الكاتب: عن جريدة الاتحاد
__________
الوطن القومي لليهود [*]
نشرت جريدة المسلم (أوتلوك) الهندية تحت هذا العنوان كلمة للكاتب الذي
يوقع مقالاته باسم ليجانوس هذه ترجمتها:
إن المادة الرابعة من عهد فلسطين الذي خوَّل عصبة الأمم حق اغتصاب تلك
البلاد من أصحابها العرب الشجعان الأحرار، تذكر كتلة قذرة تسمى الهيئة
الصهيونية التي اعترف بها كوكيلة عن (اليهود وبأن لها حق إبداء النصح
والاشتراك في إدارة فلسطين في المسائل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما قد
يكون له أثر في تكوين الوطن القومي لليهود، وفي مصالح الجمهور اليهودي
الفلسطيني، على أن تكون تلك الكتلة دائمًا تحت إدارة ونفوذ المصالح الحكومية
لتساعدها، وتشترك معها في تعمير البلاد والنهوض بها) .
والمادة المذكورة تقول بأن الهيئة الصهيونية (ستتخذ الخطوات اللازمة
بمشورة الحكومة البريطانية لتحقيق اتحاد جميع اليهود الذين يعتزمون المساهمة في
إنشاء الوطن القومي اليهودي) .
وقد أشرت في مقال خاص سابق حول هذا الموضوع إلى أن إنشاء (الوطن
القومي اليهودي) في فلسطين يُخْفِي بين طياته غرضًا آخر هو أن يخلق في تلك
البلاد مقاطعة بريطانية جديدة لتكون بمثابة مركز للجيوش في عربستان، وهذه
الحقيقة جاءت ضمن الكتاب الذي وضعه الكولونيل ودج وود الراديكاني عن
فلسطين، أما فيما يختص بجمهور اليهود فإنه لا يريد ولم يرد قط استثمار فلسطين؛
لأن الأجيال التي نفي اليهود خلالها من تلك البلاد جعلتهم من أهالي جميع أقطار
العالم، وإذا كانوا يشعرون بشيء من الحنو نحو (فلسطين الذهبية) فإنه لا يتجاوز
العاطفة الروحية وما تهتاجه من الأغاني التي تثير المثل العليا، ولا يهمهم مطلقًا
الوجهة الجغرافية والسياسية في تلك البلاد.
إن نظام فلسطين هو حركة سياسية قامت بها الإمبريالية البريطانية بمعاونة
أصحاب رءوس الأموال من اليهود لمجرد مصلحتهم الخاصة.
***
الاشتراكية
في عهدنا الحاضر
ووجه أحد المسلمين إلى (ليجانوس) السالف الذكر خطابًا جاء فيه:
سيدي ليجانوس:
إن الاشتراكية في عهدنا الحاضر قد وعظت الزعماء المسلمين في الوقت
الملائم، فهناك ما يحمل على الاعتقاد بجواز إخراج المسلمين من عقائدهم بواسطة
التيارات القوية التي تدفعها (الوطنية) إن الغريق يتشبث بعود من القش وثمة
شعور مشترك بين جميع الذين يعادون إنجلترا للترحيب بمن يتقدم إليهم بالدواء
الشافي، ولكن على المسلمين أن يذكروا بأن غايتهم الأولى هي الإسلام، فلهم إذا
خُيِّرُوا بين عقيدتهم وبين وطنهم فيجب عليهم أن يختاروا عقيدتهم الدينية (الإسلام)
من غير تردد ولا تريث.
إن البلشفية تغمر الهند اليوم بدعاياتها، وكذلك أصحاب رؤوس الأموال من
البراهمة من أمثال جواهارلال الذين يجاهرون بعقائدهم الاشتراكية المتطرفة لسبب
واحد هو أنهم يظنون أن عليهم أن يرحبوا بعدو العدو، ولكن المسلم الحقيقي لا
يستطيع أن يكون جزويتيًّا يجب علينا أن نبحث أولاً عن مصلحة عقيدتنا ثم عن
مصلحة وطننا بعد ذلك.
ما هو مسلك البلاشفة نحو الأديان؟ إنهم يصرحون علانية بأن العالم لن ينجو
من الأوطوقراطية وحكم الفرد حتى يعزل الأوطوقراطي الأعظم (الله جل جلاله)
وهم لم يستريحوا إلى مجرد تكوين هذه النظرية، ولكنهم قوَّضوا أركان الكنائس
وشنقوا رجال الدين والآن وقد عفوا على النصرانية في بلادهم فإنهم يتعقبون
الإسلام، وقد جاء في (البرافدا) وهي الصحيفة الرسمية للسوفيات أن الحكومة
قررت تكوين جبهة متحدة مؤلفة من شباب الاشتراكيين المتطرفين من السوفياتيين
وجمعيات النساء لمحاربة العقائد الدينية في الجمهورية التركية، وقد نبَّههم إلى أن
(العقيدة الإسلامية يجب القضاء عليها؛ لأن السوفييت يعتبرونها الحصن القوي
للسلطة الروحية) .
وقد شفعت الحكومة السوفيتية هذه النصيحة الحارة بإيراد مثل مما يجب القيام
به فقالت: (إن دور العالم الإسلامي التي لا تزال باقية في داغستان وكازاكخان
وتركستان والقرم وأزربيجان الواقعة تحت الحكم السوفيتي يجب القضاء عليها قضاء
مبرمًا كما يجب الضغط بكل قوة على الصحف الإسلامية، وقد جرى كل هذا في وقت
نهضة ملك الأفغان الأخيرة وقيامه برحلته.
يجب على المسلمين في هذه البلاد، وفي جميع أقطار العالم أن يواجهوا هذه
الجبهة، وما تَعُدُّهُ لتقويض أركان الإسلام بجبهة متحدة، ومن غير مراعاة
للاعتبارات الوطنية خشية أن تعمى أبصارهم دون النظر إلى حقيقة هذه الكارثة.
__________
(*) منقول من عدد 25 صفر سنة 1347 من جريدة الاتحاد.(29/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بعمارة المسجد الأقصى
مع حفلة المولد النبوي في 12 ربيع الأول
نشرنا في الجزء الرابع الماضي من المنار البيان الذي نشره المجلس
الإسلامي الأعلى لفلسطين في شأن هذه العمارة والوعد بالاحتفال بها في ذكرى
المولد النبوي الشريف.
وقد دُعِيَ إلى حضور هذا الاحتفال جم غفير من وجهاء المسلمين في البلاد
المختلفة والأقطار الدانية والنائية مع الدعوة العامة لمن شاء من أهل البلاد، وكان
صاحب هذه المجلة ممن دُعِيَ فاعتذر بمرضه آسفًا لما يفوته من حضور جمع
إسلامي مختلط كبير قلما يجتمع في غير بيت الله الحرام، حيث لكل أحد شاغل
عما سوى أداء المناسك وحقوق المشاعر العظام.
وما جاء الموعد إلا وكانت الوفود الإسلامية قد اجتمعت وامتزجت بأهل البلاد
فكان بعضهم يموج في بعض في منتهى البهجة والسرور، وقدر عددهم بخمسة
وعشرين ألفًا.
وقد زينت إدارة المجلس الإسلامي الحرم الثالث الشريف بالأنوار الكهربائية،
وكذا مكان المجلس ومدرسة روضة المعارف التابعة له، ووضعت هنالك الألعاب
النارية البديعة الأشكال، التي كان يكتب بعضها في لوح الجو آيات القرآن، فكان
الجماهير يتمتعون بها جلة ليلة المولد الشريف على المشهور.
وفي ضحوة ذلك اليوم كان الاحتفال الحافل المقصود بالدعوة فافتتح بتلاوة
آيات من الذكر الحكيم، ثم ألقى صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني رئيس
الاحتفال خطبة الرياسة المتضمنة لتاريخ هذا العمل العظيم، وهذا نص ما يتعلق
بالعمارة منه نقلا عن جريدة الجامعة العربية الغراء التي تصدر في القدس الشريف.
خطبة رئيس الاحتفال
ننشر فيما يلي الخطاب الذي ألقاه سماحة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في
المسجد الأقصى يوم الافتتاح بعمارة قبة هذا المسجد على وفود البلاد الإسلامية فبعد
أن ألقى سماحته كلمة مفصلة عن المسجد الأقصى من الوجهة التاريخية، أوضح
الأعمال التي قام بها المجلس من أجل العمارة، وهذا نص القسم الثاني من الخطاب
المتعلق بالعمارة.
برنامج المجلس الإسلامي في
العمارة والإصلاح بالمسجد
الأقصى والحرم الشريف
موقع بيت المقدس الجغرافي ومكانته الدينية العظيمة في نظر الملل الثلاث قد
جعلا بحيث يتبوأ مركزًا دينيًّا ساميًا بين سائر البلاد المقدسة، ويصبح حافلاً بالآثار
الدينية والتاريخية من إسلامية وغير إسلامية مما أدى لأن يكون مطمح أنظار
السائحين والزائرين من كل صقع وبلد يؤمونه جماعات وأفرادًا بمقاصد مختلفة.
وإن للحرم الشريف بما فيه من أماكن مباركة وآثار نفيسة المكانة الأولى بين
جميع معابد هذا البلد المقدس لما عليه تلك المباني والآثار من هندسة بديعة وزخرفة
رائعة بلغت أقصى حد الإتقان والبراعة، على أن هذه الآثار والمباني القيمة
والقائمة في ساحة الحرم الشريف الواسعة البالغة مساحتها (650 و260) متر مربعًا
أي 283 دونمًا قد سبب لها الإهمال (وفي جملتها المسجد الأقصى كما ذكرنا)
تصدعًا وتشوهًا أدى إلى خطر داهم في كثير منها مما حمل المجلس الإسلامي
بفلسطين على أن يسارع في مشروع عمارتها متخذًا لذلك البرنامج الآتي:
أولاً: عمارة المسجد الأقصى عمارة ثابتة متينة.
ثانيًا: تجديد نوافذ الجص الملونة في أماكن مختلفة والقاشاني والرخام في
القسم الخارجي لمسجد الصخرة المشرفة.
ثالثًا: عمارة المآذن الأربعة التي حول الحرم الشريف.
رابعًا: إزالة الأبنية التي أُحْدِثَتْ جهلاً، واسْتُكْمِلَتْ من أعلى باب القطانين
أجمل باب أثري للحرم الشريف، ومن فوق الأروقة التي تَحُدُّهُ من الشمال والجنوب.
خامسًا: فتح أروقة الحرم التي سُدَّت في أزمنة سالفة مختلفة واتُّخِذَتْ غُرفًا.
سادسًا: هدم سبعة أروقة منها بسبب تصدعها الخطر وبناؤها من جديد.
سابعًا: عمارة المدرسة الإسعودية شمال الحرم الشريف وإصلاح واجهتها
المبنية على الطرز العربي الأنيق واستعمالها دار كتب للمسجد الأقصى.
ثامنًا: استرجاع جميع المدارس والأماكن التي تحيط بالحرم الشريف والتي
استولي عليها، وإعادتها وقفًا على المشروعات الخيرية كما كانت واستعمالها في
ذلك.
تاسعًا: تنظيم الساحات الخالية في الحرم الشريف على وجه يتناسب مع
جمال آثاره وجلال مكانته وإنشاء أحواض للماء موافقة للنظام الصحي يستفاد منها
للوضوء بشكل كافل لراحة المصلين.
عاشرًا: تأسيس متحف إسلامي يحفظ الآثار الإسلامية من الضياع.
حادي عشر: توسيع أبنية مدارس البنات الإسلامية ودار الأيتام وكلية
الروضة المجاورات للحرم الشريف وإنشاء قاعة واسعة للمحاضرات.
هذا، وقد نفذ قسم غير قليل من هذه المشروعات، وبقي قسم تبذل الجهود
لتحقيقه.
***
جمع الأموال اللازمة وإيفاد الوفود
لما كان هذا البرنامج يقتضي لإنفاذه مبالغ كبيرة، وكانت واردات أوقاف
فلسطين لا تتسع لأكثر مما تقوم به من الإنفاق على الشئون التي هي في كفالتها من
إدارة المساجد والمدارس والمعاهد الدينية الأخرى، ومن المشروعات التي تقتضيها
حاجة المسلمين في مدن فلسطين وقراها، فقد رأى المجلس الإسلامي ضرورة
الاستعانة في مشروع عمارة المسجد الأقصى المبارك والحرم الشريف بأهل الخير
والإحسان في هذه البلاد، وفي سائر الأقطار الإسلامية الأخرى، فألف لذلك وفودًا
من أعضاء المجلس نفسه ومن غيره من وجهاء البلاد وأعيانها إلى الحجاز أولا
وثانية، وإلى مصر والهند والعراق وخليج العجم والآستانة.
وقد لاقى أكثر هذه الوفود نجاحًا وعطفًا كبيرًا في الأقطار الإسلامية وقد بلغ
مجموع الإعانات التي جمعت لهذا السبيل (94. 952) جنيهًا و (141) ملا
موزعة وفق الجدول الآتي:
مليم ... جنيه
733 38761 من صاحب الجلالة الملك حسين بن علي والحجاز.
322 06206 من صاحب الجلالة الملك فيصل الأول والعراق.
06771 من صاحب السمو نظام حيدر أباد الدكن (الهند) .
340 07811 من حضرة مولانا طاهر سيف الدين (الهند) .
193 0920 من أهل الهند.
780 02681 من أهالي البحرين.
520 01312 من أهالي الكويت.
635 00612 من حضرة الشيخ خزعل خان (شيخ المحمرة) .
700 00338 من أهالي سوريا.
860 00306 من أهالي مصر.
920 00163 من المهاجرين في أميركا.
440 00019 من تركيا.
375 04231 من أهالي فلسطين.
248 16478 من صندوق المجلس في فلسطين والواردات المحلية.
الموارد الدائمية
على أن المجلس الإسلامي رأى أيضًا ضرورة إيجاد موارد دائمية تتأمن معها
الغاية التي يسعى إليها من العمارة والإصلاح والتجديد والتأسيس، ففكر في إنشاء
عقارات جديدة يرصد ريعها للحرم الشريف فشرع في بناء فندق كبير على أحدث
طرز في أرض الجبالية في شارع مأمن الله يحتوي على ما ينوف عن 136 غرفة
عدا قاعات الاستقبال وقاعات المطالعة، وما إلى ذلك من الجهازات الحديثة
المستوفية كل الشروط، ويزيد ريعه السنوي عن الستة آلاف جنيه، وأتم إنشاء
بضعة مخازن في باب الساهر وسيقوم بإنشاء غيرها.
المشورة في تعين خطة العمارة
في قبة المسجد الأقصى ومؤتمر المهندسين
رأى المجلس الإسلامي قبل أن تشرع الهيئة الفنية بتنفيذ ما وضعته من
تصميمات أن يستشير أهل الخبرة من أرباب الفن فرجا من حكومة مصر أن ترسل
بعض مهندسيها المعتمد عليهم فتفضلت بإرسال مهندس من قبل وزارة الأوقاف،
وآخر من وزارة الأشغال، وطلب من حكومة فلسطين فأرسلت ثلاثة مهندسين فعقد
هؤلاء مؤتمرا فنيا مع مهندسي الهيئة الفنية في القدس مؤلفًا من عشرة مهندسين
بحثوا فيه جميع الخرائط والخطط المهيأة، فقرروا بالإجماع خطة سارت عليها
الهيئة الفنية بمهارة تامة وفقًا لما وضعته من التصميمات وحملت القبة المتصدعة
التي تزن ألف طن على حمائل خشبية وجددت الأساس فدعمت العمود والقوس
اللذين في الأقصى القديم (تحت هذه البناء) بدعائم من الخرسانة المسلحة.
ثم انتقل العمل إلى منطقة القبة في المسجد الأقصى فوضعت أساسًا من
الخرسانة المسلحة لتقوم عليها أعمدة ثمانية جديدة اقتطعت من المقالع المحلية
وأعدت لتستبدل بالقديمة البالية، وأنشئ تحت الأقواس القديمة أقواس جديدة من
الحجارة الضخمة وترك بينهما فراغ لقوس حامل من الخرسانة المسلحة، ثم أسندت
أركان القبة إلى ساندات خشبية ضخمة، وشرع برفع القديم البالي فأزيلت قطع
الشدادات، فالتيجان فالأعمدة فقواعدها بصورة تدريجية وأقيم مكانها دعائم جديدة
أيضًا من الخراسانة المسلحة المتينة، ثم صفحت بالأحجار المزية البلدية بالرخام
المنحوت على الطراز الإسلامي العربي، وبهذا تم تقوية منطقة القبة، وأمن عليها
الانهيار الفجائي وأصبحت من المتانة بدرجة عظيمة جدًّا.
وإذا تم ذلك فقد أمكن القيام بعمارة الأقسام المتصدعة التي تحيط بمنطقة القبة
فجددت في الجناح الغربي لها أربعة أعمدة وستة أقواس حجرية، وهدم السقف الذي
كان على وشك السقوط وجعل جميعه في تلك الجهة من الخرسانة المسلحة كما هدم
القسم الغربي من الحائط الجنوبي وأعيد من جديد بالحجارة تدعمها الخرسانة
المسلحة من الخلف، وقد فتحت فيه نوافذ كبيرة أنارت تلك الأقسام، وقد كانت
مظلمة، وكذلك عمر السقف الخشبي للجناح الشرقي من القبة، وأزيلت أركان
ودعائم كثيرة كانت تتخذ قديمًا ساندة فلم يعد بعد العمارة من حاجة إليها.
وقد اهتم بتزيين هذه الأقسام وزخرفتها فكسيت واجهة المحراب وواجهة
أقواس القبة الشرقي والقبلي والغربي بأشكال هندسية بديعة من الجص البارز
المُذَهَّب ورصع القوس الشمالي بالفسيفساء البديعة على النسق القديم الذي وجدت
آثاره تحت القصارة التي كانت تستر واجهة القوس جميعها قبل العمارة، وظهر أن
هذه الآثار القليلة الباقية من الفسيفساء هي من عهد الفاطميين سنة 714 هجرية كما
صُفِّحَت الشدادات بالنحاس المذهب منقوشًا بنقوش بارزة، وصفحت سقوف الجهة
الغربية بالخشب الملون والمُذَهَّب، أما الحائطان القبلي والغربي اللذان عُمِرَا من
جديد فقد رُصِّعَا بالفسيفساء الحجرية الملونة على أشكال بديعة.
هذا وقد وضع أكثر من ثلاثين نافذة من الجص المحفور المزين بأنواع
الزجاج الملون على طراز فني رائع لتوضع في أماكن مختلفة من واجهة المحراب
والحائط القبلي وأسطوانة القبة.
وتتراوح مساحة كل نافذة من هذه النوافذ ما بين (5 , 1) إلى (5) أمتار
مربعة، وقد نقش تاريخ العمارة بالخط الكوفي وآيات من القرآن الكريم بالخط
الثلث على أركان القبة من فوق التيجان.
العمارة في الصخرة المشرفة
اقتصرت العمارة في الصخرة المشرفة حتى الآن على تجديد عشرين نافذة
داخلية من نوافد الجس الملونة بالزجاج كانت بحالة غير صالحة بالمرة، وقد تولى
صنع هذه النوافذ ونوافذ المسجد معلمان أخصائيان استدعيا من الآستانة، وضم
إليهما عدد من أبناء البلاد قُصِدَ تعلُّمُهم هذه الصنعة البديعة المندثرة وإحياؤها في
البلاد.
وقد وفقوا بذلك كل التوفيق.
أما القاشاني والرخام للقسم الخارجي من الصخرة فلم يشرع بتجديده وإصلاحه
بسبب ما دعت إليه الضرورة من تقديم الأهم الخطر من المباني والآثار الأخرى في
الحرم الشريف، وقد عمرت أيضًا من المآذن المئذنة الفخرية، مئذنة باب السلسلة
ومئذنة باب الغوانمة والصلاحية، ورممت بعض المدارس التي حول الحرم واتخذ
بعض هذه المباني دارًا للآثار الإسلامية ودارًا للكتب ورمم أيضًا كثير من آبار
الحرم الشريف.
الزلزال
بينما كان المجلس الإسلامي عاملاً على تنفيذ برنامجه بالعمارة والإصلاح
والتجديد متبعًا في ذلك تقديم الأهم على المهم إذ رُزِئَتْ فلسطين بزلزال محرم سنة
1346 الذي جاء على كثير من البنيان فيها فصدعه وهدمه، وفي جملته بعض
المباني الأثرية والعمارات الضخمة المتينة، وقد كان الحرم الشريف بما فيه من
مبان وآثار مستهدفًا ومعرضًا، بسبب موقعه من اتجاه الاهتزاز لتيار هذه الزلزال
المتوالي الشديد، لذلك لم يسلم من أثر تصدع منه فيما عدا مسجد الصخرة المشرفة
إلا ما ناله نصيب من هذه العمارة وخصوصًا المسجد الأقصى مع قبته الذي قدر
الخبراء أهل الفن بأن الزلزال لو سبق عمارته لانهار جميعه وأصبح ذلك المكان
التاريخي أثرًا بعد عين لا سمح الله.
خاتمة
قبل أن نختم هذا البيان نرى من الواجب أن نتقدم بالشكر لله أولاً، ثم
لإخواننا المسلمين الذين بذلوا من أموالهم وجهودهم في سبيل الاحتفاظ بهذا المسجد
المبارك ومعاضدة مشروع عمارته فكانوا بذلك ممن عمر مساجد الله {إِنَّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 18) .
ومما هو جدير بالذكر في هذه العمارة هو:
أولاً: أنها قامت بأموال أفراد المسلمين مع أن جميع العمارات التي سبقتها
لهذا المسجد كانت بأموال الحكومات والملوك، فكشفت عما في نفوس العالم
الإسلامي من عطف على هذه المسجد وعما في المسلمين من استعداد للتعاون على
البر والتقوى وتلبية كل دعاء إلى الخير، ولقد لاقت الوفود التي أرسلت إلى
الأقطار الإسلامية عطفًا كبيرًا في كل مكان وصدورًا رحبة وإخاء صادقًا، وإنا نعد
هذا الشعور والعطف نجاحًا فوق كل نجاح لاقته هذه الوفود أيضًا، ومما يسر أن
نذكر لكم أن المسلمين في مقاطعة يوننان من بلاد الصين قد لبوا الدعاء على ما
بيننا وبينهم من بُعْدٍ شاسع وبعثوا إلينا بكتاب أنبئونا فيه أنهم شرعوا بجمع الإعانات
ولعل الفتن الأخيرة في الصين لم تمكنهم من إتمام مشروعهم.
ثانيًا: لم تقتصر فائدة هذه العمارة على ترميم المسجد الأقصى فحسب، بل
تجاوزته إلى تعليم عدد غير قليل من أبناء البلاد الصناعات النفيسة الدقيقة كصنع
هذه النوافذ الجصية، وهذا زجاجها أيضًا صنع في معامل الزجاج الوطنية في
الخليل وكصناعة الجص النافر المُذهَّب الذي ترون أنموذجًا منه، وكصناعة سبك
الرصاص المصفح به هذه المسجد وصناعة النحاس الذي يحيط بهذه الشدادات
الخشبية وكإتقان صناعة النقش والنحت وتعميم صناعة الخرسانة المسلحة ولم يكن
عمالنا يعرفونها من قبل. وغير ذلك من الصناعات.
ثالثًا: وإنا نرى من الواجب المُحَتَّم علينا أن نشكر هنا صاحب الأيادي
البيضاء على هذه المشروع وأعظم متبرع له وأكرم مساعد عليه صاحب الجلالة
الهاشمية الملك حسين الذي نقش اسمه على أركان هذه القبة ولقد نقشت كذلك أسماء
كبار المتبرعين الذين نذكر لهم تبرعهم بالشكر الجزيل؛ وهم صاحب الجلالة الملك
فيصل الأول ملك العراق وصاحب العظمة نظام حيدر آباد والمولى الكريم طاهر
سيف الدين، ونشكر أيضًا تبرع حضرة صاحب السمو أميرة بهوبال، وكل من
ساعد هذا المشروع بماله أو بعطفه.
وإنا لنشكر من صميم القلب لجنة عمارة الحرم الشريف التي قامت بخدمات
عظيمة، ونشكر الوفود التي تجشمت المشاق في سبيل هذا المشروع والهيئة الفنية
على ما بذلت من الجهود الكثيرة؛ ونشكر جميع من عمل في هذا السبيل من وفود
ولجان ومهندسين ورسامين وعمال وموظفين، وكل من تفضل بتلبية دعوتنا وشده
احتفالنا هذا أو أناب عنه أو اعتذر ونشكر بصورة خاصة صاحب السمو الأمير
المعظم الذي تفضل بتلبية دعوتنا والذي عطف على هذا المشروع عطفًَا كبيرًا.
ونشكر الحكومة المصرية التي تفضلت بإرسال مهندسين من قبلها للاشتراك
مع مؤتمر المهندسين.
رابعًا: ويهمنا أن نسترعي الأنظار إلى أن هذا الاحتفال هو افتتاح للعمل
وأنموذج منه، وهو ابتداء لا انتهاء فإن الحرم الشريف لا يزال يحتاج إلى جهود
عظيمة لإصلاحه وإيصاله إلى الدرجة التي تليق به وتليق بكرامة أربعمائة مليون
من المسلمين تجله وتقدسه.
وإنا سنواصل السعي بإذن الله للمضي في طريقنا والمثابرة على العمارة
واثقين كل الثقة بعون الله وعطف العالم الإسلامي وتعضيده لمشروعنا، والله
الموفق.
__________(29/384)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما يسمى الاختلاف بين الهيئات السورية
(تأخرت لكثرة المواد)
كثر خوض الجرائد في سورية ولبنان وفلسطين ومصر فيما سمي الاختلاف
بين الهيئات السورية، واهتم به الوطنيون في دمشق أم البلاد السورية حتى رجال
الجمعية التأسيسية وغيرها من الجماعات وتحدثوا هناك وهنا بوجوب السعي إلى
الصلح وإزالة الاختلاف بجمع الكلمة وتوجيه قوى الهيئات كلها إلى المصلحة الوطنية
في هذا الوقت الذي دخلت فيه القضية السورية في طور حل عملي مع الدولة
الفرنسية، ولكن لم نر شيئًا عمليًّا في ذلك، بل يظهر أن الوطنيين الذين أظهروا
الاهتمام به في سورية لم يقف أكثرهم على حقيقة هذا الاختلاف، ولا يعرفون مثيره
الذي لولاه لم يقع؛ لأنه يلبس عليهم بكثرة ما يكتب ويستكتب من الإعلان عن نفسه
والوقيعة في غيره، ولو عرفه جمهورهم كما يعرفه أهل البحث والروية منهم لأنحوا
اللائمة عليه وحده، فإما أن يكرهوه على إيثار وطنه على نفسه، وإما أن يجمعوا على
إسقاطه ونبذه بعد اتفاق أكثرهم على ذلك.
ألا وهو ذلك (القناف) النفاج المفتون بلقب الزعامة الذي يرى من شرط
خلوصها له وصيرورته زغلول سورية أن لا يبقى أحد من سروات بلاده وأصحاب
المزايا العالية والوطنية الصادقة فيهم إلا وهو مثخن بالطعن والجرح في مآثره
ومزاياه، ولا سيما أولئك الأفراد الأفذاذ الذين أجمعت عليهم الكلمة كأمير البيان
وقائد المجاهدين السياسيين لدى جمعية الأمم وفي سائر المحافل السياسية الأوربية
الأمير شكيب أرسلان، وشقيقه رب السيف والقلم وقائد المجاهدين في الثورة
الوطنية الأمير عادل أرسلان، ورجالات حزب الاستقلال الذين كونوا المسألة
العربية وأوجدوها في البلاد، وكذا الذين ظهرت مناقبهم العليا أخيرًا في الجمعية
التأسيسية السورية ولهجت بذكرهم الألسنة، وتبارت في الثناء على وطنيتهم أقلام
الصحف المختلفة فهذا (القناف النفاج) هو الذي أقنع الأمير ميشيل لطف الله
بمبالغاته الخلابة بأن جميع رجال حزب الاستقلال أعداء له وبأنه هو الذي يستطيع
أن يؤلف له عصبية تسقطهم وتحول جميع إعانات المجاهدين إلى جمعية إعانة
منكوبي سورية التي هو (أي الأمير) رئيسها، وبذلك يكون جميع رجال الثورة الذين
عادوا إلى شرق الأردن وفلسطين ومصر والذين لجئوا إلى الصحراء آلة في يده تضم
إلى ما في يده من النفوذ السياسي للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني فتنحصر
القضية السورية في يده من كل وجه من حيث يسقط أعداؤه وفي مقدمتهم (بزعمه)
الأمير شكيب المحتكر لأعمال الوفد السوري مع إحسان بك الجابري وهو بزعمه عدو
أيضًا - والأمير عادل أرسلان صاحب النفوذ الأعلى مع سلطان باشا الأطرش القائد
العام للثورة - وحينئذ يتحدان معًا على الاتفاق مع فرنسة على حل عقدة القضية
السورية كما يريدان.
صدق الأمير ميشيل تلك الأخاديع الخلابة فكانت عاقبتها تعذر اتفاق أعضاء
اللجنة التنفيذية معه على ما كان شجر من الخلاف بسبب تدخل أخويه في القضية
بنفوذه، وبسبب ما نقلت عنه جريدة المعرض البيروتية فقررت اللجنة إلغاء
الرياسة الشخصية لها فلم يبق للأمير ميشيل عمل ولا شأن فيها؛ لأنه لم يكن
عضوًا منتخبًا، بل جعلته اللجنة رئيسًا محاباة له لسابق خدمته.
ثم كان من عاقبتها أيضًا أن اجتمع أعضاء جمعية الإعانة السورية وقرَّروا
بالإجماع حل الجمعية وتصفية حساباتها فخاب سعي (القناف النفاج) في أمنيتيه أو
في خلابتيه للأمير ميشيل.
***
مكتب الاستعلامات السوري
مطاعنه ومفاسده
كان مكتب الاستعلامات السوري عندما كان تحت مراقبة اللجنة التنفيذية
للمؤتمر السوري الفلسطيني يخدم القضية السورية خدمة صادقة كان لها تأثيرها
الحسن المشهور في الشرق والغرب، وقد تركه الأمير ميشيل بعد انفصاله من
اللجنة بأيدي جماعة من أصحاب الأهواء الذين يخدمون أنفسهم بالطعن في غيرهم
فهو يطعن في المجاهدين أبطال الثورة ويسعى للتفريق بينهم، وله غير ذلك من
المخازي التي لهجت بها الجرائد في سورية وفلسطين ومصر عازية كل إفساد إلى
مكتب رقم 45 شارع عابدين الذي ينفق عليه وعلى من فيه الأمير ميشيل لطف الله
حتى صار هذا المكتب مصدر سفه وإفساد ويقول بعض أصدقائه: إنه قلما يعلم بما
يصدر منه.
نعم إن الأمير ميشيل لا يعلم بكل ما يصدر من مكتبه السياسي (رقم 45
شارع عابدين) من مخازن السفاهة والفساد بالتفصيل؛ لأنه لا يحضر كل مجالس
الزعنفة التي فيه ولا يجد وقتًا لقراءة ما يكتبون وما ينشرون، ولكنه يعلمه بالإجمال
ويطلع على كثير منه، وهو الذي يدفع أجور الكتابة والنشر ورواتب الكاتبين فهو
مسئول عن كل ذلك وعليه تبعته الأدبية والسياسية كما شافهناه بذلك من قبل وضربنا
له المثل المشهور:
من يربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذاة الناس من رابط الكلب
***
اعتذار الأمير ميشيل
عن طعن مكتبه بنا
إننا بعد نشر ردنا على الزعيم محمد علي الهندي في مسألة ملك الحجاز
ونجد ومسألة الخلافة رأينا في جريدة السياسة مقالة مَعْزُوَّة إلى اسم مجهول يشتمنا
فيها ويقول: إن صاحب المنار رجل مادي لا يكتب شيئًا إلا لاستدرار المال وقد
أهان بِرَده جميع الدول الإسلامية لما يأخذه على ذلك من الجنيهات من ابن السعود،
وأنه كان قد أخذ من أمراء لطف الله ستمائة جنيه لأجل أن يغش لهم ملك الحجاز
بجعل البنك الحجازي رسميًّا إلخ. فلم نعجب لنشر السياسة مثل هذا الطعن وما هو
شر منه وأعرق في الإفك والبهتان انتقامًا منا على مقاومة دعوتها الإلحادية اللادينية،
ثم علمنا من مُطَّلِع على ما هنالك أن السياسة لم تقبل نشر تلك المقالة القذرة إلا
برجاء من حضرة الدكتور عبد الرحمن شهبندر وأن المقالة نشرت بعد ذلك في
نشرة مكتب الاستعلامات السورية رقم 45 شارع عابدين.
وبعد ذلك بشهر أو أكثر جاءني كتاب من الأمير ميشيل لطف الله يقول فيه:
إنه جاءه في البريد نسخة من نشرة مكتب الاستعلامات السوري المشار إليه، وعليها
تعليق بالخبر هذا نصه: (أيليق هذا الطعن في حق صاحبك) .
ثم قال: إنني ليس من الذين يسهل عليهم انتهاك حرمة الصداقة الشخصية
لاختلافات تقع بيني وبين زملائي على نظريات سياسية أو مبادئ عمومية ... إلخ.
ثم قال: (قد قرأت ما كتب في تلك النشرة وأسفت كثيرًا لذلك ولمت رجال
مكتب الاستعلامات على نشر مثل هذه الأمور التي لا تبررها الغايات الشريفة التي
اشتغلنا بها سوية ولا نزال ننشدها، وإن اختلفت نظريات كل منا ما أفضى (كذا)
إلى ما حصل من الانشقاق الذي أعتقد أن كل وطني غيور يأسف له.
(ولا أخفي عليك أنني كثيرًا ما أوقفت نشر كتابات ومقالات رأيت فيها طعنًا
شخصيًّا عليك كان كاتبوها يعتقدون أنها تسرني ولذلك أطلعوني عليها قبل نشرها،
فأفهمتهم جليًّا أنني لا أريد أن ينشر شيء فيه طعن شخصي بك، وأن نشر مثل ذلك
يكدرني) إلخ، ما كتبه مفتخرًا بمحافظته على المبادئ القويمة.
وأقول: إنني أشكر لحضرته هذه المحافظة على الحقوق الأدبية الودية، وقد
حافظت له على خير منها منذ شجر الخلاف إلى الآن حتى أثبتت ذلك بعض
الجرائد إلى عهد قريب، وكنت قد صرَّحت بمثل هذه المناسبة في المنار أنني لم أر
منه ومن أخيه الأمير جورج في معاشرتي لهما بضع سنين إلا الآداب العالية (وقد
كتب إليَّ الأمير جورج من أوربة برقية تعزية عن شقيقتي) ولكن هذا العمل الذي
يعمل باسمه وماله في مكتبه السياسي قد شوَّه هذه السمعة الأدبية، وقد كتبت إليه
مثل هذا الكتاب الخاص ولا لوم الزعنفة الناشرة لما ذكر من الطعن بل يجب عليه
منعها من مثل ذلك كما كان يجب عليه تكذيبها فيما يتعلق بالبنك الحجازي لأنه عند
الناس مظنة أن يكون مأخوذًا عنه، ولا يخطر في بال قراء النشرة غير ذلك.
فلما وصل مرجوع الكتاب إليه أرسل إلى سكرتيره الأدبي وهو صديق
إبراهيم بك ديمتري ليشرح لي شعوره وعذره في عدم تكذيب النشرة في مسألة
البنك قال: إن الذي نشر في شأنها كذب، ولكن طال عليه العهد حتى نسي قبل علم
الأمير به فرأى أن تكذيبه ينبه الأذهان ويعيد الذكرى إلى ما دخل في زاوية النسيان
فعدمه أولى، ثم نوَّه بما يسمعه من الأمير من الثناء عليَّ وأنه لا بد من عودة المياه
بيننا إلى مجاريها صافية كما كانت بعد أن كدرها هؤلاء المشاغبون.
قلت: مهما تكن العلاقة الماضية والحاضرة بيننا وما يرجى في المستقبل فلا
عذر للأمير في ترك مكتبه السياسي على هذه الحالة المخزية التي لولاها لم يكن
للخلاف ذلك التأثير السيئ في البلاد.
ولكن يظهر أن الرجل لا يستطيع إغضاب هذه الزعنفة التي صرح بأنها
تنشر من مكتبه ما تعلم بأنه يكدره؛ لأنه لا يجد الآن غيرها، ولا يمكنه أن يدع
مكتبه السياسي مقفلاً، ويظهر أن الزعنفة علمت هذا الضعف منه فلم تعد تبالي بما
يرضيه وما يسوءه بدليل عودتها إلى أشد الطعن الكاذب فيمن صرَّح لها باستيائه من
الطعن فيه.
أما ما فيَّ من الطعن في المسألتين فأقول فيه كلمة وجيزة لتعلقه بتاريخ حياتي
فإن كان أمثال هؤلاء الطاعنين لا يخاطَبون فإنني أقولها للتاريخ لا لهم.
أما قولهم: إنني دافعت عن ابن السعود ابتغاء جوائزه وإدرار أمواله عليَّ فهم
معذورون فيه؛ لأنهم ماديون لا دين لهم يخدمونه ولا أمة لهم يدافعون عنها فإن لم
يكونوا كلهم كذلك فحسبهم زعيم الإفساد المحرك لهم، وإنني أصرح الآن بأن كل ما
كتبته في المسألة العربية مما لابن سعود فيه ذكر فإنني كتبته عن اعتقاد بأنه حق،
وأن بيانه واجب عليَّ شرعًا ولم يخطر في بالي عند كتابة شيء منه استمالة ابن
السعود ولا الانتفاع منه، ومنه هذا الرد المفحم على أشد أعدائه وخصومه في الهند
فإنني والله لم أرج عليه جزاء منه ولا شكورًا لما سبق من أمثاله، وكذلك قد كان،
فوالله إنه لم يكتب إليَّ كلمة شكر عليه، وليس ذلك لأنه كنود لا يقدر قدر هذه
الخدمة، بل لعلمه بأنني أقوم بها بباعث الاعتقاد الديني والمصلحة الإسلامية
العربية، وقد صرَّح لي باعتقاده هذا فيَّ عند اللقاء وكتبه في بعض مكتوباته.
أقول هذا غير نَاسٍ لما كتبته من قبل في الرد على الذين أشاعوا هنا وفي
أوربة أنني أخذت منه خمسة آلاف وقيل عشرة آلاف جنيه مكافأة على خدمتي له
عدة سنين، فقد قلت في معرض الرد على هذه الإشاعات كلمة قصدت بها إيهام
الحساد ما يسوءهم فحواها أن الأخذ من إمام المسلمين وملك من ملوكهم مكافأة على
خدمة شريفة ليس حرامًا ولا عارًا، وهذا هو الحق ولكن ما سرى منه إلى بعض
الأذهان يومئذ من صدق تلك الأخبار غير صحيح.
وأما مسألة البنك الحجازي فأقول فيها:
(أولا) : إن ما ذكره الطاعن كذب.
و (ثانيًا) إنني أنا عضو في مجلس إدارة البنك الحجازي، وأعتقد أن جعل
هذا البنك رسميًّا للحجاز خير للحجاز ولمَلِكه ولأهله فإقناعه به إن أمكن نصيحة له،
وأعتقد أن أخذ الجعل على السعي لمثل هذا لا يعد عيبًا فيعير به من يُنْسَب إليه،
وكل عاقل عرف هذه المسألة يعلم أن إنشاء هذا البنك ليس بمصلحة مالية ظاهرة
لمنشئه، وإنما الباعث عليه غرض سياسي له يفضله على المال والكسب.
وما الطعن بصاحب المنار في مثل هذا وذاك إلا كالطعن فيه بأنه عاب جميع
الدول الإسلامية بقوله: إنها لا تقبل مشروع الزعيم الهندي الخيالي في جعلها تابعة
في السياسة العامة لخليفة واحد يعيد لها سيرة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله
عنه، ومثله زعمهم أنه كان يقتات من فتات مائدة الشيخ محمد عبده ولم يف له
بحق هذه النعمة، والعالم الإسلامي كله يعلم مكان صاحب المنار من الأستاذ الإمام.
هذا وإن بعض أهل الرأي والإخلاص انتقد عليَّ شيئًا يتعلق بذلك الرد،
وسأبينه مع البحث فيه في جزء آخر إن شاء الله تعالى.
__________(29/392)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
(مجلة الرابطة الشرقية)
نبَّهتْ حوادث العالم في تاريخه الحاضر كثيرًا من علماء الشرق وقادة الرأي
فيه إلى أن الأمم الشرقية أصبحت أحوج ما تكون إلى أن تتصل بينها الروابط
وتتمهد لها أسباب التعارف والتقارب.
كان الشرق في حاجة إلى ذلك منذ القدم، منذ انقسم العالم إلى أمم شرقية
وغربية، منذ كان الشرق شرقًا والغرب غربًا، وكان المتقدمون من دعاة الإصلاح
في العالم الشرقي يشعرون مثلنا بهذه الحاجة، ويدعون إلى العمل على شدها، إلا
أن هذه الدعوة لم يقدر لها أن تتوطد على نظام ثابت، وقواعد محكمة، لذلك كانت
تتقلب على تقلبات الأيام فتظهر حينا وتخفى، وتضعف آونة وتقوى، لكن إحساس
الشرقيين بتلك الحاجة قد أصبح اليوم أقوى منه في كل ما سلف من العصور،
وأدرك العاملون على نهضة الشرق أنه قد آن لهم أن يقيموا الدعوة إلى الرابطة
الشرقية على ما ينبغي لها من أساس متين ونظام محكم.
لقد اجتمع في مصر سنة 1341 هجرية (1922م) أفذاذ من رجال الشرق
العاملين على إصلاحه، وبعد التشاور فيما بينهم أسسوا جمعية دعوها (جمعية
الرابطة الشرقية) يكون غرضها نشر علوم الشرق وآدابه والبحث في شئونه،
للعمل على ترقية شعوبه وتكوين صلة تعارف بين أرباب الرأي والقلم منهم على
اختلاف أجناسهم لتبادل الآراء والمعلومات في هذا السبيل، ثم لتكون رسول سلام
وتعارف بين الأمم الشرقية، التي لها من سوابق تواريخها المجيدة، وحضارتها
القديمة، وتقاليدها القويمة، ومدارك أفرادها العالية وموارد ثروتها الثمينة ما
تستطيع به أن يخدم بعضها بعضًا، وأن تتضامن في سبيل إسعاد المجتمع الإنساني
وتربيته لخير جميع الأجناس والأديان.
شعرت جمعية الرابطة الشرقية منذ نشأتها بأنه لا مناص بأن تكون لها مجلة
خاصة تخدم أغراضها وتنشر مبادئها وتعينها على الوسائل التي تريد انتهاجها، لكن
حالة الجمعية وظروفها في الماضي لم تكن لتسمح لها بالتفكير الجدي في إصدار
المجلة على الوجه الذي يليق، ثم أراد الله -وله الحمد- أن تتغلب الجمعية على تلك
المصاعب التي كانت تعترضها، فلذلك قررت بجلسة 7 ذي القعدة سنة 1346،
27 إبريل سنة 1928 أن تصدر مجلة تدعَى (الرابطة الشرقية) ووضعت لها
نظامًا تسير عليه، واختارت لجنة تقوم بتدبيرها مؤلفة من ثلاثة أعضاء.
***
(برنامج المجلة)
الغاية التي تعمل المجلة لها هي في الجملة إزالة ما يمكن إزالته من الفوارق
غير الطبيعية التي أقيمت سدًّا بين الأمم الشرقية وبعضها، ومحاولة التقريب بين
هذه الأمم حتى يتيسر لها أن تتعارف، فإذا ما تعارفت تآلفت، وإذا ما تآلفت
تساندت وتعاونت، وإذا ما تساندت وتعاونت استطاعت أن تعيش حرة قوية،
وضمنت لحياتها أن تكون سعيدة كاملة ولمدنيتها الناهضة أسباب الرقي والنجاح،
فيتساوى عند ذلك الشرق والغرب، ويصبح كلاهما عضدًا للآخر في مجال العمل
النافع لخير البشرية كلها.
وسوف لا تَأْلُو المجلة جهدًا في التماس تلك الغاية بكل الوسائل التي تناسب
ما لذلك المقصد الكريم من نبل وشرف فتحاول أن تتبع بعناية كل مظاهر الحياة
الشرقية وعناصر نهضتها، وما يكون ذا أثر قريب أو بعيد في مدنية الشرق،
فتتخذ من ذلك كله موضوعات لبحث حر ونزيه يشترك فيه أهل الرأي البصيرون
ممن يعنيهم أمر النهضة الشرقية عسى أن يتضح سبيل الخير والشر، ويتميز وجه
النافع والضار دون أن تقف المجلة في ذلك موقف المتعصب لأمة ولا طائفة ولا
دين ولا مذهب، لكنها تضع المصلحة العامة للشرق كله فوق جميع هذه الاعتبارات،
تريد المجلة في جميع الأحوال أن تقف موقف السفير الأمين الذكي يحاول أن
يزيل ما قام بين أمم الشرق من حجب وعقبات ليرى بعضها بعضًا ويسمع بعضها
بعضًا فتتعارف فتتقارب فتصبح بنعمة الله إخوانًا.
***
(موضوع المجلة)
تُعْنَى المجلة بكل ما يكون ذا علاقة بنهضة الشرق أو مؤثرًا في مدنيته،
وبكل ما يساعد على تمكين العروة بين الشرقيين لا تتقيد بناحية من البحث دون
ناحية ولا بموضوع دون موضوع ما دام ذلك داخلاً في حدود أغراضها ومتصلاً
بمظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية في الشرق.
والمجلة حريصة من أجل ذلك على تَنَكُّب المباحث التي لا يكون فيها ما ينفع
مبدأ الرابطة الشرقية ولا يمس الشئون الحية في أمم الشرق، وكذلك تحرص المجلة
على مجانبة الأبحاث التي لها علاقة بالمنازعات الدينية، والخلافات المذهبية، فإن
التعرض لمثل هذه الأبحاث في الشرق خطر يخشى أن يغتال كل دعوة إلى تقارب
الشرقيين وتواصلهم، تلك دعوة يجب أن تأخذ سبيلها بعيدًا عن كل ما يثير
حزازات النفوس، ويحرك نزعات العصبية.
وتتجنب المجلة الخوض أيضًا فيما قد يعرُّضها لفتن السياسة، فلا تتناول
المباحث السياسية إلا من نواحيها العلمية البريئة.
الموضوعات التي تُعْنَى بها المجلة بنوع خاص هي:
1- المباحث العلمية.
2- الاجتماع.
3- الاقتصاد.
4- الأدبيات والفنون الجميلة.
5- الأخبار والحوادث مشتملة على ما يكون له اتصال خاص بموضوع
المجلة.
6- الإشارة بقدر ما يمكن إلى ما يظهر من الكتب والمباحث التي يكون لها
ارتباط بموضوع المجلة مع تلخيص المهم منها ونقده.
7- درس حالة التعليم في الأمم الشرقية المختلفة.
8- جماعة الرابطة الشرقية بنشر قراراتها وأهم أخبارها ومباحثها وتلخيص
المحاضرات التي تُلْقَى بها.
ويشترط فيما تتناول المجلة من هذه المباحث بوجه أن يكون مفيدًا لأمم الشرق
ومتصلاً بحياتها الحاضرة، وألا يكون فيه ما يثير خلافًا دينيًّا أو سياسيًّا.
***
(نصراء المجلة)
تعتمد المجلة في أداء واجبها وتحقيق أغراضها على المساعدة التي ترجوها
من أعضاء الرابطة الشرقية، وكل من يتفضل بمناصرتها والكتابة لها في حدود
موضوعاتها من شرقيين ومستشرقين.
***
(مراسلو المجلة)
تتخذ المجلة تدريجيًّا في كل جهة من أهم الجهات الشرقية وغيرها مراسلين
يوافونها بالأنباء ويكتبون في موضوعاتها ويستكتبون من ذوي الرأي والمكانة في
بلادهم من يرون في كتاباتهم نفعًا للشرق وللمجلة.
***
(اشتراك المجلة)
رأت اللجنة مؤقتا أن تظهر المجلة مرة كل شهرين، وأن تكون قيمة
الاشتراك السنوي خمسين قرشًا صاغًا في مصر وستين في الخارج تدفع سلفًا،
وأن ترسل المجلة مجانًا إلى حضرات أعضاء الرابطة الشرقية.
***
(عنوان المجلة)
المخاطبات غير المالية تكون باسم (لجنة الرابطة الشرقية) بشارع سامي
رقم 28 المالية بمصر.
والمعاملات المالية تكون باسم (حضرة صاحب السعادة أحمد شفيق باشا)
بالعنوان المتقدم.
***
(لجنة المجلة)
الرئيس: السيد عبد الحميد البكري، مدير المجلة: أحمد شفيق باشا،
المشرف على التحرير: الأستاذ علي عبد الرازق.
مصر القاهرة 17 صفر سنة 1347، 5 أغسطس سنة 1928.
(المنار)
نحمد الله أن آن تنفيذ إصدار هذه المجلة التي قرَّرنا إصدارها من أول العهد
بإنشاء المجلة، ولكن نخشى أن يظهر فيها شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء
جميع المسلمين كدفاعه عن الترك وثنائه على خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء
ظهورهم ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم، ولكن الرجاء في سماحة الرئيس
وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك، فالمراقب لا بد له من مراقبة.
***
(القول الصحيح في ترجمة حياة محمد والمسيح)
عني الأستاذ الفاضل عبد العزيز أفندي نصحي أمين مخازن الجمعية الزراعية
الملكية بأشمون في وضع هذه الترجمة عناية يستحق من أجلها كل شكر وإعجاب،
لطيفة العبارة جميلة الأسلوب، ناقش فيها أصحاب الأناجيل مناقشة متواضعة من
أناجيلهم وألزمهم الحجة من أقوالهم، والرسالةُ ملخصٌ صغيرٌ لتاريخ الرسولين
الكريمين مبتدأة بتاريخ السيد المسيح، ويتخلل ذلك بعض أعمالهما وأقوالهما عليهما
الصلاة والسلام.
والرسالة صغيرة الحجم على ورق عادي ثمنها 2 قرشان مصريان غير
أجرة البريد وتباع في مكتبة المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/397)
ربيع الآخر - 1347هـ
أكتوبر - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقرير لجنة إصلاح التعليم في الأزهر
والمعاهد الدينية الإسلامية في مصر وقراراتها
أصدر صاحب الدولة رئيس الوزارة أمرًا بتأليف لجنة للنظر في الإصلاح
الذي طلبه للأزهر شيخه صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي فألفت
اللجنة من فضيلته وتحت رياسته من وكيل وزارة المعارف (عبد الفتاح بك صبري)
ومفتش العلوم الحديثة في الأزهر (محمد خالد حسنين بك) والسكرتير البرلماني
لوزير المعارف (الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري) وقد اجتمعت هذه اللجنة
بضع مرات ما بين 23 أغسطس و 5 سبتمبر أصدرت في خاتمتها التقرير الآتي
المتضمن لخلاصة قراراتها وهذا نصه:
التقرير
حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء:
تفضلتم دولتكم فأصدرتم في 13 أغسطس سنة 1928 قرارًا بتأليف لجنة
للنظر في الإصلاحات المقتضى إدخالها على نظام الجامع الأزهر والمعاهد الدينية
العلمية الإسلامية وذلك طوعًا لميول حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فؤاد الأول
حفظه الله فإنه ما برحت المعاهد الدينية موضع عنايته وعطفه الكريم وإذا كانت هذه
اللجنة قد أتمت مهمتها على جهتها وفي أيسر وقت مقدر فالفضل في ذلك يرجع أولا
إلى ما يشعر به أعضاؤها من رغبة جلالة مولانا الملك وغيرة دولتكم على معاهد
الدين ورغبتكم في أن تبلغ في القريب الحد المستطاع من الكمال والعظمة ويرجع
ثانيًا إلى ما ملك أعضاءها من الشعور بأن هذه المهمة الجليلة التي ألقيت على
عواتقهم ينبغي ألا يضن عليها بجهد؛ لأنها مسألة الدين والعلم معًا، وإنه ليسرنا في
هذا المقام أن نبلغ دولتكم أنه لقد كان يقع الخلاف وتضطرب وجهات النظر في
مطارحة الآراء إلا أننا كنا ننتهي بحمد الله إلى الإجماع على ما نتخذه من القرارات،
ذلك أننا من الساعة الأولى تمثلنا مصلحة العلم ومعاهد الدين وعلونا بها على كل
اعتبارات أخرى فكانت وسيلتنا إلى هذه الغاية الإقناع وحده وكان من التوفيق أن
كل ما أثبتنا من المبادئ إنما تقرَّر بإجماع الآراء.
لم يبق اليوم من شك في أن الجامع الأزهر يحتاج إلى إصلاح كبير، فلقد
اعتصم من زمن بعيد بألوان من العلوم وتكلف في أساليب التعليم فنونًا خاصة
متجاهلاً في هذا وفي ذاك ما تنتفع به قرائح الباحثين كل يوم، وما يستخرج العلم
من مكنوزات الطبيعة، وما يجلي من سنن الله تعالى في هذا العالم وتطاول على
ذلك الزمن، وفي كل يوم يزداد الانفراج بين الأزهر وبين العالم حتى أصبح أهله
أو كادوا يصبحون غرباء لا يفهمون الناس ولا يفهمهم الناس [1] .
ولقد بُذِلَتْ من ثلاثين سنة جهودٌ محمودةٌ في فترات متعددة ترامت كلها إلى
إصلاح الأزهر وتقريب ما بين أهله وسائر المتعلمين في الدنيا فلم تلق نجاحًا
مذكورًا؛ لأن سواد الأزهريين لم يكن مؤمنًا بالحاجة إلى هذا الإصلاح أو على
الأصح لم يكن مؤمنًا بالعالم ولا بما يتحرك فيه من علم وفن إنما العالم كله لا يعدو
في لحظه أحكامًا لا يستوي كثير منها لحاجات الزمان إلى ضرب من الفلسفة اللفظية
لا غناء له في الدين ولا اتصال له بالأسباب الدائرة بين الناس.
واليوم وقد تفجرت هذه الحقيقة القاسية ورأى الأزهريون أنفسهم بعد إذ كثر
عديدهم أنهم ينزلون إلى ميدان الحياة بغير سلاح انبعثوا هم أنفسهم يطلبون
الإصلاح الذي يجدي عليهم في دينهم ودنياهم جميعًا، وهذا ما يدخل على صدورنا
اليقين بأن ما ارتسمناه محقق إن شاء الله في هذا العهد الموصول النهضات.
ولقد كانت الغاية التي تمثلناها من أول يوم أن تصبح المعاهد الدينية ينبوعًا
غزيرًا من ينابيع الثروة العلمية في البلاد وبحيث يعود إلى الجامع الأزهر مجده
القديم من العالم الإسلامي وليكون المنهل الذي يرده طلاب الدين وطلاب العربية من
العالمين العربي والإسلامي، ولم يتداخل اللجنة أيُّ شك في أن الأزهر لا يتهيأ له
ذلك إلا إذا استخلصت فيه أحكام الدين مما علق بها من الشوائب ويرجع في
تقريرها إلى ما كان يجري عليه السلف الصالحون في أنضر عصور الإسلام بحيث
توافق أحوال الزمان والمكان كما ينبغي أن يعدل فيه عن الطريقة العتيقة في تدريس
علوم اللغة إلى تدوينها على النحو الذي يفسح في الملكات ويطبع الألسن على
صحيح البيان وبحيث يجري تدريس عادتها وأسبابها على مناهج التحقيق العلمي
الحديث، وبمقتضى النظام الذي اجتمعت له نية اللجنة يتسنى للأزهر أن يتولى
تخريج العلماء المتفقهين في دينهم العارفين بأحوال زمانهم الواصلين بين أحكام
شريعتهم وما يجلوه العلم الحديث من سنن الكون، ومن هؤلاء يتخذ أساتذة الشريعة
في المعاهد الدينية والمعاهد الأخرى التي يدرس فيها الفقه الإسلامي كما يتخذ
القضاة للمحاكم الشرعية ويتخذ أيضًا الدعاة المرشدون لأحكام الدين الخالص سواء
في القطر المصري أم في الأقطار الإسلامية الأخرى، وكذلك يقوم الأزهر على
تخريج أساتيذ اللغة العربية للمعاهد الدينية ولمدارس الحكومة أيضًا.
وقد التفتت اللجنة إلى أمر جليل الخطر، ذلك أنه قد تَظْهَر في بعض
الأحايين ألوان من المواهب لو أنها تُعُهِّدَتْ وفُسِحَ لها في جوانب الطريق لربت
وخرج بها العظماء والفاتحون في أبواب العلم المختلفة وتقييد أصحابها بمهنة أو
بمنصب كثيرًا ما يحول بينها وبين كمالها المقسوم، لهذا رأت أنه يحسن أن تسن
في المستقبل طريقة لالتماس أصحاب هذه المواهب وتعهدهم بالوسائل المادية
والأدبية سواء أكانوا من خريجي الأقسام العالية أم من أقسام التخصص حتى
يستطيع كل منهم أن ينقطع للبحث العلمي في الباب الذي هيأته له موهبته.
وقد اقتصرت اللجنة على تقرير المبادئ العامة التي قدرت كفايتها لتحقيق هذه
المطالب الجليلة وتركت وضع خطط الدراسة ومناهجها للجان فنية تُؤَلَّف لهذا
الغرض، ورأت أن تجعل مراحل التعليم في الأزهر أربعًا: ابتدائي، ومدته أربع
سنين وثانوي ومدته خمس، وعال ومدته أربع، وتخصص ومدته سنتان، كما
رأت توحيدًا للثقافة العامة في البلاد أن يجري الأزهر في قسميه الابتدائي والثانوي
في العلوم الحديثة على المنهج المرسوم لتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية فيما عدا
اللغات الأجنبية على أن يفرض النصيب الأوفر في هذين القسمين للمادتين الدينية
والعربية، ورأت أن تربط منه التعليم في المعاهد الدينية بالتعليم الإلزامي بحيث لا
تقل سن الطالب عن اثنتي عشرة سنة ولا تزيد عن الخامسة عشر، وبذلك يكون
الطالب قد أمضى خمس سنوات على الأقل في هذا التعليم فيجب أن يُشْرَط لقبوله
أن يؤدي امتحانًا يثبت به أن قد أحرز محصولاً يكافئ المقرَّر في ذلك التعليم لغاية
السنة الخامسة فضلاً عن حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل وحفظ سائره في
السنوات الأربع الأولى.
ولقد توجه الرأي في ذلك على عدة اعتبارات أظهرها أن مَنْ دون الثانية
عشرة لا يتيسر له في العادة أن يتجرد للطلب في المعاهد مستغنيًا عن كفالة أوليائه،
وأن من يتلقى في التعليم الإلزامي أو ما يكافئه خمس سنين ينفسح له الوقت في
التعليم الابتدائي والثانوي للبسط في علوم الدين واللغة فوق القدر المرسوم للعلوم
الحديثة في التعليم العام (الابتدائي والثانوي) .
وطوعًا لسنة التفريع رأت اللجنة أن ينظم التعليم العالي ثلاث شعب.
(إحداها) لدراسة الفقه ووسائله [2] من كتاب الله وسنة الرسول ومذاهب
السلف الصالحين ومقارنتها بعضًا ببعض توسلاً إلى استخراج الأحكام الشرعية على
النحو الذي كان يستخرجها به أولئك السلف الكرام.
(والثانية) تصرف أَجَلّ العناية فيها إلى دراسة علوم الكلام والنظر.
(والثالثة) لدراسة علوم اللغة العربية وآدابها وتاريخها.
ويدخل في ذلك دراسة الكتاب والسنة من الناحية البلاغية حتى إذا استوى
لطلاب هذه الأقسام العالية تحصيل المقرر المقسوم لهم وأحرزوا شهاداتهم انطلق من
شاء منهم إلى التخصص والغرض منه التأهيل للمهنة بحذق وسائلها والتمرن فيها
حيث يجمع بعض طلاب الفقه وطلاب اللغة في قسم واحد هو الذي يعد لمهنة
التدريس في كل من هذين الفرعين (والقسم الثاني) لإعداد بعض طلاب الفقه
لمهنة القضاء وما إليها (والقسم الثالث) ينتظم طلاب علوم الكلام والنظر [3]
لإعدادهم للدعوة والإرشاد.
