً كليالي الشتاء في ظلمتها وبردها وطولها يُنشر تباعًا
في أعداد الشهر الماضي من الأهرام بإمضاء (عالم حاج) يشهد على كاتبه بأنه
جاهل لا عالم، ومنافق لا صادق، وأما وصف نفسه (بحاج) في غير زمن الحج
فلا معنى له ولا وضعه في الإمضاء مما يجعل شبهاته حججًا، بل مقاله حجة على
أنه ما حج إذ سافر إلى الحجاز ولكن حجت العير، وما كل من حج بيت الله مبرور.
من أدلة جهله بعقائد الإسلام، وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، جعله
بدعة (المحمل المصري) من شعائر الإسلام، وإباحته لحرس المحمل ترك لباس
الإحرام، وحمل السلاح بمكة وغيرها من الحرم بغير ضرورة، بل مع ما علم من
إثارة أمير الحج لتلك الفتنة؛ ولكن مع جهله طبعًا بما رواه مسلم في صحيحه من
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح) وما في معناه.
وأما الدليل على نفاقه وابتغائه الفتنة بين الحكومتين، فهو تذكيره للحكومة
السعودية بما كان من قتال محمد علي باشا لسلفها في الحجاز، ثم في نجد وتهديدها
بإعادة هذه الحرب سيرتها الأولى، مع علمه أو جهله بعدم إمكانها، وبأنها إذا
أمكنت كانت أعظم الشرور والمفاسد بين المسلمين، وكانت ثمرتها للأجانب غير
المسلمين، وأولهم الإنكليز المحتلون لمصر المانعون لها من استقلالها ومن إنشاء
قوة تدافع بها عن نفسها، فمَثَل (عالم الأهرام وحاجها) فيما نشرتْه له - وهي أعلم
منه بأنه مفسدة - كَمَثَل ذلك المفسد الذي كان يكتب لها المقالات بإمضاء (عربي
مطلع) في تأييد خروج فيصل الدويش على إمامه وملكه، والتوسل به إلى الصد عن
الحج، ثم تبين كذبه في كل ما كتبه.
كنت شرعت في كتابة رد مفصل على مقالة (عالم حاج الأهرام) لتُنشر في
بعض الجرائد اليومية لإزالة ما يمكن أن يكون لها من الأثر الإفسادي السيئ في
أنفس بعض العوام، ثم كففت عن إتمامه لأنني رأيت أن بسط الحقائق فيه قد يسوء
أناسًا لا نحب أن نسوءهم، وأن الإمساك عن نشرها قد يكون أرجى لنجاح السعي
في التوفيق والتأليف بين الحكومتين.
ولكنني أشير عن بُعد إلى مسألة تكلم فيها بغير علم غير هذا (العالم الحاج)
ممن لا نتهمهم بمثل ما نتهمه به من سوء النية، وهي المن على الحجاز وحكومة
الحجاز وأهل الحجاز بإحسان حكومة مصر، وتفضلها عليهم قديمًا وحديثًا
بالصدقات والمبرات والإحسانات التي منها كسوة الكعبة المعظمة والتكيتان اللتان
تطعمان بعض الفقراء في البلدين المكرمين.
ربما يجهل بعض هؤلاء ما لا يجهله (عالم الأهرام وحاجه) من أنه ليس
لحكومة هذا العصر منة على بيت الله، ولا على حرمه وحرم رسوله ولا على أهلهما
فضلاً عن حكومتهما، بل هذه الحكومة المصرية هاضمة لحقوق شرعية موقوفة على
ما ذكرنا من الملوك السابقين وغيرهم من أغنياء المسلمين تقربًا إلى الله تعالى - فهي
لا تؤدي منها إلا قليلاً من كثير (أو من الجَمَل أُذُنُه كما يقول المثل العامي) .
إن هذه الحكومة تتصرف بألوف الجنيهات من ريع أوقاف الحرمين الشريفين
فتنفقها في مصر وغير مصر من دون الحجاز، ومن هذا التصرف ما يعده الناس
في محله، ولو كان من جيوبهم أو من الأوقاف الخيرية المطلقة التي ليس لها جهة
صرف معينة، ومنها ما يعدونه في محله بصرف النظر عن كونه من أوقاف
الحرمين، ولا نعرف منها إلا صرف خمسة آلاف جنيه من أوقاف الحرمين
للمساعدة على عمارة المسجد الأقصى.
إن حكومات مصر الأخيرة قد أضاعت كثيرًا مما وقفه المحسنون من أغنياء
مصر وغيرهم على الحرمين الشريفين، وما بقي معروف وضبط حسابه بالنظام
العصري لايؤدى كله إلى الحرمين، ولو كان الواقفون له أحياء لما استباحوا
لأنفسهم إيذاء جيران الله وجيران رسوله بالمن عليهم به؛ لأنه إنما وقف قربة
واحتسابًا لوجه الله تعالى، فكيف يستبيح هذا المن والأذى لله ولرسوله ولجيرانهما
من لا حظ لهم من هذا البر إلا كراهته وحض الحكومة على منعه وتهديد أهل
الحرمين بذلك؟
من شاء أن يعرف شيئًا عن الكسوة الشريفة وما وقف عليها، وعن بدعة
المحمل ومفاسدها فليراجع كتاب (مرآة الحرمين) لأفضل من تولى إمارة الحج من
قبل حكومتنا المصرية في عصرنا هذا، وهو اللواء إبراهيم رفعت باشا، ومنه يُعلم
أن هذه الأوقاف الواسعة قد ذهب أكثرها ...
كان أكبر خطأ جناه عبد الخالق ثروت باشا على مصر منعه إرسال كسوة
الكعبة المشرفة إلى مكة المكرمة وحرمان مصر من هذا الشرف العظيم لها ولجلالة
ملكها الذي تطرز الكسوة باسمه، وإلجاؤه ملك الحجاز إلى إنشاء دار جديدة لنسج
الكسوة فيها، فأحسن إليه من حيث أراد أن يسيء، وأغرب من جنايته هذه اعتذاره
عنها في مجلس النواب بأنه خشي أن لا تقبلها الحكومة السعودية، وتعتذر عن ذلك
بأن الوهابيين يعدونها بدعة كالمحمل، وأغرب من هذا الاعتذار قبول المجلس له
بعد العلم بأن ملك الحجاز صرح رسميًّا بقبول الكسوة إذا أرسلت، ومع علم الكثير
من أعضائه بأن كسوة الكعبة قديمة لا يقول الوهابيون ولا غيرهم ببدعيتها، وأن
المحمل بدعة سيئة ابتدعتها شجرة الدر لا يختلف عالمان بقبحها، وإن استحسنها
عالم الأهرام وحده.
__________(30/716)
الكاتب: محمد بسيوني عمران
__________
الكتابة بالحروف اللاتينية في جاوة
جاءنا من الأستاذ صاحب الإمضاء من جزيرة (سمبس برنيو) في جاوة ما
يأتي:
إنني لا أعلم ما فائدة استعمال الدولة التركية الكمالية للحروف اللاتينية، أو
استبدالها لها بالحروف العربية في كتابة لغتها، ولعلها ترى أن تعلم الكتابة
بالحروف اللاتينية أسهل من تعلمها بالحروف العربية، وإننا نكتب لغتنا الملاوية
بالحروف العربية واللاتينية معًا؛ ولكن استعمال اللاتينية الآن في جزائر جاوة
وسومطرة وبورنيو من المستعمرات الهولاندية أكثر من استعمال الحروف العربية
(الملاوية) تبعًا للحكومات الهولاندية والتجار الأجانب؛ ولهذا لا تجد جرائد
ومجلات هذه الجزائر الملاوية مكتوبة بالحروف العربية (الملاوية) إلا قليلاً جدًّا
بالنسبة إلى الجرائد والمجلات التي تُكتب بالحروف اللاتينية.
وأما فوائد استعمال الحروف اللاتينية عندنا، فمنها أن لغتنا الملاوية يعرفها
الملايين ممن ليسوا من أهلها كالأوربيين (لا سيما الهولانديين والإنكليز)
والصينيين وغيرهم، وأنها يُتَخَاطب بها فيما بيننا وبينهم من أمور الحكومات
والتجارات وغيرها، وهم لا يقرءون ولا يكتبون اللغة الملاوية إلا بالحروف
اللاتينية، ومنها أننا إذا أردنا أن نُفهمهم حقيقة الدين الإسلامي، وأن نبين لهم آدابه
ومحاسنه بالكتابة مثلاً، فلا يفيدهم ذلك إلا باستعمال الحروف اللاتينية فيها؛ ولهذا
طبعوا ترجمة تفسير سورة (والعصر) للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده باللغة
الملاوية، وترجمة سورة (الفاتحة) من تفسير المنار بالحروف اللاتينية، وأظن
أن ذلك بأمر الأستاذ الشيخ أحمد سور كتي زعيم الإرشاديين في جاوة، وهل توجد
مثل هذه الفوائد عند الدولة التركية الكمالية باستعمال الحروف اللاتينية في كتابة
لغتها؟
ومع ذلك أقول: إن ضرر استعمال الحروف اللاتينية دون العربية (الملاوية)
ظاهر بيِّن بسوء تأثير الاستعمار الذي أحاط بالبلاد من كل جانب، فإن من تعلموا
في مدارس الدولة الهولاندية قلما يكتبون لغتهم الملاوية بالحروف العربية (الملاوية)
وهم أكثر من يقرؤون ويكتبون، بل يكتبون ويقرؤون باللاتينية، وإن كانوا
يعرفون الملاوية، ولو تركت الحروف العربية الملاوية بالمرة كتابة وقراءة لكان
ضرره أكبر على أهل ملايو؛ فإن جميع الكتب الدينية والآداب المحمدية وغيرها
مطبوعة بالحروف العربية (الملاوية) وأن اللغة العربية يتعذر أن تكتب باللاتينية
إلا قليلاً، فكيف تكتب إذن آيات القرآن والأحاديث النبوية باللاتينية؟ ثم إن ذلك
خسران عظيم على أهل ملايو؛ فإنه يضيع عليهم علم ورثوه من آبائهم الأولين،
وهو علم الكتابة بهذه الحروف العربية (الملاوية) الذي هو من أكبر العلوم، وبه
يخرج الإنسان من الأمية.
هذا وإني أرى أنه ينبغي لنا أهل ملايو أن نعرف ونستعمل الحروف اللاتينية
في ضرورياتنا كما نعرف ونستعمل الحروف العربية الأصلية والملاوية؛ ولكن لا
يحسن، بل لا يجوز لنا أن نترك الحروف العربية (الملاوية) مستبدلين اللاتينية
بها، كما لا يحسن لنا أن نستعمل الملاوية فقط دون اللاتينية؛ فإن ذلك ضروري
لبعض أمورنا الدنيوية التي تكون عونًا لأمورنا الدينية، وخير لنا أن نأخذ عن أهل
أوربا أو غيرهم ما هو نافع لنا في ديننا ودنيانا، وأن نترك ما هو ضار لنا في
ديننا ودنيانا.
سمبس 14 رمضان سنة 1348 الموافق 13 فبراير سنة 1930
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(المنار)
ما كان لكاتب هذه الرسالة، وهو ممن يقرءون المنار منذ سنين
كثيرة أن يظن أن الترك الكماليين قد آثروا الحروف اللاتينية على الحروف العربية
في كتابة لغتهم لأجل سهولة التعليم بها، فقد بيَّنا في المنار أن سبب هذا الإيثار
إبعاد شعبهم عن دين الإسلام، وقطع كل صلة كانت تربطهم به مهما يكن في ذلك
من المضار الأخرى كإضاعة ما تعب فيه علماؤهم وأذكياؤهم في ترقية هذه اللغة،
وتأليف المصنفات الكثيرة بها في جميع العلوم والفنون العصرية في مدة ثمانين سنة،
ودفن الدفاتر والسجلات الكثيرة التي تحفظ تاريخهم السياسي والاجتماعي
والحربي، ومحاولة ما لا يستطيعون من خلق شعب جديد ملحد بما يشبه التكوين
الذاتي الذي لا ثبوت له في أي نوع من أنواع الحيوان أو الحشرات، ليس له من
العلاقة بالماضي إلا لفظ (تورك) والحروف اللاتينية لا تعبر عن لغتهم تعبيرًا
صحيحًا، فهي مضيعة لها لا مسهلة لتعلمها، والأمر على خلاف ذلك في لغة
الملايو، وإننا نجزم مع هذا بأن أهل هذه اللغة إذا عملوا برأي الكاتب في الجمع
بين كتابتها بالحرفين العربي واللاتيني فإنه ينتهي الأمر بإماتة الثاني للأول،
ويضيعون دينهم الذي هو خير لهم في الدنيا والآخرة من لغتهم بأي حرف كُتبت،
وما ذكره من فائدة نشر الدين وغيره مما يريدون إطلاع حكامهم وغيرهم عليه فهو
يحصل بقيام أفراد به في كل مدينة كبيرة، ولا يتوقف على تعليم هذه الحروف
لجميع أولادهم، نعم إذا كان يمكنهم أن يجعلوا تعليم اللغة العربية إجباريًّا ويعمموها
فإن كتابة الملاوية حينئذٍ بالحروف اللاتينية لا تضرهم، فليتدبروا الأمر قبل أن
يغلبوا عليه.
__________(30/718)
ذو الحجة - 1348هـ
مايو - 1930م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن
نموذج من أقوال الفقهاء المحققين
موضوع علم الفقه أحكام الفروع العملية، فمن الفقهاء من يذكرها مقرونة
بأدلتها المعتمدة في مذهبه، ومنهم من لا يُعنى بذكر الدليل مطلقًا، ومنهم من يذكر
دليل ترجيح بعض أقوال علمائه على بعض؛ ولكنهم يعنون بذكر الأدلة في كتب
الخلاف العام أو الخاص ببعض المذاهب دون بعض، ككتب الحنفية التي تعنى
بترجيح مذهبهم على مذهب الشافعي وحده لما كان بين علماء المذهبين من التنازع
على المناصب في الدولة، وليس من مسائل هذه المذاهب تحقيق مسألة ربا القرآن
وَحَدِّه، والتمييز بينه وبين الربا الوارد في الأحاديث أو المستنبط بأقيسة الفقه؛
وإنما يأتي ذلك في كلام بعضهم دون بعض، ولا سيما المحققين منهم فننقل شيئًا مما
ذكروه في مسألتنا.
ما قاله بعض الحنفية:
أما الحنفية فقد نقلنا في فصل كلام المفسرين والمحدثين ما قاله الإمام
الجصاص في بيان ربا القرآن من تفسيره - وما قاله الإمام الطحاوي في ذلك،
وهما من أئمة فقهائهم أهل الدليل، وأما فقهاؤهم الأقحاح فكلامنا كله في الرد عليهم.
ما قاله بعض المالكية:
وأما المالكية فقد تكلم بعضهم في المسألة في كتب الفقه فنذكر أهم ما اطلعنا
عليه منه:
قال الإمام قاضي الجماعة أبو الوليد ابن رشد المتوفى سنة 595 في كتابه
(المقدمات الممهدات، لما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات) يعني مدونة
الإمام مالك رحمه الله وذلك بعد (فصل ما جاء في تحريم الربا) قال ما نصه:
وأصل الربا: الزيادة والإنافة، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد وعظم،
وأربى فلان على فلان - إذا زاد عليه - يربي إرباء، وكان ربا الجاهلية في الديون
أن يكون للرجل على الرجل الدين، فإذا حلَّ قال له أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذه
وإلا زاد في الحق وزاده في الأجل، فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فقيل للمربي مربٍ
للزيادة التي يستزيدها في دينه لتأخيره إلى أجل، فمن استحل الربا فهو كافر حلال
الدم، يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل. قال الله عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة: 278) إلى قوله {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279) ...
إلخ.
ثم عقد فصلاً للخلاف الأصولي في لفظ الربا في القرآن، هل هو عام أو
مجمل، واستدل بحديث عمر في عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له على أنه
مجمل. وهذا الاستدلال مردود بالبداهة؛ لأنه لا يجوز أن يترك النبي صلى الله
عليه وسلم هذا المجمل بغير بيان مع الحاجة إليه؛ وإنما اختلف علماء الأصول في
تأخير البيان لا في تركه، فإن الله تعالى قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة:
19) وقال لرسوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل:
44) على أننا إن قلنا بجوازه وتركه للاجتهاد صارت المسألة اجتهادية ولم تكن مما
ثبت بالنص، وما اعتمده أخونا المفتي الهندي من كون حديث عبادة في بيع
الأصناف الستة بيانًا له فقد بيَّنا بطلانه بالإجمال وما نحن فيه من التفصيل.
ثم ذكر هذه المسألة في كتابه (بداية المجتهد) فقال في الباب الثاني من كتاب
البيوع (ص106) ما نصه:
واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة
من بيع أو سلف أو غير ذلك، فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف
متفق عيه وهو ربا الجاهلية الذي نُهي عنه؛ وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة
وينظرون (أي يؤخرون) فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه
عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: (ألا وإن ربا الجاهلية موضوع،
وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) والثاني (ضع وتعجل) وهو
مختلف فيه وسنذكره بعد [1] .
(قال) وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة
وتفاضل إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل لما رواه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ربا إلا في النسيئة) وإنما صار جمهور الفقهاء
إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم اهـ.
فهو قد صرَّح بأن ربا الجاهلية خاص بتأخير ما ثبت في الذمة - مهما يكن
سببه - إلى أجل بزيادة في المال، وأنه هو الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع لنهي الله تعالى عنه، وأن ربا التفاضل الذي أثبته جمهور الفقهاء إنما
ثبت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لا بنص القرآن.
ونقفي على هذا بكلمة أخرى لبعض محققي المالكية، وهو الإمام الحافظ
الأصولي الفقيه أبو اسحاق إبراهيم الشاطبي المتوفى سنة 790 صاحب كتاب
(الموافقات) في أصول الدين ومقاصده و (كتاب الاعتصام) وهما الكتابان اللذان لم
يسبقه بمثلهما سابق، ولم يلحق غباره فيهما لاحق، وقد ساعده على الاستقلال فيه
وفي غيره أنه لم يكن ينظر في كلام الفقهاء المعاصرين، بل يعتمد على كتب
المتقدمين، وقد ذكر هذه المسألة في الشواهد التي جاء بها في مبحث الأصول الكلية
من الموافقات، وهي التي تدور عليها أحكام القرآن في جلب المصالح ودفع المفاسد
من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكون كل ما في السنة يرجع إلى
القرآن وبيان له في الضروريات الخمس الكلية، وهي حفظ الدين والنفس والمال
والعقل والعرض، وأورد الأمثلة على ذلك في كل منها فقال في أصل المال ما نصه
(ص20 ج 4 طبعة تونس) :
(أحدها أن الله عز وجل حرم الربا، وربا الجاهلية الذي نزل فيه {إِنَّمَا
البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) هو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما
أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) فقال عليه السلام: (وربا
الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)
وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض،
ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى فقال عليه السلام: (الذهب بالذهب)
إلخ.
فهو قد أثبت أن الربا المحرَّم بنص القرآن هو ربا الجاهلية فقط، وأن السنة
ألحقت به ربا الفضل بالقياس عليه على قاعدته التي قدمها.
وأصرح منه ومما قبله قول القرطبي من كبار فقهائهم وقد تقدم.
ما قاله بعض الشافعية:
قال الإمام الحافظ الفقيه أبو زكريا محيي الدين النووي محرر فقه الشافعية
المتوفى سنة 676 في شرح المهذب، وهو أجمع كتب الفقه والخلاف ما نصه
(ص 391ج 9) .
قال الماوردي: اختلف أصحابنا فيما جاء به القرآن من تحريم الربا على
وجهين (أحدهما) أنه مجمل فسَّرته السنة، وكل ما جاءت به السنة من أحكام الربا
فهو بيان لمجمل القرآن نقدًا كان أو نسيئة (والثاني) أن التحريم الذي في القرآن
إنما تناول ما كان معهودًا للجاهلية من ربا النسأ وطلب الزيادة في المال بزيادة
الأجل، وكان أحدهم إذا حل أجل دينه ولم يوفه الغريم أضعف له المال وأضعف
الأجل، ثم يفعل كذلك عند الأجل الآخر، وهو معنى قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا
الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) .
قال ثم وردت السنة بزيادة الربا في النقد مضافًا إلى ما جاء به القرآن، قال
وهذا قول أبي حامد المروذي اهـ، وأقره النووي على هذا النقل.
أقول: إن القول الأول احتمال أخذه القائلون به من الشافعية من عبارة الشافعي
في الأم في آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وقد ذكرنا
عبارته في الأم وأن المعتمد عنده رضي الله عنه العموم لا الإجمال في الآية، وقد
ذكر الشمس الرملي ذلك في شرح المنهاج، وأن المعتمد عندهم عدم الإجمال وهو
الذي حققه الكيا الهراسي من فقهائهم.
وقد أطال في أول كتاب البيع من شرح المهذب في كلام الشافعية في الآية من
جهة العموم والإجمال، وذكر لهم فيها أربعة أقوال، فيراجعها من شاء.
وقال العلامة فقيه الشافعية في عصره أحمد بن حجر المتوفى سنة 973 في
الكلام على كبيرة الربا من كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) بعد افتتاح الكلام
بآيات سورة البقرة، وذكر أنواع الربا عند الفقهاء وهي أربعة ما نصه (ص 124
ج 1 طبعة سنة 1292) وربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية؛ لأن
الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا
ورأس المال باقٍ بحاله، فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في
الحق والأجل، وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضًا (أي لغة
لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع
كثيرًا، وكان ابن عباس رضي الله عنه لا يحرِّم إلا ربا النسيئة محتجًّا بأنه هو
المتعارف بينهم فينصرف النص إليه؛ لكن صحت الأحاديث بتحريم الأنواع
الأربعة السابقة من غير مطعن ولا نزاع لأحد فيها، ومن ثم أجمعوا على خلاف
قول ابن عباس على أنه رجع عنه ... إلخ.
فهو قد بيَّن أن ربا الجاهلية هو المحرَّم بنص القرآن، وأن ما عداه قد حُرِّم
بما ورد من الأحاديث فيه كما تقدم عن غيره.
ما قاله بعض علماء الحنابلة:
قال العلامة المحقق المفسر المحدِّث الأصولي الفقيه الحنبلي صاحب
التصانيف المتفق على جلالتها أبو عبد الله محمد شمس الدين بن قيم الجوزية
المتوفى 751 في كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين ما نصه:
الربا نوعان: جلي وخفي (فالجلي) حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم
(والخفي) حُرِّم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلة،
فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه
ويزيده في المال، وكلما أخَّره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفة،
وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته
ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ويدافع
من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه الدَّين حتى يستغرق
جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال
المرابي مع غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه
على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرَّم
الربا، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله،
ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر.
وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: هو أن يكون له دين فيقول
له أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال، وزاده هذا في الأجل، وقد جعل
الله سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمرابي ضد المتصدق قال الله تعالى: {يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276) وقال: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ
فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل
عمران: 130-131) ثم ذكر الجنة التي أُعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء
والضراء، وهؤلاء ضد المرابين فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس وأمر
بالصدقة التي هي إحسان إليهم.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (إنما الربا في النسيئة) ومثل هذا يُراد به حصر الكمال، وأن
الربا الكامل إنما هو في النسيئة كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال:
2) إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ} (الأنفال: 4) وكقول ابن مسعود:
(إنما العالم الذي يخشى الله) .
(فصل) وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرَّح به في
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء) والرماء هو الربا، فمنعهم من
ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين،
ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة، وإما في السكة، وإما
في الثقل والخفة وغير ذلك، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو
عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جدًّا فمن حكمة الشارع أن سَدَّ عليهم هذه
الذريعة، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة، فهذه حكمة معقولة وهي تسد
عليهم باب المفسدة، فإذا تبين هذا فنقول:
الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي الذهب والفضة
والبر والشعير والتمر والبلح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد
الجنس وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يروى هذا
عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله
بالقياس، قال لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه
علة امتنع القياس اهـ المراد منه ههنا.
(وسنذكر في الجزء الأول من المجلد الحادي والثلاثين نتيجة هذه النقول
وتحقيق الربا المنصوص القطعي بنص القرآن، والربا الوارد في الحديث - وربا
الفقهاء، مع تحقيق الحق في ذلك كله والانتقال منه إلى المعاملات الربوية وغيرها
في هذا العصر) .
__________
(1) المعتمد أنه ليس بربا؛ لأنه نقص مما في الذمة لتعجيل الدفع والربا زيادة فيه.(30/771)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
المحاكم الشرعية الأهلية وعلاقة كل منهما بالدين
- 11 -
كان الحكم في البلاد الإسلامية كلها بالشريعة الغرَّاء؛ لأنها كاملة كافلة لجميع
مصالح البشر على أساس العدل والمساواة بين الناس، لا فرق فيهما بين مؤمن
وكافر، وبر وفاجر، ولا بين غني وفقير، أو ملك وسوقة، كما يرى الناس من
نصوصها إذ يدخلون المحاكم حتى الأهلية في الألواح المعلقة فوق رؤوس القضاة
من نص قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء:
58) وهو معطوف على قوله قبله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) .
وفي القرآن الحكيم آيات أخرى في إيجاب العدل والمساواة، كقوله تعالى في
أهل الكتاب: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (المائدة: 42) إلى
قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة:
42) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا
الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:
135) فهذه الآية تأمر المؤمنين بالمبالغة في القيام بالقسط، أي العدل في الحكم
والشهادة التي يستند إليها الحكم بالمساواة كما تقدم، وفي معناها قوله جل شأنه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:
8) تعبدنا الله بالعدل في الحكم والشهادة حتى بيننا وبين الأعداء والمبغضين بقوله:
{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) أي ولا يحملنكم عداوة
قوم وبغضهم على عدم العدل فيهم، فإن العدل حق الله أوجبه لجميع الناس فصار
حقًّا لهم بحكمه وإحقاقه تعالى.
ولما كان بعض القضايا يتعلق بأحكام الأديان في الحلال والحرام التعبديين بلغ
من حرية الإسلام ومراعاته للوجدان أن سمح للداخلين في حكمه من غير أهله أن
يتحاكموا إلى علماء دينهم في ذلك، وكل من هذا السماح وذلك العدل بالسواء مما
امتاز به الإسلام على جميع الشرائع والأديان، ولما كان المسلمون ينفذونه كما أمر
الله تعالى دخل أهل الملل التي فتحوا بلادها في دين الله أفواجًا باختيارهم واقتناعهم،
ومن بقي منهم مطمئنًا بدينه كانوا يفضلون أحكام المسلمين على أحكام أهل دينهم
في الغالب.
ولما صار الملك والحكم في المسلمين إلى الجاهلين بهذه الشريعة العادلة وغير
المتربين على التدين باتباع الحق والعدل كالأولين، ولما صار الوقوف على أحكام
الشريعة عسرًا وعر المسلك بسوء تأليف الكتب كتعقيد عباراتها وكثرة الخلاف في
أحكامها، ولما جمد فقهاؤها على الأقوال التي اختارها للحكم بعض من قبلهم من
علماء الترجيح والتصحيح، وحرموا الاستقلال في الفهم والاستنباط في الأقضية
التي تتجدد بأطوار الأزمنة والأمكنة، واختلاف العرف والمصالح المرسلة - لما
كان ما ذكر كله كما ذكر صار بعض حكام المسلمين يضعون لبلادهم قوانين عرفية
للأمور المدنية والسياسة التي لا تمس الوجدان الديني فيما أحل الله وما حرَّمه من
أحكام الزوجية والإرث والوقف، بل تركوا ذلك كله للشريعة وقضاتها وخصوا به
المحاكم الشرعية دون غيرها.
ثم بلغ من ضعف المسلمين وسيطرة الإفرنج على بعض حكوماتهم، ونفوذهم
السياسي والأدبي في بلادهم، وتوليهم أمر التعليم والتربية في مدارسهم، وما كان
وراء ذلك من زلزلة العقائد، وزعزعة قواعد العبادات والفضائل، أن طمع
الطامعون من الأجانب وأعوانهم في إلغاء المحاكم الشرعية، وهدم هذه البقية الماثلة
من التشريع الإسلامي، وحدث من الشكوى من اختلال هذه المحاكم ما حمل وزارة
الحقانية بمصر على اقتراح وسيلة للإصلاح استنكرتها العقول لغرابتها، وهي أن
يُعيَّن مستشاران من محكمة الاستئناف الأهلية عضوين في المحكمة الشرعية العليا،
فهاج المسلمون لهذا الحدث هيجة عامة، وحملوا على الحكومة في الجرائد حملة
منكرة، واجتمع علماء الأزهر لأول مرة في هذا العصر للإنكار على الحكومة
فاضطرت إلى الإحجام عن تنفيذه.
يومئذ سألت الأستاذ الإمام رحمه الله عن واضع هذا المشروع وعن سببه،
وكنت دُهشت لصدوره عن وزارة الحقانية في عهد ذلك الوزير الفقيه المسلم
(إبراهيم باشا المناسترلي) ! فقال الأستاذ: إن الواضع له غير مسلم (وهو بطرس
باشا) وإن الغرض منه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور
الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي،
فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية
حتى لا يبقى لهم في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية، هذا ما قاله
الأستاذ الإمام يومئذ، وعلمت أنه قاوم المشروع سرًّا بالوسائل المؤثرة.
ولا يزال خصوم الشرع الإسلامي والكارهون للصبغة الإسلامية في هذه البلاد
التي يدين سوادها الأعظم بالإسلام يجددون الحملات الظاهرة والدسائس الباطنة
لمحو كل ما هو إسلامي فيها، ولعل غرضهم من هذه المناظرات والمحاضرات
الآن التمهيد لمطالبة البرلمان بإلغاء المحاكم الشرعية باسم (توحيد القضاء) فبدا
لهم من الشعب الإسلامي عامة وشبانه العصريين خاصة ما رأوا أثره في الحكومة
وفي البرلمان أيضًا، وأما نحن علماء الإسلام فنجيبهم عما سألونا عنه وتحدونا به
في هذا الموضوع، وظنوا أنهم أقاموا به علينا الحجة - وقد تقدم نصهم فيه - في
المقالة التي قبل هذه فنقول:
الفروق بين الأحكام الشخصية والمدنية:
(أولاً) إن بين حكم المحاكم الأهلية في الدماء والأموال، وبين الأحكام
الشخصية في المسائل الزوجية من ثبوت عقد نكاح وطلاق وفسخ وعدة ونفقة وفي
المواريث - فرقًا، بل فروقًا يكفي واحد منها لبطلان قياس أحدهما على الآخر
(أهمها) أن أكثر أحكام العقوبات والأموال في الإسلام اجتهادية لا نصوص قطعية
ثابتة في كتاب الله أو سنة رسوله القطعية الرواية والدلالة التي يجب أن يلتزمها كل
مسلم علم بها في نفسه وفي حكمه إن كان حاكمًا كما تقدم شرحه بخلاف حكم الميراث
فإنه قطعي بالنص كما تقدم أيضًا، فلا يقاس أحدهما على الآخر.
(ثانيًا) إن الحدود القطعية المنصوصة قال بعض الفقهاء: إنها منوطة بالإمام
الأعظم (الخليفة) أو نائبه، والحكمة في شدتها الإرهاب المانع من الجرأة على
إزهاق الأرواح وانتهاك الأعراض بالفاحشة الكبرى، وابتزاز الأموال والإخلال
بالأمن العام وهي تُدرأ بالشبهات، ولو كانت الحكومة المصرية تقيم هذه الحدود كما
أمر الله تعالى ورسوله لما نشأ في هذه البلاد ما يشكو منه جميع الناس من اختلال
الأمن وكثرة القتل وفشو الفحش وأمراضه، كما هو الشأن في نجد وفي بلاد الحجاز
الآن، وكذا غيرهما من بلاد العرب، وإن لم يبلغ شأوهما في عموم الأمن،
ولصارت السنون تمر ولا يثبت على أحد إقامة حد.
حُكي لنا أن والي عدن الإنكليزي سأل مرة سلطان لحج: هل تقطعون يد
السارق حقيقة كما يقال؟ قال: نعم، قال الوالي: أليست هذه قسوة فظيعة؟ قال
السلطان: إنها قسوة عادلة ترهب الجناة، فتمر السنون ولا يسرق أحد في بلادنا
شيئًا، وأما أنتم فإن سجونكم مكتظة باللصوص والمجرمين.
وإني لأعجب من تقليد الناس بعضهم لبعض في استهجان قطع السارق
المجرم واختصاصهم إياه بالرحمة والرأفة والرقة واللطافة (والنزاكة والجنتلمانية
أيضًا) دون القاتل، مع أن قطع اليد من الكوع إلى الكرسوع أهون عند المجرمين
من قطع الرقبة، ومن عساه يخشى الفضيحة الدائمة برؤية يده مقطوعة لبقية من
شعور الشرف في نفسه - يكفيه هذا وازعًا يزجره عن الإقدام على السرقة، على أن
كثيرًا من هؤلاء المجرمين يقطعون أيدي النساء وأرجلهن لسلب أسورتهن
وخلاخيلهن إذا تعذر أو تعسر عليهم نزعها بدون قطع، فما معنى هذه الرأفة والرقة
المدنية في مجازاة هؤلاء القساة الوحشيين بوضعهم في سجون هي خير لهم من
بيوتهم؟ وقد اشتهر عن بعض المجرمين في مصر أنهم يرتكبون الجرائم أحيانًا
لأجل أن يُسجنوا فيتمتعوا بمعيشة السجن، وإن سرق ذو مروءة مرة واستحق الحد
فلا يعجزه أن يجد شبهة تدرأه عنه، وللقاضي العادل الرحيم أن يتساهل في قبولها
منه، وقد قال بعض الفقهاء: إن السارق إذا ادعى أن المسروق ملك له وقد استرده
بالسرقة كانت هذه الدعوى شبهة دارئة لحد القطع، فإن لم يثبت دعواه حكم عليه
بالتعزير الذي يراه القاضي لا بقطع اليد.
(ثالثًا) إن ما تحكم به المحاكم الأهلية من قتل أو مال مخالفًا لنصوص
الشرع القطعية، أو لما يعتقده القاضي من أحكامه الظنية - فإنما إثمه عليه دون أفراد
الأمة الذين لا يملكون منعه من هذا الحكم، وليس هذا كأحكام النكاح والطلاق
والميراث متعلقًا بوجدان الدين للأفراد الذين يحكم لهم أو عليهم، فإذا أعطت
الحكومة للمرأة حق الطلاق تستقل به وطلقت زوجها؛ فإن طلاقها هذا يكون باطلاً
في عقيدته وعقيدتها إن كانا مسلمين كما هو المفروض، وعصمة الزوجية بينهما
باقية، فلا يباح لها أن تتزوج بغيره، فإن تزوجت كانت زانية، وإن استباحت ذلك
كانت مرتدة عن الإسلام، ويقال مثل هذا فيما تعطيها الحكومة من الميراث مخالفًا
لحكم الله تعالى، لا يحل لها أخذه والتصرف فيه. لهذا قلنا: إن دعوة المسلمين إلى
هذا النوع من المساواة دعوة لهم إلى ترك دينهم؛ لأن من يستجيز ذلك يكون كافرًا
مرتدًّا عن الإسلام.
(رابعًا) إن الذين يدعون المسلمين إلى هذا يبنون دعوتهم على أنه هو
العدل والحق والصواب، وأن حكم الله باطل وظلم وخطأ، ومن اعتقد هذا كان
مرتدًّا عن الإسلام أيضًا وإن لم يعمل به {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:
65) قال هذا في المنافقين الذين يرغبون عما أنزل الله إلى حكم الطاغوت (راجع
تفسير الآيات 59 - 65 من سورة النساء) .
(خامسًا) إن الحكومة المصرية لما قررت العمل بقوانين فرنسة المقتبس
أكثرها من الشريعة الإسلامية ولا سيما مذهب المالكية - لم يكن للأمة المصرية التي
يدين سوادها الأعظم بالإسلام قول ولا رأي في شؤون الحكومة، وكان من أسبابه
تقصير علماء الأزهر في القيام بما يجب عليهم من إغنائها بأحكام الشريعة الغراء
عن سواها، ومن المشهور أن إسماعيل باشا طلب منهم ذلك فلم يستجيبوا له.
حدثني علي باشا رفاعة قال: حدثني والدي أن إسماعيل باشا الخديو استحضره
وقال له: يا رفاعة بك إنك أزهري تعلمت وتربيت في الأزهر، فأنت أعلم الناس
بعلماء الأزهر، وأقدرهم على إقناعهم بما ندبتك له: إن الإفرنج قد صار لهم حقوق
ومعاملات كثيرة في هذه البلاد، وتحدُث قضايا بينهم وبين الأهالي، وهم يشكون
إليَّ أنهم لا يعلمون بماذا يُحكم لهم أو عليهم في هذه القضايا ليراعوه ويدافعوا به عن
أنفسهم؛ لأن كتب الفقه التي يحكم بها علماؤنا معقدة وكثيرة الخلاف، فاطلب من
علماء الأزهر أن يضعوا كتابًا في الأحكام المدنية الشرعية مثل كتب القوانين في
تفصيل موادها وعدم وجود خلاف فيها يترتب عليه اختلاف القضاة في أحكامهم،
فإن لم يفعلوا فإنني أضطر إلى العمل بقانون نابليون الفرنسي - أو ما هذا مؤاده.
قال علي باشا رفاعة: فأجابه والدي بقوله: يا أفندينا إنني سافرت إلى أوربة
وتعلمت فيها، وخدمت الحكومة وترجمت كثيرًا من الكتب الفرنسية باللغة العربية،
وقد شخت ووصلت إلى هذه السن ولم يطعن أحد في ديني، فإذا أنا اقترحت الآن
هذا الاقتراح على علماء الأزهر بأمر أفندينا فإنني أخشى أن يقولوا إن الشيخ رفاعة
قد ارتد عن الإسلام في آخر عمره برضاه بتغيير كتب الشريعة وجعلها كالقوانين
الوضعية، فأرجو أن يعفيني أفندينا من تعريض نفسي لهذا قبل موتي لئلا يقال إنه
مات كافرًا اهـ. فلما يئس الخديو منهم أمر بالعمل بالقوانين الفرنسية وتأسيس
المحاكم الأهلية، ولم يبال بالعلماء ولا بغيرهم.
أما وقد صارت الحكومة المصرية دستورية نيابية، وقد دخل كثير من علماء
الأزهر والمعاهد الدينية في طور جديد من استقلال الفكر ومعرفة حال العصر، وقد
قرب زوال السيطرة الأجنبية التي كانت السبب الأول في ترك التشريع الإسلامي
في الأحكام المدنية والعقوبات - فقد تمهدت الأسباب الأصلية لإعادته سيرته الأولى،
وإظهار عدالته العليا، وما على العلماء المجددين إلا أن يقوموا بما اقترحناه مرارًا
من تصنيف كتب شرعية في الأحكام المدنية والتأديبية موافقة للمصالح العامة في
هذا العصر، وكافلة للعدل والمساواة بين جميع الناس، وانتظار الفرص لتقرير
البرلمان المصري لها، بما يظهر له من وجوه تفضيلها على غيرها.
وليس في القوانين الحاضرة ما يخالف المجمع عليه بين علماء المسلمين من
الأحكام الثابتة بالنصوص القطعية، إلا أحكام قليلة كإباحة الفاحشة والخمر والربا
الذي قال الإمام أحمد وغيره أنه لا شك فيه، لا كل ما يسميه الفقهاء ربا بالقياس
غير الجلي (وهو ما حققناه من قبل في تفسير آيات الربا من الجزء الثالث والرابع
ونعيد تحقيقه في هذه الأيام) .
ولو وُجدت حكومة إسلامية تقيم الشريعة السمحة الرحيمة العادلة كما أنزلها
الله تعالى، حتى منع الربا المخرِّب للبيوت الذي يجعل المال الكثير دولة بين
الأغنياء الذي كان سببًا لحدوث هذه المذاهب البلشفية التي تدفع الفاسد بالفاسد، لو
وجدت حكومة إسلامية بهذا المعنى لكانت قدوة للعالم المدني الذي يئن ويتوجع من
مفاسد المدنية المادية (الرأسمالية) من جهة، ومن إسراف البلشفية في معارضتها
من جهة أخرى.
دع مفاسد الإسراف في الشهوات البدنية، وخروج النساء من حظيرة الزوجية
والأمومة إلى الإباحة المطلقة أو ما يقرب منها، وفي الشريعة الإسلامية علاج
لجميع هذه المفاسد إذا وُجدت حكومة غنية قوية تقيمها بالقسطاس المستقيم الذي
شرعه الله تعالى.
نعم إن هذا يتعذر الآن على مصر - وهي على ما نعلم - ولهذا يتحدانا
الدكتور فخري وملاحدته بأن نطلب العمل بجميع أحكام الشريعة، وإننا نطلبه غير
هيابين ونقول إنه ممكن، فإن تعذر على مصر اليوم فلا يتعذر على حكومة إسلامية
أخرى تسبقها إليه، ومتى وُجدت القدوة وظهر أثرها المنتظر في العالم المدني تيسر
لحكومة مصر أن تخطو خطواتها الواسعة اللائقة بمكانتها العلمية وما ذلك على الله
بعزيز.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(30/777)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحمد تيمور باشا
وفاته وملخص ترجمته
في صبيحة 27 من شهر ذي القعدة الماضي انتهت حياة رجل لا كالرجال،
وفرد لا كالأفراد - إلا أن يراد بالأفراد نحو مما يريده الصوفية - ألا وهو صديقنا
وأخونا في الله عز وجل الأستاذ العالم المؤرخ الأديب السلفي أحمد تيمور باشا
المشهور بأخلاقه العالية وعلمه وأدبه؛ ولكنه على شهرته يكاد يكون مجهولاً عند
الأكثرين بخصوصيته، فهو من شهداء الله وحججه على خلقه في دينه وفضائله،
ونادرة من نوادر الزمان - هذا الزمان - في مجموعة مزاياه، رحمه الله تعالى وأكرم
مثواه، وقد خسرت الأمة العربية بفقده ركنًا من أركان علماء لغتها الخادمين لها بما
تقتضيه حال العصر، وخسرت الأمة الإسلامية مسلمًا مخلصًا لدينه وأمته مدافعًا
عنهما غيورًا عليهما.
ذُكر في بعض الصحف أنه ولد في 22 شعبان 1278، وأنه لما دخل في سن
التمييز اختار له والده إسماعيل باشا تيمور رئيس الديوان الخديوي من المعلمين من
يلقنه مبادئ القراءة والكتابة في داره، وأنه تلقى التعليم الابتدائي العصري في
مدرسة مارسيل الفرنسية، وأن نفسه جنحت بعد ذلك لدراسة الفنون العربية والعلوم
الدينية، فأخذ أولاً عن الشيخ رضوان محمد المخللاتي، ثم عن الشيخ حسن
الطويل الشهير الذي كان جامعًا بين العلوم الشرعية والعقلية والتصوف، وأنه كان
يتردد على الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي الكبير، فيتلقى منه ما شاء من
اللغة العربية وآدابها.
ثم أقول: إن الفقيد - رحمه الله تعالى - قد اشترك في صحيفة المنار من أول
العهد بإنشائها، ثم عرفته معرفة شخصية منذ شهر رمضان سنة 1316، إذ كان
يحضر كل يوم درسي الذي كنت ألقيه في المسجد الحسيني في عقائد الدين وأصوله
الإصلاحية العالية بأسلوب خطابي اهتزت له مصر، وكاد يحدث فيها ثورة دينية بما
شرعت أفنده فيه من البدع والخرافات التي شوهت تعاليم الإسلام الصحيحة؛ حتى
كنت كثيرًا من الأيام ألقاه عند خروجي من المسجد، فنمشي في خان الخليلي، ثم في
السكة الجديدة نتحدث في موضوع الدرس، وحال المسلمين في هذا العصر، فوجدته
موافقًا لي في كل ما كنت أنكره من تغلغل نزغات الشرك في القلوب وانتشار البدع
والخرافات في الأعمال، وفيما يجب من الإصلاح الإسلامي، وجدته موحدًا فحلاً، لا
مخنثًا بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، يتفصى من النصوص بخلابة التأويل.
ثم كان يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر، وفي أثناء ذلك اقترحت
على الأستاذ أن يعقد مجلسًا خاصًّا لبعض إخواننا المستعدين لتلقي حكمة الإسلام
العليا من خريجي دار العلوم وأساتذة المدارس الأميرية وغيرهم يتخولنا بها في
بعض أوقات الفراغ، فقبل الاقتراح، واخترنا دار أحمد بك تيمور في درب سعادة
لهذه الدروس العالية إذ كان هو أحد الراغبين فيها، فاجتمعنا فيها مرارًا، وكنا
نذهب في بعض الأيام إلى (عين شمس) فنتلقى الدرس أو المحاضرة في دار
الأستاذ الإمام نفسه هنالك، ثم ابتاع فقيدنا اليوم دارًا في عين شمس بقرب دار
الإمام فأقام فيها.
تسنَّى لي في تلك المدة معاشرة أحمد تيمور وكثرة مجالسته، فرأيت منه شابًّا
غنيًّا تُوفيت زوجته عن أولاد صغار فأبى أن يتزوج على كثرة البيوتات التي
تتنافس في صهر مثله في كرامة بيته وسعة ثروته وحسن سيرته، وإنما أبى خوفًا
من كراهة الزوج الجديدة لأولاده ومضايقتها له في تربيتهم، فاختار العزوبة مع
العفة والصيانة التامة لأجلهم، على حين نرى أمثاله من الأغنياء لا تحصنهم الزوج
الواحدة ولا الزوجان ولا الثلاث، ولا يبالون في طاعة شهواتهم ما يكون من سوء
تأثيرها في الأولاد، وأما الآخرة فلا تكاد تخطر لأكثرهم في بال.
وكانت لذته من الدنيا أو في الدنيا جمع الكتب العربية النفيسة، ولا سيما
المخطوطات القديمة النادرة، وجرى في هذا على عرق وراثة، وجد في دارهم
مكتبة صغيرة، فما زال يزيد عليها حتى أسس خزانة لها احتوت عشرين ألفًا من
الأسفار في جميع العلوم والفنون، منها ما لا يوجد أو لا يوجد مثله في غيرها حتى
دار الكتب المصرية العامة، ولم يكن حظه منها مجرد الجمع والتلذذ بالاحتواء
والملك كما يُعرف عن بعض عشاق الكتب الذين ينظرون إليها نظرهم إلى غيرها
من أعلاق العاديات والآثار التاريخية، بل كان يقضي جل أوقاته في المطالعة
والمراجعة، وبعضها في كتابة المقالات والرسائل وتصنيف الكتب، وكان يتروى
فيما يخطه ويكثر التأمل والمراجعة حتى يكون محررًا منقحًا كما يحب، وأكثر ما
يعنى به التاريخ واللغة.
وله مصنفات مفيدة منقحة لعل نجليه الكريمين يطبعانها كلها إحياء لذكره
الحميد، فلا سبيل لهما إلى بره مثل هذه السبيل، فمما علمنا من أسماء مصنفاته:
(1) كتاب معجم اللغة العامية: استقصى فيه ما علمه بالبحث الطويل من
الألفاظ العامية، وبيَّن ما له أصل عربي، وما ورد في معنى ما ليس له أصل،
وغرضه من هذا دحض شبهة بعض ملاحدة أدعياء التجديد، الذين يدعون إلى جعل
اللغة العامية لغة العلم والتعليم، ويدَّعون أنها أصلح وأوفى بحاجة العصر من
العربية الصحيحة، وكان يمقت هؤلاء المتفرنجين ويحتقر دعواهم للتجديد.
(2) ذيل لهذا المعجم في الأمثال العامية.
(3) كتاب معجم الفوائد: وهو كتاب كان يجمع فيه ما يعثر عليه من
الفوائد المهمة في الفنون العربية، والتعبيرات البليغة، والمسائل الشرعية،
وغيرها مما حققه بعض العلماء ويحتاج إليه أهل العلم، وقلَّما يهتدون إليه
بالمراجعة لخفاء مظانه، فكان يرتب ذلك على حروف المعجم لتعبيد طريقها لمن
يريدها، ومن المعلوم بالبداهة أن هذا الكتاب لم يتم؛ ولكن الموجود منه لا يتوقف
على غيره؛ لأنه فوائد متفرقة، لا أبواب علمية متسقة، فالانتفاع بها ليس
مرهونًا باستيفاء مباحثها.
(4) ترجمة أبي العلاء المعري: والمرجو أن يكون فيها فصل الخطاب في
كل ما اختلف فيه الناس من أمره ولا سيما عقيدته؛ لأن فقيدنا رحمه الله قد اطلع
على ما لم يطَّلع عليه غيره من أقوال المعاصرين والغابرين فيه.
(5) كتاب وفيات القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة: وقد استعان
عليه بمكاتبة من عرفهم من أهل العلم في الأقطار المختلفة، ولم يقتصر على ما
اطلع عليه في الكتب الكثيرة، وكان هذا التصنيف دينًا على علماء التاريخ العربي
قام به من هو أجدر به، والظاهر أنه كان يتوقع فيه المزيد من العلم كمعجم الفوائد،
وإنه لذلك لم يبيضهما.
(6) مفتاح الخزانة: وهو 13 فهرسًا لخزانة الأدب الكبرى للبغدادي لا
تتم الاستفادة من هذا الكتاب النفيس الجامع في آداب اللغة وتاريخها وتراجم رجالها
بدونها، لمن يريد مراجعة المسائل والتراجم عند الحاجة إليها.
(7) نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة في فقه أهل السنة
وانتشارها في الأقطار، وأين يكثر كل مذهب منها.
(8) تاريخ اليزيدية، وأجدر به أن يكتب حقيقة تاريخهم.
(9) رسالة في العَلَم العثماني - أي علم الدولة العثمانية - بيَّن فيها أصله
ومأخذه وتاريخه، وأخذ العَلَم المصري منه وهي مطبوعة.
(10) رسالة في قبر الحافظ السيوطي وهي مطبوعة.
(11 و 12) رسالتان في تنقيح لسان العرب والقاموس المحيط، وهما
مطبوعتان.
وله مقالات في بعض المجلات آخرها ما كانت تنشره مجلة الهداية الإسلامية
في (الآثار النبوية) والمراد بالآثار هنا ما يسميه بعضهم المحفوظات وبعضهم
(المخلفات النبوية) كشعره صلى الله عليه وسلم وبردته، وغير ذلك، وكذا ما يُذكر
من الأحجار التي فيها أثر الكف أو القدم، وقد نشر في الهداية بضع مقالات من ذلك
يظهر أن لها تتمة، ومع هذا يمكن طبعها مستقلة.
وقد جعل خزانة كتبه وقفًا وبنى لها دارًا في ضاحية (الزمالك) من ضواحي
القاهرة ووقف عليها أرضًا (أطيانًا) يكفي ريعها لنفقاتها والزيادة فيها؛ ولكن
وجودها هنالك يحول دون الانتفاع العام بها.
ولم أر له ميلاً في صباه إلى شيء من اللهو المباح، فضلاً عن المحظور أو
المكروه، إلا أنه كان يرتاح إلى شيء من سماع الأقوال الشاذة المستغربة من رأي
أو خبر، وكان هذا من أسباب ارتياحه إلى مجالسة الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري
رحمهما الله تعالى، فقد كان لديه من ذلك الجم الكثير، وأما أول أسباب عشرته
وحبه له فهو كونه من علماء الدين الميالين إلى الإصلاح العارفين بحال العصر،
وما له من الاطلاع الواسع على نفائس الكتب العربية في خزائنها المشهورة في
الشرق والغرب مع العلم بقيمتها العلمية والتاريخية، وهو الذي دله على الكثير منها،
وكان الشيخ طاهر جمع كثيرًا من هذه الكتب المخطوطة النادرة، وقد اضطر إلى
بيع بعضها عند الحاجة إلى الدراهم في مدة إقامته بمصر، فاشترى صاحب
الترجمة كثيرًا منها فيما بلغني، ولو كان الشيخ طاهر يقبل من أحد مواساة مالية
لكان له من صديقه الوفي المخلص أحمد تيمور ما يكفيه وفوق ما يكفيه مع الإخفاء
والكتمان؛ ولكن كان له من عزة النفس بالعلم وشرف البيت، ومن العفة والقناعة
بآداب الدين ما يربأ به عن ذلك، رحمه الله تعالى.
ومما عرفناه وشاهدناه من ترويح فقيدنا الكريم نفسه بسماع الآراء الشاذة أنه
كان يختلف إليه في داره بدرب سعادة شيخ كبير السن سبق له اشتغال بطلب العلم،
ثم صار له خواطر في التصوف والمهدي المنتظر، بل كان يعتقد أنه هو، فكان
الفقيد يُكْرِمه ويسمع له ما ينطلق به لسانه من الخواطر الغريبة والأفكار الشاذة
ويضحك كثيرًا، وربما فتح له هو أو من حضر من أصدقائه أبواب الحديث.
ومما سمعناه منه مرارًا في تلك الدار الانتقاد على الأستاذ الإمام بإغراء
المجلس أن إسماعيل باشا صبري قال له مرة: إن الشيخ محمد عبده المفتي يضع
الشال الكشمير أحيانًا على ذراعه كما يفعل الإفرنج بوضع أرديتهم ومعاطفهم على
أذرعتهم، وقال له مرة: إن المفتي يدخن بالسجاير الإفرنجية دون السجاير
الإسلامية، فكان يرفع عقيرته في الإنكار والاستعاذة بالله تعالى من هذا الزمان الذي
صار فيه مفتي الإسلام يفعل فعل النصارى ويستعمل سجاير النصارى، وتارة يستبعد
تصديق ذلك، ويقول لإسماعيل باشا أو لتيمور بك: بالله العظيم يا باشا، بالله العظيم
يا بك، مفتي الإسلام يشرب سجاير نصرانية؟ فيقولان: نعم نحن رأيناه بأعيننا،
فيقول: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فسد الزمان ... وكنا كلنا نضحك من
هذه السذاجة والغفلة، وتصديق الرجل بأنه يوجد سجاير إسلامية وسجاير
نصرانية!!
كان الفقيد يرتاح إلى هذا ولكنه كان يُفهم ذلك الشيخ المجذوب بعد ذلك
حقيقة المسألة، وأنها ممازحة، وما كان يقبل من أحد دون ذلك طعنًا في الأستاذ
الإمام، وقد زعم بعض الذين كانوا يدينون بافتراء الكذب عليه أنه لا يصلي فردَّ
عليهم بلطف وهم في داره، وقال ما يعلمه من قوة دين الإمام وعبادته، ولم يلبثوا
أن دخل عليهم خادم كان يتردد عليه للخدمة مدة وعلى علي باشا رفاعة أخرى
بالتناوب لخدمة خاصة، فلما دخل عليه في غير موعده سأله عما جاء به، فأجاب
بما حاصله أنه جاء الباشا ضيف اسمه الشيخ محمد عبده فوكلني بخدمته، فإذا هو
يقوم بعد نصف الليل بقليل فيتوضأ ولا يزال يصلي إلى قرب طلوع الفجر ولا ينام
إلا قليلاً بعد صلاتها، وأنا مضطر لانتظار خدمته ما دام مستيقظًا فلم أطق صبرًا
على ذلك، ففررت من هذا الضيف الثقيل، فقال الفقيد لمن حضر: الحمد لله الذي
أظهر لكم الحق بما لا شبهة فيه لأحد، فوالله إنني لم أر هذا الخادم منذ كذا من
الأيام.
وأقول: إن الإمام رحمه الله كان يتردد أحيانًا على صديقه علي رفاعة باشا
في داره بمهمشة بالقرب من إدارة السكة الحديدية للمطالعة والمراجعة في كتب والده
المرحوم الشيخ رفاعة، وأما قيام الليل فلم يكن يتركه في إقامة لا سفر.
ذكرت هذا لأبيِّن لقراء المنار أنني ما عهدت من هذا الرجل في شبابه شيئًا
من اللهو والهزل للتسلية غير هذا، وقد تركه كما أظن في كهولته، وقلما يوجد في
الدنيا شاب غني وجيه يترك جميع لذات الدنيا وشهواتها المباحة غير المعتاد من
الطعام اللائق ببيته، ويصرف جميع أوقاته في الدراسة والمطالعة والكتابة، ثم إنه
في السنين الأخيرة توجه إلى بعض الأعمال النافعة للأمة، وأهمها مساعدة
الجمعيات الإسلامية كجمعية مكارم الأخلاق، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية
الهداية الإسلامية، وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس الجمعية الأخيرة، وفي
إنشاء مجلتها وجريدة الفتح بماله وبنفسه وبقلمه.
وجملة القول فيه إنه كان موحدًا سلفي العقيدة، مهذب الأخلاق، عالي الآداب،
محبًّا للإصلاح، ومبغضًا للتفرنج والإلحاد، وقد تجدد له أمل في نهضة الإسلام
بالدولة السعودية، وما عزته إليه بعض الصحف من ارتيابه في حقيقة الوهابية،
وقوله في شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنهما كانا عالمين لا زعيمين - ينافيه
علمه الواسع بالتاريخ، فهو افتراء عليه أو سوء فهم من الناقل عنه.
وذكر لي بعض أصدقائي وأصدقائه أن له صدقات سرية كان يتحرى فيها أن
لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وحسبه من الصدقة الجارية وقف كتبه الثمينة وما
وقف للنفقة عليها، قد يقال إنه لو كان يظهر زكاة ماله للاقتداء به لكان أفضل من
إخفائها؛ ولكنه كان أعلم بحال نفسه وحال وقته وما هو أفضل له.
توفي رحمه الله تعالى فجأة بسكتة قلبية، وكان عرض له ضعف القلب من
سنين مع مرض الصدر، واشتدت عليه وطأته بمصابه بنجله الكبير محمد بك، ثم
إنه ترك التدخين فحسنت حاله الصحية بعد أن انقطع عن العمل زمنًا طويلاً فعاد
إليه بنشاط.
وأذكر أنه كان يشكو الضعف وسوء الهضم من أوائل عهدي بمعرفته أي منذ
ثلث قرن وكانت سنه دون الثلاثين، وأن الأطباء كانوا يقولون له إنه ليس مصابًا
بمرض يُخشى منه، وأذكر أنني قلت له مرة إن هذا الضعف لا سبب له إلا الإفراط
في الراحة والترف، وإنه لا علاج له بالأدوية وإنما علاجه في شيء واحد وهو أن
تُحْدِث لنفسك ما يحملها على التعب الجسدي بالرياضة البدنية العنيفة، وعلى التعب
النفسي والعقلي أيضًا في وقت آخر، وجميع الأطباء يوافقون على هذا الرأي
ويقولون به؛ ولكن الذي يعمل به باختياره من غير باعث نفسي اضطراري أو
متكلف بحيث يكون كالاضطراري قليل من الموسرين.
وجملة القول إن هذا الرجل كان في مجموعة فضائله ومزاياه وجده وغيرته
على الدين وعلمه وعمله ونأيه عن الهزل واللهو أمة واحدة، فهو من نوادر هذا
العصر، وشهداء الله وحججه على الخلق، ولا سيما الأغنياء والمتفرنجين في
مصر، فإن أكثر أغنياء مصر، وكذا غيرهم من مسلمي هذا العصر شر من أغنياء
سائر الأمم في جهلهم وبخلهم، مع إسراف أكثرهم في شهواتهم، وأكثر المتفرنجين
مصيبة على بلادهم، يزعمون أن التهذيب العصري لا يتفق مع الدين، فليأتونا
بمثل أحمد تيمور من كبراء ملاحدتهم إن كانوا صادقين؟
كان له ثلاثة أبناء نجباء عُني بتعليمهم وتربيتهم، فاحتسب أكبرهم في حياته
لآخرته، وترك اثنان يحيا بهما ذكره من بعده: إسماعيل بك من رجال التشريف
في خدمة جلالة ملك مصر كما كان جده وسميه إسماعيل باشا وجد أبيه من قبله في
خدمة أبي جلالته وجده، ومحمود بك الذي فاق أدباء العصر في إنشاء القصص
التمثيلية وغير التمثيلية، فنعزيهما بل نعزي الأمة الإسلامية عنه، وندعو له
بالرحمة والرضوان، ولهما بطول البقاء مع طاعة الله، وللأمة بأن يعوضها عنه
بالرجال العاملين المخلصين، وستقيم له جمعية الهداية حفلة تأبين حافلة، وأول من
رثاه بالشعر صديقنا وصديقه الأستاذ عبد الله بك الأنصاري، وكنا جعلنا مرثيته
خاتمة لهذه الترجمة، ثم اضطررنا إلى تأخيرها إلى الجزء الآتي.
__________(30/784)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقاريظ للجزء التاسع من التفسير
(تأخر نشرها)
(الأول لصاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت)
حضرة العلامة الجليل المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرَّم زاد الله تعالى
فضله.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فقد وصلتني هديتك أيها
الأستاذ الكريم وتلقيتها شاكرًا لك مثنيًا على فضلك، وهي الجزء التاسع من تفسير
القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، ولمَّا تصفحت هذا الجزء المبارك وتأملت في
مباحثه ومسائله الجليلة، وما حواه من فرائد الفوائد الجزيلة، لم أجد له نظيرًا في
سهولته وبلاغته وطلاوته، وإتقان أسلوبه وترتيبه وحسن إرشاده، فهو من أفضل
كتب التفسير التي أُلِّفت في هذا العصر لحفظ الدين وتأييده، ولبيان ما ترشدنا إليه
الآيات القرآنية من العقائد والعبادات والآداب ومكارم الأخلاق والعمل للدين والدنيا،
والتعاون على البر والتقوى، وما فاز السلف الصالح وساد إلا بإقامة الدين، واتباع
سبيل المؤمنين، فعلى المسلمين أن يقتفوا أثر هذا السلف إن أرادوا ارتقاء صحيحًا
وتقدمًا لا تأخر بعده. وبالجملة فإن تفسير (منارك) يا ذا الفضل فيه للأمة نفع عظيم
وإرشاد إلى طريق الإصلاح القويم، فعلى أهل العلم والمعلمين وغيرهم أن يقتنوه
ويعتنوا بمطالعته لينتفعوا به وينفعوا، ويصلحوا به ما اختل من أحوال المسلمين
بسبب تقليد أكثرهم للأغيار وتهاونهم بالدين، وبالختام أسأله سبحانه وتعالى أن
يجزيكم عن المسلمين خير الجزاء، ويوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه بمنه وكرمه.
27 رمضان سنة 1347 ...
... ... ... أخوكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نجا
... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت
(الثاني لصاحب الفضيلة والسيادة الأستاذ الكبير السيد عبد الفتاح الزعبي
الجيلاني نقيب السادة الأشراف بطرابلس الشام والخطيب المدرس بجامعها الكبير
المنصوري) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين، من الفقير إليه سبحانه وتعالى عبد الفتاح الزعبي الجيلاني إلى السيد
الشريف، والإمام الغطريف، السيد محمد رشيد آل رضا، حفظه الله من سوء
القضا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنه وصلني ما تكرمتم به من الجزء
التاسع من تفسيركم المفيد، فإذا هو مُظْهِر لقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) وقد غدوت شاكرًا فضلكم وممنونًا، وقد نذرت لله تعالى متى
شفا الباري عيني أقرأه درسًا وندعو لكم وللمسلمين بخير، أدامك الله مرشدًا ومجددًا
كما أشار إلى ذلك المرحوم الأستاذ الإمام في آخر أيامه، والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.
... نقيب أشراف طرابلس
في 8 شعبان سنة 1348 ... السيد عبد الفتاح الزعبي الجيلاني
(الثالث لجريدة أم القرى الغرَّاء بمكة المكرمة في 8 شوال سنة 1347)
تفسير القرآن الحكيم
نجز الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم للعلامة الجليل السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار، من أول (قال الملأ) في الأعراف إلى قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} (الأنفال: 41) وهو ذلك التفسير الجليل الغني عن التعريف
الذي تقصر العبارة عن وصفه، غير أننا نشير إلى بعض ما امتاز به عن سائر
التفاسير على كثرتها.
فأول ما امتاز به ذلك التفسير أنه راعى الزمان ونبه فيه على ما أغفله
المفسرون من تطبيق الآيات القرآنية على الآيات الكونية (ثانيها) اتباع طريقة
القرآن في الوعظ والإرشاد؛ فإن الأستاذ بعد أن يفرغ من تفسير المفردات وبيان
الأساليب يرشد المسلمين إلى ما في الآيات من العِبر، ويريهم مواضع الضعف،
ويقفهم على أسباب المرض ويرشدهم إلى العلاج (ثالثها) الرد على الملحدين
والمبتدعين (رابعها) رد الخرافات التي راجت على كثير من المفسرين والحكايات
الإسرائيلية ونقد الأحاديث (خامسها) حل مشكلات كثيرة وتحقيق مسائل لم يسبق
إليها كبيان الحكومة في الإسلام وكون القرآن صالحًا لكل زمان ومكان (سادسها)
التزام طريق السلف في آيات الصفات، وإشباع كل موضوع بما يليق به من البيان،
هذا إلى تحقيق في مفردات اللغة وأساليبها وتناسب الآيات والسور، وإجمال ما ورد
فيها بعد تفصليها مما لم تكد تجده في تفسير آخر.
وبالجملة فهذا التفسير لا يستغني عنه مسلم في هذا العصر، وحسبك بصاحبه
صاحب المنار وحيد دهره، ونسيج وحده، الذي ينم تفسيره ومناره عن غزارة علمه
وعلو كعبه، ومن قرأ تصانيفه ولا سيما هذا التفسير عرف عجز واصفيه، وكان
حسبه تعريفًا ما يراه فيه، وإنا نسأل الله تعالى أن يبارك في عمره حتى يتمه، وينفع
الأمة به.
__________(30/791)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(كتاب الآداب الشرعية والمنح المرعية)
طالما كنت أتمنى العثور على كتاب في الآداب الشرعية والأخلاق الدينية،
حافل الريّ بالمسائل النفسية واللسانية والاجتماعية والصحية، حاوٍ للصحيح من
الأخبار النبوية، والآثار السلفية، خالٍ من البدع والخرافات، وحكاية غرائب
الإسرائيليات، ومن المجون والخلاعة، والفحش والرقاعة، ينتفع بقراءته الرجال
والنساء، ولا تخجل من الاطلاع عليه ذوات الخفر والحياء، فيكون جامعًا لفوائد
العلم الصحيح، والقدوة بأهل الكمال، من أهل العلم والصلاح، ما زلت أتمنى هذا
وأرقب العثور عليه حتى ظفرت بهذا الكتاب (الآداب الشرعية والمنح المرعية)
تصنيف العلامة الفقيه المحدِّث الواسع الاطلاع الشيخ محمد بن مفلح المقدسي
الحنبلي المتوفى بصالحية دمشق سنة 885، فإذا هو الضالة المنشودة، قد جمع
مؤلفه فيه خلاصة مصنفات عديدة، وزاد عليها زيادات مفيدة، إلا أنه أطال في
المباحث الطبية وما يتعلق بها، ومنه أمور الوقاع مما كنا نود أن يجعله كتابًا مستقلاًّ.
أرسله إليَّ الإمام العادل محيي السنة وناشر علوم الملة، ومقيم شريعة الإسلام
بالحكم والعلم والعمل، عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد، ليكون مما أطبعه
له من الكتب النافعة التي يوزعها في الحجاز ونجد ابتغاء وجه الله تعالى، ولما كان
من المحال أن تصل صدقات الإمام إلى جميع بلاد الإسلام، زدت على ما طبعته
لجلالته نسخًا أخرى لمكتبة المنار، تبيعها بثمن معتدل لتعميم نفعه في الأقطار،
ويكون له حظ عظيم من الثواب.
ويتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء تم طبع الجزء الأول منها، وهو يدخل في
511 صفحة أصلية، وجعلنا ثمنه خمسة عشر قرشًا مصريًّا يُضاف إليها أجرة
البريد والتجليد لمن أراد.
__________(30/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أهم حوادث الشرق في هذا العام
(ثورة الهند)
من حسن حظ الهند أنه يوجد فيها عدة زعماء في كل من طوائف الهندوس
والمسلمين، وأنه نبغ فيهم زعيم كبير أذعنوا له بالقداسة الدينية والسياسة
العصرية، تدين له شعوب الهند كلها بالزعامة العامة، وهذا من النوادر التي حُرم
منها الأمم منذ قرون كثيرة، ألا وهو (مهاتما غاندي) الذي يقدسه الوثنيون، ويجله
المسلمون؛ لأنه لم يوجد في الوثنيين من ينصفهم ويعترف لهم بحق المساواة في
المصالح الوطنية مثله، وقد كان رضي من الدولة البريطانية بأن تمنح
الإمبراطورية الهندية نظام الممتلكات المستقلة، وكانت وزارة العمال الحاضرة
وعدت بذلك؛ ولكنها لمعارضة سائر الأحزاب لها ولا سيما المحافظين غلاة
الاستعمار وعشاق الاستعباد البشري اضطرت إلى المراوغة والتسويف وتعليل
البلاد بدرس اللجان لحالها، ووعدها بتأليف مؤتمر في لندن ينظر في شأنها، ولم
تعتبر بامتناع بلاد الهند من الاحتفال بولي عهد الإمبراطورية عند زيارته لها، حتى
شاهد مدنها العظيمة كالمقابر خالية من الزائرين غيره، وغير من معه من قومه،
ولقد أنذرها الزعيم الأكبر غاندي ثورة العصيان المدني عليها، والبدء فيها بعصيان
قانون احتكار الملح الذي يألم من حيفه كل فرد من أفراد الأمة، وضرب لهذا
العصيان أجلاً، وجعل له موعدًا، فتمارى رجالها في الهند وفي لندن بإنذاره،
واستكبروا عن الاستجابة له، لعدهم ذلك مخلاًّ بالعظمة البريطانية، التي لا تقل
كثيرًا عن دعوى الربوبية، وخيل لها احتقارها للبشر عجزه عن تنفيذ تلك النذر؛
ولكنه شرع في التنفيذ وشرعت هي في المقاومة، فكان فوزها جزئيًّا موضعيًّا،
وفوزه عامًّا كليًّا، فقد امتدت الثورة وانتشرت، واستشرت وتفاقمت، وهي تدنو
من العصيان العام، والامتناع من دفع الضرائب الزراعية والعقارية، أعني أنها
تدنو من الثورة الدموية العامة بتدريج منتظم ثابت، بدءًا بمقاطعة البضائع
الإنكليزية والمواد الكحولية، وسحب الأموال الوطنية من المصارف الإنكليزية، ثم
بمقاومة رجال البوليس بالقوة، ثم بتهييج القبائل على الحدود الأفغانية، حتى
شعرت كبرياء الحكومة البريطانية بالخطر، ولا تزال في حيرة من تلافي الخطب
المنتظر، وسنرى ما يخبئ لها القدر.
***
(المفاوضة المصرية البريطانية)
نوَّهنا في الجزء الماضي بخبر هذه المفاوضة، وما اعترض في سبيلها من
عقبة مسألة السودان، وإصرار الحكومة البريطانية على اعتراف الوفد المصري
المفاوض لها بإقرار الحالة الحاضرة فيه، أي امتلاكها للسودان كله امتلاكًا شرعيًّا
بإقرار الحكومة المصرية والأمة المصرية، ورضاهما بأن تكون حياة مصر
الاقتصادية والزراعية، بل حياته الحقيقية التي يقابلها الموت والخراب في قبضة
الحكومة البريطانية القهارة الجبارة … وقد امتنع الوفد المصري من قبول ذلك
بالطبع، فانقطعت المفاوضة مع الاتفاق بين الفريقين على بقاء بابها مفتوحًا، وعدّ
كل ما تقرر فيها مقبولاً، إلى أن يرجع أحدهما إلى رأي الآخر في مسألة السودان.
وكان الجمهور يخشى أن تنقطع المفاوضة على جفاء ومشاكسة، فيعود
الإنكليز إلى العبث بالحكومة وإلغاء الدستور ثانية؛ ولكن كان من علم مصطفى
باشا النحاس وحلمه، وكياسته وفهمه، ودهاء أعضاء وفده، ما مكَّنهم من تمكين
المودة بينهم وبين الحكومة الإنكليزية، بحيث لا يخشى أن تتدخل في أمور هذه
الحكومة النيابية، وهي براعة لم تتح لوفد من الوفود السابقة؛ ولذلك أكبرت البلاد
أمر وفدها، وازدادت استمساكًا بعروته، وثقة بخدمته، وقد انصرفت همة الحكومة
الوفدية الآن إلى النهوض بالمصالح الوطنية الداخلية بلا معارض ولا منازع.
***
(الوفد الفلسطيني)
سافر الوفد إلى لندن برياسة شيخ الشعب صاحب السعادة السيد موسى كاظم
باشا الحسيني، وكان من أركان أعضائه في هذه المرة روح النهضة الفلسطينية
صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الشرعي
الإسلامي الفلسطيني الأعلى، وكان قد سبق الوفد إلى لندن رائده الشاب الذكي
البارع السيد جمال الدين الحسيني، فمهَّد له السبيل بما ألقاه من الخطب في المحافل
المختلفة، ومن المقالات في الجرائد الكبرى، ومن الأحاديث مع كبار الرجال في
المسألة الفلسطينية، فكان ذلك موضع الإعجاب والتقدير، ولولا أن نفوذ اليهود في
بلاد الإنكليز لا يعلوه نفوذ آخر لنجح الوفد في سعيه إلى تأليف حكومة نيابية في
البلاد، فإنه مطلب يقتضيه النظام المسمى بالانتداب، ولم يوجد أحد من الإنكليز
حتى أعوان اليهود منهم يصف العرب الفلسطينيين بما يصفون به الوطنيين من
الهنود والمصريين والعراقيين من التطرف أو عداوة الحكومة البريطانية.
وقد ثبت للفلسطينيين الآن بعد خيبة الوفد أنهم كانوا مخطئين في نوط أملهم
بالحكومة الإنكليزية وغرورهم بكلام بعض المنصفين من الإنكليز الذين يكرهون
اليهود، وأن خصمهم الحقيقي في وطنهم هو الدولة الإنكليزية، وأن اليهود ليسوا
إلا جندًا من جنودها تستعين بهم على نزع أرض هذه البلاد منهم حتى لا يكون لهم
حق في حكومتها من بعد، وأن من مقاصدها أن تقطع أوصال الأمة العربية فتفصل
بين مصر والعراق بشعب أجنبي تخرج به البلاد عن كونها عربية وإسلامية،
فالواجب يحتم عليهم أن يوجهوا كل قواهم إلى مقاومة الاستعمار الإنكليزية في
بلادهم بالاتحاد مع جيرانها العرب - من أهل شرق الأردن وسورية والعراق وكذا
نجد والحجاز - على استقلال هذه البلاد كلها وتأليف الوحدة العربية التي وطَّن
الأنفس عليها جميع المفكرين من العرب، وعليهم مع ذلك أن يستعينوا على خطتهم
بمسلمي سائر الأقطار كما يفعل اليهود، ولا سيما مسلمي الهند الذين لم يقصِّروا في
إظهار العطف عليهم، ومخاطبة الحكومة الإنكليزية في وجوب إجابة مطالبهم؛ لأنه
يعز على كل مسلم في الأرض أن يستولي اليهود على بيت المقدس ويجعلوا المسجد
الأقصى ثالث الحرمين هيكلاً يهوديًّا، وهم يحفظون ما ورد في أخبار مسيح اليهود
الدجال، ومحاربة اليهود للمسلمين تحت رايته، وما وعدهم رسول الله وخاتم
النبيين من نصرهم عليهم.
***
(مؤتمر شرق الأردن)
لا حاجة بنا إلى وصف ما كان من نبأ ذلك المؤتمر الشريف وهو الثالث، ولا
إلى نشر مقرراته بالتفصيل، وقد نشرتها جرائد مصر وسورية وفلسطين، وحسبنا
منها تقريره تأليف حكومة نيابية مستقلة، وعدم اعترافه بشيء مما قررته حكومته
الحاضرة مع الإنكليز وقصاراه جعل البلاد منطقة بريطانية عسكرية محضة!! وإنما
نقول: إن عرب شرق الأردن أقدر من غيرهم من أهل فلسطين وسورية على تنفيذ ما
يقررونه، وإلزام حكومتهم العمل به إذا جدوا وعرفوا قيمة قوتهم بالوحدة وبالسلاح،
وعرفوا ما ينذرهم من الخطر إذا طال العهد على البركان الذي عليه البلاد، فهم لابد
أن يجرَّدوا من القوتين في يوم الأيام إذا لم يظفروا في هذه الفرصة بجعل حكومتهم
نيابية شعبية، خالية من قوة الاحتلال الأجنبية، بل الخطر على كل بلاد العرب حتى
الحجاز كامن في بلادهم، فليستيقظوا من رقادهم.
***
(القانون الأساسي لسورية)
وضع موسيو بونسو العميد الفرنسي لسورية قانونًا أساسيًّا لسورية سماها به
جمهورية نيابية، وحصرها في مضيق عدة حكومات أو دويلات من ملحقاتها
مستقلة بالاسم كاستقلالها وهي لبنان الكبير وجبل الدروز والعلويين أو اللاذقية
وأنطاكية والصحراء أو البادية … وقيَّدها بكل ما تصرف به سلفه المندوبون
السامون من المظالم قبله، وبكل ما تفرضه عليهم فرنسة باسم الانتداب في الحال
والاستقبال، وخلاصة هذا القانون الذي يفرضه على سورية أن يبقى الاستبداد
الفرنسي فيها كما كان، إلا أن رئيس هذه الحكومة السورية التي لا تتجاوز دمشق
وحمص وحماه وحلب يُسمى رئيس جمهورية، ويكون لها مجلس نيابي لا يستقل
بشيء من التشريع إلا ما تريده فرنسة في جزيرة العرب والعراق.
خمدت نيران الفتن في جزيرة العرب وظفر إماماها يحيى وعبد العزيز
بإخضاع العصاة لهما في بلادهما، وانتهى موسم الحج في هذا العام بصحة وأمن
وسلام، وقد اعترفت دولة بولونية بمملكة ابن السعود بما نبينه في الجزء الآتي إن
شاء الله.
ومن أكبر الحوادث فيه اجتماع ملك نجد والحجاز بملك العراق، ووضع
أساس للاتفاق بين حكومتيهما وقد كان ذلك في أواخر رمضان، ولما يظهر لذلك
أثر فعلي في تنفيذ مواد الاتفاق.
***
(مملكة الأفغان)
وأكبر الحوادث التي فرح بها المؤمنون، واغتم بها الملحدون، استواء الشاه
محمد نادر خان على عرش الأفغان، وإقامته للأحكام والإصلاح على قواعد الإسلام،
وجعل التجديد الإلحادي الذي ابتدعه أمان الله خان مما دخل في خبر كان.
__________(30/794)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الثلاثين
بسم الله وبحمده نختتم المجلد الثلاثين من المنار كما بدأناه، وقد تمكَّنا بحول
الله وقوته من إصداره في سنة كاملة، إذ جعلنا شهري الراحة فيها متفرقين لا
متصلين كعادتنا، واستدار الزمان فعدنا إلى جعل صدور المجلة في السنين الهجرية
القمرية كما كان من قبل، فلا محل لشكوى أحد من قرائه بتأخير صدور بعض
أجزائه، وعسى أن لا ينسى المقصرون منهم في أداء حقه ما يجب عليهم منه،
وأن يتقوا الله فيه، وأن يفكروا فيما نبذله من حياتنا وصحتنا ومالنا في سبيل هذه
الخدمة، وأن لا يرضى المفكر في ذلك أن يكون هو الهاضم لحق العامل، المعرقل
للعمل بالباطل، ولا أن يكون غيره من القراء المؤدين لما وجب عليهم خيرًا منه …
وقد بدا لنا في أواخر هذه السنة أن نجيب الملحين علينا بوجوب الإسراع في
إنجاز تفسير المنار إلى اقتراحهم، فأكثرنا منه في الأجزاء الأخيرة حتى كان أكثر
من ستة أعشار هذا الجزء منه، فإن كان قد نُشر نصف الجزء العاشر من التفسير
في سنتين ونيف، فالمرجو أن يتم النصف الثاني منه في هذا العام وحده الذي
يصدر فيه المجلد 31، وقد سبق لنا الوعد للمقترحين بعزمنا على اختصار التفسير
من أول الجزء الحادي عشر، ونرجو حينئذ أن يوفقنا الله تعالى إلى كتابة تفسير
جزءين في كل عام.
وسيكون أهم مواد المجلد الآتي بعد التفسير إتمام تحرير مسألة الربا التي
كانت وما زالت أعقد مسائل الأحكام المدنية في الإسلام، وقد عمَّ الحرج والبلوى
بها جميع المسلمين في جميع الأمصار، ولدينا كثير من المسائل المهمة في باب
الفتوى أرجأنا الإفتاء فيها على إلحاح مرسليها بها، وسنجيب عنها إن شاء الله
تعالى ونقدم أهمها فأهمها.
ولدينا بعد إتمام مقالات (المساواة بين النساء والرجال) التي من فروعها
مسألة السفور والحجاب - محاضرتنا التي ألقيناها في شهر رمضان في مسألة
(التجديد والمجددين) وهي مهمة جدًّا ألقمنا فيها أدعياء التجديد الإلحادي الحجر،
وكان لمجددي الإصلاح الإسلامي بها الظفر، وقد حضرها بعض علماء أوربة من
المستشرقين فاستحسنوها، وشهدوا لنا بالاعتدال فيها.
وسيرى القراء فيه ردًّا على بعض الجامدين على التأويل والتقليد من الشيوخ
المعاصرين، إذ تصدى منهم شيخ تركي شايعه آخر مصري لتشويه مذهب السلف
والطعن في بعض كبار حفاظ السنة، وفي المهتدين بها في هذا العصر؛ لأن هذا
أضر على الإسلام من طعن المبشرين والملحدين فيه.
وقد اضطررنا هذا في هذا العام إلى الرد على كتاب آخر جديد من كتب شيعة
سورية ولبنان بما حرَّف فيه من آي القرآن، للطعن الفظيع في جميع من رضي
الله عنهم من المهاجرين والأنصار، ورميهم بالجبن وخذلان الرسول ونكث ما
عاهدوا الله عليه، والغلو في علي كرَّم الله وجهه، بجعل المنة له وحده في حياة
الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وبقاء الإسلام، إذ أقسم أغلظ الأيمان بأنه
لولاه لقُتل النبي صلى الله عليه وسلم في حنين، ولذهب الإسلام وأطفئ نوره
بالرغم من وعد الله تعالى بإتمام نوره، وإظهاره على الدين كله، ونصر رسوله ...
إلخ.
وقد اطلعنا في مجلة العرفان على رد علينا للسيد عبد الحسين صاحب هذا
الكتاب وهذه اليمين، أخلف فيه ما كنا نظنه فيه من النزاهة وحسن الآداب في الرد
وامتيازه فيه على خصمنا القديم السيد محمد محسن، فإذا هما سيان في المراوغة
والمراء والمجادلة في الحق بعدما تبين، وفي القذع والسباب، والنبز بالألقاب،
ولو رأينا في ردودهما شيئًا من الاعتراف ولو ببعض الحق، والتزام الصدق،
لدخلنا معهما في المناظرة وحكَّمْنَا لجنة من أهل العلم واستقلال الرأي فيها، وإنما
نقول مع الأسف والحزن: إنهما ليسا أهلاً لذلك؛ لأن المقلد المتعصب الذي تربى
على الجدل والتأويل لا يطلب الحق في شيء من جدله، والله إنه ليعز علينا أن
يكونا كذلك، وإن الشاب الشيعي الأستاذ مصطفى جواد أحد محرري مجلة لغة
العرب، لأدنى منهما إلى مراعاة قوانين العلم والأدب على تعصبه للمذهب، وقد
انتقد الجزء التاسع من التفسير في تلك المجلة بما سنراجعه وننصفه فيه عند سنوح
أول فرصة إن شاء الله تعالى، فإننا إنما لمحناه في أثناء مرضنا لمحًا.
أنا لا أجادل فيما أنكر السيد محسن على السيد الآلوسي في مسألة فتاوى
المهدي المنتظر، ولا في المتعة الدورية التي هي أقبح فضائح البشر؛ ولكنني
أتحداه وأتحدى مجلة العرفان بأن ينشرا فيها صورة الكتاب الذي يزعمان أن السيد
محمود شكري الآلوسي قرَّظ فيه كتاب السيد محمد بن عقيل (النصائح الكافية) …
بعد أخذها عن الأصل (بالزنكوغراف) فإننا نعرف خط السيد محمود، ونعلم أنه
كان لا يداهن ولا يتكلم إلا بالحق.
__________(30/798)
المجلد رقم (31)(31/)
المحرم - 1349هـ
مايو - 1930م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الحادي والثلاثين
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) .
{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) .
لبيك اللهم ولك الحمد كما تحب وترضى، وصلواتك الطيبات، وتحياتك
المباركات الزاكيات، وصلاة ملائكتك المقربين وعبادك المؤمنين على رسولك
محمد خاتم النبيين، الذي أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أُولي قرابته
وقربه، وعلى التابعين لهم في طاعته وحبه، واتباع سُنته في بيان كتاب ربه،
على ما نقلوه لنا عنه من قول وعمل، وفضيلة وأدب، وتشريع وحكم.
أما بعد:
فإنني أُذكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الحادي والثلاثين، بنحوٍ مما كنت
أذكرهم به فيما سلف من السنين، من حظ المسلمين من الإسلام وأثر الإسلام في
المسلمين، ولا سيما حال ملاحدتهم ومبتدعتهم، وفساقهم وظلمتهم، وجامديهم
ومقلدتهم. وقد كان من قدر الله تعالى أن ألممت في فاتحة المجلد الثلاثين بشيء من
دعاية التجديد الإلحادية. ومفاسد فوضى النساء الشهوانية، ثم كان أن اصطدمت
بالفريقين في أثناء تلك السنة بالمناظرة والمحاضرة، فكانت الحجة والغلب لهداية
الإسلام، وظهر ذلك للخاص والعام، وعلمنا به أن ما كانوا يذيعونه عن شباب
مصر وسائر نابتة العصر، من انسلاخهم من وجدان الدين، واتباعهم غير سبيل
المؤمنين، وانتظامهم جندًا خاضعًا لدعاية الإلحاد، وقيادة الإباحة والفساد - إنما هو
زور وبهتان، وإرجاف وإيهام، فقد نصر جمهورُ طلبة الجامعة المصرية داعية
الإسلام نصرًا عزيزًا، واقترحوا عليه أن يكتب مقالات في بعض الجرائد اليومية
يفصِّل بها ما أجمل في مناظرة الجامعة تفصيلاً، فكتبنا في جريدة (كوكب الشرق)
مقالات تجاوزت جمع القلة إلى جمع الكثرة، فكان لها ما كان من حسن التأثير في
الأمة، ولم يرتفع للملحدين والإباحيين في الرد عليها صوت، على ما حذقه أكثرهم
من خلابة المِراء وسخف القول. وإن لها لبقية، ستكون إن شاء الله تعالى راضية
مرضية.
بيد أن ريح الطيش طارت بلب داعية قبطي منهم كان أول مَن عاب الإسلام،
وقال بتفضيل الذكور على الإناث في الميراث، ودعا المسلمين إلى نبذ الفرائض
المقررة في نصوص القرآن، فلم يجد حيلة في مقاومتنا إلا إثارة العصبية الجنسية
الفرعونية. ودعوة المصريين كافة إلى ترك قراءة كل ما يكتبه مَن لا يجري في
عروقه الدم المصري الفرعوني، ولا سيما مَن كان من أصل سوري، كأنه لغروره
بقبطيته يتوهم أن مسلمي مصر كلهم يفضلون نسب فرعون - الذي لعنه الله ولعن
آله وقومه في كتبه، وعلى ألسنة رسله - على نسب سيد ولد آدم، وأكمل مصلح
ظهر في العالم، وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، الذي تعبَّدهم الله تعالى
بالصلاة عليه وعلى آله الطاهرين، كما تعبَّدهم بلعن فرعون وقومه الوثنيين،
بقوله تعالى بعد ذكر غرقهم وعاقبة ظلمهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ} (القصص: 41-42) .
ولو شئنا لأثرنا عصبية إسلامية على هذه العصبية الفرعونية فاجتاحتها وكان
أهلها الخاسرين، ولكننا نكرم أنفسنا عن مثل هذا السلاح، ومن العجيب أن أعداء
الدين الذين يزعمون أن التعصب له هو الذي يفرق بين أهل الوطن - يستبيحون
التفريق والتعادي والتخاصم بالتعصب للجنس والنسب؛ لأنهم لا يكرهون شرور
العصبيات وضررها، وإنما يكرهون مثارها من النفس وسببها، كأنهم يكرهون
الغرائز والعقائد الدينية الإسلامية - وهي وجدانية اضطرارية - دون المفاسد التي
تتولد من الغلو والإفراط فيها وهي اختيارية. وأما نحن فنكره سوء استعمال الغرائز
والأديان، الذي هو كسوء استعمال العقل والجوارح والحواس. ويرى جماهير
المسلمين في مصر أن القبط قد أسرفوا في تعصبهم الملي، واستغلال نفوذهم في
الوفد المصري، فصبر الأكثرون عليهم صبر الكرام، حرصًا على الوحدة السياسية
أن يصدعها الانقسام، وإن تصدى خصوم الوفد منهم لإثارة النعرة الإسلامية عليهم
وعلى الوفد بغضًا في الوفد لا تمسكًا بالإسلام، ونحن نربأ بنفسنا أن تعبث بها هذه
الأهواء، وإنما هذه كلمة قد حبذها الاستطراد.
بيد أن الذي أتأياه في هذه الفاتحة، وأذكِّر بخطره الأذهانَ الغافلة، هو أن
أنصار الجمود والبدع المأوفة، وحماة التقاليد المألوفة، ممن سماهم الأستاذ الإمام
(حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب) قد أثار بعضهم في هذا العهد عصبية
مذهبية هي أضر على المسلمين من أثرة القبط عليهم في مصالح الحكومة، ومن
فريقي المبشرين والملاحدة. فإن انتصارنا على هذين الخصمين بالحجة والبرهان
يفهمه ويغتبط به جميع طبقات المسلمين من الخواص والعوام.
وأما انتصارنا على أولئك بآيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وسيرة السلف الصالح فلا يعقله إلا من أوتي من سلامة الفطرة واستقلال الفكر ما
كان به ممن قال الله تعالى فيهم {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) ولا
يزال أكثر طلاب العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية يطلبون معرفة الحق بشهرة
قائله، أو سعة جبته وشكل عمامته، أو بلقبه الوهمي، أو بمنصبه الرسمي، وهم
ينفرون من الدليل ومن صاحبه، ويسيئون الظن به.
وقد كان طلاب الإصلاح الإسلامي يسمعون من هؤلاء الجامدين ومن
المبتدعين أذًى كثيرًا ويصبرون عليهم، إذ يرون أن مبلغ أذاهم لا يعدو بطء
انتشار الإصلاح فيمن حولهم، ويسُرّ الذين يعرفون تاريخ الأمم والملل أن مقاومة
الإصلاح في تاريخ الإسلام أضعف من مثلها في تاريخ النصرانية، ويحمدون الله
تعالى أن الجامدين من كبار علماء الدين الرسميين لم يبلغ منهم الجمود أن يتصدى
أحد له قيمة منهم للكتابة والنشر في الرد على دعاة الإصلاح المستقلين، ذلك بأنهم
يعلمون أنهم يدعون إلى حق وخير وهو الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم في الدين على منهج السلف الصالح الذين هم خيار هذه الأمة، والأخذ
في مصالح الدنيا بما ثبت للبشر نفعه بالتجارِب الفنية والعملية، مع مراعاة القواعد
الشرعية، وإنما يمتعضون من هذه الدعوة لأمرين:
(أحدهما) خشية إفضاء الاستقلال في فهم الدين إلى الخروج عن المذاهب
المتبعة إلى دعوى الاجتهاد المطلق، ولا يتسع هذا التذكير لبيان مثار هذه الخشية
من النفس وما لها من الهوى فيها.
(وثانيهما) أن هذا تجديد في الإسلام تخرج به الزعامة الدينية من عهدتهم
لعدم استعدادهم للنهوض به، وعجزهم عن تولي القيادة في ميدان جهاده، وأذكّّرهم
بما بينته مرارًا من التفرقة بين الاجتهاد المطلق بوضع مذهب جديد، والاستقلال
في العلم واتباع السلف في هداية الدين.
ولكن نجم في هذه السنين الأخيرة رجل من أعداء السنن، كما ينجم قرن
المعز، لم يلبث أن تصدى لنطاح صخرة هداية السنة النبوية والسيرة السلفية،
دون غيرها من المقاصد الإصلاحية، وهو شيخ تركي لا ندري أكان من أولئك
الجامدين الذين فتنوا رجال الدولة العثمانية عن الدين بتعصبهم لتقاليد كتب الحنفية،
فصدوا أولئك السياسيين عن أصل الملة الحنيفية، أم هو دسيسة كمالية يبغي بها
الكماليون مقاومة حركة الإصلاح الإسلامية، التي تقاوم دعاية التفرنج الكمالية؟ !
بدأ هذا التركي نطاحه للسنة وحُفَّاظها بدسائس ببثها في حواشي المطبوعات
من كتبها، التي يتَّجر تلميذ له من الأغرار بطبعها، ثم بث دعايته في الأزهر
فاستمال لمشايعته عليها عالم من أشياخه المشهورين، كان في موقف التجاذب
والتدافع بين الجامدين والمجددين، حتى كان بعض تلاميذه وأصدقائه يرجون أن
يخلف الأستاذ الإمام في ناحية من نواحي خدمته للإسلام، فخابت فيه الآمال.. أو
يعود إلى الاعتدال.
كان الشيخ التركي أحذق من الشيخ المصري في الصد عن السنة وحفاظها،
وعن مذهب السلف وأنصاره. فإنه سلك فيه مسلك الدسائس السياسية، وقدر السير
فيها مراحل كالمراحل الكمالية في هدم الشريعة الإسلامية، فبدأ هو بالطعن على
بعض حفاظ السنة المشهورين، وتفضيل أهل الرأي على أهل الحديث، وسخَّر
الشيخ المصري للجهر بما لم يتجرأ هو على الجهر به من مناجزة المعاصرين،
واستدرجه إلى كتابة شيء جهر فيه بالنيل من شيخ الإسلام، وهجر بغميزة الأستاذ
الإمام، ونشره له مطبوعًا باسمه، ولعله فعل ذلك بدون إذنه، ليجعله دريئة له في
ميدان الجدال، ومِجَنًّا يتقي به في معارك النزال.
لا خوف اليوم على مذهب السلف من سيف هذا التركي ولا من مِجَنِّهِ. وقد
أعلى الله مناره، وأعز مهاجرته وأنصاره، وأنشأ له دولة، وجعل له صولة،
فتعددت جمعياته وصحفه، وكثرت رسائله وكتبه، فتضاءلت أمامه التأويلات
الكلامية والتقاليد الخرافية، ولا خوف على طريقة الأستاذ الإمام في الإصلاح،
بعد أن اتفقت الكلمة على إمامته، وانكشفت بموته الحجب التي كانت مضروبة أمام
جلالته، من استبداد أمير، وحسد شيخ كبير، وتقليد غر جاهل، وحقد غمر
متجاهل. وإن ظهر أن لحسد بعض الأشياخ بقية في الزاوية، أخرجها منها ذلك
التركي الداهية، وسنفرُغ في هذا المجلد لرد هذا الهجوم ببيان بطلانه وضرره في
الإسلام والمسلمين في هذا العصر، الذي يهاجم الإسلام جيشان قويان من جحافل
الكفر أقواهما جيش الملاحدة الذين صار لهم دولة، وإن كانت واحدة، وأضعفهما
جيش المبشرين وإن كان لهم دول متعددة، فيجب على أهل العلم وحملة الأقلام من
المسلمين الاتحاد والتعاون للجهاد في هذه السبيل سبيل الله، بدلاً من إضعاف
الإسلام بالتعصبات المذهبية التي كانت أضر عليه في عهد قوته من كل أعدائه من
الكفار. فكيف يكون ضررها الآن؟ ! .
وقد كان من حكمة الله في تقديره ولطفه في تدبيره أن بلغنا عند كتابة هذه
الفاتحة الكلام على تأسيس جمعية العروة الوثقى من تاريخ الأستاذ الإمام الذي
ألجأتنا أحداث السياسة إلى تأخير نشره إلى هذا العام. فرأينا أن ننشر لقراء المنار
بعض تعاليمها السرية؛ لأنها قد صارت من الحوادث التاريخية، فهي أفضل أطوار
الإصلاح الذي نتخوَّلهم به في هذه الفواتح، وخير صدمة لتقحم الجامح، وتهجم
الطامح، وهذا نصها:
بعض الأصول العملية
لأعضاء جمعية العروة الوثقى السياسية
العقد الرابع للعروة الوثقى:
(1) ينعقد بثلاثة يقسمون اليمين المعهود.
(2) مذاكرة المجتمعين عند الالتئام المعتاد تكون في أمور: التذكير بآيات
الله - النظر في حالة الإسلام عند بدئه وما كان عليه النبي وخلفاؤه فقط - البحث في
السبب الذي امتدت به سطوة الإسلام حتى صال على جميع الأديان وكان يبتلعها في
زمن قصير - كيف انقلب الحال وآل إلى ما نراه؟ .
(3) يلاحظ كل باحث أن ذاته في موضوع البحث فيطلب العلة من نفسه
قبل أن يطلبها في غيره، ويقارن بين حاله وحال السلف بوجه الدقة والإنصاف.
(4) مدارسة أحكام الجهاد وحقوق المسلم وما هو مكلف به في معاملة غيره
وما يُفرض عليه إذا زحف الأعداء لخضد شوكة الإسلام.
(5) النظر في حال المسلمين لهذا الوقت أخذًا من أقوالهم وأعمالهم للوقوف
على إحساسهم الديني ومقدار الداعية الاعتقادية ليعلم الداء ويعالج بالدواء اللائق به.
(6) كتب كل فكر وتدوينه مفصلًا ثم مجملاً مع ما تستقر عليه الآراء.
(7) العمل في الدواء بالقول (ومنه الكتابة والتأليف) وبذل المال في
مساعدة من يقوم بنصر الدين وحمل السلاح للمقاتلة بين يديه عند المُكنة.
(8) كل واحد من أهل العقد مكلف بالعمل وإعداد أسبابه وما لا يتم إلا به،
وبدعوة الناس إلى عقده والارتباط به؛ مع الاحتراس التام من كل ما يفيد أن هناك
عقدًا، والثقة بمريد الانضمام إنما تتحقق عند اتفاق آراء أهل العقد عليها.
(9) يكون معظم الاهتمام بضم الصالحين للأمر من ذوي المكانة على
اختلاف طبقاتهم من علماء وأمراء ورؤساء عشائر وغيرهم. وفريضة كل منهم أن
يعمل للإسلام فيما خوله الله.
(10) في كل حالة يراعى تمكين الفكر وتأسيس الارتباط حتى يكون عند
كل واحد أن مصلحة الكل بمنزلة الشخص أو أعلى، ولا يُقبل قول من قائل حتى
يكون عمله أزيد من قوله أو مساويًا. العمل: بذْل المال والروح، والأول أقرب
الدليلين.
(11) على أهل العقد أن يرسلوا رسلاً إلى نواحي الوطن الحالِّين به وإلى
المواطن المستعدة من غيره؛ متى أمكنهم ذلك.
(12) لا يكون الشخص رسولاً حتى يكون سير العقد ملكة راسخة فيه،
ويكون على قدرة كاملة في تصريف القول، وتوفيق النصح مع طباع المنصوحين
وحالة السلطة العارضة عليهم، فيكون حكيمًا في عمله لا يحتاج لوصية من غيره،
ولا لقَيِّم يلاحظ عمله.
(13) يسمح للعقد أن يبعث رسلاً من الخارجين عنه على أنهم وعاظ
يعملون المعروف من الدين ويؤيدون مناطيق القرآن، وعلى العقد أن يرسم لهم
طريق النصيحة بدون أن يعرفوا أن هناك عقدًا.
(14) على الرسول إن كان من أهل العقد أن يكاشف عقده بما يحس به من
انفعالات الناس، وما يأخذ قوله من قلوب السامعين لدعوته، وما أثر تعليم الوعاظ
المبعوثين من طرف العقد.
(15) من استحق باستعداده الدخول في العقد فعليه أن يقدم رسمًا ماليًّا أقله
مائة فرنكٍ وأوسطه مائتان وأكثره ثلاثمائة، ولا يُستثنى من ذلك إلا عالم أو معتقَد
عند الناس لا يستطيع أداءً، على شريطة أن يبذل العالم وسعه في تبيين الحق وبثه،
والمعتقد جهده في حمل معتقديه على العمل في مقاصد العقد، فإن استطاع هذان
الصِّنفان تأدية النقد فهم أولى الناس بها.
(16) يجتمع أهل العقد في كل أسبوع مرتين للمذاكرة فيما سبق بيانه في
الفصل الأول وما بعده.
(17) يجب على كل واحد أن يؤدي في آخر كل جلسة مقدارًا من النقد
على حسب استطاعته قليلاً أو كثيرًا يدور على الحاضرين مَن أصغرهم سنًّا
بصندوق صغير له فوهة ضيقة يضع فيها كل واحد ما تيسر خفية حتى لا يُعلم مَن
أدى أقل ومن أدى أكثر. لا يستثنى من ذلك أحد، ويسمى هذا الصندوق صندوق
التبرع.
(18) يحفظ النقد المجتمع من الرسوم الابتدائية والتبرع عند من ينتخبه
العقد أمينًا.
(19) يودع في ظرف تكتب عليه هذه العبارة: (هذا مال حق التصرف
فيه لعقد الإخلاص تحت رئاسة فلان) (يُذكر اسم الرئيس) .
(20) يستعمل هذا المال في النفقة على محل الاجتماع ولوازمه، وفي
سبيل نشر المشرب وإرسال الرسل الداعين إلى الحق، وفي إغاثة المقصرين مما
ترجى منهم فائدة لمقصد الجمعية، وما يفضل عن ذلك فالنظر فيه للجمعية العليا
(جمعية العروة الوثقى) إما مباشرة أو على يد أحد نوابها.
(21) يكون للعقد أربعة دفاتر (أحدها) لحصر أسماء رجاله (ثانيها)
لأسماء رسله (ثالثها) لحصر النقد المجتمع (رابعها) لإحصاء النفقات.
(22) إذا توفر في الصندوق مبلغ من النقد وافر وأمكن تنميته على وجه
شرعي مأمون الخسارة فعلى أهل العقد أن يدبروا أمر نموه.
(23) على القائم بضبط الحساب في الإيراد والصرف أن ينهج الطريقة
المعهودة في مركز العقد: أن يضعوا لها نظامًا حسب المعروف في بلادهم.
(24) لا يصرف شيء إلا بقرار من أهل العقد يتفق عليه جميعهم أو
أكثرهم.
(25) إذا قضت الحوادث بعمل عاجل يقرب من مقصد الجمعية وخيف
فوات الفرصة بفوات الوقت واحتيج إلى نفقة تقتضي زيادة عن الموجود وجب على
أهل العقد أن يبذلوا ما في وسعهم لإتمام العمل.
(26) لا يباح لأحد من رجال العقد أن يذكر شيئًا من أحوالهم ومقاصدهم
ومذاكراتهم عند مَن ليس من مقصده في شيء، بل لا يباح التصريح باسم العقد
وأهله إلا لمن حصلت الثقة بحاله عند رجال العقد.
(27) على رجال العقد أن يحمي بعضهم بعضًا ويعِين كل منهم باقيهم بقدر
الاستطاعة.
(28) الاستطاعة لا تفسر بالأهواء حتى يعد كل وهم عجزًا وإنما هي
المعروفة عند المخلصين التي لا يعدمها الإنسان ما دام حيًّا قادرًا على الحركة.
(29) إذا رأى أهل العقد أن يزيدوا شيئًا فيما وصلهم من قانون الجمعية
حسب حالة بلادهم فعليهم مخابرة من يتولى مواصلتهم فيما يريدون.
(30) القانون الداخلي للاجتماع يضعه أهل العقد.
***
اليمين الذي يحلفه المرتبطون بالعقد
أقسم بالله العالِم بالكلي والجزئي، والجلي والخفي، القائم على كل نفس بما
كسبت، الآخذ لكل جارحة بما اجترحت - لأُحَكِّمَنَّ كتاب الله تعالى في أعمالي
وأخلاقي بلا تأويل ولا تضليل. ولأجيبن داعيه فيما دعا إليه ولا أتقاعد عن تلبيته
في أمر ولا في نهي، ولأدعون لنصرته، ولأقومن بها ما دمت حيًّا، لا أُفضل
على الفوز بها مالاً ولا ولدًا.
أقسم بالله مالك روحي، ومالي، القابض على ناصيتي، المصرف لإحساسي
ووجداني، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله - لأبذلن ما في وسعي لإحياء
الأُخوَّة الإسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحتين، ولأعرفنها كذلك
لكل من ارتبط برابطة العروة الوثقى وانتظم في عقد من عقودها، ولأراعينها في
غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضر بشوكة الإسلام، فإني أبذل
جهدي في إبطال عمله المضر بالدين، وآخذ على نفسي في أثره مثل ما آخذ عليها
في المدافعة عن شخصي.
أقسم بهيبة الله وجبروته الأعلى أن لا أقدم إلا ما قدمه الدين، ولا أؤخر إلا ما
أخره الدين، ولا أسعى قدمًا واحدة أتوهم فيها ضررًا يعود على الدين جزئيًّا كان أو
كليًّا، وأن لا أخالف أهل العقد الذين ارتبطت معهم بهذا اليمين في شيء يتفق رأي
أكثرهم عليه، وعليّ عهد الله وميثاقه أن أطلب الوسائل لتقوية الإسلام والمسلمين
عقلاً وقدرة بكل وجه أعرفه، وما جهلته أطلب علمه من العارفين، لا أدع وسيلة
حتى أحيط بها بقدر ما يسعه إمكاني الوجودي.
وأسأل الله نجاح العمل، وتقريب الأمل، وتأييد القائم بأمره، والناشر لواء
دينه، آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... النائب: محمد عبده
(المؤلف) مَن تأمل هذه الأصول وهذه اليمين حق التأمل تجلى له أن كاتبها
الداعي إليها، المجاهد في سبيل غايتها - من أقوى المؤمنين بالله وبما جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين إيمانًا، وأشدهم في إيمانهم إيقانًا، وأرسخهم في يقينه
وجدانًا، وأعلمهم بمقاصد هذا الدين وتاريخه وإصلاحه لأمور البشر، وأعظمهم
غيرة عليه وجهادًا في سبيل الله لإعادة مجده، وتجديد ملكه، وإحياء شرعه، وإنقاذ
أهله من الذل.
ومن قرأ مكتوباته - قدس الله روحه - لبعض العلماء والكبراء من المنتظمين
في سلك العقد في الفصل الأول من الباب الخامس من منشآته، المصدَّر أكثرها بكلمة
شعاره (لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة) رأى فيها شرحًا جليًّا لهذه
الأصول الجليلة، وعلم من هذا وذاك أن خدمة الجم الغفير من كبار علماء الأزهر
وغيره من المصنفين في العلوم الإسلامية المختلفة منذ عدة قرون للإسلام لَتصغُر
وتتضاءل في جانب خدمة هذا الرجل وأستاذه، فإن علومهم ومصنفاتهم كانت في العهد
الذي تهدَّم فيه ملك الإسلام وضعفت هدايته ولم يكن لها أقل تأثير في العلم والعمل؛
لأنها كلها مباحث لفظية، ومناقشات في عبارات بعض كتب المقلدين، وليس لأحد
منهم فيها كلمة تدل على الشعور بذلك، فضلاً عن الدعوة إلى تداركه، والجهاد في
سبيله.
ولو شئنا شرح هذه الأصول وما أدمج فيها من الحِكَم والعبر لزدنا القارئ
إعجابًا بأمر هذين الحكيمين وجهادهما، ولا تظن أن بين ما في الأصل الثاني من
التذكير بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه فقط، وما في الأصل
الثالث من الاعتبار بسيرة السلف، وما في الأصل الرابع من الإشارة إلى أحكام
الفقه - لا تظن أن بين ما ذكر شيئًا من التعارض فإن لكل نوع منها غرضًا خاصًّا،
فالأول للاعتبار بنشأة الإسلام وتأسيسه، وما بعده ظاهر لا يحتاج إلى بيان.اهـ.
من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام.
فليعتبر قراء المنار بهذا الجهاد، ونسأله تعالى أن يهدينا سبيل الرشاد.
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(31/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن
أو الربا المحرم القطعي المراد بالوعيد الشديد
إن هؤلاء العلماء الأعلام من محققي المفسرين والمحدِّثين والأصوليين
والفقهاء قد صرحوا بأن الربا الذي حرمه الله تعالى بنص كتابه العزيز، وتوعد
آكليه أشد الوعيد، هو الربا الذي كان فاشيًا في الجاهلية ومعروفًا عند المخاطبين
في زمن التنزيل، وهو أخذ مال في مقابلة تأجيل دَيْن مستَحَقّ في الذمة من قبل،
وهو المسمى (ربا النسيئة) لأن أخذ الزيادة على رأس المال إنما سببه إنساء
أجل الدين المستحق - أي تأخيره - لا في مقابلة منفعة ما لمعطيها. وهو قول الحبر
ابن عباس في تفسير آيات سورة البقرة وتدل عليه نصوص الآيات بإباحة ما سلف
منه وإيجاب الاكتفاء برأس المال على مَن تاب كما تقدم عنه رضي الله عنه.
ويؤيد هذا أمران: (أحدهما) الاستعمال اللغوي، ووجهه: أن هذا اللفظ كان
مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم وذكر في بعض
السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعًا جديدًا في الشريعة
فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي،
بل اللام في (الربا) للعهد كما صرح به بعضهم.
(ثانيهما) أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تُعهد في
التنزيل ولا في السنة ولا ما يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم إثمه وفحش
ضرره من الكبائر، ويؤكده الوعيد الوارد في الأحاديث النبوية، وهاك الإشارة
إليها بالإيجاز:
(1) قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ} (البقرة: 275) أي
من قبورهم يوم البعث والنشور {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وهو الجنون، وقد ورد أن المرء يبعث على ما مات عليه، فإذا
كان هذا حال آكل الربا عند البعث وقبل الحساب، فكيف يكون حاله بعد ذلك في
النار؟ وهو:
(2) قوله تعالى فيمن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) وقد حملوه على المستحِلِّ له لأن استحلاله
كفر.