وإذا كان طلاب الأزهر قد أخذوا بنظام جديد يقرب من النظام المزمع سنُّه من
سنة 1925 بحيث اكتملت له في التعليم الابتدائي إلى الآن ثلاث سنين على هذا
النظام فقد تقرَّر البدء بإنشاء السنة الأولى الثانوية في أكتوبر سنة 1929 ليتسنى
تغذية هذا القسم بمن أتموا الدراسة الابتدائية على ذلك النظام، على أنه بعد وضع
المنهج اللازم للقسم الابتدائي يجب أن يعمل ترتيب انتقالي لتطبيق هذا المنهج
تطبيقًا يجعل كل من أتم الدراسة الابتدائية قد استوفاه كله بقدر الإمكان، كذلك رأت
اللجنة أن يبدأ بتنفيذ شروط القبول في السنة الأولى الابتدائية اعتبارًا من سنة
1929.
أما القسم العالي في الأزهر فقد اجتمعت النية كما سلف الإشارة على تقسيم
الدراسة فيه تقسيمًا يتسق للتخصيص في الأسباب التي يعالجها خريجو هذا المعهد؛
لأن إبهاظ طلاب الأقسام العالية بالقدر الهائل من العلوم لا يستقيم مع قواعد التربية
الحديثة لذلك رأت اللجنة أن تعجل بهذا التقسيم حتى تنتظر هذه المرحلة من مراحل
التعليم طلابًا يتجرد كل منهم لما يعد له من فنون العلم، ومن حيث إنه قد تبين أن
وزارة المعارف تستعين الآن بفنون واسعي الخبرة على وضع نظم وافية لمدارس
المعلمين العليا ومنها دار العلوم وربط الصلات بين الدراسات المتجانسة في التعليم
العالي فقد رأت أنه يحسن الانتظار في تقسيم الدراسة في القسم العالي حتى يجتمع
الرأي في ذلك وبهذا تتهيأ الفرصة لاستفادة الأزهر نفسه بنتائج هذا البحث الذي
ربما تأثرت به دار العلوم إلى حد كبير، ومن المفهوم أنه ستكون بين هذه المدرسة
وبين قسم اللغة وأسبابها في الأزهر أوثق الصلات في مناهج التعليم، وبعد تقدير
الزمن اللازم، لهذا قرَّرت اللجنة أن يبدأ بتقسيم الدراسات في القسم العالي في
الأزهر من أكتوبر سنة 1930 بحيث تجري الدراسة في قسم اللغة العربية في
الأزهر على نفس المنهج الذي يقرر لدراسة العلوم على أن يضاف إليها من المواد
ما لم يكن درسه طلبة القسم الثانوي في الأزهر مما هو مقرَّر على طلبة تجهيزية
دار العلوم، وبحيث أن طلبة القسم العالي في الأزهر المحررين للغة وآدابها متى
أتموا الدراسة على هذا الوجه كانت لهم نفس امتيازات خريجي دار العلوم.
وقد تذاكرت اللجنة في الطريقة العملية التي تضمن كفاية خريجي الأزهر
لتدريس اللغة العربية وآدابها سواء في المعاهد الدينية أم في المدارس الأميرية
فرأت أن تشترك وزارة المعارف بما لها من قديم الخبرة في أساليب التعليم في
وضع خطط الدراسة ومناهجها في القسم الثانوي والقسم العالي المحرر لدراسة اللغة
وآدابها وقسم التخصص في هذه الدراسة، وأن تشترك كذلك اشتراكًا فعليًّا في وضع
أسئلة الامتحانات وفي مباشرتها تحريريًّا وشفويًّا وعمليًّا، وأن لا تضن الوزارة
على المعاهد الدينية بإعارتها العدد الكافي من خيرة الأساتذة والمفتشين بحيث
يكونون في أعمالهم تابعين لإدارة المعاهد وإليها مرجعهم وعلى ذلك فكلما تمت سنة
على الوجه المطلوب ابتداء من السنة الأولى الثانوية في المعاهد الدينية ألغيت السنة
التي توازيها من تجهيزية دار العلوم إلى أن تُلْغَى كلها في الوقت الذي يتم فيه
التعليم الثانوي في المعاهد الدينية على النظام الجديد، على أن من يستحق الإعادة
من طلبة أية سنة ملغاة في تجهيزية دار العلوم يعتبر طالبًا في السنة التي توازيها
في القسم الثانوي بالمعاهد الدينية.
وقد رأت اللجنة أن يكون امتحان التخرج من دار العلوم [4] والقسم العالي
المحرر في الأزهر للغة وآدابها واحدًا للفريقين، وعلى حسب ترتيب النجاح يكون
القبول في قسم التخصص على أنه بعد إذ يثبت بالامتحان النهائي لطلبة دار العلوم
وطلبة ذلك القسم في الأزهر أنهما متكافئان في التخريج يبدأ بالاستغناء بالأزهر عن
دار العلوم.
***
مدرسة القضاء الشرعي
وقد بحثت اللجنة في شأن مدرسة القضاء الشرعي وبخاصة بعد إذ تقرر بادئ
الرأي أن الأزهر يتولى بعد أخذه بالنظام الجديد تخريج أصحاب الكفايات العالية من
القضاة والمحامين فتبين أن هناك نحو ألفي محام ممن يحملون شهادة القضاء
الشرعي في حين لا يتسع المجال لكثير من هؤلاء فلو أنه قد ضم إليهم ممن
يخرجهم الأزهر ومن تخرجهم المدرسة كل عام لتضخم العدد وتكاثر سواد
المتعطلين ممن يحملون شهادة عالية ولهذا آثاره السيئة نحو البلاد ونحو هؤلاء
المتخرجين أنفسهم، وإذا لوحظ أن وزارة الحقانية لا تحتاج إلى أكثر من ستة في
العام في المتوسط لإلحاقهم بوظائف القضاء الشرعي وأن المحاماة قد بشمت بذلك
العدد الهائل فقد بان أنه من الميسور سد حاجة القضاء كلها بالموجودين فعلاً من الآن
إلى أن يخرج قسم التخصص بالأزهر أصحاب الكفاية المطلوبة من القضاة
والمحامين واللجنة تعلم أن مدرسة القضاء الشرعي الجديدة لم يقبل عليها في العام
الماضي أحد من الطلاب بالمرة حتى اضطرت وزارة المعارف إلى تحويل من طلبوا
دار العلوم بعد إذ رغَّبَتْهم بوسائل عدة حتى رغبوا بهذا التحويل، أما في العام الحاضر
فلم يتقدم إليها سوى أحد عشر!
ولما كانت كل الدلائل تنبئ بأن هذه المدرسة تتداعى من نفسها إلى أنها لا
تنتج في الغاية إلا الإكثار من سواد المتعطلين من حملة الشهادات العالية، فقد تقرَّر
إلغاء السنة الأولى اعتبارًا من هذا العام وتحويل طالبيها إلى مدرسة دار العلوم،
وتقرر كذلك مراجعة حضرة ناظر المدرسة في شروط قبول طلبة السنة الثانية من
مدرسة القضاء في السنة الثانية من دار العلوم ثم تخيير هؤلاء الطلبة في ذلك حتى
إذا قدروا أن من مصلحتهم هذا التحويل حولوا، وألغيت السنة الثانية من مدرسة
القضاء في هذا العام أيضًا.
وبهذا ترى دولتكم أن للجنة في جميع وسائل الإدماج الذي طلبته توحيدًا لتعليم
اللغة والدين في البلاد تحرت ألا تضر بأحد من الطلبة القائمين الآن أو تعترض
سبيله إلى غاية أو تتحيف من امتيازاته المقدرة له.
وبحثت اللجنة في شأن إعادة الراسبين في الامتحانات فرأت أن تغتفر إعادة
سنتين في كل قسم من الأقسام الثلاثة، أما قسم التخصص فلا إعادة فيه بل يجب
شطب اسم الراسب من أول مرة، ورأت ألا يقبل في امتحانات الشهادات من
الخارج إلا كل من أتم مرحلة من مراحل التعليم ورسب في السنة النهائية لتلك
المرحلة وشطب اسمه لمضي المدة المقررة، على أنه لا يباح له الدخول في
الامتحان بعد ذلك أكثر من مرتين في السنتين التاليتين.
***
طلاب العلم الغرباء في الأزهر
وكان مما عُنِيَتْ اللجنة بترديد النظر ومطارحة الرأي فيه جماعة الغرباء
الذين يفدون على المعاهد الدينية من الأقطار الأخرى فتبين أن التسامح الذي جرت
به العادة مع هؤلاء يستدرجهم إلى عدم العناية بالتعليم والانصراف إلى ما يسيء
طباعهم ويفسد أخلاقهم حتى إذا رجعوا إلى قومهم كانوا إعلانًا عن الأزهر غير
كريم، فتقرر إلغاء شهادات الغرباء بحيث لا تعطى شهادة إلا لمن يتعلم منهم التعليم
المقرر أسوة بطلاب القسم النظامي.
وفي هذا الباب لاحظت اللجنة أمرًا حقيقًا بالاعتبار ذلك أنه قد يعد طالب نفسه
في بلاده حتى يتأهل للدخول في القسم الثانوي مثلاً، فضلاًَ عن أن هؤلاء لا يفدون
عادة على مصر في أسنان صغيرة، فرأت أن يقبل الغرباء ابتداء في امتحان
الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية، وأن يترخص في أمر السن معهم للانتظام في
الدراسة على أن يترك تحديد ذلك وضبط قواعده لمجلس الأزهر الأعلى.
أما القسم غير النظامي في الأزهر فقد رأت اللجنة أن على من يريد طلب
العلم فيه أن يقدم طلبًا يبين فيه المواد التي يرغب في دراستها في العام حتى يتهيأ
لإدارة المعاهد توزيع الأساتذة على طلاب هذا القسم وتخصيص أماكن التدريس لهم
وهؤلاء لا يراقبون إلا من الجهة الأخلاقية ولا تعقد لهم امتحانات مطلقًا، وإن حُقَّ
لأساتذتهم أن يعطوهم إجازات في العلوم التي يكون قد درسوها وكان ذلك واقعًا في
الأزهر إلى وقت قريب.
***
عدد طلاب القسم النظامي
وتذاكرت اللجنة في شأن العدد الذي تتناوله الأقسام النظامية في المعاهد الدينية
فقررت أن يجدد مجلس الأزهر الأعلى في كل سنة العدد الذي يقبل في السنة
الأولى في التعليم الابتدائي مراعيًا في ذلك بالضرورة القدر الذي ينتظم به التعليم
طوعًا للمنهج المرسوم وتستوي به المراقبة الأخلاقية بحيث يسد كذلك حاجة البلاد
إلى هذا النوع من المتعلمين في غير إسراف ولا تقييد.
وضمانًا لثبات أساليب التعليم وعدم اضطرابها بكثرة التعديل والتغيير تبعًا
لاختلاف الآراء في مذاهب التعليم وتمشيًا مع القانون الأول في هذا الباب رأت
اللجنة أنه يجب أن تصدر خطط الدراسة بقانون وأن تقرَّر مناهجها بمرسوم.
ومما تناولته بحوث اللجنة الجهة التي تتولى إدارة أقسام التخصص فاجتمع
الرأي على أن تتولى إدارة المعاهد الدينية قسمي التخصص في الدعوة والإرشاد
وفي القضاء، أما قسم التخصص في مهنة التدريس بفروعها فقد رُئي لاعتبارات
كثيرة تأجيل البت في ذلك إلى أن يوضع نظام هذا القسم.
هذه هي الأسس التي هدانا الرأي إلى أن يقوم عليها النظام الحديث للمعاهد
الدينية، ويجري في حدودها ما ينبغي لها من وجوه الإصلاح، وإننا لجد واثقين
بأنها لو أصابت موافقة دولتكم فأمرتم بتنفيذ هذا، والشروع في وضع الخطط
التفصيلية لها لكان من حق الأزهر أن يتسلف الهناء على ما سيدرك من العظمة
الحقيقية باسمه، والتي تستشرف إليها مطامعه من قديم الزمان.
ونسأل الله تعالى أن يجزي دولتكم على هذا الخير الجليل أحسن الجزاء،
ونتشرف بأن نرفع مع هذا محاضر الجلسات التي عقدتها اللجنة والقرارات التي
اتخذتها فيها ونرجو دولتكم أن تتفضلوا فتقبلوا أجل الاحترام.
(إمضاءات الرئيس وأعضاء اللجنة)
***
(2)
القرارات
التي اتخذتها لجنة إصلاح نظم التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية العلمية
الإسلامية
(1) يتولى الأزهر بعد أخذه بالنظام المقسوم تخريج العلماء المتفقهين في
دينهم العارفين بأحوال زمانهم الواصلين بين أحكام شريعتهم وما يجلوه العلم الحديث
من سنن الكون، ومن هؤلاء يتخذ أساتذة الشريعة في المعاهد الدينية والمعاهد
الأخرى التي يُدَرَّسُ فيه الفقه الإسلامي كما يتخذ القضاة للمحاكم الشرعية ويتخذ
أيضًا الدعاة المرشدون لأحكام الدين الخالص سواء في القطر المصري أم في
الأقطار الإسلامية الأخرى، كذلك يقوم الأزهر على تخريج أساتيذ اللغة العربية
للمعاهد الدينية ولمدارس الحكومة أيضًا.
(2) ربط بدء التعليم في المعاهد الدينية بالتعليم الإلزامي وأن لا تقل سن
القبول عن الثانية عشرة، ولا تزيد على الخامسة عشرة، وأن يؤدي الطالب
امتحانًا يثبت به أنه قد أحرز محصولاً يكافئ المقرر في التعليم الإلزامي لغاية السنة
الخامسة.
(3) قررت اللجنة كذلك وجوب حفظ القرآن كله على طلبة المعاهد الدينية؛
ورأت في هذا السبيل ألا يقبل في الأزهر طالب إلا إذا كان حافظًا على الأقل
لنصف القرآن الكريم، وأنه بعد ذلك يجب أن يكون حافظًا للقرآن الكريم كله عند
تمام السنة الرابعة الابتدائية، وأن يترك للجنة التي تضع خطط التعليم ومناهجه
تنظيم الطريقة التي ينفذ بها هذا القرار.
(4) تقرر جعل مراحل التعليم أربعًا: ابتدائي ومدته أربع سنين وثانوي
ومدته خمس، وعال ومدته أربع، وتخصص ومدته سنتان.
(5) يجب أن يفرض النصيب الأوفر في التعليم الابتدائي والثانوي للمادتين
الدينية والعربية، وإلى جانب هذا ينبغي أن يؤخذ طلاب هذين القسمين من العلوم
الكونية بنفس القدر الذي تأخذ به وزارة المعارف تلاميذها في التعليم العام
(الابتدائي الثانوي) .
(6) ينتظم التعليم العالي ثلاث شعب (إحداها) لدراسة الفقه ووسائله من
كتاب الله وسنة الرسول ومذاهب السلف الصالحين ومقارنتها بعضها ببعض توصلاً
لاستخراج الأحكام الشرعية على النحو الذي كان يستخرجها به أولئك السلف الكرام
(والثانية) تصرف العناية جلُّها فيها إلى دراسة علوم الكلام والنظر (والثالثة)
لدراسة علوم اللغة العربية وآدابها وتاريخها ويدخل في ذلك دراسة الكتاب والسنة
من الناحية البلاغية حتى إذا استوى لطلاب هذه الأقسام العالية تحصيل القدر
المقسوم لهم وأحرزوا شهادتهم انطلق من شاء منهم إلى التخصص، والغرض منه
التأهل للمهنة بحذق وسائلها والتمرين فيها بحيث يجمع بعض طلاب الفقه وطلاب
اللغة وطلاب علوم الكلام والنظر في قسم واحد هو الذي يعد لمهنة التدريس في كل
من هذه الفروع، والقسم الثاني لإعداد بعض طلاب علوم الكلام، والنظر للدعوة
والإرشاد.
(7) يحسن أن تسن في المستقبل طريقة لالتماس أصحاب المواهب
وتعهدهم بالوسائل المادية والأدبية سواء أكانوا من خريجي الأقسام العالية أم من
أقسام التخصص حتى يستطيع كل منهم أن ينقطع للبحث العلمي في الباب الذي
هيأته له موهبته.
(8) تقرر أن تشترك وزارة المعارف في وضع خطط الدراسة ومناهجها
في القسم الثانوي والقسم العالي المحرر لدراسة اللغة وآدابها وقسم التخصص في
هذه الدراسة، وأن تشترك كذلك اشتراكًا فعليًّا في وضع أسئلة الامتحانات وفي
مباشرتها تحريريًّا وشفويًّا وعمليًّا، وأن لا تضن الوزارة على المعاهد بإيجادها العدد
الكافي من خيرة الأساتذة والمفتشين بحيث يكونون في أعمالهم تابعين لإدارة المعاهد
وإليها مرجعه، وعلى ذلك فكلما تمت سنة على الوجه المطلوب ابتداء من السنة
الأولى الثانوية في المعاهد الدينية ألغيت السنة التي توازيها من تجهيزية دار العلوم
إلى أن تلغى كلها في الوقت الذي يتم فيه التعليم الثانوي في المعاهد الدينية على
النظام الجديد.
(9) تقرر تنفيذ قرار اللجنة المتضمن لشروط القبول في السنة الأولى
الابتدائية اعتبارًا من سنة 1929.
(10) بعد وضع المنهج اللازم للقسم الابتدائي بجعل ترتيب انتقالي لتطبيق
هذا المنهج تطبيقًا يجعل كل من أتم الدراسة الابتدائية قد استوفاه كله بقدر ما يمكن.
(11) يبدأ بإنشاء السنة الأولى الثانوية في المعاهد الدينية في أكتوبر سنة
1929 حيث تلغى السنة الأولى من تجهيزية دار العلوم كما تلغى في السنة التالية
السنة الثانية فيها، وهكذا حتى يتم إلغاؤها تمامًا في نفس الوقت الذي تتم فيه للقسم
الثانوي في المعاهد خمس السنين.
(12) من يستحق الإعادة من طلبة أية سنة ملغاة في تجهيزية دار العلوم
يعتبر طالبًا في السنة التي توازيها في المعاهد الدينية.
(13) يبدأ تقسيم الدراسات في القسم العالي بالأزهر في أكتوبر سنة 1930
بحيث تجري الدراسة في قسم اللغة العربية في الأزهر على نفس المنهج الذي قُرِّرَ
لدار العلوم على أن يضاف إليها من المواد ما لم يكن دَرَسَهُ طلبة القسم العالي في
الأزهر المحرر من اللغة وآدابها حتى إذا أتموا الدراسة على هذا الوجه كانت لهم
نفس امتيازات خريجي دار العلوم.
(14) يكون امتحان التخرج من دار العلوم والقسم العالي بالأزهر المحرر
للغة وآدابها واحدًا للفريقين، وعلى حسب ترتيب الناجحين يكون القبول في قسم
التخصص.
(15) بعد أن يثبت بالامتحان النهائي لطلبة دار العلوم وطلبة القسم العالي
المحرر في المعاهد الدينية لتعليم اللغة أنهما متكافئان في التخريج يبدأ بالاستغناء
بالأزهر عن دار العلوم.
(16) يبدأ بإلغاء السنة الأولى من مدرسة القضاء الشرعي اعتبارًا من هذا
العام وتحويل طلبتها إلى مدرسة دار العلوم، وبعد ذلك يخير هؤلاء الطلبة في هذا
حتى إذا رأوا أن من مصلحتهم هذا التحويل حولوا، وألغيت السنة الثانية من
مدرسة القضاء في هذا العام أيضًا.
(17) تقرَّر أن يعهد إلى لجنة فنية بتوزيع القدر الباقي من مواد العلوم
الحديثة المقررة في التعليم الابتدائي العام على السنوات الأربع الأول (حيث
يحتسب بالضرورة ما حرز منها الطلاب في سني التعليم الأولى) .
وأن تشكل لجنة أخرى لوضع خطط الدراسة للعلوم الدينية والعربية وما إليهما
للقسمين الابتدائي والثانوي مع مراعاة بقاء خطة الثانوية على ما هي عليه الآن فيما
عدا ذلك، أما خطط الدراسة العالية وأقسام التخصص فتشكل لها لجان خاصة تبدأ
عملها بعد إقرار الخطط والمناهج التي تقرر للقسمين الابتدائي والثانوي.
(18) قرَّرت اللجنة تمشيًا مع القانون العام في شئون التعليم أن تعتمد
خطط الدراسة بقانون وأن تعتمد مناهجها بمرسوم.
(19) تقرَّر إعادة سنتين في كل قسم من الأقسام الثلاثة، أما قسم
التخصص فلا إعادة فيه بل يجب شطب اسم الراسب من أول مرة.
(20) تقرَّر أن يقبل في امتحانات الشهادات من الخارج كل من أتم مرحلة
من مراحل التعليم وسقط في السنة النهائية لتلك المرحلة وشطب اسمه لمضي المدة
المقرَّرة على أن لا يباح له الدخول في الامتحان بعد ذلك أكثر من مرتين في خلال
السنتين التاليتين.
(21) يقبل الغرباء للامتحان ابتداء في الشهادة الابتدائية والشهادة الثانوية
للانتظام في الدراسة ويُتَرَخَّصُ في أمر السن معهم على أن يترك تحديد ذلك وضبط
قواعده لمجلس الأزهر الأعلى.
(22) على من يريد طلب العلم في القسم النظامي في الأزهر أن يقدم طلبًا
يبين فيه المواد التي يبغي دراستها في العام حتى تستطيع إدارة المعاهد توزيع
الأساتذة على طلبة هذا القسم وتخصيص أماكن التدريس لهم، وهؤلاء لا يُرَاقبون
إلا من الجهة الأخلاقية ولا تعقد لهم امتحانات مطلقًا، وإن جاز لأساتذتهم أن
يعطوهم إجازات في العلوم التي يكونون قد برعوا فيها.
(23) يحدد مجلس الأزهر الأعلى في كل سنة العدد الذي يقبل في السنة
الأولى في التعليم الابتدائي بالمعاهد الدينية.
(24) تتولى إدارة المعاهد الدينية قسمي التخصص في الدعوة والإرشاد
وفي القضاء، أما قسم التخصص في مهنة التدريس بفروعها فقد رُئي تأجيل البت
في ذلك إلى أن يوضع نظام هذا القسم.
(انتهت القرارات)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) سبق لنا كلمة في هذا المعنى في المنار من زهاء ثلاثين سنة حاصلها أن الذي يدخل الأزهر يدخل في عالم خياليٍّ لا علاقة له بعالم الوجود الخارجي فإذا عرضت له حاجة في عالم الأحياء خرج من عالمه الخيالي فنظر في حاجته ثم عاد فزج نفسه فيه.
(2) كان ينبغي اختيار لفظ أصوله أو ينابيعه على لفظ وسائله هنا بل كان ينبغي أن تجعل دراسة الكتاب والسنة هي المقصد الأول ويجعل الفقه تابعًا لهما.
(3) كان ينبغي أن يصرح هنا ببعض العلوم الأخرى المهمة في هذا القسم كعلم النفس والأخلاق والاجتماع وفلسفة التاريخ والملل والنحل وهي مقصودة للجنة قطعًا.
(4) المنار: كذا في الأصل الذي نشر في الصحف وصوابه: التخرج في دار العلوم.(29/401)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتح اليهود لباب الفتنة في القدس
التمهيد لانتزاع المسجد الأقصى من المسلمين
بالاستيلاء على جداره الغربي وما حوله
تمهيد في السياسة البريطانية
للدولة الإنكليزية مكايد وحِيَل في انتزاع الممالك من أهلها واستعبادهم وفي
ضرب الشعوب بعضها ببعض (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) في سبيل منافعها قد
أتقنتها منذ شرعت في الاستعمار إلى هذه الحرب العامة الأخيرة التي استخدمت فيها
لمصلحتها الشعوب الهمجية والمدنية والوسط بينهما حتى إنها جعلت الولايات
المتحدة الأميركية آلة في يدها وجعلت رئيسها العظيم ويلسن كأنه والٍ من ولاتها أو
راجًا من رجوات إمبراطوريتها الهندية، وقد غرَّها النجاح في هذا الكيد حتى
أقدمت في عقب هذه الحرب على أمر عظيم ما أظن أنها درسته من جميع وجوهه
كعادتها.
ذلك الأمر العظيم هو أنها وضعت نصب عينيها استعباد الأمة العربية وجعل
جزيرتها المنيعة التاريخية ومعاهدها الدينية المقدسة تحت سلطانها، وهذه المعاهد
هي المساجد الثلاثة: المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي المحمدي في
المدينة المنورة والمسجد الأقصى في بيت المقدس.
وقد أتاحت لها الحرب الاستيلاء العسكري والسياسي على الثالث ثم استخدمت
لقتل الأمة العربية وإفنائها في هذا القطر (فلسطين) الشعب اليهودي جريًا على
عادتها في قذف الشعوب بعضها ببعض، وبدأت من التمهيد للاستيلاء على الحجاز
باستخدام الشريف عبد الله ابن الشريف حسين منفي قبرص اليوم، وملك العرب
وخليفة المسلمين بوهمه بالأمس، فكاد لأخيه الشريف علي الذي تَمَلَّك على الحجاز
محصورًا في جدة عند خروج والده منه بأن أغراه بالذهب الإنكليزي وبنصر
الإنكليز إياه على ابن السعود على أن يصدر إرادته السنية بجعل منطقة العقبة
ومعان أهم مواقع الحجاز البحرية الحربية تابعة لشرق الأردن التي جعلها هو داخلة
في دائرة الإمبراطورية البريطانية باسم الانتداب، ثم بعقده مع هذه الدولة معاهدة
تجعل شرق الأردن وما ألحق به من الحجاز موقعًا حربيًّا للدولة الإنكليزية لها الحق
في استخدام أهله وماله في الحرب: حرب من! حرب الأمة العربية طبعًا إذ لا
يوجد غيرها، ولما قامت أهالي البلاد تنكر هذه المعاهدة قاومهم الأمير الشريف ابن
الشريف ابن الشريف بالقوة والقهر بمساعدة رئيس حكومته حسن خالد بك نجل
القطب الشهير الشيخ أبي الهدى أفندي (الصيادي الرفاعي الحسيني بدعواه) .
ربما تكون الدولة الإنكليزية قد درست حال الأمة العربية درسًا اعتقدت به أن
الاستيلاء عليها ممكن بضرب بعضها ببعض، وذلك بجعل حاكمي العراق وشرق
الأردن عدوين لابن السعود حاكم الحجاز ونجد فإن صح هذا - وقد يكون غير
صحيح - فما أراها قد درست المسألة اليهودية الصهيونية من كل وجه فإن العرب
إذا كانوا لا يزالون جاهلين متفرقين، ولا يزال يوجد الخونة في أكبر بيوتاتهم،
فاليهود ليسوا كذلك بل هم أعظم كيدًا ومكرًا من الإنكليز، وإن كانت قد استخدمتهم
في الحرب المدنية الكبرى لاستمالة الولايات المتحدة إليها وفي بث روح التمرد في
ألمانية للامتناع عن الحرب وطلب الصلح على قواعد ولسن.
نعم إنها استخدمتهم واعدة إياهم بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لهم تمهيدًا لامتلاكها
وتجديدًا لملك اليهود فيها تحت سيادتها، وهي تعلم أن الغرض الأعظم من هذا
الملك إعادة هيكل سليمان لهم لإقامة شعائر دينهم وقرابينهم فيه، وتعلم أن مكان
الهيكل في عرفهم هو المسجد الأقصى، وتعلم مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين
عامة والعرب خاصة وعرب فلسطين بالأخص، ولكن هل تعلم مع هذا أن عند
المسلمين من دلائل النبوة وأخبار الرسول صلوات الله عليه وسلامه المتعلقة بهذه
المسألة ما هو أصرح مما عند اليهود من مثل ذلك من أنبيائهم؟ ما أظن اللورد
بلفور الذي ابتكر عهد الوطن القومي ووعد به الصهيونيين يعلم ما عند المسلمين من
الأحاديث النبوية في قتال اليهود ببيت المقدس، وما أظن أنه يؤمن بصحة ما عند
اليهود من (النبوات) في ذلك، وما أظن أن وزير المستعمرات البريطانية وسائر
أعضاء الوزارة بأعلم من اللورد بلفور في ذلك.
فإن كان ظني في غير موضعه فالحكومات الإنكليزية من عهد ابتكار اللورد
بلفور لعهده إلى الآن متعمدة حشر ما يمكن من اليهود في فلسطين؛ لأجل إيقاد نار
الفتنة بينهم وبين العرب بوازع الدين في الفريقين ومساعدة اليهود على العرب
لأجل جعل هذه المنطقة من بلاد العرب يهودية بريطانية فاصلة بين عرب مصر
وعرب سورية والعراق، فإن لم يكن فأقل فائدتها من ذلك أن يكون كل من الفريقين
المتكافئين فيها معتمدًا على سلطانهم وحاكمهم في حفظ نفسه من الآخر.
اليهود الصهيونيون يسوقون سائر اليهود إلى امتلاك البلاد وانتزاع المسجد
الأقصى من المسلمين بسائق العقيدة الدينية وقد كان من أنباء هذا الشهر أنهم فتحوا
باب الفتنة قبل أن يكون لهم الغلب العددي والحكمي في البلاد.
***
مسألة المبكى أو البراق
وهو الجدار الغربي من الحرم الأقصى
كان يقال: إن اليهود يعتقدون أن كسارة ألواح موسى عليه السلام مدفونة
تحت الجدار الغربي من سور الحرم الشريف ببيت المقدس فهم يجتمعون هنالك
يبكون ويحيون ذكر مجدهم الديني في هيكلهم، والمسلمون يروون أن البراق الذي
ركبه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء قد ربط بهذا الجدار فله مزية عندهم
على سائر جدران المسجد ويسمونه (البراق) ، وقد كان من تسامح المسلمين
وتساهلهم أن سمحوا لليهود بما ذكر في أيام ضعف اليهود وسلطان المسلمين فطمع
هؤلاء بعد الاحتلال البريطاني ومشروع الدولة في تنفيذ عهد بلفور لهم حتى حاولوا
في هذا العام الاستيلاء على هذا الجدار وما حوله من بناء على أنه معبد لهم،
وصاروا يضعون هنالك الكراسي والمناضد والأضواء في وقت اجتماعهم حتى كان
من عدوانهم في عيد الغفران لهم ما يأتي بيانه، وهم يعلمون كما تعلم الحكومة
البريطانية في لندن وفلسطين أن هذا من الأوقاف الإسلامية الثابتة بالتواتر، وكان
من قواعد ما يسمونه الانتداب في فلسطين أن المعاهد الدينية لجميع الملل تبقى على
حالها لا يسمح لأحد بالاعتداء عليها، ولكن عامة اليهود الصهيونيين يعتقدون أنهم
ما جلبوا إلى فلسطين إلا لإقامة ملك سليمان فيها وجعلها وطنًا لهم دون غيرهم،
فاستعجلوا في هذا العام بالتمهيد لإعادة هيكل سليمان الذي حل محله مسجد الصخرة
بامتلاك الجدار الغربي من الحرم وهو أقرب الجدران إلى جامع الصخرة.
وإننا نبدأ في بيان عملهم في هذا الشهر وبعض ما أثاره في البلاد ببلاغ
حكومة فلسطين الرسمي فيه وهذا نصه:
بلاغ حكومة فلسطين
في مساء 23 أيلول الجاري أي ليلة عيد الغفران (يوم كيبور) رفع متولي
وقف أبي مدين الذي يقع ضمن دائرته الرصيف ومنطقة البراق (المبكى) شكوى
إلى جناب حاكم مقاطعة القدس بأن حاجزًا قد أنشئ على الرصيف الملاصق
للبراق، وأدخل إليه أشياء أخرى تخالف العادة المتبعة كقناديل كاز وعدد من
الحصر وهيكل أكبر من الحجم الاعتيادي، فزار حاكم المقاطعة البراق في أثناء
صلاة المساء، وقرَّر عملا بالعادة التي أقرتها الحكومة وجوب رفع الحاجز قبل
إجراء الصلاة في اليوم التالي، وأعطى تعليمات بهذا المعنى إلى الشماس القائم
بترتيبات الصلاة في البراق محتفظًا بقرراه في مسألة القناديل بإزالته صباح اليوم
التالي باكرًا، وقبل تأكيداته بتنفيذ تعليماته، وبلغ في ذات الوقت ضابط البوليس
البريطاني القائم بالوظيفة ضرورة رفع الحاجز من مكانه إذا لم يقم بتعهده.
فزار ضابط البوليس صباح اليوم التالي البراق، ورأى أن الحاجز لا يزال
في مكانه فسأل القائمين بالصلاة أن يرفعوه من ذلك المكان غير أنهم أجابوه بأنهم لا
يستطيعون ذلك نظرًا لقداسة ذلك اليوم فرفعه عندئذ رجال البوليس بنفسهم، ولم
يكن المصلون عمومًا قد اطلعوا على ما جرى سابقًا، فعندما رأوا البوليس يرفعون
الحاجز الذي استعمل لفصل النساء عن الرجال هاجوا وسعى بعضهم لمنع البوليس
من رفعه بالقوة، وأخيرًا رفع الحاجز.
ويعتبر جلب الحاجز ونصبه على الرصيف تعديًا على الحالة الراهنة مما لا
يمكن الحكومة السماح به، غير أن الحكومة تأسف لما حصل من الخوف
والانزعاج لجماعة كبيرة من المصلين في يوم مقدس كهذا لليهود، وقد علمت
الحكومة أن المراجع اليهودية قد جازت الشماس المسئول عن الحادث بما يستحق
على عمله، وقد شددت الحكومة عليهم في ضرورة مراجعة موظفي الحكومة
المسئولين عن التدابير المسموح باتخاذها في أثناء الصلاة في البراق في أعياد
اليهود الرسمية التي أبديت للمراجع اليهودية عند وقوع مثل هذه الحوادث في
البراق في سنتي 1922 و1925 وهذه السنة أيضًا.
ولم يكن هنالك وقتئذ ضابط بوليس يهودي؛ لأن جميع البوليس اليهود كان قد
أجيز لهم التغيب عن الخدمة يوم عيد الغفران، وستمعن الحكومة النظر في ضرورة
وجود ضابط بوليس يهودي في المستقبل بين الذي يرسلون إلى البراق للمحافظة في
أعياد اليهود الخطيرة، وفي الختام ترى الحكومة بأن رفع الحاجز كان ضروريًّا
غير أنها تأسف لما وقع من جراء رفعه. انتهى.
وقد جاء في جريدة الجامعة العربية الغرَّاء التي تصدر في القدس الشريف بعد
نشر هذا البلاغ ما نصه:
والقارئ لهذا البلاغ يشعر أن الحكومة قد وقفت موقف الضعف محاولة ستر
اعتذارها لليهود بأنها تمسكت بوجهة نظرها في ما اتخذته من الإجراءات ضدهم في
البراق، وقد كنا نحب أن تظل الحكومة واقفة موقف الحزم، سالكة السبيل الذي
يقضي به الحق والعدل والتعامل القديم في مسألة البراق، وأن لا يؤثر عليها هذه
المناورات التي يقوم بها اليهود من أجل أمر لا حق لهم فيه على الإطلاق.
وقد اتصل بنا من مصدر موثوق أن اليهود قد طلبوا من الحكومة الإذن للقيام
بمظاهرة عامة واسعة النطاق يحضرها أفراد عديدون من اليهود من سائر جهات
فلسطين، وذلك في يوم الإثنين (اليوم) حيث تذهب جموعهم إلى البراق بالأناشيد
بقصد التمويه والتأثير على الحكومة.
***
هياج الرأي العام الإسلامي والدعوة إلى عقد اجتماع
ولما اتصل بالمسلمين في القدس خبر عزم اليهود على القيام بهذه المظاهرة
هاجوا هياجًا عظيمًا وفكروا في ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لرد عادية اليهود
فتأسست لجنة من أهل الحمية والغيرة طبعت منشورًا دعت فيه المسلمين إلى
حضور اجتماع عام في المسجد الأقصى بعد صلاة العصر (أمس) ، وقد وصلتنا
صورة من هذا المنشور فأثبتناها في ما يلي:
نداء عام إلى إخواننا المسلمين كافة
أيها المسلمون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
تعلمون أنه قد حدث في هذه الأيام محاولة الاعتداء على مكان البراق المجاور
للمسجد الأقصى الذي إليه كان إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر
من هذه المحاولة التي تكررت أمثالها من قبل على غير جدوى، أن القوم الطامعين
في الاعتداء على الجانب الغربي من سور المسجد الأقصى مصممون على الأخذ
بكل وسيلة للطمع في حقكم وحق جميع المسلمين في هذا البيت العظيم من بيوت الله
المقدسة.
وإزاء هذه الحالة يتطلب الواجب الديني من كل مسلم أن ينظر بعين الجد
واليقظة فيما يَدْهَم المسلمين من خطر عاجل، ولذلك فقد [1] أوجبت خطورة الحالة
على المسلمين أن يتشاوروا في هذه الحالة ابتغاء اتخاذ الحيطة لوقاية بيت الله من
الاعتداء وتقرير ما ينبغي تقريره في هذا الشأن الخطير من اتخاذ الوسائل
المشروعة القانونية لدى الحكومة والمراجع الإيجابية.
وعليه فإننا ندعو كل مسلم في هذا البلد المقدس إلى حضور صلاة العصر في
المسجد الأقصى في هذا اليوم (الأحد) الواقع في 16 ربيع الثاني سنة 1347
الموافق 30 أيلول سنة 1928 وإننا نتوسل إليكم المبادرة إلى حضور هذه الصلاة
بوقتها، آملين من غيرتكم تلبية النداء والسلام عليكم ورحمة الله، اللجنة الداعية.
القدس في 16 ربيع الثاني سنة 1347
***
في المسجد الأقصى
وعند صلاة العصر اجتمع ألوف من المسلمين في المسجد الأقصى فبعد
الصلاة خطب كل من الشيخ عبد الغني أفندي كامله وعزت أفندي دروزة والشيخ
حسن أفندي أبو السعود في الحاضرين وأوضحوا لهم مقاصد اليهود في محاولاتهم
الموجهة إلى البراق الذي هو السور الغربي للحرم الشريف، وبعد ذلك أعد
الحاضرون مضبطة إلى فخامة المندوب السامي يحتجون فيها على أعمال اليهود
العدائية، وما أدت إليه من هيجان في الرأي العام كما أعدوا مضبطة أخرى طالبين
فيها أن تسمح الحكومة بإقامة المظاهرات السلمية في القدس وسائر أنحاء فلسطين
والاحتجاج إلى وزارة المستعمرات وملوك المسلمين وأمرائهم والشعوب والصحف
الإسلامية وإلى عُصْبَة الأمم وقد انتخبوا لجنة تنفيذية لتنفيذ هذه المقررات سننشر
أسماء أفرادها فيما بعد.
ونظرًا لضيق الوقت ننشر نص المضبطتين في العدد القادم.
وقد بلغ هياج الرأي العام بين المسلمين مبلغه في السخط على هذه الأعمال
التي يقوم بها اليهود، وهذه الدعاية التي يبثونها في فلسطين أو في الخارج
ويعجبون من الوقاحة التي دعت اليهود لأن يفكروا في الاعتداء على حق مقدس
للمسلمين لا يتصور أحد من المسلمين أن يفرط في ذرة منه ما دام فيه عرق ينبض
وسيرسل المجلس الإسلامي الأعلى إثر ذلك تقريرًا شديد اللهجة إلى الحكومة
موضحًا فيه خطورة الحالة، مطالبًا منها تدارك الأمر بما يطمئن خواطر المسلمين
ويهدئ من ثوران نفوسهم المهتاجة.
هذا وإننا نوجه كلمتنا الأخيرة إلى الحكومة وإلى إدارة الأمن العام طالبين منها
أن تضرب على أيدي اليهود الطامعين فيما ليس لهم حق فيه، والعاملين على العبث
بالأمن العام، وموجهين نظرها إلى أن التساهل في مسألة حساسة خطيرة كهذه قد
يؤدي إلى ما لا تُحْمَد عُقْبَاه؛ لأن المسلمين في فلسطين لا يمكن أن يفرطوا قط في
ذرة من حقوقهم في هذا المكان الذي يشكل الجدار الغربي للمسجد الأقصى الشريف
أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ونخشى أن يتعدى الهياج القدس إلى سائر
بلدان فلسطين، ثم إلى العالم الإسلامي كافة إذا لم تتدارك الحكومة الأمر بالحزم
والشدة اهـ.
(المنار)
قد قام رئيس المجلس الإسلامي الفلسطيني صاحب السماحة السيد محمد أمين
الحسيني مفتي القدس وأعضاؤه بما يجب عليهم من السعي لدرء هذه الفتنة من
طريق الحكومة كما فعلوا الواجب من ناحية تنبيه المسلمين كما يجب عليهم في
ذلك، وحسبنا نشر هذا الكتاب مبينًا لتلك المساعي الرسمية في ذلك.
***
كتاب المجلس الإسلامي الأعلى
بشأن حوادث البراق إلى فخامة المندوب السامي
فخامة المندوب السامي:
(عطفًا على جميع المخابرات التحريرية والمحادثات الشفهية التي جرت بين
المجلس الإسلامي الأعلى وبين الحكومة المركزية بالقدس، قديمًا وحديثًا، بشأن
البراق الشريف، (جدار الحرم الغربي) نلفت نظر فخامتكم إلى ما يأتي:
1 - أن هذه الناحية من الجدار المذكور، هي مكان البراق الشريف نسبة
لبراق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى، وأن المسلمين في جميع أقطار الأرض يحتفلون كل سنة بذكرى هذا
الإسراء الذي جاء نصًّا في القرآن الكريم.
2 - أن هذا الجدار هو جدار المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين، الذي
هو عند المسلمين عامة بمنزلة حرم مكة المشرفة وحرم المدينة المنورة.
3 - أن كل جزء من الحرم الشريف وكل جدار يحيطه بما فيه هذا الجدار
الترابي هو في عقيدة المسلمين جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك الذي
أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضل زيارته والصلاة فيه، وشد الرحال إليه،
من أدنى الجهات وأقصاها.
من هذا كله يُعْلَم أن المسجد الأقصى وكل جزء من الحرم الشريف القدسي،
وخصوصًا هذه الناحية من الجدار الغربي التي هي مكان البراق الشريف، له مكانة
مقدسة عظمى عند المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها، وأنهم يتعلقون
بهذا المسجد المبارك المذكور في القرآن الكريم تعلقًا دينيًّا شديدًا مقرونًا بالإجلال
والتعظيم.
ونظرًا لهذه المكانة العظمى للمسجد الأقصى والحرم الشريف عند المسلمين فقد
دأبوا منذ بضعة عشر قرنًا على المحافظة عليه بشتى الوسائل فأنشئوا حوله
المدارس والزوايا وحبسوا الجهات المحيطة به أوقافًا - كما يشاهد الآن - وخصوصًا
فيما يحيط بناحية البراق الشريف، فهي وقف على زاوية القطب الشهير سيدنا أبي
مدين الغوث (قدَّس سره) والمغاربة.
بل بالنظر لأهمية هذا المكان أيضًا - لم ترض الحكومة العثمانية - رغم ما
بذله اليهود وزعماؤها في جميع العالم من شتى الوسائل والتقرب والالتماس أن
يتعدوا الزيارة المحضة التي تساهل بها سكان ذلك الحي حينئذ لجميع الطوائف،
كما يظهر من قراراتها العديدة، وخصوصًا قرار مجلس الإدارة العثمانية الأخير في
القدس الذي تعلمه الحكومة.
ومن البديهي أنه لو كان بحسبان المسلمين أن اليهود سيطمعون هذا الطمع
يومًا ما سمحوا لهم حتى بمجرد الزيارة.
فعليه استرسال اليهود منذ الاحتلال إلى اليوم في محاولاتهم بمختلف الطرق
والدعاية الخارجية والداخلية لإحداث حق لهم، وبذلهم الجهود متطلعين إلى استملاك
هذا المكان الشريف من أيدي المسلمين، هو أمر بظاهره وباطنه تَحَدٍّ عنيف
للمسلمين فيما هو أقدس أماكنهم الدينية.
ومن الظاهر أنه إذا ظل اليهود في استرسالهم هذا ولم يجدوا من الحكومة
حزمًا حاسمًا يلزمهم التقيد المطلق بالزيارة المحضة على نحو قرار مجلس الإدارة
المذكور فلا بد بطبيعة الحال أن ذلك يؤدي إلى عواقب وخيمة، وإن المجلس
الإسلامي الأعلى المعبر عن رأيه ورأي المسلمين كافة في هذه القضية الخطيرة لا
يرضى بصورة من الصور التساهل في تمكين اليهود أن يغيروا تلك الحالة أو
يخرجوا عنها بأي شكل كان، ويطلب من الحكومة بإلحاح وضع حد حاسم نهائي
لمحاولاتهم وأطماعهم في هذا المكان الشريف ويلفت نظرها إلى أن استمرار هذا
الأمر غيرَ محسوم ولا مقطوع به يوصل الحالة العامة عند المسلمين إلى طور لا
تخفى عاقبته على حكمة الحكومة البريطانية كما بدا من حالتهم اليوم إثر الحوداث
الأخيرة.
ولما كان اليهود لا يزالون إلى هذا الساعة يضعون بعض أدوات من كراسي
صغيرة ومائدة وخزانة ومصابيح، فإن المجلس الإسلامي الأعلى يحتج باسم جميع
المسلمين في العالم على هذا بكل قوة، ويرجو من الحكومة أن تتفضل بالمبادرة إلى
رفع هذه الأدوات جميعها من أماكنها رفعًا دائمًا، مع إخطار اليهود بأن لا يعودوا
إلى وضع أي شيء منها مرة أخرى.
وهنا نقطة أخرى جزع المسلمون لها جزعًا شديدًا، وهي إرسال ضابط
يهودي إلى البراق إرضاء لليهود، فإن في ذلك ما يزيد الأمر استفحالاً، ويشجع
اليهود فيزيدون في أطماعهم زيادة تجعلهم يسترسلون في الاعتداء شيئًا فشيئًا،
فضلاً عن أن هذا الأمر لا ينفي أن يكون الضابط اليهودي متعصبًا يتناول المغاربة
المسلمين سكان المكان بألوان من التعدي وسط هذا الحي الإسلامي البحت أثناء
دخولهم إلى منازلهم وخروجهم منها.
ولذلك فإن المجلس الإسلامي يطلب بإلحاح أن تعيد الحكومة نظرها في
المحاذير التي تنشأ عن وجود ضابط يهودي في محل إسلامي محض، ليس لليهود
فيه أقل حق، ويخشى أن يتخذ اليهود من وراء ذلك أسبابًا لإثبات حق لهم، بوجود
ضابط يهودي، وهو يطالب أن يكون الضابط مسلمًا ليأمن المسلمون على هذا
المكان المقدس وليطمئن أهل الحي وسكانه من المغاربة المسلمين.
وبالنهاية يرجو المجلس الإسلامي من الحكومة أن تتفضل باعتبار ما بسطه
في هذا الكتاب بصدد مسألة البراق أنه من الأمور الخطيرة التي يرجو هو
والمسلمون من الحكومة سرعة تلافيها بما يحفظ حقوق المسلمين غير منتقصة
ويوقف اليهود وقفًا نهائيًّا عند الحالة المذكورة لهم.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
... ... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني
(المنار)
هذا وإن جريدة الجامعة العربية لا تزال تأتينا من القدس الشريف بأخبار هذه
الفتنة وتهييج اليهود للمسلمين بعدوانهم وتظاهرهم واحتجاج هؤلاء من بلاد فلسطين
وغيرها من سورية ومصر على اليهود من جانبهم بالدعاية وتماديهم في العدوان
وغرورهم بلين الحكومة البريطانية لهم وتعيينها شرطيًّا (بوليسا) منهم للمحافظة
على مكان الفتنة.
وإننا ننصح للحكومة البريطانية بأن تقمع الفتنة وتسد بابها قبل تفاقمها ولعلمها
بأن البخاري ومسلمًا وغيرهما قد رووا لنا أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه قد قال:
(تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي
فاقتله) ونخبرهم بأن علماء المسلمين فسروا مثل هذا الحديث بأنه إنما يقع مضمونه
قبيل قيام الساعة عندما يظهر الدجال الذي يدعي أنه هو المسيح الذي ينتظره اليهود
فيقومون معه ويقاتلون المسلمين، ولأجل هذا لا يخطر في بال مسلم أن يعتدي
على أحد من اليهود قبل ذلك الوقت فإذا أراد اليهود التعجل به فيجب أن تمنعهم
الحكومة الإنكليزية، ومن أنذر فقد أعذر، وسنعود إلى الكلام في هذه المسألة إذا
ظلت الفتنة قائمة إلى وقت تحرير الجزء السابع من المنار.
__________
(1) هذا التعبير من خطأ الجرائد الذي سرى إلى جميع طبقات الكاتبين بالعربية، والصواب في مثله من الجمع بين لام التعليل وفاء السببية تقديم الفاء؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها بأن يقال هنا فلذلك أوجبت الحالة أو أوجب خطر الحالة كذا إلخ.(29/414)
الكاتب: عبد الله محمود شكري
__________
دعاية الرفض والخرافات والتفريق بين المسلمين
ومُوقِد نارها الشيخ محسن الأمين العاملي
خطة المنار في التأليف بين المسلمين
يعلم جميع قراء المنار والمطلعين، وكذا الواقفون على النهضة الإصلاحية
التي قام بها منشئه على أساس الوحدة الإسلامية منذ ثلاثين سنة أو أكثر أنه كان من
سيرته في مجاهدة البدع والخرافات التمثيل لها بما فشا منها بين أهل المذاهب
المنسوبة إلى السنة دون ذكر أهل مذاهب الشيعة وغيرهم؛ لئلا يتهمه المتعصبون
من هؤلاء بالتعصب، وإن كان يصرح دائمًا ببناء دعايته على أساس نصوص
الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح وعدم التقيد فيها بمذهب من المذاهب، بل مع
تصريحه بما يعتقده من أن التعصب لأي مذهب منها مناف للوحدة الإسلامية
ومخالف لنصوص القرآن.
وقد اشتهرت قاعدته الذهبية التي دعا إليها علماء المذاهب كلها، وهي نتعاون
فيما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما تختلف فيه، وندعو علماء كل طائفة وأهل
كل مذهب لمقاومة البدع الفاشية فيهم؛ لتكون دعوتهم أقرب إلى القبول.
وقد وافقنا على دعوتنا هذه كثيرون من أهل السنة المستقلين والمقلدين
للمذاهب ولكننا لم نر أحدًا من علماء الشيعة نصرنا عليها بالكتابة، وإنما استحسنها
بعض المنصفين فيما شافهونا به (كالسيد الشهيرستاني النجفي والسيد عبد الحسين
العاملي والمرحوم الشيخ محي الدين عسيران) على أننا لم نسلم من شر متعصبيهم،
فقد نشرنا مرة رسالة في أول المجلد 16 من المنار (سنة 1326) لصديقنا
العلامة المرحوم الشيخ محمد كامل الرافعي من بغداد كتبها في أثناء سياحته يذكر
فيها قيام علماء الشيعة بدعوة الأعراب إلى التشيع، واستعانتهم على ذلك بإحلال
متعة النكاح لمشايخ قبائلهم الذين يرغبون في الاستمتاع بكثير من النساء في كل
وقت.
ولما نشرنا تلك الرسالة في المنار علقنا عليها تعليقًا رجونا أن يحول دون
تعصب الشيعة واحتمائهم علينا ورمينا بضد ما نقوم به من التأليف والتوحيد، فقلنا:
إن تعليم الإعراب الجاهلين مذهب الشيعة في العبادات والحلال والحرام خير من
بقائهم على جهلهم المعهود، وحصرنا توجيه انتقاد الكاتب في وجهته السياسية،
وهي ما كان يشوب تلك الدعاية من التنفير من الدولة العثمانية والتحبيب في الدولة
الإيرانية إلخ ولم ننشر اسم الكاتب يومئذ لئلا توذيه الحكومة الحميدية لما هو معلوم
من حالها.
نشرنا هذا في المنار فلم نجد أحدًا منهم هاجه واحتمى عليه إلا هذا المتعصب
الجامد على الرفض [1] الشيخ محسن الأمين العاملي على خلاف ما نَقَلَ لنا بعض
الناس عنه من إظهار الإنصاف في مجالسه مع علماء السنة من باب التقية، فألف
رسالة سماها (الحصون المنيعة، في الرد على ما أورده صاحب المنار في حق
الشيعة) لم يكن في تأليفها محسنًا في الرد، ولا أمينًا في النقل، ولكنها فرصة
اغتنمها لبث أمرين (أحدهما) فيما ارتأيت في ذلك التاريخ صَدّ نابتة الشيعة في
جبل عامل وغيره عن المنار؛ إذ كانت قد أثرت فيهم خطته الإصلاحية ودعوته
إلى الاستقلال في فهم الدين من الكتاب والسنة وترك التقليد وعصبية المذاهب فيه،
والشيعة أشد الفرق في ذلك حتى الذين يسمونهم المجتهدين منهم، ويفتخرون على
أهل السنة بأنهم هم الذين يأخذون بالاجتهاد الذي أقفل بابه أهل السنة، ومن المعلوم
ببداهة العقل أن الاجتهاد الحقيقي الذي هو الاستقلال بأخذ الدين من ينابيعه ينافي
التمذهب بمذهب معين.
(الأمر الثاني) بث مذهب الشيعة بين أهل السنة وترجيحه على مذهب
السنة، وجعل مسألة متعة النكاح حجة على هذا الترجيح، فأطال فيها بغير طائل.
أرسلت إليَّ هذه الرسالة عقب صدورها فلم أشأ أن أرد على أباطيلها لسببين
(أحدهما) مخالفة ذلك لخطتي في التأليف بين فرق المسلمين؛ لأن المجادلات في
الانتصار للمذاهب تذكي نار التعصب والشقاق بين أهلها (وثانيهما) أن صاحبها لا
يستحق أن يرد على مثله؛ لأنه لا يطلب الحق في المناظرة كما هو شأن المقلدين،
ولا سيما المتعصبين الغلاة مثله، فمناظرتهم تضر ضررًا لا يقابله منفعة استبانة
الحق لهم فيرجى رجوعهم إليه.
وكيف يرد مثلنا من المستقلين ودعاة التأليف على من يستدل على صحة
المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24)
فيزعم أن لفظ الأجور لا يصح أن يكون بمعنى المهور؛ لأنه لم يرد في لغة القرآن
بهذا المعنى وإنما سماها القرآن الصدقات (بضم الدال) وزعمه هذا يدل على أحد
أمرين: إما الجهل بالقرآن ولغته، وإما تعمد تحريفه وقد يجتمعان، فقد قال الله
تعالى في سورة الممتحنة في المؤمنات اللواتي يتركن أزواجهن المشركين ويهاجرن
إلى المدينة {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة:
10) وقال تعالى بعد ذكر حل طعام أهل الكتاب من سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: 5) .
وإنني لما حررت الدلائل في مسائل متعة النكاح في تفسير سورة النساء من
جزء التفسير الخامس وتعرضت لخلاف الشيعة فيها قلت في آخر البحث ما نصه
(وهو قد كتب بعد تأليف تلك الرسالة) .
(ولا سعة في هذا التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن أكون خرجت بهذا
البحث عن منهاجي فيه وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم
القرآن والاهتداء به، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين
وتعاديهم، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه
الحق والله عليم بذات الصدور - إلى أن قلت:
(فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها فربما نكتب في
ذلك مقالاً تمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعارض
والترجيح وننشر ذلك في المنار) اهـ.
وقد أرسل علامة الشام المستقل الشيخ جمال الدين القاسمي (رحمه الله تعالى)
رسالة العاملي في أثناء نشرها إلى علامة العراق المستقل السيد محمود شكري
الألوسي (رحمه الله تعالى) وسأله عن رأيه فيها فأجابه برسالة تتضمن الرد الشديد
عليها وتجهيل مؤلفها، وقد اطلعنا على هذا الرد، ولم نشأ أن ننشره لما تقدم بيانه.
ولكن العاملي الرافضي المتعصب عاد في هذه الأيام إلى ما هو شر مما كتبه
في تلك الرسالة؛ لأن حرية الطعن والتفريق في ظل الحكومة الفرنسية أوسع مما
كان في عهد دستور الدولة العثمانية، فألف كتابًا كبيرًا استغرق خمسمائة صفحة في
هذا الموضوع جعل عنوانه الرد على الوهابية، ودس فيه ما يبغي من الدعاية
الرافضية، وإثبات الخرافات القبورية، والطعن في صاحب المنار لا فيما نشره
مما يخالف مذهبه وتقاليده فقط، بل طعن في شخصه ونقل ما كتبه شاب إيراني
فرمسوبي متعصب للدولة الإيرانية ولمذهبها لأنه مذهبها! ! في بعض الجرائد من
الطعن الشخصي فيه والافتراء عليه بضد الواقع، ولا سيما في مسألة الشريف
حسين وأولاده والاتحاديين فقد زعم أننا كنا نمدح الشريف في وقت عزه وملكه
وزهدناه بعد فقده، وهذا كذب وبهتان كما يعلم جميع المطلعين على المنار كزعمه
أن فيصلا هو الذي عين صاحب المنار رئيسًا للمؤتمر السوري العام في دمشق وكل
الناس يعلمون كالشيخ العاملي أن المؤتمر انتخب صاحب المنار لرياسته انتخابًا،
وأنه ما كان لفيصل أن يعينه تعيينًا.
طالبني بعض أهل السنة بالرد على هذا الكتاب وقد تصفحت أهم مسائل
أبوابه في زهاء ثلاث ساعات فرأيت فيها من الكذب في النقل أو الاقتصار منه على
ما يوافق هواه ومن الدعاوي الباطلة والكلم المحرف عن مواضعه وتأويل النصوص
القطعية ما يبخل الحريص على وقته أن يقرأه كله فكيف يضيعه في الرد على كل
ما فيه من الباطل؟
ولكن في نشر هذا الكتاب ضررًا عظيمًا وإفسادًا كبيرًا لعقائد المسلمين كافة
وعقائد أهل السنة خاصة؛ لما فيه من الشبهات الكثيرة الصادرة في صور الأدلة
على عبادة موتى الصالحين بالدعاء وغيره وتحريف نصوص القرآن الصريحة في
منع ذلك كقوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ} (الإسراء: 57) أي أولئك الذين يدعونهم من دون الله توسلاً بهم إليه هم
يبتغون الوسيلة والقربى إلى الله {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) أي يبتغي ذلك
أقربهم إلى الله كالمسيح عليه السلام والملائكة فكيف من دونهم؟ كما أنه يرد بعض
الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك؛ لأنها من رواية أهل السنة، أو يحرفها
بالتأويل.
وما أضعف المسلمين في دينهم ودنياهم شيء كما أضعفهم وأفسدهم الاتكال
على الميتين في قضاء حاجاتهم ومصالحهم ودفع الأذى عنهم، فهذا مما يضر أهل
السنة والشيعة، ولا سيما في هذا العصر، وهو يوهم الفريقين أنه من الإسلام وأنه
لم يخالف فيه أحد منهم إلا الوهابية، مع أنه لم يقل به أحد من أئمتهم لا أئمة أهل
البيت كالصادق والباقر ولا أئمة الأمصار الآخرين كالأربعة رضوان الله عليهم
أجمعين، بل النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام موافقة للأحاديث
الصحيحة من منع هذه البدع الخرافية كما يعلم من المناظرة بين العالمين الشيعي
والسلفي المستقل التي نشرناها في المجلد الثامن والعشرين من المنار.
ومثال ما يضر أهل السنة وحدهم ما صوَّره الرافضي المتعصب في رسالته
وكتابه لهم من أن أصول الدين والفقه عند الشيعة وأهل السنة واحدة، وإنما الفرق
الوحيد بينهما مسألة حب آل بيت الرسول عليه وعليهم السلام وموالاتهم والاحتجاج
بما رواه أئمتهم عنه وما اجتهدوا فيه وهو ما نبينه فيما يلي مع الإشارة إلى دسيسته
فيه.
***
الفرق بين السني والشيعي
يزعم الشيخ العاملي في الفرق بين السني والشيعي أن أصول أهل السنة
والشيعة في العقائد والأحكام واحدة وأن الخلاف بينهما هو كالخلاف بين فقهاء السنة،
وإنما يمتاز الشيعة بأنهم هم الذين (يوالون ويتتبعون أهل البيت الطاهرين الذين
أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، الذين دخلوا مدينة العلم النبوي من بابها
وتمسكوا بالثقلين كما أمرهم نبيهم) وهو يكرر هذا القول الذي نقلناه من آخر كتابه
الجديد وقد قال بعده:
(وهم مسلمون يقرون الله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ويلتزمون بجميع ما
جاء به من عند ربه مما اتفق عليه جميع المسلمين [2] ويرجعون فيما اختلفوا فيه
إلى أقوال الأئمة الذين إن لم يكونوا فوق الأئمة الأربعة وفوق ابن عبد الوهاب في
العلم فليسوا دونهم) وقد ذكر في مقدماته فصولاً في أصول الدين التي هي دلائل
الأحكام يوهم قارئها من غير علماء السنة أنها اتفاقية، وفيها ما سنشير إليه من
الدسائس.
وقد سبق له تفصيل للتفرقة بين الطائفتين في رسالته (الحصون المنيعة)
ذكر فيها أن المسلمين كانوا في أول الإسلام (فرقة واحدة حتى قتل الخليفة الثالث
وبويع الخليفة الرابع فلم يجد أعداؤه وسيلة إلى هدم خلافته والقدح فيه أقوى من
نسبة قتل الخليفة الثالث إليه، فسعوا في ذلك جهدهم حتى تمكنوا من إقناع جم غفير
من المسلمين بذلك وتهيأ لهم بما دبروه من الحيلة أن يقسموا المسلمين فرقتين
فسميت إحداهما علوية والأخرى عثمانية، ونالوا بذلك ما أملوه من الملك وقهر علي
بن أبي طالب وأولاده الذين هم أعدى أعدائهم ويخافون منازعتهم في الملك ولهم
عندهم ثارات بدر وغيرها، ولم يكتفوا بهذا حتى أمروا بِسَبِّ علي بن أبي طالب
على جميع منابر الإسلام) (ص9 و10) .
وبعد إطالته في وصف هذه العداوة مدة ملك بني أمية وجملة من ملك بني
العباس الذين قال فيهم: (إنهم لم يكونوا أقل تشددًا في قهر العلويين وإيذاء من
ينسب إليهم من الأمويين حتى قل المنتسبون إلى أهل البيت بالنسبة إلى غيرهم
وتستروا واختفوا خوفًا على دمائهم وكثر المائلون إلى الأمويين والعباسيين
والمتقربون منهم رغبًا أو رهبًا) وذكر أن أهل البيت كانوا يخفون علومهم ثم
أظهروها في آخر مدة ملك بني أمية وأول ملك بني العباس لقلة الضغط، فظهر
مذهب أهل البيت في عهد الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق الذي نسب إليه
مذهب الشيعة في الفروع.
قال: (ثم صار المنتسبون إلى أهل البيت عليهم السلام يعرفون بالشيعة
وغيرهم بالسنة ونسخ اسم العلوية والعثمانية) (ص12) .
أقول: إن هذا التفصيل هو غير الحق وغير ما يعتقده الشيعة من أصل
نحلتهم أيضًا، وهو صريح في أن أعداء أهل البيت النبوي الذين كانوا يسمون
العثمانية هم الذين صاروا يسمون أهل السنة، فالشيخ محسن العاملي هذا وأمثاله
يطعنون في أهل السنة بمثل هذا القول الباطل فإن جميع أهل السنة يقولون بأن عليًّا
رضي الله عنه هو الإمام الحق بعد عثمان وأن معاوية كان باغيًا عليه، ويخدعون به
مسلمي هذا العصر بجذبهم إلى التشيع لعلمهم بأنهم يحبون أهل البيت جميعهم الحب
الصحيح المعتدل وبعضهم يغلو فيهم كلهم كما يغلو الشيعة في بعضهم، فهم
يجذبونهم إلى المذهب بهذه الدعوى الباطلة، كما دافع هو والشاب الإيراني عمن
انتقد عليهم بث نزغة التشيع من الحضارمة وجعلهم من الروافض مثله على
تصريحنا في المنار بأنهم لا يدعون إلى مذهب الإمامية ولا الزيدية بل يقولون:
إنهم شافعية سنية وإنما يدعون إلى الغلو في تعظيم العلويين والخرافات بما أدى إلى
النفور منهم ومقاومة الجماهير لهم، ولا سيما جمعية الإرشاد، ونحن إنما انتقدناهم
غيرة عليهم وعلى الدين الصحيح.
ثم ذكر هذا الداعية عقب ما تقدم أصول فقه أهل السنة والشيعة إجمالاً، ومنه
انفراد الشيعة بأقوال أهل البيت وما استقل العقل بحسنه أو قبحه، وذكر بعد ذلك
كثيرًا من علمائهم ومصنفاتهم بما لا يخلو من بحث ونظر، وهو قد وضح أصول
الأحكام الدينية ومآخذ الأدلة في كتابه الجديد فنشير إلى بعض الدسائس في كلامه لا
للرد عليه، فإن مثله لا يُنَاظَر، ولكن ليعرف أهل السنة دسائسه ولا يَغْتَرُّ غير
الواقف على أصول الدين منهم بكلامه الموهم.
(1) قال في ص 82 (الكتاب كلام الله المنزل على نبيه صلى الله عليه
وسلم وهو قطعي السند؛ لاتفاق المسلمين كافة على أن ما بين الدفتين مُنَزَّل منه
تعالى) ، ونقول: لكن رافضة الشيعة يزعمون أن ما بين الدفتين ليس كل كلام الله
تعالى، بل حذف منه الصحابة بعض الآيات وسورة الولاية أي ولاية علي عليه
السلام، ويزعمون أن عليًّا كتبه من نسخة كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم
خصَّه بها وأمره أن يكتبه منها، وهو المعصوم دون سائر الصحابة من الخطأ فلم
يقبلوها منه، وينقلون عن أئمة أهل البيت أكاذيب في القرآن وتحريف الصحابة
رضي الله عنه له لعلها مما قال العاملي: إنهم كانوا يكتمونه عن الناس ويخصون
به الثقات من محبيهم، ولبعض علماء القرن الماضي منهم كتاب سماه (فصل
الخطاب، في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) ينقل عن كتبهم وأئمتهم الأباطيل
في ذلك ويقولون: إن القائم المنتظر وهو عندهم محمد المهدي بن الحسن العسكري
المختبئ منذ ألف سنة ونيف في السرداب من بلدة سامرا (سُرَّ مَن رأى) سيظهر
القرآن الصحيح التام.
وقد ذكر في الكلام على السنة والأخبار النبوية أن البابية يحتجون على
ضلالتهم بخبر المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد، ونقول: إن هذا الخبر لا
وجود له في كتب الأحاديث المروية عند أهل السنة والجماعة فلا بد أن يكون من
أخبارهم هم، وهو إنما يخطئ البابية في الاستدلال به على أن المهدي هو زعيمهم
الباب، لا في رواية الخبر نفسه؛ لأنه ذكر ذلك في سياق استدلال كل طائفة من
الأخبار كالآيات على نِحْلَتِهَا لاحتمال الألفاظ لذلك بالتأويل الذي هم فرسان ميدانه.
(2) إنه عرَّف السنة بقوله: (السنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره)
ويتوهم من لا يعرف عقائدهم أن هذا التعريف موافق لما عليه علماء أصول الفقه
من أهل السنة أنها أقوال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، بناء
على اعتقادهم أنه هو المعصوم في هذه الأمة؛ إذ لا عصمة عند أهل السنة لأحد
من البشر إلا الأنبياء عليهم السلام، ولكن الشيعة يقولون بعصمة أئمة أهل البيت،
ويقولون بأن العصر لا يخلو من معصوم كما صرَّح العاملي به في تعريف الإجماع
من كتابه هذا.
وليعلم القراء أن السنة المُرَادة بقول العلماء (أهل السنة والجماعة) في مقابلة
أهل البدع كالروافض والجهمية هي السيرة العملية التي كان عليها المسلمون في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصدر الإسلام قبل ظهور البدع، ومن ذلك قول
علي كرم الله وجهه لابن عباس رضي الله عنهم حين أرسله لمُحَاجَّة الخوارج:
(احملهم على السنة، فإن القرآن ذو وجوه) يعني أنهم يتأولونه بغير المراد منه،
وأما السنة بمعنى السيرة العملية فلا يمكن تأويلها، ولكن الشيعة لا يحتجون بها.
(3) من أصول الدين المهمة عندهم مسألة الإمامة العظمى ويزعمون أن
ثبوتها بالنص كما صرَّح به هو وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص في
يوم (غدير خم) على إمامة علي عليه السلام، ووصى له بها، وأن جمهور
الصحابة عصوا نبيهم وخالفوا عن أمره حبًّا في الرياسة فجعلوها باختيار أهل الحل
والعقد، ولما كان الزعيمان الأكبران الأعظمان في الصحابة أبو بكر وعمر
(رضي الله عنهما) هما اللذين استأثرا بهذا الأمر كانا أعدى أعدائهم، وكان من
شعارهم لعنهما ويلقبون الأول بالعجل والثاني بالسامري، بل صرَّح بعض علمائهم
بأنهما قد ارتدا عن الإسلام هما وجمهور الصحابة الذين وافقوهم، وزعموا أن عليًّا
كرَّم الله وجه لم يبايعهما إلا تقية وحاشا بطل الإسلام أشجع الشجعان وأزهد الزهاد
من هذا النفاق المسمى بالتقية، وأنت ترى هذا الرافضي وأمثاله من غلاة
الشيعة لا يطلقون الترضي عن الصحابة بل يقيدونه بمثل قوله في أول كتابه
(وصلى الله على سيدنا محمد وآله وخيار أصحابه وسلم) ويعني بخيار أصحابه
شيعة علي كسلمان الفارسي وعمار والمقداد رضي الله عنهم أجمعين.
وليعلم القارئ أنه كان من الصحابة والتابعين من يرون أن عليا كرم الله وجهه
أحق بالإمامة العظمى من غيره ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن ولاية غير الأولى
والأحق غير جائزة ولا أن الشيخين العظيمين وركني الإسلام الركينين قد ارتدا عن
الإسلام أو ضلا عن صراطه المستقيم، وكذلك أكثر من كانوا يفضلون عليًّا على
غيره من علماء القرون الأولى ويطلق هو وغيره عليهم لقب الشيعة.
ومن المعلوم لجمهور [3] المتعلمين في هذا الزمان أن للبشر من جميع الأمم
نظريتين في الولاية العامة والملك (أحدهما) أن الحق فيها لاختيار الأمة الذي يعبر
عنه في عرف هذا العصر بالديمقراطية، وهي المرجحة عند جميع أمم المدنية،
وقد سبقهم إليها المسلمون بإرشاد القرآن في قوله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وإنما خالف فيها الشيعة ذاهبين إلى النظرية الثانية،
وهي أن الحق فيها لشرفاء الأمة ذوي الأنساب والأحساب ولكنهم يزعمون أنهم
يتمسكون فيها بنص نبوي بل بزعم المجازفون منهم أنها كانت منصوصة في القرآن
فأسقط جمهور الصحابة ذلك النص كما تقدم.
وبناءً على هذه النظرية يقاوم الروافض الإمام عبد العزيز بن سعود ملك
الحجاز ونجد تعصبًا لمذهبهم على مذهب أهل السنة الذي يقيمه ابن سعود إقامة لم
يسبق لها نظير بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ولكن العاملي يطعن فيه وفي
قومه ملقبًا إياهم بالوهابية ومدعيًّا أنهم مخالفون لجميع المسلمين الذي لا فرق بين
سنيهم وشيعيهم بزعمه إلا حب آل بيت الرسول وولايتهم والاهتداء بعلمهم، ومراده
بذلك التوسل للطعن في عقائد سلف الأمة وهديهم، وفي مذهب إمام أئمتها وأستاذ
أعظم حفاظها أحمد بن حنبل رضي الله عنه فهو يقول (مثلاً) : إن الوهابية
يكفرون تارك الصلاة ويرد عليهم، وهذا مذهب الإمام أحمد كما هو مشهور
ومنصوص في كتب الفقه من قبل وجود الوهابية، وقد ظهر لجميع العالم بطلان
استدلاله على جواز منع إيران للحج بأن فيه خطرًا على حياتهم وحريتهم من ملك
الحجاز.
ألا تراه على افترائه الكذب في طعنه بالوهابيين راضيًا بأعمال الشريف
حسين وأولاده ومدافعًا عنهم، فالشريف عبد الله بن حسين الذي اقتطع بخداع أخيه
الشريف علي أهم منطقة حربية غنية من أرض الحجاز وجعلها تحت سلطة الإنكليز،
وهو يجبر أهل البلاد التي تولى إمارتها على إقرار المعاهدة المخزية التي عقدها
معهم، وكذلك السيد تاج الدين الحسني رئيس حكومة سورية الحاضر هما أفضل
وأحق بنسبهما بالحكم من جميع الوطنيين الذين اشتهروا بخدمة أمتهم ووطنهم
وجاهدوا في سبيلها بأموالهم وأنفسهم.
نكتفي الآن بهذا التنبيه العام للمسلمين في مقابلة الدعاية الخرافية التي نشط
لبثها فيهم الملا محسن العاملي، ونقفي عليها بالرسالة الوجيزة التي كتبها علامة
العراق المرحوم السيد محمود شكري الآلوسي إلى علامة الشام المرحوم الشيخ جمال
الدين القاسمي مع حذف بعض العبارات القاسية التي فيها، ننشرها الآن للضرورة
التي أشرنا إليها، وليعلم بعض ما عندنا أولئك الذين يتوخون الاعتدال في الدعاية
الشيعية والرد على مخالفيها كزميلنا الفاضل (صاحب مجلة العرفان المفيدة في بث
العلم والأدب الذي عرض بالانتقاد علينا مرارًا ويطلب من علماء الشيعة المنصفين
أن يبينوا لنا ما يرونه فيها وفيما كتبناه من خطأ بالدليل والبرهان لنعترف لهم به
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
***
رد السيد الآلوسي على حصون العاملي الرافضي
صورة الكتاب الذي أرسله علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي إلى
علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي في الرد على صاحب رسالة (الحصون
المنيعة فيما أورده صاحب المنار في الشيعة) وشنعهم القبيحة (والعناوين للمنار) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة العالم الأوحد، والعلم المفرد، فخر هذا الزمان، والمشار إليه
بالبنان، الأخ الأكمل، والخل المفضل، جمال الدنيا والدين، وبهجة الإسلام
والمسلمين، جناب السيد جمال الدين أفندي القاسمي كان الله تعالى له، وأناله من
الدين ما أمله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فلم أزل أتشرف بألطافكم العلية،
وتتوارد على المخلص نعمكم السنية، فأتضرع إلى الله تعالى وأسأله أن يجزيكم
عني خير الجزاء.
قبل هذا وصل إلي كتاب (النصائح الكافية) فرأيت مصنفه ممن اتبع هواه،
ولم يراقب مولاه، وفي هذه الأيام وردني كتاب (الحصون المنيعة) فلما طالعته
وجدته أيضًا كتابًا دل دلالة صريحة على أن مصنفه من المتعصبين في الرفض،
المغالين في البغضاء للسنة النبوية، ورأيت الإعراض عن كلا الكتابين هو الحزم،
فإنا لو رمينا … وأظن أن المقالة التي في (المنار) حررها الشيخ كامل أفندي
الرافعي فقد مر عند ذلك التاريخ على العراق واجتمعنا به وسررنا بملاقاته حيث
كان سلفي العقيدة منور الفكر، فكتب ما كتب عما رأى من أحوال رافضة
العراق، ومن العجب أن الرافضي ادعى أن فرقته أطوع الناس للحكومة مع أن
سيفها لم يزل على رقابهم، ولم يمض يوم من الأيام إلا والحرب معهم قائمة
على سيفها، فكم ألجئوا الحكومة إلى خسائر أموال ونفوس، وجميع القبائل الذين
ترفضوا هم أعدى الناس لدولة الإسلام، وفي هذا الأسبوع ورد تلغراف يخبر عن
هجوم جمع منهم على شطرة المنتفق وقتلهم جمعًا من الضباط وعددًا كثيرًا من
الأفراد، وحروبهم في العمارة شهيرة، وكذلك قبائل الديوانية والنجف والسماوة
وكربلاء لم يزالوا قائمين على ساق الحرب مع الحكومة، واختلال العراق دائمًا إنما
هو من الإرفاض، فقد تهرى أديمهم من سم ضلالهم، ولم يزالوا يفرحون بنكبات
المسلمين حتى إنهم اتخذوا يوم انتصار الروس على المسلمين عيدًا سعيدًا، وأهل
إيران زيَّنوا بلادهم يومئذ فرحًا وسرورًا [4] ولو بسطنا القول في هذا الباب وذكرنا
حروبهم ومخازيهم لاستوجب إفراد مجلد كبير، والمنكر لذلك كالمنكر للشمس
رأد الضحى.
***
بغض الروافض لبعض أهل البيت
وأعجب من ذلك دعوى الرافضي حب أهل البيت والعمل بعلومهم والأخذ
بالكتاب والسنة. إن الروافض كاليهود يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ وذلك لأن
العترة بإجماع أهل اللغة تقال لأقارب الرجل وهم ينكرون نسب بعض العترة كرقية
وأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعدون بعضهم داخلاً فيها
كالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده وكالزبير ابن صفية عمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغضون كثيرًا من أولاد فاطمة رضي الله عنهما
بل يسبونهم كزيد بن علي بن الحسين وقد كان في العلم والزهد على جانب عظيم،
وكذا يحيى ابنه فإنهم أيضًا يبغضونه، وكذا إبراهيم وجعفر ابنا موسى الكاظم
رضي الله عنهم، وقد لقبوا الثاني بالكذاب مع أنه كان من أكابر الأولياء، وعنه
أخذ أبو يزيد البسطامي، ولقبوه بالكذاب أيضًا جعفر بن علي أخا الإمام الحسن
العسكري ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثنى وابنه عبد الله المحض وابنه محمد
الملقب بالنفس الزكية ارتدوا - حاشاهم - عن دين الإسلام.
وهكذا اعتقدوا في إبراهيم بن عبد الله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن
عبد الله بن الحسين بن الحسن ومحمد بن القاسم بن الحسن ويحيى بن عمر الذي
كان من أحفاد زيد بن علي بن الحسين، وكذلك في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا
قائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين، إلى غير ذلك مما لا يسعه المقام.
وهم حصروا حبهم بعدد منهم قليل، كل فرقة منهم تخص عددًا وتلعن الباقين،
هذا حبهم لأهل البيت والمودة في القربى المسئول عنها، على أن الحب ليس
عبارة عن لطم الخدود وشق الجيوب وهتك سادة الأمة في كل عام.
وما أحسن ما قال الأخرس في ذلك:
هتكوا الحسين بكل عام مرة ... وتمثلوا بعداوة وتصوروا
ويلاه من تلك الفضيحة إنها ... تطوى وفي أيدي الروافض تنشر
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) وأين
أهل الابتداع من الاتباع.
***
زعم الرافضة تحريف القرآن
ادعوا أنهم أخذوا دينهم من الكتاب والسنة وأقوال العترة، كذبوا والله في ذلك
فإن الكتاب الكريم مُحَرَّفٌ بزعمهم قد أسقطوا منه نحو ثلثه كما صرَّحت بذلك كتبهم
فلا يعبئون به ولا يعرجون عليه ولا يقيمون له وزنًا، وإنه مخلوق لا ينزهونه،
هذا شأن الكتاب لديهم، وأما السنة فعندهم أن الصحابة ارتدوا جميعًا عن دين
الإسلام إلا سلمان وعددًا يسيرًا معه لا يبلغون العشرة بسبب عدم قيامهم بنص
الغدير على زعمهم.
***
الكتب المعتدة عند الشيعة الإمامية
وأما العترة فاعلم أن الروافض زعموا أن أصح كتبهم أربعة: الكافي، وفقه من
لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، وقالوا: إن العمل بما في الكتب الأربعة
من الأخبار واجب، وكذا بما رواه الإمامي ودَوَّنَه أصحاب الأخبار منهم، نص عليه
المرتضى وأبو جعفر الطوسي وفخر الدين الملقب عندهم بالمحقق المحلي، وهو
باطل؛ لأنها أخبار آحاد وأصحها الكافي، ومنهم من قال: أصحها فقه من لا يحضره
الفقيه، وقال بعض المتأخرين منهم الناقد لكلام المتقدمين: أحسن ما جمع من الأصول
كتاب الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار.
وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن، وقد طالعت في بعضها وما زعموه من
الصحة باطل من وجوه؛ لأن من أسانيدها من هو من المُجَسِّمة كالهشامين وشيطان
الطاق المُعَبَّر عنه لديهم بمؤمنه، وأمثال هؤلاء ممن اعترف الرافضة أنفسهم
باتصافهم بما ذكرنا.
ومنهم من أثبت الجهل لله في الأزل كزرارة بن أعين والأحولين وسليمان
الجعفري ومحمد بن مسلم وغيرهم (ومنهم) فاسد المذهب كابن مهران وابن بكير
وجماعة أخرى (ومنهم) الوُضَّاع كجعفر القزاز وابن عياش (ومنهم) الكذاب
كمحمد بن عيسى (ومنهم) الضعفاء وهم كثيرون (ومنهم) المجاهيل وهم أكثر
كابن عمار وابن سكره (ومنهم) المستور حاله كالبلقسي وقاسم الخراز وابن فرقد
وغيرهم، وهؤلاء رواة أصح كتبهم.
وقد اعترف الطوسي بنفي وجوب العمل بكثير من أحاديثهم التي صرحوا
بصحتها، والكليني يروي عن ابن عياش وهو كذاب.
والطوسي يروي عمن يدعي الرواية عن إمام مع أن غيره يكذبه كابن مسكان
فإنه يدعي الرواية عن الصادق وقد كذَّبه غيره، ويروي عن ابن المعلم وهو يروي
عن ابن مابويه الكذوب صاحب الرقعة المزورة ويروي عن المرتضى أيضًا، وقد
طلبا العلم معًا وقرآ على شيخهما محمد بن النعمان وهو أكذب من مسيلمة، وقد
جوَّز الكذب لنصرة المذهب، والكلام على أكاذيبهم وفاسد رواياتهم يطول والمقصود
تكذيب قول رافضي: إنهم تلقوا علوم العترة.
***
تعبد الإمامية بالرقاع الصادرة عن المهدي المنتظر
نعم إنهم أخذوا غالب مذهبهم كما اعترفوا من الرقاع المزورة التي لا يشك
عاقل أنها افتراء على الله، والعجب من الروافض أنهم سموا صاحب الرقاع
بالصدوق وهو الكذوب لأنه عن الدين المبين بمعزل.
كان يزعم أنه يكتب مسألة في رقعة فيضعها في ثقب شجرة ليلاً فيكتب
الجواب عنها المهدي صاحب الزمان بزعمهم، فهذه الرقاع عند الرافضة من أقوى
دلائلهم، وأوثق حججهم، فتبًّا …………………………………….
واعلم أن الرقاع كثيرة منها رقعة علي بن الحسين بن موسى بن مابويه
القمي فإنه كان يظهر رقعة بخط الصاحب في جواب سؤاله، ويزعم أنه كاتب أبا
القاسم ابن أبي الحسين بن روح أحد السفرة على يد علي بن جعفر بن الأسود أن
يوصل له رقعته إلى الصاحب فأوصلها إليه فزعم أبو القاسم أنه أوصل رقعته إلى
الصاحب (أي المهدي) وأرسل إليه رقعة زعم أنها جواب صاحب الأمر له.
ومنها رقاع محمد بن عبد الله بن جعفر بن حسين بن جامع بن مالك الحريري
أبو جعفر القمي كاتب صاحب الأمر سأله مسائل في أبواب الشريعة قال: قال لنا
أحمد بن الحسين وقفت على هذه المسائل من أصلها والتوقيعات بين السطور، ذكر
تلك الأجوبة محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الغيبة وكتاب الاحتجاج.
والتوقيعات خطوط الأئمة بزعمهم في جواب مسائل الشيعة، وقد رجَّحوا
التوقيع على المروي بالإسناد الصحيح لدى التعارض، قال ابن مابويه في الفقه بعد
ذكر التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في (باب الرجل يوصي إلى الرجلين)
هذا التوقيع عندي بخط محمد بن الحسن بن علي، وفي الكافي للكليني رواية
بخلاف ذلك التوقيع عن الصادق، ثم قال: لا أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي
من خط الحسن بن علي.
(ومنها) رقاع أبي العباس جعفر بن عبد الله بن جعفر الحميري القمي
(ومنها) رقاع أخيه الحسين ورقاع أخيه أحمد.
فهؤلاء كلهم كانوا يزعمون أنهم يكاتبون صاحب الأمر (المهدي المنتظر)
ويسألونه مسائل في أحكام الشرع، وأنه يكتب جواب أسئلتهم كما ذكره النجاشي
وغيره من علمائهم وأبو العباس هذا قد جمع كتابًا في الأخبار المروية عنه وسماه
(قرب الإسناد إلى صاحب الأمر) .
و (منها) رقاع علي بن سليمان بن الحسين بن الجهم بن بكير بن أعين أبو
الحسن الرازي فإنه كان يدعي المكاتبة أيضًا ويظهر الرقاع قال النجاشي: كان له
اتصال بصاحب الأمر وخرجت له التوقيعات.
هذه نبذة مما بنوا عليه أحكامهم ودانوا به وهو نغبة من دأماء [5] وقد تبين بها
حال دعوى الرافضي في تلقي دينهم عن العترة، والعبد كتب عليهم عدة ردود قبل
نحو عشرين سنة، وشكوا عَلَيَّ إلى شاه العجم ناصر الدين (وهو خاذله) وكتب
علي إلى السلطان المخلوع فصادرت الحكومة ما وجدوه من كتبي المطبوعة في
الهند وهذا الرافضي له علم بما جرى فلا لوم عليه إن نبذني بما نبذني.
***
طعن الشيخ محسن في الوهابية
كل أحد يعلم أنه لا حقيقة له عندهم بل دل على جهله، على أن زخرفة
القبور حرام لدى كافة المسلمين وهم أول من ابتدع ذلك وسرى إلى غيرهم،
والرافضة يصرحون في كتبهم - وقد رأيته بعيني - أن زيارة قبور الأئمة أفضل
من سبعين حجة، ولذلك تراهم يطوفون عليها، ويطلبون جميع حوائجهم منها،
وبنوا عليها القباب من الذهب وعلقوا عليها كل ما يُسْتَطْرَفُ ويفدون عليها كل ليلة
ما يكفي لتنوير مدينة عظيمة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:
104) .
***
ندب الحسين وسب الصحابة
واجتماع رجالهم في النجف وغيره للطم الخدود، وقراءة الحمص المكذوبة
وأكل النذور وإضلالهم لجهلة الأعراب أيضًا لهذه العلة ودينهم الذي يدينون به سب
الصحابة وتكفيرهم، وإضلالهم الأعراب بذلك، وإلا فَهُمْ أجهل الناس بكل علم،
وكم بحثت مع من ادعى منهم الاجتهاد فألقمتهم (ولله الحمد) بحجر السكوت،
واعترفوا بجهلهم لدى خاصتهم، وهؤلاء الدجالون أضر على المسلمين من جميع
المخالفين، فإن اليهود والنصارى وعباد الأوثان لا يتمكنون من إغواء أحد من
الأعراب، ولا يمكنهم التقرب إليهم، ولا تسمع منهم كلمة لديهم، فالأعراب آمنون
من شر هؤلاء.
أما هؤلاء الدجالون، والضالون المضلون، فقد تزَّيْوا بزي المسلمين
وشاركونا في كثير من الشعائر، فربما نفقت خزعبلاتهم على عوام الأعراب لنيل
شهواتهم، والتوصل إلى مقاصدهم من: جمع النذور، وأخذ الخمس، وأجرة
قصص التعازي ونحو ذلك، مع حثهم ووعظهم على عدم طاعة الحكومة ولا
إعانتها في شيء، حتى حصل مقصودهم وأصبح العراق نيرانًا تتسعر، فكم أسالوا
دماء المسلمين وأضروا الحكومة ضررًا عظيمًا والحكومة لم تنتبه لذلك إلا بعد أن
اتسع الخرق على الراقع.
والرافضي يقول: إن العراق كان ولم يزل دار الروافض، مع أني أعلم أن
أقوامًا من القبائل كانوا على مذهب أهل السنة وفي هذا العصر ترفضوا منهم قبائل
زبيد وهم عمدة قبائل الطرق قوة وشجاعة وكثرة عدد، وهكذا قسم عظيم من شمر
وقسم من بني تميم فضلا عن العصور التي لم أدركها.
ومن العجب من هذا الرافضي أنه عَدَّ فرقته من المتبعين، وجعل أهل السنة
كالوهابية وأضرابهم من المبتدعين، مع أن الروافض يبيحون شتم جمهور أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يحكمون بارتدادهم إلا عددًا يسيرًا، ويفضلون
الأئمة الاثني عشر على أولي العزم من المرسلين، ويقولون: إن الأئمة يوحى
إليهم، ويقولون: إن موتهم باختيارهم، ويقولون بالرجعة أي بأن الأئمة سيرجعون
إلى الدنيا وينتصفون من أعدائهم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومَن والاهما
ويصلبونهم ويقتلونهم، وإن إمام الوقت هو محمد المهدي الذي غاب في سرداب (سُرَّ
مَن رَأَى) وإنه حي يُرْزَق ويزعمون أنه إذا ذكر في مجلس حضر فيقومون له،
واعتقدوا بتحريف القرآن ونقصانه وأن الله لا يُرَى في الآخرة، وأنكروا كثيرًا من
ضروريات الدين.
ومع ذلك يقولون: إنهم على حق، وغيرهم المتبعون لرسول الله صلى الله
عليه وسلم المحافظون على ما جاء به المهدي ودين الحق هم المبتدعون، وما
أحسن ما قال فيه القائل [6] .
ليس التقى هذي التقية إنما ... هذا النفاق وما سواه المنكر
وما تكلم به في المتعة يكفي لإثبات ضلالهم، وعندهم متعة أخرى يسمونها
المتعة (الدورية) [7] ويروون في فضلها ما يروون، وهي أن يتمتع جماعة بامرأة
واحدة، فنقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا، ومن الضحى إلى الظهر
في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في
متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى نصف الليل
في متعة هذا، ومن نصف الليل إلى الصبح في متعة هذا.
فلا بدع ممن جوَّز مثل هذا النكاح أن يتكلم بما تكلم به ويسميه (الحصون
المنيعة) وينبز أهل الإيمان والتوحيد بما ينبزهم به {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) .
وقد ردوا على الرافضة قولهم بالمتعة في كتب مفردة وقد ردها عليهم الجد في
تفسيره، والردود العامة عليهم لا تُحْصَى فالعلامة محمد أمين السويدي رد عليهم
بأربع مجلدات (سماه الصارم الجديد) والصواقع بتقديم القاف لأحد علماء الهند
مجلد ضخم رد عليهم أيضًا، والتحفة، وللجد ثلاثة ردود مختصرة، والفقير رد
عليهم بنحو ألف ورقة فاغتصبته الحكومة وذلك بثلاثة مصنفات أحدها المسمى
بصب العذاب على من سب الأصحاب. يوم المولد سنة 1328.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله محمود شكري
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الرفض يراد به الغلو في التشيع فالشيعة منهم المعتدلون ومنهم الغلاة ومنهم الباطنية الملاحدة أعداء الإسلام كالعبيديين والشيخ العاملي متعصب للجميع.
(2) يستثني المؤلف بهذا القيد ما انفرد بروايته عنه صلى الله عليه وسلم حفاظ السنة كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن، وهل لسنته صلى الله عليه وسلم حفاظ غيرهم؟ .
(3) المراد بالجمهور هنا العارفون بالشؤون العامة من جميع الطوائف والشيعة يطلقون هذا اللفظ ولفظ العامة على أهل السنة ويسمون شيعتهم الخاصة.
(4) المنار: الإنصاف أن الدولة العثمانية هي التي أثارت عصبية الشيعة عليها بحروبها لدولة إيران وما زالت السياسة تستخدم الدين لأهواء أهلها.
(5) أي كحسوة طائر من بحر.
(6) نكتفي بالأول من الأبيات التي ذكرها هنا لأن ما بعدها طعن شديد لا نستحسن نشره.
(7) لدينا رسالة منه في هذه المتعة التي هي أقبح الزنا وأضره.(29/424)
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
__________
كيف يتكون المرشدون [1]
للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء
(4)
نماذج في صناعة الخطب
عرفناك أن مادة الخطبة: (1) موضوع مُتَخَيَّر وتفكير فيه يوضح المنافع أو
يبين المضار (2) وآيات بينة وأحاديث صادقة تلائم الموضوع، أما تخير
الموضوع والتفكير فيه فأساسه حكمة العقل، وسلامة الذوق، وأما الآيات فدونك
كتاب الله فيه الغنية إن كنت له قارئًا، ولآياته متدبرًا، وأما الأحاديث فلا يميز
صحيحها من عليلها إلا الناقد البصير، ولا يقف على ما ترتبط بموضوعه منها إلا
الخبير بها، وقد وَفَّقَ الله صديقنا المفضال الأستاذ الشيخ محمد العدوي المدرس
بالقسم العالي بالأزهر فوضع كتابه (مفتاح الخطابة والوعظ) الذي جمع فيه الآيات
والأحاديث المقبولة المتعلقة بكل موضوع من موضوعات العقائد والعبادات
والمعاملات والأخلاق مما أغنى المرشد عن طويل البحث وسهل له طريق الوعظ،
وسنتخذ منه مادة لبعض ما نضعه من النماذج لينسج الخطباء على منواله، إن لم
يوفقوا لمثاله.
***
النموذج الأول
في حس\ن المعاشرة بين الزوجين
(الآيات الواردة في الموضوع) :
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) ،] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً [2 {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم
مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231) ,] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [3 {
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) .
***
(الأحاديث الواردة فيه)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وابن
حبان في صحيحه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه ابن حبان في صحيحه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(استوصوا بالنساء خيرًا فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع
أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء)
رواه البخاري ومسلم.
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة
أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه،
ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود.
عن عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال:
(ألا واستوصوا بالنساء خيرًا فإنما هن عوان [4] عندكم ليس تملكون منهن شيئًا
غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع
واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم
على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم من
تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في
كسوتهن وطعامهن) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح.
وروى الحاكم من حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من
عظم حقه عليها، ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها
نفسها وهي على ظهر قتب [5] ) .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا دعا الرجل امرأته لفراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى
تصبح) رواه البخاري ومسلم.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل
لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) رواه البخاري.
***
البحث العلمي في الموضوع
يتحقق حسن العشرة بما يأتي:
(أ) من جانب الزوج يكون:
(1) بالإنفاق على زوجته من غير تقتير ولا إسراف.
(2) بالعدل بينها وبين غيرها من الزوجات أو القريبات إن كن.
(3) بالابتعاد عن هجرها وإيذائها بلا مبرر، وبترك الغيبة عنها خارج
المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل.
(4) بألا يمسكها تحت يده ضرارًا؛ ليعتدي عليها.
(5) بإرشادها إلى طرق الخير وحثها على سلوكها والابتعاد عن مواطن
الشر.
(6) بألا يمنعها من زيارة أهلها في الأوقات المناسبة.
(ب) من جانب الزوجة يكون:
(1) بطاعته في كل معروف، ومن ذلك إجابتها له إذا دعاها إلى الفراش.
(2) بالنظافة في نفسها وأولادها وخدمها وبيتها.
(3) بالمحافظة على نفسها وبناتها وماله وسره.
(4) بالإحسان في تدبير المنزل وتربية الأولاد والقيام على أخلاقهم.
(5) بعدم إرهاقه في طلبات الملابس وأدوات الزينة.
(6) بألا تدخل أحدًا يكرهه منزله بلا إذنه.
(7) بألا تخرج من بيته بدون استئذانه.
(8) بأن تواسيه بمالها إن انتابته نائبة أو مسته عسرة.
(ج) من جانب كل منهما يكون:
(1) باستعمال كل منهما الأدب مع صاحبه في المحادثة والمحاورة وتجنب
بذيء الكلام وفاحش القول.
(2) يسعى كل منهما في دفع ما قد يحل بالآخر من مرض أو بلاء في
المال أو الأهل أو تخفيفه.
(3) بالصبر على ما قد يكون في خلق الآخر من انحراف مع السعي في
مداواته وعدم المسارعة إلى الخصام أو الفراق.
(4) عمل كل ما من شأنه أن يجلب سرور الآخر ومودته ما دام ذلك في
دائرة المشروع والمعروف، فلا يرى إلا جميلاً، ولا يسمع إلا حسنًا، ولا يشم إلا
طيبًا.
أما ثمرات حسن العشرة فهي ما يأتي:
(1) المحبة بين الزوجين وهي أساس السعادة المنزلية.
(2) الصحة في الجسم والراحة في البال والاقتصاد في المال.
(3) تخلق الأولاد بالأخلاق الطيبة وتعودهم الأعمال الصالحة.
(4) الرغبة في الاتصال بهذه الأسرة بمصاهرتها والمصاهرة إليها.
(5) التعاون على شئون الحياة.
(6) صلاح الأمة بصلاح الأسرة التي هي وحدتها ومثال مصغر منها.
***
الصوغ الخطابي أو الخطبة
الحمد لله جعل السعادة المنزلية في القيام بواجب الزوجية، وجعل صلاح
الأمة في صلاح الأسرة، فالأمة المكونة من أُسَر صالحة، ذات أخلاق عالية،
وعلاقات طيبة، أمة راقية، جديرة بالمكانة السامية، والكلمة النافذة، أشهد أن لا
إله إلا الله جعل كلاًّ من الزوجين سكنًا لصاحبه يفضي إليه بسر نفسه، ويلقي إليه
زمام أمره ويطمئن إليه في كل شأنه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:
21) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصَّانا بالنساء خيرًا لضعفهن، وكان أحسننا
قيامًا بحقوقهن، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه
واقتفى أثره.
(أما بعد) فإن خير البيوت ما عُمِرَ بحسن العشرة، والألفة والمحبة والمودة
والرحمة، وشرها ما ساءت فيه العلاقات، وتقطعت بين أفراده الصلات، وما
حسن العشرة إلا بمراعات كل من الزوجين حق صاحبه، وإخلاصه في القيام
بواجبه فيا معشر الأزواج أنفقوا على زوجاتكم مما رزقكم الله وحذار أن تقتروا
عليهن أو تسرفوا، فإن ذلك مفسدة للأخلاق، ومجلبة للشقاق {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن
سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .
يا معشر الأزواج: اعدلوا بين الزوجات إن كن متعددات، ولا تفضلوا
بعضهن على بعض في المبيت أو النفقة، أو مسكن أو كسوة؛ لئلا تشعلوا بينهن
نار العداء، فيفسدن أمر بيوتكم، ويورثن الأحقاد أولادكم، فيكونوا أعداء
متباغضين، لا إخوة متحابين متعاضدين.
إياكم وهجر الزوجات بلا سبب أو إيذاءهن بلا مبرر، فإن ذلك موحش
لقلوبهن، ومنبت للعداوة في نفوسهن: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} (النساء: 34) .
إياكم والسهر خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل، وربما كان ذلك في
فجور وفساد، فإن ذلك ممل لقلوبهن، وأدعى لارتيابهن، ومحرك للفتنة في
نفوسهن، وقد يسول لهن الشيطان ما لا تحبون، ولبناتكم ما لا تودون، فاعمروا
بيوتكم بحضوركم، وآنسوا أهلكم بحديثكم، واملئوا عيونهن بأعيانكم، إياكم إذا لم
يرد الله وفاقًا بينكما، ولم تتلاءم طباعكما، ولم يكن من سبيل لإقامة حدود الله فيكما،
إياكم أن تمسكوهن في هذه الحال ضررًا لتعتدوا عليهن، وتسلبوهن حقوقهن،
فإن ذلكم ظلم لنفوسكم ومضرة بكم، وقد أذن الله لكم وقتئذ في فراقهن
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} (البقرة: 231) وحذار أن
تضيقوا عليهن في حقوقهن المشروعة، فلا تمنعوهن من التصرف في أموالهن،
وزيارة أهلهن وأقاربهن، والذهاب إلى بيوت الله لسماع العظة، وإقامة الصلاة،
فإنكم إن شددتم في مضايقتهن خشي انفجارهن فلا يأتمرن بأمر، ولا ينتظرن الإذن،
ولا يقفن في الخروج عند حد.
أرشدوهن إلى كل معروف، فعلموهن الدين، وحفظوهن كتاب الله المبين،
واسلكوا بهن طريق الأخلاق الطيبة والأعمال الصالحة، وحذروهن من الشر أن
يقترفنه، ومن الإثم أن يخالطنه، ومن دور اللهو والخلاعة أن يذهبن إليها،
ويدنسن نفوسهن بما احتوت عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) .
أما الزوجات فواجب عليهن إطاعة أزواجهن في كل معروف، فلا يعطلن لهم
أمرًا، ولا يخالفن لهم نهيًا، فإن دعوهن إلى الفراش فالواجب الطاعة والامتثال؛
لأن المخالفة موحشة للقلوب، موغرة للصدور، موجبة للنفور، وعليهن المحافظة
على أموالهم، وبيوتهم وأولادهم، وليصن أعراضهن وأعراض بناتهن
{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: 34) ولتكن
النظافة في مقدمة ما تراعاه المرأة في بيتها، ونفسها وأولادها وخدمها، فإن
النظافة من الإيمان، ونِعْمَ هي المسرة للإنسان، ولتكن في بيتها حكيمة، مدبرة
غير مقصرة ولا مسرفة، ولتكن أسوة لمن حولها في حسن أخلاقها وجميل أعمالها،
والمحافظة على واجبها، وإياها أن تكلف زوجها ما لا يطيقه أو ترهقه في مطعم أو
كسوة أو زينة أو بهرجة، فإن ذلك متلفة للأموال مفسدة للأخلاق، وإياها أن تدخل
بيته من لا يحبه أو تخرج منه بغير إذنه، أو تمنع عنه ثروتها إن قل ماله أو ساءت
حاله، فإن ذلك مما يثير العداوة ويفسد العلاقة.
وليحافظ كل منهما على الأدب في مخاطبة صاحبه ونده، واستجلاب محبته
ووده، وإن رأى منه انحرافًا في خلقه، أو شذوذًا في معاملته، فليقابل ذلك بالصبر
والكلمات الرقيقة، والعبارات اللطيفة حتى يهديه سواء السبيل ويسلك به الصراط
المستقيم.
أيها الناس إن حسن العشرة بين الأزواج مجلبة خير كثير، ومدرأة شر كبير،
ففي حسن المعاشرة السرور والرحمة، فيه الصحة في الجسم، والراحة في البال،
والاقتصاد في المال، فيه تنبت الذرية الطيبة التي يسعى الناس إلى مصاهرتها،
والاتصال بها، فيه التعاون على شئون الحياة، وحسن الصلة بالله، فيه السعادة
لقومكم، والخير لبلدكم لو كنتم تسمعون وتعملون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ
قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
روى الترمذي وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم
خياركم لنسائهم) .
... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد العزيز الخولي
(المنار)
إن ما تقدم من حديث أمر المرأة بالسجود لزوجها لو جاز أن يسجد بشر لغير
الله ورد على سبيل المبالغة، وكأن سببه وراء الرد على من استأذنه صلى الله عليه
وسلم بالسجود له إسماع بعض الناشزات على أزواجهن وما أكثرهن في هذه الأيام
وهو عند الترمذي غريب من طريق ضعَّفه أبو داود، وتصحيح الحاكم له لا يُعْتَدُّ
به لولا إقرار الذهبي له عليه.
__________
(1) تابع لما نشر في المجلد 27 (ج4 ص 251) من المنار.
(2) تفيد الآية أن الذي لم يعمل بكتاب الله ولم يقف عند حدوده فقد اتخذ آيات الله هزوًا.
(3) درجة الرياسة اهـ من الأصل.
(4) أسيرات.
(5) القتب: الإكاف الصغير الذي يوضع على سنام البعير.(29/442)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم
قد تم طبع الجزء التاسع من هذا التفسير السلفي العصري الروحي الاجتماعي
المدني السياسي الوحيد في كتب الإسلام، ومما يقال فيه: إنه هو المشتمل على كل
ما ذكر الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مذكرته الإصلاحية من المزايا
والمعارف والهداية التي يجب درس التفسير لأجلها وزيادة.
وحَسْبُ طلاب تفسير كتاب الله تعالى للفهم والتفقه والتدبر والهداية لما فيه
سعادة الدارين للأفراد والأمم أن يعلموا أن هذا التفسير قد حوى خلاصة دروس
الأستاذ الإمام الأزهرية في خمسة أجزاء وجرى على منهاجه وزاد عليه ما تعلم
قيمته مما يأتي.
روى لنا صاحب السماحة السيد محمد توفيق البكري في هذه الأيام بعد عودته
معافًى من المستشفى ولله الحمد بمناسبة ذكر التفسير، وما كان من إعجاب الناس
بدروس الأستاذ الإمام في الأزهر، وما امتاز به من العلم والعرفان قال: كنت
راكبًا مع أستاذنا في ليلة من ليالي رمضان فسألته في أثناء حديث معه فيه: إلى من
نرجع في ذلك إذا لم تكن حاضرًا؟ فقال: إلى السيد رشيد رضا صاحب المنار.
وهاؤم اقرؤوا بعض شهادات كبار العلماء المستقلين في هذا التفسير.
كتب الأستاذ الفاضل الشيخ محمد العدوي مدرس التفسير والحديث في القسم
العالي من الأزهر الشريف في تقريظ له ما نصه:
(تفسير المنار فيما أعلم هو أمثل تفسير يتناسب مع روح العصر الحاضر،
يتجلى فيه لقارئه عظمة التشريع الإسلامي بأسلوب جذاب، يفيض على قارئه هداية،
ويبعث فيه روح الحياة العملية، ويعده لأن يكون عالمًا دينيًّا، وباحثًا اجتماعيًّا،
وأستاذًا أخلاقيًّا، يريه أسباب تفرق الأمة، ثم يريه كيف يجتمع شملها، ويبين له
ما أدخله أعداء الدين عليه من البدع والمحدثات، ثم يرسم له طريق تطهيره
منها....) .
ثم بيَّن مزايا هذا التفسير في مباحث اللغة والأحكام الشرعية من الأصول
والفروع والعقائد وقصص الرسل وفي سنن الاجتماع والأخلاق بما تحتاج إليه الأمة
في هذا العصر ولا تجده في غيره.
وكتب الأستاذ الفاضل الشيخ علي سرور الزنكلوني مدرس التفسير والحديث
في القسم العالي من الأزهر الشريف أيضًا بمناسبة صدور الجزء الأول من هذا
التفسير بعد صدور سبعة أجزاء من قبله مخاطبًا لمؤلفه.
أما بعد فقد طلع على العالم الإسلامي في هذه الأيام الجزء الأول من تفسير
القرآن الحكيم الذي دبَّجه يراعك، وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد
أودعت فيه من آيات العلم والحكمة ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم
حسادك ... ) .
ثم جاء بثناء طويل عليه وعلى مجلة المنار وحاجة الناس إليها، وبيان مزايا
المرشدين المتأخرين على المتقدمين ما عدا الأنبياء عليهم السلام إثباتًَا لمزاياهما،
وعاد بعده إلى الكلام على التفسير فقال:
(وقد كان من مزيد توفيق الله لك أن خصصت جزءًا عظيمًا من وقتك
لتفسير كتاب الله تعالى على طريقة لم تُسْبَق إليها من كبار رجال التاريخ في
عصور الإسلام، فقد وجهت فيه كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن
مراميه، وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في
الوجود.
ولم يفتك المهم من الأبحاث الاصطلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن
غرض الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم
وهى الهداية والسعادة) .
ثم ذكر أن واضع هذه الطريقة ومحكم أساسها هو شيخه وشيخنا الإمام رحمه
الله تعالى، وأن صاحب المنار هو الذي أحكم البناء إلى التمام، واستطرد إلى
ظهور الجزء الأول من التفسير فقال فيه:
(وفي الحق أن هذا السفر آية من الآيات، ومعجزة من المعجزات في
التفسير إلى اليوم) إلى أن قال: (وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن
الزيادات ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه) .
ثم اقترح على صاحب المنار تأليف (تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة)
وكتب العلامة الشيخ أحمد إبراهيم أستاذ الشريعة الغراء في كلية الحقوق بالجامعة
المصرية تقريظًا حافلاً بدأه بوصف مجلة المنار بتناول جميع وجوه الإصلاح
الإسلامية مما لم يتيسر في جملته لغير صاحبها، وبكونه يدعو كل من آنس فيه
الاستعداد للخير إلى قراءتها، وبنظمه لما كان ينثره شيخه الأستاذ الإمام من اللآلئ
في دروس التفسير التي كان يلقيها في الأزهر والزيادة عليها مما فتح الله عليه من
نفيس الفرائد قال:
(ثم انفردت به بعد أن استأثرت بالشيخ رحمه ربه فكنته فيما استقللت به،
إلخ) .
ثم ذكر الجزء الأول بمناسبة صدوره فقال فيه:
فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله إلى آخره) .
ثم قال في آخر هذا التقريظ:
(وإن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية
وإرشاد لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مداج ولا ممالئ،
بل أترجم لك عما تتحدث به نفسي) .
(غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك بما أقترح أن تقتبس من
هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا يحتوي زبدته؛ لينتفع به العامة ومن لا يتسع
وقته لقراءة التفسير المطول) .
(أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام
هذا التفسير ومختصره، إلخ) .
وكتب العالم العامل الأستاذ محمد بهجة البيطار مدير المعهد العلمي السعودي
بمكة المكرمة تقريظًا للتفسير ذكر فيه له عشر مزايا قد انفرد بها ثم قال في آخره:
(ألا وإن خصائص هذا التفسير لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها وإذا كان شرف
العلم تابعًا لشرف الموضوع فتفسير السيد الإمام لكتاب الله تعالى على هذه النحو
الذي أشرنا إليه هو أفضل ما ينفق فيه المرء أعوامه وأمواله، وأستاذنا يعلم قيمة
وقته الثمين، وتفسيره العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه
بغيره، فنسأل الله تعالى أن يبارك للمسلمين في وقته وفي عمره، وييسر له التفرغ
إلى إتمامه برحمته وفضله) .
وكتب العالم الأديب، والكاتب المجيد، الأستاذ الشيخ سليمان أباظة الأزهري
المدرس في بيت الله الحرام وهو ممن تلقوا بعض دروس التفسير على المؤلف
يقترح في كتاب له المبادرة إلى وضع مختصر لهذا التفسير فقال ما خلاصته:
(أحمد الله على ظهور هذه النعمة، وآمل أن أرى في الترتيب العاجل تمام
هذا التفسير الجليل، على هذا النسق الجليل، الذي يشبع عقل الباحث تغذية وريًّا
ويجعله عن غير غنيًّا، كما آمل أن أرى في الأقرب الأعجل خلاصة لهذا التفسير
تكون صالحة لقراءتها ودرسًا عامًّا تستفيد منه العامة قبل الخاصة ليسهل على المعلم
تأدية مهمته في تعليم ذلك السواد الأعظم، دين الله سلما صحيحًا سهلاً، خلاصة
على ذلك الطراز الجميل البديع الذي كنا معشر تلاميذ السيد نسمعه منه في الدرس،
ذلك الطراز السهل على السيد فقط الممتنع على غيره إلخ ما كتبه من الإطراء،
ونحن نَعِدُ هؤلاء المقترحين للتفسير المختصر وغيرهم بأننا نبدأ به في الشهر الآتي
إن شاء الله تعالى.
***
مزايا الجزء التاسع
ومما امتاز به الجزء التاسع من المسائل الاستطرادية بحث طويل في أخبار
عمر الدنيا وخبط بعض العلماء في تحديده ولا سيما السيوطي عفا الله عنا وعنه،
وبحث آخر في أحاديث الفتن وأشراط الساعة كالدجال والمهدي وما فيها من
التعارض والإشكالات حتى الصحاح منها، ويدخل هذان البحثان في 37 صفحة
وقد ختم بسبع قواعد تفيد في حل مشكلات الأحاديث المتعارضة والمشكلة.
(ومنها) مسألة رؤية الرب تعالى في الآخرة وخلاف أهل السنة والمعتزلة
والصوفية وغيرهم (كالشيعة) فيها من جهة دلالة النصوص ومن جهة النظريات
العقلية، وتحقيق كونها ليست من المسائل القطعية، ويدخل في هذا البحث الكلام
على الحُجُب بين العبد والرب ومنها النور وفيها الكلام على النور الحسي والمعنوي
والكهرباء وأول ما خلق الله تعالى، ومن أهم فوائده تطبيق مذهب السلف في هذه
المسألة على آخر ما وصل إليه بحث علماء الكون في التكوين والمادة والقوى
والمخلوق الأول.
ويدخل فيه أيضًا بحث الكشف وإدراك النفس للأشياء من غير طريق الحواس
والعقل، ومباحث الرؤى والأحلام والرؤية في العمل النومي والتنويم المغناطيسي
على طريقة علماء هذا العصر، وكذا بحث الأرواح وتجليها في الصور وتشكل
الملائكة والجن في الصور المادية.
(ومنها) مسألة كلام الله تعالى وتكليمه لموسى وغيره ويدخل فيه بحث
الكلام النفسي والكلام اللفظي وما اخترع البشر من الآلات لنقل الكلام كالتلغراف
والتليفون.
(ومنها) تحقيق الحق في آيات الصفات الإلهية وأحاديثها وهو مذهب
السلف الصالح، وقد أفرغ الفصل الاستطرادي لهذه المسائل الثلاث في 61 صفحة.
(ومنها) مسألة بشارات الأنبياء في التوراة والإنجيل والزبور وغيرها
بالنبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه بحث حقيقة التوراة والإنجيل وهو
يدخل في 80 صفحة.
(ومنها) بحث معنى اتباع الرسول وموضوعه أي ما يجب اتباعه فيه مما
هو دين وتشريع ولوازمه والفرق بينه وبين العادات وأمور الدنيا التي فوضت إلى
اجتهاد الناس وكسبهم وبحث تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم
إلى جميع الناس.
(ومنها) بحث توحيد الإسلام في الدين والحكم واللغة وكون اللغة العربية
لغة الإسلام ووجوب تعلم جميع المسلمين لها، وما يتعلق بذلك من وجوب إزالة
العصبيات الجنسية واللغوية المفرقة بين المسلمين الملقية للعداوة والبغضاء بينهم.
(ومنها) وهو من ملحقات ما قبله حظر ترجمة القرآن باللغات المختلفة
ليكون قرآنًا لكل شعب إسلامي يتعبد به بلغته فهذا غير جائز؛ لأنه مخالف
لنصوص القرآن في كونه عربيًّا أنزل باللسان العربي وكان آية ومعجزة بلغته
ومتعبدًا به بلغته إلخ، وكونه ينافي مقصد الإسلام من وحدة المسلمين وجعلهم أمة
واحدة متحدة لا يصدع وحدتها خلاف، وفيه بيان غرض إقدام الترك الكماليين على
ترجمته، وهو التمهيد لترك الإسلام نفسه وهذا البحث وحده قد استغرق 60 صفحة
من التفسير وأعظم مزايا هذا الجزء ما جاء به من خلاصة لسورة الأعراف تدخل
في ستة أبواب، ثلاثة منها في أصول العقائد الثلاث الإلهيات والنبوة والبعث وما
وراءه، و (4) في أصول التشريع وقواعد الشرع العامة و (5) آيات الله وسننه
في الخلق والتكوين وفيه 14 أصلاً، و (6) في سنن الله تعالى في الاجتماع
والعمران البشري وشئون الأمم المعبر عنه في عصرنا بعلم الاجتماع وفي 7 أصول.
وقد بلغت صفحات هذا الجزء مع الفهرس الأبجدي وجدول أغلاط الطبع
702 فهو في حجم الجزء السابع الذي يباع بثلاثين قرشًا، وقد رأينا أن نوحد ثمن
أجزاء التفسير فنجعل ثمن كل جزء منها 25 قرشًا لا فرق بين الكبير كهذين
الجزأين والصغير كالجزء الثاني الذي تنقص صفحاته عن 400 والوسط بينهما،
وهذا سعر الورق المتوسط ويزاد في سعر الجزء من الورق الجيد خمسة قروش.
وأما باعة الكتب وطلبة الأزهر وسائر طلبة المدارس فننقص لهم من ثمن كل
جزء من الورقين خمسة قروش، وكذا وزارة المعارف ومن يشتري خمسة أجزاء
فأكثر.
__________(29/450)
الكاتب: عبد الحميد الرافعي
__________
خطر هجوم الكماليين على الإسلام
استبدال الأحرف اللاتينية بالحروف العربية
وجوب محاربة هذا الخطر على العالم الإسلامي
أريد اليوم أن أوجه هذه الكلمة لأول مرة إلى الشباب الإسلامي في كل بقاع
الأرض وإلى شباب الأمة العربية خاصة ليتدبروا أمرهم في هذا الهجوم المكشوف
الذي يقوم به الكماليون لمحو الإسلام من الدنيا بما يخترعونه من الأساليب
الشيطانية في بلادهم، وما يبثونه من الدعاية ضد الدين الإسلامي في الشرق
والغرب، وأريد أن يفهم هذا الشباب المسلم أن مقاومة هجوم الكماليين هذا بات
فرضًا مقدسًا عليهم ليستطيعوا الاحتفاظ بدينهم هم وذراريهم المستقبلة، فإن أعداء
الإسلام في أنقرة لم يجدوا أمامهم عملاً يقومون به في هذه الأيام لإتمام هذا الغرض
إلا استئجار الكتاب من أوربيين وشرقيين بأموالهم وأموال المبشرين لنشر الدعاية
ضد الإسلام، حتى صار أعداء هذا الدين من سياسي أوربة يستخدمون المحاضرات
العلمية لإقناع الطلبة الشرقيين في أوربا باستبدال الأحرف اللاتينية بالعربية كما
فعل ذلك الأستاذ لويس ماسينيون مدير معهد الكليج فرانسز في باريس للقضاء على
القرآن بالقضاء على الأحرف العربية تأييدًا لدعاية الكماليين المأجورة.
وإلى شباب الإسلام والقراء عمومًا نبذة من مقال لأحد الكتاب الأوربيين الذين
تستأجرهم أنقرة لنشر دعايتها تبريرًا لخطتها الجديدة في محاربة الإسلام وتأييدًا
لمزاعم الكماليين في الدين الإسلامي والعرب.
قال الكاتب: م ج السويسري من مقالة نشرها بجريدة جورنال دي جنيف:
(إن أهم إصلاح يحاول مصطفى كمال أن يقوم به في بلاده هو قلب أفكار
شعبه لينفرهم من الدين الإسلامي، وفي وسعنا أن نقول: إن الإسلام في تركيا
يختلف اختلافًا بيِّنًا عما كان عليه قبلا في زمن الخلفاء العثمانيين أو في باقي
الأقطار الإسلامية، وإن مصطفى كمال بعمله هذا قد طهَّر عقيدة الأتراك من
خرافات هذه الديانة وأساطيرها القديمة، واعتقاداتها العقيمة التي لا تلائم العصر
الحديث، ثم ساق الكاتب السويسري الحديث الذي لقنه إياه الكماليون على هذا النمط
فقال:
(لقد أثبت التاريخ أن الدين الإسلامي لم يحدث فيه العلماء أي إصلاح منذ
قام محمد بدعوته أي منذ 13 قرنًا، وبهذا كانت الشقة بعيدة بين المدنية الحديثة
وهذا الدين.
ولنضرب لذلك مثلاً: إن الشريعة الإسلامية تُحَتِّم على كل مسلم أن يصلي
خمس مرات في النهار، وعليه أن يكون متوضئًا في كل مرة، أي عليه أن يغسل
وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ويمسح رأسه إلى آخر ما هناك من
الصعوبات الجمة كخلع الحذاء وتشمير الثياب، وكم من فقراء سرقت ثيابهم وهم
يصلون فطلقوا هذا الدين ثلاثًا، فهل بلغ بنا الخبل إلى أن نخلع أرديتنا ونبلل ثيابنا
ونشوه كي (بناطليلنا) خمس مرات في اليوم.
(ولأجل أن يبرر الصلاة على طريقة البروتستانت كما أعلنا ذلك في وقته
قال: قال أحد الأتراك الأتقياء: أما أنا فقد كنت أكره الدخول إلى المسجد بسبب
واحد وهو الرائحة الكريهة التي تنبعث من أقدام المصلين وكنت أضطر أحيانًا
لمغادرة المسجد قبل قيام الصلاة خوفًا على نفسي من الاختناق.
ثم قال: ويريد المصلحون أن تستبدل السجاجيد بالكراسي ويستعاض عن
أصوات الحفظة والمشايخ التي تكون مضحكة في أغلب الأحيان بالأنغام الموسيقية،
وعندها تمتلئ المساجد بالمصلين الحاسري الرءوس؛ ولقد حذا الأتراك في طريق
عبادتهم حذو الأوربيين؟ وأصبحت الآن أنقرة الكعبة الجديدة للدين الإسلامي
الجديد [1] فهل يحذو العرب حذو الترك فيخلصوا من هذه التقاليد التي ما أنزل الله
بها من سلطان؟
هذه كلمة اجتزأناها من مقالة الكاتب السويسري ينشرها في أوربا بأموال
الترك وعقليتهم لم يستطع المبشرون قبل الكماليين أن ينشروا مثلها في أوربا مطلقًًَا
على شدة حقدهم على الإسلام، والذي نلفت إليه الأنظار أن هذه المقالة ليست من
بنات أفكار الكاتب الأوربي المؤجر، بل هي إملاء الكماليين أنفسهم فإن ما يكتبه
هؤلاء المأجورون لا يخرج عما يقوله الكماليون في الإسلام سواء في بلادهم أو في
خارجها، من الأقطار الشرقية والغربية، حتى إن جريدة مخادنت التي تصدر في
مدينة القاهرة تكتب على ملأ من الناس أن مصدر تأخر الترك اللغة العربية أو
بالحري الإسلام.