(3) قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: 276) أي يمحق بركته.
(4) قوله تعالى بعد ذلك {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276) وحرمانه من محبة الله تعالى يستلزم بغضه ومقته عز وجل.
(5) تسميته كفَّارًا أي مبالغًا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء
واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلاً من انتظاره وتأخير دينه إلى الميسرة، أو
إسعافه بالصدقة.
(6) تسميته أثيمًا، وهي صيغة مبالغة من الإثم وهو كل ما فيه ضرر في
النفس أو المال أو غيرهما وأشدها المضار والمفاسد الاجتماعية.
(7) إعلامه بحرب من الله ورسوله لأنه عدو لهما، في قوله تعالى بعد الأمر
بترك ما بقي للمرابين من الربا بعد التحريم {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279) .
(8) وصفه بالظلم في قوله {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) .
(9) عَدّ النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر
الكبائر ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (اجتنبوا السبع
الموبقات) أي المهلكات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله والسحر
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم
الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) .
(10) ورود عدة أحاديث صحيحة في لعنه صلى الله عليه وسلم لآكل الربا
وموكله، وفي بعضها زيادة كاتبه وشاهديه.
(11) في غير الصحاح أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه منها أن
درهم ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام وفي بعضها 36 زنية، وفي
بعضها بضع وثلاثين زنية وفي بعضها (الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان
الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرض أخيه) رواه الطبراني في
الأوسط من طريق عمرو بن راشد وقد وثقه ابن حبان على نكارة حديثه هذا.
وجملة القول أن هذا الوعيد الشديد كله لا يمكن أن يكون على ربا الفضل
الوارد في حديث عبادة وأبي سعيد وغيرهما لأنه لا ضرر فيه ولذلك اضطر بعض
الفقهاء إلى القول بأن تحريمه تعبدي لا يعقل معناه. ومن المعلوم من الدين
بالضرورة لصراحة أدلته في الكتاب والسنة أن الإسلام يسر لا عسر فيه ولا حرج،
وأنه الحنيفية السمحة، وقال العلماء: إن من علامة الحديث الموضوع أن يكون
فيه وعد بثواب عظيم على عمل تافه أو سهل قليل التأثير - أو وعيد شديد على
عمل ليس فيه ضرر في الدين ولا في الدنيا أو فيه ضرر قليل.
هذا، وإن بيع الأجناس الستة بعضها ببعض مع التفاضل المعتاد بالتراضي
أو بيع جنس بآخر مع تأخير القبض ليس فيه من الضرر والفساد ما يستحق فاعله
شيئًا من أنواع ذلك الوعيد فلا يفهم له علة إلا سد ذريعة ربا النسيئة الذي نهى الله
عنه وتوعد فاعله بما لخصناه آنفًا، فهو كنهيه صلى الله عليه وسلم عن خلوة
الرجل بالمرأة الأجنبية، وعن سفرها إلا مع ذي رحم محرم، وعن الانتباذ في
الأواني التي يسرع فيها اختمار النقيع المنبوذ فيها من تمر أو زبيب، وعن الجلوس
على مائدة يشرب عليها الخمر؛ لأن هذا وذاك مما يسهل وجود الخمر ويجرئ على
شربها بتأثير الألفة والقدوة، ومثله أو أشد شرب القليل من الشراب الذي لا يسكر
إلا الكثير منه. وأبلغ من هذا في النهي لسد الذريعة نهي الله عز وجل للمؤمنين
عن سب آلهة المشركين وأصنامهم مع تعليله الدالّ على ذلك وهو قوله: {وَلاَ
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) .
وأما تسمية ذلك ربا في بعض الروايات فمن باب المجاز المرسل كقوله تعالى
حكاية عن أحد صاحبي يوسف في السجن {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف:
36) وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على هذا في بعض روايات
هذه الأحاديث كحديث ابن عمر عند الإمام أحمد والطبراني (لا تبيعوا الدينار
بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا) وقد
ورد في روايات متعددة إطلاق لفظ الربا أو أشد الربا على استطالة الرجل في
عرض أخيه يعني بالغيبة، وإطلاق لفظ الزنا على مقدماته في حديث مرفوع
معروف.
وروى مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن ابن عمر قال: قال
عمر بن الخطاب لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلاً بِمِثْل ولا تبيعوا الورِق بالذهب
أحدهما غائب، والآخر ناجز، وإن استنظرك حتى يلج بيته فلا تنتظره إلا يدًا بيد
هات وهاء، إني أخشى عليكم الرماء. والرماء هو الربا.
وروى مالك والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف
ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. قال: قال عمر: لا تبايعوا
الذهب بالذهب ولا الورِق بالورِق إلا مثلًا بِمِثْلٍ سواءً بسواء ولا تشفوا بعضه على
بعض؛ إني أخاف عليكم الرماء.
ولكن الوعيد الشديد في الربا وما يقتضيه من الورع واتقاء الشبهات أوقع
الناس في مشكلات من هذه المسألة منذ ذلك العصر إلى اليوم، فترى أن عمر
(رضي الله عنه) على نهيه عن ربا الفضل خوفًا من إفضائه إلى الربا وعلى
تصريحه بأن آية البقرة آخر ما نزل يعني من آيات الأحكام وأنه صلى الله عليه
وسلم توفي ولم يقل لهم فيها شيئًا غير ما كانوا يعلمونه من ربا الجاهلية، ومن
وضعه وإبطاله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقوله فدعوا الربا والريبة -
تراه على هذا قد قال فيما رواه عنه ابن أبي شيبة لقد خفت أن نكون قد زدنا في
الربا عشرة أضعافه بمخافته، ولقد صدق رضي الله عنه فكل من جاوز حد شيء
وقع في ضده.
***
فصل مهم
في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته
بالربا القطعي بالنص
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات: وإنما حرمت المخابرة وهي
المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس
النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل
بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسمًا لمادة الربا
لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من
تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب
ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا تنتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا.
يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا. والشريعة شاهدة بأن كل حرام
فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب. اهـ كلام ابن كثير، وأورد بعده حديث النعمان في الحلال والحرام
والشبهات وهو معروف وسيأتي البحث فيه.
أقول: إن العماد ابن كثير رحمه الله تعالى قد فطن لما غفل عنه جمهور العلماء
أو قصروا في بيانه في هذه المسألة الخطيرة ولكنه لم يسلم من مجاراتهم في بعض
ما أخطأوا فيه بل أقرهم عليه واحتج لهم بما لا حجة فيه، ويؤخذ منه ومما قدمناه
عليه أمور يجب تدبرها لتحرير هذه المسألة المشكلة فنقول:
(1) إذا كان عمر أمير المؤمنين (الذي قال فيه عبد الله بن مسعود من
أكبر علماء الصحابة إنه قد مات بموته تسعة أعشار العلم) قد خشي أن يكون
مسلمو عصره قد زادوا في الربا عشرة أضعافه من شدة خوفهم من الوقوع في شيء
منه، فإن من بعدهم قد زادوا عليهم أضعاف ما وقعوا فيه من باب الاحتياط واتقاء
الشبهات، فإنهم عدوا منه ما نُهي عنه من البيوع مهما تكن صفة النهي ومهما يكن
سببه، وعدوا منه البيوع الفاسدة عندهم، وإن يكن سبب ما قالوه في فسادها رأي
لبعضهم ما أنزل الله به قرآنًا، ولا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بيانًا،
وصارت هذه الأنواع التي لا تكاد تُحصى مقرونة في أذهان الجميع بذلك الوعيد
الشديد في كتاب الله تعالى وفي الأحاديث الصحيحة وكذا الضعيفة والمنكرة والشاذة
والموضوعة التي رووها في ذلك، ويقل في المسلمين في هذه الأعصار من يميز
بين ما يصح منها وما لا يصح فأوقعوا المسلمين في أشد الحرج المنفي بنص كتاب
الله تعالى المحكم في دينه.
(2) إن قولهم الذي جعلوه أصلاً تتدلى منه فروع لا تحصى في الربا وهو
(إن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة) غير مسَلَّم فالجهل ليس كالعلم ولا يصح أن
يُجعل دليلاً على التحريم الذي تقدم أن السلف الصالحين لم يكونوا يقولون به إلا
بنص قطعي الرواية والدلالة؛ بل نقل الإمام أبو يوسف عنهم اشتراط وروده في
كتاب الله تعالى بنص جلي لا يحتاج إلى تفسير. وقد علمنا أن الله تعالى لم يحرم
في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه
الذي من شأنه أن يتضاعف ويكون مخربًا للبيوت ومفسدًا للعمران، ومبطلاً
لفضائل التراحم والتعاون بين الناس. ومن الغريب أن ينوه العماد رحمه الله تعالى
بعلم هؤلاء الذين قال فيهم: إنهم حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك
المفضية إلى الربا، وغفل عن كونهم إنما ضيقوا ما وسَّعه الله تعالى وعسروا ما
يسره مخالفين في ذلك لنص كتابه ولسنة رسوله الذي أمر أصحابه وعماله وأمته
بالتيسير ونهاهم عن التعسير كما هو ثابت في أحاديث الصحاح والسنن المشهورة.
(3) قوله في توجيه مسلكهم إن الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه
مثله؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام - فيه نظر من ثلاثة وجوه:
(أحدها) أن الوسائل ليست كالمقاصد في نفسها بل هي دونها في الخير
والشر والنفع والضر والحلال والحرام كما يظهر من الأمثلة التي ذكرنا آنفًا (في ص
39) أن النصوص وردت في النهي عنها لأنها ذريعة إلى الحرام القطعي.
(ثانيها) أن تحديد الوسائل في المسائل ودرجة إفضائها إلى المقاصد من
أشق الأمور فإذا لم تكن منصوصة اختلفت باختلاف الأفهام والآراء.
(ثالثها) جهة الدلالة فيها فإن من أحكام المقاصد مما لا يثبت إلا بالنص
القطعي كأصل العبادة والتحريم الديني فالوسيلة له أولى بذلك، ومنها ما يثبت
بالدليل الظني. واعتبر ذلك بقوله تعالى في الزواج: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: 3) فقد أوجب تعالى على مَن
خاف على نفسه عدم العدل بين الزوجتين أو الأزواج أن يتزوج واحدة لأن التعدد
وسيلة للعول وهو الظلم المحرم لذاته. وكون تعدد الزوجات وسيلة إليه عند أكثر
المعددين في هذه الأزمنة مشاهَد، ويدل عليه من النص قوله تعالى: {وَلَن
تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) الآية ومع هذا لم
يقل أحد من هؤلاء الفقهاء بتحريم التعدد وعدم ثبوت الزوجية وما يترتب عليها من
الأحكام به.
(4) استدل العماد على القاعدة الكلية التي ذكرها بحديث النعمان بن بشير
مرفوعًا: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن
كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن
لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) الحديث وهو في الصحيحين وهذا
اللفظ هو الذي اختاره النووي في الأربعين. وقد روي عن غير النعمان بألفاظ
تختلف بعض الاختلاف. وهو لا يدل على تلك القاعدة الكلية لإجماع المسلمين على
أن من رعى سائمته أو دابته حول حمى وأمكنه اجتناب الوقوع فيه لا يكون رعيه
حرامًا كالرعي في الحمى وأن اتقاء الرعي حول الحمى إنما يطلب تورُّعًا واحتياطًا.
وللعلماء في تفسير (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) تفصيل؛ لأنه إما أن
يكون من الكثيرين الذين لا يعلمونهن وإما أن يكون ممن يعلمون الحكم ولا يشتبهون
فيه، فإن كان ممن يعلمون أن هذا المشتبه فيه - لخفاء في وجه حله أو حرمته -
حلال فإنه لا يأثم به وإن كان ممن يعلمون أنه حرام فإنه يأثم. وأما من يقع في
المشتبه مع اشتباهه عليه فإنه لا يأمن أن يكون الحرام فكأنه تجرأ على الحرام، وكذا
من علم أنه ذريعة إلى الحرام كالذي يتزوج على امرأته وهو لا يثق من نفسه بالعدل
لكراهته للأولى وحبه للثانية فإنه لا يلبث أن يظلم، فهذان محملان للحكم بوقوعه في
الحرام وليس المعنى أن نفس المشتبه فيه حرام لأنه يخرج بهذا عن كونه مشتبهًا
فيه.
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث من فتح الباري: ونختلف في حكم
الشبهات فقيل التحريم وهو مردود، وقيل الكراهة، وقيل الوقف كالخلاف فيما
يقبل الشرع. وحاصل ما فسره به العلماء الشبهات أربعة أشياء: (أحدها)
تعارض الأدلة كما تقدم (ثانيها) اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى (ثالثها)
أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك (رابعها) أن المراد
بها المباح. ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل
يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار
ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.. إلخ.
ومن ألفاظ الحديث ما هو صريح في أن الوقوع في الشبهات مدرجة للوقوع
في الحرام لا وقوع فيه كحديث ابن عمر (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما
مشتبهات فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع
في الحرام) .
وقال الحافظ ابن رجب في شرح الحديث: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها
منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وفسرها
تارة باختلاط الحلال والحرام. وذكر أن أصحابهم الحنابلة اختلفوا فيه هل هو
مكروه أو محرم؟ على وجهين وأن منهم من حمل ذلك على الورع.
وذكر هو وابن مفلح في الآداب الشرعية آثارًا عن كبار علماء السلف في
ذلك: (منها) ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال في جوائز السلطان
لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام (ومنها) كان النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا
يجتنبون الحرام كله.
قال الحافظ ابن رجب: وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه. قال سفيان:
لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إليَّ. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل
منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن
فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه. نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن
راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما وغيرهما من
الرخصة - وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي (؟)
من الربا والقِمَار، ونقله عن ابن منصور. وقال الإمام أحمد في المال المشتبه
حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدر الحرام وتصرَّف في الباقي،
وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله. وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه يتعذر معه
السلامة من الحرام بخلاف الكثير.
ثم قال: ومن أصحابنا مَن حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح
التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه وهو قول الحنفية وغيرهم
وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بِشْر الحافي. ورخص قوم من السلف في الأكل
ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه كما تقدم عن مكحول
والزُّهْرِي، وروي مثله عن الفضيل بن عياض، وروي في ذلك آثار عن السلف،
فصحَّ عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية لا يتحرج من مال
خبيث يأخذه يدعوه إلى طعام؟ ! قال: أجيبوه فإنما الهناء (أو المهنأة) لكم والوزر
عليه. اهـ. المراد منه.
فعلم بهذا كله أن من الجهل المبين أن يُعد ما يشتبه في أمره ولا يتبين وجه
الحلال والحرمة فيه من الحرام المحض ولو من الصغائر، فكيف يجوز أن يعد من
أكبر الكبائر التي أنذر الله مرتكبها بأشد الوعد ولعنه رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وإنما يكثر مثله في كلام المقلدين الذين يأخذون بالتسليم كل ما يرونه في كتب مَن
قبلهم ولا سيما علماء مذاهبهم، ولا يعنون بالنظر في أدلتهم، بل يأخذونها بالتسليم
على علاتها. وعلى من ينظر في الأدلة أن يستقصي ما قاله أهلها المستقلون ويتحرى
في البحث عن غيرها وينصب الميزان المستقيم لترجيح بعضها على بعض، لا كما
فعل أخونا المفتي الهندي في مسألة الربا.
إذا تمهد هذا ظهر به الحق في الربا الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه وتوعد
فاعله بما لم يتوعد بمثله على ذنب آخر - أنه ربا النسيئة الذي كان معروفًا في
الجاهلية كما قال من ذكرنا عباراتهم من أعلام العلماء المستقلين والتابعين لبعض
الأئمة في النظر والاستدلال، لا مجرد التعبد بالآراء والأقوال.
وإمام هؤلاء القائلين بذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما. ونعيد القول ونكرره بأنه هو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير
الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر مهما يكن أصل ذلك الدين من بيع أو قرض
أو غيرهما، وهذا النوع هو الذي كان يتضاعف بعجز المدين عن القضاء مرة
أخرى حتى يصير أضعافًا مضاعفة ويستهلك جميع ما يملكه المدين في كثير من
الأحيان.
وبهذا تظهر حكمة العليم الحكيم في ذلك الوعيد الشديد عليه وفي تسميته ظلمًا،
ولا يظهر هذا في كل قرض جر نفعًا، ولا في بيع أحد الأجناس بمثله متفاضلاً
نقدًا أو نسيئة، فضلاً عن تثمير الأموال بالشركات التجارية التي لا تلتزم شروط
الفقهاء فيها كما يأتي بعد وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة
الربا المحرم القطعي، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية، وقد ذكرنا آنفًا بعض ما لها
في الشريعة من الأمثلة، ومن المنهيات في الأحاديث ما هو محرم وما هو مكروه
أو خلاف الأولى، وما هو لمحض الإرشاد لا للتشريع الديني، وإنما يكون التمييز
بين هذه الأنواع بالأدلة الخاصة أو القواعد العامة أو التعارض بين النصوص
وترجيح الأقوى كالنهي عن أكل لحوم سباع الوحش والطير مع حصر نصوص
القرآن لمحرمات الطعام في الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله
به. وقد حققنا أن النهي فيه للكراهة وفاقًا لمذهب مالك جمعًا بينه وبين نصوص
القرآن القطعية الرواية والدلالة بصيغتي الحصر. وبينا فيه أن التعبير في بعض
الروايات بالتحريم قد يكون رواية بالمعنى لفهم الراوي أن المراد من النهي التحريم.
وكذلك يقال في النهي عن بيع النقدين وأصول الأغذية المذكورة في حديث
عبادة (إلا يدًا بيد مثلاً) بمثل إذا اتحد الجنس، والاكتفاء بالتقابُض إذا اختلف.
ومما يدل على أن هذا النهي غير مقصود بالذات ما صح في إباحة بيع العرايا
والحيلة في بيع الكثير من التمر الرديء بالقليل من التمر الجيد بأن يجعل العقد على
بيع كل منها بالثمن. وهذا أصل من أصول أدلة مَن جوزوا الحيلة في الشرع ولكن
لا يصح هذا الاستدلال إلا في المسائل التي لا تضيع فيها علة الحكم وتذهب حكمة
الشارع فيه كمسألة بيع التمر بالتمر التي أفتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا إتمامًا لتحقيق مسألة الربا العامة من كل وجه.
__________(31/37)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
حكم قراءة الجرائد والمجلات
(س1) من صاحب الإمضاء في دبي - خليج فارس
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة السيد الأجلّ مفتي الأمة، وبحر العلوم، وعلامة الزمان، وترجمان
القرآن، قامع المبتدعين، البحر الزاخر، والصارم الباتر، السيد محمد رشيد رضا
رضي الله عنه وأرضاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالمرجو من فضيلتكم الجواب عن هذا السؤال: وهو أنه قد حصل في بلدتنا
خلاف بين طلبة العلم؛ فإن فريقًا منهم يعترض على فريق آخر بسبب انكبابهم على
قراءة الجرائد والمجلات الأسبوعية واليومية؛ ويشمل ذلك الجرائد المصورة،
فالواجب أن تصرفوا أوقاتكم في مطالعة كتب السنة والتفاسير والفقه؛ لأن بها سعادة
الدارين، وهذه الجرائد من لهو الحديث المشار إليه في الآية، والدليل في عدم الفائدة
منها أن هذه مصر؛ الجرائد والمجلات بها مذ عهد بعيد ولم تنتفع ولم تتخلص من
الرق، وهذه الأمة العربية جند الإمام ابن السعود أيده الله بنهوضهم في هذه المدة
القريبة حصل خير كثير والمستقبل يبشر بالخير مع أنهم لم يطالعوا جرائد
ولا مجلات.
ويقول الفريق الآخر هل الخير إلا في الجرائد وهي تذكي الذهن وتحرك
الأفكار وتفيد عن تطور العالم وهي من أنعُم الله الكبار.
فالرجاء من فضيلتكم الإيضاح والتخطئة والتصويب لأنه حصلت مشاحنة
تكدر الخاطر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن حسن
(ج) إن الجرائد والمجلات التي توصف بالدورية مثل الرسائل والكتب في
القصص والأدب والتاريخ والعلوم منها الضار والنافع، وفيها الحق والباطل، فلكل
من مادحيها وذامِّيها وجه، ويختلف حكم قراءتها باختلاف موضوعاتها واستعداد
قارئيها في العلم ورسوخ العقيدة الصحيحة، والآداب الشرعية القويمة، فإن في
بعضها ما هو كفر صريح وصد عن الدين بضروب من الشبهة والتأويل، وفي
بعضها تزيين للشهوات المحرمة وغير ذلك من المعاصي، كما أن في هذه وغيرها
كثيرًا من المسائل العلمية والتاريخية وأخبار السياسة التي تفيد صاحبها عبرة وخبرة
وتثقيفًا، وإنني أعلم أن كثيرًا من قرائها قد فسدت عقائدهم وآدابهم، ولا بد أن
تكونوا رأيتم في المنار ردودًا على بعضها بالتعيين تارة وبالإبهام تارة، وأن كثيرًا
من قرائها لا يحملهم عليها إلا التلذُّذ والتسلِّي بما فيها من الغرائب، دون ما
يزعمون من الفوائد، وناهيك بالمصورة التي تعنى بصور النساء العاريات
والمتبرجات، وأخبار العاشقين والمعشوقات، والمدار في نفع ذلك وضره منوط
بحسن الاختيار وسوء الاختيار.
فمن الجرائد المصرية التي يحسن اختيارها في قطر إسلامي كبلادكم جريدة
كوكب الشرق اليومية والفتح والشورى والمصلح الأسبوعيات، ومن المجلات
المصرية مجلة مكارم الأخلاق والزهراء والهداية ومجلة الشبان المسلمين، ومن
الجرائد السورية العهد الجديد والنداء اليوميتان والنذير الأسبوعية من جرائد بيروت
وجريدتا الحياة والجامعة العربية من جرائد فلسطين والهداية البغدادية والحلبية،
وأم القرى الحجازية.
ومن المجلات مجلة الكشاف البيروتية والإصلاح الحجازية ومجلة الكويت.
فمَن كان يريد قراءة الصحف من أهل بلادكم الإسلامية العربية لما فيها من
الفوائد العلمية والأدبية والسياسية مع الأمن من المفاسد الدينية ونزعات الإلحاد،
وإباحة الفسق والفساد، فليختر لنفسه بعض هذه الجرائد والمجلات، ومن رغب
عنها إلى الصحف التي ينشرها بعض الملاحدة أو الكفرة لإفساد عقائد المسلمين
وأخلاقهم وتفريق كلمتهم ويجذبون الشبان إلى قراءتها بصور النساء العاريات وغير
ذلك من مثارات الشهوات - فهم يجنون على أنفسهم وعلى أمتهم وبلادهم من حيث
لا يشعرون.
***
تفسير آية (ما ننسخ ... )
(س2) من صاحب الإمضاء (الطلفون - الدار البيضاء بالمغرب)
صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل رشيد رضا دامت معاليه، تحية وسلامًا لائقين
بمقامكم الشريف، هذا فالمنهى لسماحتكم سؤال أرجو الجواب عنه وهو قوله تعالى:
{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:
105-106) .
ملخص السؤال المعروض لفضيلتكم هو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نُنسِهَا} (البقرة: 106) هنا قد ظهر لي أن ما ننسخ من توراة وإنجيل أو نُنسي
اليهود في التوراة وننسي النصارى في الإنجيل. لا كما قال بعض المفسرين أن
عشرين آية نسخت ويستدلون بالآية، وأستدل على رأيي بأن الآية السابقة قوله
تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105) وأي خير أفضل من القرآن؟
هذا وإني ملتمس من فضيلتكم أن تمنحوني عفوًا والكريم مَن عذر مَن اعتذر،
وأقال عثرة من عثر، إن وقع غلط في فهمي للآية، مع أتمّ الرجاء أن تلهمني إلى
الصواب، وتبدي نظركم السديد، وأسأله سبحانه أن يسدد أعمالنا ويوفقنا لما يحبه
ويرضاه، ودمتم محروسين بعنايته، والسلام ختام.
... ... ... ... ... ... ... ... السيد محمد اليعقوبي
(ج) جمهور المفسرين والفقهاء على أن النسخ المراد من هذه الآية هو
نسخ آيات الأحكام الشرعية، فعلى هذا القول يظهر لفهمكم في الآية وجه وجيه
بقرينة الآية التي قبلها. وللآخذين برأيهم أن يقولوا: إن هذه القرينة لا تقتضي
الحصر فالآية تدل على أن ما ينسخه الله تعالى من التوراة والإنجيل وما ينسخه من
القرآن أو ينسيه منهما سواء في كونه يأتي بخير منه أو مثله، ولكن هذا لا يدل
على أن في القرآن عشرين آية منسوخة وهو العدد الذي اعتمده السيوطي في
الإتقان، ولا على ما قال بعضهم من أن المنسوخ بضع آيات فقط، فالعدد لا يدخل
في مفهوم الآية من باب ولا من طاق.
وفي الآية وجه آخر وهو أن لفظ (آية) فيها معناه، الآية الكونية أي المعجزة
التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام؛ إذ كان الكفار يطالبونه عليه السلام بآية من
تلك الآيات ولا سيما آيات موسى (عليه السلام) إذ {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا
أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: 48) ويؤيده قوله تعالى بعدها: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وهو الذي اختاره
شيخنا وتجدونه مفصلاً في تفسيرها من الجزء الأول من تفسيرنا.
***
حبوط أعمال المشركين بالشرك
(س3) من صاحب الإمضاء في البترون (لبنان)
حضرة الأستاذ الجليل، إمام المسلمين، ومحيي شريعة سيد المرسلين،
الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم.
السلام عليكم وبعد:
فقد قرأت في العدد الرابع من المجلد الثلاثين في مجلتكم الغراء ما يأتي:
بعد ما ذكر الله في كتابه أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم أعظم درجة وأسمى
مقاماً من الذين يسقون الحاج ويخدمون البيت. قلتم في تفسير هذه الآية التي تؤدي
هذا المعنى: لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها
درجة عند الله إذا فعلا ما يرضي الله ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف
الجاهلية، ولكن الشرك يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها
كما تقدم. اهـ.
فالعجبُ كيف يُحْبِطُ الشركُ الأعمالَ التي هي بحد ذاتها حسنة خيرية والله لا
يضيع للإنسان مثقال ذرة من خير أو شر كما جاء في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وعدل
الله أجلُّ من أن يجعل المشرك الذي يفسد في الأرض كالمشرك الذي يعمل الأعمال
الخيرية. ومعلومكم أن كلمة (مَن) عامة كما هو معلوم من علم الأصول تعم
المؤمن والمشرك. فالرجاء نشر الجواب على صفحات مجلتكم الغراء ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... مدير مدرسة البترون الإسلامية
... ... ... ... ... ... ... ... محمد فؤاد إشراقية
... ... ... ... ... ... ... ... من طرابلس الشام
(ج) أما الدليل على الحبوط فآيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى:
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (المائدة: 5) {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَزْناً} (الكهف: 105) وأما وجهه المعقول فهو أن الشرك بالله والكفر بأصول
الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يفسد الأنفس البشرية
ويدنسها دنساً لا تؤثر معه الأعمال البدنية في إزالته وتزكية الأنفس منه بل تكون
كقليل من الماء أو نقط من العطر تُلقَى في مجتمع القذر من الكنيف لا يكون لها
أدنى تأثير في تطهيره، فضلاً عن تطييبه.
وأما قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ... } (الزلزلة: 7) إلخ فيجيب عنه
العلماء بأنه عام مخصوص بغير المشركين والكافرين وقالوا: إنهم يُجزَوْن في الدنيا
على أعمالهم الحسنة، ولكن موضوع النص أن كل أحد يعرض عليه يوم الجزاء ما
عمل من خير فيراه في الحساب الذي يترتب عليه الجزاء فإذا وُزنت أعمال
المشرك الحسنة مع شركه وما له من سوء التأثير في تدنيس نفسه بالخرافات
والسيئات تطيش كِفَّة تلك الحسنات فيكون معنى حبوط عمله أنه لا يرى له تأثيرًا
في النجاة من العذاب ودخول الجنة، فكأنه لا وجود له إلا أن يكون في كون عذابه
يكون دون عذاب مَن لم يعمل تلك الأعمال، وبهذا تنتفي المساواة بين المشركين
المنافية للعدل، وقد بيَّنا في الكلام على الجزاء أن عذاب الكفار في النار يتفاوت
بحسب أعمالهم وما كان لها من التأثير في أنفسهم كغيرهم إلا أنها لا تبلغ درجة أقل
المؤمنين عملاً صالحًا، وقد ورد في أصحاب المعاصي من المسلمين أن أصحاب
الحقوق عليهم من العباد يأخذون من حسناتهم بقدر حقوقهم عليهم فإذا لم تفِ بها
حملوا من أوزارهم بقدر ما بقي منها، وورد في الحديث تسمية هؤلاء بالمفلسين.
ولكن مَن مات على الإيمان الصحيح لا بد أن تكون عاقبته الخروج من النار إذا
عُذب فيها بمعاصيه ثم يدخل الجنة.
__________(31/46)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت
(س 4 - 6)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي، راجياً التفضل بالإجابة عليه:
1- هل يجوز لجمعية إسلامية أُسست لخدمة الدين وأبناء الأمة الإسلامية
كجمعية المقاصد الإسلامية في بيروت وغيرها - أن تُدخل في مدارسها معلمين غير
مسلمين لتعليم أولاد الأمة الذين هم مطمح أنظارها في نشر الدين وتقويته مع وجود
معلمين مسلمين فيهم الكفاءة التامة لما عساه أن ينشأ عن غير المسلمين أمور تنافي
ديننا الإسلامي سواء بالمقال كبثّ بذور الفساد في النفوس، أو بالحال ككونهم
بصفات لا تلائم مبادئ الدين مما تنتشر به النفوس الساذجة؛ لأن التلاميذ مرآة
معلميهم، وفيهم قابلية انطباع ما يصدر عنهم من صلاح أو فساد، هل ذلك يجوز
أم لا؟
2- ما قول السادة علماء الدين الإسلامي الحنيف فيمن لا يصوم ولا يصلي
خوفاً من تجعيد ثيابه كالبنطلون وغيره فهل هو مسلم أم لا؟ وما هي الضرورة التي
يباح فيها عدم الصوم والصلاة؟
أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا جميع أسماء مؤلفاتكم؛ لأننا نريد اقتناءها
وأن تتكرموا بالجواب الكافي عن ذلك كله.
ولكم من الله تعالى عظيم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد شهاب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
أجوبة المنار
(4) حكم جعل غير المسلم معلماً لأولاد المسلمين:
يجوز للأفراد وللجمعيات استئجار غير المسلم لتعليم أولاد المسلمين ما
يحتاجون إليه من العلوم الدنيوية النافعة؛ كالحساب والاقتصاد مثلاً، إذا كان متقنًا
لذلك ولا يُخشى على الأولاد ضرر منه في دينهم ولا في تربيتهم القومية والملية، ولا
يجوز مع خشية الضرر مطلقاً مهما يكن نوعه وإذا وجد معلمان سيان في ذلك العلم
وفي فن التعليم أحدهما مسلم والآخر غير مسلم فإسلام المسلم كافٍٍ في ترجيحه كما
أن المسلم التقي الحسن الآداب يرجح على مَن دونه في التقوى والأدب لا على
الفاسق فقط. ورُبَّ كافر أقل ضرراً في التربية من فاسق، فالعبرة بدرء المفسدة أولاً
ثم بتحقق المصلحة.
***
(5) ترك الصيام والصلاة لغير عذر شرعي:
لا يترك الصلاة مسلم صحيح الإيمان خوفاً من تجعيد ثيابه، ولا لما هو فوق
ذلك تشعيثاً لهيئته وهندامه، ففاعل ذلك ليس له من الإسلام نصيب إلا لقبه
الموروث عن آبائه، وإنما الإسلام الإذعان العملي الذي يقتضيه الإيمان الصحيح
بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمراد أن ترك الصلاة في مثل هذا
مسبب عن عدم الإسلام لا سبب له في الغالب كما فصلناه في تفسير قوله تعالى:
{.. فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11)
فراجعْه. ولا عذر يبيح ترك الصلاة إلا سقوط التكليف مطلقاً كالجنون أو موقتاً
بنوم أو إغماء أو نسيان مثلاً. وأما الصيام فيباح تركه في المرض والسفر على أن
يقضي ما فاته بعد الشفاء والإقامة ويجوز كذلك للحامل والمرضع أن تفطر في
رمضان إذا خافت على نفسها أو ولدها. ومن عجز عن الصيام لهرم أو مرض لا
يرجي برؤه أفطر وأطعم مسكيناً عن كل يوم من رمضان كما هو مفصَّل في كتب
الفقه، فمن كان غير عالم بذلك فعليه أن يسأل عنه أهل العلم ولا تتسع هذه الفتاوى
لتفصيله كل ما سُئلنا عنه.
***
(6) مؤلفاتنا المطبوعة:
(1) تفسير القرآن الحكيم وقد تم منه تسعة أجزاء.
(2) تفسير الفاتحة وقد طُبع معه مقالات في التفسير وغيره للأستاذ الإمام.
(3) خلاصة السيرة المحمدية وكليات الإسلام.
(4) الوحدة الإسلامية وفيه مقالات المصلح والمقلد.
(5) يسر الإسلام والتشريع العام.
(6) شبهات النصارى وحجج الإسلام.
(7) نظرة في عقيدة الصلب والفداء عند النصارى.
(8) الخلافة أو الإمامة الكبرى.
وتجدون أسماء هذه الكتب وغيرها مع بيان أثمانها في غلاف المنار أحياناً.
***
أسئلة من صاحب الإمضاء في زِنْجِبَار
(س7 - 12) لصاحب الإمضاء
حضرة العلامة صاحب المنار الأغرّ السيد محمد رشيد رضا:
1- نقدم إلى فضيلتكم السؤال الآتي لتجاوبوا عنه في مجلتكم الشريفة.
سيدي مَن هم المحققون من علماء الإسلام، فهل يطلق هذا اللقب على علماء معينين
أو لكل فن من فنون علوم الدين ووسائلها محققون؟ فإن كان يطلق على معينين
فاسردوا لنا أسماء بعضهم، وإن كان لكل فن محققون فاسردوا لنا أيضًا أسماء
بعض من محققي التفسير.
ولكم من الله الأجر الجزيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2- ما قولكم في الترضِّي على الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة والدعاء
لسلطان البلد في الخطب كخطبة الجمعة أو العيدين أو الخسوفين أو الاستسقاء،
وحقيقة أنه جارٍ من عهد سيدنا عمر رضي الله عنه أم لا؟
3- هل الأذان الثاني يوم الجمعة بين يدي الخطيب تحت المنبر كان في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟
4- هل ما يفعله المؤذنون على مئذنة المساجد قبل أذان صلاة الصبح ويوم
الجمعة من الأذكار والأدعية والصلاة على رسول الله بصوت نُكُر - واجب؟
5- هل من وقف أو أوصى بأن يصنع يوم موته أو بعده طعام أو إعطاء
دراهم معدودة لمن يتلو القرآن العظيم أو يسبح أو يهلل أو يصلي على النبي صلى
الله عليه وسلم أو يصلي نوافل ويهدي ذلك إلى روح الموصي أو من يريده هل
تكون وصيته ووقفه صحيحين أم لا؟
6- هل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين
التهليل أو أي ذكر مع تشييع الجنائز؟ فإن قلتم: لا، هل يجوز، أم بدعة،
أيحسن عملها أم لا؟
سيدي: الرجاء من فضيلتكم فيما تثبتون ابتداعه أسماء المبتدعين وإماتتهم به
الدين. ولكم الأجر الجزيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الله قرنح
أجوبة المنار
(7) العلماء المحققون:
في علماء كل علم وفن محققون كالأئمة الواضعين لها والمجتهدين فيها، ونقلة
مقلدون لهم، والمؤلفون يطلقون لقب المحقق على من يعجبهم بحثه واستدلاله، وقد
اشتهر بلقب المحقق أفراد من العلماء عند أكثر المؤلفين كالسعد التفتازاني في
العلوم النظرية وابن القيم في العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والكمال بن الهمام
في فقه الحنفية والنووي في فقه الشافعية. وابن هشام في النحو. وأما التفسير
فللعلماء فيه مسالك لا نعرف أحداً محققًا فيها كلها ولكن الإمام الطبري أجمعهم
للروايات والمعاني الفقهية والتاريخية، والحافظ ابن كثير أمثلهم في تحقيق التفسير
المأثور، والزمخشري أدقّهم في تحرِّي المعاني اللغوية للألفاظ متناً ونحواً وبياناً إلا
ما يؤيد به مذهب جماعته المعتزلة، ومثله البيضاوي من مفسري الأشعرية في
المسائل الكلامية والفقهية والعربية، والخفاجي مُحَشِّيه في العلوم العربية، وأبو
السعود في نكت البلاغة.
***
(8) الترضِّي عن الصحابة والدعاء للسلاطين:
الترضي عن الخلفاء الراشدين وسائر العشرة من الصحابة المبشرين بالجنة
(رضي الله عنهم) حسن وقد شرع الله لنا أن ندعو لأنفسنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان وهؤلاء العشرة خيارهم، ولا ينبغي أن يلتزم دائماً لئلا يظن العوام أنه
واجب، وإذا كان ملتزماً في بلد وخشي من سوء تأثير تركه في العامة فينبغي
للخطيب أن يتقي سوء هذا التأثير بأن يذكر على المنبر أن هذا دعاء مستحب على
إطلاقه ولم يطلبه الشرع في الخطبة فهو ليس من أركانها ولا من سننها. وإلا بقي
مواظباً عليه.
وكذلك الدعاء لولي أمر المسلمين أو لأولياء، أمورهم ويراعَى فيه أن لا يكون
متضمناً لمنكر كإقرار الظلم أو الفسق ومدح أهلهما، ولا لألفاظ من الإطراء في
المدح والتعظيم الذي لا يليق أن يوجَّه إلا إلى الله تعالى.
وأما الدعاء للسلطان المعين باسمه فهو بدعة استحسنها بعض المؤلفين
بشرطها.
قال الإمام النووي في المجموع - أي شرح المهذب -: وأما الدعاء للسلطان
فاتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، وظاهر كلام المصنف وغيره أنه بدعة
إما مكروه وإما خلاف الأولى. هذا إذا دعا له بعينه، فأما الدعاء لأئمة المسلمين
وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش
الإسلام - فمستحب بالاتفاق.
والمختار أنه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه والله
أعلم. اهـ.
وقد صرح بعض الفقهاء بأن ما يجب من الإنصات عند إلقاء خطبة الجمعة
يستثنى منه الإنصات وقت الدعاء للسلاطين وخاصة الظلمة والفساق منهم. وقد
بينا هذا في مواضع لا أذكر منها الآن إلا ما في المجلد التاسع من المنار (سنة
1324) (الموافق 1906) ، ونقلنا هنالك عبارة من شرح الإحياء للزبيدي نعيدها
هنا مع ما قبلها مما قاله في الدعاء للخلفاء والصحابة وهو:
وينبغي أن تكون الخطبة الثانية هكذا: الحمد لله نحمده ونستعينه.... إلخ؛
لأن هذا هو الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر
الخلفاء الراشدين عموماً والعمين والسبطين وأمهما وجدتهما مستحسن، وإن احتاج
إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلد فيه الرافضة فلا بأس أن
يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم ثم يعطف عليهم بالباقين من
العشرة. ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل
الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس به
إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ولا نحو ذلك فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة
الأمر والآن صار واجباً؛ لأنه مأمور به من السلطان.
هذا ما ذكره عن فقهاء الشافعية وهو معنى ما تقدم عن المجموع إلا قوله
الأخير بوجوبه فلم أره في كتبهم ثم أورد جملة مما قاله علماء مذهبه الحنفية فقال:
وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو
يصفه بالغازي وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم
بالصلاح لا بأس به وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله؛ فإن
تعظيم الملوك شعار أهل الإسلام [1] وفيه إرهاب على الأعداء [2] وقد اتفق أن
الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع
الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان وأطنب فيه فلما فرغ من صلاته
أنكر عليه وقال - مع كونه تركيًّا -: ما لهذا الخطيب يقول في خطبته.. السلطان
السلطان ليس شرط الخطبة هكذا؟ ! ، وأمر به أن يُضرب بالمقارع فتشفَّع له
الحاضرون. هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه، فما خلص إلا بعد الجهد
الشديد. واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا لما صلى الجمعة في أحد
جوامع مصر وكان مغروراً بدولته مستبدًّا برأيه، وربما نازعته نفسه في خلافه على
مولانا السلطان نصره الله تعالى، فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد
اسم السلطان فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن
مصر إلى بعض القرى. فهذا وأمثال ذلك ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى
برضا الناس فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى والمقت الأبدي، نسأل الله العفو منه
آمين. اهـ.
***
(9) أذان الجمعة:
إنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أذان واحد لصلاة الجمعة
وهو الأذان بين يدي الخطيب؛ لأن كل المؤمنين الموجودين في المدينة كانوا
يجتمعون في المسجد ويتسابقون إلى التبكير إليه. وحدث الأذان الآخر في عهد
عثمان رضي الله عنه للحاجة إليه بكثرة الناس وذلك معروف في كتب الصحاح
والسنن المشهورة، وقد بيناه من قبل.
***
(10) الزيادة في الأذان:
ما يفعله المؤذنون في كثير من البلاد من الأذكار وغيرها قبل أذان الصبح
وأذان الجمعة على المنارة - كله بدع، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
بعد الأذان متصلاً به مع رفع الصوت، ولا يدخل ذلك في عموم الذكر والصلاة
عليه (صلى الله عليه وسلم) الواردة في الأحاديث المطلقة؛ لأنه يجب علينا التزام
ما كان عليه المسلمون في الصدر الأول من إطلاق وتقييد ولا سيما شعائر الإسلام
كالأذان والإقامة، فلا نزيد فيهما ولا ننقص منهما، وقد شرحنا هذه المسألة مراراً،
ولو قلت لمن يفعلون ذلك ولمن يقرونهم عليه: هل لنا أن نزيد في إقامة الصلاة
ذكراً أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: لا يجوز ذلك؛ لأنه من
الشعائر التي يجب فيه التزام المأثور الذي كان عليه المسلمون في عهده صلى الله
عليه وسلم فقل: أوَ ليس الأذان كذلك؟ وكذلك المدائح الشعرية التي يتغنى بها
المؤذنون يوم الجمعة قبل الأذان بدعة، ومنهم من كان يفعلها قبل الخطبة أيضًا وقد
كثر في عصرنا من أنكرها من أنصار السنة في ديار مصر والشام فتُركت في كثير
من المساجد وستُترك في باقيها إن شاء الله تعالى.
***
(11) الوصية والوقف في إهداء العبادة للميت:
الذي أعتقده أن العبادات البدنية لا تنفع إلا مَن عبد الله تعالى بها مخلصاً له
فيها، وأن فاعلها لا يملك إهداءها إلى غيره ولا ينتفع بها من تُهدَى إليه، وعلى هذا
لا يصح أن يوصى لفاعلها بمال لأجل إهدائها للموصي ولا الوقف لأجل ذلك.
ولكن بعض الفقهاء يرون أن ثواب قراءة القرآن يصل إلى الميت الذي يُقرأ
لأجله ويُهدى ثوابه إليه كالصدقة لا الصلاة، ويجيزون الوصية به والوقف عليه،
فالمسألة مما تنازع فيه العلماء فوجب ردّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، فمن كان أهلاً لمعرفة أدلتها منهما وجب عليه اتباع ما ظهر له من
دلائلهما بنفسه؛ وإلا فبإرشاد بعض العلماء بهما، وقد بينت أدلة ذلك بالتفصيل في
تفسير آخر سورة الأنعام (ص256، ج8 تفسير) .
***
(12) الذكر برفع الصوت في الجنائز:
إن ما اعتاده بعض أهل الطرق وغيرهم من الذكر في حال تشييع الجنازة
برفع الصوت وزيادة بعضهم قراءة أبيات من البردة - كله من البدع، وقد ورد
النهي عن رفع الصوت في الجنازة مرفوعاً وفي عمل الصحابة. قال ابن مفلح في
الفروع: ويُسن الذكر والقراءة سِرًّا وإلا الصمت، ويُكره رفع الصوت ولو بالقراءة
اتفاقاً. قاله شيخنا، وحرمه جماعة من الحنفية وغيرهم. وقال الشيخ الموفق في
المُغني:
ويكره رفع الصوت عند الجنازة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع
الجنازة بصوت، قال ابن المنذر: روينا عن قيس بن عباس أنه قال: كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند
الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال. وذكر الحسن عن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون خفض الصوت عند ثلاثة فذكر نحوه.
وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وإمامنا (أي
أحمد) وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له. وقال الأوزاعي:
بدعة، وقال عطاء: محدثة. وقال سعيد بن المسيب في مرضه: إياي وحاديهم هذا
الذي يحدو لهم يقول: استغفروا له غفر الله لكم، فقال ابن عمر: لا غفر الله
لك، رواهما سعيد. قال أحمد: ولا يقول خلف الجنازة: سلم رحمك الله، فإنه بدعة،
ولكن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الله إذا
تناول السرير.
__________
(1) هذه دعوى باطلة؛ لأن زمن التشريع والأحكام الدينية - ولا سيما الشعائر - لم يكن فيه شيء من، ذلك بل لم يكن فيه ملوك مفتونون بالتعظيم.
(2) وهذا باطل أيضًا؛ فإن أعداءنا يحتقروننا بشدة إطرائنا وتذللنا للسلاطين.(31/51)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مساواة المرأة للرجل
في الحقوق والواجبات
الشبهات على حق المساواة في الميراث
- 12 -
كتب الدكتور فخري ميخائيل الكاثوليكي في محاضرته كل ما قاله الدكتور
عزمي اللاديني في مناظرته، وما أيدته به الآنسة هانم محمد - والظاهر أنها على
عقيدته - من الشبهات على وجوب مساواة المرأة للرجل في الميراث، وزاد
شبهاتهما إيضاحًا وشرحًا، إذ كان أوسع منهما وقتًا، وانفرد عزمي دونه بزعم
واحد، وهو أن نظام الإرث وُضع في الإسلام للاستدراك على ما في أحكام الإرث
من جمود تقتضي أطوار الزمان الخروج عنه، فالمسلمون يتركون بعض أحكام
الميراث بوقف أموالهم على من يريدون إعطاءهم من مال مورِّثهم فوق ما تعطيهم
تلك الآيات.
هذا ما فهمته من كلامه في هذا الزعم فأبدأ بالتصريح ببطلانه، ثم أنقل كلام
الدكتور فخري بنصه وأفنده بالدليل العقلي فيتم الرد على الجميع.
ألا فليعلم مُفْتَحِر هذا الزعم أن الوقف على الذرية بما يخالف الفريضة
الشرعية ليس فيه نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
يرتقي في قطعيته إلى أن يكون مخصصًا لكتاب الله تعالى، بل هو من توسُّع بعض
الفقهاء المختلف فيه بينهم وحجة من يقول ببطلان هذا الوقف وحظره أقوى من
حجة من يقول بجوازه وصحته.
ومن القائلين ببطلانه المحققون من الحنابلة، وقد صرحوا ببطلان قاعدة
الحنفية: أن شرط الواقف كنص الشارع، وإنما الوقف الصحيح هو ما يُحبس على
أعمال البر قربة لله تعالى، وكل شرط خالف كتاب الله تعالى فهو باطل بنص
الحديث الصحيح الذي لا خلاف في صحته، وقد بينا هذا في المنار من قبل، ولا
محل له في هذا البحث.
ثم إن الذين ينتقصون من بعض أحكام الشريعة في الميراث إنما يخالفونها في
توريث البنات غالبًا فيحبسون أملاكهم على الذكور وحدهم، فالتطور الذي يحتج به
طلاب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث يقتضي حرمانها منه ألبتة لا مساواتها
للرجل فيه، فإن الذين يقفون أطيانهم ودورهم على أبنائهم يرون أن بناتهم لسن
أهلاً لإرث شيء منها؛ لأنهن صرن أو سيصرن أرومات لأسر (عائلات) أخرى
غير أسرة أبيهن، ومن ثم كانوا فاسقين عن شرع الله العدل المبني على أساس
الحكمة والرحمة.
وأما ما كتبه الدكتور فخري في بحث الواجب المالي للأمومة على المرأة
المقتضي للمساواة عنده فهذا نصه السقيم بحروفه:
(على المرأة واجبات مالية للأمومة؛ لأنها - رغم قيام الرجل بمصروفاتها
وأطفالها - مكلفة بحالة عجز زوجها عن القيام بواجباته المادية نحو العائلة بالعناية
بأطفالها وبنفسها على الأقل، هذا إذا لم تفكر - بعطفها المعروف عنها كامرأة تحب-
في العناية بزوجها في حالة عجزه. فإذا كان لها موارد ثروة خاصة فإنها
ستصرف على العائلة، ولذلك طالبنا بتعليم الفتاة حتى العلوم العالية أو الفنية التي
تليق بها لترجع إلى هذه المعارف إذا اضطرتها الظروف المعيشية إلى الجهاد للحياة،
فتكون أسلحة الجهاد الشريف بين يديها. ومن هذا ترون أن المرأة عليها واجبات
مالية للأمومة رغم عناية الزوج بهذه الواجبات. وفي حالة قيام الزوج بكل واجبات
العائلة المالية ثروة الزوجة تُختزن للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها
سواء بسواء، كما لو كانت الزوجة غنية وزوجها فقيرًا؛ فإنهما سيصرفان على
قدر ثروة الزوج إذا كان أبيًّا وسيخزنان ثروة الزوجة للأولاد. وأما إذا قبل الزوج
الصرف من مال زوجته فستكون مورد رزق العائلة.
هذا من جهة المرأة وواجبها نحو الأمومة المتزوجة فما بالك في أمومة
مترملة أو أمومة مطلقة أو أمومة غير شرعية؟ هي هي كل شيء في القيام بحمل
الصرف المالي على هذه الأمومة، ومن هذا ترون - حضراتكم - أن المرأة
معرضة في حياتها لحمل عبء الأمومة حملاً تامًّا كالرجل، فلست أدري لماذا يريد
الرجل أن يعطيها نصف حقه في الميراث وهي إنسانة مثله لها الحق في التمتع
بميراثها كأخيها الرجل وعليها واجبات نحو أمومتها لا تقل عن واجباته نحو زوجته
أهمية.
وإن كان حق الميراث ناتجًا عن البنوة فهي أكثر منه عطفًا على والديها وهي
أكثر منه برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما) .
هذا نص ما كتبه الدكتور فخري بعد قدح زناد الفكر، وطول التروي في
الأمر، ثم ألقاه في قاعة الخطابة من المدرسة الجامعة الأميركانية التبشيرية، كتبه
بعد هذيان كثير في شأن المرأة وظلم الرجل لها وقفَّى عليه بما تقدم تفنيده في المقالة
الماضية من التحكك بالشريعة الإسلامية. وهو يفرض - بل يزعم - أن أحكام
الشريعة من تحكم الرجال وظلمهم للنساء.
وإنني أفند هذه الشبهات الواهية بصريح من القول لا أدعمه بشيء من
المسلَّمات الخطابية، ولا أزينه بشيء من التخيلات الشعرية، ولا أشينه بشيء من
الإفك والبهتان، ولا من مكابرة الحس والوجدان، كما فعل فخري، وسبقه إلى مثله
سلامة موسى وعزمي، وأبني التفنيد على رد كلامه وأقصد به الرد على جميع
هؤلاء الدعاة إلى فوضى الإلحاد فأقول:
يعترف هؤلاء الذين يوجبون بأهوائهم مساواة المرأة للرجل في الميراث -
بأن الرجل هو الذي ينفق على المرأة وعلى أولادها منه، ويعلمون أن هذا واجب لها
عليه في الشريعة الإسلامية لها حق المطالبة به، وأن القاضي الشرعي يحكم لها به
ويُكرِه الرجل عليه في حال الامتناع، وأن لها أن تقترض عليه، ولا تكلَّف أن
تشتري لنفسها رغيفًا ولا ثوبًا، وإن كانت أغنى من (هدى شعراوي) .
ولعلهم لا يجهلون أيضًا أنه إذا امتنع أو عجز عن النفقة كان لها حق فسخ عقد
الزوجية، وكان على القاضي أن يحكم بذلك إذا طلبته منه وثبت عنده الامتناع ثم هم
يعترفون بأنها إذا أنفقت شيئًا في دارها على نفسها أو أولادها فإنما تكون في حكم
الشريعة متبرعة متفضلة، وإن قال الدكتور فخري إنها (واجبات مالية للأمومة)
فإنه لا يفهم المعاني الصحيحة للألفاظ التي يكتبها وإن كانت أقرب إلى لغته العامية
منها إلى العربية الفصيحة، ألا ترى أنه لا يميز بين ما للأمومة وما عليها؟
ثم إنه يصرح بأنه في حال قيام الزوج بكل ما يجب للعائلة من الحقوق المالية
(تختزن ثروة الزوجة للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها) يعني أنها
تكون مالاً احتياطيًّا للعائلة يخزن في الصندوق إلى وقت الحاجة إليه ولو بعد الموت!
فليخبِِرْنا هؤلاء الجناة على الشريعة الحق العادلة، وعلى أفضل النظم لقوام
العائلة، أي عقل وأي قانون مالي في العالم جعل المال الاحتياطي الذي يدخر
للحاجة العارضة في المستقبل مساويًا للمال المعد في الميزانية لجميع النفقات
الواجبة التي لا يمكن تأخير شيء منها؟ !
نقول هذا وهو برهان لا يمكن رده على بطلان قولهم - على تقدير صحة
زعمهم - أن مال الزوجة المكنوز احتياطي مدخر للعائلة. وهو لا يصح على إطلاقه
بالاطِّراد كما هو مشاهَد في هذا الزمان، وسيصير شاذًّا إذا تفاقم خطب هذه
الفوضى في حرية النسوان، التي يسرف فيها دعاة الخروج على الشريعة والفسوق
من هداية الأديان.
والحجة عليهم أظهر فيما ظنوا أن الحجة لهم فيه، وهو ما عبر عنه الدكتور
فخري بقوله: (فما بالك في أمومة أرملة أو أمومة مطلقة، أو أمومة غير شرعية)
وهو يعلم من فساد هذه الأمومات الآن ما لا يعلمه أكثر الناس ونقول قبل البحث
فيها: إن المطلقة الرجعية زوجة تجب لها النفقة، فإذا لم يراجعها الزوج قبل
انقضاء عدتها بانت منه وصارت كالأرملة، وكثيرًا ما تتزوج المرأة منهن وتنفق
جُل ما كانت تدخره في سبيل الزوج الجديد إن لم تنفقه كله، ومنهن من تقف
أملاكها عليه وعلى أولاده منها دون أولادها من مطلقها، وقد وقع في هذه الأيام أن
امرأة وقفت عقارها على زوجها وعلى أولاده من غيرها!
هذا ما يقع كثيرًا ممن عندهن بقية من الدين، وأما اللائي قضت حرية
الإباحة على عصمتهن الدينية فهن ينفقن ما ادخرن من الثروة في سبل اتخاذ
الأخدان، والتمتع بالفسوق والعصيان، ومن أغرب ما سمعته من أخبارهن في هذا
العهد أن الوطنيات منهن يفضلن الأجانب من الأخدان على الوطنيين وينفقن عليهم
الألوف الكثيرة من الجنيهات، وأن بعض الوطنيين سأل بعضهن عن سبب هذا
الاختيار والتفضيل قائلاً: ألسنا نحن أولى بكن من (الخواجات) ؟ ! فكان الجواب:
إنكم أنتم كثيرو الكلام دون الخواجات! وأخبرنا بعض المحامين أن أرملة من
هؤلاء الأرامل الغنيات ورثت من زوجها مالاً كثيرًا، ولم يعجبها قصر أبيها الغني
بعد أن أقامت فيه مدة قليلة فاستأجرت لنفسها دارًا واسعة زينتها بأحسن الأثاث
والرياش والماعون واتخذت فيها الخدم الكثيرين، وكان مما عابته من دار أبيها أن
الثلج يأتي إليها متأخرًا!
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(31/59)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
انشقاق القمر - همّ يوسف بامرأة العزيز - التأويل لدفع الشبهات
جاءت الرسالة التالية من البصرة بعد طبع جزء ذي الحجة فنشرناها في هذا
الجزء، وإن كانت على خلاف شرطنا والشرط العرفي عند أرباب الصحف، وهو
أن لا ينشروا شيئًا لمن يكتم اسمه عنهم وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الكريم المصلح الكبير والعالم الشهير السيد محمد رشيد رضا حفظه الله
وبارك له في سعيه وسدده في كل ما يأتي وما يذر، آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد استفدت من الجزء الأخير في المنار الأغر ميلكم إلى عدم انشقاق القمر
معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معللين ذلك بما يأتي، ولرجائي أن أكون معكم من
المتعاونين على البر والتقوى سأبدي رأيي راجيًا العفو عما أتقدم به: إن أحاديث
الانشقاق أتت في عامة الأمهات لا سيما الصحيحين على ما فيها من حسن وصحيح
ومرسل ومسند وأثبته التاريخ العربي والعجمي، وأظهر من ذلك أن الآية في
الانشقاق قد كانت تُتلى بمحضر المسلم والكافر، فلم نسمع بمنكر مع أن الضد
بالمرصاد، ومضى على ذلك القرون الكثيرة ما بين ناقل لذلك ومُقر عليه.
واختلاف الأحاديث فيه مع ورودها على معنى واحد وهو الإثبات - لا يوجب
الرد، واتفاق آية (سبحان) مع آية الانشقاق سهل يسير، وهو أن آية سبحان دلت
على منع الاقتراح المعين وآية الانشقاق أتت بغير اقتراح أو باقتراح لم يعين، هذا
ما دلت عليه الأحاديث المعتمدة. وأما مجيء آية الانشقاق باقتراح معين فلا يصح
كما بينتموه، وفرق بين حصول الآية باقتراح معين وحصولها بغير اقتراح أو
باقتراح لم يعين: القسم الأول يعقبه الهلاك؛ لأنه جاءهم عين ما طلبوا فلم تبق لهم
شبهة، وأما القسمان الأخيران فلهم شبهة تدرأ نزول العذاب بكون الآية لم تقنعهم.
وأما تفسيركم الآية بأن الانشقاق كناية عن ظهور الأمر واتضاحه، واستشهادكم
عليه من اللغة فلا ريب أن العرب تقول: انشق الصبح؛ بمعنى ظهر وبان، وأما
انشق القمر بمعنى: ظهر الحق وبان، فلا نسلم أن العرب تستعمل مثل ذلك ويكاد أن
يكون لغزًا لا يتفق مع بيان القرآن.
وقد ذكرني ذلك تفسيركم لهمّ يوسف بامرأة العزيز بالضرب، وكلا التفسيرين
بالنفس منهما شيء، فقوله تعالى: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24)
دليل على أن المتقدم أمر لا يليق بمنصبه الشريف، والهم عارض لا مستقر ولا هو
بوسع الإنسان وإذا دفعه بعد رؤية البرهان فهو من الكمال ولا يمس منصب النبوة
بسوء.
ومما يناسب ذكره قولكم جوابًا لرسالة عالِم القصيم عبد الرحمن السعدي: (قد
يكون التأويل هو المنقذ الوحيد في الرد على..) إلخ وهذا لا يتفق مع جهادكم
الجهمية وأمثالهم، وليس في القرآن ولا السنة ما ظاهره يحتاج للتأويل على شرط أن
يؤخذ الحكم من مجموع السياق لا من مفرداته.
وأما قولكم: لا علاقة بين الانشقاق ودعوى النبوة حتى يكون علامة عليها، فله
علاقة لاصقة وهي أنه لما أخبر الله باقتراب الساعة التي هي خراب العالم أجمع
وكانت قريش تنكر ذلك أراهم الله آية محسوسة وهي شق القمر فِرقتين، فالقادر على
تخريب هذا الجرم الكبير - وإعادته كما كان - قادرٌ على إيجاد الساعة التي أخبر
بها الرسول صلى الله عليه وسلم والآية بعدها تثبته، وأما تصدير الجملة بالشرط
فهو يفيد أنهم سيكذبون بكل آية يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس التكذيب
مختصًّا بهذه المعجزة. وإن رغبتم الوقوف على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في
الانشقاق فهو في نمرة 55 من الجزء الأول من الجواب الصحيح.
وبالختام أرجو الله أن يكون معكم وفي عونكم كما أننا نسأله أن يجعلكم
مؤثرين للحق، وقد علمت من بعض الإخوان محبتهم لمبادلتكم الأفكار في شيء من
البحوث بَيد أنهم يخشون عدم رغبتكم، فهذا رأيي الضعيف، والمرجو أن عفوكم
يسع ما تقدمت به حضرتكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صديق نجديّ
تعليق المنار
رغبتنا في انتقاد النجديين
لقد كان أخونا الكاتب في غنًى عن الاعتذار وطلب العفو في أول رسالته
وآخرها، فإنما يكون الاعتذار وطلب العفو عما كان ذنبًا وإن في العرف، ونحن
نُسَر بالانتقاد، ونعدّه إحسانًا إلينا وإلى قراء مجلتنا؛ لأنه من أسباب تمحيص
الحقائق، ولا سيما انتقاد طالب الحق المخلص فيه، بخلاف مريد النيل من المنتقَد
عليه، أو مريد إظهار علمه إعجابًا به. وقد سبق لنا أن نشرنا لبعض المنتقدين ما
فيه تصريح بتجهيلنا، بل ما يتضمن تكفيرنا لئلا يتوهموا أننا تركنا نشره كراهة
لإظهار علمهم أو لأجل إخفاء جهلنا، ومنه ما لامنا كثير من فضلاء القراء على
إضاعة وقتنا ووقتهم به.
وأزيدهم أنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار
ويكتبون إلينا بما يرونه فيه منتقَدًا لما نرجو أن نستفيد منهم ويستفيدوا منا.
أما الأول: فلأنهم لشدة اعتصامهم بالسنة ومقتهم للبدع والمعاصي وقلة وجودها
في بلادهم وقلة قراءتهم للكتب التي يكثر فيها تأويل بعض البدع وعدّها مشروعة -
يكون لهم دقة نظر في نزعات الشرك الخفية والمشتبهات بين الحلال والحرام
والتأويلات المنكرة وسائر ما يخالف طريق السلف مما قد يخفى علينا بعضه أو
يفوتنا إنكاره لكثرته وألفته بكثرة أهله وكثرة كتبهم.
وأما الثاني: فلأنه يُخشى أن يكون من لوازم التشدد في الدين وقوع بعضهم في
الغلو المنهي عنه بِعَدّ بعض المباحات المستحدثة من البدع المنكرة، أو ما ليس من
الشرك الجلي منه، أو تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله. ويدخل في هذا بعض
العلوم والفنون والصناعات الحادثة التي تقوم الدلائل على ندبها أو وجوبها لما فيها
من المصالح العامة في قوة الأمة والدولة الحربية والمالية.
وقد كنت كتبت إلى إمام نجد منذ بضع عشرة سنة كتابًا ذكرت له فيه أنني
أرغب في اطِّلاع علماء نجد على المنار وطالبتهم بأن يكتبوا إليّ بما يرونه فيه
منتقَدًا بالأدلة الشرعية لأجل نشره وفتح باب المناظرة بيني وبينهم فيه، وأنني
سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء لأجل توزيعها على كبارهم هدية مني، وقد
ظللت أرسل هذه النسخ من طريق البحرين عدة سنين ولكن لم يصل إليَّ ما يدل
على وصولها، فلا أدري ما فعل الله بها، ولكن علمت أن عمال البريد البريطاني
الذي ينقل الرسائل والمطبوعات إلى بلاد العرب من طريق الهند كانوا يمنعون
بعض ما لا يحبون وصوله إلى أهله من المطبوعات، حتى إذا كانت الحرب العامة
اشتدت المراقبة عندهم وفي جميع مكاتب البريد الدولية، وكثر اختزال كل ما
يرونه ضارًّا بسياستهم ولو بالشبهة البعيدة.
ولما صار يسهل على النجديين الاطلاع على المنار في الحجاز لم يبلغني عن
أحد منهم انتقاد على شيء مما يُنشر فيه ولو في أحاديثهم مع بعض الناس إلا
ونشرته وبينت ما عندي فيه، إلا أن يكون شيئًا سخيفًا يُعَدُّ نشره إهانة لقائله ولا يفيد
أحدًا.
بعد هذا التمهيد المقصود لذاته في باب الانتقاد على المنار أقول:
مسألة انشقاق القمر
(1) إن شُراح دواوين السنة - ولا سيما فتح الباري شرح صحيح البخاري
وبعض المفسرين - قد ذكروا أن بعض الناس أنكروا هذه القصة، وأن بعضهم
استشكلوها من عدة وجوه: منها أنها مما تتوفر الدواعي على نقل الأمم لها بالتواتر ولم
تنقل كذلك، فمن المستغرب أن يدعي المنتقد إثبات تواريخ الأمم لها وأن جميع الناس
تلقوها بالقبول.
(2) ذكرنا أن الإشكال الأكبر عليها عندنا هو التعارض بين الحديث
والآيات الكثيرة في مسألة التحدي بالقرآن ولا حاجة إلى شرحه هنا، ولم أر أحدًا
من العلماء ذكره وأجاب عنه كما ذكروا غيره من الإشكالات وأجابوا عنها، وليس
التعارض بين آية الانشقاق وآية الإسراء وحدها، بل هناك آيات متعددة ذكرنا بعضها
في بحثنا، فمن كان يرى أن لا تعارض في المسألة كالمنتقِد فلا إشكال عنده فيها،
وها نحن أولاء قد ذكرنا دليله على عدم التعارض ونود أن يقبله جميع الناس،
ولهذا لا نرد على ما نرى فيه من ضعف؛ فإنه لا غرض لنا من البحث كله إلا أن
يكون القرآن في الأفق الأعلى من توجيه أي اعتراض عليه فيتضاءل دون وصوله
إليه، إلا أننا نقول: إن صح فرضه أن الآية وقعت بدون اقتراح، يزول هذا
الإشكال من أصله.
والفرق بيننا وبين مَن يكتبون لتأييد مذهب كلامي أو فقهي: أن هؤلاء على
اختلاف صفاتهم لا يقبلون ما يخالف مذاهبهم. وأما نحن فلا نلتزم مذهب إمام معين
فنجعله أصلاً ترد إليه نصوص الكتاب والسنة بل كلام الله ثم كلام رسوله عندنا
فوق كل مذهب وكل إمام فكل ما وافقهما فهو مقبول عندنا وكل ما خالفهما فهو
مردود، فإن تعارضا ولم نهتدِ إلى الجمع بين المتعارضين ببحثنا ولا بإرشاد غيرنا
لم يكن لنا مندوحة عن ترجيح كلام الله تعالى وهو القاعدة المتفق عليها عند سلفنا
الصالح وأئمة السنة. وأهون من ذلك أن يكون التعارض بين نص كلام الله أو كلام
رسوله وبين أقوال مروية عن بعض الصحابة في بيانهم لشيء منهما كحديث
انشقاق القمر، فإنه لم يروه أحد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) قوله: وأما تفسيركم لانشقاق القمر ... إلخ - يدل على أنه تفسير انفردنا
به لم يسبقنا إليه أحد، وليس الأمر كذلك وإنما نقلناه عن غيرنا واخترناه على تقدير
ما ظهر لنا في الرواية. وعدم تسليمه إياه ليس حجة على الذين قالوا به وهم أعلم
منه ومنا بهذه اللغة وناهيك بالراغب - صاحب كتاب مفردات القرآن - الذي لا
نعرف أحدًا من علماء اللغة يحدد معاني الكلمات العربية مثله. ولا تتوقف صحته
على سبق نطق العرب به فالقرآن حجة على العرب وغيرهم، وكم له من تعبير
مبتكَر لم يُعلم نطق العرب به بل يعجزون عنه. وقد نقله شارح القاموس عن
الراغب وأقره ولم يقل: إن اللغة العربية تتبرأ منه ولا أنه لا يفهم ويصح أن يعد
من الألغاز. ولعله لو لم ينقل عن العرب قولهم: انشق الفجر والبرق - لعدَّه المنتقِد
مما لا يُفهم أيضًا.
(4) ما ذكره من العلاقة بين دعوى النبوة وانشقاق القمر بصرف النظر
عن الحديث فيه وهو إثبات قدرة الله على البعث - غريب جدًّا ولا حاجة بنا إلى
المناقشة فيه ولا سيما دلالته وإنما نذكره بأنه يخرج بالحدث عن موضوعه وعن
كونه تفسيرًا للآية، وبأن العرب لم تكن تنكر قدرة الله تعالى وما كل ما يقدر تعالى
عليه يفعله.
(5) ما كتبه لشيخ الإسلام في المسألة قد اطلعنا عليه من قبل وهو مبني
على المشهور المسلَّم من أن القمر قد انشق جرمه بالفعل، وأن المنكرين لذلك من
المخالفين فيه إنما ينكرونه؛ لأنه معارض عندهم بعقولهم وبقول علماء الهيئة
المتقدمين: إن الفلك لا يقبل الخرق والالتئام ويرد عليهم كغيره بقدرة الله على ذلك.
وقد بينا أن مسألة الأفلاك واستحالة عروض الخرق والالتئام لها نظرية
يونانية سخيفة أجمع علماء الفلك في هذا العصر على بطلانها، ولو فكر شيخ
الإسلام رحمه الله تعالى في مسألة معارضة الآيات لحديث اقتراح كفار قريش على
النبي صلى الله عليه وسلم آية على صدقه وكون القمر قد انشق إجابة لهم إلى هذا
الاقتراح كما جرى عليه هو وغيره أخذًا بحديث أنس المرسل وكون المعارضة من
وجهين أحدهما الاكتفاء بالقرآن في إقامة الحجة على رسالته صلى الله عليه وسلم،
وثانيهما: كون إعطاء الآية باقتراح الكفار يقتضي وقوع العذاب كالذي وقع على
الأولين، وثَمّ وجه ثالث مصرَّح به في بعض الآيات وهو عدم الفائدة في إجابتهم
إليها - نعم، لو فكر وأجال قلمه السيال في هذا لرأينا من تحقيقه فيها ما لا يدع
مجالاً لقائل، كدأبه في أكثر ما يحققه من المسائل، ولكن شَغَله عن التفكر في هذا
توجيه همته كلها إلى الرد على أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين يردون كل ما يخالف
نظرياتهم وآراءهم. وهذا الفقير في اعترافه بل افتخاره بأنه استفاد من كتب شيخ
الإسلام قدس الله روحه ما كان أعظم مُثبِّت لقلبه ومقوٍّ لحجته في مذهب السلف
الصالح - يصرح بأنه على إعجابه بتحقيقه لا يقلده في شيء من أقواله تقليدًا، بل
يعده ممن يدخل في عموم قاعدة الإمام مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من
كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ومن
المعلوم أن له - كأمثاله من المجتهدين - عدة مسائل انفرد بها أو اختارها على ما
هو أقوى منها في مذهب الإمام أحمد لا يوافقه جمهور الحنابلة عليها كلها ومنهم
علماء نجد المتأخرون.
مسألة همّ يوسف وامرأة العزيز
استدل الأخ المنتقد على رد ما اخترناه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يوسف: 24) بأن قوله بعده: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) يدل على أن موضوع الهم لا يليق بمنصب يوسف الشريف (عليه
السلام) وهو غفلة منه عن كون همه بمثل ما همت به من الانتقام بالضرب لا يليق
بمنصبه الشريف أيضًا، وإذا كان الضرب الخفيف من المعاصي الصغائر في نفسه
فهو في مثل هذه الحال قد يفضي إلى القتل أو إلى ما يقرب منه كما وقع لموسى
عليه السلام؛ إذ وكز القبطي دفاعًا عن الإسرائيلي فقتله.
وليعلم الأخ المنتقد أنني ما اخترت هذا القول لأجل موافقة الآية لقول مَن قال
من المتكلمين بعصمة الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وبعدها من كل ذنب، فالقرآن
عندي فوق المتكلمين وغيرهم، بل فوق كل علم وكل شيء خلقه الله. وإني أقول
إن آدم قد عصى ربه حقيقة كما قال الله تعالى بغير تأويل، وإنما اخترت ذلك القول
في الهم؛ لأنه المتبادر من استعمال اللغة والموافق للمعهود من طباع البشر والمؤيد
بما بعده مما بينته في محله، وقد قال به بعض العلماء قبلي.
مسألة التأويل
ما قاله المنتقد في مسألة التأويل مجمل وهو يدل على أنه لم يَرَ في المنار ولا
في تفسيره شيئًا مما كتبته في هذا الموضوع مرارًا، وملخصه أن ما أَدين الله تعالى
به في صفات الله تعالى وأخبار عالم الغيب وغيرهما من كل ما كان عليه السلف
من أمر الدين هو اتباع جمهورهم في إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله ونفي ما نفياه
من غير تعطيل ولا تأويل. وإنني إن ذكرت لبعض الآيات في ذلك تأويلاً فإنما
أذكره لما أعلم بالاختبار من أن من الناس مَن لا يقتنع بحقيقة النص بدونه مع العلم
بأن علماء السنة قد صرحوا في القديم والحديث بأن من خالف ظواهر النصوص
متأولاً لا يكفر. وأن إنقاذ كثير من الناس من الكفر بضرب من التأويل الذي ينافيه
أمر عظيم و (لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم) .
وأما قوله: (إنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يحتاج إلى التأويل إلخ) إن
أراد به تأويل غلاة المبتدعة كالباطنية وقدماء الجهمية المعطلين المخرج للكلام
عن مدلولات اللغة - فهو حق؛ وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولا هو بالذي يُعَد عذرًا للمتأول. وإن أراد به ما يشمل صرف الكلام عن ظاهر مدلوله اللغوي
الذي يسمى حقيقة لغوية إلى مجاز أو كناية أو تمثيل - فقد قضى على بلاغة
القرآن وسعة علومه قضاءً لا يقوم عليه دليل، بل يقوم الدليل على خلافه،
وقد صح في الأحاديث المرفوعة تأويل بعض الآيات؛ كما يرى في تفسير {يَوْمَ
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (التوبة: 35) من هذا الجزء. ومجال القول في
تأويل الأحاديث أوسع؛ لأن أكثرها منقول بالمعنى ولم يتواتر باللفظ إلا قليل منها؛
كما صرحوا به. وماذا يقول المنتقد في حديث خروج النيل والفرات من أصل سدرة
المنتهى فوق السماء السابعة؟ ! ومنابع هذين النهرين وغيرهما في الأرض
معروفة بمساحتها ومجاريها، يستطيع أن يراها كل أحد ولا سيما النيل، أفلا
يحتاج هذا الحديث إلى تأويل؟ ولا يتسع هذا التعليق لأكثر من هذه الكلمة
الموجزة فيه وفي أصل التأويل.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
__________(31/63)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحوال مسلمي روسية
جاءنا الخطاب الآتي مطبوعًا فنشرناه مع تصحيح قليل وحذف بعض المكرر
منه.
إلى العالم الإسلامي..
عالم الإسلام! هل تعرف كيف يعيش إخوانك المسلمون في روسيا؟ هل
تتصور كيف يتألمون من الظلم هناك؟ هل تشعر كيف ينال الثلاثين مليون مسلم
حربٌ دينية لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟ لا، لا تعرف ذلك ولا ترى ولا تشعر
بذلك. أنت لا تسمع العويل من هذا الرق. فلو تصورت دماء المسلمين المراقة هناك
منذ 12 سنة والدموع السائلة، والزفرات الصاعدة، ما كنت ترضى بها دون أن تقوم
ضدها. ولو نظرت إلى الآلام التي يصاب بها المسلمون لأنهم مسلمون ما كنت
تحافظ على قلة اهتمامك حتى الآن.
عالم الإسلام! انظر إلى الأحوال هناك!
يعيش في روسيا في الأصقاع المختلفة مثل قريم والقوقاس والتوركستان
والولغا أورال 30 مليون مسلم لم يهاجروا إلى تلك البلاد من بلاد أخرى بل هم أهلها
الأصليون. وقد وقعت بلادهم الغنية الجميلة في أيدي الروس المتعصبين الذين لا
يعرفون احترام الأديان الأخرى وصاروا رعيّتهم. وبذلك اضطروا إلى مقاومة
الظلم الروسي منذ عصور، الذي (كان) يرمي إلى تنصيرهم وجعلهم روسًا بالقوة.
وليس من النادر أن ماتوا في الحرب من أجل دينهم المحترم المحبوب موتة
فظاعة وشهادة. وهم أبوا إجابة طلب ظالمهم أن يخونوا مدنيتهم التي جاوروها
واتصلوا بها عصورًا طويلة ويتخذوا مدنية غريبة. وقد تحملوا لثباتهم تضحيات
كبيرة جدًّا. وبالرغم من الظلم قد دافعوا عن عقيدتهم حتى الآن، وإذ لم يستطع
الروس تنصيرهم فقد استطاعوا محو أكثر معالم مدنيتهم.
والآن (صارت) الأمة الروسية متهافتة على شيوعية متعصبة كما كانت
متهافتة على نصرانية متعصبة. وهي تفكر في جعل روسيا الواسعة شيوعية وفي
إدخال الثلاثين مليون مسلم في الدين الجديد اللينيني، وتريد قطعهم عن دينهم ذي
الألف سنة وعن عاداتهم الإسلامية وهكذا تخرب الجماعات الإسلامية التي تعيش
هناك وتهدم المدنية الإسلامية.
عالم الإسلام!
إن الأصقاع الإسلامية سواء كانت حرة سياسية أو تحت حكم حكومات أوربية
لم تَرَ ظلمًا مثل ما في روسيا. اسمعوا ماذا يحدث هناك:
في مدن وقرى هؤلاء الثلاثين مليون مسلم أغلقوا المدارس التي يدرس فيها
الدين. واليوم لا يوجد ولا مدرسة تعلم الأمة القديمة الإسلامية الإسلام، والتي
تخرِّج لهذه الأمة الإمام، والمؤذن، والخطيب والواعظ. هذه المدارس صارت
معسكرات (كومونيستية) وليس هناك حرية لإعادة المدارس ثانية. كانت تُطبع
من قديم لسد حاجة الثلاثين مليون مسلم في مطابع إسلامية ملايين من نسخ القرآن
والكتب الإسلامية. وكان هناك 40-50 مطبعة وآلاف من المكاتب التي لم تنشر
هذه الكتب بين المسلمين في روسيا فقط بل كانت ترسلها إلى عالم الإسلام أجمع.
الآن لا يوجد شيء من هذا، فحكومة موسكو امتلكت المطابع كافة. فبدلاً من
القرآن والكتب الأخرى تطبع الآن المقالات الشيوعية.
والمكاتب الإسلامية ومحتوياتها أُخذت من طرف الحكومة البولشفية ونُهبت،
ومنذ تحكم البولشفية في بلادنا لم يطبع القرآن ولا كتاب ديني؛ لأن طبع وتوزيع
أي كتاب ديني ممنوع، واستجلاب الكتب الدينية من الخارج مستحيل وفاعله يعاقب.
عالم المحمديين!
أنت حر في احترام دينك أينما تعيش في وطنك أو في أوربا أو في إفريقيَّة لا
يمنعك عن ذلك أحد، ويمكن أن تقوم في كل وقت بصلواتك وصيامك. ويمكنك أن
تعيد أعيادك في بلدان أوربا الكبرى كبرلين ولندرة وباريس ورومية كما تحب،
وإن الأوربي والأميركي يحترم دينك وصلاتك، ولكن الحال في روسيا
الكومونيستية الحالية غير ذلك. هناك تعد الصلاة والدعاء والصيام والذهاب إلى
الجامع جريمة. والموظف يضيع وظيفته إذا صلى وصام. وإذا ما عقد زوجان
شابان زواجهما على يد إمام يُطردان من وظيفتهما، وإذا رؤي عامل في الجامع
وجب عليه ترك شغله. وفي أيام العيد الإسلامية تقام مظاهرات بالموسيقى والأبواق
أثناء صلاة العيد لجرح عواطف المسلمين، وهؤلاء المظاهرون يدورون صارخين
حول الجامع ليشاغبوا على المصلين في صلاتهم وسكوتهم، ويرمون المصلين
بالأقذار، ويقذفون الإسلام ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأقبح الكلام، ويغنون
أغاني قذرة على قديسي الإسلام، وفي عيد الأضحى يأتي هؤلاء المظاهرون
ببعض الخنازير ويدعوها تصيح أثناء الصلاة، ويذبحوها قرب الجامع وهم
يسمونها ضحية، وأولاد المسلمين الذين هم تلاميذ يضطرونهم لأكل طعام الضحية
من الخنزير، وكل هذه المسائل تحسب من ذنوب الحكومة الشيوعية، وبمساعدة
الحكومة يقوم عسكر وموظفون ودرك في مثال هذه الأعياد الإسلامية بهذه الفظائع
التي تثقل الضمير الإسلامي.
عالم الإسلام!
إن المؤمنين الشجعان يذهبون لنجاة أرواحهم كل سنة آلافًا مؤلفة إلى البلاد
المقدسة ويحجون إلى الكعبة المقدسة، ويمسون بوجوههم القبر المقدس للنبي عليه
الصلاة والسلام، ويطلبون رحمة القديسين [1] وهم يرجعون فرحين مؤمنين إلى
أوطانهم. وقد كان مسلمو الروسيا يزورون في السابق أيضًا البلاد المقدسة، وهناك
يقابلون المسلمين من أقطار أخرى، ويتزودون بحديثهم تجارب دينية، فكان يذهب
لا أقل من عشرة آلاف حاج إلى البلاد المقدسة، أما اليوم فلا يراهم ولا يسمعهم
هناك أحد ولم يُرَ منذ اثني عشر عامًا حاج واحد من روسيا؛ لأن السيادة الشيوعية
تمنع الحج [2] .
عالم الإسلام!
في كل مكان - حيث أنت موجود - يمكنك أن تسير على القوانين الإسلامية
وتتبعها. وأئمتك ومؤذنوك ومدرسوك وجميع وكلاء الدين الآخرين محترمون وقد
كان الأمر في بلادنا أيضًا كذلك. أما الآن فمنذ وقعت بلادنا تحت الحكم البولشفي
فإن أئمتنا وخطباءنا ووعاظنا ومؤذنينا ليسوا محترمين. وإنهم خارجون عن كافة
الحقوق الإنسانية حسب القوانين الكومونيستية، ولا يمكنهم أن يتقلدوا وظائف
دنيوية أم معنوية، ولا يمكنهم أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا، ولا أن يشتركوا بالرأي
والمشورة عقليًّا. بل تمامًا بلا حقوق. وقد وضع عليهم بصفتهم من طبقة دينية
خاصة ضريبة. وهي أن يدفعوا 40-50 في المئة بل 100 في المئة أكثر مما
يدفع سائر الناس من الضرائب، وإذا لم يستطيعوا الدفع لفقرهم فإن الحكومة
البوليشفية تصادر دورهم وأملاكهم وترسلهم إلى سيبيريا.
أيها المسلمون:
كان عندنا قريب 25000 جامع وهذه كانت تُبنى منذ ألف سنة من الجماعات
الإسلامية وقد اشتريت لها من دراهم المسلمين سجاجيد وما شابهها وأسست خزائن
مخصوصة للمحافظة على هذه الجوامع، وهذا كله مالنا وإرثنا من آبائنا، ولكن بعد
أن وقعت بلادنا في أيدي الكومنيست أعلنوا أن هذه الجوامع وخزائنها هي أميرية
أي ملك الروس المسكاو. وقد نهبت السجاجيد والأشياء الثمينة التي في الجوامع
وصودرت السجادة التي وهبها الخليفة السلطان محمد رشاد سنة 1917 لجامع
بطرسبورغ (اليوم لينينغراد) ويطلبون للصلاة في الجامع ضريبة خاصة، وهذه
الضريبة عالية فوق الطاقة. وإن الجوامع التي لا تدفع جماعاتها ضرائب تغلق أو
تجعل أندية عامة أو صالات رقص ولعب أو مدارس غير دينية، أو إلى حانات
حمراء. وكثير من الجوامع التاريخية القيمة تخرب وتهدم.
وأما في وطننا (إيدل أورال) (ولغا أورال) - وهي مركز الإدارة العليا
للمسلمين في روسيا - فإن حرب الأديان في منتهى الشدة. وفي سنة 1929
تأسست في (إيدل أورال، قازان، أستراخان، أوفا، أورينبورغ) بمساعدة
الحكومة جمعيات لا دينية من العسكر والموظفين لهدم كافة الجوامع، وهؤلاء
يغلقون الجوامع بالقوة، وينهبون من المقابر الإسلامية الأحجار التاريخية والشبابيك
من قبور القديسين ويخربونها.
وقد أغلق في السنين الأخيرة في باشكيرستان - قسم من (إيدل أورال) -
عدد كبير من الجوامع، وأقيل كثير من الروحيين من وظائفهم، تأخذ هذا كله من
الجريدة الكومونيستية الرسمية (ينا أول) وأن عدد الذين استقالوا مضطرين 502
من الأئمة و363 مؤذنًا وأغلق 103 من الجوامع.
نحن ننظر إلى هذه المظالم في المسلمين في الروسيا ونعطي هذه التفاصيل
كمحاربين لاستقلال منطقة (إيدل أورال) ونرجو المساعدة منكم ومن باقي إخواننا
في العقيدة.
أفِقْ يا عالم الإسلام ولا تدع عقيدتك تدنس بأيدٍ وسخة، ولا تسمح بأن يداس
إخوانك بأرجل الظلم، فاستيقظ! اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ختم الجمعية)
(المنار)
جاءتنا هذه الرسالة في البريد مطبوعة مختومة بختم المركز العام لجمعية
استقلال (إيدل أورال) فنشرناها انتصارًا لإخواننا المسلمين المظلومين في البلاد
الروسية الذين انتقلوا من ظلم القياصرة إلى ظلم الشيوعية الذي يفوقه في القسوة
والاستعباد أضعافًا مضاعفة، والعجب من غفلة هؤلاء الأشقياء كيف يطمعون في
نشر نفوذهم في الأقطار الإسلامية حتى العربية منها مع هذا الاضطهاد الذي
يسومون به مسلمي بلادهم سوء العذاب.
إن الشعوب الإسلامية قد ضاقت صدورها من عدوان الدول الرأسمالية
المستعمرة واستبدادهم ولكنهم لا يرجحون عليها دولة كافرة معطلة تعادي الأديان
وتكفر بالرحمن، وتحتقر وجدان الإنسان، ولو لم تقهر الدولة البولشفية الناس
وتكرههم على ترك دينهم لكثر أنصارها في كل مكان.
إن احتجاج الصحف وحده لا يرد هؤلاء البغاة عن بغيهم، وإننا نذكِّر إخواننا
المسلمين الذين يرون بعض دعاة البولشفية في بلادهم بأنه يجب عليهم أن يبينوا لهم
سوء تأثير اضطهادهم لأبناء دينهم في بلادهم، ونقترح على كل حكومة إسلامية
عندها سفير أو ما دون السفير من المعتمدين السياسيين أن تخاطبه في ذلك وتفعل ما
فعلت دول أوربة في الاحتجاج على اضطهاد النصارى، وأولى الحكومات
الإسلامية بهذا حكومتا اليمن والحجاز ونجد؛ لأنهما دينيتان يلقب رئيس كل منهما
بإمام المسلمين.
هذا، وإن في قطر آخر من الأقطار الإسلامية اضطهادًا لشعب إسلامي كبير
ومحاولة منظمة لرد أولادهم عن دينهم بتعميم التربية والتعليم الإجباريين، وهذا لا
يقل خطره عن اضطهاد دولة الروس البلشفية لمسلمي بلادها، بل ربما كان هذا
الخطر الهادئ المنظم أشد وعاقبته أسوأ، والواقع عليهم يرون أنهم لا يستطيعون
التظلم والشكوى؛ لأن كل من اعترض منهم يسام سوء العذاب، والحق أنهم يجب
عليهم ذلك وأن ما يقع عليهم من العقاب لا يكون أشد مما هم صائرون إليه في الدنيا
ثم في الآخرة، ولكن لابد لذلك من نظام، ليكون له قوة الرأي العام.
__________
(1) المنار: القبر الشريف لا يمسه أحد من الزائرين بل قلما يراه أحد؛ لأنه في الحجرة النبوية الشريفة وإنما يقف الزائرون أمام الحجرة ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما ويدعون الله تعالى وحده ويطلبون رحمته، لا رحمة القديسين، ويعني بهم الكاتب
(الصالحين) والتعبير بالقديسين اصطلاح نصراني.
(2) منذ خمس سنين حج بعض مسلمي روسية وحضروا المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة وما سمعنا أن أحدًا منهم حج بعد ذلك.(31/70)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة مهمة من الصين
في حال مَن فيها من المسلمين
إلى منشئ المنار وناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر مولانا رئيس أهل السنة
والجماعة محمد رشيد رضا:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فيا مولانا، إني رجل من معلمي العلوم الإسلامية في بلد (القواندن) ، يا
سيدي؛ إن دين الإسلام في الصين داخل في الضعف والخمود يومًا فيومًا كأنه على
شفا جرف هارٍ، لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. سببه: أن مسلمي الصين أكثرهم
قليلو الديانة وجاهلون للعلوم الإسلامية والقرآن والحديث وتاركون للصلاة
والفرائض، بل أكثرهم لا يعلمون حقيقة الإيمان وهم مقلدون. وأكثرهم ما كان
لهم علم واسع ولا ديانة. يشتغلون بقراءة القرآن عن الغير عن تعليم العلوم
الإسلامية ونظر الكتب الدينية وتبليغ الشرع.
وإن الفقير (أنا) تحسر على غربة الدين في الصين، ووضع هو وإخوانه
مجلة الإسلامية الدينية العلمية المترجمة بالصينية. ويرتجي الآن أن يستعين على
هذا الخطاب الخطير من جنابكم، وأنه استمع أن مجلة المنار كأنها شمس، ولم يَرَ
وجهها الجميل، وترجى أن يشتري نصيبًا منها كل شهر وترجمه وشاعه (كذا
والمراد ترجمة هذا النصيب وإشاعته في الصين) ولكن لم يدرِ محلة مجلتكم
الشريفة. فالمرجو من كرمكم أن تخبروني محلة مجلتكم وكيفية الشراء وثمن
الجرائد المنارية كم هو لأرسل إلى جنابكم الثمن والسلام.
في أوائل شهر المحرم الحرام.
الداعي أحقر خادم الطلبة ومبلّغ الدين الإسلامي ومدير المجلة الإسلامية في
القواندن.
... ... ... ... ... عثمان بن الحاج نور الحق الصيني الحنفي
الجواب
(المنار)
لبيك لبيك، وسلام عليك وعلى مَن لديك ورحمة الله وبركاته.
ومجلة المنار تُرسل إليك هدية مع هدايا أخرى، واعلم أن صاحب المنار
ليس رئيسًا لأهل السنة والجماعة بل خادمًا ضعيفًا مخلصًا، بل ليس لأهل السنة
والجماعة رئيس عام يعني بشؤون الإسلام، والذنب في ذلك عليهم فإنهم فوضى،
ولكن يرجى أن يتجدد لهم في هذا العصر شيء من النظام.
__________(31/75)
الكاتب: إبراهيم عريقات
__________
الدين قبل كل شيء
إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك الإسلامي الغيور على دينه فؤاد
الأول نصره الله.
ثم إلى دولة رئيس الوزراء وأصحاب المعالي الوزراء ثم إلى مجلسي شيوخنا
الأجلاء ونوابنا المحترمين
نبث آلامًا أحاطت بنا حتى كدنا نموت أسفًا وحزنًا على ما حل بديننا الحنيف
في هذا القطر. ذلك القطر العربي الإسلامي العظيم وبه الأزهر الذي هو أكبر
جامعة إسلامية ومن مواد الدستور المصري أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ومع
هذا فقد راعنا أن معالم الدين الآن آخذة في الاضمحلال والفناء، والأخلاق انهارت
وتدهورت، والرذيلة سادت الفضيلة، وحشرات الإلحاد برزت إلى حيز الوجود
ترفع رأسها غير آبهة، وصحفنا اليومية تمحضت للسياسة إلا قليلاً جدًّا وتركت
معاول التضليل تهدم في صرح دين الدولة المصرية الرسمي حتى أفسدت أخلاق
الشبيبة. وبالجملة فالأمر جد خطير وأملنا وطيد في رجال حكومتنا الذين لا نشك
في إخلاصهم للوطن وحبهم لرفعته أن يأخذوا بناصر الدين ويضربوا على أيدي
الملحدين والمفسدين، وأن يعطوا لتلك المادة القائلة بأن دين الدولة الرسمي هو
الإسلام حقيقتها ومدلولها وإلا كانت اسمية فقط، وتتلخص فيما يلي:
(1) أن يدخل التعليم الديني في المدارس الحكومية وغيرها دخولاً يكون
معها مادة أصلية أساسية لا إضافية حتى يخرج النشء عارفًا بدينه نافعًا لأمته.
(2) أن يقرر بجميع المدارس الإلزامية قسم لحفظ القرآن الكريم جميعه.
(3) منع البغاء الرسمي في الدولة المصرية المسلمة.
(4) تحريم الخمر الرسمي في الدولة المصرية المسلمة.
(5) عقاب تارك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبتعميمها في
أفراد الأمة المصرية يستتب الأمن، ويقل الأشرار وتتلاشى الجرائم وتستريح
الحكومة.
(6) عقاب مَن يتجاهر بالفطر في نهار رمضان.
(7) مما لا مراء فيه أن الدين الإسلامي ليس كغيره من الأديان بل هو
صالح لكل زمان ومكان؛ ولذا ختم الله به الدين وجعله عامًّا للخلق أجمعين، ولا
يعجز حكومتنا - الإسلامية رسمًا - أن تكون إسلامية فعلاً بالعمل بقواطع
الدين وتخصيص لجنة لذلك من هيئة كبار العلماء والمفكرين.
لا زلتم للدين الحنيف ناصرين، وللواء الفضيلة رافعين، آمين.
... ... ... ... ... ... أهالي برنبال مركز فُوَّة مديرية الغربية
... ... ... ... ... ... ... عنهم: إبراهيم عريقات
__________(31/76)
الكاتب: إميل درمنغام
__________
رسالة من مؤلف كتاب
حياة محمد في باريس
الحمد لله وحده
إلى سيدي مدير مجلة (المنار) الغراء.
تحيةً وسلامًا وبعد:
فإني قرأت في مجلتكم مقالاً للسيد اليزيدي على كتابي (حياة محمد) ، أنا لا
أريد هنا مناقشة مطولة مع صاحب المقال فيكفي القارئ أن يراجع كتابي نفسه فيجد
فيه الأجوبة لاعتراضاته التي لم تأتِ بشيء جديد، ولكن يجب عليَّ أن أعلمكم أن
فكري قد حُرِّفَ تحريفًا كاملاً؛ فإن صاحب المقال لم يفهم شيئًا مما قلته.
الله شاهد على أن ليس لي المقاصد التي أعارنيها، وحقيقة قصدي في نشر
(حياة محمد) هو البحث الحق الذي هو من أسماء الله تعالى، وعاملت القرآن مثل
معاملتي التوراة والإنجيل، وأظهرت في كل حين ميلي للرسول صلى الله عليه وسلم
وعطفي إلى الإسلام دين الغزالي وابن (العربي) وابن الفارض وابن رشد
وابن سينا وابن خلدون رضي الله عنهم. ورجال أكابر الدين إنما فهموا مقصدي
وفكري لو أنهم قرأوا كتابي (؟) إن الشيخ الأكبر قال - ولله دره -:
إذا علم الله الكريم سريرتي ... فلست أبالي من سواه إذا سخط
وليت علماء مسلمين قرأوا كتابي ودرسوه بمثل الإنصاف والميل اللذين كتبته
بهما، وقد علق عليه بعضهم منهم السيد بلا فريج في (الفتح) ومكاتب (فتى
العرب) اللذين إن لم يكونا في الكل من فكري علما صدق ضميري، وإني أطلب
من لطافتكم، أيها المدير أن تنشروا في مجلتكم هذه الكلمات لتقويم ما علق على
كتابي في مجلتكم.
وفي الختام اقبلوا تحياتي واحترامي والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إميل درمنغام
__________(31/77)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
معاملة البنوك
استدراك على ترجمة تيمور
أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تأبين للفقيد رحمه الله ومما ذكره بعض
المؤبِّنين: أنه كان يعامل بنك الكريدي ليونيه خلافًا لما كنا نسمعه من أنه كان لا يودع نقوده في المصارف المالية حتى لا يعينها على استغلاله بالربا، ولكن يا ليت
شعري هل كان يأخذ هو ربحًا على نقوده أم لا؟
المشهور أن كثيرًا من المسلمين يودعون الأموال الكثيرة في المصارف
الأوروبية، ولا يقبلون أخذ شيء من الربح عليها فينفعون بها الأجانب، ولا
ينتفعون منهم من حيث يأخذ آخرون الربح منهم ولا يعدونه من الربا المحرم،
وبعضهم لا يبالي أن يكون منه، واستحسن بعض الباحثين أخذه وإنفاقه في المصالح
الخيرية التي ترقي الأمة، فماذا كان يفعل فقيدنا وهو المتفقه في دينه، المعتصم به
في عمله؟
لعل نجلَيْ الفقيد أو بعض بطانته يخبرنا بالحقيقة.
__________(31/79)
الكاتب: عبد الله بك الأنصاري
__________
نفثة حزن لعالِم دُفن
للأستاذ عبد الله بك الأنصاري أستاذ العلوم العربية في المدرسة التوفيقية
(كان) :
يا دار أحمد تيمور أتيناك ... فأين ربك غوث اللاجئ الشاكي
يا دار أحمد دار العلم آهلة ... بالفاضلين وأهل المذهب الذاكي
يا مُسدي الفضل والإحسان في ترف المـ لوك عزًّا وفي أخلاق أملاك
دين بدون رياء في شعائره ... وفي العلوم خبير جدٌّ درَّاك
ما كنت أحسب أن الموت يفجعنا ... فيه سريعًا فيخلو منه مثواك
يا روضة العلم تلك الكتب ناطقة ... بما تجمع في حجرات مغناك
لم يألُ جهدًا ولم يبخل بدرهمه ... في وفرة العلم أو في رحمة الباكي
له فضائل ليس العد يحصرها ... ودون أيسرها قد يعجز الحاكي
فحسبه من ثناء الناس ما اجتمعت ... عليه ألسنهم في صدق إدراك
واحسرتاه على ذلك العظيم ومن ... سمت به نفسه في غير تحراك
نادى الفضائل فانحازت لدعوته ... وحاد عن كل كفار وأفاك
كانت مجالسه بالعلم زاهية ... نقية لم يشبها أي إشراك
ونفسه نفس حر لا يمازجها ... كبر الغني ولا إعجاب ملاك
عليه رحمة ربي في معارجه ... إلى منازل أبرار ونساك
وأفرغ الخير والصبر الجميل على ... نجليه في طول عمر طيب زاكي
__________(31/79)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تهنئة للمنار بالعام الجديد
سيدي الكريم وأستاذي العظيم حجة الإسلام السيد الإمام حفظه الله تعالى.
أهدي إليكم سلام المخلص لذاتكم، المعجب بفضلكم، الداعي لكم بالثبات في
طريقكم، والاستزادة من صالح أعمالكم، أما بعد:
فيسرني في هذا العام الهجري الجديد وقد هل هلاله أن أهنئكم وأهنئ نفسي
والمسلمين بما متَّعكم الله من صحة وعافية، ووفقكم إليه من جهاد في سبيله،
تنيرون السبيل للناس بمناركم، وتدفعون الأباطيل بسديد آرائكم وقوي حججكم.
ولقد أصبحت حياتكم مرتبطة بحياة الحق والمسلمين، ومناركم مصدرًا للنور الذي
به يهتدون، فإن يكن الناس لا يزالون في غيهم يعمهون، وعن الحق عمين؛ فلأن
عملكم لا يزال بعيدًا عن الغاية، وأنه لا بد لكم من متابعة السير سنوات وسنوات
حتى يتم لكم النصر إن شاء الله في النهاية، والله نصير العاملين وولي المؤمنين.
إن نفسي لتكاد تذوب حسرة من هذه الحال، فلقد انحطت الأخلاق، وقل
العمل بالدين في نفوس المسلمين بقدر ما تقدموا في العلوم العصرية، ونبغوا
في مظاهر المدنية الغربية، فكثرت الاعتداءات، واغتيلت الحقوق، وضاعت
الأمانات، وضعفت شوكة الحكومات، ولا غرو فلا يمكن حكم القلوب بغير سلطان
الدين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .
ففي مجاهل هذه الحال ترفعون صوتكم ولا يلقى من يردد صداه، وبين هذه
الظلمات المتكاثفة تنشرون مناركم ولا نور في تجديد الدعوة على وجهها سواه،
فاثبتوا - وفقكم الله - فسيُظهر الله دينه ولو تأخر النصر، وسيهزم عدوه مهما
عظمت شوكته واستفحل الشر، واعلموا أن هناك نفوسًا تحنُّ إليكم، وقلوبًا تحفّ
بكم، ستجتمع حولكم لشد أزركم، متى جدَّ العمل، وقوي الأمل {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143) {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (آل عمران: 126) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نجيب
(المنار)
نشكر لأخينا المهنئ حسن ظنه وإخلاصه فيما لا نستحق من إطرائه، وكان
في كل سنة يهنئنا فنشكره بكتاب خاص، وقد آن لنا إعلان شكره على صفحات
المنار.
__________(31/80)
ربيع الأول - 1349هـ
أغسطس - 1930م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
وصف كلامه تعالى بالقديم
وبحادث الآحاد قديم النوع وهل هما مبتدعان؟
وما حكم القائل بهما؟ ونذر زيارة قبر الوالد والصالح؟
(س13-15) من إمام الحاج محمد جابر في كمفوغ سوك هاتي (سمبس -
برنيو)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدي ومولاي العالم العلامة السيد محمد
رشيد رضا صاحب المنار الأغر، رزقه الله عمرًا مديدًا ونفع بعلومه المسلمين
جميعًا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرفع إليكم هذه الأسئلة الآتية راجيًا التفضل بجوابها في صفحات مناركم
الغراء وهي:
(1) قال في كتاب (تنبيه ذوي الألباب السليمة) من الكتب النجدية صفحة
20: إن لفظ (القديم) إذا وُصف به كلامه سبحانه وتعالى فهو من الألفاظ المبتدعة
حيث قال: فقوله * كلامه سبحانه قديم * هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة
المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها. اهـ. مع أن علماء الكلام نطقوا
بلفظ القديم فهذه كتبهم بين ظهرانينا مذكورة فيها أقوالهم بأنهم عرفوا ووصفوا كلامه
جل وعلا بالقديم، ويعتقدون قدمه. وقال الشيخ حسين والي في كتابه كلمة
التوحيد صفحة 57: (ويجل مقام أحمد بن حنبل وأضرابه أن يعتقدوا قدم القرآن
المقروء) ولا أسيء الظن بهم أنهم يعتقدون شيئًا ويمنعون أن يقولوا به في مثل هذه
القضية.
ومعلوم أن القرآن هو كلام الله. قال صاحب الهداية السنية النجدية صفحة
106: (ونعتقد أن القرآن هو كلام الله.. إلخ) وما رأيكم في قول صاحب كتاب
التنبيه المذكور؟ هل هو صحيح في عدِّه الواصفين بلفظ القديم من أهل البدع كما
يدل عليه مفهوم قوله الآتي، أم لا؟ فإن كان صحيحًا فهل يأثم الواصف به أم لا؟
(2) وقال أيضًا: والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع
أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع.. إلخ، فهل قوله (حادث
الآحاد وقديم النوع) من الألفاظ المبتدعة أم لا؟ وهل وردت هاتان الكلمتان في
السنة أو في كلام سلف الأمة؟ فإن وردتا فيهما فذاك وإلا فهما من الألفاظ المبتدعة
أيضًا، وإني لم أقف في كتاب من كتب أهل السنة على نص يوصف فيه كلامه
تبارك وتعالى بهما أو ينقل فيه قول من أقوال سلف الأمة يقولون بهما، ولم أسمع
أحدًا من المشايخ يصف بهما كلامه تعالى. أليستا من الألفاظ التي توهم التشبيه؟
وإني أرجو أن تحرروا مع الجواب معناهما ومرادهما وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ فإني
لم أزل في وهم وإشكال وأرى أنكم من أقدر الناس في هذا العصر على حل
المشكلات.
(3) إذا نذر المريض وقال: (إن شفى الله مرضي فعليَّ زيارة قبر فلان
أو قبر والدي مثلاً؛ لاعتقاده أن لصاحب القبر كرامة ومزيَّة ولا يعتقد أنه مؤثر في
ذلك ومن المعلوم أن زيارة القبور من القربات. فهل يجوز ذلك ويصح نذره، أم لا؟
وإذا قلتم بعدم الجواز فهل الناذر يكون مشركًا بسبب ذلك الاعتقاد أو آثمًا فقط، أم
لا؟ أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب) .
جواب المنار مرتبًا على عدد الفتاوى فيه
(13) وصف كلام الله بالقديم ومن قال إنه مبتدع:
قول من قال: إن وصف كلام الله تعالى بالقديم من الألفاظ المبتدعة - صحيح،
ومثله قول الآخر إن كلام الله تعالى حادث بالآحاد قديم النوع، كلاهما لم يرد في
كتاب الله تعالى ولا في أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في أقوال الصحابة
رضي الله عنهم. ولكن ليس كل من يستعمل لفظًا محدثًا يكون من أهل البدع
المخالفين لأهل السنة والجماعة، فجميع أئمة الأمصار من مدوني علوم الشرع في
الأصول والفروع قد استعملوا ألفاظًا اصطلاحية لم تُستعمل في القرآن ولا في أقوال
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين تصدوا من أهل السنة للرد على
المبتدعة لم يسلموا من استعمال بعض الألفاظ الاصطلاحية المبتدعة، ومنها قولهم:
إن كلامه تعالى قديم بقدم ذاته، وهذا من أسباب وقوع الخلاف بين المسلمين في
مسألة كلام الله تعالى وكذا غيرها من صفاته، ولم يسلم من ذلك أئمة الحديث والفقه
منهم، وقد اشتهر ما وقع من الخلاف في ذلك بين البخاري والذهلي من أئمتهم.
بل أتباع إمام الأئمة أحمد بن حنبل المنسوبين إلى مذهبه في العقائد والفروع قد وقع
بينهم الخلاف في هذه المسألة. فلا يصح أن يقال في كل من استعمل لفظًا محدثًا
في ذلك ولا كل من خالف أحمد أو جمهور السلف في مسألة من دقائق هذه المسائل
- إنه من المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرح كتاب التوحيد من البخاري وبعض أقوال
أهل السنة من المحدثين واتباع المذاهب الأربعة وأقوال المبتدعة في مسألة القرآن
في مواضع وقال بعدها كلمة كررها بعد ذكر الخلاف بينهم وهي: والمحفوظ عن
جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن
كلام الله وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك. اهـ. وهذا الذي ينبغي
لكل مسلم إلا أن مَن كان في قلبه اضطراب من هذا الخلاف ولم يطمئن بهذا التسليم،
فله أن يراجع كلام المحققين الجامعين بين المعقول والمنقول وينظر فيه باستقلال
فكر وإخلاص قلب فإنه حينئذ يصل إلى ما يطمئن به قلبه إن شاء الله تعالى.
وكنت أخرت الجواب عن هذه الأسئلة راجيًا أن أجد وقتًا واسعًا أكتب فيه
خلاصة هذا البحث المضطرب الأمواج، ولما أجد الوقت الذي يتسع له، ولكنني
سأشرع إن شاء الله تعالى قريبًا في طبع عدة فتاوى في ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين
ابن تيمية، وأشهد بالله إنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما
أحاط به من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة
والمبتدعة في هذه المسألة وأمثالها، والوقوف على أدلتهم وتمحيصها وتحرير الحق
الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه، فلينتظر ذلك السائل وغيره ممن
يهمهم تحقيق هذه المباحث وهي ستطبع في كتاب مستقل وربما ننشر بعضها في
المنار.
وأما وصف كلام الله تعالى بالقديم فهو صحيح في نفسه وأثبته علماء السنة
وفي المراد منه عند السلفيين وعند غيرهم بحث مفصل في مباحث شيخ الإسلام.
***
(14) مَن قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قديم النوع
إن قول من قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قول مبتدع مبهَم موهم، وله
وجه يظهر أنه هو مراده منه، وهو ما قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: {مَا
يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) وقد جعل البخاري هذه الآية
ترجمة لأحد أبواب كتاب التوحيد من صحيحه مع آية {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْراً} (الطلاق: 1) وقال عقبها: وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) يعني أن كونه محدثًا لا
يقتضي كونه مخلوقًا، فهو كقول السلف من أهل الحديث وغيرهم: له يد لا كأيدينا
واستواء لا كاستوائنا، وإن كلامه الموحى إلى رسله بصوت لا كصوتنا. ومن
القائلين بهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهو يقول كغيره من أئمة السلف: إن
القرآن المقروء بالألسنة المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق، وهم
يصرحون بأن القارئ مخلوق وقراءته وكتابته مخلوقتان، وإنما يتقون في هذا المقام
ما يتضمن الإيهام. فما قاله الشيخ حسين والي وغيره من إجلال الإمام أن يقول كذا
مبني على الاقتناع بنظرية المتكلمين في المسألة وبكون الإمام أحمد كان من أئمة
الهدى والسنة، ومقتضاه عنده أنه لا يخالفها. وليس مبنيًّا على النقل عنه. وكان
شيخنا الأستاذ الإمام ذكر مثل هذا في رسالة التوحيد، وعند قراءته لهذا البحث منها
في الأزهر صرح بأنه رجع عنه وبأنه سيحذف هذه الجملة في الطبعة الثانية
للرسالة وكتب ذلك في حاشية نسخة الدرس، ولذلك حذفناها من كل طبعاتنا لها.
وقد استدلت المعتزلة بالآية على خلق القرآن، والتحقيق أن المراد منها محدث
إتيانه ونزوله. قال إسحاق بن راهويه من شيوخ البخاري وأقران أحمد وقد سأله
عن الآية حرب الكرماني ما نصه: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض. اهـ
وراجع سائر الأقوال في الآية وفي المسألة من فتح الباري.