وإذا دققت النظر فيما ينشر في أوربا ومصر تجد أن روح الكماليين لا تقف
عند القضاء على الإسلام في تركيا، بل هي ترمي إلى محو الإسلام من جميع
الأقطار، وقد باتت الخزانة السرية تنفق على هذه الدعاية أموالاً طائلة من أموال
المسلمين لقتل الإسلام بجرأة غريبة يردد صداها المبشرون المسيحيون مع
السياسيين الأوربيين الذين يرون أن أهم وسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية القضاء
على الدين الذي يدعو أهله إلى إنشاء الدولة والدفاع عنها بالنفس والنفيس فيجعل
من المسلم شخصية كاملة أساسها عزة النفس بالفضائل الإسلامية، والرأي المتفق
عليه بين المطلعين على نية الترك هو أن الغاية الأولى من هذه الحركة التي لم
يعهدها الإسلام في الحرب الصليبية هي التزلف لأوربا، وهذا كل ما يرمي إليه
مصطفى كمال.
هذه حالة لم تمر بحياة الإسلام في دور ما من أدوار قوته وانحطاطه، وأعظم
ما في الكارثة من سوء سكوت المسلمين عنها، ووجود بضعة أشخاص منهم
يؤجرون ضمائرهم لإذاعتها والدفاع عنها، حتى بلغ الانحطاط الأخلاقي والتسفل
الأدبي بهؤلاء أنهم يذيعون بين العامة في مصر والإسكندرية أن مصطفى كمال من
أعظم المسلمين غيرة على الإسلام وأن أعماله هذه التي ظاهرها عداء شديد للإسلام
ليست إلا مظاهر ليخدع بها أوربا حتى إذا تمكن من خديعتها حملها على التخلي له
عن بلاد الإسلام التي احتلتها بغفلة الترك في الماضي (كمصر) ومن ثم يعيد لها
استقلالها ... فهل سمع العالم بعقلية أخطر من عقلية هؤلاء الدعاة الذين يذيعون في
هذا القطر أمثال هذا الهذيان؟ وهل هناك أشد احتقارًا للمصريين من هذا الاحتقار.
بعد هذه المقدمة نستميح إخواننا الأتراك الذين لم تؤثر فيهم جناية الكماليين،
والذين يألمون كما نألم من وصول الحال إلى ما وصلت إليه في تركيا وسريانها
لأفغانستان وإيران واضطراب العالم الإسلامي لها، نستميح هؤلاء الإخوان الكرام
أن يعذرونا؛ إذ نحن دافعنا عن القرآن والعربية اللذين يعمل الكماليون بإرشاد
البولشفيك على مطاردتهما، والحط من شأنهما، وإذا كانت أوربا وقفت كلها صفًّا
واحدًا بما فيها الكنائس المنظمة والشعوب القوية والحكومات المسلحة في وجه
البولشفيك دفاعًا عن الدين المسيحي فما أجدرنا أن نتحد نحن - بعد أن ساق الروس
الحمرُ التركَ الكماليين أمامهم للقضاء على الإسلام- للوقوف في وجه هذا الخطر.
يحب أن نفكر جيدًا في هذا ونقوم بالواجب له حق القيام.
هذا وإن دعاية الكماليين الحمراء تقوم على أساسين: الأول أن الدين
الإسلامي لا يصلح لحياة الترك الجديدة، وهذه نفس دعاية المبشرين المسيحيين
والسياسيين الأوربيين، والثاني أن اللسان العربي بما فيه أحرفه العربية آية
انحطاط العنصر التركي والعثرة الحقيقية في سبيل رقي الترك.
أما أن الإسلام لا يصلح للحياة الجديدة فنحب أن نسأل مصطفى كمال ما قيمة
هذا العنصر التركي في الوجود قبل أن يتشرف بدين الإسلام؟ وهل كانت قيمته
الحقيقية أكثر من قبائل متوحشة تؤجر نفسها للقتال أنى كان القتال؟ ثم إلى أين
وصل هذا العنصر بفضل هذا الدين العظيم حين استاق أمامه مئات الألوف من
الجيوش باسم الإسلام فسيطر على عمران ثلاث قارات من الكرة الأرضية ومد
سلطانه إلى شعوب وأمم من أعظم أمم الأرض؟ هل كان ذلك في العهد الذي كان
الشعب التركي وملوكه وحكامه مسلمين أم كان وهم طورانيون يعبدون الذئب
الأغبر؟ وهل المدنية الإسلامية العربية والعدل العربي اللذان مدَّا رواقهما على
الأندلس وعلى قسم عظيم من أوربا حتى ضرب بعصرهما الذهبي الأمثال كانا في
بداوة الجاهلية أم نور الإسلام؟
لندع هذا البحث الذي يهزأ المبشرون المسيحيون من أنفسهم عندما يضطرون
لاتخاذه واسطة للهجوم على الإسلام قيامًا بواجب المهنة التي يحترفونها، ونتقدم إلى
هؤلاء الكماليين نبحث معهم تحت أشعة الشمس المنيرة في مسألة الأحرف العربية
التي يزعمون أنها كانت سببًا لتأخر مدنيتهم الموهومة ثم نعطف على حديث لسعادة
الجنرال محيي الدين باشا وزير الكماليين بمصر، وما أنكره من عطف المسلمين
على الترك وكون هذا العطف المُدَّعَى لم يكن له أثر في الوجود العملي.
أما مسألة الأحرف العربية وتأخيرها للسان التركي عن التقدم، فنحن نستطيع
أن نصرِّح تصريحًا ربما رآه جمهور الناس غريبًا في بادئ الأمر إلا أنه الحقيقة
المجردة. وهو أنه لا يوجد إلى الآن شيء يسمى اللسان التركي ودون في الكتب
وقرأه الناس ويستطيع الشعب في تركيا وأوربا في صميم الأناضول والتركستان أن
يفهم جملة من جملة فهمًا صحيحًا، اللهم إلا إذا كان هناك بعض علماء الآثار
والعاديات يقدرون على حل تلك الرطانة والتكلم بها في أتفه الأمور، وهذا أعظم
برهان للتاريخ على أن المدنية التركية لا وجود لها ولو وجدت لكان لها كتب دُوِّنَت
فيها أو نقوش أثرية كنقوش المدنية المصرية.
إذا فهمت ذلك يجب أن تعلم أن اللسان الموجود الآن الذي يتكلم به الأتراك
ويعتبر أجمل الألسن الشرقية إنما هو اللسان العثماني الذي وضعه فريق من علماء
العثمانيين من الترك والشركس والألبان والعرب منذ قرن تقريبًا فجاء نصفه عربيًّا
والنصف الآخر خليط من الفارسية والتركية وبعض الكلمات الإفرنجية، وقد تعلمنا
هذا اللسان عن أساتذته واطلعنا على كثير من مؤلفاته العلمية والأدبية فلم نر عالمًا
تجاسر على الزعم بأن هذا اللسان غير اللسان العثماني، بل كان علماء اللغة
يقولون في صلب مؤلفاتهم: قاموس اللسان العثماني أدبيات اللسان العثماني نحو
اللسان العثماني [2] وإنني لما كنت تلميذًا وجدت في برنامج الدروس اليومية أن
الساعة 11-12 مثلاً هي حصة اللسان العثماني، ولم تذكر حصة لشيء يسمى
اللسان التركي، ولكن لما أعلن الدستور وصار كتاب الترك ينقلون ما يكتبه
الأوربيون بشأنهم صاروا يطلقون كلمة تركيا على البلاد العثمانية؛ لأن الأوربيين
يطلقون كلمة تركيا عليها، وكلمة تركيا بدلاً من العثمانية نسبة إلى العثمانيين، وقد
احتج فريق من علماء العرب ومبعوثيهم في الآستانة على كتابة تركيا بدلا من الدولة
العثمانية، وقالوا للأتراك: إننا شركاء في هذه المملكة بل نحن العنصر الأكبر فيها
فإطلاق هذه الكلمة افتئات على الحقيقة يستلزم ضياع شخصية الأمة العربية
والعناصر الأخرى كالكرد والشركس والألبان والروم والأرمن وغيرهم. فأجاب
الأتراك بأن هذه الكلمة ترجمة عن الإفرنجية وليست مقصودة ثم سكت العرب
فتمادى الترك.
إذا علمت هذا، وعلمت أن اللسان التركي غير موجود اليوم وأن هذا اللسان
الذي يستبدلون أحرفه العربية باللاتينية إنما معينه بل مصدر حياته اللغة العربية
وأنه قبل أن يتكون اللسان العثماني الذي يستمد حياته وأدبياته وعلومه من اللسان
العربي لم يكن لهذه العلوم والأدبيات التي يتغنى بها الترك وجود، بعد هذا العلم
تستطيع أن تحكم على مبلغ مكابرة الكماليين وجرأتهم على الكذب في حق العلم
والتاريخ والحقيقة كلها، فقد زعموا أنهم يتركون هذا اللسان العثماني بقولهم عن كلمة
(كتاب) العربية التي لا مقابل لها في التركية مثل: (كي تاب) فالمراد بتتريكها
إخراجها من عربيتها وتحريف لفظها برسمه هكذا (kItab) وهذا منتهى الحمق
والغباوة، وقد نشرت الصحف التركية التي تصدر في اليونان مقالاً للأستاذ صاحب
السماحة صبري أفندي شيخ الإسلام السابق خاطب فيه الترك بقوله: إنكم إذا استبدلتم
الحروف العربية وجب إخراج الألفاظ العربية وإحلال محلها كلمات إفرنجية؛ إذ لا
مقابل لها في التركية وعندها تخسرون على الأقل كلمات: الغازي والجمهورية
ومصطفى كمال أيضًا.. . لأنها كلها عربية.
وهنا لا ترى بدًّا من أن ننقل للقراء الكرام كلمة جميلة تستند إلى العلم
الصحيح دبَّجَها يراع الكاتب القدير الأستاذ عبد الله عنان في مسألة الأحرف اللاتينية
نشرت في صدر السياسة اليومية، ومما جاء فيها قوله: (بيد أنا لا نؤمن بما
يعلقه فخامة الغازي على هذا الانقلاب من الخير والمزايا وكل ما تدور حوله
حُجَج الغازي ومن معه من أنصار الفكرة أن الكتابة الجديدة وسيلة ناجعة لمحاربة
الأمية داخل تركيا، ونشر اللغة التركية خارجها؛ لأن الكتابة العربية بما تحتوي من
مصاعب الشكل والإعراب عثرة في سبيل هذه الغاية، والكتابة اللاتينية تبسط
القراءة والإعراب بأحرف الحركة، وربما كان في هذا القول مسحة من الوجاهة،
ولكنها مزية شكلية ضئيلة تقابلها مصاعب شكلية أيضًا في كيفية ضبط الحركات
اللاتينية، وتطبيقها بدقة على الحركات العربية، وهو ما يحرج اليوم قادة الحركة
ويضطرهم في كل يوم إلى التغيير والتبديل في ما يضمونه من قواعد الهجاء، هذا
إلى أن الكتابة العربية لا تنفرد بصعوبة الشكل والإعراب فمن بين اللغات الغربية
ما يحتوي على مثل هذه الصعوبة، كالألمانية والروسية، ففيهما يتخذ الشكل
صورة الإضافة والتغيير في أواخر الكلمات طبقًا لأحوال الإعراب ومع ذلك
فإن هذه الصعوبة لم تكن في وقت من الأوقات عقبة في سبيل التعليم ومحاربة
الأمية في ألمانيا وروسيا، أما القول بأن الحروف اللاتينية مما يساعد على نشر
اللغة التركية فهي أمنية لا نؤمن بها، فما كانت سهولة الكتابة أو القراءة وحدها
عاملاً جوهريًّا في نشر اللغات، وإنما تنتشر اللغات بتراثها الأدبي والعلمي ,
ومكانة شعوبها من المدنية والثقافة، وأهمية مركزها السياسي والاقتصادي،
وما كانت اللغة التركية في عصر من العصور لغة آداب أو علوم أو مدنية أو تجارة،
وما كانت سوى نوع من الرطانة لقبائل غازية يوم برزت هذه القبائل من قفارها
واتصلت بالمجتمع الإسلامي، فاعتنقت دينه وشرائعه، واقتبست من فيض لغته كل
ما أصبغ على هذه (الرطانة) ثوب اللغة وكل ما غنيت به وازدانت، حتى
أصبحت اللغة التركية تموج بالكلمات العربية وأضحت مدينة بكل ما فيها من بيان
وتعبير إلى العربية، بل غدت العربية روحها ولحمها، بل لقد بهرت اللغة
العربية المجتمع التركي أيام فخاره وازدهاره بفصاحتها وجمالها، فغدت لغة الآداب
والعلوم، واصطفاها المفكرون من الترك على (لهجتهم) المجدبة، فانطلقت بها
ألسنتهم وأقلامهم.
وإذا كان للتفكير التركي اليوم آثار جليلة فهي باللغة العربية التي وسع بيانها
هذا التفكير، بل إن أنفس الآثار التركية سواء في الفقه أو التاريخ أو الأدب إنما
هي بالعربية، والخلاصة أن اللغة العربية كانت بالنسبة للترك وغيرهم من الشعوب
النازحة إلى حظيرة المدنية الإسلامية لغة التفكير كما كانت اللاتينية في العصور
الوسطى بالنسبة للمجتمعات الغربية (وكانت صولتها قوية على المجتمع التركي
أيام فتوته وازدهاره، وأثرها أثيلاً في بيانه وتراثه الفكري، وكان كل ما أثاب
الترك به العربية هو تحسين خطها والافتنان في تنميقه؛ إذ كان طبيعيًّا أن تكتب
بالعربية تلك (اللهجة) التي غدت لغة بما اقتبست من العربية.
ما كانت التركية إذن في عصر من العصور لغة تفكير، وما كان لها تراث
فكري أو أدبي يغري بتعلمها ولو كتب باللاتينة، وما يعرف التاريخ للمجتمع
التركي مدنية أو ثقافة خاصة به تغري حتى الخاصة من الباحثين بتعلم لغته، كذلك
لا نعتقد أن مركز تركيا الدولي أو الاقتصادي مما يحمل على نشر التركية، فما هو
الخير إذن في الحروف اللاتينية.
(إن كتابة التركية بالحروف اللاتينية لن يحمل إلى التركية جديدًا في تراثها،
ولن تخلق أذهانًا جديدة في مجتمع آثر مفكروه في أزهر أيامه أن يفكروا بالعربية
وما هي إلا حجاب كثيف يسدل على الماضي، وقطع لصلاته، ومحو لمعالمه
ورسومه، وبالأخص نزع لآثاره الروحية.
فهل هذا ما يرمي إليه سادة أنقرة [3] ؟ ألا ليت لا , اهـ.
أما تعريض الترك باللغة العربية وأحرفها وكونها سبب تأخرهم فقد أبطلناه لك
من أساسه وبيَّنا لك مبلغ جهلهم في عصر النور ومقدار جرأتهم على الحقيقة في
عصر الحقائق، فإذا أيدهم فيه دعاة النصرانية (المبشرون) وبعض المأجورين
من كتاب أوربا لمحاربة الإسلام وحبًّا في ذهب أنقرة، فإن ألوفًا من علماء أوربا
نفسها الذين يعرفون الإسلام والمدنية العربية والترك وحكوماتهم التي بفضل جهلها
استولى الأوربيون على كل أملاك المسلمين فجعلوهم عبيدًا بعد أن كانوا سادة الدنيا
يهزأون بهؤلاء الكماليين كل الهزؤ ويسخرون بحركتهم من جميع وجوهها.
وقد ألف أحد إخواننا الترك الأفاضل كتابًا منذ سنتين ونيف عندما فتحت
مسألة الحروف اللاتينية في المؤتمر الذي عقد في روسيا حمل فيها على هذه الفكرة
حملة كان لها أثرها في سير الحركة التي أوقفت، ولكن الروس أعداء الإسلام
والعربية لم يلبثوا أن استأنفوا القضاء عليها بما رأوه من استعداد الكماليين الذين
أولوا ما جهلوا من العالم الإسلامي وحقائقه ومن جهل شيئًا عاداه.
نحب أن نستأنف الرد على الجنرال محيي الدين باشا بعد أن زيفنا رأيه في
مسألة الدعاية التي ينشرها للكماليين بأمثال أحاديثه مع مكاتب وادي النيل في مقال
لبعض الجرائد.
يقول الجنرال: (يسأل البعض: أليس اشتراك الشعب التركي مع الشعوب
العربية في استعمال الحروف القديمة مما يؤدي إلى ارتباط القلوب وتوثيق عرى
الصداقة بين الترك والعرب؟ ونحن نجيب بالسلب ... فإن ذاك إنما هو ارتباط
صوري لا قيمة له! ! ! ولا أدل على هذا من التاريخ الذي برهن على عدم ذلك
الارتباط!
فانظر يا رعاك الله إلى هذه المكابرة ونكران الجميل؟ انظر إلى هذه الجرأة
على التاريخ إلى هذا الحد في بلد من أعظم عواصم الإسلام والعربية ينكر ما جناه
الترك من الفوائد العظيمة التي نجمت من ارتباط الترك بالعرب كل هذه السنين
ولولاها لما كان الترك شيئًا مذكورًا في هذا الوجود.
إني والله لأخجل من الرد على رجل يمثل دولته إذا حاولت أن أبين له ما
يعرفه صغار التلاميذ كما أني لشديد الأسف على هذا العداء الذي يجاهر به
الكماليون العرب ودين الإسلام وهم لولا الإسلام والعربية لما كانوا سوى طوائف
متوحشة وقفت نفسها على التخريب والتدمير والحروب وسفك الدماء.
فإذا جاز نكران الجميل بين الناس فلا يجوز أن ينكر الترك فضل العرب إلى
هذا الحد، ولا سيما في بلاد العرب نفسها.
وبعد فإني أدعو جميع الغيورين من المسلمين إلى رفع برقع مجاملة الترك،
وإلى الوقوف في وجه الكماليين للدفاع عن الإسلام قبل أن يطغى سيل إلحادهم على
بلاد المسلمين، وقد نجمت قرونه في إيران وأفغانستان، وأُذَكِّر إخواني المسلمين
أن الجمود إزاء هذه الحركات ليس كالجمود أمام حركات المبشرين.
ومن يستطع الجهاد وقتل هذه الروح الشريرة التي تمليها البولشفية على أنقرة
ولم يفعل فهو آثم قلبه، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الرافعي
(تنبيه)
وقع في هذه المقالة، وفيما بعدها كلمات يُظَنُّ أن الترك يعدونها طعنًا في
شخص رئيس جمهوريتهم مصطفى كمال باشا والأمور الشخصية غير مقصودة لنا،
وإنما نحن ندافع عن ديننا ونغار على شعب الترك الإسلامي، وقد استشرنا بعض
كبار علماء القانون في المقالتين بعد طبع الجزء وإعداده للتوزيع فأشار علينا بأن
نعيد طبع المقالتين، ونغير فيهما بعض الجمل والكلم من باب الاحتياط ففعلنا؛
ولذلك تأخر الجزء وكتبنا هذا التنبيه في الطبعة الثانية.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: من سخافة الكاتب وسخافة من يخدمهم إطلاق اسم الدين الإسلامي بعد الغلو في ذمه على ضلالة الترك الكماليين مع إطرائها وسنبين سائر سخفه وخطله بعد.
(2) المنار: أخبرني أحمد مختار باشا الغازي أنه لما كان في طور التعلم لم يكن للغتهم قاموس ولا نحو ولا صرف وأنه لما حاول مصطفى رشيد باشا تعليم بعض الترك الإفرنسية لم يمكن تعلمها إلا لطلبة العلم الديني الذين يعرفون العربية.
(3) المنار: نعم إن هذا كل ما يبغون لينسوا شعبهم هذا الدين وكل ما يذكرهم به؛ لئلا يعودوا إليه بعد موتهم، ونحن قد صرحنا بهذا في تفسير الجزء الثامن وفي المنار قبل وقوعه.(29/456)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام
وتعليق على المقالة السابقة
1 - فكرة ترك الإسلام في ملاحدة الترك:
سافرت في أواخر رمضان سنة 1327 (أكتوبر سنة 1909) أي في أول
سني الدستور العثماني إلى الآستانة للسعي لأمرين: (أحدهما) تأسيس (جمعية
للدعوة والإرشاد) تستعين على عملها بإنشاء مدرسة كلية إسلامية وتوثيق الروابط
بين الدولة والمسلمين (وثانيهما) السعي للتأليف بين العرب والترك؛ إذ كانت
العصبية التركية الجنسية قد نجمت قرونها وبدأت بنطاح العرب وغيرهم من
عناصر الدولة قبل أن ترتفع وتعلو، وأقمت في الآستانة سنة كاملة كنت فيها
عزيزًا مكرمًا من رجال الدولة وزعماء جمعية الاتحاد والترقي، وتيسر لي بذلك أن
أكشف الستار عن إلحاد هؤلاء الزعماء وعزمهم على محو الإسلام من الشعب
التركي وتأسيس دولة تركية محضة، وجعل الولايات العربية مستعمرات لهذه
الدولة، وتتريك سائر العناصر العثمانية، ومن تقدر على تتريكه من العرب أيضًا.
وقد اجتمعت هنالك برئيس الجمعية التي تشتغل بما سموه تطهير اللغة
التركية من الألفاظ العربية وأعضائها وناظرتها، فاعتذروا لي عن عملهم بأنه فني
محض لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة، وإنما الغرض منه تسهيل التعليم على
عوام الترك ولا سيما فلاحي الأناضول، وقد أقمت عليهم الحجة كما شرحته في
المقالات التي نشرتها في الآستانة نفسها بالعربية والتركية وفي مقالات (رحلة
الآستانة) .
فمصطفى كمال باشا لم يبتكر شيئًا مما يسمونه التجديد، وإنما سنحت له
الفرصة لتنفيذ ما قرَّره من قبله من جماعة (جون ترك) بتأثير ساسة الإفرنج
المستعمرين ودسائس الروس الطورانيين، ولعلمي بهذه المقاصد صرَّحت في المنار
وفي تفسير القرآن أيضًا بأن الترك الكماليين يقصدون من ترجمة القرآن التمهيد
لمحو الإسلام من الشعب التركي، وكان ذلك قبل إعلانهم للحرب على الإسلام.
وإنني من ذلك العام بارزت الاتحاديين العداء وأطلقت عليهم لقب
(الملاحدة) وأنا في الآستانة، وأطلقت لساني بانتقادهم حتى إن طلعت بك أو
باشا قال للدكتور عبد الله بك جودت وقد لامه هذا على عدم تنفيذه لمشروع
الجمعية والمدرسة: نحن ما قصرنا مع رشيد أفندي بل كرَّمناه ولكنه يطعن فينا شديدًا
وصل إلى حد الرذالة.
نعم إنه كرَّمَني بالحفاة القولية والفعلية وبالدعوة غير مرة إلى طعامه وكان
يقدمني على مائدته حتى على كبار علماء المشيخة الإسلامية كمستشارها وعلى
غيرهم، وعرض عليَّ أن يعطيني في كل عام عشرين ألف جنيه عثماني من
الذهب للقيام بشئون المدرسة على أن لا تكون تابعة لجمعية إسلامية.. .) بل
مشايعة لجمعية الاتحاد والترقي، فلم أقبل، وقد كتبت كل هذه التفصيلات في عهد
دولتهم وصولتهم، ومع هذا يفتري عليَّ المفترون من ملحد ورافضي بأنني لم
أتحول عنهم إلا بعد سقوطهم كما زعموا مثل هذا الزعم في خصومتي للشريف
حسين وأولاده سواء.
***
2 - خطة الكماليين تنفيذية لا إنشائية:
إن دولة الترك الكمالية الجديدة قد وجدت من ملاحدة القواد والضباط وغيرهم
أعوانًا كثيرين على تنفيذ كل ما كانوا قرَّروه هم وإخوانهم، وكل ما كانوا يتمنونه
بعد أن صار بيدهم قوتا الدولة العسكرية والمالية، ولما يتم لهم ذلك كله فيما ظهر
لنا بعد ذلك فله بقية منها تغيير الصلاة باختراع صلاة جديدة هي كصلاة
البروتستانت كما قال الكاتب السويسري: ولكنهم يمهدون للشيء ثم ينفذونه على
الطريقة التي سماها مصطفى كمال باشا (سياسية المراحل) كما مهَّدوا لإلغاء
الخلافة بنصب خليفة روحاني لا عمل له، وكانوا أولاً يحسبون أكبر حساب
لاحتماء الشعب التركي الذي يغلب على سواده الأعظم التدين بالإسلام وتألبه عليهم،
فلما شرعوا في العمل رأوا أن المعارضة ضعيفة فقد كان أقواها ثورة الأكراد التي
تعبت القوى العسكرية في القضاء عليها، وأما ما عداها من الائتمار السري
بالاغتيال وهو لم ينقطع فلا ثبات له أمام سلطان الحكومة العسكري القاهر
وجواسيسها الكثيرة، فأوجفوا في سيرهم بقطع المراحل بسرعة البخار، وكانت
تقدر بسير الرجلين أو سير البغل والحمار، وهذا الذي جرَّأ ملاحدة الأفغان وإيران
على اتباع خطوات الشيطان بترك الهداية الدينية إلى الإباحة المادية، على ما بين
شعوبهما والشعب التركي وما بين زعمائهما وحكوماتهما من الفروق، فالشعب
التركي قد ذللته لقواده وحكومته الخدمة العسكرية العامة، وسلطتها القاهرة،
وأضعف شكيمته الفقر ونكبات الحرب المتوالية، التي اشتدت وطأتها في حرب
البلقان فالحرب العامة، والملاحدة في قواده وضباطه وأطبائه وحكامه كثيرون بما
مارسوا من التعاليم الأوربية وما تمرسوا به من مخالطة ساسة الإفرنج من زهاء
قرن، والشعبان الإيراني والأفغاني ليسا كذلك، والملاحدة فيهما قليلون، وسنبين
هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سنكتبه فيما سعينا له من صد الأفغانيين عما هم
عرضة له من الإلحاد.
***
3 - ما يطمع فيه مصطفى كمال بنجاحه:
كان مصطفى كمال باشا بنجاحه في تنفيذ مقاصد جماعة (الجون ترك) بأن
يكون مؤسس دولة تركية جديدة تنسب إليه فقال الدولة الكمالية، كما كان يقال
الدولة العثمانية، ولذلك بذل جهده ونفوذ سلطانه الشخصي في طرد أسرة آل عثمان
من بلادهم ومصادرة أملاكهم، ومحو ذكر دولتهم وسلاطينهم إلا بالسوء والطعن،
ولعمري إنها لنفس كبيرة، وهمة بعيدة، وإن كنا نحن المسلمين نستنكر هذه الخطة
الجديدة وكثير من العقلاء يرون أنها غير سديدة.
ثم صار يطمع بأن يكون مؤسس أمة جديدة بتأسيس لغة جديدة ودين جديد
للشعب التركي الرومي الموجود في الأناضول وبقية الرومالي وفيما انتزعوه من
قطر سورية والعراق العربيين، واللغة والدين أقوى مقومات الشعوب ومميزاتها
ولا يبعد عليه بعد ذلك أن يستبدل لقب (كمالي) بلقب (تركي) الذي يحافظ عليه
إلى الآن، كما حافظ على اسم الإسلام مدة قليلة من الزمان، وهو لم يبق للترك
شيئًا من مقوماتهم ولا من تاريخهم الذي كانوا به أمة مجيدة ذات دولة عزيزة، كما
أنه لم يبق من شريعة الإسلام شيئًا، حتى إن داعيتهم الكاتب السويسري يصرح بما
لقَّنوه إياه من الطعن بكل ما جاء به نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه حتى
الطهارة والصلاة فجعلوهما مما ذموه من خرافات الإسلام المنافية للحضارة العصرية
الأوربية! التي يقلدهما ملاحدة الترك ويتكلفون انتحالها لزعمهم أنهم مساوون
لشعوب أوربة أو لتوهمهم أن التكحل كالكحل، وأن لا فرق بين الطبيعة والمنتحل،
بل افتروا في الطعن على الإسلام ما لا يخفى على عاقل جهلهم وسخفهم فيه، حتى
مستأجرهم الكاتب السويسري على ما في كلامه من كذب وتناقض وتشويه للحقيقة.
***
4 - الطهارة والوضوء في الإسلام:
يقول هذا الكاتب: إن من سيئات الإسلام وجوب الوضوء للصلوات الخمس
الذي هو عبارة عن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين
إلى الكعبين، ثم يقول عن بعض ملاحدة الترك: إنه ترك الصلاة وفرَّ من المسجد
هربًا من الرائحة الكريهة التي تنبعث من أرجل المصلين! فيا للفضيحة! كيف
يعقل أن تكون رائحة المصلين الذين يغسلون أرجلهم عند إرادة الصلاة كريهة لا
تطاق عقب غسلها مع أنهم يكررون هذا الغسل خمس مرات كل يوم كما يقول؟
وقد أجمع الأطباء والعقلاء على مدح هذه المزية من مزايا الإسلام وتفضيله بها على
غيره حتى إن بعض أطباء فرنسة الكبار أسلم في هذا العهد بسبب اطلاعه على
نصوص الطهارة في القرآن وغيرها، مما يتعلق بحفظ الصحة ووجدانه إياه موافقًا
لأحدث ما تقرَّر في طب هذا العصر، وقال: إنه لا يمكن أن يصل رأي رجل أمي
ولا متعلم من العرب إلى ذلك في العصر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
ويا ليت شعري كيف يصدر من عاقل يحترم نفسه ذم النظافة وجعلها سببًا للقذارة،
وعدّها منافية للحضارة؟ إذن تكون الحضارة الأوربية مبنية على تفضيل النجاسة
والقذارة، على النظافة والطهارة، ولهذا يفضلها الترك وأنصارهم على المدنية
الإسلامية التي تعد الطهارة من أهم فرائضها، ولعل هذا الكاتب من المسيحيين
الذين تمر السنين ولا يغتسلون استغناء عن الغسل والطهارة بالمعمودية النصرانية،
فقد أخبرني مستر متشل أنسن الذي كان وكيلاً للمالية بمصر أن الإنكليز هم الذين
علَّموا أوربة كثرة الاستحمام بعد أن تعلموها هم في الهند وأنه لا يزال في أوربة من
تمر عليه السنة أو السنين ولا يستحم فيها.
وأما ما نوَّه به السويسري من العسر في الوضوء فنجيب عنه بأن العسر قد
يكون في غسل الرجلين لو كان حتمًا في كل وقت على من يلبس الجوارب
والخفاف والأحذية الجلدية، وليس الأمر كذلك، فإن من يلبس في رجليه ما
يسترهما وهما طاهرتان يجوز له أن يمسح على الساتر لهما بيده المبللة بالماء بدلاً
من غسلهما، ومن قواعد الإسلام الأساسية رفع الحرج والعسر من جميع أحكامه
كما هو منصوص في القرآن الحكيم، ويجوز لمن يلبس حذاء نظيفًا أن يصلي فيه،
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بنعالهم، ونسكت عن هذيانه
في سرقة ثياب المصلين وجعلها كأنها من لوازم الصلاة.
***
5- شبهة ضرر السجود على الأرض:
إن أقوى شبهات هؤلاء الملاحدة على صلاة الإسلام هي السجود على الأرض،
وهي غير مقصورة عليهم، بل روي أن الاستنكاف من وضع الوجه على الأرض
خضوعًا لله تعالى قد كان مانعًا لبعض مشركي العرب المتكبرين من الدخول
في الإسلام أو عذرًا اعتذر به، ولكن لا يقع مثله من مؤمن بالله تعالى وبالدين
الذي يأمر بالسجود له عز وجل، ولمتفرنجي هذا العصر شبهة على السجود
غير استنكاف الكبرياء، وهو أن بعض أرجل المصلين المصابين ببعض الأمراض
تؤثر في موضع وقوفهم للصلاة تأثيرًا يضر من يسجد في مواضع وطئها بما قد
ينفصل منها من (ميكروبات) المرض.
ذَكر لي هذا طبيب عربي فقلت له: إن هذا أمر نادر الوقوع لا يخلو كل
مجتمع يكثر فيه الناس من مثله، ولا سيما حيث يزدحمون كمجامع الحفلات المدنية
والسياسية ومسارح التمثيل وغيرها، ولا نرى الأطباء ينهون عنها إلا في أوقات
بعض الأوبئة، وإن التنطع والإفراط في التوقي من جراثيم الأمراض في كل وقت
قد يكون ضرره أكبر من نفعه، وإنكم تقولون يا معشر الأطباء: إن الأجسام
تتعرض لميكروبات الأمراض القليلة في الأحوال العادية تكتسب مناعة يقل فيها
تأثيرها بعد تعودها حتى إنها قد تكون واقية له من الإصابة بها في الحالة الوبائية
كما يستفيد الذي تلقحونه بقليل من مصل الجدري وغيره مناعة يأمن بها أن يصاب
بالثقيل منه، وتقولون: إنه لو فرض أن رجلا نشأ في قلة جبل حيث الهواء النقي
الخالي من جميع ميكروبات الأمراض وأشعة الشمس الدائمة المانعة من التعفنات
والماء الزلال الجاري الذي لا تشوبه شائبة ثم ترك هذا المكان وخالط الناس في
المدن التي تكثر فيها الأمراض فإنه يكون أشد استعدادًا للعدوى من جميع من نشأ في
تلك المدينة.
قامت لي الحجة على هذا الطبيب لبنائها على أصول علمه فاعترف بها،
وأقول مع هذه: إنه يمكن أن تجعل صفوف المصلين في المساجد منظمة بحيث
يكون موطئ الرجلين في الوقوف غير موضع الوجه للسجود، وقد رأيت بلاط
بعض مساجد الهند صفوفًا مقسمة بالرخام الملون في كل صف منها ما يشبه سجادة
الصلاة لكل فرد من المصلين.
***
6- الزي الإفرنجي والصلاة:
وأما جعله لبس السراويلات الإفرنجية مما يصدُّ عن الصلاة فقد رأيت في
مصر من يعتذر عن ترك الصلاة بمثل ما ذكره الكاتب من اتقاء تجعيد كي سراويله
وهذا لا يقع من مسلم يدين بالإسلام، وإنما هذه أعذار من نسميهم المسلمين
الجغرافيين، وقد قال الدكتور سنوك الهولندي المستشرق الشهير إن أكثر الذين
يلبسون هذه الملابس الإفرنجية من المسلمين يتركون الصلاة أي وترك الصلاة
مقدمة لترك الإسلام، بل هو منه عند بعض الأئمة كأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى،
وأخبرني بعض نظار المدارس الأميرية أنه كان يأمر التلاميذ بالصلاة فامتنع
بعض أولاد الباشوات معتذرًا بأمر أبيه له بعدم الصلاة؛ لئلا يتجعد أسخف سراويله
(بنطلونه) فما هذا الوالد الزنديق الذي يحب أن يجعل ولده المخنث كأنه في زيه
الجميل مصبوب من قالب لا يتغير ولا يتبدل كأنه من شحنة مدرسة البوليس
المصري في الزي الذي اخترعه لهم الإنكليز؛ لئلا يصلي أحد منهم.
***
7- محاسن الصلاة الإسلامية ومزاياها:
ألا إن الصلاة الإسلامية نفسها لأكمل عبادة شرعها الله لعباده المؤمنين على
ألسنة رسله عليهم السلام، فهي جامعة لأعلى المناجاة الروحية لله تعالى ذكرًا ودعاءً
وخشوعًا وأدبًا ولأنفع الرياضة الجسدية بتحريك جميع الأعضاء في القيام والركوع
والسجود ولا سيما التورك في التشهد الأخير والسجود على رءوس الأصابع،
وصلاة الجماعة مقتضية أفضل وسائل المساواة الاجتماعية بين الغني والفقير
والمأمور والأمير والرئيس والمرءوس بوقوفهم في صف واحد.
وقد نقل إلينا عن بعض علماء الإفرنج المستقلين الإعجاب بهذه الصلاة حتى
خصوم الإسلام منهم فقد قال الفليسوف رينان الفرنسي: إنني ما رأيت المسلمين في
مسجد يصلون جماعة إلا وتمنيت لو كنت مسلمًا أو قال: احتقرت نفسي لأنني غير
مسلم، ولما طعن في الإسلام في خطاب له في السربون ذكره الفليسوف المنصف
غوستاف لوبون بقوله هذا فاعترف به.
وقد افتتح الكونت (هنري دي كاستري) كتابه (الإسلام: خواطر وسوانح)
بمقدمة ذكر فيها ما رآه في سياحته في الشرق من صلاة المسلمين صلاة الجماعة
ووصف من إعجابه بها وتأثيرها في نفسه أنه احتقر نفسه تجاه جماعة من الفرسان
كان استخدمهم للسير في خدمته في صحاري حوران وكان يراهم في غاية الخضوع
والإجلال له وكانوا ثلاثين فارسًا من العرب يتقدمهم حَادٍ ينشدهم أناشيد أكثرها في
مدحه قال ما ترجمته بقلم المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول:
(وبينما نحن سائرون على هذه الحالة؛ إذ سكت الشاعر والتفت قائلاً
بصوت خشن: سيدي الآن وقت العصر، هنالك ترجلت الفرسان واصطفوا لصلاة
العصر مع الجماعة، وصلاة الجماعة مفضلة عند الله في اعتقاد المسلمين كما هي
كذلك عند المسيحيين، أما أنا فقد ابتعدت عنهم، وكنت أود أن لو انشقت الأرض
فابتلعتني، وجعلت أشاهد البرانس العريضة تنثني وتنفرج بحركات المصلين
وأسمعهم يكررون بصوت مرتفع (الله أكبر، الله أكبر) فكان هذا الاسم الإلهي
يأخذ من ذهني مأخذًا لم يوجده فيه درس الموحدين، ومطالعة كتب المتكلمين،
وكنت أشعر بحرج لست أجد لفظًا يعبر عنه سببه الحياء والانفعال، أحس بأن
أولئك الفرسان الذين كانوا يتدانون أمامي قبل هذه اللحظة يشعرون في صلاتهم
بأنهم أرفع مني مقامًا وأعز نفسًا، ولو أني أطعت نفسي لصحت فيهم (أنا أيضًا
أعتقد بالله وأعرف الصلاة وكيف أعبد) فما أجمل منظر أولئك القوم في نظامهم
لصلاتهم بملابسهم وجيادهم بجانبهم أرسأنها على الأرض وهي هادئة كأنها خاشعة
للصلاة، تلك هي الخيل التي كان يحبها النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا ذهب به
إلي أنه كان يمسح خياشيمها بطرف إزاره عملاً بوصية جبريل عليه السلام، وكنت
أرى نفسي وحيدًا في عرض هذه الصحراء على ما أنا به من اللباس العسكري
الضيق الذي يبرم فيه الجسم الإنساني بغير احتشام تلوح عَلَيَّ سمات عدم الإيمان
في مكان هو مسقط رأس الديانات كأنني من الحجر أو من الكلاب أمام أولئك القوم
الذين يكررون إلى ربهم صلوات خاشعة تصدر عن قلوب ملئت صدقًا وإيمانًا.
(وبينما أنا كذلك إذ جال بخاطري، ما رود في التوراة من أن الله يسكن
خيمة سام ويكثر من أولاد يافث، وقد كان الفريقان مجتمعين في ذلك المكان،
أولئك المصلون الذين هم من ولد سام معجبون بدينهم وعبادة ربهم ورب آبائهم الله
الذي دخل خيمة إبراهيم، وأنا ابن يافث الذي يمتد ذكره بالحرب والفتوح، ولما
انتهى بنا الطريق ورجعت إلى مكان راحتي جعلت أكتب ما علق بذهني من الأفكار
فأحسست أني منجذب بحلاوة الإسلام كأنها أول مرة شاهدت في الصحراء قومًا
يعبدون خالق الأكوان، وذكرت خيام النصارى لا متعبد فيها غير النساء وأخذني
الغضب من كفر أبناء المغرب وقلة إيمانهم) اهـ.
وقد رأيت جميع المصريين يسخرون من تقليد الترك الكماليين لصلاة
البروتستانت حتى ملاحدتهم وطلاب التجديد الذين يعبرون عنهم بالمصلين، ولم أر
أحدًا استحسن ذلك منهم إلا إبراهيم بك الهلباوي المحامي المشهور وود أن يتبعهم فيه
جميع المسلمين، وقال لي: إنه قد أفتى هو والأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش
خوجه كمال الدين الهندي الذي يدعو إلى الإسلام في إنكلترة بأن يقبل من نساء
الإنكليز المسلمات أن يتركن السجود على الأرض في صلاتهن؛ لأن زيهن المحزق
(الضيق) يضايقهن فيه فاكتفى منهم بما دون ذلك وسأسأل الأستاذ جاويش عن
حقيقة هذه المسألة.
***
8- رأي كُتَّاب الغرب والشرق في الانقلاب التركي:
نحن نوافق صديقنا الرافعي في أن أعداء الإسلام من ساسة أوربة
كالمستعمرين والمبشرين يشايعون الترك الكماليين، ويحمدون عملهم ويسمونه
إصلاحًا ويرغبون فيه، ولا غرو فإننا نرى ملاحدة المسلمين وزنادقتهم يفعلون
وينوهون به في الصحف ويسمون مصطفى كمال باشا المصلح المجدد، فما بالك
بكُتَّاب النصارى من الملاحدة ومن المتعصبين لملتهم في الباطن، فهؤلاء أشد نصرًا
للكماليين ونشرًا لمفاسدهم وترغيبًا لسائر المسلمين في اتباعهم حتى في لبس
البرانيط.
وأما أحرار أوربة وفلاسفتها فقد سخروا ولا يزالون يسخرون من إكراه
مصطفى كمال باشا للترك على لبس البرنيطة، ومن محبي الترك أو دولتهم في
ألمانية من رثى لهم وحزن عليهم، وصرَّح بأن القلبق التركي يفوق البرنيطة
الإفرنجية جمالاً ومهابة.
وانتقدوا تقليدهم لأوربة في قوانينها بترجمتها لتنفيذها في الشعب التركي
المباين للشعوب الأوربية في تاريخه وتربيته وعقائده وتقاليده وأخلاقه وعاداته،
وهي الأسس التي تبنى عليها القوانين وتجب مراعاتها في وضعها، ولا يرون لها
فائدة بدون ذلك، ويسخرون ممن يظن أن القوانين تغير الشعب وتنشئه خلقًا جديدًا
سريعًا كما يحاول مصطفى كمال باشا.
وقد نشرنا من قبل ما قاله لورد كتشنر للسيد عبد الحميد الزهراوي في مصر
على مشهد ومسمع منا، ونشرناه في حال حياتهما ونقلته عن المنار إحدى الصحف
الأوربية متعجبة من حرية اللورد كتشنر أو مستنكرة لقوله، قال له: إن الغرض
من القوانين العدل وهي لا تفيد في الأمم إلا إذا كانت موافقة لأخلاقها وتقاليدها
وعندكم الشريعة الإسلامية شريعة عادلة وهي الموافقة لحال أمتكم فما بالكم تتركونها
وتحاولون العمل بقوانيننا التي لم تكن موافقة لحال أمتنا إلا بعد تنقيح عدة قرون.
***
9- حقيقة حال الشعب التركي:
يزعم الترك الكماليون تبعًا لزعيمهم أن الشعب التركي شعب عظيم راق لم
تعد تصلح له شريعة عتيقة كالشريعة الإسلامية، ويتجرأ الوقحون المجاهرون
بالإلحاد منهم على ذم هذه الشريعة وذم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي
جاء بها وذم قومه العرب في مقام الترفع عن صلاحيتها للشعب التركي العظيم،
وقد نقل إلي وأنا في الآستانة أن أحد باشاواتهم قال: لو أعلم أن شعرة في جسمي
تؤمن بهذا العربي (يعني خاتم النبيين وإمام المرسلين صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله) لقلعتها مع ما حولها من جلد ولحم وألقيتها.
أنا لا أعرض هنا للرد على هؤلاء المغرورين ببيان فضل الشريعة الإسلامية
على البشر عامة وعلى الترك خاصة، ولا بتحقير العرب بالمفاضلة بينهم وبين
الترك وذكر شهادة فلاسفة أوربة على ذلك، بل أقول كلمة حق وجيزة في حقيقة
حال الشعب التركي ربما أعود إلى بسطها في مقال آخر؛ إذ قد طال هذا المقال،
وربما صار مملولاً بضمه إلى ما قبله في موضوعه العام، وإن كان في الحقيقة عدة
مقالات مختلفة الموضوع.
الترك جيل حربي بالطبع، موصوف بعزة النفس، وشدة البأس، وحب
الغلب والسيادة، وهي صفات تعد أهلها لأن يكونوا من أرقى الشعوب لولا الموانع،
وقد كان همجيًّا في حروبه قاسيًا في معاملاته، مخربًا للعمران الذي يستولي عليه،
فهذَّبه الإسلام بقدر استعداده للتهذيب فكان له بالإسلام دولة عزيزة، ولكن الحرب
التي هي أقوى ملكاته لم تدع له وقتًا يصرفه إلى العلوم والفنون التي هي من لوازم
قوة الدولة وسعة سلطانها، وكان من أعظم أسباب حرمانه من الحضارة العلمية
الفنية أن لغته كانت لغة همجية ضيقة لا مجال للعلوم والفنون فيها، ولغرور الدولة
العثمانية بتركيتها لم تقتبس لغة الإسلام مع عقيدته وشريعته فتجعلها لغة الدولة
والعلم والفن بل حصرتها في المدارس الدينية والمشيخة الإسلامية بقدر الحاجة إليها
في فهم الشريعة على مذهب الحنفية التي اختارت تقليده.
وقد اقتبس الإفرنج من الحضارة الإسلامية علومها وفنونها بمخالطة العرب
في الأندلس وكذا في الشرق بسبب الحروب الصليبية ما لم يقتبس مثله الشعب
التركي لضعف استعداده وضيق لغته، فولدت الحضارة الأوربية الحاضرة مما
اقتبسه أهلها من المدنية العربية الغابرة كما اعترف بذلك المستقلون من فلاسفتهم
ومؤرخيهم، تلك المدنية العربية الزاهرة التي قضى عليها الترك بما مهَّد لهم بنو
عمهم التتار من التخريب والتدمير، فكانوا مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يعد من دلائل نبوته: (اتركوا الترك ما تركوكم فإن أول من يسلب أمتي
ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء) .
الترك هم الذين وقفوا حضارة العرب ومدنيتهم وحالوا دون استمرارها بل
أماتوها بسلب ملكهم ولم يستطيعوا هم أن يحلوا محلهم فيها ولا أن ينشئوا حضارة
جديدة، وإنما استطاع ذلك الإفرنج، فكانوا كلما تقدموا في العلوم والفنون إلى الأمام
يرجع الترك إلى الوراء، حتى فقدوا تفوقهم العسكري في أوربة بجهلهم للفنون
العسكرية والصناعات الحربية التي استحدثها الإفرنج وعجزوا عن مضاهاتهم فيها
وعن اقتباسها منهم بل صاروا عيالاً عليهم ولا يزالون يبتاعون منهم الأسلحة
والبوارج الحربية فالطيارات الحديثة إلى اليوم، ولولا تنازع دول أوربة الكبرى
على ممالكهم ولا سيما مركز القسطنطينية لزالت سلطنتهم منذ قرون أو قرنين،
على أنهم ما زالوا ينقصونها من أطرافها حتى زالت بالحرب العالمية الأخيرة ولم
يبق لهم منها إلا عقرها في الأناضول وبعض الرومللي.
إن هذا الشعب على جهله الذي أضاع منه أعظم سلطنة (إمبراطورية) في
قلب العالم تولى أمرها بضعة قرون ولم يستطع أن يستخرج شيئًا من كنوز أرضها
الثمينة، ولا أن يجني منها ثروة تُذْكَر، ولا أن يترك فيها أثرًا عمرانيًّا يحمد، لم
يفقد بهذا الخسران المبين والجهل الفاضح شيئًا من كبريائه وعنجهيته ودعوى
زعمائه أنه أرقى شعوب الأرض فلا يليق به الخضوع لأعدل الشرائع وأكمل
الأديان (الإسلام) ولا أن ينسب إلى الشرق المنحط؛ لأنه مساو لأعظم دول
الغرب، وإنما الواجب عليه أن يقلدها في أزيائها وسائر لبوسها وشر عادتها كإباحة
المسكر ورقص النساء والرجال وإباحة الكفر والفواحش، ثم في قوانينها حتى
الشخصية منها، بل زاد في عهد الكماليين كبرًا وخنزوانة بما أتيح له من الانتصار
على اليونان، وما اليونان؟ وما قيمة الانتصار عليهم؟ لولا ما أتيح له من وراء
ذلك وهو اعتراف أوربة في معاهدة لوزان باستقلاله المطلق فيما بَقِيَ له من بلاده،
وإنما كان سبب هذا الاعتراف تنازع دول الحلفاء في سياسة الشرق الأدنى بعد
الحرب، حتى إن إيطالية وفرنسة ساعدتا الترك على حرب اليونان، وقام الشعب
الإنكليزي ينكر على دولته التي كانت تساعد اليونان سياستها هذه لملله وسآمته من
رزايا الحرب ورغبته في الاستراحة من عقابيلها، فأسقط وزارة جورج لويد
المعادي للترك المساعد لليونان وأكره خلفه على خلاف سياسته هذه.
هذا ما غر هؤلاء الترك الكماليين فحملهم على هذه الدعاوي العريضة وعلى
ما قاموا به مما يسمونه ويسميه الملاحدة المتفرنجون منا بالإصلاح والتجديد، فأما ما
كان منها في الأزياء والعادات وإباحة الكفر والفسوق فكله إفساد للأرواح والأخلاق
والآداب التي لا يحيا شعب بدون حياتها وصلاحها، وأما ما كان منها في ترقية
الزراعة والصناعة والنظام العسكري فإننا نعترف بأنه إصلاح لا بد منه، والدين
الإسلامي يوجبه ويحث عليه.
وأما القوانين المنتزعة من دول أوربة فهي في جملتها مُفسدة للشعب التركي
غير مُصلحة ولا مُعينة على الإصلاح لما أشرنا إليه من آراء علمائها في سبب ذلك،
وتقليد الترك لأوربة في قوانينها قديم ليس من مبتكرات مصطفى كمال باشا، فهم
قد توجهوا إلى ذلك من عهد السلطان محمود الذي ولي السلطنة سنة 1222 وبدءوا
بالتنظيم العسكري والزي الأوربي ما عدا البرنيطة، ثم جددوا ذلك بإعلان
التنظيمات الخيرية في أول عهد السلطان عبد المجيد الذي ولي سنة 1255 مما
قامت ثورة المتفرنجين في آخر مدة السلطان عبد العزيز الذي استعصى عليهم
بشجاعته وقوة إرادته ... ثم أعلنوا القانون الأساسي عقب تولية السلطان عبد الحميد
سنة 1293 أي منذ نصف قرن، وهو على توقيفه له قد نشر باسمه عدة قوانين
مقتبسة من قوانين أوربة (كما انتشرت المدارس الأوربية للمبشرين بالنصرانية
الأميرية المتفرنجة) ولم تزدد العدالة بتلك القوانين والمدارس إلا ضعفًا ومرضًا،
وما ذلك إلا لأنها تقليد صوري لأوربة سببه توهم المغرورين من الترك أنهم
يساوونها به وإن لم يكن أكثره موافقًا لحال شعبهم، على أنهم لم ينفذوا شيئًا منه كما
يجب، كما أنهم لم ينفذوا الشريعة، بل كان مدار أحكامهم ومحاكمهم على الرشوة
التي تحاول حكومتهم استئصالها؟ وأول ما فعلته في ذلك محاكمة وزير بحريتها
السابق وبعض كبراء رجالها على رشوة عظيمة في وزارة البحرية.
وجملة القول أن الترك قد دخلوا الآن في فتنة تجربة جديدة واسعة النطاق
شديدة الخطر يظن زعماؤهم من القواد الحربيين أنها منهم على طرف التمام؛ لأن
العقيدة الغريزية فيهم أن القوة العسكرية تعمل كل شيء، فلننتظر عاقبة هذه
التجربة بعد فشلهم في جميع التجارب الماضية، فإنما العلم بها عند الله تعالى وإنما
نعرف نحن بعض أسباب الأمل والفشل.
فأما أسباب الأمل فهي محصورة في قوة إرادة الزعماء مع ضعف الشعب،
وفي كثرة أعوانهم المتفقين معهم على خطتهم كما تقدم، وفي تمكنهم من إبعاد القواد
والضباط ورجال الإدارة والقضاء المخالفين لها عن المعسكرات ودواوين الحكومة
بالقوة القاهرة، وفي بناء كثير من أعمالهم العسكرية والاقتصادية على قواعد الفنون
العصرية.
***
وأما أسباب الفشل فالمعروف عندنا منها:
(1) أن السواد الأعظم من الشعب الذي يدين الله تعالى بالإسلام تقليدًا
ووجدانًا لا يقبل الجدال ساخط على هذه الحكومة لشعوره بأنها تهدم دينه الذي هو
مناط أمله في سعادة الآخرة، وكذا الدنيا، فإن ما ناله من الملك والعظمة لم يكن إلا
بالإسلام.
(2) ما أصيب به الشعب من الفقر والعوز وعجزه عن أداء ضرائب
الحكومة الكثيرة التي زادت سخطه عليها.
(3) عجز الحكومة عن القيام بما تصدت له من الأعمال النافعة المنتجة
كسكك الحديد وغيرها بكثرة نفقاتها على التأسيسات العسكرية ومظاهر العظمة
المدنية على ما ذكرنا من فقر شعبها وإرهاقها إياه بما فوق طاقته، وإحتكارها لأهم
ينابيع ثروته.
(4) تربص كثير من كبار رجال العسكرية والإدارة بها الدوائر لإسقاطها
وإرضاء الشعب بحكومة ترضيه في دينه ودنياه.
(5) غرور زعماء هذه الحكومة بقوتهم واستعجالهم في هدم دين هذا
الشعب العظيم وتقاليده ومجد سلفه، وقد يكون مع المستعجل الزلل.
__________(29/464)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الجديدة
كتب دينية إسلامية
(التعريف بالنبي والقرآن الشريف)
طبع بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1345 صفحاته 110 بقطع
رسالة التوحيد.
كتاب نفيس مختصر مفيد، تأليف صديقنا صاحب الفضيلة الأستاذ السيد
محمد علي الببلاوي نقيب السادة الأشراف بالديار المصرية، ومراقب إحياء الآداب
العربية بدار الكتب المصرية وموضوعه كما علم من اسمه قسمان في كل منهما
مسائل مهمة وضع لكل منهما عنوان لتسهل الفهم والمراجعة.
فالقسم الأول وهو في التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم يشتمل على مسائل
نسبه وميلاده ووفاة والديه وحضانة جده له وكفالة عمه أبي طالب، وعلى نشأته
وتأديب الله له وبغضه للوثنية وأكله من ثمرة عمله وخطبة السيدة خديجة له
وتزوجه بها وعلى تعبده بغار حراء وظهور ملك الوحي له فيه وتفصيل خبر الوحي
المعروف في البخاري وغيره وتبليغ الرسالة وإيذاء قريش له، ولمن آمن به ثم خبر
الهجرة وما تقدمها من انتشار الإسلام في الأنصار رضي الله عنهم ثم تصدي قريش
لقتاله فيها، وإذن الله تعالى له بالقتال دفاعًا وتأمينًا لدعوته السلمية المبنية على
أساس الدليل والبرهان فقتاله لهم إلى أن نصره الله تعالى عليهم بفتح مكة والقضاء
على الوثنية في جزيرة العرب.
ويلي هذا طرف من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم فالكلام على عموم
رسالته، وحجة القرآن الدائمة عليها، فالكلام على شريعته وما فيها من أصول
الإصلاح التي كانت بها آخر الشرائع، فالكلام على معناه، وأنواعه ووجود
الملائكة.
وأما القسم الثاني وهو التعريف بالقرآن الكريم فيدخل في مسائله التحدي به
والعجز عن معارضته وما تضمنه ووصفه ونزوله منجمًا ومدة نزوله وعدد سوره،
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه ومعنى نزوله على سبعة أحرف (وتحرير
هذه المسألة هو سبب هذا التأليف) فالكلام في كتابته على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وترتيبه فالكلام على جمعه وتدوينه وكتابته في المصاحف وإرسالها إلى
الأمصار ومباحث في كتابته وشكله وعناية المسلمين في كل عصر بكتابتهم له على
الأحرف السبعة.
وختم الكتاب ببيان موجز لما اشتمل عليه القرآن من الأحوال الشخصية
والشئون العمرانية كمسائل الزوجية من المساواة بين الزوجين وتعدد الزوجات
بشرطه والطلاق للحاجة إليه ونظام التوريث وحقوق الوالدين والوصية باليتامى
والاقتصاد والاتحاد والشورى في الأمور وغير ذلك، وهو كما قال قليل من كثير.
جمعت كل هذه المباحث النفيسة في 110 صفحات.
وفي الكتاب مقتبسات من نور رسالة التوحيد للأستاذ الإمام شيخنا وشيخ
المؤلف أثابه الله وأدام النفع بآثاره الصالحة فنحث كل مسلم على مطالعته وقراءته
لأهله وأولاده.
***
(كتاب الدين الإسلامي)
(طبع بمطبعة الرحمانية سنة 1346 صفحاته 98 بقطع رسالة التوحيد) .
كتاب جديد، مختصر مفيد، يتعاون على تأليفه وتحريره ثلاثة من خيار
أساتذة المدارس الأميرية العليا ونابغي خريجي دار العلوم وهم أصدقاؤنا الأستاذ
الشيخ حسن منصور وكيل مدرسة القضاء الشرعي، والشيخ عبد الوهاب خير
الدين المدرس بمدرسة القضاء الشرعي والشيخ مصطفى عنان المفتش بوزارة
المعارف.
وقد نشر الجزء الأول منه في العام الماضي وروعي فيه ما قررته وزارة
المعارف في تعليم الدين للسنة الأولى من طلبة المدارس الثانوية وموضوعه العقائد
وما يتعلق بها من حكمة التشريع وأصول الآداب للدين الإسلامي، ورأينا أن عمدة
الأساتذة المؤلفين لهذا الكتاب في أهم مسائله رسالة التوحيد للأستاذ الإمام أستاذ
الجميع رحمه الله.
ومن العجيب أن جميع أبحاثه في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي
القرآن الحكيم منقول من كتاب (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) للسيد الببلاوي
بنصوصه وعناوينه كما رأيت وهو مثله مقسم أحسن تقسيم ومُبَوَّب أجمل تبويب،
وإن لم تسم أصول مباحثه بالأبواب، ولم تقرن بأرقام العدد ولا بحروف أبي جاد،
وهي:
أ- الدين الإسلامي تعريفه وخصائصه الخمس:
(1) احترام العقل والحث على علوم الكون.
(2) المساواة بين الناس في الأحكام، وما يطلب من طاعة الحكام.
(3) تقرير السلام العام ومن مباحثه حال الإسلام مع غير أهله وحرية
الزوجة في العقيدة، ويعنون به إباحة تزوج المسلم بالكتابية مع بقائها على دينها
تؤدي عباداته كما تعتقد إلخ.
(4) الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
(5) صلاحيته لكل أمة في كل زمان ومكان.
ب- أثر الدين في تهذيب النفس بعقائده وعباداته وآدابه ومعاملاته.
ج- الرسالة والرسل عليهم السلام.
د- المعجزة ومعناها وسبب إظهارها ووجه دلالتها على الرسالة.
هـ- الحاجة إلى الرسالة وبيانها من طريقين ملخص مما هو مشروح في
رسالة التوحيد.
و أقسام المعجزة وأفردت بفصل خاص.
ز- رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبدوء بترجمته في بيان نسبه
ومولده وتربيته وتجارته وزواجه وعبادته وبينها بدؤه خبر الوحي ففترته فتبليغ
الدعوة فإيذائه صلى الله عليه وسلم لأجلها فتصدي المشركين لحربه فالإذن له بالقتال
وغزواته ونصر الله له.
طرف من أخلاقه صلى الله عليه وسلم فخبر وفاته وملخص سيرته صلى الله
عليه وسلم عموم رسالته وبيان كونه خاتم النبيين ونسخ شريعته لما قبلها، والوحي
وأنواعه، ويليه الكلام في القرآن الكريم، وفيه مباحث متعددة - وهي وما قبلها من
مباحث نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مأخوذة من كتاب السيد الببلاوي كما تقدم،
ولكنه ختم بطائفة من الآيات وعشرة أحاديث مختارة لأجل حفظهما، والكتاب جدير
بالتدريس في المدارس الإسلامية الثانوية كلها.
***
(كتاب الإسلام الصحيح)
(طبع مطبعة المنار سنة 1345 صفحاته 123 من قطع المنار يباع بمكتبة
المنار) تأليف صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ سعيد بن محمد الشريف
الزواوي الجزائري الإمام الخطيب بجامع سيدي رمضان بمدينة الجزائر، حمله
على تأليفه فيما نرى ما حدث في بلاد الجزائر في هذا العهد من النهضة الإسلامية؛
إذ قام فيها بعض أهل العلم بمقاومة خرافات أهل الطريق ودجلهم والتقاليد المبتدعة
وأنشئت لذلك صحف مخصوصة قامت بالواجب قيامًا يفوق ما كنا نظن في هذه
البلاد، وقد تناولتها بعض الصحف الخرافية وعارضتها بنشر الثناء على بعض
رجال الصوفية ومشايخ الطرق وأصحاب الزوايا المعروفة، وقد وقف صاحب هذا
الكتاب موقفًا وسطًا بين المختلفين بنشر كتاب في التعريف بالإسلام أصوله وفروع
عبادته وآدابه، مع ميل ظاهر لتأييد ما كان عليه السلف الصالح بعبارات لطيفة
فهو من أنصار الإصلاح الإسلامي المعتدلين.
وقد بدأ كتابه ببيان العقائد الإسلامية من التوحيد والرسالة وقَفَّى عليه بذكر
أصوله وينابيعه ومآخذ أحكامه وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وقَفَّى عليه
بتعريف الإيمان والإسلام، ثم بالكلام على الصلاة والطهارة وما يتعلق بهما وتكلم
بمناسبة وجوب ستر العورة في مسألة حجاب النساء التي اضطرب فيها مسلمو
الأمصار في هذا العهد كلامًا معتدلاً بين إفراط الحجازيين وتفريط السفوريين، ثم
تكلم في سائر أركان الإسلام من الزكاة والصيام والحج، فبيَّن ما رآه ضروريًّا
لجماهير المسلمين من ذلك كله في 32 صفحة من الكتاب.
ثم انتقل إلى بيان الأحكام الإسلامية العامة التي جهلتها جماهير الأمة من
إسلام السلف وإسلام الخلف وكون الإسلام دينًا ذا أحكام وقوانين، وعرف الحكم
الشرعي وأحكام التكليف الخمسة من وجوب وندب وتحريم وكراهة وإباحة، وقَفَّى
عليه بالحكم العقلي والحكم العادي، وانتقل من ذلك إلى بيان معنى المذهب وعدد
المذاهب والبحث في إمكان وحدتها وعدمه والتفضيل بينها والتقليد لها هل يجوز أم
لا؟
ثم انتقل من هذا إلى مباحث التصوف والصوفية وكشفهم ومذاهبهم وما لا
حجة لهم فيه، كالكشف الذي هو أساس معارفهم وقد اجتمعت الأمة حتى علماء
الصوفية منهم على أنه ليس بحجة شرعية، ولا يجوز أن يُبْنَى عليه حكم شرعي،
ثم تكلم في الشيعة الظاهرية والباطنية فأصحاب الطرق واختلافهم، والبحث في
صحة إسلامهم واستغناء الإسلام والمسلمين عن طرقهم، وفي معنى الولي والولاية،
والكرامات، والسحر، والطلسمات والكرامات المزوَّرة، وما يتعلق بالأولياء
وقبورهم من البدع والضلالات وديوان الأولياء، وما أحدثه غلاة المتصوفة
الممتزجين بالشيعة والروافض من القول بعصمة الأئمة والمهدي المنتظر، وختم
ذلك ببيان الفرق الضالة.
ثم أتى بفصل لبعض الصالحين في الأخلاق المذمومة والأخلاق المحمودة،
وقَفَّى عليه بالكلام في كبائر المعاصي والإسلام الصحيح والفرقة الناجية وفرقة
الإسماعيلية الباطنية ودولة الفاطميين والموحدين، وبذلك ختم الكتاب، ولا نقول:
إنه وفَّى هذه المباحث حقها من التمحيص والتحقيق في هذه الورقات، وإنما جاء
بخلاصة قريبة المأخذ يقل أن يجدها الجمهور مجموعة في كتاب مثله في اختصاره
وسهولته.
طبع هذا الكتاب بمطبعة المنار صديق المؤلف صديقنا الفاضل وأحد قدماء
قراء مجلتنا السلفي الغيور الحاج محمد المانصالي من كبار تجار الجزائر ووجهائها
ابتغاء نشر الدين والعلم، وهو يباع في مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة
قروش أميرية.
***
(الإحكام في أصول الأحكام)
الإمام أبو محمد علي (ابن حزم) الأندلسي من أجلّ أئمة المسلمين حفاظ
السنة وفقهاء الملة، وكتابه الإحكام في أصول الأحكام من أجلّ كتب أصول الفقه،
كما أن كتابه (المحلى) من أجلّ كتب الفروع، بل فضَّله سلطان العلماء العز بن
عبد السلام على جميعها هو والمغني للعلامة ابن قدامة الحنبلي.
ونبشر القراء بأن كتاب الإحكام يطبع الآن بمطبعة السعادة بمصر (على نفقه
مكتبة الخانجي) طبعًا جميلاً على ورق جيد، وقد صدر منها جزآن صغيران الأول
في سنة 1345 والثاني في سنة 1346 في كل منهما زهاء 150 صفحة فقط،
وهذا التقسيم للكتب الكبيرة قد اخترعه فيما نعلم الشيخ منير الدمشقي تاجر الكتب
الشهير، وهو مفيد في ترويجها وتسهيل الاشتراك فيها ومسهل لمطالعتها، ولكنه
عائق عن المراجعة بها بعد جمعها في المجلدات الكبيرة؛ إذ جعل لأوراق كل جزء
منها أرقامًا خاصة به كما فعل أصحاب مكتبة الخانجي في كتاب الأحكام على براعة
والدهم الأستاذ محمد أمين الخانجي في فن الطباعة ونشر الكتب.
وقد تولَّى تصحيح الكتاب صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر أحد
قضاة الشرع المشهورين، فمن أراد اقتناءه والتعجل بالاستفادة مما صدر ومما
سيصدر منه قبل تمامه فليراجع (مكتبة الخانجي) للاشتراك فيه وهي مشهورة في
شارع عبد العزيز بمصر، وسنبين فضله ومزاياه بعد تمام طبعه إن شاء الله تعالى.
***
(كتاب إرشاد الخواص والعوام لفعل الواجب وترك الحرام)
(طبع المطبعة الأهلية بالجزائر سنة 1345 صفحاته 111من قطع المنار)
كتاب جليل في نصوص الكتاب والسنة الواردة في النهي عن المعاصي
والأمر بالطاعات أو الترهيب والترغيب (تأليف العالم الفاضل السيد محمد بن عبد
الله ملين) من علماء الجزائر ذكر فيه 31 معصية وزهاء ستين طاعة أو أكثر،
وقد سرد كلاًّ من النوعين سردًا حسب ما اتفق فلم يراع فيها ترتيبًا خاصًّا وهو يعزو
كل حديث إلى من خرَّجه من جامعي كتب السنة كالشيخين وأصحاب السنن وغيرهم،
نفع الله بكتابه وأجزل من ثوابه.
***
(بيان مشروعية الحجاب)
رسالة مختصرة لصاحب الفضيلة، والمزايا الجميلة، محامي الشريعة،
ومجاهد البدع والمعاصي الفاشية، صديقنا الأستاذ الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت،
كتبها بمناسبة ما فشا من تهتك النساء، ودعوة المتفرنجين إياهن إلى هتك
الحجاب، ذكر فيها خلاصة أقوال المفسرين والفقهاء المتعلقة بالموضوع وفنَّد فيها
شبهات السفوريين، وأودعها بعض أقوال علماء أوربة للشرق من غير المسلمين
في الثناء على الشريعة الإسلامية، وقد طبعت في المطبعة الوطنية ببيروت وتوزع
فيها مجانًَا، فجزى الله كاتبها وطابعها وناشرها خير الجزاء.
***
(مجلة الإصلاح)
(صحيفة دينية علمية اجتماعية أخلاقية) تصدر في مكة المكرمة مرتين في
كل شهر، عدد صفحات الجزء منها 24 صفحة من القطع الكبير مديرها الأستاذ
الشيخ محمد الفقي الأزهري رئيس شعبة الطبع والنشر بمكة، وقيمة الاشتراك
السنوي فيها ثلاث ريالات سعودية في الحجاز ونصف جنيه إنكليزي في خارجه،
وقد صدر منها ثلاثة أجزاء أولها في 15 صفر سنة 1347 والثاني في 15 والثالث
30 ربيع الأول منه، وقد استغربنا جعل أرقام كل جزء منها مستقلة غير تابع
ثانيها لأولها، وثالثها لثانيها مع أن مديرها مختبر لأعمال الطبع بما كان من اشتغاله
بالتصحيح في المطبعة السلفية بمصر واختبار شئونها.
وأما موضوع المجلة فهو الإصلاح الإسلامي كما يدل عليه اسمها، وقد ذكر
مديرها في فاتحة الجزء الأول منها أنه كان يتمنى أن يصدر صحيفة دينية علمية
(تضم صوتها إلى صوت المصلحين وتتعاون وإياهم على ما هم بسبيله من دعوة إلى
الحق وإرشاد إلى الصلاح) وذكر أن اتساع دائرة الفساد تدعو إلى إمداد جيش
الإصلاح بما يقوى به على مقاومة هذا الفساد، ثم ذكر أنه لما سنحت له الفرصة
بمقابلة الإمام عبد بالعزيز بن السعود تحدث إلى جلالته بذلك فأجابه الإمام جوابًا
مسهبًا في وجه الحاجة إلى هذا العمل، وما يشترط مراعاته فيه ووعد بالمساعدة
عليه لمن يقوم به على الوجه الذي ذكره، وقد نشره بنصه المفيد فالتزم له ذلك
وشرع فيه.
وكان مما عُني به فيها نشر تفسير للقرآن الغرض من نشره (فهم القرآن من
حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الأولى والآخرة إلخ) فهو
ينحو فيه نحو ما نذكره في الترجمة عن تفسير المنار، بل موضوع مجلة الإصلاح
بعض ما بيناه من مقاصد مجلة المنار عند إنشائها في سنة 1315 فنتمنى أن تكون
خير عون لنا وخير نصير، وقد زارنا مديرها الفاضل فكاشفناه بأهم ما تجب
مراعاته في تحريرها وما نراه من أسباب رواجها، ونسينا أن نذكر له مسألة أرقام
صحائفها فلذلك ذكرناه هنا، وإذا رأينا بعد ذلك حاجة إلى بعض النصائح فلا نبخل
على (الإصلاح) بها.
__________(29/475)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
امتناع بعض علماء الصحابة عن التحديث
وجعل الحديث من أصول التشريع
س27 من حضرة الأمير شكيب أرسلان الشهير بلوزان (بسوسرة أوربة)
حضرة الأستاذ الإمام مَفْزَع الإسلام، في المشكلات الجسام، السيد محمد
رشيد رضا أدامه الله لهذه الأمة علمًا هاديًا، آمين.
إن في الجزء الأول من المجلد التاسع والعشرين من المنار بحثًا من أهم ما
جالت فيه أقلام جهابذة الأصوليين هو المتعلق بأحاديث الصحيحين، وما قيل من
أغلاطها، ورواية أبي هريرة والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها فقد قرأت هذا
البحث مع وفرة شواغلي مرتين أو ثلاثًا، ولا أزال عطشان إلى هذا المنهل العذب
ومترقبًا صدور الكتاب الجديد الذي وعدتم بإخراجه تحت اسم (يسر الإسلام
وأصول التشريع العام) ، ولقد أخذ بمجامع فؤادي قولكم: (إن صحيح البخاري
أصح كتاب بعد كتاب الله ولكنه ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ وليس كل
مرتاب في شيء من روايته كافرًا) .
إني لست بمحدث وليس لي حق أن أبدي وأعيد في الحديث الشريف إلا على
سبيل الاستفادة، ولذلك أرجوكم أن تتفضلوا علينا برأيكم في الروايات الآتية وهي:
في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد الكبرى الصفحة 74 عن عامر عن عبد
الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تُحَدِّث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّث فلان وفلان قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت،
ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعدًا
من النار) .
فظاهر هنا أن الزبير كان يعتقد أنه مهما كانت حافظة الراوي من القوة فلا
يستطيع أن يعيد ما سمعه بدون زيادة أو نقصان، وأنه كان يخشى أن يزيد على
رسول الله أو ينقص من كلامه فتحامى الحديث كله تقريبًا.
وفي صفحة 102 من الجزء المذكور عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن
أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه
وسلم حديثًا حتى رجع، ثم عن يحيى بن عباد عن شعبة: دخلوا على سعد بن أبي
وقاص فسئل عن شىء فاستعجب فقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا المائة.
فهذا صحابي عظيم أيضًا كالزبير وكلاهما من العشرة يعتقد أن الحديث مهما
يكن راويه ثقة يتطرق إليه الزيادة والنقصان.
وفي الصفحة 110 من الجزء المذكور عن عمرو بن ميمون قال: اختلفت
إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته فيها يحدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث
فجرى على لسانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه الكرب حتى رأيت
العرق يَتَحَدَّر عن جبهته ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما
دون ذاك.
وفي الصفحة 111 من الجزء الثالث من الطبقات أخبرنا المعلى بن أسد قال
أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغداني عن الشعبي عن علقمة بن قيس
أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائمًا كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة قال: فنظرت إليه -
وهو معتمد على عصى- فنظرت إلى العصى تزعزع، قال: أخبرنا مالك بن
إسماعيل قال: أخبرنا إسرائيل , عن أبي حصين , عن عامر عن مسروق عن عبد
الله قال: حدَّث يومًا حديثًا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
أرعد وأرعدت ثيابه ثم قال: أو نحو ذا أو أشبه ذا.
ومعلوم أن عبد الله بن مسعود كان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه
كان أتبع له من ظله وأولى الناس بالرواية عنه، وهذا مشربه في الحديث، وقد
ذكرتم في ذلك البحث نهي الإمام عمر عن التحديث.
وجاء في الجزء الخامس من طبقات ابن سعد أيضًا صفحة 140 رواية عن
عبد الله بن العلاء: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن
الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها
أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب قال: فمنعني القاسم بن محمد
يومئذ أن أكتب حديثًا.
وهذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المشار إليه بالبنان بين التابعين
بالفضل والعلم والورع.
فلماذا بعد هذه الدلائل كلها لا يزال علماء الدين يتخذون الصحيحين وغيرهما
من كتب الحديث مراجع في الشرع ويعتقدون أن مجرد توفر الشروط في الصحة
كاف لجعل الحديث ثابتًا لا شبهة فيه كأن سامعيه تلقوه رأسًا من فم رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
أفلا يرون أن ثلاثة من أجلّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد
الله بن مسعود بمكانه من الورع والصدق والعلم بالدين لم يكونوا يحدثون تقريبًا ولم
يكونوا يركنون إلى أنفسهم أن تبدر من ألسنتهم كلمة في سياق حديثهم عن
المصطفى لم يكن صلى الله عليه وسلم قالها.
فلماذا لا نقتدي بهم ولا نزال نجعل صحة الحديث بمجرد توفر الشروط قضية
مسلمة؟
إن هؤلاء الأئمة الذين هم من أجلّ أصحاب رسول الله وألزمهم له، والذين
هم طليعة من نشروا الإسلام وأسسوا بوانيه لم يكن بينهم وبين الرسول واسطة
ولقد وتكاءدهم التحديث عنه خوف الزيادة أو النقصان.
فكيف يجب أن نثق في صحة الأحاديث الواصلة بالأسانيد العديدة المتسلسلة
من عدة قرون ونبني عليها الأحكام، ونقول: هذا حلال وهذا حرام، ومن لم يؤمن
بهذا فقد كفر بالإسلام.
... ... ... ... ... ... لوزان 22 ذي العقدة سنة 1346
... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
(جواب المنار)
إن المروي عن علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من اتقاء التحديث، بل
من النهي عنه، وعن كتابة الحديث ومن تحريق ما كتب بعضهم منه أو الأمر
بتحريقه هو أكثر مما ذكر الأمير السائل في المسألة الأولى، وقد بسطنا ذلك في
المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر من المنار كما سيأتي، ولو لم يكن في المسألة
إلا ما نقله عن طبقات ابن سعد لكان للمعارضين له أن يقولوا: إن هؤلاء الذين نقل
عنهم ابن سعد ما نقل قد ثبتت روايتهم لكثير من الأحاديث، فعبد الله بن مسعود له
في صحيح البخاري وحده 85 حديثًا على شدة تحرِّي البخاري وصعوبة شرطه في
جامعه الصحيح، ولو لم يرو المحدثون عن ابن مسعود إلا هذا العدد لكان غير
معارض لتحريه في التحديث وقلة روايته فإنه من قدماء الصحابة وأكثرهم سماعًا من
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن له في سائر كتب السير والمسانيد روايات أخرى
كثيرة وأما الزبير فلم يرو عنه البخاري في صحيحه إلا سبعة أحاديث، وروى فيه
عن سعد بن أبي وقاص عشرين حديثًا، وهذا أدل على ما ذكر من تحاميهم للتحديث،
وإنما كان لداعية قوية لا خوفًا من الخطأ فقط بل لأمر أعظم.
عرض للبحاثة المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي ما عرض لبعض
الباحثين قبله وكذا بعده من أن الإسلام هو القرآن وحده، وأن الأحاديث كانت
تشريعًا موقتًا لأهل عصر النبوة بدليل عدم كتابة أهل الصدر الأول من الصحابة لها
كالقرآن وعدم تبليغها للناس وأمرهم بالعمل بها بل بدليل نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن ونهيه عن كثرة السؤال؛ لئلا تكثر الأحكام
فترهق الأمة من أمر دينها عسرًا ونهي بعض علماء الصحابة عن كتابة الحديث
أيضًا، وأحب الدكتور أن يعرض هذا الرأي على علماء المسلمين ويطالبهم ببيان
الحق فيه فنشرناه له في المجلد التاسع من المنار (ص515) وطالبنا علماء الأزهر
وغيرهم بالرد عليه لبيان الحق في المسألة، وإزالة الشبهات التي تعرض لكثير من
الناس فيها، فرد عليه الشيخ طه البشري من علماء الأزهر وعالم عربي مقيم في
الهند اسمه الشيخ صالح اليافعي ورد هو على ما كتبوه، وقد نشرنا رد العالم
الأزهري في ص 699 - 711، 712 من المجلد التاسع أيضًا ثم رد محمد توفيق
صدقي عليه في ص 906 منه وَقَفَّيْنَا عليه بحكم المنار بين المتناظرين في (ص
925 - 930) منه حكمنا الخلاف حكمًا أذعن له الدكتور محمد توفيق صدقي
وغيره ولم يرد عليه أحد من المتناظرين ولا من غيرهم وسنذكر خلاصته، وأما رد
الأستاذ الشيخ صالح اليافعي فقد نشرناه في عدة أجزاء من المجلد العاشر.
ثم إن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كتب بحثًا موضوعه (التدوين في
الإسلام) وألقاه في نادي المدارس العليا في القاهرة وجمع فيه ما وقف عليه في
كتب التاريخ من كتابة الحديث وغيره، فاقترح علينا بعض قراء المنار نشر ذلك
البحث والتعليق عليه بما يبدو لنا من استدراك أو انتقاد، كما اقترح علينا كل من
الدكتور محمد توفيق صدقي ومناظره الشيخ صالح اليافعي وغيرهم تمحيص كتابة
الحديث التي تجاذبها المتناظران في موضوع بحثه.
فإجابة للاقتراحات نشرت خطبة رفيق بك في الجزء العاشر من مجلد المنار
العاشر، وعلقت عليها أهم ما رأيته منتقدًا فيها، ثم انتقلت إلى مسألة كتابة الحديث
فبدأت بنشر ما جمعه الحافظ ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) من النهي
عن الكتابة وكراهيتها ومن الرخصة فيها، وقد جمع من الروايات ما لم يجمع غيره
فيها. نشرت البابين اللذين أوردهما بحذف أسانيده نقلاً عن مختصره في أربع
ورقات، واستدركت عليه روايات لغيره في النفي والإثبات، ثم عقدت فصلاً
للتعادل والترجيح بين الروايات المتعارضة في الأمر بالكتابة والنهي عنها عند تعذر
الجمع بينها، وذلك في ورقتين أي أربع صفحات من الجزء العاشر من المجلد
العاشر من المنار (راجع كل ذلك في ص 743 - 768 م10) ثم أتممت هذا
البحث بفصل آخر موضوعه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) مع بيان تأويل
العلماء لذلك النهي والحكم فيه نشرته في الجزء التالي أي الحادي عشر (ص
849 - 854 م10) فمن أراد الوقوف على هذا التفصيل كله في المسألة فليراجع
صفحات الجزءين التي بينا أرقامها آنفًا، وفيه الجواب المفصل عما سأل عنه
الأمير شكيب في الموضوع.
ولا بأس بأن نقول فيه كلمة مجملة لمن لا يتيسر له تلك المراجعة: إن دين
الإسلام هو القرآن كتاب الله تعالى وما بيَّنه به رسوله صلى الله عليه وسلم من فعل
وقول صار سنة متبعة بالعمل أو التبليغ العام في الدعوة إلى الإسلام وبيانه للناس
من أصحابه رضي الله عنهم، وأما الأحاديث التي لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بتبليغها ولا عني خلفاؤه وعلماء أصحابه بتبليغها للناس على أنها من دينهم ولم
تصر سنة متبعة بعمل جمهورهم بها إما لأن الحديث منها كان خاصًّا بمن خوطب
به من تشديد أو تخفيف اقتضته حاله أو لأنه لم يقصد به التشريع أو لغير ذلك ثم
رواها التابعون عن أفراد منهم روايات آحادية لم تتواتر فهي لا تعد تشريعًا عامًّا
لبيان دين الإسلام بحيث يجب على الأمة وأئمتها تبليغه والأخذ به.
على أن فيما صح منها لنقاد الرواية وبعض ما صح متنه ولم يصل سنده إلى
درجة الصحيح، ولم يسقط إلى حد الموضوع أو الواهي من الهداية والحكم ما لا
يسع من بلغه من المسلمين إلا أن يهتدي به.
وإنني ألخص بعض المسائل مما كتبته في المجلد العاشر أي منذ اثنتين
وعشرين سنة على سبيل النموذج والإيضاح لهذه الخلاصة (ص 66 - 768) .
قلت هنالك: إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في
مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرها عن أبي سعيد
الخدري مرفوعًا (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن
فليمحه) .
وإن أصح ما روي في الإذن به حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما
مرفوعًا (اكتبوا لأبي شاه) وقد بينت أنه لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه
على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مُرَاد
به أن لا يتخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة
خطبها صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا
من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن الذي صرَّح به يوم الفتح، وصرح به في
حجة الوداع، وأمر بتبليغه فهو خاص مستثنًى من النهي العام، وقد صرَّح البخاري
في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة
فأمر صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه، وقد قلت هنالك:
(ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضًا يصح أن
يكون به أحدها ناسخًا للآخر لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين:
أحدهما استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة، ومنعها بالنهي
عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما عدم تدوين الصحابة
الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوه.
(فعزيمة علي رضي الله عنه على من عنده كتاب أن يمحوه وقول أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه: (تريدون أن تجعلوها مصاحف) وقول عمر بن الخطاب
عند الفكر في كتابة الأحاديث أو بعد الكتابة: (لا كتاب مع كتاب الله) وفي
الرواية الأولى - وقوله في الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابتها: (والله إني لا
أشوب كتاب الله بشيء أبدًا) وقول ابن عباس: (كنا نكتب العلم ولا نُكْتبه) أي لا
نأذن لأحد أن يكتبه عنا ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة، وقوله الذي تقدم في
ذلك - ومحو زيد بن ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أنه يوجد
صحيفة أخرى في موضع آخر، ولو بعيدًا أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها،
وقوله الذي تقدم في ذلك - وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر: إنه لو كان يعلم بأنه
يكتب عنه لكان ذلك فاصلاً بينهما - ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاءه
بها عبد الرحمن بن الأسود وعلقمة وقوله عند ذلك: (إن هذه القلوب أوعية
فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره) كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما
رواه غيره كإحراق أبي بكر لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى
التابعين وكون التابعين لم يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء - يؤيد ما ورد من
أنهم كانوا يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه.
(وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث؛
بل في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن
يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن، ولو كانوا فهموا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب
وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به ولم يكتفوا بالقرآن
والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها، وبهذا يسقط قول من قال: إن
الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية.
وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما
يخالف بعض تلك الأحاديث ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول
والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث، وإن قل
وعدم تعنيه في جمع غيره إليه؛ ليفهم دينه ويبين أحكامه قوي عندك ذلك الترجيح.
بل نجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام
الشرعية وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَج به وما لا يحتج به لم
يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب
المتبعة ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة
للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين.
وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جدًّا من رد الفقهاء
للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث
الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا (فلتراجع في ج 14و 15و
16 من مجلد المنار السادس) وسنورد في الجزء الآتي شيئًا مما ورد في نهي
الصحابة عن الرواية، وفي عملهم بالحديث كيف كان، فقد أطلنا الآن) اهـ.
ثم إننا وافينا بهذا الوعد في مقال نشرناه في ص 849 - 854 من المجلد
العاشر نفسه عنوانه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) ذكرنا فيه أهم الروايات
التي أوردها الحافظ ابن عبد البر وغيره، وما ذكروه من الروايات المعارضة لها
في الظاهر دون الواقع، وما ذكروه من الترجيح مع نقده، وحاصل جمعنا بينها أن
السنة بالمعنى المعروف في عصر الصحابة هي التي كانت تعد من الدين وكانوا
يأمرون باتباعها والمحافظة عليها ثم ختمنا هذا المقال بقولنا:
(وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما
يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم،
ومصابيح الظلم، وجوامع الكلم، ومفخر الأمة على جميع الأمم، بل إن في الأحاديث
التي لم تصح أسانيدها من البدائع، والحكم الروائع، والكلم الجوامع، ما تتقاصر عن
مثله أعناق العلماء، وتكبوا في غاياته فرسان الحكماء، ولا تبلغ بعض مداه قرائح
البلغاء، ولا غرو فإن من الأحاديث ما صحت متونه، ولم تصح أسانيده، كما أن
منها ما أشكلت متونه، وإن سلم من الطعن رواته، وأنًَّى لغيرنا ببعض ما عندنا من
الأسانيد لأقوال حكمائهم، أو لكتب أنبيائهم، فنحن يسهل علينا من التمحيص
والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا فليتدبر المتدبرون، وليعمل العاملون) اهـ.
فعلم مما تقدم كله أن ما ذكره الأمير من روايات في تحامي بعض كبار علماء
الصحابة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يجعل دليلاًَ على
صحة ما استشكله من جعل العلماء كتب الحديث ولا سيما الصحيحين مراجع في
الشرع بل ناهيك بما ذكر في هذه الروايات من تهيب أولئك الصحابة للتحديث
وتعليله بخوفهم من الخطأ في أداء الحديث أن يدخلوا في عموم من يتناولهم وعيد
قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وهو
متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظه، ومن رواته الزبير وسعد بن أبي وقاص
وابن مسعود رضي الله عنهم وورد بحذف كلمة (متعمدًا) فإن هذا يصح أن يجعل
دليلاً على أن قلة تحديثهم ليس لاعتقادهم أن أحاديث الآحاد القولية ليست من أصول
الشرع وأدلته، بل من ورعهم وتحريهم نقل الحديث بلفظه، وقد صح عنهم أنهم
حدثوا في روايات أقوى من هذه الروايات التي ذكرها ابن سعد في طبقاته كما تقدم
ولكن الجمهور قد جوَّزوا بعدهم روايته بالمعنى فكان مثار مشكلات كثيرة.
وإنما يتجه استشكاله إذا بناه على تلك الروايات التي أوردناها في المجلد
العاشر من المنار، وأشرنا إليها آنفًا، وقد أجاب العلماء عنها بأجوبة بيَّنا هنالك ما
فيها من ضعف وذكرنا هنا نموذجًا منه، وفيما ذكره من الروايات أن بعض
الصحابة كان يخاف أن يحدث من يحضره من التابعين فيزيدوا في حديثه ما ليس
منه ولو سوء الفهم.
ولكن وجد من الصحابة من كان لا يتحامى التحديث كهؤلاء، بل وجد فيهم
من تفرغ له وجعله كل همه من حياته كأبي هريرة الذي كان أقل ما يروي من
سماعه وأكثره عن غيره من الصحابة وعن التابعين أيضًا حتى عن كعب الأحبار
وكان مع ذلك قلما يذكر سماعًا، فأكثر ما روي عنه عنعنة كانت مصدر مشكلات
كثيرة، وإن لم يتعمد التدليس فيها، كل هذا وقع ولم يشدد الخلفاء بعد عمر رضي
الله عنه بكتابة السنن لأجل ضبطها والتمييز بينها، ثم تصدَّى الحُفَّاظ الجامعون لها
في المسانيد والسنن للتمييز بين صحيحها وسقيمها، وما يحتج به، وما لا يحتج به
منها، وتوقف ذلك على كتابة تواريخ الرواة ونصب ميزان الجرح والتعديل للحكم
عليها فكان ذلك منجاة من أكثر مشكلات تلك الفوضى.
ومع هذا كله لم يوجب أحد من علماء المسلمين العمل بكتاب من الكتب
المُؤلفة في الحديث بل طلب بعض الخلفاء من الإمام مالك أن ينشر له كتابه الموطأ
في الأقطار ويحمل المسلمين على العمل به، فامتنع مالك من ذلك على شدة تحريه
في جميع روايات الموطأ ومواطأة جُلّ علماء المدينة له عليه، وإنما كان الصحابة
والتابعون متفقين على أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الله في
المرتبة الأولى ثم من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعنون بالسنة
الطريقة المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم بالعمل لا الروايات النادرة التي لم يكن
يعرفها إلا رواتها من الآحاد، وهذا أمر قطعي لا خلاف فيه، ثم صار علماء
الأمصار يطلقون اسم السنة على كل ما روي في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم
من قول وعمل وتقرير وصفة، وقرَّروا أن كل ما ثبت من ذلك متعلقًا بالتشريع فهو
من دلائل هذا الدين وشرعه، وإنما يخرج من ذلك ما كان من أمور العادات وشئون
الدنيا كالزراعة والصناعة والأكل والشرب مما لم يحرم بالنص، فأفعاله صلى الله
عليه وسلم فيها تدل على الإباحة ويطلقون على الأمر فيها لقب الإرشاد كما فصَّلناه
في كتاب (يسر الإسلام …) وغيره.
ثم كان من هدي علماء الأمصار في عصر الرواية أن يهتدي كل منهم بما
يصح عنده من أحاديث الآحاد، وإن لم تصر سنة متبعة بالعمل بحسب فهمه
واجتهاده، ولا يعد من لم يبلغه ذلك أو من لم يصح عنده ناقصًا في دينه أو مقصرًا
فيه ولا يعدون اجتهادهم في تصحيح الحديث، وفي كونه مما يحتج به تشريعًا عامًّا
إلا أن بعض الذين وقفوا حياتهم على رواية الأحاديث كانوا يعيبون المقلين من
الرواية والآخذين بالرأي والقياس ويسمونهم أهل الرأي، ولكنهم لا يعدونهم ضالين
كالمبتدعة، فإمامهم الأعظم أبو حنيفة معدود من أئمة أهل السنة ولم يعبأ جمهور
علماء الملة بما روى الخطيب وغيره من الطعن فيه، وصاحبه أبو يوسف معدود
من أئمتهم أيضًا، وكان قاضي هارون الرشيد ومفتيه، ولم ينكر ذلك أحد من أئمة
عصره، وأما صاحبه الآخر محمد بن الحسن فاشتغل بالحديث أكثر من صاحبيه،
وتلقى المؤطأ عن الإمام مالك، ولقي الشافعي وأحمد واطلعا منه على فقه أبي حنيفة
فسرت إليهما عدوى التوسع في القياس بعد أن قال أحمد: سألت الشافعي فقال: هو
كلحم الميتة يلجأ إليه عند الضرورة، ولم يكن لهما ولا لغيرهما مندوحة عن القياس
والرأي بعد التصدي للفتوى العامة في عصر كثرت فيه أسئلة الناس ومشكلاتهم
الدينية وقضاياهم المدنية والجزائية باتساع دائرة الحضارة وكثرة أسباب المعايش
والأعمال.
ومن المعلوم أن بعض أئمة فقهاء الحديث أنكروا حجية القياس مطلقًا، وخص
الإنكار بعضهم بغير الجلي أو بالخفي منه، أو ما كان علته غير منصوصة،
وخصَّه المحققون من القائلين بغير به العبادات، وأما التعبدي منها، وما يتعلق
بعالم الغيب فلا وجه للقياس فيه مطلقًا، ولكن المتأخرين من المصنفين المقلدين
يدخلون فيها القياس، وهم ليسوا منه أهله، وصار كلامهم مسلمًا عند العامة كقول
بعضهم بجواز وضع الستور على القبور قياسًا على الكعبة، وجواز تقبيل الحجارة
وغيرها مما يُوضع على قبور الصالحين قياسًا على الحجر الأسود، دع تقبيل
مفاتيح الكعبة وغيرها، وقياس حياة الشهداء وغيرهم في البرزخ من عالم الغيب
على حياة الدنيا واستنباطهم من ذلك جواز قضائهم حاجات الذين يدعونهم من دون
الله ومع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله بل يقولون بوقوعها، وإن كان هذا شركًا،
ويدخلون ذلك كله في باب القُرْبَة والتعبد وهو تشريع لم يأذن به الله ولا يرتضيه
أئمة الدين.
وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى
اليمن أن يجتهد رأيه في الحكم؛ إذا عرضت له قضايا لا يجد فيها نصًّا في القرآن
ولا سنة من أحكام الرسول التي جرى عليها العمل في عهده، ولكن الفقهاء توسعوا
في هذا الإذن فجعلوا أحاديث الآحاد حتى الشاذ والمفرد والمرسل، وكذا الضعيف
غير الواهي منها في حكم السنة المتبعة على خلاف بينهم في ذلك، واصطلحوا
على تسمية ذلك كله سنة، وجعل أكثرهم اجتهاد الرأي عامًّا في العبادات
والمعاملات الشخصية لا خاصًّا بالقضاء كمورده، كما جعلوا الإجماع الاصطلاحي
في كل عصر حجة شرعية، وما ثبت عندهم بذلك دينًا على إنكار بعض أئمة
الهدى كالإمام أحمد لما عدا إجماع الصحابة، ووافقه بعض علماء الأصول على
عدم إمكان العلم بهذا الإجماع إن وقع مع الشك في إمكان وقوعه، عادة، ولكن
بعض المتأخرين حتى من الحنابلة جعلوا اتفاق الأئمة الأربعة حجة.
فكان ذلك له سببًا لكثرة التكاليف والتشديد في الدين، ولا سيما جعل كل ما
كتب في الفقه دينًا يجب على الأمة اتباعه، وأما الأئمة فلم يطالبوا الأمة إلا بما ثبت
قطعيًّا، وأما ما فيه مجال للاجتهاد من دليل ومدلول، فلم يكلفوا به إلا من ثبت
عنده وحرموا تقليدهم فيما ثبت من اجتهادهم، وقد فصَّلنا كل هذا في مواضع من
المنار والتفسير فكثرت بذلك أحكام العبادات والحلال والحرام وسائر المعاملات
بعدهم على خلاف ما كان يريد الرسول صلى الله عليه وسلم كما شرحنا ذلك في
بحث يسر الإسلام الذي نشر في كتاب مستقل، فعلى من أراد الإحاطة بالبحث مع
جميع أطرافه مراجعة الكتابين أيضًا.
وأما ما بالغ فيه بعض المؤلفين من عد أحاديث الصحيحين ولا سيما البخاري
قطعية فقد بيَّنا خطأه فيها ونقلنا عن علماء هذا الشأن ما يؤيد كلامنا، وسنعود إليه
عند دفع بعض مشكلات هذه الروايات كما تقدم لنا في مشكلات أشراط الساعة ولا
سيما أحاديث الدجال والمهدي، وحسبنا هذا الآن.
__________(29/507)
جمادى الأولى - 1347هـ
نوفمبر - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأسئلة البيروتية
س (29 -34) من صاحب الإمضاء في بيروت:
حضرة الأستاذ الرشيد، والعالم الفريد، السيد محمد رشيد رضا صاحب
المنار الأغر دام محفوظًا.
تحية وإجلال، وبعد فقد اطلعنا على الجزء الأول والخامس من المجلد الرابع
والعشرين من مناركم الأنور فيما يتعلق بالتحلي بلبس الذهب والفضة للرجال،
فتعذر عليَّ الحصول على ما يشفي غلتي ويروي ظَمَئِي لخفاء العبارة وعدم
التصريح بالحِلِّ أو الحرمة، وقد اطلعنا على الرسالة المسماة الأجوبة الشرعية عن
الأسئلة البيروتية، لمؤلفها الفاضل الشيخ عبد الرحمن خلف المدرس بالقسم العالي
بالأزهر، وفتوى من حضرة الأستاذ محمد شكري الآلوسي وتجدون طي هذه
الرسالة صورة الفتوى المذكورة:
(1) لتبينوا رأيكم فيهما، وألتمس من فضيلتكم إجابتنا إجابة صريحة
واضحة حسب ما يقتضيه الشرع الإسلامي الحنيف عن سؤالنا الآتي وهو:
(2) هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس
والحديد وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد
وإسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟
(3) وهل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد عام في حرمة التحلي بلبس
النحاس والحديد مطلقًا على الرجال ولو في غير الخاتم أم لا، وهو أن رجلا جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه، فقال له عليه السلام:
(ما لي أجد منك ريح الأصنام) فطرحه فقال يا رسول من أي شيء أتخذه؟ فقال:
(اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً) وفي رواية أخرى: ورأى على رجل خاتم صفر
فقال: (ما لي أرى منك رائحة الأصنام) أو رأى على آخر خاتم حديد فقال: (ما
لي أرى منك حلية أهل النار) .
(4) وهل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من
الأواني أم من الحلي؟
(5) وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البرنيطة والطربوش والبدلة
الإفرنجية (السترة والبنطلون) أم لا؟
(6) وهل يجوز التشاؤم من الأعداد والسنين والشهور والأيام والأوقات
وغير ذلك أم لا؟ أرجوكم نشر ذلك على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع
عامًّا، وتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
15 شبعان سنة 1346
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف خطاب
معلم بمدرسة البنين الابتدائية الثانية لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في
بيروت , وقد أرسل إلينا السائل مع هذا رسالة مطبوعة في فتوى الأستاذ الشيخ
عبد الرحمن خلف وهي طويلة، وفيها مسائل كثيرة غير ما في هذا السؤال لا
يمكن نشرها هنا، وأرسل معه فتوى السيد الآلوسي، وهذه صورتها:
فتوى علامة العراق
السيد محمود شكري الآلوسي رحمه الله تعالى
في مسألة تحلي الرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
سألتم هل يجوز التحلي بلبس الفضة للرجال كساعة الجيب وسلسلتها وساعة
اليد وأسورتها ويد العصا والختم والأزرار وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟ وهل
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) في الحديث الذي
رواه الإمام أحمد وأبو داود صحيح متعمد عليه غير منسوخ أم لا؟
فالجواب: أن مذهب أهل الحديث يُجَوِّز التحلي بلبس الفضة للرجال بجميع
ما ذكر في السؤال، والحديث المذكور معتمد عليه غير منسوخ ففي كتاب السيل
الجرار، لم يخص الدليل إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة والتحلي
بالذهب للرجال فالواجب الاقتصار على هذا النقل، وعدم القول بما لا دليل عليه
بل بما هو خلاف الدليل {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) أما حلية الذهب فلا
شك في ذلك؛ لورود الأدلة الدالة على تحريم قليلها وكثيرها، وأما حلية الفضة
فالمانع يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل الحل وقد دل على هذا الأصل قوله عز
وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله
سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) .
مع ما ثبت أن سيفه صلى الله عليه وسلم كانت فيه فضة، ومع قوله صلى
الله عليه وسلم: (عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم) اهـ المقصود.
هذا ما تيسر من الجواب، والله سبحانه العالم بالصواب.
وللمتأخرين من مقلدي المذاهب الأربعة كلام غير كلام أهل الحديث الواجب
اتباعه فهم كما قال القائل:
أهل الحديث عصابة الحق ... فازوا بدعوة سيد الخلق
ونختم الكلام بعرض التحية والسلام، 25 ذي الحجة سنة 1341
الفقير إليه تعالى
... ... ... ... ... ... ... ... محمود شكري الآلوسي
ثم أرسل إلينا فتويين في المسألة لصاحبي الفضيلة مفتي الشام ومفتي طرابلس
مع كتاب يسألنا فيه عن رأينا فيها بتاريخ 8 شوال سنة 1346 ثم أرسل فتوى
أخرى في ذلك لفضيلة مفتي بيروت مع كتاب كسابقه وذلك في 29 ذي القعدة سنة
1346، وكان هذا في بدء مرضنا الطويل الذي نهانا الأطباء في أثنائه عن الكتابة
وكل ما يكد الذهن، وإننا ننشر نص الفتاوى الثلاث أيضًا بعد نص الاستغناء
بحسب ترتيب التاريخ لبيان مذهب الحنفية في مسائلها.
***
استفتاء مفتي الشام ومفتي طرابلس في المسألة
(1) هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس
والحديد، وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد
وأسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟
(2) هل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من
الأواني أم من الحلي فتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
***
فتوى فضيلة مفتي الشام
الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة
والتختيم بذهب وحديد وصفر ولا يجوز له استعمال ساعة الذهب ولا سلسلتها من
الذهب وغير ذلك من أنواع الحلي إلا التختيم بخاتم الفضة فقط، أما النظارة وساعة
الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها فليست من الأواني كما هو معلوم، وعلى
كل فلا يجوز استعمالها للرجال إذا كانت من الذهب أو الفضة كما ذكرنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي الشام
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عطا الكسم
... ... ... ... ... ... ... ... ... 23 رمضان 1346
***
فتوى فضيلة مفتي طرابلس
الحمد لله تعالى، الجواب: يحرم على الرجال التحلي بهذه المذكورات في
السؤال؛ لأنها من المنهي عنها في الأحاديث الشريفة سوى خاتم ومنطقة وحلية
سيف من الفضة وجميعها تعتبر من الحلي لا من الأواني، وأما خاتم الحديد
والنحاس فمكروه لبسهما كما في الدر المختار وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه الفقير إليه عز شأنه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه
***
فتوى فضيلة مفتي بيروت
الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال لبس الحرير ولا التحلي أي التزين بذهب
وفضة إلا بخاتم ومِنْطَقة وحلية سيف من فضة لا من الذهب؛ لورود آثار اقتضت
الرخصة من الفضة بهذه الأشياء خاصة فهي مستثناة مما لا يجوز للرجال، هذا
خلاصة ما ذكره علماء المذهب في هذه المسألة كما في المتون وغيرها ومنه يعلم
أنه لا يجوز للرجل أن يتزين بخاتم من الذهب ولا بساعة أو بسلسلة ساعة أو
نظارة من الذهب أو الفضة وليست هذه الأشياء من الأواني، وفي الكنز وشرحه
للعيني: وحرم التختيم بالحجر والحديد والصفر أي النحاس والرصاص والقزدير
ونحو ذلك والذهب اهـ، وفي الفتاوى الهندية: ويكره للرجل التختم بما سوى الفضة
والتختم بالذهب حرام في الصحيح اهـ، وفي الجوهرة: التختم بالحديد والنحاس
والرصاص مكروه للرجال والنساء؛ لأنه زي أهل النار اهـ والله تعالى أعلم.
20 رمضان المبارك سنة 1346.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم
***
جواب المنار عن هذه الأسئلة
(1، 2) فتاوى المفتين في التحلي وما نختاره منها:
(1) أما فتاوى المفتين الثلاثة في الأمصار السورية الثلاثة فهي نصوص
مأخوذة من كتب مذهب الحنفية الذي التزموا الفتوى به استصحابًا لما كانت عليه
الفتوى الرسمية للمفتين الرسميين في عهد الدولة العثمانية، وإن كنا نعلم أن كلاًّ من
مفتي بيروت ومفتي طرابلس يقلدان مذهب الشافعي رضي الله عنه وعن سائر أئمة
الدين، وما نرى فيها من خلاف كحكم التختم بالنحاس والحديد هل هو الحرمة أو
الكراهة فهو لاختلاف نصوص تلك الكتب، على أن الكراهة إذا أطلقت عندهم
تنصرف إلى كراهة التحريم، وفي فتوى مفتي بيروت من الفقه والدقة ما ليس في
غيرها.
وأما فتوى السيد الآلوسي فهي مقتضى ما عليه علماء الحديث الذين يقولون
بما صح في الكتاب والسنة من غير تقليد لأحد المجتهدين، وهي فتوى مجملة يجد
السائل تفصيل أدلتها في الفتوى 57 من مجلد المنار الرابع والعشرين، ولكن
السائل يقول: إنه لم يفهم المراد من هذه الفتوى؛ لعدم التصريح في كل مسألة بأن
هذا حرام أو حلال فههنا أصرح بأنني أعتقد أن الأصل في الزينة الحل بنص قوله
تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وأنه لا يجوز
لمسلم أن يحرم على أناس شيئًا إلا بنص شرعي قطعي الرواية والدلالة لئلا يدخل
فيمن يقولون على الله بغير علم وينصبون أنفسهم للتشريع، وقد قال الله تعالى
لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) وقال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116) الآية.
وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم
ورهبانهم أربابًا من دون الله) بأنهم يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم كما في
التفسير المأثور، ولا يتضمن قولي هذا تعريضًا بالمفتين المذكورين هنا وأمثالهم
من علماء المذاهب المتبعة؛ لأن القاعدة عندهم أنهم يسألون عن نصوص المذهب
فينقلونها للسائل فهم لا يحلون شيئًا ولا يحرمون برأي ولا بدليل مستقل) .
فلما بينا في تلك الفتوى ما صح في تحريم استعمال الذهب والفضة وهو الأكل
والشرب في آنيتهما، وكذا خاتم الذهب على ما فيه من خلاف بين الصحابة بيناه
هنالك، كان ذلك بيانًا لاعتقادنا أن كل ما عداه حلال وهو ما أشار إليه الآلوسي
رحمه الله فيما نقله عن كتاب السيل الجرار للإمام الشوكاني، وكان الشوكاني من
فقهاء الحديث القائلين بتحريم حلية الذهب دون الفضة وجمهورهم لا يحرمون إلا
الأكل والشرب من الذهب كالفضة، ومنهم من يحرم الخاتم منه أيضًا.
قال الإمام محمد بن إسماعيل الوزير في كتابه (سبل السلام شرح بلوغ المرام)
في الكلام على حديث حذيفة المتفق عليه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة
ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) قال ما نصه:
الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما سواء
كان الإناء خالصًا ذهبًا أو مخلوطًا بالفضة؛ إذ هو مما يشمله أنه إناء ذهب وفضة،
ثم ذكر الخلاف في سائر الاستعمالات غير الأكل والشرب وتحريم بعضهم لها
بالقياس عليهما من القائلين بالقياس ورد ذلك بأن شروطه لم تتم هنا ثم قال: والحق
ما ذهب إليه القائل بعدم تحريم غير الأكل والشرب فيهما؛ إذ هو الثابت بالنص
ودعوى الإجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره فإنه ورد
بتحريم الأكل والشرب فقط فعدلوا عن عبارته إلى الاستعمال وهجروا العبارة النبوية
وجاءوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم ولها نظائر في عباراتهم اهـ , وتبعه في هذا
صاحب (فتح العلام) ونقل عبارته هذه.
وقد قلت من قبل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أقدر من هؤلاء
المؤلفين المشددين المعسرين على بيان دين الله فلو أراد تحريم الاستعمال لصرح به،
وقد بيَّن لنا أن الله سكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان ونهى أصحابه عن
السؤال عن المسكوت عنه، وقد شرحنا هذا في بحث يسر الإسلام.
أما حديث علي كرم الله وجهه في المسند والسنن الأربع قال: إن النبي صلى
الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يده اليمنى، وأخذ ذهبًا فجعله في اليسرى ثم
قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي) زاد ابن ماجه (حِل لإناثهم) ففيه مقال:
صحَّحه ابن حبان والحاكم وهما يتساهلان في التصحيح، وذكر الحافظ تصحيحهما
له في الفتح وسكت عليه، ولكنه قال في التلخيص: وبيَّن النسائي الاختلافات فيه
عن يزيد بن أبي حبيب وهو اختلاف لا يَضر، ونقل عبد الحق عن ابن المديني
أنه قال حديث حسن ورجاله معروفون، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على يزيد
بن أبي حبيب عن ابن أبي الصعبة عن رجل من همدان اسمه أفلح عن عبد الله بن
زرير به، لكن قال: أفلح الصواب فيه أبو أفلح، قال الحافظ: قلت: وهذه رواية
أحمد في مسنده عن حجاج عن وهيب والله أعلم، وأعله ابن القطان بجهالة حال
راويه ما بين علي ويزيد بن أبي حبيب فأما عبد الله بن زرير فقد وثقه العجلي وابن
سعد، وأما أبو أفلح فينظر فيه اهـ.
وأما حديث أبي موسى وحديث عقبة بن عامر بمعنى حديث علي رضي الله
عنه فهما أضعف منه وعللهما من الانقطاع والضعف أقوى، وقد بينت ذلك في
فتوى المجلد السابع، على أن التحريم في ذلك مجمل يمكن حمله على الحديث
الصحيح المبين للتحريم بجعله في الأكل والشرب في صحاف النقدين وآنيتهما،
وكذا في خاتم الذهب.
فأمثال هذه الأحاديث المعتلة الأسانيد المجملة المعنى لا يصح أن يُجْعَل
تشريعًا عامًّا للأمة، وأما الورع والاحتياط فيقضيان على مَن ظن صحتها أن
يراعيها في عمله ولا سيما إذا اقترن بعدم مراعاتها ما لا شك في تحريمه كالإسراف
والخيلاء وقد بينا ذلك في فتوى المجلد السابع.
***
3 - حكم استعمال خاتم الحديد والنحاس:
الحديث الذي ذكره السائل في هذه المسألة أخرجه أصحاب السنن وصححه
ابن حبان من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه، وابن حبان يتساهل في التصحيح
وفي سنده أبو طيبة عبد الله بن مسلم المروزي قال فيه ابن حبان نفسه: يخطئ
ويخالف، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يُحتج به، وعبد الله بن بريدة
الذي انفرد أبو طيبة برواية هذا الحديث عنه قد ضعَّفه الإمام أحمد وغيره.
وقد ورد في حديث الواهبة نفسها في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لمن أراد أن يزوجه بها: (اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد) وهو
يدل على أن خواتم الحديد كانت مستعملة ومأذونًا باستعمالها؛ إذ لا معنى لالتماسه
وجعله صداقًا للمرأة إلا لُبْسه.
وتنظير الحافظ في هذا الدليل ظاهر البطلان، ونبَّه عليه صاحب عون
المعبود في شرح سنن أبي داود، على أن الحل هو الأصل، وإنما يحتاج إلى
النص في التحريم ولا يصح نص فيه، فالتحلي بهذه المعادن مباح، والله أعلم.
***
4- الفرق بين الآنية والحلية:
قال الراغب في مفردات القرآن: الإناء ما يوضع فيه الشيء، وجمعه آنية
نحو كساء وأكسية، والأواني جمع الجمع، وأما الحلي فهو ما يتزين به زاد في
اللسان من مصوغ المعدنيات أو الحجارة، المفرد حلي كثدي، والجمع حلي بضم
الحاء وتشديد الياء كثدي، وكذا حلية قال تعالى: {أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ} (الزخرف: 18) وجمعه حلى بالكسر فيهما فهو كلحية ولحى، فعلى هذا لا يكون ما
سأل عنه السائل من الأواني وجهًا واحدًا، ولا من الحلي إلا ما كان منه للزينة أو
قصدت باستعماله، فآلة معرفة المواقيت لم توضع للزينة ولا سيما التي توضع في
الجيب؛ إذ لا تحصل الزينة إلا بإظهارها، ولكن قد تقصد بها الزينة ولا سيما
ساعة السوار، وأما السوار والسلسلة فهما من الحلي كما هو ظاهر.
***
5- لبس البرنيطة ونحوها:
قد بيَّنا في مواضع من المنار أن الأصل في جميع الأزياء الحل إلا ما اشتمل
منها على سبب من أسباب الكراهة أو التحريم كتشبه المسلمين بغيرهم أو كون
الزي مانعًا من أداء الصلاة أو عائقًا عنه بحث يكون سببًا لتركها ولو في بعض
الأحوال، وقد فصَّلنا هذا تفصيلاً في المجلدات القديمة والأخيرة، ومنها جواب
سؤال لصاحب هذه الأسئلة في الجزء الثاني من هذا المجلد ورد بعد هذه الأسئلة.
***
6- التشاؤم:
التشاؤم وَهْمٌ رديء غير لائق بالمسلم الذي يهديه دينه إلى نبذ الأوهام والأخذ
بالحقائق، وكانت العرب تسمي التشاؤم الطِّيَرة ويقولون: تطيَّر بكذا أي تشاءم؛
لأن أكثر ما يتشاءمون به حركات الطير إذا مرَّت من جهة اليسار، وهو البروح
ويسمون الطائر البارح، ويقابله السنوح، وهو المراد من جهة اليمين، ويسمى
المارّ منها السانح، وكانوا يتفاءلون به، وقد وردت أحاديث كثيرة في نفي الطيرة
وإبطال التشاؤم وبيان أنها من الخرافات، بل في بعضها أنها من الشرك منها
الصحيح ومنها المرسل والموقوف، ومن أصحها حديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا
هامة ولا صفر) رواه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وله ألفاظ
أخرى، والهامة: البومة كانوا يتشاءمون بها وبقي هذا موروثًا من الجاهلية، ولكن
عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن نفس القتيل تخرج من قبره في شكل طائر، ولا
تزال تقول: اسقوني حتى يؤخذ بثأره ويسمونها الهامة، وكانوا يتشاءمون من شهر
صفر، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الخرافات، وقال بعضهم: المراد
من صفر هنا تأخير القتال في المحرم إلى صفر وهو من نسيء الجاهلية.
ولكن ورد في حديث الصحيحين وغيرهما ما ظاهر بعض ألفاظه إثبات الشؤم
في المرأة والدار والفرس وهو مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة المعقولة من
نفي ذلك، وقد أنكرت عائشة على أبي هريرة روايته في ذلك، وقالت: إنما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن اليهود تقول هذا فسمع أبو هريرة آخر الحديث،
ولم يسمع أوله وتأوله بعضهم بما سنبينه في مقال خاص إن شاء الله تعالى.
وأما الحديث المشتهر على الألسنة (آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر)
وفي بعض ألفاظه (آخر أربعاء في صفر) فهو موضوع عزاه في الجامع الصغير
إلى وكيع في الغزو وابن مردويه في التفسير والخطيب في التاريخ وعلَّم عليه
بالضعف، ولكن قال العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير في مجموعه الذي لخَّصه في
تخريج الأحاديث المشتهرة: إن هذا الحديث موضوع كما ذكره ابن الجوزي وغيره.
وقال العلامة الديبع في (تمييز الطيب من الخبيث) ما نصه:
(حديث) (يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) أخرجه الطبراني في الأوسط
عن جابر وفي فضله والتنفير منه أحاديث، وكلها واهية، وكذا ما يروى في أيام
الأسبوع مرفوعًا (يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء،
ويوم الإثنين يوم سفر وطلب رزق، ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس، والأربعاء يوم
لا أخذ ولا عطاء، والخميس يوم طلب الحوائج، والجمعة يوم خطبة النكاح)
أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس ضعيف أيضًا لكن يروى عن عائشة أنها
قالت: (أحب الأيام إليَّ: يخرج فيه مسافري، وأنكح فيه، وأختن فيه حسبي يوم
الأربعاء) ، هو الظاهر أن عائشة رضي الله عنها أرادت بهذا إبطال ما بقي في
النفوس، ولا سيما نفوس النساء من تأثير خرافات الجاهلية.
هذا وإن التشاؤم وهم عام في شعوب البشر كلها فالإفرنج يتشاءمون من عدد
13 وقلما يختارون معدوده في شيء.
__________(29/517)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من مسقط
الفقه والعلوم العصرية في القرآن
والصناعات في المسلمين
س (35-37) من صاحب الإمضاء في مسقط:
(1) الفقه وما المقصود منه؟
(2) القرآن والعلوم العصرية وما المقصود منه؟
(3) تأخر المسلمين في الصنائع ما السبب فيه؟
1 - {َلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (التوبة:
122) القرآن العظيم.
2 - (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) الحديث الشريف.
3 - (تفقهوا قبل أن تسودوا) الحديث الشريف.
... ... ... ... ... ... ... عبد الله عبد العزيز البلوشي
... ... ... ... ... ... ... ... ... بمسقط
(ج) هكذا وردت هذه الأسئلة موجزة مجملة، فأما الفقه فهو في اصطلاح
علماء الشرع: العلم بالأحكام العملية الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وأما
معناه في اللغة واستعمال القرآن والحديث فهو الفهم الدقيق الناشئ عن الفطنة
والمثمر للعمل والاعتبار كما حققناه في تفسيرنا، وآخر ما كتبناه فيه تفسير قوله
تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) إلخ آية من سورة الأعراف وتفسيرها في صفحة 418 من جزء
التفسير التاسع فيراجع فيه ويدخل في هذا المعنى ما ذكر في السؤال من آية وحديث.
وأول الآية التي ذكرها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} (التوبة: 122) أي للقتال بل يجب في الحالة العادية أن ينفر بعضهم بقدر الحاجة،
ويكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من يتلقى منه العلم، ويتفقهون في الدين
وآخرها: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)
ولهذه الآية عند المفسرين وجهان أو أكثر لا محل هنا لبسطها.
وأما الحديث الأول فقد رواه أحمد والشيخان وغيرهما، وله تتمة، ومعناه
ظاهر، وأما الثاني فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره البخاري في معلقاته
بصيغة الجزم عن عمر رضي الله عنه من كلامه، ومعناه تفقهوا قبل أن تصيروا
سادة في قومكم أو بيوتكم فيشغلكم ذلك عن العلم والتفقه.
وأما مسألة القرآن والعلوم العصرية أي الكونية، فالظاهر أن السائل يسأل
عن المقارنة بينهما؛ لأنه رآها في بعض الصحف، فإن كلا منهما معروف في
نفسه، فنجيبه بأن العارفين يقصدون بهذه المقارنة أن القرآن أرشد المؤمنين به إلى
هذه العلوم في الآيات الكثيرة التي بين بها آياته تعالى في خلق السموات والأرض
وما فيهما وما بينهما، فإن دلالة الشمس والقمر والكواكب والسحاب والمطر والبحار
والأنهار والجبال وأنواع النبات والثمار على قدرته تعالى ومشيئته وحكمته ورحمته
ودلالة ما في مجموعها من وحدة النظام على وحدانيته كل ذلك لا يكمل للناظر فيها
إلا بقدر علمه بما فيها من الخواص العجيبة والنظام الدقيق، وقد فصَّلنا ذلك في
مواضعه من تفسيرنا.
وأما مسألة تقصير المسلمين في الصناعات وإتقان غيرهم لها فله أسباب
ترجع كلها إلى ضعف الحضارة العربية فذهابها بذهاب ملك العرب بعدوان الترك
عليهم وقضائهم على الخلافة العباسية في الشرق، وسلبهم لكل ما كان للعرب فيه
من ملك وعدوان الأسبان من الإفرنج على عرب الأندلس والقضاء على ملكهم
ودينهم فيها، ولولا هذا وذاك لظلت الحضارة العربية الإسلامية في نماء وارتقاء،
ولوصلت إلى ما وصل إليه الإفرنج الذين ورثوا حضارتهم ومتونهم من دون الترك
الضعيفي الاستعداد للعلوم والفنون، ومن أسباب هذا الضعف أنه لم يكن لهم لغة
تساعدهم على تلقيها، ولم يجعلوا اللغة العربية العلمية الفنية التشريعية لغة رسمية
لهم، بل لم يوسعوا لغتهم الضيقة بها وباللغة الفارسية ويجعلوها لغة تامة ذات
معاجم ونحو وصرف وبيان إلا منذ مدة قريبة تقل عن قرن كما بينا ذلك في مواضع
من المنار مرارًا، ولكن كان لبعض ملوك الأعاجم من المسلمين في حضارة الهند
وغيرها، وكان لهم فيها صناعات كثيرة ثم ضعفت فزالت بزوال ملكهم أيضًا، إلا
بقايا منها في بعض البلاد كالشام ومصر وهي الآن في طور شرق جديد يجمع فيه
بين الصناعات القديمة والصناعات الحديثة الإفرنجية.