***
(15) نذر زيارة قبر الوالد والصالح:
لا ريب في أن زيارة القبور مستحبة بالنية التي أرشد إليها الحديث الوارد في
الإذن بها بعد النهي وهي تذكر الآخرة، وإنما هي مستحبة بهذه النية وإلا فإن
الأصل في الإذن بالشيء بعد النهي عنه الإباحة، وما كان من نية صالحة أخرى
في الزيارة تزيد هذا الاستحباب تأكيدًا كزيارة قبر أحد الوالدين أو كليهما، فإنها تعد
من بقايا برهما وتذكُّرهما، الذي يترتب عليه ما أمرنا الله به من الدعاء لهما،
وكذلك زيارة قبر الرجل الصالح إذا كان لذكرى صلاحه ورجاء في قوة الاقتداء به،
لا لطلب نفع أو كشف ضر منه، ولم يكن فيها شيء من البدع ولا من إقرارها.
ويصح نذر مثل هذه الزيارة المشروعة. ولا وجه للقول بعدم جوازها فضلاً
عن القول بإثم فاعله أو رميه بالشرك والعياذ بالله تعالى. فإن الشرك لا يثبت إلا
بدليل قطعي لا مجال فيه للتأويل، ولكن بعض الغلاة في مذاهبهم يرتكبون من
مخالفة الشرع في الطعن على مخالفيهم ما هو أكبر إثمًا مما ينكرونه عليهم إن كان
منكرًا. أعاذنا الله من ذلك.
***
الجمع بين الصلاتين في الحضر
واشتراط الطهارة في الصلاة وصلاة مكشوف الرأس
(س16-18) من صاحب الإمضاء في (ببا - من الوجه القبلي)
حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والأستاذ المحقق السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
فقد سمعت منذ سنوات عديدة ممن أثق به (توفي رحمه الله) في أحاديثه
الخاصة معي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في صلاته بين الظهر والعصر
وبين المغرب والعشاء جمع تأخير بلا عذر، وأنه لا حرج على المصلي إذا كان
بثوبه أو بدنه شيء من النجاسات وأنه لا كراهة في الصلاة ورأس الإنسان عارٍ بل
ربما كان ذلك أفضل؛ لأن هذا المظهر أقرب إلى التذلل والخضوع والعبودية.
ولأمر خاص بي أريد التثبت من ذلك ولثقتي بفضيلتكم بعثت بهذا إليكم،
فأرجو إفتائي على ما تقدم والله تعالى يتولى مثوبتكم بفضله.
وتفضلوا بقبول عظيم الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... سيد أحمد عابدين
جواب المنار
(16) أما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في المدينة
المنورة، فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه في سنن الشافعي وصحيح
مسلم وغيرهما من كتب السنن، وقد تأول ذلك فقهاء المذاهب المعروفة بتكلُّف،
وظاهر قول ابن عباس فيه: (لئلا يحرج أمته) يدل على أنه رخصة، وبهذا
أخذ بعض فقهاء الحديث وهو ما أعتقده، ولا يخفى أن الرخصة تؤتى عند الحاجة
لا دائمًا، ولولا أن سبق لنا بيان هذه المسألة ونص الحديث فيها من قبل لبسطت
الكلام فيها وذكرت لفظ الحديث وتأويلات مَن تأوَّله.
(17) وأما قول ذلك الثقة عندكم بأنه لا حرج على المصلي إذا كان في ثوبه
وبدنه شيء من النجاسات - فهو مخالف لقول أكثر علماء الأمة بأن طهارة الثوب
والبدن شرط في صحة الصلاة، وعن مالك أنها واجبة وليست بشرط لصحة
الصلاة. فالمسألة اجتهادية والاحتياط تحري الطهارة في الصلاة؛ لأنها إذا كانت
واجبة في غيرها فهي فيها أوجب، نعم؛ إن الوجوب لا يقتضي الشرطية، وقد أطال
الشوكاني في الرد على من قال بها، ولأن تكون صلاتك صحيحة بالإجماع خير من أن تكون مختلفًا فيها، ولك الأخذ بالقول الآخر عند تعسر الطهارة وفي ترك
القضاء إذا علمت بعد الصلاة أنه كان في ثوبك أو بدنك نجاسة.
(18) وأما قول ذلك الثقة: إنه لا كراهة في الصلاة مع كشف الرأس - فهذا
قد يظهر فيمن يصلي في بيته منفردًا إذا لم يلتزمه متعمدًا. وأما التزامه أو فعله
مع الجماعة المستوري الرؤوس أو في المسجد بحضرة من يستنكرونه ويكون
مدعاة للخوض في ذم فاعله - فالقول فيه بالكراهة واضح. أما الأول فلأنه التزام لا
دليل في الشرع عليه بل هو مخالف لما جرى عليه العمل الغالب من صدر
الإسلام، وأما الثاني فلمخالفته للجماعة وهو منهي عنه، وأما الثالث فلما ذكرناه في
صفته من كونه سببًا لوقوع الناس في الإثم ولأنه من الشهرة المذمومة.
وأما قوله إن ذلك ربما كان أفضل وتعليله بما علله به فهو قول بالرأي
المحض في مسألة تعبدية، ومعارَض بأنه تشبه بالنصارى وغيرهم ممن يلتزمون
كشف رءوسهم في الصلاة وقد نهينا عن التشبه بهم حتى في العادات. ومعارض
أيضًا بأن العرف عندنا في هيئة الكمال التي نقابل بها الملوك والأمراء وكبار
العلماء والصلحاء والرؤساء أن يكون على رءوسنا ما جرت به عادتنا من عمامة أو
كمة أو طربوش أو غيرها، وإنما يُتساهل في ترك ذلك بين الأقران والأصدقاء،
والعرف عندهم خلاف ذلك.
***
النسخ والأحاديث المشكلة
وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوسل
(س19-23) لصاحب الإمضاء في صنبو (من الوجه القبلي)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة السيد الفاضل، والأستاذ الكامل، من جعله الله للشريعة موئلاً وللدين
ملجأً، المهدي الرشيد، السيد محمد رشيد.
سلامًا وتحية واحترامًا، وبعد:
فإني أرجوك للإجابة عن هذه الأسئلة التي طالما ترددت في خاطري، فتفضل
بذلك ولك مني الشكر ومن الله جل وعلا الأجر:
(1) في القرآن الكريم ناسخ ومنسوخ ولكن العلماء فيهما مختلفون، فما القول
الفصل الذي يرتاح إليه المسلمون في ذلك؟
(2) في كتب الحديث مئات الأحاديث الحاضّة على فضائل الأعمال ولكنها
رتبت على فعلها ثوابًا لا يتناسب معها، فهل يصح العمل بها؟
(3) ما هو الحد الذي إذا بلغه المؤمن سقطت عنه تبعة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ولا سيما في هذا الزمن الذي عمت شروره، وطمت من الفساد
بحوره؟
(4) كيف يستطاع جمع الزكاة على الطريقة الشرعية لتصرف في
مصارفها في هذا العصر العصيب؟
(5) ما الحق في مسألة التوسل التي لا تزال تشغل قلوب جمهور المسلمين؟
وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي.
... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي
... ... ... ... ... ... الأستاذ بمدرسة ميخائيل فلتس بصنبو
أجوبة المنار
(19) الناسخ والمنسوخ:
قد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ..} (البقرة: 106) من سورة البقرة وهي الآية 106 من سورة البقرة فراجعوه في
ص414 من جزء التفسير الأول، وذهب السيوطي في الإتقان إلى أن الآيات
المنسوخة عشرون آية. وقال الشوكاني بعده بل هي بضع آيات. وأنكر النسخ أبو
مسلم الأصفهاني في تفسيره ووضح رأيه الطبيب البحاثة محمد توفيق صدقي
ونشرنا بحثه في المجلد الثامن من المنار وطبع في ضمن كتاب له. ولا يتسع وقتنا
لإعادة الكلام في هذا الموضوع وليس باب الفتاوى بمحل له. وكثيرًا ما يسألنا
السائلون عن تحقيق مسائل لا يمكن تحقيقها إلا في سفر كبير، وجملة القول أن
النسخ بالمعنى المعروف عند السلف ثابت ونحن نحقق ما قيل إنه منه في كل آية
عند تفسيرنا لها.
***
(20) العمل بأحاديث فضائل الأعمال وشرطه:
الأعمال الدينية مبنية على قاعدتين (إحداهما) أنه لا يُعبد إلا الله (والثانية)
أن يعبد بما شرعه. والمشروع قسمان: قسم مطلق وقسم مقيد بأقوال مخصوصة
وأفعال مخصوصة وصفات مخصوصة وأوقات مخصوصة وأعداد معينة، فما ورد
في الشرع مقيدًا بشيء من هذه القيود وجب التزام قيوده بلا زيادة ولا نقصان، ومنه
شعائر الإسلام كلها كالأذان والإقامة والصلاة والجماعة والجمعة ومناسك
الحج ... إلخ.
والمطلق يجري على إطلاقه في دائرة النصوص العامة كصلاة النفل غير
الراتبة وذات السبب، فإن هيئتها كسائر الصلوات ولكن لا يجوز لأحد أن يقيدها
بزمان ولا مكان ولا عدد ولا صفة بحيث تلتزم هذه القيود فيها كقيود الشرع؛
ولذلك قال الفقهاء إن صلاة الرغائب وصلاة ليلة نصف شعبان اللتين قيدهما بعض
العباد بالعدد والزمان وغيرهما - أنهما بدعتان قبيحتان مذموتان. وذلك أنه لا يصح ما
ورد فيهما مع كونهما بصفة مقيدة بقيود لا تثبت إلا بنص الشارع، وقد ذُكر من
ثوابهما نحو مما تستشكلونه في السؤال.
وإن من علامات وضع الحديث أن يذكر فيه ثواب كبير جدًّا على عمل صغير
جدًّا في نفسه وفي أدائه وفي قاعدته، أو عقاب عظيم جدًّا على عمل لا ضرر فيه
في الدين ولا في النفس ولا في العقل ولا في العرض ولا في المال.
هذا وإنه لا يجوز لأحد أن يعتمد على كل ما يراه من الأحاديث في الكتب ولا
على كل ما يسمعه من الخطباء من غير تخريج له عن حُفاظ السنة بما يبين مرتبته
من الصحة وعدمها. وإذا تحرى الإنسان الأحاديث الصحيحة يرى أنه قلما يوجد
فيها ما ذكره السائل من الإشكال.
وأما الأحاديث الضعيفة فقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إنه لا يجوز
العمل بها مطلقًا، وقال الجمهور: يجوز العمل بها في فضائل الأعمال كالذكر وصلاة
النفل المعتادة وصيام التطوع، واشترطوا لذلك شروطًا بيناها من قبل ملخصها ألا
يكون الحديث شديد الضعف، وألا يعتقد العامل بالحديث منها صحته لئلا ينسب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وأن يكون معناه مندرجًا تحت أصل عام في
الشريعة.
***
(21) الحد الذي تسقط به فرضية الأمر والنهي:
قد اختلف العلماء في هذه المسألة ما بين مشدد ومخفف، وينبغي لكل أحد أن
يحاسب نفسه في هذا وأمثاله، وإذا كانت المنكرات في زماننا أكثر منها في أزمنة
أولئك العلماء كالغزالي والشاطبي وابن تيمية - فإن في زماننا من حرية القول في
مثل هذه البلاد ما لم يكن في أزمنتهم. وإننا نرى سفهاء الجرائد يطعنون أشد
الطعن وأقذعه في الأمراء والوزراء والعلماء ولا يصيبهم أذى، فأجدر بمن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر بالنزاهة والأدب وحسن النية ألا يصيبه أذى.
ولا خلاف بين العلماء في سقوط الفريضة عمن يخاف على نفسه أذًى كبيرًا،
ورخص بعضهم في الترك لمن يعتقد أن أمره ونهيه لا يفيد، ولكن استفتِ قلبك وما
أنا ممن يستطيع أن يضع لك حدًّا، ولا ينبغي أن تنسى أن هذه الفريضة هي سياج
الدين فلولا ترْك القيام بها لما فشت المنكرات إلى هذا الحد.
***
(22) جمع أموال الزكاة وصرفها في مصارفها:
إن هذا العمل غير مستطاع في زماننا في بلادنا، وإنما الشأن فيه للحكومة
الإسلامية التي تقيم الشرع، والمسلمون في جزيرة العرب يؤدون زكاة المواشي
والزروع إلى أئمتهم وحكامهم، وزكاة النقدين إلى الفقراء والمساكين، وينبغي في
مثل بلادنا أن تؤلف جمعية إسلامية من رجال يوثق بهم تقنع أهل الدين بأداء الزكاة
إلى رجالها بعد أن تبين في نظامها كيف تنفق ما تجمعه في مصارفه الشرعية.
***
(23) التوسل الشاغل للمسلمين:
التوسل المشروع ليس فيه ما يشغل قلب أحد فهو التقرب إلى الله تعالى بما
شرعه من علم وعمل على القاعدتين اللتين في الفتوى آنفًا (ص127) وأما
التقرب إليه تعالى بأشخاص الصالحين من الأنبياء فمن دونهم الذي تعنونه بالتوسل -
فهو غير مشروع في الإسلام، بل هو أصل الوثنية. فإن الوثنيين هم الذين يعتمدون
في نجاتهم من عذاب الآخرة ومن مصائب الدنيا وفي نيل الخير والسعادة في
الدارين على أشخاص رجال الدين فيهم، وأما أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام
فأمر الثواب والعقاب عندهم منوط بالعقائد والأعمال التي تتزكى بها أنفسهم وتصلح،
أو تتدسى وتفسد، وآيات القرآن صريحة في ذلك، وأمر منافع الدنيا ومضارها
منوط بالأسباب المشروعة التي يعرفها الناس بالعلم والتجربة كطرق الكسب
والتداوي في المرض مثلاً. وقد سمى الناس منذ القرون الوسطى ما فشا فيهم باتباع
سنن من قبلهم في الاعتماد من أشخاص الأنبياء والصالحين في جلب النفع ودفع
الضر توسلاً، وبنوا عليه بدعًا كثيرة تنافي التوحيد المجرد والإخلاص في العبادة،
كدعاء الموتى والنذر لهم والاستغاثة بهم مع العلم بأن الدعاء هو العبادة أو مخ
العبادة كما ورد في الحديث وفي مثل قوله تعالى {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وليس لما يعملون شبهة من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا من
عمل السلف الصالح. والخرافيون من سدنة قبور الصالحين وغيرهم يأتون على
ذلك بشبهات ضعيفة الرواية أو الدلالة أو باطلة أمثلها حديث الأعمى الذي طلب من
النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد له بصره فأمره بأن يدعو بدعاء فيه
لفظ التوسل والاستشفاع به فدعا ودعا له صلى الله عليه وسلم. فالتوسل هنا إنما كان
بالدعاء منه ومن النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء مشروع وطلبه مشروع فهو
غير خارج عن قاعدتي عبادة الله وحده بما شرعه. فلا يدل على التوسل بالشخص
والذات من غير عمل، ولا على طلب الدعاء من الأموات، فضلاً عن طلب قضاء
الحاجات فيما لا يطلب إلا من الله عز وجل وهو ما وراء الأسباب.
وقد شرحنا هذا في مواضع كثيرة من المنار والتفسير فلهذا نختصره هنا،
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقل في هذه المسألة طبع المرة بعد المرة باسم
(التوسل والوسيلة) فإن شئتم الإحاطة بها من كل وجه فعليكم بمطالعته وهو يطلب
من مكتبة المنار بمصر.
__________(31/120)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نقض أساس مذهب داروين
هذا المذهب قائم على أساس من النظريات القابلة في نفسها للثبوت وللنقض،
ولم تصل في يوم من الأيام إلى درجة الحقائق القطعية عند الآخذين بها؛ تفضيلاً
لها على كل ما كتب في موضوعها، إلا بعض المقلدين من ملاحدتنا؛ الذين يجعلون
أضعف ما فيها من الاحتمالات في درجة الحسيات أو الضروريات، ويدافعون عنها
في جملتها وتفصيلها.
والحق فيها أنه إذا كان فيها بعض التعليلات المعقولة المقبولة بادي الرأي
فإن فيها تعليلات أخرى لم تتجاوز حيز الوهم، وإذا صح أن نظام الكون قائم بسنن
حكيمة مطَّردة؛ سواء عرفت كلها أو لم تعرف كما أثبته الكتاب الكريم فلن يصح أن
تكون هذه السنن الحكيمة من بنات الضرورة ولا من بنات المصادفة، بل المعقول أن
تكون من تقدير العزيز العليم كما قال الكتاب الحكيم، وإذا صح أن تكون هذه
السنن لا تبديل لها في الطبيعة ولا تحويل كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فلن يصح أن يكون الخالق
المقدر لها والمدبر لأمرها مقيَّدًا بها، بحيث لا يستطيع إبداع شيء غيرها، فإن
هذا النفي لا يقدم على القول به عاقل.
وقد حدث في الوجود من الآيات البينات، والمعجزات الخارقة لسنن العادات ما
تواتر خبره وصار من القطعيات، فالتكذيب به أو التأويل البعيد عن قياس المنطق له
ليوافق تلك النظريات المادية - ليس بأولى في نظر العقل السليم من عدِّه منتظمًا في
سلك سنن أخرى مما وراء المادة. ولا يزال العقلاء والحكماء يرون من آيات الله في
أنفسهم ما هو إبداع محض لا يتفق مع سنن المادة في شيء، وآخرهم العلامة الشهير
آينيشتين الألماني قد ناط بهذا الإبداع كل ما امتاز به من تحقيق علمي وفلسفي.
الكلام في فساد مذهب داروين يوجَّه إلى أساسه لا إلى فروعه وجزئياته
كطبقات الأرض وتشابه الأنواع وتعليل الأعضاء الأثرية، وأساسه الفاسد هو أن ما
عُلم من السنن في نظام الكون هو دليل على أن ما لم يُعلم منها مثله في كونه لابد
أن يكون حصوله بالتطور التدريجي. ومقتضاه أنه ما وجد ولن يوجد كائن مبدع
مبتدأ، ولا آية خارقة للعادة، وغايته أنه ليس للكون رب قادر مريد يفعل ما يشاء.
والدلائل الوجودية والأخبار المتواترة القطعية تنقض هذه القاعدة وتبطل اطِّرادها.
كان هذا المذهب هدفًا لسهام النقد في كل عصر، وقد فوق له في هذا العهد
سهم جديد أقصده وكاد أن يقضي عليه، وهو ما نترجم لك خبره في المقال التالي.
***
احتضار مذهب علمي
نشر العلامة ليون دوديه Daudet Leon صاحب صحيفة الاكسيون
فرنسيز Francaise L'action بعدد صحيفته المؤرخ 11 يونيو سنة 1930
ما يأتي تحت هذا العنوان:
من المفيد جدًّا أن يُعمل على إسقاط أحد تلك المذاهب (المادية) التي انتشرت
في القرن الماضي، تلك العقائد التي حملتني على تسميتها (بالسخافة) .
لما أذعت سنة 1922 مؤلَّفي المعنون بهذا الاسم (السخافة) قامت ضجة
شعواء عند الجامدين على الاعتقاد بالتطور والتحول الذاتي، وتكوين اللغات،
والنوبات العصبية (الهستريا) والجمهورية (الديمقراطية) وعلى كثير من
ضروب العبث بالقول في علوم الحياة والسياسة. ولا غرو فليس من الهين أن
تنتزع من مخيِّلتك تلك الخزعبلات التي صحبتك ثلاثين أو أربعين سنة. أما
احتجاجات تلك الضجة التي كنت عولت على عدم إعارتها أي اهتمام فلم تؤثر في
نفسي؛ لأني أعلم أن الزمن سينقضي ويظهر أن الحق بجانبي كظهور استعداد
الألمان للحرب الأوربية العظمى.
وقد كنت بناءً على ذلك كتبت منذ ثماني سنوات في الكتاب الذي سميته
(سخائف القرن التاسع عشر) ما يلي:
إن المبدأ الأساسي لمذهب التطور والتحول الذاتي هو أن الطبيعة لا طفرة
فيها ولا خلل، فلا محل فيها إذًا للمعجزات. فإن المعجزة هي الظاهرة الفجائية
غير المنتظرة الخارجة عن القوانين المعروفة.
هذا هو الشرط الأساسي في تخيلات (بالتبيوس هيكل) القصصي في روايته
التي تبتدئ من تكوين الهلام البحري [1] وتنتهي بتكوين الإنسان بتنويع تدريجي
بطيء يحدث داخل الخلايا والأنسجة تحت تأثير مضاعَف لنوع من القوة الرافعة
الداخلة (لم يبرهنوا عليها) وتأثير عوامل خارجة عدُّوها حسب أهوائهم.
ويلاحظ دائمًا أن في الحياة خواص قابلة للتغير وهي نواة التحول الذاتي
وأخرى لا تقبل التغير وهي الثابتة، وهذا ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا تحت تأثير أنواع
كثيرة من القوى الكامنة التي تارة تعمل فينا في ظروف خاصة، وطورًا لا تعمل
في ظروف أخرى، ونحن نجهل السبب في كلتا الحالتين.
وأما هذه الذبذبة بين الأصل المولِّد (الخلية) والأنواع المتولدة وكذا الانتقال
من بساطة التكوين إلى أوج النهى فسِرّ يرجع إلى نظام أرقى.
ثم إن سلسلة الأجناس تتجدد حلقاتها بانعدام بعضها كلما زاد الجنس نموًّا،
وإذا سلمنا بصحة هذه النظرية تعين علينا القول بأن عالم الأحياء سائر في طريق
التقدم المستمر، وأن بقاء الأجناس الدنيا إنما هو للدلالة على حصول هذه التقلبات
المتعاقبة المستمرة مع انعدام بعض الأجناس الوسيطة المؤقتة التي هي في الغالب
أعظمها أهمية.
ولما كانت هذه السلسلة ينقصها الحلقة التي تصل القرد بالإنسان بحثوا مدة
ستين عامًا للعثور على الجنس الوسيط، فأكدوا حينًا ما أنهم وجدوه ثم كذبوا هذا
الخبر. على أنهم تنبهوا اليوم إلى أن معضلة أصل الأنواع - وخصوصًا ما يتعلق
منها بالجنس البشري - ما زالت معقدة ومضطرِبة كما كانت قبل داروين
Darwin ولمارك Lamarek وأن مذهب القائلين بالتشابه الخارجي
والتشريحي ليس بجواب عن هذا السؤال يحسن السكوت عليه، فإن مذهب
المشابهات التشريحية والفسيولوجية لا يلقي إلا نورًا ضئيلاً على مسألة تخصص
الحياة وتشخصها.
إن الحياة ما زالت حافظة لقابليتها للانفجار والالتهاب ولما فيها من الخواص
الوراثية لتغير الأعضاء تغيرًا فجائيًّا، إننا نجد منها خواص تنتقل وتقبل التغير
والتبدل، وخواص أخرى لا تنتقل ولا تقبل تعديلاً، فسينتج مما تقدم أننا في آن
واحد خاضعون لتأثير قوى غيبية خفية تفعل فينا فعلها ولا نعرف كنهها، كما أننا من
هذه القوى في بعض أحوال خاصة لا ندريها أيضًا، وأن هذا التغير من الشخصي
إلى النوعي ومن التخصيص إلى التعميم خاضع هو أيضًا إلى نظام أسمى. وهلم
جرًّا.
إن مذهب التحول الذاتي الذي سيطر على علم الكائنات الحية مدة ستين عامًا إنما هو مظهر موضعي بل أحقر المظاهر لحل قضية الحياة، بل هو رد على
السؤال بسؤال آخر.
إني قد أشَّرت بخط تحت الفقرة الخاصة بالقوات الخفية ثم قلت في الكتاب
المذكور في محل آخر ما يأتي:
(إن المذهب المضاد لمذهب التحول الذاتي لم يأتِ بعد بالعالم الذي يستحقه
على أننا في انتظاره بإيمان وثيق) وها هو ذا قد أتى هذا العالم فعلاً فإن المسيو
فيالتون Vialleton نشر في سنة 1929 كتاباً بحث فيه عن أصل الأنواع الحية
تحت عنوان (أوهام التحوليين) أورد فيه من الدلائل المقنعة ما يقضي على مذهبي
داروين ولمارك القضاء المبرم.
ولا بد أن يكون عالقاً بأذهان القراء ما كتبنا هنا من التعليق على كتاب المسيو
فيالتون العظيم الشأن، غير أن الصحف العلمية والفلسفية لم تعلق أهمية كبيرة على
نقض هذا الأستاذ العالم. إلا أن جريدة الطان tenps نشرت في عددها الصادر في
8 يونيه سنة 1930 مقالاً في الموضوع بقلم المسيو لويس لافل Lavelle Lauis
جاء فيه ما يأتي:
( ... وردت في كتاب المسيو فيالتون فكرة ثانية يظهر لنا أنها أشد خصوبة،
وهي أن في داخل الأشكال الأساسية غير المنفصلة عن المظاهر الأولية للحياة يمكن
تصور وجود (جراثيم أو براعيم الانتظار) [2] وهي غير مرئية وتبقى منتظرة
لتفرخ في اللحظة الملائمة، أعني اللحظة التي تكون فيها شروط البيئة قاضية
بخروجها من القوة والاستعداد إلى الفعل، وإذا ضربنا صفحًا عن التوسع في بحث
طبيعة هذه الجراثيم يمكننا اعتبار أنها قوات مستترة لا تفعل فعلها إلا تحت تأثير
الظروف المناسبة ولا يظهر فيها مظهر الحياة إلا إذا أخذت أشكالاً قياسية خاصة.
فنفهم من ذلك الأسباب التي حدت بالمسيو فيالتون لأن يكون من خصماء معتنقي
مذهب التحول الذاتي الذي هو شرح للتطور بأسباب آلية.
فالتطور في نظره هو تطور يدبره مدبر، وهو يتعارض مع مذهب (لمارك)
القائل بأن الكائن يتكيف بالوسط الذي يعيش فيه وأن هذا التكيف يتأصل فيه
بالتدريج حتى يورثه نسله. ويتعارض أيضًا مع مذهب داروين القائل بأن في
الكائن المولود تغيرات عرضية بعضها نافع له وكافل له الفوز في معترك الحياة
وبعضها مؤذٍ وقاضٍ عليه القضاء المبرم) . اهـ.
وهكذا كان إدراك (فهم) القوات الخفية التي أشار إليها المسيو فيالتون يتصل
بإدراك (فهم) القوات الخفية المنوه عنها في (سخافات القرن التاسع عشر) .
غير أن المسيو فيالتون يرى أن الضغط الخارجي هو الذي يساعد على تجلي
هذه القوات في عالم الظهور مع أني في كتابي قد نسبت ذلك إلى عوامل باطنية
عرضية. ومهما يكن الأمر فإن التبدل الذي نحن بصدده إنما هو انقلاب أو تحول
فجائي وليس تطورًا أو تكيفًا.
على أن القوات الخفية موجودة في مظاهر العالم بأجمعها، فإن الراديوم قبل
اكتشافه كان قوة مستترة، والموجات الفضائية كانت كذلك قبل اكتشافها، وكذلك ما
يحصل في الدم من الاستعدادات البطيئة لمرض السل والسرطان التي أشار إليها في
هذه السنوات الأخيرة الطبيبان فانييه وروا Aroy Vanniet هي أيضًا قوات
مستترة لأشكال مرضية.
والآن قد فتح أمامنا عالم جديد للمعرفة واسع المجال إلا أن النور الساطع فيه
مازال ضئيلاً كنور الفجر الذي لا يكفي إلا لتمييز الأشياء بعضها من بعض. اهـ.
__________
(1) الهلام البحري هو الخلايا النباتية الأولى التي دبت فيها الحياة في أول الخليقة على شواطئ البحار فتدرجت منها الحياة بتكاثر تلك الخلايا وتكيفها تدريجًا.
(2) المنار: مثال هذا عندهم ثندوة الرجل هي مستعدة لإفراز اللبن كثدي المرأة إذا وجدت الداعية الطبيعية لذلك، ويقال إن هذا وقع بالفعل لرجل ماتت امرأته وتركت له طفلاً رضيعًا ولم يوجد هناك مرضع له ولا لبن بقرة أو غيرها يمكن تغذيته به فكان من تأثير حنانه الوالدي أن صارت ثندوته كثدي الأم في إفراز اللبن له، وهكذا يوجد في سائر الأحياء جراثيم أو براعم مستعدة لظهور وظيفة فجائية تنافي مذهب التطور التدريجي البطيء الذي هو أساس مذهب داروين ولمارك.(31/130)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
الشبهات على حق المساواة في الميراث
- 13 -
وجملة القول أن الشرع الإسلامي قد عظم أمر الزوجية والأمومة الشرعية،
ففرض على الرجل القيام بجميع ما تحتاجه الزوجة والأم لتتفرغ المرأة للقيام بما
تقتضيه هاتان الوظيفتان التي قضت الفطرة بأن تكون الأولى منهن وسيلة والثانية
مقصدًا، فإن عجز الرجل عن النفقة أو مات كان على غيره من الأقارب القيام بها
وإلا فبيت المال، ولن تقوى المرأة على القيام بما تقتضيه الفطرة ودين الفطرة من
الاستعداد للحمل والوضع والرضاعة والحضانة والتربية للأطفال وجعل الدار
لهن خير مدرسة ومأوى ومطعم ومصح، إلا إذا كان الرجل يكفيها مؤنة الكسب وتثمير الأموال بنفسها في الزراعة والصناعة والتجارة واستخراج الكنوز والمعادن
وغير ذلك مما هو أقدر عليه منها، وكذا مؤنة أمور الدولة العامة والدفاع عن
الوطن بالخدمة العسكرية بأنواعها.
وكان مقتضى هذا بادي الرأي أن لا ترث المرأة شيئًا من المال والعقار؛ لأن
الشرع كفل لها رزقها على كل حال، وهذا ما كان يحتج به العرب في الجاهلية
على عدم توريث النساء مع أنهم لم يكفلوا لهن رزقهن كما كفله الإسلام؛ إذ جعله
حقًّا على الرجال بوازع الوجدان والإيمان، وكفالة الشريعة والسلطان.
ولكن دين العدل والرحمة راعى في أمر النساء سائر الأحوال التي وراء حال
الزوجية والأمومة، ففرض لهن من الإرث نصف ما فرض للرجال، ومن أحسن ما
يوجه به هذا الفرض أن يقال: إنه من قبيل الاحتياط ومراعاة شواذ الحياة
الاجتماعية، ولولا أنه فرض إلهي لكان لقائل أن يقول: إن النصف كثير؛ لأن الأمر
يؤول فيه إلى أن يكون مال المرأة أكثر من مال الرجل لأنه لا يُفرض عليها من النفقة
حتى على نفسها في عهد الزواج ما يفرض على الرجل، أو يفضي إلى إضعاف
الثروة العامة؛ إذ ليس للمرأة من القدرة على إدارة المال وتثميره ولا من
التفرغ لاستغلاله من جميع الطرق الاقتصادية مثل ما للرجل.
وأما الأمهات الفواجر غير الشرعيات فلا يفرض لهن الشرع الإلهي وجودًا
يقتضي حقوقاً مالية أو غير مالية، بل يفرض عليهن عقابًا شديدًا يقتضي إرهابًا يمنع
وجودهن إلا على سبيل الندور الذي لا يراعَى في القواعد التشريعية المنزلة ولا
الموضوعة، ومن ثم كان دعاة الفوضى النسائية والإباحة الذين رُزئت هذه البلاد
يهم يقترحون أصلاً للتشريع ينسخ شرع الله تعالى ويبطله مبنيًّا على إقرار أمومة
السِّفاح، فترى الدكتور فخري يقول - بغير خجل ولا حياء من الجهل ومكابرة
الحس والعقل -: إن المرأة (هي هي كل شيء في القيام بحمل الصرف المالي
على هذه الأمومة) وإنه لا يدري (لماذا يريد الرجل أن يعطيها نصف حقها في
الميراث؟ !)
نعم إنه لا يدري لأنه لا يريد أن يدري، أو لا يعترف بما يدري، فإنه
يخاطب المسلمين بقوله: (هي هي كل شيء..) وهي عندهم ليست بشيء من
ذلك، أما الأمومة السفاحية فلا وجود لها في شريعتهم كما قلنا آنفًا. ولا وجود لها
في الخارج أيضًا، فإن اللائي يلدن من حمل السفاح يلقين بالطفل المولود في أحد
الشوارع ليلاً على حين غفلة من المارين ليحمله رجال الشرطة أو غيرهم إلى
معاهد اللقطاء إن لم يخنقه عند الوضع ويدفنه حيث لا يعلم به إلا الله.
وأما الأم التي يطلقها زوجها فلها من النفقة مدة العدة ومدة الحضانة ما هو
معروف للعامة والخاصة من الناس. ومن المطلقات المعتدات بالقروء مَن تنكر
حيضها وتدَّعي امتداد أجل عدتها بحيث تعد بالسنين، ويجبر القضاء بمذهب
الحنفية الرجل على النفقة عليها حتى تعترف بمرور الثلاثة القروء عليها وقلما
تعترف بذلك في ظل القضاء الحنفي إلا إذا أرادت الزواج!
فأما الأم التي يموت زوجها فترث هي وولدها كل ما ترك إن لم يكن له زوج
أخرى أو أولاد من غيرها أو أبوان وهو الغالب، وكثيرًا ما يترك الأبوان نصيبهما
لولد ولدهما إذا كانا موسرين، وإذا هو لم يترك مالًا يكفي أولاده وجبت نفقتهم
على من قدر عليها من أولي القربى أيهم أقرب كما تجب نفقتها هي أيضًا على أولي
قرباها بالتفصيل المفصل في كتب الفقه.
وما أظن أن جميع دعاة الإباحة الإلحادية يوافقون الدكتور فخري على جعل
أمومة العُهر موجبة لمساواة المرأة بالرجل في الميراث لما تقتضيه من انفرادها
بالنفقة على نفسها وعلى أولادها غير الشرعيين إذا لم تكن ذات فراش تفتري هذا
البهتان على صاحبه، وتلصق هؤلاء الأولاد بنسبه، ولعل أكثرهم يتعجبون مع
أهل الدين والصيانة من اقتراح مثله لهذا الرجس من التشريع وهو من أعلم الناس
بقبح الفاحشة وأمراضها الخبيثة المعدية؛ لأنه من أطبائها الأخصائيين العاملين
المطلعين على ذلك، فكان الواجب عليه أن يقترح ما يقلل هذا الفساد إذا لم يمكن
إزالته، لا ما يمكِّن المسافحات (البغايا) ومتخذات الأخدان (المرافقات) من
تكوين بيوت جهرية لأولاد الزنا، يعرف كل واحد منهم أمه ولا يعرف له أبًا، إلا
أن تتبع الحكومة فيهم ما حكي عن التشريع البلشفي من الأخذ بقول المرأة في إلحاق
كل ولد بالرجل الذي تدعي أنها علقت به منه، فتُلزمه الحكومة النفقة عليه [1]
وحينئذ يمكن أن يكون لكل أم من هؤلاء الأمهات غير الشرعيات بضعة أولاد
لبضعة رجال تتقاضى من كل واحد منهم نفقة رضاعته وحضانته وتربيته! ! إلى
أن تتولى الحكومة أمر رزقه إذا صارت بلشفية خالصة؛ لأن التشريع من بعض
جوانب الشيء يفضي به إلى سائر الجوانب، ولولا استباحة الزنا وكثرته لما اقترح
الدكتور فخري ما اقترحه.
بيد أن الفواجر لا يعترفن بمن يضعن من أولاد السفاح في هذه البلاد بل يلقينه
ليلاً في بعض الشوارع؛ ليوضع في ملاجئ اللقطاء، ومنهن من تقتل الطفل عند
وضعه وتدفنه سرًّا؛ إذا لم تكن ذات فراش تفتريه على بعلها فيه كما قلنا آنفًا، ولا
يصدها عن إلقائه أو خنقه أن تكون ذات مال تكفله به، فإنها إنما تفعل ذلك فرارًا من
عار الفاحشة، لا لأجل العجز عن النفقة، فمساواتها لأخيها في الإرث لا يهون
عليها احتمال العار والاحتقار اللذين يلصقان بها من الأمومة غير الشرعية، فهي
لن ترضاها لنفسها إلا أن يهبط تجديد الإلحاد والإباحة بالأمة كلها إلى حضيض
المساواة بين حضانة الزوجية وإباحة الفاحشة في عدّ كل منهما حسنًا شريفًا لا عار
فيه! فإن هبطت دعاية هذا التجديد بالأمة إلى هذه الدركة السفلى من المساواة
بين الفضيلة والرذيلة - لا سمح الله - فإنه لا يبقى بين دعاته وبين المساواة في
الإرث وغيره إسلام يُتبع، ولا قرآن يُتعبَّد به، ولا توراة ولا إنجيل أيضًا، وحينئذ
يكونون هم أصحاب الرأي النافذ في الحكومة البلشفية التجديدية؛ فإنه ليس في
الأرض أجدر منها، وإن لم يتجرؤوا (على ذمهم لكل قديم ومدحهم لكل جديد)
على التصريح بها، كما ظنوا أننا لا نتجرأ على التصريح بطلب تنفيذ الشريعة
الإسلامية كلها، وها نحن أولاء نصرح به لأنه حق ومصلحة، فنحن الشجعان لأننا
نجهر باعتقادنا كله، وهم الجبناء لأنهم لا يجرؤون على التصريح بكل ما يستحسنونه.
أقول هذا لأنه من لوازم هذه الدعاية الحمقاء، ولا أجزم بأن أفكارهم القصيرة
الخطى الكثيرة الخطأ قد وصلت إليه، أو قصدت إركاس الأمة فيه، وإنما أرجح
أنهم يجلبون المال والجاه والزعامة الأدبية لهم ولمن يرتبط بهم بتحويل أفكار النابتة
الجديدة من المسلمين وقلوب النساء عن هداية الإسلام وتشريعه، إذ لا يمكن لزعنفة
قليلة أن تتبوأ مقام الزعامة والقيادة في أمة كبيرة هم أعداء الأكثرية الساحقة الماحقة
منها في كل ما تعتقد حقيته وقداسته من أدب وتشريع، ومنافع هذه الزعنفة من
ساسة الأجانب ومبشري دينهم رهينة بتأثير كلامهم في هذين الصنفين من المسلمين-
أعني الشبان والنسوان - وجل الظلم والخسران في هذا كله واقع على أكتاف
هؤلاء النسوان كما سنبينه في خاتمة هذه المقالات إن شاء الله تعالى.
هذا وإن الدكتور فخري ختم احتجاجه على وجوب مساواة المرأة للرجل بأنها
إنسانة مثله وأخت له - وأعاد ذكر واجبات الأمومة - ثم قال: وإن كان حق
الميراث ناتجًا (كذا) عن النبوة فهي أكثر منه عطفاً على والديها وهي أكثر منه
برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما. اهـ.
ونقول في تفنيده: إن الإنسانية ليست مناطاً للإرث ولا سببًا لتحديد درجات
الوارثين فذِكْرها في هذا البحث لغو. وأما كون الوارثة أختًا للوارث معها وبنتاً
لمورثهما فهي إنما تقتضي المساواة بينهما في نفقة الوالدين عليهما وفي عطفهما أو
إكرامهما لها، وهذا حق قررته الشريعة الإسلامية فلا يجوز للوالدين تفضيل بعض
أولادهما على بعض فيما تتساوى حاجاتهم فيه عرفاً؛ لأنه ظلم وسبب للتحاسد
والتعادي بينهم، والواقع بالفعل أنهما ينفقان على البنت أكثر مما ينفقان على الابن
في الغالب؛ لأنها تحتاج من الحلي والحُلَل الحريرية وغيرها ما يفوق ثمنه ما ينفق
على ملابس أخيها، والذي أعرفه في بيوتنا وتربيتنا الإسلامية أننا نكرم البنات
ونخصهن بعطف زائد عل عطفنا على البنين، فلا أذكر أن أحداً من رجالنا ضرب
بنتاً ضرب التأديب الذي لا يسلم منه أحد من البنين وقد كنت في بيت أبي أضرب
إخوتي الصغار وأوبخهم وأنهرهم بغليظ القول، ولم أضرب أختاً من أخواتي قط،
ولا أذكر أنني أغلظت على إحداهن في القول. ولو شئت لذكرت ما هو أبلغ من
ذلك في تربيتنا الإسلامية ولله الحمد.
ثم إن الوالد يجهز البنت عند تزويجها بأضعاف ما قد يدفعه مهرًا لزوج الابن
إذا لم يدفعه هذا من كسبه، وقد اعتاد المسلمون المغالاة في هذا التجهيز حتى صاروا
يبذلون فوق ما تسمح لهم به ثروتهم، فيقترضون بالربا ولو فاحشاً أو يبيعون
الأرض والعقار بأقل من ثمن المثل لأجله، ولا يستحيي هؤلاء المفتاتون على
المسلمين في شريعتهم وبيوتهم من عيبهم بالتقصير مع الإناث وهضم حقوقهن وهم
يعلمون كل هذا.
وأما الإرث فلا يناط بدرجة القرابة وعاطفتها، بل هو ركن من أركان تكوين
الأسرة ومصالح الأمة الاقتصادية، وكل منهما يقتضي أن يكون جل الثروة في
أيدي (الجنس القوي النشيط) لأنه أقدر على جميع أنواع التثمير والاستغلال
والقيام بشؤون النفقات المنزلية (العائلية) والقومية والدولية، والذي يقعد
(بالجنس اللطيف الضعيف) عن مجاراته في الأمرين (الاستغلال والإنفاق) هو
وظيفة الأمومة؛ الأمومة التي عكس الدكتور فخري القضية وخالف مقتضى الفطرة
فجعلها سببًا للمساواة.
وجملة القول أن الإسلام خالف جميع الشعوب وشرائعها بما شرعه من العناية
بالنساء، وإعطائهن أكمل حقوق الزوجية التي تقتضيها سنن الفطرة السليمة،
ومنحهن في الإرث نصف ثروة الأسرة من جميع وجوه القرابة النسبية والزوجية
ولم يضع عليهن من الواجبات المالية نصف ما وضعه على الرجال، فقد ترث
المرأة المتزوجة أباها وأمها وبعض إخوتها وأخواتها وعمومتها وهي في حجر
زوجها ينفق عليها وعلى أولادها، ولا يكلفها الشرع أن تنفق من ذلك شيئًا على نفسها
ولا على أولادها فضلاً عن زوجها، إلا أن تتفضل بالتبرع بذلك فتكون لها المنة.
وأما أخوها الذي يشاركها في هذا الإرث كله فيأخذ منه مثلَيْ ما تأخذه فهو
مكلف أن ينفق على زوجة أو أكثر وعلى أولاد قد يكونون كثيرين، فأيهما يكون
أكثر مالاً، وأحسن حالاً، وأضمن مآلاً؟
إذا تيسر للمرأة استغلال ما ترثه كما يستغله أخوها أو أحسن إما بنفسها عند
توفر الوسائل وانتفاء الموانع الزوجية والوالدية، وإما باستخدام أولي الكفاية من
الرجال - فإن ثروتها تزيد على ثروة أخيها المثقل بنفقات الزوجية والأبوة أضعافًا.
ولو شئنا لوضعنا لذلك مُثُلاً حسابية تتجلى بها تفاصيل هذه المسألة المدهشة،
وذلك مما يتيسر لكل من يعرف علم الحساب على تفاوت الناس فيه.
وأراني قد أتيت في هذه المسألة بما قامت به حجة الإسلام تتبختر اتضاحاً،
ودحضت شبهة الإلحاد والإباحة تتضاءل افتضاحًا.
وأرجو من قراء الكوكب المنير أن يمنحوني إجازة في الخمسة الأيام الباقية من
رمضان وأسبوع العيد.
أعادهم الله تعالى عليهم وعلى سائر الأمة بالخير والنعمة وكشف كل غمة
وسأشرح لهم بعدها سائر الحقوق إن شاء الله تعالى.
(المنار)
عرض لنا في أسبوع العيد وعكة تجددت لنا بعدها شواغل فوق الأعمال
المعتادة فأخَّرنا بقية مسائل الموضوع، ثم عرض بعد ذلك الانقلاب المعروف في
سياسة الحكومة، وكان من نتائجه تعطيل جريدة كوكب الشرق، وسننشر بقية
المقالات في المنار، وبعد إتمامها ستصدر في كتاب مستقل إن شاء الله تعالى.
__________
(1) بعد نشر هذه المقالة في جريدة كوكب الشرق كتب إلينا الأمير شكيب أن البلشفيك ليس فيه هذا، ونحن نقلناه عن بعض الصحف معزوًّا إلى كاتب من أمريكا.(31/135)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية
ودولتي إيران وبولونية
وعدنا في الجزء الأخير من المجلد الثلاثين بنشر اعتراف دولة بولونية
بالمملكة السعودية، وسبب ذلك أنه قد زار مصر صاحب الفضيلة مفتي المسلمين في
بولونية وزعيمهم الديني الشيخ يعقوب شنكفتش في طريقه إلى الحجاز، فلقي من
تكريم فضلاء المسلمين وجمعية شبانهم، ومن جمعية الرابطة الشرقية ما يليق
بزعامته وشخصه الكريم، وقد ألقى في نادي الخطابة من دار جمعية الشبان
المسلمين محاضرة في بيان حال المسلمين في بولونية وما لهم فيها من حرية الدين
المطلقة ومن مساعدة الحكومة البولونية الكاثوليكية لهم ما كان موضع الإعجاب
والعجب من كل مَن سمعه؛ لأنه فوق المعهود من الدول الأوربية. وسببه الحقيقي
عندنا أن تدين بولونية أمتها وحكومتها بالنصرانية تدين عقيدة وإخلاص، فهو لا
ينافي الاتفاق مع المسلمين، وأما تدين دول الاستعمار والدعاية فهو تدين سياسة
وتجارة وبذلك كان مثار الشرور.
ثم سافر المفتي إلى الحجاز، وحظي مع الوفد البولوني المؤلف برياسة المعتمد
السياسي الجديد لدولته لدى ملك المملكة الحجازية النجدية بلقاء ملكها في مدينة جدة،
واحتفل فيها بتبادل خطبتي الاتفاق بين الدولتين بما هو صريح في اعتراف حكومة
بولونية وشعبها بمزايا الشعب العربي الإسلامي، والرغبة الصادقة في مودته بأسلوب
لم يعهد مثله من الدول الأوربية في روحه ومغزاه. وكان جواب الملك السعودي زعيم
العرب والإسلام له بمثل هذه الروح الشريفة؛ لهذا أحببنا نشر ذلك في المنار للتنويه
به.
وقد اتفق أن جريدة أم القرى الحجازية الغَرَّاء نشرت تفصيل الاحتفال بالوفد
والمعتمد البولوني عقب تفصيل الاحتفال بالمعتمد الإيراني وكنا نوهنا في المنار
بالاتفاق بين الدولتين السعودية والبهلوية الإيرانية في المنار وأظهرنا السرور به
ولكننا رأينا في خطبة المعتمد الإيراني وجواب الملك السعودي له ما ضاعف
سرورنا بأصل الاتفاق بين هاتين الدولتين الإسلاميتين المستقلتين، وهو التصريح
فيهما بالجامع الأقوى والأعلى بينهما وهو الرابطة الإسلامية وتعزيز الإسلام، وقد
أكبرنا هذا التصريح الذي يعبق منه شذى الصدق والإخلاص؛ لأنه وقع بعد سعاية
خبيثة لإيقاع الشقاق بينهما إحياءً وتجديدًا لشر المصائب والرزايا القديمة التي
أضعفت الإسلام والمسلمين وهي العداوة بين أهل السنة والشيعة. وبعد ما وقع من
شيعة العراق من إظهار العداوة والبغضاء لأهل السنة النجديين وتكفيرهم، ومن شيعة
سورية من نشر أحد شيوخ علمائهم لكتاب خبيث في الطعن في دين الوهابية
يتضمن الطعن في السنة وأئمتها وحُفاظها، ومن تأليف عالم آخر منهم لكتاب آخر في
دعاية الرفض والطعن في أهل السنة، وتصدي مجلتهم العرفان لنشر هذه الدعاية.
فهذا الاتفاق بين الدولة المقيمة للسنة على أصولها الصحيحة والدولة الممثلة
لفريق الشيعة الإمامية، وبناؤه على ما صرح به في الخطبتين من جعل الشعور
الإسلامي والوحدة الإسلامية أساسًا للمودة، والاتفاق والتعاون - يعد مبدأ إصلاح
إسلامي عظيم تعب دعاة الإصلاح في سبيله تعبًا عظيمًا ولم يفوزوا بما كانوا
يرجون منه، وناهيك بما قام به حكيمَا نهضتنا الإسلامية منذ نصف قرن من السعي
الحميد لذلك. وهما السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده
المصري.
وإننا نبدأ بنشر خطبتي هذا الاتفاق وننشر عقبه خطبتي الاتفاق الآخر.
خطاب الممثل الإيراني
(وهو صاحب السعادة حبيب الله خان هويدا)
يا صاحب الجلالة:
إن مولاي المعظم صاحب الجلالة شاهنشاه إيران - خلد الله ملكه - أولاني
أسمى شرف، وأعظم فخر، وأغلى ثقة، بتعييني ممثلاً في بلاط جلالتكم؛ لأقوم
بكل قواي على إحكام روابط المحبة والوداد الموجودة لحسن الحظ بين الدولتين
الصديقتين الإسلاميتين.
إن اطمئناني - يا صاحب الجلالة - على وجود الصداقة الخالصة المتينة بين
الحكومتين المعظمتين، واعتمادي وثقتي على العواطف السامية الملوكانية التي
شملتموني بها عند مثولي بين يدي جلالتكم في الدفعات الماضية، وشعوري على ما
بين الأمتين من روابط الإخاء والولاء يشدد ساعدي في تأدية الواجب، ويقوي
عزيمتي على القيام بمهمتي.
يا صاحب الجلالة:
إن بين الشعبين صلة أكيدة، قوامها الدين المبين، وأواصر إخاء وثيقة،
عمادها الاتحاد والغاية في النزعة القومية؛ لأن الأمتين استناروا من نور واحد
أشرق من أفق البطحاء واستفاضوا من منبع فيض واحد كان ينبوعها هذه الأراضي
المقدسة.
فأي ضمان أثبت على دوام المحبة وأحفظ على تبادل الولاء الصادق من
الاتفاق في شعائر الدين والتقاليد القومية؟ وإني - يا صاحب الجلالة - أراني في
هذه الساعة محاطًا بروح الشرف والفخار بتشرفي بالمثول بين يدي جلالتكم لتقديم
أوراق اعتمادي، الكتاب الكريم المرسل من لدن صاحب الجلالة شاهنشاه بهلوي
متبوعي المعظم مليك إيران لجلالتكم بتعييني ممثلاً للدولة الإمبراطورية في بلاط
جلالتكم مليك الحجاز ونجد وملحقاتها، فأغتنم هذه الفرصة الثمينة - يا صاحب
الجلالة المعظم - لأعرب عن المودة الصادقة الأكيدة التي يبديها مليكي المعظم في
تمنياته لذاتكم الملوكانية بالفوز والتأييد، ولأسرتكم الملكية الكريمة بالعظمة والإقبال،
ولأمتكم المجيدة بالسعادة والرفاء، كما أن حكومة جلالة مولاي المعظم والأمة
الفارسية لترجو بأن يكون عهد توليتكم شؤون الدولة وتبوأكم عرش المملكة فاتحة
واطرادًا للرقي والتقدم، ويعود على الأمة العربية بالعز والرفاهية، ويزيد الصلات
الودية الموجودة بين الشعبين الفارسي والعربي متانةً وإحكامًا، مولاي.
***
الجواب الملوكي
وقد تلاه أمين السر لصاحب الجلالة السعودية الأستاذ الشيخ يوسف ياسين
يا جناب الممثل:
إنه لمن دواعي سرورنا العظيم أن نتقبل ممثل صديقنا العزيز جلالة شاهنشاه
إيران في بلاطنا ليكون واسطة في تأييد أواصر الصداقة - القائمة ولله الحمد -
وتمتين حسن الصلات بين البلدين اللذين يرتبطان بصلات الجوار والحس المشترك
في الشعور الإسلامي العام.
وإنه ليسر شعب هذه البلاد المقدسة أن يروا هذه الصلات الحسنة مستمرة
على الدوام مع سائر الشعوب التي تنتسب للإسلام ليكون هذا عونًا على ارتباط
المسلمين جميعًا للتعاضد على العمل الذي كان منشؤه - كما ذكرتم - هذه البلاد
المقدسة ليسطع نور الإسلام في سائر الآفاق ويكون من آثار سطوعه تعاضد
المسلمين على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
ولقد كان من دواعي سرورنا أن يقع اختيار جلالة صديقنا العزيز لجنابكم
لتمثلوه لدينا لما عرفناه في شخصكم من القديم في السعي والحرص في تأييد أواصر
الصداقة بين البلدين. تلك المساعي التي أنتجت - ولله الحمد - هذا العصر السعيد
من الوئام والاتحاد بيننا وبين الجارة الصديقة؛ لذلك نتقبل بسرور أوراق اعتمادكم
التي حملتموها من لدن جلالته.
ونحب أن تكونوا على ثقة - جناب الممثل - من أنكم ستلقون منا ومن
رجال حكومتنا كل مساعدة وتأييد لتتمكنوا من القيام بمهمتكم التي أُسندت إليكم خير
قيام، وإنا لنتمنى لكم توفيقًا ونجاحًا في جميع ما تسعون إليه من أعمالكم
المفيدة. والسلام.
***
اعتراف حكومة بولونيا بالحكومة السعودية
(منقول من جريدة أم القرى الغراء بحروفه)
في الساعة الحادية عشرة من اليوم المذكور تشرف الكونت إدوارد راشينسكي
والدكتور يعقوب شنكفتش مفتي مسلمي بولونيا أعضاء الوفد البولوني الذي ذكرنا نبأ
وصوله في العدد الماضي بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وقد استقبل الوفد
بالمراسم المعتادة ولقي من جلالة الملك كل عطف ورعاية.
ثم ألقى الكونت إدوارد راشينسكي أمام جلالة الملك خطابًا نشرنا صورته فيما
يلي وعقبه الشيخ يوسف يس فألقى الخطاب الجوابي الملوكي.
***
(خطاب الكونت إدوارد)
يا صاحب الجلالة:
أتشرف بأن أقدم إلى جلالتكم رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية
بولونيا الفتية الناهضة وباسم فخامته أعرض على جلالتكم تمنيات صحتكم ودوام
ملككم لرفاه الأمم المتحدة تحت لوائكم المنصور.
إن مملكة بولونيا تعرف جيدًا الأمة العربية الجسورة وفروسيتها، وتقدرها
حق قدرها، وقد اشتهرت في العالم بحبها للحرية حتى بلغت شهرتها إلى بولونيا،
فتغنى شعراؤها منذ العصور بفروسية هذه الأمة الكريمة.
إن الأمة البولونية تقدر هذه الفروسية وهذا الحب للحرية؛ لأنها هي أيضًا
قاتلت متفانية لنيل استقلالها وتحملت آلامًا ومتاعب كثيرة لبلوغ غايتها من الحرية
المنشودة، وقد كانت حياتها في خطر ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه
استطاعت أن تحافظ على كِيانها حتى أصبحت مملكة قوية يتمنى العالم كله هدوءها
وسكونها للمحافظة بسببها على السلام العام.
أقدم هذا التقدير وهذه الممنونية التي تحفظها الأمة البولونية نحو الأمة العربية
الكريمة ونحو جلالتكم الذي جمعتم هذه الأمة العربية وكونتم مملكة الحجاز ونجد
وملحقاتها العظيمة على يدكم المنصورة بسعيكم النادر وحكمتكم النافذة، وشجاعتكم
الشخصية التي هي أكبر ما تقدرها الأمة البولونية.
إن شهرة جلالتكم - كأتقى ملك وأكثرهم دفاعًا عن الدين - تزداد انتشارًا يومًا
فيومًا بين إخوانكم المسلمين في بولونيا الذين توطنوا بلاد الشمال البعيدة منذ قرون
عديدة، وقوبلوا من الأمة البولونية كإخوة لشهرتهم بالتخلق بالأخلاق الحسنة
والفروسية والتفاني في الدفاع عن الوطن مع إخوانهم البولونيين حين هجوم الأعداء
على بلادهم، وقد حضر اليوم معي إلى هنا ممثلهم ورئيس ديانتهم المحترم المفتي
الأكبر يعقوب شنكفيتش ليرتبط بمنبع ديانتهم ارتباطًا وثيقًا ويهنئ جلالتكم بالصعود
على عرش البلاد المقدسة والدفاع عنها.
إنني لا أشك من أن وفدنا - الذي أتشرف بأن أكون رئيسه - ليستطيع أن
يضع الأساس الأول لارتباط الأمتين الكريمتين (الأمة العربية والأمة البولونية)
برباط الصداقة القلبية المتينة لمنفعة هاتين الأمتين اللتين يمكنهما أن تنتفعا من
بعضهما انتفاعًا عظيمًا فتظهر هذه المنفعة جليًّا في ميدان الاقتصاد؛ لأن بلادنا
محشودة بثروات طبيعية وصناعات تتقدم بسرعة مدهشة فيمكن أن تستفيد هاتان
المملكتان البعيدتان من بعضهما فائدة عظيمة بسبب تبادل محصولاتهما الطبيعية
والصناعية.
بعد أن تشرفت بتقديم إحساسات وتمنيات حضرة فخامة رئيس الجمهورية
البولونية الفتية، وحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي وباسم
الحكومة البولونية والأمة البولونية كلها _ ألتمس السماح لي بأن أتشرف بتقديم
تمنياتي وإحساساتي الشخصية مع إحساسات وتمنيات زميلي المحترم وأرجو
وألتمس من جلالتكم التنازل بقبولها وتعطفوا علينا بمعونتكم في إنهاء مهمتنا التي
تشرفنا بتحملها لإنهائها مع معاونة جلالتكم.
***
الجواب الملوكي
يا جناب المندوب:
إننا نتقبل بسرور رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية بولونيا
الفتية الناهضة ونتقبل بامتنان التمنيات الطيبة التي نقلتموها لنا عن فخامته.
كما أننا نفاخر بما ذكرتم مما هو معروف في بلادكم عن مزايا أمتنا العربية
التي نراها تشابه في كثير من الحالات الأمة البولونية في مراميها ومزاياها من
الشجاعة والإقدام.
وإن الأمة العربية لتنظر للبراعة التي ظهرت في الأمة البولونية وعلى
الأخص في الأيام الأخيرة بعين التقدير والاحترام، ولقد سرنا ما ذكرتم لنا عن
الذين ينتسبون للإسلام ويتفيئون ظلاله، وإنا لنتمنى لهم هناءً وراحةً وتوفيقًا في
إقامة شعائر دينهم ونجاحًا في السير على ما جاء به الإسلام الذي كان منشؤه هذه
الديار المقدسة التي تسر باستقبالكم فيها، وإنا لنرحب بحضرة ممثل المسلمين في
ديار بولونيا وسيلقى منا ومن رجال حكومتنا كل مساعدة في سبيل تأييد الصلات مع
أولئك المسلمين الذين نهتم بأمرهم كل الاهتمام.
وإنا لواثقون من أنه سيكون لوفدكم الكريم أحسن الأثر في العلاقات
الاقتصادية بين بلادنا وبلاد الأمة البولونية النجيبة.
ونرجوكم أن تقدموا بالنيابة عنا لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية
البولونية ولحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي تمنياتنا بدوام
صحتهما ورفاهيتهما، كما نرجو إبلاغ الأمة البولونية النجيبة تمنياتنا لسعادتها
وسُؤْدُدها كما نتمنى لجنابكم ولرفيقكم الموقر كل هناء وصحة وعافية، ونأمل أن
يبدأ في القريب العاجل عهد علاقات ودية واقتصادية بين البلادين تكون مفتاح هذه
العلاقات والسلام.
وبعد الانتهاء من الخطب أبلغ الدكتور إدوارد راشنسكي جلالة الملك اعتراف
حكومة بولونيا بارتقاء جلالته على عرش مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، فشكر
جلالته الحكومة البولونية على صنيعها هذا. اهـ.
__________(31/141)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الفتح الأوربي والفتح الإسلامي
والاستعمار البريطاني والفرنسي
يا حسرةً على المسلمين جهلوا تاريخهم وجهلوا دينهم فجهلوا أنفسهم، فهم
يخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم الظالمين المستذلين لهم، شغلهم الفاتحون
لبلادهم عن أنفسهم وعن مقومات أمتهم من دين قيم، وتشريع عادل، وتاريخ مجيد،
وأدب رائع - بزُخرف من زينة حضارتهم، ودعاوى كاذبة عن عدالتهم وتهاويل
مرعبة من مظاهر قوتهم، فرضي كثير منهم بأن يكونوا أعوانًا لهم على استعبادهم
واستذلالهم، ثم لم يرضَ الفاتح منهم بسلب المال، وتنكيس رؤوس الرجال،
حتى عمد إلى سلبهم ما لهم من الرجاء في سعادة الآخرة بتحويلهم عن الإسلام بعد
أن سلبهم سعادة الدنيا.
كان المسلمون يفتحون المِصر من الأمصار والقطر من الأقطار فيرضَوْن من
أهله بقليل من المال يسمى (الجزية) يجعلون لهم بها حق حمايتهم والدفاع عنهم،
مع حريتهم المطلقة في عقائدهم وعباداتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويسمحون
لهم بتلقي العلوم معهم في مساجدهم ومدارسهم كأبنائهم، وبجميع الأعمال التي
يقدرون عليها لترقية أنفسهم. ومن اختار منهم الدخول في الإسلام كان أخًا
للمسلمين في الأمور الروحية، فوق ما كان له من مساواتهم في الحقوق المدنية،
وترفع عنه الجزية التي قلما كانت تزيد على دينار في السنة من البالغ الحر القادر
على الأداء.
وأما هؤلاء المستعمرون من الإفرنج فهم يسلبون من أهل البلاد التي يستولون
عليها أكثر ثمرات كسبهم، ويجعلونهم أذل من عير الحي والوتد في بلادهم،
ومَن لم يرضَ مع الذل والعبودية بخيانة أمته ووطنه والخدمة الصادقة لهم -
يسومونه سوء العذاب، ولا يساوون أحدًا منهم بأبناء جنسهم، وإن هو دخل في
دينهم. وأشدهم إسرافًا في هذه الخطة الدولة الفرنسية، وقد كان رجال سياستها
يسخرون من الإنكليز؛ إذ يرونهم يسمحون لبعض الناس في البلاد التي يتغلبون
عليها بأن يكونوا أصحاب ثروة واسعة، وأن يعلّموا أولادهم بعض العلوم العالية،
ويتركون لهم شيئًا من الوجاهة وحرية الدين التي لا تعارض السلطة، ويكتفون في
سبيل تحويلهم عن دينهم ونعرتهم القومية والوطنية بالتعليم والتربية المدرسية
ودعاية المبشرين بالنصرانية معتذرين عن دعايتهم بأنه مقتضى الحرية الدينية
العامة لا خروج عنها.
كان الدكتور غوستاف لوبون فيلسوف فرنسة يفضل في كتبه سيرة إنكلترة في
مستعمراتها على سيرة دولته (فرنسة) وكان ساستها يسخرون من فلسفته ومن
السياسة الإنكليزية الاستعمارية، ولما قامت مصر والهند بعد الحرب تطلبان
الاستقلال، وتبذلان في سبيله الأموال - اقتنعت إنكلترة بأن فرنسة أحذق منها في
استعباد البشر؛ إذ لا تدَع لهم سبيلاً إلى الثورة ولا إلى العلم الذي يجمع الكلمة،
ولكنها لا تستطيع أن تكون مثلها، فإن حاولت ذلك كان خَسارها أكبر من ربحها!
إن جميع الحكومات الأوربية تتعمد إفساد أخلاق أهالي البلاد التي تستولي
عليها بأي اسم من أسماء الاستيلاء حتى الحماية والمساعدة والانتداب، وتُلقي بين
المختلفين من أهلها في الدين أو المذهب أو الجنس الشقاق والبغضاء. أما إفساد
الأخلاق وكذا صحة الأبدان فبإباحة الفواحش والمنكرات كالخمور والمخدِّرات
بأنواعها ونشرها باسم الحرية الشخصية وحرية التجارة، وإما إلقاء العداوة
والبغضاء والتفريق بين الأهالي فباسم حماية حقوق الأقليات.
والغرض الذي يتوخونه من كل ذلك أن لا توجد في البلاد وحدة تجمع كلمة
أهلها على المطالبة باستقلالها، ولا فضائل تؤلف بين الأفراد وتنهض بهِممهم
إلى القيام بشئون الإصلاح فيها، وإنما يكون همّ كل واحد منهم التمتع بشهواته
الحيوانية، وهم كل فريق يجمعه دين أو مذهب أو جنس معاداة من يخالفه فيه
من أهل بلاده.
وأما المسلمون فكانوا على إطلاقهم الحرية للمخالفين لهم في الدين يمنعونهم
من الفواحش والمنكرات التي تفسد أخلاقهم وتجني على صحتهم، كما يمنعون منها
المسلمين أنفسهم؛ لأن الله تعالى لما أذن لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم ودينهم عند
تمكنهم منه كان مما أوجبه عليهم إذا صاروا أصحاب السيادة في الأرض أن يأمروا
بالمعروف وينهوا عن المنكر، فلا تبيح الحكومة الإسلامية الصحيحة لغير المتدينين
بدينها من المنكر عندها إلا ما تبيحه لهم ديانتهم كشرب الخمر مثلاً، إذا كان فيما
بينهم بصفة لا يضر غيرهم.
وقد رأينا بعد الحرب الكبرى من ظلم الدول المستعمِرة للمسلمين وتعديها على
دينهم ودنياهم ما تفاقم شره بعد سقوط الدولة العثمانية، وقيام حكومة تركية من
أنقاضها، أعلنت الإلحاد ونبذت الشريعة الإسلامية وراء ظهرها، وأبطلت محاكمها
ومدارسها وأوقافها، وأكرهت رعيتها على ترك لغتها وهي العربية، وعلى كتابة
اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وترجمت لها القرآن المجيد باللغة التركية ترجمة
لا يثق بها مسلم؛ لتكتبه بالحروف اللاتينية، تمهيدًا لمحوه من البلاد التركية.
ولم يمكن الشعب التركي الذي يَدين سواده الأعظم بالإسلام وتعد الملاحدة فيه
كالنقطة السوداء في الثور الأبيض - أن يصد حكومته العسكرية القاهرة عن هذا
الإلحاد لضعفه بالفقر والحروب الطويلة التي أنهكت قُواه، وقد حاول اغتيال رئيس
جمهوريته الإلحادية (اللاييك) مرارًا فلم يظفر به، فهو ينتظر الفرج من الله تعالى
بانقلاب آخر.
فهذا الحدث الفاحش أطمع الدول المستعمرة للبلاد الإسلامية في إخراج
المسلمين من دينهم بالقوة القاهرة. وقد كانت دولة فرنسة تمهد السبيل من قبل
لإخراج شعب البربر الإسلامي القوي الشكيمة من الإسلام إلى النصرانية أو الإلحاد،
ثم تجرأت في هذا العهد على تنفيذ ذلك بالقوة العسكرية في المغرب الأقصى،
واستعانت على ذلك بحيلة صورية، أرادت أن تجعل بها هذه الفعلة ذات صبغة
رسمية أو شرعية، فطلبت من سلطان المغرب السابق أن يُصدر لها ظهيرًا
(مرسومًا سلطانيًّا) يهبها به ما كان له من الرياسة الدينية والحق الشرعي الديني
على شعب البربر ويجرد نفسه منه، فيكون لها به حق التصرف المطلق في أمور
هذا الشعب الدينية من قضائية وتعليمية؛ ظنًّا منها أن السلطان الذي يملك حق
الولاية الدينية على هذا الشعب الإسلامي يملك أن يتركه لسلطة غير إسلامية،
ويجعل لها حق التصرف في دين هذا الشعب فترده عن الإسلام بكل الوسائل التي
تقدر عليها، فامتنع أن يصدره على شدة التهديد في زمن الحرب الكبرى، وهم
يزعمون أنه أصدره، ولكنها لم تنشر نصه ولم تكتفِ به، بل عادت بعد موته إلى
ولده الشاب الذي نصبته بعده واستصدرت الظهير في هذا العام بنفوذ رئيس حكومة
المخزن (الطيب المقري) ، وشرعت في إخراج البربر بالفعل من دين الإسلام
بتعليم أولادهم الديانة النصرانية باللغة الفرنسية ومنعهم من تعلم القرآن واللغة
العربية وبوضع قانون جاهلي للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث وغيره
يحل محل الشريعة الإسلامية، في محاكم بربرية تنشأ بدلاً من المحاكم الشرعية.
أما الحق الشرعي في هذه الوسيلة فهو أن السلطان لا يملك أن يعطيها هذا
الحق، كما أنه لا يملك أن يغير نصًّا من أحكام الشرع، كأحكام الزوجية والطلاق
والإرث، وهي منصوصة في القرآن، بل لم يكن للرسول الأعظم حق في مخالفة
القرآن في حكم من أحكامه وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) ، فأي مسلم اعتقد أن له الحق في أن يغير حكمًا من أحكام القرآن
أو غيرها من أحكام الإسلام المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة يحكم
بارتداده عن الإسلام وقتله وعدم دفنه في مقابر المسلمين.. إلخ، وكذا مَن استحل
أن يفعل ذلك أو أن يسمح لغيره بفعله فهو كافر مُراق الدم، وإذا كان من يجحد مثل
هذه الأحكام جحودًا يُحكم يكفره ويجب قتله أيضًا فكيف بمن ينفذ إبطال هذه الأحكام
بالفعل أو يسمح لغيره بتنفيذها وإخراج بعض المسلمين من دينهم؟ ! قال صاحب
عقيدة جوهرة التوحيد:
وَمَن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
ولما شرعت حكومة المغرب الفرنسية في تحويل البربر عن دينهم بالفعل
تجرأ مسلمو المغرب الأقصى على مقاومة السلطة الفرنسية بالفعل، وكان قد
استحوذ عليهم الخوف والجبن، وسنبين في الجزء الآتي ما كان من تأثير هذه الفتنة
هنالك ثم ما كان وما سيكون من تأثيرها في العالم الإسلامي كله، مع البحث في
آراء ساسة فرنسة فيما يجب أن تعامل به المسلمين؛ فإنهم مختلفون في ذلك ولم
يبلغنا عن أحد منهم قبل الحرب الكبرى أنه يجب عليها إكراههم على ترك الإسلام
بل هذا رأي حديث سنبين أنه رأي أفين، ونرد على ما أقاموا عليه من الدليل،
ونبين الرأي المعقول الجامع بين مصلحة فرنسة ومصلحة المسلمين، ومصلحة
البشر أجمعين.
__________(31/148)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعاهدة الجديدة
بين إنكلترة والعراق
إن في العراق حزبًا عراقيًّا إنكليزيًّا، وأعني بكونه إنكليزيًّا أن ساسة الإنكليز
يثقون بزعمائه ويعدونهم أصدقاء أو غير أعداء لهم. وإن من أركان الحزب
العراقي الإنكليزي: نوري باشا السعيد، وجعفر باشا العسكري. ولما تعذر الاتفاق
بين الإنكليز في العراق وبين الوزارات كلها، عَهِد جلالة الملك فيصل برياسة
الوزارة إلى نوري باشا السعيد فلم يلبث أن اتفق مع الإنكليز على عقد معاهدة
سياسية عسكرية يلغي بها ما يسمى الانتداب وتجعل شؤون العراق بين الدولتين
بدون وساطة جمعية الأمم، بل تساعد الدولة الإنكليزية العراق بمقتضاها على
أن تكون عضوًا في جمعية الأمم كسائر الممالك الداخلة في دائرة الإمبراطورية
البريطانية المرنة التي يسعى ساسة لندن لجعْل الشرق كله في جوفها.
وقد كانت الدعاية التي تقدمت هذه المعاهدة والتي أعلنت فيها بالإجمال قبل
التفصيل، متقنة كل الإتقان، فلم يعلم الناس بما فيها من الخطر على العراق بل
على الأمة العربية كلها إلا بعد نشرها برمتها. وقد كنت ممن ظنوا أن أكبر غوائلها
بقاء حظائر الطيارات البريطانية فيها. ثم ظهر أنها معاهدة عسكرية تقرر فيها جعل
بلاد العراق وكل ما فيها من القوى وطرق المواصلات تحت تصرف الإنكليز
العسكري إذا وقع بينهم وبين أحد حرب، كما تقرر فيها مساعدة الإنكليز للعراق
بقواها العسكرية حالة وقوع حرب بينها وبين دولة أخرى، بل تقرر فيها أن تكون قوة
العراق العسكرية وأسلحتها في تصرف الإنكليز!
ومن المعلوم بالبداهة عند جميع المشتغلين بالسياسة أن الدولة البريطانية
موجهة براعتها السياسية إلى استعباد الأمة العربية وجعل جميع بلادها العامرة تحت
سلطانها، من مصر الرازحة تحت نير احتلالها العسكري إلى العراق فالكويت
فعُمان أي إلى آخر حدود جزيرة العرب والتمهيد بذلك إلى جعل الحجاز ونجد تحت
سيطرتها، وبهذا تقطع الطريق على الشعوب العربية دون الاتفاق والاتحاد
والاستقلال.
ومن المعلوم بالاختبار الصحيح وتاريخ الفتح أو الاستعمار الإنكليزي في الهند
ثم في مصر والسودان أن الإنكليز يضربون الأمم الجاهلة أو المتخاذلة بعضها
ببعض، فيفتحونها بأيدي أهلها وبأموالها، فإن ما ينفقونه من المال في أول الأمر
يستوفونه بعد ذلك مع ربح فاحش جدًّا، هكذا فعلوا في الهند وهكذا فعلوا في مصر
والسودان، وهكذا يفعلون اليوم في البلاد العربية بِدَارًا أن تجمع كلمتها وتوحد
نهضتها وتؤلف الدولة أو الدول المتحدة أو المتحالفة التي يسعى إليها أهل اليقظة
والرأي من أبنائها.
نصبوا أولاد الشريف حسين ملوكًا وأمراءَ على حدود الحجاز ونجد لعلمهم بما
تأرَّث بينهم وبين ابن السعود من سعير العداوة والبغضاء، فهم يخوفون به ملك
العراق وأمير شرق الأردن ويستعينون بنفوذهما وبرجال البلاد ومالها على إقامة
الحصون والمعاقل تجاه نجد والحجاز، ويخوفون ملك الحجاز ونجد بأنه إذا شذ عن
رغبتهم فإنهم يقاتلونه بأيدي أمته العربية وبما وراءها من قوتهم، لعلمهم أن قوة
العراق وشرق الأردن دون قوته الآن، على أنهم يُظهرون الصداقة له ولجيرانه معًا
كما كانوا يفعلون في الهند سواء، وسنأتي بالشواهد التاريخية على هذا في الجزء
التالي إن شاء الله تعالى.
عبد العزيز آل سعود رجل مسلم قوي الإيمان، عربي صادق العربية، لا
مطمع له في بلاد شرق الأردن ولا العراق، وهو لم يزحف على الحجاز ويستولي
عليه إلا مضطرًا إلى ذلك بما أحرجه الملك حسين حتى جعل مقاتلته ضربة لازب
يوجبها الشرع الإسلامي ومصلحة نجد والعرب والمسلمين، وهو يرى حمل الحجاز
ثقيلاً عليه لما يحتاج إليه من أنواع الإصلاح الكثيرة من دينية ومدنية، وناهيك
بتقريب مسافة الخلف بين تربية أهله وشؤونهم الدينية والمعاشية وتربية أهل نجد
وشؤونهم، فهو لا مطمع له فيما وراء ذلك ولا ينوي أن يعتدي على أحد من جيرانه
في الجنوب ولا في الشمال وكلهم من قومه وأهل ملته.
فأي حاجة مع هذا إلى إقامة الحصون والمعاقل على حدوده إذا لم تكن
استعدادًا لما ذكرنا من قطع الطريق على الوحدة العربية قبل أن تتمهد سبيلها؟
وأي حاجة بالعراق إلى مجاراة الإنكليز على هذه السياسة بمعاهدة حربية وهم
يعلمون أن جيرانها الآخرين من الترك والإيرانيين لا يمكن أن يتصدوا لفتحه لأن
لهم في أنفسهم شغلاً عن ذلك، على علمهم بأن الدولة البريطانية لا تنوي ترك
العراق لأهله، وأن أعمالها العسكرية ولا سيما المطارات والمعاقل والحصون
والسكك الحديدية التي تصل العراق بحيفا قبل انتهاء الخمس السنين التي ضربتها
المعاهدة أمدًا لخروج الجيوش الإنكليزية من العراق - وما في النية إحداثه من
السكة الحديدية العسكرية التي تصل العراق بالبحر الأحمر - كل ذلك وسائل
لرسوخ قدمها في هذه البلاد وتأسيس إمبراطورية بريطانية جديدة فيها في هذا
الوقت الذي تتداعى فيه أركان إمبراطورية الهند الكبرى التي لولاها لم تكن إنجلترة
من الدول العظمى، وستستقل الهند بيقظة زعمائها وعلمهم وإخلاصهم، بل في الوقت
الذي يتحدث فيه بعض ساسة أوربة بقرب أجل هذه الدولة ويتوقع فيه سقوطها في
الحرب الآتية التي لا بد منها.
إن أعظم ضباط العراق وطنية عربية ومعرفة بقيمة الاستقلال قد أقسموا أغلظ
الأيمان لجمعية عربية غايتها استقلال البلاد العربية استقلالاً تامًّا بجميع معانيه
الحقوقية والسياسية، وجعل الأمة العربية في مصاف الأمم الحية، فماذا فعلوا
بيمينهم هذه؟ ومنهم بعض أعضاء هذه الوزارة التي عقدت هذه المحالفة وهي الآن
تبذل نفوذها لتأليف مجلس نيابي يجعل استعباد إنكلترة العسكري للعراق شرعًا
بالاعتراف لها بأنه من طرق مواصلاتها الإمبراطورية! وبأن لها الحق في
استخدام جميع قواته لمصلحتها العسكرية، وفي جعْل تأليف قواته العسكرية وسلاحه
وسائر شؤونه بيد الإنكليز يتصرفون فيها كما تصرفوا في قوات مصر، ولم يكن
لهم من الأمة المصرية مثل هذه المعاهدة ولا هذا الاعتراف.
إن تأليف مجلس نيابي يبرم هذه المعاهدة على علاتها ليس له معنى إلا بيع
العراق للإنكليز بيعًا شرعيًّا لا يمكن الرجوع فيه، وإنما يبقى أمام العراق طريق
واحد للحرية والاستقلال وهو الثورة العامة لإخراجهم بالقوة، ولكنها ستقطع هذا
الطريق عليهم بأيديهم. وقد شرعت في ذلك ببثّ الأحقاد المذهبية بين أهل السنة
والشيعة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، والعصبيات الجنسية بين العرب
والكرد والآشوريين، وبإلقاء جراثيم الإلحاد والإباحة وحرية الفسق التي لا يمكن أن
تقوم لأمة معها قائمة، وستنزع السلاح من جميع القبائل بقوة الجيش العراقي الذي
ستنظمه لخدمتها. وللعراقيين كبير عبرة بسيرتهم في مصر والسودان، ومَن لم
تؤدبْه الحوادث أدبتْه الكوارث!
__________(31/152)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(نور الإسلام)
(مجلة دينية علمية أخلاقية تاريخية حكيمة. تصدرها مشيخة الأزهر
الشريف أول كل شهر عربي [1] مدير إدارة المجلة عبد العزيز (بك) محمد من
أعضاء مجلس الأزهر الأعلى. رئيس التحرير السيد محمد الخضر حسين من
علماء الأزهر.
قيمة الاشتراك السنوي داخل القطر المصري 40 قرشًا، لطلبة المعاهد
والمدارس 20، خارج القطر المصري 50) .
هذا تعريف إدارة المجلة بها، ولقد كان وجود مجلة لمعهد الجامع الأزهر
أُمنية قديمة لنا ولكثير من مفكري المسلمين ومحبي الإصلاح ونشر الإسلام والدفاع
عنه. وقد بيَّن رئيس التحرير هذا في فاتحة العدد الأول وذكر سبب حصول هذه
الأمنية وأصحاب الفضل فيه وبيان الخطة التي رسمتها المجلة لنفسها، وإننا ننشر
ذلك لما لنا من العناية الخاصة والاهتمام بأمر هذه المجلة بعد أن سلخنا ثلث قرن في
الاشتغال بنشر مجلة المنار والقيام فيها بأهم فروض الكفاية التي اشتدت الحاجة إليها
في هذا العصر الذي فشا فيه الإلحاد، ونشر شبهاته والدعوة إليه في جميع البلاد،
ونشط دعاة النصرانية في محاولة تنصير المسلمين في جميع الأقطار بمساعدة دولهم
وأغنيائهم، وقد دخلنا في سن الشيخوخة ولم نوفَّق لتربية أحد نرجو أن يقوم بعدنا
بإصدار المنار، كما أننا لم نجد مجلة إسلامية تقوم بما يقوم به، وهكذا كل عمل
يقوم به الأفراد يزول بزوالهم في الغالب؛ لهذا نسر ونهتم بإنشاء المعهد الإسلامي
الأكبر لمجلة إسلامية يُرجى دوامها بدوامه إن شاء الله تعالى، ولهذا نطيل في
تقريظها ما لم نطله في تقريظ مجلة أخرى وما لم تطله الصحف الأخرى بتقريظها،
وهذا نص ما جاء في فاتحتها:
(أحسَّ الناس شدة الحاجة إلى هذه الصحيفة ووثقوا بأن سيكون لها في إنارة
السبيل والذب عن حوزة الدين موقف خطير، وهذا الإحساس الشريف هو الذي
بعث حضرة صاحب العزة عبد العزيز محمد بك مدير هذه المجلة أن اقترح على
المجلس الأعلى للمعاهد الدينية في جلسته المنعقدة في 3 جمادى الثانية (؟) سنة
1345 الموافق 8 ديسمبر سنة 1926 أن يدرج في ميزانية المعاهد مبلغًا يقوم
بإنشاء مجلة إسلامية، فعهد إليه المجلس بوضع تقرير في مشروع هذه المجلة على
أن يعرضه عليه في جلسته المقبلة. وفي يوم 8 محرم (؟) سنة 1346 - الموافق
27 يوليو سنة 1927 عرض حضرته هذا التقرير في المجلس فكان من المجلس
أن قرر تأليف لجنة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: المدير العام للمعاهد
الدينية المرحوم الشيخ أحمد هارون. وشيخ معهد الإسكندرية لذلك العهد الشيخ
محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر، وشيخ معهد طنطا المرحوم الشيخ
عبد الغني محمود، وعهد إليها ببحث ما احتواه التقرير من الاقتراحات، فنظرت
اللجنة في التقرير وقدمت نتيجة بحثها إلى المجلس. وحينما أخذ ينظر في ميزانية
سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للإنفاق على المجلة. إذ وثق بأنها عمل صالح وفاتحة
نهضة مباركة.
ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد الأحمدي الظواهري، كان من أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة،
فأخذ يدبره بجد وحكمة، حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه.
وفضل هذا المشروع الإسلامي الجليل عائد في الحقيقة إلى حضرة صاحب
الجلالة مولانا ملك مصر المعظم أحمد فؤاد الأول حرسه الله؛ فإن جلالته سار على
سنن أسلافه الأماجد، فأقبل يرفع صروح العلم ويحوط العلماء بالرعاية حتى نال
الأزهر الشريف وعلماؤه من هذه الرعاية أوفر نصيب.
فإقبال جلالته على هذا المعهد الإسلامي بعناية ضافية قد وطد في نفوس رجال
العلم الأمل في أن تكون دعوتهم إلى سبيل الخير ناجحة، وجعل الأزهر بمكان
القادر على أن يصرع كل ضلالة وينهض بكل صالحة.
خرجت هذه المجلة وهي تحمل سريرة طيبة، لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن،
ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول؛ إذ لا يعزب عنها ما يحدث عن
مثل هذا القصد من الفتن وبواعث التفرقة بين سكان الوطن الواحد وهم في حاجة
إلى السكينة والتعاون على المصالح فردية كانت أم اجتماعية.
خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن،
وقصارى مجهودها أن تعمل على نشر آداب الإسلام وإظهار حقائقه نقية من كل
لبس، وتكشف عما ألصق بالدين من بدع ومحدثات، وتنبه على ما دس في السنة
من أحاديث موضوعة، وتدفع الشبهة التي يحوم بها مرضى القلوب على أصل من
أصول الشريعة، وتعنى بعد هذا بسير العظماء من رجال الإسلام، وإن في سيرهم
لتذكرة لقوم يفقهون، ويضاف إلى هذا ما تدعو فائدته إلى نشره من المباحث القيِّمة
علمية كانت أو أدبية. وسترى هذه المقاصد إن شاء الله مودعة في الأبواب
المفصلة على ما يأتي: التفسير. السنة. السيرة النبوية. أصول الدين. دفع الشبه.
أصول الفقه. الفتاوى والأحكام. العلوم والآداب. آراء الباحثين. التاريخ. السير
والتراجم. أنباء العالم الإسلامي. الطرف والمُلَح.
تتناول المجلة من مباحث هذه العلوم والفنون ما يدعو الحال إلى نشره، ولا
تحكي رأيًا خارجًا عن نهج الصواب إلا أن تقرنه بما يكشف عن كنهه، وسنتحرى
بتوفيق الله تعالى الطريقة التي تتجلى بها سماحة الدين في بهاء طلعتها وصفاء
ديباجتها، ونُراعي في تحريرها الأساليب التي تألفها أذواق القراء، ويجتلون فيها
صور المعاني ماثلة أمامهم لا لبس فيها ولا التواء.
تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق،
مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وإذا كان هذا أدبها مع قوم هم
عن الحق غافلون فأحرى بها أن تأخذ به في مناقشة آراء العلماء إذا رأت في
بعضها انحرافًا عما تقتضيه نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة الواضحة. نذكر
هذا ليلحظه الذين يرغبون في مراسلة المجلة ببعض منشآتهم الموافقة لمنهجها.
ومن أجل أن يكون جهاد هذه المجلة متصلاً بالحركة الفكرية في البلاد
الأوروبية أنشئ في إدارة المجلة قسم لترجمة ما يجيء في الصحف الأجنبية من
مباحث علمية أو مقالات يُتحدَّث فيها عن الإسلام، غير أننا لا نضع أمام القراء
مقالة في الإسلام صدرت من غير منصف إلا أن نصلها بما يستبين بها خطأ كاتبها
ناقلاً كان أو مدعيًا.
هذا غرض المجلة وهو بلا ريب غرض نبيل، وهذه خطتها وهي كما عرفت
خطة من يمشي على سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل) .
اهـ.
(المنار)
علمنا من هذا البيان المنقول من المجلة أنها مجلة رسمية تابعة لمشيخة
الأزهر، فهي المسئولة عنها، ويعد كل ما ينشر فيها من أقلام محرريها ومديرها
صادرًا عن المشيخة نفسها، وتعد هي مقرة له ومعترفة به، وكذا ما ينشر فيها من
الرسائل المنشأة لغيرهم أو المترجمة إذا سكتت المجلة عليه ولم تتعقبه بنقد ولا
تصحيح، وهذه مزية لها تجعل تبعتها على المشيخة عظيمة، وتكون ثقة الناس
بصحة ما فيها بقدر ثقتهم بالمشيخة في جملتها، كأنه فتاوى صادرة عنها.
وقد كان من موانع إنشاء المشيخة لمجلة إسلامية علمية في السنين الخالية ما
كان من البُعد الشاسع بين تعليم الأزهر الديني واللغوي الإنشائي وما تجدد من حاج
العصر، فقلما كان يوجد في الأزهر مَن يستطيع أن يكتب في بيان عقائد الدين وآدابه
وحكمة تشريعه والدفاع عنه ما تقبله عقول غير طلاب الأزهر وترجى استفادتهم
منه، وكان أول من أرشدهم وأرشد غيرهم في هذا القطر إلى الإنشاء العصري في
أساليبه وموضوعاته السيد جمال الدين الأفغاني، ولكنهم ناوؤوه وناوؤوا تلاميذه
ومريديه، وكانوا يعدون الاعتراف بحاجتهم إلى أي علم من العلوم - غير ما
يتداولونه بينهم - أو إلى أي إصلاح لمنهاج التعليم، إقرارًا بنقص الأزهر ونقص
أهله، ووضعًا من عظمة قدره وشهرته!
لهذا أعد أول مأثرة للمشيخة الحاضرة ولفضيلة رئيسها الشيخ محمد الأحمدي
في هذا الطور الجديد أنه ناط الأعمال الرئيسية في المجلة الأزهرية برجال من غير
خريجي الأزهر، وهي إدارة المجلة ورياسة تحريرها وكتابة أهم مباحثها وأعلاها
وأشدها توقفًا على فنون اللغة وعلوم الشرع وهي مباحث التفسير والحديث؛ فالمدير
العام للمجلة والمقترح لها وهو صاحب العزة عبد العزيز بك محمد من خريجي
مدرسة الحقوق وقضاة المحاكم الأهلية، وقد جعل عضوًا في مجلس الأزهر الأعلى
هو وآخرون من أمثاله من قبل الحكومة بناءً على نظرية حاجة الأزهر إلى رجال
من غير أهله لإصلاح شأنه وتنفيذ قانونه، وهو كفء لهذا وذاك، ورئيس التحرير
صاحب الفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين من علماء تونس وأدبائها وقد أُعطي
لقب عالم في الأزهر بامتحان خاص وصفة استثنائية وجعله الشيخ محمد مصطفى
المراغي شيخ الأزهر السابق مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة
استثنائية أيضًا، وهو كفؤ لهذا وذاك، ولكنني عجبت له كيف لم يذكر اسم الشيخ
محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبها لهذه المجلة في فاتحة
العدد الأول؛ مع علمه بأنه هو الذي وضع مشروع المجلة في قانون الأزهر الجديد
وفي ميزانية هذه السنة وخصص لها هذا المبلغ العظيم (ستة آلاف جنيه) وأنه هو
الذي بذل جهده لإقرار الحكومة هذه الميزانية، فله الفضل الأول في تنفيذ هذا
المشروع كما أن له الفضل عليه نفسه، وإن لم يكن من أعضاء جمعيته أو حزبه،
ويجب أن يكون الدين والتاريخ فوق الأحزاب والجمعيات {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) .
وأما كاتب التفسير والحديث في المجلة الأستاذ الشيخ حسن منصور فهو من
خريجي مدرسة دار العلوم الأميرية؛ ولكنه كان يحضر دروس التفسير معنا على
الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، وهذا مرجح له على غيره ممن لم يحضر تلك
الدروس العالية من علماء الأزهر وفيهم من كان يحضرها. ثم إن من المحررين
الموظفين للمجلة صاحبي الفضيلة الشيخ يوسف الدجوي والشيخ إبراهيم الجبالي
وكلاهما من هيئة كبار علماء الأزهر.
إنني أستقبل هذه المجلة بالترحيب والترجيب والتحبيب ولا أرى أن أذكر الآن
رأيي في تحريرها ومسلكها في موضوعاتها، وقد كنت كتبته قبل صدورها في
تقرير قدمته إلى الأستاذ المراغي بطلبه، وإنما أقترح على المشيخة الجليلة
اقتراحين، وأذكرها برأيي في أمرين، أراهما من الواجب عليَّ الآن.
(الاقتراح الأول) أن لا يذكر في المجلة حديث نبوي إلا مقرونًا بتخريجه
وبيان درجته من الصحة وما يقابلها، وأن يتولى ذلك مَن يعنون بعلم الحديث في
الأزهر. وقد رأيت المدير الفاضل يعنى بهذا ولكنه لا يستقصيه، وقد أورد في
ترجمته للفصل العاشر من السيرة النبوية التي كتبها بالفرنسية المرحوم (اتيين
دنييه) الفرنسي المهتدي وسليمان بن إبراهيم الجزائري - هذه العبارة: (وقد
حصل في فرنسة وفي بلاد أخرى من أوربة وإفريقيَّة وآسية دخول أشخاص في
الإسلام فرادى وربما كان ذلك مصداقًا لهذا الحديث النبوي الذي معناه) قد يؤيد الله
هذا الدين بالغرباء منه " وقد وضع المدير لهذا الحديث حاشية هذا نصها: لا يعرف
حديث بهذا المعنى بل الإسلام صلة ولُحمة بين جميع المسلمين مهما اختلفت
أجناسهم وتباعدت أوطانهم {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) اهـ.
ولكن الحديث مروي في الصحيحين كليهما وفي غيرهما. ولفظه فيهما: (إن الله
يؤيد الدين بالرجل الفاجر) وفي الطبراني: (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من
أهله) .
(الاقتراح الثاني) أن ترغّب أصحاب العلم والرأي والقلم من أهل الأزهر
في التحرير في المجلة بتعيين مكافأة مالية لمَن يجيد كتابة موضوع تتجوده المشيخة،
فإن هذا أمر معهود في المجلات الغنية التي يصدرها الأفراد، فأحرى بمجلة غنية
لمصلحة كبيرة خُصص لها ألوف الجنيهات من الأوقاف أن تفعل ذلك.
وأما الرأي الذي أذكِّرها به فهو أن تنصلها من السياسة أن تمسها في أي شأن
من شؤونها هو تضييق على نفسها وحرمان لمحرريها من حرية خدمة الإسلام
والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها غير سياسة الحكومة الداخلية
والخارجية وأحزاب الأمة كالسياسة العامة والدفاع عما يصيب مسلمي مصر
وغيرهم من رزاياها ومصابها، فالإسلام دين سياسة وسيادة وتشريع يشمل جميع
شؤون البشر فلماذا يحظر رجال الدين على أنفسهم بعض ما يجب عليهم بيانه منها
مما لا يوجد في الكتب المدونة لأنه مما تجدد في هذا العصر؟ ! وإذا لم يوجد في
المجلة إلا ما هو في الكتب استغني بالكتب عنها؟
ومثل هذا قولها: إنها (لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال
الأديان بمكروه من القول) أنا لا أرضى لمجلة علمائنا أن تطعن في الأديان بالبذاء
والسفاهة كطعن المبشرين في بعض مجلاتهم وكتبهم على الإسلام ولكنها لن تستطيع
أن تقوم بالواجب من الرد على دعاة النصرانية المهاجمين للإسلام في مصر
وغيرها مع تجنب كل ما يكرهونه من قول، والله تعالى يقول: {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم
مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ} (التوبة: 12) الآية، فإذا
كان العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان،
ومجادلتهم بالتي هي أحسن وإن كرهوها، وأما تعليله لذلك فهو غير مسلَّم من
وجهين:
(أحدهما) أن هذا الذي تخشاه من الفتن والتفرقة في الوطن غير مخشي
في مصر التي اعتادت الحرية وسماع المناقشات الخارجة عن قانون الأدب فكيف
يخشى ذلك من مجلة تلتزم فيها أكمل الأدب؟ ! .
(ثانيهما) أن هذه المجلة تجب أن تكون للإسلام ولجميع الأوطان الإسلامية
لا لمصر وحدها.
__________
(1) قد سبق إلى إنشاء مجلة دينية بهذا الاسم المرحوم الشيخ أمين أبو يوسف المحامي.(31/155)
ربيع الآخر - 1349هـ
سبتمبر - 1930م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من جاوة
(س24-26) من صاحب الإمضاء.
الحمد لله وحده.
إلى مدير مجلة المنار الغراء السيد محمد رشيد رضا أدام الله سلامته.
سلامًا واحترامًا. وبعد:
فبما سمعنا بفضلكم وغيرتكم على الدين الإسلامي حتى إنكم خصصتم فصلاً
من فصول مجلتكم لإقناع المستفهمين - حررت هذه الأسئلة الثلاثة راجيًا من
حضرتكم أن تجيبوني عليهن ولكم عني وعن الإسلام أحسن جزاء، ولتمام النفع
أختار أن ينشرن على صفحات مجلتكم. وهذه هي:
(1) ما حكم عبيد حضرموت هل هم عبيد حقيقيون أي تمشي عليهم أحكام
العبيد في الإسلام؟ ، مع العلم أن العبيد في الشريعة هم أسرى الكفار لا غير.
والذين نحن بصددهم خلاف ذلك، ولا أخالكم تجهلون الطريقة في استعبادهم.
(2) ما حكم الدعاء بعد صلاة التراويح والوتر؟ وهل ورد عنه صلى الله
عليه وسلم أو عن أحد صحابته رضوان الله عليه فعل ذلك؟ وما هي سننه صلى
الله عليه وسلم فيها (التراويح) ، أجيبوا بإيضاح.
(3) ما حكم شرب الدخان (السجارة) في نهار رمضان، هل هو من
مفطرات الصائم، وما الدليل الواضح في ذلك؟ ، أجيبونا مأجورين ودمتم في حرز
الله والسلام.
... ... ... ... ... ... ... سعيفكم في الإصلاح
... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن عبد الله بن نبهان
... ... ... ... ... ... ... ... بانفيل (جاوة)
(جواب المنار)
(24) حكم عبيد حضرموت:
الحق أنني ليس عندي علم خاص بطريقة استعباد الناس في حضرموت، وقد
بينت في المنار من قبل أن المعروف من طرق الاسترقاق للسودانيين في إفريقية
وللبيض في بلاد القوقاس وغيرها كله غير شرعي؛ فإن الرق الشرعي المعروف لا
مجال له في تلك البلاد ولا في حضرموت قطعًا، فليس هناك حرب دينية ولا إمام
يسترق السبايا إذا وجد ذلك من المصلحة العامة، وإنما قد يتصوّر على بُعد أن
يوجد رقيق موروث بالتوالد؛ فإن كان يوجد عند المستعبِدين لهؤلاء الأحرار - فيما
نعتقد - حجة على استرقاقهم لا نعلمها أو رقيق موروث فليبينوا ذلك لنا لرفع التهم
الكثيرة عنهم.
***
(25) صلاة التراويح والوتر والدعاء بعدهما:
المراد بصلاة التراويح صلاة الليل بالجماعة في رمضان خاصة، وصلاة
الليل مشروعة في كل الشهور، وهي تتأكد في رمضان كسائر الطاعات فيه لفضله،
ولصلاتها بالجماعة أصل في السنة؛ ففي حديث عائشة المتفق عليه أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلَّى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلما أصبح قال: (رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا
أني خشيت أن تفترض عليكم) وذلك في رمضان. اهـ. وفيه رواية أخرى
مفصلة عند الإمام أحمد، وحديث بمعناه عن جبير بن مطعم عن أحمد
وأصحاب السنن الأربعة.
أما عدد الركعات التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في ليالي
رمضان فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه ما كان يزيد في رمضان
ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة. وفي صحيح ابن حبان من حديث جابر رضي
الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثماني ركعات ثم أوتر. فعلم أن تهجده
ثمانٍ ووتره ثلاث فتلك إحدى عشرة.
وأما اجتماع الناس لهذه الصلاة جماعة في المساجد فقد كان في عهد عمر
رضي الله عنه، فإنه دخل المسجد فرأى الناس أوزاعًا متفرقين هذا يصلي وحده وهذا
برهط يؤمهم، فكره تفرقهم - وهو مكروه بالإجماع - فقال: إني أرى لو جمعت
هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ولما رآهم
في ليلة أخرى يصلون جماعة واحدة قال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها
أفضل من التي يقومون بها. رواه البخاري. ويعني عمر أن صلاة التهجد في آخر
الليل التي ينام عنها هؤلاء أفضل من هذه الصلاة التي يصلونها في أوله لأنها هي
المراد بالتهجد الموافق للسنة بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مفروضًا
عليه صلى الله عليه وسلم. ومراده بتسميتها بدعة أنها بهذا الشكل والوقت والالتزام
لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها وإن كان صلاها جماعة في بعض
الليالي. ولعل عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه لو نهاهم عن فعلها بهذه الصفة
وأمرهم أن يجعلوا قيامهم بعد النوم لمن ينام، وفي جوف الليل أو آخره لمن لم يَنَمْ
وأن يكون في بيوتهم وهو الموافق للسُّنَّة المطّردة من كل وجه - أنهم يتركونها، فإن
لم يتركوها كلهم كسلاً تركها بعضهم ونام عنها آخرون، فتعارض عنده هذا الذي
قال إنه خير مما جمعهم عليه مع ترك هذه السنة المؤكدة ولو من البعض، أو فعلها
في المسجد مع التفرق المذموم في الشرع كما رآهم أول مرة، فاختار ما هو وسط
بين المكروه - وهو التفرق - وبين الأفضل.
وأما الدعاء بعدها أو بعد غيرها من الصلوات كما يفعل الناس في المساجد
بالاجتماع ورفع الأيدي ورفع الإمام أو المؤذن صوته به وتأمين الآخرين فهو بدعة
من هذه الوجوه كلها، ولكل أحد أن يدعو الله بما يشاء بعد الصلاة كسائر الأوقات
ولكن تخصيص العبادة بالاجتماع والصفة والوقت يجعلها من الشعائر التي تتوقف
على إذن الشارع. وليس لأحد أن يبتدع مثل هذا بالقياس على فعل عمر؛ فإن
عمر لم يبتدع عبادة جديدة ولا هيئة فيها ولا شعارًا لا أصل له، فإن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى بالناس جماعة في بعض ليالي رمضان. ولكن الناس ابتدعوا
بعده في هذا القيام، فمنعهم عمر وكان ما حملهم عليه اجتهادًا بترجيح أقوى
العملين المتعارضين على الآخر، والاجتماع للدعاء ليس مثله إن صح أن يقاس
على الاجتهاد، ثم إن عمر من الخلفاء الراشدين الذين جعل النبي صلى الله عليه
وسلم سنتهم كسنته في حديث العِرْباض بن سارية إذ يقول: (فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم، ومحدثات الأمور فإن كل
بدعة ضلالة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وهو صريح
في أن سنة الخلفاء الراشدين كسنته لا تعد بدعة، وناهيك بما وافق عمر عليه
الصحابةُ رضي الله عنهم وأقروه.
وقد روى أحمد والترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي
صلى الله عليه وسلم جلوسا فقال: (إني لا أدري ما قَدْر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من
بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم به
ابن مسعود فصدقوه) .
ومع هذا نرى الأئمة قد اختلفوا في الأفضل في قيام رمضان فقال مالك وأبو
يوسف وبعض الشافعية: الأفضل فعلها فُرادى في البيت. وذهب الجمهور إلى أن
الأفضل صلاتها جماعة عملاً باجتهاد عمر الذي أقره عليه الصحابة وجرى عليه
العمل سلفًا وخلفًا.
ولا يعد عمل المتأخرين بالاجتماع للدعاء بعد صلاة التراويح ولا ما يفعله بعض
الجماعات من الأناشيد والأذكار ومدح الخلفاء الراشدين وغيرهم من أهل البيت
والصحابة رضي الله عنهم - من ذلك، بل هو من بدع المتأخرين المقلدين،
والذي يظهر لي أن هذه البدع مانعة من كون حضورها والموافقة عليها
أفضل من صلاتها فرادى في البيت أو جماعة في أي مكان آخر مع التزام السنة.
وأن بعض المحافظين على السنة من إخواننا يصلونها جماعة ولا يزيدون على ما
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة المتقدم ولا يأتون معها ولا بعدها
ببدعة قط.
وقد ذكر العلامة الشاطبي في (الاعتصام) ما يأتيه الناس من الأذكار والدعاء
في أدبار صلاة الجماعات في قسم البدعة التي عبر عنها بالإضافية، وهي ما كان
الابتداع في صفتها أو الاجتماع لها ونحو ذلك لا في أصلها. وذكر خلاف علماء
بلادهم الأندلس فيها، وما حققه من كونها بدعة دينية غير جائزة شرعًا هو الحق،
وشبهة الدين استحسنوها ضعيفة وهي أن أصل الذكر والدعاء مشروع فلا يضر
جعله بصفة غير مشروعة كالاجتماع والتوقيت ورفع الصوت. وحسبك من بطلانها
الاعتراف بأن صفتها غير مشروعة، وأن العمل بها وإقرارها يجعلها كالشعائر
المشروعة، وأن العامة تعتقد به أنها مشروعة حتى أنهم ينكرون على تاركها ولا
سيما إذا أنكر مشروعيتها؛ فيكون ذلك اعتقاد شرع لم يأذن به الله، ويعد من
الافتراء على الله.
***
(26) شرب الدخان في رمضان
ما علمت أن أحدًا من فقهاء المسلمين قال: إن شرب هذا الدخان غير مفطر
للصائم؛ ولذلك أستغرب هذا السؤال، ولا شك في أن مادة هذا الدخان تدخل في
الجوف وأنها تؤثر في شاربه تأثيرًا ينافي الصيام وحكمته، ولذلك اتفق جميع الناس
على تسمية التدخين شربًا، فشرب الدخان مبطل للصيام قطعًا.
__________(31/189)
الكاتب: أحمد محمد شاكر
__________
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرآن الحكيم
تقريظ العالم العامل والقاضي الفاضل
خادم السنة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر
القرآن كتاب الله إلى خلقه، يرسم لهم فيه طريق الهدى والسعادة، أو هو كما
وصفه به سبحانه وتعالى {بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه} (إبراهيم: 52) ونِعم
البلاغ.
نزل هذا الكتاب المقدس في أمة كانت تتقاذفها الأهواء والعصبية، وتعمها
الجهالة العمياء، فما أسرع ما وضعهم على المحجة الواضحة والطريق السوي،
فصاروا أمة على قلب رجل واحد، كلمتهم واحدة، وهم يد على مَن سواهم. وبعد
أن كانوا مستضعَفين يخافون جيرانهم من الفرس والروم وغيرهم، ولا يحميهم منهم
إلا بَيْداؤهم المحرقة - غزوا أعداءهم وفتحوا بلادهم واستنزلوهم عن ملكهم،
فصاروا سادة الأرض، كل هذا في بضع عشرات من السنين، وكل هذا بهداية الله
لهم أن تَبِعُوا أوامره واستمعوا لكلامه.
ثم هذا القرآن أعلى أنواع التشريع في الأرض، وأرقى ضروب الحكمة،
فلما اهتدوا به ومرنت نفوسهم وعقولهم على حكمته - كانوا سادة بعقولهم وقلوبهم،
قبل أن يكونوا سادة بقوتهم وأَنَفَتهم وجمع كلمتهم.
وهو الذي قرر حقوق الإنسان في الأرض، من عدل وحرية ومساواة بين
الناس، لا فضل لأحد على أحد إلا باتباعه في خاصة نفسه وفي معاملاته مع غيره
وفي كل حالاته.
ثم مرت عصور وأزمان، وإذا المسلمون متفرقون، وإذا هم مستعبَدون،
وإذا لهم قوانين وتشريع أخذوه عن أعدائهم السابقين، وإذا هم لا يخجلون أن يقلدوا
مَن كانوا في الحضيض، إذ هم في الذروة، وإذا هم يهجرون القرآن.
ولقد صدق الله سبحانه حين أخبرنا - تحذيرًا لنا من أن نُعرِض عن كتابه بأن
الرسول الأعظم سيد الخلق عليه السلام سيشكونا إلى ربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ
إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) .
تالله لو أن المسلمين رجعوا إلى هداية ربهم وعملوا بكتابه وسنة نبيه صلى
الله عليه وسلم، إذ أمره ربه بتبيين الكتاب لهم - لما كانوا على ما نرى من ضعف
واستكانة وذلة، ولما امتلأت قلوبهم رهبة لأعدائهم، ونفوسهم حاجة إليهم.
أخذ الصدر الأول والسلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويعلمونه
للناس، ويرجعون إليه فيما يعرض لهم من شؤون وحوادث، لا يرضون حكمًا في
دينهم ودنياهم إلا ما دل عليه القرآن أو جاء عن السنة المطهرة المفسِّرة له، نزولاً
على حكم الله، فكان علماؤهم جميعًا عن هذا المصدر الواضح النقي يصدرون،
وكانوا كلهم بهذا مجتهدين.
ثم ضعفت النفوس والهمم، فظن بعضهم - عفا الله عنهم - أنهم يعجزون عن
أخذ الأحكام من مصدرها الأول ومن منبعها الصحيح، فصار بعض العلماء يقلد مَن
سبقه من أئمة الهدى وأعلام الإسلام، عن غير أمر منهم أو مشورة، بل مع
نهيهم - رضي الله عنهم - عن التقليد.
فكان هذا بدء الضعف، ثم توالت العصور، فإذا المقلد مقلَّد، وإذا الأمر
فوضى، وإذا هم فرق وشيع، وبلغ بهم الأمر إلى التناحر بالسيوف نصرًا لعصبية
المذاهب!
وأمامك تاريخ المسلمين، فسترى فيه توالي الأرزاء والمحن، فكلما بعدوا عن
كتاب ربهم أبعد الله عنهم العز والنصر، وهكذا كان ميزان رقيهم وانحطاطهم.
ولما ضعفت السليقة العربية في المتكلمين بهذه اللغة أنشأ علماء الإسلام
يفسرون لهم كتاب الله، وكلٌّ على قدر همته، فكثرت أنواع التفاسير للسلف
والخلف، متقدمين ومتأخرين، وتراجم العلماء والأئمة بين أيدينا - أو أكثرها، وقد
يندر جدًّا أن نجد منهم مَن لم يؤلف كتابًا في التفسير، فلم تُعْنَ أمة بكتابها من
الوجهة العلمية بمثل ما عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن، ولم تفرط أمة في حفظ ما
كُتب شرحًا لكتابها بمثل ما فرطنا. فأين هذه التفاسير الجليلة للأئمة المتقدمين؟ !
ذهب أكثرها حتى لم نجد تفسيرًا لرجل من الأئمة المجتهدين إلا تفسير أبي
جعفر الطبري المتوفَّى سنة 310، وما بقي بعده فهو لمؤلفين ممن سموا أنفسهم
مقلدين.
ولقد كان المتقدمون يعنون في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث
مرفوعة، وآثار موقوفة، وباستنباط أحكام الفقه منه، تعليمًا للناس كيف يفهمون
وكيف يصلون إلى الاجتهاد.
ثم ترك المتأخرون ذلك ولم يكن همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى
لها ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ.
حتى أن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم وكثيرة بين أيديهم لا يطمئن
الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها، ولا إلى استنباط حكم، بل ولا إلى الثقة
بالنقل، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة وبأحاديث موضوعة، من
غير تحرٍّ في الرواية، ولا استعمال لموهبة العقل السليم.