ومن مصائب المسلمين أنهم ابتلوا بزعامة الجاهلين من أدعياء العلم الذين
يزعمون أن العلوم والفنون التي عليها مدار جميع الصناعات المعاشية والحربية
محرَّمة في الإسلام مع أنها من فروض الكفايات كما يراه السائل في تفسير
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) في أول هذا الجزء، وقد
طرقنا هذا البحث في المنار مرارًا.
***
حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) ورهن الانتفاع
س 38 من صاحب الإمضاء بتونس:
إلى حضرة الأستاذ الإمام مفتي الإسلام سيدي محمد رشيد رضا مفتي المنار
المنير حفظه الله وأدام نفعه آمين.
وبعد فالرجاء من حضرتكم الجواب عن الحديثين الآتيين ونصهما: (من
تشبه بقوم فهو منهم) و (من تشبه بقوم فليس منا) .
1- فالمرغوب من فضيلتكم أن ترشدونا هل هما صحيحان أم لا؟ وما
قيمتهما من الصحة، وفي أي كتاب من الصحاح رُوِيَا؟ ويكون ذلك على صفحات
مناركم المنير مع شرحهما شرحًا كافيًا يتفق مع الحال والمراد، والله يجزيكم ويديم
النفع بكم والسلام.
2- ما قولكم في رهن الانتفاع، وهل الأئمة كلهم كانوا متفقين عليه أم فيه
خلاف؟ وما الفرق بينه وبين ربا الفضل؟ وما الدليل على جوازه؟ أفيدونا بذلك
ولكم الأجر والثواب والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخوجة
(ج) أما حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) فقد رواه أحمد وأبو داود من
حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان
ووضع له في الجامع الصغير علامة الحسن، وصححه ابن حبان، وهو يشمل
التشبه في الحسن والقبح والخير والشر، وأما تشبه المسلمين بالكفار ففيه كثير من
الأحاديث الصحيحة صريحة في منعه، وقد شرحنا ذلك في المنار مرارًا، وأما
حديث (من تشبه بقوم فليس منا) فلا أذكر أنني رأيته في شيء من كتب السنة
لأراجعه ومعناه غير ظاهر، وفوق كل ذي علم عليم.
***
حكم رهن الانتفاع
قال الإمام الخرقي الحنبلي في متنه المشهور: ولا ينتفع المرتهن من الرهن
بشيء إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا فيركب ويحلب بقدر العلف اهـ.
قال العلامة ابن قدامة في شرح هذه المسألة من المغني ما نصه في كفاية
الكلام في هذه المسألة في حالين (أحدهما) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع
ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافًا؛
لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه ومنافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه.
فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض
لم يجز؛ لأنه يحصل قرضًا يجر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض
الدور وهو الربا المحض يعني إذا كانت الدار رهنًا في قرض ينتفع بها المرتهن،
وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في
الانتفاع جاز ذلك روي ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق، فأما إن كان
الانتفاع بعوض مثل أَنْ استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير
محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة، وإن حاباه
في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره،
ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنًا
فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن
ثواب عن أحمد إذا كان الرهن دارًا فقال المرتهن: اسكنها بكرائها، وهي وثيقة
بحقي ينتقل فيصير دينًا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن، قال أحمد
في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارًا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا
رجعت إليه صارت رهنًا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن
أو استعارها؛ لأن القبض مُسْتَدَام ولا تنافيَ بين العقدين وكلام أحمد في رواية
الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور؛
لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن،
ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونًا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو
حنيفة: لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة، وعنده غير
مضمونة.
(فصل) فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه
ينافي مقتضى الرهن، وعن أحمد أنه يجوز في المبيع، قال القاضي: معناه أن
يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرًا فيكون بيعًا
وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس
أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في
الحيوان والثياب وكرهه في القرض، ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح
كما لو شرطه في القرض.
(فصل) الحال الثاني ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به
بعِوَض أو بغير عوض بإذن الراهن الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع
بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة، وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين
محلوبًا ومركوبًا وغيرهما، فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه
ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك، نص عليه أحمد في رواية محمد
ابن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع
تعذر النفقة من الراهن؛ لغيبته؛ أو امتناعه من الإنفاق، ومع القدرة على أخذ
النفقة من الراهن واستئذانه، وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق،
وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه) ولأنه
ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن اهـ
المراد منه وهو كاف في جواب السؤال.
***
صلاة المغرب بعد غروب الشمس
بنصف ساعة في عدن
س 30 من صاحب الإمضاء في (عكابة) بعض قرى اليمن:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
جناب حضرة الأستاذ المحترم صاحب الفضل والفضيلة الإمام العالم العامل
مفتي الأنام وخليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء
حفظه الله سرمدًا، وجعله للأنام منارًا ومرشدًا، ونفعنا بعلومه وجعله للإسلام
والمسلمين ذخرًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد إهدائكم مزيد السلام التام،
وأفضل التحية والإكرام، أما بعد فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام
والمسلمين ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية أقدم لفضيلتكم هذا السؤال الآتي
وأرجو نشر جوابه على صفحات مناركم المنير، وسأبقى بغاية الانتظار لفتواكم
الشافية، زادكم الله علمًا وهدًى.
سيدي ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، أحيا الله بهم شريعة سيد المرسلين
في جماعة من مجاوري بندر (عدن) يصلون العشاء الآخرة بعد مضي نصف
ساعة من غروب الشمس ويزعمون أنهم يشاهدون مغيب الشفق الأحمر، وأنه لا
يدوم بقاؤه زيادة على هذا القدر، فهل يمكن مغيبه في هذه البلدة بعد هذا القدر،
وهل تصح صلاتهم، ويحوز لمن سمع أذانهم أن يصلي العشاء تقليدًا لهم أم لا؟
مع أن أصحاب التقاويم يقطعون بعدم إمكان مغيبه قبل ساعة وثُمُن، أفيدونا بالجواب،
ولكم من الله جميل الأجر والثواب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم، وختامًا سيدي أرجوكم قبول فائق الشكر والاحترام والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص
... ... ... ... ... ... الشيخ عبد العزيز بن عطار العريقي
... ... ... ... ... ... القاطن في قرية عكابة من قطر اليمن
(ج) إن الوقت الشرعي لدخول العشاء عند جماهير المسلمين هو مغيب الشفق
الأحمر بعد غروب الشمس، وهو يختلف باختلاف الأقطار والفصول ويُعْلَم
بالمشاهدة، لا بالنظريات والأقيسة ولا تقدير أصحاب التقاويم الذين لم يستقرئوا كل
بقعة في الأرض فما على السائل إلا أن يراقب جهة الغرب في المكان المسئول عنه
وينظر بعينيه كم يكون بين اختفاء الشفق الأحمر وبين غروب الشمس، فإن كان
لديه مانع من ذلك فليعهد بذلك إلى مَن يثق به من أهل عدن.
والأصل في هذا حديث تحديد جبريل المواقيت للنبي صلى الله عليه وسلم،
وفيه أنه صلى العشاء أول مرة حين غاب الشفق، وقد أخرج ابن خزيمة في
صحيحه عن ابن عمر مرفوعًا (ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق)
والصحيح في مذهب الشافعي، وكذا مذهب أكثر فقهاء العترة وعليهما جمهور أهل
اليمن، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وغيرهم أن الشفق هو الحمرة التي
تُرَى في الأفق بعد غروب الشمس فإذا زالت دخل وقت العشاء، وإن بقي في الأفق
شيء من الصفرة التي تعقب الحمرة، وإن مذهبه الجديد أن وقت المغرب بقدر ما
يتطهر المرء ويستر عورته ويؤذن ويقيم ويصليها ثلاث ركعات، ولكن كبار علماء
المذهب رجَّحوا القول القديم بامتدادها إلى أن يغيب الشفق الأحمر؛ لأن الحديث
صح بذلك، وقد علَّق القول به في كتاب الإملاء على صحة الحديث؛ لأن قاعدة
مذهبه أنه إذا صح الحديث يؤخذ به ويرمى بكلامه المخالف له عرض الحائط.
ومذهب الإمام الباقر وأبي حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي أن الشفق هو
البياض الذي يُرَى في الأفق بعد غروب الشمس فلا يدخل وقت العشاء إلا بذهاب
ذلك البياض الذي تكون له بقية بعد ذهاب الحمرة، ونَقْل أئمة اللغة يشهد لقول
الشافعي، وجمهور علماء الأمة، وهو أن الشفق: الحمرة بعد غروب الشمس،
والله أعلم.
__________(29/525)
الكاتب: عبد الله محمود شكري
__________
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
كنا نريد أن نكتفي في إبطال دعاية الرافضي الشيخ - أو السيد أو الملا -
محسن الأمين العاملي في كتابه الجديد، وصد المسلمين عنها بما نشرناه في الجزء
الماضي، ولكننا رأينا أن نجيب دعوة من دعونا إلى التوسع في ذلك بتأييد ما حكمنا
به على صاحب هذا الكتاب من الكذب في النقل والطعن في السنة النبوية وغش
المسلمين بعَزْوِها إلى الوهابية وابن تيمية وتلاميذه دون سائر المسلمين وبالاكتفاء
من النقل من الكتب بما يؤيد مزاعمه وكتمان غيره من كلام من ينقل عنهم وكلام
غيرهم في الموضوع، وبغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة، ويوجبه درء الفتنة،
وإبطال البدعة، فنقول:
طعن العاملي في الوهابية وابن تيمية
قال الرافضي العاملي في أول صفحة 129من كتابه تحت عنوان (اعتقاد
الوهابية ومؤسس دعوتهم وقدوتهم ابن تيمية في الله تعالى وصفاته) ما نصه:
(اعلم أن الوهابية ومؤسس دعوتهم محمد بن عبد الوهاب وباذر بذورها
أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم وأتباعهم ادعوا أنهم موحدون، وأنهم باعتقاداتهم
التي خالفوا بها جميع المسلمين حموا جناب التوحيد أن يتطرق إليه شيء من الشرك،
وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما
سيأتي، ولكن الحقيقة أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى
التوحيد وهتكوا ستوره وخرقوا حجابه ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله
تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وأثبتوا لله تعالى الوجه واليدين واليد
اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل،
وهو تجسيم صريح) .
(وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فأثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة
والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالى يتكلم
بحرف وصوت فجعلوا الله تعالى محلاًّ للحوادث وهو يستلزم الحدوث كما بين في
محله من علم الكلام) .
(أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والاستواء على العرش حقيقة، والتكلم
بحرف وصوت وهو أول من زقا بهذا القول وصنَّف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة
الحموية والواسطية وغيرها، واقتفاه في ذلك تلميذه ابن القيم وابن عبد الهادي
وأتباعهم، ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره، وألزموا السلطان بقتله أو
حبسه، فأخذ إلى مصر ونُوظِر وحكموا بحبسه فحبس وذهبت نفسه محبوسًا بعدما
أظهر التوبة ثم نكث ونحن ننقل ما حكوه عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما
هي قيمة ابن تيمية عند العلماء.
(قال أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه (الجوهر
المنظم في زيارة القبر المعظم) في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة: إن ابن
تيمية تجاوز إلى الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر
من دعوى الجهة والتجسيم ... إلخ.
(وقال ابن حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حكي: إن الناس
افترقت في ابن تيمية (فمنهم) من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية
والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله: إن اليد والقدم والساق والوجه حقيقية لله، وأنه
مستو على العرش بذاته، فقيل له: يلزم في ذلك التحيز والانقسام؟ فقال: أنا لا
أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله
إلخ) .
أقول: حسبي هذه الجملة من تقول الرافضي نموذجًا على كذبه في نقوله
ومزاعمه واقتصاره في النقل على ما يوافق هواه، ويؤيد دعايته ودعواه، كما يفعل
دعاة النصرانية (المبشرون) فيما ينقلونه من القرآن العظيم وكتب الحديث وغيرها
من كتب المسلمين؛ لتشكيكهم في الدين ثم تحويلهم عنه إن لم يكن إلى النصرانية
فإلى الإلحاد والزندقة؛ لأنهم يفضلونها على الإسلام الذي جاء بتوحيد الله تعالى
وتنزيهه، وبكون المسيح عليه السلام نبيه جعله وأمه آية للناس بحملها به من نفخ
روح الله جبريل عليه السلام إلخ - كما فعل أمثالهم أعداء الإسلام من يهود الحجاز
عند ما سألهم مشركو مكة عن دينهم ودين محمد أيهما الحق؟ فشهدوا لهم بأن دين
الوثنية وعبادة الأصنام هو الحق، وبأن دين محمد وهو التوحيد والبعث والشهادة
بالرسالة لموسى عليه السلام وغيره من رسل الله هو الباطل؟ كذا يفضل هذا
الرافضي البدعة على السنة وعلى ظاهر القرآن أيضًا.
***
بيان تَقَوُّلِ العاملي على ابن تيمية والوهابية
زعم الرافضي العاملي المتعصب أن أول من زقا بهذه العقائد أي صاح بها
ودعا إليها هو ابن تيمية وتبعه بها تلميذاه ابن القيم وابن عبد الهادي؛ ولذلك حكم
علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه إلخ.
أقول (أولاً) : إن الوهابية يدعون بحق أنهم موحدون وحامون لحِمَى التوحيد
من تَطَرُّقِ الشرك، وكان يدعي هذه الدعوى بحق من قبلهم شيخ الإسلام، وعلم
أهل السنة الأعلام، وهادم أركان بدعة الروافض وغيرهم من المبتدعة أرباب
الخرافات والأوهام، وماحق شبهات الفلاسفة وضلالات الكفرة.
(ثانيًا) : إن الوهابية لم يدعوا أنهم هو الموحدون وحدهم وأن غيرهم من
جميع المسلمين مشركون كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره، بل لم
يدعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل حتى يصفوا أنفسهم بوصف من دون سائر
المسلمين، وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه
جميع رسله: إن المسلمين قد صدق في بعضهم حديث نبيهم الثابت في الصحاح من
اتباعهم سَنَن من قبلهم من أهل الكتاب في البدع ومخالفة هداية دينهم كما يصدق في
بعض آخر منهم قوله صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا تزال طائفة من أمته ظاهرة
على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ، ويقولون: إن الذين اتبعوا
سنن من قبلهم هم أهل البدع من الجهمية والروافض وغيرهم، وإن القائمين بأمر
الله هم المحافظون على الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على
الهدْي الذي كان عليه السلف الصالح من قبل ظهور البدع، ومن قاوم البدع منذ
ظهورها من علماء الأمصار، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم
أجمعين.
(ثالثًا) : إن ما ذكره من العقائد التي زعم أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب
وأمثالهم أباحوا لها حِمَى التوحيد وهتكوا ستوره ... بإثباتهم لله تعالى صفة العلو
والاستواء على العرش إلخ، إنما أثبتوا بها -كسائر أهل السنة - ما أثبته الله تعالى
في كتابه المعصوم، وفي سنة خاتم أنبيائه المعصوم المبينة له، ذلك الكتاب العزيز
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه خلافًا لغلاة الروافض المارقين عن
الإسلام بزعمهم أن كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكتبه كما
نزل إلا عليٌّ كرَّم الله وجهه وأنه كتمه عن المسلمين إلا أئمة أهل بيته، وأنه انتهى
أخيرًا إلى مهدي السرداب، وأنه سيظهر في آخر الزمان وزعم الكثيرين منهم أن
القرآن الذي تواتر بين المسلمين من عهد النبي وخلفائه الراشدين إلى اليوم قد حرَّفه
الصحابة رضوان الله عليهم وكتموا بعضه، وأن عليًّا وسائر أئمة البيت
المعصومين عندهم قد وافقوهم على ذلك ظاهرًا من باب التقية التي لا تنافي
العصمة عندهم، بل يباح بها الكذب وكذا الكفر كاستباحة كتمان القرآن، ولكن منهم
مَن بيَّن الحقيقة سرًّا لبعض أتباعهم فظلوا يتناقلونها إلى أن أذاعها بعضهم وجمع
نصوصها عنهم صاحب كتاب (فصل الخطاب) المطبوع في إيران، بَرَّأَ اللهُ كتابَه
وأهل بيت نبيه من هذا الكفر والضلال.
وأما كونهم يثبتون تلك النصوص بمعانيها الحقيقية بدون تأويل ولكن مع
إثبات التنزيه فهم متبعون في ذلك لسلف الأمة الصالح غير مبتدعين له، وإنما
ابتدع التأويل الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الروافض بشبهة تنزيه الله تعالى عن
التجسيم والتشبيه، وكان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن
أشهر قواعد الاعتزال واتبع فيها أهل السنة، وظل على ما اعتاد من بعض
تأويلات الاعتزال حتى صفا له مذهب أهل السنة من الشوائب ورجع إلى مذهب
السلف كما صرَّح به في آخر كتابه المسمى بالإبانة، ولكن عدوى التأويل المبتدع
سرت إلى كبار النظار من أتباعه فجرى لبعض أساطينهم ما جرى له من رجوعهم
إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم، أو قبل ذلك كما جرى للإمام الجويني
والإمام الغزالي وغيرهما من المتقدمين ولشيخنا الأستاذ الإمام من المتأخرين.
وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي
يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرهما من لوازم الأجسام
فبهذه الشبهة عطَّلوا أكثر صفات الله تعالى حتى صارت عندهم في حكم العدم،
والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص، وبما يجب الإيمان به وأشد منهم
تنزيهًا للرب تبارك وتعالى، وقد كاد ذلك يخفى على أهل القرون الوسطى لقصر
هِمَم علماء السنة السلفيين على علوم القرآن والسنة وإعراضهم عن علم الكلام وعلم
الفلسفة المبتدع ونظرياته الجدلية الخلابة، حتى ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية فنظر
بعد الإحاطة بعلوم السنة والنقل المروية والمدونة في الكلام والفلسفة والمنطق
وأظهر كثيرًا من فساد نظرياتها وأثبت صحة مذهب السلف من طريق النقل
وطريق العقل جميعًا.
والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل
والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:
11) وإن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب سبحانه ووصفه بما وصف
به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك وعدم التحكم في التفرقة
بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، فيقولون:
إن رحمته تعالى رحمة حقيقية ليست كرحمة البشر كما أن علمه ليس كعلم البشر
وسمعه ليس كسمع البشر وبصره ليس كبصر البشر إلخ، وكذلك يقول السلف في
استوائه تعالى على عرشه: إنه استواء يليق بجلاله وَتَنَزُّهِهِ عن مشابهة خلقه،
ليس كاستواء الملوك على عروشها، ولا نتحكم بعقولنا بتأويل ذلك كزعم من قالوا:
الاستواء بمعنى الاستيلاء مثلا، وستأتي أقوالهم في ذلك.
ذلك بأن مبتدعة التأويل يقيسون الخالق على المخلوق فيزعمون أن المعاني
الحقيقية لتلك الصفات الإلهية تستلزم التشبيه الممنوع عقلاً ونقلاً، فوجب إخراج
الألفاظ الدالة عليها من مدلولها، وحملها على معانٍ مجازية؛ ليتفق العقل مع النقل،
وفاتهم أن تلك المعاني المجازية هي مستعملة في المخلوقات كالمعاني الحقيقية
فالذين أَوَّلُوا رحمة الله تعالى بإحسانه إلى خلقه فاتهم أن الإحسان المستعمل في اللغة
تعبيرًا عن صفات المخلوقين وأعمالهم مُحَال على الله تعالى أيضًا؛ إذ هو عبارة
عن بسط يد بعطاء أو إنقاذ غريق من البحر مثلاً، وهذا لا يكون إلا بحركات
الأعضاء فهو يستلزم التشبيه أيضًا.
كما يلزم ذلك متكلمي الأشعرية الذين وافقوا المعتزلة والجهمية والرافضة في
تأويل ما عدا الصفات الثمانية التي يسمونها صفات المعاني، فإن العلم الذي هو
أبعد هذه الصفات عن الحاجة إلى التأويل عندهم هو عبارة في اللغة المستعملة في
البشر عن انطباع صور المعلومات في ذهن العالم بها، والله تعالى منزه عن ذلك،
وعلمه أزلي ليس صورة ذهنية للمعلومات التي تثبت الحدوث لما عدا ذاته وصفاته
الذاتية سبحانه وتعالى منها، وفي صفات الأفعال خلاف معروف. فوصفه تعالى
بالعلم بمعناه الحقيقي المعروف في لغة البشر يستلزم تشبيهه بالبشر أيضًا، ولذلك
أنكر أئمة النار من المبتدعة جميع صفات الله تعالى وعطلوها عن معانيها، ومنهم
هذا الرافضي وأمثاله. ومذهب سلف الأمة يهدم هذه البدعة وشبهتها من أساسها بما
بيَّنه به شيخ الإسلام ابن تيمية أوضح بيان كما نقلناه عنه وعن غيره مرارًا،
وخلاصته أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم
من صفاته وأفعاله بمعانيها الصحيحة المتبادرة من اللغة مع القول بالتنزيه ككون
محبة الله لأنبيائه وأوليائه ورحمته بعباده ليستا كمحبة المخلوقين ورحمتهم فيما بينهم
كما أن علمه تعالى ليس كعلمهم - فهذا هو اعتقاد المسلمين المؤمنين الذين يتلقون
دينهم من كتاب ربهم ومما صح عن رسوله إليهم صلى الله عليه وسلم إثباتًا ونفيًا
من غير تحكيم للأهواء والبدع بشبهة قياس الخالق على المخلوق والرب على العبد.
ومثل ذلك إثبات صفة العلو والفوقية له تعالى فقد سمى الله تعالى نفسه:
{العَلِيُّ الكَبِيرُ} (الحج: 62) فيقول سلف الأمة الصالح: إن علوه تعالى على
جميع خلقه ليس كعلو رأس الإنسان على جثته ولا علو من في الغرفة على من في
أسفل الدار، كما يقولون مثل ذلك في اسمه الكبير والعظيم أي أنه ليس بمعنى كبر
الأجسام وعظمتها ككون الجبل أكبر من الصخرة مثلاً، وقد شرحنا هذه المسألة عن
طريق العقل والنقل والعلم الكوني مرارًا، وأثبتنا أن العلو الحسي بين الأجسام أمر
نسبي ليس له حقيقة ثابتة، فكيف نستنبط من لوازمه ما نعطل به صفة الله التي
وصف بها نفسه في الآيات والأحاديث الصحيحة التي أخذها السلف الصالح فالتسليم
من غير جدل ولا تعطيل ولا تأويل، وقد سبق إلى ذلك شيخ الإسلام في كتابه
العرش وغيره فبيَّن أن العلو الحقيقي المطلق لا يثبت إلا لله العلي الكبير القاهر
فوق عباده، وما عداه فعلو نسبي، ولا سيما على القول بكروية العالم.
وقد اشتهر في كتب العقائد وعلم الكلام القديمة والحديثة للأشاعرة أن أهل
السنة انقسموا فيما عدا صفات المعاني الذاتية إلى سلف يفوضون حقيقة تلك
الصفات إلى الله تعالى ويرونها كما جاءت في الكتاب والسنة مع تنزيه الرب تعالى
عن الشبيه والمثل، وخلف يؤولونها تأويلاً يوافق قواعد اللغة التي وردت بها،
وقال بعضهم: إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم، ولكن المحققين
المنصفين منهم قالوا: إن مذهب السلف هو الأسلم والأعلم والأحكم، بل قال أبو
حامد الغزالي: إن علم الكلام ليس من علوم الدين الأصلية، وإنما هو ضرورة ألجأ
العلماءَ إليها الردُّ على المبتدعة والفلاسفة فيما خالفوا فيه ما جاء في نصوص الدين
القطعية فهو كحرس الحجيج الذي يحرسهم من قطاع الطريق إنما يجب ما وجد
المعتدون على الحجيج، فإذا لم يوجد من يعتدي عليهم يُسْتَغْنَى عن الحرس؛ لأنه
ليس من أركان الحج ولا من واجباته ولا من سننه.
(للكلام بقية فيها بيان نتيجة ما تقدم)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/531)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية
تمهيد
كان الأزهر مستدبرًا لطريق النشوء والارتقاء، يمشي القهقرى أو يسير كل
يوم إلى الوراء، وكان ما حاولته الحكومة من تغيير في نظمه وتبديل في إدارته
عبثًا، لم يزده إلا ضعفًا وخللاً، فكبراء الشيوخ الجامدين لم تفدهم أطوار الزمان
المتبدلة مظهرًا لقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) عبرة ولا
موعظة، بل ظلوا شديدي التعصب لتقاليدهم وخرافاتهم المنفرة عن الإسلام نفسه لا
عن الأزهر وعلمه فقط، وإنما كان يسرهم من تدخل أولي السلطان في إدارتهم
وتصديهم لإصلاحها ما يبذلونه كل مرة من المال الكثير ولا سيما في عهد جلالة
الملك فؤاد الذي كان أشد مِنْ كل مَنْ سبقه في هذا العصر إغداقًا للمال على هذا
المكان وأهله، انتهى الأمر بيأس الحكومة من إصلاح هذا المعهد أو (المعاهد
الدينية) وشعورها أنه كَلٌّ عليها وعلى الأمة، وأن نفقاته السنوية التي زادت على
مائتي ألف جنيه في السنة صارت مغرمًا وصارت ثقلاً على خزينتها وخزينة
الأوقاف.
***
حديث مع سعد باشا في
الأزهر والإصلاح الديني
كلمت سعد باشا في إصلاح الأزهر في عهد زعامته الأخير - بعد أن دانت له
الأمة والحكومة بما كان من سياسة الوفاق والتعاون بين الأحزاب - فقال لي: لا،
لا، إذا كان شيخنا (ويعني الأستاذ الإمام) لم يقدر على إصلاح الأزهر، فماذا
عسى أن أفعل أنا. فلما رأيته يتكلم بوجدان اليأس والألم لم أَحْتَجَّ عليه كعادتي بأن
شيخنا لم يقدر على إصلاح الأزهر؛ لأنه لم يكن بيده من النفوذ الحكومي مثل ما
بيدك؟ لا لأن الإصلاح المطلوب كان مجهولاً عنده أو متعذرًا عليه أو مُحَالاً في
نفسه، بل كل نفوذ ذي سلطان معارضًا له بقدر ما هو موات لك، وإنما قلت له:
حدثني الشيخ رحمه الله أنك كنت وإخوانك تبالغون في لومه على إضاعة أوقاته في
محاولة إصلاح الأزهر وتتمنون عليه لو يشتغل بغير ذلك من خدمة الإسلام
كتصنيف الكتب النافعة مثلاً، وأنكم كنت تظنون في بعض الأوقات أن الأستاذ
رحمه الله قد اقتنع بكلامكم وأنه سيترك من أول غده الاختلاف إلى الأزهر؛ ثم
تجدونه في غده أشد نشاطًا وهمة منه في أمسه، وأن هؤلاء الإخوان تحدثوا إليك مرة
في التعجب من ذلك، وفي الحيرة في تعليله مع ظهور اقتناع الأستاذ بكلامهم
الوجيه المعقول في نفسه فأجبتهم بقولك: وما يدريك لعل الرجل يشعر في وجدانه
بأنه مسخر من الله تعالى لهذا العمل الواجب عليه، حتى يكاد يكون فاقدًا للاختيار
فيه؟ فهل تذكر هذا يا دولة الباشا؟ قال: نعم وهو ما كنت أعتقده ولا أزال أعتقده
إلى الآن.
ثم قلت له: إنني سمعتك مرارًا تقول: إنه لا يرجى نهوض المسلمين إلا
بالإصلاح الديني وفاقًا لما كان يقوله شيخنا الأستاذ الإمام وأستاذ الجميع حكيمنا
السيد جمال الدين وتستدل على ذلك كما كانا يستدلان بأن أوربة لم تتمكن من
النهوض المدني العلمي إلا بعد القيام بالإصلاح الديني الذي دعا إليه لوثر وأقرانه؛
إذ ما دام المسلمون يفهمون الإسلام فهمًا خرافيًّا أو يلبسونه كالفرو مقلوبًا كما قال
سيدنا علي كرم الله وجهه فلا يُرْجَى أن يصلح لهم شأن في علم ولا عمل.
قال: نعم ولا أزال أرى هذا، فالترقي المدني مع المحافظة على الإسلام
يتوقف على الإصلاح الديني الذي تترك به الخرافات والأوهام إلخ.
قلت: إذًا لا بد أن تعمل في سبيل هذا الإصلاح شيئًا ولديك الأزهر والمنار،
فإذا كنت قد يئست من الأزهر، فلماذا لا تساعد المنار وتنشره في مدارس الحكومة
قال: الحق معك في المنار، وأنا آذنك أن تكلم الشمسي (أي علي باشا الشمسي
وزير المعارف) في هذا عن لساني. قلت: ولِمَ لا تكلمه دولتكم؟ قال: هو بعد
ذلك يسألني وأنا أكلمه.
بعد هذا ذهبت إلى دار وزارة المعارف لأكلم الوزير فعلمت أنه في شغل مانع
من مقابلته في ذلك الوقت فكتبت إليه أنني جئت لأقابله وأنني سأعود، ولكنني لم
ألبث أن ندمت على ذلك ورأيته مخالفًا لخلقي وما ربيت عليه من عدم السعي لنفسي،
أو لمصلحة عامة أقوم بها وحدي، وكراهة التملق للكبراء، فلم أعد إليه ولا إلى
سعد باشا، وتلا ذلك مرض سعد باشا الذي اشتد عليه بعد ذلك فسافر إلى مصطافه
ثم عاد وقضى نحبه ولم أزره بعد تلك الجلسة معه في خزانة كتبه من بيت الأمة،
وقد كان مرادي من بدء هذا الحديث ذكر يأس سعد باشا من الأزهر كغيره من
رجال الحكومة في جميع الوزارات السابقة، ثم رأيت من الفائدة أن أنشر سائر
الحديث؛ لأنه مفيد في موضوع الإصلاح الديني المقصود من إصلاح الأزهر،
ففعلت.
***
تدلي الأزهر وارتقاء
المدارس الدنيوية
وأعود إلى ذكر تدلي الأزهر من حيث يعلو ويرتقي غيره من المدارس المدنية،
بل إلى موته وحياة غيره من المعاهد العلمية الدنيوية، كدار العلوم والجامعة
المصرية، وغيرهما من مدارس الأجانب حتى دعاة النصرانية ومدارس الأفراد
التجارية، فإنها في نجاح مستمر بإقبال أولاد المسلمين أنفسهم عليها وبذل أموالهم
لها لنعلمهم ما يرون أو يرى أولياء أمورهم أنه لا بد لهم منه وإن أفسد عليهم دينهم،
فأقول:
إن المرحوم علي باشا مبارك الوزير المسلم المصلح لم ينشئ مدرسة دار
العلوم إلا ليأسه من قيام الأزهر وحده بتخريج من يصلح لتدريس الفنون والعلوم
العربية ومدارس الحكومة على الطريق الفني (البيداجوجي) وكان من أساتيذها في
أول عهدها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى.
ثم إن الأستاذ الإمام لم يضع أساس نظام مدرسة القضاء الشرعي لوعد
الحكومة إياه بتفويض أمرها إليه إلا بعد اضطراره إلى ترك الأزهر ويأسه منه
باضطهاد الأمير ومقاومته وجمود شيوخه وتعصبهم وعجزهم.
ثم إن سعد باشا لم يتم النظام للمدرسة ويجعلها تابعة لوزارة المعارف دون
الأزهر إلا لاعتقاده واعتقاد الحكومة معه أن جعلها تابعة للأزهر يجعلها عقيمًا لا
تنتج إلا خِداجًا.
ثم إن الحكومة حاولت سلب الأزهر كل شيء وقرَّر البرلمان جعله تابعًا في
إدارته لرئيس الوزارة تحت إشرافه بعد أن رأت أن أمل جلالة الملك فيه في غير
محله، ثم مات شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل فأمسكت الحكومة عن تعيين خلف له
عدة أشهر لحيرتها فيه وفي شيوخه كما قلنا في الفصل السابق.
***
رياسة المراغي للأزهر وتأثيرها
ثم كان من قضاء الله وقدره أن وقع الاختيار على نوط هذا المنصب بالشيخ
محمد مصطفى المراغي الذي عرفت الحكومة مكانته بسيرته الحسنة في القضاء
الشرعي بعد أن ارتقى إلى أعلى درجاته، وهي رياسة المحكمة الشرعية العليا.
فماذا كان بعد هذا؟
كان أن زال يأس الحكومة المتولد من طول التجارب في إصلاح هذا المعهد،
وزال يأس أهل الذكاء والشعور بالفساد الذي يفتك بالشعب وبالحاجة إلى الصلاح
الذي لا يكون إلا بإصلاح من الأزهريين، ومن سائر طبقات الأمة، وتجدد لمسلمي
مصر ولحكومتها ولرأس الحكومة والأمة جلالة ملكها رجاء في هذا المكان لم يكن
شيئًا مذكورًا.
ثم سرى هذا الرجاء إلى سائر الأقطار الإسلامية فرددت أخبار الأزهر،
وباتت ترقب ما سيكون من الإصلاح بسرور عظيم.
بل شعر الأجانب من أهل البصيرة والتأمل في أمور العالم في أوربة بأن هذه
المدرسة الإسلامية الجامعة ستكون مدرسة علم عصري ودين معقول إصلاحي،
وأن سيكون لها أثر عظيم في الشعب المصري وحكومته، وفي سائر الشعوب
الإسلامية وقد رددت الصحف الأوربية، ولا سيما الإنكليزية منها، هذه الآراء
والأنباء ونشرتها في جميع الأنحاء والأرجاء.
كل هذا وشيوخ الجمود التقليدي من أهل الأزهر لم يشعروا بأي معنى من
معاني الإصلاح الصوري ولا المعنوي الذي شعر به المشرقان والمغربان، وخفق
له الخافقان وإنما شعروا باضطراب وزلزال يتهدد تقاليدهم وخرافاتهم التي بها تقبل
العامة أناملهم، وترضخ لهم من فضول أرزاقها، فطفقوا يتململون ويتبرمون،
ويجهرون بما يهجرون، ويجأرون بما يجرؤون يا مسلمين قد أبيح الاجتهاد، وفتح
باب الكتاب والسنة للعباد وهو الذي أغلق بابه بعد أولئك الأئمة الأفراد، فأمسى
الأزهر عرضة للفساد.
وكتاب الله يصيح بهم، بما يذكرهم سنن الله فيمن قبلهم: {لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ
إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ *
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ
الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 65-69) .
ماذا فعل هذا الشيخ الجديد محمد مصطفى المراغي، وماذا قال الشيخ عليش
بلسان أمثاله، لقد جئت شيئًا إمرًا، لقد جئت شيئًا نكرًا، إنه لم يخرق سفينة
الشريعة الراسية بل أراد تسييرها، فقال:] بسم الله مجراها ومرساها [، وما قتل
نفسا زكية بغير نفس بل نفخ في هذه الأمة ما لو سرى فيها لأحياها، كانت نفس الأمة
ميتة بالجهل والتقليد والخرافات، فأراد إحياءها بآيات القرآن البينات، وما دعا إليه
القرآن من علم كوني وشرعي، ومن عمل ديني ودنيوي، وما بينه به رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالح، وهو ما لا يرجى بغيره صلاح هذه الأمة
كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما
صلح به أولها) ، وفتح للأزهر أبواب الرزق والجاه الصحيح الذي يمكنهم من النفع
بعلمهم، وتعميم هداية دينهم.
ولكن ما بال هؤلاء الشيوخ والأمة صلحت أم فسدت؟ علمت أم جهلت؟
حيت أم هلكت، ما داموا يرون في العامة من يقبل اليد ظهرًا أو بطنًا، ويرضخ
لها سرًّا وجهرًا، فكيف حال من له منهم في الأزهر أو في القضاء الشرعي راتب
ينعم به ويربي به أولاده ويعلمهم في المدارس المدنية التي يصف هو وأمثاله أهلها
بالكفر؛ لشعوره بأن الأزهر صار أضيق أبواب الرزق على أكثر الذين يتخرجون
فيه.
نعم إن شيوخ الأزهر الجامدين المعادين للإصلاح يعلمون أن أهله في كل عام
يرذلون ويضيق رزقهم كما يقل احترامهم، ويعدون هذا من استحواذ الكفر والفسوق
والعصيان على جماهير الناس من دونهم، ولكنهم لا يفكرون في سبب هذا الكفر
والفسوق والعصيان، ولا يخطر في بالهم أنه يجب عليهم مقاومته ونشر العلم الذي
يهدي إلى الإيمان والبر والتقوى، ولو فكروا وتأملوا وتدبروا لعرفوا ما عليهم من
التبعة، وما لهم من الشركة في كل ما يشكون منه وفي أسبابه، ولعلموا أن الأمة
مع حكومتها صارت في غنًى عنهم، وعن أزهرهم؛ لأنه أمسى في نظرها عضوًا
أشل، أو عضوًا أثريًّا كما يقال في هذا العصر، وهذا ما كان يعالجه الأستاذ الإمام
بحكمته ويحاول تلافيه بكل ما أوتي من علم وعرفان ونفوذ وعزيمة: كان يحاول
أن يجعل الأزهر عضوًا عاملاً تشعر الأمة والحكومة بالحاجة إليه وعدم الاستغناء
عنه، بل كان يطمع فيما هو فوق ذلك: كان يطمع أن يجعله عضوًا رئيسيًّا في
بنية الأمة الإسلامية لا في بنية الشعب المصري وحده، وإنما تكون به مصر مركز
هذا العضو الرئيس وهذا عين ما يقصد إليه تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي،
وقد سنح له من الفُرَص وتهيأ له من الأسباب ما لم يكن شيء منه في عهد أستاذه
وأستاذنا الإمام رحمه الله تعالى.
توجهت همة الأستاذ الأكبر - وفقه الله تعالى - من أول وهلة إلى الإصلاح
بقسميه الديني والدنيوي، ومظهريه الصوري والمعنوي، وغايته الرسمية وغير
الرسمية، فطلب من الحكومة أن تنشىء مباني جديدة لإقامة المجاورين ونومهم
وأكلهم وشربهم كأبنية المدارس الأميرية في نظافتها وموافقتها للصحة ومراعاة
كرامة الطلبة في أكلهم وشربهم ونومهم واستحمامهم فوافقته على ذلك كما وافقته
على قبول خريجي الأزهر أساتذة للتعليم في مدارسها ولغير ذلك من وظائف
الحكومة التي كانوا محرومين منها، ففتح لهم أبواب الرزق مع الشرف والكرامة
من طريق العلم والدين كما فتح لهم أبواب خدمة الدين بالوعظ والإرشاد والدعوة إلى
الإسلام بما لم يكونوا مستعدين له من قبل بعلمهم الناقص من كل وجه، ولا
بتربيتهم الفاسدة باقترانها بالوساخة والمهانة والضغط على الأفكار والعقول فهم
يأكلون البصل والكرات وغير ذلك في المسجد أفرادًا وجماعات، وإذا سأل أحد
منهم أستاذه عن شيء يسوءه السؤال عنه ولا سيما إذا كان استشكالاً لما قرَّره سبَّه
وشتمه وربما رماه بالحذاء.
***
شبهة الطاعنين في
إصلاح الأزهر ودحضها
لا يستحي أعداء الإصلاح من هؤلاء الشيوخ وأنصارهم أن يقولوا ما حاصله
أن الأزهر أسس من أول يوم على التقوى والصلاح والتواضع وهضم النفس
والتقشف في المعيشة تدينًا واستعدادًا لخدمة الدين لوجه الله تعالى لا للتمتع بالدنيا،
ويريد الشيخ الجديد أن يربيهم تربية دنيوية كما يتربى الأغنياء والمترفون،
والعظماء المتكبرون، وهذا مخالف لغرض الدين، ولما ينبغي لعلماء الدين
وللمنقطعين لخدمة الدين، ابتغاء مرضاة رب العالمين، وإنما الإسلام دين زهد
وقشف، لا دين عظة وسرف، يدل على ذلك كله هدي السلف.
***
ونقول في دحض شبههم
أولاً: إن الأزهر لم يؤسس على ما ذكروا، بل كان كمسجد الضرار، بنيانه
على شفا جرف هار، فانهار بمؤسسيه في نار جهنم وبئس القرار، فإن الله تعالى
أنقذه من شر الذين أسسوه وكفرهم وضلالهم، وهم باطنية العبيديين الذين كانوا
يستترون بمذهب الشيعة على ما فيه من بدع لم يسلم قطر إسلامي من شرها،
ويخفون الكفر وما يقصدون من هدم الإسلام بدعايتهم التي بيَّن العلامة المقريزي في
خططه المشهورة درجاتها.
ثانيًا: إن الإسلام نفسه ليس دين زهد وقشف، ولا دين سرف في ترف، بل
دين وسط جامع بين حسنتي الدارين وطلب سعادتهما، كما بيَّناه بالتفصيل في
مواضع من المنار ومن التفسير، وقد كان قشف بعض السلف اضطراريًّا وبعضه
اختياريًّا للقدوة، كما كان توسُّع بعضهم في الزينة والطيبات كذلك، وقد قال بعض
الصحابة لفضالة بن عبيد رضي الله عنهما وكان على مصر: ما لي أراك شعثًا
وأنت أمير الأرض؟ قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن
كثير من الإرفاه) قال: فما لي لا أرى عليك حذاء؟ قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمرنا أن نحتفي أحيانًا) .
فتأمل كيف سأل صحابيًّا عن شعاثة شعره؛ إذ رآه غير مُتَرَجِّل؟ وظاهر أن
السؤال للتعجب، وأن وجه التعجب كونه أميرًا قادرًا على الزينة المحمودة شرعًا،
ومنها ترجيل الشعر ودهنه وتأمل كيف أجابه بما هو الفصل في المسألة، وهو
الاقتصاد في الرفه وعدم الإسراف فيه، يقال: رفه الرجل من باب فتح وأرفه
وترفه واسترفه، إذا استراح وتنعم، وأرفه غيره جعله رافها، وفي (عون المعبود)
شرح سنن أبي داود: قال الحافظ: القيد بالكثير في الحديث إشارة إلى أن الوسط
المعتدل من الإرفاه لا يذم وبذلك يجمع بين الأخبار اهـ.
أقول: وهذا ما عليه أهل العلم بفنون الصحة والاجتماع في هذا العصر، فإن
الإسراف في الرفه يُضْعِف الأجسام والهمم، ويُفْسِد الأفراد والأمم، ومن ذلك عملهم
ببقية الحديث ارتياضًا لا اتباعًا وهو الاحتفاء في بعض الأحيان حتى إنك ترى
أكابر أهل هذه البلاد في مصطاف رأس البر يمشون حفاة وهم من أشد أهل الدنيا
رفاهة.
ثالثًا: إن القشف الاختياري من تربية النفس التي تقوي الجسم والإرادة،
وقلما يوجد في الأزهر من تخطر هذه التربية بباله، والإصلاح الجديد يساعدهم
عليها.
رابعًا: إن المعروف بالاختبار أن أهل الأزهر قد استحوذ عليهم حب المنافع
المادية فهم لا يقلون فيه عن غيرهم، وكل ما طلبه أفرادهم وجماعاتهم من الحكومة
لأزهرهم في السنين الأخيرة يدندن حولها، ولكن هممهم دون همم غيرهم في طلبها.
خامسًا: قد سبق لنا أن طالبنا شيخ الأزهر السابق المرحوم الشيخ أبا الفضل
الجيزاوي بإصلاح الأزهر فقال لنا في سياق حديثه في ذلك: إنه لا يعرف أحدًا من
أهل الأزهر يطلب العلم لوجه الله تعالى، بل كلهم من طلاب الدنيا بعلم الدين،
وقال الأمير عباس حلمي الثاني في أواخر عهده بهذه البلاد: إنني اختبرت علماء
الأزهر مدة ثماني عشرة سنة ثبت لي فيها أنهم طلاب منفعة شخصية من الجراية
والرواتب وكساوي التشريف ما كانوا يطلبون مني غير ذلك.
فإن قيل: إن من المعلوم بالبداهة أن شيخ الأزهر لا يعرف حال جميع طلاب
العلم فيه، ولا العلماء أيضًا، وكذلك الخديوي بالأولى، فمن الجائز أن يكون فيه
من يشتغل بالعلم لوجه الله تعالى، قلنا: نعم، ولكن هؤلاء لا يكونون إن وجدوا في
هذا العهد إلا أفرادًا قليلين، وما يفتحه الإصلاح الجديد من أبواب الرزق لكثير من
الذين يتخرجون في هذا المعهد أو المعاهد لا يكون عثرة في سبيل أولئك الأفراد من
الزهاد، كما أنه لا يمنع أن يوجد فيمن تفتح لهم أبواب الرزق بالعلم من هم أشد
منهم إخلاصًا في طلبه ابتغاء وجه الله تعالى في خدمة الدين وأهله به، فالإخلاص
والزهد من الصفات النفسية الباطنة، فكم من فقير هو أشد رغبة في حطام الدنيا
وحرصًا عليه وطمعًا فيه من الأغنياء، ففقر النفس شر من فقر اليد، وأجدر منه
بما روي من قرب الفقر من الكفر [1] ، وقد رُوي عن الشيخ عبد القادر الجليلي إمام
الصوفية وأحد كبار العلماء في عصره أنه شكا إليه بعض مريديه إقبال الدنيا عليهم
فقال لهم: (أخرجوها من قلوبكم إلى أيديكم فإنها لا تضركم) .
هذا وإن أحمز ما مس شيوخ الأزهر من علم الشيخ المصلح وألذعه هو أخذه
بعض المعلمين من خريجي دار العلوم لتعليم اللغة العربية، وأنكى منه وأنكأ
اختياره واحدًا منهم [2] لدرس الفقه في قسم التخصص، وذلك من إنصافه ومحاولته
إبطال تلك العصبية الأزهرية، وما كان له أن يستهدف لسخط الأزهريين لولا
اعتقاده أنه لا يوجد في خريج المعاهد الدينية من يغني غَنَاء هؤلاء، فكان هذا في
عرفهم طعنًا ضمنيًّا في كفاءتهم وكفايتهم، ولذلك أذاعوا بين الناس أنه يريد أن يعهد
إلى طه حسين الأستاذ في الجامعة المصرية بإلقاء بعض الدروس في الأزهر ليبث
شبهات الكفر والإلحاد فيه، وحاشاه من ذلك، والذين اختارهم للتدريس في الأزهر
من خيار رجال الدين علمًا وأدبًا وعملاً ونحن نراه أشد احتياجًا إلى أساتذة آخرين
للتربية الدينية الروحية العقلية بالعلم والعمل منه إلى هؤلاء وغيره، فهل يجدون له
في الأزهر من يغنيه عن التماس هؤلاء المربين في غير الأزهر؟ لعله يعوزهم أو
يعجزهم إحسابه في هذا.
***
الحاجة إلى التربية العقلية
إننا نرى أن أمر هذه التربية أعظم أركان الإصلاح المطلوب وأعسره، وأنه
إن وجد قد يأتي بغيره من ضروب الإصلاح، وإن غيره لا يأتي به؛ لأن النفس
البشرية إذا صلحت أصلحت كل شيء، وإذا فسدت أفسدت كل شيء، كما جاء في
الحديث الصحيح، ولكن بلفظ القلب الذي يلاحظ في استعماله معنى العقل والوجدان
معًا، وهذه المسألة لا تتجلى إلا بمقال خاص، بل يتسع المجال فيها لعدة مقالات
بل لتصنيف سِفْر كبير.
وغرضي منها الآن أن إصلاح الأزهر الذي يطلبه الشعب المصري ويرقبه
وسائر الشعوب الإسلامية على تفاوتها في الاستعداد والقرب والبعد يتوقف على هذا
الأمر، وإن كان ما طرقه الأستاذ الأكبر من أبواب الإصلاح غير هذا فهو كالجسد
وهذا كالروح له، وإن شئت قلت: إن إصلاح الألسنة والأقلام باللغة الفصحى،
وإصلاح الأفكار بالتعليم البيداجوجي لعلوم الدين والدنيا، هما كأركان الصلاة البدنية
من قيام وركوع وسجود وتلاوة وذكر باللسان، وإن إصلاح القلوب بالتربية الروحية،
والعقول بالتربية الاستقلالية، هما كتدبر القرآن وأذكار الصلاة والاعتبار بها
والخشوع فيها.
فإذا لم يقرن الإصلاح الفني النظامي اللساني البدني فيه بالإصلاح الروحي
العقلي، فإن الأفكار المادية النفعية تستحوذ على المتعلمين في الأزهر، فيكون
المتخرجون فيه كالمتخرجين في المدارس الدنيوية الرسمية التبشيرية والكسبية،
ويكون ذلك قضاء على الدين وأهله، وإذا وجد الإصلاحان كلاهما كان الغلب
والسلطان للأزهر على المدارس الدنيوية ووسيلة إلى الإصلاح الروحي الأخلاقي
فيها ثم في الأمة كلها، فالآن الآن قد دخلت جامعة الأزهر الدينية في طور التنازع
مع الجامعة المصرية المادية أو الدنيوية، فإما أن يتفقا على الجمع بين الحسنتين
لنيل السعادتين، وإما أن تُفْسِد الثانية الأولى، ما كان للأزهر أن يكون غالبًا ولا
منازعًا لو بقي على جموده الأول.
ويحزننا أن منتقدي الإصلاح الجديد لم يعيروا هذا الأمر العظيم شيئًا من
عنايتهم على ما يدعون من غيرتهم على الدين، وإنما أقاموا النكير ودعوا الويل
والثبور أن ذكر الأستاذ الأكبر في مذكرته الإصلاحية الاجتهاد في العلم، أي
الاستقلال في فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مدارك الأئمة، وأخذ مسائل الأحكام
بأدلتها، ومراعاة حكمة التشريع فيها، ولماذا؟ لأنهم يحرمون العلم بتحريم الاستدلال
الاستقلالي، ويوجبون الجهل بإيجاب التقليد الذي ذمه الله في كتابه، وصرح الأئمة
المجتهدون بتحريمه وإيجاب الاستقلال في الفهم، والاستدلال في العلم، وكان
المتقدمون يعبرون عن المقلد بالجاهل، ثم وجد من العلماء من أوجب تقليد كل إمام
مجتهد بشرطه، ولكن هؤلاء المتأخرين الجامدين يحرمون أخذ الدين من كتب
المجتهدين أنفسهم، ويوجبون تقليد المؤلفين من أتباع أتباعهم المقلدين لهم؟ بل
يوجبون تقليد طلاب المعاهد الدينية لهم هم، وإنما هم مقلدون للمقلدين لا للمجتهدين،
فجعلوا دون اقتباس نور الشارع عدة حُجُب كما قال الغزالي في مشكاة الأنوار، بل
نصَّبوا أنفسهم للتشريع بدون إذن الله تعالى، فأي طالب أنكر على أستاذ منهم قولاً أو
خرافة قرَّرها في الدرس نبزه بلقب الكفر أو ما يقرب منه عنده، وربما يسعى لطرده
من الأزهر، ولا يمكن أن يبقى ببقاء هذا النوع من التعليم علم ولا دين ولم يعد يقبل
هذا أحد يعرف قيمة نفسه في هذا العصر.
***
ما لا تتم التربية والتعليم
الإصلاحيان بدونه
ألا وإنه لا يتم الجمع بين التربية الدينية الروحية العقلية وبين التعليم الديني
المدني الاستقلالي، وإن وجد أهلهما إلا بمراقبة الطلاب في أعمالهم وأخلاقهم
ومعاشراتهم وباختيار كتب للمطالعة تعين على ذلك، وبإنشاء كتب جديدة لعلوم
النفس والأخلاق والاجتماع والتاريخ، ولا سيما التاريخ الديني والمقارنة بين الأديان
وسائر ما يُسَمى بالعلوم الجديدة تكون هذه الكتب خالية مما يثير الشبهات والشكوك
في الدين وممزوجة بما يوثق عروة الإيمان واليقين.
ولا يتم هذا إلا بتأليف لجنة للتأليف والترجمة وتحضير الدروس يكون بعض
أعضائها من الراسخين في لغات العلم الثلاث الألمانية والإنكليزية والفرنسية
والآخرون من أهل البصيرة والرسوخ في علوم الدين، ولا سيما التفسير والحديث
والأصول وحكمة التشريع، وقد ذاكرنا الأستاذ الأكبر في هذا كله فوجدنا له من
نفسه وعقله المنير خير عطف وتقدير، وأحسن تفكير وتدبير.
وأما إرسال البعثات الأزهرية إلى أوربة الذي أذاعته الجرائد فهو الآن مبتسر،
ويخشى أن إثمه أكبر من نفعه، فإننا نرى أكثر الذين يتعلمون في أوربة يرجعون
إلى بلادهم وهم زنادقة أو فسقة، وإنما تينع ثمرة هذه الفكرة بعد أن يتخرج في
حجر الإصلاح من هذه المعاهد الدينية الأزهرية أفراد كملت تربيتهم الوجدانية
وتعليمهم الاستقلالي الاستدلالي على الوجه الذي أشرنا إليه في هذا المقال، ويكون
غرضهم الأول من الإخصاء في بعض العلوم أو الفنون في هذه المعاهد الاستعداد
التام لخدمة الإسلام ونهضة المسلمين مع المحافظة على هدايته فيهم، ومراعاة
مقوماتهم الملية، ومشخصاتهم القومية، وإن فساد أزهري واحد يعود من أوربة
لأضر على الإسلام والمسلمين من فساد سبعين طالبًا من المدارس الدنيوية، ولا
يخفى شيء من هذا على ألمعية الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر.
وأختم هذا المقال بالتذكير بالحاجة إلى إنشاء لجنة في إدارة المعاهد الدينية
للفتوى العامة في كل ما يتعلق بالعقائد الإسلامية وحكم التشريع ودفع الشبهات عن
الدين، وحل عقد المشكلات في كتبه وغير ذلك مما يرى قراؤنا مثاله في فتاوى
المنار، وربما نفصل القول في هذا عند الحاجة، ونسأله تعالى تأييد الأستاذ المراغي
في عمله وتسخير الرجال الصالحين له فيه، وكفّ شر الجامدين والخرافيين عنه إنه
سميع قريب.
__________
(1) إشارة إلى حديث (كاد الفقر أن يكون كفرًا) وهو ضعيف، في سنده يزيد الرقاشي، وهو متروك.
(2) هو صديقنا الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم مدرس الشريعة في كلية الحقوق الآن وكان مدرسًا له في مدرسة القضاء الشرعي بعد أن درَّسه في مدرسة الحقوق أيضًا، ولما حضر درسه المرحوم عمر بك لطفي القانوني الشهير وكان وكيل مدرسة الحقوق قال: إنني لم أر في مصر من يضاهي في إلقائه وتحقيقه أكبر علماء الحقوق في أوربة إلا هذا الأستاذ.(29/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانقلاب المدني الديني في بلاد الأفغان
إننا منذ علمنا بأن أمير الأفغان ثم ملكها أمان الله خان يعتمد على بعض
المتفرنجين والملاحدة من ضباط الترك الاتحاديين، ثم الكماليين في تدريب جيش
له وتعليمه أوجسنا في أنفسنا خيفة على هذا الشعب أن يفتنه في دينه هؤلاء الملاحدة،
وأعظم هذه الخسارة على المسلمين وسائر الشرقيين.
وكنت أتمنى لو يتاح لي لقاء بعض كبار الأفغانيين الذين يترددون بين الشرق
والغرب في هذا البلد الوسط بين الخافقين لأكلمه فيما يجب على قومه وحكومته،
وما ينبغي لهم وما يُخشى عليهم، أقف على رأيه وأطلعه على رأيي في ذلك،
وما زلت أرقب الفرص حتى علمت بأن أحد هؤلاء الرجال العاملين وصل إلى مصر
منصرفًا من بلاد الترك إلى بلاده وهو سلطان أحمد الذي كان سفيرًا للأفغان في
أنقرة فبادرت إلى زيارته في فندق (ناسيونال) وبعد الترحيب به بدأت حديثي معه
بذكر السيد جمال الدين الأفغاني وما له من الفضل في إيقاظ الشرق عامة والمسلمين
خاصة، وتوجه عقولهم وهممهم إلى ما يجب عليهم من الإصلاح الديني والمدني
السياسي في هذا العصر قبل أن تقضي أوربة على ما بقي بأيدهم من سلطان وملك
وتَحُول بينهم وبين كل عمل، ثم انتقلت إلى ذكر ما تجدد لنا من الرجاء في نهضة
الشعب الأفغاني الذي نخصه بمحبة زائدة لانتماء السيد جمال الدين إليه ونرى أنه
أولى بالانتفاع بآرائه، وقاعدتها بناء الإصلاح المدني والسياسي على قواعد الدين
الإسلامي الذي هو أقوى مقومات الشعوب بجمعه بين الهداية والفضائل الروحية
السليمة من الخرافات المفسدة للبشر، وبين طلب السيادة والملك والعمران من
الطرق العلمية والسنن والنواميس الاجتماعية.
وبينت له ههنا أن جماهير المسلمين صاروا يجهلون هذه القواعد فمنهم من
يتعصب للتقاليد الموروثة من القرون الأخيرة التي ضعُف فيها العلم والدين في الأمم
مؤيدًا بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح لهما، ومنه كراهتهم للعلوم
والفنون والنظم التي سادت بها حضارة العصر واعتزت دوله، ومنهم من توجه إلى
طلب هذه الحضارة بتقليد أهلها في عاداتهم وأزيائهم وظواهر نظمهم وبعض
قوانينهم، وإن كانت غير ملائمة لهم في مقومات أمتهم ومشخصاتها التي هي مأخذ
تلك القوانين ومستمدها، وبذلك وقع التفرق بين شعوب المسلمين، والانقسام
والتنازع بين أهل كل شعب وجد فيه هذان الفريقان كالترك والمصريين فأضاع كل
منهما ما أضاع من ملكه واستقلاله.
كل فريق من الفريقين اللذين يتألف منهما أكثر كل شعب من المسلمين
مخطئ في فهم معنى الإسلام الديني والمدني فهؤلاء يتوهمون أنه ينافي العلوم
والفنون التي عليها مدار الحضارة والقوة والثروة، فصاروا يطلبون هذا بتركه حتى
انتهى ذلك بزعماء الترك الكماليين إلى تركه، والحرمان من زعامة الشعوب
الإسلامية المالكة لمعظم رقبة الشرق الأدنى والأوسط ولهم سهم كبير في الشرق
الأقصى، وأولئك يتوهمون وهمهم ولكنهم آثروا التقاليد الإسلامية بما أحدثوا فيها
من البدع الخرافية على الحضارة العصرية.
ولا يمكن الجمع بين الفريقين وتوحيد كل شعب إسلامي إلا بقاعدة السيد جمال
الدين الأفغاني في الإصلاح، وهذه القاعدة قد تمكنت من عقلاء المسلمين الجامعين
بين الاستقلال العقلي في فهم الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم، وبين معرفة حال هذا العصر، وما تتوقف عليه السيادة والعزة للشعوب
وحكوماتها فيه، ولكن هؤلاء العارفين بالأمرين متفرقون في كل قطر لما يصيروا
حزبًا واحدًا متعاونًا.
ومن حسن الحظ أن هذا التفرق والانقسام لم يتمكن من الشعب الأفغاني العزيز
فبناء الإصلاح فيه على أساس القواعد الجمالية الأفغانية أسهل من بنائه في قطر
إسلامي آخر، وههنا ذكرت لمحدثي أحوج ما يحتاج إليه شعبهم الآن من الإصلاح
الدنيوي وهو (1) النظام المالي (2) تنمية موارد الثروة الوطنية من الزراعة
والصناعات واستخراج المعادن (3) تنظيم القوى العسكرية.
وقلت له: إن اقتباس الفنون التي يتوقف عليها ترقي الزراعة والصناعة
والعسكرية واجب شرعًا، وليس فيه شيء يعارض تعاليم الإسلام، فيجب عليكم
البدء بذلك، واجتناب الفلسفة والقوانين الأوربية التي تصدم الدين فيعقبها تصادم
رجاله ورجال الحكومة وانقسام الأمة وتعاديها.
ثم قلت له: ولا يغرنكم تهور الترك الكماليين، وما يظهر لكم، ولكل من لا
يرى إلا ظواهر الأمور ومشارفها من نجاحهم في نبذ الإسلام ومعاداته، فإن فرضنا
أن ظهارة أمرهم كبطانته وخوافيه كقوادمه، وليس كذلك، فلا يجوز أن ننسى
الفروق بين الشعبين الأفغاني والتركي في تاريخهما وحالتهما الحاضرة والفرق بين
زعمائهما، وذكرته بشيء من هذه الفروق التي بينتها في مقال الجزء الماضي
الخاص بالترك.
ثم قلت له: إنكم وإن اجتنبتم ما ذكرت لا بد أن تلقوا معارضة من علماء
بلادكم من طريق الدين لما يغلب على أولئك العلماء من الجمود على التقليد لكتب
فقه المذهب الحنفي، ولكن هذه المعارضة تكون ضعيفة وإقامة الحجة فيها على
العلماء هينة، وترون من هذا العاجز ومن غير من علماء مصر وغيرها من يدلي
إلى حكومتكم بهذه الحجة التي لا يمكن لعلمائكم دحضها، فإن لم تقبلوا هذه النصيحة
فسترون من الثورات والفتن التي يثيرها الفقهاء في شعبكم الشديد التعصب القوي
البأس ما فيه الخطر العظيم.
هذا أهم ما ذكرته لسلطان أحمد يتخلله بعض حديثه، وقد أكون نقصته بعض
المسائل وزدت بعضها إيضاحًا ولو كتبته عقب لقائه لنصصته على غرّه، وأذكر
من قوله أنه اعترف بتعصب أهل بلاده وشدتهم، وبأنه لا يأمن هو على حياته منهم
بعد وصوله إليهم إذا صرَّح بما يراه ويعتقد، ومنه أن الإصلاح الفني والمالي
والعسكري الذي قلت إنه يكفيهم الآن يستلزم الإصلاح التشريعي.
قلت له: إن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسماحة، وهي تتسع لكل
إصلاح بشرط أن لا يلتزم مذهب واحد من مذاهب فقهائها، وأنه لا يوجد فيها شيء
متفق عليه بين أئمتها يعارض حضارة العصر فيما هو من المنافع والمقاصد
الجوهرية إلا الربا الصريح الذي توسع فيه بعض الفقهاء بأقيستهم الزائدة على
نصوص الشارع، وإن شعبكم غير مضطر في معاملاته إلى الربا، وأما حكومتكم
فاقتراضها بالربا خطر على استقلالها، فالواجب عليها أن تقتصر من العمران على
ما تسمح لها به ثروتها وأن يكون بالتدريج.
ثم إني رغبت إليه أن يعرض هذه الآراء على أميرهم بعد عودته ذاكرًا له
نصيحتنا له بالمحافظة على الإسلام وما فيه من القواعد المعنوية والسياسية ووقاية
الشعب من مفاسد الآراء العصرية الاجتماعية كالبلشفية والفوضوية والإباحية،
وذكرت له أنني رأيت أثناء سياحتي في الهند سنة 1330 (1912) أن مسلميها
يحبون الأفغان ولهم فيهم آمال عظيمة، وكان هذا قبل الاستقلال الصحيح الذي تم
بعد الحرب الكبرى، وأن هذه الحب والأمل مما يجعل الدولة البريطانية تحرص
على مودة دولتهم، وأن إعراضهم عن الإسلام يضيع عليهم كل هذا وما هو أعظم
منه، وقلت: إنني مستعد لبيان كل ما يراه منتقدًا من كلامي فلم ينتقد شيئًا.
ثم وعدني سلطان أحمد أن يبلغ رأيي للملك أمان الله خان ولكنني شككت في
وعده؛ لأنني رأيته لم يناقشني في شيء إلا ما ذكره مختصرًا من الحاجة إلى
التشريع الجديد ثم صار الشك ظنًّا قويًّا لما رأيته اكتفى من رد الزيارة لي بإعطاء
بطاقة الزيارة إلى بواب الدار وهو راكب.
***
محادثة غلام جيلاني سفير
الأفغان في أنقرة
غلام جيلاني خان هذا ركن من أركان الاتفاق بين الترك والأفغان باتباع
هؤلاء لخطوات أولئك بأن يكونوا تلاميذ لهم وعالة عليهم في تنظيم جندهم
وحكومتهم وإنشاء شعبهم إنشاء أوربيًّا جديدًا، وقد تيسر لي الاجتماع به مرارًا في
الحجاز؛ إذ جاءها مندوبًا عن حكومته لحضور المؤتمر الإسلامي العام في موسم
الحج سنة 1344 وقد جاء هو والمندوب التركي متأخرين عن موعد عقد المؤتمر،
وكان المقدر أن يختم المؤتمر قبل يوم عرفة، ولكن كثرة المجادلات التي أثارها
مندوبو جمعية الخلافة من مسلمي الهند اقتضى تأخير بعض جلساته الختامية إلى ما
بعد انتهاء الحج، وبذلك أدرك مندوبو الترك والأفغان هذه الجلسات.
لقيته أول مرة في أصبوحة يوم عرفة؛ إذ اتفق أن بتنا ليلتها في خيام لجنة
الأطباء الصحية؛ لأننا وصلنا إلى عرفات ليلاً، ولم نهتد إلى خيام ضيافة الملك
التي أعدت لأعضاء المؤتمر، وإنما هدانا إلى خيام اللجنة الصحية مصابيحها
العالية القوية النور، بات كل منا في خيمة وفي الصباح أخبروني بأن سفير الأفغان
عندهم فذهبت إلى زيارته، وأحضروا لنا الفطور إلى خيمته، وجلسنا جلسة طويلة
ذكرت له فيها ما في نفسي من أمر دولتهم على النحو الذي ذكرته لسلطان أحمد
بمصر، فوافقني على كل ما قلته وطمأن من قلقي وأمن من فَرَقِي بقوله: إن جلالة
ملكهم معتصم بالإسلام حريص على المحافظة عليه إلخ.
***
السعي لدى جلالة ملك
الأفغان ورجاله بمصر
لما زار جلالة أمان الله خان مصر في أول شتاء العام الماضي قابلته مع
إخواني أعضاء مجلس الرابطة الشرقية وقدمت له بعض مؤلفاتي ومؤلفات الأستاذ
الإمام فقبلها مع الشكر، ثم رغبت إلى زميلي في المؤتمر الإسلامي العام غلام
جيلان خان سفيره لدى الجمهورية التركية - وكان في بطانته - أن يأخذ لي موعدًا
بمقابلة خاصة لأعرض فيها على جلالته رأيي ورأي حزبنا الجمالي الأفغاني في
الإصلاح الذي تحتاج إليه الشعوب الإسلامية في هذا العصر كما حدثته في الحجاز
ولأقدم له تفسيري للقرآن الحكيم الذي يتضمن أقوى الحجج لهذا الإصلاح الديني
المدني السياسي؛ ليطلع عليه كبار علمائهم عسى أن يخفف من جمودهم فوعدني
بذلك مظهرًا للسرور والارتياح فأعطيته أجزاء التفسير مجلدة تجليدًا حسنًا فما زالت
عنده وما زال يمطلني في أخذ الإذن بالزيارة إلى يوم موعد سفر الملك، فلما علمت
بموعد سفره عجلت بكتابة كتاب إلى جلالته، اختصرت فيه ما كنت أريد بسطه له
بالمشافهة، وهذا نصه:
***
نص كتابي لملك الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
إلى صاحب الجلالة أمان الله خان الملك الأول للأفغان، والمجدِّد فيها لمجد
الإسلام، وفقه الله تعالى لما يحبه ويرضاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإنني عشقت الشعب الأفغاني منذ
نشأتي العلمية بالتبع لعشق المصلح الأكبر حكيم الإسلام وموقظ الشرق السيد جمال
الدين الحسيني الأفغاني - قدس الله روحه - فقد كنت داعية له في حياته وكنت
(وقتئذ) تلميذًا، ثم اتصلت بخليفته وأعظم مريديه الأستاذ الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية - قدس الله روحه - وعملت معه بضع سنين، وما زلت قائمًا
بعده بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي الذي دعيا إليه وجاهدا في
سبيله كما تشهد لي بذلك ترجمتي لهما في تاريخ مستقل وتسعة مجلدات من التفسير
ألفتها على مشربهما وثمانية وعشرون مجلدًا من المنار.
لهذا أعد نفسي من أشد الناس غبطة بقيام جلالتكم بالنهضة الجديدة بالشعب
الأفغاني بعد أن تم له استقلاله المطلق في عهدكم السعيد، ثم من أعظم ساكني مصر
ابتهاجًا برحلتكم هذه إلى أهم بلاد الشرق والغرب بقصد الاختبار لأحوال الممالك
والأمم لتكونوا على بصيرة تامة في إدارة أمر بلادكم وما تحتاج إليه من الإصلاح
مع اتقاء مداحض الزلل الذي يكون شديد الخطر عند الانقلاب.
فبهذا القصد الذي أرشد إليه القرآن يُرْجَى أن تكون رحلتكم عظيمة الفائدة،
وكم من ملك وأمير ساح في الأقطار بغير نية صالحة فازداد غرورًا وفسادًا.
وإنني على عظيم رجائي في نجاحكم ودعائي بتوفيق الله لكم ووقايتكم من
ضرر فصل الشتاء الشديد الوطأة في الشمال شديد الخوف والإشفاق من سريان
عدوى الأفكار المادية إلى بلادكم فتحدث فيها ما أحدثت في غيرها من الشقاق
الداخلي واضطراب الأفكار وفساد الآداب والإسراف في الشهوات وما يقتضيها من
سقوط قوة الأمة المعنوية، التي لا تغني غناءها القوة المادية، بل لا بد لها منهما
كليهما.
ولذلك يعجب عقلاء أوربة وكبار فلاسفتها من ظن مصطفى كمال باشا أنه
يخلق الترك خلقًا جديدًا بإدخال قوانين أوربة فيها، مع أن علماء الاجتماع وعلماء
الحقوق العامة متفقون على أن القانون يجب أن يكون مستنبطًا من روح الأمة
وطباعها وعقائدها وآدابها وتقاليدها، وأن الأمة سليلة التاريخ لا سليلة القانون.
وكانت نفسي تحدثني منذ ثلاث سنين بكتابة تقرير مطول أودعه دحض
الشبهات التي أدخلها الإفرنج بسوء نية في قلوب كثير من الجاهلين بحقيقة الإسلام
من أن الإسلام نفسه هو سبب الضعف والجهل اللذين ألما بالشعوب والدول
الإسلامية بعد أن كانوا بالإسلام نفسه سادة العالم علمًا وحضارة وقوة، وبيان فوائد
الدين المطلق في كل أمة، وهي التي تحمل الأوربيين على بذل الملايين الكثيرة في
سبيل تعزيز دينهم والدعوة إليه ونشره في العالم، وبيان ما تحتاج بلادكم وأمثالها
إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها، وما هي في غنًى عنه الآن، وما
هو خطر على مقوماتها ومشخصاتها التي كانت بها أمة ممتازة عن أمم الغرب في
دين ولغة وتشريع وأخلاق وعادات أيضًا لأقدم هذا التقرير لجلالتكم.
ولكنني كنت على حد المثل العربي (كمن يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى) لأنني
لم أكن واثقًا بأنني أستطيع أن أوصل إلى جلالتكم ما أكتبه وأن يترجم لكم ترجمة
صحيحة وتطلعون عليه.
أما وقد تشرفت بمعرفتكم الآن وقدمت إليكم بعض كتبي الصغيرة المشتملة
على أهم مقاصد الدين الإسلامي وإصلاحه للبشر فتناولتموها بيديكم الكريمتين،
فإنني أرجو أن يكون قد مهد لي لأن أوصل إليكم مرة بعد أخرى ما وصلت إليه من
المعلومات مدة اشتغالي بالدعاية إلى الإصلاح الذي يقتضيه حال هذا العصر.
وإنني أرجو أن يُتَرْجَم لجلالتكم قبل كل شيء (خلاصة السيرة المحمدية)
لأنه على اختصاره جامع لأهم قواعد الإسلام وحجته الكبرى ومزاياه على سائر
الأديان بالأسلوب المقبول لدى عقلاء هذا العصر.
ثم أرجو أن يُتَرْجم لجلالتكم مقدم كتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) ثم ما
تختارون للترجمة منه بعد النظر في فهرسه وإن لم يترجم كله، ثم أن يترجم لكم
مقدمة كتاب (الوحدة الإسلامية) ثم ما شئتم من فصوله ثم رسالة التوحيد لشيخنا
الأستاذ الإمام ولم يؤلف مثلها في الإسلام.
وهنا ذكرت له إهداء مجلدات تفسير القرآن الحكيم التي أرجعها إليَّ غلام
الجيلاني، ثم قلت:
أيها الملك الحازم
إنك قائم بأمر عظيم يتوقف النجاح فيه على علم بأمور كثيرة، ولا سيما عبر
تواريخ الأمم وتاريخ الإسلام وشعوبه خاصة ويحتاج إلى بصيرة نافذة في سنن الله
في الأمم يعين عليها علم الاجتماع، وأول ما يجب عليكم وعلى رجالكم الاعتبار به
وإطالة التفكير في أطواره تاريخ الدولة العثمانية الحديث وتاريخ مصر الحديث،
وأعني بالتاريخ الحديث ما كان منذ مائة سنة ونيف أي منذ شرعت حكوماتهما تقلد
الدول الأوربية على غير بصيرة ولا هدًى فكان هذا التقليد سببًا في ضد ما أريد به
من قوة وثروة واستقلال؛ إذ كان سببًا لانحلال (الإمبراطورية العثمانية) الواسعة،
وسببًا في احتلال الإنكليز لمصر.
ومما يجب التفكير فيها ما بين شعبكم الأفغاني وبين الشعبين التركي
والمصري من الفروق، وأهمها أن كلا منهما قد ذللته حكومته بالتجنيد النظامي أو
بحكم القهر والشدة فصارت قادرة على التحكم فيه كيف شاءت، وشعبكم لم يذلل
كذلك، وإن الأفكار والتقاليد الأوربية قد دخلت فيهما بالتدريج في مدة قرن أو أكثر،
ومع هذا كان ضررها أكبر من نفعها في كل من الأمة والدولة لعدم الجمع بينها
وبين التربية الإسلامية وعدم الاقتصار على ما تحتاج إليه الأمة والدولة كالنظام
المالي والنظام العسكري وفنون الثروة من صناعة وتجارة وزراعة إلخ.
وجملة القول أن نهوضكم بقلب أحوال الشعب الأفغاني يحتاج إلى حكمة دقيقة
وعلوم واسعة وثروة عظيمة وتدريج بطيء في كثير من الأمور، وإنما يجب
التعجيل بما ذكرنا آنفًا في بيان خطأ الترك والمصريين (وهو النظام المالي إلخ) ،
ويجب الحذر التام من حرية الإسراف والفسق والترف وتبرج النساء ومن القوانين
المخالفة لعقائد الأمة وشريعتها الثابتة بالنصوص القطعية - ولا يضر مخالفة بعض
الفقهاء في الأمور الاجتهادية كما بيناه في كتبنا التي معكم- ومن الفلسفة المادية التي
تفضي قطعًا إلى فوضى الأفكار وقبولها للبلشفية وأمثالها وإلى الفتن الكثيرة فإنه لا
واقي للأمة منها إلا الدين القويم، وهذا العاجز مستعد لكل خدمة علمية تحتاجون
إليه للتوفيق بين الحضارة العصرية والدين، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
الإمضاء، وكتب في 10 رجب سنة 1346 (3 يناير سنة 1928)
ودعت جلالة الملك أمان الله عند سفره مع المودعين في محطة مصر،
وأعطيت هذا الكتاب لسعادة سفيره غلام جيلاني ورجوته أن يعطيه إياه في المحطة
فوعد بذلك.
وقد لقيت في المحطة صاحب الدولة وزير خارجية حكومة الملك، وهو حموه
والد الملكة ثريا التي ولدت له في دمشق من زوج سورية، وكل منهما يعرف
العربية كالمتعلمين من السوريين والسوريات) فودعته وأظهر كل منا الأسف لعدم
التلاقي بمصر، وذكرت له كتابي للملك ورجوته منه أن يترجمه لجلالته، ثم كتبت
إليه الكتاب الآتي، وأرسلته إليه وهو في الإسكندرية قبل سفرهم منها وهذا نصه:
***
كتابي إلى وزير خارجية الأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم
من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار بمصر.
إلى صاحب الدولة محمود الطرزي خان، وزير خارجية الأفغان، كان الله له
ولنا حيث كنا وكان.
أحييك تحية مباركة طيبة، وقد كنت حريصًا على لقائك والتحدث معك في
النهضة الأفغانية لما سمعت من صديقي السياسي الكبير الأمير شكيب أرسلان
الشهير من الثناء عليك [1] فلم يقدر الله لنا ذلك فكتبت بعض رأيي بالاختصار
لجلالة الملك أمان الله خان، وأعطيت الكتاب لسعادة سفيركم غلام جيلاني عند
الوداع كما أخبرتكم في المحطة راجيًا من دولتكم ترجمته لجلالته، وإنه لأحوج إلى
سماع النصيحة منه إلى سماع مدح التملق والملاطفة، وإن كان حقًّا، فمجال مدح
جلالته ذو سعة.
وعسى أن تترجموا له ما أشرت إليه من مسائل كتبي التي أهديتها إلى جلالته،
ولا سيما كتاب الخلافة بعد أن تطلعوا عليه وكنت عازمًا على إهداء دولتكم نسخًا
أخرى لو لقيتكم.
أيها الوزير الكبير، لا أكتم عنك أنني في أشد الخوف على مستقبل الأفغان
مما أراه من محاولة الطفرة في نهضة جلالته بها حاذيا حذو الترك الكماليين، كما
أعتقد أن التجربة الجديدة التي شرع فيها مصطفى كمال ستكون أخسر من كل
تجربة جديدة اغتر بها الترك من قبل، وأرى جميع العقلاء المحنكين منا ومن
الإفرنج يعتقدون هذا.
فالترك يقلدون أوربة منذ قرن أو أكثر ولم يستطيعوا إلى الآن صنع أسلحة
يستغنون بها من شراء الأسلحة منها فضلاً عن البوارج الحربية بأنواعها والطيارات
والدبابات ولا أقول اختراعها.
وكانوا من عهد السلطان محمود إلى عهد مصطفى كمال كلما قلدوا أوربة في
شيء يتيهون كعادتهم عجبًا، ويظنون أنهم يفوقونها عظمة وبأسًا، جاهلين أن مثلهم
كمثل من يحاول إلباس الضخم الجثة ثوب النحيف، ومن يضع الحمل الثقيل على
البعير الضعيف، فتقليدكم إياهم على خيبة مساعيهم وما بينكم وبينهم من الفروق
التي جعلتكم أبعد عن الاستعداد منهم هو خطر على الأمة والدولة وعلى البيت المالك
أيضًا.
فانصحوا لجلالته بأن لا يغتر بالظواهر في مصر ولا في الترك فمصر لولا
إسراف إسماعيل باشا في التفرنج والمال لاستطاعت أن تملك شطر أفريقية الشرقي
كله، والترك لو ساروا على بصيرة كاليابان لاتسعت سلطنتهم في الشرق والغرب،
ولظلت كما كانت قبل نهضة أوربة أقوى دول الأرض، ولكنها زالت فلم يبق منها
إلا إمارة أقل عددًا وثروة من مصر التي كانت إحدى ولاياتها.
فإن كنتم لا توافقونني على رأيي هذا فأخبروني بشبهتكم لأكشفها لكم بكتابة
طويلة مفصلة، وإلا فاحفظوا قولي هذا وأحفظه أنا إلى أن يصدقه الزمان أو يكذبه،
بل إذا ظللتم على ما يظهر لنا من تقليدكم للترك وتهوكتم فيه، فأنا أنشر هذه
النصائح في المنار وأزيد عليها؛ ليعتبر بها من بعدنا إذا لم تظهر العاقبة في زماننا.
ولولا أنني أعتقد أن هذه النصيحة فرض عليَّ يعاقبني الله على تركه وأنها -
على ذلك - وفاء دين علينا لأستاذ نهضتنا الأكبر السيد جمال الدين الأفغاني (أحسن
الله ثوابه) يجب علينا بعده لوطنه وملك وطنه - لما كلفت نفسي أن أقابل ضيف
بلادنا العزيز بما قد يَمْتَعِض منه ولو على سبيل الاحتمال، بل أرجو أن يقابله
بالقبول والاعتبار.
وجملة القول أن الأمم بأخلاقها ووراثتها، ثم بما تتربى عليه بالتدريج جيلاً
بعد جيل (والعاقبة للمتقين) فنسأله تعالى لنا ولأولياء أمورنا أن يجعلنا منهم آمين.
والسلام عليكم أولاً وآخرًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
هذا مجمل سعيي لدرء الخطر عن الأفغان، وقد وقع ما توقعته فجلالة أمان
الله خان قد شد أواخي الإخاء بينه وبين فخامة مصطفى كمال باشا في أنقرة وتعاهدا
على ما يسميانه التجديد اللاديني من كل وجه، ولا أملك حرية لنقد أخبار تلك
الرحلة، ونتيجتها أنه لما عاد الملك إلى بلاده كان أول شيء دعا إليه قومه هو حلق
ذقونهم وإلقاء عمائمهم ونزع ملابسهم الوطنية والتزيي بالزي الإفرنجي من البرنيطة
إلى الحذاء وترك النساء للحجاب إلخ، على ما نعلم من تعصبهم لتقاليدهم الدينية
والقومية وفقرهم، وقد نصب الملك نفسه ورجال حكومته قدوة للرجال في ذلك
والملكة ثريا نفسها قدوة للنساء فصارت تحضر المجامع العامة حاسرة سافرة وتودع
التلاميذ الكبار عند سفرهم إلى أوربة والأناضول بتقبيلهم، ثم طفق يرسل ثُلَّة بعد
ثُلَّة من صغار الغلمان والبنات إلى أنقرة ليتولى الكماليون تربيتهم وتعليمهم
وإعدادهم للقيام بما يفعله الترك في بلادهم من التجديد، وقد بلغني من ثقةٍ كان في
أنقرة أن هؤلاء الصغار ولا سيما البنات يعهد بتربيتهن إلى من هنالك من الأسر
الأوربية دون التركية لعلمهم بأن أكثر نساء الترك معتصمات بالإسلام فيخشى أن
يربين البنات عليه.
وقد أظهر الشعب الأفغاني وزعماؤه معارضتهم للملك في مطالبه هذه فحاول
مقاومتهم بالقوة ووردت الأنباء بأنه قتل بعضهم ونفى بعضًا، فاشتعلت نار الثورة
في البلاد، وهذا ما كنا نعتقده وحذرناهم منه (فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد)
فلم يبالوا بنصحنا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كنت سمعت هذا الثناء من الأمير شكيب في أوربة منذ بضع سنين ولكنني بعد كتابة هذا الكتاب أخبرت الأمير به، وبكتابي إلى الملك ورغبت إليه في تأييد قولي عندهما إذا لقيهما في أوربة، فكتب إليَّ أن أمله قد خاب في الوزير الطرزي ولن يسعى للقائه.(29/549)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مبرة الدمرداش باشا الكبرى
في الأسبوع الأخير من شهر صفر ثاني شهور هذا العام نوَّهت الصحف
اليومية بما كتبه صاحب السعادة الشيخ عبد الرحيم باشا ابن مصطفى الدمرداش
المثري الشهير إلى الحكومة من تبرعه هو وزوجته الكريمة وكريمته قوت القلوب
هانم بقطعة من الأرض في حي الدمرداش المشهور بجانب شارع الملكة نازلي من
جهة العباسية لأجل أن يُبْنَى فيه مستشفى، وبمبلغ ستين ألف جنيه مصري تستغلها
الحكومة لصرف غلتها السنوية على المستشفى على أن تقوم هي بباقي النفقة إذا لم
تكف هذه الغلة لها.
واشترط في وقف هذا المستشفى أن يكون عامًّا لجميع الأمراض غير المعدية،
وأن يقبل فيه جميع المرضى الفقراء مجانًا على اختلاف جنسياتهم وديانتهم، وأن
يبنى بفنائه مسجد لأداء فريضة الصلوات ويجعل بجانبه ثلاثة ضرائح لدفن
المتبرعين فيها بعد وفاتهم، وأن يقام داخل المستشفى تمثال نصفي لحضرة
صاحب السعادة عبد الرحيم باشا الدمرداش وأن يحتفل سنويًّا بذكرى سعادته في
اليوم الذي يوافق تاريخ الاحتفال بافتتاح المستشفى.
وقد قرَّر مجلس الوزراء في 28 صفر الموافق 14 أغسطس قبول ذلك وشكر
سعادته وأسرته على هذه الهبة الجليلة.
ثم قامت مصلحة المباني الأميرية بتجهيز مشروع البناء وتم ذلك وشرع فعلاً
في التنفيذ وتبلغ مساحة الأرض التي سيقام عليها المستشفى 12. 400 متر مسطح
تقريبًا، ويتكون المشروع من مستشفى يسع حوالي 90 سريرًا، وسيحتوي
المستشفى على الأقسام الآتية:
(1) الإدارة مع سكن للطبيب المقيم ورئيسة للممرضات بالدور الأول.
(2) عنبران للمرضى: أحدهما بالدور الأرضي ويخصص للرجال والآخر
بالدور الأول، ويخصص للنساء ويشمل الأخير قسمًا للولادة.
(3) قسم العمليات يكون فيه غرفة لأشعة إكس.
(4) قسم للعيادة الخارجية.
(5) قسم للمطابخ.
(6) قسم للمغسل.
(7) قسم للمشرحة.
(8) قسم للعزل.
(9) المسجد والمقابر.
وسيكون البناء بحجر الدبش المبيض مع أحزمة من الطوب وميول مغطاة
بالقراميت تكون كرنيشًا بالوجهات العمومية.
الشيخ عبد الرحيم باشا الدمرداش هذا هو شيخ الطريقة الدمرداشية المشهورة،
وكان من أصدقاء شيخنا الأستاذ الإمام وأنصاره وقد عرفناه وعرفنا منذ جئنا
مصر باتصالنا بالأستاذ الإمام والعمل معه في سبيل الإصلاح، وكان من أول
المشتركين في المنار.
قد سبق جميع الذين كانوا يقيمون الموالد المعروفة إلى منع الفسق والفجور
من احتفالاتها بمنعه ذلك من مولد الدمرداش الكبير المشهور بلقب (المحمدي)
ونوَّهنا بعمله هذا في العدد 42 من سنة المنار الأولى الذي صدر في 24 شعبان
سنة 1316 (7 يناير 1899) تحت عنوان (وميض لمع في ظلمات بدع) ويجد
القارئ ذلك في ص 828، 829 من الطبعة الثانية للمجلد الأول.
ومما قلناه في ذلك: وعسى أن يكون الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحيم خير
قدوة لهم (أي أهل الطريق) في تطهير الطريق من كل البدع، وتحريره على
السنة السنية ولو بالتدريج إلخ.
ونقول الآن: عسى أن يكون قدوة للأغنياء في المبرات والأعمال النافعة
للناس، ونقترح عليه أن يجعل المقابر الثلاث التي ستُبْنَى موافقة لأحكام الشريعة بأن
تكون بمعزل عن المسجد وأن لا يجعل لها مصابيح توقد فيها لما ورد في الأحاديث
الصحيحة من لعن الذين يبنون المساجد على القبور والذين يوقدون عليها السُّرُج،
ونسأله تعالى أن يطيل أعمارهم ويوفقهم لغير ذلك من المبرات، ولا سيما نشر
العلم والإصلاح الديني.
__________(29/559)
جمادى الآخرة - 1347هـ
ديسمبر - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
وظيفتا القضاء والإفتاء وحكم من سُئِلَ فلم يُجِبْ
بسم الله الرحمن الرحيم
س (40 و41) من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليه:
1 - هل وظيفة القضاء والإفتاء قديمة في الإسلام أم حديثة فإن فريقًا من الناس
يقول: إنها قديمة، والفريق الآخر يقول: إنها حديثة فما هو القول الصحيح؟
2 - ما حكم الله تعالى ورسوله في القاضي والمفتي والعالم إذا سُئِلُوا عن
سؤال شرعي ولم يجيبوا عنه مطلقًا سواء كان السؤال تحريريًّا (خطيًّا) أو (شفهيًّا)
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
(ج) القضاء بين الخصوم من ضروريات الاجتماع التي لا تقوم بدونها
حكومة، ومِن ثَمَّ صار منصبًا يقلد منذ صار للإسلام حكم، وصار له أتباع
يختصمون إلى حكامه، وكان عمال النبي صلى الله عليه وسلم يحكمون بين الناس،
وولى صلى الله عليه وسلم معاذًا على اليمن وأذن له بالحكم باجتهاده فيما ليس فيه
نص من كتاب الله ولا سنة من رسوله، وولاية القضاء معروفة مشهورة في كتب
السنة والفقه فراجع كتاب الأحكام في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة والفقة
والتاريخ ومن المشهور في ذلك كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء لقاضيه شريح.
وأما الإفتاء فقديم أيضًا، وكان علماء الصحابة يفتون بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولكن الإفتاء لم يكن في عهد السلف (وظيفة) تُقَلَّد لإفراد معينين
كما نَعرف في دول الإسلام الأخيرة، ولا أذكر الآن أيها كان السابق إلى ذلك.
وأما حكم الله تعالى في العالِم إذا سأله سائل عن شيء من أمر دينه فهو ما
بيَّنه تعالى بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ
تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) فكتمانه العلم بما يجب اعتقاده أو العمل به شرعًا،
وبما يحرم فعله شرعًا محرمٌ على العالم بالحكم، ولا سيما إذا سئل عنه ولم يكن
ثَمَّ عالم آخر يقوم مقامه، وكان السلف الصالح يكرهون السؤال عما لم يقع ولم
يحتج السائل ولا غيره إلى العمل به ولا يرون حرجًا في عدم الجواب عنه، وقد
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره السؤال، وينهى عنه، فما القول في
السؤال عما لا فائدة فيه أو السؤال عن شئون الدنيا التي لا يتعلق بها حكم شرعي
احتيج إليه للعمل به؟ وفروع هذا الباب كثيرة يضيق وقتنا الآن عن التطويل فيها
فنكتفي بهذا الإجمال الوجيز.
***
بدعة دعاء ليلة نصف شعبان والاحتفال فيها
س42 من صاحب الإمضاء في مجدل عسقلان (فلسطين)
سيدي الفاضل المحترم علامة العصر السيد محمد رشيد رضا أدامه الله آمين،
بعد التحية الوفية، أعرض لقد جرت عادة الناس في هذا البلد بإحياء ليلة النصف
من شعبان في كل سنة قبل صلاة العشاء في المسجد وإنهم يدعون الله (عز شأنه)
بصيغة دعاء نصف شعبان المعلومة التي من جملتها: (اللهم إن كنت كتبتني عندك
في أم الكتاب شقيًّا أو أو إلخ فامح اللهم بفضلك من أم الكتاب شقاوتي إلخ؛ لأنك
قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على نبيك المرسل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) وذلك بعد صلاة ركعتين بنية طول
العمر وغيرها، وقراءة سورة يس ويكررون العمل ثلاثًا، فهل ورد ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الراشدين أو هو بدعة؟ وهل في ذلك حرج
على الداعي وحرمة؟ وما الذي يجدر بالمسلم لإحياء ليلة النصف من شعبان،
وماذا يناسب من صيغ الدعاء في تلك الليلة؟ أفيدونا مأجورين ولحضرتكم من الله
جزيل الثواب سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... يوسف محمود الشريف
(ج) الاحتفال المعروف بإحياء ليلة نصف شعبان بدعة فصَّلْنا القول فيها
وفي دعائها المعروف في الفتوى الرابعة من فتاوى الجزء السادس عشر من مجلد
المنار السادس، وفي باب الانتقاد على المنار من آخر الجزء 24 من ذلك المجلد،
فراجعهما تجد فيهما كل ما تحتاج إلى معرفته، ومنه أن الله تعالى لم يشرع
للمؤمنين في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في سنته عملاً
خاصًّا بهذه الليلة، فَيَحْسُن فيها كل ما يحسن في غيرها من عبادة ودعاء بشرط أنه
لا يعتقد فاعله ولا يقول بأنه مشروع فيها وحدها؛ لأنه يكون حينئذ شرعًا لم يأذن
به الله، بل افتراء على الله.
***
بدع خاصة بزيارة سيدنا الحسين رضي الله عنه
س (43- 46) ومنه: حضرة السيد الفاضل العلامة محيي السنة صاحب
المنار حفظه الله آمين.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد إنني في بلد راجت فيه الخرافات،
وكثر فيه المبتدعون حتى أصبح المنكر بينهم معروفًا والمُنْكِر لخرافاتهم ممقوتًا،
ولا وازع لهم من عقل ولا زاجر من دين، يتبعون أهواءهم، ويصرون على اتباع
المنكر عنادًا وكبرًا، لكن في القوم من إذا أقيم له الدليل على فساد ذلك الابتداع
يرجع إلى الصواب ولا يتبع سبيل المضلين، وإنني لا أجد لإرشاد قومي أنجح من
إرشاد المنار فأرجو أن تتكرموا بالجواب على ما يأتي من الأسئلة بما أتاكم الله من
العلم لأتقدم للقوم بتلك الدرر النفيسة لعلهم يرشدون.
***
الأسئلة
إن المبتدعة أحدثوا (علمًا) جعلوه لسيدنا الحسين رضي الله عنه، واحتفلوا
به في شوارع المدينة، واختلطت النساء بالرجال في الاحتفال بلا تستر رافعات
أصواتهن بأنواع الغناء، وصار الناس يتمسحون بالعلم بقصد التبرك والاحترام،
وترك الغالب من المحتفين الصلوات الخمس المفروضة لهوًا بهذا العلم، وزار
الناس (سيدنا الحسين) في مقامه بجهة عسقلان حافين من حول (العلم) يكبرون،
وأهل الطرق (الدراويش) منهم يطبلون، ويضرب بعضهم بعضًا بالسيوف
إظهارًا لما لهم (بزعمهم) من الأسرار والكرامات، وزعم بعض المنتسبين (للعلم)
أن إحداث هذا العلم للتودد لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل على هذا
بآية {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) فهل ذلك
من المحدثات المنكرة والبدع المنهي عنها؟ وهل -والحالة هذه- يجب على المسلم
درء هذه المفاسد مهما كلَّفه الأمر؟ وماذا يكون جزاء أهل المدينة، ولا سيما العلماء
إذا سكتوا على هذا المنكر؟ وماذا يقال في حق مبتدعيه، وفيمن يرى أن التودد
لأهل البيت المطهرين يكون بمثل تلك الخزعبلات؟ أفيدونا ولكم الشكر والثواب
والله يحفظكم
... ... ... ... ... ... ... ... يوسف محمود الشريف
(ج) كل هذه المذكورات من البدع التي لا تَخْفَى على من له أدنى إلمام
بدين الإسلام، والسكوت عن الإنكار على مرتكبيها حرام، وقوله تعالى: {قُل لاَّ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) استثناء منقطع،
ومعنى الآية قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين لك: إنني لا أسألكم على
تبليغ دعوتي ربي بتلاوة كتابه أجرًا، ولكنني أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم، وما
تعظمون من صلة الأرحام، فلا تؤذوني ولا تصدوني عن تبليغ دعوة ربي، وهذا
معنى ما فسر الآية به ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه كما بينته بالتفصيل
والروايات من قبل، والروافض يزعمون أن الله تعالى أمر رسوله بهذه الآية أن
يطلب من أمته أجرًا على تبليغ الدين خلافًا لما ورد عنه وعن غيره من النبيين في
الآيات المتعددة، وسرى هذا المعنى الباطل إلى أذهان كثير من أهل السنة كما بيناه
من قبل، وراجع التفاسير المأثورة كتفسير ابن كثير تلق فيها صحة ما قلناه وهو
الموافق لعقيدة الإسلام.
أما درء مفاسد هذه البدع بالفعل فيجب إذا لم يترتب عليه ما هو أكبر منه
إفسادًا، واختلف اجتهاد العلماء في قدر ما يجب احتماله من الأذى في هذه السبيل،
والأصل في هذا حديث (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،
فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن
الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأما حكم السكوت عن إنكار هذه
المنكرات كغيرها حيث تقع فهو أن جميع المسلمين العالمين بذلك يأثمون بترك
الإنكار، ولكن إذا قام بعضهم بما يجب منه سقط الإثم عن الباقين - وأما ما يقال
في مبتدعي ما ذكر إلخ فهو أنهم مبتدعون جاهلون، وشرهم من يتأول لهم ويجعل
هذه البدع القبيحة التي شوهت الإسلام في نظر الأجانب والمستقلين من المسلمين
الذين يصدقون أنها منه، ولا سيما تأويل من جعل لها أصلاً من كتاب الله بتحريف
آية المودة في القربى تبعًا للروافض الذين يلكونها بألسنتهم متبجحين بأنهم هم أهلها
الذين يؤدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجرته على تبليغ وحي ربه خلافًا لما
أمره كما أمر من قبله من رسله بأن يبلغوه لأممهم من عدم سؤالهم عليه أجرًا، ومن
حصر سؤال الأجر بكونه من الله وحده كما تراه في سورة يونس وهود والفرقان،
وفي خمس آيات من سورة الشعراء وسبأ وص، فإن مثل هؤلاء المتناولين يكذبون
على الله تعالى بإدخال البدع في دينه وتحريف كلامه بأهوائهم وبمشاركة أنفسهم له
عز وجل في شرع الدين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وهل أفسد عوام أقوام الأنبياء وأتباعهم إلا أدعياء العلم بالتأويل
والتحريف لما جاءوا به؟
***
حكم الزوج الذي يدَّعِي خلع زوجته
س 47 من صاحب الإمضاء في بندر النقل (جاوه) تأخر نشرها لمرضنا.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حضرة الأستاذ الجليل المحترم صاحب الفضل والفضيلة السيد محمد رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، حفظه الله ونفعنا وجميع المسلمين بعلومه.
بعد التحية اللائقة بمقامكم الشريف وجزيل السلام ورحمة الله وبركاته.
أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجين التكرم منكم بالإجابة عليه سريعًا ولكم منا
جزيل الشكر، ومن المولى عظيم الثواب والأجر.
وهو: ما حكم من قال: طلقت زوجتي فلانة من عقدي طلقة خلعية بعوض
قدره ربع ربية، وأخرج من جيبه قطعة نقود من ذات ربع ربية، ثم ردها في
الحال إلى جيبه، وقال: استلمت العوض بحضور قاض وشهود، مع أن العوض
خرج من جيبه ورجع إلى جيبه، فهل هذا طلاق خلعي يا حضرة الأستاذ أم غير
خلعي.
فإذا قلتم بأنه غير خلعي، فما الدليل في ذلك من مذهب الإمام الشافعي رضي
الله عنه، وما حكم من أفتى بأنه خلعي، وسبَّب بفتواه حرمان الزوجة من نصيبها
في إرث زوجها.
هذا مع إعلامكم أن الفتوى رفعت إلى الحكومة المستعمرة هنا، والحكومة
أعادت المسألة إلى المفتي هذا، وهو أحد موظفي القضاء بهذا البلد؛ ليتأملها ثانيًا
فأصر على كونها صحيحة، وقد حدثت ضجة بين أهالي الزوجة وورثة الزوج.
والمسألة إلى الآن في يد المحكمة لم يُبَتَّ في أمرها: فالرجاء من فضيلتكم
الجواب الشافي لا زلتم ملجأ للمسلمين، حرِّر في بندر النقل جاوا في 25 ربيع
الأول سنة 1347 (تأخر نشرها لمرضنا) .
... ... ... ... ... ... ... ... عمر بن صالح قوبان
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... باوزبر
(ج) إن قصد الزوج بما ذكره عنه السائل إنشاء خلع بقوله ذاك فهو جاهل،
والخلع لا ينعقد به؛ لأنه لا بد أن يكون باتفاق بينه وبين الزوجة بأن تبذل هي
العوض؛ إذ الأصل في مشروعية الخلع قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة: 229) وههنا لم توجد زوجة بذلت
لزوجها شيئًا طلقها في مقابله لا بنفسها ولا بوكيل شرعي عنها، ولا حاجة إلى دليل
غير هذا من مذهب الشافعي ولا غيره من أئمة الفقه، ومن المعلوم أن الشافعية
يُعَرِّفُونَ الخلعَ بمثل ما قاله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في المنهج: هو فُرْقَة
بعِوَض لجهة زوج وأركانه: ملتزم، وبضع وعوض وصيغة وزوج إلخ، ولهذه
الأركان شروط لا تصح بدونها ولم يوجد في واقعة السؤال إلا زوج ادعى بذل
العوض، فلا حاجة إذًا إلى بيان تلك الشروط، ولكن الظاهر أنه لم يقصد إنشاء
الخلع، بل أخبر بأنه وقع منه أمام قاض وشهود، فإن ثبت هذا وجب تنفيذه، وإذا
كانت القضية قد رفعت إلى المحكمة الشرعية فلا بد أن تطلب المحكمة ذلك القاضي
والشهود الذين ادعى الزوج إيقاع الخلع بحضورهم، وتبني حكمها على ما تقتضيه
شهادتهم (وقد تأخر الجواب عن هذه الفتوى وغيرها بسبب مرضنا) .
***
الأكل في بيت المرابي وشراء أوراق يانصيب
س (48و49) من صاحب الإمضاء في سورابايا (جاوه) .
سيدي المحترم محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار.
ليس لي أمر سوى الدعاء لكم بدوام معاليكم وانتظار ما يرد من نحو ناديكم،
فالذي أرجوه منكم الجواب على هذين السؤالين في مجلتكم المحترمة.
(1) هل يجوز لمسلم أن يأكل في بيت مسلم مرابيًا (كذا) .
(2) هل يجوز لكل مسلم أن يشتري أوراق أو ورقة اليانصيب الذي نسميه
هنا (لتري) وهل هو حرام أم حلال أفيدونا، ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سالم منجي
(ج) أما الأكل في بيت المرابي من كسبه الحرام فلا تفعله إن لم يكن له
كسب سواه، بناء على القول بأن الحرام يتعدى فاعله إلى غيره ممن يعلم أن كسبه
حرام، وأما إذا كان له كسب سواه فيعد الأكل منه من الشبهة التي لا يقطع بحرمتها
والاحتياط بتركها أولى، وفي المسألة مباحث فرعية تختلف باختلاف الزمان
والمكان والأحوال، فمن ذلك مباحث الضرورة وحكم ما إذا طبق الكسب الحرام
الأرض أو قطرًا منها فقد أباح العلماء فيها الأكل من المال الحرام بما يزيد على سد
الرمق الذي أباحوه في حالة الاضطرار كما ذكره الشاطبي في الاعتصام، ونقلنا
عنه في موضوع المصالح المرسلة (ص 848من مجلد المنار الحادي عشر) ولنا
في مسألة أكل الحرام من الربا والقمار وإرثه والعقاب عليه في الآخرة فتوى طويلة.
(س23و24) نشرًا في صفحة 340-344 من مجلد المنار فينبغي أن
تراجعوهما عن سؤالين للوقوف على التفصيل في جواب سؤالكم.
وأما أوراق (اليانصيب) فهي من القمار الذي هو نوع من أنواع الميسر
المحرم، فلا يجوز للمسلم شراؤها، والله أعلم.
***
أي الرجلين خير: من يعمل لأمته أو من يعمل لنفسه؟
(س50) من محمد أفندي جمعة الخياط وتاجر الجوخ في ميناء طرابلس
الشام.
جناب حضرة الأستاذ المعظم وفخر هذا الزمان وبهجته الأوحد السيد رشيد
أفندي رضا الأفخم، بكل احترام ألثم وجهك الطاهر، وأياديكم المباركة، طالبًا منه
تعالى أن يمتع الإسلام بطول حياتكم آمين.
وبعد فإن أحد شبان طرابلس قال قولاً ورفعه إلى سماحتكم فأنكرت عليه ذلك
وبادرت بتحريري هذا مبينًا لسماحتكم قول ذاك الشاب وهو أن الرجل الذي يخدم
أمته، وهو تارك الصلاة خلفه ظهريًّا خير من الرجل الذي لا يخدم ملته، وهو
محافظ على الصلاة مجاهد نفسه، أسترحم تصحيح الخبر على صفحات مجلتكم
لقطع دابر المفسدين، والله من وراء القصد. إن الخبر تقرر من الشاب حتى إلى
بعض العلماء ناسبًا تلك الفتوى إلى سماحتكم مولاي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد جمعة الزيلع
(ج) لا أذكر أنني كتبت فتوى في هذا الموضوع فأراجعها وكان ينبغي لكم
أن تسألوا المدَّعِي لذلك في أي جزء أو صفحة من أي مجلد من المنار نشرت هذه
الفتوى، وأما الذي أعتقده فهو أن الذي يصلي ويجاهد نفسه أفضل ممن لا يصلي
ولا يجاهد نفسه فإن تارك الصلاة مستحلاًّ لتركها كافر بإجماع المسلمين وفي كفر
تاركها مع الاعتقاد بوجوبها خلاف بين الأئمة، وإن الذي يخدم أمته خير لها ممن لا
يخدمها سواء أصلى أم لم يصل ولكنه إذا كان لا يصلي لا يكون خيرًا لنفسه بل هو
شر لها، وخير منهما من يخدم أمته ويؤدي فرائض دينه.
__________(29/561)
الكاتب: عبد الله محمود شكري
__________
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
(3)
نتيجة ما تقدم في إبطال زعم الرافضي
زعم الرافضي العاملي أن ابن تيمية أول من أثبت ما ذكر من صفات الله
تعالى بدون تأويل، وتبعه بعض تلاميذه ثم الوهابية، وأنهم خالفوا في ذلك جميع
المسلمين، وهذا كذب وافتراء وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى
الرفض الذي من أصوله تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل وجعله عز وجل كالعدم،
تعالى الله عما يقول المبتدعون علوًّا كبيرًا، فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي
منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولعل كل قارئ للقرآن
أو سامع له من المسلمين قد قرأ أو سمع قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وزعم الرافضي أن ابن
تيمية يثبت لله تعالى يمينًا وشمالاً، ونصوصه تدل على أنه يتبع نصوص الكتاب
والسنة، وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين، ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) وثبت في حديث مسلم والنسائي: ( ... وكلتا
يديه يمين) والحديث في إثبات الشمال لا يصح كما بيَّنَه الحافظ ابن حجر في الفتح
والحافظ البيهقي قبله في كتابه (الأسماء والصفات) وكأن الرافضي لم يره وسمع
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وما في معناها وقوله تعالى
في الملائكة] يخافون رهم من فوقهم [وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وقوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة:
186) إلخ، وليعلم القارئ أن ما عزاه هذا الرافضي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية
وتلاميذه الأعلام ثم إلى الوهابية مما ليس في القرآن فهو في الأحاديث الصحيحة
كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري ومسلم وغيرهما: (ينزل ربنا تبارك
وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) إلخ، وأما الصوت فقد ذكر فيه البخاري عن
ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بوحي سمع أهل السموات شيئًا فإذا فُزِّعَ
عن قلوبهم وسكن الصوت وعرفوا أنه الحق من ربهم ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا:
الحق) . قال البخاري: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أُنَيْس سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه
من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان) .
أما حديث ابن مسعود فقد رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًَا موقوفًا عليه،
ووصله البيهقي في الأسماء والصفات وغيره كما فصَّله الحافظ ابن حجر في فتح
الباري، وأما حديث عبد الله بن أُنَيْس (بالتصغير) فذكر الحافظ في شرحه من
فتح الباري مَن أخرجه مسندًا: وروى البخاري بعده بسنده المتصل إلى أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يا آدم
فيقول: لبيك وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى
النار) وذكر الحافظ في شرحه له أن (ينادي) وقع مضبوطًا للأكثر بكسر الدال
وفي رواية أبي ذر بفتحها، أي والثانية تحتمل من التأويل ما لا تحتمل الأولى.
وذكر الحافظ في شرح الحديث الأول تأويل من أوَّله من الأشعرية ثم قال ما
نصه (ص383ج13) : (وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم
منه أن الله تعالى لم يُسْمِع أحدًا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه، وحاصل
الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين؛ لأنها التي عُهِدَ أنها
ذات مخارج ولا يخفى ما فيه؛ إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية
قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق، سلمنا لكن نمنع القياس المذكور وصفات
الخالق لا تُقَاس على صفات المخلوق، وإذا ثبت الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة
(وكان الحافظ قد بيَّن غير ما في البخاري منها) وجب الإيمان بها؛ ثم إما
التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق) اهـ، وظاهر كلامه أنه يختار التفويض
اتباعًا للسلف.
ثم قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد ما نصه (ص 386 ج 13) :
(واختلف أهل الكلام في أن كلام الله تعالى هل هو بحرف وصوت أو لا؟ فقالت
المعتزلة: لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت والكلام المنسوب إلى الله تعالى قائم
بالشجرة، وقالت الأشاعرة: كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام النفسي،
وحقيقته معنًى قائم بنفسه، وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية،
واختلافها لا يدل على اختلاف المُعَبَّر عنه، والكلام النفسي هو ذلك المُعَبَّر عنه،
وأثبتت الحنابلة أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت: أما الحروف فللتصريح بها في
ظاهر القرآن، وأما الصوت فمن منع قال: إن الصوت هو الهواء المنقطع
المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود
من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع
اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه، وأن يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه،
وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون:
لمَّا كلم الله موسى ولم يتكلم بصوت؟ فقال لي أبي: بل تكلم بصوت، هذه
الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره) اهـ.
فهذه النُّقُول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله
المُنَزَّه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه، وأن
دعوى الرافضي العاملي أن أول من زقا به هو ابن تيمية وخالفه فيه جميع المسلمين
إلا الوهابية كذب وافتراء ولا يزال جمهور أهل الحديث إلى اليوم يتبعون الإمام أحمد
في هذا، ولا أقول يقلدونه بل يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من
حديثه فيه كغيره، وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت، وكل منهما ثابت
للبشر؟ وكذلك السمع والبصر وسائر الصفات، وهل على المؤمن الذي لا يحكم هواه
ولا شبهاته النظرية ولا يقلد رجال مذهبه في عقيدته إلا أن يثبت لله تعالى جميع ما
أثبته له كتابه ورسوله من تنزيه وصفات لم يكن من وسيلة لتبليغها للبشر إلا لغاتهم
التي وضعوها لصفاتهم مع نفي التشبيه والتمثيل؟ على أننا لسنا هنا بصدد ترجيح
مذهب الحنابلة وسائر أئمة السلف بل نحن في صدد تكذيب الرافضي المتعصب في
زعمه أن هذا شيء افتجره ابن تيمية (فحكم علماء المسلمين بكفره) وقلده فيه بعض
تلاميذه، ثم الوهابية وخالفهم سائر المسلمين.
ولا يبعد أن يعني الرافضي بالمسلمين الشيعة وحدهم أو مع من سبقهم في
التأويل من مبتدعة الجهمية والمعتزلة الذين صارت الشيعة عيالاً عليهم في مخالفة
النصوص بالتأويل كما تقدم عن بعض متعصبيهم في تفسير حديث افتراق هذه الأمة
إلى 73 فرقة؛ إذ حاول جعل هذه الفرق كلها من الشيعة؛ ليخرج أهل السنة عن
عداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجملة القول أن ما طعن به الرافضي العاملي على ابن تيمية والوهابية من
إثبات ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى بدون تأويل هو أصل مذهب
أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار كما ثبت في كتب السنة التي
صُنِّفَت قبل ابن تيمية وفي عصره وبعده، ومنها كتب خاصة في إثبات علو الله
على خلقه، وهذا الرافضي أراد أن يطعن في أهل السنة ويُبْطل عقائدهم، وأن
يَرُوج طعنه عند عوام المسلمين فحصر مذهب السنة في الوهابية، وزعم أنه لا
سلف لهم فيه إلا ابن تيمية وتلاميذه، وأن علماء المسلمين كفروه لقوله بها،
والصحيح أن هؤلاء كانوا أظهر أنصار السنة كل في عصره، وهذا عصر الوهابية
منذ ظهروا إلى اليوم.
وإننا ننقل هنا صفوة ما أورد الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري الذي هو
عمدة المحدثين وجميع أهل السنة من عصره إلى اليوم في مذهب أهل السنة في
صفات الله، وهو ما كتبه في شرح قول البخاري (باب وكان عرشه على الماء)
إلخ، وذلك قوله بعد ذكر كثير من أقوال السلف وغيرهم وأقوال أهل اللغة في معنى
الاستواء على العرش وغيره وهذا نصه: (ص 342 و 343ج 13)
(وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف
قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: هو على العرش كما أخبر،
قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى فقال اسكت لا يقال: استولى على الشيء إلا
أن يكون له مُضَادٌّ. ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن
الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي دؤاد أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى
العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) بمعنى استولى فقلت: والله ما أصبت هذا، وقال
غيره: لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع
المخلوقات، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين
أن معناه ارتفع، وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه، وأخرج أبو القاسم
اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت:
(الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به
كفر) ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سُئِلَ كيف استوى على العرش؟
فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى
رسوله البلاغ، وعلينا التسليم) ، وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال:
كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من
صفاته، وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) فقال: هو كما وصف نفسه، وأخرج
البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا
عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فأطرق
مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كما وصف به نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك
إلا صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن
أم سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأخرج البيهقي
من طريق أبي داود الطيالسي قال كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن
سلمة، وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون
(كيف) قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا، وأسند
اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى
المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئًا منها وقال بقول
جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛
لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ
ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: (أَمِرُّوهَا كما
جاءت بلا كيف) .
(وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت
الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردُّهَا ومن خالف بعد ثبوت الحجة
عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدْرَك
بالعقل ولا الرَّوِيَّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن
نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وأسند البيهقي بسند صحيح
عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: (كل ما وصف الله به نفسه
في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه) ، ومن طريق أبي بكر الضبعي قال:
مذهب أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال بلا
كيف، والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل وقال
الترمذي في الجامع عقب حديث أبي هريرة في النزول: (وهو على العرش كما
وصف به نفسه في كتابه كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما
يشبهه من الصفات؛ وقال في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن
بها ولا نتوهم ولا يقال (كيف) كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم
أَمَرُّوهَا بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية
فأنكروها وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل
يد كيد وسمع كسمع، وقال في تفسير المائدة قال الأئمة: نؤمن بهذا الحديث من
غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك، وقال ابن عبد البر:
أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا
شيئًا منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج [1] فقالوا: من أقر بها فهو مشبه،
فسماهم من أقر بها (معطلة) .
(وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه
الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن
وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها
وتفويض معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيًا وندين الله به عقيدة اتباع
سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر
حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم
عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه
المتبع اهـ.
(وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار كالثوري
والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا
يُوثَق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة.
فهذا بعض نصوص أئمة أهل السنة من علماء السلف قبل وجود ابن تيمية
بعدة قرون، وإننا ننقل بعض ما قاله ابن تيمية نفسه في العقيدة الحموية نفسها التي
زعم الرافضي أنه خالف فيها جميع المسلمين بإثبات الصفات الواردة بغير تأويل؛
ليظهر للناس مقدار جرأته على الكذب في سبيل إثبات الرفض والتعطيل، ولإزاغة
المسلمين عن الكتاب والسنة بالإفك والتضليل، قال شيخ الإسلام كما في (ص
427 وما بعدها من مجموعة الرسائل الكبرى المطبوعة بمصر) بعد سرد بعض
النصوص وأقوال أهل السنة والمبتدعة فيها ما نصه:
(ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه
أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن
والحديث) اهـ.
(قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو
وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث) ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك
هو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي بل معناه يُعْرَف من حيث يعرف مقصود المتكلم
بكلامه وهو سبحانه مع ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) في نفسه
المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإن
الله منزه عنه حقيقة، وأنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وممتنع عليه
الحدوث لامتناع العدم عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم ولافتقار المُحْدَث إلى
مُحْدِث ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
(ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات
خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه
به رسوله فيعطلوا أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه
ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع
بين التعطيل والتمثيل) .
(وأما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق
بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل،
مثَّلوا أولاً وعطَّلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته
بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاته، وتعطيل ما يستحقه هو سبحانه من الأسماء
والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش
للزم أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا وكل ذلك مُحَال، ونحو ذلك من
الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي
جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال ويختص به فلا
يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة كما يلزم سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل:
إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا؛ إذ لا يُعْقَل موجود إلا هذان،
أو قوله إذا كان مستويًا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو
الفلك إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كلاهما مثَّل وكلاهما عطَّل حقيقة ما وصف
الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني
بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين) .
(والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوٍ على عرشه
استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم وعلى كل
شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة
خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش
ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها) .
(واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة
الطريقة السلفية أصلاً، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الورادة عن
الحق فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير) .
(ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين هذا الباب في أمر
مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل،
ومن يحيل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن
العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل
والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل،
ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى
التأويل.
(ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما
يحيله العقل، بل منهم مَن يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل
أحاله) .
(يا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة فرضي الله عن مالك بن أنس
الإمام حيث قال: (أَوَكُلَّمَا جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى
محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هذا؟) وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خُصِمَ به
الآخر وهو من وجوه:
(أحدها) : بيان أن العقل لا يحيل ذلك.
(والثاني) : أن النصوص الورادة لا تحتمل التأويل.
(والثالث) : أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار
كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن
هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والعمرة والصوم والصلاة وسائر
ما جاءت به النبوات، على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا
سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم
ذلك من النبوات على ما هو عليه، ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من
نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم) .
ثم شرع بعد هذا في أقوال أئمة السلف في ذلك بنصوصها، وحسبنا الخلاصة
التي نقلناها منها عن شرح البخاري للحافظ ابن حجر، فهي تلقم الرافضي الحجر،
وتبين لأهل السنة ولذي العقل والإخلاص من الشيعة كذبه وافتراءه، وهذا التحقيق
من شيخ الإسلام في مسألة الصفات الجامع بين العقل والنقل يهدم كل شبهات
المبتدعة والمتكلمين المخالفة لها.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) أي: ومثلهم الشيعة فإنهم أخذوا التأويل عن الجهمية والمعتزلة.(29/595)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عداء رافضة العلويين للمنار والإرشاديين
إلى جناب حضرة العلامة مفتي الأنام وحامل لواء الإسلام وناشر منار التوحيد
وقامع شوكة البدع السيد الحسيب النسيب محمد رشيد رضا لا زال عونًا للحق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا يخفى عليكم أن في جاوة نهضة هي وليدة
أفكاركم التي تنشرونها بالتوالي في المنار، فلا غرابة إذا كان مديرو أزمة هذه
النهضة يغيرون عليكم كما يغيرون على أنفسهم إزاء كل حسود كَنُود يريد إسقاط
مركزكم ونزع ثقة رجالها بكم، فطالما سمعنا ونسمع من أفواه العلويين بجاوة، وهم
غلاة الشيعة أن صاحب المنار في النار ولا يعمل إلا لخويصية نفسه.
وهؤلاء قد خصصوا فئة منهم لنشر الدعاية ضدكم بين عرب حضرموت
والجاويين حتى لو كان أحدنا يمشي في أي حارة كانت حاملاً بيده عددًا من المنار
حالاً يبادر سكان تلك الحارة بقولهم (هذا مناري) وينفرون الناس منا فهم ضدنا
وضد مناركم، ولهم رؤساء وكبراء ومن جملتهم السيد علي بن عبد الرحمن الحبشي
ومحمد بن عبد الرحمن بن شهاب ومحررو حضرموت، ونحن إزاء حركاتهم
الضالة هذه وحبًّا في نصر الحق والحقيقة لا نفتأ نلقي محاضرات في محلات متعددة
لتفهيم العامة (الذين قد وقعوا في الحفرة التي حفروها) مقاصد الدين حتى خفتت
أصواتهم وسكنت حركاتهم، مع عدم التهور في التفهيم، فالمنزلة التي تحصلوا
عليها في قلوب الجاويين والحضارمة أصبحت لا شيء بحماقتهم وتهورهم (فأقبل
بعضهم على بعض يتلاومون) حتى انحلت الرابطة فيما بينهم أنفسهم؛ ولذلك قامت
شرذمة من الذين لهم نوع من العقل تسعى في إقامة جمعية باسم (الرابطة العلوية)
فكأن القوم أرادوا بها استرجاع ما فاتهم من التبجيل والتكريم وإغراء العوام
واستمالتهم بفتح المدارس لهم تعلمهم الصناعات والتجارة وغير ذلك من الأمور
الدنيوية، هذا قولهم في الظاهر وإذا بحثنا للحقيقة، وأرجعنا الأسباب إلى المسببات
أدركنا أن هؤلاء القوم في حيرة عظمية لاسترجاع عظمتهم، ولا يصدقون بعد اليوم
لا سيما بعد ما قال السيد أبو بكر العطاس: إنه يفضل أن يكون الإنجليز حكامًا في
الأراضي المقدسة (الحجاز) على ابن السعود فنرجو من فضيلتكم كما عهدنا فيكم
أن تشدو أزرنا للدفاع عن الحق الذي هو مبدؤكم منذ عشرات السنين، والسلام
عليكم.