وبالله، لقد أدْركنا الأزهرَ - وهو المدرسة الإسلامية الفذة في هذا البلد -
يجعل التفسير علمًا لا يُؤْبَه له، وآية ذلك أنهم كانوا يجيزون الطالب بشهادة
(العالِمية) وإن كان لا يفقه في التفسير شيئًا - ما عرف كيف ينبغ في المماحكات
اللفظية.
ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته، وعلمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ
الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي
كتابها، ودلها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره، وكان منارًا يُهتدى به في هذه
السبيل، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير، وكان - فيما أظن - يرمي
بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك، فينهجوا نهجه، ويسيروا على رسمه،
ولكنهم لم يأبهوا له إلا قليلاً، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ، وبقي دهماؤهم
على ما كانوا عليه.
ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد
محمد رشيد رضا صاحب (المنار) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها
وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، وجمعها في أجزاء على أجزاء
القرآن الكريم، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم من
روحه، لم يكل ولم يضعف، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة، وكثيرًا من
العاشر.
فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنه
هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح
الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على
كثير من العلماء والمفسرين.
ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا
متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي
الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها -
ما جعله حجة وثقة في هذا المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه.
ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله
فيها، وأرشد إلى الموعظة بها. وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها. وأعلن
حجة الله على الناس.
فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن
اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما
يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة
العالية، والقوة النادرة. لله دره!
وأما الرد على النصارى واليهود فإنه قد بلغ فيه الغاية، وكأنه لم يترك بعده
قولاً لقائل، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم. وهذا قيام بواجب
قصَّر فيه أكثر المسلمين، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا
صليبية - قولاً وعملاً - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها،
وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة
للإسلام، وهي أمة البربر المجيدة. وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من
أجلِّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين.
ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في
شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلاً دقيقًا
وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن
الإسلام دين الفطرة، وأنه دين كل أمة في كل عصر. ونفى عن الإسلام كثيرًا مما
ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من
أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة
ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم.
وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد.
بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين.
وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه
من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن
يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها
بالجهالات المتكررة.
ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها
ومعاهدها حق الدرس، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً، بل لا تدفع عنه مَن أراد
به عدوانًا، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة.
فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه،
وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه، وهم عماد الأمم.
ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم
يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث
فيها، وذلك بحول الله وقوته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي
__________(31/193)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آفة الشرق
أمراؤه المستبدون
وزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون!
(خاتمة المقصد الثالث من الباب الخامس من تاريخ الأستاذ الإمام)
نختم الكلام في خدمة الإمامين الحكيمين للإسلام والشرق فيما فاضت به حكمة
الأول على بلاغة الثاني في جريدة العروة الوثقى بهذه الحقيقة التي وضعنا لها هذا
العنوان، فلقد كان الناس غافلين عنها فبينَّاها لهم أبلغ البيان، وشر مفاسد هؤلاء
الأمراء والزعماء في هذا العصر غرورهم بالأجانب الطامعين في بلادهم، ولو
عقلوها لتمكنت حقيقتها من عقولهم، ولو فقهوها لرسخت عبرتها في قلوبهم ولمَا
تكررت في مشرق العالم الإسلامي ومغربه تلك الرزايا التي انتزعت ممالكهم من
أيديهم، ومن العجائب أنها لا تزال تتجدد، ولا يزال مدَّعو الإيمان يُلدغون من
الجُحر الواحد مرارًا كثيرة. وقد قال رسولهم فيما صح عنه: (لا يلدغ المؤمن من
جُحر واحد مرتين) رواه البخاري ومسلم.
فلا عجب إذًا فيما يصدر عن ملاحدة المسلمين الذين لا حظّ لهم من حكمة
الإسلام وهدايته الصادّتين عن هذا الفساد، ورضاهم بأن يكونوا أعوانًا للأجانب
على استعمار البلاد، وهذا ما لا نزال نشاهده في كل عام {أَو َلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
طرقت العروة كل باب من أبواب هذا الموضوع ففُتح لها ودخلت منه فلم تدَع
في زواياه خبيئة إلا واستخرجِها. أنشأت له مقالات خاصة، وجعلته مضرب
الأمثال في المقالات العامة. وقد ورد فيما أثبتنا من الشواهد بعض هذه المُثل
والإشارة إلى بعض تلك المقالات، ونأتي في هذه الخاتمة بشواهد ومثل أخرى وهي:
المثال الأول
استيلاء الإنكليز على ممالك
الهند بمساعدة أمرائها
(قال من مقالة افتتح بها العدد الثامن من العروة الوثقى موضوعها: طرد
الإنكليز للجيش المصري وتأليف جيش صغير تولوا قيادته) :
دمر الإنكليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم، وانبثوا بينهم،
فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء، وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال،
والانفصال عن السلطة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا
كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه، فصارت الأراضي الهندية الواسعة
ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى النقود والجنود ليدافع بها عن حقه،
أو يتغلب بها على عدوه، فعند ذلك تقدم الإنكليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا
أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين، وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببُدر الذهب،
وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب. بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك
الصغار من عساكرهم الأهلية، ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاختلال، ثم
أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإنكليزية وقوادها، وما هم عليه من القوة والبسالة
والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأن لا ناصر له على مغالِبه إلا بالجنود
الإنكليزية.
فأقبل الانكليز على أولئك السذج يضمنون لكلٍّ صيانة ملكه وفوزه بالتغلب
على غيره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الإنكليز، ويكون بعض الجنود من
الهنديين، وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها.
ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم حتى
أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر لتدفع شر
بعضهم عن بعض. وصار الإنكليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من
تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها، ففرقة سموها
(عمرية) وأخرى سموها (جعفرية) وغيرها سموها (كشتية) إرضاءً لأهل السنة
والشيعة والوثنيين!
ولما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية فتح
الإنكليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض، وأظهروا غاية السماحة،
فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة، وبعضهم بدون فائدة، وينتظرون به الميسرة، حتى
ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء. وبعد مضي زمان كانوا يُومِئون
إلى طلب ديونهم بغاية الرفق، ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية
اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا: إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات
الجنود يصعب عليكم، ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من
الأرض نستغلها ونستوفي من ديوننا، وننفق من غلاتها على الجيوش التي أقمناها
لكم، ثم الأرض أرضكم، نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء، وإنما نحن
خادمون لكم. فيضعون أيديهم على غضروات الأراضي وفيحائها، وفي أثناء
استغلالها يؤسسون بها قلاعًا حصينة، وحصونًا منيعة، كما يفعلون ذلك في ثكن
(أي أماكن إقامة العساكر) عساكرهم على أبواب العواصم الهندية [1] .
وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبوابًا من الإسراف والتبذير، ويقرضونهم
ويقتضون قرضهم بالقيام على أراضٍ أخرى يضمونها إلى الأولى، ثم يحضون نار
العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتدخلون في أمر الصلح، فيجبرون أحد
المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة
من أراضيه، وهم في جميع أعمالهم موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين،
لكل من المتغالبين!
وبعد هذا فلهم شؤون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي لتضعف
قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت بعض، حتى إذا بلغ السير نهايته
واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم، وغُلَّت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكًا
ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية واقية لبلاده،
وكانت تُشحذ لجزِّ عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله، ثم خلفوه
على ملكه.
وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب المُلك، فيخلعون
المالك ويولون الطالب، على شريطة أن يقطعهم أرضًا أو يمنحهم امتيازًا،
فيحولون المُلك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه، ومن العم لابن أخيه، وفي الكل
هم الرابحون!
هذا سيرهم في الهند وهو على بعد من مراقبة أوربا. ما فاجأوا أحدًا بحرب
وما اختطفوا ملكًا بقوة مغالبة، بل ما أعلوا سيادتهم على مملكة صغيرة ولا كبيرة
إلا بعدما أيقنوا أن لا قوة لحاكمها ولا أهليها، ولا بما تطرف به أجفانهم.
أولئك الإنكليز باقعة العالم وأحبال الحيل، يريدون اليوم طرد العساكر
المصرية، وأرض مصر لا تحرسها الملائكة، فلا تستغني عن حامية، فإن تم لهم
ما أرادوا زينوا لبعض ذوي السلطة في مصر أن يطلب منهم جندًا إنكليزيًّا يكون
خادمًا له وحافظًا لملكه، فإن لم يقبل داروا بحيلتهم تحت أستار التمويه على كل مَن
له حق في الولاية على تلك البلاد يعرضونها عليه، حتى يعثروا بمن يقبل نصحهم
أو غشهم ذهولاً عن حقيقة القصد، فيقيمونه حاكمًا خلفًا لمن لم تسمح ذمته بالقبول،
وتكون رغبة المغرور حجة لهم عند أوربا.
هذا سر انقلاب الإنكليز على الجند الوطني وقدحهم في سيرته بعد الثناء
على حسن استعداده، وسعيهم إلى طرده بالأدلة الواهية، والعلل الواهنة.
***
المثال الثاني
استعباد الأجانب للأمم بقوة رؤسائها [*]
إن في ذلك لعبرةً لأُولي الأبصار
كيف يمكن لقوة أجنبية تصول على أمة من الأمم أن تسود عليها، وتستعبدها
وتذللها للعمل في منافعها، مع التخالف في الطباع والعوائد والأفكار ووجود المقاومة
الطبيعية، فضلاً عن الإرادية؟
إن الوحشة المتمكنة في نفس كل واحد من الأمة، وظن كل فرد أنه في خطر
على روحه وماله إذا غلبه الغالبون - تحمله على المدافعة عن أمته، كما يدافع
عن بيته وحريمه، فلا يتسنى للقوة المغيرة أن تذل الأمة إلا بإفنائها عن آخرها،
أو إفناء الأغلب حتى لا يبقى إلا العجزة والزمنَى، هذا أمر طبيعي وحكم بديهي
متى كانت الغارة على الأمة.
نعم، يسهل للقوة الأجنبية أن تتغلب على أمة عظيمة بدون تناحر إن كان لهذه
الأمة حاكم أو رئيس روحاني تجتمع عليه قلوبها، وتدين له رقابها لمنزلة له في
أفئدة أبنائها، ولمكان آبائه من الكرامة في نفوسهم، فلا تحتاج القوة الغالبة إلا إلى
إيقاع الرعب في قلبه، فيجبن ويقبل ما تحكم به، أو نصب حبالة الحيل له فتخدعه
بالأماني والآمال فيذعن لما تقضي به، فإذا خضع للقوة الغريبة خضعت الأمة تبعًا
له؛ ولهذا ترى طلاب الفتح وبغاة الغلب ينصبُّون قبل سوق الجيوش وقود الجنود
على قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها، فيخلعونها
بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني فينالون بُغيتهم ويأخذون
أراضي الأمم.
وهذا الطريق هو الذي سلكه الإنكليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا
ما كان للهنديين من عقدة الارتباط بسلطانهم التيموري وقبض الإنكليز أول الأمر
على تلك العقدة لما تيسر للبريطانيين أن يُخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة.
هذه قبائل الأفغان عندما انحلَّت ثقتها بأميرها وصار الأمر إلى الأمة - قامت
كل عشيرة - بل كل فرد - للدفاع عن نفسه بعدما تمكنت عساكر الإنكليز في قلاعهم
وحصونهم، واستولت على قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنكليزية وهزموا قوتها
وأجلوها عن بلادهم، وهي ستون ألفًا من الجيوش المنتظمة مسلحة بالأسلحة
الجديدة، واضطر الإنكليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها.
لا ريب أنه يسهل على الإنسان أن يأخذ شخصًا واحدًا أو أشخاصًا محصورين
بالترغيب والتهديد، ويتيسر له أن يقف على طباعهم، ويدخل عليهم من مواقع
أهوائهم، ويأتيهم من أبوب رغائبهم، لكن يتعسر - بل يتعذر - عليه أن يأخذ
أمة بتمامها، وعقولها مختلفة عليه، ونفوسها في وحشة منه، اللهم إلا بالإبادة
والتدمير.
من هذا تجد الملوك العظام لا يرهبون الاشتباك في حرب مع أقتالهم [2] بل
ومَن هو أشد منهم قوة، ولكنهم يَفْرَقون [3] بل تذهب أفئدتهم هواءً إذا أحسوا بميل
الأمة عنهم، وما هذا إلا لأن قوة المغالبين داخلة تحت الضبط، وأما آحاد الأمم
وقواها فلا تضبط ولا تستطاع مقاومتها، إذا تعاصت وشحت بنفسها عن الذل
لسواها.
إن الأمراء كما يكونون في دور من أدوار الأمة قوى فعالة لنموها وعلوها
وعظمها واشتداد عضدها، كذلك يكونون في بعض أطوارها علة فاعلة في سقوطها
وهبوطها وانحلالها، وإنا نخاف - ولا حول ولا قوة إلا بالله - أن يكون أمراؤنا
والأعلَوْن منا آلة في اضمحلالنا وفنائنا، لما غلب عليهم من الترف والانهماك في
اللذائذ والانكباب على الشهوات، مع سقوط الهمة وتغلُّب الجبن والحرص والطمع
على طباعهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.
***
المثال الثالث
رأي (العروة الوثقى) في معاقبة الأمم للأمراء
والرؤساء الذين يكونون أعوانًا للأجنبي عليها
(قال في آخر مقالة وجيزة موضوعها الأمة وسلطة الحاكم المستبد، وصف
فيها حال الأمة مع الحاكم المستبد المصلح الحكيم، وحالها مع المستبد الجاهل
الأحمق المتبع للهوى، ما نصه:
عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله
بها خيرًا اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه
الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها، قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة
القاتلة بين جميع الأمة فتميتها، وينقطع الأمل من العلاج، وبادروا إلى قطع هذا
العضو المجذوم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة
طيبة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وجددوا لهم بنيةً
صحيحة سالمة من الآفات؛ استبدلوا الخبيث بالطيب.
وإن انحطَّت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم
يصرفها كيف يشاء، فأنذرها بمضض العبودية، وعناء الذلة ووصمة العار بين
الأمم، جزاء على ما فرطوا في أمورهم. {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت:
46) . اهـ.
(المؤلف)
خلاصة هذا الإرشاد أن الأمم لا تُرجَى لها سيادة ولا سعادة ولا حرية ولا
استقلال إلا إذا عرفت نفسها، وجمعت كلمتها، وكان أمرها بيدها، ومَن خانها أو
أساء إليها عاقبته، ويجب عليها ألا تولي شيئًا من أعمالها لأحد من المفتونين بحب
الرياسة على قاعدة الإسلام: طالب الولاية لا يولَّى [4] ، وقال الخليفة الأول -
رضي الله عنه - في أول خطبة خطبها بعد مبايعته: (وُليت عليكم ولست بخيركم
فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) .
كانت هذه الحقائق مجهولة عند قراء العربية قبل بيان العروة الوثقى لها
بأفصح العبارات وأقواها تأثيرًا، ثم رأوا مصداقها في مصر وتونس، ثم في
المغرب الأقصى، ثم في البلاد العربية الآسيوية، فآفة الشعوب الجاهلة المتفرقة
أمراؤها ورؤساؤها وزعماؤها، ويليهم مَن دونهم من المتفرنجين الذين يتخذ منهم
الأجنبي السالب لاستقلالها صغار العمال لكل ما يحتاج إليه من عمل في إدارة
حكومتها، مما لا يليق بالأجنبي أو لا يوجد في أفراده من يكفي للقيام به، ومن
قواعد سياسة الأجانب أنهم لا يستخدمون في حكومة البلاد التي ترزأ بسيطرتهم
عليها إلا من يعلمون بالاختبار الدقيق أنه مخلص لهم ولو في خيانة بلاده! وقد
سبق في العروة الوثقى أن الإنكليز لو وجدوا في بلاد الأفغان عندما دخلوها
محاربين واحتلوا عاصمتها (كابُل) أمثال هؤلاء الرجال الذين يعرفون لغتهم، وقد
فتنوا ببهرج مدنيتهم - لما خرجوا أو يخرجوا من الهند، ولكنهم وجدوهم وغيرهم
في بلاد أخرى من أبناء البلاد ولا يزالون يجدون مَن لولاهم لم يستقر لهم قدم، ولم
يرفع لهم علم، وأين مَن يعقل ويفهم؟ !
__________
(*) مقالة نشرت في العدد العاشر من العروة الوثقى بعنوان الآية.
(1) وكذا يفعلون الآن في البلاد العربية التي يريدون أن تكون هندًا ثانية.
(2) أي أمثالهم.
(3) يفرقون: يخافون، فهو كـ (يرهبون) وزنًا ومعنى.
(4) روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث أبي بريدة عن أبي موسى - رضي الله عنهما - أن رجلين من قومه (الأشعريين) سألا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمِّرهما فقال: (إنا لا نولي هذا الأمر مَن سأله ولا من حرص عليه) ، هذا لفظ البخاري في كتاب الأحكام وله في استتابة المرتدين أنه قال: (لا نستعمل على عملنا مَن أراده) .(31/198)
الكاتب: عبد الحميد سعيد
__________
نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعًا [*]
وإلى علماء الحرمين الشريفين، ورجال المعاهد الإسلامية من أعلام الأزهر
وملحقاته في المملكة الإسلامية، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في
فاس، ومعهد ديوبند في الهند، ومعهد النجف في العراق، وإلى الجمعيات
الإسلامية في أنحاء الأرض، ولا سيما جمعيات الهند: جمعيات الخلافة في بومباي،
وجمعية العلماء في دهلي، وجمعية أهل الحديث في دهلي. وجمعيات إندونيسيا:
اتحاد الإسلام في سومطرا، وشركة إسلام في جاوة، والجمعية المحمدية في
جكجاكرتا وإلى المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، والمجلس الإسلامي في
بيروت، وإلى جمعية ترقِّي الإسلام في الصين، وإلى الصحف الشرقية على
اختلاف لغاتها ولهجاتها:
إن أمة البربر التي استهدت بالإسلام منذ العصر الأول، والتي طالما اعتمد
عليها الإسلام في فتوحه وانتشاره، وطالما استند إليها مستنجدًا أو مدافعًا في خطوبه
العظمى.
هذه الأمة التي سارت مع طارق إلى أسبانيا، ثم مع عبد الرحمن الغافقي إلى
فرنسا، ومع أسد بن الفرات إلى صقلية.
هذه الأمة التي كانت منها دولتا المرابطين والموحدين، فكانت لها في تاريخ
الإسلام أيام غراء مجيدة.
هذه الأمة التي ظهر منها العلماء الأعلام، والقادة العظام، والتي لرجالها في
المكتبة الإسلامية المؤلَّفات الخالدة إلى يوم الدين.
هذه الأمة التي تبلغ في المغرب الأقصى وحده أكثر من سبعة ملايين نسمة [1]
تريد دولة فرنسا الآن إخراجها برمتها من حظيرة الإسلام بنظام غريب تقوم به
سلطة عسكرية قاهرة ممتهنة به حرية الوجدان، ومعتدية على قدسية الإيمان، بما
لم يعهد له نظير في التاريخ.
لقد وردت على مصر كتب من الثقات في المغرب الأقصى تذكر أن فرنسا قد
استصدرت ظهيرًا سلطانيًّا تاريخه 17 ذي الحجة سنة 1348 (16 مايو سنة
1930) ونشرته الجريدة الرسمية في المغرب بعددها رقم 919 تنازل فيه سلطان
المغرب لها عن الإشراف على الأمور الدينية لأمة البربر، وإن فرنسا قد بدأت
بالفعل في تنفيذ ذلك الظهير، فقامت السلطة العسكرية في المغرب الأقصى تحُول
بين ثلاثة أرباع السكان وبين القرآن الذي كانت به حياتهم مدة ثلاثة عشر قرنًا،
فأبطلوا المدارس القرآنية ووضعوا قلوب أطفال هذه الملايين وعقولهم في أيدي أكثر
من ألف مبشر كاثوليكي بين رهبان وراهبات، يديرون مدارس تبشيرية للبنين
والبنات. وأقفلوا جميع المحاكم الشرعية التي كانت في تلك الديار، وأجبروا هذه
الملايين من المسلمين على أن يتحاكموا في أنكحتهم ومواريثهم وسائر أحوالهم
الشخصية إلى قانون جديد سنّوه لهم، أخذوه من عادات البربر التي كانت لهم في
جاهليتهم، وهي عادات لا تتفق مع الحضارة ولا تلائم مستوى الإنسانية، وحسبنا
مثالاً على انحطاطها وقبحها أنها تعتبر الزوجة متاعًا يعار ويباع، وتورث ولا
ترث. وأنها تجيز للرجل أن يتزوج ما شاء كيف شاء ولو أخته فمن عداها في عقد
واحد، وأن قانونًا كهذا القانون يسن للمسلمين مخالفًا للإسلام يعد مَن رضي به
مرتدًّا عن الإسلام بإجماع علماء المسلمين.
إن فرنسا التي تبث الدعاية في أمم الأرض بأنها أمة الحرية قد أجبرت رجال
حكومة المغرب المسلمين على أن يتركوا دينهم بتنازلهم عما للسلطان من الحق في
إقامة أحكام الشرع الإسلامي بين رعاياه من قبائل البربر وجماهيرهم، والاعتراف
لحكومة الحماية الفرنسية بأنها صارت صاحبة التصرف في دينهم وأمورهم
التشريعية والتهذيبية، وهو ما لا تملك الحكومة الحق في التنازل عنه. ومنذ
استصدر الفرنسيون ظهيرًا (مرسومًا) من سلطان المغرب بهذا التنازل اعتبروا
جميع المدارس القرآنية ملغاة، وجميع العبادات الإسلامية معطلة، ووكلوا أمر تعليم
أطفال المسلمين إلى الرهبان توطئة لتنصير هذه الأمة عقيدة وعبادة وعملاً، وحالوا
بين جميع مناطق البربر وبين علماء المسلمين ورؤسائهم فلا يتصل بها أحد منهم.
أيها المسلمون: قد أجمع علماؤكم من جميع المذاهب على أن مَن رضي بارتداد
مسلم عن دينه يكون مرتدًّا برضاه عن ذلك، فيجب على جماعات المسلمين وطوائفهم
وجمعياتهم وأفرادهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على هذا العمل المنكر الفظيع،
بكل ما في وسعهم، كُلٌُّ بحسب ما يليق به، فإذا لم ينفع الاحتجاج فكر المسلمون في
الوسائل المجدية. وإن في وسعكم - أيها المسلمون - أن تجبروا دولة فرنسا على
احترام إسلام هذا الشعب الكبير وتركه يتمتع بحريته الدينية والوجدانية؛ لأن حرية
الدين والوجدان حق من حقوق الإنسان يجب على الإنسانية حمايته من عبث
العابثين، واعتداء المعتدين.
لقد سلكت دولة فرنسا مع إخواننا مسلمي المغرب سبيلاً غير سبيل الرفق
والنصح، فجردتهم من وسائل النهوض، وحالت بينهم وبين التعليم الصحيح،
وأنفقت أموال أوقافهم الإسلامية ضد ما وقفت له، واختصتهم بشر النصيبين من
كل ما تتصل به مصالح الوطنيين والأجانب. وإن في المسلمين من كان يعرف هذا
ويتغاضى عنه إلى حين، رجاء أن يجعل الله لأهل المغرب فرجًا من عنده. ولكن
امتداد يد السلطة القاهرة في المغرب إلى دين الإسلام، واعتداءاتها على حرية
العقيدة والعبادة، قد أوصل هذا العدوان إلى الحد الذي ليس بعده حد، فحق على كل
مسلم أن يبادر إلى إنكار هذا المنكر بكل وسيلة يستطيعها.
يجب أن تعلم فرنسا أن الإسلام لم يمت، وأن المسلمين قد استيقظوا، وصار
بعضهم يشعر بما يصيب البعض الآخر من اضطهاد في دينه ودنياه، وأن بناء
مسجد في باريس يؤخذ باسمه ملايين الفرنكات من أوقاف الحرمين الشريفين
وملايين أخرى من الإعانات الجبرية من جميع مسلمي إفريقية مع إعانات أخرى
من سائر العالم الإسلامي - لا يمكن لفرنسة أن تجعله حجة على حرية الإسلام
ومودة المسلمين في مملكتها - التي تسميها أحيانًا إسلامية - مع هذا الجرم الفظيع
الذي شرعت فيه أخيرًا وظنت أنها تنزع به بضعة ملايين من حظيرة الإسلام بنظام
تنفذه قوة عسكرية قاهرة.
إن فرنسة إذا لم ترجع عن هذه الجريمة فإن العالم الإسلامي يعتبر ذلك
مجاهرة منها بعداوته، وسيعلن ذلك على منابر المساجد، وعلى صفحات المجلات
والجرائد، وفي حلقات الدروس الدينية، وفي نظم الجمعيات الإسلامية.
لقد حان حين امتحان أحرار أوربة فيما يدَّعونه من الانتصار لحرية العقيدة
والوجدان، حتى لقد رضوا بكثير من المنكرات التي يعترفون أنها منكرات، وذلك
حرصًا منهم على بقاء الحرية طليقة من قيودها، وإن أقدس الحريات حرية
الوجدان والاعتقاد، وأسوأ ما أصيبت به هذه الحرية في هذا العصر محاولة فرنسة
أن تحول المغرب الأقصى عن إسلامه إلى النصرانية أو ما شاءت أن تحوله إليه.
لقد سمعنا صوت أوربا - حكوماتها وشعوبها - يرتفع عاليًا باستنكار ما فعلته
روسيا البولشفية من إقفالها بعض المعابد، مع أن يد البولشفيك الحديدية امتدت إلى
الحجارة والطوب، ولم تمتد إلى النفوس والقلوب [2] ، فالعالم الإسلامي ينتظر من
أوربا التي احتجت على عمل السوفييت في الكنائس أن تقول لفرنسا كلمتها الصريحة
في عدوانها على دين الإسلام في المغرب الأقصى ومنعها سبعة ملايين من البشر
منعًا رسميًا مؤيدًا بالسياسة والجيش من أن يسكنوا إلى دينهم وأن يتصلوا بإخوانهم
المسلمين اتصالاً روحيًّا يطمئنون إليه ويرتاحون له.
فيا أيها المسلمون إن دينكم مهدد بالزوال من الأرض، فإن فرنسة إذا أمكنها
تنفيذ مشروعها هذا في المغرب فستحذو حذوها جميع دول أوربة في المشرق. وقد
وجب عليكم في هذه الحال بذل أنفسكم وأموالكم في سبيل الدفاع عن دينكم، فما
الذي يمنعكم من الدفاع عنه؟ ! والله يقول: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) ويقول: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ
إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) ويقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)
ويقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) .
... ... ... ... محمد شاكر ...
وكيل مشيخة الأزهر سابقًا
... عبد الحميد سعيد ... ... ... ... محمد رشيد رضا
الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين ... ... ... منشئ مجلة المنار
... خليل الخالدي ... ... ... ... أبو بكر يحيى باشا
رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين ... المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا
علي جلال الحسيني بك ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني
المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا ... ... من علماء الأزهر الشريف
محمود أبو العيون ... ... ... ... محمود شلتوت
من علماء الأزهر الشريف ... ... ... من علماء الأزهر الشريف
ميرزا مهدي رفيع مشكي ... ... ... محمد عبد اللطيف دراز
من علماء الأزهر الشريف ... ... من علماء الأزهر الشريف
محمود الغمراوي ... ... ... ... عبد المجيد الربيعي
من علماء الأزهر الشريف ... ... ... ... من العلماء
الدكتور يحيى أحمد الدرديري ... ... ... محب الدين الخطيب
المراقب العام لجمعية الشبان المسلمين ... ... منشيء مجلة الزهراء والفتح
صالح جودت بك المحامي ... ... ... ... طنطاوي جوهري
عبد الصمد شرف الدين الهندي الفاروقي ... محمد الههياوي
محمود يونس الأندونسي ... ... ... السيد محمد عفيفي المحامي
خريج دار العلوم
***
(المنار)
اجتمع أصحاب هذه التواقيع في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة
وبحثوا في المكتوبات التي وردت من المغرب الأقصى في شأن شعب البربر فيه
وأجمعوا على إصدار هذا النداء ووقعوه بأيديهم كما ترى، وقرروا أن تسعى إدارة
جمعية الشبان المسلمين لعرضه على بعض علماء المذاهب في الجامع الأزهر
ووجهاء المسلمين لإمضائه، وبالقيام بتبليغه لمَن هو موجَّه إليهم في العالم الإسلامي
كله - وبتأليف وفد من رئيس الجمعية والسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الإسلامي ليذهب إلى الإسكندرية ويرفعه قبل كل شيء إلى صاحب الجلالة ملك
مصر ويرجو صاحب الدولة وكيل ديوانه السامي أن يبلغ جلالته آمال واضعي
النداء في غيرته الإسلامية - وبالقيام بتبليغه إلى رئيس جمهورية فرنسة وجمعية
الأمم وبعض الصحف الأوروبية الشهيرة.
وقد شرعت الجمعية في تنفيذ ما عهد إليها؛ لأنها تعده أقدس الواجبات عليها،
فذهب الوفد إلى الإسكندرية وانضم إليه فيها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد تاج الدين
مراقب التعليم في معهد الإسكندرية الديني من قبل جمعية الشبان المسلمين فيها
فذهب الثلاثة إلى قصر رأس التين ورفعوا النداء إلى دولة رئيس الديوان الملكي
وبلغوه ما كُلفوا أن يبلغوه إياه، وكلموا معالي رئيس الأمناء ورجاله في الموضوع
أيضًا، فقابلهم جميع رجال القصر أحسن المقابلة الدالة على العناية بالموضوع.
وعرض النداء على صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ
الأزهر ليمضيه فأبى ولم يصدر نداءً ولا إنكارًا غيره! ، فاستنكر منه هذا كل مَن
عرفه من المسلمين أولي الغيرة وخاضت فيه الجرائد وكان أشد ما نُشر فيها إنكارًا
وتثريبًا عليه كتاب مفتوح بإمضاء عبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان
المسلمين، ومقالة بإمضاء مسلم نُشرت في جريدة (العلم المصري) . وإنكار جريدة
المؤيد الجديد ولا نستحسن نشر شيء من ذلك في المنار. ولكن أمضى النداء كثير
من العلماء وسائر الطبقات الراقية، وتوالت علينا وعلى جميع الصحف - ولا سيما
الإسلامية - الاحتجاجات بالطعن في الدولة الفرنسية والتحريض على عداوتها
ومقاطعتها، بعضها من الجمعيات المنظمة وبعضها من الجماعات التي اجتمعت
لأجل ذلك في مدن القطر المصري وفلسطين، وقد نشر كثير من ذلك ولا يزال
يُنشر في الجرائد اليومية؛ إذ هي التي تتسع له.
ولم يتصدَّ للدفاع عن فرنسة في هذا العمل المنكر إلا جريدة الأهرام فكذبت
الخبر وهي تعلم صدقه، وطعنت في واضعيه بدون أدب، فردت عليها الصحف
الإسلامية ردودًا شديدة، ووصفوها بالتعصب الفرنسي والمسيحي وكراهة الإسلام.
وردت عليها جمعية الشبان المسلمين ردًّا أدبيًّا لم تَرَ بُدًّا من نشره، ومما ردت به
عليها الجمعية وغيرها أن حكومة فرنسا لم تكذب الخبر وكان وزيرها المفوض
بمصر أحق بتكذيبه لو لم يكن حقًّا وعلى إثر ذلك نشرت الأهرام - ثم غيرها -
البلاغ التالي من قِبَل المفوضية الفرنسية بمصر:
مسألة قبائل البربر
بيان المفوضية الفرنسية
(بترجمة الأهرام)
ترى المفوضية الفرنساوية أن من المفيد نشر البيان التالي بناءً على ما تلقته
من طلبات الاستفهام العديدة عن موضوع نظام الأحوال الشخصية لقبائل البربر في
بلاد المغرب، ففي 16 مايو سنة 1930 أصدر سيدي محمد سلطان المغرب ظهيرًا
يجعل لبلاد البربر نظامًا مشروعًا في المشاكل القضائية.
فهذا القرار الذي يشرك السلطان وفرنسة في خدمة العدالة نحو قبائل البربر
دون مساس بعقيدتهم الدينية الإسلامية هو التتمة المنطقية لظهير سابق صادر من
المأسوف عليه السلطان مولاي يوسف بتاريخ 11 سبتمبر سنة 1914 وفيه التسليم
للبربر بنظامهم الخاص المبني على التقاليد، وعلى حقهم بأن يحتفظوا بنظامهم،
الأمر الذي لم يجادل فيه أي مسلم حتى أشد العلماء تدينًا! .
والست عشرة سنة التي مرت بين صدور الظهيرين بالدرس والتفكير أظهرت
إظهارًا كافيًا أن عمل فرنسة في المغرب لا يتطرق إليه شك بالتسرع والخفة.
والنص الجديد لا يزيد فوق ما تقدم على أن يجعل الواقع المتبع منذ القديم
أمرًا مشروعًا. فليس هناك إذن قرار تحكمي ولا ابتداع بل تقرير مشروعية حالة
موجودة ومرعية منذ أبد الدهور ومعترف بها في الظهير الصادر في سنة 1914
وذلك بالتوفيق بين هذه الحالة والضرورات الحاضرة للقضاء والإدارة.
ويتناول الظهير ثلاثة أمور:
الأول - اختصاص القانون المعترف به بين البربر والجهات الأخرى أيضًا
ضمن حدوده ذاتها.
الثاني - الاختصاص القانوني للجماعة المتبع في جميع الأعمال المدنية
والتجارية وفي الثوابت والمنقولات ونظام الإرث والأحوال الشخصية.
الثالث - إدخال قاضٍ فرنساوي بين العدول الوطنيين في المسائل الجنائية
فقط.
ولا شك بأن هذا الظهير يتفق مع أماني البربر المغاربة كما تدل الرسائل
العديدة التي وصلت إلى رباط بشكر السلطان، والسلطان لا يجد في ذلك انتقاصًا
من سلطته؛ لأن القضاء في بلاد البربر يصدر بعد اليوم باسمه والقضاة يعينون
بقرارات وزارية.
وأقوى سلاطين المغرب وأشدهم تدينًا احترموا دائمًا عادات وتقاليد البربر
المختلفة عن قواعد الشرع! فلم يكن بوسع فرنسا أن تفعل غير ذلك، لا سيما أن
المبدأ الأساسي للحماية هو عدم التدخل في المسائل الدينية.
ويجب أن يكون جميع المسلمين واثقين من الحياد الفرنساوي التام في المسائل
الدينية الصرفة، والبربر مسلمون وسيظلون مسلمين.
وقد قدمت فرنسا في الجزائر من الأدلة على احترام الحرية ما يكفي حتى لا
تتهم بأنها تعمل خفية في الغرب ما لم تعمله أبدًا في الشرق.
وفوق ما تقدم أليس تشجيعًا - وبفضل تنظيم المالية المغربية على يديها -
ترمم الآن المساجد المتهدمة والمدارس التي كانت مقفرة؟ !
***
تعليق المنار على هذا البلاغ
في هذا البلاغ ما يرى القراء من الإبهام والإيهام المعهودين في البلاغات
السياسية، وهو مع هذا يدل على صدق الأنباء التي جاءت من عدة مدائن من
المغرب الأقصى في مسألة البربر، فكانت سبب إصدار البيان العام المتقدم، وعلى
بطلان تكذيب الأهرام لها، فهو يعترف بالظهير السلطاني الذي بنت عليه فرنسة
وضع نظام مبتدع للقضاء في البربر دون سائر المسلمين، ولكنه يدعي أن هذا النظام
خدمة للعدالة يشترك فيها السلطان مع فرنسة، كأن الشريعة الإسلامية غير عادلة!
والسلطان لا يعتقد عدم عدالة الشرع، ولكنه مكره بالطبع. ودعوى البلاغ أن والد
هذا السلطان الشاب كان أصدر ظهيرًا قبل هذا في أول مدة الحرب لا تعد حجة
على حقية الظهير الثاني؛ لأن ما بُني على الباطل باطل ولو كان كل منهما
اختياريًّا، فكيف وهو غير اختياري كما لا يخفى؟ .
وأما قول سعادة الوزير: إن هذه الخدمة لا تمس عقيدة البربر الدينية، فهو
مغالطة لا تروج لها في مصر بلد العالم الإسلامي. ونختصر في ردنا عليه بأن
الأحكام القضائية إذا كانت من قسم الأعمال الإسلامية لا من قسم العقائد - فإن من
أصول العقائد الإيمان بوجوب العمل بكل ما هو منصوص في القرآن وبكل ما أجمع
عليه المسلمون منها، ومن استحل ترك العمل بنصوص القرآن القطعية يعد مرتدًّا
عن الإسلام إذا كان يعلم ذلك، ويجب على أولي الأمر من المسلمين - كسلطان
المغرب ورجال حكومته - أن يعلِّموا الجاهل لا أن يقروه على جهله بضروريات
الدين ويشرعوا له قوانين ينسخون بها قانون الشرع.
فإن كان سلطان المغرب السابق أو اللاحق (فرضًا) قد جعل تقاليد بعض بدو
البربر المخالفة لنصوص الشريعة القطعية المعلومة من الدين بالضرورة - حقًّا ثابتًا
لهم جاحدًا لتلك النصوص أو مستحلاًّ لتركها، فقد صار بذلك كافرًا مرتدًّا عن الإسلام،
وبطل حكمه وسقط سلطانه شرعًا؛ إذ الواجب عليه إرجاعهم عن تلك التقاليد
بالتعليم والإقناع، وإلا فبالقوة إن استطاع، ولعل السلطان يعذر نفسه أو يعذره
المنافقون من الحكام وعلماء السوء بأنه مكره على ذلك بقوة فرنسة المسيطرة على
بلاده لا مختار، وقد قال الله: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: 106) الآية وهو يعلم كما يعلم غيره أن فرنسة قادرة
على إخراجه من السلطنة كما أخرجت السلطان عبد الحفيظ. وهذه شبهة ولكنها
باطلة، فإن التهديد بالعزل من السلطنة ليس عذرًا يبيح لصاحبه نقض أحكام الشريعة
القطعية. فمن لا يستطيع أن يكون سلطانًا إلا بجعل نفسه آلة للكفار مساعدًا لهم على
إخراج المسلمين من دينهم أو ما دون ذلك من المعاصي - فلا يجوز له قبول السلطنة
بهذا الشرط، وقبولها لا يعد عذرًا كعذر من هُدد بالقتل على قول كلمة الكفر بلسانه
دون قلبه حتى ينجو من مهدِّده كما وقع لعمار بن ياسر رضي الله عنه، فكان سببًا
لنزول الآية في الرخصة.
وأما قول البلاغ: (إن أشد العلماء تدينًا لم يجادل في ذلك) فهو غير مسلَّم
على إطلاقه في إجماله. ولا ثقة لمسلم بمن تُعدِّله فرنسة في إسلامه وعلمه كابن
غبريط ولا الكتاني إن صح ما نقل عنه، وكالذين رضوا من مسلمي تونس
الجغرافيين (المنافقين) بمساعدة مؤتمر المبشرين (الأفخارستي) وغيرهم من حملة
شارات الشرف الفرنسية.
نعم، قد يعذر بعض جهلة بدو البربر في بعض التقاليد والعادات المخالفة
للشرع إذا كان عن جهل بها بشرطه المعروف في الفقه، ولكن السلطان وغيره من
أولي الأمر لا يعذرون بإقرارهم على هذا الجهل فضلاً عن جعله تشريعًا يبطل به
شرع الله. ومثل أولئك الجاهلين من بدو البربر كمثل الجاهلين من بدو العرب
الذين كانوا يستبيحون قتل الحُجاج وسلب أموالهم وغير ذلك من مخالفتهم للشريعة،
وكانت الحكومات الحجازية قبل حكومة ابن السعود مقصرة في تأديبهم، ولكن ذلك
التقصير لا يعد احترامًا من السلاطين وأمراء الحجاز والعلماء لتلك العادات ولا
إقرارًا لها، وكذلك يقال في سلاطين المغرب.
وأما كون الأحكام الجديدة تصدر باسم السلطان الذي لم تُبقِ له فرنسة من
الحكم إلا الاسم، فهو مؤيِّد لخروج هذه الأحكام عن الشرع الإسلامي؛ لأن فرنسة
تعده هو الشارع لها وإنما شارع الإسلام هو الله تعالى وباسمه تصدر أحكامه.
وأما قول البلاغ: (إن البربر مسلمون وسيبقون مسلمين) ، فالجملة الأولى منه
من قبيل: السماء فوقنا، والثانية خبر عن المستقبل، وكلاهما لا يقال في
البلاغات الرسمية.
وأما الأمور الثلاثة التي أشار البلاغ إلى اشتمال الظهير عليها فهي مؤيدة
للتهمة لا مبرئة منها، وإننا نطالب الدولة الفرنسية بنشر نص الظهيرين الأول
والثاني وإطلاع الرأي العام الإسلامي عليهما وعلى القانون الذي بُني عليهما.
وأما ما جاء من شكر بعض البربر للسلطان على عمله هذا فلا ينقض من
التهمة شيئًا - إن صح - لجواز أن يكون هؤلاء الشاكرون من الجهلة بأمور الدين
أو من المحمولين على الشكر بالإكراه والقهر، كما وردت به الأخبار من هناك،
فهو كما قال الشاعر:
ولم أَرَ ظلمًا مثل هضم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
ونحن نعلم من الروايات الصادقة أن من البربر وغير البربر من أنكر ذلك
بقدر ما في إمكانه مع فقد الحرية هنالك فعوقبوا.
وأما دعوى البلاغ الخاص بمعاملتها لمسلمي الجزائر فهو ضد الواقع، ولا محل
هنا لنقضه بالشواهد، وأما ما فيه من ذكر ترميم المساجد في المغرب فهو إيهام.
الحق أن فرنسة جعلت جميع أوقاف المساجد وغيرها تحت سيطرتها واستولت على
أموالها وجعلت التعليم الديني في أضيق من جحر الضب مع المراقبة على العلماء
كما فعلت في الجزائر من قبل. فهل لها أن تمُن على المسلمين مع هذا إن سمحت
بترميم قليل من المساجد المتداعية إرضاءً لعلماء الآثار من قومها مثلاً؟ !
ألا إنها مِنَّة عليهم كمنة فرعون على موسى بتربيته مع استعباده لقومه،
فأجابه كما حكى الله عنه {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 22) نكتفي بهذا الرد على البيان لنحكي رد غيرنا عليه فيما يلي:
رأي شيخ الأزهر في البلاغ
جاء في (المقطم) أن أحد مندوبيه في الإسكندرية قد تحدث إلى حضرة صاحب
الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في صدد هذا البلاغ فأفضى إليه فضيلته
بما يأتي:
(لقد ارتحت إلى ما تضمنه بيان المفوضية من أن فرنسا واقفة في المسائل
الدينية على الحياد، وأن البربر مسلمون وسيبقون مسلمين. وأنه بتشجيعها رُممت
مساجد كثيرة في بلاد المغرب الأقصى.
ولكني لم أَرَ فيه ما يكشف الحقيقة من جميع وجوهها ولا ما يرد على كل تلك
التفاصيل التي وردت بها الأنباء وكانت سببًا في هياج الرأي العام الإسلامي، فهو
لم يتعرض لما قيل من إرسال نحو ألف راهب إلى تلك النواحي لتشجيع التبشير
المسيحي، ولا إلى ما قيل من إلغاء المكاتب القرآنية والمحاكم الشرعية، ولم يبين ما
هو نظام الإرث الذي أُقر الآن لأمة البربر، ولا ما هي الأحكام الشخصية التي
أُقروا عليها الآن أيضًا، مع أنهم ما داموا مسلمين لا يجوز شرعًا أن يكون لهم نظام
إرث غير نظام الإرث الشرعي ولا نظام أحوال شخصية غير النظام الإسلامي،
وتلك هي النتيجة المنطقية لأنهم مسلمون وسيبقون مسلمين.
وإن المسلمين فيما يوجهونه من الاحتجاجات موقفهم دفاعي محض، ولا
يقصدون أكثر من إبقاء الأمور على ما كانت عليه قبل حماية فرنسا، ولا
يرضيهم جعل العادات القديمة لبعض القبائل نظامًا مشروعًا ما دام في ذلك
مساس بالمسائل والشعائر الدينية. وفي إفريقية عادات متبعة منذ القدم وهي
استرقاق الأحرار والاتجار بهم، ولم يقل أحد: إن مثل هذا الاسترقاق ينبغي أن
يكون مشروعًا ما دام موجودًا، وأن المعروف عن فرنسة وغيرها من جماعة الأمم
أنها تعمل على توطيد دعائم السلم وإبعاد دواعي الاضطرابات.
فالمأمول منها بناءً على ذلك أن تستأصل الداء من مكامنه الخفية، فلا تساعد
ولا تقر المبشرين على أعمالهم في البلاد الإسلامية فإن ذلك مكمن عظيم من مكامن
الخطر، وعليها أن تفصل بين نشر الثقافة والتبشير.
وإني بصفتي الدينية - التي أعمل بها على توطيد دعائم السلم ومعاملة
الأجانب من أي دين أو جنس بالحسنى وبالتسامح - آمل من القائمين بالأمر ألا
يساعدوا ما يثير حفائظ النفوس، وأن يعملوا على إعادة الاطمئنان إلى تلك البلاد
الإسلامية) .
(المنار)
أحسن ما في هذا البيان الذي كان الفضل في إظهاره لمندوب المقطم - ما قاله
الشيخ في مسألة الرق، ولا يوافقه أحد من المسلمين على قوله: إنهم لا يقصدون أكثر
من إبقاء الأمور في المغرب كما كانت قبل الحماية الفرنسية، بل يطلبون إصلاح
ما كان من خلل وجهل كما أشرنا إليه، ولا يوافقونه أيضًا على كلمته في الثقافة
والتبشير على ما فيها من إجمال، وقد انتقدت الجرائد الإسلامية منه أمورًا أخرى.
***
رد جمعية الشبان المسلمين
على بيان المفوضية الفرنسية
نشرت المفوضية الفرنسوية في مصر بيانًا في مسألة مسلمي البربر بالمغرب
الأقصى فيه اعتراف صريح بأن ظهيرًا سلطانيًّا قد صدر في 16 مايو سنة 1930
يشرك فرنسا مع السلطان في الإشراف على الأحوال الشخصية للبربر المسلمين
ويجعل القانون في هذه الأحوال الشخصية هو العرف والتقاليد البربرية القديمة وبأن
هذا العرف وهذه التقاليد تخالف قواعد الشرع الإسلامي وأن تنفيذ ذلك في مناطق
البربر منوط بالقواد.
يعترف البيان بهذا ويحاول مع ذلك أن يُفهم المسلمين أن الظهير لا يمس
(العقيدة الإسلامية) كما ترجمه المقطم. ويطلب إلى جميع المسلمين أن يثقوا
بحياد فرنسا (في المسائل الدينية الصرفة) حسب ترجمة الأهرام. أو (في تلك
المسألة المصطبغة بصبغة دينية محضة) حسب ترجمة المقطم. ولا يمكن التوفيق
بين ذلك الاعتراف وبين هذا الطلب إلا على أساس أن مُصدر البيان لا يفهم ما
الإسلام أو أنه يظن أن المسلمين لا يفهمون!
إن أخص خصائص الإسلام في الحياة الاجتماعية للفرد وللمجموع هو أحكامه
في الإرث والأحوال الشخصية، ونظامه في ذلك هو النظام الواحد الباقي قائمًا إلى
الآن من نظم الإسلام المدنية والاجتماعية، فزواله من أي قطر أو إقليم إسلامي
معناه زوال البقية فيه من الإسلام في المجتمع وفي البيت من قلب الفرد ومن بين
الناس. ولم يتهم أحد فرنسا بتهمة أكبر مما يدل عليه بيان مفوضيتها صراحة من
أنها تُخرج قبائل البربر بقوة القانون من الإسلام عن طريق حملهم في الإرث
وأحوالهم الشخصية على العرف البربري القديم.
أما اعتذار البيان عن هذه الفعلة الشنعاء بأن العرف البربري كان قائمًا قبل
الآن معترفًا به من أقوى السلاطين حولاً وتدينًا - فغير صحيح ولا معقول؛ لأن معناه
- إذا صح على وجه يستقيم به الاعتذار - أن البربر لم يكونوا مسلمين قط،
والبيان نفسه يقول إنهم مسلمون وسيظلون مسلمين!
إن الذي كان مُعترفًا به من عُرفهم في بعض قبائلهم هو ما لم يناقض أصول
الشرع وصريح القرآن، وإلا فما حاجة فرنسا إلى أن تحمل السلطان يوسف منذ ستة
عشر عامًا - كما يزعم البيان - على التسليم بذلك العرف أولاً في ظهير لتجيء هذا
العام - بعد أن مضت الحرب وأمنت أو ظنت أنها أمنت أثر هذا التغيير في الناس
- فتحمل ابنه الذي لم يبلغ بعدُ عشرين عامًا على جعْل ذلك العرف قانونًا في
ظهير آخر مقابل إصدار الأحكام باسمه في مناطق البربر منذ الآن؟ !
لو كان العرف البربري قائمًا معمولاً به بين مسلمي البربر في الإرث والأحوال
الشخصية لما تدرجت فرنسا في الأمر ولما استصدرت من سلطان المغرب هذا
الظهير.
على أننا إذا سايرنا البيان إلى أقصى حد وسلمنا جدلاً بأن بعض مسلمي
البربر كان يسير في أحواله الشخصية على العرف المخالف لأحكام الشرع، فالبعض
الآخر الكثير كان من غير شك يسير في أحواله الشخصية على أحكام الشرع.
والمحاكم على أي حال لم تكن إلا بأحكام الشرع، وفرنسا قد قلبت هذا الآن رأسًا
على عقب، فجعلت المحاكم تحكم في الأحوال الشخصية بما يناقض الشرع وقهرت
على ذلك مسلمي البربر أجمعين، مَن كان - جدلاً - يسير على العرف منهم ومن
كان يسير على أحكام الدين.
إن هناك ملايين من مسلمي البربر قد أخرجتهم فرنسا بهذه الفعلة عن الإسلام،
وهذا ما ينكره عليها المسلمون.
على أن البيان قد اقتصر على مسألة الأحوال الشخصية وسكت عن الأمور
الخطيرة الأخرى التي جاءت الأخبار الوثيقة من المغرب بأن فرنسا ترتكبها هناك
كمنع تعليم القرآن واللغة العربية بين البربر، وإخراج العلماء وحملة القرآن من
بينهم، ووضع أطفالهم بين أيدي الراهبات والرهبان يعلمونهم النصرانية باللغة
الفرنسية. وقد اعترف البيان صراحة بصدق تلك الأخبار في مسألة الأحوال
الشخصية. فسكوته عن الأمور الخطيرة الأخرى يعتبر اعترافًا ضمنيًّا بها حتى
تصدر المفوضية الفرنسية بيانًا آخر في الموضوع.
أما رسائل الشكر العديدة التي يزعم البيان أنها جاءت إلى السلطان تشكره
على الظهير فهي - إن صحت - لعبة تلعبها السياسة في كل مكان.
وإذا كان هناك رسائل شكر عديدة فهناك أيضًا هياج كبير واحتجاجات كثيرة
سكت عنها البيان. وهناك ضرب وجلد وحبس في سبيل تنفيذ الظهير.
وأما استشهاد المفوضية بما تسميه (احترام الحرية في الجزائر) فإن الحرية
الدينية التي نحن الآن بصددها قد أصيبت في الجزائر بما لا تشرف به فرنسة؛
ففرنسا مثلاً مستولية هناك على الأوقاف الإسلامية وأوقاف الحرمين الشريفين
والعالِم المسلم لا يستطيع أن يقرأ درسًا في مسجد إلا تحت الرقابة الشديدة،
والمسلم ليس له حق تمثيل بلاده في الهيئات النيابية إلا إذا قبل القانون الفرنسي حتى
في الأحوال الشخصية. أي أن فرنسا تحرم المسلم الجزائري من كل حقوقه السياسية
إلا إذا خرج عن دينه في الأحوال الشخصية من زواج وإرث، فهي تعمل على
إخراج المسلم من دينه في الجزائر كما تعمل على إخراج المسلم من دينه في
المغرب وإن اختلف طريق العمل في القطرين.
... ... ... ... ... ... ... ... رئيس الجمعية العام
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد سعيد
__________
(*) وُضع هذا النداء في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وبعد البحث فيه وتنقيحه أمضاه مَن نذكر أسماءهم في آخره ووكلوا إلى مجلس إدارة الجمعية نشره.
(1) هذا تقدير تقريبي؛ إذ لا إحصاء هنالك للقبائل.
(2) المراد أنها تعدت على المعابد ولم تُكره المدنيين على تغيير العقائد، لكن بعض الناس يتهمونها بهذا أيضًا.(31/205)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
آراء ساسة فرنسا
في سياستها الإسلامية
وإمكان الاتفاق على ما هو خير منها لها وللإنسانية
لقد آن للعالم الإسلامي أن يعلم ما تكيده له دول الاستعمار في دينه ودنياه،
وأن يبذل ما يستطيع من حول وقوة للدفاع عن نفسه من حيث هو أمة واحدة كما
قال الله تعالى، وكل شعب من شعوبه وكل فرد من أفراده كعضو لجسد واحد كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقله تنظيم الدعاية والمقاطعة العامة
الاقتصادية، وأكبره الثورة العامة المدنية فالدموية (وقد جمعت بينهما الهند) وآن لهذه
الدول أن تعلم أن هذه الشعوب قد تنبهت أو هبَّت من رقادها وشعرت بآلامها، فلم تعد
تطيق ما كانت تسام به من إرهاق واستذلال، فضلاً عما تحاوله هذه الدول من الزيادة
عليه، وأن تعلم مع هذا أنه يوجد في عقلاء المسلمين من يود الاهتداء بالبحث معها
إلى الاتفاق على معاملة مشتركة تكون خيرًا للإنسانية في ترقيها وتوقيها أسباب
الحروب الساحقة الماحقة، وحلاًّ للإشكال يكون جامعًا بين
الممكن من مصلحة المستعمَرين ومصلحتها.
وبهذا القصد نشرنا ما نشرنا في مسألة المغرب الإسلامي وما تفعله فرنسة فيه
لتعلم هي وكل من يقرّوه أننا لا نبغي به التشهير بسياستها تشفيًا منها وتحريضًا
على عداوتها ومقاطعة المسلمين لها، إلا بعد اليأس من إنصافها، وقد سبق لي
السعي لمثل هذا الجمع بين المصلحتين في معاملتها للسوريين في حديث طويل
ألقيته إلى مسيو روبير دوكيه في بيروت (إذ قابلني بالنيابة عن الجنرال غورو في
أوائل مارس سنة 1920) فقال - بعد المناقشة الطويلة فيه -: إنه رأي يمكن
تنفيذه وليس بخيال، ولكن يجب درسه وتمحيصه والاتفاق على طريقة تنفيذه بين
الفريقين. ثم حاولت مثل هذا السعي في (جنيف) مع مندوب فرنسة في عصبة
الأمم المتحدة موسيو هانوتو الشهير فلم يتح لي ذلك، وقد فصلت هذا وذاك في
المنار كما يعلم القراء.
ولكن أحرار فرنسة الذين لا يهمهم إلا مصلحتها العامة قلما ينظرون في أمثال
هذه الآراء الحرة؛ فإن تقاليد وزارة الخارجية الفرنسية السياسية الدينية (الأكليركية)
والعسكرية أرسخ من تقاليد العجائز في تقاليدهن الدينية والمنزلية، وقد خرجت
بها عن حد المعقول والمعتاد عند الحكماء والعقلاء الذين يتحرون الاستفادة مما يُنتقد
عليهم. فإن هؤلاء السياسيين إذا رأوا انتقادًا موجهًا إلى دولتهم يدفعونه بغير تأمل
ويعذرون أنفسهم أو يعتذرون عنها بأنه كلام عدو، وقد يكون كلام صديق أو
ناصح لمصلحة له في النصيحة، وقد قال الشاعر العربي الحكيم في ذم الأعداء:
عداتي لهم فضل علىّ ومنّة ... فلا أذهبَ الرحمنُ عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ولكن رجال السياسة الاستعمارية في فرنسة لا يحبون اجتناب زلاتهم، وإن
عرفوها من أنفسهم وأصدقائهم، وإنما ينكرون ويتأولون كما فعلوا في مسألة البربر.
قد ابتُلي مسلمو الجزائر فتونس فمراكش بالدولة الفرنسية، فكانت سيرتها
فيهم أشد استبدادًا واستعبادًا وظلمًا من استعمار إنجلترة وهولندة أضعافًا مضاعفة وقد
وجد من عقلاء الشعب الفرنسي ومن عقلاء المسلمين من حاولوا إقناع هذه الدولة
بإنصاف هؤلاء المسلمين، ولا يزال يوجد في المسلمين من يحب هذا ويريده إن
كانت هذه الدولة تقدر قدره وتريده.
ولكن، متى تريد وبين يدي أُولي الأمر في عاصمتها عدة مصنفات جديدة قد
عني مصنفوها بإقناعها فيها بأنه لا يمكن خضوع مسلمي إفريقية بالإخلاص لها إلا
إذا ارتدوا عن الإسلام وصاروا نصارى أو ملاحدة، وبأن ردهم عنه ممكن.
فبعضهم يختار فيه إكراههم على النصرانية بالقوة القاهرة كما فعلت إسبانية في
الأندلس، وبعضهم يختار إكراههم على تربية أولادهم وتعليمهم في المدارس
التبشيرية والإلحادية ما يحول بينهم وبين الإسلام ولغته. وسياسة كبارهم بالشدة
والقهر، وإفساد أمرائهم وزعمائهم بالاصطناع والتمكين من الشهوات المفسدة
للأخلاق، والاستعانة بهم على كل ما يريدون من الاستيلاء على ثروة الأمة
وتحويلها عن شريعتها وآدابها.. إلخ.
إن كتاب (الإسلام في المستملكات الفرنسية) الذي ألفه الضابط موسيو
(جول سيكار) أحد الموظفين الفرنسيين في مراكش - يعد معتدلاً بين تلك الكتب التي
تغري فرنسة بإخراج مسلمي إفريقية من دينهم، ولما انتقدناه في مجلد العام الماضي
تعجب قراء المنار من كنود هذه الدولة التي سفك مغاربة المسلمين دماء مئات
الألوف منهم في الدفاع عنها ثم يجدونها تعدهم أعداءً غير مخلصين لها في الباطن،
وتحاول إهلاكهم في الآخرة بالكفر والإلحاد، كما أهلكتهم في الدنيا بالفقر والإذلال،
فكيف لو قرأ هؤلاء تلك الكتب التي تحضها على حرمانهم من كل علم نافع
وإكراههم على ترك دينهم بالقوة كما فعلت إسبانية بسلفهم من مسلمي الأندلس؟
عثرت صحيفة الفتح أخيرًا على نسخة من كتاب (السياسة الصريحة)
للضابط الفرنسي الكابتن أدينو وقد ترجم وطبع بالعربية سنة 1347 هـ، فلم تلبث
حكومة الاستعمار أن جمعت نسخه ومنعت نشره؛ لأنه صرح فيه بسياستها السرية
لاعتقاده أنه أنفع لها من الرياء الذي تحاول إخفاءها به، وهو لا بد أن يشف أو
يتمزق فتظهر الحقيقة في وقت غير ملائم.
وقد نشرت الفتح الغراء منه جملاً نختار منها الآن ما نصه:
(أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع
الحوادث السياسية أم لا؟ بلى، ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون
لهم كافيًا ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد. هذا والأجدر بفرنسا أن تحترم
مبادئ قوانينها بالمغرب، وذلك أننا كثيرًا ما نقول إننا ما جئنا المغرب إلا لنمدن
أهله ونسعى في ترقيته بدون فتور ولا انقطاع حسب الدرجة التي يكون قابلاً لها
وتوافق فكرة المسلمين. وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم
أمر يضيِّق لنا الفضاء الرحب المعد هنا لفرنسة.
لا؛ لا نسعى في هذا الأمر أبدًا، وإذا فعلنا وبالغْنا في تعليمهم فإنما نحن
جالبون على أنفسنا خطرًا عظيمًا يقف بوجه مهمتنا هنا.
الإسلام تهديد لفرنسة وخطر عظيم على نفسها؛ لأنه لو انحاز المسلمون عن
جانب فرنسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوتنا.
أليس من الواجب علينا إذن أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة التي
تود صعودًا وانتشارًا؟ وإنا ليشتد خوفنا من اجتماع طوائفهم المختلفة يومًا ما على
كلمة واحدة واتفاقهم عليها.
إلى الغافلين الذين لا يحتاطون لهذه الحالة أقدم كلمتي، وهي أن لا يسعوا في
تحديد شوكة (إرهاف حربة) يصابون بها يومًا ما، ولا خشية لنا في ذلك لأنني ما
عثرت قط في التواريخ على أن فرنسة حاربت إنجلترا لتمنعها من هدم
مستعمراتها [1] وإلا فإني أرغب من أولئك العادلين الذين يودون تقديس عادات الأمة
وحياتها أن لا يقوموا بمحاربة من لم يرضَ بسلطتنا عليه؛ لأن وجودنا بأرض
المغرب هو معلوم لقصد فائدتنا الشخصية من أرضه، وإذا كانت الفائدة هي التي
تقود زمام أمة فكل شيء لديها مباح والحرب أكبر دليل عليه.
وما هي أيضًا حاجتنا بأرض المغرب إذا كنا نسعى لأمر ليس هو بالهين، في
جلب عاقبة ليست بمحمودة النتيجة، أو عملنا لمنافع أمة لا تكون لنا مخلصة الود،
أو لمجرد نفع غيرنا من الأمم. وبعبارة أخرى أقول: إنه لا فائدة لنا فيما نتحمله
في هذا القطر بإضاعة أموالنا وصرفها.
قال لي أحد الضباط في يوم من الأيام: إن تعجب من بقاء بلاد الجزائر
تحت سلطتنا فذلك لسبب انقراض جيل من أجيالها [2] وصدقًا قال.
وإني لآتي هنا بمقال الأب فوكول تأييدًا للفكر، قال:
لا يكون لكم المغرب ملكًا ما دام فيه المسلمون!
أقول هذا ويقيني بأنني ولو كنت عالمًا بأن المسلمين سيطلعون على مقالي هذا
ما غيرت من لهجته! [3]
ماذا يطلب منا المسلمون؟ إنهم لا يطلبون منا إلا أن نخبرهم بكل صدق
وحقيقة ليتخذوا احتياطاتهم. وأنا كذلك لا أحب تلك السياسة المموّهة الخادعة
الكذابة التي لا تريد أن تُغضب أحدًا من الناس بحديثها العذب اللين اللهجة مع جميع
الناس، وعند النتيجة يوم يكشف عن حقيقة سرها لا تحترم أحدًا.
خلاف هذه الفكرة أبغي، أود أن نعامل المسلمين بالسياسة الصريحة اللهجة
فنصرح لهم: هل بودنا أن ندعهم سائرين على إثرنا عفوًا من أنفسهم؟ أم
سنرغمهم عليه قوة منا؟ لا نواري عنهم بأن سياستنا غير مرتبطة في شيء مع
حالة الإسلام.
لماذا نقاسم المسلمين الجزائريين حقوقنا؟ ونحمي المغاربة حماية، على
حين نقف مع الأمة التركية قرنًا تجاه قرن وهم منتمون إلى دين واحد؟ [4] .
إذا تولت أمة مقاليد أمة ثانية - ولو ضعيفة - فإنه لابد من وقوع امتزاج
واندماج فيما بين الفريقين. وفرنسا هنا بالمغرب لا يمكن أن تندمج في الإسلام كما
أن الإسلام لا يقبل منها شيئًا خارجًا عن تقاليده، ولكن غاية الرجاء عندنا أن يكون
المسلمون فيما بعد مظللين بجنسيتها كما عليه البروتستانتيون والإسرائيليون اليوم،
وبهذا يمكن لهم أن يعيشوا معنا جنبًا لجنب [5] .
أنا لا أتصور كيف يمكن لفرنسا مع المغرب أن يعيشا معًا، وكل منهما على
ملازمة أحواله وعوائده القديمة الممتازة وأفكاره المتباينة. وقد تدوم هذه الحالة إذا
أيدتها القوة، والقوة أمر لابد من اضمحلاله، وستحتاج فرنسة يومًا ما إلى جنود
للمدافعة عنها فماذا يكون عملها يومئذ؟ لماذا لا نحتاط لهذه الأسباب منذ اليوم؟
لكن بقي علينا أن نقول: هل في إمكاننا أن نستولي على قلوب المسلمين
ونجلبها لجانبنا؟ . اهـ.
(المنار)
نشكر لهذا الكاتب صدقه وصراحته اللتين يقل مثلهما في قومه، وهو لم يُجِب
عن سؤاله الأخير؛ لأن الاستفهام فيه إنكاري لا حقيقي، يريد أنه لا سبيل إلى ذلك.
ونحن نقول: إن هذا في الإمكان إذا كانت فرنسة تترك غرور الضباط وإغواء
الأب فوكول وأمثاله من الآباء في سياستها الصليبية، كما تركته في إدارتها
وسياستها الداخلية، وتتبع سياسة الحق والعدل والإنسانية، أو ما جعلته شعارها رياءً
وخداعًا وهو (العدل والمساواة والحرية) ، بأن تترك لهم حريتهم الدينية والأدبية
والاجتماعية، وتساعدهم على عمران البلاد بترقية الزراعة والصناعة والتجارة
بنظام يكفل لها الربح العظيم والثروة الواسعة، وتعقد معهم محالفة عسكرية توجب
عليهم إمدادها بالجند والمال إذا هي اصطلت نار حرب لم تكن فيها معتدية كما
يوجبه عهد عصبة الأمم، والمسلمون أشد أهل الملل وفاءً وصدقًا، وإذا كانوا قد
استبسلوا في دفاعهم عنها في الحرب الأخيرة على شدة إساءتها إليهم في دينهم
ودنياهم فكيف يكون شأنهم معها إذا هي أحسنت إليهم إحسانًا حقيقيًّا لا يرتابون
فيه؟ ! وأما الذين يضربون لها المثل بخروج الهنديين والمصريين على إنجلترة
مع إحسانها في معاملتهم فهم خادعون؛ فإن إنجلترة لم تكن محسنة لهؤلاء بل مسيئة،
وقصارى الأمر أن إساءتها إليهم دون إساءة فرنسة لمسلمي إفريقية، وأما الإحسان
الحقيقي فلا يكفره المسلم وهو يؤمن بقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ
الإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) .
ثم نذكِّره بأن أهل أمريكة قد أخرجوا الإنجليز من بلادهم بالقوة الحربية وهم
متحدون معهم في اللغة والدين والمذهب وكذا في الجنس الغالب.
إن هذا الضابط يهدد مسلمي المغرب بقوة دولته العسكرية القاهرة التي لا
يعقل في العالم غيرها، ولكن الأمم إذا عرفت نفسها وشعرت بوحدتها تعذرت
سياستها وإدارتها بالقوة العسكرية، وما القوة إلا تهاويل وأراجيف من الوهم تزول
بأول ثورة (تبدأ) بها الأمة على المقاومة كما وقع في بلاد كثيرة وظهرت بوادره
في المغرب الأقصى وكذلك إخضاع المستعمرين للشعوب بالتماثيل الآلية التي
ينصبونها لها باسم سلطان أو ملك أو أمير أو باي أو رئيس، ومن يستخدمونه بأسمائها
من وزير ومدير ومفتٍ وغير ذلك، قد آن لزمنه أن يولي مشيَّعًا باللعن
ولرجاله أن يُنبذوا مَوسومين بالخيانة.
__________
(1) ينبه هذا الفرنسي قومه إلى اجتناب كل ما يقوي شوكة المسلمين من علوم إسلامية أو أوربية، ويقول: إننا إذا اضطهدنا المغرب لا نخشى أن تعارضنا دولة أخرى كالإنجليز؛ لأننا لم يسبق لنا في التاريخ محاربة الإنكليز عندما يهدمون مستعمراتهم اهـ والمنار يذكِّره بأن إنكلترة طردت فرنسة من الهند ثم من مصر وحاربتها لأجل الاستعمار وأذلتها باعتقال أعظم إمبراطور سياسي حربي تولى أمرها وهو نابليون الأول، ثم يذكره بتحرش ألمانية بفرنسة في أغادير، ويذكره أخيرًا بأن الحرب العامة لم يكن سببها إلا التنازع على الاستعمار، وبأن فرنسة إذا هوجمت مرة أخرى فلن تجد من أسباب الدفاع عنها بعض ما وجدته فيها من مستعمراتها ومن أمم الأرض حتى الولايات المتحدة! ! .
(2) يريد الجيل الذي كان يعرف ذكريات جهاد الأمير عبد القادر، وكان في قلوبه رجاء باستئناف الجهاد اهـ. ويستدرك المنار على هذا بأن الجيل الآتي في جميع إفريقية سيحارب فرنسة بنظام علمي أوربي يكون أقوى من حرب ذلك الجيل بالسلاح إذا هي أصرت على ظلمها وسياستها الحاضرة، فهل تطمع في سوق مليون جندي منه إلى أوربة لقتال ألمانية أو إيطالية؟ ! كلا ثم كلا.
(3) المنار: نشكر له هذا التصريح ونصارحه بأن فرنسة تعجز عن إبادة المسلمين من المغرب، إن فرضنا أنها تجد من يعمره لها من غيرهم، وهي عن إخراجهم من الإسلام أعجز، وإن إخراجهم منه - إن أمكن؛ ولو إلى النصرانية - يكون أشد خطرًا عليها ما دامت مصرة على أثرتها وظلمها؛ لأنهم يجدون من مساعدة دول النصرانية حينئذ عليها ما لا يجدون اليوم ولا سيما أمثال الأب فوكول خليفة الأب بطرس الناسك.
(4) يتساءل هذا السياسي الفرنسي: كيف يجوز أن تتبع فرنسة سياسة صليبية مع تركيا في القرون الماضية كلها لأنها كانت دولة مسلمة، ثم يعترفون للجزائريين بحقوق ولأهل المغرب الأقصى بحماية مع أن الجميع أبناء دين واحد؟ ! .
(5) المنار: والمسلمون يصارحونه بأنه لا جنسية لهم في غير دينهم، فهم لا يقبلون الجنسية الفرنسية لأنها تخرجهم منه فيخسرون الآخرة مع الدنيا؛ لأن فرنسة لا تساويهم بأبناء جلدتها الأوروبيين في كل شيء وإن تجنسوا بجنسيتها كما عُلم بالتجربة.(31/219)
الكاتب: الطلبة المغاربة بباريس
__________
كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلام
في المغرب الأقصى؟!
(جاءتنا هذه الرسالة الممتعة من جماعة شبان المغرب في باريس وكان قد
تم تحرير هذا الجزء من المنار وجمع حروفه فأخرنا طبع آخره وتصديره ونشرناها
فيه لجمعها للحقائق في المسألة التي نحن بصددها، ولا سيما بيان هؤلاء الشبان
لمطالب مسلمي المغرب من حكومة بلادهم التي لا يرضون بدونها. وهذا نصها) :
استغربنا ما كتبته جريدة (الأهرام) في أحد أعدادها من تكذيبها ما تسعى إليه
فرنسة من هدم الديانة الإسلامية في المغرب الأقصى. وحجة الأهرام في ذلك أن
علماء المغرب الأقصى أكبر علماء الإسلام، ولا ندري أتريد بذلك تهكمًا مقصودًا؟
أم هي تنطق بلسان الحق؟
ثم حجتها الأخرى هي كون فرنسة الدولة اللادينية الوحيدة في أوربة، كأنها
تجهل كلمة غامبتا: (إن اللادينية بِضاعة لا تصدر إلى خارج فرنسة) . وكأنه
غاب عن الأهرام أن فرنسة سمحت منذ ثلاثة أشهر للمؤتمر الأفخارستي الذي ينظر
في مسائل التبشير بأن يعقد في تونس، واشتركت في المؤتمر رسميًّا يمثلها مندوبها
السامي في تونس الذي حضر في جلسات ذلك المؤتمر، ومنحت مليونين من أموال
المسلمين لأعضائه، وسمحت لأبناء المدارس الفرنسيين في تونس أن يتجولوا في
الشوارع مُرْتدين لباس الصليبيين الذين أتوا فيما مضى لفتح تونس مع القديس
لويس! ! فهل تستطيع الأهرام أن تصف فرنسة بأنها (لا دينية) ؟ ! [1] .
أما قضية المغرب الكبرى التي تقيم اليوم العالم الإسلامي وتقعده - نعني
القضية البربرية - فهي ليست بنت اليوم، بل خاض فيها من قبل كثير من الساسة
والكتاب الفرنسيين، بل الموظفين في الحكومة المغربية، نخص بالذكر منهم
لوجلي في كتابه (فرنسا وتعليم البربر) ومارتجافي في كتابه (مغرب البربر)
وسيكار في كتابه (الإسلام في الممتلكات الفرنسية) وأزار في مقالاته العديدة،
وسوردون في كتبه عن (عوائد البربر) ولويس برينو في أبحاثه عن (مسألة
التعليم في المغرب) ونزيد عليهم عضو الأكاديمية الفرنسية الكبرى لويس برطران
في كثير من كتبه وعلى رأسها كتابه (أمام الإسلام) الذي نال فيه من كرامة مصر
وسب فيه إخواننا المصريين سبًّا بذيئًا.
اتفق رأي هؤلاء كلهم - ووراءهم جيش عظيم من القسيسين والمبشرين -
على أن إسلام البربر المغاربة إنما هو إسلام سطحي، وأنه لا سلطة له على
أرواحهم، وأنهم أعداء ألداء للعرب والشريعة الإسلامية، وأن ذكريات النصرانية
لا تزال حية في نفوسهم، وأنهم لا يزالون يذكرون الحكم الروماني وسيادة القياصرة،
وأن عصيان البربر في العصر الأخير لملوك المغرب ليس له من سبب إلا
تخوُّفهم من سلطة الشريعة الإسلامية.
ولا يخفى ما في هذه النظرية السيئة السريرة من كذب وبهتان وتحامل بعثته
أهواء دينية تتعصب للمسيحية تعصبًا شنيعًا. كأن أصحابها يرون أن تاريخ
المغرب ينحصر في ولاية السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحفيظ، التي كانت
مضطربة أشد الاضطراب [2] . وينسون أو يتناسون أيام المغرب الزاهرة تحت
دول البربر، كالمرابطين والموحدين. فهاتان الدولتان العظيمتان لم تكتفيا بتعضيد
الإسلام ونشر شريعته في المغرب فقط، بل ذهبتا لنشره وتعضيده في إسبانية
والسنغال وإفريقية الشمالية كلها، ويتناسون أيضًا أن الدولة المرينية هي التي
شيدت أجمل مدارس العلم وأفخمها في فاس ومكناس ومراكش وغيرها، وكذلك
القصور البديعة التي يندهش السياح أمامها اليوم، فلماذا لم تقضِ هذه الدول
البربرية - بما كان لها من السلطة والحرية - على الشريعة الإسلامية إذا كان
البربر يبغضونها ويخشون سلطتها؟ . بل إن أولئك الفرنسيين المتبعين للهوى
المتعبدين للغرض تناسوا ولاية المولى إسماعيل إذ كان المغرب موحدًا توحيدًا تامًّا،
وتناسوا ولاية المولى الحسن على قرب عهد الناس بها، ولكن هي الأغراض تعمي
وتصم، ولو أردنا أن نقيم الأدلة التاريخية على إسلام البربر وإخلاصهم للشريعة
المحمدية لما وسعها المقام في هذا الرد الموجز.
وقد اقترح أصحاب هذه النظرية الموظفون في الحكومة المغربية عدة
اقتراحات عملية - بناءً على نظريتهم الفاسدة - من شأنها أن تبعد البربر من
العرب والإسلام، وتبعثهم على الإخلاص لفرنسة والاندماج فيها وترجعهم إلى
المسيحية (دين أجدادهم قبل الإسلام! !) [3] وهنا نلخص مقترحاتهم فيما يلي:
(1) يجب على فرنسة أن تبعد العربي عن البربري ما أمكن.
(2) يجب أن تُفتح مدارس فرنسية بربرية يحظر فيها تعليم الإسلام
والعربية.
(3) تُغلق الكتاتيب القرآنية في القبائل البربرية وتُعرقل على رؤساء
الطرق الصوفية والوعاظ المسلمين وسائل الوصول إلى هذه القبائل.
(4) تشجيع التبشير في القبائل ومنح إعانات مهمة للجمعيات التبشيرية
والسعي في تسهيل أعمالها.
وآخر ما وصل إليه تفكير هؤلاء المقترحين اقتراح تأسيس محاكم عرفية لا
يحكم فيها قضاة الإسلام ولا تطبق فيها الشريعة الإسلامية وإنما تعتمد على عادات
تكونت عند البربر مدة ثورتهم على السلطان وخروجهم عن أحكامه، مع قوانين
فرنسية أحدثت في المغرب لمصلحة الاستعمار، ولهذا تتكون إدارة تسمى (إدارة
العدلية البربرية) تقابل (وزارة الحقانية الإسلامية) وبهذا تستطيع فرنسة أن تبعد
الإسلام من قبائل البربر الإبعاد الأخير.
ماذا كان موقف الحكومة الفرنسية إزاء هذه المقترحات؟ !
الواقع أنها في أول الأمر لم يكن لها موقف واضح، بل إن المارشال ليوطي -
المقيم العام سابقًا - كان يحبذ في كثير من الأحيان تعريب البربر، ثم جاء بعده
(ستيغ) فاستغوته النظرية البربرية ففتح مدارس فرنسية بربرية يتعلم فيها البربر كل
شيء - كما قال (لوجلي) - إلا اللغة العربية والإسلام، وصارت لغة البربر تُكتب
فيها بالحروف اللاتينية بعد ما كانت تكتب بالحروف العربية، ومن المعلوم أن
المسيو (ستيغ) بروتستنتي متعصب لمذهبه، فأجاب طلبات المبشرين
البروتستانتيين، واضطر أن يعين معهم الجمعيات الكاثوليكية، ودخل بهذا العمل
برنامج البربر في طور التنفيذ، وصار المراقبون الفرنسيون في القبائل البربرية
يمنعون تأسيس المساجد، ويعينون على إقامة الكنائس في عقر تلك القبائل التي
لا يوجد فيها مسيحي واحد، ومنع فعلاً تجول رؤساء الطرق الصوفية في تلك
النواحي، وأبعد منها أصحاب الكتاتيب القرآنية، وجُعلت للعرب - سكان المدن
وبعض القبائل - جوازات خاصة لا يتمكنون من السفر إلى القبائل البربرية إلا بعد
الحصول عليها بعد جهد جهيد ومشقة عظيمة، وظلت حكومة فرنسة جادة في عملها
وتنفيذ خطتها ضد الإسلام مجردة من كل عاطفة سامية أو شعور شريف.
وكان المغاربة يعلمون نيتها ويلاحظون أعمالها متألمين من ذلك أشد الألم،
غير أن عقلاءهم مطمئنون لاعتقادهم أن البربر سيظلون معتصمين بدينهم، وأن
علاقاتهم بإخوانهم العرب لا يمكن انفصامها، بل ستجعلهم يستعربون حتمًا؛ لأن
البربري لا يرى في العربي عدوًّا مبينًا - كما يدعي الفرنسيون - بل يرى فيه أخًا
مخلصًا في الوطنية والدين. يعيش كما يعيش ويفكر كما يفكر. ويُضطهد كما
يضطهد. ويشتركان في عداوة عدو واحد. وهؤلاء العقلاء لا يسلِّمون أن فرنسة
ستعزل البربر بنوع من العزل بل يرون أن البرابرة لا يمكنهم الإخلاص لفرنسة
ما دامت لا بد من أن تفقرهم وتجردهم من كل ما يملكونه من ثروة وأرض ومال،
وأن تعاملهم بأشد أنواع القساوة والطغيان.
عندما رأت الحكومة الفرنسية أنها أمكنها تنفيذ الفكرة السابقة بدون أن تلقى
معارضة قوية من المغاربة ظنت أن الوقت مناسب لتنفيذ آخر اقتراح وصل إليه
المشتغلون بالقضية البربرية من الفرنسيين ليكون (مسك الختام) في هذه القضية،
فأعلنت باسم السلطان المعظم أمرًا عاليًا (ظهير شريف) يقال إنه وُقع بطرق غير
مشروعة، يقضي منطوقًا ومفهومًا بعزل البربر - أكثرية البلاد الساحقة - عن بقية
إخوانهم المسلمين، وتجريدهم رسميًّا من شريعة القرآن. وبذلك يهدم في هذه البلاد
أعظم شطر من الإسلام وهو الشطر التشريعي الاجتماعي على حين يكفل سعي
المبشرين هدم الشطر الآخر (وهو الروحي الاعتقادي) ولا يخفى ما في هذا
(الظهير) من العدوان على الشعب المغربي المسلم، والمس بسيادة السلطان التي
تحميها العهود الدولية، وعهد الحماية الذي عقده المولى عبد الحفيظ بنفسه،
وأصدرت الإقامة العامة (دار المندوب السامي) بهذه المناسبة قرارًا للصحف
الاستعمارية في المغرب تهنئ فيه نفسها بهذا النجاح العظيم ووصولها إلى إنقاذ
البربر من قانون الإسلام!
هياج المغاربة على فرنسة
لأجل البربر ومقاومتهم بالقوة
شاع هذا الخبر السيئ في طول البلاد وعرضها وعم الاستياء في جميع
نواحي المغرب، لا فرق بين المدن والقبائل، أما في المدن فأخذ الناس يتجمهرون
في المساجد يتلون صيغة مخصوصة يرددونها جماعات بأصوات مرتفعة: أنهم لا
يرضون أبدًا (أن يفرق بينهم وبين إخوانهم البربر) واتخذ الناس من أوقات صلاة
الجماعة فرصة للقيام بإعلان الاحتجاج والسخط العظيم ضد مشروع التمسيح
(التنصير) الفرنسي الذي يريد أن يكتسح الإسلام من قلوب المغاربة المسلمين [4]
فأمر ولاة الأمور الفرنسيون أن تُقفل تلك المساجد التي {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) وفعلاً أقفلت في مراكش وألقي القبض على ثلاثين
شخصًا في مدينة الدار البيضاء وزجوا في السجون، وعزل مؤذن وإمام مسجد في
مدينة تطوان لسماحهما للمسلمين بالاجتماع في المسجد وقراءة صيغة الاحتجاج.
والحركة في الرباط وفاس وسلا كانت أقوى وأهم، فقد وقع اجتماع كبير احتشد
فيه ما ينيف على 7000 شخص وألقيت فيه خطب تبين خطر الموقف الحاضر،
ولم يمض وقت يسير حتى زجّ من كان يخطب في السجن مع المجرمين.
ووقع في فاس أعظم اجتماع من أجل هذه القضية، انعقد في كلية القرويين
(الجامعة الإسلامية الوحيدة في المغرب) وخطب في ذلك الجمع الحاشد خطيب بيّن
المصيبة الكبرى ونتائجها الوخيمة على مستقبل الإسلام. وبعد ذلك خرجت تلك
الجموع متجمهرة تتضرع إلى الله تعالى وتوجهت إلى المشهد الإدريسي ضريح
مولاي إدريس، حيث ألقيت الخطب الحماسية على الشعب وتليت آي الذكر الحكيم،
ومن هنالك خرج الجمهور متوجهًا لبيت شيخ الإسلام يطلب رأيه وموقفه في هذه
المسألة الكبرى. وكانوا في طريقهم يرفعون أصواتهم هاتفين: (تحيا شريعة
الإسلام تحت راية الإمام) وعندما وصلوا إلى دار الشيخ رجعوا متوجهين إلى بيت
حاكم المدينة (باشا فاس) وبلغهم وهم في الطريق أن أحد الخطباء ألقي القبض
عليه، ولما انتهوا إلى بيت هذا الحاكم ومحكمته أمرهم أن يعينوا من بينهم وفدًا
خاصًّا يتقدم إليه، وأمر المتظاهرين أن يتفرقوا فأبوا، فأمر عساكره أن يستعملوا
العصي في تفريقهم، وأما الوفد فقد قابله الحاكم بالسب والإهانة، وأمر بجلد أفراده
مئات من الأسواط، وكل ذلك بمحضر المندوب الفرنسي في المحكمة وبأمره
الخاص، مع أن أعضاء هذا الوفد كلهم من الأشراف والأعيان والتجار والمفكرين.
ثم أمر بإلقاء القبض على آخرين حتى بلغ عدد المقبوض عليهم ما فوق الخمسين
ودون المائة، ألقوا جميعهم في غيابات السجون، وكان هذا التصرف المرهق من
أهم الأسباب لاشتداد الحركة وارتفاع مقياس الحرارة، وصار الناس يعلنون أن
السلطان - الذي باسمه صدر هذا الأمر - قد خالف شروط البيعة التي كان على
رأسها: (احترام الكتاب والسنة ومناصرة الإسلام) وأصبح مسؤولاً عن هذه
المخالفة (وقالوا) إن البيعة التي قُدمت للسلطان هي باسم الشعب المغربي كله لا
فرق بين العرب والبربر، فمن الواجب على السلطان إذن أن يطبق شريعة الإسلام
في القبائل البربرية كما يجب أن يطبقها على الآخرين ولو بالجبر ما داموا يعترفون
بالإسلام دينًا، على أن البربر يطالبون أن يحكم بينهم بالشريعة الإسلامية دون
غيرها، ولم يعلنوا في يوم من الأيام نفورهم من أحكام الإسلام.
وقد أثارت هذه الحادثة في نفوس المغاربة ذكرى مصيبة الأندلس، فإن عدو
الإسلام عندما دخل غرناطة تعهد أن يحترم الإسلام والمسلمين، ولما استقر له
الأمر كان أول ما قام به هو القضاء على الإسلام. وأصبحوا يحدثون أنفسهم بأنه
إذا كانت أغلبية سكان المغاربة من البربر الذين يراد إجبارهم على مفارقة إخوانهم
المسلمين فسيصبح العرب أقلية ضئيلة في هذه البلاد، ولا يبعد أن تجبرهم فرنسة
يومًا ما على اتباع هذه القوانين التي وضعتها للبربر، والتي تجبر المغاربة جميعًا
على قبولها اليوم.
مخاطبة الوفود للسلطان
في مسألة البربر
وأما جلالة السلطان فقد كان مصطافًا في فرنسة عندما كانت هذه الحوادث
الكبرى تمثل في المغرب، وكان للبلاد أمل عظيم في أوبته، وبمجرد قدومه أعدت
وفود عظيمة فيها أكابر العلماء والأشراف والأعيان تألفت في فاس والرباط وسلا،
واتفقت جميع الوفود على مطالب واحدة تقدم باسم (الشعب المغربي المسلم) وكل
مادة منها هي سعي إلى استرجاع حقوق ضيعها على المغاربة ولاة فرنسة في
المغرب، وقد كان على رأس الوفد الفاسي أحد علماء المغرب المشاهير وأحد كبار
الهيئة العلمية في كلية القرويين الشريف السيد عبد الرحمن بن القرشي وزير
الحقانية سابقًا. وعندما تشرف بمقابلة جلالة السلطان خطب خطبة ضافية بصفته
رئيسًا للوفد، وبيَّن فيها ما كان للبربر من سوابق عظيمة في إعلاء كلمة الإسلام،
والتضحية في سبيل إعزازه، وبين أن الحكم بينهم كان بالشريعة الإسلامية في كل
أدوار التاريخ، مستندًا في ذلك إلى حجج تاريخية مقنعة. فأجابه جلالة السلطان:
(إنه سيتأمل في الأمر وينظر في المسألة) وبمجرد ما شاع هذا الرد ورجع الوفد
إلى فاس من غير نتيجة معينة - هاج الشعب هيجانًا عظيمًا، وأقفلت الأسواق،
ووقعت مظاهرات كبرى، واصطدم البوليس مع الجمهور، وسقط كثير في الطرقات
والشوارع.
وعلى إثر ذلك ألقي القبض على رئيس الوفد (ابن القرشي) وزير الحقانية
فيما قيل. وعلى رئيس الغرفة التجارية (ابن عبد السلام الحلو) أحد أعضاء الوفد
الكبار، وظلت الحكومة تقبض وتسجن إلى أن بلغ عدد المسجونين بهذه المناسبة
نحو مائة وخمسين شخصًا، كلهم من خاصة الأمة وأعيانها. وبعد أن أودعتهم في
سجن فاس رأت أنهم يستحقون أن يكونوا في سجن آخر فيه من أنواع العذاب ما
ليس في سجن فاس! فنقلتهم إلى سجن تازة العسكري وحكمت عليهم بالسجن إلى
أجل غير مسمى. وقد أشارت حتى الجرائد الفرنسية في باريس إلى هذه الحادثة
الأخيرة وذكرت بعض أسماء المسجونين.
هياج البربر وإعلانهم
الاعتصام بالإسلام
أما القبائل البربرية نفسها فلا تسأل عما قامت به من الهيجان العظيم، بل قد
أقامت المناحات في كل جهة إظهارًا لاستيائها العظيم مما يراد بها، وتجمعت قبائل
كثيرة حول المحاكم التي أقامتها فرنسة هناك وأعلنت للولاة الفرنسيين أنها على
الإسلام تحيا وعليه تموت، ولم تكتفِ بذلك بل أرسلت وفودًا إلى جلالة السلطان
تطالبه بإرسال القضاة الشرعيين وإقامة محاكم شرعية إسلامية على أساس متين،
وبينما جلالته يعدهم بإرسال القضاة الشرعيين إذا بولاة فرنسة يسجنون جميع
الأفراد التي جاءت موفدة، ولا يكتفون بذلك بل يجبرون المديرين لتلك القبائل من
المسلمين (العمال) على توقيع رسائل مضمومها شكر فرنسة والامتنان لها من هذا
العمل المجيد، ونحن نعرف أفرادًا من هؤلاء امتنعوا من التوقيع على مثل هذه
الرسائل فكان عقابهم أن يسجنوا في بيوت الأدب (الكنف) وأن تسلَّط الأيدي
الفرنسية على وجوههم بالضرب واللطم حتى دميت تلك الوجوه.
وهنا نجد الفرصة سانحة لعرض مطالب الشعب المغربي التي قدمتها وفود
البلاد بصيغة واحدة وهي وحدها كافية في إطلاع إخواننا من أبنا الشرق على مظالم
فرنسة وعدوانها على الإسلام في المغرب، ففي كل مطلب احتجاج صارخ على
عمل قامت به فرنسة ضد ذلك المطلب، ولا يعقل أن يتجه شعب كامل إلى مطالب
بعينها وهو حاصل عليها، وإنما يطلب ما كان مفقودًا ولا نتيجة رغبة شعب بأسره
إلى هذه الناحية بخصوصها إلا بعد ما رأى أن كيانه ضائع، وأن حياته آيلة إلى
الفناء وهي هذه:
مطالب الشعب المغربي المسلم
1- احترام نفوذ جلالة السلطان بالإيالة الشريفة وتثبيت سلطته الدينية
والدنيوية، وذلك بجعْل سائر الولاة المخزنيين (ولاة الدولة) من قضاة وقواد
وباشاوات ومحتسبين ونظار وأمناء الأملاك مسئولين أمام الحكومة الشريفة (لا أمام
غيرها من الموظفين الأجانب) .
2- إصدار ظهير شريف بجعل سكان سائر الحواضر والبوادي خاضعين
لحكم الشريعة الإسلامية.
3- تنظيم المحاكم الشريفية وإصلاحها وتولية الأَكْفَاء فيها، سواء محاكم
القضاة أو محاكم الباشاوات والقواد والمحتسبين وتعميمها في سائر القطر المغربي لا
فرق في ذلك بين حواضره وبواديه.
4- توحيد برامج التعليم في جميع المدارس والتي تؤسس لتعليم الوطنيين في
المدن أو في القبائل، وتعميم اللغة العربية التي هي لغة القرآن، وتعميم التعليم
الديني الإسلامي في كل هذه المدارس.
5- احترام اللغة العربية - لغة البلاد الدينية والرسمية - في جميع
الإدارات بالإيالة الشريفة، وكذلك في سائر المحاكم وعدم إعطاء أي لهجة من
اللهجات البربرية أي صبغة رسمية، ومن ذلك عدم كتابتها بالحروف اللاتينية.
6- إيقاف حركة المبشرين على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم، ومنعهم من
التجول في القبائل والحضور في أسواقها ومواسمها، وعدم السماح لهم بنشر أي
شيء يمس كرامة الإسلام وكرامة النبي صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع
النشر.
7- عدم منح أي إعانة من ميزانية الدولة الشريفية أو إعطاء أي ملك من
أملاك المخزن الشريف للجمعيات التبشيرية، وللساعين في تشييد الكنائس وأندية
التبشير في أطراف البلاد المغربية.
8- عدم السماح للمبشرين بإحداث ملاجئ للأيتام وللقطاء المسلمين وإحداث
مدارس صناعية وعلمية (كما يسمونها) للبنين والبنات، والإنفاق على ذلك من
المال المعد للمصالح العامة من أموال جماعة المسلمين (كما هو مقرر في الشريعة
الإسلامية) أما ما سبق تأسيسه من هذا النوع فإما أن تقوم به الحكومة الشريفية وإما
أن يُقفل، وعلى كل حال لا ينبغي أن يبقى تحت نفوذ المبشرين.
9- لا يعيَّن الرهبان والمبشرون مدرسين في مدارس الحكومة الشريفية أو
قائمين بإدارتها.
10- عدم التعرض لفقهاء المكاتب والمشارطين لتعليم (اللغة العربية والقرآن
الكريم بالقبائل) وإعطاء الحرية للوعاظ والعلماء وشيوخ الطرق الصوفية للتجول
في الأنحاء المغربية بقصد تعليم الناس أحكام دينهم وحثهم على شعائره.
11- إسقاط جوازات التنقل بداخل الإيالة المغربية (وخصوصًا فيما بين
المدن والقبائل البربرية) والاكتفاء بورقة التعريف الشخصية حتى لا يظل
الحضري بعيدًا عن أخيه البدوي، ويتعذر بذلك التفقه في الدين.
12- اعتبار جميع السكان الموجودين بالبلاد المغربية - ما عدا الأجانب -
تحت رعاية مولانا السلطان وسلطته، خاضعين للمحاكم الشرعية والمخزنية التي
تؤسس باسمه الشريف، وكذلك اعتبار جميع المغاربة مسلمين، ما عدا يهود
المغرب؛ بمعنى أنه لا توجد ملة ثالثة معترف بها للمغاربة الوطنيين.
13- منح العفو العام عن جميع المسجونين والمنفيين في هذه القضية البربرية
وعدم التعرض بسوء لكل من خاض فيها.
وبعد: فهذه هي مطالب الشعب المغربي التي يتعذب من أجلها عدد كبير من
عظمائه وشيوخه وشبانه في غيابات السجون. وهذا هو الملخص البسيط الذي
نقدمه لإخواننا الشرقيين عن حركة المغرب الكبرى التي تثير شعور العالم الإسلامي
أجمع، وعلى رأسه الأمة المصرية الكريمة، وجامعة الأزهر الشريف معقل
الإسلام وحصنه الحصين، والجمعيات الإسلامية المخلصة في مصر.
فهل لمفوضية فرنسة في مصر أن تكذب هذه الحوادث التي ذكرناها تكذيبًا
صريحًا؟ !
وهل لها أن تقول: إن فرنسة لا تأخذ من مالية المسلمين المغاربة ومن أحباسهم
(أوقافهم) الإسلامية إعانة مهمة للجمعيات التبشيرية التي تنشرها في كل أنحاء
المغرب؟
وهل تستطيع أن تنفي أنَّ عددًا من المراقبين الفرنسيين على رأسهم المراقب
المدني في قبيلة زمور منع البربر من بناء مسجدهم الإسلامي وأعان المبشرين على
إقامة الكنيسة هنالك بدل المسجد؟
وهل لها أن تكذِّب أن هذا المراقب نفسه ومراقب قبيلة بني نطير (إحدى
القبائل البربرية) خطبا في دائرتي نفوذهما قائلين: (إن العرب إنما هم غزاة
غرباء، وإن فرنسة إنما أتت للمغرب رغبة في إنقاذ الشعب البربري من العرب
وشريعتهم وسلطتهم؟)
وهل لها أن تقول: إنه لا يوجد في القبائل البربرية مدارس فرنسية تجبر
البرابرة على تسليم أولادهم إليها جبرًا وهي خالية من الإسلام ومن العربية؛ بل فيها
تبغيض الإسلام للبربر والتنفير من العرب؟
فما قول جريدة الأهرام المحترمة ومِن ورائها مفوضية فرنسة؟
هل تقول بعد هذا: إن ما يُنسب إلى فرنسة لا يمكن يعتقده إلا البسطاء
السذج؛ في معرض ردّها على جمعية الشبان المسلمين التي تعرف الحقيقة
وتساعد على نشرها لا تبغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا؟ اللهم إن الحقائق
واضحة لا يمكن أن ينكرها إلا مَن في قلبه مرض، أو في صدره غرض.
وأخيرًا نتقدم باسم الشعب المغربي إلى الأمة المصرية الكريمة وعلى رأسها
رجال الأزهر الشريف والمشتغلون بمسائل التدين والإسلام وقادة التفكير في مصر
شاكرين مغتبطين على مشاركتنا الفعلية لنا في أحزاننا واحتجاجاتنا ضد الحكومة
الفرنسية العاتية.
ونود أن يظل الرأي العام المصري واقفًا على الحقيقة الواقعة في المغرب
اليوم، وأن يناصر الأمة المغربية المسكينة في موقفها الجدي ضد فرنسة التي
اعتدت على دينها ووحدتها، كما اعتدت على جميع حرياتها، فليس هنالك أكذب
من ظالم ولا أصدق من مظلوم.
ونتقدم إلى إخواننا من أبناء الشرق الإسلامي وأممه راجين منهم أن يعينونا
على نشر هذه الحقائق بين أممهم وأن يساعدونا على رفع احتجاجاتنا الصارخة إلى
العالم شرقيه وغربيه وأن يناصرونا ضد طغيان فرنسة، ويعرفوا جميع الشرقيين
بالموقف الحاضر في المغرب الأقصى.
ولنا أقوى الأمل في إجاباتهم هذا الرجاء الصادر من أعماق قلوب شعب
مظلوم، وقيامهم بالواجب معنا جنبًا لجنب. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... الطلبة المغاربة بباريس
__________
(1) المنار: لتعلمْ جماعة شبان المغاربة وسائر المسلمين أن رئيس تحرير الأهرام يعلم كل ما ذكروه من محاربة فرنسا للإسلام ويعلم أكثر منه ولكنه مغرور وبجهل جمهور قراء الأهرام المسلمين، فهو يحارب دينهم بقلمه مساعدةً لفرنسة ولغير فرنسة، ويخدع أغرارهم بنشر مديح بعض منافقيهم له جزاءَ مدحه لهم، ولكن سريرته قد ظهرت في هذا العهد.
(2) المنار: كان لفرنسة تأثير عظيم في هذا الاضطراب.
(3) أي بزعم هؤلاء المضلين والحق أنه لم يتنصّر منهم في ذلك العهد إلا الأقلون.
(4) المنار: هذه الأخبار إجمال للرسائل التي جاءت من عدة بلاد من المغرب وكانت سبب إصدار البيان الإسلامي العام الذي نشرناه في هذا الجزء وفيها أن الصيغة التي أعلنوا بها الخير هي ما اعتادوه في أوقات الشدائد كالأوبئة والحروب من قولهم: يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادير، وتكرارها برفع الأصوات ألوفًا من المرار.(31/225)
الكاتب: مصطفى بن شعبان
__________
تهنئة للمنار ونقد واقتراح
من الأستاذ الفاضل وأحد دعاة الإصلاح بتونس صاحب الإمضاء:
حضرة صاحب الفضيلة مولانا الإمام العلامة المصلح الكبير الأستاذ الجليل
السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي الزاهر، دام فضلكم وأبقاكم الله
بدرًا منيرًا، وكوكبًا ساطعًا، ونجمًا للمسلمين، ورجمًا للملحدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عدد ما يشكركم شاكر، ويذكر فضلكم
ذاكر، وبعد:
يسرني أن أتقدم لحضرتكم بغرر التهاني بمناسبة دخول المنار المحبوب عامه
الجديد، جعله الله سعيدًا عليه وعليكم وعلى الجامعة الإسلامية بالتوفيق والهداية
وبلوغ الآمال، ونجاح الأعمال.
نراكم - يا سيدي العزيز - تقومون بواجب عظيم في محاربة الملحدين
الطائشين، وتقفون لهم في كل سبيل، فشكرًا لكم وألف شكر على هذه العناية
والجهاد في سبيل الله، وإن الملحدين لجديرون بأن تصوَّب إليهم الأقلام، وتنزل
على رؤوسهم الصواعق. فعندنا جريدة تدعو للإلحاد، وملحدون يقول أحدهم:
(إن محمدًا كان رجلاً استعماريًّا!) ويندم آخر على ما فرط منه في صغره من أداء
الصلوات وحفظ القرآن. ويقول آخر: إن الدين يلزم أن لا يتعدى المسجد كما فعل
م ... لعنه الله.
والذي ألفت إليه نظركم السديد هو - وإن عددتموه من باب (الانتقاد على
المنار) - الاهتمام بحركات الجامدين وجماعات الطرق الذين اتخذهم الغاصب آلة
بيده يديرهم كيف شاء ومتى شاء لتشتيت شمل المسلمين، ونشر دعايات المحتلين،
وما خيانتهم للأمير محمد بن عبد الكريم إلا أكبر مثال على ما لهؤلاء من اليد
الطولى في التفريق وتأييد الظالمين.
نعم - سيدي - أولئك جماعات الطرق الذين ينشرون الجهل، ويبثون فساد
الأخلاق، ويعملون مع النصارى ضد المسلمين، وأكاد أستغرب سكوت المنار على
المؤتمر الأفخاريستي الذي انعقد بتونس. وكان جديرًا بأمثال المنار أن يؤازر
تونس المقهورة ويضم صوته إليها في الاستغاثة من الذين يسعون في تصيير تونس
الإسلامية كنيسة مسيحية، ويؤازر أعمالهم الصادرة من أعماق الكنيسة رجال
السياسة عندنا ورجال الدين أيضًا، إذ هم قبلوا العضوية وكانوا مع الزمان علينا
بدل أن يصيحوا معنا، ولكن ابتلينا بهم ولا رادّ لقضاء الله. ولولا ضيق وقتكم
وكثرة أشغالكم وسعيي في عدم تفويت ثمين أوقاتكم عليكم - لحدثتكم كثيرًا عما
يختلج بضميري من الحوادث التي تقع عندنا. ورغمًا عن منافاتها للدين الحنيف فإن
رجالاً يقرونها بسكوتهم. وكذلك المصائب السياسية التي أمطرنا بها الاستعمار
الظالم فإنها لا تُحصى، ويكفي أن تلقي نظرة على أحوالنا فترى ما آل إليه أمرنا
و (كبراؤنا) ينظرون ويطربون! وسيأتي يوم ...
وأختم كلمتي هذه باقتراح نراه مع بساطته نافعًا إن شاء الله، وهو أن تصدروا
صحيفة أسبوعية مثل الفتح فإننا في حاجة إليها. وقد تزداد الحاجة يومًا فيومًا.
وعسى أن تعملوا بهذا الاقتراح ومثلكم لا يحتاج إلى تأكيد.
سيدي، قد وصلني السلام والثناء من حضرتكم مع الأستاذ طفيش، فشكرًا
لكم على عواطفكم وهديتكم المستمرة وأدام فضلكم وكتب لكم الإعانة والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... من ابنكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى بن شعبان
(المنار)
نشكر لأخينا في الله تهنئته وحسن ظنه، ونعجب لحضّه إيانا على بيان مفاسد
الجامدين، ومشايخ الطريق الدجالين، ومَن ذا الذي سبقنا في العالم الإسلامي إلى
هذا أو لحقنا في ميدانه، ولكن لا يمكن أن نحصي في كل جزء ولا في كل مجلد
من المنار كل ما في العالم الإسلامي من فساد وإلحاد، وكل ما يرهقه به أعداؤه من
ظلم واضطهاد، ولعله لم يطلع إلا على المجلدات الأخيرة التي أكثرنا فيها الكلام في
ملاحدة المسلمين لكثرتهم وإظهار دعايتهم في هذه السنين، وهم أضر علينا من
الخرافيين والمبشرين. وأما المؤتمر الأفخارستي فلم يكتب لنا شيء في موضوعه
إلا في هذا الشهر، وأما اقتراحه علينا إنشاء جريدة أسبوعية فقد اقترحه علينا غيره
من قبله ولكن أوقاتنا لا تتسع له وليس لنا مساعد على أعمالنا الكثيرة.
وأكثر محبي الإصلاح من علماء المسلمين وعقلائهم يقترحون علينا ترك كل
عمل يعوقنا عن إتمام تفسير كتاب الله تعالى الذي يتضمن كل ما يحتاجون إليه من
بيان لحقيقة الدين ودفاع عنه، ولعلنا نفضل هذا الاقتراح على غيره قريبًا، والله
الموفق.
__________(31/236)
الكاتب: عن جريدة أم القرى الغراء
__________
الشيخ سليمان بن سحمان
وفاته وترجمته
من جريدة أم القرى الغراء
نَعَتْ إلينا أنباءُ نجد وفاة العالم العلامة المِفضال الشيخ سليمان بن سحمان، وهو
من أكابر علماء نجد الأعلام، توفاه الله في هذا الشهر عن عمر ناهز الثمانين عامًا
قضاها في الدرس والتأليف. وقد كان لنعيه رنة أسى وحزن في نجد جميعًا ولدى
كل مَن عرف فضل الأستاذ وما آتاه الله من علم وفصل في الخطاب.
وُلد المرحوم في قرية (السقا) من أعمال أبها في عسير في الثلث الأخير من
القرن الثالث عشر الهجري، وإلى ذلك يشير في إحدى قصائده:
وأرض بها علي نيطت تمائمي ... تسمى (السقا) دار الهداة أولي الأمر
بلاد بني تمام حيث توطنوا ... وآل يزيد من صميم ذوي الفخر
وقد نشأ في قريته حتى راهق البلوغ ثم انتقل مع والده إلى بلد الرياض أيام
الإمام فيصل بن تركي رحمه الله، وقد كانت حينذاك آهلة بالعلماء الأكابر فأخذ
العلم عنهم لا سيما عن الإمامين الجليلين: الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن
ابن حسن، والشيخ حمد بن عتيق. فبرع في كثير من العلوم وعلى الخصوص في
علم التوحيد والفقه واللغة.
ثم تولى الكتابة للإمام عبد الله بن فيصل برهة من الزمن، ثم استقال وتفرغ
للعلم فدرس على علماء وقته أمثال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وأخيه الشيخ
إبراهيم، وعمهما الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن.
وكان جميل الخط فاشتغل في نسخ كثير من الكتب الجليلة، وقد كان هذا
وابتعاده عن الناس أكبر مساعد له على الدرس والمطالعة.
وكانت عنده كناشة كبيرة يجمع فيها ما يجده أثناء النسخ والمطالعة من
المسائل الدقيقة والقضايا العويصة وكان يرجع إليها عند الحاجة. وكان ضليعًا في
اللغة العربية، واقفًا على أسرارها.
وقد كان رحمه الله يميل إلى السكون والابتعاد عن الشهرة، فكان زاهدًا تقيًّا
صادعًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقد صنف المصنفات العديدة من نثر
ونظم، أكثرها في الرد على أهل الزيغ والإلحاد، منها:
(1) الأسنة الحداد في الرد على الحدّاد.
(2) الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق. ويريد به داعية
التعطيل في هذا العصر: جميل صدقي الزهاوي.
(3) تنبيه ذوي الألباب السليمة.
(4) الهدية السنية.
(5) إقامة الحجة والدليل.
(6) تبرئة الشيخين.
(7) الصواعق المرسلة.
(8) إرشاد الطالب.
(9) رسالة في الرد على أناس من الإحساء.
(10) رسالة في الرد على العلجي.
(11) كشف غياهب الظلام.
(12) فتاوى.
وغيرها من الكتب والردود.
وقد جمع ورتب رسائل أستاذه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن
آل الشيخ فبلغت نحو عشرين كراسة سماها (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل)
وكان المرحوم شاعرًا بليغًا جمع قسمًا من قصائده وأشعاره في ديوانه المسمى
(بعقود الجواهر المنضدة الحسان) وقد طبعت جميع كتبه على نفقة حضرة صاحب
الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود المعظم ووزعت على طلاب العلم مجانًا.
هذا ما اتصل بنا من ترجمة المرحوم الأستاذ رحمه الله تعالى.
وفي الجملة فقد كان رحمه الله من سيوف الله المسلولة على أهل الزندقة
والإلحاد، وصاحب الحجة الدامغة في دفع الشبه والريب التي يذيعها أهل المروق من
الدين، والذين كان يغريهم شياطين السياسة من المرتزقة المرذولين. وكان
شديد الصراحة فيما يعتقد من الرأي، لم يعرف المحاباة في رأيه مدة حياته وهو في
كل مجالسه حفيًّا بالسؤال عن كل ما يطبع من الكتب النافعة كما يحرص
على اقتنائها. وقد كفّ بصره في آخر حياته ولكن ذلك لم يمنعه عن المطالعة
والتأليف وتفقد الذين يطعنون في الإسلام وفي دين التوحيد الخالص لرد كيدهم إلى
نحورهم.
وبهذا كان رحمه الله ركنًا من أركان الدعوة إلى الله، والسيف القاطع لمن
يريد أن يصد الناس عن سبيل الله.
فنسأل الله أن يُنزل عليه غيث رحمته، وأن يوفق للعمل كي ينشأ كثيرون من
طلبة العلم على منوال الشيخ المرحوم؛ فلا تفقد نجد بهجة علمها وعلمائها.
__________(31/238)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ أبو بكر خوقير
وفاته وملخص ترجمته
(1)
فاجأتنا أنباء الحجاز في الشهر الماضي بوفاة صديقنا العالم العامل المصلح
الشيخ أبو بكر خوقير، تغمده الله تعالى برحمته، فننشر للقراء موجزًا من ترجمته
كما علمناه من أصدق إخواننا وإخوانه. فنقول:
هو أبو بكر بن محمد عارف بن عبد القادر بن محمد علي خوقير. من بيت
علم بمكة، ولد فيها وتفقه أولاً على مذهب الحنفية تبعًا لآبائه، ثم إن أستاذه مفتي مكة
الشيخ عبد الرحمن سراج الحنفي أشار عليه وعلى آخرين من طلبة العلم بأن
يتفقهوا في المذهب الحنبلي؛ ليكون في علماء الحجاز مَن يتولى منصب الفتوى في
هذا المذهب بدلاً من علماء نجد؛ الذين كانوا يتولونه لعدم وجود أحد من علماء
الحنابلة في الحجاز، ولم يكن هذا مما ترتاح إليه الحكومة العثمانية ولا أمراء الحجاز،
فدرس الفقيه المذهب، وتمكن فيه وفي مذهب السلف في العقائد. وقد عُين مفتيًا
للحنابلة في أول إمارة الشريف حسين بن علي، ولم يلبث أن غضب عليه فعزله
وعين بدله أحد الشافعية، فكان لا يُفتي للحنابلة إلا بعد مراجعته والأخذ بما يرشده
إليه، وجعله الشريف حسين عضوًا في مجلس الشيوخ ثم عزله بعد سنة لاعتراضه
على خوض محرر جريدة القبلة في تفسير القرآن بغير علم، وكان الشريف نفسه هو الذي يفسر بعض الآيات برأيه في بعض المقالات التي ينشرها في تلك الجريدة وفي
بعض بلاغاته الرسمية أيضًا.
وقد امتحن وأُوذي إيذاءً شديدًا جزاءً له على إنكار البدع والخرافات ولا سيما
بدع القبوريين والمتصوفين، حُبس أولاً ثمانية عشر شهرًا، ثم حبس ثانيًا نحوًا من
سبعين شهرًا في عهد الشريف حسين، وحبس ولده الشيخ عبد القادر في سجن القبو
الذي هو شر من سجن الحجاج بن يوسف، وقد سبق وصفه في المنار، فمات فيه
صبرًا، وكان له ابن صغير فمات كمدًا وقهرًا، وخرج الشيخ من سجنه لا مال له،
وإنما كان يصيبه قليل من أوقاف الحرمين التي تأتي من الآستانة ومصر والشام
والعراق. وكان قد اعتاد الاتِّجار بالكتب منذ عزله الشريف عون الرفيق من وظائف
الحرم الشريف؛ إذ كان غضب على الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة ورئيس
العلماء فيها فعزله وعزل جميع رجاله من المفتين والمدرسين. وكان للفقيد منها
إفتاء الحنابلة وإمامة الصلاة في مقام الحنابلة كما كان مدرسًا.
وكان يدعو للشريف عون بالرحمة لإلجائه إلى تجارة الكتب التي تعينه على
العلم، فكان يذهب إلى الهند يحمل إليها من مطبوعات مصر ومكة ويعود منها
ببعض مطبوعاتها إلى مكة، وقد جلست إليه في مكتبته في باب السلام غير مرة،
وكان مهذبًا رقيق الطبع حسن المعاشرة على شدته في دينه وأمره بالمعروف ونهيه
عن المنكر، حتى أن مجلسه لا يخلو من دعابة ما في المفاكهة، ونكت أدبية
وتاريخية وكان يحب سماع الأصوات الشجية ولا يرى بها بأسًا.
(للترجمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________(31/240)
جمادى الأولى - 1349هـ
أكتوبر - 1930م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من قبودان الصين لأحد العلماء وأصحاب الصحف
(27-32)
من أحقر الأنام، عثمان بن حسين الصيني إلى الأستاذ العلامة محمد رشيد
يا سيدي سلام عليكم ورحمة الله (وبعد) :
فقد وصل إلى الفقير الجزء الأول من المنار الشريف وأحاط بما فيه وسُرّ
سرورًا شديدًا، جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء.
فالمرفوع آنفًا أن علماء الصين تنازعوا في بضع مسائل:
(1) أن بعضهم قالوا بأن أرض الصين دار إسلام فإن المسلمين تولدوا في
الصين ونشئوا وتمكنوا على التدين والعمل بالشرائع فهي دار إسلام فأحكام دار
الإسلام كعدم جواز بيع الخمر ووجوب العشر ونحو ذلك جارية فيها، وبعضهم قالوا
بكونها دار حرب فإن المسلمين داخلون تحت الحكام والقضاة للكفار وليس لهم قاضٍ
ولا حاكم مستقل.
(2) أن مسلمي الصين يَدْعُون الإمام والمؤذن والقراء إلى بيوتهم لقراءة
القرآن لأجل موتاهم، وعادتهم إن دعوا مثلاً عشرة قراء إلى بيوتهم فقرأ كلٌّ ثلاثة
أجزاء من القرآن معًا أو قرؤوا كل جزء إلى نصفه أو أقل أو أكثر باختيارهم
فأطبقوا القرآن فإن الداعي يُخرج لهم أنواع الطعام ويعطي كل واحد منهم أربعة
دراهم أو أقل أو أكثر بعد الأكل وهذا ديدنهم.
فقال بعض العلماء إن هذا مخالف للكتب الفقهية لا يجوز وغيروا هذه العادة
ثم صار أمرهم إلى أنهم إن قرؤوا عن الغير لم يأكلوا ولم يقبلوا الهديات وإن أكلوا
من طعام الداعي لم يقرؤوا، لكن نهض بعض أهل العلم والقوم لمعارضتهم وهم الذين
قراءة القرآن عند القبر مناط معاشهم ولم يرضوا بتغيير عادة السلف وأخذوا في
القيل والقال، فالمرجو من كرمكم - يا سيدي - إعطاء الجواب الحسن القاطع
للنزاع بينهم المفيد على مذهبنا الحنفي؛ لأنهم وقعوا في ورطة للتفرق والشقاق بهذا
السبب.
(3) إن بعض الناس إذا وجع ضرسه أو داد سنه وفسد وضع ضرسًا من
الذهب أو غيره في موضعه وإذا فسد بعض ضرس رصعه بالذهب وسده به
وأصلحه. هل هذا جائز أم لا؟ هل هو مانع لصحة الغسل أو لا؟ هل وجود
الضرورة شرط لجواز الوضع؟ وهل إخراج هذا الضرس الوضعي بعد الموت
واجب أم لا؟
(4) إن بعض نساء المسلمين قطعن ذوائبهن؛ لاقتفاء النساء الإفرنج
والمشركات ويمضين في الأسواق بغير قناع هل هذا حرام غليظ أم خفيف كيف
حكمه على مذهبنا الحنفي؟
(5) بعض مسلمي الهند لم يتمذهبوا بمذهب من مذاهب الأئمة رضي الله
عنهم وقالوا إن أهل المذاهب خالف بعضهم بعضًا بل خالف رأي بعض الأئمة
الحديث الشريف وهذا يؤدي إلى التشاجر والتقاطع ونحن محمديون نقتدي بالقرآن
وبمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ونعمل بالقرآن والحديث، لا نقتدي بهذا ولا
بذاك هل رأيهم هذا صواب أم لا؟
فالمرجو من كرمكم الفتوى وإعطاء الجواب على التفصيل على مذهبنا الحنفي
سراعًا.
جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء فإنا كالضفادع في غَيَابة الجُبّ.
(6) ثم بقية المرام أنهم تنازعوا في مسألة الهلال، ودخول شهر رمضان
وخروجه وقبول أخبار الآفاق بالرؤية وعدمه وتخالفوا، فالإرشاد الإرشاد، فلله
دركم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... الداعي تلميذكم
... ... ... ... عثمان بن حسين بن نور الحق الحنفي الصيني
أجوبة المنار على ترتيب عدد باب الفتاوى
(27) دار الإسلام ودار الحرب:
إن دار الإسلام هي البلاد التي تنفذ فيها شريعة الإسلام بالسيادة والحكم من
قِبَل أولي الأمر من المسلمين. لا كل بلاد يمكن للمسلم فيها أن يصلي ويصوم؛
فإننا إن قلنا بهذا حكمنا بأن جميع ممالك أوربة وأميركة دار إسلام، إذ لا يُمنع أحد
فيها من صلاة ولا صيام، وإن المسلمين يصلون الجمعة والعيدين في باريس
عاصمة فرنسة ولندن عاصمة الإنكليز فهل هما من دار الإسلام؟ . كلا. ولا كل
بلاد فتحها المسلمون وإن زال حكمهم منها دار إسلام، فإننا إن قلنا بهذا نكون قد
حكمنا بأن بلاد الأندلس وجنوب فرنسة دار إسلام. وإننا ننقل لهؤلاء المختلفين في
هذه المسألة بعض أقوال فقهاء الحنفية الذين ينتمون إلى مذهبهم:
قال في الكافي: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من
البلاد، ودار الحرب ما يجري فيه أمر رئيس الكفار من البلاد. وفي الزاهدي أن
دار الإسلام ما غلب فيه المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من
الكافرين. ولا خلاف في أنه يصير دار الحرب دار الإسلام بإجراء بعض أحكام
الإسلام فيها. وأما صيرورتها دار الحرب نعوذ بالله تعالى فعنده [1] بشروط:
(أحدها) إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم بحكمهم ولا يرجعون
إلى قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من الإسلام كما في الحرة.
(وثانيها) الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد الإسلام
يلحقهم المدد منها.
(وثالثها) زوال الأمان أي لم يبق مسلم ولا ذِمّيّ آمنًا بأمان الإسلام، ولم
يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة كما كان قبل استيلاء الكفرة،
وعندهما [2] لا يشترط إلا الشرط الأول. اهـ.
هذا، وإن الصين لم تكن دولة إسلامية تابعة لخليفة من أئمة المسلمين ولا
لسلطان من سلاطينهم تنفذ فيها أحكام شريعتهم ويكون مسلمو أهلها آمنين فيها
بإسلامهم وغير المسلمين آمنين بعقد الذمة مع أولي الأمر من المسلمين فتكون دار
إسلام، فلا أدري من أين جاءت الشبهة لبعض متفقهة إخواننا من مسلميها بأنها دار
إسلام؟ !
نعم، إن بعض فقهاء الحنفية تساهلوا في شروط إبقاء حكم دار الإسلام في
البلاد التي تنفصل من سلطنة إمام المسلمين بتغلب الكفار أو البغاة عليها فلا
يشترطون في صيرورتها دار حرب الشروط الثلاثة التي اشترطها إمام المذهب
الأعظم، بل قال بعضهم: إنها تعد دار الإسلام والمسلمين ببقاء بعض أحكام الإسلام
فيها ولو حكمًا واحدًا (كما في العمادي وفتاوى عالم كير وفتاوى قاضي خان
وغيرها) ولكنهم جعلوا هذا من قبيل الاحتياط كما في جامع الرموز، والذي نفهمه
من الاحتياط أنه يجب على أهل هذه البلاد أن يعدوها تابعة لحكومة خليفة الإسلام،
ويجتهدوا في إزالة ما عرض لهم فيها من العدوان، كما فعلت بعض البلاد التي
استولت عليها جيوش الدول الأوربية وأبطلوا فيها بعض أحكام الإسلام دون بعض.
وهذا الاحتياط لا يمنع الإمام في دار الإسلام والعدل من التصدي لإعادتها إلى حكمه
ولو بالقتال عند الإمكان، ومن هذا القبيل ما ذكرناه من البحث في دار الإسلام
الأصلية مما تغلَّب عليه أهل الحرب من الكفار وقلنا بوجوب سعي المسلمين إلى
إعادة حكم الإسلام فيها (راجع ص 576 و580 من مجلد المنار 30) .
ولكن هذا الاحتياط لا يأتي في بلاد الصين فهي دار كفر وحرب من الأصل
فيباح لأهلها المسلمين في مذهبهم الحنفي أكل أموال غير المسلمين فيها بالعقود
المعروفة فيها كالربا وغيره وبكل وسيلة من وسائل التعامل والتراضي أو ما عدا
الغدر والخيانة فإن الإسلام لا يبيح هذه الرذيلة. ولا ينبغي لمسلم أن يبيع فيها
الخمر لشاربيها بفتح حانة لها؛ لأن هذا إعانة على الفحشاء والمنكر والشرور،
ولكن له أن يأخذ ثمن الخمر في دَيْن له، وكذا الخمر نفسها وبيعها لهم لا للمسلمين،
ولهذا الباب فروع كثيرة لا محل لذكر شيء منها هنا.
ولكنني أزيد على هذا الجواب تنبيه قرائه من علماء مسلمي الصين وعقلائهم
ما أعتقده من أنهم لو أقاموا دينهم كما يجب، ونموا ثروتهم بالطرق العصرية
المباحة في مذهبهم، ونشروا المعارف الإسلامية والاقتصادية بينهم، وعنوا مع ذلك
بنشر دعوة الإسلام في الصين كما يعنى دعاة النصرانية - لغلب الإسلام في الصين
جميع الأديان، وصار دولة إسلامية عزيزة السلطان، باذخة البنيان، قوية الأركان.
وقد كان كثير من ساسة أوربة وعلمائها في القرن الماضي وأوائل هذا القرن
يحسبون لهذا الأمر كل حساب. وقد صرح به بعضهم ونقلنا بعض أقوالهم في
مجلدات المنار الأولى وأولها ما نشرناه في المجلد الأول بتاريخ ربيع الآخر سنة
1317 وسنعيد نشره كله أو بعضه في جزء آخر ليعتبر مسلمو الصين بتقصيرهم.
***
(28) قراءة القرآن للموتى وأخذ الأجرة عليها
قراءة القرآن عبادة كالدعاء والذكر لا يجوز أخذ الأجرة عليها بوجه من
الوجوه. وإذا كان فقهاء الحنفية منعوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأنه عبادة
فمنع أخذها على قراءته أولى بالحظر، لأن للأخذ على التعليم وجهًا وقد قال
الجمهور بجوازه. وقد بينا هذه المسألة في الفتوى العاشرة من فتاوى مجلد المنار
الثلاثين (ص108) .
وأما أصل مسألة القراءة على الموتى فقد فصلنا القول فيها في 16 صفحة من
جزء التفسير الثامن (صفحة 255-270) وبينا أن التحقيق أن قراءة القرآن
للموتى بدعة غير جائزة وذكرنا أدلة مجوزيها مع بيان ضعفها فليراجعها السائل.
ولكن هنا مسألة أخرى وهي أن قراءة القرآن في البيوت من الأمور التي
تقوي إيمان أهل البيت وتزيد أنس أرواحهم وشرح صدورهم بالإسلام سواء فهموا
القرآن أو لم يفهموه، فإن سماعهم له مع اعتقادهم أنه كلام الله تعالى يؤثر في
قلوبهم بقدر إيمانهم، وفائدة من يفهم منهم تكون أعظم. وقد جرت عادة الموسرين
في بلاد مصر أن يجعلوا في كل بيت من بيوتهم حافظًا من حفاظ القرآن يتلوه في
ليالي رمضان من بعد صلاة العشاء والتراويح إلى وقت السحور، ومنهم من يقرأ
القرآن في داره كل يوم، ويعطون لهؤلاء القراء شيئًا معينًا في الشهر من باب الهبة
والتبرع، لا الأجرة التي تثبت بالتعاقد، وقد فرقت الشريعة بين التعاقد والتبرع
الاختياري فثبت في الأحاديث الصحاح استحباب قضاء الدين بزيادة وفضل عن
أصله، وأخذ بهذا من لا يبيح التعاقد على هذه الزيادة بل يعدها من الربا، والمتفقه
من هؤلاء القراء يستبيح أخذ ما يُعطاه من هذا الباب، وكذلك المعطي له يعد ذلك
قربة من باب الصدقة لا الأجرة على التلاوة.
وقد ذكرت هذه المسألة في الفتوى العاشرة من المجلد الماضي التي أشرت
إليها آنفًا، وقلت فيها:
فإذا قصد القارئ ذلك (أي فائدة السامعين للقرآن) مع التعبد والاتعاظ بنفسه
أرجو أن يباح له أخذ ما يُعطَى في كل شهر وهو يكون بغير عقد، وهو غير
خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا بهذه
الوسيلة، وهو هجر للقرآن وناهيك به من مصيبة.
فالذي أراه أن يجتمع إخواننا المختلفون في هذه المسألة في بلاد الصين
ويتذاكروا فيما كتبناه لعلهم يتفقون على أن يكرموا قراء القرآن بشيء من المال
يدفعه لهم الموسرون في كل شهر، ويرغِّبون إليهم أن يختلفوا إلى بيوتهم في أوقات
معينة لتلاوة القرآن فيها، وأن يكون من هذه الأوقات ما تحدث فيه المصائب
لتعزية أهلها وصرفهم عن البكاء بسماع القرآن على أن لا يعطوهم شيئًا في هذا
الوقت بنفسه كالسابق.
وأما أكل الطعام في هذه البيوت فيحسن أن يكون في الأوقات التي يأكل فيها
غيرهم من الأصدقاء أو الفقراء وأن لا يقرؤوا فيها.
***
(29) الأضراس الصناعية وإصلاح الطبيعية بالحشو والذهب:
صرح بعض الفقهاء في كتاب الخلاف بجواز ما ذكر في السؤال كله وباتخاذ
مَن جدع أنفه أنفًا من ذهب وقد أمر به النبي بعض أصحابه. رواه الترمذي وهو
حديث حسن، والسن والضرس أولى بالجواز ولم يذكروا فيها خلافًا، قال النووي
في المجموع: وقول المصنف إن اضطر إلى الذهب جاز استعماله فمتفق عليه وقال
أصحابنا فيباح له الأنف والسن من الذهب ومن الفضة وكذا شد السن العليلة بذهب
وفضة جائز ويباح أيضًا الأنملة منهما.. إلخ ولم يذكر فيه خلافًا للمذاهب كعادته.
والأصل في التداوي وإزالة الضرر والفساد الإباحة بمعناها الأعم المقابل
للحظر، فيدخل فيها الواجب، والتداوي وإزالة الآلام العارضة والآفات المفسدة
للأعضاء بما هو معروف مجرب واجب. والتحقيق أن الحرام لا يثبت إلا بنص
قطعي من الشارع كما صرح به الإمام أبو يوسف نقلاً عن مشايخه وعن السلف
الصالح وهو رواية عن الإمام أحمد، وصرح شيخ الإسلام ابن تيمية من كبار حفاظ
الحديث والآثار أن السلف لم يكونوا يحرمون شيئًا إلا بدليل قطعي، كما بينا ذلك
في المجلد الثلاثين من المنار.
وقد اختلف الأئمة في استعمال الذهب والفضة ولم يصح النهي عن النبي
صلى الله عليه وسلم إلا عن الأكل والشرب في أوانيهما وعن خاتم الذهب وإن صح
عن بعض الصحابة (رضي الله عنهم) لبسه، وكذا لبس الذهب إلا مقطعاً وبهذا
يقول فقهاء الحديث المستقلون. ومذهب الشافعي القديم أن النهي عنهما للكرامة.
قال القرطبي: وشذت طائفة فأباحتهما مطلقاً ونقله عنه الحافظ ابن حجر في
شرح البخاري. وأما جمهور فقهاء المذاهب فيحرمون جميع أنواع الاستعمال إلا ما
ورد النص به كخاتم الفضة والضبة في الإناء على تفصيل معروف، أما الأكل
في صحافهما والشرب من آنيتهما فبالنص وأما ما في معناهما من الاستعمال
فبالقياس، على أنهم مختلفون في علة التحريم.
ويرد عليهم من لا يثبت من القياس إلا المنصوص على علته أو المعلومة
علته بالقطع كالإسكار في الخمر. ويرد عليهم أهل الحديث بقوله: صلى الله عليه
وسلم: ( ... وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ - رحمة بكم غير نسيان -
فلا تسألوا عنها) وهو من حديث رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين.
وروى معناه البزار والحاكم وصححه وغيرهما.
ويُستثنى من المحرم - ولو بالنص - ما احتيج إليه لدفع ضرر، وقد صح
في الحديث الإذن بلبس الحرير لدفع ضرر القُمَّل ومثله ما هو مثله في الضرر،
وما هو أشد بالأولى ومنه مداواة الأضراس وحفظها من السقوط بتلبيسها بالذهب
وهو ليس لبساً ولا زينة. وينبغي نزع الأضراس الصناعية عند غسل الجنابة ليعم
الماء الفم كله بالمضمضة وواجبة فيه عند الحنفية وسنة عند الجمهور. ولكن لا
يجب نزع لباس الضرس الملبس بالذهب ولا من الميت لما فيه من المشقة بل يتعذر
على غير الطبيب. ويزال من الميت كل شيء صناعي زائد لا يترتب على نزعه
منه تشويه شيء من جسمه.
***
(30) تفرنج النساء بالتبرج وقص الشعور ... إلخ:
إن ما ذكره عن النساء فيه مخالفة لأحكام الشرع الإسلامي من عدة وجوه
ومفاسده تختلف باختلاف أحوال البلاد العامة. والاعتصام بالدين والتهاون به وغلظ
التحريم وخفته منوطان بدرجة ما في العمل من الفساد:
فمنه أنه من ذرائع الزنا ومسهلاته، ومن أسباب ترك الصلاة، ومن أسباب
قلة إقبال الرجال على الزواج الشرعي لعدم الثقة بعفة النساء الحافظة للنسل.
ومن مفاسده الاجتماعية السياسية التي يغفل عنها أكثر الناس أنه مقطع لروابط
الأمة، مضعف لتماسكها ووحدتها، ومعد لها لقبول عادات الكفار الذي قد ينتهي
بقبول الدخول في دينهم.
ومن الثابت بالاختبار أن ارتكاب الصغائر يجرِّئ على الكبائر وأن الاستهانة
بالكبائر يفضي إلى الكفر كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر.
ومن المجمع عليه أن استحلال مخالفة القطعي من الأوامر والنواهي الإلهية
كفر وردة عن الإسلام.
فيعلم من هذا أن بعض ما ذكر عن النساء مكروه وبعضه محرم خفيف أو
غليظ وبعضه يخشى أن يكون كفراً أو يفضي إلى الكفر باستحلال مخالفة الأمر
والنهي.
***
(31) التمذهب وأهل الحديث في الهند:
إذا أردتم أن تعرفوا الحق في هذه المسألة بأدلته الشرعية التي جرى عليها
الأئمة الأربعة وغيرهم رضي الله عنهم فطالعوا ما أرسلناه إليكم من كتاب الوحدة
الإسلامية مع مقالات المصلح والمقلد ورسالة (القول السديد في بعض مسائل
الاجتهاد والتقليد) لأحد علماء الحنفية؛ إذ لا يمكن تفصيل القول في ذلك في فتوى
مختصرة مستعجلة، وقد سبق لنا بسطه في المنار، فإعادته تكرار لا حاجة إليه.
ومنه تعلمون أن أهل الحديث في الهند وغيرها على صواب وأنهم أولى باتباع
الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف الذين صرحوا بتحريم تقليدهم وتقليد غيرهم
ووجوب اتباع الكتاب والسنة دون ما خالفهما. فإن بقي عندكم شبهة في المسألة بعد
مطالعة ما ذكرنا فاكتبوا إلينا به لنجيبكم عنه بما يدفع الشبهة ويجلِّي الحجة إن شاء
الله تعالى.
***
(32) مسألة هلال رمضان:
إن الشارع ناط مسألة رمضان وغيره برؤية الهلال بالأعين كما ناط مواقيت
الصلاة بأمور مشهودة بالحس حتى لا يختلف المسلمون ولا يكونوا محتاجين في
مواقيت دينهم إلى الرؤساء والعلماء. ولكن المسلمين ضيقوا على أنفسهم باختلافهم
في الكتاب الذي سدّ أبواب الخلاف في الدين وزادته السنة بياناً بالعمل وقد نهوا أن
يشددوا على أنفسهم كما فعل بنو إسرائيل والنصارى من قبلهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) . وهو متفق عليه ومشهور يذكره فقهاء جميع المذاهب
في كتبهم وخطباء المنابر في خطبهم، ولكن المسلمين قلما يعملون به كما يجب،
فإذا استهل جماعة من أهل البلد بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من
شعبان ولم يروا الهلال ولم يكن هنالك مانع من رؤيته كسحاب أو قتر وجب عليهم
إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً وليس لهم أن يقبلوا قول مخبر برؤيته، وأما إن كان
هنالك مانع من الرؤية وشهد غيرهم بأنه رآه وجب أن يقبلوا شهادته. وفي المسألة
فروع كثيرة يُبنى بعضها على اختلاف الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع وعدمه،
فينبغي للسائل أن يبين لنا بالتفصيل اختلاف أهل بلده في المسألة وما يستدل به كل
فريق لعلنا نوفَّق إلى إفتائهم بما يرفع الخلاف والله الموفق.
_______________________
(1) يعني الإمام أبا حنيفة (رحمه الله) .
(2) يعني الإمام أبا يوسف والإمام محمد بن الحسن.(31/241)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تلبُّس الجن بالإنس
(س33) من صاحب الإمضاء في المحمودية (بحيرة)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) :
فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي:
كيف يتلبس الجن بالإنس؟ وهل يجوز ذلك؟
فأرجو من فضيلتكم الجواب على ذلك مع الدليل، ولحضرتكم الشكر.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز الصاوي الخولي
(ج) لم نفهم مراد السائل من قوله تلبس الجن بالإنس؟ هل هو دخول
روح الجني في جسم الإنسي، أم تمثل الجني بصورة الإنسي؟ ومهما يكن مراده
فجوابي أنني لا أدري كيف يكون ذلك؛ لأنه من علاقة شيء من عالم الغيب بشيء
من عالم الحس، وأما كوْن ذلك جائزاً عقلاً فلا شك فيه ولا فائدة منه، وإنما العبرة
بوقوعه، وللناس فيه خرافات كثيرة مضارها معروفة، وإن لنا مباحث طويلة في
أمثال هذه المسائل في الكلام على الجن والشياطين وتمثُّلهم وتمثل الملائكة في
الصور المادية وفي الصَّرْع، يحسن من السائل أن يراجعها في أجزاء التفسير
السابع والثامن والتاسع فلعلها تكفيه، وهي تطلب من حرفي الجيم والشين من
الفهرس أي من لفظي الجن والشياطين.
***
حديث مَن قال لا إله إلا الله ومدها
(س34) من صاحب الإمضاء ب البلينا في الصعيد
حضرة صاحب الفضيلة مفتي الأنام وخليفة الأستاذ الإمام، السيد محمد رشيد
رضا متعنا الله بعلومه
بعد تقديم أوفر التحية، وغالي التمنيات القلبية
نتمنى أن تكون فضيلتكم في أعلى مراتب الصحة
قرأت في بعض كتب الحديث حديثاً نصه قال عليه الصلاة والسلام: (مَن
قال لا إله إلا الله ومدها هدمت له أربعة آلاف ذنب من الكبائر - قالوا: وإن لم
يكن له كبائر؟ قال: هدمت لأهله وجيرانه) ، فلم أعلم مبلغ صحة هذا الحديث ولم
يمكني التوفيق بينه وبين قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء:
123) وقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وقوله
تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ، فرفعت قولي هذا
راجيًا نشر ما ترتاح إليه النفوس وتطمئن إليه الأفئدة بصدد هذا على صفحات
مجلتكم (المنار) الغراء في العدد القادم.
أدامكم الله لكشف الشبهات، وتقرير البينات، إنه مجيب، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... المخلص لفضيلتكم
... ... ... ... ... ... ... ... توفيق عبد الجليل
... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة العرابة المدفونة بالبلينا
(ج) الحديث ذكره الحافظ محمد بن طاهر في (تذكرة الموضوعات) وقال:
فيه عباد بن كثير الكاهلي متروك الحديث، فهذا سنده لا يعتد به، ومتنه أبطل
من سنده لمخالفته لأصول الشريعة وهي من علامة الحديث الموضوع. فلا حاجة
إلى إطالة القول فيه.
***
حكم نَسْخ كتب الكفر والإضلال بالأجرة
(س35) من صاحب الإمضاء في الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حضرة الفاضل العلامة المحقق الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا، حياك الله
ومتع الإسلام بحياتك. آمين.
بعد واجب السلام والاحترام ألتمس الجواب من فضيلتكم في مجلة المنار على
السؤال الآتي:
إنه لا يخفى عن جنابكم أمر الأموال التي ينفقها المبشرون في سبيل رواج
دينهم وتضليل المسلمين ما استطاعوا إليه سبيلاً، والحمد لله لم ينالوا مرغوبهم في
البلاد العربية. وقد رأيت مسلماً صَنعته خطَّاط بالعربية فيخط كتب المبشرين
ويؤدون إليه بأجرة يتفق عليها، فهل يجوز له أن يخط كتب المبشرين وهو يعلم
بأنهم يريدون بها تضليل المسلمين؟ وهل يحل له قبض هذه الأجرة أم حرام عليه؟
فأفيدونا ولكم الأجر من الملك العلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الجزائري
(ج) إن هذه الكتب التي يؤلفها وينشرها دعاة النصرانية (المبشرون)
مشتملة على أقبح الكفر بالله والشرك به والطعن على القرآن المجيد وعلى خاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم؛ فمساعدتهم على ذلك بنسخها لهم مشاركة في نشر
الكفر وهو كفر ظاهر لا يقترفه مسلم يؤمن بالله ورسالة أفضل رسله وأكملهم، ويعد
صاحبها فاسقاً لا كافراً، فإن كان هذا المسلم الجغرافي يجهل هذا فيجب إعلامه به
ودعوته إلى التوبة وترك الكسب بما هو كفر وعداوة لله ورسوله، فإن أصر على
ذلك بعد العلم وقيام الحجة عليه فيجب أن يُعامَل معاملة المرتدين بما يقدر عليه
المسلمون في وطنه منها، فلا يزوجونه امرأة مؤمنة، وإذا مات فلا يصلينَّ عليه
أحد ولا يدفننَّه في مقابر المسلمين. وإذا كان في بلده محكمة شرعية فيجب أن ترفع
عليه فيها دعوى الردة من قِبَل زوجته إن كان له زوجة مسلمة فتطلب فسخ عقد
الزوجية والتفريق بينها وبينه، ولكن يجب أن يُدعَى أولاً إلى التوبة باللطف والسر
لئلا يكون عمله عن جهل فتأخذه العزة بالإثم ويلتحق بالكفار.
_______________________(31/278)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
جمع كلمة المسلمين
قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي
ومشاركتهم في صلاة الجماعة واتقاء تكفيرهم
للإمام شيخ الإسلام وعلم الأعلام
تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى وتقدس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ
مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ *
وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: 102-106)
قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة
والفرقة {.. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ
تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وَجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل
عمران: 106-107) .
وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الخوارج: (إنهم كلاب أهل النار) وقرأ هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وَجُوهٌ} (آل عمران: 106) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من
عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع
صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من
الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة) ، وفي رواية: (يقتلون أهل الإسلام ويدَعون
أهل الأوثان) .
والخوارج هم أول مَن كَفَّر المسلمين بالذنوب. ويكفرون مَن خالفهم في
بدعتهم ويستحلون دمه وماله وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون مَنْ
خالفهم في بدعتهم، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله
ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق.
وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين.
أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار وطلب قتل عبد
الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد مَن يُفضِّله على أبي بكر وعمر. ورُوي عنه
من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه
البخاري في صحيحه.
***
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلُّون الجُمع والأعياد والجماعات، لا
يَدَعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام
مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة
الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه لا تجوز الصلاة إلا
خلف مَن علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم
المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم
أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره - فأكثر أهل العلم يصححون
صلاة المأموم , هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك
وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها
مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلَّى خلف المبتدع والفاجر عند
عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل
وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم.
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه
على سبيل الاستحباب، كما نُقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمَن سأله. ولم يقل
أحد: إنه لا تصح إلا خلف مَن عرف حاله.
ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك
الزمن مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع
وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف مَن يعرفونه لأجل
ذلك [1] ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت كلمة السنة
المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة
محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى
عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان
يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعًا وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد
الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة
والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهمًا بالإلحاد وداعيًا إلى الضلال.
***
فصل
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع
فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285) وقد ثبت في
الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين
من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي
وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي
حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم،
لا لأنهم كفار. ولهذا لم يَسْبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم
الحق في مسائل غلط فيها مَن هو أعلم منهم؟ !
فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى وأن تستحل دمها ومالها، وإن
كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة
هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على
بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم - لما خطبهم
في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
في بلدكم هذا في شهركم هذا وقال صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم
حرام: دمه وماله وعرضه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى صلاتنا
واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله) وقال: (إذا التقى
المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله: هذا القاتل، فما
بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه) وقال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب
بعضكم رقاب بعض) وقال: (إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)
وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن
الخطاب لحاطب [2] بن أبي بَلْتَعَة: (يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطَّلع
على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ !) وهذا في الصحيحين.
وفيهما أيضًا من حديث الإفك: أن أُسيد بن الحُضير قال لسعد بن عبادة: إنك
منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم
بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم مَن قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي
صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله
إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: (يا أسامة، أقتلته
بعدما قال لا إله إلا الله؟ ! وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن
أسلمتُ إلا يومئذ) . ومع هذا لم يوجب عليه قودًا ولا كفارة؛ لأنه كان متأولاً ظن
جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذًا.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضًا من أهل الجمل وصِفِّين ونحوهم وكلهم
مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)
فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر
بالإصلاح بينهم بالعدل؛ ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضًا موالاة
الدين لا يُعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم
من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض،
مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه: (أن لا يهلك
أمته بسَنَة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأعطاه ذلك،
وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يُعْطَ ذلك) وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوًّا
من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضًا وبعضهم يسبي بعضًا.
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ
عَذَاباً مِّن فَوْقِكُم} (الأنعام: 65) ، قال: (أعوذ بوجهك) {أَوْ مِن تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ} (الأنعام: 65) ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض} (الأنعام: 65) قال: (هاتان أهون) !
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة) وقال:
(الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) وقال: (الشيطان ذئب الإنسان
كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم) .
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم
الجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالًّا أو غاويًا وأمكن أن
يهديه ويرشده - فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإذا كان قادرًا على
أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يُظهر البدع
والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه
الأسبق إلى طاعة الله ورسوله - أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
الصحيح: (يؤم القومَ أقرؤُهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة.
فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا)
وإن كان في هجْره لمُظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر
النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي
غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة
والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعة ببدعة.
حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها
أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: مَن أعادها فهو مبتدع. وهذا
أظهر القولين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور
والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدًا إذا صلى كما أمر - بحسب استطاعته - أن
يعيد الصلاة. ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا
يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله،
والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد
منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة
عِقدها ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن مَن كان
يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم
يصلِّ وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب
ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة
منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها القضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين
لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في
معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ
الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} (البقرة: 187) هو الحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إنما هو سواد الليل وبياض النهار) ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم
يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة
والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة
حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم
لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل
الإبلاغ؟ على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت، وقيل لا يثبت،
وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) وفي الصحيح: (ما أحد أحب إليه
العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين) .
فالمتأول والجاهل والمعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل {قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .
***
فصل
أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن
ذلك حق يجزم به المسلمون ويقطعون به ولا يرتابون، وكل ما علم المسلمون
وجزم به فهو يقطع به وإن كان الله قادرًا على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه
ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء وإذا قال المسلم: أنا أقطع بذلك فليس
مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال: إن الله لا يقدر على مثل إماتة الخلق
وإحيائهم من قبورهم وعلى تسيير الجبال وتبديل الأرض غير الأرض فإنه يستتاب
فإن تاب وإلا قُتل.
والذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق قوم أحدثوا
ذلك من عندهم ولم يكن هذا الشيخ ينكر هذا، ولكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون
في الإيمان كما نقل ذلك عن السلف فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله،
ويستثنون في أعمال البر، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله. ومراد السلف من
ذلك الاستثناء كونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمر الله ورسوله، فيشك في قبول
الله لذلك فاستثنى ذلك، أو للشك في العاقبة، أو يستثني لأن الأمور جميعها إنما
تكون بمشيئة الله كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ} (الفتح:
27) مع أن الله علم بأنهم يدخلون لا شك في ذلك، أو لئلا يزكي أحدهم نفسه.
وكان أولئك يمتنعون عن القطع في مثل هذه الأمور، ثم جاء بعدهم قوم جهال
فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، ورووا في ذلك أحاديث مكذوبة، وكل من روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو واحد من علماء المسلمين أنه كره
لفظ القطع في الأمور المجزوم بها فقد كذب عليه. وصار الواحد من هؤلاء يظن
أنه إذا أقر بهذه الكلمة فقد أقر بأمر عظيم في الدين، وهذا جهل وضلال من هؤلاء
الجهال لم يسبقهم إلى هذا أحد من طوائف المسلمين، ولا كان شيخهم أبو عمرو بن
مرزوق ولا أصحابه في حياته ولا خيار أصحابه بعد موته يمتنعون من هذا اللفظ
مطلقًا، بل إنما فعل هذا طائفة من جهالهم.
كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سبّ الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب،
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سب أصحابي ذنب لا يُغفر)
وهذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروِهِ أحد من أهل العلم
ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) هذا في
حق مَن لم يتب. وقال في حق التائبين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ
لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) فثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب
تاب الله عليه.
ومعلوم أن من سبَّ الرسول من الكفار المحاربين وقال: هو ساحر أو شاعر
أو مجنون أو معلَّم أو مفترٍ، وتاب تاب الله عليه. وقد كان طائفة يسبون النبي
صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي صلى
الله عليه وسلم منهم: منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد ارتد وكان يكذب
على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا كنت أعلِّمه القرآن، ثم تاب وأسلم
وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وإذا قيل: سب الصحابة حق لآدمي قيل: المستحل لسبهم كالرافض يعتقد
ذلك دينًا، كما يعتقد الكافر سب النبي صلى الله عليه وسلم دينًا. فإذا تاب وصار
يحبهم ويثني عليهم ويدعو لهم محا الله سيئاته بالحسنات.
ومن ظلم إنسانًا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قَبِل الله توبته. لكن إن
عرف المظلوم مكَّنه من أخذ حقه وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء
وهما روايتان عن أحمد أصحهما: أنه لا يُعْلمه أني اغتبتك. وقد قيل بل يحسن
إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته. كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن
تستغفر لمَن اغتبته. فإذا كان الرجل قد سب الصحابة أو غير الصحابة وتاب فإنه
يحسن إليهم بالدعاء لهم والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم. والحسنات يذهبن
السيئات. كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إنه كذاب
إذا تاب وشهد أن محمدًا رسول الله الصادق الصدوق وصار يحبه ويثني عليه
ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته والله تعالى: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (الشورى: 25) وقد قال تعالى: {حم *
تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ} (غافر: 1-3) .
هذا آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونفعنا والمسلمين بعلومه.
(المنار)
هذه الرسالة من أنفس ما كتبه شيخ الإسلام وأنفعه في التأليف بين أهل القبلة
الذين فرق الشيطان بينهم بأهواء البدع وعصبيات المذاهب، على كونه أقوى
أنصار السنة برهانًا، وأبلغ المفندين للبدع قلمًا ولسانًا، ومنهاجه في الرد على
المبتدعة: بيان الحق بالأدلة، وحكم ما خالفه من شرك وكفر وبدعة، مع عدم
الجزم بتكفير شخص معين له شبهة تأويل، فضلاً عن تكفير فرقة تقيم أركان الدين.
فجزاه الله أفضل الجزاء على إرشاده ونصحه للمسلمين.
__________
(1) أي لأجل كون ملوكهم الفاطميين ودعاتهم ملاحدة لا شيعة مبتدعة فقط.
(2) أي في شأن حاطب.(31/281)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما
بلغنا عن بعض إخواننا من مسلمي بيروت أنهم غير راضين عن رد المنار
على الشيعة في هذا العهد الذي اشتدت فيه حاجة المسلمين إلى الاتفاق والاتحاد ولا
سيما مسلمي سورية ولبنان والعراق الذين اشتد عليهم ضغط المستعمرين في دينهم
ودنياهم. وإنني أقسم بالله وآياته لَشديد الحرص على هذا الاتفاق وقد جاهدت في
سبيله أكثر من ثلث قرن، ولا أعرف أحدًا في المسلمين أعتقد أو أظن أنه أشد مني
رغبةً وحرصًا على ذلك، وقد ظهر لي باختباري الطويل وبما اطَّلعت عليه من
اختيار العقلاء وأهل الرأي أن أكثر علماء الشيعة يأبون هذا الاتفاق أشد الإباء؛ إذ
يعتقدون أنه ينافي منافعهم الشخصية من مال وجاه.
وأول مَن كلَّمتهم في هذا الموضوع شيخنا الأستاذ الإمام في سنة 1315 هـ
وآخرهم الأستاذ الثعالبي السياسي الرحالة الشهير في هذا الشهر مع أستاذ ذكي من
شبان الشيعة العراقيين، وفيما بين هذين الزمنين تكلمت مع كثيرين من الفريقين في
مصر وسورية والهند والعراق، وأعلاهم مقامًا جلالة الملك فيصل تكلمنا في هذه
المسألة في دمشق سنة 1320 ثم في مصر عند إلمامه بها في عودته من أوربة في
خريف سنة 1345هـ 1926م.
ومما علمته بالخبر والخبر أن الشيعة أشد تعصبًا وشقاقًا لأهل السنة فيما عدا
الهند من البلاد الجامعة بين الطائفتين؛ فالفريقان فيها قرنان متكافئان، وقد اجتهدت
أنا وإخواني من محبي الإصلاح في الهند بالتأليف وجمع الكلمة وخطبت في مدينة
بُمبي خطبة فيَّاضة في ذلك. وبدأت بزيارة رئيس الشيعة الديني في لكنهؤ دون
غيره من أمراء الهند وزعمائها؛ فإنهم كانوا هم الذين يبدؤونني بالزيارة، وكنت
سبب دخول الكاتب الحماسي الشعبي (الديمقراطي) المؤثر ظفر علي خان صاحب
جريدة زميندار الوطنية المؤثرة دار (النواب فتح علي خان) لأول مرة ولم يدخلها
قبل ذلك قط ولا دخل دور غيره من سلائل الأمراء من الشيعة ولا غيرهم، وقد
رأيت لسعيي تأثيرًا حسنًا في الهند وفي إيران، ولما ألممت ببغداد منصرفي من
الهند جاءني وفد من النجف للزيارة والدعوة إلى النجف وأخبرني رئيسه صديقي
العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني أنه يوجد هنالك كثيرون من طلبة العلم على
رأيي في الإصلاح الإسلامي يتمنون لقائي، وما منعني من زيارة النجف إلا
المرض وإنما كان داعية الإصلاح فيهم المُلا كاظم الخُراساني وقد توفي قبل زيارتي
للعراق رحمه الله تعالى، ولكن جمهور شيعة العراق شديدو التعصب باعتراف
السيد هبة الدين وبعض المنصفين منهم. وكان يوجد في شيعة سورية من يُظهر
الميل إلى الاتفاق في عهد الدولة العثمانية أكثر مما يوجد في العراق، وكان للمنار
رواج عند بعض العصريين المستنيرين منهم. ولذلك قام أشهر علمائهم يطعن عليَّ
ويتهمني بالتعصب والتفريق؛ لأنهم يكرهون الاتفاق لما ذكرته آنفًا. وقد صبرت
عدة سنين على طعنه عليَّ قولاً وكتابةً حتى صار السكوت عنه إقرارًا لهم على ما
قصدوا له في هذا العهد عهد الاستعمار الفرنسي المسمى بالانتداب من مناهضة
النهضة العربية الحاضرة من مدنية ودينية بما هو أكبر خدمة للأجانب السالبين
لاستقلال هذه البلاد، سورية والعراق.
ذلك أنهم نشطوا في هذا العهد لتأليف الكتب والرسائل في الطعن في السنة
السنية والخلفاء الراشدين الذين فتحوا الأمصار، ونشروا الإسلام في الأقطار،
وأسسوا ملكه بالعدل والقوة، وتم بهم وعد الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) والطعن في حياة السنة وأئمتها، وفي الأمة العربية بجملتها،
وخصوا بالطعن أول ملك عربي اعترفت له الدول القاهرة للعرب والمسلمين
وغيرها بالاستقلال المطلق والمساواة لها في الحقوق الدولية، طعنوا فيه وفي قومه
بكتاب ضخم لتنفير المسلمين ولا سيما مسلمي العرب وصدهم عنه وإغرائهم
بعداوته والبراءة منه، لا لعلة ولا ذنب إلا اتباع السنة وإقامة أركان دولته على
أساسها، مع عدم تعرضه للشيعة بعداوة ولا مقاومة، بدليل اتفاقه مع دولة الشيعة
الوحيدة في العالم وهي دولة إيران بما حمدناه لكل منهما، ورجونا أن يكون تمهيدًا
للاتفاق التام بين الفريقين بالتبع للاتفاق بين الدولتين.
والذي بدأ هذا الشقاق وتولى كِبْره منهم هو صاحب ذلك الكتاب البذيء الجاهلي
(السيد محسن الأمين العاملي) الذي لم يكتفِ فيه بإخراج ملك العرب الجديد وقومه
النجديين من حظيرة الإسلام، وهو يعلم أنه لا قوة له ولا للعرب بغيرهم في هذا
الزمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام)
(رواه أبو يعلى بسند صحيح) ولكن الإسلام عنده هو الرفض الذي هو الغلو في
التشيع وعداوة السنة. ولم يكتفِ بذلك حتى زعم أن منشأ ضلال هؤلاء الوهابية
وخروجهم عن الإسلام وعليه هو كتب شيخ الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، مؤيد
الكتاب والسنة بأقوى البراهين النقلية والعقلية، وناقض أركان الشرك والكفر والبدع
بتشييد صرح السنة المحمدية، الشيخ تقي الدين ابن تيمية، الذي نشرنا في هذا
الجزء بعض رسائله في جمع كلمة الأمة الإسلامية، والأدلة على أن أهل السنة لا
يكفرون أحدًا من أهل القبلة، ولا يأبون صلاة الجماعة مع المبتدعة منهم.
وزعم أيضًا أن صاحب المنار قد انفرد دون المسلمين بموافقة ابن تيمية
والوهابية، وزاد على ذلك الطعن في شخصه وسيرته العملية، بما هو محض
الزور والبهتان، ليخدع الجاهلين من أهل السنة بما بيناه في الرد عليه.
وقام في أثره من علماء شيعة العراق مَنْ ألف كتابًا خاصًا في الرد على كتاب
(منهاج السنة) لشيخ الإسلام، وآخرون ألفوا كتبًا ورسائل أخرى في الطعن على
السنة وأهلها، دعْ ما قالوه في مؤتمرهم المشهور من تكفير الوهابية والتحريض
على قتالهم، على ضعفهم وعجزهم.
كذلك قام بعده زعيمهم الثاني في سورية السيد عبد الحسين فألف كتابًا آخر في
الطعن على الصحابة من كبار المهاجرين والأنصار وفي الأمة العربية سلفها وخلفها
وفي أصحاب دواوين السنة ولا سيما الحافظ البخاري رضي الله عنهم فوجب علينا
الرد عليه، ولم نفرغ إلا للقليل منه.
فصاحب المنار لم يهاجم الشيعة مهاجمة وإنما رد بعض عداوتهم وبهتانهم
لبطلانه ولكون هذا الطعن في الصحابة وأئمة السنة وحفاظها وفي الأمة العربية
وملكها في هذا الوقت لا فائدة منه إلا لأعداء المسلمين والعرب السالبين لاستقلالهم،
وأكبر قوة للأجانب عليهم تعاديهم وتفرقهم.
فلا أدري ماذا يريد الذي استنكر هذا الرد عليهم من استنكاره، وكيف تصور
إمكان الاتفاق مع قوم يتبعون أمثال هؤلاء الزعماء، وتنشر دعايتهم هذه مجلة
العرفان بالتنويه بكتبهم هذه والعناية بنشرها، عدا ما تبعثه هي من دعاية التشيع
التي كنا نعذرها فيها بتنزُّهها عن الطعن الصريح في السنة وأهلها؛ ولذلك كنا
نرجو أن تنكر هذه الدعاية وتأبى نشر هذه الكتب الضارة بصرف النظر عن مسألة
موضوعها، فقد يقول أو قال صاحب مجلة العرفان: إنه يعتقد حقيقة ما كتبه هذان
المؤلفان، وإن كنا نشرنا عنه من قبل ما يدل على عدم اعتقاد ما افتراه الأول على
الوهَّابية، ولا نعقل أن يكون معتقدًا ما افتراه الثاني على المهاجرين والأنصار من
وصفهم بالجبن، ونكثهم لما بايعهم الله عليه. ومن زعمه الذي أقسم عليه يمينًا
مغلظة أنه لولا علي بن أبي طالب لقتل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يقم للإسلام قائمة في الأرض، بالرغم من وعد الله تعالى بنصره، وإظهار دينه
على الدين كله.. إلخ، فهل يريد المستنكر من إخواننا أن نسكت لهؤلاء على كل
هذا الطعن فيكون سكوتنا حجة على أهل السنة كافة، ومعصية يأثمون بها كلهم،
ولا يزيد الشيعة إلا يقينًا بضلالهم، وبُعدًا عن الاتفاق معهم؟ !
وقد أخبرني مَن بلَّغني ما تقدم من الاستنكار أن بعض مسلمي بيروت
استفتاني في تزوج كل من أهل السنة والشيعة في الآخرين ولم أفتِهِ بشيء. وأقول:
إن هذا الاستفتاء لم يصل إليَّ، وإنني كنت استُفتيت في مثله من قبل؛ إذ خطب
أحد كبار الإيرانيين بمصر فتاة من بيت بعض كبراء المصريين فأرسل الحريم
يستفتوني في ذلك سرًّا فأفتيت بالجواز، واستدللت بأن هذا الخاطب من الشيعة
الإمامية وهم مسلمون، لا من البابية ولا البهائية المارقين من الإسلام، وإنما يمتنع
تزويج هؤلاء، والتزوج فيهم.
وأما رأيي في الاتفاق فهو قاعدة المنار الذهبية التي بيناها مرارًا وهي:
(أن نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ، فأهل
السنة متفقون مع الشيعة على أركان الإسلام الخمسة، وعلى تحريم الفواحش ما
ظهر منها وما بطن، وعلى محبة آل البيت عليهم السلام وتعظيمهم، وعلى جميع
المصالح الوطنية من سياسية واقتصادية، وفي البلاد العربية على إعلاء شأن الأمة
العربية ولغتها.. إلخ واستقلال بلادها وعمرانها، فيجب أن يتعاونوا على ذلك كله،
وهم يختلفون في مسألة الإمامة (وقد مضى وانقضى الزمن الذي كان فيه هذا
الخلاف عمليًّا) وفي المفاضلة بين الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وفي عصمة
الأئمة الاثني عشر، مع مسائل أخرى تتعلق بصفات الله تعالى وفيما دون ذلك من
الفروع العملية، فلكلٍّ من الفريقين أن يعتقد ما يطمئن إليه قلبه، ويعمل بما يقوم
عنده الدليل على ترجيحه أو يقلد فيه من يثق بهم من العلماء، وأن يبين ذلك قولاً
وكتابةً من غير طعن في عقيدة الآخر ولا في الصحابة وأئمة العلماء المجتهدين
والمحدثين. كما فعل بعض أدبائهم في قصائد نظمها في مدح الأئمة وشرحها وجعل
مقدمتها في بيان العقيدة الإسلامية عندهم، وفيها ما لا يوافقهم عليه أهل السنة، ولا
يكفرونهم به. ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم. فيجب على محبي الاتفاق أن يقنعوهم
بقاعدتنا ويؤلفوا جمعية أو حزبًا من الطائفتين للعمل بمقتضاها، بالرغم من زعم
مجلة المشرق اليسوعية أن الاتفاق متعذر، واستدلالها عليه بالمناظرة التي دارت
بين المنار والعرفان، وما كان صاحباها إلا أخوان، ولا يتعذر عليهما العودة إلى ما
كانا عليه بمقتضى هذه القاعدة.
هذا، وإننا لا نعرف أحدًا من علماء أهل السنة المتقدمين ولا المعاصرين
يطعن في أحد من أئمة آل البيت عليهم السلام، كما يطعن هؤلاء الروافض في
الصحابة الكرام، ولا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي أئمة حفاظ السنة
كالبخاري ومسلم، وكذا الإمام أحمد إمام السنة وشيخ كبار حفاظها وشيخ الإسلام
ابن تيمية والحافظ الذهبي وابن حجر وغيرهم، فإنهم يعدونهم من النواصب لعدم
موافقتهم لجهلة الروافض على ما يفترونه من الغلو في مناقب آل البيت، وقد
أغناهم الله عن اختلاق المناقب لهم بكثرة مناقبهم الصحيحة الثابتة بالنقل الصحيح.
وحفاظ السنة ومدونوها هم المرجع في هذا. وكل مَن خالفهم من المبتدعة فهم
جاهلون بنقد الروايات، والروافض منهم أجهلهم بهذا العلم، وأكذبهم في النقل، كما
هو مشهور عنهم في التاريخ، وقد ذكره أحد علماء ألمانية المستشرقين في كتاب له،
وإنما النواصب أولئك الخوارج الذين يتبرؤون من علي كرم الله وجهه، وكذلك
مَن يتولون مَن بغوا عليه ومَن قتلوا سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أو يصوبون
أعمالهم، لا أئمة السنة الذين محّصوا رواياتها، وبينوا درجاتها.
ونذكر على سبيل النموذج لجهلهم بالحديث ما انتقدته مجلة العرفان على مجلة
الشبان المسلمين المصرية من الثناء على معز الإسلام أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وما أوردته فيه من هذه النقول وكنت قد كتبته للجزء
الماضي فلم يتسع له وهو:
علم عمر وعلي رضي الله عنهما بالدين والقضاء
بين مجلة الشبان المسلمين ومجلة العرفان
لا يطيق أحد من الشيعة المتعصبين أن يرى في كتاب أو مجلة ثناءًا عظيمًا
على أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما ولا سيما إذا كان فيه صيغة اسم التفضيل،
مع العلم بأن اسم التفضيل كثيرًا ما يستعمل في التفضيل الإضافي أو بتقدير من
التبعيضية.
وقد كتب الأستاذ الدكتور يحيى أحمد الدرديري مقالة في مجلة جمعية الشبان
المسلمين في الثناء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فيها: كان عمر
رضي الله عنه أعلم الصحابة بالدين وأفقههم فيه. فنقل عنه الأستاذ صاحب مجلة
العرفان نبذة منها وعلق على هذه الجملة ردًّا عليها لعله لم ينقلها إلا لذلك قال: هذا
منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم
وعليٌّ بابها) وقول عمر نفسه: (لولا عليٌّ لهلك عمر، ولا كنت لقضية ليس لها
أبو الحسن) اهـ.
ونقول في الرد على الأستاذ صاحب مجلة العرفان: إن الحديثين اللذين ذكرهما
وهما مما يحفظه كل شيعي وكثير من غير الشيعة ليس لهما رواية صحيحة ولا
حسنة، ولو فرضنا صحتهما لما كانا معارضين لقول مَن قال: كان عمر أعلم
الصحابة.
أما العلم والقضاء فإنه يجوز عقلاً أن يكون عمر أعلم بأصول الدين ومقاصده
وحكمه وسياسته، ولا يكون مع ذلك أقضى الصحابة، وأن يكون علي أقضاهم أي
أعلم بالفصل بين الخصوم وتطبيق قضاياهم على أحكام الشرع، ولا يكون مع ذلك
أعلم من عمر به، وقد كان أبو يوسف أقضى من أستاذه أبي حنيفة وزميله محمد
بن الحسن ولم يكن أعلم منهما، ومثل هذا كثير مشاهَد في كل زمان. كان الشيخ
محمود نشابة في طرابُلس الشام أعلم من أحمد أفندي سلطان بكل علوم الشرع وكان
أحمد أفندي أقضى منه، بل لم يكن الشيخ محمود نشابة علامة سورية في زمنه
الذي أدركناه في آخره مستعدًّا لأن يكون قاضيًا.
وأما حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) فليس بينه - على تقدير صحته -
وبين ما قاله الكاتب في تفضيل عمر أدنى تعارض ولا منافاة؛ إذ المتبادر من معناه
أن عليًّا رضي الله عنه موصل إلى علم النبي صلى الله عليه وسلم بالرواية للسنة
والتفسير للقرآن والعمل بهما، وهذا المعنى صحيح في نفسه، معلوم من جملة
سيرته كرم الله وجهه، وإن كان الحديث المذكور غير صحيح، ليس في لفظه ما
يدل على أنه أعلم بما كان في هذه المدينة من كل مَن كان فيها، ولا برواية ذلك
العلم وتفسيره أيضًا. وإلا لحكمنا بأن كل ما رُوي عن غيره كرم الله وجهه من
الحديث والتفسير والأحكام فليس من علم النبوة. ولم يقل بهذا رافضي ولا غيره.
والحديث رواه الحاكم في مستدركه من طريق أبي الصلت بن عبد السلام بن
صالح عن ابن عباس وتتمته (.. فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب) وقال الحاكم: هذا
حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو الصلت ثقة مأمون. ونقل توثيقه عن
يحيى بن معين، وتعقبه الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك فقال ردًّا على قوله
(صحيح) : بل موضوع. قال: (أبو الصلت ثقة مأمون) قلت: لا والله لا ثقة
ولا مأمون اهـ. وتصحيح الحاكم للأحاديث لا يعتمد عليه أحد من المحدثين؛ فقد
صحح كثيرًا من الضعاف والمنكرات وكذا الموضوعات وتعقبه الذهبي وغيره فيها.
وأخرج الترمذي من طريق شريك عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن
الصنابحي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا دار الحكمة
وعلي بابها) هذا حديث غريب منكر، روى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم
يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك،
وفي الباب عن ابن عباس. اهـ. كلام الترمذي.
وأقول: أبو الصلت راوي الحديث الأول وثقه ابن معين كما قال الحاكم ولكن
طعن فيه الأكثرون والجرح مقدم على التعديل. قال مسلمة عن العقيلي: كذاب،
وكذا محمد بن طاهر قال: إنه كذاب، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا
انفرد. وكلهم أنكروا حديثه هذا، وكأنهم يتهمونه بوضْعه على أبي معاوية، ولكن
ابن معين يقول: إنه ليس ممن يكذب، وذكر أن محمد بن جعفر الغيدي حدث به عن
أبي معاوية وقال: أخبرني ابن نمير قال: حدث به أبو معاوية قديمًا ثم كف عنه
اهـ ومراد ابن معين أن أبا الصلت لم يكن هو الذي افتراه بل كان حدث به أبو
معاوية ثم كف عنه فلعل أبا الصلت رواه عنه ولم يبلغه كفه عن التحديث به لعدم
الثقة بصحته.
وقال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث) :
حديث: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) رواه الحاكم في المناقب من مستدركه عن
ابن عباس مرفوعًا والترمذي من جامعه عن علي بمعناه وقال: إنه منكر، وكذا قال
البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح. وقال ابن معين: إنه كذب لا أصل له،
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك، وقال ابن
دقيق العيد: هذا الحديث لم يثبتوه وقيل: إنه باطل. اهـ.
وقد أورده الأستاذ الشيخ محمد الحوت الكبير علامة بيروت في (أسنى
المطالب) وذكر بعض ما نقله الديبع عن أستاذه الحافظ السخاوي من قول الحفاظ
بوضعه حتى ابن معين، ثم قال: قد ولع به العلماء، وذكره من دون بيان رتبته
خطأ، ومثله: (أنا دار الحكمة وعلي بابها) وزاد بعضهم: ( ... وأبو بكر
أساسها وعمر حيطانها) ، وذلك لا ينبغي ذكره في كتب أهل العلم لا سيما مثل ابن
حجر الهيتمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيد من مثله. اهـ.
وأقول: إن ابن حجر الهيتمي هذا قد أتقن فقه الشافعية التقليدي على طريقة
أهل زمنه، وهو ليس بحافظ للحديث ولا من نقاده، وإنما ينقله من الكتب، فإن لم
تكن له عناية خاصة بالاحتجاج به فلا يبالي أكان صحيحًا أم ضعيفًا أم موضوعًا.
فكيف إذا كان له هوى يوافق معناه كالغلو في المدح؟ ! وأخطأ مَن حَسَّنَه بكثرة
طرقه.
وأما حديث: (أقضاكم عليّ) فقد قال الحافظ السخاوي: ما علمته بهذا اللفظ
مرفوعًا بل في مستدرك الحاكم عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل
المدينة علي، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه. اهـ.
وأقول إن الحافظ الذهبي أقر الحاكم على روايته له عن ابن مسعود من قوله،
ولو ورد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولو من طريق منكر - لأورده
الحاكم، ولعمري إنه لَحقٌّ في نفسه سواء كان اسم التفضيل على بابه أم لا، ولكن
لا ندري متى قال ابن مسعود هذا؟ هل قاله في زمن عمر أو بعده.
وأما ما ذكره صاحب مجلة العرفان من قول عمر فهو لم يروَ بسند صحيح
وإنما ذكره بعضهم فيما يتساهلون فيه من رواية المناقب. وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية: إنه لم يذكر عنه إلا في قضية إن صح، وكان عمر يقول مثل هذا لمن دون
علي كما قال للمرأة التي عارضته في الصداق: امرأة أصابت وأخطأ عمر. وبيَّن
في (منهاج السنة) بالشواهد أنه كرم الله وجهه لم يكن أقضى الصحابة رضي الله
عنهم، وفيه نظر.
وأما الأحاديث الدالة على علم عمر في الصحاح والسنن فهي كثيرة: منها
موافقات رأيه للقرآن وكونه من المحدَثين (بفتح الدالة المهملة) أي الملهَمين،
وغير ذلك، ولسنا بصدد تفصيل هذه المسألة، وكذلك ما رُوي في قضائه باجتهاده
وفي اتباع الصحابة له في مسائل متعددة، وكذلك المسائل التي كان يستشير فيها
الصحابة.
هذا، وإن العلم الذي يتعلق به القضاء هو الأحكام العملية من شخصية ومدنية
وعقوبة، وهو أدنى علوم الدين الإسلامي، وأما أعلاها فهو العلم بالله تعالى
وصفاته وبسننه في خلقه من نظام العالم، ويليه العلم بتهذيب النفس وتزكيتها
بالعبادات الصحيحة، والعلم بسياسة الأمم وإقامة الحق والعدل فيها، والذين
يفضلون عمر على غيره في علوم الإسلام - ولا سيما بعد أبي بكر - يفضلونه بهذه
العلوم التي هي في الذروة العليا، وهي ما تثبتها له أعماله وأقواله وأحواله وسياسته
وإدارته، ولم يغمطْه أحد حقه في علم الأحكام العملية القضائية أيضًا، وما روي
من تفضيل علي لعمر أصح مما روي من قول عمر في علي، وما هما إلا أخوان،
ومن مصائب التعصب جعْلهما خصمين يتضادان.
فإن كان قد روي عن عبد الله بن مسعود أنهم كانوا يتحدثون بأن عليًّا كرم الله
وجهه كان أقضى أهل المدينة، فقد روي عنه أنه قال لما مات عمر: إني لأحسب
أنه ذهب بتسعة أعشار العلم. رواه أبو خيثمة في كتاب العلم عن جرير عن
الأعمش عن إبراهيم بن عبد الله. وقد أورده أبو طالب المكي في قوت القلوب
والغزالي في الإحياء. قالا: فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة -وفي القوت-
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون؟ ! فقال: إني لست أعني
العلم الذي تذهبون إليه إنما أعني العلم بالله عز وجل. اهـ. وجرير الراوي لهذا
الأثر هو ابن حازم وهو ثقة فيما يرويه إلا عن قتادة. وأما إبراهيم بن عبد الله فلا
نعرفه في شيوخ الأعمش وإنما يروي الأعمش عن إبراهيم النخعي فلعله هو
وناهيك به في رواة حديث ابن مسعود وآثاره.
هذا وإن علماء السنة الذين طعنوا في رواية الحديثين المذكورين قد أثبتوا من
الروايات في مناقب علي رضي الله عنه أكثر مما أثبتوه من مناقب غيره من
الصحابة رضي الله عنهم وصرح بذلك إمامهم الأعظم أحمد بن حنبل وأقروه عليه،
فهل يعدون من النواصب؟ !
وأختم هذا البحث بالتذكير بأنني كنت نوهت بشيعة العراق في أول العهد
باستيلاء الإنكليز عليها؛ لأنهم كانوا أشد من أهل السنة في الثورة عليهم، ولما
بلغنا عنهم من احتقار الدسيسة التي عرضها عليهم الإنكليز للتفرقة بينهم وبين أهل
السنة؛ إذ عرضوا عليهم أن يكون القضاء في الجهات التي يكثرون فيها بمذهبهم
الجعفري، فأجابوهم بأن الشريعة واحدة لا فرق فيها بين مذهب جعفر ومذاهب أهل
السنة، وإنما الخلاف في كل مذهب يشبه ما في غيره وهو في مسائل اجتهادية،
يعذَر فيها كل مجتهد. ثم نُكسوا على رؤوسهم وعادوا إلى خدمة الأجانب بالتفريق
والتعادي من حيث لا يشعرون، ولم يعتبروا باعتدال شيعة إيران وميلهم إلى الوحدة
والاتفاق، وإنما كان أسلافهم من أمراء الفرس وموابذتهم هم الذين أسسوا قواعد
الغلو في الرفض ونظموا جمعياته ونشروه في العالم لإزالة ملك العرب وإعادة دين
المجوس وملكهم كما شرحناه مرارًا، فقد أخبرني الأستاذ الثعالبي الذي زار بلادهم
في العام الماضي بمثل ما أخبرني به الأستاذ الكردي الذي ذكرت خبره من قبل وهو
ناشئ في بلادهم، قالا: إن الميل فيهم إلى الوحدة الإسلامية والاتفاق مع أهل
السنة قوي جدًّا، وهذا ما نشاهده في جاليتهم بمصر، فهم كأهل السنة هنا في
كراهتهم للخلاف، وحبهم للائتلاف، إلا بما شذ به صديق لنا منهم طعن علينا
وافترى، فكان قدوة للعاملي فيما امترى ثم تصافحنا وتصالحنا.
ونسأله تعالى أن يصلح الجميع، فالشقاق شر للجميع.
أفليس من أعجب العجائب أن نرى أخلاف أولئك الفرس يرجعون عن ذلك
الغلو ويجنحون إلى الاتفاق مع أهل السنة من العرب وتقوية الرابطة الإسلامية ثم
نرى مع هذا أخلاف العرب - حتى المنتسبين إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه
وسلم - يزدادون غلوًّا في الشقاق المذهبي والسياسي الذي كان أكبر عيوب سلفها
وخلفها، وهو الذي أضعف دولها، وأزال ملكها، واللهِ إن هذا لشيء عُجاب،
وعسى أن يزول قريبًا بسعي أُولي الألباب.
__________(31/290)
الكاتب: عن بعض المغاربة المسلمين
__________
بيان إلى العالم الإسلامي
عن قضية البربر في المغرب الأقصى
(جاءنا بالبريد من بعض مدائن المغرب)
أيها المسلمون:
نحن إخوانكم المغاربة الذين اعتدي علينا، وسُلبنا - أو كدنا - نُسلب أقدس
حق يملكه الإنسان، نحن إخوانكم الذين أراد الفرنسيون أن يقضوا على ديننا
ويمزقوا وحدتنا، ويقتلوا لغتنا، لغة الكتاب المنزل من السماء، نحن إخوانكم الذين
أيسنا أن نقر الذل فينا، وأبينا أن نضام في أعز شيء علينا، (الدين، والوحدة،
واللغة) جاهدنا وضحينا في ذلك جهد المستطاع، فمنا من جُلد، ومنا من سُجن،
ومنا من نفي، ومنا آخرون يُضطهَدون ما بين عشية وضحاها، ولو بلغ الأمر بنا
إلى حد القتل ما كنا نبخل على ديننا بدمائنا الزكية، نحن الذين كنا ولا نزال من
أخلص الناس للعروبة والإسلام، ومن أشد الناس شكيمةً وأقواها تمسكًا بأحكام السنة
والكتاب، نحن الذين حلت بنا هذه المصيبة العظمى والرزية الكبرى، نريد أن
نبين لكم - أيها المسلمون - الحقائق وندلي لكم بالحجج والبراهين التي لا تُبقي شكًّا
لمرتاب، ولا يحتاج معها المتبصرون في فهم قضيتنا هذه إلى شيء آخر، ولئلا
تنطلي على بعض الناس خدع السياسة؛ لأنه أبعد عنا دارًا، وأنأى مزارًا:
* وما راءٍ كمَن سمعا *
نناشدكم الله والروح الإسلامي - يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم - أن
تتبصروا في هذه القضية المغربية. ولا تغتروا بما ينشره الفرنسيون من الأضاليل
والتمويهات الكاذبة؛ فإن هذه القضية لها ما بعدها، وإذا نجح الفرنسيون في
تجربتهم هذه فينا فسيحذو حذوهم جميع دول الاستعمار ويتقلص كل الإسلام من
الأرض (لا قدر الله) . واذكروا إذا خرج المغرب من حوزة الإسلام كما خرجت
الأندلس وصقلّية ماذا يكون عذرنا أمام الله، وموقفنا إزاء العالم أجمع؟
إن هذه القضية - يا أمة رسول الله - ليست إلا إعادة لتمثيل رواية الأندلس
الحزينة في المغرب الأقصى، أو ابتداء حرب صليبية من جديد.
يا أمة رسول الله: ها نحن أولاء ندلي لكم بالحجج والبراهين لتعلموا ما يتهدد
ديننا من الأخطار، وأنتم اليوم أقوياء إن اتحدتم وتناصرتم، والعاقبة لكم ما جادلتم
عن الإسلام وجاهدتم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
الحال في المغرب قبل الحماية
عندما ضعف نفوذ الملوك المتأخرين كان المغرب كله في ثورة [1] عامة،
سواء حواضره وبواديه، عربه وبربره، فما سكنت قبيلة أو مدينة إلا وتثور أخرى،
وكان أشد القبائل شقًّا للعصا القبائل النائية عن عاصمة الملك، حيث توجد القوات
والسلطات، ومن هذه القبائل العرب والبربر، وكانت القبيلة إذا ثارت إما أن
يساعدها قائدها وقاضيها على الثورة فتتركهما يحكمان فيها ويكونان معها من
الثائرين، وإما أن لا يساعداها فتقتل غير المساعد أو تجليه عن أرضها، وفي هذه
الحالة تضطر بحكم الضرورة إلى نصب محكمين من قبلها لفصل المنازعات
والمشاكل التي تقع بين الأفراد والجماعات، وكانت تختار لفصل القضايا الجنائية
والمنازعات التي تحدث بينها وبين مَن جاورها من القبائل على الحدود وغيرها
جماعة من كبرائها، ويجعلون على رأس هذه الجماعة مَن كان أكبرهم سنًّا
وأرشدهم رأيًا.
وإذا نظرنا إلى أن المغرب أكثره كان قد انهدَّ ركنه الأخلاقي والعلمي - نعلم
أن هذه الجماعة التي كانت تحكمها بعض القبائل إنما كانت تحكم بأهوائها غير مقيدة
بدين ولا قانون؛ لأنها كانت تجهل ذلك، هذا في القضايا الجنائية كما ذكرنا، وأما
القضايا المدنية والأحوال الشخصية فكانت تختار لها عالمًا من العلماء الذين كانت لا
تخلو منهم قبيلة، ويكون هذا العالِم بمنزلة القاضي غير أنه ولي من طرف القبيلة،
ولا ننكر أنه كان يوجد بإزاء هذا بعض اللصوص المتشردين فيعملون على وفق
أهوائهم، معتمدين على بأسهم وقوتهم.
أما الملوك فلم يقروا أحدًا من هذه القبائل الثائرة على حالته، بل كان كل ملك
يعمل جهده كله ليردهم إلى طاعته، والتحاكم إلى القضاة والقواد الذين يوليهم عليهم
هو بصفة رسمية.
هذه هي الحالة الحق التي كان عليها المغرب في أعوامه الأخيرة سواء من
جانب الملوك أو من جانب القبائل، وقد ظهر من ذلك أن القبائل البربرية لم تنبذ
الشرع الإسلامي أو التحاكم إليه يومًا ما، وأن نصبها للجماعة وتحكيمها إنما كان
لضرورة الثورة، وأن أحدًا من الملوك لم يقرهم على شيء من ذلك، وإنما كان إذا
أعجزه كبح جماحهم وخضد شوكتهم سكت عنهم اضطرارًا وإن هذه الحالة كانت
عند العرب والبربر على السواء.
الحال بعد الحماية
عندما بسط الفرنسيون الحماية على المغرب فكروا في شيء يضمن لهم
بقاءهم فيه واستيلاءهم عليه نهائيًّا حتى يصير قطعة من الجمهورية كالجزائر
والسنغال، فرأوا أن ذلك يمكنهم بمصادرة ثلاثة أشياء: الأحكام الشرعية، والقرآن
واللغة العربية؛ لأنها ثلاثتها كحلقة مفرغة يرتبط طرفاها بعضها ببعض وتجمعها
كلمة واحدة (الإسلام) والإسلام هو العقبة الكأداء عندهم في طريق استعباد
الشعوب، ووجدوا أن الأمر يواتيهم في البربر أكثر مما يواتيهم في العرب،
فرسموا لتنفيذ ذلك فيهم خطة ابتدأوا العمل بها عام 1914م. وصاروا يقطعون
مراحلها في طي الخفاء إلى أن ظنوا أن الوقت قد حان للعمل النهائي وأنه لم يبقَ
في المغرب مَن يرفع رأسه أو ينبس بكلمة، فاستصدروا ظهير 17 الحجة عام
1348 هـ وفيه القضاء الأخير على الإسلام والمسلمين بالمغرب الأقصى.
الوثائق الرسمية
في محاولة فرنسة إخراج البربر من الإسلام
وها هي أقوال ساستهم الرسمية وغيرها ندلي بها حجة على ما نقول، فمن
ذلك:
1- منشور أصدره المرشال ليوتي عندما كان مقيمًا عامًّا بالمغرب إلى رؤساء
الاستعلامات، ونقله الكمندان مارتي في كتابه (مغرب الغد) صحيفة 228 هذا
تعريبه ملخصًا:
(إن رئيس مكتب الاستعلامات (ج) لما تخابر مع ءايت مسروح الذين لا
يفهمون إلا البربرية أمر رؤساء هذه الجماعات بتعيين طالب معهم ليحرر لهم
رسائلهم الإدارية مع مكتبة باللغة العربية، لقد غلط هذا الضابط غلطًا فاحشًا، ولكن
لا يستحق توبيخًا على تفكيره - وإن كان هذا التفكير يشتمل على شيء لا أردأ منه -
لأنه لما لم يجد موظفين يحسنون البربرية اقتضى نظره ذلك حتى لا تنقطع
الصلة بينه وبين ءايت مسروح. وإني لا أجد أفظع من هذه الكلمات التي أدرجها
هذا الضابط في تقريره وهي (إن هؤلاء الطلبة الذين سيكلفون بتحرير الرسائل
سيتكفلون بتعليم الصبيان إقامة الصلاة التي أصبحت متروكة عند الرجال منهم
بسبب جهلهم) إن في هذه السياسة البربرية لعكسًا. لا حاجة لنا في تعليم العربية
إلى المستغنين عنها، والعربية رائد الإسلام، ومصلحتنا تأمرنا بأن نمدن البربر
خارج سور الإسلام. ويجب علينا أن نمر من البربرية إلى الفرنسية بدون واسطة.
ولابد لنا من فتح مدارس فرنسية بربرية تتعلم فيها الشبيبة البربرية الفرنسية.
ويجب علينا أن نأخذ الاحتياط من الذاكرة معهم في شأن الدين؛ لأن الإسلام ما
وَضَعَ على البرابر - أعني البرابر الذين ظلوا مستقلين - إلا صبغة سطحية..
اهـ) .
2- ما قاله الكمندان مارتي [2] في كتابه المشار إليه (مغرب الغد) صفحة
241 وهذه ترجمته بالعربية:
(.. وهذه المدرسة الفرنسية البربرية هي فرنسية باعتبار ما يقرأ فيها،
وبربرية باعتبار تلاميذها، وإذًا فلا حاجة بنا إلى واسطة أجنبي حيث إن التعليم
العربي وتدخل الفقهاء وكل المظاهر الإسلامية ستبعد عنها إبعادًا، وإننا سنجذب
إلينا بواسطة هذا التعليم الصبيان الشلوح، وبذلك نبعدهم قسرًا عن كل ما يطلق
عليه لفظ الإسلام) .
3- ما جاء في خاتمة الكتاب (الشعب [3] المغربي أو العنصر البربري)
لفكتور بيكيه، من ص 287-301 وتلخيصه:
(لما دخل العرب إفريقية الشمالية عرَّبوا السهول وانتشرت لغتهم فيها وحلت
محل البربرية ولم يبقَ من البربر محافظًا على لغته إلا الجبليون، فهل يبقون
كذلك؟ ! الجواب نعم؛ لأننا لما حفظنا للقبائليين في الجزائر حالهم اتخذوا اللغة
الفرنسية بدلاً من العرب، ولا بد لبربر المغرب أن تتبع تلك الخطة، ومن الواجب
علينا إعانتهم على ذلك.. إلى أن قال: وقانونهم الخاص (يزور) لا علاقة له
بالقرآن، فيجب أن نثبته ونتممه ونرقيه بكيفية بربرية إن لم تكن فرنسية، ولا
نترك القرآن يثبت في أذهانهم ولقد ساعدنا على نشر اللغة العربية من غير قصد
حيث استعملنا ضباطًا وموظفين مدنيين عسكريين لا يحسنون العربية، فاحتجنا إلى
مَن يعرف العربية، وعليه فلنتجنب الفقهاء الذين تحتاج إليهم الجماعة. والكتاب
والمدرسون يجب أن يكونوا برابر؛ لأن من استعملناه من الجزائريين العرب في
التدريس نشروا العربية والقرآن، لكنا في عام 1923 جعلنا برنامجًا للتعليم
البربري في فكرة إفرنسية وجل المدرسين من القبائليين وهي أحسن وسيلة لمصادرة
اللغة العربية) .
4- ما ذكره السوردون [4] في محاضراته (محاولة وضع القانون البربري)
التي كان يلقيها في معهد الدروس العليا بالرباط سنة 1928 - المقدمة ص22:
(.. سيتم فتح أرض البربر عما قريب، وقد آن الوقت لنفي بوعدنا الذي
وعدنا به كل قبيلة.. ص23 ولتتم مهمتنا يلزم السلطان أن يكلف الفرنسيين بإدارة
شئون البلاد البربرية؛ لأنه يظهر من الصعب أن نطلب من السلطان الديني
الشريف أن يضع للبربر قانونًا ... وقد آن الوقت أيضا لجمع العوائد؛ لا بالعربية بل بالبربرية، فنحن الذين بنينا الدار، ولنا الحق في ترتيبها بالاستعمار..) .
وفي الخاتمة (ص209) يتعين علينا معرفة الشرع البربري لا للمحافظة
عليه لأنه محكوم عليه بالاندثار أمام شرع أعلى منه.. (وفي ص213) توجد
بالمغرب اليوم شريعتان مدونتان، الشرع الإسلامي والشرع الفرنسي، ويلوح أن
الأولى لنا هو أن تندمج العوائد البربرية تحت الفرنسي (أولاً) لأن بيننا وبين
الشرع الإسلامي هوة (ثانيًا) لأن أسلحتنا هي التي أدخلت الأمن إلى بلاد البربر،
وهذا يعطينا الحق لأن نختار الشريعة التي يجب أن تطبق فيهم - ص224.. ولنا
الحظ السعيد بوجودنا مع مسلمين لا يطالبوننا بإقامة الشرع فيهم، فلماذا نوجده نحن
بيدنا ويكون حائلاً بيننا وبينهم؟ ، طاعة البربر كلفتنا مجهودات كبيرة، والسلطان
يعترف لنا بأننا وحدنا فتحناهم. وعليه فيظهر أنه لا يرى بأسًا في أن نتحكم فيهم
كيف نشاء - (وفي ص 229) .. إن البربر مسلمون ولكن الإسلام عندهم مجرد
اعتقاد، فلماذا لا نفكر في أنه يمكنهم يومًا ما أن يختاروا قوانينها؟ وعلى كل حال
يكفي أن تفتح لنا هذه النظرة الهائلة الباب لنبدأ في العمل بلا تأخر) .
تنفيذ سياستهم في البربر
وقد أتبعوا هذه الأقوال بالأعمال فأنشأوا المدارس الفرنسية البربرية ولا عربية
فيها، وجعلوا اللهجة البربرية لغة رسمية تُكتب بها التقارير والأحكام، وأخرجوا
الفقهاء، وأقفلوا كتاتيب التعليم، وصادروا الشرع بهذا الظهير الذي سننشر المهم
منه في هذا البيان، وصاروا ينشرون المسيحية بمختلف الوسائل وهنا نشير إلى
بعض القبائل البربرية التي جاء عهد الحماية وقضاتها فيها حتى ألغى الفرنسيون
وظائفهم وجُلّهم لا يزال حيًّا يرزق، ففي قبيلة زيان حوالي عام 1332 و1333
كان متوليًا القضاء فيها مولاي بو عزة بن محمد الإدريسي، وفي قبيلة تالشوت
السيد عبد الله ولد الحاج السوسي وولي بعده السيد حمودة المباركي طرد من وظيفته
ولا يزال حيًّا، وفي آيت هودي سيدي مبارك السرغيني، وفي قصبة ممع وسعيد
البراوي سيدي محمد الغرواوي، وفي آيت يعقوب وعيسى وآيت أحمد وعيسى
وآيت إسحاق وبعض آيت شخمان سيدي محمد بن الكليب الهواري، وفي بقية آيت
شخمان وآيت يحيى وما جاورهما سيدي علي بن المكي المهاوشي، وفي آيت بو
زيد سيدي الحنصالي، وفي آيت عباس وآيت حماد السيد أحمد ولعباس التنغمالتي،
وفي آيت أجناد سيدي أحمد بن كواه، وفي قصبة أشفيرة الفقيه ابن الغازي، وفي
خنيفرة مولاي علي الإدريسي، وفي أحوازها سيدي أحمد النوخي الزياتي وفي آيت
سكوكو السيد عبد الكريم بن العربي، وفي آيت مغي سيدي محمد العتابي، وفي
بني مكيلد مولاي الصالح بابران (وكذلك غير هذه القبائل المذكورة كان لها القضاة
الشرعيون، فطرد الجميع وألغيت وظيفة القضاء الشرعي من قبائل البربر كلها.
أهم نصوص الظهير السلطاني
أما الظهير السلطاني فهذا نص المهم منه ونترك الحكم فيه إليكم - أيها
المسلمون -:
(الفصل الأول) إن المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات
العوائد البربرية والتي ينظر فيها القواد في بقية نواحي مملكتنا السعيدة يقع زجرها
هناك من طرف رؤساء القبائل، وأما بقية المخالفات فينظر فيها ويقع زجرها طبق
ما هو مقرر في الفصلين الرابع والسادس.
(الفصل الثاني) إنه مع مراعاة القواعد المتعلقة باختصاصات المحاكم
الفرنسوية بإيالتنا الشريفة فإن الدعاوي المدنية أو التجارية والدعاوي المختصة
بالعقارات أو المنقولات تنظر فيها محاكم خصوصية تعرف (بالمحاكم العرفية)
ابتدائيًّا أو نهائيًّا بحسب الحدود (المقدار) التي يجري تعيينها بقرار وزيري، كما
تنظر المحاكم المذكورة في جميع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بأمور
الإرث وتطبق في كل الأحوال العوائد المحلية.
(الفصل الرابع) إن المحاكم الاستئنافية المشار إليها (يعني في الفصل
الثالث) تنظر أيضًا في الأمور الجنائية ابتدائيًّا ونهائيًّا بفصل زجر المخالفات
المشار إليها في الفقرة الثانية من الفصل الأول أعلاه وكذلك زجر جميع المخالفات
التي يرتكبها أعضاء المحاكم العرفية التي يطوق باختصاصاتها الاعتيادية رئيس
القبيلة.
(الفصل الخامس) يجعل لدى كل محكمة عرفية ابتدائية أو استئنافية مندوب
مخزني مفوض من طرف حكومة المراقبة للناحية التي يرجع إليها أمره ويجعل
أيضًا لدى كل واحدة من المحاكم المذكورة كاتب مسجل يكون مكلفًا أيضًا بوظيفة
موثق.
(الفصل السادس) إن المحاكم الفرنسوية التي تحكم في الأمور الجنائية
حسب القواعد الخاصة بها لها النظر في زجر الجنايات التي يقع ارتكابها في
النواحي البربرية مهما كانت حالة مرتكب الجناية ويجري العمل في هذه الأحوال
بالظهير الشريف المؤرخ سنة 12 أغست سنة 1913 المتعلق بالمرافعات الجنائية.
(الفصل السابع) إن الدعاوي المتعلقة بالعقارات إذا كان الطالب أو
المطلوب فيها من الأشخاص الراجع أمرهم للمحاكم الفرنسوية فتكون من اختصاص
المحاكم الفرنسوية المذكورة..) .
إخواننا المسلمين، هذه هي الحالة قبل الحماية وبعدها، وهذه هي أقوالهم
وأفعالهم ونياتهم نحونا، وهذا هو الظهير الذي يؤيد لهم خطتهم بصفة رسمية، فهل
بعد هذا يقال: إن الفرنسيين يحترمون الدين؟ ! وهل بعد هذا نطالب على ما نقول
بدليل؟
إننا - أيها المسلمون - بسطنا حالتنا إليكم، ورجاؤنا في الله ثم فيكم فانصرونا
ينصركم الله، وأعينونا بقلوبكم الطاهرة وأدعيتكم الصالحة، واحتجاجاتكم التي
تزيدنا قوةً ورجاءً.
أيها المسلمون: هل ترضون أن يُمحى دينكم من أرض المغرب، الأرض
التي أنجبت رجالاً عظامًا، وعلماءَ وقوادًا، وملوكًا مخلصين، الأرض التي سار
أبناؤها مع طارق بن زياد وعبد الرحمن الغافقي وأسد بن الفرات فافتتحوا الأمصار
ونشروا دعوة الإسلام، والأرض التي انتصر أبناؤها للأندلس في أبلغ محنتها،
وأزمان بلائها.
أيها المسلمون، يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ
يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} (الكهف: 20) ويقول: {وَلاَ يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217) وإذا نجح
الفرنسيون في هذه التجربة فسيفتح العالم الإسلامي فتحًا دينيًا لهم، وهو أقبح وأنكى
من فتحهم الاقتصادي والسياسي، وإذا سدوا علينا طريق الدنيا بهذا الفتح فسيسدون
علينا طريق الآخرة بذلك، وماذا بقي للمسلمين في هذه الحياة غير إيمانهم بالله
ورجائهم.
فخذوا حذركم - أيها المسلمون - وتبصروا، واغضبوا لله ولدينكم وانصروا
الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والسلام عليكم أجمعين.
... ... ... ... ... ... ... من إخوانكم المغاربة المسلمين
تلبية المنار للدعوة
وكشفه لما عليها من الشبهة
لبيكم - أيها الإخوة - لبيكم لبيكم، ولعنة الله على كل مَن يدعي الإسلام ولا
يهتم بأمركم، وقد ورد الحديث: (مَن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) [5]
فكيف يقال فيمن لا يهتم بدينهم - وهو دينه - إنه منهم إذا كان لا يهمه إخراج
الملايين منهم عن الإسلام؟ وقد بلغنا أن بعض أدعياء الفقه المنافقين قال: إن البربر
أعرق في الكفر من الإفرنج يعني أنهم يجهلون ما كتبه السنوسي في عقائده الثلاث،
ويفعل بعضهم من المعاصي ما يخل بالإسلام، وقد يقول بمثل هذا بعض
المغرورين بدينهم. ونقول: إن البربر كلهم يؤمنون بأن الله واحد، وأن محمدًا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كتابه، وأن كل ما قاله الله وبلغه
رسوله عنه حق. وما خالف بعضهم فيه من الأصل والفروع فهو عن جهل هم فيه
معذورون لا عن جحود ولا عن عناد، وإنما ذنب جهلهم بدينهم على حكامهم
وعلمائهم؛ فهم إذا تعلموه وقبلوه، وفرنسة تقطع طريق العلم عليهم، وتتخذ ذلك
وسيلة لمحو الإسلام من تلك البلاد كلها، وفيها ما لا يُحصى من العارفين بدينهم
على مذهب السلف والخلف، ممن رضي بعملها فقد رضي ملايين من المسلمين
المؤمنين العارفين ومن الجاهلين المعذورين.
وسنفصل هذا في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ينبغي أن يعلم أن أسباب هذه الثورة هو ما كان شائعًا عن مولاي عبد العزيز من أنه باع المغرب للأجانب وعن مولاي عبد الحفيظ من عدم اكتراثه بالدين، ونحن نرى أن هذه الدعاية إنما كانت من ذوي الأغراض السيئة صنائع الدول التي كانت تتكالب على المغرب لتستعمره وعلى كلٍّ فسببها الغيرة على الدين لا الثورة عليه كما يزعم الفرنسيون اهـ من حاشية الأصل.
(2) الكمندان مارتي هو مدير المدرسة الثانوية بفاس سابقًا، والمستشار بوزارتي العدلية والصدارة وما يتبعهما من الإدارات الآن وكتابه طبع سنة 1925 بباريز على نفقة لجنة إفريقية الإفرنسية.
(3) طبع هذا الكتاب بباريز سنة 1925 وأخذ عليه مؤلفه جائزة مالية من الإقامة العامة بالمغرب وله تأليف آخر اسمه (مراكش) ظهر سنة 1918 ونقل مثل هذا الأمير شكيب أرسلان في شرح كتاب (حاضر العالم الإسلامي) ، ص87، ج1.
(4) السردون هو مدرس الشرع البربري بالمدرسة العليا بالرباط سابقًا ورئيس العدلية البربرية الآن.
(5) وفي رواية بلفظ: (مَن لم) رواه الحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة مرفوعًا والثاني من حديث أبي ذر أيضًا.(31/300)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصرار فرنسة
على إخراج البربر من الإسلام
نشرت بعض الجرائد المصرية كتابين في شأن قضية البربر أحدهما لسلطان
المغرب والآخر لوزير فرنسة فيه يدلان على إصرار فرنسة على خطتها في إخراج
شعب البربر من الإسلام وعلى أن كل ما تحاوله الآن هو استخدام ما بقي من
احترام السلطان ونفوذه لإلزام المسلمين الرضاء بذلك وإخماد نار الاضطراب الذي
وقع وتهوين الخطْب الفظيع الذي أوقدها. وإنَّا ننشر الكتابين ونبين في تعليقنا على
كل منهما ما يثبت كل ما يشكو منه المسلمون في المغرب وغيره من هذا العدوان،
وينقض ما ادعاه الوزير المفوض بمصر في بيانه الذي نشرناه في الجزء الماضي
من أساسه.
كتاب السلطان
(في إقرار فرنسة على جنايتها ودعوة حكومته ورعيته لقبولها)
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
إلى خدامنا الباشاوات وكافة الأهالي نخص منهم الشرفاء والعلماء والأعيان
وفقكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله، وبعد:
فغير خفي أن للقبائل البربرية عوائد قديمة يرجعون إليها في حفظ النظام،
ويجرونها في ضبط الأحكام، وقد أقرهم عليها الملوك المتقدمون من أسلافنا ومن
قبلهم، فتمشوا على مقتضاها منذ مدة مديدة، وسنين عديدة، وكان آخر مَن أقرهم
على ذلك مولانا الوالد، قدس الله روحه في أعلى المشاهد، اقتداءً بمن تقدمه من
الملوك، وإجابة لآمالهم، ورغبة في إصلاح حالهم، وحيث إن ذلك من جملة
الأنظمة المحترمة اقتضى نظرنا الشريف تجديد حكم الظهير المذكور؛ لأن تجديده
ضروري لإجراء العمل به بين الجمهور وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين
يكادون لم يبلغوا الحُلُم وأشاعوا - ولبئس ما صنعوا - أن البرابرة بموجب الظهير
الشريف تنصَّروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا، وموهوا بذلك على
العامة وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات لذكر اسم الله
تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دور التضرع والتعبد، إلى دور التحزب
والتمرد، فساء جنابنا الشريف أن تصير مساجد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) الآية - محلات اجتماعية سياسية
تروج فيها الأغراض والشهوات. ومعلوم لدى الخاص والعام أن مولانا السلف
الصالح كان أحرص الناس على إيصال الخير لأمته، فكيف يعقل أن يسعى في
تكفير جزء عظيم من قبائل رعيته، ونحن - والحمد لله - سائرون على أثره في
ذلك، ساهرون على دفع كل ضرر يلحق برعايانا السعيدة، فليس إبقاء تقرير
البرابر على عوائدهم إلا مساعدة من جنابنا الشريف على محض طلبهم، وإجراء
لهم على ما كانوا عليه منذ أزمان طويلة، على أننا قررنا أن كل قبيلة بربرية
تطلب إجراء الأحكام الشرعية عندها تساعَد على ذلك فورًا، أو يعين لها القاضي
من لدن جنابنا الشريف حرصًا على صيانة دينها، وبرهانًا على ما لنا من الذود عن
حرمة الإسلام في بلادهم، فآمركم أن تلزموا السكينة والوقار، وأن ترجعوا إلى
سلوك الجادة والاعتبار.
أصلح الله بمنّه ودائم لطفه أحوالكم، وهداكم لما فيه الخير من حالكم ومآلكم
والسلام.
في 13 ربيع النبوي الأنور عام 1349.
***
الرد على كتاب السلطان
وكونه حجة عليه لا له
(1) قوله: إن أسلافه من الملوك أقروا عوائد البربر القديمة غير مسلَّم
على إطلاقه كما عُلم من البيان السابق، ولئن صح لم يكن حجة شرعية على جواز
إقراره هو ما خالف الشرع منها، فإن أسلافه لم يكونوا معصومين، ولا يقول مسلم
يعرف دينه: إن إقرارهم أو قولهم أو فعلهم حجة في دين الإسلام بل هو معصية فيما
ذكر، واستحلال ما خالف الشرع منها مخالفة قطعية كفر وارتداد عن الإسلام،
ومنه يعلم حكم الظهير الذي أصدره أبوه والظهير الذي أصدره هو.
(2) قوله في الذين أثاروا هذا المعارضة الإسلامية من الشبان - إنهم
شرذمة من الصبيان الذين يكادون لم يبلغوا الحلم - ليس في مصلحة جلالته؛ فإن
أكثر الذين يعنيهم أكبر منه سنًّا وعلمًا، وقد رأينا فيهم الكُتاب والبلغاء ونرى كتابه
هذا في غاية الركاكة والضعف، فكيف يصح أن يكون هو سلطانًا وشارعًا ينسخ
شرع الله وهو شاب مثلهم وأصغر من كثير منهم، ولا يصح أن ينكروا هم ما هو مخالف لدينهم، وخطر على بلادهم؟ وكيف أمكنهم أن يثيروا البلاد كلها لو لم يكن فعلهم دفاعًا عن الإسلام؟!
(3) قوله إنه ساءه من اجتماعات الأمة في المساجد لذكر اسم الله اللطيف
أن تصير المساجد محلات اجتماعية سياسية وقد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) - يدل على أن الذي كتب له هذا
الكتاب لا يعقل معناه ولا أنه مخالف لدين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم،
(أما الأول) فلأن عملهم موافق للآية الكريمة؛ لأنه ذكر لاسمه (اللطيف)
والإنكار عليه هو المخالف لها، (وأما الثاني) فلأن مسجد النبي صلى الله عليه
وسلم كان في عصره وعصر خلفائه الراشدين محلاًّ للاجتماعات السياسية
والاجتماعية المتعلقة بمصلحة الملة ولم يكن هنالك (مخزن) لذلك ويظهر أن الذي
وضع له هذا الكتاب من رجال فرنسة لا من منافقي المخزن عنده؛ لأن الإفرنج
ودعاتهم من النصارى هم الذين يفرقون هذه التفرقة بين الدين والسياسة.
(4) ما ذكره من حرص سلفه على إيصال الخير لأمته وسيره هو على
أثره واستدلاله على ذلك بأنه لا يُعقل أن يسعى لتنصير جزء عظيم من قبائل رعيته
يجاب عنه:
(أولاً) بأن المسألة ليست بالدعوى والنظريات العقلية وإنما هي نازلة واقعة
وقضية عملية مشاهَدة.
(وثانيًا) بأن أمره ليس بيده وإنما هو مسخر للقوة الفرنسية التي يستند إليها
في منصبه.
(5) قوله: إن إقرار البربر على عاداتهم ليس إلا مساعدة من جنابه
الشريف على طلبهم - إذا سلمناه كان حجة عليه؛ إذ لا يبيحه له الإسلام كما تقدم،
وإنما تحتج به فرنسة على من ينكرون عليها إكراه الناس على ترك دينهم وهو
مخالف للتقاليد المدنية، وللقوانين الدولية. وهذا دليل على أنها هي الواضعة له هذا
الكتاب.
(6) قوله: إننا قررنا أن كل قبيلة بربرية تطلب إجراء الأحكام الشرعية -
إلى قوله - حرصًا على صيانة دينها - هو نص رسمي منه على أن النظام الذي
جرى عليه العمل في ظهيره وظهير والده هو خروج بالبربر عن حكم الشريعة
وعن دينهم وأنه هو لا يأمر برجوعهم إليها إلا إذا طلبوا ذلك. وهذا ينقض أقواله
السابقة مع العلم بأن قوله بمساعدة الذين يطلبون ذلك فورًا ليس بيده وقد اشترط فيه
صاحب السلطان الفعلي الوزير الفرنسي ما يجعله مُحالاً كما يعلم من كتاب هذا
الوزير. وهذا نصه:
كتاب الوزير الفرنسي الجديد
في معنى كتاب السلطان
بلغني أن الظهير الشريف المؤرخ بالسادس عشر من شهر مايو سنة 1930
المتعلق بتنظيم المحاكم البربرية فهم منه ما ليس بمقصود حتى من قِبَل الولاة
المحليين.
وفي الحقيقة أن ما أصدره جلالة السلطان ليس فيه ما يُحدث شيئًا جديدًا، بل
المراد منه هو تنظيم الجماعات البربرية المكلفة بالأحكام، وإعطاؤها صبغة قانونية
بحيث تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البرابرة وغيرهم، وأن الظهير المشار
له قد أقر حالة كان يتمشى عليها من قديم الزمان، فلا فائدة حينئذ في استعماله لغاية
دون الغاية التي قصدها، وإحداث أمور جديدة يتمسك بها ذوو الشهوات الذين لا
يعتمدون على أدنى شيء في أقوالهم.
فلا ينبغي - والحالة هذه - السعي في جعل الجماعات البربرية المعبر عنها
بنزرف تقف في وجه الشرع، بل الذي يحسن سلوكه هو إجراء الظهير
المذكور برفق ولين لتطمين النفوس وتسكين الخواطر.
أما الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع وإن كانوا
قاطنين في بلاد البربر فالأولى هو إبقاؤهم على ما كانوا عليه، ولا يمكن الآن
إجبارهم على الانقياد إلى المحاكم البربرية، لما ينشأ عن ذلك من حوادث متعددة.
وكذلك إذا رغبت بعض الأفخاذ المستعربة في البقاء على إجراء دعاويهم لدى
الشرع مثل ما كانت تفعله قبل فلا مانع من إجابة مرغوبها، بل إذا صرحت بعض
القبائل أو الأفخاذ ممن كانوا منقادين إلى الجماعات البربرية واتفقوا بأجمعهم على
سلوك منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم.
هذا وإن الطلبة والفقهاء الذين كانوا قائمين بمهمتهم بالقبائل البربرية إلى الآن
بلا مانع فلا يُمنَعون من الدخول إليها. ومثلهم مشايخ الطرق الذين يتجولون بالقبائل
المذكورة لأجل جمع الصدقات حتى تبقى مسألة الترخيص لهم في الدخول منوطة
بالإدارة العليا كما كان العمل به جاريًا قبل.
وبالجملة فإنه من المصلحة البينة أن يعلم كل واحد بأن الظهير الشريف المؤرخ
بالسابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 1348 لم يصدر ليكون آلة جبر، بل ليجري
العمل به بلين ورفق. اهـ.
***
تفسير كتاب الوزير الفرنسي
المقيم بالمغرب وكونه حجة عليهم
(1) قال: إن ما أصدره السلطان هو إعطاء تنظيم البربر صيغة قانونية
به (تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البربر) ونقول هذا نص صريح بأن ما
ينفذونه الآن بمقتضى الظهير المذكور في البربر يراد جعْله أساسًا لأجل تنفيذه في
العرب! وهو تصريح بعزم فرنسة على إلغاء الشريعة الإسلامية من بلاد المغرب
كلها (فليتأمل المسلمون) ولكنه أمر المنفذين له الآن بالرفق واللين لتسكين
الخواطر الثائرة.
(2) قال: إن الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع
وإن كانوا قاطنين في بلاد البربر فالأولى عدم إجبارهم (الآن) على الانقياد إلى
المحاكم البربرية لما ينشأ عن ذلك من الحوادث المتعددة.
ونقول: هذا نص صريح أن البربر ممنوعون من رفع دعاويهم إلى الشرع،
وفي أن غيرهم - وهم العرب - لا يُجبرون الآن على ذلك اتقاءً للحوادث أي
الثورة، وتقييد ذلك بقوله (الآن) دليل على أنهم سيجبرونهم على ذلك بعد أن
تسكن ثورة الأمة ويزول هذا الهياج بنصائح السلطان ورجاله، ورشوة رئيس
الجمهورية لمن رشاه منهم.
(3) قال: إذا رغبت بعض القبائل أو الأفخاذ واتفقوا بأجمعهم على سلوك
منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم. ونقول: إن
هذا هو القيد الذي قيد به قول السلطان في المسألة السادسة من تعليقنا على كتاب
جلالته، وهو أنه لا يقبل طلب أحد من البربر ولا من الأفخاذ المستعربة المشار
إليها أن يسلكوا منهج الشريعة إلا إذا أجمعوا على ذلك، ومعلوم أن هذا الشرط لا
يمكن تحقيقه في قبائل أكثرهم أميون جاهلون وهو طلبهم جميعهم لما ذكر، وإن
حكامهم الفرنسيين يمكنهم أن يمنعوهم منه إذا أرادوه، أو يمنعوا بعضهم على الأقل
فلا يتحقق الشرط الذي قيد به الطلب وهو أن يتفقوا عليه ويطلبوه بأجمعهم. وهو
دليل رسمي على قطع هذا الطريق عليهم.
(4) ما ذكره الوزير في مسألة طلبة العلم والفقهاء الذين كانوا قائمين
بمهمتهم في قبائل البربر ومشايخ الطرق الذين يجمعون الصدقات من حيث عدم
طروء مانع يمنع من دخولهم إليها، ومن حيث إبقاء مسألة الترخيص لهم في
الدخول إلى بلاد تلك القبائل - هو دليل على صحة ما يشكو منه المسلمون من
الحيلولة بين قبائل البربر وأهل العلم الديني وطرق الصوفية، وعلى أن كل ما
تجدد من المعاملة لتسكين الهياج هو أنه يجوز دخول من لا ترى السلطة الفرنسية
هنالك مانعًا من دخولهم برخصة من إدارتها العليا، فالحجر على الدخول باقٍ،
والرخصة المنوطة برجال فرنسة لمن يثقون به لم يرفع الحجر بالطبع، ولا يعتقد
أحد أنهم ينفذونه بالفعل، إذ يستحيل أن يمنحوا هذه الرخصة لمن يعلمون أو
يخشون أن يعلم البربر شيئًا من أمر دينهم. فهو محاولة لتسكين الاضطراب في
مدن المغرب وفي غيرها بألفاظ مبهمة ككلمة الوزير التي ختم بها كتابه وهو أنه
يجب تنفيذ المشروع باللين والرفق.
فالكتابان الرئيسيان حجة على مُصدِريهما، وناقضان لما كانت أذاعته
المفوضية الفرنسية هنا من بقاء البربر مسلمين حالاً واستقبالاً.
***
نصيحة علنية لفرنسة أو أحرارها
(1) إننا لا نجهل تاريخ فرنسة الحربي وما تفوق به غيرها من دول أوربة
اليوم من قوتها العسكرية، ولكننا نعتقد أن هذه القوة يخشى أن تقتلها كما جرى
لعدوتها ألمانية عند ما فاقت أوربة كلها بالقوة. ونعتقد أن فرنسة غير غافلة عن هذا
الخطر عليها، وأن رجلها ووزيرها ملير إن لم يقترح المحال من توحيد أوربة حبًّا
في السلم بل لتأمين فرنسة من خطر الحرب المنتظرة، فإذا كانت كل من فرنسة
وإنكلترة لا تحارب الأخرى لإخراجها من إحدى مستعمراتها كما قال أحد ضباطها
في المغرب الأقصى واهمًا أو موهمًا، فقد تحاربها ألمانية لاسترجاع حقوقها
ومجدها، أو إيطالية لإرضاء مطامح وزيرها وشعبها، ومشاركة فرنسة في
مستعمراتها. ولولا التنازع على الاستعمار لما وقعت الحرب الكبرى الأخيرة، وإن
الحرب المنتظرة لأجل الاستعمار والثأر معًا لأكبر هولاً وأعظم خطرًا.
(2) إننا لا نجهل ضعف شعوبنا الإسلامية أو الشرقية تجاه فرنسة وغيرها
من الدول القاهرة لهم بالقوة العسكرية - ولكننا نعلم أن هذا الضعف قد بدأ يتحول
إلى قوة، كما ينتظر أن تنقلب قوتهم إلى ضعف، وإنما يستحيل الضعف قوة
بمعرفة الشعوب لأنفسها، وشعورها بالحاجة إلى تنظيم وحدتها، واعتقادها بصحة
قاعدة موقظي الشرق (الحكيم الأفغاني والإمام المصري) :
إن القوة الآلية القليل عمالها لا يدوم لها الغلب على الكثرة العددية إذا اتفقت
آحادها. وقاعدتهما في استحالة إبادة أمة لأمة كبيرة تماثلها أو تزيد عليها في العدد،
وقاعدتهما (العاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة؟!) ، فإبادة فرنسة لمسلمي إفريقية أو
تنصيرهم ضرب من المحال، واستمرار استعبادها واستذلالها لهم بالقوة ضرب من
المُحال.
(3) إن الإسلام حيّ لا يموت، والقرآن كلام الله الحي الذي لا يموت، بل
هو العلاج الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أوربة من الهلاك الذي تنذرها إياه مفاسد الحياة
المادية، فتنصير شعب إسلامي من المطامع التي لا تنال، والغايات التي لا تُدرك،
وما كان ما يرونه من ضعف المسلمين ووجود أعوان لهم منهم إلا بجهلهم بالقرآن،
الذي ردى بعضهم في الإلحاد والبدع والفسق وضعف الإيمان، فبهذا وجد
المستعمرون في المغرب والمشرق من أمراء المسلمين ورؤسائهم - ومن حملة
العمائم والطيالس والبرانس أيضًا - مَنْ هم أقوى على إخضاع المسلمين لها من
قواد جيشها، وأقدر على هدم دينهم من أساقفة النصرانية ودعاتها، ولولاهم لما
تمكنوا في شيء من بلادها، كما تبين من شواهد الجزء الماضي في مقالة (آفة
الشرق) .
(4) يقول (الكابتن أدينو) لمسلمي المغرب في كتابه الحديث (السياسة
الصريحة) : إنكم تعتقدون أن استيلاءنا عليكم وقهرنا لكم هو حكم قضاه الله وقدره
بحسب عقيدتكم، فيجب عليكم أن ترضوا به ولا تعارضونا فيه. ونرد عليه بأن
مسألة الرضاء بالمقضيّ والمقدر من جهالات بعض الصوفية مخالفة لأصول الإسلام
وإنما الواجب على المؤمن أن يؤمن بأن كل شيء بقدر الله وقضائه ولا يجوز له أن
يعترض على الله فيه. ولكن لا يجب عليه أن يرضى بكل ما قدره الله تعالى بل لا
يجوز له أن يرضى بالكفر، ولا بالفسق ولا بالفحشاء والمنكر؛ لأن الله تعالى لا
يرضى بذلك أيضًا كما قال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: 7) ولا أن
نرضى بالظلم والضرر وقد أمرنا أن ننكر المنكر ونغيره بما نستطيع وهو مقدر،
وأن نفر من الوباء والأمراض ونقاومها بالأدوية وهي مقدرة. كما قيل لسيدنا عمر
أمير المؤمنين لما امتنع من دخول الشام لوجود الوباء فيها: أتفر من قدر الله؟! قال
: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وقال إمام الصوفية وقطبهم الأكبر في عصره الشيخ
عبد القادر الجيلاني ما معناه: إننا نغالب الأقدار بالأقدار، ولكن بدعة الصوفية
نشرت هذه الأفكار التي استخدمتها فرنسة لإخضاع جهلة المسلمين بها، وإخماد
الشعور الإسلامي بوجوب مقاومة الكفر والإلحاد والبدع والسلطة الأجنبية، ولو
بالقوة الحربية، كوجوب مقاومة الأوبئة والأمراض بالأدوية المجربة والوقاية
الصحية ولماذا لا تقولون للمسلمين يجب عليكم أن ترضوا بهذه الأمراض لأنها
مقدرة؟!
(5) إن الشعوب الإسلامية قد تنبهت لمفاسد هؤلاء الرؤساء الذين
يستخدمهم المستعمرون لاستعباد المسلمين، وسنراهم - بعد قليل من السنين -
يجاهدون هؤلاء الرؤساء المنافقين، كما يجاهدون سادتهم الذين يجاهدون بهم
الإسلام والمسلمين، فلا يخضعون لظهير ولا لمرسوم ولا لأمر عالٍ، ولا لفتوى
يصدرها مفتٍ موظف في حكومة استعمارية أو إلحادية يراها مصدر رزقه وجاهه
في هذه الدنيا. ثم يتلوه زمان قريب لا يقبلون سلطانًا ولا أميرًا ولا مفتيًا ولا قاضيًا
ولا صاحب منصب آخر في أمتهم، إلا إذا كان مجلس الأمة هو الذي يختاره
ويرضاه، بشرط تقييده باتباع شرع الله، والتزامه مصلحة الأمة التي تقررها
جماعة أولي الأمر وأهل الحل والعقد من نوابها.
وإذا كان الله تعالى قد أرشدهم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى
أن الطاعة لا تكون إلا في المعروف، وأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
كما رواه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم و (لا
طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) كما رواه البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث علي مرفوعًا أيضًا. وجعل لهم القدوة في ذلك الرسول
المعصوم فقال في آية المبايعة: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12)
مع العلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف، فهل يطيعون من ينصبه لهم المستعبِدون من
ملك أو سلطان أو باي أو أمير أو وزير؟ أو موظفيهم السياسيين أو الشرعيين في
ترك الشريعة وإباحة الكفر والمعاصي؟ أو يعملون بقول مثل شيخ جامع أو مفتٍ
في بلاد مستعمَرة أو يقتدون بفعلها أو إقرارها لما يخالف الشرع كما جرى في
مؤتمر دعاة النصرانية (الأفخارستي) في تونس؟ كلا، ثم كلا، ثم كلا.
(6) لقد أسرفت فرنسة أكثر مما أسرف غيرها في احتقار الأمة الإسلامية
فلم تبالِ بما علمت به من اضطراب جميع شعوبها لجرأتها على الشروع في تحويل
شعب البربر عن الإسلام تمهيدًا لتنصير سائر المسلمين العرب في جميع
مستعمراتها، حتى أن رئيس جمهوريتها قد سافر إلى بلاد المغرب ليشد عزم
السلطان وحكومته الصورية على الثبات والاستمرار على تنفيذ الجريمة التي تنافي
إسلام كل مَن يرضى بها وتقتضي ردته - أي كفره - كما صرح به البيان
الإسلامي العام، الذي أمضاه كثير من العلماء الأعلام، ونشرته جمعية الشبان
المسلمين في العالم كله، وكنا نظن أنه إنما ذهب ليتلافى الفتنة ويقف تنفيذها،
فخاب الظن بالحكومة الفرنسية.
وسبب هذا أنها تظن أن العالم الإسلامي قوّال غير فعّال، ولا سيما مسلمي
مصر، فلا يمكنه أن ينفذ ما أنذرها إياه في البيان العام المشار إليه من مقاطعة تجارتها
وإعلان عداوتها؛ لأنه لا بد من وضع نظام لذلك قبل الشروع فيه والمسلمون - في
رأيها - لا يثبتون على نظام. وتظن أيضًا أن أهل المغرب الفرنسي - من تونس
إلى مراكش - لا يمكنهم بث الدعوة إلى الاستفادة من الحرب الأوربية المنتظرة
بالثورة على فرنسة وإخراج جميع رجالها من بلادهم، أو بعدم إعطائها أحدًا من
الرجال للقتال معها، وهي تعلم أنها لا يمكنها أن تقهرهم على هذا مهما يكن عدد
جندها في بلادهم، وتعلم أنه قد ثبت عندهم أن عصيانها في ذلك لا يمكن أن يفضي
إلى قتل عشر العشر مما يقتل فيهم في الدفاع عنها، كما أنهم يعلمون أن الحرب
القابلة ستكون أشد فتكًا وإبادة من الحرب التي قبلها، التي قتل منهم مئات الألوف
فيها، فإذا علمت أن هذه الظنون في المسلمين في غير محلها فإنها ترجع عن
غيها لمصلحتها، فهل يمكنهم إعلامهم بهذا؟!
__________(31/309)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خان
على عرش الأفغان
قد تم حولٌ كامل لاستواء محمد نادر خان على عرش الأفغان فاحتفل في تلك
البلاد وفي الوكالات السياسية التابعة لها بذكرى جلوسه الميمون الذي قضى على
سياسة الإلحاد والفساد التي جرى عليها سلفه الطالح أمان الله خان.
وقد شهدنا حفلة المفوضية الأفغانية في دار السفارة في هذه العاصمة، في 24
من هذا الشهر (16 أكتوبر) وقد أجاب دعوة وزيرها العالم المرشد الشهير
(جلالة مآب السيد محمد صادق المجددي) جمهور من العلماء والكبراء الرسميين
وغير الرسميين من الوطنيين والأجانب، وبعد أن شربوا الشاي وتناولوا معه أنواع
الحلوى نهض صاحب السعادة الوزير الجليل فارتقى سُلَّم الدار ووقف بأعلى السقيفة
التي أمامه فاستقبل الجمهور الجالسين في الحديقة وألقى خطابه مفتتحًا إياه بتلاوة
آيات من خواتيم سورة آل عمران في مناجاة الله عز وجل {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً
يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (آل عمران: 193) الآيات وكان الخطاب
بعدها بالفارسية لغة الأفغان الرسمية ولكنه قفَّى عليه بآخر في معناه باللغة العربية
التي يجيدها علماء الدين في بلاده وهو من كبارهم، فنوه بمآثر جلالة الملك المعظم
والاغتباط بالموالاة الودية بين حكومته وحكومة جلالة الملك المعظم، فصفق له
الحاضرون مرارًا. وختم خطابه بتكبير العيد.
وبعد انتهاء الحفلة أذَّن المؤذن لصلاة المغرب وفُرشت الطنافس الشيرازية في
خص (كشك) خشبي في جهة القبلة وفي جوانبه فنهض المصلون واصطفّوا
مؤتمّين بالوزير. وبعد الفراغ من الصلاة ودع الجمهور سعادة الوزير مهنئين له
بهذا العيد السياسي السعيد، وقد سر مَن حضر من علماء المسلمين وسائر طبقاتهم
وانشرحت صدورهم بهذا الاحتفال؛ لأنه لم يسبق له نظير في بلادهم، فهذه أول
مرة شاهدوا فيها وزيرًا معمَّمًا يفتتح خطابًا رسميًّا بكتاب الله ويختمه بذكر الله
وتكبيره. فنهنئ سعادته ودولة جلالة ملكهم المسلم المصلح بهذه الذكرى الحميدة.
ونسأله تعالى أن يوفقه للمضي في الصراط السوي من إصلاح بلاده وأمته في
أمور دينهم ودنياهم بما تقتضيه هداية الإسلام ومصالح المسلمين في هذا العصر.
__________(31/318)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا
نشرنا في الجزء الثاني من المنار مقالاً بَيَّنَّا فيه رأينا في هذه المعاهدة ونشرته
جريدة المؤيد الجديد بمصر وجريدة الجامعة العربية في القدس مع اختصار،
وإحدى جرائد العراق فغاظ ذلك نوري باشا السعيد رئيس الوزارة العراقية فلقن
جريدة العراق لسان حاله مقالاً في الطعن على شخص صاحب المنار والافتراء عليه،
لم يكن مثله يليق بمنصب الوزير وأدبه ولا بما كان له من التردد على صاحب
المنار والتودد له والممالحة.
أما المعاهدة فقد زعم أنه لم ينطق أحد باستنكارها وبيان مضارها إلا الغراب
الذي نعب بمصر وغراب آخر رجع صداه في العراق، فإن كان لهذا القول مكان
من الصدق فالشرف فيه لصاحب المنار أنه كان الأول المقدم لهذه الحملة الصادقة
التي حملها أعظم زعماء العراق على المعاهدة ولكن بعد نفوذ السهم وزعم أنه لم
يكن له شأن في المسألة العربية. كأنه يجهل أنه أحد مؤسسي الحركة العربية
وخطباء (المنتدى الأدبي) العربي في الآستانة وحزب الاتحاد السوري بمصر
ومكانه من حزب الاستقلال العربي وأنه المؤسس الأول لجمعية الجامعة العربية،
وكأنه نسي تردده هو وغيره من الضباط عليه عندما يجيئون مصر وعندما
يسافرون منها، وقوله له عندما ودعه هو بداره - آخر مرة في أيام الحرب -: يا
نوري، إنني حجة الله عليكم قد أخبرتكم أن الإنكليز يستخدمون شرفاء مكة والثورة
العربية في القضاء على الأتراك والاستيلاء على العرب، فلا تكونوا آلة في يدهم
لاستعباد أمتكم وإضاعة مستقبل بلادكم، بل اتخذوا فرصة احتياج الإنكليز إلى
العرب لجمع ما تقدرون عليه من المال والسلاح وادِّخاره، مع السعي لجمع كلمة
أمراء العرب وزعمائهم.. إلخ.
وزعم أيضًا أن صاحب المنار كان اتحاديًّا مع الاتحاديين، وائتلافيًّا مع
الائتلافيين وهاشميًّا مع الهاشميين يتملق للحسين وأولاده ونوري باشا يعلم كغيره أن
كل هذا افتراء وبهتان، فصاحب المنار لم ينتظم في حزب من هذه الأحزاب، وأنه
كان نصح للشريف حسين من قبل بمثل ما نصح به له ولجعفر باشا من بعد؛ أي
بأن يبادر إلى عقد حلف بينه وبين الإمام يحيى والإمام عبد العزيز بن سعود والسيد
الإدريسي، فأظهر له القبول فوعده بالمساعدة على هذا الأساس؛ لأنه أساس
الجامعة العربية التي أقسم نجله الأمير عبد الله لصاحب المنار اليمين على العمل
بقانونها، ولكن الملك حسينًا نكص ونكث فحمل عليه صاحب المنار تلك الحملات
المعروفة.
وأما جلالة الملك فيصل فلا يجهل نوري باشا موقف صاحب المنار معه في
دمشق وتلك الكلمات المشهورة له التي سماها مؤرخ الشام الأستاذ محمد كرد علي
(الكلمات التاريخية) كما أنه لا ينسى أنه كان رئيس المؤتمر السوري العام في
دمشق الذي جعل فيصلاً ملكًا - وأنه واقف على أخباره هو في الوساطة بين الملك
فيصل والجنرال غورو حتى في عهد ذلك الإنذار الشائن المهين. ولا ما قاله له
عندما عاد بجلالته ليلاً إلى دمشق بعد احتلال الجنرال غورو إياها. وأنه أنكر أنه
هو الذي أشار برجوع الملك إلى الشام، ولطخ بذلك غيره من حاشيته.
صاحب المنار يكتب في المسألة العربية للنصيحة والإرشاد وإقامة الحجة على
الجناة على أمتهم كما صرح بذلك النوري وجعفر وغيرهما في أيام الحرب العامة
وقد صدق رأيه بعدها، وسيظهر للأمة العربية كلها صدقه في معاهدة العراق وإن
كان لا يود ذلك.
__________(31/319)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ أبو بكر خوقير
تتمة ترجمته
وله مصنَّفات نافعة منها:
(1) فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال، طبع في مطبعة
المنار بمصر. و (2) مسامرة الضيف في رحلة الشتاء والصيف، طبع في
بيروت. و (3) ما لا بد منه في أمور الدين، طبع في مصر. و (4) حسن
الاتصال بفصل المقال في الرد على با بُصيل وكمال. و (5) السجن
والمسجونون. (6) ما لا غنى عنه شرح ما لا بد منه. (7) التحقيق في الطريق
في نقد الطرق المتصوفة. وهذه المصنفات لم تطبع وهي جديرة بالطبع.
وكان يقرأ لطائفة من الطلاب دروسًا في العلوم الدينية والتاريخية وغيرها في
بيته بعضها بالنهار وبعضها بالليل، وهو لم يتعرّف إلى الملك عبد العزيز آل سعود
إمام السلفيين ولم يطلب منه مساعدة ولا وظيفة على كونه أكبر علماء السلفيين
وفقهاء الحنابلة في الحجاز، ولكن دلَّه عليه بعض العارفين بقدره فجعله مدرسًا في
الحرم الشريف قبل وفاته بسنة.
توفاه الله تعالى في بلدة الطائف مصطاف الحجاز في يوم الجمعة غرة ربيع
الأول من هذا العام بمرض الزحار عن عمر ناهز السبعين رحمه الله تعالى رحمة
واسعة، وجمعنا به في دار القرار مع المقربين والأبرار.
استدراك على ما نشر
من الترجمة في الجزء الثالث
في عام 1324 و1325 كان الشريف علي باشا أمير مكة وهو الآن مقيم
بمصر وفي إمارته كان الشيخ أحمد فتة الشافعي مفتيًا للحنابلة وكان الذي يكتب له
الفتوى ويستشار فيها الشيخ أبو بكر خوقير.
لما صار الشريف حسين أمير مكة في سنة 1327 عين الشيخ أبا بكر خوقير
مفتيًا للحنابلة ثم عزله، وعين الشيخ عبد الله بن حميد النجدي مفتيًا للحنابلة بمكة
وحفيد الشيخ محمد بن حميد مفتي الحنابلة بمكة سنة 1290 وهو مؤلف (السحب
الوابلة في تراجم الحنابلة) ذيل الطبقات للحافظ ابن رجب.
ثم عزل عبد الله بن حميد وعيّن الشيخ عمر باجُنيد الشافعي مفتيًا للحنابلة
وهو من علماء مكة القبوريين - والآن دخل الوكر - وهو تلميذ با بصيل تلميذ
دحلان. وقد استدركت بهذا على عبارة الترجمة لئلا يقول الناس ليس بين خوقير
وبا جنيد اتفاق حتى يكتب له الفتوى.
__________(31/320)
رجب - 1349هـ
ديسمبر - 1930م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ليلة النصف من شعبان
(س 36) لدينا أسئلة متعددة عما يشرع في ليلة نصف شعبان وقد سئلنا
عنها مرارًا في السنين السابقة وأجبنا بما حاصله: أن ما جرت به العادة فيها من
الاحتفال في المساجد بدعة نهى عنه الفقهاء وأنكروا ما يقع فيه من المنكرات حتى
إيقاد المصابيح الكثيرة. وقد ورد في قيام ليلة النصف وصلاتها أخبار وآثار
موضوعة وحديث ضعيف رواه ابن ماجه من حديث علي (رضي الله عنه)
مرفوعًا: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) وزاد
فيه عبد الرزَّاق في مصنفه: (فإن الله عز وجل ينزل فيها لغروب الشمس إلى
السماء فيقول: ألا مستغفر أغفر له، ألا مسترزق أرزقه، حتى يطلع الفجر) .
وأما دعاء شعبان المشهور فأحيل السائلين عنه على ما هو أقرب إليهم مما
كتبته من قبل وهو ما كتبه الأستاذ الشيخ علي محفوظ المدرس بقسم التخصص
بالأزهر في كتابه (الإبداع في مضارّ الابتداع) قال: (ومن البدع الفاشية هذا
الدعاء الذي يجتمعون له ليلة النصف من شعبان في المساجد عقب صلاة المغرب
يقرءونه بأصوات مرتفعة بتلقين الإمام، فإنه مشكوك فيه، وكل الأحاديث الواردة
في ليلة نصف شعبان دائر أمرها بين الوضع والضعف وعدم الصحة) . ثم ذكر
أقوال العلماء في ذلك. وقد قرظ هذا الكتاب بعض كبار علماء الأزهر المعاصرين
وقرظناه في هذا الجزء.
__________(31/331)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من جاوه
(س 37 - 42) من صاحب الإمضاء في سمبس (برنيو)
مولاي الأستاذ المصلح العظيم صاحب المنار الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإني أرجو أن تتفضلوا بالجواب عن أسئلتي الآتية بأسرع ما أمكن فإنه قد
حمي في جهاتنا - الملاوية الآن - وطيس التنازع والتخاصم فيها بين أهل التقليد
الجامدين، وبين محبي الإصلاح والمصلحين، وإنني أرى أن عاقبة ذلك غير
محمودة فإن ضرره أكبر من نفعه، وهي:
1 - هل يجوز لأحد تلقين الميت بعد الدفن بنحو ما ورد من حديث أبي أمامة
أم يحرم عليه؟ وهل هو بدعة ضلالة أم لا؟ وقد قرأت قولكم في (ج 6، م 17
من المنار) ما نصه:
وجملة القول أن التلقين لم يثبت بكتاب الله ولا بسنة رسوله ولا قال أحد من
المحققين إنه سُنَّة، بل قال بعض الفقهاء باستحبابه للتساهل في العمل بالحديث
الضعيف والاستئناس له بما يناسبه، والبرماوي ليس قدوة، وكم في كتب أمثاله
وكتب مَن هم أعلم منه من البدع، فلا ينبغي لأحد أن يثق إلا بما يصرح المحققون
بثبوت نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور السلف دون ما يذكر غفلاً.
أفلا يجوز لأحد اتباع بعض هؤلاء الفقهاء الذين قالوا باستحبابه للتساهل في
العمل بالحديث الضعيف في ذلك؟ .
2- هل يجوز التلفظ بنية نحو الصلاة تبعًا لما قال الإمام النووي في المنهاج:
ويندب النطق قبل التكبير. اهـ، أم لا لعدم وجود ذلك لا في الكتاب ولا في
السنة؟ .
3- هل يجوز لأحد أن يصلي صلاة الحاجة عملاً بحديث عبد الله بن أبي
أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كانت له إلى الله حاجة أو
إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصلِّ ركعتين وليثن على الله
تعالى) .
الحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب. اهـ الجزء الأول من المغني
للإمام ابن قدامة وميدان هذا التنازع والتخاصم جريدة (سوْدارا) الملاوية التي
تصدر في فلفلان.
4- هل المدارس العالية بمصر تضاهي المدارس العالية في أوربا كإنكلترة
وفرنسة وألمانية وسويسرة وهولندة في جميع العلوم والفنون واللغات التي تعلم فيها ما
عدا اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية أم لا؟
5- هل موظفو حكومة مصر الذين ترقوا إلى مناصب الوزارة تعلموا في
مدارسها فقط أم تعلموا أيضًا في إحدى مدارس أوربا العالية وتخرجوا بها أم لا؟
6- هل يصح قول قائل: لا عبرة بعلوم مَن تخرج بأعلى مدارس مصر -
أي العلوم الأوربية العصرية ولغاتها - بالنسبة إلى علوم مَن تخرج بإحدى
المدارس الأوربية العالية؛ فإن مدارس مصر العالية تنقصها لغات أوربية وغيرها
من العلوم التي تعلم في المدارس الأوربية.
هذا، وتفضلوا بقبول فائق تحياتي الزاكية وتسليماتي الطيبة.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
مقدمة لجواب المنار
في ضرر التفرق والاختلاف في الدين
اعلموا أيها الإخوان المختلفون في هذه المسائل، وليعلم كل المختلفين في
أمثالها من المسائل الاجتهادية، أي غير المجمع عليها، أن التفرق والاختلاف في
الدين من أكبر المفاسد وأضر المآثم، وأن كلًّا مِنْ فِعل هذه الأشياء وتركها أهون
من التفرق والتعادي لأجلها، فإن من فعلها ثقة بعلم من قال بها حسن النية، ومن
تركها لعدم الثقة بدليلها حسن النية، ولكن من يشاقّ طائفة من إخوانه المسلمين
لمثل هذا لا يكون إلا متبعًا للهوى، وإن أصاب فيما احتج وادعى، فإذا ترك كل
فريق الشقاق والقدح في المخالف له، واكتفى ببيان ما عنده من الدليل ونشره فلا
بد أن ينتهي الأمر بانتصار الدليل الصحيح القوي على ما له شبهة الدليل {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) - {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105)
- {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) .
اتفق العلماء على أن المراد برد المسائل المُتَنَازَع فيها إلى الله الرد إلى كتابه
والمراد بالرد إلى الرسول بعد وفاته الرد إلى سنته. وشبهة المقلدين الذين تقوم
عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله أن المشايخ الذين يقلدونهم أعلم بالكتاب
والسنة من مورِد الدليل عليهم منهما، وهذه شبهة واهية؛ لأن الله تعالى يحاسب
الناس على العمل بما علموا من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بما قال
هؤلاء المشايخ، ولأن مورد الدليل معه من العلماء الآخذين به مَن هم أعلم من
أولئك العلماء الذين قلدوهم بدون دليل أو مثلهم، ومعه زيادة الدليل الذي يجب الرد
إليه فيما تنازع فيه العلماء. وإنما يعذر مَن يتبع من يثق بعلمه إذا كان اتباعه في
شيء لم يعلم حكم الله وحكم رسوله فيه.
وهاك أجوبة هذه المسائل، مع الاختصار في الدلائل.
(37) تلقين الميت
بينا الحق في هذه المسألة بما نشرناه في المجلد السابع عشر ونَقَلَ السائل
خلاصته. وقد طبع في هذه السنين الأخيرة تسع مجلدات من كتاب (المجموع
شرح المهذب) للإمام النووي محرر فقه الشافعية وهو أدق كتب الخلاف المطولة
في بسط الأدلة على المسائل الخلافية، فرأيناه يعزو استحباب تلقين الميت إلى
(جماعات) من أصحابهم أي الشافعية ولا يذكر لهم مستندًا إلا حديث أبي أمامة الذي
ذكرناه في المجلد السابع، وينقل عن ابن الصلاح أنه قال: (إسناده ليس بالقائم،
لكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام) ثم يقول - أي النووي -: رواه أبو القاسم
الطبراني في معجمه بإسناد ضعيف ثم يقول بعد إيراده: قلت فهذا الحديث وإن كان
ضعيفًا فيُستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث
الفضائل والترغيب والترهيب.
وأقول: إن الحديث الضعيف لا يثبت به حكم شرعي، والمراد بتسامح بعض
العلماء في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب ما فيه تقوية لأمر مشروع دون ما
كان تشريعًا جديدًا لما لم يشرعه الله ورسوله، فمن الأول الحث على صلة الرحم
وكثرة ذكر الله والترهيب من المعاصي، ومن الثاني صلاة الرغائب وليلة نصف
شعبان اللتان قال فيهما النووي في المنهاج: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان
قبيحتان مذمومتان) ذلك بأنهما وردتا في عدد معين وصفة معينة فكانتا تشريعًا
جديدًا، وقد شرحنا هذه المسألة مرارًا وذكرنا ما قاله الحافظ ابن حجر عن المحققين
في شروط العمل بالحديث الضعيف عندهم، وكم دخل على الأمة من البدع بهذا
التساهل.
وأما الاعتضاد الذي ذكره ابن الصلاح فقد بيَّن النووي مراده منه وهو حديث:
(واسألوا له التثبيت) أي للميت ولكن هذا دعاء يصلح معضدًا للدعاء للميت
بغير التثبيت مما هو بمعناه ولكنه لا يصلح معضدًا للتلقين، وذكر أيضًا وصية
عمرو بن العاص، ولا حجة في مثلها على هذا ولا غيره.
وإذا كان هذا كل ما عندهم في أوسع كتبهم فلا عذر لمن علمه إذا أصر على
تقليدهم في التلقين بشبهة أنهم أعلم ممن ينكره، والمنكرون له هم جمهور أئمة الأمة
وعلمائها من المجتهدين والمقلدين لسائر المذاهب ومنهم بعض علماء الشافعية كما
علم من عبارة النووي إذ لم ينقل اتفاقهم في المسألة، فالتلقين بدعة، وكل بدعة في
الدين ضلالة.
***
(38) التلفظ بنية العبادة
هذه المسألة بيناها في المنار من قبل غير مرة، ونعود الآن فنقول: إن علماء
المسلمين أجمعوا على أن النية محلها القلب، ولكن قال بعض المؤلفين المقلدين من
الشافعية: إنه يندب أو يستحب التلفظ بها من باب الاحتياط للتذكر، وقولهم ليس
بشرع، ولم يذكروا عليه دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع أو عمل
بعض علماء السلف. وقد غلط بعضهم في فهم عبارة للإمام الشافعي ظن أنها تدل
على ذلك فصرحوا بأنه خطأ.
وعبارة الشيخ أبي إسحاق في المهذب هكذا: والنية من فروض الصلاة لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأنها قربة
محضة فلم تصح من غير نية كالصوم. ومحل النية القلب، فإن نوى بقلبه دون
لسانه أجزأه. ومن أصحابنا من قال ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان، وليس بشيء؛
لأن النية هي القصد بالقلب اهـ.
وقال النووي في شرحها: فإن نوى بقلبه ولم يتلفظ بلسانه أجزأه على المذهب
وبه قطع الجمهور، وفيه الوجه الذي ذكره المصنف وذكره غيره، وقال صاحب
الحاوي هو قول أبي عبد الله الزبيري إنه لا يجزئه حتى يجمع بين نية القلب وتلفظ
اللسان؛ لأن الشافعي رحمه الله قال في الحج: إذا نوى حجًّا أو عمرة أجزأ وإن لم
يتلفظ وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق. قال أصحابنا غلط هذا القائل وليس مراد
الشافعي بالنطق في الصلاة هذا بل مراده التكبير. ولو تلفظ بلسانه ولم ينوِ بقلبه لم
تنعقد صلاته بالإجماع فيه، كذا نقل أصحابنا الإجماع فيه. ولو نوى بقلبه صلاة
الظهر وجرى على لسانه صلاة العصر انعقدت صلاة الظهر اهـ كلام النووي
وأنت ترى أنهم لم يسموا النطق باللسان نية ولا جعلوا له حكمًا.
وما ذكره الشافعي من التلفظ في مسألة الحج والعمرة ليس مرادًا به إلا التلبية
بهما أو بأحدهما عند النية، والتلبية مشروعة فيهما بالنص فليس المراد بها التعبير
عن نية القلب.
وجملة القول أن تلقين الناس أن التلفظ بالنية مندوب شرعًا - ابتداع وشرع لم
يأذن به الله، فالمندوب عند علماء الأصول: خطاب الله المقتضي للفعل اقتضاءً
غير جازم.
***
(39) صلاة الحاجة
حديث ابن أبي أوفى في صلاة الحاجة واهٍ جدًّا رواه الترمذي من طريق فائد بن
عبد الرحمن الكوفي أبي الورقاء وقال إنه يضعّف في الحديث، وهذا أهون ما قيل
فيه، ومما قاله الإمام أحمد فيه: لو أن رجلاً حلف أن عامة حديثه كذب لم
يحنث.
وقال الحاكم: روى عن ابن أبي أوفى أحاديث موضوعة. فهذا الحديث
لا يعمل به حتى على قول من قال: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في الفضائل
المشروع مثلها. فقد اشترط في ذلك أن لا يشتد ضعف الحديث، فكيف إذا كان من
رواية الكذابين والوضّاعين؟
ولكن التوسل بالصلاة لقضاء الحاجة ولغير ذلك مشروع، ويدخل في عموم
قوله تعالى:] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [وإنما الممنوع أن يُسند إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه ويُعمل به على أنه ثابت.
***
(40) مدارس مصر ومدارس أوربة:
لو كانت مدارس مصر العالية تضاهي المدارس العالية في أوربة لاستغنى بها
أهل مصر وحكومة مصر عن إرسال أولادهم إلى أوربة، ولكن بعض الذين تعلموا
في مصر أرقى علمًا من بعض الذين تعلموا في أوربة.
***
(41) في أي المدارس تخرَّج وزراء مصر
إن بعض الذين ارتقوا إلى منصب الوزارة في مصر قد تعلموا وتخرجوا في
مدارس مصر وبعضهم قد تخرَّجوا في مدارس أوربة، ويقال فيهم ما قيل في جواب
السؤال السابق. وإن سعد باشا زغلول الذي ارتقى إلى رياسة الوزارة ورياسة
مجلس النواب - وكان أكبر زعماء السياسة في مصر حتى دانت له رقاب المتعلمين
في أوربة وفي مصر جميعًا - لم يتخرج في مدارس مصر ولا مدارس أوربة، وقد
جاور في الأزهر ولكنه لم يأخذ منه شهادة العالِمية، وإنما تخرج بالأستاذ الإمام
تعليمًا وتربية، وأكبر ما استفاده منه استقلال العقل، وعلو الهمة، وقوة الإرادة،
والعناية بمصلحة الأمة، وقد تعلم اللغة الفرنسية ودرس بها علم الحقوق دراسة
مستقلة في الكبر ثم أدى امتحانها في فرنسا فنال الشهادة العالمية (ليسانس) .
***
(42) النسبة بين المتعلمين في مصر والمتعلمين في أوربة:
قد علم من الجواب عن السؤالين السابقين جواب هذا السؤال من حيث العلوم،
وأما اللغات الأجنبية فإن الذين يتعلمونها في بلاد أهلها يكون أكثرهم أحذق لها
وأفصح فيها ممن يتعلمها في مصر، إلا بعض مَن تمرن على مزاولتها مع أهلها في
بلادهم وغير بلادهم، فالأستاذ الإمام كان أفصح نطقًا باللغة الفرنسية وأدق فهمًا من
أكثر من تعلموها في فرنسة وسويسرة الفرنسية، وهو قد تعلمها في الكبر على معلم
مصري، ولكنه كان يحضر دروس آدابها العالية في كلية جنيف عدة سنين، ومن
الغريب أنه ترجم كتاب التربية للفيلسوف سبنسر ترجمة حرفية بقصد التمرن
والتعلم، وقد اطّلع عليه صديقه قاسم بك أمين الذي كان يعد من أرقى مَن أتقن اللغة
الفرنسية في بلادها من المصريين ليصحح له الترجمة، وقد علمنا أخيرًا أن ما
صححه قاسم بك من مسودة الترجمة كان أبعد عن الصواب مما كتبه الأستاذ كتابة
تعلم وتمرن، ولكن سبب هذا ضعف قاسم أمين بك في اللغة العربية لا الفرنسية،
وكان الأستاذ هو الذي صحح له كتاب (تحرير المرأة) ، دون كتاب المرأة
الجديدة، ولا يخفى على مَن قرأ الكتابين أن عبارة الأول أفصح وأبلغ من عبارة
الثاني، وكان القياس العكس.
__________(31/347)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
لماذا تأخر المسلمون؟
ولماذا تقدم غيرهم؟!
(1)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ،
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال:
53) ، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) .
كتب إليَّ تلميذي المرشد الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة
سمبس برنيو كتابًا يقترح فيه على أخينا المجاهد أمير البيان أن يكتب للمنار مقالاً
بقلمه السَّيَّال في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وأسباب قوة الإفرنج
واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة. وقال - في كتاب آخر - إنه قرأ ما
كتبناه في المنار وتفسيره من بيان الأسباب في الأمرين وما كتبه الأستاذ الإمام في
مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) في الموضوع، وإنما غرضه أن
يكتب في ذلك أمير البيان بقلمه المؤثر المعبر عن معارفه الواسعة، وآرائه الناضجة
لتجديد التأثير في أنفس المسلمين بما يناسب حالهم الآن، لتنبيه غافلهم، وتعليم
جاهلهم، وكبت خاملهم، وتنشيط عاملهم. وبنى الاقتراح على الأسئلة الآتية التي
صارت مثار شبهة على الدين عند غير علمائه، فهو يعلم مما سمعه من دروسنا في
مدرسة الدعوة والإرشاد ومما كتبناه مرارًا في أن كتاب الله تعالى حجة على أدعياء
الإسلام والإيمان، وليسوا هم حجة عليه.
افترصْت هذا الاقتراح لحمل أخي ووليي الأمير شكيب على كتابة شيء مثل
هذا للمنار، وأنا الذي أنصح له دائمًا بتخفيف أحمال الكتابة عن عاتقه لكثرة ما
يكتب لصحف الشرق والغرب وللأصدقاء وغيرهم، فأرسلت إليه كتاب الشيخ
محمد بسيوني عقب وصوله إليّ، فأرجأ الجواب عنه لكثرة الشواغل إلى أن عاد
من رحلته الأخيرة إلى أسبانية وقد أثرت في نفسه مشاهد حضارة قومنا العرب في
الأندلس والمغرب الأقصى، وشاهد تأثير محاولة فرنسة تنصير شعب البربر في
المغرب تمهيدًا لتنصير عرب إفريقية المرزوئين باستعبادها لهم كما فعلت أسبانية
في سلفهم في الأندلس - فكتب الجواب منفعلاً بهذه المؤثرات، فكان آية من آيات
بلاغته، وحجة من حجج حكمته، لعلها أنفع ما تفجر من ينبوع غيرته، وانبجس
من معين خبرته، فسال من أنبوب براعته، جزاه الله خير ما جزى المجاهدين
الصادقين.
***
كتاب الشيخ
محمد بسيوني عمران
حضرة مولاي الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز. آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فإن مَن قرأ ما كتبه في المنار وفي الجرائد العربية العلامة السياسي الكبير
أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، من مقالاته الرنانة المختلفة المواضيع، عرف
أنه من أكبر كُتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام، وأنه أقوى ضلع للمنار
وصاحبه في خدمة الإسلام والمسلمين، وإني أرجو من الله تعالى أن يطيل بقاءهما
الشريف في خير وعافية، كما أرجو من مولاي الأستاذ صاحب المنار أن يطلب
من هذا الأمير الكاتب الكبير أن يتفضل عليَّ بالجواب على أسئلتي الآتية وهي:
(1) ما أسباب ما صار إليه المسلمون (ولا سيما نحن مسلمو جاوة وملايو)
من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معًا، وصرنا أذلاء لا حول لنا
ولا قوة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعي أنه
عزيز وإن كان ذليلاً مهانًا ليس عنده شيء من أسباب العزة إلا لأن الله تعالى قال:
{وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) .
(2) مالأسباب التي ارتقى بها الأوربيون والأمريكانيون واليابانيون ارتقاءً
هائلاً؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا اتبعوهم في
أسبابه مع المحافظة على دينهم (الإسلام) أم لا؟
هذا، والمرجو من فضل الأمير أن يبسط الجواب في المنار عن هذه الأسئلة
وله وللأستاذ صاحب المنار - من الله - الأجر الجزيل.
... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
... ... ... سنبس - برنيو الغربية في 21 ربيع الآخر سنة 1348
***
جواب الأمير شكيب أرسلان
إن الانحطاط والضعف اللذيْن عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق
والمغارب لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في
دركاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم
الخطر، ومنه ما هو أقل خطرًا.
وبالإجمال حالة المسلمين الحاضرة - ولا سيما في القرن الرابع عشر للهجرة
أو العشرين للمسيح - لا تُرضي أشد الناس تحمسًا بالإسلام وفرحًا بحزبه، فضلاً
عن غير الأحمسي من أهله.
إن حالتهم الحاضرة لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، ولا من
جهة المادة ولا من المعنى. وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنهم فيها غيرهم
متأخرين عن هؤلاء الأغيار لا يسامتونهم في شيء إلا ما ندر، ولم أعلم من
المسلمين ممن ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر ولم يكونوا متأخرين عنهم إلا بعض
أقوام منهم، وذلك كمسلمي بوسنة مثلاً فإنهم ليسوا في سوي مادي ولا معنوي أدنى
من سوي النصارى الكاثوليكيين، أو النصارى الأرثوذكسيين الذين يحيطون بهم،
بل هم أعلى مستوى من الفريقين، وككثير من مسلمي الروسية الذين ليس المسيحيون
الذين يجاورونهم أرقى منهم. ولقد كان المسلمون في أذربيجان قبل الحرب أرقى
من الطوائف المسيحية التي تساكنهم، ولا خلاف في أن مسلمي الصين إجمالاً على
تأخرهم هم أرقى من الصينيين البوذيين، هذا إذا كانت النسبة بين الفريقين باقية
كما كانت قبل الحرب العامة، وفيما عدا هذه الأماكن نجد تأخر المسلمين عن مسامتة
جيرانهم عامًّا مع تفاوت في دركات التأخر.
ويقال: إن العرب في جزيرة سنغافورة هم أعظم ثروة من جميع الأجناس التي
تساكنهم حتى من الإنكليز أنفسهم بالنسبة إلى العدد، ولا أعلم مبلغ هذا الخبر من
الصحة، ولكنه على فرض صحته ليس بشيء، يقدم أو يؤخر في ميزانية
المسلمين العامة.
ولا إنكار أن في العالم الإسلامي حركة شديدة، ومخاضًا عظيمًا شاملاً للأمور
المادية والمعنوية، ويقظة جديرة بالإعجاب، قد انتبه لها الأوربيون وقدروها
قدرها، ومنهم مَنْ هو متوجس خيفة مغبتها، لا يُخفي هذا الخوف من تضاعيف
كتاباتهم، إلا أن هذه الحركة إلى الأمام لم تصل بالمسلمين حتى اليوم إلى درجة
يساوون بها أمة من الأمم الأوربية أو الأميركية أو اليابان.
فبعد أن تقرر هذا وجب أن نبحث في الأسباب التي أوجدت هذا التقهقر في
العالم الإسلامي بعد أن كان منذ ألف سنة هو الصدر المقدم، وهو السيد المرهوب
المطاع بين الأمم شرقًا وغربًا، فقبل أن نبحث في أسباب الانحطاط يجب أن نبحث
في أسباب الارتقاء فنقول:
أسباب ارتقاء المسلمين الماضي
إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية التي كانت
ظهرت جديدًا في الجزيرة العربية فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من
الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن
عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة،
صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف
كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة
عثمان وفي خلافة علي (رضي الله عنه) لكانوا أكملوا فتح العالم ولم يقف في
وجههم واقف.
على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن أو ثلثي قرن برغم
الحروب التي تسببت بها مشاقّة معاوية لعلي والحروب التي وقعت بين بني أمية
وابن الزبير - قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين، وحيرت الفاتحين
الكبار، وأذهلت نابليون بونابرت أعظمهم، وله تصريح في ذلك.
فالقرآن أنشأ إذًا العرب نشأة مستأنفة وأخرجهم من جزيرتهم والسيف في
إحدى اليدين والكتاب في الأخرى يفتحون ويسودون ويتمكنون في الأرض.
ولا عبرة بما يقال في شأن العرب قبل الإسلام، وما يُروَى من فتوحات لهم،
وما ينوه به من أخلاق عظام في الجاهلية، فهذه قد كانت ولا تزال آثارها ظاهرة،
ولا يكفي مدنية العرب القديمة وأنها من أقدم مدنيات العالم، ومما يرجح أن الكتابة
قد بدأت عندهم، ولكن دائرة تلك المدنية كانت محدودة مقصورة على الجزيرة وما
جاورها. وقد أتى على العرب حين الدهر سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم
الأجانب في عقر دارهم، كالفرس في اليمن وعُمَان وفي الحيرة، وكالحبشة في
اليمن، وكالروم في أطراف الحجاز ومشارف الشام. والحقيقة أنهم لم يستقلوا
استقلالاً حقيقيًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم البعيدة وتخنع لهم وتتحدث بصولتهم،
ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة إلا
بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالسبب الذي به نهضوا وفتحوا، وسادوا وشادوا، وبلغوا هذه المبالغ كلها من
المجد والرقي يجب علينا أن نبحث عنه وننشده، ونُحفي المسألة ونمعن في النشدان:
هل هو باقٍ في العرب وهم قد تأخروا برغم وجوده وتأخر معهم تلاميذهم الذين
هم سائر المسلمين؟ أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم، ولم يبق من الإيمان إلا
اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومع القرآن إلا الترنم به من دون العمل بأوامره
ونواهيه، إلى غير ذلك مما كان في صدر الملة؟
فقد المسلمين السبب
الذي سار به سلفهم
إذا فحصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي به استقام هذا الأمر قد أصبح
مفقودًا بلا نزاع وإن كان بقي منه شيء فكباقي الوشم في ظاهر اليد. فلو كان الله
تعالى وعد المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لكان يحق لنا أن نقول: أين
عزة المؤمنين؟ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون:
8) ولو كان الله قد قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)
بمعنى أنه ينصرهم بدون أدنى مزيّة فيهم سوى أنهم يعلنون كونهم مسلمين، لكان
ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر. ولكن
النصوص التي في القرآن هي غير هذا، فالله غير مخلف وعده والقرآن لم يتغير،
وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) فلما كان المسلمون قد غيروا ما
بأنفسهم - كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم، وأن لا يبدلهم الذل والضِّعة من
ذلك العز وتلك الرفعة، بل كان ذلك منافيًا للعدل الإلهي. والله عز وجل هو العدل
المحض.
كيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل ويفيض عليها الخيرات التي كان
يفيضها على آبائها، وهي قد قعدت عن جميع العزائم التي قد كان يقوم بها آباؤها؟ !
وذلك يكون مخالفًا للحكمة الإلهية، والله هو العزيز الحكيم.
ما قولك في عزة بدون استحقاق، وفي غلة بدون حرث ولا زرع، وفي فوز
بدون سعي ولا كسب، وفي تأييد بدون أدنى سبب يوجب التأييد؟
لا جرم أن هذا مما يغري الناس بالكسل، ويحُول بينهم وبين العمل، بل مما
يخالف النواميس التي أقام الله الكون عليها، ومما يستوي به الحق والباطل،
والضار والنافع، وحاشا لله أن يفعل ذلك. ولو أيد الله مخلوقًا بدون عمل لأيَّد من
دون عمل محمدًا رسوله ولم يُحوجه إلى القتال والنزال والنضال، واتباع سنن
الكون الطبيعية للوصول إلى الغاية. وتصوَّرْ أمة لله عندها مائة وهي تؤدي من
المائة خمسة فقط أتعد نفسها قد أدت ما عليها وتطمع في أن يكافئها الله كما كان
يكافئ أجدادها الذين كانوا يؤدون المائة مائة، وإن قصروا عن المائة أدوا بالأقل
تسعين أو ثمانين؟ كلا. هذا مخالف لما وعد الله على رسله ومخالف للعقل
والمنطق، وليس هذا هو الشرط الذي شرطه الله على المؤمنين، وليس هذا هو
البيع الذي يستبشر به المؤمنون.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (التوبة: 111) فأين حالة المسلمين اليوم من هذا الوصف الذي في كتاب الله؟
وأين حالتهم من سلفهم الذين كانوا يتهافتون على الموت لإحراز الشهادة وكثيرًا ما
كانوا ينشدون الموت ولا يجدونه؟ وكان فارسهم يكر وهو يقول: إني لأشم ريح
الجنة، ثم لا يزال يكر ويخوض غمرات الحرب حتى إذا استشهد قال: هذا يوم
الفرح، وإذا فاتته الشهادة برغم حرصه عليها عاد إلى قومه حزينًا.
المقابلة بين حالي
المسلمين والإفرنج اليوم
اليوم فقد المسلمون أو أكثرهم هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم، وقد تخلق
بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها، فتجد أجنادهم تتوارد على حياض
المنايا سباقًا، وتتلقى الأسنة والحراب عناقًا، ولقد كان مبلغ مفاداتهم بالنفائس
وتضحيتهم للنفوس في الحرب العامة فوق تصور عقول البشر، كما يعلم ذلك كل
أحد، فالألمان فقدوا نحو مليوني قتيل، والفرنسيون فقدوا مليونًا وأربعمائة ألف
قتيل، والإنكليز فقدوا ستمائة ألف قتيل، والطليان فقدوا أربعمائة وستين ألف قتيل،
والروس هلك منهم ما يفوق الإحصاء، وهلم جرًّا. هذا من جهة النفوس، وإنكلترا
بذلت نحو مليارين، وألمانية أنفقت ثلاثة، وإيطالية أنفقت خمسمائة مليون والروسية
أنفقت ما أوقع فيها المجاعة التي آلت إلى الثورة ثم إلى البلشفة وهلم جرًّا.
فليقل لي قائل: أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى
من بيع النفوس وإنفاق الأموال بدون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم حتى نعجب
لماذا آتاهم الله هذه المنعة والعظمة والثروة وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها؟ !
وقد يقال: إن المسلمين فقراء ليس عندهم هذه الأموال لينفقوا هذا الإنفاق كله،
فنجيب بأننا نوزع هذه النفقات على الأوربيين بنسبة رأس المال ولا نكلف
المسلمين إلا الإنفاق مثل الأوربيين على هذه النسبة. فهل تسخو الأمم الإسلامية
الحاضرة بما تسخو الأمم الأوربية التي منها مَن قد أنفقت في الحرب العامة أكثر
من نصف ثروتها؟
الجواب: لا. ليس في المسلمين اليوم من يفعل ذلك لا أفرادًا ولا أقوامًا وقد
يقال: إن الأمة التركية وهي أمة مسلمة قد أنفقت كل ما تقدر عليه في حرب
اليونان ولم تقصر عن شأو الأوربيين في المفاداة بالأنفس والنفائس.
والجواب: نعم. قد كان ذلك. ومن الترك من بذل ثلث ثروته ومنهم من
بذل نصف ثروته في هذه الحرب، ولكنهم لما فعلوا ذلك انقلبوا بنعمة من الله
وفازوا، وحرروا أنفسهم واستقلوا، وارتفعوا بعد أن كانوا هووا، وعزوا بعد أن
كانوا ذلوا. إذًا الأمم الإسلامية إذا ائتمرت في المفاداة بما أمرها به كتابها كما كان
يفعله آباؤها، أو اقتدت على الأقل بما هو دأب الأوربيين اليوم من بذل النفوس
والنفائس في سبيل حفظ بيضتها، وذود المعتدين عنها، لم تقطف من ثمرات
التضحية إلا مثل ما قطفه غيرها. وانقلبت بنعمة من الله وفضل لم يمسسها سوء.
ولكن الأمم الإسلامية تريد حفظ استقلالها بدون مفاداة ولا تضحية، ولا بيع
أنفس ولا مسابقة إلى الموت، ولا مجاهدة بالمال، وتطالب الله بالنصر على غير
الشرط الذي اشترطه في النصر [1] فإن الله سبحانه يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ} (الحج: 40) ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) .
ومن المعلوم أن الله تعالى غير محتاج إلى نصرة أحد، وإنما يريد بنصرته
تعالى إطاعة أوامره واجتناب نواهيه. ولكن المسلمين أهملوا جميع ما أمرهم به
كتابهم أو أكثره، واعتمدوا في استحقاق النصرة على كونهم مسلمين موحدين،
وظنوا أن هذا يغنيهم عن الجهاد بالأنفس والأموال. ومنهم مَن اعتمد على الدعاء
والابتهال لرب العزة؛ لأنه يجده أيسر عليه من القتل والبذل. ولو كان مجرد
الدعاء يغني عن الجهاد لاستغنى به النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف هذه
الأمة فإنهم الطبقة التي هي أولى بأن يسمع الله دعاءها. ولو كانت الآمال تبلغ
بالأدعية والأذكار، ودون الأعمال والآثار لانتقضت سنن الكون، وبطل التشريع،
ولم يقل الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ولم يقل:
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 105) ولم يقل للمعتذرين
عن القتال {لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ} (التوبة: 94) الآية ولم يقل {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل
عمران: 195) .
لقد ظن كثير من المسلمين أنهم مسلمون بمجرد الصلاة والصيام، وكل ما لا
يكلفهم بذل دم ولا مال، وانتظروا على ذلك النصر من الله. وليس الأمر كذلك فإن
عزائم الإسلام لا تنحصر في الصلاة والصيام، ولا في الدعاء والاستغفار , كيف
يقبل الله الدعاء ممن قعدوا وتخلفوا، وقد كان في وسعهم أن ينهضوا ويبذلوا [2] .
اعتذار المسلمين عن أنفسهم وردّه
يقولون: ليس عند المسلمين ما عند الإفرنج من الثروة والسعة لينفقوا في
أعمال الخير وفي مساعدة بعضهم بعضًا. فنقول لمن يحتج بهذه الحجة: إننا
نرضى منهم أن ينفقوا على نسبة رؤوس أموالهم كما تقدم الكلام عند ذكر الجهاد
بالمال. فهل المسلمون فاعلون؟ !
إننا نراهم قد محوا رسوم الأوقاف والمؤسسات الخيرية التي تركها آباؤهم،
فضلاً عن كونهم لا يتبرعون بأموالهم الخاصة ولا يجرون مع الأوربيين في ميدان
من جهة التبرع لأجل المشروعات العامة، فكيف يطمع المسلمون أن تكون لهم
منزلة الأوربيين في البسطة والقوة والسلطان وهم مقصرون عنهم بمراحل في
الإيثار والتضحية؟ . فإن العمل لأجل السلطان في الأرض أشبه بالحرث في
الأرض، فبقدر ما تشتغل فيها هي تعطيك. وإن قصرت في العمل قصرت هي في
الثمر. والمسلمون يريدون سلطانًا يشبه سلطان الأوربيين بدون إيثار ولا بذل،
ولا فقد شيء من لذائذهم، وينسون أن الله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ
الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:
155) .
وقد يقولون: إننا جربنا البذل والتضحية، وابتُلينا بالنقص من الأموال
والأنفس والثمرات وصبرنا ولم يفدنا ذلك شيئًا، وبقي الأوربيون مسلطين علينا،
إني أنقل هذا القول عن بعضهم لأني قد سمعته كثيرًا.
والجواب: هل يقدرون أن يقولوا لنا: إن ما يدعونه من البذل والتضحية
يشبه شيئًا مما يقوم به النصارى واليهود من هذا القبيل؟ أو إنه إذا نُسب إليه يكون
نسبته نسبة الواحد إلى المائة؟ !
عندنا مثال حديث العهد هو مسألة فِلَسْطين: حدثت وقائع دموية بين العرب
واليهود في فلسطين فأصيب بها أناس من الفريقين. فأخذ اليهود في جميع أقطار
الدنيا يساعدون المصابين من يهود فلسطين. وأراد العالم الإسلامي أن يساعد عرب
فلسطين كما هو طبيعي فبلغت تبرعات اليهود لأبناء ملتهم من فلسطين مليون جنيه،
وبلغت تبرعات المسلمين كلها 13 ألف جنيه أي نحو جزء من مائة.
فسيقولون: إن المسلمين لا يملكون مثل ثروة اليهود. ونعود فنجيبهم نرضى
منهم بأن ينفقوا في مساعدة ملتهم على قدر اليهود والإفرنج بالنسبة إلى رؤوس
أموالهم، ولا نطالب منهم الفقراء الذين لا يملكون ما يزيد على كفاية عائلاتهم.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن
يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ} (التوبة: 93) . ونجيب أيضًا: أنه وإن كان اليهود أغنى
بالأموال من المسلمين فالمسلمون أكثر جدًّا بالعدد؛ لأن اليهود عشرون مليونًا،
والمسلمين نحو من ثلاثمائة وخمسين مليونًا.
فلو أن كلاًّ من المسلمين تبرع لفلسطين بقرش واحد - وهو الذي لا يعجز
عنه أحد في العالم مهما اشتد فقره - لاجتمع من ذلك ثلاثة ملايين جنيه ونصف.
فلنترك تسعة أعشار المسلمين ونفرض هذه الإعانة لفلسطين على عُشر واحد
منهم أي على 35 مليون نسمة لا غير. وهؤلاء الخمسة والثلاثون مليون نسمة
نجدهم حول فلسطين في لمحة بصر. فإن مسلمي مصر وسورية وفلسطين والعراق
ونجد والحجاز واليمن وعُمان هم 35 مليونًا. ولنتقاضَ من هؤلاء أداء قرش واحد
عن كل جمجمة، فماذا يجتمع لنا من ذلك؟ الجواب: يجتمع ثلاثمائة وخمسون
ألف جنيه.
فالمسلمون قد تبرعوا عن هذه الأعداد كلها بثلاثة عشر ألف جنيه أي بما
يساوي نحو ثلثي عُشر القرش عن كل نسمة من عُشر عددهم.
أهذا ما تريدون أن تسموه (تضحية) ؟ !
أَوَ بمثل هذا تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم؟ !
أَوَ هذه درجة نجدتكم لإخوانكم في الدين وجيرانكم في الوطن والقائمين عنكم
بالدفاع عن المسجد الأقصى الذي هو ثالث الحرمين وأول القبلتين؟ ، أفلم يقل الله
تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) أفهذه نجدة الأخ لأخيه؟ !
يقولون: لماذا سادت الأمة الإنكليزية هذه السيادة كلها في العالم؟
نجيبهم: إنها سادت بالأخلاق وبالمبادئ. حدثني رجل ثقة أنه يعرف إنكليزيًّا
ذا منصب في الشرق كان يأمر خادمه أن يشتري له الحوائج اللازمة لبيته يوميًّا من
دكان رجل إنكليزي في البلدة التي هم فيها. فجاءه الخادم مرة بجدول حساب وفر
عليه به 20 جنيهًا في مدة شهر. فسأله الإنكليزي: كيف أمكنك هذا التوفير؟ فقال
الخادم: تركنا دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري منه وصرنا نشتري من دكان أحد
الأهالي العرب. فقال له الإنكليزي: ارجع إلى دكان الإنكليزي الذي كنا نشتري
منه. فقال الخادم: أو لو كان ذلك يستلزم إنفاق 20 جنيهًا زيادة؟ قال الإنكليزي:
ولو كان يستلزم 20 جنيهًا زيادة. وسمعت أن كثيرين من الإنكليز الذين في
الأقطار لا يشترون شيئًا ذا قيمة إلا من بلادهم ويرسلون إلى لندرة فيوصون على
كل ما يحتاجون إليه حتى لا يذهب مالهم إلى الخارج.
أفنقيس هذا بأعمال المسلمين الذين مهما أوصيتهم بالشراء من أبناء جلدتهم أو
أوطانهم وعلموا أنهم يقدرون أن يوفروا في السلعة الواحدة نصف قرش إذا أخذوها
من الإفرنجي تركوا ابن جلدتهم أو ملتهم ورجحوا الإفرنجي؟ ! أفلم يكن سبب
حبوط مقاطعة العرب لليهود في فلسطين أشياء كهذه؟ حرموا أنفسهم أمضى سلاح
في يدهم وهو المقاطعة في الأخذ والعطاء مع اليهود من أجل فروق تافهة مؤقتة
ونسوا أن الضرر الذي يصيبهم من الأخذ والعطاء مع اليهود هو أعظم ألف مرة من
ضرر هاتيك الفروق الزهيدة! .
وكنت مرة أشكو إلى أحد كبار المصريين إهمال إخواننا المصريين
لمجاهدي طرابلس وبرقة الذين إن لم تجب عليهم نجدتهم قيامًا بواجب الأخوة
الإسلامية والجوار وجبت عليهم احتياطًا من وراء استقلال مصر واستقبال مصر؛
لأنه كما أن وجود الإنكليز في السودان هو تهديد دائم لمصر فوجود الطليان في
برقة هو تهديد دائم لها أيضًا. فكان جواب ذلك السيد لي: لقد بذل المصريون
مبالغ وفيرة يوم شنت إيطالية الغارة على طرابلس ولم يستفيدوا شيئًا فإن إيطالية
لم تلبث أن أخذتها!
فقلت له: إن المصريين قد نهضوا في الحرب الطرابلسية نهضة هي بدون
شك ترضي كل مسلم، بل ترضي كل إنسان يقدر قدر الحمية. ولكن المبلغ الذي
تبرعوا به يومئذ معلوم وهو 150 ألف جنيه؟ ! فهل يطمع المسلمون في أنحاء
المعمورة أن ينقذوا طرابلس من براثن إيطالية بمائة وخمسين ألف جنيه؟ وهل هذه
التضحية تقاس في كثير أو قليل إلى التضحيات التي قامت بها إيطالية بالمال
والرجال؟ !
كانت إعانة مصر في الحرب الطرابلسية 150 ألف جنيه، وأنفقت الدولة
العثمانية على تلك الحرب نحو مليون جنيه.
فانظر إلى ما كان لذلك من النتائج:
(النتيجة الأولى) وهي أهم شيء: حفظ شرف الإسلام وإفهام الأوربيين
أن الإسلام لم يمُت، وأن المسلمين لا يسلمون بلدانهم بدون حرب، وفي ذلك
من الفائدة المادية والمعنوية للإسلام ما لا ينكره إلا كل مكابر.
(النتيجة الثانية) أن هذا المبلغ الضئيل بالنسبة إلى نفقات الدول الحربية قد
كان السبب في توطين الطرابلسيين أنفسهم على المقاومة والمجاهدة بما رأوا من
نجدة إخوانهم لهم. فكانت هذه المقاومة سببًا لتجشيم إيطالية المعتدية من المشاق
والخسائر ما هو فوق الوصف إلى أن صار كثير من ساسة الطليان يصرحون
بندمهم على هذه الغارة الطرابلسية.
(النتيجة الثالثة) مهما يكن من عدد القتلى الذين فقدهم العرب في هذه الحرب
فإن مجموع قتلى الطليان إلى اليوم يفوق مجموع قتلى العرب أضعافًا مضاعفة.
فلقد لقي الطليان في هذه الحرب من الأهوال ما لا يتسع لوصفه مقالة أو رسالة.
وفي واقعة واحدة هي واقعة (الفويهات) على باب بنغازي ثبت فيها 150
مجاهدًا عربيًا لثلاثة آلاف جندي طلياني من الفجر إلى غروب الشمس إلى أن
انقرضوا جميعًا، إلا أفذاذًا أتى عليهم الليل، ورجع العدو ولما يموتوا. وبينما كان
العرب في حزن عظيم على مَن فقدوهم في تلك المعركة إذ جاءهم الخبر البرقي من
الآستانة عن برقية وردت إليها سرًّا من برلين عن برقية رقمية جاءت من سفارة
الألمان في رومية بأنه سقط في هذه المعركة ألف وخمسمائة جندي من الطليان،
وأصاب الجنون سبعة من ضباطهم، وهذه وقعة من خمسين وقعة بالأقل تضاهيها،
فالمسلمون قد قاتلوا في هذه المعركة جيشًا يفوقهم في العدد عشرين ضعفًا وقتلوا
نصفه أي قتلوا عشرة أضعافهم، والله تعالى قد قدر لهم في حال القوة أن يغلبوا
عشرة أضعافهم وفي حال الضعف أن يغلبوا ضِعفَيْهم فقط كما قال في سورة
الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:
65-66) .
(النتيجة الرابعة) أنه قد كانت نفقات إيطاليا في الحرب الطرابلسية في السنة
الأولى منها - أي من سنة 1911 إلى سنة 1912 - نحو مائة مليون جنيه،
ويظن أنها من عشرين سنة إلى اليوم - إذ المقاومة لم تنقطع حتى هذه الساعة -
قد بلغت ثلاثمائة مليون جنيه.
فهذا كان كله نتيجة تلك الإعانة القليلة والنفقات الضئيلة التي قام بها المسلمون
في تلك الحرب، ولكن المسلمين ينتظرون أن تنهزم إيطالية الدولة الكبيرة التي
أهلها 41 مليون نسمة ودخلها السنوي 200 مليون جنيه في صدمة واحدة أو في
السنة الأولى من الحرب [3] وإن لم يتحقق أملهم هذا انقطع منهم كل رجاء وبطلت
كل حركة، وأصاب بعضهم اليأس الذي هو مرادف للكفر بصريح الذكر الحكيم:
{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) .
ولنضرب مثلاً ثالثًا ونمسك بعده عن ضرب الأمثال؛ لأنها لا تُعَد ولا تُحصَى:
قام أهل الريف في وجه الدولة الأسبانية مدة بضع سنين إلى أن تغلبوا عليها
وطردوا جيوشها بعد أن أبادوا منهم في واقعة واحدة 26 ألف جندي وغنموا 170
مدفعًا وجميع أهل الريف بقضّهم وقضيضهم ثمانمائة ألف نسمة. وعدد أهالي
أسبانية 22 مليون نسمة، وأراضي الريف أكثرها قاحل والأهالي فيه فقراء
يعيشون من كسب أيديهم، ولقد قاموا بعملٍ أدهش أهل الأرض بالطول والعرض.
فلو كان أهل الريف نصارى لانثالت عليهم الملايين من الجنيهات من كل
الجهات إما بطريقة خفية وإما بواسطة جمعية الصليب الأحمر في سبيل مداواة
جرحاهم. فليقل لنا المسلمون كم جنيهًا قدموا للريف في ذلك الوقت؟
ثم تألب الفرنسيس مع الأسبانيول وحشدوا لحرب الريفيين 300 ألف مقاتل
وحصروا الريف من كل جانب من البر والبحر، وكانت طياراتهم القاذفة بالديناميت
على قرى الريفيين تُحصى بالمئات لا بالعشرات، ولم تكفِ طيارات الفرنسيس
والأسبانيول حتى جاء سرب طيارات أمريكية من نيويورك نجدة لفرنسة وأسبانية
(النصرانيتين على المسلمين لأنهم مسلمون) .
هذا كله والمسلمون ينظرون إلى حرب الريف مكتوفي الأيدي، ولبثوا مكتوفي
الأيدي مدة سنة. وأخيرًا نهض منهم أفراد لجمع شيء من أجل جرحى الريف،
ولأجل بعث الحمية في الناس لم يكتفِ محرر هذه السطور بالكتابة بل تبرعت
بأربعة جنيهات لأجل القدوة.
فماذا كان مجموع تلك الإعانات من كل العالم الإسلامي؟
الجواب: 1500 جنيه.
***
خيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم واعتذارهم الباطل:
ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذا الحد في خذلان الريفيين بل قامت منهم فئام
يقاتلون الريفيين بأشد ما يقاتلون به الأجانب، وتألبت على محمد بن عبد الكريم
قبائل وافرة العدد شديدة البأس ومالئوا الفرنسيس والأسبانيول على أبناء ملتهم
ووطنهم تزلفًا إلى الفرنسيس والأسبانيول وابتغاء الحظوة لديهم. وقد جرى مثل
ذلك عندنا في سورية يوم الثورة على فرنسة، وجرى في بلاد إسلامية كثيرة.
أفبمثل هذه الأعمال يطالب أخونا الشيخ بسيوني عمران ربه بما وعد تعالى به
من جعْل العزة للمؤمنين؟ !
وإذا سألت هؤلاء المسلمين الممالئين للعدو على إخوانهم:
كيف تفعلون مثل هذا وأنتم تعلمون أنه مخالف للدين وللشرف وللفتوة
وللمروءة وللمصلحة وللسياسة؟
أجابوك: كيف نصنع فإن الأجانب انتدبونا ولو لم نفعل لبطشوا بنا،
فاضطررنا إلى القتال في صفوفهم خوفًا منهم؟ ونسوا قوله تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (التوبة: 13) وقوله تعالى: {فَلاَ
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) .
وكلام مثل هؤلاء في الاعتذار غير صحيح؛ فإن الأجانب قد ندبوا كثيرًا من
المسلمين إلى خيانات كهذه فلم يجيبوهم ولم تنقضّ عليهم السماء من فوقهم، ولا
خسفت بهم الأرض من تحتهم، ثم إنه إن كان الأجانب المحتلون لبلاد المسلمين قد
أصبحوا يغضبون على المسلمين الذين لا يلبون دعوتهم إلى خيانة قومهم فإنما كان
ذلك من أجل أن كثيرين من المسلمين كانوا يعرضون عليهم خدمتهم في مقاومة
إخوانهم، ويقومون بها بكل نشاط ومناصحة، ويبدون كل أمانة لهم في أثناء تلك
الخيانة! . ولولا هذا التبرع بالخيانة والتسرع إلى مظاهرة الأجنبي على ابن الملة
لما استأسد الأجنبي وصار يتحكم في المسلمين هذا التحكم الفاحش، ويتقاضاهم أن
يخالفوا قواعد دينهم ومقتضى مصلحة دنياهم من أجل مصلحته، بل قام يحملهم
على الموت لأجل الموت.
فإن الموت موتان: أحدهما الموت لأجل الحياة وهو الموت الذي حث عليه
القرآن المؤمنين إذا مد العدو يده إليهم، وهو الموت الذي قال عنه الشاعر العربي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدَّما
وهو الموت الذي يموته الإفرنسي لأجل حياة فرنسة، والألماني لأجل حياة
ألمانية، والإنكليزي في سبيل بريطانية العظمى - وهلم جرًّا - ويجده على نفسه
واجبًا لا يتأخر عن أدائه طرفة عين.
وأما الموت الثاني فهو الموت لأجل استمرار الموت، وهو الموت الذي يموته
المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم. وذلك أنهم يموتون حتى
ينصروها على أعدائها كما يموت المغربي مثلاً حتى تنتصر فرنسة على ألمانية
مثلاً. ويموت الهندي حتى تتغلب إنكلترة على أي عدو لها. ويموت التتري في
سبيل ظفر الروسية. والحال أنه بانتصار فرنسة على أعدائها تزداد في المغرب
غطرسة وظلمًا وابتزازًا لأملاك المسلمين وهضمًا لحقوقهم. وذلك كما حصل بعد
الحرب العامة إذ ازداد طمع الفرنسيس في أهل المغرب وحدثوا أنفسهم بتنصير
البربر.
وبالاختصار يموت المغربي على ضفاف الرين أو في سورية حتى يزداد
موتًا في المغرب! ؛ لأن كل طائلة تفوز بها فرنسة في الخارج هي زيادة في قهر
المغربي وإعناته وإذلاله مما لا سبيل للمناكرة فيه، ومما قد ثبت بالتجربة. وكذلك
موت الهندي في سبيل نصرة إنكلترة هو تطويل في أجل عبودية الهند. وكذلك
موت التتري في خدمة الروسية لا عاقبة له سوى ازدياد قهر الروس للتتر. وهلم
جرا.
وهذا الموت لأجل الموت هو ما كان بخط مُنحنٍ كما يقال، أي باعتبار
النتيجة، ولكنه هناك موت لأجل الموت مباشرة بدون واسطة، وهو عندما يموت
المغربي في قتال أخيه المغربي الذي قام يحاول أن يزحزح شيئًا من النير الإفرنسي
الذي كاد يدق عنقه، وإن لم يدق عنقه بتاتًا استحياه حياة هي أشبه بالموت!
ولو انحصرت هذه الأمور في العوامّ والجهلاء لعذرناهم بجهلهم، وقلنا: إنهم لا
يدرون الكتاب ولا السنة ولا السياسة الدنيوية، ولا الأحوال العصرية، وإنهم إنما
يساقون كما تساق بهيمة الأنعام إلى الذبح.
ولكن الأنكى هو خيانة الخواصّ. مثال ذلك الوزير المقري الذي هو أشد
تعصبًا لقضية رفع الشريعة الإسلامية من بين البربر من الفرنسيس أنفسهم. ومثله
البغدادي باشا فاس الذي طرح نحو مائة شخص من شبان فاس وجلدهم بالسياط
لكونهم اجتمعوا في جامع القرويين وأخذوا يرددون دعاء: (يا لطيف الطف بما
جرت به المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر) ومفتي فاس الذي أفتى بأن
إلغاء الشرع الإسلامي من بين البربر ليس بإخراج للبربر من الإسلام! وهلم جرًّا.
وكلٌّ من هؤلاء الخونة المارقين - أخزاهم الله - قد بلغ من الكبر عتيًّا،
وانتهى من أموال الأمة شبعًا وريًّا، وهو لا يزال حريصًا على الزلفى إلى فرنسة،
وإثبات صداقته لها ولو بضياع دينه ودنياه، حتى تُبقي عليه منصبه وحظوظه في
هذه البقية الباقية من حياته التاعسة [4] .
وليس واحد من هؤلاء ولا من في ضربهم في المغرب إلا وهو مطَّلع على
نيات فرنسة وعلى مراميها من جهة هذا النظام الجديد لأمة البربر، وليس فيهم إلا
مَنْ هو عارف بوجود جيش من القسوس والرهبان والراهبات يجوس خلال بلاد
البربر ويبني الكنائس ويتصيد اللقطاء والأيتام والفقراء وضعفاء الإيمان، وليس
فيهم إلا مَنْ هو عالِم بمنع فرنسة فقهاء الإسلام والوعاظ من التجوال بين البربر
حتى ترتفع الحواجز أمام دعوة المبشرين إلى النصرانية. وقد يكون المقري
والبغدادي هذان هما في مقدمة الموقعين على الأوامر بمنع علماء الإسلام وحَمَلَة
القرآن من الدخول إلى قرى البربر. وقد يكون المقري هذا هو الذي خصص المبلغ
من مال المخزن لجريدة (مراكش الكاثوليكية) التي تطعن في الإسلام، وتقذف
محمدًا عليه الصلاة والسلام، ولدينا كثير من أعدادها التي تتضمن هذه المطاعن.
وبعد هذا فمن يدري؟ فقد يكون المقري مصليًا وصائمًا وبيده سبحة يقرأ
عليها أورادًا. ومن يدري؟ فقد يكون البغدادي السيئ الذكر ممن يتمسحون بالقبور
ويستغيثون بالأولياء ويتظاهرون بهذا الورع الكاذب. وأما المفتي فهو المفتي فلا
حاجة إلى تثبيت كونه يصلي الخمس ويصوم ويتهجد ويوتر ويتنفَّل! ! .. إلخ.
وقد مضى علينا - نحن في سورية - شيء من هذا لأوائل عهد الاحتلال،
لكن لم تكن خيانة هؤلاء المعممين في قضية دينية مباشرة. فقد اقترحت عليهم
فرنسة أن يمضوا برقية إلى جمعية الأمم ينكرون بها عمل المؤتمر السوري
الفلسطيني المطالِب باستقلال سورية وفلسطين، فأمضاه منهم عمائم مكورة،
وطيالس محررة مجررة، ورقاب غليظة، وبطون عظيمة، وإن لم أقل الآن:
أخزاهم الله، أخشى عتاب إخواننا المغاربة الذين يرونني خصصت بهذا الدعاء
صدرهم الأعظم، ومفتيهم الأكبر، وأعفيت معممي سورية؛ فلذلك يقضي العدل
بأن نقول: أخزاهم الله أجمعين، أخزى الله الذين منهم في المشرق والمغرب، ممن
يوقعون على اقتراحات الأجانب المضرة بالدين والوطن.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: يراجع تفصيل هذه المسألة في أجزاء تفسير المنار تجده في مواضع من أكثرها، منها 13 موضعًا في الجزء الرابع منه و7 مواضع في الجزء الثاني وآخرها في آخر الجزء التاسع ولها مزيد من الجزء العاشر الذي سيصدر قريبًا.
(2) يظهر أن الأمير لم يقرن الزكاة بالصلاة والصيام لعلمه بأن أكثرهم تركها وهي ركن الإسلام الدنيوي المادي، والصلاة ركنها الروحي، وهم يطلبون الدنيا ويتركون من الإسلام أهم أركانه - الزكاة والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله وقد وصف الله المؤمنين الصادقين بالجهاد بأموالهم وأنفسهم فقدم ذكر المال وقال في سياق آيات القتال (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195) أي بعدم الإنفاق، وقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم مَن منع الزكاة ولم يعتدّوا بإسلامهم بدونها.
(3) أي وهذا عددها، وهذا دخلها، وهذا إنفاقها على الحرب وأما عصبيتها وضراوتها في سفك دماء المسلمين فحسْب المسلم الذي لم يفسده التفرنج والإلحاد أن يقرأ النشيد الطلياني الذي ننقل ترجمته عن جريدة (الشرق) عدد 543 وهو:
إن من أعظم الآلام لشاب في العشرين من عمره أن لا يحارب في سبيل وطنه مع دوام القتال في طرابلس والراية المثلثة الألوان والموسيقى الحربية تنبهان النفس المقدامة يا أماه، أتمي صلاتك ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني وأنا ذاهب إلى (طرابلس) فرِحًا مسرورًا؛ لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة المعلونة (كذا) ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان (*) سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن (كذا) ليس بأهلٍ للمجد مَن لم يمُت إيطاليًّا حقًّا تحمسي أيتها الوالدة، تذكري (كاروني) التي جادت بأولادها في سبيل وطنها يا أماه، أنا مسافر، ألا تعلمين أن على الأمواج الزرقاء الصافية من بحرنا ستلقي سفائننا المراسي؟ أنا ذاهب إلى طرابلس مسرورًا؛ لأن رايتنا المثلثة الألوان تدعوني، وذلك القطر تحت ظلها لا تموتي؛ لأننا في طريق الحياة وإن لم أرجع فلا تبكي على ولدك ولكن اذهبي في كل مساء وزوري المقبرة ونسائم الأصيل تحمل إلى طرابلس وداعك الذي يأبى الحداد على قبر فلذة كبدك وإن سألك أحد عن عدم حدادك عليَّ فأجيبيه: إنه مات في محاربة الإسلام!
الطبل يُقرع يا أماه، أنا ذاهب أيضًا ألا تسمعين هزج الحرب، دعيني أعانقك وأذهب! (*) الديانة الإسلامية لا تجيز للسلطان إلا ما تجيزه لغيره من المسلمين وهو تزوُّج البكر والثيِّب، ولكن الإفرنج تبيح لهم نصرانيتهم الافتراء على الإسلام.
(4) الغريب في هذا أن أمثال هؤلاء يبيعون بلادهم كلها للأجنبي بثمن خسيس هو جزء منها لا من مال الأجنبي، ولو أخلصوا في صده عنها لكان لهم منها أكثر مما يعطيهم الأجنبي منها ثم يكون باقيها لأولادهم وأهليهم وإخوانهم في الدين مع العز والشرف.(31/353)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
للحقيقة والتاريخ
(1)
(جاءتنا المقالة التالية من فضيلة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام وجمعية
الهداية تحت هذا العنوان فنشرناها على قاعدتنا في نشر ما يُنتقد علينا، ونقفي
عليها بالرد الذي تمليه علينا معرفة الحقيقة ويتقاضاه التاريخ والمصلحة) .
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب (مجلة المنار)
الغراء، السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد:
فقد قرأت ما كتبتموه في مجلتكم الزاهرة تقريظًا ونقدًا لمجلة (نور الإسلام)
فأشكركم على النقد بمقدار ما أشكركم على التقريظ وإنا لنعلم أن مجلة كمجلة (نور
الإسلام) يرقبها طوائف تختلف مذاهبهم وتتفاوت أنظارهم وتتباعد أغراضهم،
ليس في استطاعة القائمين بها أن يخرجوها على ما يوافق رغبة الطوائف بأجمعها؛
حتى لا تلاقي إلا رضا عنها وتقريظًا.
فنحن على اعتقاد يشبه اليقين أن المجلة ستواجه ضروبًا من النقد مختلفة،
هذا في إشفاق ورفق، وذاك في قسوة وعنف، وربما كان كلٌّ من الفريقين حسن النية
سليم القصد، وما علينا إلا أن ننظر إلى وجه النقد فنتقبله إن كان في نظر الدين
والعلم وجيهًا، فإن رأينا الصواب في جانبنا قررنا وجهة نظرنا بالتي هي أحسن
حرصًا على أن يكون العلم صلة تعارف وائتلاف [1] ، فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا
في تقريظكم كلمات معدودة ألقيتموها بقصد خدمة الحقيقة والتاريخ، فلم تقع الموقع
الذي قصدتم إليه، فكانت وجهة نظرنا فيها غير وجهة نظركم، وشعرنا بأن الحقيقة
والتاريخ لا يسمحان لنا بالسكوت عنها، وفضيلتكم من أول الداعين إلى إيثارهما
على كل ما يقضي الأدب الجميل برعايته.
قلتم في التقريظ: (إن الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق قد
جعلني مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استثنائية) والواقع أن
مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ
المراغي مشيخة الأزهر بنحو سنة وكان الذي يرأس المجلس الأعلى وقتئذ حضرة
صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية سابقًا وكان
لذلك الحين رئيسًا لقسم التخصص أيضًا.
قلتم: (قد عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في
الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة (نور الإسلام) مع
أن له الفضل عليَّ وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه.
إذا لم أذكر اسم فضيلة الأستاذ المراغي فقد ذكرت أن المجلس الأعلى حينما
أخذ ينظر في ميزانية سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ
أن المجلس الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي فللأستاذ
المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة أن
يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة عُدَّ
متهاونًا بحق التاريخ أو غير معترف بالفضل.
وما بال فضيلتكم تعجبون لعدم ذكر رئيس المجلس الأعلى الذي قرر المبلغ
الذي ينفق على المجلة وتعدونه استخفافًا مني بحق التاريخ ونكرانًا لفضل ذلك
الرئيس عليَّ، ولم يعجب أحد من مريدي صاحبي الفضيلة المرحوم الأستاذ الشيخ
محمد أبي الفضل والأستاذ الجليل الشيخ عبد الرحمن قراعة لعدم ذكر اسمهما في
تلك الخلاصة، وقد كان الشيخ أبو الفضل يرأس المجلس الأعلى الذي قبل اقتراح
مشروع المجلة سنة 1926 وكان فضيلة الأستاذ عبد الرحمن قراعة يرأس المجلس
الذي ألف لجنة لوضع تقرير في هذا الاقتراح سنة 1927 وهذا العمل بالنظر إلى
كونه الأساس الذي قام عليه المشروع عمل لا يستهان به.
ولا أرى إلا أن مريدي الأستاذين الشيخ أبي الفضل والشيخ قراعة قرؤوا
فاتحة المجلة وقد حضرهم أن المندوب لرياسة التحرير إذا نسب العمل إلى المجلس
الأعلى مع ذكر تاريخ انعقاده فقد قضى واجب التاريخ عليه - وليس من واجب
التاريخ عليه - أن يسمي رئيس المجلس الأعلى أو أعضاءه في خلاصة قصد بها
الإشارة إلى تاريخ نشأة المشروع والأطوار التي مر عليها حتى صار
عملاً ظاهرًا.
وعلى فرض أن أكون قد أجملت القول في مواضع تعلمون منها أكثر مما أعلم
كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر متحامين الكلمات التي يسبق إلى
أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة، ومثل هذه الفتنة لو أيقظها
غيركم لكان واجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية.
وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ المراغي عندي يد، ولكن التدريس الذي
تعنونه بقولكم: (كما أن له الفضل عليه نفسه) قد عرف الناس أني نُدبت له من
قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة، على أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا
الميزان وتجعلوه أنقص قدرًا من متاع هذه الحياة؛ إذ سميتم انتدابي للتدريس فضلاً
من النادب عليَّ بدل أن تجعلوه إخلاصًا منه للمعهد الذي تولى أمره ليدير شؤونه
بنصح وأمانة.
وإذا لم أكن من جمعية الشيخ المراغي فلأني لا أذكر أن أحدًا من الناس
عرض عليَّ قانون حزب أو جمعية تُدعى بهذا الاسم فأعرف مبادئها والغاية التي
تألفت من أجلها، ولست ممن يحب أن يحشر نفسه في كل جمعية أو حزب وإن لم
يعرف مبادئه ويطمئن إلى الغاية التي يرمي إليها.
نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن وقلتم: إن
هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام والدفاع عنها بالسكوت عن أمور كثيرة
يجب بيانها.
وجواب هذا أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية فإن أقلام
محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما
تراه مخالفًا للدين ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في مثل هذا
على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج عن دائرة مجلة (نور الإسلام) أن تكتب
في إنكار بعض تصرفات يعتدى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية، ولا
يخرج عن دائرتها أن تطالب بنحو إلغاء البغاء الرسمي أو احترام المحاكم الشرعية
فيما إذا خطر لأحد رجال الإدارة أن ينقص مما هو داخل في اختصاصها، أو
الاحتفاظ باللغة العربية فيما إذا رأى ذو سلطة اهتضام جانبها، إلى غير هذا من
الشؤون التي تحفظ على الأمة دينها ولغتها، ويرغب أولو السياسة الرشيدة أنفسهم
أن يعلموا حكم الدين في أمثالها.
ونقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من: (أنها لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن
ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول) وحملتم هذه العبارة على معنى
أنها لا ترد على المخالفين إذا هاجموا الإسلام، وقلتم: إن العلماء لا يستطيعون
القتال بالسلاح فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان ومجادلتهم بالتي هي أحسن
وإن كرهوها.
ولو صدر هذا النقد من غير فضيلتكم لقلنا: إنما يريد أن يكثر سواد وجوه
النقد، ولكن مكانكم أرفع من أن يقصد إلى هذه الغاية، وذلك لأنا نقول في فاتحة
المجلة: (تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق
مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الحَسَنَةِ} (النحل: 125) .
وإذا قالت: إنها لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، أو قالت لا تتعرض لرجال
الأديان بمكروه من القول - فإنما تريد الترفُّع عن بذاءة القول والخروج عن دائرة
البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء دون أن يكون له في تقرير الحقائق أو إزهاق
الباطل - أثر كثير أو قليل.
وأظن حضرات قراء مجلة (نور الإسلام) إنما يذهبون في فهم هذه الجمل
إلى أننا نظرنا عند صوغها إلى قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) وقد أصبح حكماء الكتاب
يصوغون دفاعهم على قدر بيان الحق أو كشف شبه الباطل، ولا يحسون من
أقلامهم نزوعًا إلى السوء من القول، ومَن كان في ثروة من الحجج لا يرى نفسه
في حاجة إلى أن يستعين في دفاعه أو هجومه بشيء من اللمز والبذاء.
هذا: وظننا في الأستاذ أنه ينقد في إخلاص، ويتلقى الجواب في سكينة
وإنصاف، وسلام عليك يوم تقرظ ويوم تنقد ويوم تكون للحق وليًّا.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضر حسين
***
رد المنار
الذي تتجلى به الحقيقة وينصف التاريخ
أرسل إلينا الأستاذ رئيس تحرير مجلة الأزهر هذا الرد على ما كتبناه في
تقريظها والنصيحة الإسلامية لها، ونشره هو في مجلة جمعيته (الهداية) ولم
ينشره فيها، خلافًا للأصول المتبعة وللمعقول، بل عوقبنا على تقريظنا ونصيحتنا
بقطع تلك المجلة عن مبادلة أختها المنار، وأخبرنا فضيلته بذلك فلم يتفضل بالأمر
بإعادة إرسال المجلة إلينا بالمبادلة كما هي سُنَّة الصحف على اختلاف موضوعاتها
ومذاهبها، وتلك جفوة وقطيعة بل عقوبة صحفية تنافي ما ذكره من الشكر للمنار
على التقريظ والنقد جميعًا، إلا أن تكون العقوبة من إدارة مجلة نور الإسلام -
وكانت - بحيث لا يقبل فيها شفاعة رئيس التحرير، على أن الإدارة لم ترسل
المجلة إلينا أولاً إلا بعد أن رأينا تقريظها في جرائد مصر وسورية وتونس،
والذي جاءنا منها 3 أجزاء فقط، وكنا نود لو عاتبنا الأستاذ فيما خالف وجهة نظره
مشافهة وسمع جوابنا، واختار بعد ذلك أن يكتب وينشر، أو أن يرضى ويصمت،
ولكنه قد طرق بالنشر هذا الباب، فوجب أن يسمع منه الجواب.
مقدمة وتمهيد للرد
إن الحقيقة والتاريخ يقتضيان قول الحق بغير محاباة لأحد ولا هضم لحق أحد،
لا لأسباب حزبية، ولا لعلل سياسية، ولا لشؤون شخصية، والصراحة في
الحق بغير تأويل، ولا ميل عن سواء السبيل، ومن لم يستطع ذلك فليصمت، ذلك
خير وأحسن تأويلاً، وإني ألتزم هذا الشرط فيما أتعقب به رد الأستاذ مع المحافظة
على سابق مودته إن شاء، فأقول:
إنني قصدت بما كتبت في شأن هذه المجلة التقريظ والتنويه بما أحب أن
يكون لها من المكانة في العالم الإسلامي وما يُرجى من نفعها للمسلمين، فقلت في
ذلك ما لم يقله أحد من مقرظيها الذين اطلعت على تقاريظهم، ولم أقصد أن أنتقدها
كما صرحت بذلك، ولو شئت ذلك لكان مجاله عندي أوسع مما يعتقدون؛ إذ قال:
إنهم يعتقدون اعتقادًا يشبه اليقين أن المجلة ستواجه ضروبًا من النقد مختلفة.. إلخ،
وإنما وجدت من الواجب عليَّ أن أذكر أصحاب الشأن فيها بأهم ما تجب مراعاته
لأجل أن تتبوأ تلك المكانة وتحقق ذلك الرجاء، مما ظهر لي من فاتحتها وما نشر
في الجزءين الأولين منها - أنهم لم يراعوه ولا ينتظر أن يراعوه من تلقاء أنفسهم،
لم أنتقدهم انتقاد تخطئة وتجهيل، بل ذكرتهم التذكير الذي ينفع المؤمنين، مع اتقاء
نقد المقالات الذي لا يُرضي الكاتبين، فاقترحت أمرين: (أحدهما) الدفاع عن
الإسلام وعن المسلمين بصدّ كل ما يهاجمان به في هذا العصر بالحجة، والإرشاد
إلى العمل الذي يكشف الغمة، ويجمع الكلمة، (والثاني) الدقة في تخريج كل ما
يُنشر في المجلة من الأحاديث والآثار؛ إذ اعتاد أكثر علماء الأزهر وأمثالهم نقل
الأحاديث في كتبهم وخطبهم من الكتب المتداولة، دون الرجوع في تخريجها إلى
دواوين السنة المعتمدة، وبيان ما يصح وما لا يصح منها، حتى اشتهروا بإهمال
علم السنة، وقد راوغ رئيس التحرير في الأول ولم يستطع المراوغة في الثاني بل
سكت على قاعدتهم التي قررها في مقاله هذا.
وأما النقد الذي قصدته بحسن النية، وتوخِّي اللين والمرونة، والمحافظة على
سابق المودة - فهو ما أنكرته على فضيلة رئيس التحرير خاصة؛ لأنه جاء على
غير ما تقتضيه الحقيقة والتاريخ، وعلى خلاف ما نعهد من أخلاقه الفاضلة وأدبه
النفسي، وهما أكبر في أنفسنا من علمه وأدبه اللغوي، فرد علينا رد الجدليين،
وكابر الحقيقة كمكابرة السياسيين، فوجب أن أبحث معه في جوابه عنه بما تُعلم به
الحقيقة ويرضاه الله والتاريخ {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 62) .
هذا ما كنت قصدته وعبارتي صريحة فيه، وناطقة بالحجة المثبتة له،
ورئيس التحرير يقول في مقدمة رده المنتقَدة من عدة وجوه لا نضيع الوقت في
بيانها: (فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا في تقريظكم كلمات معدودة ألقيتموها بقصد
خدمة الحقيقة والتاريخ فلم تقع الموقع الذي قصدتم إليه..) إلخ، ثم بيَّن وجهة
نظرهم في الرد فقال - والعناوين من المنار -:
(1) مسألة التدريس في الأزهر
(قلتم في التقريظ) : إن الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق
قد جعلني مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استئنائية، والواقع أن
مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ
المراغي بنحو سنة وكان يرأس المجلس الأعلى وقتئذ صاحب الفضيلة الأستاذ
الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية سابقًا. اهـ. بحروفه ورقمه. ثم
ذكر هذا الرد مرة أخرى وأطال فيه.
أقول في جوابه (أولاً وقبل كل شيء) إنه حكى قوله هذا بمعناه لا بلفظه كله
فلماذا وضعه بين علامات الرقم الدالة على نقله إياه بحروفه هكذا: () ؟ ، إن
أمثاله من الكُتاب العصريين والمحررين الصحفيين لا يفعلون هذه الفعلة بدون قصد،
وإني لأغضي عن مناقشته فيه وهو ضرب من التحريف حتى لا أكثر في الرد
عليه، ولكني أنبه القراء لعادته كغيره في التزام الألقاب الرسمية والعرفية لكبار
العلماء وغيرهم عند ذكر أسمائهم، وعدم التزام المنار هذه العادة اتباعًا لعلمائنا
وكتابنا المتقدمين كما صرحت بذلك من قبل، وأوجه نظرهم إلى ما في مقالته من
التفاوت في التعبير والألقاب عند ذكر المراغي وذكر غيره من أقرانه على أن كلمة
(المراغي) وحدها صارت في هذا العهد غنية في نظرنا ونظر الذين يعرفون أقدار
الرجال عن تحليتها بالألقاب ككلمة الغزالي والنووي في عهدهما ومَن بعدهما.
وأقول: (ثانيًا) إن ندبه للتدريس في قسم التخصص قبل مشيخة المراغي
غير جعل هذا إياه مدرسًا فيه، وجميع مَن في مصر يعلم الفرق بين الندب في
الحكومة لعمل من الأعمال وبين الوظيفة الثابتة وإن تساوى الراتب فكيف إذا
تضاعف، وإن مجافاة ما كتبه الأستاذ الخضر للحقيقة والتاريخ في المسألة يحملنا
على إنصافهما ببيان هذه الحقيقة التاريخية:
نُدب الأستاذ الشيخ محمد الخضر التونسي الفرنسي التبعة للتدريس في قسم
التخصص سنة 1927 بمكافأة شهرية قدرها ثمانية جنيهات مصرية في كل شهر
من شهور الدراسة فحسب. هذا ما كان قبل مشيخة المراغي.
وأما ما كان فيها فهو أنه قد عرض على مجلس الأزهر الأعلى مذكرة بطلب
تعيين الشيخ الخضر مدرسًا بالأزهر براتب قدره خمسة عشر جنيهًا في كل شهر
بعقد من 16 نوفمبر سنة 1928 فوافق المجلس عليها، فصار بهذا مدرسًا ثابتًا،
وارتقى ما يأخذه من مكافأة في مدة العمل قدرها 72 جنيهًا إلى راتب يبلغ في السنة
180 جنيهًا! !
أفليست هذه عناية خاصة بصفة استثنائية؛ لأن الأستاذ أجنبي غير مصري؟!
أو ليست مِنَّة للمراغي تستحق الشكر من الأستاذ الخضر الذي رأينا من
مبالغته في شكر من يحسن إليه أنه رفع صوته في حفلة تأبين المرحوم أحمد باشا
تيمور الحافلة فذكر من عنايته به أنه أخبر بأنه يريد الذهاب إلى الإسكندرية لحاجة
له فكان من بره أنه سافر معه وعاد به، فكان سفره لأجله؟ بلى، وإن بر الأستاذ
المراغي به كان أفضل وأكمل وأشرف وأحق بالشكر، أفيعقل أن يقابله هذا الشكور
بالكنود، فيسند الفضل فيه إلى غيره ولا يعترف له بشيء منه، بل ينكر على مَن
يذكر ذلك ويعدّه منتقصًا لقدر العلم والعلماء، يقول: إنه يكتب هذا للحقيقة والتاريخ؟!
(2) مسألة ترك ذكره للمراغي في تاريخ المجلة
قال: قلتم: (قد عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في
الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة (نور الإسلام) مع
أن له الفضل عليَّ وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه. اهـ بحروفه ورقمه
أي علاماته ويقال في هذا الرقم ما أشير إليه في الإنكار على سابقه من أنه تحريف.
وفيه تحريف آخر وهو أنه جعل الضمير في قولي جمعيته وحزبه عائدًا إلى
الأستاذ المراغي وإنما هو عائد إليه نفسه، فعبارتي في تعليل فضله عليه (وإن لم
يكن من أعضاء جمعيته..) إلخ أي وإن لم يكن المراغي - فحرفها بقوله: (وإن
لم أكن..) إلخ ومن المعلوم أن الخضر له جمعية والمراغي ليست له جمعية كما
صرح هو بذلك في قوله بعد: وإذا لم أكن من جمعية الشيخ المراغي فلأني لا أذكر
أن أحدًا من الناس عرض عليَّ قانون حزب أو جمعية تدعى بهذا الاسم فأعرف
مبادئها.. إلخ.
ويعتقد كثير من الناس أن لجمعية الخضر مقاصد حزبية وقد أضفتها إليه لأنه
رئيسها، ولو كان للأستاذ المراغي جمعية كجمعيته لعرفت واشتهر أمرها، ولكان
هو أجدر من كثير من الناس بمعرفتها لما كان من كثرة تردده على الأستاذ في عهد
مشيخته، ولأن الأستاذ كان يحسن الظن به، ولما له من التدخل والتغلغل في
شؤون الأزهر والأزهريين والحرص على تعرُّف ما هنالك.
ثم ذكر أنه إذا لم يذكر اسم فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي في الخلاصة
التاريخية التي كتبها في فاتحة المجلة فقد ذكر: (أن المجلس الأعلى حينما أخذ
ينظر في ميزانية سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ أن
المجلس الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي، فللأستاذ
المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع، ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة
أن يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة
عدّ متهاونًا بحق التاريخ أو غير معترف بالفضل) .
وأقول: هذا الكلام مغالطة لا يحتج بقياسها منطقي على مَن يعرف المنطق
مثله، فما كان ينبغي لمثله أن يكتبه، وبيان هذا من وجوه:
(أولها) أنه يلزم المندوب لرياسة تحرير مجلة كهذه أن يكون على علم
تفصيلي من التاريخ الذي يتصدى لوضعه لها ولو مجملاً، فإن لم يقدر على معرفة
نصيب كل فرد من أفراد مَن لهم عمل ما أو اقتراح ما في هذا التاريخ - وهو ما لا
يطلبه منه أحد - فلا يصح أن يجهل نصيب الرئيس الأكبر للمصلحة التي قررت
هذا الأمر ووضعت ميزانيته، ثم انفرد هو بالجهاد في سبيل القانون الجديد للأزهر
الذي جعلت المجلة من فروعه، ومنه مناقشة الوزراء ورجال البلاط الملكي فيه عدة
أشهر.
(ثانيها) قوله إن ذكر تاريخ الميزانية يلزم منه العلم بأن رئيس المجلس
الذي وضعها هو فلان فيعلم منه نصيبه من فضل المشروع - غير مسلَّم على
إطلاقه، وغير مُجدٍ في دفع الملام عنه، فإن أكثر قراء خلاصته التاريخية لا
يعلمون من ذكر ذلك التاريخ أن الأستاذ المراغي كان رئيس ذلك المجلس، ومن
يعلم هذا من الأزهريين وغيرهم لا يعد هذا اللزوم غير البين اعترافًا بما لهذا
الرئيس من الفضل فيه.
(ثالثها) أن هذه قاعدة غريبة من قواعد التاريخ وتراجم الرجال العاملين،
وهي أن ذكر التاريخ السنوي لعمل من الأعمال العظيمة يغني عن ذكر من قاموا
بذلك العمل وعن التنويه بفضلهم، بل يعد تعريفًا به وبهم.
(رابعها) أن هذا الأمر الذي قال إنه لا يلزم المندوب لتحرير المجلة أن
يكون على علم منه - أي على أدنى علم منه - يعلم أمثالنا كما يعلم هو أنه على
علم تام به، فإن كان لا يلزم كل مندوب لتحرير مجلة فهو لازم لبعض المندوبين
لمثل ما ذكر، ونمهم الأستاذ محمد الخضر حسين، فنقيض السالبة الكلية موجبة
جزئية.
(خامسها) أننا رأيناه قد ذكر أسماء أعضاء اللجنة التي أُلفت في سنة
1927 للبحث في التقرير الذي وضعه عبد العزيز بك محمد للمشروع ولم يكتفِ
بذكر التاريخ عن ذكر الأسماء، وذكر بعدها أن المجلس أدرج في ميزانية سنة
1929 مبلغًا للإنفاق على هذه المجلة، ولم يزد على هذا كلمة واحدة مما عمله
المجلس ولا رئيسه في هذه السنة التي كانت كلها جهادًا في سبيل الأزهر قانونه
وميزانيته ومجلته. ثم قفى على ذلك بقوله:
(ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد الأحمدي الظواهري كان من أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه
المجلة فأخذ يديره بجد وحكمة حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه) اهـ،
فسكوته عن ذكر اسم الشيخ المراغي وموضعه بين ذكر أسماء أعضاء اللجنة
المذكورة وذكر الشيخ الأحمدي يدل على التعمد.
والذي نعلمه - ويعلمه جماهير المطلعين على سير الأمور العامة في مصر -
أن الذي ألان الصعاب لهذا المشروع في ضمن قانون الأزهر الجديد وميزانيته
وجاهد في سبيله حتى ضحى منصب المشيخة برواتبه الضخمة وجاهه العريض -
هو الشيخ محمد مصطفى المراغي، فكان موضع إعجاب جميع الناس الذين
يعرفون قيمة الأنفس الكبيرة بالعزة والشرف والإباء، وما شاءت الفضائل من علو
الأخلاق، وقد أكبر الذين يتهضمون الأزهر وشيوخه من أبناء الدنيا أن يتحلى شيخ
أزهري قحّ بهذا الشمم وعلو الهمة وعزة النفس.
وأما فضل الشيخ محمد الأحمدي الذي انفرد به في هذا الموضوع فهو في
رأينا ما ذكرناه في تقريظنا للمجلة، وهو نوط أعمالها الرئيسية من إدارة وتحرير
بغير علماء الأزهر المصريين - على ما فيه من الإشعار أو الإيهام بأنه ليس فيهم
مَن هم أهل لذلك في نظر الشيخ - وأهمها جعْل رئيس التحرير أحد الغرباء
المشمولين بالحماية الفرنسية مع عدم الحاجة إلى الانتفاع بهذه الحماية من جانب
السياسة. وإنني لأعد هذا مزيَّة للشيخ جادًّا غير هازل، ولا عاديًا جادة الحقيقة،
إلى شيء من نواشط التعريض والكناية؛ فإن الشعوب تلوذ في طور الضعف
بالأثرة والعجب، فتهضم حق الغريب عن بلدها أو معهدها، وأما في طور اليقظة
والارتقاء فإنها تعرف لكل ذي فضل فضله، وأجدر الشعوب بذلك من يدينون بقول
ربهم {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) وقد كان من إعجاب أهل الأزهر
بعلمهم وصيته أنهم لم يدعوا مثل السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس فيه، وهم
لم يروا له مثلاً، بل قلما تجود الأعصار له بمثله، فكان يدرس في بيته وكان أكابر
شيوخ الأزهر الجامدين يصدون عنه صدودًا. وقد كان الأستاذ الإمام مهَّد السبيل
لإيجاد درس في الإنشاء وآداب اللغة بالأزهر يُناط بأديب معمم غير أزهري ولا
مصري فلم يتم له ذلك على ما كان له من النفوذ.
ولكن تعيين الشيخ الخضر رئيسًا لتحرير الأزهر لم تكن الفضيلة فيه خالصة
للأحمدي، بل كان المراغي قد مهد السبيل لها بتعيينه مدرسًا في الأزهر وبهذا
اللقب حلي رئيس التحرير في ديباجتها، إذ كان هو المحلل له، ولو شاء أن يكتب
بجانب اسمه (التونسي) أو خريج جامعة الزيتونة لما سمحوا له، ولو سمحوا به
وفعله لتم لهم عندي فضل الإنصاف والأخوة الإسلامية ولعل الندب الأول له ما كان
يسوغ هذا، وإنما كان ذلك بوصية أو إيعاز لا يرد كامتحان العالمية ودرجتها،
وكان واسطته - كما قيل - أحمد باشا تيمور رحمه الله تعالى، فالفضل الأول في
تدريج الخضر إلى الأزهر خارج عن محيط الأزهر، وإنما أشرح هذا لأنه من
قبيل ما يسمى في هذا العصر بالنقد التحليلي لتاريخ الأزهر الذي خبرت أطوار
الانقلاب العصري فيه من أولها، ولذلك أنكرت على صديقي شكره لكل مَنْ أحسن
إليه إلا المراغي فإنه غمطه حقه.
وأما ما أورده علينا من أنه لم يعجب أحد من مريدي الشيخين الجيزاوي
وقراعة من مثل ما عجبنا منه فهو سفسطة ظاهرة؛ إذ لا يمكنه إثبات هذه السالبة
الكلية. ولو أثبتها لا تقوم بها حجة.
(3) كبوته في وزن العلم ونفسه بغير ميزانهما
أنتقل من هذا البيان إلى الجواب عن قوله: وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ
المراغي عندي يد. ولكن التدريس الذي تعنونه بقولكم: (كما أن له الفضل عليه
نفسه) قد عرف الناس أني ندبت له قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة. على
أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا الميزان، وتجعلوه أنقص قدرًا من متاع هذه الحياة،
إذ سميتم ندبي للتدريس فضلاً من النادب عليَّ بدلاً من أن تجعلوه إخلاصًا منه
للمعهد الذي تولى أمره ليدبر شؤونه بنصح وأمانة) .
وأقول في الجواب:
(أولاً) لا شبهة عندي في أنه لا يستنكف أن يكون للأستاذ المراغي يد عنده،
لما أعلم من أدبه وتواضعه، ولأنه نوه بما كان لأحمد باشا تيمور عليه من يد،
والمراغي أعلى من أحمد تيمور مقامًا في العلم وفي الهيئة الاجتماعية، والتدريس
في الأزهر الذي نعني به يد المراغي أعلى وأشرف من يد تيمور في صحبة
الأستاذ إلى الإسكندرية ذهابًا وإيابًا التي شاد بذكرها وإطرائه بها على مسامع
حاضري لجنة التأبين كما تقدم.
(ثانيًا) إنني بينت آنفًا أن للمراغي من الفضل في مسألة التدريس ما ليس
لمن قبله، وأن إنكاره لذلك جحد للحقيقة الواقعة.
(ثالثًا) وهو المقصود بالذات أن منصب التدريس في الأزهر عندي ليس
من متاع هذه الحياة الدنيا وإنما هو عمل علمي ديني من أفضل الأعمال التي تنال
بها سعادة الآخرة بالإخلاص فيه لله تعالى، وشرفه في الدنيا من الكمال الحقيقي
الشرعي بشرطه لا الوهمي، ولم أذكر في تلك العبارة التي انتقدها الأستاذ الخضر
قدر الراتب الذي جعله المراغي للتدريس وكونه أكثر من ضعفي الراتب الأول؛ إذ
ليس هو موضوع الفضل عندي، وإنما ذكرته في هذا الرد على الحقيقة التاريخية
التي طمسها في مقاله الذي جعل عنوانه (للحقيقة والتاريخ) .
فتبين بهذا أنه هو الذي هضم حق العلم؛ إذ لم يخطر بباله من ذكر هذه
المسألة إلا ما يقترن بالتدريس من الراتب الذي هو متاع هذه الحياة، فنحن أحق
بأن نربأ به أن يزن العلم وأن يزن نفسه بهذا الميزان، ولعله لا يدري أن أهل
المعرفة بهذه الأحوال يقولون: إن الرجل معذور فيما يُنتقد عليه في هذا المقام
باضطراره إلى مراعاة ما ينقده من الراتب الذي هو قوام معيشته.
(رابعًا) إنني أعتقد أن الأستاذ المراغي جعل الأستاذ الخضر مدرسًا في
الأزهر بباعث الإخلاص للمعهد وحسن الظن فيه هو؛ إذ علمت أنه اختار ذلك من
تلقاء نفسه ولم يفعله بتوصية ولا إيعاز من خارج الأزهر كما قيل في غيره، وبهذا
كان أجدر بالشكر من غيره.
(4) الكبوة الكبرى له إيقاظ الفتنة
قال: (وعلى فرض أن أكون قد أجملت في مواضع تعلمون منها أكثر مما
أعلم كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر متحامين الكلمات التي يسبق
إلى أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة، ومثل هذه الفتنة لو أيقظها
غيركم لكان واجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية) اهـ بنصه وفصه
وحروفه ونقطه.
أقول: إن هذه الكلمة هي التي حملتني قبل كل شيء على كتابة هذا الرد بعد
نشر الأستاذ لمقالته في مجلة الهداية، وإنني كتبت كلمتي الأولى بصفاء خاطر وود
محفوظ مكتفيًا بالإشارة اللطيفة التي تغني اللبيب الذي أردت تذكيره بها إلى ما كنت
أربأ به أن يغمز به، ولا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنني لم يخطر ببالي
أن فيها كلمة تثير غبار فتنة، بل عجبت لذكره كلمة الفتنة في مقالته ولم أفهم بادئ
ذي بدء ما يريد منها، فذكرتها لبعض إخوانه وإخواني الذين هم أعرف مني
بشؤونه الأخيرة في جمعيته وفي الأزهر، لعلهم يفهمون من مراده بالفتنة ما لم أفهم،
فقالوا: أو لم تقرأ ما كتبه في مجلة الهداية من الإشارة إلى آماله في تعيين الأستاذ
الظواهري شيخًا للأزهر؟ قلت: إنني لا أجد وقتًا لقراءة هذه المجلة وهي تجيئني
بالمبادلة. قالوا: ارجع إلى الجزء الأول من السنة الثانية لهذه المجلة تجد فيه ما
لعلك تفهم منه مراده بالفتنة التي يريدها هو وأنت لا تعلم من أمرها شيئًا، فرجعت
إليه فقفَّ شَعري من قراءته وهذا نصه:
نص ما كتبه الأستاذ الخضر في الجزء الأول من السنة الثانية لمجلة الهداية
الإسلامية بصحيفة 56 تحت عنوان:
شيخ الأزهر الجديد
(تولى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي
الظواهري مشيخة الأزهر الشريف، فكان لولايته هذا المنصب الكبير أثر ارتياح
وابتهاج في الأمة لما يعرفونه لفضيلته من غزارة العلم والغيرة على الدين ونحن
نهنئ فضيلته بهذا المقام السامي ونرجو له المعونة من الله، والتوفيق والمؤمل في
فضيلته العناية بإصلاح التعليم في الأزهر، وحمايته من عدوى أمراض عقلية أو
خلقية أخذت تدب فيه منذ عهد قريب. اهـ المراد منه.
قالوا: وقد سئل الشيخ الخضر عن مقصده من قوله: (وحمايته..) إلخ
وكُلف أن يبين مراده من هذه الأمراض العقلية والخلقية التي زعم أنها تدب في
الأزهر من عهد قريب قولاً وكتابةً في المجلة (الهداية) فأبى أن يقول أو يكتب
شيئًا واستقال من أجل ذلك بعض العلماء من جمعية الهداية وكانوا أعضاء فيها.
وأقول إذًا ولا يجوز لي أن أسكت:
إن كلمة الأستاذ الخضر في دبيب الأمراض العقلية والخلقية في الأزهر لَكلمة
كبيرة لا يمكنني تحديد مراده منها، وهو قد أبى بيانها على مَن سألوه عنها، ولم
يبالِ باستقالة مَن استقال من جمعيته لأجلها؛ لأنه يعلم أن أكبر أعضائها لا يدققون
النظر في مثل هذا فيحاسبوه على كتابته باسم جمعيتهم، وإن هذه الكلمة لأجدر
بإثارة غبار الفتنة من إشارتي إلى ما كان يجب من إنصاف التاريخ، أو هي إنذار
بفتنة تراد إثارتها في الأزهر بالتهمة التي صبَّها على الأزهر، وأنذرني إياها.
أظن أنني أعلم بتاريخ الأزهر الحديث من الأستاذ الخضر؛ لأنني كنت أمين
سر الأستاذ الإمام وظهيره فيما كان يحاول من إصلاحه العقلي والخلقي، وما هو
نتيجة لهما من الإصلاح العلمي والعملي، ولعله لا يوجد أحد ينكر أن الأستاذ الإمام
كان أوسع الناس علمًا بتاريخ الأزهر الحديث - وكذا القديم - لأنه نشأ فيه وعني
بمعرفة تاريخه بالتبع لتاريخ الإسلام ومصر وتصدى لإصلاحه منذ كان طالبًا
مجاورًا فيه واختبر كبار شيوخه بالمعاشرة، وبما كان له من النفوذ في إدارة
الأزهر الذي كان هو الواضع لقانونها صاحب التأثير الأكبر فيما نُفذ منه، وبما كان
له من النفوذ أيضًا في تعيين القضاة الشرعيين والمدرسين، على ما آتاه الله من
الحكمة وفصل الخطاب، وقد كتبت في أطوار الأزهر في حياته وبعد وفاته مقالات
كثيرة لو جُمعت لكانت سفرًا كبيرًا، وكتبت في الجزء الأول من تاريخ الإمام ما
فيه العبرة من أطوار الأزهر، وطبعت قبل ذلك كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر
في عشر سنين، وهو تاريخ شبه رسمي كتبه الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان
باقتراح الأستاذ الإمام وكان زميله وساعده وعضده في تلك الأعمال، وفيه من بيان
أمراض الأزهر العقلية والخلقية الثابتة بالأدلة الرسمية العجب العجاب، فما الذي
يريده الخضر بالأمراض العقلية أو الخلقية الجديدة التي تدب عدواها إلى الأزهر من
عهد قريب بزعمه وحسب فهمه ويطلب من الأستاذ الظواهري حمايته منها؟ !
الأمراض العقلية قسمان: أمراض عصبية موضوعها الطب وهي غير مرادة
هنا قطعًا، وأمراض معنوية تتعلق بوظائف العقل في العلم والتعليم، وأقتلها بناء
التعليم على أساس التقليد لمؤلفي الكتب المتداولة في التدريس والمطالعة وحرمان
العقل من الاستقلال في العلم بالاستدلال الصحيح في كل علم بحسبه، وهذا الأمر
قديم في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية، وهو علة عقم التعليم فيها منذ
قرون.
ويمتاز هذا العهد الأخير بأنه كان من أثر الإرشاد المعنوي الذي بثه الأستاذ
الإمام فيه بعد السيد جمال الدين، وجرى عليه بعض تلاميذه ومريديه - أن دب
دبيب الشفاء من ذلك الداء العضال في بعض تلك العقول العقام من الأزهريين،
ولكن هؤلاء الأصحاء كانوا مضطهَدين من المقلدين الجامدين، ومعضَّلين من قبل
رؤساء المرضى المعضِّلين، حتى إذا ما صارت رياسة الأزهر إلى أكبر مريدي
الإمام من خريجي الأزهر قدرًا، وأقواهم عزمًا - وهو الأستاذ المراغي- وجدوا
حرية وانتعاشًا، جددوا بها لمحبي الإصلاح لهذا المعهد التليد آمالاً ولا نعرف شيئًا
جديدًا يتعلق بصحة العقل ومرضه قد طرأ على الأزهر من عهد قريب غير هذا،
فيا ليت شعري أهذا ما يعنيه الأستاذ الخضر من المرض العقلي؟
أما أنا فكان ظني فيه منذ عرفته وذاكرته في مسائل العلم إلى أن قرأت هذه
العبارة في مجلة هدايته أنه يعد استقلال العقل في تحصيل العلم هو الصحة، وأن
فقد هذا الاستقلال هو المرض العضال، والداء القتَّال، فهل كذبت فيه الظنون
وخابت الآمال؟ أم ماذا يعني بهذه العبارة؟
وأما المرض الخلقي القديم في الأزهر الذي كان يشكو منه الأستاذ الإمام
ويحاول معالجته - وفي كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر كثير من الشواهد عليه -
فشرّه وأضرّه وأقتله الجبن وذلة النفس وما يتبعهما من التملق والخنوع لكبراء رجال
الدنيا من الأمراء والوزراء، والطمع في الحُطام المُزري بشرف العلم وكرامة
العلماء، ولم يُرَ الأزهر بعد الأستاذ الإمام أعز نفسًا وأعلى همة وأكمل قناعة من
الشيخ محمد مصطفى المراغي، تجلى هذا بأبهى مجاليه وأشرف مظاهره في
استقالته من مشيخة الجامع الأزهر ورياسة المعاهد الدينية على ما نوهنا به في هذا
الرد، فكان هذا خير قدوة ومثال للفئة المهذبة الكريمة الأخلاق في الأزهر، ولا
نعرف شيئًا جديدًا خلقيًّا دب في الأزهر من عهد قريب غير هذا، فهل هو الذي
يسميه الأستاذ الخضر مرضًا خلقيًّا أم ماذا يعني؟
يجب على الأستاذ الخضر رئيس جمعية الهداية ورئيس تحرير مجلة (نور
الإسلام) لسان حال الأزهر والمعاهد الدينية أن يبين لنا مراده من الأمراض العقلية
والخلقية، ونحن نعاهد الله تعالى على أن نكون من أعوانه وأعوان الأستاذ الأكبر
الذي علق آماله بحمايته للأزهر منها إن ظهرت لنا صحة الدعوى وصدق المقال،
وإلا وجب علينا أن ندفع عن الأزهر هذه التهمة، كما هو الواجب على كل مَن
يغار على الحق والفضيلة، من غير أدنى مبالاة بالتهديد والوعيد بإثارة الفتنة، فقد
هُددنا من قبل بمثل هذا وبما هو أشد منه فلم نخفْ ولم نجبن.
ماذا يخشى من يطلب حماية أعظم المعاهد الإسلامية العلمية من الأمراض
العقلية والخلقية من عاقبة التصريح بها؟ وبيان البيئة التي دبت منها عدواها، وهو
طالب حق ومصلحة، ومؤيد من جانب السلطة والقوة، وهو رئيس للمستشفى
الروحي الذي يصف الأدوية لهذه الأمراض والأوبئة (أعني مجلة الأزهر) وظهير
رئيس الأطباء له (أعني شيخ الأزهر) .
لو لم يُسأل الأستاذ بيان مراده ويمتنع من بيانه لكان أول ما يخطر بالبال أنه
يعني بتلك الكلمة الموهمة سريان عدوى الأفكار المادية والنزعات السياسية إلى
الأزهر، ولو عنَى هذا لصرح لسائليه من إخوانه به دفعًا للظنة، وبراءة من سوء
النية.
***
فتنة السعاية بالأستاذ المراغي
بقيت علينا كلمة ذكَّرتنا بها كلمته في إثارة الفتنة وهي ما بلغنا في هذه الأثناء
من أن بعض السعاة المحَّالين النمامين القتَّاتين المتذقحين المتجرمين قد سعى
بالأستاذ المراغي، فاتهمه بما يعبر عنه بعدم الإخلاص للمقام الملكي، وكذلك كان
أمثالهم يسعون بالأستاذ الإمام إلى المقام الخديوي، فكانوا مسيئين إلى أنفسهم وإلى
ولي أمرهم بإقامة خصوم له من خيار رجال ملكه، وأجدرهم وأقدرهم على تسيير
فُلكه، وهم كاذبون في وشايتهم، ملعونون على كذبهم، وعلى نميمتهم.
أما الأستاذ الإمام فأقول - ولا أخشى أن أتهم الآن بأنني أريد الدفاع عنه أو
التزلف إلى الخديوي -: إنه كان أخلص له من جميع رجال خاصته وموظفي قصره،
ومن حاشيته وبطانته، وأما الأستاذ المراغي فأقول فيه - ولا مجال للظنّ بأنني
أبتغي أدنى انتفاع منه -: إنني لم أسمع منه كلمة واحدة يصح أن تعد دليلاً أو
شبهة على صحة تلك السعاية فيه، بل أقسم بالله وآياته أنني لم أسمع من أحد ولم
أقرأ لأحد كلمة ثناء على جلالة الملك فؤاد - على كثرة ما نشرت الجرائد في
الثناء عليه - كانت أكبر في نفسي مما سمعته من الشيخ المراغي من رأي
لجلالته في علماء المسلمين، وما يتمناه للأزهر ورجاله في خدمة الدين.
ذلك أننا كنا نتحدث فيما يجب من إصلاح الأزهر فذكرت للأستاذ ما اقترحته
على الشيخ أبي الفضل الجيزاوي رحمه الله تعالى ومنه أنه يجب أن يؤلف لجنة
للنظر في المقترحات بعد تحريرها وأنه ينبغي للجنة التي يناط بها تقرير الإصلاح
له أن تطَّلع على تاريخ الفاتيكان وقوانينه ونظمه. وتاريخ الكنيسة والإصلاح
الديني في النصرانية؛ لتعلم كيف كانت الكنيسة تقاوم العلوم الكونية وتكفر العلماء
وتنتقم منهم بأقسى ضروب الانتقام، ثم كيف صار بعض رهبانها من أعلم العلماء
المدرسين والمؤلفين في تلك العلوم، وكيف أمكنه المحافظة على الدين ونفوذ
الكنيسة بذلك، وما كان من تأثير ذلك في أوربة وفي سائر العالم.
فقال لي الأستاذ: إن جلالة الملك فؤاد قد درس تاريخ الفاتيكان ونظمه وقد
علمت من حديث لجلالته أنه يتمنى أن يكون لعلماء الإسلام من مثل تلك النظم ما
يكون خير الوسائل لحفظ الدين وارتفاع شأنه في هذا العصر.
فيا ليت شعري مَن قدر على تحقيق ما يتمناه جلالته مما ذكر؟ المستقلون؟ أم
الجامدون المقلدون؟ ولا أقول الآن أكثر من هذا.
رُب مدح في لفظه كان ذمًّا في معناه، ورب نصر في صورته وهو خذل في
حقيقته، ورب صديق جاهل شر من عدو عاقل، وإن ما نقله لي الأستاذ المراغي
من حديث جلالة الملك في هذه المسألة هو أعظم شأنًا عند كل من يغار على الإسلام
بعلم وعقل من سبعين قصيدة وسبعين مقالة مما نقرؤه في مدحه المرة بعد المرة،
مما يستحق بعض كاتبيه الصفع على أقفيتهم، كقول بعضهم في مقالة نُشرت في
الأهرام يوم عيد الجلوس ما معناه: إننا - معشرَ المصريين - غلبنا أو نغلب جميع
الأمم ونقول: بعزة فؤاد إنا لنحن الغالبون، أي كما قال سحرة فرعون: {بِعِزَّةِ
فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ} (الشعراء: 44) والكاتب يعلم أن الله تعالى قال فيهم:
{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 119) ! ! وربما لم يكن
أصحاب الأهرام يعلمون هذا؛ إذ لو علموه لما نشروا تلك المقالة السوءَى في صدر
جريدتهم.
لقد كان الشيخ محمد عبده وحده خيرًا للخديوي من جميع علماء الأزهر،
وكان أقدر على حملهم على الخدمة النافعة التي لم يكونوا يقدرون عليها من دونه؛
لأنهم كانوا كالجند غير المتمرن على الحرب فلا يصلح للجهاد، إلا بتدريب مهرة
القواد، وإنما يصلح لقيادة الجيوش مَن بلغ رتبة القيادة العليا في الفنون العسكرية،
ولكل جيش قائد من جنسه ولقد جرب الخديوي قيادة العلماء في دفع ما حملته عليه
سلطة الاحتلال من عزل قاضي مصر التركي المولَّى من قِبَل السلطان فما أغنوا
عنه شيئًا، حتى إذا ما بلغ الأمر غايته، وجاء الأمر القطعي من وزير الخارجية
البريطانية إلى لورد كرومر بوجوب اجتماع مجلس النظار تحت رياسة الخديو
لتعيين قاضٍ لمصر من علماء الأزهر بدلاً من قاضي الآستانة والخليفة - عظم
الأمر على الخديو ولم يَرَ عند أحد من رجاله الرسميين ولا غير الرسميين مخرجًا
من هذا المأزِق الذي يقطع آخر صلة دينية له ولمصر بالدولة، فأمر حسن باشا
عاصم أن يطلب له الشيخ محمد عبده بلسان البرق ليلاً؛ ليقابله في قصر رأس
التين بالإسكندرية صباحًا، فسافر الأستاذ في قطار الصعيد منتصف الليل، فوجد
الأمير ينتظره بكرةً، فاستشاره فوصف له المخرج بداهة، وبَيْنَا هو في حضرته
وصل لورد كرومر حسب الموعد ليبلغه الأمر البرقي الأخير، فخرج الشيخ من
باب، ودخل اللورد من باب، فذكر له الخديو ما لقنه الشيخ من الجواب، فكان
فصل الخطاب واستغفر اللورد وأناب!
ولو شئت لذكرت هنا ما حاول كبراء العلماء نصر الحكومة الحاضرة به في
هذه الأيام، وما كان من سوء تأثيره في الخواص والعوام، وما قالت الجرائد
والخطباء فيه، وما حاول بعض العلماء المستقلين من إصدار نداء آخر يُرجى أن
يكون أحسن تأثيرًا، وأحفظ لكرامة الأزهر، وما حال دون ذلك، ولكن من خطة
المنار اجتناب الدخول في مآزق الحكومة بترجيح أو تجريح، ولم أحب التصدي
لانتقاد الأزهر قبل أن تظهر خطته في هذا الطور الجديد، ولكن يظهر من كلام
رئيس تحرير مجلة الأزهر ومما بلغني من منهاج التعليم الجديد فيه - أنه عين
القديم الذي كنا نجاهده، وأنهم قرروا قراءة المواقف والطوالع وأمثالها لطلبة الأزهر،
وسنوفي هذا حقه في مقالات أخرى.
وحسبي هذا ردًّا على ما كتبه الأستاذ الخضر فيما يتعلق بشخصه للحقيقة
والتاريخ، وسأرد في الجزء التالي على ما كتبه في شأن نصيحتي لمجلة الأزهر إن
شاء الله تعالى.
وإنني لأود لو أكون مخطئًا فيما فهمت من مقالته ومن مجلة جمعيته، وما
يعنيه من إثارة الفتنة ومن الأمراض العقلية والخلقية، وأن يكون كما كنت أظن من
حزب المصلحين المعتدلين بين الجامدين والمتفرنجين، فنعود بعد هذا التنازع
متعاونين، وبعد هذا الاختلاف متفقين، وتلك عقبى المخلصين.
__________
(1) ذكر ما يفعلون إذا رأوا الصواب في جانبهم ولم يذكر ما يفعلون إذا ظهر لهم الخطأ في جانبهم، فدل هذا على أنهم لا يعترفون بأنهم مخطئون وإن كان مما قال إن عليهم أن يتقبلوه.(31/371)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زيارة وزير الحقانية
لقسم التخصص التابع للأزهر
وما أعجب به من حياة العلم فيه
(بعد جمع ما تقدم في المطبعة وقبل طبعه كله جاءتنا الرسالة التالية فنشرناها
بنصها لما فيها من تأييد رأينا في الرد على الأستاذ الخضر وهي) :
زار صاحب المعالي علي ماهر باشا وزير الحقانية قسم تخصص الأزهر يوم
الأربعاء 19 رجب الحالي (10 ديسمبر) ومعه سعادة طاهر باشا نور وكيل
الحقانية، فمر على كثير من مدرسي القسم ولم يُعجَب بأحد كما أعجب بالشيخ علي
الزنكلوني عند ما كان يشرح قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ
الإِنسَانِ مِن طِينٍ} (السجدة: 7) إذ شرح كيفية خلق الإنسان من الطين أولاً
وآخرًا مارًّا معه في سائر أطواره على أحدث النظريات العلمية التي تشهد لها
مجاري استعمال القرآن الحكيم. وكذا أعجبه درس الأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكان يقرأ مبحث (الشهادة) في فقه الأحناف، فشرح رأي الفقهاء القائلين بعدم
قبول شهادة غير المسلم، ثم فند هذا الرأي وفصل مواطن الشهادة وبيَّن أن منها
مواطن يجوز فيها شهادة غير المسلم، ثم فسر آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ
بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} (المائدة: 106) الآية. ووجَّه رأيه بما تعطيه
الآية ونظائرها وما يرمي إليها سر تشريع الشهادة، وكون الإسلام دينًا عامًّا لا
يخص طائفة دون طائفة ولا زمانًا دون زمان.
فسُرَّ الوزير من ذلك جدًّا وأعجبته تلك الحرية التي لم يكن يعهدها في الأزهر
ولم يستطع إخفاء سروره من ذلك حتى كاشف به فضيلة شيخ القسم (المفتي) .
ومما كان له وقع جميل عند محبي الحياة للأزهر - البِشر الذي ظهر على
وجه الوزير عند ما قال له الشيخ الزنكلوني - وهو في الإدارة يشرب القهوة -
الجملة الآتية: يا معالي الباشا أنا مسرور منك جدًّا لا لأنك وزير؛ بل لأنك عالم
فطن، ومن شأن العالم الذكي أن يحب العلم الصحيح والأفكار الحية، فيجب عليك
أن تُكثر من زيارة الأقسام العالية في الأزهر لتنشط الأذكياء أرباب الأفكار السليمة
من الأمراض، فيتكون من الأزهر كتلة علمية حية قوية، ويكون جيش جلالة
الملك العلمي الديني جيشًا مسلحًا بسلاح العصر الجديد يقوم في وجه أعداء الدين
الذين يهاجمونه من كل ناحية، وإلا كان وراء جلالته حثالة من الخلق مبعثرة ميتة،
لا تصلح لمقاومة بعوضة! . اهـ
(المنار)
سبحان الله! إن هذه الرسالة جاءت مؤيدة لما قلناه في ردنا هذا ولا سيما
كلمة الأستاذ الزنكلوني للوزير. وأما مسألة شهادة غير المسلم فما ذكره الكاتب فيها
مجمل موجز لا يُفهم منه ما فيها من خطأ وصواب. ولا شك أن الجامدين يعدونها
مهاجمة لفقهاء المذاهب المتبعة، ونحن قد حققنا هذا الموضوع في تفسير آية
الوصية في السفر من سورة المائدة في فصل خاص عقدناه لها (فيراجع في ص
229 - 227 ج 7 تفسير) فإن كان الأستاذ محمد الخضر يعد هذا وذاك من آثار
الأمراض العقلية فليرد عليهما في إحدى المجلتين (نور الإسلام والهداية) أو
كلتيهما لنبحث معه بعد ذلك فيما كتبه من موافقة شريعة الإسلام لكل زمان ومكان.
_______________________(31/390)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسيح الهند القادياني الدجال
ودعاة مسيحيته في سورية
(1)
إن هؤلاء المسيحيين الإسلاميين قد جمعوا من الهند أموالاً كثيرة بثُّوا بها
دعايتهم في البلاد، وقد طبع دعاتهم في سورية رسائل متعددة في الدعوة إلى نِحْلته
فانخدع بها شاب دمشقي عنده هوس في الأفكار الدينية بغير علم بأصول الإسلام
الصحيحة ولا فروعه، اسمه (منير الحصني) جاء مصر في العام الماضي فتمنينا
لو يلقانا لنتكلم معه فلم يكن ذلك. وأخيرًا جاءنا منه رسالة يرد فيها على بعض ما
كنا نشرناه في المنار من تفنيد هذه المسيحية وتكذيب دجالها القادياني في حال حياته،
وإننا لكثرة الشواغل لم نفرغ للاطِّلاع على شيء من تلك الرسائل التي طبعوها
أخيرًا.
وأما هذه الرسالة الخطية فقد كنت أراجع في آخر هذا الشهر (رجب)
إِضْبارَة الرسائل المحفوظة للمراجعة فوقعت عيني عليها، وكان تحرير الجزء
الخامس من المنار لم يتم فأحببت أن ألخصها وأبين أهم ما فيها من حجج القوم
الداحضة. والرد عليها بالبينة الناهضة.
يرد هذا الداعية للمسيحية الإسلامية التي يسمونها (الأحمدية) على المنار في
ثلاث مسائل:
(1) ما أنذر مسيحهم به صاحب المنار فكان إنذاره كاذبًا.
(2) نسخ مسيحهم لمشروعية الجهاد.
(3) كوْنهم أعداءً للإسلام، كافرين ببعض القطعيات من أصوله، مضللين
لأهله.
* * *
1 - إنذار القادياني لصاحب المنار
ذكر الكاتب في مقدمة رسالته أن مسيحهم بلغني دعوته فأنكرتها عليه (بلا
دليل بيِّن ولا حجة دامغة) لجهله ما اتفق عليه علماء الشرع والعقل من أن البينة
على المدعي، ثم قال: (وقد جئت بأسطري هذه ردًّا على ما يمس الأحمدية التي
هي عندي الإسلام الصحيح من تُهَمك المنشورة عنها في المنار، وأملاً أن تذعن
للحق ولو على نفسك، كما أنني أفعل ذلك إذا أظهرت لي بعض الخطأ، والله على
ما أقول شهيد) .
ثم قال: (ذكرت في مجلتك كما كتبت إلى أحد قرائها في بيروت ما مفاده بأن
أحمد المسيح الموعود عليه السلام كان أنبأ في كتابه - الهدى والتبصرة لمن يرى -
بوحي من الله عن موتك في حياته ولكن نبوته لم تصدق إذ مات في حياتك وهذا ما
أدرجته في منارك بنصه:
(وقد رددنا عليه في حياته بما أظهر بهتانه حتى بنفس مماته فإنه كان رد
علينا في كتابه الهدى والتبصرة لمن يرى فزعم أنه قد جاءه الوحي بأن صاحب
المنار (سيهزم فلا يرى نبأ من الله الذي يعلم السر وأخفى) يعني أن الله تعالى
وعده بأن ينتقم له منه، ولكنه مات ولم تقر عينه بموتنا ولا بمصيبة يفسر بها وحيه
الشيطاني) .
فقبل أن أبين لك خطأك الفادح في فهم هذا النبأ الذي تم صدقه بكل وضوح
أقول: إن نفس مماته عليه السلام كان دليلاً على صدقه لا على بهتانه، كما تزعم؛
لأن الله أخبره عن عمره قبل وفاته بثلاثين سنة بقوله: (ثمانين حولاً أو قريبًا من
ذلك) وقد توفي عن 75 سنة توالى عليه الوحي في السنوات الأخيرة منها بشأن الوفاة
إذ أخبره الله في ديسمبر سنة 1905 بقوله: (قرب أجلك القدر) وقال له
في 7 نوفمبر سنة 1907: (موت قريب هي) أي أن الموت قريب. وكذلك أوحى
إليه بهذا المعنى مرتين في 7 مارس سنة 1908 و3 نيسان سنة 1908 ونُشرت هذه
الأنباء في حينها في الجرائد والمجلات وأن وفاته عليه السلام في مايو سنة 1908
طبق الأنباء المذكورة بدليل ساطع على صدقه.
بعد هذا حصر الرد على عبارتي في الشق الأول مما فسرت به إنذار مسيحه
وهو موتي، وترك الشق الثاني وهو وقوع مصيبة بي يفسر بها وحيه الشيطاني،
وقد أطال في تخطئتي واستطال في التثريب عليَّ والتأنيب لي والتحقير والتهديد بما
يدل على هوسه العقلي في هذا الدجل الشيطاني، فأقول:
زعم القادياني أن الله أخبره بعمره!
أقول في تفنيد هذا الهوس:
(أولاً) مَن كان واسع الاطلاع على التواريخ أو الاختبار لأحوال الأمم
وأخبار الدجالين فيها يعلم أن الأغرار ينخدعون بأمثال هذه الأخبار التي يسميها
الجاهلون كشفًا وكرامات، أو وحيًا ونبوات، وإن كان مثلها معتادًا، والصادق منها
كثير الوقوع من غير مَن يعتقدون هذا الاعتقاد فيهم، ولكن أغرار العوام قلما
يميزون بين الصادق والكاذب، فهذا الذي ذكره الحصني من وحي مسيحهم القادياني
أدل على كذبه منه على صدقه.
فهو يقول: إن الله تعالى أخبر مسيحهم عن عمره بقوله: (ثمانين حولاً أو
قريبًا من ذلك) أي هذا نص الوحي الذي خاطبه الله به، ووجه الدلالة هذا القول
على كذبه في دعوى أنه وحي: تردده في تحديد العمر، فلو كان هذا خبرًا من الله
تعالى - وهو علام الغيوب - لكان جزمًا بالتحديد، وتعيينًا لعدد الخمسة والسبعين،
وقد يزاد على هذا أن عدد 75 لا يعد قريبًا من عدد الثمانين في مثل هذا المقام؛
لأن الخطأ في العدد التقريبي هو ما كان في كسر السنة لا في عدة سنين.
ثم ما فائدة هذا الوحي المتتابع من أواخر سنة 1905 إلى ما يقرب من نصف
سنة 1908 وهي بعد استكماله لسن السبعين بتلك العبارات السخيفة؟ وما الدليل
على أن تلك الخواطر وحي من الله تعالى بتلك الألفاظ العامية؟ ولماذا جاءه الوحي
بتاريخ مسيح اليهود والنصارى، ولم يجئه بتاريخ الهجرة المحمدية أو بتاريخ
مسيحيته هو؟ !
ومن المعلوم أن مسألة قرب الأجل مما يكثر خطره في أذهان أكثر الناس في
هذه السن ويكثر تعبيرهم عنه، وقد اشتهر عن كثير من الناس ذكر قرب آجالهم في
حال الصحة وذكر مواضع موتهم، ووقوع الحوادث على وفق الخواطر في هذه
المسألة كثير.
(ثانيًا) إن إنذاره لي كان كإنذاره لأناس غيري في إبهامه واحتماله للتأويل
وكذلك دأب الدجالين في نُذُرهم وما يدعونه من الإنباء بالغيب، فإن اتفق صدقه
هللوا وكبروا، أو طبلوا وزمروا، وزعموا أنه يدل على صدقهم فيما زعموا، وإن
لم يتفق صدقه - كما هو - التمسوا له تأويلاً ولو سلبيًّا كما فعل الحصني في
رسالته هذه.
ادعى أنني جزمت بأن إنذار مسيحه لي نص بأنني أموت قبله وأطال في
ذلك بما أشرت إليه آنفًا، وهذا كذب صريح وبهتان جلي عليَّ فإنني إنما فسرته أنا
بأنه يعني به انتقام الله تعالى له مني، وأنني لو متُّ قبله لفسر هذا الانتقام بموتي،
وكذلك لو أصابتني مصيبة لفسره بها أيضًا. فهذا الحصر الذي حمل عليه الحصني
كلامي إما أن يكون عن جهل منه بمدلول الألفاظ العربية وحينئذ لا يكون أهلاً
للمناظرة في شيء قط؛ لأنه لا يفهم ما يكتب وما يقال، وإما أن يكون تحريفًا
متعمدًا؛ فيكون منافقًا في مسيحيته الأحمدية هذه، ولا يغنيه إزراؤه بنا في رسالته
وتحدينا بنقل ألفاظ الوحي المنزلة بأننا نموت قبله وتوبيخنا عليها، ولولا أن نقلها
سفه وإضاعة لوقتنا ووقت القراء لنقلناها لإضحاك الناس على كاتبها! ، وإنما نذكر
منها ما يتعلق بالاحتجاج.
(ثالثًا) قال: إن مسيحه الدجال صرح في جريدته (الحكم) : (أنه ليس
بضروري أن يموت أعداء الأنبياء في حياتهم) واستثنى المباهل ثم قال مكررًا
للكلام: (وهذا وإن كل مَن دعا عليه المسيح الموعود وأخبره الله عن استجابته
ذلك الدعاء بالوحي وكذلك مَن باهله على شرط أن يموت الكاذب في حياة الصادق
أهلكه الله في حياته مثل ألكسندر دوتي من أهالي أمريكا [1] وفريق من النصارى
في الهند) وذكر أسماءً أخرى. ثم توعدني بآيات القرآن، فيمن يمدهم الله في
طغيانهم يعمهون ويملي لهم ليزدادوا إثمًا.. إلخ.
وهذا عين ما قلته في ضلالهم وإضلالهم وهو أن من يموت من المكذبين له أو
تصيبه مصيبة يقولون: إنه مات معجزة له، وتصديقًا للوحي الذي زعمه، ومن
يبقى حيًّا يقولون إنه ما دعا عليه، وإنه ما عاش إلا ليزداد طغيانًا وإثمًا، ونحمد الله
أنه تعالى أحيانا حياة طيبة نقيم دينه بالقول والعمل، وندافع عنه بالحجة، لا ندَع
ملحدًا ولا داعية كفر وضلالة، ولا أصحاب بدعة ولا أولي منكر إلا
ونرد عليهم، ونفسر كتابه العزيز بما فضله العلماء المستقلون على جميع تفاسير
الأمة، لا كتحريف القادياني وأتباعه له بما يتبرأ منه الدين واللغة كزعمه أن
البشارة به من معاني البسملة.
زَعْم الحصني صدق مسيحه فيما أوعدنا به:
ثم إنه رد عليَّ بما زعمه أن ما قاله مسيحه فيَّ قد صدق ووقع وهو الهزيمة
من مناظرته قال:
(وفهمك منه أنه أراد موتك في حياته فإن هذه الجملة لا تدل على ما ذهبت
إليه بتاتًا، وليس فيها سوى ذكر الهزيمة، والهزيمة هي الفرار إبقاءً على الحياة،
فكيف يسوغ لك أن تفهم منها الموت، نعم إن النبأ واضح على فرارك من الميدان
الذي دعاك إلى المبارزة فيه بصورة لا ترى فيه أبدًا، وأن ما دعاك إليه هو كتابة
كتاب مثل كتابه الذي تحداك به وجعله معيارًا لصدقه كما قال في ص 20 ما نصه:
ووقفت لتأليف ذلك الكتاب، فسأرسله إليه بعد الطبع وتكميل الأبواب، فإن أتى
بالجواب الحسن وأحسن الرد عليه فأحرق كتبي وأقبّل قدميه، وأعلق بذيله، وأكيل
للناس بكيله، وها أنا أقسم برب البرية، وأؤكد العهد بهذه الآلية) اهـ.
(أقول) :
(أولاً) بوجه الإجمال إن المسيح الدجال القادياني قد كذب وأخلف وعده
بإرسال الكتاب المذكور فليس لي علم بهذا الكتاب، وكذب الحصني في زعمه أنه
دعاني للمبارزة في هذا الميدان ففررت منه بصورة لا أرى فيها أبدًا. فأنا ظللت
أرد عليه حتى هلك، وإنما ميداني الواسع هو المنار، ولا أزال أجول فيه وأصول،
بسيف الله المسلول، وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنني ظهرت ورئيت
بفضل الله في ميادين أخرى لسانية لا كتابية كثيرة، منها ميدان بلاده الهندية،
فقد زرت الهند ولقيت حفاوة وحفلات عظيمة بيَّنت دجل القادياني وكذبه على الله
في بعضها كما سأبينه بعد.
(للمسألة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هذا الرجل كان دجالاً في النصارى كدجل غلام أحمد القادياني في المسلمين.(31/391)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الجديدة
(تنبيه)
لقد ثقل علينا حمل ما علينا من الحق الأدبي لمن يهدون إلينا مؤلَّفاتهم فنسوف
في تقريظها انتظارًا لفرصة نطّلع فيها على ما يمكننا من معرفة مزاياها، وهذه
الفرص تفر منا أو تحول بيننا وبينها المسائل الضرورية، وكل ما نكتبه في أبواب
المنار لا يتوقف على بذل وقت طويل لإعطائه حقه، فكثيرًا ما نكتب باب الفتوى
كله من غير مراجعة شيء من الكتب، بل كتابة التفسير لا يتوقف إتقانها على
مراجعة طويلة كباب التقريظ إذا أريد كتابته على علم، لهذا عزمنا على الاختصار
في تقريظ لم نقرأه منها، والإعلام بها بالإجمال كما يفعل غيرنا من أصحاب
المجلات.
***
(تفسير القرآن بكلام الرحمن)
تفسير وجيز لأحد علماء الهند المعاصرين المشهورين الأستاذ الشيخ أبو الوفاء
ثناء الله الأَمْرِتْسَرِي. وطريقته فيه تُعلم من اسمه، وبيانه أنه يفسر الآية أو الجملة
ويستشهد على تفسيرها بآية أو أكثر مما ورد بلفظها ومعناها أو أحدهما بحسب
اجتهاده كقوله - في تفسير الفاتحة بعد ذكر البسملة -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ ... } (الفاتحة
: 2) أي قولوا أيها العباد نقرأ باسم الله الرحمن الرحيم لقوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) وقوله تعالى: { ... رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة:
2) الذي خلقهم وخلق أسباب رزقهم لقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ} (فصلت: 9) (وذكر
الآية التي بعدها) : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 3) هو العطف على العباد
بالإيجاد والهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة والإسعاد في الآخرة لقوله تعالى:
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 1-4)
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 43) ، لعلهما مترادفان، فافهمْ..إلخ.
وله في هذه الشواهد أفهام دقيقة وأخرى غريبة. وقد طبع الكتاب في المطبع
البرقي انتاب في بلدة أمرتسر سنة 1327 طبعًا حسنًا بلغت صفحاته زهاء أربعمائة
صفحة وثمن النسخة منه 30 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بشارع الإنشاء
بمصر.
***
(كتاب المساكين للرافعي)
الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صاحب هذا الكتاب أشهر من نار على عَلَم،
يراها كل أحد ولا يصل إليها أحد، فهو معروف والمعروف لا يعرَّف، ومجهول لا
يوصف، أو نكرة لا تتعرف، أوتي عقله نصيبًا كبيرًا من فلسفة النفس والاجتماع
فهو يغوص في أعماقها، وأوتي خياله حظًا عظيمًا من المعاني الشعرية فهو يطير
في أجوائها، وأودع ذهنه مادة واسعة من اللغة العربية مفرداتها وأساليبها فهو يُبرز
النظريات الفلسفية في صورة من التخيُّلات الشعرية، تتجلى في طُرُز طريفة
(مُودَات) من الحلي والحُلل اللغوية، جمع فيها بين الإجادة في المنظوم والمنثور،
وقلما تتفق الإجادة فيهما معًا إلا للأقلين كما قال الحكيم ابن خلدون، وبهذه المزايا
كان أمة وحده في الكتاب والشعراء والمصنفين، وكان جمهور قراء العربية يشكون
شيئًا من الغموض في كلامه، والحاجة إلى التأمل الكثير في بعضه لاستبانة مراده،
ولكن لا ينكر أحد من أولي الفهم أن كل قارئ له يرى فيه من فرائد اللغة ودقائق
التعبير البليغ عن المعاني ما لم يكن يعلمه، فهو كثير الابتكار والإبداع، بغير
مكابرة ولا نزاع، ولو كان جمهور القراء يفهمون لغته حق الفهم لعمّ انتشارها،
وأقبل الألوف على قراءتها.
له عدة مصنَّفات أجلّها موضوعًا وأوضحها بيانًا (إعجاز القرآن) وقد
أعطيناه حقه من التقريظ فنشره معه. وطبع ثلاث مرات، كانت الثالثة منها على
نفقة جلالة الملك فؤاد، ويليه (تاريخ آداب العرب تحت راية القرآن) ومنها
(حديث القمر) ورسائل الأحزان والسَّحاب الأحمر، وأوراق الورد، وهذه
الأربعة كتب فلسفة وشعر، وله شعر كثير، ليس له فيه ضريب ولا نظير.
وأما كتاب المساكين الذي جعلناه ذريعة كلها فقد عرفه مصنفه بكلمة بيَّن بها
ماأراده منه وكتبها تحت اسمه وهي: (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء
من أغلاط الناس) وقد صدق في قوله وفي مراده، ولقد كنت أعجز كما إخال أن
كل أحد غيره يعجز عن تعريفه هذا.
ثم وصفه بكلمة أخرى قال إنها من (قلم الغيب) وذكر أنها أُوحيت إليه في
النوم، وهي (هذا كتاب المساكين. فمَن لم يكن مسكينًا لا يقرؤه؛ لأنه لا يفهمه،
ومَن كان مسكينًا فحسبي به قارئًا، والسلام) .
فإن كان صدق في أن هذه الكلمة من قلم الغيب، كما صدق في أن مَن لم يكن
مسكينًا لا يفهمه - فأنا أظن أنه لا يوجد مسكين يفهمه؛ بأنني أظن أنني مسكين ولم
أفهمه، إلا أن مسكنتي مسكنة أخلاق، لا مسكنة إملاق، ولا أدري أية مسكنة
ينتحل منشيء كتاب المساكين، الذي لا يفهمه مَن ليس بمسكين، قرأت صفحات
منه ففهمت بعض جمله، وأعجبت ببعض حكمه، واستعذبت بعض استعاراته
التمثيلية والتخييلية، ولكني أقر بأنني لا أفهمه كله فهمًا إجماليًا يمكنني تلخيصه به،
ولا أفهم فصلاً منه فهمًا تفصيليًا يمكنني من تفسيره لمَن لم يفهمه، ولا تفسير كل
جملة من جمله، فالكتاب - في جملته - من قلم الغيب، هبط على عالم الشهادة،
وفي الاطلاع على عالم الغيب من اللذة الروحية والإنس ما ليس في الإطلاع على
عالم الشهادة، وإن حارت فيه الأفهام، وكان حُلمًا من الأحلام. وقد طبع في مطبعة
العصور، وضبط الكثير من كلمه بالشكل وصفحاته 287 وثمن النسخة منه عشرة
قروش.
***
(الإبداع في مضار الابتداع)
كتاب جديد صنَّفه أخونا الأستاذ الشيخ علي محفوظ من تلاميذ الأستاذ الإمام،
المدرس بقسم التخصص في الأزهر الشريف (طبق ما قرره المجلس الأعلى من
مناهج التعليم في السنة الثالثة لقسم الوعظ والخطابة في الأزهر الشريف) فرغ من
تأليفه سنة 1341 وطبع عقب ذلك، ثم أعيد طبعه في آخر سنة 1348، وقد ذكر
المصنف في آخر الطبعة الثانية سبب إعادته طبعه فقال:
(لما ولي صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى
المراغي مشيخة الجامع الأزهر الشريف ورياسة مجلسه الأعلى كان من باكورة
أعماله الحكيمة أن وجَّه (حفظه الله) عنايته إلى إصلاح نظام قسم الوعظ والخطابة
ومناهجه إصلاحًا يكفل للطلاب النبوغ في هذا الفن، ويتناسب مع روح العصر
الحاضر، فأدخل تعديلاً رشيدًا في مواد الدراسة، وأضاف إلى مادة البدع والعادات
زيادات ذات شأن. وقد عرض على مجلس الأزهر الأعلى مذكرة بشأن هذا
الإصلاح فوافق عليه في جلسة يوم الثلاثاء 13 ربيع الأول سنة 1347. وقد طُبع
هذا الكتاب المرة الثانية في ذي الحجة من السنة المذكورة وهي تمتاز عن الطبعة
الأولى بتنقيحات مفيدة مع تلك الزيادات التي أقرها المجلس الأعلى في الجلسة
المذكورة - اقرأ الدليل) .
ويعني بالدليل فهرس الكتاب وهو مؤلَّف من مقدمة وبابين وخاتمة. وفي
المقدمة مبحثان: الأول إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بغُربة الدين، والثاني
الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة النبوية. والباب الأول في النظر في البدع
من جهة الأصول والقواعد وفيه سبعة فصول وجُله مستمد من كتاب (الاعتصام)
للشاطبي، والباب الثاني في النظر في البدع من جهة فروعها وفيه اثنا عشر فصلاً:
(1) في بدع المساجد، (2) في بدع القابر والأضرحة وزيارة القبور وما
فيها من المفاسد، (3) بدع الجنائز والمآتم، (4) في بدع الموالد، (5)
منكرات الأفراح، (6) بدع الأعياد والمواسم، (7) في البدع التي تقع في
العبادات، (8) في بدع الطرق (أي طرق المتصوفة) ، (9) في بدع
الاعتقادات، (10) في بدع الضيافة والولائم، (11) في بدع المعاشرة والعادات،
(12) في خرافات العامة وأوهامهم.
وفي كل فصل من هذه الفصول مسائل كثيرة لخص فيها كتاب المدخل لابن
الحاج وزاد عليه بعض ما حدث بعده من منكرات العادات، وبدع الضلالات
ومسائل متفرقة في كتب كثيرة جمعها في زهاء 300 صفحة بقطع المنار.
ولم تكن كتابته لهذه المباحث كتآليف أكثر المتأخرين من علماء الأزهر
وأمثالهم التي لا تعدو اختصار أحدهم لكتاب غيره وشرح آخر لبعض المختصرات
بما ينقله من المطولات، هو تصنيف جديد حملته عليه حاجة العصر إليه، وكان له
فهم ورأي فيما ينقله عن غيره.
وجملة القول إن هذا الكتاب من الكتب النافعة الجديرة بالانتشار، ولعل ما
يُنتقد من مسائله قليل، فهو خير من كثير من الكتب التي ينقل عنها ويقول قال
الإمام فلان والعلامة فلان، وإذا كان لا يسلم من الخطأ في مسائله فهو أولى بألا
يسلم من الغلط في طبعه، وإن قال في آخر فهرسه إنه: (قد استغنى عن بيان
الخطأ والصواب فيه لسلامته من الخطأ! !) وسنعود إلى بيان الشواهد على هذا إن
وجدنا فرصة. وثمن النسخة منه 10 قروش وهو يُطلب من مكتبة المنار.
***
مطبوعات دار الكتب المصرية
(كتاب الأغاني)
أصدرت الجزء الثالث من هذا الكتاب المشهور على نسق ما قبله في الجودة
وإتقان الطبع وقد قرظنا الكتاب في الجزء الأخير من المجلد 29 وثمن هذا الجزء
كغيره 25 قرشًا.
(نهاية الأرب في فنون الأدب)
أصدرت الجزء السابع منه وهو في فنون الكتابة ومنها أنواع البديع وصفحاته
312 وثمنه 15 قرشًا.
(عيون الأخبار)
أصدرت الجزء الرابع منه، وموضوعه (كتاب النساء في أخلاقهن وخلقهن
وما يُختار منهن وما يُكره) وهو زهاء ثلاثمائة صفحة. وفيه مقدمة حافلة في
ترجمة المؤلف تزيد صفحاتها على الخمسين وفيها كلام على هذا الكتاب وصور
شمسية لبعض صحائف الخطية. وثمنه 15 قرشًا.
(ديوان مهيار الديلمي)
أصدرت الجزء الثالث منه ولم تتم به قافية الميم وثمنه 15 قرشًا، وكل هذه
الكتب تُطلب منها ومن مكتبة المنار بمصر.
(الجزء الخامس من فهرس الكتب العربية)
ويشتمل على فهرس التاريخ وملحق بالكتب العربية الواردة على الدار في
سنة 1929م.
(جريدة الشورى)
أختم هذا الجزء بتهنئة زميلنا الأستاذ محمد علي الطاهر بدخول جريدته
الشورى في عامها السابع محمودة الخدمة للأمة العربية عامة وللوطن الفلسطيني
خاصة. وقد جاءته التهاني تترى من الأقطار العربية الشرقية والغربية وهو أهل
لها، أدام الله النفع بها والترقِّي لها.
__________(31/396)
شعبان - 1349هـ
يناير - 1931م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من بيروت
(أسئلة من بيروت وردت في كتابين منذ سنة ونصف
فجمعناهما وتركنا مقدمة الخطاب)
(س43-53) من صاحب الإمضاء في بيروت
(1) ما قول السادة العلماء الأعلام في رجل معلم بإحدى المدارس الإسلامية
أفتى التلاميذ بطهارة الإسبرتو وبجواز المسح على الجورب ولو كان رقيقًا والصلاة
بالنعلين (الحذاء) وحسْر الرأس (كشفه) معتمدًا على ما أفتى به بعض العلماء
بجواز ذلك، فما كان من رئيس المدارس إلا أنه عاقبه بالعزل من وظيفته مدعيًا
بأن المعلم المذكور خالف علماء المسلمين في هذه الفتوى، فهل هذا المعلم أخطأ
ويستحق هذا العقاب أم لا؟
(2) هل يجوز للمعلمين والمتعلمين وغيرهم من الرجال والنساء قراءة
القرآن الكريم ومس المصحف وكتب الأحاديث وقراءتها وكتب التوحيد والفقه
وقراءتها على غير طهر أي بلا وضوء وغسل من الجنابة والحيض وغيره أم لا؟
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
(3) ما قولكم دام فضلكم فيمن يقول إن قراءة القرآن الكريم والأحاديث
النبوية الشريفة للتبرك وللثواب فقط وأما العمل فيجب أن يكون حسب أقوال
مذاهب الأئمة الأربعة لا غيرها؛ لأنه لا يوجد أحد مطلقًا في هذا الزمان يقدر على
استنباط حكم من الأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات وغيرها من القرآن الكريم
والأحاديث النبوية الشريفة لعدم توفر شروط الاجتهاد فيه، فهل هذا القول صحيح
معتمد عليه ومَن الذي قال به من العلماء الذين يُعتَدّ بقولهم؟
(4) هل رفع الصوت بالاستغفار عقب صلاة الفرض خلف الإمام الراتب
وغيره في المسجد سنة أم بدعة، وما حكم الكلام الدنيوي وغيره في المسجد؟
(5) ما قول فضيلتكم في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ببيتين من الشعر
قُبيل صعود الخطيب المِنبر أو عند صعوده؟
(6) هل يجوز قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم على المآذن أم لا؟
(7) هل وضع العمامة أثناء الصلاة يثاب عليها المصلي أكثر مما لو صلى
بدون عمامة وهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء بهذا الشأن أم لا؟
(8) هل يجوز للرجل أن يحلق شاربيه ولحيته، وهل يعد ذلك فسوقًا
وضلالاً ولا تُقبل شهادته ولا إمامته في الصلاة وغيرها أم لا؟
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
أجوبة المنار على ترتيب
عدد الفتاوى السابقة
المعلم المذكور في السؤال الأول أصاب فيما قاله للتلاميذ، وأخطأ مَن عزله
بزعمه أنه خالف العلماء؛ فإنه إن خالف بعضهم فقد وافق آخرين لقوة دليلهم وإنما
يؤاخَذ مَن خالف الإجماع الصحيح ولا إجماع فيما ذُكر، ونختصر في بيان ذلك؛
لأنه تكرر في المنار فنقول:
(43) طهارة الإسبرتو أو الكحول
الإسبرتو طاهر بل مطهِّر يزيل النجاسات والأقذار التي لا يزيلها الماء وحده
إلا بمشقة كما هو ثابت بالتجرِبة، ولا يُتوضَّأ به؛ لأن الوضوء قد شُرع بالماء
وهو عبادة، وعلى من يدعي نجاسته أن يأتي بالدليل لا على من ينكرها لأنها
خلاف الاصل؛ فإن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد كنت أفتيت بطهارته في
جواب سؤال عن الأعطار الإفرنجية، وبأن الخمر التي يعلل بعضهم نجاسته -
بأخذه منها أو بِعَدّه منها - لا يقوم دليل على نجاستها الحسية التي تُزال بالماء،
وإنما هي رجس معنوي شرعي كالميسر والأنصاب والأزلام التي قُرنت بها في
الحكم، ونشر ذلك في (ص500-503) من مجلد المنار الرابع. وقد رد علينا
رجل من وجهاء الشام ففندنا رأيه في مقالة عنوانها (طهارة الكحول، والرد على
ذي فضول) نُشرت في (ص821 و866) من المجلد الرابع أيضًا.
ثم أراد بعض علماء الأزهر أن يرد على هذه المقالة وكاشفَنا برأيه في مجلس
فيه جماعة من كبراء علماء الأزهر منهم مفتي الديار المصرية المرحوم الشيخ أبو
بكر الصدفي، فناظرناه في ذلك مناظرة صرفتْه عن الرد الذي كان ينوي كتابته
ونشره، وذكرنا خبر هذه المناظرة في المنار.
ثم إن بعض علماء الهند من الحنفية أفتى بتحريم استعمال الكحول (إسبيرتو)
في الأصباغ والأدهان والعطور معللاً ذلك بكونه خمرًا نجسة، وعرض فتواه
على العلماء فقرظها له بعضهم وأرسلها إلينا فنشرناها بنصها ونصوص مَن وافقوه
عليها، ورددنا عليها ردًّا طويلاً نشرناه في المنار (راجع 657-679 من المجلد
23) ونشرنا لها ملحقًا طبيًّا صيدليًّا في الجزء الأول من المجلد 24.
(44) المسح على الجورب
المسح على الجورب جائز، وقد بينا دليله في مواضع من المنار، ولعالم
الشام الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى رسالة في ذلك، فيحسن أن
تراجعوها.
وقد اشترط بعض الشافعية في جواز المسح على الجورب أن يكون صفيقًا لا
يشفّ وأن يكون منعلاً كما ذكره الشيخ أبو اسحاق في المهذَّب. ولكن قال النووي
في شرحه ما نصه: والصحيح - بل الصواب - ما ذكره القاضي أبو الطيب والقَفَّال
وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان وإلا فلا،
وهكذا نقله الفوراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين.
ثم قال - في بيان مذاهب العلماء في المسألة -: وحكى أصحابنا عن عمر
وعلي (رضي الله عنهما) جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقًا، وحكوه عن
أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود. وعن أبي حنيفة المنع مطلقًا. وعنه أنه رجع
إلى الإباحة. اهـ. المراد منه.
فهذا كلام المحققين. فلماذا لا يأخذ ناظر تلك المدرسة إلا بقول المضيقين
على الأمة بغير دليل، في هذا العصر الذي نحن أحوج فيه إلى اليُسر ورفع الحرج
من الدين كما رفعه الله عنا؟ !
إن كثيرًا من المسلمين لا يجدون شيئًا من الضيق في الصلاة إلا غسل
الرجلين في الوضوء وإنني عندما أفتيت أول مرة في المنار بجواز مسح الجورب
كالخف أخبرني كثير من الوجهاء المترفين أنهم صاروا يواظبون على الصلاة!
(45) الصلاة بالنعلين وحسر الرأس
الصلاة بالنعلين جائزة بل كانت هي الأصل الذي عليه العمل الغالب في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم ولعل خلع النعلين لأجل الصلاة لم يصر عادة غالبة ثم
عامة إلا بعد أن صاروا يفرشون المساجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي
بأصحابه على التراب وقد يقع المطر في المسجد ويسجد في الماء والطين كما ترى
في حديث ليلة القدر في البخاري وغيره والأحاديث في الصلاة بالنعلين معروفة
كحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه
ويذكر بعضها في التفسيرالمأثور لآية (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف:
31) فراجع الدر المنثور للسيوطي، وفي كتب الفقه أيضًا.
وأما حسر الرأس في الصلاة فهو خلاف الأصل ولكنه جائز؛ إذ لا يُشترط
في صحة الصلاة من اللباس إلا ما يستر العورة، ويُجتنب الإكثار منه ويحظر إذا
كان فيه تشبُّه بغير المسلمين في صلاتهم، كما أنه يجب في حال الإحرام بالحج أو
العمرة.
(46) قراءة القرآن ومسّ المصحف وكتب الدين للمحدِث والحائض
قراءة القرآن لغير المتوضئ جائزة لا خلاف فيها، ومس المصحف له في
خلاف؛ فقد منعه الجمهور، والجُنُب أولى بالمنع، وذكر النووي في المجموع أن
الحكم بن عتبة وحمادًا - يعني ابن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة - وداود
جوّزوا مسه وحمله، وفي رواية عن الأولين جواز مسه بظهر الكف لا بباطنه.
وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فجمهور الفقهاء ومنهم الأربعة على
تحريمه على تفصيل لبعضهم في القليل منه كبعض آية وفيما لا يقصد منه التلاوة
قال النووي في المجموع: وقال داود: يجوز للجنب والحائض قراءة كل القرآن
ويُروى هذا عن ابن عباس وابن المسيب، قال القاضي وابن الصباغ وغيرهما
واختاره ابن المنذر. وقال مالك: يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ، وفي الحائض
روايتان عنه (إحداهما) تقرأ (والثانية) لا تقرأ. وقال أبو حنيفة: يقرأ الجنب
بعض آية ولا يقرأ آية وله رواية كمذهبنا. اهـ.
ثم ذكر أدلة المانعين والمجوّزين بالتفصيل ومنه يعلم أنه ليس للمحرمين دليل
قوي وقد قال الأذرعي - كما في حاشية المجموع المطبوع (ص159، ج2) - ما
نصه: مذهب داود قوي؛ فإنه لم يثبت في المسألة شيء يحتج به لنا كما أوضحه،
وقد نقل البيهقي في معرفة السنن والآثار عن الشافعي أنه قال: لا أحب للجنب أن
يقرأ القرآن لحديث لا يثبته أهل الحديث. وهذا المذهب هو اختيار ابن المنذر
والأصل عدم التحريم. اهـ.
وأقول: هذا الذي أعتقده ولكني أعمل بقول الجمهور احتياطًا وأدبًا مع القرآن
لا تحرُّجًا وتأثُّمًا، على أنني لا أحمل (الجناية) زمنًا طويلاً لا أستغني فيه عن
التلاوة. والتحقيق أن التحريم لا يثبت الا بدليل قطعي، وهذه المسألة لم يثبت فيها
(إلا) دليل ظني كما قال الأذرعي وهو من كبار فقهاء الشافعية المشددين في
المسألة. ومن أدلة المجوزين الآيات القرآنية في ذكر الله على كل حال، والقرآن
كله ذكر الله، وأفضل ما فيه توحيد الله وتسبيحه وتكبيره وحمده، وكل هذه الأذكار
جائزة للجنب والحائض بالإجماع، كما أن صلاة الجنب جائزة لفاقد الطهورين.
ومن هذا يُعلم أن كون تلاوة الجنب للقرآن ينافي تعظيمه - وهم من الأوهام؛
لأنه لو صح لكان كل ذكر لله من الجنب والحائض منافيًا لتعظيمه.
(47) جعل الكتاب والسنة للتبرك دون الهداية
مَن يقول إنه لم تبقَ للكتاب والسنة فائدة ولا حاجة للمسلمين إلا التبرك بهما،
وإن العمل يجب أن يكون بأقوال علماء مذاهب الأربعة دونهما - فهو من أكبر
المجرمين المحادّين لله ولرسوله والصادين عن الإسلام، وما ضاعت هداية الإسلام
وتبعها ضياع مُلك المسلمين وعزهم إلا بهذه الضلالة التي ابتدعها بعض المقلدين
الجاهلين لدين الله تعالى، والأدلة على هذا كثيرة، بسطناها في مواضع كثيرة من
المنار ولا سيما التفسير.
فعلماء المذاهب الأربعة المجتهدون وأمثالهم أدلاء للمسلمين على معاني الكتاب
والسنة ومعلمون لهما، لا حائلون دونهما، ولا صادّون عن دوام الاهتداء بهما،
ولم يقل أحد منهم للأمة إنني بينت لكم كل ما جاءكم به رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الله تعالى بما يغنيكم عن كتابه وسنة رسوله في بيانه، بل كانوا يقولون
لها: هذا ما ظهر لنا فإن رأيتم في الكتاب أو السنة ما يخالفه فخذوا به واضربوا
بكلامنا عرض الحائط.
وأما ما اشترطه الأصوليون والفقهاء في الاجتهاد فليس مما يتعذّر على مَن
يريده من الناس، وهم يشترطونه في المجتهد المطلق المستعد لاستنباط الأحكام في
جميع المسائل غير المنصوصة في الشريعة، لا في كل مَن يهتدي بالكتاب والسنة
ويعمل بنصوصهما في عقيدته وعبادته وآدابه وأخلاقه مستعينًا على ذلك بأقوال
المفسرين وحُفاظ السنة ولم يقل أحد منهم: (إنه لا يوجد أحد مطلقًا في هذا الزمان
يقدر على استنباط حكم من الأحكام) إلى آخر ما ذكر في السؤال، بل قالوا إن
الاجتهاد يتجزأ، وإننا نرى جميع المتفقِّهة - بكتب هذه المذاهب - يفتون الناس في
المسائل الحادثة بعد أزمنة أئمتهم ويسمون فتاويهم شرعية، وترى مثل الإمام
الغزالي يصرح في إحياء العلوم بأن أهم أمور الدين لا توجد في كتب الفقهاء وانظر
ما كتبناه في تفسير هذا الجزء من المقابلة بين المؤمنين والمنافقين وقد فصلنا هذه
المسألة مرارًا وحسبكم منها ما جمعناه في كتاب يسر الإسلام وكتاب الوحدة الإسلامية
ومحاورات المصلح والمقلد.
(48) الاستغفار عقب الصلاة ورفع الصوت
الاستغفار عقب الصلاة مشروع ومأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن
رفع الصوت به بدعة ولا سيما التزامه من جماعة المصلين؛ لأن مثل هذا من قبيل
الشعائر، لا يثبت إلا بنص من الشارع أو عمل الجماعة في العصر الأول؛ لأنهم
لا يلتزمون مثله إلا بتوقيف.
(49) الكلام الدنيوي في المسجد
الكلام المباح في غير المسجد يباح في المسجد إذا لم يكن فيه ما يشغل
المصلين عن صلاتهم أو يخل بحرمته كاللغط ورفع الأصوات والخصام ونشد
الضالة، وتجدون في الجزء الثالث من كتاب الآداب الشرعية والمنح المرعية
فصولاً في أحكام المساجد وآدابها وما تصان منه يحسن أن تطالعوها ومنها ما يُنكر
فيها من ليالي المواسم والموالد وهي من صفحة 393-429.
(50) مدح النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر عند صعود الخطيب المنبر
إنشاد الشعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم عند صعود الخطيب المنبر أو
قبيله بدعة ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة ولا في عمل السلف الصالح،
وصلاة الجمعة من شعائر الإسلام التي يجب فيها الاتباع بغير زيادة ولا نقصان.
وأما مدح النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر الذي لا غلو فيه في المسجد فهو حسن
كإنشاده في غير المسجد، ما لم يكن بهيئة مخصوصة دائمة تشبه المشروع، بحيث
يظن غير العالِم بالسنة أنه مشروع.
(51) قراءة المولد في المنارة
قراءة هذه القصص التي أُلفت في المولد النبوي بدعة في المنارة وغير المنارة
ولكن قراءتها في المنارة المبنية لأجل الأذان الشرعي توهم العوام أنها مشروعة دينًا،
فبهذا تكون بدعة دينية محضة، وأما قراءة قصة المولد - بحد ذاتها - كما تُقرأ
كتب العلم والحديث من غير أن تشتمل على منكر في موضوعها ولا في الاجتماع
لها فهي مستحبة، وقد بينا أقوال العلماء في احتفال المولد النبوي وتحقيق الحق فيها
في مقدمة كتابنا (ذكرى المولد النبوي) ، فراجعوه إن شئتم.
(52) الصلاة بالعمامة
كان النبى صلى الله عليه وسلم يعتمّ ويصلي بالعمامة وكذلك أصحابه؛
فالصلاة في العمامة أفضل للاتّباع، ولأنه في عرف المسلمين أكمل الأحوال في
زينة المؤمن للمسجد التي أُمرنا بها في قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)
(الأعراف: 31) .
(53) حلق اللحية والشارب
حلق اللحية مكروه للأمر بإعفائها في الحديث الصحيح وأما حلق الشاربين
فكرهه بعض العلماء والأفضل قصّهما. والأصل في ذلك حديث: (أحفوا الشارب
وأعفوا اللحى) رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا وهذان من
خصال الفطرة المتعلقة بالزينة وحسن الهيئة لا التعبد، والإعفاء الترك، والإحفاء
المبالغة في القص، وأوسطه أن يقص منهما ما يغطي الشفتين وهو المشهور عن
السلف، ومنهم مَن بالغ في ذلك ومَن حلقه ولكن قال الإمام مالك: حلق الشارب
بدعة ظهرت في الناس. والظاهر من إعفاء اللحية تركها على حالها، وقال بعضهم:
بل يُستحب قص ما زاد منها على قبضة اليد، ونقلوه عن بعض السلف، وصرحوا
بأن حلقها مكروه، وقال الإمام أحمد: لا بأس بحلق ما تحت حلقه من لحيته.
فترى كثيرًا من الحنابلة في هذا العصر يحلقون أسفل الذقن كله عملاً بهذه
الرواية، ولكن الحلق من الخارج محل الذبح ومن الداخل مساغ الطعام ومخرج
النفس. فحلق ما فوق الحلق وهو أسفل الذقن كله لا يدخل في معنى هذه الرواية،
وهو ينقص من جمال اللحية.
_______________________(31/442)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
لماذا تأخر المسلمون؟
ولماذا تقدم غيرهم؟
(2)
(بقية الكلام في خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم)
ولعل الأخ الشيخ بسيوني عمران يقول: إن هؤلاء أفراد قلائل فلا يجوز أن
نجعل الأمة الاسلامية مسؤولة عن مخازيهم وموبقاتهم.
الجواب على ذلك: أن الظلم يخص والبلاء يعم كما لا يخفى، ولكني لا أسلم
أن هؤلاء أفراد قلائل، وأن الأمة غير مسؤولة؛ إذ لو كان وراء هؤلاء أمة
يخشونها، ما تجاسروا على الاتِّجار بدينها بعد الاتجار بدنياها، بل كانوا لو اقترح
عليهم الفرنسيس اقتراحًا مضرًّا بملتهم وأمتهم ولم يقدروا على رده - اعتزلوا
مناصبهم، ولزموا بيوتهم، وكان الفرنسيس كلفوا بالعمل غيرهم، فإذا أبى الخلف
ما أباه السلف مرة بعد مرة - علم الفرنسيس أن لا فائدة في الإصرار؛ فعدلوا عن
دسيستهم البربرية وما أشبهها، ولكنهم مصرون عليها بسبب استظهارهم بأناس ممن
يزعمون أنهم (مسلمون) ، فهم يهدمون الإسلام بمعاول في أيدي أبنائه، ويقولون:
لسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير أفلا ترى كيف قالوا عن الظهير البربري: إنه
قد أصدره السلطان وحكومة المخزن. أفهذا هو الإسلام الذي يناشد الله الشيخ بسيوني
عمران بتأييد أهله؟ !
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:
117) .
ولا شك أن (المسلمين) الذين يبلغون هذه الدركات من الانحطاط وتتركهم
الأمة الإسلامية وشأنهم يلعبون بحقوقها يستحقون للإسلام التمحيص الذي هو فيه [1]
فإنما سمح الله بأن يستولي الأجانب على ديار المسلمين ويجعلوهم خولاً، ويغتصبوا
جميع حقوقهم، تعليمًا لهم وتهذيبًا وتصفيةً وتطهيرًا كما يصفَّى الذهب الإبريز بالنار.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41) .
لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون! وأن المسلم
إذا أراد أن يخدم ملته أو وطنه قد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه؛ إذ يحتمل
أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها
بعض الزلفى، وقد يكون أمله بها فارغًا.
ولله در الملك ابن سعود حيث يقول: ما أخشى على المسلمين إلا من
المسلمين، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين [2] .
وهو كلام أصاب كبد الصواب، فإنه ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد
المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين، منهم من تجسس
للأجانب على قومه، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه، ومنهم من سلّ لهم
السيف في وجه قومه، وأسال في خدمتهم دم قومه.
فأين إسلامهم وإيمانهم من قوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:
10) ، وقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) ، وقوله:
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 9) ،
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) .
أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله؟ أم بمثله تكون أخوة الإيمان وولايته
وولاية أهله؟ !
أو لمثل هؤلاء يعِد الله العز والنصر والتمكين في الأرض، وهم سعاة بين
أيدي الأجانب على ملتهم وقومهم، كلما عاتبهم الإنسان على خيانة اعتذروا بعدم
إمكان المقاومة، أو باتقاء ظلم الأجنبي أو بارتكاب أخف الضررين؟ وجميع
أعذارهم لا تتكئ على شيء من الحق. ولقد كانوا قادرين أن يخدموا ملتهم
بسيوفهم فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، فإن لم يستطيعوا
فبقلوبهم [3] فأبوا إلا أن يكونوا بطانة للأجانب على قومهم، وأبوا إلا أن يكونوا
روادًا لهم، وأبوا إلا أن يكونوا مطايا للأجانب على أوطانهم، وتراهم مع ذلك
وافرين ناعمي البال، متمتّعين بالهناء وصفاء العيش، وهم يأكلون مما باعوا من
تراث المسلمين، ومما فجروا من دماء المسلمين، وينامون مستريحين. مثل هؤلاء
ليس لهم وجدان يعذبهم من الداخل، ولا نجد من المسلمين مَن يجرؤ أن يعذبهم
من الخارج.
ولم نكن لنطلق الكلام إطلاقًا على العالم الاسلامي في هذا الموضوع؛ فإن
الأمة الأفغانية مثلاً لا يمكن أحدًا أن يحطب فيها في حبل الأجانب علنًا ويبقى حيًّا،
والنجديون لا يوجد فيهم مَن يجرؤ أن يمالئ الأجانب على قومه، والمصريون قد
ارتقت تربيتهم السياسية كثيرًا عن ذي قبل، فأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي
أو تفضيل حكم الأجنبي خطرًا عليه. فأما في سائر بلاد الإسلام فمن شاء من
المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر بالعصوبة لعدو دينه وبلده فلا يخشى شرًّا، ولا
يحاذر قلقًا ولا أرقًا!
أفلمثل هؤلاء يقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (النور: 55) ؟ !
حاش لله أن يكون تعالى عنى بهؤلاء (المسلمين) الذين يخونون ملتهم
ويسعون بين يدي أعدائها ويناصبون إخوانهم العداوة ابتغاء مرضاة الأجانب
والحصول على دنيا زائلة وحطام فانٍ، كيف وقد قرن الإيمان بلازمه وهو عمل
الصالحات؟ ! ، بئسما شَرَوْا به أنفسهم. وكذلك لا يعني الله بهؤلاء المسلمين الذين
إن لم يكونوا خامروا على قومهم، وسعوا بين أيدي الأجانب في خراب أمتهم،
وأوطئوا مناكبهم لركوب الغريب الطامح - فإنهم اكتفوا من الإسلام بالركوع
والسجود والأوراد والأذكار وإطالة السبحة والتلوم في السجدة، وظنوا أن هذا هو
الإسلام، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والأخرى لما كان
القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد، والإيثار على النفس، والصدق والصبر،
ونجدة المؤمن لأخيه، والعدل والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق. ولو كان هذا
كافيًا لأجل التحقق بالإسلام لما قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (التوبة: 24) [4] .
أفيقدر أخونا الشيخ بسيوني عمران أو غيره أن يقول: إن المسلمين اليوم - إلا
النادر الأندر، والكبريت الأحمر - يفضلون الله ورسوله على آبائهم وأبنائهم
وإخوانهم وأزواجهم وتجارتهم وأموالهم ومساكنهم؟ أو يؤْثِرون حب الله ورسوله
- وإنما حب الله ورسوله إقامة الإسلام - على الجزء اليسير من أموال اقترفوها
وتجارة يخشون كسادها؟ !
لنعمل هذه التجربة.. فبضدها تتبين الأشياء.
لنفرض أن مسألة البربر دخلت في طور النجاح، وانتدب البابا الكاثوليك
الذين في العالم لبذل الأموال اللازمة لهذا التحويل الذي تتوخاه فرنسة في البربر من
دين الإسلام إلى دين النصرانية، فكم مليونًا تظن من الجنيهات يُدرّ على المبشرين
والرهبان والراهبات لبناء الكنائس والمدارس والملاجئ والمستشفيات ومراكز
الأسقفيات وما أشبه ذلك - لإتمام هذا العمل الذي تضم به الكثلكة ثمانية ملايين من
البرابر إلى الأربعمائة مليون كاثوليكي الذين في العالم؟
لا شك أن الجواب يكون: عدة ملايين تجمع في بضعة أشهر.
فإن قيل للبروتستانت: تعالَوْا فقد أذناكم بتنصير البرابرة فابذلوا في هذه
السبيل ما أمكنكم، فإنها تُدرّ حينئذ الملايين بقدر ضعفي ما يُدرّ من الكاثوليك وفي مدة
أقصر من المدة التي يجتمع فيها المال الذي يجود به الكاثوليك!
فلنقل للمسلمين: إن البرابرة صاروا على شفا الخروج من الإسلام، وإن
الأس في هذا الصبوء عن دين الاسلام هو الجهل. فعلينا أن نرسل إليهم علماءً
ووعاظًا ليتفقهوا في الدين، وأن نبني لهم المساجد والمدارس والكتاتيب والملاجئ
إلى غير ذلك من الوسائل التي تمسك بحجزاتهم عن مفارقة الإسلام والمسلمين.
فكم تظن المبلغ الذي يجود به المسلمون بعد اللتيا والتي لهذا العمل؟ لا أظن
أنهم يجودون بما يتجاوز جزءًا من مائة مما يبذله الكاثوليك أو البروتستانت!
فهذه هي حمية المسيحيين على دينهم، وهذه هي حمية المسلمين. ومن الناس
من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وقصورهم عن مباراة سواهم، ولو تأمل في
هذه الفروق في النهضة والحمية لوجد عندها الجواب الكافي.
ومن أغرب الأمور أن نرى الأوربيين ودعاتهم وتلاميذهم من الشرقيين بعد
هذا كله يتهمون المسلمين بالتعصب الديني، وينبزونهم بلقبه، وينتحلون لأنفسهم
التساهل في الدين! إن هذا - والله - لعجب عُجاب.
وها أنا الآن في كتابتي هذه التي معناها الدفاع لا التجاوز، والأستاذ الأكبر
صاحب المنار، وعبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين، والأستاذ
صاحب مجلة الفتح وغيرنا من الرجال الذين يبغون منع الاعتداء على الإسلام،
وينادون المسلمين لينتبهوا للخطر المحدق بهم - متهمون بالتعصب الديني
ومنبوزون بهذه الكلمة، لا بين غير المسلمين فقط، بل بين المسلمين الجغرافيين أيضًا
- أعني الذين يتباهون بأن سياستهم (لا دينية) وطالما صرحوا بأنهم لا يقيمون للدين
وزنًا، وطالما تزلفوا إلى المسيحيين بكونهم هم لا يدافعون عن الدين الإسلامي كما
يدافع زيد وعمرو.
فالمسلم إذًا لا يخلص من لقب (متعصب) إلا إذا سمع أن الفرنسيس
يحاولون تنصير البربر فمر بذلك كأن لم يسمع شيئًا، وإلا إذا سمع أن الهولانديين
نصَّروا مائة ألف - وقد زعم أحد نواب البرلمان الهولاندي أنهم فازوا بتنصير
مليون مسلم من مسلمي الجاوي - وهز كتفه قائلاً: أنا لا يهمني أكان الجاوي مسلمًا أم
مسيحيًّا.. هنالك (المسلم) يصير (راقيًا) ويعد (عصريًّا) ويقال فيه كل خير.
وأما الأوربي فله أن يبذل القناطير المقنطرة على بث الدعاية المسيحية بين
المسلمين، وله أن يحميها بالمدافع والطيارات والدبابات، وله أن يَحُول بين
المسلمين ودينهم بالذات وبالواسطة، وله أن يدس كل دسيسة ممكنة لهدم الإسلام في
بلاد الإسلام، وليس عليه حرج في ذلك، ولا يسلبه هذا العمل صفة (راقٍ)
و (متمدن) و (عصري) وأغرب من هذا أنه لا يسلبه نعت (مدني) و (لا ديني)
و (متساهل) !
وهؤلاء (المسلمون الجغرافيون) برغم هذه الشواهد الباهرة للأعين، وبرغم
ما عملته جمهورية فرنسة (اللادينية) في قضية البربر لمآرب دينية كاثولكية،
وبرغم حماية هولاندة لمبشري الإنجيل في الجاوي، وبرغم قرار الحكومة البلجيكية
رسميًّا إكمال تنصير أهل الكونغو، وبرغم منع الإنكليز في الأوغاندة وفي دار
السلام - وكذا السودان - بث الدعاية الإسلامية بين الزنوج، وبرغم أمور كثيرة - لا
يسعنا الآن شرحها - لا يزالون يخدعون المسلمين قائلين لهم: إن أوربة قد رفست
الدين برجلها وسارت على خطة لا دينية، وبذلك قد نجحت، ونحن لن نفلح ما دمنا
سائرين على خطة إسلامية! [5] .
قد قام ببث هذه السفسطة أناس في تركيا ووجدوا ممن تلقاها بالقبول عددًا
كبيرًا. وترى أناسًا في مصر والشام والعراق وفارس يقولون بها ويكابرون في
المحسوس ولا يبالون؛ لأنهم يجدون على كل الأحوال من الأغرار مَن يصدقهم.
***
أهم أسباب تأخر المسلمين
فمن أعظم أسباب تأخر المسلمين: الجهل، الذي يجعل فيهم مَن لا يميز بين
الخمر والخل، فيتقبل السفسطة قضية مسلَّمة ولا يعرف أن يرد عليها.
ومن أعظم أسباب تأخر لمسلمين: العلم الناقص، الذي هو أشد خطرًا من
الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ولم يتفلسف عليه
فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري!
وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون. ...
أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين: فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث
عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة، وبها أدركوا ما أدركوه من
الفلاح، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف، ولله در شوقي إذ قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين: فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن
هؤلاء - إلا مَن رحم ربك - أن الأمة خُلقت لهم، وأن لهم أن يفعلوا بها ما
يشاؤون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة
بطشوا به عبرة لغيره. وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء المتقلبون في
نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح
بحجة أنه شقَّ عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة.
ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أَوَد الأمراء. وكانوا في الدول الإسلامية
الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون
خطوات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة فمن بعده
إلى الصواب. وهكذا كانت تستقيم الأمور؛ لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين
بالزهد، متحلين بالورع، متخلين عن حظوظ الدنيا، لا يهمهم أغضِب الملك الظالم
الجبار أو رضي. فكان الخلائف والملوك يرهبونهم ويخشون مخالفتهم لما يعلمون
من انقياد العامة لهم، واعتقاد الأمة بهم، إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعد هؤلاء
خَلْف اتخذوا العلم مهنة للتعيُّش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من
الأمراء أشنع موبقاتهم، وأباحوا لهم باسم الدين خرق حدود الدين، هذا والعامة
المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلو مناصبهم، يظنون فُتياهم
صحيحة، وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب،
والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتنمَّر. وكل هذا إثمه في رقاب هؤلاء العلماء [6] .
ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين: الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم
في الشجاعة واحتقار الموت، يقوم واحدهم للعشرة وربما للمائة من غيرهم. فالآن
أصبحوا - إلا بعض قبائل منهم - يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام
في قلب واحد. ومن الغريب أن الإفرنج المعتدين لا يهابون الموت في اعتدائهم
هيبة المسلمين إياه في دفاعهم. وأن المسلمين يرون الغايات البعيدة التي يبلغها
الإفرنج في استحقار الحياة والتهافت على الهَلَكَة في سبيل قوميتهم ووطنهم، ولا
تأخذهم من ذلك الغيرة، ولا يقولون: نحن أولى من هؤلاء باستحقار الحياة. وقد قال
الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء: 104) .
وقد انضم إلى الجبن والهلع اللذين أصابا المسلمين: اليأس والقنوط من رحمة
الله، فمنهم فئات قد وقر في أنفسهم أن الإفرنج هم الأعلَوْن على كل حال، وأنه لا
سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه، وأن كل مقاومة عبث، وأن كل مناهضة خرق
في الرأي. ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر في صدور المسلمين أمام الأوربيين
إلى أن صار هؤلاء يُنصَرون بالرعب، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من
المسلمين. وهذا بعكس ما كان في العصر الأول:
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
نسي المسلمون الأيام السالفة التي كان فيها العشرون مسلمًا لا غير يأتون من
(برشلونة) إلى (فراكسيمة) من سواحل فرنسة ويستولون على جبل هناك
ويبنون به حصنًا، ويتزايد عددهم حتى يصيروا مائة رجل فيؤسسون هناك إمارة
تعصف ريحها بجنوبي فرنسة وشمالي إيطالية، وتهادنها ملوك تلك النواحي
وتخطب ولاءها، وتستولي على رؤوس جبال الألب، وعلى المعابر التي عليها
الطرق الشهيرة بين فرنسة وإيطالية، وتضطر جميع قوافل الإفرنج أن تؤدي
للعرب المكوس لأجل المرور، ثم تتقدم هذه الدولة العربية الصغيرة في بلاد
(البيامون) مسافات بعيدة إلى أن تبلغ سويسرا وبحيرة كونستانزة في قلب أوربة،
وتضم القسم العالي من سويسرة إلى أملاكها، وتبقى خمسًا وتسعين سنة مستولية
على هذه الديار إلى أن تتألب الأمم الإفرنجية عليها، ولا تزال تناجزها إلى أن
استأصلتها، وكانت تلك العصابة العربية يوم انقرضت لا تزيد على ألف وخمسمائة
رجل (وقد نشرنا تفصيل خبرها في المجلد 24 من المنار) .
***
شبهات الجهلاء الجبناء وردّها
من السخفاء من يقول: نعم، قد كان ذلك لكن قبل أن يخترع الإفرنج آلات
القتال الحديثة، وقبل المدافع والدبابات والطيارات، وقبل أن صار الإفرنج إلى ما
صاروا إليه من القوة المبنية على العلم. وهذا القول هو بمنتهى السخف والسفه
والحماقة، فإن لكل عصر علمًا وصناعة ومدنية تشاكله، وهي فيه كما هي العلوم
والصناعات والمدنية الحاضرة في هذا العصر. وأمور الخلق كلها نسبية. ولقد
كانت في العصر الذي نتكلم عنه آلات قتال ومنجنيقات ودبابات ونيران مركبة
تركيبًا مجهولاً اليوم، وكانت في ذلك الوقت كما هي المدافع والرشاشات وقنابر
الديناميت وما أشبه ذلك في هذه الأيام.
على أنه ليست الدبابات والطيارات والرشاشات هى التي تبعث العزائم،
وتوقد نيران الحمية في صدور البشر، بل الحمية والعزيمة والنجدة هي التي تأتي
بالطيارات والدبابات والقنابر. وما هذه إلا مواد صماء لا فرق بينها وبين أي حجر،
فالمادة لا تقدر أن تعمل شيئًا من نفسها، وإنما الذي يعمل هو الروح فإذا هبت أرواح
البشر وتحركت عزائمهم فعند ذلك تجد الدبابات والطيارات والرشاشات والغواصات،
وكل أداة قتال ونزال على طرف الثمام.
ويقولون: إلا أن هذا ينبغي له العلم الحديث، وهذا العلم مفقود عند المسلمين؛
فلذلك أمكن الإفرنج ما لم يمكنهم.
(الجواب) أن العلم الحديث أيضًا يتوقف على الفكرة والعزيمة، ومتى
وجدت هاتان وُجد العلم الحديث ووجدت الصناعة الحديثة. أفلا ترى أن اليابان إلى
حد سنة 1868 كانوا أمة كسائر الأمم الشرقية الباقية على حالتها القديمة، فلما
أرادوا اللحاق بالأمم العزيزة تعلموا علوم الأوربيين، وصنعوا صناعاتهم، واتسق
لهم ذلك في خمسين سنة. وكل أمة من أمم الإسلام تريد أن تنهض وتلحق بالأمم
العزيزة يمكنها ذلك وتبقى مسلمة ومتمسكة بدينها، كما أن اليابانيين تعلموا علوم
الأروبيين كلها وضارعوهم ولم يقصروا في شيء عنهم، ولبثوا يابانيين ولبثوا
متمسكين بدينهم وأوضاعهم. وأيضًا فمتى أرادت أمة مسلمة أدوات أو أسلحة حديثة
ولم تجدها؟ إن ملاك الأمر هو الإرادة فمتى وُجدت الإرادة وجد الشيء المراد.
فلو أن أمة من أمم الإسلام أرادت أن تتسلح لوجدت السلاح الحديث اللازم
بأنواعه وأشكاله من ثاني يوم. ولكن اقتناء السلاح ينبغي له سخاء بالأموال، وهم
لا يريدون أن يبذلوا، ولا أن يقتدوا بالإفرنج واليابان في البذل، بل يريدون
النصرة بدون سلاح وعتاد، أو السلاح والعتاد بدون بذل أموال، وإذا تغلب العدو
عليهم من بعد ذلك صاحوا قائلين: أين المواعيد التي وعدنا إياها القرآن في قوله:
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) كأن القرآن ضمن للمؤمنين
النصر بدون عمل وبدون كسب وبدون جهاد بالأموال والأنفس، بل بمجرد قولنا:
إننا مسلمون، أو بمجرد الدعاء والتسبيح؟ .
وأغرب من ذلك بمجرد الاستغاثة بالأولياء، فأصبح الكثير من المسلمين
وهم عزل من السلاح الحديث، وغير مجهزين بالعلم اللازم لاستعماله لا يقومون
للقليل من الإفرنج المسلحين المجهزين، وصاروا إذا التقى الجمعان تدور الدائرة في
أغلب الأحيان على المسلمين. فتوالى هذا الأمر عليهم مدة طويلة إلى أن فقدوا كل ثقة
بنفوسهم، واستولى عليهم القنوط، ودب فيهم الرعب، وألقوا بأنفسهم إلى العدو،
وبعد أن كانوا مسلمين صاروا مستسلمين، وقد ذهلوا عن قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا
وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 139-140) ونسوا أنه لا يجوز أن
يتطرق اليأس إلى قلب أحد لا عقلاً ولا شرعًا، ولا سيما المسلم الذي يخبره دينه بأن
اليأس هو الكفر بعينه. وغفلوا عن قوله تعالى في سلفهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (آل عمران: 173-174) الآيات.
فتجدهم إذا استنهضتهم لمعاونة قوم منهم يقاتلون دولة أجنبية تريد لتمحوهم
كان أول جواب لهم: أية فائدة من بذل أموالنا في هذا السبيل وتلك الدولة غالبة لا
محالة؟ ! ولو تأملوا لوجدوا أن الاستسلام لا يزيدهم إلا ويلاً، ولا يزيد العدو إلا
استبدادًا وجبروتًا، سنة الله في خلقه. ولو فكروا قليلاً لرأوا أن هذا الشح بالمال
على إخوانهم الذين في مواطن الجهاد لم يكن توفيرًا وإنما كان هو الفقر بعينه؛ لأن
الأمة المستضعَفة لا تعود حرة في تجارتها واقتصادياتها، بل يمتص العدو الغالب
عليها كل ما فيه علالة رطوبة في أرضها، ولا يترك للأمة المستضعفة إلا عظامًا
يتمششونها، من قبيل (قوت لا يموت) وكثيرًا ما تحصل مساغب ويموتون جوعًا
كما يقع كثيرًا في جزائر الغرب والهند وغيرها، ترى المجاعات واقعة في الهند
ولا يموت منها ولا إنكليزي، وتراها تشتد في الجزائر ولا يموت بها إلا المسلم.
وما السبب في ذلك إلا أن الأجانب قد استأثروا بخيرات البلاد ولم يتركوا للمسلمين
إلا الفقر. فقام المسلمون اليوم يعتذرون عن عدم بذل الأموال لمساعدة إخوانهم بعدم
وجودها، وهذا صحيح إلى حد محدود، وذلك أنهم بخلوا بها في الأول فجنوا من
بخلهم على الجهاد الذل والخنوع أولاً، والفقر والجوع ثانيًا. فإن من سنن الله في
أرضه أن الذل يردفه الفقر، وأن العز يردفه الثراء، والمثل العربي يقول: مَن
عَزَّ بَزَّ.
والشاعر العربي الإياديّ يقول:
لا تذخروا المال للأعداء إنهمُ إن يظهروا يأخذوكم والتلاد معا
هيهات لا خير في مال وفي نعم ... قد احتفظتم بها إن أنفكم جُدعا
والمتنبي يقول:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فالمسلمون عز عليهم المال ففقدوه، وعزت عليهم الحياة ففقدوها، وأبى الله
إلا تصديق كلام النبي الموحى إليه حيث يقول: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما
تداعى الأكلة على القصاع) قالوا: أوَمن قلة فينا يومئذ يا رسول الله؟ قال: (لا،
ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع من قلوب أعدائكم؛ من
حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) .
هذا الحديث كان رواه لي الشيخ الكتاني الفاسي رحمه الله يوم لقيته في المدينة
المنورة منذ ثماني عشرة سنة، ثم قرأته في الكتب، واستشهدت به في مقدمة
(حاضر العالم الإسلامي) ، وألفاظه تختلف من رواية عن رواية. فالأستاذ صاحب
المنار أمتع الله بطول حياته هو الأدرى بأصح رواياته [7] ، ومعناه ظاهر؛ وهو: أن
المسلمين يأتي عليهم يوم يصيرون فيه مأكلة وتمتد إليهم الأيدي من كل جهة، فهذا
العصر الذي نحن فيه هو ذلك اليوم، وأن المسلمين لا يكون عيبهم يومئذ من قلة
العدد، بل يكون عددهم كثيرًا وإنما لا تغنيهم كثرتهم شيئًا؛ لأن الكثرة بنفسها لا
تفيد إن لم تقترن بجودة النوع، والكمية لا تغني عن الكيفية، وعلة العلل في
ضعف المسلمين ذلك اليوم هو الجبن والبخل، صريح ذلك في قوله صلى الله عليه
وسلم: (من حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) .
ومن المعلوم أن الإفراط في حب الدنيا يحرم الإنسان التمتع بها، وأن الغلو
في المحافظة على الحياة تكون عاقبته زيادة التعرض للهلاك، هذه من سنن الله في
خلقه أو من النواميس الطبيعية كما يقال في هذا العصر.
فالقرآن يأمر المسلم بأن يحتقر الحياة والمال وكل عزيز في سبيل الله، ويأمر
المسلم أن يثبت ولا ييأس، وأن يصبر ولا يتزلزل مهما أصيب.
وتراه يقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:
146) .
هكذا يريد الله ليكون المسلمون، فإن لم يكونوا هكذا بصريح نص القرآن،
فكيف يستنجزون الله عداته بالنصر والتمكين، والسعادة والتأمين؟ !
***
ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين
ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين: الجمود على القديم، فكما أن آفة
الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم، بدون نظر فيما هو ضار منه
أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئًا، ولا
ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم ظنًّا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر،
وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفار.
فقد أضاع الإسلامَ جاحدٌ وجامدٌ.
أما الجاحد فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين، ويخرجهم
عن جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه
بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدًا فيذوب فيه ويفقد هويته.
وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين،
وأنه هو يريد أن يبرأ منهم، لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس، الوضيع النفس،
أو عن الذي يشعر أنه في وسط قومه دنيء الأصل، فيسعى هو في إنكار أصل أمته
بأسرها؛ لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ليس له نصيب من تلك الأصالة، وهو
مخالف لسنن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمة ميلاً طبيعيًّا للاحتفاظ بمقوماتها
ومشخصاتها من لغة وعقيدة وعادة وموسيقى وطعام وشراب وسكنى وغير ذلك.
محافظة الشعوب الإفرنجية على قومياتها
فلننظر إلى أوربة - لأنها هي اليوم المثل الأعلى في ذلك - فنجد كل أمة فيها
تأبى أن تندمج في أمة أخرى. فالإنكليز يريدون أن يبقوا إنكليزًا، والإفرنسيس
يريدون أن يبقوا إفرنسيسًا، والألمان لا يريدون أن يكونوا إلا ألمانًا، والطليان لا
يريدون أن يكونوا إلا طليانًا، والروس قصارى همهم أن يكونوا روسًا، وهلم جرًّا.
ومما يزيد هذا المثال تأثيرًا في النفس أن الأيرلنديين مثلاً أمة صغيرة مجاورة
للإنكليز، وقد بذل هؤلاء جميع ما يتصوره العقل من الجهود ليدمجوهم في سوادهم
مدة تزيد على سبعمائة سنة، فأبوا أن يصيروا إنكليزًا، ولبثوا أيرلنديين بلسانهم
وعقيدتهم وأذواقهم وعاداتهم.
وفي فرانسة نفسها تأبى أمة (البريتون) إلا أن تحافظ على أصلها. وفي
جنوبي فرانسة جيل يقال لهم (الباشكنس) احتفظوا بقوميتهم تجاه القوط ثم تجاه
العرب، ثم تجاه الأسبان، ثم تجاه الفرنسيس. وجميعهم مليون نسمة، وهم لا
يزالون على لغتهم وزيهم وعاداتهم وجميع أوضاعهم.
والفلمنك يأبون أن يجعلوا اللغة الإفرنسية لغتهم، والثقافة الإفرنسية ثقافتهم،
ولم يزالوا يصيحون في بلجيكا حتى اضطرت دولة بلجيكا إلى الاعتراف بلغتهم لغة
رسمية.
وفي سويسرا ثلاثة أقسام: القسم الألماني وهو مليونان وثمانمائة ألف،
والقسم المتكلم بالفرنسية وهو ثمانمائة ألف، والقسم المتكلم بالطليانية وهو أكثر
قليلاً من مائتي ألف، وكل قسم منها محافظ على لغته وقوانينه ومنازعه مع أنهم
كلهم متحدون في مصالحهم السياسية ويعيشون في مملكة واحدة.
وإن الدانمرك وبلاد الإسكنديناف وهولاندة فروع من الشجرة الألمانية لا
مراء في ذلك، لكنهم لا يريدون الاندماج في الألمان ولا العدول عن قومياتهم، وبقي
(الشيك) مئين من السنين تحت حكم الألمان وبقوا تشيكًا، واستأنفوا بعد الحرب
العامة استقلالهم السياسي، بعد أن حفظوا لسانهم واستقلالهم الجنسي مدة خمسة
قرون.
وقد هذب الألمان أمة المجر وعلّموهم ورقوهم ولكنهم لم يتمكنوا من إدماجهم
في الألمانية، فتجدهم أحرص الأمم على لغتهم المغولية الأصل وعلى قوميتهم
المجرية.
ولبثت الروسية العظيمة من مائتين إلى ثلاثمائة سنة تحاول إدخال بولونية في
الجنس الروسي، وحمل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة؛ بحجة أن العرق
السلافي يجمع بين البولونيين والروس، ففشلت جميع مساعيها في إدماج البولونيين
فيها، وعاد هؤلاء بعد الحرب العامة أمة مستقلة في كل شيء؛ وذلك لأنهم
لم يتخلوا طرفة عين عن قوميتهم.
وليس من العجب أن لا تريد أمة عددها 30 مليونًا الاندماج في غيرها، ولكن
الأستونيين - وهم مليونان فقط - انفصلوا عن الروسية ولم يقبلوا الاندماج فيها
وأحيوا استقلالهم ولسانهم المغولي الأصل، وجعلوا له حروفًا هجائية. ومثلهم أهالي
فنلاندة المنفصلون عن الروسية أيضًا. وقد خابت مساعي الروس في إدماج
اللتوانيين من هذه الأمم البلطيكية في الجنس الروسي، وانتفضوا بعد الحرب العامة
أمة مستقلة كما كانوا مستقلين قوميًّا، وجميعهم أربعة ملايين. وأقل منهم جيرانهم
اللتوانيون الذين هم مليونان لا غير، ومع هذا قد انفصلوا بعد الحرب وأسسوا
جمهورية كسائر الجمهوريات البلطيكية؛ لأنهم من الأصل لبثوا محافظين على
لغتهم وجنسهم.
وقد عجز الروس من جهة - كما عجز الألمان من جهة أخرى - عن إدخال
هذه الأقوام في تراكيبهم القومية العظيمة؛ لأن كل شعب مهما كان صغيرًا لا
يرضى بإنكار أصله، ولا بالنزول عن استقلاله الجنسي.
وقد حفظ الكرواتيون استقلالهم الجنسي مع إحاطة أمتين كبيرتين بهم هما
اللاتين والجرمان.
وحفظ الصربيون استقلالهم الجنسي مع سيادة الترك عليهم مدة قرون، ولم يزل
الأرناؤوط أرناؤوطًا منذ عهد لا يعرف بدؤه، وهم بين أمتين كبيرتين اليونان
والصقالبة؛ أي السلاف.
وكذلك البلغار أبوا إلا أن يبقوا بلغارًا فيما بين الروم والسلاف واللاتين، ثم
جاءهم الترك فتعلموا التركية لكنهم بقوا بلغارًا.
ولا أريد أن أخرج في الاستشهاد عن أوربة؛ لأني إن خرجت عن أوربة
قالت تلك الفئة الجاحدة: نحن لا نريد أن نجعل قدوة لنا أممًا متأخرة مثلنا!
فالأمم التي استشهدنا الآن بها كلها أوربية - وكلها متعلمة راقية - وكلها
ذوات بلدان ممدنة منظمة، وكلها عندها الجامعات، والأكاديميات، والجمعيات
العلمية والجيوش والأساطيل.. إلخ.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هكذا في الأصل، ومعنى يستحقون هنا: يستوجبون؛ على قول الفارابي واللام في - للإسلام - للتقوية، والمراد به: المسلمون، والمعنى: يستوجبون بجرائمهم تمحيص المسلمين في جملتهم ليميز الله الخبيث من الطيب، ويفسره ما بعده، وهو مستنبط من قوله تعالى - في سياق غزوة أحد -: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ) (آل عمران: 141) ، فليراجع السياق من سورة آل عمران وتفسيره المؤثر في الجزء الرابع من تفسير المنار.
(2) وقال في محفل حافل بحجاج الأقطار - وقد طالبه مصري أزهري بمحاربة الإنكليز والفرنسيين المعتدين على المسلمين ذاكرًا عداوتهم لهم -: الإنكليز والفرنسيس معذورون إذا عادونا؛ لأنه لا يجمعنا بهم جنس ولا دين ولا لغة ولا مصلحة، ولكن المصيبة التي لا عذر لأحد فيها أن المسلمين أصبحوا أعداء أنفسهم، وأنا - والله - لا أخاف الأجانب، وإنما أخاف من المسلمين، فلو حاربت الإنكليز لما حاربوني إلا بجيش من المسلمين! .
(3) إشارة إلى حديث: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن كلهم، وهذا في وجوب تغيير المنكرات يفعلها المسلم، فماذا يقال في مقاومة هدم الإسلام من أساسه؟ ! .
(4) راجع تفسير الآية وما قبلها في ص224 - 242 من الجزء العاشر من تفسير المنار.
(5) وقد صدقوا، لكن بمعنى أننا لن نفلح ما دمنا على هذه الخطة التي نكذب بتسميتها إسلامية، وإنما نفلح إذا قمنا بحقوق إسلامنا كما يقومون بحقوق دينهم أو أشد.
(6) وفينا هذه المسألة حقها في المنار وأهمه مقالة في المجلد التاسع (ص357) عنوانها: (حال المسلمين في العالمين ودعوة العلماء إلى نصيحة الأمراء والسلاطين) ، أنحينا فيها باللائمة على علماء هذا العصر لتقصيرهم في نصيحة الملوك والأمراء، ويليها آثار عن السلف في ذلك نُشرت في عدة أجزاء من هذا المجلد.
(7) الحديث رواه أبو داود في سننه والبيهقي في دلائل النبوة عن ثوبان مرفوعًا بلفظ: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السبيل، وسينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن) قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) قوله صلى الله عليه وسلم: (تداعى) أصله: تتداعى؛ أي تجتمع ويدعو بعضها بعضًا لسلب مالكم كما تتداعى الأكلة - وهي جمع آكِل كالفعلة جمع فاعل - إلى قصعة الطعام. والغثاء - بالضم -: ما يحمله السيل ويلقيه من الزَّبَد والعيدان ونحوها، ويُضرب مثلاً لما لا قيمة له ولا فائدة والوهن - بالنون -: الضعف، وإنما سأله السائل عن سببه فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن سببه حب الحياة الدنيا ولذاتها الخسيسة وإيثارها على الجهاد في الدفاع عن الحقيقة وإعلاء كلمة الله، وكراهية الموت ولو في سبيل الحق حرصًا على هذه الحياة الخسيسة. وقد أوردت هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) (الأنعام: 65) الآية وأوردت قبله حديث ثوبان الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم (أي ملكهم وسلطانهم ومستقر قوتهم) وإن ربي قال لي: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة (أي قحط) وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها - أو قال: مَن بين أقطارها - حتى يكون بعضه يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا) ورواه أحمد وأصحاب السنن إلا النَّسائي بزيادة على رواية مسلم هذه، وكلا الحديثين من أعلام النبوة التي ظهر بها صدقه صلى الله عليه وسلم بعد قرون من وفاته ورفع روحه إلى الرفيق الأعلى، فما ذهب شيء من ملك المسلمين إلى أيدي الأجانب إلا بخذلان بعضهم لبعض ومساعدتهم للأجانب على أنفسهم، وفي هذه الرسالة للأمير شكيب بعض الشواهد من مسلمي هذا العصر على ذلك. وراجع الموضوع بتفصيله في تفسير الآية المشار إليها من ص490-501، ج7، تفسير.(31/449)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مناظرة في الجامعة المصرية
في المدنيتين الفرعونية والعربية
(وأيتهما تختار مصر هذا العصر؟ !)
مقدمة وتمهيد:
كنت كتبت في سنة 1329 بضع مقالات عنوانها (المسلمون والقبط) نشرتها
في جريدة المؤيد وفي مجلة المنار معًا، كان الداعي إلى كتابتها الخلاف والتنازع
الذي أهب وبعثهم على عقد (مؤتمر قبطي) عام لتقرير ما يرونه من حقوقهم في
هذه البلاد وحكومتها، وما يدعونه من هضم المسلمين لها، واضطرار المسلمين إلى
عقد مؤتمر آخر سموه (المؤتمر المصري) معارضة لذلك المؤتمر وتخطئة له في
اسمه وموضوعه، بناءً على رأيهم، وفي وجوب وحدة الشعب المصري، وعدم جواز تفرُّقه وجعْله طوائف دينية.
بحثت في تلك المقالات في حال الشعب المصري بحثًا اجتماعيًّا أخلاقيًّا؛ أثبتُّ
فيه أن القبط أرقى من المسلمين بدرجات في جامعتهم الدينية، ورابطتهم الملية،
وتعاونهم على مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، وأنه - من ثم - كانت ثروتهم
النسبية أوفر، وعددهم في مصالح الحكومة أكثر، وكانوا معذورين أو جديرين
بارتقاء همتهم إلى تحويل حكومة هذه البلاد عن الصبغة الإسلامية إلى الصبغة
القبطية، باسم الجنسية والوطنية، وقلت يومئذ: إنهم قد غلطوا أو أخطئوا في المظهر
الذي ظهروا به في مؤتمرهم القبطي ومطالبهم القبطية فيه؛ لأنهم قد يوقظون به في
المسلمين (وهم الأكثرية الساحقة التي تمثل السيادة في البلاد) نعرة الجامعة الملية
التي ضعفت فيهم حتى تكاد تزول، وحينئذ تتحول ثوائب مدهم إلى جزر، وربحهم
في مساعيهم إلى خُسر. وقد اعتبروا بذلك وصاروا يدارون عواطف المسلمين بقدر
معلوم، وتحولت دعايتهم عن اسم الجنسية القبطية إلى المدنية الفرعونية، ويؤيدهم
في ذلك ساسة الاستعمار ودعاة النصرانية من الإفرنج عامة؛ ولذلك راجت هذه
الدعاية لدى ملاحدة المسلمين المتفرنجين، وأفراد غيرهم من السذج الغافلين،
فنشروها في الجرائد والمجلات المختلفة، وعقدوا لها مناظرة في كلية الحقوق من
الجامعة المصرية من عهد قريب باللغة الإنكليزية موضوعها:
أي المدنيتين ينبغي أن تختار مصر: آلمدنية الفرعونية، أم المدنية العربية؟
وكان الفلج فيها على ما قيل لنا للمدنية الفرعونية، فرأت لجنة المناظرات
والمحاضرات في تلك المدرسة أن تعقد مناظرة أخرى في هذا الموضوع باللغة
العربية، واختارت صاحب مجلة المنار لتأييد الجامعة العربية، ظنًّا منها - على ما
نقل إلينا - أنه إذا فشل ودحضت حجته لا يُرجى لأنصار المدنية العربية أن تنهض
لهم حجة على لسان غيره. وطفقوا يعرضون تأييد المدنية الفرعونية على أصحاب
اللسن والخلابة، فيأبونها حتى أجاب دعوتهم إليها الأستاذ لطفي جمعة المحامي
الخطيب الكاتب المشهور.
عُقدت المناظرة بعد المغرب من يوم الجمعة 21 رجب الماضي الموافق ليوم
12 من شهر ديسمبر الماضي، وكان الرئيس المنظم للاجتماع الأستاذ وحيد رفعت من
أستاذِي الجامعة، وكان المعضِّد للأستاذ لطفي جمعة - محمد أفندي أبو شقة من طلبة
الجامعة المصرية، والمعضد لصاحب المنار أحمد أفندي حسين من طلبة الجامعة
أيضًا.
كانت الكلمة الأولى لمناظرنا الأستاذ لطفي جمعة فبدأ كلامه بتخطئة لجنة
المناظرة في قولها: (المدنية الفرعونية) ، وقرر أن هذا التعبير لا يصح؛ لأن كلمة
(فرعون) لقب لبعض ملوك مصر الأولين، وقد تولى حكم مصر بعدهم ملوك
البطالمة وأمراء العرب، وآخرون لُقِّبوا بالسلاطين، وآخرون لقبوا بالخديويين، ثم
عادت حكومة البلاد الآن ملكية، فإذا صح أن تسمى مدنية هذه البلاد فرعونية في
عصر جاز أن تسمى في عصور أخرى سلطانية وخديوية وملكية، وهذا ما لا يقول
به أحد.
ثم قال: إن لهذه البلاد مدنية خاصة يجب أن تسمى (المدنية المصرية) ،
ولا يجوز أن تسمى فرعونية ولا عربية لا في الأزمنة الماضية ولا في هذا الزمن،
واحتج على ذلك بأن المصري الذي ذهب إلى بلاد العرب كالحجاز أو غيرها من
الأقطار، يقال: فلان المصري لا العربي. وذكر أن المدنية المصرية تمتاز على
جميع مدنيات الشعوب بمزايا خاصة بالمصريين لا يساويهم فيها أحد. وذكر منها
سمرة اللون وخفة الروح وحسن الفكاهة والظرف في النكت المليحة. وأطال في
وجوب محافظة المصريين على تسمية مدنيتهم مصرية وعدم نسبتها إلى العربية،
وذكر أن تدينهم بالإسلام لا يقتضي أن يكونوا عربًا في مدنيتهم وجنسيتهم، فإن
الإسلام دين عام يشمل جميع شعوب البشر، وذكر أنه هو يرى - كمسلم مصري أو
مصري مسلم - الأخذ بالمدنية المصرية. وقد أطال في هذا بفصاحته وبداهته،
بما لا يستطيع كل أحد أن يطيل به لضيق الموضوع وإعوازه الحقائق التي تمده،
وفقده للدلائل التي تثبته.
ولما انتهى الوقت الموقوت له في الكلام وما زاده عليه، قمت فشكرت له إنكاره
لنسبة المدنية إلى لقب فرعون، وقلت: إنني كنت عازمًا على هذا الإنكار فكفاني
مؤنته. وأثنيت على فصاحته واستقلال فكره؛ إذ لم يرضَ لنفسه أن يكابر الحق في
المسألة، وذكرت أن جعل سمرة اللون من آيات الجنسية أو المدنية المصرية
تُخرجه هو ورئيس اللجنة منها؛ فإنهما أشقران لا أسمران، ثم أفضت في
الموضوع.
وملخص ما قلته مع اختصار لبعض المسائل وايضاح قليل لبعضٍ مع التزام
الموضوع: أن مسألة النسبة إلى مصر نسبة إلى بلد هذا القطر. وكان المعروف
عند علمائنا أن العرب الأقدمين كانوا ينسبون الأشخاص إلى أجناسهم النسبية
وقبائلهم، فيقولون مثلاً: قرشي أو تميمي ... إلخ، وينسبون الأعاجم إلى شعوبهم:
كرومي وهندي وفارسي، والأشياء إلى بلادها كالحبر اليمانية والقباطي المصرية.
وكان الأعاجم ينسبون الأشخاص إلى بلادهم فيقولون: مصري وبصري
ودمشقي وخراساني مثلاً؛ لأن الأنساب قلما تحفظ في الأمصار.
وبعد الحضارة الإسلامية تغلبت النسبة إلى البلاد على النسبة إلى القبائل؛
لأن من شأن الحضارة أن تمزج القبائل الكثيرة والأجناس الكثيرة في مصر واحد،
وإنما تحفظ الأنساب في أطوار البداوة.
والنسبة إلى مصر الآن عندما نقول: فلان مصري. يراد بها الجنسية السياسية
التي تُنال بالإقامة وقبول الحكومة، لا النسبة إلى جيل من سكان هذا القطر كالقبط
والعرب، فكل مَن له حق الجنسية المصرية الآن يقال له: مصري (وإن كان غير
المسلم والقبطي منهم قد يُنسب أيضًا إلى أهل ملته كاليهودي أو جيله
كالرومي) .
أما المصريون القدماء فقد اختلف علماء الآثار العادية في أصلهم، فمن علماء
الآثار مَن يقول: إن أصلهم من العرب؛ كما بينه الأستاذ جبر ضومط من أساتذة
الجامعة الأمريكية ببيروت في محاضرة له ألقاها في تلك المدرسة الشهيرة، نقل فيها
عن بعض علماء الأجناس واللغات من الإنجليز وغيرهم قول مَن يقول: إن أصل
المصريين من العرب، ونشرناها في المنار. وكذلك الأستاذ نعوم بك شقير بيَّن هذا
في كتابه (تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها) وبعد ما أورد بعض النقول عن
علماء أوروبا قال ما خلاصته: إن أكثر الذين يسكنون الآن مصر وسورية
والعراق هم من أصل واحد كما كانوا من قديم الزمان.
ويرجع العلم التفصيلي أو الكلام في هذا إلى العالِم المصري الأثري الشهير
المرحوم أحمد كمال باشا المصري فهو قد ألف معجمًا كبيرًا للغة الهيروغليفية بيَّن
فيه أن كثيرًا من ألفاظها القديمة موافقة للغة العربية (المُضرية) . وقد نشرنا في
المجلد الثامن عشر من المنار فصولاً له في الشواهد على ذلك، ويصح أن نقول: إن
هذا العالم المصري أوسع علمًا بهذا الأمر من علماء أوربة المشهورين لجمْعه بين
اللغتين الهيروغليفية والعربية، وفيما ذكرناه من معجمه: أن أسماء (الحَبّ) الذي
نتخذ منه خبزنا في اللغتين واحد مع تحريف لبعض الألفاظ: فمنها كلمة (بُر)
وهي لغة الحجاز (وقمحو) وهو تحريف قمح (وحنت) وهو تحريف حِنطة؛
لأن الطاء تاء مفخمة.
وقد ترجم نجله الدكتور حسن بك كمال الحجر الوحيد الذي فيه ذكر بني
إسرائيل من الآثار المصرية، وبين والده ما فيه من الألفاظ العربية (المضرية)
وهي لا تقل عن نصف ألفاظه، وقد نشرناه في المنار أيضًا.
ومما نقلناه عن المرحوم أحمد كمال باشا أنه يوجد في الدير البحري بقرب
الأقصر أثر قديم من زمن الدولة المصرية الثامنة عشرة فيه كلمة عن أصل المصريين
القدماء، ملخصها: أنه كان هناك قوم يسمون الأعناء هم أول مَن بنى
المدن في الوجه القبلي. وفيه أنه ذهب بعض هؤلاء الأعناء إلى بلاد العرب،
وبعضهم إلى الصومال وإفريقية وبلاد أخرى ولا يُعلم من أين جاؤوا! والأعناء
جمع (عنو) وهو لفظ معناه بالعربية والهروغليفية: الأقوام المختلطون من قبائل
شتى. وما ذكر من أن بعضهم ذهب إلى بلاد العرب يدل على أن بلاد العرب كان
فيها سكان غيرهم، ولكن خبرهم واسمهم المشترك أقدم الآثار التاريخية في علاقة بلاد
العرب ببلاد مصر، وامتزاج شعوبها من قبل استيلاء دولة الرعاة (الهيكسوس)
العربية عليها عدة قرون، فهذا ملخص ما يتسع له المقام من الإشارة إلى النقول
التاريخية في أصل المصريين القدماء.
وأما المصريون في هذا العصر فمن المعلوم أنهم أيضًا كأكثر بلاد الحضارة
مؤلَّفون من أمم مختلفة من القبط والعرب والترك والشركس والمغاربة واليونان
والرومان وغيرهم، حتى إن فيهم أيضًا كثيرًا من الشعوب الإفرنجية الحديثة تجنَّسوا
بالجنسية المصرية.
***
قوام المدنية ومقوماتها
بعد هذا نرجع إلى الكلام في المدنية فنقول: إن المدنية قوامها اللغة والفنون
والصناعات والثقافة المعنوية من العقائد والتشريع والآداب.
فنحن إذا نظرنا إلى أن المصريين القدماء يمتزجون بالعرب وأن بعض
العلماء يقول إنهم كلهم أو أصلهم من العرب، ولم نستطع ترجيح هذا القول على ما
قبله فإننا نجزم قطعًا بأن المصريين بعد الفتح الإسلامي قد امتزجوا بالعرب المسلمين
وغلبت عليهم الحضارة العربية بجميع مقوماتها ومشخصاتها، فلغتهم كلهم عربية،
ودين السواد الأعظم منهم هو الإسلام الذي هو ينبوع ثقافة الآداب والتشريع.
وإذا أردنا المقارنة بين المدنية العربية الإسلامية وما يسمى المدنية الفرعونية -
والمراد بها القبطية - وأردنا أن نرجح بين المدنيتين فإننا نقول: إن مدنية الفنون
والصناعات تختلف باختلافات الأزمنة وحاجات البشر فيها، فالفنون والصناعات
التي رقاها الأوربيون من وسائل المعايش والتنقلات كالسكك الحديدية وغيرها لا
يصلح للبشر في ارتقائهم المدني في هذا العصر غيرها (على أن المباني العربية
أجمل من الإفرنجية والفرعونية، ولا يوجد أمة في هذا العصر تسفه نفسها ببناء
أهرام كأهرام الجيزة!) .
فيبقى النظر في اللغة والثقافة المعنوية، فأما اللغة فلا يمكن أن يقال: إنا نؤْثِر اللغة الهيروغليفية على العربية؛ لأنها لغة ميتة ذهبت عينها وبقيت آثارها، وليس فيها مزيَّة توجب إحياءها واستبدالها بالعربية لو كان ممكنًا.
وأما الدين فدين الفراعنة كان وثنيًّا، ودين السواد الأعظم من المصريين
الإسلام وتليه النصرانية فاليهودية، ولا يرضى أحد من المصريين أن يرجع إلى
دين الفراعنة الوثنيين فيعبد العجل (أبيس) وغيره من آلهتهم.
فأساس العقائد الإسلامية التوحيد، ومن مقتضاه أن لا يخضع البشر ولا يذلوا
إلا لله تعالى خالقهم ورازقهم ولا يخافوا سواه.
وأما الفرعونية فأساسها عبادة البشر والبقر والثعابين وغيرها!
وكفاكم ما قصَّه الله تعالى من قول فرعون موسى عليه السلام لقومه: {مَا
عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38) وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) وقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (الزخرف: 54) ؛ أي
حملهم على الخفة والجهل؛ أي السفه، وأي قوم يسفهون أنفسهم في هذا العصر
فيعبدوا ملكهم ويقبلوا استبداده فيهم باختيارهم؟ !
وأما التشريع - وهو الذي يهم إخواننا طلبة الحقوق بوجه خاص - فأساس
التشريع الإسلامي السياسي والمدني والعسكري فيه مبني على أن السلطة للأمة
بنص قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، وقوله لرسوله:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) ، فأنتم ترون أن الله أمر نبيه
المعصوم أن يشاور الناس في المصالح العامة، فكان يشاورهم ويعمل برأيهم ولو
خالف رأيه؛ كما فعل في غزوة بدر وغزوة أحد (وقد ذكرت بعض الشواهد على
ذلك) .
وحسبكم من التصريح بسلطة الأمة في الإسلام - الخطبة الأولى للخليفة الأول
أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) ؛ فإنه بعد مبايعته بالخلافة صعد منبر الرسول
صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فقد وُليت عليكم ولست
بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت - أي اعوججت - فقوموني) .
فهو قد صرح بأن الأمة لها الحق أن تقوِّم حاكمها العام إذا اعوج وخالف
مصالحها وشريعتها، (وتبعه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في هذا التصريح
الرسمي، فقد اشتهر قوله على المنبر: مَن رأى فيكم عوجًا فليقومه. وما أجابه به
أعرابي من تقويمهم إياه بسيوفهم) ؛ فسلطة الأمة إنما جاء بها الإسلام وعنه أخذها
الأوربيون، ومنهم ومن المسلمين مَن يجهل هذا، ومنهم من يعرفونه وهم له
جاحدون!
إن مدنية العرب الحديثة - أي الإسلامية - قد اعترف بها كثير من علماء
الإفرنج على اختلاف أجناسهم، وألف بعضهم فيها كتبًا مشهورة، منها كتاب
(سيديو) (خلاصة تاريخ العرب) وهو مترجم بالعربية ومطبوع، ومنها كتاب
(حضارة العرب) لغوستاف لوبون الفيلسوف الفرنسي الشهير. وهو كتاب ضخم
ترجمه محمد بك مسعود المشهور، وربما ينشر قريبًا.
وإن كان بعض الشعوبية المبغضين للعرب يدَّعون أن مدنية العباسيين في
الشرق قد اشترك فيها العجم مع العرب. والحق أن العرب هم الذين أوجدوها،
وبلُغتهم انتشرت علومها وفنونها، فهذه آثار هذه المدنية في الأندلس - ولا سيما قصر
الحمراء وبقية جامع قرطبة - آثار ماثلة مشاهَدة تفقأ عيني كل مكابر منكر لمدنية
العرب من الغربيين وغيرهم، فالذين أحدثوا تلك المدنية الباذخة كلهم من العرب
الأقحاح الخلص المعروفة أصولهم وقبائلهم في كتب التاريخ.
وقد قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه (تطور الأمم) ما معناه: إن ملكة
الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم المتحضرة في أقل من ثلاثة أجيال: جيل التقليد،
وجيل الخضرمة وجيل الاستقلال، وشذ العرب وحدهم فاستحكمت لهم ملكة الفنون
في جيل واحد!
وأخبرني صديقي محمود بك سالم الشهير من عهد بعيد أن لديه كتابًا باللغة
الفرنسية ألفه بعض علماء أوربة وسماه (فسيولوجيا الأمم) يبحث فيه عن البنية
البشرية في الشعوب المختلفة، وقد أثبت فيه أن بنية الشعب العربي أكمل البنى. وقد
نسيت اسم هذا الكتاب، ولعلنا نسأله عنه، وهو في باريس الآن.
وأما مدنية العرب من حيث الثقافة الدينية فهي مبنية على إصلاح النفس
البشرية عقلاً وأخلاقًا؛ لأن النفس البشرية متى صلحت فهي تُصلح كل شيء،
وإصلاح النفس البشرية له أساسان: (أحدهما) استقلال الفكر وحرية الوجدان
(والثاني) عزة النفس وقوة الإرادة.
وكانت العرب قبل الإسلام أعظم أمم الأرض استعدادًا لهذا الإصلاح؛ فإن
من المعلوم عند جميع المطَّلعين على تواريخ الأمم أنها كانت قبل ظهور الإسلام
مستعبَدة للملوك ولرؤساء الأديان، فلا حرية لفرد منها في دينه ووجدانه، ولا في
إراداته، وقد فصلت هذا في مجلة المنار وأجملته في (خلاصة السيرة المحمدية) .
وأما العرب -ولا سيما عرب الحجاز- فلم يكن لهم ملوك مستبدون
يستعبدونهم، ولا رؤساء أديان يحملون على ما يقررونه في الدين وإن لم يعقلوه،
فضلاً عن كون عقولهم تنكره وتأباه، وبهذا كانوا أشد استعدادًا للإصلاح الإسلامي
على بداوتهم من شعوب المدنية المعاصرة لهم، فجاء الإسلام في عقائده وفي تشريعه
مكرِمًا للنفس البشرية، ومعليًا لشأنها، فهو لا يحكم على البشر بأن يذلوا ويخضعوا
لأحد إلا لخالقهم، حتى إن الرسول المعصوم قد خاطبه الله في نصوص القرآن
بمثل قوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21 -
22) وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ
} (الشورى: 48) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الفرقان: 56) أي
إنما أرسلناك معلمًا مربيًا لا مسيطرًا ولا قهَّارًا.
(وأما المدنية الفرعونية فقد كانت تستعبد البشر وتذلهم، كما فعلت ببني
إسرائيل وغيرهم، وهذه الأهرام - التي هي أظهر آثارهم - حجة عليها وعليهم؛
فقد كانوا يسخِّرون في بنائها مئات الألوف الخاضعين لهم) .
وقال تعالى - في حرية العقيدة والدين -: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ
مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) ، فبهذه العقائد والآداب والحكم خرج عرب الجاهلية
من بداوتهم وجهلهم، وفتحوا الممالك بالعدل والفضيلة والآداب، لا بالقهر والظلم
والإذلال، فإن ملكهم قد امتد في قرن واحد من شواطئ القاموس المحيط الغربي
(الأطلنطيق) إلى حدود الصين؛ إذ فتحوا كشغر من تركستان الصينية قبل
انقضاء القرن الأول، وأوجدوا مدنية جديدة جمعت بين الدين والدنيا كما أرشدهم
القرآن في آياته الكثيرة.
ومن المعلوم أنه لم يكن في بلاد العرب قواعد حربية تُخرج الجنود، وتمدها
بالذخائر، والمؤن من الشرق إلى الغرب، وإنما كانت قوتها العدل والفضائل
الإسلامية.
فهذا مجمل وجيز من مدنية الثقافة الإسلامية التي ينكرها بعض الجاهلين
والمكابرين، ويماري فيها بعض الملاحدة المتفرنجين.
وكانت آخر كلمة لي أن قلت في آخر المناظرة: إن البلاد التي تنطق باللغة
العربية الآن - وهي نصف إفريقية الشمالي من مملكة مراكش إلى مصر والشطر
الغربي من سواحل البحر الأحمر إلى العراق وعُمان ومسقط - كل قطر منها
ينتسب أهله إليه لا العرب كما ينتسب المصري إلى قطره (إذا كان كل منهم في
خارجه، وينتسب كل فرد إلى بلده إذا كان في بلد آخر من قطره، كما يقال:
الإسكندري والأسيوطي والمنفلوطي) ويعدون الرابطة الجامعة بينهم هي اللغة
العربية والثقافة العربية، على اختلاف مشاربهم وعقائدهم، ويعدون مصر رأسًا
لهذه الشعوب، ويتمنون لو تكون كل هذه البلاد ممالك متحدة مركزها مصر، فبقاء
انتساب مصر إلى العربية يحفظ لها هذه الرياسة على هذه الشعوب الكثيرة، ولها
من ذلك فوائد سياسية وأدبية واقتصادية كبيرة، وتبرُّؤها من العربية وانتسابها إلى
الفرعونية ليس فيه أدنى فائدة لمصر لا مادية ولا معنوية.
وقد قام بعدي مؤيد الفرعونية، فألقى كلامًا شعريًا مبهَمًا في المدنية الفرعونية
يظهر أنه كان مكتوبًا محفوظًا فلم يستطع الخروج عنه، وقد أراد هذا الخروج فلم
يكن إلا خروجًا عن آداب المناظرة، حتى صاح به السامعون: اسكت، اسكت،
انزل انزل، تكلمْ في الموضوع، وما هو إلا أن حام حول العاطفة الدينية الإسلامية،
ذاهبًا إلى أنه لا يصح أن تحول مسلمي مصر عن مدنية بلادهم الفرعونية (وما
هيه؟ !) .
وتلاه مؤيدي فكان أفصح لسانًا، وأجرأ جَنانًا، وأقوى برهانًا، فزاد ما قلته
بيانًا، أورد فوائد تاريخية وأدبية أحسن فيها إحسانًا. وانتصر لكل منا واحد من
المستمعين، فكنا نحن المنصورين، فأخذت الحدة الأستاذ لطفي جمعة بعد أن قررنا
ما قررنا، فقام من بعدنا وألقى كلمات كلها مكابرة وتهكم ببعض الأقوال التاريخية،
وتحقير لأحمد كمال باشا والأستاذ جبر ضومط ونعوم بك شقير المؤرخ، لو لم يقل
شيئًا منها لكان خيرا له. وإننا نُمسك قلمنا عن ذكرها، كما أمسكنا لساننا عن ردها.
وقد عجز الرئيس عن حفظ النظام، وفي الختام أُخذت الأصوات فكانت
الأكثرية الساحقة مؤيدة لنا في تفضيل المدنية العربية واختيارها، وظهر من الهتاف
لنا والتصفيق أن السواد الأعظم معنا يرجح المدنية العربية من كل وجه.
ثم طلب الرئيس من المستمعين أن يخرج المرجحون للعربية من باب النادي
الذي عن يميننا، ويخرج المرجحون للمدنية الفرعونية من الباب الذي عن شمالنا،
فتأكد بذلك أن الأكثرية الساحقة من أصحاب اليمين، والظاهر أن أكثر أصحاب
الشمال من القبط، وأقلهم من المسلمين الغافلين، وأما الذين أخذوا منهم بطائق
التصويت وكتبوا عليها رأيهم فكانت نسبة الترجيح لنا منهم أقل من الواقع، ذلك بأن
الهيئة الإدارية التي تولت الإحصاء لها أعلنت أن المؤيدين للعربية منهم 187 صوتًا
تجاه 103 في جانب الفرعونية.
قالت جريدة الشورى وكان صاحبها من حاضري المناظرة بعد ذكر الرقمين: إنه وإن كانت الأكثرية الرقمية كذا؛ فإن الحقيقة أنه كان يجب أن تكون 600
في الجانب الأول وأقل مما كان للثانية بكثير) .
ولما فرغنا من المناظرة أقبل الناس فُرادَى وثُبات يهنئونني بالفلج والظفر،
ويدعون الله لي بما يناسب المقام، ولله الحمد على توفيقه.
__________(31/465)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بقية رد المنار
على مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام
في الدفاع عن نفسه وعنها
(2)
خطأ المجلة في اتقاء مس السياسة في شأن ما:
جاء في مقدمة المجلة ما نصه:
(خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن) ،
فهذا تصريح بأن الخطة المرسومة لمجلة الأزهر والمعاهد الدينية أن لا يُنشر فيها
شيء ما يمس السياسة العامة، ولا السياسة الخاصة بالإسلام ولا بمصر ولا
بغيرهما بوجه من الوجوه ولا برأي من الآراء، لا دفاعًا ولا هجومًا؛ لأن كلمة
(شأن) نكرة في سياق النفي تفيد العموم الاستغراقي.
كبر عليَّ أن تكون هذه المجلة الغنية لهذا المعهد الإسلامي الكبير هي التي
تختار لنفسها هذا الحرج الشديد والتضييق على محرريها، فتجعل الحرمان من
جميع شؤون السياسة خطة مرسومة لها لا تتعداها، وتجاري ما كاد يكون عرفًا
عامًّا لدى الحكام من تحريم الاشتغال بالسياسة على علماء الدين، وإبعادهم عن أهم
شؤون المسلمين بسياستهم. فذكَّرتهم برأيي في هذه الخطة بلطف، فأجاب رئيس
التحرير عن ذلك بالمغالطة الآتية. قال: (نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها
لا تمس السياسة في شأن، وقلتم إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام والدفاع
عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها) .
وجواب هذا أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية فإن أقلام
محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما
تراه مخالفًا للدين ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في هذا على
وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج من دائرة مجلة نور الإسلام أن تكتب في إنكار
تصرفات يُعتدَى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية.
وذكر مما يدخل في دائرتها المطالبة بإلغاء البغاء الرسمي واحترام المحاكم
الشرعية والاحتفاظ باللغة العربية! ! ! (راجع ص 373 من الجزء الخامس
الماضي) .
أقول: خلاصة هذه المغالطة أن المجلة تتجنب التدخل في النزعات السياسية،
ولكنها لا تتجنب غير ذلك من الشؤون الإسلامية، كالمكاره التي تصيب المسلمين
والبغاء الرسمي والمحاكم الشرعية واللغة العربية. فيا لله العجب! كيف كتب رئيس
التحرير هذا وسماه جوابًا عن قولي: إن المجلة ضيقت مجال خدمة الإسلام على
محرريها بحرمانهم من الكتابة في السياسة الإسلامية، فإن كان ما ذكر أنه أبيح لهم
من السياسة فما معنى ذلك النفي العام؟ وإذا لم يكن منها فما معنى ذكره وتسميته
جوابًا عما انتقد على المجلة من هذه الجهة؟ !
دعْ تعبيره في الجواب عن عدم مس أي شأن من شؤون السياسة (باجتناب
التدخل في النزعات السياسية) والفرق بينهما بعيد، وهو الذي كتب العبارتين! !
على أن ما ادعى إباحته لأقلام محرري المجلة من بيان ما تراه مخالفًا للدين
من أعمال الإدارة الداخلية لا نرى له مصداقًا في المجلة، فللإدارة الداخلية أعمال
كثيرة مخالفة للدين غير إباحة البغاء: كإباحة الحانات، وتجارة المسكرات، وأكل
الربا، والإسراف الفاحش في أموال الدولة وأموال الأوقاف وصرفها في غير
مصارفها الشرعية، وغير ذلك من الظلم الذي تذكره الجرائد من أعمال الإدارة، ولا
نرى في المجلة إنكارًا لشيء مما ذُكر على الحكومة على سبيل الوعظ والإرشاد
الذي يقتضي بيان سلب ما ذكر للعدالة، وما تشترط فيه العدالة لصحة الولاية، زد
على هذا إهمال الدين في مدارس الحكومة وأهم ما يجب عليها إلزام تلاميذها بإقامة
الصلاة وسد ذرائع الإلحاد، ويا ليت شعري لماذا يسكت علماء المعاهد الدينية في
مجلتهم الرسمية عن إنكار إنشاء مدرسة لتعليم البنات التمثيل المسرحي الذي يشتمل
على ما يعلمون من المنكرات، وهو من أقوى الذرائع لفساد الأعراض وارتكاب
كثير من الموبقات؟ !
سكوت المجلتين
عن المؤتمر الأفخارستي وتنصير البربر
ولا أدري ماذا يريد الأستاذ رئيس التحرير من المكاره التي تمس الشعوب
الإسلامية، ولا ماذا يعني بالتصرفات التي يعتدى بها على حق ديني لأحدها. وأما
جماهير المسلمين فيعلمون أن شر هذه المكاره وتصرفات الاعتداء وأفظعها ما
أصاب شعوب المغرب الإسلامية في دينهم ودنياهم، ولا سيما مؤتمر دعاة النصرانية
الملقب بالأفخاريستي في تونس، وطن الأستاذ ذي الرياستين والقلم والجوال في
المجلتين الإسلاميتين، الذي أُسس لتنصير المسلمين بالدعاية والطعن في الإسلام،
وشر منه محاولة تنصير شعب البربر الإسلامي الكبير بالفعل، فإذا كانت رياسة
المعاهد الدينية تمنعه من بيان هذه المكاره والنوازل التي أصابت قومه ووطنه في
مجلة (نور الإسلام) فما الذي منعه عن بيانها في (مجلة الهداية) وهو يرى جميع
المجلات والجرائد والجمعيات الإسلامية تقيم النكير على دولة فرنسة، وتثير عليها
العالم الإسلامي، وأحرار العالم المدني، ولم يبقَ الا مجلة نور الإسلام ومجلة
الهداية لم ينبض لأصحابهما عرق، ولم يهج لهما شعور ولا حس؟ !
لولا أننا نريد التلطف والإيجاز في هذا الرد على مقالة (للحقيقة والتاريخ)
لبسطنا القول في هذا المقام بما يسوء الكاتب وغيره ممن يتكلم بألسنتهم، ويعبر عن
جماعتهم، ويتمنون لو لم يكن كتب هذه المقالة، ويعلمون قدر تلطفنا وإخلاصنا في
الإشارة إلى كراهتنا لتضييق هذه المجلة على نفسها - إن كانت مختارة كما يقول
رئيس التحرير - في رسمها الخطة لنفسها؛ لأننا نتمنى لها كل ما يمكن من
الحرية في خدمتها للإسلام والمسلمين وهي تعدُّنا بهذا من المذنبين.
قال أحد أعضاء جمعية الهداية أو غيرهم: إننا رأينا في أحد أجزائها ورقة
منفصلة فيها ذكر إنكار هذه الجمعية أو كراهتها لمحاولة فرنسة تنصير مسلمي
البربر. قلنا: نعم قد كان ذلك، ونحن لما وقع في يدنا ذلك الجزء من المجلة
وفتحناه ووقعت تلك الورقة منه على الأرض فرأيناها - عجبنا من وضع ذلك الإنكار
الضعيف النحيف السخيف الضئيل النحيل الهزيل في ورقة صغيرة منفصلة،
وفكرنا في سببه، فلم نعقل له سببًا إلا أن يكون القصد منه جعْل الورقة في الأجزاء
التي توزع في مصر، دون الأجزاء التي تُرسل إلى بلاد تونس والجزائر
ومراكش؛ لئلا تغضب الحكومة الفرنسية على رئيس الجمعية التونسي وتمنع
المجلة من دخول تلك البلاد، فإن لم يكن هذا هو السبب فلتخبرنا إدارة هذه الجمعية
إن لم يخبرنا رئيسها عن السبب الصحيح، ومهما يكن فلن يكون مما يُرضي
المسلمين ويعذرونها به، كما أنه لم يرضهم ما نقلته مجلة نور الإسلام عن المقطم
في مسألة البربر كما بينا ذلك في الجزء الماضي.
مسألة الرد على دعاة النصرانية بما يكرهون من الحق:
وكتب الرئيس في مقدمة المجلة أيضًا: (خرجت هذه المجلة وهي تحمل
سريرة طيبة لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه
من القول) .
وقد نقلت عنها هذا القول ووصلته بقولي: أنا لا أرضى لمجلة علمائنا أن
تطعن في الأديان بالبذاء والسفاهة، كطعن المبشرين في بعض مجلاتهم وكتبهم
على الإسلام، ولكنها لن تستطيع أن تقوم بالواجب من الرد على دعاة النصرانية
المهاجمين للإسلام في مصر وغيرها مع تجنب ما يكرهونه من قول.
فهذا رأي لي علمته بالاختبار الطويل في عشرات السنين، كالرأي الذي قبله،
ليس نقدًا للمجلة ولا تخطئة لها، وكان يجب أن تقابله بالشكر أو بالسكوت، ولكن
الأستاذ رئيس التحرير ما عتم أن أجاب عنه بذلك الجواب الطويل كما رأى القراء
في (ص374) من أولها إلى آخرها. ومما قاله: إنني حملت العبارة على معنى أن
المجلة (لا ترد على المخالفين إذا هاجموا دين الإسلام) . وهذا غير صحيح،
فإنني ما حملتها على هذا المعنى، وكلمتي لا تدل عليه، فمن أين جاء به؟ ثم قال:
إن المجلة إنما تريد بذلك القول الترفُّع عن بذاء القول والخروج عن دائرة
البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء.. إلخ، ثم ذكر عن حكماء الكتاب تحامي
السوء من القول وعدم الحاجة إلى اللمز والبذاء! !
فأي حاجة إلى هذا القول بعد تصريحي بأنني لا أرضى لمجلة علمائنا البذاء
وبسفه القول؟ ولماذا لم ينشر عبارتي بنصها؟ أليس لإيهام قارئي هدايته الذين يظن
أنهم لا يرون المنار - أنني أحث مجلة نور الإسلام على السفاهة والبذاء؟ ! وكيف
يكون هو إذًا من حكماء الكُتاب، الذين هم في ثروة من الحجج لا يرون أنفسهم في
حاجة إلى الاستعانة في هجومهم أو دفاعهم بشيء من اللمز أو البذاء؟
وقد بلغني بعد نشر جزء المنار الماضي أن الأستاذ الأكبر منعه من نشر رده
على المنار في مجلة نور الإسلام؛ لأنه علم من ضعفه ومن سعة المجال لتفنيد
المنار له ما لم يعلم، فنشره في مجلة الهداية؛ لأنه لا سيطرة عليه فيها ولا رقيب.
الأدب في المناظرة والجدال قوة تزيد صاحبها ظهورًا، وحججه فلجًا ونورًا،
وقد تذكرت الآن ما كان من أدب شيخنا الأستاذ الإمام في رده على فرح أفندي
أنطون صاحب مجلة الجامعة العثمانية، وما كان من تسرع فرح أفندي وعدم توقفه
في رده، حتى إن بعض أهل العلم ذكر للأستاذ أنه لا يستحق هذا التلطف فقال
رحمه الله: (لا خسارة في حسن الأدب) .
وكان يكتب مقالات (الإسلام والنصرانية) في أثناء سفره لجمع الإعانة
لمنكوبي الحريق في (ميت غمر) وتوزيعها عليهم ويرسلها إليَّ فأنشرها في المنار،
فكتب إليَّ مرة يسألني: ما رأي أدباء النصارى في المقال؟ ! فكتبت إليه: إنهم
معجبون بأدبه ونزاهته، ولكنهم يتألمون من موضوعه، فكتب إليَّ: أنه إنما يسأل
عن رأيهم في أدب العبارة، ويخشى أن يكون سبق قلمه إلى كلمة تُنتقد، ثم قال من
جهة الموضوع: وإذا كان الباطل لا يتألم من رؤية الحق فمِمَّ يتألم؟ !
فهذا المعنى هو الذي أشرت إليه في قولي: إن المجلة لا تستطيع أن تدافع عن
الإسلام بالرد على المبشرين بما لا يكرهون من قول مهما تكن درجة توخيها
للنزاهة والأدب فيه.
وجملة القول أنني عنيت أشد العناية الممكنة في تقريظ مجلة نور الإسلام،
وتلطفت جهد الطاقة في النصح لها بما أراه حافظًا لكرامة أهلها، ومزيد كمال في
إتقان خدمتها، (وقد يستفيد الظنة المتنصح) ولم أقصد بشيء منه الانتقاد على
سعة مجاله عندي، الا ما هو خاص بفضيلة رئيس التحرير من حيث هضمه لحق
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأُشهد الله أنني سُررت بجعْله رئيسًا
لتحرير المجلة، فكان حظي وحظه ما رأى القراء من رده وجوابي، ولهم الحكم
العدل فيهما إن شاء الله تعالى وهو خير الحاكمين.
__________(31/474)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسيح الهند القادياني الدجال
(2)
إن جمعية ندوة العلماء قد دعتني في سنة 1330 (1912 م) إلى الهند لأتولى
الرياسة والصدارة لمؤتمرها الإسلامي الذي تريد عقده في مدرستها الجديدة التي
أنشأتها في مدينة (لكهنؤ) فأجبت الدعوة، وحقق الله تعالى بي رجاء الجمعية في
إقبال مسلمي الهند عليها، فلم تر مثال إقبالهم في تلك السنة. وكان من جملة الوفود
الذين حضروا من أقطار الهند للسلام عليَّ وفد قاديان من أتباع غلام أحمد منتحل
المسيحية في الإسلام، وقد دعوني إلى زيارة بلدهم فلم أجبهم؛ لأنهم يستغلون هذه
الزيارة فيوهمون المسلمين أن ضيف الهند الذي احتفلت به وأكرمت مثواه يحترم
هذه الطائفة الضالة المضلة، ويحترم دعيَّها المسيح الكذاب، وقد بلغني أن رئيس
جمعية الندوة شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني رحمه الله تعالى قد منع الوفد من
البحث في بدعتهم معي في دار ضيافة الندوة، فلما أردت السفر وخرجت الجموع
إلى محطة السكة الحديدية لتوديعي خرج معهم الوفد القادياني ولم يملك رئيسه نفسه
أن جهر بدعاية مسيحيتهم في المحطة - ومَن يدري ماذا كان يقول لو سكت عنه أو
تكلمت بما لم يسمعه غير وفدهم ومن يقرب مني وأكثرهم لا يفهمون العربية -
فوقفت في نافذة القطار ورددت عليهم بصوت جهوري يسمعه الجم الغفير مفندًا
نِحلتهم، دامغًا بدعتهم، وما أذكره من ذلك أن مسيحه يزعم أن الحرب قد بطلت
من الأرض بظهوره ونسخت فرضية القتال الذي فرضه الله على المسلمين فلم يبق
من حاجة إلى الجهاد، وقد كذبه الله تعالى بعدوان دول إيطالية هنالك على طرابلس
الغرب وبرقة وقتالها للمسلمين هنالك بغيًا وعدوانًا، ومن المجمع عليه عند المسلمين
أن الكفار إذا اعتدوا على بلاد المسلمين يكون القتال لدفعهم عنها فرضًا عينيًّا على
كل مَن قدر عليه.
ومسألة الجهاد هذه كمسألة ادعاء النبوة قد خالف فيها المسيحيون القاديانيون
إجماع المسلمين فيما هو قطعي معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فخرجوا بذلك من
الملة الإسلامية، وقد بيَّنا من قبل ضلالهم فيها، وإبطال تأويلهم لها، ولما رددت
على مسيحهم في زمنه أجاب عنها في الكتاب الذي ألفه في الرد والانتقام مني، وفي
كتب أخرى من كتبه المضحكة المبكية، وقد نقل الحصني الدمشقي بعض كلامه
مترجمًا عن كتاب له بغير العربية، وسأبين ذلك في النبذة التالية بما يدل على جهل
مسيحهم وجهلهم، ومما قاله داعيتهم في محطة لكهنؤ: إن المسيح عيسى ابن مريم قد
توفاه الله، وثبت وجود قبره في كشمير، فوجب أن يكون المسيح الذي ينزل في آخر
الزمان غيره. فاكتفيت من الرد عليه في ذلك الوقت القصير بأن قولهم هذا لا
يقتضي أن يكون ميرزا غلام أحمد القادياني هو المسيح الموعود به.
والمراد من ذكر هذه المسألة أن ما زعمه الحصني من صدق قول مسيحهم
عني (سيهزم فلا يرى) كذب فإنني ظهرت عليه في تفنيد دجله في عصره،
وظهرت على خلفائه من بعده حتى في بلاده، ولا أزال ظاهرًا مبطلاً لدعوتهم،
هادمًا لضلالتهم، ولله الحمد والمنة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(31/479)
رمضان - 1349هـ
فبراير - 1931م(31/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
من صاحب الإمضاء في بيروت
(س54 - 56)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على آلائه. وأصلي وأسلم على خاتم رسله وأنبيائه.
حضرة صاحب الفضيلة والفضل الأستاذ الإمام مرشد الأنام السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار الأغر حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فأرفع إلى فضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه:
(1) هل يجوز للعلماء كالقضاة والمفتين ومدرسي التفسير واللغة العربية
ببعض الكليات الإسلامية أن يذهبوا ويجلسوا في محلات اللهو كالمقاهي العمومية،
والحفلات وغيرها، وهناك يرون ويسمعون المنكر كصوت البيانو والعود والغناء
من النساء الأجنبيات أم لا؟ وهل توجد أقوال عند أحد أئمة المسلمين تبيح لهم ذلك؟
لأن كثيرًا من العوام حينما ننكر عليهم جلوسهم في تلك الأماكن التي يسمعون
بها الغناء والضرب على البيانو والعود وغيره من النساء الأجنبيات لا يسمعون لنا
قولاً، وحجتهم في ذلك جلوس بعض العلماء في تلك الأماكن!
(2) هل يجوز لعن وشتم وسب العلماء الغُيَّر على الدين وأهله، المتمسكين
بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، الذين لا يحكمون إلا بما أنزل الله، والذين يهمهم
شأن المسلمين وأمرهم. وقد عرف فضلهم كل ذي فضل؟ هل يجوز شتم أمثال
هؤلاء العلماء الأفاضل على مسمع من الناس أم لا؟ وهل الواجب على المستمعين
الإنكار على السابّ ونهيه وزجره أم لا؟ وهل يأثم هؤلاء المستمعون في سكوتهم
وعدم إنكارهم أم لا؟
(3) زعم بعض من يدعي العلم والمعرفة والمدنية (وما أكثرهم في هذه
الأيام) (أن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية والحضارة) فهل هذا صحيح أم
لا؟ وهل تقرون زعمه؟ أم تردونه وتدحضونه؟ نرجوكم الجواب الشافي في
ذلك، كما نرجو فضيلتكم أن تقدموا هذا الجواب على غيره؛ لأن هذا المشعوذ أخذ
يجمع من حوله أنصارًا ليقوموا بهذه الدعوى الكاذبة الباطلة، وقد شافهنا بعض
المطلعين على زعمه فقال: إن هذا وأمثاله لا يردعهم عن غيهم بالبراهين القطعية،
والحجج الناصعة القوية، إلا فضيلة العلامة المِفضال الأستاذ السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار الأغر؛ ولذلك نحن بادرنا بكتابة ما تقدم لتسرعوا بالجواب.
ولكم جزيل الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر البَعْلبكي ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت
أجوبة المنار معدودة
بحسب ترتيب أرقام الفتاوى السابقة
(54) جلوس العلماء في مجالس اللهو والفسق
إن أقل ما يقال في محافل اللهو العامة المعهودة: إن حضورها مخل بالمروءة
والحشمة التي يُطلب من علماء الدين وقضاة الشرع شدة العناية بالمحافظة عليها.
وهذا ينافي القول بإباحتها المطلقة حتى على القول بإباحة سماع المعازف كالبيانو
والعود، فإن شرط إباحة هذا السماع عند القائل به ألا يكون معه منكر آخر، ولا
يكون ذريعة لمنكر آخر أو لقدوة سيئة، ومن المنكرات المألوفة في هذه المحافل
وجود النساء الموصوفات في حديث صحيح بوصف (الكاسيات العاريات المائلات
المميلات) ، وكذا شرب الخمور أو وجود السُّكَارَى وسماع رفثهم، والاختلاف إليها
يستلزم هجر الرجال لبيوتهم في أوقات الفراغ من أعمالهم المعاشية. وهجرهم لها قد
يكون مفسدة لمَن فيها من النساء والأولاد. وفي حضور مَن ذُكر من العلماء فيها
تجرئة للفساق على ما وراء هذا السماع والمناظر من الفواحش والمنكرات، أو
اعتقادهم أن هذه المفاسد مباحة في الشرع، فبهذا وما قبله يكون للعلماء حكم لا
يشاركهم فيهم غيرهم مع أن أحكام الشرع عامة. وكان علماء السلف يتركون
بعض المندوبات أحيانًا؛ لئلا يفهم العوام من مواظبتهم عليها وجوبها كما ترك ابن
عباس (الأضحية) وترك بعضهم المواظبة على قراءة سورة: الم السجدة في فجر
يوم الجمعة وهي من السنن المؤكدة. فينبغي أن يكون رجال العلم والتهذيب قدوة
صالحة للأمة باجتناب هذه الملاهي في المقاهي، والاستغناء عنها باللهو المباح في
بيوتهم الذي يشاركهم فيه نساؤهم وأولادهم.
(55) لعن العلماء المعتصمين بالكتاب والسنة وسبهم
إن لعن العلماء المتمسكين بالكتاب والسنة وسبهم بهذا الوصف لا يمكن أن يقع
من مسلم يؤمن بالله وكتابه ورسوله، فهو يدل على الارتداد عن الإسلام. وقد صرح
بعض الفقهاء بأن إهانة علماء الدين بما دون ما ذُكر كفر.
وأما شتم أشخاص معينين من هؤلاء العلماء العاملين بالكتاب والسنة ولعنهم
بعداوة أو صفة أخرى غير علمهم واعتصامهم بالكتاب والسنة الذي لا يكون المسلم
مسلمًا حقًّا بدونه فهو معصية بدليل النص والإجماع. وحسبك قوله صلى الله عليه
وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقوله
من حديث رواه الشيخان أيضًا: (ولعن المؤمن كقتله) . وفي بعض الآثار التصريح
بكون ذلك من الكبائر، وقد عده ابن حجر وغيره منها.
بل حقق بعض العلماء جواز عدم لعن الكافر المعين والفاسق المعين مع
قولهم بجواز لعن جنس الكافرين والفاسقين عامة، وقد قيل للإمام أحمد (رحمه الله) :
إن أقوامًا يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم
الآخر؟ فقال له السائل - وهو ولده عبد الله -: أَوَلا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك
يلعن أحدًا؟ (راجع هذا في ص 303 من الجزء الأول من الآداب الشرعية،
وأصل المسألة في آفات اللسان من الجزء الثالث من الإحياء والجزء الثاني من
الزواجر) وإذا كان الأمر كذلك فلا شك في وجوب الإنكار على هؤلاء السبَّابين
اللعانين الفاسقين عن أمر الله الناكبين عن سبيل المؤمنين، وفي إثم من يستمع لهم أو
يسمعهم ولا ينكر عليهم.
(56) الإسلام والمدنية الصحيحة:
الإسلام هو دين الحضارة والمدنية الصحيحة، وقد بينا هذا في المنار مرارًا
كثيرة بقلمنا وقلم غيرنا وحسبك فيه كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)
للأستاذ الإمام، ورسالة الأمير شكيب التي ننشرها في هذه الأيام، وقد طبعناها في
رسالة مستقلة بعنوان (لماذا تأخر المسلمين وتقدم غيرهم؟) وذكرنا في الجزء
الماضي خلاصة مناظرة دارت بيننا وبين أحد المحامين ومصاقع الخطباء
المشهورين في كلية الحقوق من الجامعة المصرية موضوعها: المفاضلة بين المدنية
العربية الإسلامية والمدنية الفرعونية، كان لنا فيها الفَلْج والظفر برأي السواد
الأعظم ممن حضر المناظرة. ولكن هذا السؤال ورد علينا قبل نشر خلاصة
المناظرة وقبل المشروع في نشر رسالة أمير البيان، وفيهما الحجة البالغة على ذلك
الجاهل المفتري على الإسلام.
__________(31/513)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت
متصل بها أجوبتها
(س57- 62)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا الأستاذ الجليل السيد محمد
رشيد رضا، صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإني أرفع ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه:
(س 1) هل يجوز للمرأة أن تُظهر صوتها ووجهها ويديها وغيرها أمام
الرجال الأجانب والأطباء وغيرهم أم لا؟
(ج 1) أصل الشرع جواز ذلك إذا أريد باليدين الكفين للحاجة إليه في
المعيشة والتعامل، وإنما يكره أو يحرم إذا كان بحيث يترتب عليه مفسدة مكروهة أو
محرمة، ويباح كشف غير الوجه واليدين من البدن للطبيب بقدر ما يحتاج إليه في
معرفة المرض، ولكن مع وجود الزوج أو محرم آخر.
(س 2) هل يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن محارمه من النساء
ومعانقتهن وضمهن وتقبيلهن ولمسهن بلا حائل أم لا؟
(ج 2) هذا لا يجوز قطعًا؛ بل الضم والعناق مع الشهوة لا يجوز ولو مع
الحائل ولا يفعل هذا إلا أشد الناس فسقًا وفجورًا وفساده أشد مِن فعل مثله مع
الأجنبية. وفي الجزء الثاني من كتاب الآداب الشرعية فصل مستقل فيما يباح من
المصافحة والمعانقة، ويليه فصل في تقبيل المحارم، وفيه أن الإمام أحمد أباح
التقبيل على الجبهة والرأس لمَن قدم من سفر ولم يخف على نفسه قال: (ولكن لا
يفعله على الفم أبدًا) .
(س 3) هل يجوز للرجال والنساء تحسين الثياب والهندام وغيره ولبس جميع
الألوان والأزياء كالبرنيطة والطربوش والمعطف والسترة والبنطلون وغيرها
والحرير والساعات والسلاسل والخواتم وغيرها أم لا؟
(ج 3) يجوز تحسين الثياب والهندام والأصل فيها كلها الحِلّ إلا ما نهى
عنه الشرع. ومنه لبس الحرير الخالص للرجال فهو حرام للوعيد عليه، ومنه لبس
الأحمر الخالص والمعصفر والمزعفر فهو مكروه؛ لأنه كان خاصًّا بالنساء، ولم يرد
عليه وعيد كالحرير، وفيه خلاف وتفصيل، ومنه النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا،
وعن خاتم الذهب للرجال، ومنه تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتشبه
المسلمين بالكفار، فهذا يكره شرعًا إذا كان في غير الأمور الدينية، ويحرم فيها
حتى قد يكون ردة عن الإسلام، كما صرح به الفقهاء في مسائل متعددة من شأنها
أن لا تصدر عن مسلم، وتفصيلها يطلب من كتب الفقه، وقد سبق لنا
بيان هذه المسائل في المنار مرارًا فلا نطيل فيها.
(س 4) هل تقبل توبة التائب إذا تاب من جميع الذنوب الصغيرة والكبيرة
كالقتل والزنا واللواط وشرب الخمر والديون والسرقة والخيانة والكذب والغش
والظلم وغيره ولا يعذب في القبر ولا في الآخرة أم لا؟
(ج 4) الأصل في التوبة الصحيحة الشرعية أن تكون مقبولة، وسببًا
للمغفرة، ومن شروطها رد حقوق العباد إليهم أو استحلالهم منها، وقد سبق لنا كلام
مفصل في التوبة، وفي التفسير المنشور في هذا الجزء خلاصة في بيان حقيقته
والاقتداء بالصحابة فيها، وسيأتي في تفسير الأجزاء الأخرى تتمة لذلك.
(س 5) هل يجوز التشاؤم والوهم ... وغيره؛ من الأعداد والسنين
والشهور والأيام والأوقات وغيرها، ولبس ثوب أو دخول بيت أو قراءة سورة أو
آية أو وِرد أو فائدة أو غيرها بأن فاعل ذلك يصاب بضرر كمرض أو موت أو
غيره أم لا؟
(ج 5) التشاؤم منهي عنه؛ لأنه من الأوهام الخرافية التي لا تستند إلى
حقيقة، وينبغي لمن عرض له بدون اختياره أن يجاهد نفسه حتى يزول ذلك التأثير.
(س 6) أرجو أن تبينوا لنا أسماء الكتب الدينية الإسلامية الصحيحة المعتمدة
؛ السهلة اللفظ والمعنى، التي يجوز العمل بها في العقائد والعبادات والمعاملات
وغيرها، تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
(ج 6) من أوضح هذه الكتب: رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، وخلاصة
السيرة المحمدية لنا، ومجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية،
ومجموعة الحديث النجدية، وهي لعدةٍ من كبار العلماء كالإمام أحمد والنووي والحافظ
المقدسي وابن القيم، وسبل السلام للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير، وهو شرح
بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، والدراري المضيئة على الدرر البهية للقاضي
الشوكاني، وزاد المعاد في هدي خير العباد للمحقق ابن القيم، والآداب الشرعية
للعلامة ابن مفلح.
(حاشية للسائل)
أرجوكم ملاحظة ضرر السفور (أي رفع الحجاب) وعدم أمن الفتنة مطلقًا
خصوصًا في هذا الزمان الذي عَمَّ وكثر فيه الفساد والفسق والفجور والضلال وعدم
الأدب والحياء من الرجال والنساء جميعًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... عثمان سعد الدين بدران
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
(المنار)
إن ما تكون الفتنة فيه معلومة بالقطع لا يُسأل عن حكمه؛ لأنه معلوم
بالضرورة وما شدد العلماء في حظر ما هو مباح في الأصل من إظهار الكفين
والوجه إلا لسد ذريعة الفتنة في مظنتها فكيف إذا صارت قطعية في بعض البلاد؟ !
وطلاب السفور من الفساق والمتفرنجين يتوسلون به إلى الإباحة المطلقة والعياذ
بالله تعالى.
_______________________(31/516)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نبوة آدم وعدد النبيين والمرسلين
(س63) من صاحب الإمضاء في سمبس - جاوه:
حضرة العلامة الكبير مولاي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
أطال الله تعالى عمره، ونفع بعلومه المسلمين.
إنني رأيت في شرح عقيدة السفاريني ما نصه: ففي صحيح ابن حبان من
حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم جالس وحده، فذكر حديثًا طويلاً، وفيه: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء
؟ قال: (مائة ألف وعشرون ألفًا) قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟
قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا) قلت: يا رسول الله مَن كان أولهم؟ قال:
(آدم عليه السلام) قلت: يا رسول الله أنبيّ مرسل؟ قال: (نعم خلقه الله بيده ونفخ
فيه من روحه وكلمه قبلاً) .. إلخ.
وقال فيه قبل هذا: اعلم أن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله مما
اتفقت على وجوبه جميع الأنبياء والمرسلين من لدن صفي الله أبي البشر آدم عليه
السلام إلى خاتمهم محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام. اهـ.
فهل يصح الاحتجاج بحديث أبي ذر هذا على نبوة آدم عليه السلام أم لا؟
وهل يوجد ما هو أقوى منه دليلاً من الكتاب أو السنة المتواترة على نبوته عليه
السلام أم لا؟
وما قولكم في قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته: (وأولهم نوح
عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين. والدليل على أن
أولهم نوح قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163) وهل هذا القول صحيح أم لا؟ وهل مقتضى قوله هذا أنه أنكر
نبوته عليه السلام أم لا؟ وهل يجوز لأحد إنكارها؟ وهل كان نبينًا رسولاً أم نبيًّا
فقط؟
وقال الأستاذ الشيخ حسين والي في كتابه (كلمة التوحيد) ما نصه: والسبعة
الباقية (من الأنبياء) آدم، إدريس، صالح، شعيب، هود، ذو الكفل، محمد
عليهم الصلاة والسلام. فإذا عرض أحدهم على المكلف وجب الاعتراف به، ولا
يجب حفظ أسمائهم، فمن أنكر نبوة أحد من المتفق على نبوته أو رسالته - كفر؛ إلا
إذا كان عاميًّا، وممن اختلف في نبوته: ذو القرنين والعزير ولقمان. اهـ.
وإني لم أَرَ أن الأستاذ في عبارته أدخل آدم فيمن اختلف في نبوته.
فتفضلوا بالجواب عن هذه الأسئلة فإنه يكون (إن شاء الله) شفاءً لما في
الصدور.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) يجد السائل تحقيق الحق في أسئلته مفصَّلاً تفصيلاً تامًّا في تفسير
الآيات (85- 91) من سورة الأنعام التي ذكر فيها أسماء 18 من الرسل
عليهم السلام، إذ عقدنا لها فصلاً استطراديًّا، عنوانه: (تحقيق مسألة الإيمان بالرسل
إجمالاً وتفصيلاً وعدد الرسل المذكورين في القرآن) وهو في الجزء السابع من
التفسير والجزء التاسع من المجلد العشرين من المنار، وكل منهما يوجد عند السائل،
ولعله قرأه ونسيه، ولولا ذلك لم يحتج إلى هذه الأسئلة كلها ولا بعضها، فليراجعها
يجد فيها أن حديث أبي ذر في عدد النبيين والمرسلين قد جزم ابن الجوزي بأنه
موضوع والسيوطي بأنه ضعيف، فلا يعتد به على كل حال في الاستدلال، ولا سيما
في مثل هذه المسألة الاعتقادية، وأن ما قاله الشيخ محمد عبد الوهاب موافق لنص
حديث الشفاعة المتفق عليه؛ إذ حكى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن أهل
الموقف يقولون لنوح عليه السلام: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض) فهو
فيه متبع لا مبتدع ومهتدٍ لا ضال. وإن ما قاله كل من السفاريني والشيخ حسين
والي هو المشهور في كتب العقائد المتداولة، ويجد هنالك تحقيق الحق في كل ذلك،
وأمثل الأدلة على نبوة آدم، وما أجاب به العلماء عن الآية التي استدل بها الشيخ
محمد عبد الوهاب وعن حديث الصحيحين وغيرهما في الشفاعة، وما جمعنا بين نص
الآية والحديث ما قرره المتكلمون وهو مبني على التفرقة بين عرفهم في معنى
الرسول وعرف القرآن.
_______________________(31/518)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
رسالة في حقيقة الصيام
وما يفطِّر الصائم بالنص والإجماع
وما أُلحق به من الرأي والاجتهاد
لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن
سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
تسليمًا.
فصل فيما يفطر الصائم وما لا يفطره
وهذا نوعان: منه ما يفطر بالنص والإجماع، وهو الأكل والشرب والجماع،
قال تعالى: {.. فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187) فأذِن في المعاشرة، فعقل من ذلك أن المراد الصيام من المباشرة
والأكل والشرب. ولما قال أولاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183) - كان معقولاً عندهم أن الصيام هو الإمساك عن الأكل
والشرب والجماع، ولفظ الصيام كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في
الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه
قريش في الجاهلية) .
وقد ثبت من غير واحد أنه قبل أن يُفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم
عاشوراء، وأرسل مناديًا ينادي بصومه. فعُلم أن مسمى هذا الاسم كان معروفًا
عندهم. وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا
تصوم الحائض، لكن تقضي الصيام، وثبت بالسنة أيضًا من حديث لقيط بن صبرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)
فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم وهو قول جماهير العلماء.
وفي السنن حديثان:
(أحدهما) حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن ذرعه قيء وهو
صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقضِ) وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من
أهل العلم، بل قالوا هو من قول أبي هريرة. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل
قال: ليس من ذا شيء. قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال
الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه فلم يعرفه إلا عن عيسى بن
يونس، قال: وما أراه محفوظًا. قال: وروى يحيى بن كثير عن عمر بن الحكم
أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم.
قال الخطابي: وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام كما رواه
غير ابن يونس. قال: ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن مَن ذرعه القيء فإنه لا
قضاء عليه، ولا في أن مَن استقاء عامدًا فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة،
فقال عامة أهل العلم: ليس عليه غير القضاء. وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة.
وحكي عن الأوزاعي، وهو قول أبي ثور.
(قلت) : وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على
المحتجم، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى، لكن ظاهر مذهبه أن
الكفارة لا تجب بغير الجماع كقول الشافعي.
والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى
علته، وهو انفراد عيسى بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه
حفص بن غياث، والحديث الأخير يشهد له، وهو ما رواه أحمد وأهل السنن
كالترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فذكرت ذلك
لثوبان، فقال: صدق، أنا صببت له وَضوءًا. لكن لفظ أحمد أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قاء فتوضأ. رواه أحمد عن حسين المعلَّم.
قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال: حسين المعلَّم
يجوده. وقال الترمذي: حديث حسين أرجح شيء في هذا الباب. وهذا قد استدل
به على وجوب الوضوء من القيء ولا يدل على ذلك، فإنه إذا أراد بالوضوء
الوضوء الشرعي فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب،
بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع. فإذا قيل: إنه مستحب كان فيه عمل
بالحديث.
وكذلك ما رُوي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس في
شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب. وليس في الأدلة الشرعية
ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بسط في موضعه. بل قد روى الدارقطني وغيره
عن حميد عن أنس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتوضأ، ولم
يزد على غسل محاجمه. ورواه ابن الجوزي في حجة المخالف ولم يضعِّفه،
وعادته الجرح بما يمكن.
وأما الحديث الذي يُروى: (ثلاث لا تفطر: القيء، والحجامة، والاحتلام) ،
وفي لفظ: (لا يفطر منه لا مَن احتجم ولا مَن احتلم) فهذا إسناده الثابت ما رواه
الثوري وغيره عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... هكذا رواه أبو
داود، وهذا الرجل لا يُعرف. وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن
عطاء عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عبد الرحمن ضعيف عند
أهل العلم بالرجال.
(قلت) : روايته عن زيد من وجهين مرفوعًا لا تخالف روايته المرسلة بل
تقويها، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم لكن هذا فيه: (إذا ذرعه القيء) .
وأما حديث الحجامة، فإما أن يكون منسوخًا وإما أن يكون ناسخًا لحديث ابن
عباس: (أنه احتجم وهو محرم صائم) أيضًا، ولعل فيه القيء إن كان متناولاً
للاستقاءة هو أيضًا منسوخ. وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر، فإنه إذا
تعارض نصان ناقل وباقٍ على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ،
ونسْخ أحدهما يقوي نسخ قرينه، ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً.
وقال يحيى بن معين: حديث زيد بن ليس بشيء، ولو قدر صحته لكان
المراد من ذرعه القيء فإنه قرنه بالاحتلام، ومَن احتلم بغير اختياره كالنائم لم يفطر
باتفاق الناس. وأما مَن استمنى فأنزل فإنه يفطر، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على
مَن احتلم في منامه.
وقد ظن طائفة أن القياس أن لا يفطر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما
أفطر؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا: إن فطر الحائض على خلاف
القياس.
فإن قيل: فقد ذكرتم أن مَن أفطر عامدًا بغير عذر كان تفويته لها من الكبائر،
وكذلك مَن فوَّت صلاة النهار إلى الليل عامدًا من غير عذر -كان تفويته لها من
الكبائر، وأنها ما بقيت تُقبل منه على أظهر قولي العلماء، كمن فوت الجمعة ورمي
الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أمره بالقضاء. وقد روي في حديث
المجامِع في رمضان أنه أمره بالقضاء. قيل: هذا إنما أمره بالقضاء؛ لأن
الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوى بالقيء، أو يتقيأ؛ لأنه أكل ما فيه شبهة
كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهِّن [1] .
وإذا كان المتقيئ معذورًا كان ما فعله جائزًا، وصار من جملة المرضى الذين
يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر. وأما أمره للمجامع
بالقضاء؛ فضعيف. ضعّفه غير واحد من الحفاظ، وقد ثبت هذا الحديث من غير
وجه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، ولم يذكر أحد
أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم، وهو حكم شرعي
يجب بيانه، ولما لم يأمره به دل على أن القضاء لم يبقَ مقبولاًَ منه. وهذا يدل
على أنه كان متعمّدًا للفطر لم يكن ناسيًا ولا جاهلاً.
والمجامِع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث
روايات عنه: (إحداها) لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة
والأكثرين. (والثانية) عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك. (والثالثة) عليه
الأمران، وهو المشهور عن أحمد.
والأول أظهر، كما قد بسط في موضعه؛ فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن
مَن فعل محظورًا مخطئًا أو ناسيًا لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة مَن لم
يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومَن لا إثم عليه لم يكن عاصيًا ولا مرتكبًا لما نُهي عنه،
وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه. ومثل هذا لا يبطل عبادته،
إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أُمر به أو فعل ما حُظر عليه.
وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيًا ولا مخطئًا
لا الجماع ولا غيره وهو أظهر قولي الشافعي.
وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت؛ لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان
المتلف بمثله كما لو أتلفه صبي أو مجنون أو نائم ضمنه بذلك، وجزاء الصيد إذا
وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأً والكفارة
الواجبة بقتله خطأً، بنص القرآن وإجماع المسلمين.
وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار وقص الشارب
والترفُّه المنافي للتَّفَث كالطِّيب واللباس. ولو فدى كانت فديتها من جنس فدية
المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل. فأظهر الأقوال في الناسي
والمخطئ إذا فعل محظورًا أن لا يضمن من ذلك إلا الصيد.
وللناس فيه أقوال: (هذا أحدها) وهو قول أهل الظاهر. (والثاني) يضمن
الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايات عن أحمد، واختاره القاضي
وأصحابه. (والثالث) يفرق بين ما فيه التالف كقتل الصيد والحلق والتقليم وما ليس
فيه كالطيب واللباس، وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، واختارها طائفة
من أصحابه، وهذا القول أجود من غيره، لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس
والطيب لا بقتل الصيد، هذا أجود. (والرابع) إن قتل الصيد خطأً لا يضمنه،
وهو رواية عن أحمد، فخرّجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى.
وكذلك طرد هذا أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيًا أو مخطئًا فلا
قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ
كمالك، وقال أبو حنيفة: هذا هو القياس، لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي،
ومنهم من قال لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي
وأحمد، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان، وأما أصحاب الشافعي وأحمد
فقالوا: النسيان لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه بخلاف الخطأ، فإنه يمكنه أن
لا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر.
وهذا التفريق ضعيف، والأمر بالعكس. فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر
ويؤخر السحور، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن
يذهب وقت طويل جدًّا يفوت المغرب ويفوت تعجيل الفطور، والمصلي مأمور
بصلاة المغرب وتعجيلها، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر بتأخير المغرب
إلى حد اليقين فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس.
وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف؛ وهو مذهب أبي حنيفة: أنهم
كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء، وتأخير الظهر وتقديم العصر.
وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول
الوقت، وليس كذلك؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء، وإنما سنّ
ذلك لأن هاتين الصلاتين يُجمع بينهما للعذر، وحال الغيم حال عذر، فأُخِّرت
الأولى من صلاتي الجمع وقدمت الثانية لمصلحتين:
(إحداهما) التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة لأجل خوف المطر،
كالجمع بينهما مع المطر (والثانية) أن يتيقن دخول وقت المغرب، وكذلك الجمع بين
الظهر والعصر على أظهر القولين وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الجمع
بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو
قول مالك وأظهر القولين في مذهب أحمد.
(الثاني) أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أوْلى من الخطأ في تقديم الظهر
والمغرب؛ فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحال، بخلاف تينك، فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب؛ لأن ذلك وقت حال العذر، وحال الاشتباه
حال عذر، فكان بين الصلاتين مع الاشتباه أولى الصلاة مع الشك.
وهذا فيه ما ذكره أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط، لكنه احتياط مع تيقن
الصلاة في الوقت المشترك، ألا ترى أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب ولا
في العشاء والعصر، ولو كان العلم خوف الصلاة قبل الوقت لطرد هذا في الفجر ثم
يطرد في العصر والعشاء.
وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتبكير بالعصر في يوم الغيم،
فقال: (بكِّروا بالصلاة في يوم الغيم؛ فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) .
فإن قيل: فإذا كان يستحب أن يؤخر المغرب مع الغيم فكذلك يؤخر الفطور.
قيل: إنما يستحب له تأخيرها مع تقديم العشاء بحيث يصليهما قبل مغيب الشفق،
فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب، ولا يستحب تأخير الفطور إلى
هذه الغاية.
ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب، ولا
يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على
الناس، وإنما شرع الجمع؛ لئلا يحرج المسلمون.
وأيضًا فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين بل أن يؤخر
الظهر ويقدم العصر، ولو كان بينهما فصل في الزمان. وكذلك في المغرب
والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى لا يحتاجون إلى ذهاب إلى
البيوت، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين، كما قد ذكرناه
في غير هذا الموضع.
وأيضًا فقد ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا
يومًا من شهر رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس. وهذا يدل على شيئين:
على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب؛ فإنهم لم يفعلوا
ذلك، ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة - مع نبيهم - أعلم
وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم.
(والثاني) لا يجب القضاء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرهم بالقضاء
لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمرهم به.
فإن قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أُمروا بالقضاء؟ قال: أَوَبُدٌّ من القضاء؟
قيل: هشام قال ذلك برأيه، لم يروِ ذلك في الحديث. ويدل على أنه لم يكن عنده
بذلك علم: أن معمرًا روى عنه؛ قال: سمعت هشامًا يقول: لا أدري أقضوا أم لا؟
وذكر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمه فاطمة بنت المنذر، عن
أسماء.
وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه،
وهذا قول إسحاق بن راهويه، وهو قرين أحمد بن حنبل ويوافقه في المذهب وأصوله
وفروعه - وقولهما كثيرًا ما يجمع بينه. والكوسج سأل مسائله لأحمد وإسحاق،
وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق وكذلك غيرهما؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق، فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج.
وكذلك أبو زُرْعة وأبو حاتم وابن قتيبة وغير هؤلاء من أئمة السلف والسنة
والحديث وكانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق - يقدمون قولهما على أقوال
غيرهما، وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم هم أيضًا من
أتباعهما وممن يأخذ العلم والفقه عنهما، وداود من أصحاب إسحاق.
وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول: أنا أُسأل عن إسحاق؟!
إسحاق يُسأل عني!
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر
المروزي وداود بن علي ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين.
وأيضًا فإن الله قال في كتابه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ
الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} (البقرة: 187) ، وهذه الآية مع الأحاديث
الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر،
فهو - مع الشك في طلوعه - مأمور بالأكل كما قد بُسط في موضعه.
(للرسالة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) روى البخاري من حديث عائشة: (كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية فأدخل إصبعه في فيه وجعل يقيء) .(31/520)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
لماذا تأخر المسلمون؟
ولماذا تقدم غيرهم
بقلم أمير البيان
(3)
العبرة للعرب وسائر المسلمين برُقي اليابانيين
ولكني أخرج من أوربة إلى اليابان فقط؛ لأن رقي اليابان يضارع الترقي
الأوربي، وقد تم لليابانيين كما تم رقي أوربة للأوربيين؛ أي في ضمن دائرة
قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم.
فأنقل إلى القراء العرب فقرة من رسالة طويلة جاءت من مراسل أوربي سائح
في اليابان وظهرت في جريدة (جورنال دو جنيف) بتاريخ 20 أكتوبر، فإنه
يقول:
(إن الياباني يحب الفن قبل كل شيء، وإن رأيته ساعيًا في كسب المال
فلأجل أن يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحُسن والجمال. وقد انتقش في صفحة
نفسه الشعور القومي الشديد عدا الميل إلى الجمال؛ لأنه يفتخر بكون اليابان في مدة
ستين سنة فقط صارت من طور أمة من القرون الوسطى إقطاعية الحكم إلى أمة
عظيمة من أعظم الأمم، ومما لا ريب فيه أن الديانة اليابانية هي ذات دور عظيم
في سياسة اليابان (ليتأمل القارئ) وهي في الحقيقة فلسفة مبنية على الاعتراف
بكل ما تركه القدماء لسلائلهم، فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع
احتياجات الحياة العصرية، لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه،
ومع التمسك الشديد بقوميته، غير مجيب نداء التفرنُج (وفي الأصل التغرب
Accidentalisme) الذي لا يريد الياباني أن يأخذ منه إلا ما هو ضروري له
لأجل مصارعة سائر الأمم بنجاح، ولاشك أن هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق
الأقصى) .
ثم يقول:
(كان اليابانيون يكرهون الأسفار إلى البلدان البعيدة، ويحظرون دخول
الأجانب في بلاهم، ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد النهضة العصرية، وتلافت
اليابان ما فات بشكل مدهش. والنتائج هي أمامنا، إلا أن الماضي لا يزال عند
اليابانيين مقدسًا معظمًا في جميع طبقاتهم؛ لأنه في هذا الماضي المقدس يجد
اليابانيون جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية
الحديثة التامة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه، لكن ينبذون كل
(تغرب) بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه، ويعودون مع اللذة إلى شعورهم
القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم الأعلون.
وهناك هياكل (شنيتو) ومعابد (زن) والهياكل البوذية وهي مكرمة معظمة
بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون. والحق أن
هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم
حصنًا منيعًا دون المبادئ الشعوبية، والأفكار الشيوعية المضرة) .
ومنذ بضع سنوات ظهر في فرنسة تأليف جديد عن اليابان للمركيز
(لامازليير) Mazeliere La قد أطنبت الجرائد في وصفه، ونشرت عنه جريدة
(الديبا) مقالاً رنّانًا، فنحن نوصي القراء الذين يهمهم أن يعرفوا كيفية ارتقاء اليابان
- وهو موضوع في غاية الجلالة لما فيه من الاستنتاج لسائر بلاد الشرق -
بمطالعة هذا الكتاب الذي لا يمكن أن يُنسب إلى مؤلفه التعصب لليابان، على أنني
رأيته في الجملة مطابقًا لتواريخ ألفها علماء يابانيون متخصصون في التاريخ.
وهذه التواريخ مترجمة من اليابانية إلى الإفرنسية. ولا بد لي في هذه العجالة من
نقل بعض فِقَر من تاريخ لامازليير المذكور، قال في أثناء الكلام على تمدن اليابان
العصري وخروج هذه الأمة من عزلتها القديمة ما يلي:
(فبدأت اليابان تستعير من أوربة وأمريكا قسمًا من مدنيتهما المادية، ومن
نظامهما العسكري، ومن مباحث تعليمهما العام، ومن سياستهما المالية، فكان
المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من كل شعب ما يرونه الأحسن عنده، فكان ذلك
مشروع تجديد وهدم وإعادة بناء، وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة
اليابانية) .
ثم تكلم عن الحرب اليابانية الصينية، وانتهى إلى قوله الذي نترجمه ترجمة
حرفية:
إن ظفر اليابان بالصين لم يُثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي أخذتها
اليابان عن الغرب وكفى، بل أثبت أمرًا آخر وهو أن شعبًا آسيويًّا بمجرد إرادته
وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب (تأمل جيدًا) مع
الاحتفاظ باستقلاله وقوميته وعقليته وآدابه وثقافته) اهـ.
وقبلاً كنت نشرت في الجرائد - وما نشرته لم يكن إلا نقطة من غدير -
خلاصة الحفلات التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ سنتين، وكيف استمرت
مراسم هذا الاحتفال مدة شهر، وكانت بأجمعها دينية، وكيف أن الميكادو هو كاهن
الأمة الأعظم، وكيف أنه من سلالة الإلهة (الشمس) وكيف اغتسل في الحمام
المقدس المحفوظ من ألفي سنة، وكيف أكل مع الآلهة (!) الأرز المقدس الذي
زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة، حتى يكون تام القدسية لا شبهة فيه، وكيف
كان ثمة في الحفل ستمائة ألف ياباني وكلهم يهتفون: ليحيى الميكادو عشرة آلاف
سنة إلى غير ذلك!
لماذا لا نسمي اليابان وأوربة رجعية بتدينهما؟ !
فلماذا - يا ليت شعري - تتقدم اليابان هذا التقدم السريع المدهش وتصير هذه
الأمة العصرية يضرب برقيها المثل، وهي تضرب بأعراقها إلى عقائد وعادات
ومَنازع مضى عليها ألفا سنة، ويكون إمبراطورها هو كاهنها الأعظم، ولا
يقال عنها: (رجعية) و (مرتجعة) و (ارتجاعية) ؟ (فإن كانت اليابان
رجعية فمَرْحَى بالرجعية!) .
ولماذا كان ملك إنكلترة وإمبراطور الهند السيد على 400 مليون آدمي في
الأرض من البيض والسمر والصفر والحمر والسود - هو رئيس الكنيسة
الإنكليكانية، ومجالسه النيابية تبحث في جلسات عديدة في قضية الخبز والخمر، هل
يستحيلان بمجرد تقديس القسيس إلى جسد المسيح ودمه فعلاً بدون أدنى شك أم ذلك
من قبيل الرمز والتمثيل؟ ! ولا يقال عنه: إنه (رجعي) ولا يقال عن دولته
العظمى: إنها (متأخرة) أو (متقهقرة) ؟ فإن كانت إنكلترة بعد هذا متقهقرة فيا
حبذا (التقهقر) !
ولماذا كانت القارة الأوربية كلها مسيحية مفتخرة بمسيحيتها، تتباهى بذلك في
كل فرصة، متحدة في هذا الأمر على ما بينها من عداوات ومنافسات، ولا ننبزها
بقولنا: (رجعية) و (ارتجاعية) والحال أن الديانة التي تدين بها أوربة عمرها 19
قرنًا. وهذا عهد يصح أن يقال عنه: قديم (وقديم جدًّا) . وهؤلاء اليهود - مهما
ننكر عليهم، فلا نقدر أن ننكر عليهم المقدرة والذكاء والحس العملي والجد الهائل -
لا يزالون يفخرون بتوراة وُجدت منذ آلاف السنين، ويشاركهم فيها المسيحيون؟ !
ولماذا نرى أعظم شبان اليهود رقيًّا عصريًّا يجاهدون في إحياء اللغة العبرية التي لا يعرف تاريخها لتوغلها في القدم. ولا يقال عنهم: إنهم (رجعيون)
و (متأخرون) و (قهقريون) ؟ !
وقد نشر وايزمان رئيس الجمعية الصهيونية حديثًا في جريدة (الماتن) كان
في أهم ما فخر به وأدلى به كمأثرة ينبغي أن تذكرها لهم الإنسانية هو: (أن
فلسطين الحديثة تتكلم اليوم بأجمعها بلغة الأنبياء) يريد بفلسطين الحديثة فلسطين
اليهودية التي قد نشر الصهيونيون فيها اللغة العبرانية القديمة وأجبروا نشئهم الجديد
على أن يتحدثوا بها لتكون اللغة الجامعة لليهود. ومَن الذي فعل هذا؟ الجواب:
هم اليهود العصريون الأشد أخذًا بمبادئ العلم الحديث والحضارة العصرية {وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) وماذا عساني أحصي من هذه الأماثيل
والعبر في رسالة وجيزة كهذه؟ !
كل قوم يعتصمون بدينهم ومقومات ملتهم ومشخصات قومهم الموروثتين ولا
ينبزون بهذه الألقاب إلا المسلمين.
فإنه إذا دعاهم داعٍ إلى الاستمساك بقرآنهم وعقيدتهم ومقوماتهم ومشخصاتهم
وباللسان العربي وآدابه والحياة الشرقية ومناحيها - قامت قيامة الذين في قلوبهم
مرض، وصاحوا: لتسقط الرجعية! وقالوا: كيف تريدون الرقي وأنتم متمسكون
بأوضاع بالية باقية من القرون الوسطى ونحن في عصر جديد؟ !
جميع هؤلاء الخلائق تعلموا وترقوا وعلوا وطاروا في السماء والمسيحي منهم
باقٍ على إنجيله وتقاليده الكنَسية، واليهودي باق على توراته وتلموده، والياباني
باق على وثنه وأرزه المقدس، وكل حزب منهم فرح بما لديه. وهذا المسلم
المسكين يستحيل أن يترقى إلا إذا رمى قرآنه وعقيدته ومآخذه ومتاركه ومنازعه
ومشاربه ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وأدبه وطربه وغير ذلك، وانفصل من كل
تاريخه، فإن لم يفعل ذلك فلا حظ له من الرقي!
فهذا ما كان من ضرر الجاحد الذي يقصد السوء بالإسلام وبالشرق أجمع
ويخدع السذج بأقاويله.
غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين:
وبقي علينا المسلم الجامد؛ الذي ليس بأخف ضررًا من الجاحد، وإن كان لا
يشركه في الخبث وسوء النية، وإنما يعمل ما يعمله عن جهل وتعصب!
فالجامد هو الذي مهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية،
محتجين بأن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه، والجامد هو
سبب الفقر الذي ابتلي به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط. والحال أن
الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وأن هذه مَزِيَّة له على سائر الأديان. فلا حصَر كسب
الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا
زهده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه
المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوربة الحاضرة.
والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية
وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار. فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم،
وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه وقص أجنحتهم. فإن العلوم الطبيعية هي العلوم
الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها [1] فإن كنا
طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا توًّا إلى
الآخرة فليس لكم نصيب مني.
ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم والمحاضرات الأخروية جعلنا
أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم
يزالوا يعملون في الأرض ونحن ننحط في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في
يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا، فضلاً عن أن يملكوا علينا
دنيانا. وليس هذا هو الذي يريده الله بنا وهو الذي قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) الآية، وقال:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وقال - فيما حكاه وأقره -: {وَلاَ تَنسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وعلَّمنا أن ندعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) .. إلخ.
والمسلم الجامد لا يدري أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته وحَطّها عن
درجة الأمم الأخرى، ولا يتنبه لشيء من المصائب التي جرها على قومه إهمالهم
للعلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا الفقر الذي هم فيه، وصاروا عيالاً على أعدائهم
الذين لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة، فهو إذا نظر إلى هذه الحالة علَّلها بالقضاء
والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن جميع الكُسالى في الدنيا يحيلون على الأقدار.
هذا الخلق هو الذي حبب الكسل إلى كثير من المسلمين فنجمت فيهم فئة
يلقبون (بالدراويش) ليس لهم شغل ولا عمل، وليسوا في الواقع إلا أعضاء شلاء
في جسم المجتمع الإسلامي.
وهذا الخلق بعينه هو الذي جعل الإفرنج يقولون: إن الإسلام جبري لا يأمر
بالعمل؛ لأن ما هو كائن هو كائن، عمل المخلوق أم لم يعمل.
آيات العمل المبطلة لتفسير القدر بالجبر والكسل:
ولا أدل على فساد هذا الزعم الإفرنجي من القرآن الملآن بالحث على العمل
وباستنهاض الهمم، وابتعاث العزائم، ونوط الثواب والعقاب والفوز والفشل بالعمل
الذي يعمله المكلف. قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 105) وقال تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} (يونس:
41) وقال تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: 94) وقال تعالى: {وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} (البقرة: 139) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33) وقال تعالى: {وَاللَّهُ
مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 35) أي: لا ينقصكم أعمالكم، وقال تعالى:
{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} (الحجرات: 14) لا يلتكم:
من لاته يليته أو ولته بمعنى: نقصه، أي لا يبخسكم من أعمالكم شيئًا، وقال تعالى:
{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} (هود: 15) وقال عز وجل:
{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} (هود: 111) وقال عز وجل: {وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19) وقال عز
وجل: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران: 195) وقال عز وجل:
{فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} (الزمر: 74) وقال عز وجل: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ
العَامِلُونَ} (الصافات: 61) وقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وقال عز وجل: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} (النحل: 111) وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)
وقال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن
سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران: 30) وقال عز وجل:
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} (الزمر: 70) وقال عز وجل:
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} (النحل: 34) وقال تبارك وتعالى: {وَوَجَدُوا
مَا عَمِلُوا حَاضِراً} (الكهف: 49) وقال تبارك وتعالى: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا} (الروم: 41) وقال تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} (سبأ: 37) وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا
عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19) وقال تعالى: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8)
وقال تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) ، وقال تعالى:
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17) وقال تعالى: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 55) .. إلى غير ذلك مما لا يكاد يُحصى من الآيات التي
امتلأ بها القرآن، ومنها ما هو نص في مسألتنا كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وقوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ
قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) .
إن صاحب السؤال يعلم وأكثر المسلمين لا يعملون - أن هذه الآية خاطب الله
تعالى بها أكمل هذه الأمة إيمانًا وإسلامًا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ إذ تعجبوا من ظهور المشركين عليهم في غزوة أُحُد، فرد الله عليهم ببيان
السبب وهو مخالَفتهم أمْرَه صلى الله عليه وسلم للرماة الذين يحمون ظهور المقاتِلة
بألا يبرحوا أماكنهم، سواء كان الغَلَب للمسلمين أو عليهم، فلما انهزم المشركون
خالفوا الأمر لمشاركة المقاتلين في الغنيمة، فكرَّ عليهم المشركون حتى شجّ رأس
النبي صلى الله عليه وسلم.. إلخ.
وكلها ناطقة بأن الإسلام دين العمل لا دين الكسل، ولا هو دين الاتِّكال على
القدر المجهول للبشر، كما يقول الدراويش البطَّالون: رِزقنا على الله، عَمِلنا أم لم
نعمل! أو كما يزين للناس بعض مؤلفي الإفرنج من أن دين الإسلام دين جمود
وتفويض وتسليم، وأن تأخر المسلمين إنما نشأ عن ذلك.
ولو كان في هذه الدعوى ذرة ما من الصحة لما نهض الصحابة - أخبرُ الناس
بالإسلام - وفتحوا نصف كرة الأرض في خمسين سنة، ولكن التسليم الذي يتكلمون
عنه ويهرفون بما لا يعرفون إنما هو مقرون بالعمل وبالكدح وبالسعي، وإلا فلا
يسمى تسليمًا بل يسمى جمودًا، ويعد بطالة، وهو مخالف للقرآن وللسنة.
وأما إذا كان التسليم لله مقرونًا بالعمل فإنه أنفع في الدنيا والأخرى؛ لأن إفراط المرء
في الاعتماد على نفسه يورط في البطَر إذا نجح، وفي الجزع إذا فشل. والذي يريده
الإسلام إنما هو أن يعقل الإنسان ويتوكل [2] وأن يدبر لنفسه بهداية عقله الذي جعله
الله مرشدًا، ويعلم مع ذلك أن ليس كل الأمر بيده، وأن من الأقدار ما لا تدركه
الأفكار. وهذا صحيح، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القدر سأله بعض
أصحابه: ألا نتَّكل؟ ! فقال: (اعملوا؛ فكلٌّ ميسر لما خُلق له) رواه البخاري
ومسلم.
ومن أغرب الغرائب أن هؤلاء الإفرنج الذين لا يفتئون ينعتون الإسلام
بالجبرية، وينسبون تأخر المسلمين إلى هذه العقيدة - التي كان يقول بها فئة قليلة من
المسلمين - يذهلون عما هو وارد في الإنجيل من (آيات) القضاء والقدر التي
تماثل ما في القرآن وقد تزيد عليه مثل قوله: لا تسقط شعرة من رؤوسكم إلا بإذن
أبيكم السماوي. ومثل (آي كثيرة) لو أردت استقصاءها لطال المقال. ولا نجد
في الإفرنج الذين هم مغرمون بالعمل وهائمون وراء الكسب ومنكِرون للقضاء
والقدر في الجملة - إلا مَن يقرأ الإنجيل (الشريف) ويقدسه ويعجَب بمبادئه
السامية كما نعجَب بها نحن. فما بالهم نسوا ما فيه من آيات القضاء والقدر؟ وما
بالهم لم يصفوا أقوال المسيح صلوات الله عليه بالجبرية؟ {يُحِلُّونَهُ عَاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: 37) وحقيقة الأمر أن كل ما هو وارد في الإنجيل
وكل ما هو وارد في القرآن من آيات القضاء والقدر - إنما كان مقصودًا به سبْق
علم الله بكل ما يقع [3] . ولم يكن مقصودًا به نفي الاختيار والتزهيد في الكسب.
وفي حديث الوزنتين والوزنات وغير ذلك من مواعظ الإنجيل (الشريف) ما يدل
على ما عزاه القرآن إلى صحف إبراهيم وموسى؛ أي وغيرهما من رسل الله {أَلاَّ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 38-41) .
كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه:
ونعود إلى المسلم الجامد فنقول: إنه هو الذي طرق لأعداء الإسلام على
الإسلام، وأوجد لهم السبيل للقالة بحقه، حتى قالوا: إنه دين لا يأتلف مع الرقي
العصري، وإنه دين حائل دون المدنية. والحقيقة أن هؤلاء الجامدين هم الذين لا
تأتلف عقائدهم مع المدنية، وهم الذين يحُولون دون الرقي العصري. والإسلام
بَرَاء من جماداتهم هذه.
إن الإسلام هو - من أصله - ثورة على القديم الفاسد، وجبٌّ للماضي القبيح،
وقطع مع كل العلائق غير الحقائق، فكيف يكون الإسلام ملة الجمود؟ والقرآن
هو الذي جاء فيه من قصة إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الأنبياء: 52-54) وجاء فيه: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً
فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا
بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ
* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 71-77) وجاء فيه: {إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ
آبَاءَكُمْ} (الزخرف: 23-24) وجاء فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وجاء فيه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:
142) ، وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الثورة على القديم إذا لم يكن صحيحًا
ولم يكن صالحًا.
على أن الذين يفهمون الإسلام حق الفهم يرحبون بكل جديد لا يعارض العقيدة،
ولا تخشى منه مفسدة. ولا أظن شيئًا يفيد المجتمع الإسلامي يكون مخالفًا للدين
المبني على إسعاد العباد. أفلا ترى علماء نجد أبعد المسلمين عن الإفرنج والتفرنُج،
وأنْآهم عن مراكز الاختراعات العصرية، كيف كان جوابهم عندما استفتاهم الملك
عبد العزيز بن سعود - أيده الله - في قضية اللاسلكي والتليفون والسيارة الكهربائية؟
أجابوه أنها محدَثات نافعة مفيدة، وأنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله
- لا بالمنطوق ولا بالمفهوم - ما يمنعها.
أفليس الأدنى لمصلحة الأمة أن تقدر الدولة على معرفة أي حادث يحدث
بمجرد وقوعه حتى تتلافى أمره؟ أفليس الأنفع للمسلمين أن يتمكن الحاج ببضع
ساعات من اجتياز المسافات التي كانت تأخذ أيامًا وليالي؟ لقد سألت الشيخ محمد
بن علي بن تركي من العلماء النجديين الذين بمكة عن رأيه في التليفون واللاسلكي
فقال لي: هذه مسألة مفروغ منها، وأمر جوازها شرعًا هو من الوضوح بحيث لا
يستحق الأخذ والرد.
ولم تكن مقاومة الجديد خاصة بجامدي الإسلام؛ فقد قاومت الكنيسة في
النصرانية كل جديد تقريبًا من قول أو عمل، ثم عادت فيما بعد فأجازته. ولما قال
(غاليله) بدوران الأرض كفّرته، ولا يزال يوجد إلى اليوم من أحبار النصارى
مَن يكفر كل مخالف لما جاء في التوراة من كيفية التكوين، ومن سنتين حُوكم أحد
المعلمين في محاكم إحدى الولايات المتحدة لقوله بنظرية داروين ومُنع من التدريس،
ولكن هذا لم يمنع سير العلم في طريقه [4] .
فالنصارى عندهم جامدون كما عندنا جامدون، والمسلم الجامد يحارب كل علم
غير العلم الديني التقليدي الذي ألِفه، حتى إنه ليحارب مَن لا يعتدّ في دينه إلا
بالكتاب والسنة، وينسى أن العلوم الطبيعية والرياضية والهندسة وجر الأثقال
والفلك والطب والكيمياء وطبقات الأرض؛ وكل علم يفيد الاجتماع البشري - هي
علوم دينية؛ إن لم تكن مباشرة، فمن حيث النتيجة [5] . وكم جرى تدريس هذه العلوم
في الأزهر والأموي والزيتونة والقرويين وقرطبة وبغداد وسمرقند وغيرها عندما كان
للإسلام دول كبار وأعاظم رجال. وكم نبغ في الإسلام من عظماء جمعوا بين
الحكمة والشريعة، ونظموا بين الحديث والرياضة، وإن أكبر فيلسوف عربي
اشتهر اسمه في أوربة هو القاضي ابن رشد، وقد كان من أكابر الفقهاء.
***
مدنية الإسلام
أما زعم مَن زعم أن الإسلام لم يتمكن من تأسيس مدنية خاصة، والاستدلال
على ذلك بحالته الحاضرة - فهو خرافة يموه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج،
وبعض جاحديه من الداخل. أما القسم الأول فلأجل أن يصبغوا المسلمين بالصبغة
الأوروبية، وأما القسم الثاني فلأجل أن يزرعوا في العالم الإسلامي بذور الإلحاد،
ونحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية، ولكننا لا نسلم بأن يصح أن يكون لها ميزانًا؛
وذلك لأنه كثيرًا ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتتفلت من قيوده، وتفسد أخلاقها
وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علة السقوط، ولا يكون الدين هو
المسؤول، وكثيرًا ما تطرأ عوامل خارجية غير منتظرة؛ فتتغلب على ما أثلته
الشرائع من حضارة وتزلزل أركانها، وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القصور
من الشريعة. فتأخر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة، بل من الجهل
بالشريعة، أو من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي. ولما كانت الشريعة جارية على
حقها كان الإسلام عظيمًا عزيزًا.
ومدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة؛ إذ ليس من أمة في أوربة سواء
الألمان أو الفرنسيس أو الإنكليز أو الطليان.. إلخ - إلا وعندهم تآليف لا تُحصى
في (مدنية الإسلام) ، فلو لم تكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة
بطابعه، مبنية على كتابه وسنته - وما كان علماء أوربة حتى الذين عرفوا منهم
بالتحامل على الإسلام يُكثرون من ذكر المدنية الإسلامية ومن سرد تواريخها، ومن
المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت هي
بها.
فالمدنية الإسلامية هي من المدنيات الشهيرة التي يزدان بها التاريخ العام،
والتي تغص سجلاته الخالدة بآثارها الباهرة. وقد بلغت بغداد في دور المنصور
والرشيد والمأمون من احتفال العمارة، واستبحار الحضارة، وتناهي الترف والثروة
- ما لم تبلغه مدينة قبلها ولا بعدها إلى هذا العصر، حتى كان أهلها يبلغون
مليونين ونصف مليون من السكان. وكانت البصرة في الدرجة الثانية عنها، وكان
أهلها نحو نصف مليون.
وكانت دمشق والقاهرة وحلب وسمرقند وأصفهان وحواضر أخرى كثيرة
من بلاد الإسلام أمثلة تامة، وأقيسة بعيدة في استبحار العمران، وتطاول البنيان،
ورفاهة السكان، وانتشار العلم والعرفان، وتأثل الفنون المتهدلة الأفنان.
وكانت القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب أعظم وأعلى من أن
يطاولها مطاول، أو يناظرها مناظر، أو أن يكاثرها مكاثر في ممالك أوربة حتى
هذه القرون الأخيرة.
وكانت قرطبة مدينة فذة في أوربة لا يدانيها مدان، وكان عدد سكانها نحو
مليون ونصف نسمة، وكان فيها نحو سبعمائة جامع عدا المسجد الأعظم الذي لما
زرته في هذا الصيف قال لي المهندس - الذي كان معي من قِبَل الحكومة الأسبانيولية
-: إنه يسع بحسب مساحته خمسين ألف مصلٍّ في الداخل و30 ألف مصل في
الصحن، فجملة مَن يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون ألفًا من المصلين!
ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء رأيناها آثار مدينة لا آثار قصر واحد،
وعلمنا أنها تمتد على مسافة تسعمائة متر طولاً في ثمانمائة متر عرضًا،
والأسبانيول يقولون: مدينة الزهراء، وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على
آثارها: إنهم يرجون الإتيان على كشفها كلها من الآن إلى خمسين سنة. وحسبك
أن غرناطة التي كانت حاضرة مملكة صغيرة في آخر أمر المسلمين بالأندلس لم
يكن في أوربة في القرن الخامس عشر المسيحي بلدة تضاهيها ولا تدانيها، وكان
فيها عندما سقطت في أيدي الأسبانيول - نصف مليون نسمة. ولم يكن وقتئذ
عاصمة من عواصم أوربة تحتوي نصف هذا العدد، وحمراء غرناطة لا تزال
يتيمة الدهر إلى اليوم.
هذه لمحة دالة من مآثر حضارة الإسلام وغُرَر أيامه، وإلا فلو استقصينا كل
ما أثر المسلمون في الأرض من رائع وبديع لم تسع ذلك الأجلاد الكثيرة، المرصوفة
طبقًا فوق طبق.
وكم حرر المؤرخون الأوروبيون تحت عنوان (مدنية الإسلام) كتبًا قيمة
ومجاميع صور تأخذ بالأبصار. وإن أشد مؤرخي الإفرنجية تحامُلاً على الإسلام لا
يتعدى أن يحاول التصغير من شأن مدنيته، وأن ينكر كونه أبا عذرتها. فقصارى
هذه الفئة أن ينكروا كون المسلمين قد ابتكروا علومًا، وسبقوا إلى نظريات صارت
خاصة بهم، وغايتهم أن يقولوا: إن المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا وأذاعوا
وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب. وهذا القول مردود عند المحققين الذين
يعرفون للمسلمين علومًا ابتكروها، وحقائق كشفوها، وآراءً سبقوا إليها، فضلاً
عما زادوا عليه وأكملوه، وما نشروه ونقلوه، ومَن استرقَ شيئًا وقد استرقّه، فقد
استحقه.
وبعد: فلم نعلم مدنية واحدة من مدنيات الأرض إلا وهي رشح مدنيات سابقة،
وآثار آراء اشتركت بها سلائل البشرية، ومجموع نتائج عقول مختلفة الأصول،
ومحصول ثمرات ألباب متباينة الأجناس.
الرد على حُسَّاد المدنية الإسلامية المكابرين:
أينسى حساد الإسلام والمكابرون في عظمة فضله، الزاعمون أنه إنما نقل
وتعلم وقلد واقتدى، وأنه إنما صلى وراء غيره - أن المدنية الشرقية يوم ظهر
الإسلام كان أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وأنه هو الذي جددها وأحيا آثارها،
وأقال عثارها؟ وأنها بعد أن كانت قد امَّحت ولحقت بالغابرين - أبرزها من
أصدافها، وجلاها من بعد أن كانت ملفوفة بغلافها، ونشرها في الخافقين، وبلَّجها
كفلق الصبح لكل ذي عينين، وأضفى عليها لباس الإسلام الخاص، ودبجها بديباجة
القرآن، التي لم تفارقها في شرق ولا غرب، ولا سهل ولا وعر، حتى حمل ذلك
كثيرًا من علماء الإفرنج ممن لم يُعمه الهوى، ولم يحِدْ في التحقيق عن مهيع الهدى
- على أن اعترفوا بأن مدنية الإسلام لم تكن نسخًا ولا نقلاً، وإنما هي قد نبعت من
القرآن، وتفجرت من عقيدة التوحيد؟
فأما ما ترجمته حضارة الإسلام من كتب، وما أخذته عن غيرها من علوم،
وما أفادته في فتوحاتها من مَنازع جميلة، وطرائق سديدة، فلا يقدح ذلك في
بكارتها الإسلامية، ومسحتها العربية؛ لأن هذا شأن الحضارات البشرية بأجمعها
أن يأخذ بعضها عن بعض ويكمل بعضها بعضًا؛ فالعلم الحقيقي ينحصر في هذا
الحديث الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن ينشدها ولو في الصين) [6] وهذه من
أقدس قواعد الإسلام.
وعلى كل حال لا يقدر مكابر أن يكابر أن الإسلام كان له دور عظيم في الدنيا،
سواء في الفتوحات الروحية أو العقلية أو المادية، وأن هذه الفتوحات قد اتَّسقت
له في دور لا يزيد على ثمانين سنة، مما أجمع الناس على أنه لم يتسق لأمة قبله
أصلاً. وكان نابليون الأول لشدة دهشته من تاريخ الإسلام يقول في جزيرة
سنتيهلانة: إن العرب فتحوا الدنيا في نصف قرن لا غيره!
وتأمل أيها القارئ في أن قائل هذا القول هو بونابرت الذي لم تكن تملأ عينه
الفتوحات مهما كانت عظيمة.
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
فهذا رجل عظيم جدًّا استعظم حادث العرب الذي لم يسبق نظيره في التاريخ،
وقد بقي دور العرب هو الأول في وقته، ولبثوا هم المسيطرين في الأرض، لا
يضارعهم مضارع، ولا يغالبهم مغالب، مدة ثلاثة أو أربعة قرون. ثم أخذوا
بالانحطاط، وجعلت ظلالهم تتقلص عن البلدان التي كانوا غلبوا عليها شيئًا فشيئًا،
وذلك بفتور الهمم، ودبيب الفساد إلى الأخلاق، ونبذ عزائم الدين، واتباع شهوات
الأنفس، وأشد ما ابتُلوا به التنافس على الإمارات والرئاسات - ولا سيما القيسية
واليمانية - مما لولاه لدانت لهم القارة الأوربية بأجمعها، وكانت الآن عربية كما هو
المغرب.
فالمصائب التي حلت بالمسلمين إنما هي مما صنعته أيديهم، ومما حادوا به
عن النهج السوي الذي أوضحه لهم القرآن الذي لما كانوا عاملين بمُحكم آيه علوا
وظهروا، وكانت لهم الدول والطوائل، فلما ضعف عملهم به وصاروا يقرؤونه بدون
عمل، وانقادوا إلى أهواء أنفسهم من دونه - ذهبت ريحُهم، وولى السلطان الأكبر
الذي كان لهم، وانتقصت الأعداء أطراف بلادهم، ثم قصدوا إلى أوساطها.
ولنضرب الآن بعض أمثلة عن الأمم الأخرى لأجل المقابلة بيننا وبينهم؛ إذ
كانت بضدها تتبين الأشياء.
اليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها:
كان اليونانيون قبل النصرانية أرقى أمم الأرض أو من أرقى أمم الأرض،
وكانوا واضعي أسس الفلسفة، وحاملي ألوية الآداب والمعارف، ونبغ منهم مَن لا
يزالون مصابيح البشرية في العلم والفلسفة إلى يوم الناس هذا.
وكان الإسكندر المكدوني أعظم فاتح عرفه التاريخ ومن أعظم الفاتحين الذين
عرفهم التاريخ - حاملاً للأدب اليوناني، ناشرًا لثقافة يونان بين الأمم التي غلب
عليها. وما كانت دولة البطالسة التي لمعت في الإسكندرية بعلومها وفلسفتها إلا من
فتوح الإسكندر. ثم لم تزل هذه الحالة إلى أن تنصرت يونان بعد ظهور الدين
المسيحي بقليل، فمذ دانت هذه الأمة بالدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط، وفقد
مزاياها القديمة، ولم تزل تنحط قرنًا عن قرن، وتتدهور بطنًا عن بطن - إلى أن
صارت بلاد اليونان ولاية من جملة ولايات السلطنة العثمانية. ولم تعد إلى شيء
من النهوض والرقي إلا في الماضي، وأين هي مع ذلك الآن مما كانت قبل
النصرانية؟ !
أفيجب أن نقول: إن النصرانية كانت المسؤولة عن انحطاط يونان هذا؟ !
إن القائلين بأن الإسلام قد كان سبب انحطاط الأمم الدائنة به لا مفر لهم من
القول بأن النصرانية قد أدت أيضًا إلى انحطاط يونان التي كانت من قبلها عنوان
الرقي.
ثم كانت رومة في عصرها الدولة العظمى التي لا يُذكر معها دولة، ولا يؤبه
في جانب صولتها لصولة، ولم تزل هكذا هي المسيطرة على المعمور إلى أن
تنصرت لعهد قسطنطين. فمنذ ذلك العهد بدأت بالانحطاط مادةً ومعنًى إلى أن
انقرضت أولاً من الغرب، وثانيًا من الشرق. ولم تسترجع رومة بعد انقراض
الدولة الرومانية شيئًا من مكانتها الأولى، وبقيت على ذلك مدة 15 قرنًا حتى
استأنفت شيئًا من مجدها الغابر. وما هي إلى هذه الساعة ببالغة ذلك الشأْو الذي
بلغته أيام الوثنية.
أفنجعل تنصر الرومان هو العامل في انحطاط رومة وتدحرجها عن قمة تلك
العظمة الشاهقة؟ لقد قال بهذا علماء كثيرون كما قال آخرون مثل هذه المقالة في
الإسلام، وكلا الفريقين جائر حائد عن الصواب.
فإن لسقوط الرومان بعد فشوّ الدين المسيحي فيهم، ولسقوط اليونان من قبلهم
بعد أن تقبلوا دعوة بولس إلى النصرانية - أسبابًا وعوامل كثيرة من فساد الأخلاق،
وانحطاط الهمم، وانتشار الخَنَى والخلاعة، وشيوع الإلحاد والإباحة، ومن هرم
الدول الذي يتكلم عنه ابن خلدون، وغير ذلك من أسباب السقوط الداخلية منضمة
إليها غارات البرابرة من الخارج، فكانت ثمة أسباب قاسرة مؤدية إلى السقوط الذي
كان لا بد منه، فلو فرضنا أن النصرانية لم تكن جاءت وقتئذ، لم يكن الرومان
ولا اليونان نجوا من عواقب تلك الحوادث، ولا تخطَّتهم نتائج تلك الأسباب.
فدعوى بعض المؤرخين الأوربيين أن تغلب المسيحية على اليونان والرومان
أخنى على عظمتها، وذهب بمدنيتها، ليس فيه من الصحيح إلا كون الأوضاع
الجديدة تذهب بالأوضاع القديمة، سنة الله في خلقه، وأنه في هيعة هذا التحول
لا بد من اضطراب الأحوال وانحلال القواعد واستحكام الفوضى، وإلا فلا أحد يقدر
أن يقول: إن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية [7] .
وهذه الدعوى كانت تكون أشبه بدعوى أعداء الإسلام الذين يزعمون أن
الشرق كان راتعًا في بحابح العمران، فجاء الإسلام وطمس المدنيات الشرقية
القديمة! لولا أن الحقيقة هي كما قدمنا أن المدنيات الشرقية كانت كلها قد
انقرضت أو انحطَّت قبل ظهور الإسلام بكثير، وأن الإسلام وحده لا غيره هو
الذي جدَّد مدنية الشرق الدارسة، واستأنف صوْلته الذاهبة الطامسة، وبعث تلك
الحواضر العظمى الزاخرة بالبشر كبغداد والبصرة وسمرقند وبخارى ودمشق
والقاهرة والقيروان وقرطبة وهلم جرًّا، ولئن كانت قد بقيت للشرق آثار مدنيات
قديمة، فإن الإسلام هو الذي وطد بوانيها، وطرز حواشيها، وحمل السيف بيد والقلم
بيد، إلى أبعد ما تصوره العقل من حدود الأقطار التي لم يسبق لشرقي أن يطأها
بقدمه.
فإذا كان الإفرنج الصليبيون من الغرب، وكان المغول أولئك الجراد المنتشر
من الشرق، قد تبَّروا ما علا الإسلام في تلك الممالك، ونسفوا عمران هاتيك
الحواضر، وكانت منافسات ملوك الإسلام الداخلية واتباعهم للشهوات، وإمعانهم في
الضلالات، ومحيدهم عن جادة القرآن القويمة، وفقدهم ما يزرعه في الصدور من
الأخلاق العظيمة، قد قضت في الداخل، على ما عجز عن تعفيته العدو من
الخارج، فليس الذنب في هذا التقلص ذنب الإسلام، ولا التبعة في هذا الانقلاب
عائدة على القرآن، وإنما الذنب هو ذنب الهمج من الإفرنج، وجناية ذلك الجراد
الزحاف من المغول، وإنما هي تبعة المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم
واشتروا بآياته ثمنًا قليلاً، إلا النادر منهم.
وأيضًا فقد تنصرت الأمم الأوربية في القرن الثالث والرابع والخامس
والسادس من ميلاد المسيح، وبقيت أمم في شرقي أوربة إلى القرن العاشر حتى
تنصرت. ولم تنهض أوربة نهضتها الحالية التي مكَّنتها تدريجًا من هذه السيادة
العظمى بقوة العلم والفن إلا من نحو أربعمائة سنة؛ أي من بعد أن دانت بالإنجيل
بألف سنة. ومنها بعد أن دانت به بسبعمائة سنة ومنها بثمانمائة سنة ... إلخ. وهذه
هي القرون المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى. ولا نقول: إن الأوربيين كانوا في
هذه القرون بأجمعها هائمين في ظلمات بعضها فوق بعض؛ بل نقول: إن العرب
كانوا أعلى كعبًا منهم بكثير في المدنية بإقرار مؤرخيهم، وبرغم أنف لويس برتران
وأضرابه.
ومن الكتب المخرجة حديثًا الشاهدة بذلك (التاريخ العام) للكاتب الفيلسوف
الإنكليزي (ولز) و (تاريخ مدنيات الشرق) لمؤلف إفرنسي متخصص في
التواريخ الشرقية اسمه (غروسه) ، فالحقيقة التاريخية المجمع عليها هي واحدة في هذا الموضوع، لم يظهر ما ينقضها ولن يظهر، وهي: أن العرب في القرون
الوسطى كانوا أساتيذ الأوربيين، كان الواحد من هؤلاء إذا تخرج على العرب
تباهى بذلك بين قومه!
سبب تأخر أوربة الماضي ونهضتها الحاضرة:
أفنجعل هذا التأخر الذي كان عليه الأوربيون في القرون الوسطى مدة ألف
سنة - ناشئًا عن النصرانية التي كانت دينهم الذي يعَضّون عليه بالنواجذ؟
نعم، إن الأمم البروتستانية منهم تجعل مصدر هذا التأخر الكنيسة البابوية لا
النصرانية من حيث هي. وتزعم أن نهضة أوربة لم تبدأ إلا بخروج (لوثير،
وكلفين) على الكنيسة الرومانية.
وأما فولتير ومَن في حزبه من أقطاب الملاحدة فلا يفرقون كثيرًا بين الكاثوليك
والبروتستانت، وعندهم أن جميع هذه العقائد واحدة وأنها عائقة عن العلم والرقي؛
ولهذا قال فولتير تلك الكلمة عندما ذُكر لديه لوثير وكلفين، قال: (كلاهما لا
يصلح أن يكون حذاءً لمحمد) ! يريد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بلغ من
الإصلاح ما لم يبلغا أدناه، مع اعتقاد الكثيرين أن مذهبهما كان فجر أنوار أوربة [8] .
والحق الذي لا نرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسؤولة عن
جهالة الإفرنج المسيحيين مدة ألف سنة في القرون الوسطى بل للمسيحية الفضل في
تهذيب برابرة أوربة.
وهؤلاء اليابانيون هم وثنيون. ومنهم مَن هم على مذهب بوذا. ومنهم من
يقال: لهم طاويون، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس. ولقد مضى
عليهم نحو ألفي سنة، ولم تكن لهم هذه المدنية الباهرة ولا هذه القوة والمكانة بين
الأمم. ثم نهض اليابان من نحو ستين سنة وترقوا وعزوا وغلظ أمرهم، وعلا
قدرهم، وصاروا إلى ما صاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين. فلا كانت الوثنية إذًا
سبب تأخرهم الماضي، ولا هي سبب تقدمهم الحاضر، وقد تقاوت اليابان والروسية
وتحاربتا فتغلبت اليابان على الروسية. مع أن اليابانيين في العدد هم نصف الروس،
ولكن مما لا شك فيه أن اليابانيين أرقى من الروس، والحال أن الروسية عريقة
في النصرانية، واليابان عريقة في الوثنية.
فليترك إذًا بعض الناس جعْل الأديان هي المعيار للتأخر والتقدم [9] .
أفنقول من أجل هذا المثال: إن الإنجيل هو الذي أخَّر الروسية عن درجة
اليابان، وإن عبادة الإلهة ابنة الشمس هي التي جذبت بضبع اليابان حتى سبقت
الروسية؟
إن لهذه الحوادث أسبابًا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى، فإذا
تراكمت هذه العوامل في خير أو شر تغلبت على تأثير الأديان والعقائد، وأصبحت
فضائل أقوم الأديان عاجزة بإزاء شرها، كما أصبحت معايب أسخفها غير مؤثرة
في جانب خيرها.
ولسنا هنا في صدد أسباب تقدم اليابان السريع حتى نبين أن اعتقاد عامتهم
(وجود حصان مقدس يركبه الإله فلان) - لم يقف حائلاً دون تقدمهم المبني على ما
رُكب في فطرتهم من الحماسة، وما أوتوا من الذكاء، وما أورثهم نظام الإقطاع
القديم من التنافس في المجد والقوة.
وعندنا أمثلة كثيرة لا تكاد تُحصى في هذا الباب اجتزأنا منها بما ذكرناه. ولم
نكن لنتعرض لهذا المقام لولا حملات القسوس والمبشرين وكثير من الأوربيين على
الإسلام، وزعمهم أنه هو عنوان التأخر، وأنه رمز الجمود، وتحدثهم بذلك في
الأندية والمجامع، ونشرهم هذه الافتراءات في المجلات والجرائد، وقولهم: إن
الشجرة تعرف من ثمارها، وإن حالة العالم الإسلامي الحاضرة هي نتيجة جمود
الإسلام، وتحجر القرآن! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف: 5) .
وحسبك أن المسيو (سان) المقيم الإفرنسي السامي في المغرب ينشر في
العدد الأخير من (مجلة الإحياء) الإفرنسية مقالة يتكلم فيها عن يقظة المغرب بعد
(ليل الإسلام) ! هكذا تعبيره.
فإن كان تأخر إحدى الممالك الإسلامية حقبة من الدهر يجب أن يقال: فيه
(ليل الإسلام) فكم كان ليل النصرانية طويلاً عندما بقيت أوربة المسيحية زهاء ألف
سنة وهي في حالة الهمجية أو ما يقرب من الهمجية؟ !
لماذا - أيها الناس - تُدخلون الأديان فيما هي براءة منه؟ ولماذا تقحمونها في
موضوع يكذبكم فيه التاريخ بأماثيله الجمة؟ !
إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعْلها هي معيار الترقي والتردّي ليس من
النَّصَفَة في شيء.
حث القرآن على العلم باعث للمسلمين على سبْق الأمم في الرقي:
والعالم الإسلامي يمكنه النهوض والرقي واللحاق بالأمم العزيزة الغالبة إذا أراد
ذلك المسلمون ووطنوا أنفسهم فيه. ولا يزيدهم الإسلام إلا بصيرة فيه وعزمًا. ولن
يجدوا لأنفسهم حافزًا على العلم والفن خيرًا من القرآن الذي فيه: {هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) ، والذي فيه: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
العِلْمِ} (البقرة: 247) والذي فيه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
العِلْمِ} (آل عمران: 7) والذي فيه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ
وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} (آل عمران: 18) والذي فيه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} (العنكبوت: 49) والذي فيه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) والذي فيه: {وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 129) وفيه: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: 269) وفيه: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} (النساء: 54) وغير ذلك من الآيات
الكريمة، فيه ما هو خاص بالأمة العربية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) .
وقد زعم بعضهم ومن جملتهم (سيكار) هذا الذي بالمغرب الذي ألّف في
الطعن على الإسلام، والذي يكتب في مجلة (مراكش الكاثوليكية) - أن المراد
بلفظة (العلم) في القرآن هو العلم الديني، ولم يكن المقصود به العلم مطلقًا لنستظهر
به على قضية تعظيم القرآن للعلم وإيجابه للتعليم. وقد أتى سيكار من المغالطة في
هذا الباب ما لا يستحق أن يرد عليه لما فيه من المكابرة في المحسوس. وكل من
تأمل في مواقع هذه الآيات المتعلقة بالعلم وبالحكمة وغيرها مما يحث على السير
في الأرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على إطلاقه متناولاً
كل شيء، وأن المراد بالحكمة هي الحكمة العلمية المعروفة عند الناس، وهي غير
الآيات المنزلة والكتاب كما يدل عليه العطف، وهو يقتضي المغايرة. ويعزز ذلك
الحديث النبوي الشهير: (اطلبوا العلم ولو في الصين) [10] فلو كان المراد بالعلم
هو العلم الديني - كما زعم سيكار - ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على
طلبه ولو في الصين؛ إذ أهل الصين وثنيون، لا يجعلهم النبي مرجعًا للعلم الديني
كما لا يخفى.
وفي بعض الآيات من القرائن اللفظية والمعنوية ما يقتضي أن المراد بالعلم
علم الكون؛ لأنه في سياق الخلق والتكوين وهي في القرآن أضعاف الآيات في
العبادات العملية كالصلاة والصيام، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 27-28) ؛ أي العلماء بما ذكر في الآية من الماء
والنبات والجبال وسائر المواليد المختلفة الألوان وما فيها من أسرار الخلق؛ لا العلماء
بالصلاة والصيام والقيام.
وقد كنا ظننا هذا الرجل على شيء من حب الحقيقة، فلما أنكر المدنية
الإسلامية رددنا عليه في (المنار) وجادلناه بالتي هي أحسن، وعظَّمنا من قدر
المدنية المسيحية ووقرنا منها ورددنا على القائلين من الأوربيين بأن النصرانية
كانت وقفًا لسير المدنية وسببًا لسقوط اليونان والرومان إلى غير ذلك. فكان من
سيكار هذا أن نشر سلسلة مقالات تتضمن من الطعن على الإسلام ما لو جئنا نرده
لم نستغنِ عن إيراد شُبه واعتراضات تتعلق بالدين المسيحي، مما نأبى أن نتعرض
له؛ لأنه ليس من العدل ولا من الكياسة ولا من حسن الذوق - أن نغيظ (إخواننا)
المسيحيين من أجل رجل اسمه سيكار أو غيره من هذه الطبقة من الدعاة والمبشرين.
هذا زائدًا إلى ما رأيناه في كلامه من الخلط والخبط والمغالطة التي من قبيل قوله:
إن العلم المقصود في القرآن ليس هو العلم المعروف عند الناس بمفهومه المطلق
وإنما هو العلم الديني فقط؛ لأن القرآن لا يهمه شيء من علوم الدنيا! فمكابر
كهذا لا يستحق الجواب.
ثم علمنا أن المسيو سيكار هذا هو من مستخدمي فرنسة في الرباط بإدارة
الأمور الإسلامية، وأنه هو والمسيو لويس برينو مدير التعليم الإسلامي هناك،
والقومندان ماركو مدير قلم المراقبة على الجرائد والمطبوعات، والقومندان مارتي
مستشار العدلية الإسلامية، ورهطًا آخرين - هم الذين لعبوا الدور الأهم في قضية
العمل لتنصير البربر. وما كان استخدام فرنسة لهم في مهمات كلها عائد للإسلام إلا
على نية نقض كل ما يقدرون عليه من بناء الإسلام بالمغرب، وستذوق فرنسة -
ولو بعد حين - وبال ما عملته وتعمله من التعرض للدين الإسلامي الذي تعهدت في
معاهداتها باحترامه.
كلمة لطلاب النهضة القومية دون الدينية:
يقول بعض الناس [11] : ما لنا وللرجوع إلى القرآن في ابتعاث هِمَم المسلمين
إلى التعليم؛ فإن النهضة لا ينبغي أن تكون دينية بل وطنية قومية كما هي نهضة
أهل أوربة، ونجيبهم أن المقصود هو النهضة سواء كانت وطنية أم دينية [12] على
شرط أن تتوطن بها النفوس على الخبّ في حلبة العلم. ولكننا نخشى إن جردناها
من دعوة القرآن أن تفضي بنا إلى الإلحاد والإباحة، وعبادة الأبدان، واتباع
الشهوات، مما ضرره يفوت نفعه. فلا بد لنا من تربية علمية سائرة جنبًا إلى
جنب مع تربية دينية، وهل يظن الناس عندنا في المشرق أن نهضة من نهضات
أوربة جرت بدون تربية دينية؟ !
أفلم يقل رئيس نُظار ألمانية في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات: إن ثقافتنا مبنية
على الدين المسيحي. وهذا هو إعلان ألمانية التي هي المثل الأعلى في العلم
والصناعة وإتقان الآلات والأدوات، لا ينازع في ذلك أحد ولا أعداؤها.
أفتوجد جامعة في ألمانية أو إنكلترة أو غيرهما من هذه الممالك الراقية بدون
أن يكون فيها علم اللاهوت المسيحي؟ [13]
ثم إنهم عندما يقولون في أوربة: (نهضة وطنية) ، أو (نهضة قومية) أو
(جامعة وطنية) ، أو (قومية) - لا يكون مرادهم بالوطن: التراب والماء والشجر
والحجر. ولا بالقوم: السلالة التي تتحدّر كلها من دم واحد، وإنما الوطن والقوم
عندهم لفظتان تدلان على وطن وأمة بما فيهما من جغرافية وتاريخ وثقافة وحرث
وعقيدة ودين وخلق وعادة مجموعًا ذلك معًا، وهذا الذي يناضلون عنه، ويستبسلون
كل هذا الاستبسال من أجله.
خلاصة الجواب أن المسلمين ينهضون بمثل ما نهض به غيرهم:
إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا في مصاعد المجد
ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم - هو الجهاد بالمال والنفس الذي أمر به الله في
قرآنه مرارًا عديدة وهو ما يسمونه اليوم (بالتضحية) .
فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقي إلا بالتضحية.
وربما كان الشيخ محمد بسيوني عمران أو غيره من السائلين عن رأينا في
هذا الموضوع قد ظن أني سأجيبه أن مفتاح الرقي هو قراءة نظريات (أينشتين)
في النسبية مثلاً، أو درس أشعة (رونتيجن) وميكروبات (باستور) ، أو التعويل
في اللاسلكي على التموجات الصغيرة دون الكبيرة، أو درس اختراعات (أديسون) ،
وأن سبب حادثة المِنطاد الإنكليزي الذي سقط أخيرًا واحترق - هو كونه لم يُنفخ
بالهليوم وإنما نُفخ بالهيدروجين، والحال أن الهيدروجين - وإن كان أخف في
الوزن - قابل للاشتعال، وأنه لا خوف من اشتعال الهليوم، وإن كان أثقل شيئًا من
الهيدروجين، وما أشبه ذلك.
والحقيقة أن هذه الأمور إنما هي فروع لا أصول، وأنها نتائج لا مقدمات،
وأن (التضحية) أو الجهاد بالمال وبالنفس هو العلم الأعلى، فإذا تعلمت الأمة هذا
العلم وعملت به - دانت لها سائر العلوم، ودنت جميع القطوف.
وليس بالضروري أن يكون صاحب الحاجة عالمًا بعملها حتى يكون عالمًا
بالاحتياج إليها. قال لي مرة حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني:
(إن الوالد الشفيق يكون من أجهل الجهلاء، فإذا مرض ابنه اختار له أحذق
الأطباء، وعلم أن هناك شيئًا نافعًا هو العلم، لا يعلم هو شيئًا منه، ولكنه يعلم -
بسائق حرصه على حياة ابنه - أنه ضروري) .
ولم يكن محمد علي عالمًا وربما كان أميًّا، ولكنه بعث مصر من العدم إلى
الوجود في زمن قصير، وصيَّرها في زمانه من الدول العظام بسائق هذا العلم
الأعلى الذي هو الإرادة، وهو الذي يبعث صاحبه إلى التفتيش عن العلوم، وحمل
الأمة عليها.
فالمسلمون يمكنهم - إذا أرادوا وجردوا العزائم وعملوا بما حرضهم عليه
كتابهم - أن يبلغوا مبالغ الأوربيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء،
وأن يبقوا على إسلامهم كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى؛
فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي ينقصنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو
التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال.
فلننفض غبار اليأس ولنقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالِغُو كل أمنية بالعمل
والدأب والإقدام، وتحقيق شروط الإيمان التي في القرآن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(1) كان جدي الأدنى رحمه الله تعالى يقول: إن جار عليك الزمان فعليك أن تجور على الأرض؛ أي تلح وتجتهد في استخراج خيراتها.
(2) في قوله: (يعقل) هنا تورية؛ لاحتماله معنيين: أحدهما تحكيم إدراك العقل في الأمور مع التوكل على الله، والثاني عقل الناقة، المراد الأخذ بالأسباب مع التوكل؛ إذ فيه إشارة إلى حديث الأعرابي المشهور بين الناس، حتى صار مثلاً: (اعقلْها وتوكلْ) ، وفي رواية: (قيِّدْها وتوكلْ) ، يعني ناقته، فلم يأذن له صلى الله عليه وسلم أن يتركها توكلاً.
(3) هذا التفسير قول لبعض المتكلمين: وهو أن تعلق علم الله بوجود المخلوقات في الأزل هو القضاء، ووجودها على وفق العلم هو القدر، وقول بعضهم: إنه تعلق الإرادة إلخ، والتحقيق أن القدر والمقدار هو النظام الذي جرت به سنن الله تعالى في التكوين والتدبير والأسباب والمسببات، كما يفهم من نصوص الآيات كقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (الحجر: 21) وقوله: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) (المؤمنون: 18) الآية، وقوله - في نظام جعْل النطفة في الرحم -: (إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (المرسلات: 22) ، وقوله: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) (طه: 40) ، وقد حققنا المسألة في المنار والتفسير مرارًا.
(4) وقد تألف في إنكلترة وأمريكة حزب ديني جديد، أو جمعية للدعوة إلى الإيمان بظواهر التوراة في الخلق والتكوين وكل شيء من غير تأويل، راجع ص 733، م 30 من المنار.
(5) أي من باب قول العلماء: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، وقد بينا في تفسير (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60) أن آلات القتال البرية والبحرية والجوية واجبة بنص هذه الآية؛ لأنها من القوة المستطاعة للمسلمين كما هي مستطاعة لغيرهم، فليس وجوبها بقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل بنص القرآن ودلالة المنطوق منه، فراجع تفسيرها في ص61، ج10 تفسير.
(6) هذا مضمون حديثين أحدهما: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، ورواه غيره بمعناه مع اختلاف في اللفظ، والثاني: (اطلبوا العلم ولو بالصين) وله تتمة، رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب والمدخل وابن عبد البر في العلم وغيرهم من حديث أنس، وله طرق يقوي بعضها بعضًا.
(7) علماء المسلمين يعتقدون أن النصرانية على ما طرأ عليها من الوثنية بالتثليث الوثني القديم أصلح لأنفس البشر من الوثنية الخالصة، ولكنها ليست أصلح ولا أقبل للعمران المدني الذي تتنافس فيه أوربة وغيرها؛ لأنها ديانة مبنية على المبالغة في الزهد والخضوع لكل حكم دنيوي، والعمران لا يتم ولا يسمو إلا بالسيادة والمُلك والغنى، ومن قواعد الإنجيل أن الجمَل إذا دخل في ثقب الإبرة فالغني لا يدخل ملكوت السموات.
(8) ونحن نعتقد هذا، وكان شيخنا الأستاذ الإمام وأذكياء مريديه كسعد باشا زغلول يعتقدونه، ولكن بمعنى سلبي؛ وهو أن هذا المذهب أضعف حَجر الكنيسة على العقول البشرية وتقييدها بتعاليمها وفهمها للدين ورأيها في الدنيا، وكان سبب هذا المذهب ما سرى إلى أوربة عقب الحروب الصليبية بمعاشرة المسلمين من استقلال العقل في فهم الدين وعدم سيطرة أحد عليهم فيه، كما بينه شيخنا في كتاب الإسلام والنصرانية.
(9) هذا صحيح في جملة الأديان إلا الإسلام؛ فقرآنه وتاريخه يثبتان أنه هو سبب تقدم أهله حين اهتدوا به، وسبب تأخرهم حين أعرضوا عنها، فأظلم الظلم أن يجعل سبب تأخرهم.
(10) تتمته: (فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه العقيلي وابن عدي والبيهقي وابن عبد البر عن أنس، وفيه عند الأخير زيادة أخرى في فضل العلم.
(11) أي من ملاحدة المسلمين الجاهلين أو المتجاهلين لحال أوربة في عصبيتها الدينية.
(12) والمسئول عنه هو نهضة المسلمين من حيث هم مسلمون.
(13) وهذا بعد التربية المنزلية الدينية المحض والتربية المدرسية الابتدائية، وجُلُّها دينية.(31/529)