... ... ... ... ... ... ... من عبد السميع منصور الجاوي
(تعليق المنار)
جاءتنا هذه الرسالة منذ سنة فلم نحفل بنشرها؛ لأن شُذَّاذ إخواننا العلويين لا
يزالون في حيرة من نزعتهم الرافضية الجديدة، فهم فيها يعمهون، وفي ريب من
استعادة جاه سيادتهم المفقودة، فهم في ريبهم يترددون، ولدينا رسائل ومسائل
أخرى في شأنهم، ومصنفات مضلة من بعض كتابهم، وأعداد محفوظة من
جريدتهم، لم نشأ أن نفتح باب الانتقاد عليها، إلا ما أنكرناه على ما نشر في هذه
الجريدة (حضرموت) من السعي لإيقاد نار الحرب بين الإمامين الجليلين إمام
السنة الصحيحة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز ونجد، وإمام الشيعة المعتدلة
الزيدية يحيى بن حميد الدين صاحب اليمن، فإن هذه السعاية شر ما صدر عن
متهوريهم، وأشدها خطرًا على أمتهم العربية وملتهم الإسلامية، التي لم يبق في
الأرض حكومة إسلامية تنفذ شريعتها وتقيم حدودها غير حكومات هذين الإمامين
الجليلين، فلذلك يعتقد كل مسلم يغار على الإسلام وكل عربي يغار على مجد
العرب أن تعاديهما وتقاتلهما أعظم جناية على هذه الأمة وهذه الملة يخشى أن تنتهي
باستيلاء الأجانب على مهد الإسلام وعقر دار العرب ... وإن لم يعقل هذا من قال
من هؤلاء العلويين الأغرار الذين لا يفقهون حتى قال من قال منهم: إنه يفضل
سيادة نصارى الإنكليز على حرم الله وحرم رسوله على حكم ابن السعود المسلم
السني السلفي، ولماذا؟
لأن هذا القائل الغر المسكين يتوهم أن عظمة العلويين وإخضاع عوام
المسلمين لها من طريق الخرافات لأجل نسبهم وحده يمكن بقاؤهما في ظل السيادة
البريطانية التي تحمي في الهند عبادة البقر والقرود وشجر الببل والبيبر وغير ذلك
من معبودات الوثنيين، ولكن لا يمكن بقاؤها ولا بقاء هذه الخرافات في ظل حكم
ابن السعود ولا حيث ينتشر المنار، بل يعتقد هذا الغر الجاهل وأمثاله من
الخرافيين أن انتشار المنار في مسلمي جاوه وخاصة جالية الحضرميين من سكانها
هو الذي زلزل تلك الخرافات، وكان سبب تأليف الجمعيات الإرشادية الإصلاحية
التي يناضلونها العداء.
وتلك الكلمة الملعونة مأثورة عن غير العطاس يرحمه الله بالتوبة والإنابة فقد
نقلها لي بعض الناس عن شيخ كبير من أكبر هؤلاء العلويين العارفين بحال العصر،
ولكنه لا يعلم أن بقاء عظمة شرفاء النسب واستعلائهم على عوام المسلمين بالخرافات
والبدع إذا لم تقض عليهما حكومة ابن السعود بنشر السنة وهدم هياكل البدع فإن
الحرية العصرية ستقضي عليهما، ويخشى أن تقضي على الدين الإسلامي نفسه في
بلاد العرب كلها، وأن محاولة إسقاط دولة ابن السعود بالخرافات الرافضية وافتراء
الكذب حماقة وجنون، فقد أخبرني الثقة الثَّبْت أنه قال أمام هذا الشيخ العلوي الذي هو
من أركان دعاة الرفض: إن ما ينقله الغرة عن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه كان
يقول: أنا باعث الأمم، أنا محيي الرمم ... مما لا يعقل أن يصدر عنه - أو ما هذا
معناه، فقال له الشيخ العلوي: بل هو فوق ذلك! ! أي إن هذا قليل عليه، ولازمه
أن مقامه مقام الربوبية أو هو هو والعياذ بالله تعالى، وسمعته أنا بمصر يقول:
إن حكومة ابن السعود تجلد مَن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم تحت أستار
الكعبة؟ فهذا مثل لغلوهم ولبهتانهم على ابن السعود أربوا فيه على روافض الإمامية
الذين استحسنوا منع حكومة إيران لرعاياها من أداء فريضة الحج وعَدُّوهُ جائزًا شرعًا
بزعمهم أنه لا أمان لهم على حياتهم في الحجاز - وقد تواتر لدى أهل المشرق
والمغرب من حجاج جميع الأقطار وغيرهم أن الأمان الوارف الظلال في الحجاز في
عصر ابن السعود لم يتمتع الحجاز بخير منه في عصر من العصور بل قلما تمتع
بمثله، حتى إن صاحب مجلة العرفان على تعصبه وتتبعه لعثرات ابن السعود
ونشرها، وعلى افترائه فيها قد نشر بعض ما سمعه من حجاج شيعة بلاده عن أمن
البلاد التام وعن حفاوة ملك الحجاز ونجد بمن زاره منهم، ثم ذكر أن بعض الناس
لامه على نشر ذلك وإن كان حقًّا.
وقد سبق لي أن نصحت لهؤلاء العلويين وبينت لهم الوسيلة الوحيدة التي
يمكن أن تحفظ لهم كرامة عنصرهم بالاستحقاق وهو العلم وخدمة الأمة بالدعوة
والقيام بمصالحها العامة كالمدارس والجمعيات العلمية والخيرية مع التخلق بأخلاق
سلفهم الصالحين، والتأسي بجدهم خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلوات
الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له ولهم إلى يوم الدين، ولا سيما
خلق التواضع والإيثار على النفس، واعترف لي خاصتهم بقيمة هذه النصيحة،
ولكنهم لم يعملوا بها، لما يعوزهم من السعي الحثيث، والعزم البعيث، والمال
الكثير والجهاد الكبير، ولا سيما جهاد النفس، وغير ذلك مما يعسر عليهم الآن
وزعماؤهم على ما نعلم ... على أن فيهم من أصحاب الدثور وأرباب الجد والنشاط
من يقدرون على تأسيس جمعية تُعْنَى بالقيام بذلك، ولكن زعماءهم رأوا أن هذه
شقة بعيدة، تكبدهم مشقة شديدة، وأن الغلو الرفضي في أجدادهم أقرب منالاً كقول
بعضهم في أحد أئمة آل البيت:
قلامة من ظفر إبهامه ... تعدل من مثل البخاري مائه
ولكن العقيدة الإسلامية الصحيحة تنافي هذا الغلو وأهله ومن فهم الإسلام
وقول الله تعالى لخاتم أنبيائه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف: 110) إلخ،
يعتقد أن جميع أظافر الصالحين والأنبياء لا تعدل عند الله تعالى أقل رجل مؤمن لا
يشرك به شيئًا، فإن فضائل الأنبياء وغيرهم بأرواحهم وعقولهم وأخلاقهم ومعارفهم
الإلهية التي تترتب عليها أعمالهم الصالحة لا أظافرهم، فما دام علماء هؤلاء
الحضارمة وسادتهم ينشرون فيهم هذه الدعوة ويحاولون تفضيلهم على الناس بهذا
التبجح الباطل المنكر، فلا يزيدهم العالم الإسلامي إلا تحقيرًا وازدراء، بل ذلك مما
يأتي بضد ما يريدون منه بحسب سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في عصرنا
بناموس رد الفعل، كما كان الرفض سبب النصب فهم الذين يُجَرِّئُونَ الناس على نقد
أجدادهم أو وضعهم في المواضع التي تليق بعلمهم وعملهم، وبناء التفاضل بينهم وبين
غيرهم على قواعد الشرع الإسلامي، وحينئذ يقولون لهذا الرافضي: إن الإمام محمد
بن إسماعيل البخاري يَرْجُح بمائة ألف من العلويين، بل بالملايين من أمثال هؤلاء
الجاهلين، بل مِن الغَضِّ من كرامته أن يُوزَن بأمثالهم، وإنما يُوزَن بأكبر أئمتهم
فَيَرْجُحُ بالكثيرين منهم.
__________(29/604)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الانتقاد على المنار
عود على بدء
سلام من مصطفى نور الدين إلى كبير المصلحين، وملجأ المسترشدين،
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا متَّعَه الله بالصحة والعافية، وبارك
لنا في عمره ونفعنا بعلومه، أما بعد فقد قرأت في المنار الجزء الرابع المجلد التاسع
والعشرين ردَّكم على انتقادي ما جاء بتفسير المنار الآية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) وإني قد رأيت في هذا الرد ما يستحق النقد، وقد
كنت أحجمتُ عن أن أعرض على حضرة السيد ما بدا لي انتقاده امتثالا لإنزالكم لي
بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح إلخ، ولكنكم
تعلمون أن امرأة انتقدت عمر بن الخطاب في تقدير الصداق وفي ذلك دلالة على أن
للحقير أن ينتقد الكبير لذلك رجَّحت أن أقدم لكم ما هو مُنْتَقَد في نظري.
فمن ذلك قولكم: إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسَّره به الأستاذ الإمام أقرب
إلى مذهب السلف إلخ، فأقول: إن تفريع الأستاذ الإمام على هذا المعنى بقوله:
فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء يُبْعده عن مذهب السلف؛ لأنه لم يرد في كتاب
الله ولا في حديث متواتر ولا نقل عن جماعة الصحابة إسناد الاستواء إلى الذات
كما قلتم فكذلك لم يرد عما ذكر إسناد القرب إلى الذات، فإن كان إسناد الاستواء إلى
الذات مخالفًا لمذهب السلف لهذه العلة فكذلك إسناد القرب إلى الذات يكون مخالفًا
لمذهب السلف أيضًا حيث إن العلة فيهما واحدة، على أن إسناد الاستواء إلى الذات
تأويل [1] يقربه التنصيص على الاستواء على العرش [2] ، والعلو والفوقية والعروج
والصعود والرفع [3] وغير ذلك مما ورد منه الكثير في الكتاب والأحاديث وآثار
الصحابة والتابعين، وكل هذا لا يخفى على حضرة السيد الفاضل [4] بخلاف إسناد
القرب إلى الذات، ولو على الوجه اللائق بالتنزيه فإنه تأويل يبعده التنصيص
المذكور، وفي نظري واعتقادي أن هذا التنصيص هو الذي حمل الكثيرين من أئمة
الأحاديث والآثار من أهل القرن الثالث والرابع على التفرقة في تأويل الإسناد فأسندوا
الاستواء إلى الذات وأسندوا المعية والقرب إلى العلم، وإني أعذرهم في ذلك لأمرين:
(الأول) التنصيص على الاستواء على العرش وما في معناه كما تقدم (الثاني) أن
الاستواء لا يصح إسناده إلا إلى الذات، أما المعية والقرب فيصح إسنادهما إلى الذات
وإلى غيرها من آثار الصفات كالعلم والسمع والبصر [5] من هذا يتضح أن ما ذهب
إليه الأستاذ الإمام وأيده حضرة السيد - من أن إسناد القرب إلى الذات - مخالف
لمذهب الصدر الأول من السلف ومخالف لكثير من أئمة الأحاديث والآثار من القرن
الثالث والرابع، أما مخالفته لمذهب الصدر الأول من السلف فإنهم لم يؤولوا في
الإسناد بل قالوا: إنه تعالى مستوٍ على عرشه، ولم يقولوا بذاته، وقالوا قريب من
خلقه ولم يقولوا بذاته أو علمه، وأما مخالفته للكثير من أئمة الأحاديث والآثار فلأنهم
فرَّقوا في تأويل الإسناد فأسندوا الاستواء إلى الذات والمعية والقرب إلى العلم لا إلى
الذات كما قال الأستاذ الإمام وهذا الصوفي، فقد اتضح من هذا أن ما ذهب إليه
الأستاذ الإمام وهذا الصوفي من إسناد القرب إلى الذات بعيد من مذهب السلف لا
قريب منه فضلاً عن كونه أقرب [6] .
ومما هو مُنْتَقَد في نظري قولكم: فإن صفات الذات كالعلم لا توجد إلا حيث
توجد الذات أي لا توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنها، فأقول: إن قول
القائل: إن الله معنا بعلمه أو في كل مكان بعلمه لا يقصد به نفس الصفة القائمة
بالذات، فإن العلم بهذا المعنى لا ينفصل عن الذات، بل جميع الصفات بهذا المعنى
كذلك، وإنما المقصود هو أثر الصفة، فمعنى كونه تعالى في كل مكان بعلمه أنه
عالم بكل مكان، وهذا كثير في القرآن أي إطلاق الصفة وإرادة أثرها، فمن ذلك
قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (البقرة: 255) قال الجلال: لا
يعلمون شيئًا من معلوماته، ومن ذلك قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ
أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: 166) قال الجلال: ملتبسًا بعلمه عالما به ومن ذلك قوله
تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: 47) فالعلم في هذا الآيات ليس المراد به الصفة القائمة بالذات بل
المراد أثرها، وهذا يكاد يكون بديهيًّا [7] .
ومن هذا القبيل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) أي مخلوقه وقوله تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: 6)
أي القرآن لا الصفة القائمة بالذات كما هو ظاهر.
ومما انتقدته على حضرة السيد أنه فهم غير ما أردته من قولي: ثم لا غرابة
ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني من حيث إسناد قرب الملائكة من المحتضر إلى الله
إلخ، فقد ترتب على ذلك أنكم نسبتم إليَّ أني قد اعتبرت التوفي المسند إلى الله في
الآيات الكثيرة مسندًا إلى الملائكة، والله يعلم أني لم أقصد ذلك [8] وإنما الذي
أقصده أني أقول: إن من الأمور التي تسند إلى الله حقيقة قد تُسْنَد إلى الملائكة
مجازًا، وبالعكس فمن الأول التوفي فإنه قد أسند إلى الله حقيقة في الآيات التي أكثر
من إيرادها حضرة السيد وأسند إلى الملائكة مجازًا.
وأما الثاني وهو العكس فهو القرب في آية: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ
تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) فإن الإسناد فيها على العكس من الإسناد في التوفي
أعني أن إسناد القرب إلى ضمير الذات مجاز للعلاقة التي بين الله وملائكته [9] في
أمور كثيرة خصوصًا وأن أمورهم غير كسبية، وقد منع من إرادة الحقيقة مانع،
وهو أنه من المسلمات أن نفي الشىء فرع عن صحة حصوله، وقد نفى في هذه
الآية إبصار حاضري المحتضر لذات الله على تفسير هذا الصوفي، فهل يصح
لأحد أن يبصر ذات الله في الدنيا حتى تنفى عن حاضري المحتضر [10] أما إبصار
الملائكة فإنه يصح وقوعه بل هو واقع بالفعل للمحتضر، ولكن لا يبصرهم
حاضرو المحتضر، ومما راجعته من التفاسير في تفسير الآية تفسير ابن جرير
المشهور بأنه تفسير أثري فوجدته يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85)
برسلنا، وأما تفسير الزمخشري الذي ذكره حضرة السيد في هذا الرد فهو
في نظري خير من غيره؛ لأنه مبرأ من اللوازم التي تلزم على غيره [11] .
ومما انتقدته على حضرة السيد حذفه لتفسير آية الحديد وتفسير الحديث من
الرد، فكان اللازم أن يذكر ذلك، فإن وجد فيه خطأ أرشدني إليه [12] .
ومما انتقدته على حضرة السيد إنذاره لي بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة
والتصويب إلخ، فكيف يصح هذا، وقد أمر الله تعالى عباده بالنظر وحَثَّ عليه في
كثير من كتابه، ومدح أهل النظر بقوله: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) ألا يُعَدُّ مثل هذا الإنذار حَجْرًا على العقول،
واحتقارًا لعباد الله؟ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) اهـ.
(جواب المنار)
أقول بعد رد التحية بالسلام على صاحب الرسالة، ورحمة الله وبركاته.
(أولاً) : إن حالنا مع أخينا في الله المنتقد الكريم كحالنا مع أخينا المدافع
عن كعب الأحبار ووهب بن منبه المنتقد على شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم،
وكلاهما محب للعلم حريص على تمحيص المسائل التي تشتبه عليه، وكلاهما
يعتمد في انتقاداته على ما يفهمه من المطالعة في الكتب من غير رجوع إلى ما
يتوقف عليه الفهم الصحيح المؤهل لتخطئة العلماء، والترجيح بين أقوالهم من
أوضاع اللغة وقواعد النحو والمعاني والبيان وأصول الفقه؛ بل لعدم العلم التفصيلي
بها، ولذلك يكثران من النقول التي لا حاجة إليها كلها فيما يحبان استبانته والحكم
الصحيح فيه، وقد كان يصعب علينا أن نترك نشر شيء مما يرسلانه إلينا
لإخلاصهما في البحث ومحبتهما للعلم؛ لئلا يسيئا الظن بنا ويتوهما أننا لم ننشر
ذلك لأننا نستكبر عن الاعتراف بما فيه من الحق، ونفضل عليه الإصرار على
الباطل، ولكن جمهور قراء المنار يتبرمون من نشر أمثال هذه الرسائل
المطولة ... كما ذكرناه في تعليق لنا على رسالة لذلك الأخ الفاضل مع نشرها برمتها،
وقد اضطررنا إلى التصريح بمثل هذا الآن لما يراه القارئ في بقية هذا التعليق.
(ثانيًا) : إن أخانا وصديقنا صاحب هذا الجدل الجديد في تأييد كلامه
السابق قد اتهمنا في أوله بأننا احتقرناه وحكمنا عليه بأن لا يتجرأ على التخطئة
والتصويب والترحيح والتجريح؛ لأنه حقير في نظرنا فلم نره أهلاً لأن ينتقد علينا
أي لما ندعيه من العظمة، وذكر أنه كان أحجم عن الرد علينا ثانية، ولكنه استدل
باعتراض المرأة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه (للحقير أن ينتقد
الكبير) فرجَّح الإقدام على الانتقاد!
وفي آخر كلامه عَدَّ هذا مخالفًا لقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ} (الزمر: 17)
الآية وحجرًا على العقول واحتقارًا لعباد الله وهذه مطاعن شديدة لم يسبقه إلى لَمْزِنَا
بها الأعداء فضلاً عن مسترشدي الإخوان.
الحق أقول: إن أخانا العزيز المكرم المخطئ في هذا الفهم وآفته فيه عدم
بناء فهمه على قواعد اللغة، وإنني على علمي بقصوره في ذلك لأفضله على كثير
من كبار علمائها وبلغاء منشئيها، وإنما أفضله بدينه وما أظن من إخلاصه لا بعلم
اللغة ولا غيرها، إنني قيدت النصح له بأن لا يتجرأ على ما ذُكِرَ بقولي (بغير
تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة) ولم أجعله مطلقًا، وأين انتقاداته
واعتراضاته من اعتراض تلك الصحابية العربية على عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فيما هَمَّ به من منع الناس من التغالي في المهور ذهولاً عن الآية الشريفة التي
ذكرته المرأة بها، فهي قد راجعته مستندة إلى آية صريحة لا تحتمل التأويل وهي
تفهمها حق الفهم؛ لأنها من أهل اللغة الصرحاء الذين يفهمون ما هو أدق منها،
وأحوج إلى المعرفة والفهم، وإنه ليحزنني أن أضطر إلى تذكير أخي السلفي
الفاضل بقصوره هذا؛ دفاعًا عن نفسي وعن الحق، فأنا أعد من أعظم النقائص
احتقار من دونه من الناس في دينه وأدبه وإخلاصه، فكيف أحتقره، وأنا أغتبط
بأُخُوَّتِه، وأتمنى كثرة الإخوان من أمثاله؟ ولعله يرى أن عدم فهمه لكلامي
(بزعمي) هو كعدم فهمي لكلامه في انتقاده كما صرَّح به، فيكون قد تساوينا في
عدم الفهم، وحينئذ لا أحتاج إلى ما ذكرت من الاعتذار له على ذمه لي وقدحه فيَّ،
ولا مطمع في فهم كل منا لكلام الآخر فلا وجه للمناظرة بيننا.
(ثالثًا) إن سبب ردي على رسالته الأولى هو أنني رأيتها جدلاً في مسائل
الصفات الإلهية بما أطال به من الاستدلال الذي رأيته في غير محله لما ذكرته آنفًا
على أن هذا الجدل مذعوم وإن كان مبنيًّا على القواعد اللغوية والعلمية فأردت أن
أشير إلى بعض الخطأ فيه لعله يتجنبه بعد - فرأيته قد ازداد تماديًا فيه بهذه الرسالة،
وقد كدت أقع فيما وقعت فيه أولاً ذهولاً وغفلة مني، فشرعت في الرد على مباحثه
وأدلته الجديدة بالتفصيل، ثم تنبهت فرمجت ما كنت كتبته وألقيته، وهذا الخطأ كثير
جدًّا بحسب فهمي وعلمي، وأعتقد أن نشر ذلك الرد عليه لا يفيد، بل يثير عنده
شبهات وآراء أخرى فهو يضر ولا ينفع، ولا يهمني - وهذا اعتقادي - أن يعتقد
أنني أنا المخطئ أو أنني عجزت عن الرد عليه أو ما شاء من اعتقاد ورأي، وقد
يكون بعض اعتقاده في هذا الشأن حقًّا في الواقع، وإن لم يظهر لي، ثم أشرت في
الحواشي إلى بعض ما رأيت من الخطأ في عبارته بعد كتابة هذا التعليق كله وجمع
حروفه للطبع على سبيل النموذج لا تحقيق المسائل، ولن أعود إلى نشر شيء من
هذا القبيل إن شاء الله تعالى.
(رابعًا) أرى مع هذا أن أذكر من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع ما أظن
أنه نافع في نفسه إن لم يكن له فلغيره من القراء فأقول:
(1) إنني قلت في تعليقي على انتقاده الأول: إن عبارة الأستاذ الإمام
أقرب إلى مذهب السلف من جهة عَيَّنْتُها لا من كل جهة، ولم أقل: إنه عين مذهب
السلف، بل ذكرت أن العمدة في مذهب السلف عندي ما أذكره في آخر ذلك
الجواب، وهذا التعبير معهود من العلماء، فكان ينبغي للأخ المنتقد أن يفند ذلك
الذي ذكرته في آخر الجواب إن رآه منتقدًا أو يعترف بأنه صواب ويستغني به عن
الرجوع إلى الجدل في العبارة للدفاع عن نفسه والانتقام لها على ما فهم أنني
احتقرته به.
(2) إنني صرَّحت في صفحة 290 بأنني حملت كلام شيخنا على مذهب
السلف، بل على القرب منه - لأنني علمت من أقواله المسموعة والمكتوبة أنه
يدين الله بمذهب السلف، وإن ما قد يذكره في بعض مكتوباته من تأويل قد يخالفه
فإما سهو منه وإما لعلمه بأن بعض الناس لا يقنعه بحقية الإسلام غيره - وأعترف
أنا بمثل هذا، وقد صرَّحت به في التفسير والمنار غير مرة - وصرَّحت فيها أيضًا
بأنني ذكرت في التفسير أن شيخنا عفا الله عنا وعنه كان يسبق إلى فهمه في بعض
الصفات ما جرى عليه مفسرو الأشعرية من التأويل لما كان من توغله في علم
الكلام - وصرَّحت فيها أيضًا بأن ما حملت عليه كلام ذلك الصوفي هو احتمال في
العبارة أي لا مدلول لفظها المتبادر منه، وصرحت قبلها بأنه من باب تحسين الظن
به كما صرَّحت بأن المعتمد عندي في المسألة ما ذكرته في آخر الرد كما تقدم -
والمراد بهذا وذاك أنني لم أقصد من ذلك البحث إثبات كون كلام الشيخ وكلام ذلك
الصوفي هو عين مذهب السلف، فلماذا نعيد الجدال، وما ذم الشرع من القيل
والقال؟ ألأجل تحسين الظن بعالمين عابدين من المسلمين الميتين علمت من دين
أحدهما وعلمه وتقواه بالاختبار الطويل ما لم أعلم مثله عن غيره ممن عاشرت من
الناس، ولم أعلم من الآخر سوءًا كلا إنما ذنبي الصحيح أنني خطأت المنتقد
بصريح القول لأنني استنكرت دخوله في هذا المأزق الذي أراه ضارًّا، وأستغفر الله
العظيم.
(3) إن الأصل في إسناد كل صفة أو فعل إلى اسم الجلالة (الله) أو
ضميره أن يكون مستندًا إلى ذاته سبحانه وتعالى وكذلك الإسناد إلى اسمه الرحمن
الذي استعمل في القرآن استعمال اسم الذات، ولكن هنالك فرقًا بين الصفة كرحيم
وقريب ومجيب وسميع وبصير وبين الفعل الحادث كاستوى على العرش ونزل إلى
السماء الدنيا؛ ولذلك انتقد بعض رواة مذهب السلف وأنصاره من المحدثين كالحافظ
الذهبي على من قال: استوى بذاته، وإن كان مذهبًا لبعضهم، وإنما أوَّل بعض
العلماء إسنادًا من ذلك دون إسناد؛ لأنهم رأوا أن ما أولوه يستحيل جعل الإسناد فيه
إلى الذات على ظاهره من حيث إنه يستلزم تشبيهه تعالى بخلقه أو قيام الحوادث
بذاته كما أول بعضهم آيات المعية بأن المراد بها العلم الإلهي، ولكن بعض تلك
الآيات يظهر فيها هذا التأويل دون بعض، فإذا كان ظاهرًا في قوله تعالى: {مَا
يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ
وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ} (المجادلة:
7) لأنه افتتح هذه الآية بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ} (المجادلة: 7) واختتمها بقوله: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7) - إذا كان هذا التأويل ظاهرًا فيها - فهو لا يظهر في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} (النحل: 128) وهو ظاهر - ولا قوله: {إِلاَّ
تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) ، فإنه لا يظهر في قرينة الحال
أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد بهذا إعلام صاحبه أبي بكر الصديق رضي
الله عنه أن الله تعالى عالم بخروجهم أو بحالهم في الغار؛ لأنه كان يعلم ذلك - ولا
يظهر هذا من قرينة المقال أيضًا، بل هو يدل بأول الآية وآخرها المتفرع على
الإعلام بالمعية على أن المراد بها أو يلازمها الحفظ والنصر والتأييد فقد قال بعده:
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} (التوبة: 40) إلخ، ومثله
قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:
46) وأما من ينكر التأويل لهذه الآيات وغيرها من السلف فقد بيَّنا قاعدتهم هنالك
وأعدناها هنا في الرد على الرافضي الذي ذكر بعضه في هذا الجزء وسيأتي باقيه
فيما بعده من النقول الصحيحة فيه.
وحاصله أن ما ذكر من تأويل المعية ومثلها صفة قريب لا ينافي إسنادهما إلى
ذاته تعالى؛ لأن ما ذكر من العلم أو النصر أو إجابة الداعي أو غيرهما هو لازم ما
ذكر لا مدلول نصه، فقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) يدل بلازمه
على أنه قادر على إجابة الداعي كلمح البصر؛ فلذلك قال بعد إسناد صفة القرب
إلى ذاته: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) فنجمع بين المعنيين
كما جُمِعَا في الكتاب العزيز، ونقول على قاعدة السلف: إن قربه من الداعين قرب
يليق بذاته وصفاته المخالفة لذوات العباد وصفاتهم، ولو لم يعلل الأستاذ الإمام
القول بقرب الذات بما علَّله به لقلت: إنه عين مذهب السلف، ولم أقل: إنه أقرب
إليه من جهة واحدة ذكرتها.
(4) إن النقل عن علماء السنة السلفيين في أمثال هذه المسائل مختلفة كما
بيَّنه الحفاظ كشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه في العقل والنقل وغيره، والحافظ ابن
حجر في الفتح وغيره، وما من فئة أو طائفة من العلماء تنتمي إلى مذهب من
المذاهب الكلامية أو الفقهية أو إلى مذهب السلف على الإطلاق إلا ويوجد في كلام
علمائها الخطأ والصواب، والاختلاف في النفي والإثبات، والتأويل لبعض الأسماء
والصفات، حتى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وللحافظ ابن الجوزي الحنبلي
مصنف طبع من عهد قريب يرد فيه على كثير من كبار علماء الحنابلة أخذهم
بظواهر كل ما أسند إليه تعالى من صفات وأفعال حادثة ويبرئ الإمام أحمد من
كثير من أقوالهم ويقول: إنه لا يؤيدها نص إلخ، وقد ألف بعض إخواننا من أهل
الحديث في الهند كتابًا في مذهبهم الذي يعبر عنه بمذهب السلف وبمذهب أهل الأثر
جاء فيه كثير من هذه الخلافات وترجيح بعض الأقوال فيها على بعض، مع التعبير
عن صاحب القول المرجوح أو المردود بقول المؤلف من أصحابنا، وعد من
متقدميهم مالك والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم من كبار المحدثين، ومن
علماء القرون الوسطى ابن تيمية وابن القيم، ومن المتأخرين ولي الله الدهلوي
والشوكاني ومحمد بن عبد الوهاب.
(5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (بيان موافقة صريح المعقول
لصحيح المنقول) في سياق اختلاف كبار العلماء سلفًا وخلفًا في معنى كلام الله
تعالى، وكون كل طائفة يوجد في كلامها الخطأ والصواب ما نصه (ص162ج2) :
(ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل
العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل
وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل
المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة
الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا
يؤاخذه بما أخطأه تحقيقه؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) اهـ.
وهذا الكلام من أحسن الحقائق التي قرَّرها شيخ الإسلام قدَّس الله روح ومثله
كلامه في تحامي تكفير أحد من المسلمين بعينه فيما يظهر من مخالفته لبعض
النصوص فإن كانت المخالفة في شيء من أصول العقائد القطعية التي لا تتفق مع
دين الإسلام بضرب من الاجتهاد الذي تُسَوِّغه اللغة والقواعد الشرعية وجب
التصريح بكونها كفرًا مع القول بالاحتمال في حق صاحبها ولا سيما بعد موته ولا
سيما إذا كان متبعًا للشرع بالفعل كما قاله شيخ الإسلام في ابن عربي الذي بيَّن ما
في كلامه في الفصوص من الكفر الصريح، فقد ذكر في كتابه إلى الشيخ عدي بن
مسافر ما له أيضًا من الكلام الموافق للكتاب والسنة ومن العبادات ثم قال: (والله
أعلم بما مات عليه) .
وإنه ليسوؤني أن أرى كثيرًا من المنتحلين لمذهب السلف في هذا العصر
احتقار كثير من كبار علماء المسلمين الأعلام الذين اهتدى بعلمهم كثير من الناس
والطعن فيهم بما يرون في كلامهم من بعض التأويلات المخالفة لجمهور السلف،
وإن كان للتأويل فيها وجوه ظاهرة من لغة القرآن، ولم يصح فيها عنهم إجماع،
وهذا من شهوات الأنفس البشرية الذي علم بالاختبار أن ضرره أكبر من نفعه،
وقد ثبت عندي أن السبب الصحيح لكثرة خصوم شيخي الإسلام الإمام ابن حزم
والإمام ابن تيمية هو شدة انتقادهما لبعض الأئمة السابقين، وقد حُرِمَ ألوف كثيرة
من أهل كل عصر من علمهما الواسع لهذا السبب كما نبهنا عليه في ذكر سبب
انتقاض أبي حيان على الثاني بسبب طعنه الشديد في سيبويه كقوله: (فشر) ولما
تنزه قلم ابن القيم عن مثل هذه الشدة كان كلامه مقبولاً عن جميع العلماء حتى فيما
اقتبسه من نور علم أستاذه ابن تيمية رحمهم الله وعفا عنا وعنهم.
والعبرة في الدين بالتوحيد الخالص والتسليم بحقية النصوص ظاهرًا وباطنًا
وبالاهتداء بالعمل، وهذا هو الركن الأعظم في هدي السلف، فقد كرهوا المجادلة
في العقائد وآيات الصفات وأحاديثها ولو بحسن النية، ولكن المبتدعة خالفوهم،
فاضطر بعض علماء السنة إلى الرد عليهم وكرهه بعض، ولا ينبغي أن يكون مثل
هذا بين أهل السنة المهتدين بسيرة السلف فيما بينهم، بل الذي يليق بهم بيان
معانيها بالاختصار مع التذكير بالتنزيه القاطع لطريق التشبيه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .
(كتب هذا التعليق للجزء الخامس عقب عودتنا إلى التحرير وتأخر إلى هذا
الجزء لكثرة المواد المهمة) .
__________
(1) إن جعله تأويلاً ينافي كونه مذهبًا للسلف وينافي الأصل في الإسناد كما سنبينه، وإنما التأويل ضده بل نقيضه وهو منع إسناده إلى الذات بحجة أنه فعل حادث بيَّن النص أنه كان بعد خلق السموات والأرض الذي هو حادث أيضًا، وهنالك مذهب ثالث وهو الوقف وعليه من أنكر من أنصار مذهب السلف تصريح بعضهم بإسناده إلى الذات.
(2) هذا تعليل للشيء بنفسه وهو لا يصح ولو صح لقيل مثله في الاستدلال على صحة تأويل المفسرين لقوله تعالى: [وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ] (الأنعام: 18) بقوله تعالى حكاية عن فرعون:
[وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] (الأعراف: 127) من حيث استعمال هذا اللفظ بمعنى الفوقية المعنوية في كلام الله تعالى المعبر عن معنى قول مخلوق من مخلوقاته، فهل يوافقهم المنتقد على ذلك.
(3) العلو مصدر اشتق منه اسم الله (العلي) كالعظيم والكبير وقد وردت صفات لله تعالى لا أفعالاً حادثة كالاستواء على العرش وأما الفوقية فقد أولها بعض السلف والخلف وحقَّقْنَا الفرق بينهما في تفسير
[وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ] (الأنعام: 18) فيُرَاجع في ص 336 من جزء التفسير السابع، وأما العُرُوج والصعود فقد أسندا إلى الحوادث لا إلى الله تعالى، وأما إسناد رفع العمل إليه تعالى فهو إسناد فعل حادث كالاستواء لا إسناد صفة، ولكنه يدل هو وما قبله على صفة العلو الثابتة بمثل قوله:
[وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ] (سبأ: 23) .
(4) أما ما ورد فلا يخفى علينا ولا على أحد ممن قرأ النصوص، وأما فهم أخينا المنتقد له فهو مما يخفى علينا وجه صحته فنحن مختلفان في الفهم لا في العلم بوجود النص.
(5) الأمر فيما ذكره من نظره واعتقاده ومن استدلاله عليهما بالضد فالدعوى باطة كما علم من الحاشية السابقة ويتضح مما سيأتي.
(6) يرى القارئ تحقيق هذا التقريب في المسألة في ص 615 و616.
(7) هذا الذي أول العبارة به يعبر عنه بلغة العلم باستعمال المصدر بمعنى اسم المفعول أو بالحاصل بالمصدر لا بأثر الصفة الذي افتجره، وما فرَّعه على هذه القاعدة باطل وتفسيره له غير صحيح وما ذكره من تفسير الجلال محتجًّا به غير صحيح أيضًا فليس معنى عدم إحاطة العباد بشيء من علمه تعالى أنهم لا يعلمون شيئًا من معلوماته فإن كل ما يعلمونه علمًا صحيحًا فهو من معلوماته، وليراجع المنتقد تفسيره في ابن كثير والبغوي وغيرها، ثم إن ما قاله لا يصح في تفسير [إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] (التوبة: 40) إذ يكون معنا بمعلومه وسيأتي تفسير هذه المعية.
(8) إنني ما تكلمت عن قصده من العبارة بل عما يدل عليه منطوقها ومفهومها ومثله ما تقدم من قصده في كون الله في كل ما كان بعلمه، ولا يمكنني أن أعرف قصده لعدم التزامه القواعد فلم يبق إلا الاطلاع على ما في نفسه من الفهم وأنَّى لي به؟ .
(9) هذا تعبير غريب لا نعرفه عن أحد من المسلمين سلفهم ولا خلفهم.
(10) لا يجهل المنتقد أن السلف والخلف من أهل السنة متفقون على جواز رؤية الرب تعالى في الدنيا عقلاً، ولو كانت محالاً لما طلبها الكليم عليه السلام كما قالوا: وإنما يمنع الجمهور وقوعها فيها فعلاً؛ لعدم ثبوتها نقلاً، ومنهم قال: إن نبينا صلى الله عليه وسلم رأي ربه ليلة المعراج فإمكان الرؤية متفق عليه، وهو كاف في صحة نفيها عن حاضري المحتضر، ولا يشترط فيه صحة حصولها كما زعم، وتعبير القرآن لا يقيد باصطلاحات العلماء بل يجب أن تتقيد هي به فالآية على فهم ذلك الصوفي حجة لقول أهل السنة بجواز رؤيته تعالى، ولو في الدنيا ويمكن أن يقال حينئذ:
[وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ] (الواقعة: 85) لأن الإبصار خاص بالآخرة، وماذا يقول المنتقد في نفي الظلم عن الله تعالى على القاعدة التي وضع الصحة فيها موضع الإمكان، وقال: إنها من المسلمات؟ .
(11) ما قاله ابن جرير الأثري تأويل بعيد من اللغة، وعن مذهب السلف وإن كان هو منهم، وحسبنا حجة على منتقدنا أنه فضَّل عليه وعلى غيره قول الزمخشري من أئمة مبتدعة التأويل.
(12) هذا ما لا يمكنني التزامه فإن شرحه يطول، ويقتضي أن يجعل المنار مصححًا للغات المراسلين وأفهامهم، على أنني لا ثقة لي بفهمه لمرادي من الإرشاد ولا لقبوله له؛ لأنه مناظر جدلي، وإن
قال: إنه مسترشد من باب إظهار الأدب والتواضع، وهذه الرسالة دليل على ذلك، وإنني لم أخطئ بعد ذكر آية الحديد وإنما أخطأت بذكر غيرها مما استدل به على مراده وترتب عليه هذا الجدال، وكان ينبغي أن أكتفي بأصل دعواه مع الجواب عليه.(29/608)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مجلة الرابطة الشرقية
ودعاية التجديد الإلحادية واللادينية ودعاته
نشرت جمعية الرابطة الشرقية في 17 صفر في هذا العام (إعلانًا) للمجلة
التي قررت إنشاءها نشرناه لها في الجزء الخامس من المنار الذي صدر في سلخ
ربيع الأول، وإذا كان آخر كلمة في الإعلان أن لجنة المجلة هي: (الرئيس السيد
عبد الحميد البكري مدير المجلة: أحمد شفيق باشا المشرف على التحرير، الأستاذ
علي عبد الرازق) قَفَّيْنَا عليه بقولنا:
(نحمد الله أن آن إصدار هذه المجلة التي قررنا إصدارها من أول العهد
بإنشاء الجمعية (وفي الأصل المجلة وهو غلط بالطبع) ولكن نخشى أن يظهر فيها
شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك، وثنائه على
خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم، ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم،
ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك فالمراقب لا بد
له من مراقبة) اهـ.
نشرنا هذا التنبيه والتحذير راجين أن يكون حائلاً دون ما نخشى ونحذر على
مجلة جمعيتنا من تأييد الدعاية الإلحادية الجديدة التي قد توجب علينا أن نؤذن مجلة
جمعيتنا بالحرب (كما حذرنا الأفغان ووزيره الأكبر من تقليد الترك الكماليين في
حكومتهم اللادينية وأنذرنا الوزير سوء عاقبة هذا التقليد في بلادهم لئلا نضطر إلى
عدائهم، ونحن نحب أن نكون من أنصارهم، كما يجب علينا لكل شعب إسلامي ولا
سيما قوم أستاذنا الأكبر في السياسة الإسلامية والشرقية السيد جمال الدين الأفغاني
رحمه الله تعالى) ويسوءنا أن وقع ما كنا نتوقع في مجلتنا وفي شعب أستاذنا.
صدر العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية، فإذا هي مجلة لا دينية تؤيد ما
يسميه ملاحدة هذا العصر بالتجديد اللاديني وتحرير المرأة المسلمة، وتدافع عن
الترك والفرس والأفغان فيما يحاولونه من تجديد يهدم الإسلام، على احتراس قليل
في التعبير هو أقرب إلى الدفاع عن مصطفى كمال وأمان الله خان منه إلى الهجوم
عليهما، وينبئ عن الخشية عليهما من الفشل لا عن تمنيه لهما، وإذا بنا نرى فيه
مقالة للدكتور طه حسين الذي اشتهر بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن (العظيم
المجيد الكريم الحكيم) وخلاصة لبحثه الجهلي السخيف في ضمير الغائب واستعماله،
اسم إشارة في القرآن الكريم، ومقالة أخرى لأستاذه الدكتور منصور فهمي داعية
التجديد من ناحية الفلسفة في باب خاص به عنوانه (صفحات شرقية) ومقالة
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق شقيق الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير
المجلة، فإذا كان هذان الأستاذان يساعدان المجلة في تحريرها؛ لأنهما عضوان في
مجلس إدارتها، فما بال الدكتور طه حسين، وما الذي وضع اسمه في العدد الأول
في مقالين اثنين على اشتهاره بين مسلمي مصر وغيرها بالطعن في الإسلام؟
بعد صدور هذا العدد بأيام جاءني كتاب من بعض أهل العلم الإسلامي الداعي
إلى الإصلاح يقول فيه ما معناه: إن أهل الغيرة الإسلامية المحبين للمنار وصاحبه
المحسنين للظن به ينتظرون أن ينشر في الجرائد اليومية أنه خرج من جمعية
الرابطة الشرقية وتبرأ منها بعد أن ظهرت خطتها اللادينية في مجلتها، ثم تكلم
معي بعض أعضائها في وجوب تلافي هذا الأمر وتداركه.
ثم ظهر العدد الثاني من المجلة فإذا هو أصرح من العدد الأول فيما ذكر،
وإذا بنا نرى من محرريه الدكتور طه حسين الذي تعبر عنه المجلة بكلمة (صديقنا)
وأستاذه وسلامة موسى عدو الأديان كافة والإسلام خاصة، وعدو الآداب والفضائل
الروحية، وعدو الرابطة الشرقية من وطنية وجنسية ولغوية، وداعية الكفر والوقاحة
والتهتك اللذين يعبر عنهما بالأدب المكشوف، ويرجحه على ضده من الصيانة
والحياء الذي يسميه الأدب المستور، والدكتور هيكل بك رئيس تحرير جريدة
السياسة داعية الثقافة اللادينية، والأستاذ أحمد أمين أحد أركانها، فمن ذا الذي جعل
هذه المجلة ميدانًا لسباق أشهر فرسان الإلحادية وجعلها لسان حالهم ومقالهم؟
وإذا بنا نرى من موضوعات هذا العدد مقالة وجيزة عنوانها (البرنيطة في
بلاد الشرق) بدأها الكاتب ولعله المشرف على تحريرها بقوله: (من غريب
المصادفات أن يتفق زعماء النهضة في بلاد الإسلام: تركيا وفارس وأفغانستان
على إلزام أممهم قهرًا بلبس البرنيطة رغم العقيدة الفاشية في تلك الأمم عن البرنيطة
من أنها شعار نصراني خاص لا يرضى به إلا مسلم خارج عن دينه) إلخ.
ثم قال في أواخرها: (الحق أننا لا نزال عند رأينا في أمر البرنيطة من أنها
أهون شأنًا من أن يختلف فيها اثنان، أو ينتطح فيها عنزان، وخطأ الدعاة إليها
والمعارضين لها في تعظيم أمرها) .
***
تنويه مجلة الرابطة الشرقية
بإلحاد الكماليين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة أخرى في تعظيم شأن النهضة التركية في
المعارف وغيرها، ولا سيما نشر التعليم العام بالحروف اللاتينية الناسخة للحروف
العربية، وزعم الكاتب أن هذا الانقلاب العلمي الأخير في تركيا ليس له نظير في
تاريخ البشر؛ لأنه جعل المدن والقرى في جميع المملكة مدرسة كبرى (غرف
فُصُلوها الأندية والمقاهي والمساجد ... ) ثم نَوَّهَ بعظمة الغازي مصطفى كمال الذي
هو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة العامة الشاملة لجميع أفراد الأمة التركية!
أيظن الكاتب الذي جُنَّ في الدعاية الكمالية فعظم ما ليس بعظيم، أن الناس
كلهم مجانين يأخذون هذا التنويه الجنوني بالتسليم، بعيشك أيها القارئ ألم يكن
صاحب المنار فيما توقعه من مصطفى كمال وأمان الله خان ثم من الرابطة الشرقية
غيدرًا [1] وداعيًا إلى الرشد لِمَ لَمْ يزدهم دعاؤه إلا فرارًا؟
***
خداع طه حسين للأزهريين
بترك الدنيا للملحدين
وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة للدكتور طه حسين حاول فيها إقناع الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع الأزهر بأن يجعل التعليم فيه وفي سائر المعاهد الدينية موجهًا
إلى الدعوة والإرشاد دون القضاء الشرعي والتعليم في المدارس وغير ذلك من
أعمال الحكومة والمصالح الدنيوية اللادينية تبعًا لمذهب التجديد القاضي بفصل أمر
الدين عن أمور الدنيا خلافًا للإسلام.
ونرى من المناسب أن ننتقل على سبيل الاستطراد من سرد المباحث التي
تسمى التجديدية، وكتابها في مجلة الرابطة الشرقية، إلى ذكر شيء جديد في مقال
الدكتور طه حسين، وهو أنه يذكر الله تعالى في هذه المقالة ويسمي الإسلام دين الله
والقرآن كلام الله، فقد قال في آخر هذه المقالة:
(ألا إن سبيل الأزهر إلى الخير واضحة إن أراد أن يسعى إلى الخير حقًّا
فليخرج لنا وعاظًا مرشدين خليقين بهذا اللقب، وليخرج لنا دعاة إلى دين الله وذادة
عنه وحماة له، وليدع الدنيا وأعراضها للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا، فقد
صدق الله تعالى حين قال:] وَاضْرِبْ لَهُم [2 {مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (الكهف: 45)
فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذوره الرياح، وليدع الأزهر هذا الزبد الذي يذهب
جفاء) .
ونقول: الظاهر أن هذا التصريح الجديد في هذه المقالة يقصد به التأثير
وإقناع شيخ الأزهر ورجال الإصلاح بهذه النصيحة الخادعة وإيهامهم أنها مقتضى
كلام الله تعالى، وشيخ الأزهر وعلماء الأزهر يعلمون أن الإسلام جمع لأهله بين
مصالح الدنيا والآخرة، وأن هذا المثل الذي ذكرهم به الدكتور ليس معارضًا لقوله
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله: {قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وأمثال ذلك من الآيات التي
ترشد المسلمين إلى جميع الكائنات، والآيات التي وعدهم الله بها بأن يجعلهم خلفاء
الأرض ويمكن لهم فيها السلطان والمجد وإنما ذلك مثل لتصغير متاع الحياة الدنيا
بالنسبة إلى سعادة الآخرة؛ لئلا يشغلهم الغرض الأدنى عن الغرض الأعلى، وقد
أرشدهم إلى الجمع بينهما، وعلمهم أن يدعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) ومن المعلوم من تاريخ الإسلام بالضرورة،
ومن تعاليمه بالنصوص المتفق عليها بين الأئمة أن خلفاء المسلمين وقضاتهم
وحكامهم يجب أن يكونوا من أعلم علمائهم المستقلين، ومن أشدهم إقامة للعدل
واعتصامًا بعدالة الدين، وهم يحفظون من كلام سلفهم: الدنيا مزرعة الآخرة، وقد
بيَّنا هذا بالتفصيل في مواضع من التفسير والمنار فلا محل لبسطه هنا.
وقد غالط الدكتور طه حسين الأزهريين فيما ضربه لهم من الأمثال الدنيوية
كهذا المثل الديني؛ إذ ذكر لهم المدارس الدينية لدعاة النصرانية، وهذا حجة عليه
فإن هذه المدارس تلقن طلابها جميع علوم الدنيا، ودعاة النصرانية المتخرجون فيها
منهم الأطباء وأساتذة العلوم والفنون الرياضية والطبيعة وغيرها، فلماذا يحاول
إقناع متخرجي الأزهر وسائر المعاهد الدينية، بترك تعليم المدارس المدنية
والقضائية وغير ذلك من مصالح الدنيا لكليات جامعته المصرية المدنية، والرضى
بأن تكون سيادة الدنيا ومجدها وقفًا على الملحدين، ولماذا تنشر لهم مجلة الرابطة
الشرقية هذا الغش والخداع للمسلمين؟ فيا ليت شعري هل يرى رئيس الجمعية
ووكيلها ما يراه زميلهما المشرف على تحرير مجلتها من أن الإسلام دين روحاني
محض لا حكومة له ولا شريعة يجب على أهلها التزامها، وهل يريان ما يرى
صديقه طه حسين من جعل غاية التعليم الديني الوعظ والدعوة وحصر أعمال
الحكومة المصرية الإسلامية في خريجي المدارس اللادينية؟ الذي كنا نعرفه عنهما
غير هذا.
ويلي مقالَ الدكتور طه حسين مقالٌ لأستاذه الدكتور منصور فهمي تابع لما
كتبه في العدد الأول، وغايته التنويه بتعظيم شأن مصطفى كمال فيما تراءى له
ولسائر دعاة التجديد اللاديني من نجاحه فيما يسمونه إصلاحًا، وإن لم يصرح
باسمه ولا باسم المقتدين به ملك الأفغان وشاه إيران يعبر عنهم (برجال الشرق
الحاليين ومصلحيه) .
***
دعاية سلامة موسى إلى
الإلحاد وهدم الإسلام
وإذا بنا نرى من موضوعاته دعاية سلامة موسى المسرف في الإلحاد إلى
رأيه في مقالة عنوانها (الشرق والغرب) وهي تتضمن تخطئة جمعية الرابطة
الشرقية في سعيها للتعارف والتعاون بين شعوب الشرق من أدناها إلى أقصاها إذ
يقول: إننا نحن المصريين والسوريين والعراقيين نَمُتُّ بجملة صلات من النسب
إلى أوربا ولا نَمُتُّ بأي صلة إلى اليابان والصين، ونحن من حيث السلالة
البشرية ننتمي نحن والإنجليز إلى (أم واحدة) ونحن من حيث الدين يشترك كثير
منا وأوربة في المسيحية، والمسلمون هم أقرب الملل في العالم إلى المسيحية) .
وغرض سلامة موسى أفندي من هذا البحث في مقالته إقناع قراء مجلة
الرابطة الشرقية وتقريب بعض آخر من رأيه المشهور عنه، وهو وجوب إندغامنا
في الأمة الإنكليزية، ولو كان هذا المقام مقام المناقشة والمناظرة لأثبت له أن
النصرانية الحاضرة نصرانية التثليث هي أقرب إلى البوذية منها إلى الإسلام ولكن
دين المسيح دين التوحيد الخالص هو عين دين محمد عليهما الصلاة والسلام الذي
جاء في إنجيل يوحنا منه قول عيسى في مناجاة ربه (17: 3) (وهذه هي الحياة
الأبدية أن يعرفوك أنك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) .
ويدعو الأستاذ سلامة موسى في مقاله هذا إلى هدم الأديان عامة والإسلام
خاصة، كما يدعو إلى ما ذكر من السياسة القومية، فقد زعم فيه أن أسخف ما
سمعه عن الفرق بين الشرق والغرب أن الأول روحي والثاني مادي (وإن مما
يزيده عجبًا واستغرابًا لهذا القول الاستدلال عليه بنشوء الأديان في الشرق (قال) :
مع أنهم لو تَبَصَّرُوا قليلاً في القرآن والإنجيل والتوراة لوجدوا أن جميع الأنبياء في
هذه الكتب الثلاثة كان همهم الأكبر هو الإصلاح الاقتصادي الذي هو هم أوربا الآن)
ونقول: هذا من الإفك والبهتان الذي يفنِّده فيه جميع أهل هذه الأديان.
ثم إنه انتقل إلى الدعوة إلى تقليد أوربة بطفرة سريعة على رأي صديقه
الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير مجلة الرابطة الشرقية ومدير سياستها
الحقيقي وقال:
(مثال ذلك أنه يجب علينا أن نساوي بين الرجل والمرأة، ولكن أساس هذه
المساواة هو الاقتصاد فلا معنى لأن تُعْطَى المرأة حق الانتخاب والتصويت والسفور
والتعليم ولا يكون لها في الميراث سوى نصف الرجل، بل يجب أن نفصل الدين
عن الدولة ونجعل المرأة مساوية في المواريث للرجل بلا أدنى فرق.
ثم يجب أن نجعل التعليم العام وسيلة لتخريج رجال متمدنين ومتمدينين فقط،
وربما كان اللباس الأوربي أي القبعة (يعني البرنيطة) والبنطلون مما يجلب
عطف الأمم الأوربية علينا ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا نظرًا غربيًّا، فلو جعلناه إلزاميًّا
لجميع الأفراد لكان فيه فائدة كبرى في الإسراع في اتخاذ الحضارة الغربية) .
هذا آخر مقال هذا الداعية إلى هدم الأديان ولا سيما الإسلام وهدم الوطنيات
والاندغام في الأوربيين بسرعة سيف مصطفى كمال وقوانينه ومحاكمه الاستقلالية
التي تحكم على الممتنع من لبس البرنيطة تدينًا بالقتل فهنيئًا لجمعية الرابطة الشرقية
بهذه المجلة وكتابها.
وقد كان دعا إلى مثل ما دعا إليه في شأن المساواة بين المرأة والرجل في
الميراث وغيره في محاضرة أو خطبة استفرغها في نادي جمعية الشبان المسيحيين،
ثم كتب إلى هدى شعراوي هانم رئيسة جمعية النهضة النسوية بمصر يدعوها إلى
مطالبة الحكومة بتقرير هذه المساواة فردت عليه بأن ما تطلبه جمعيتها من الإصلاح
لا يدخل فيه الخروج عن دين الإسلام وترك أحكام الشريعة، بل هو في دائرة
حدودها، ورد عليه كثيرٌ من كُتَّاب المسلمين مبينين عدل الإسلام وفضله على
جميع الشرائع في الإرث وغيره، ولكن مجلة الرابطة تعيد له نشر هذه الدعاية.
وللدكتور منصور فهمي تعليق على هذا المقال بدأه بإجلال أخيه سلامة موسى
والإشارة بما له من المنزلة الرفيعة في نفسه ثم داعبه مداعبة في بعض عباراته.
***
دعاية الأستاذ أحمد
أمين إلى التفرنج
ويلي هذا مقالان قالت المجلة إنهما (يتصلان بالموضوع اتصالاً شديدًا)
أحدهما عنوانه (وحدة العالم) وهو للأستاذ أحمد أمين من أركان الدعاية اللادينية
جزم فيه بأن الشرق لا يمكن أن يكون له مدنية خاصة به، وأن العالم الشرقي كله
سائر إلى المدنية الغربية، ولا يستطيع أن يتجه إلى غير ذلك وأنه (يجب أن يكون
عمل المصلحين محصورًا في دفع هممهم إلى الأخذ بأوفر حظ من المدنية الغربية
وخير طريق لذلك تهيئة نفوس الأمة لهذا الاقتباس) إلخ.
***
رأي هيكل بك في
الحاجة إلى دين جديد
والمقال الثاني عنوانه (حضارة الشرق متى تُبْعَث من جديد لتضيء ظلام
المدنية الغربية) ، وهو للدكتور محمد حسين هيكل بك مدير مجلة السياسة مبتدعة
الثقافة اللادينية، ولسان حال حزب التجديد اللاديني، ولكن مقاله هذا فيه من سعة
العلم بحال أوربة والشرق ما ليس في شيء من تلك المقالات؛ إذ نظر إلى ما في
أوربة من فساد الأخلاق والآداب وخطر المدنية المادية، وعلم ما لم يعلم سائر
أولئك الكتاب أو خبر بما لم يخبر به أحد منهم من حاجة أوربة نفسها إلى إصلاح
روحي لا يمكن أن يكون إلا بهداية دينية، وإن الشرق هو الجدير بأن يكون مشرق
هذه الهداية التي لا يُرْجَى صلاح الغرب بدونها، فهو يقدح زند هذا الرجاء فيه؟
سبق للدكتور هيكل مقال في هذا الموضوع نشره في الهلال وتمنى فيه لو
يُبْعَث نبي جديد في مصر من أهلها يتحقق بما يأتي به من وحي الدين هذا الرجاء
في إصلاح الغرب والشرق، وفاته أن هذا النبي الذي قوي توجه العقول إلى
الحاجة إليه قد وجد وجاء بكل ما يُرْجَى في هذا الأمر، ولكن الذين يدعون اتباعه
قد شوهوا هدايته بما ابتدعوه فيها، وإنها لو ظهرت نقية من هذه البدع والخرافات
بدعاية حكيمة معقولة لأدت هذه الوظيفة المرجوة على أكمل وجه.
هذا النبي المطلوب لإصلاح فساد المدنية الغربية هو محمد رسول الله وخاتم
النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، كما بيَّنا في مواضع من المنار في
السنين الماضية وبيَّنا أن أول من اهتدى إلى حاجة أوربة إلى هدايته في هذا العصر
هو حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى، وأنه كان كثيرًا ما
يقول: لا حجاب يحول بين أوربة وبين دين القرآن إلا نحن فإنهم ينظرون إلينا من
خلال القرآن هكذا ويرفع يديه مُفَرِّجًا بين أصابعهما فيجدون وراءه أقوامًا غلب
عليهم الجهل والكسل والتواكل والخرافات فيلقونه قائلين: لو كان كتاب إصلاح
لصلح به مُتَّبِعُوه، فإذا أردنا أن نقنعهم بحقية الإسلام وإصلاحه وجب أن نقنعهم قبل
ذلك بأننا لسنا مسلمين.
ويليه في ذلك الأستاذ الإمام وقد نقلنا عنه مرارًا أنه قال في درسه العام في
الأزهر: إنني اعتقدت منذ عشرين سنة عقيدة تزداد رسوخًا في نفسي سنة بعد
أخرى بقدر ما أزداد علمًا واختبارًا لحالة العالم المدني، وهو أن أوربة لا تجد لها
منقذًا من فوضى الأفكار المادية وفساد الأخلاق إلا بالإسلام الصحيح، وأنها ستنتهي
إلى الاهتداء به في يوم من الأيام وربما صار المسلمون المقلدون الجامدون يأخذون
الإسلام عن علمائها (أو قال ما هذا معناه، وربما أكون قد ذكرته من قبل بلفظه أو
بما هو أقرب من هذا إلى لفظه ولكن المعنى لم يتغير) وأقول: إن تجديد الثقافة
والحضارة السليمة من الرذائل يظهران على أكمل وجوههما بتجديد الإسلام،
ويكون هؤلاء المجددون له مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها) رواه أبو داود والحاكم
والبيهقي في (المعرفة) من حديث أبي هريرة ووضع له السيوطي في الجامع
الصغير علامة الصحيح، وحينئذ نرى هؤلاء الدعاة إلى التجديد الأعمى يؤمنون
بآية التجديد المبصرة ويكونون من السابقين إلى الإسلام الذي يجهلونه ويحتقرون
أهله.
***
مختارات مجلة الرابطة
الطاعنة في الإسلام
ومما اختارته المجلة أو مراقبها لهذا العدد الثاني من الاقتباس والترجمة في
مقال في (مسيلمة الكذاب) مخالفة في سَدَاها ولُحْمَتها لما عند المسلمين، يسمي
صاحبها مسيلمة نبيًّا كما يُسَمَّى محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، يعني أن كلا منهما
كان نبيًّا لقومه، ويسند إلى الأخبار الإسلامية التعبير عنه بمسيلمة الكذاب كأنه أو
لأنه مخالف لهم في هذا الوصف، فما كان أغنى قراء هذه المجلة عن هذه المباحث
في أوائل أعدادها! !
ومنها ما ترجمه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق من محاضرات لطلاب
المدرسة الحرة في باريس في الإسلام من الطعن على هذا الدين القويم وهي خمس
محاضرات جمعها كتاب اسمه (الإسلام والسياسة الحاضرة) ولم يرد الأستاذ على
شيء مما فيها من الطعن في الإسلام والمسلمين ولا أشار إلى شيء مما فيها من
الخطأ، ولكنه قال فيما بيَّنه من غرضه بعد تلخيصها: (وليس من غرضنا أن
نناقش في رأي، ولا أن ندل على خطأ أو تناقض، وثَمَّ لمن أراد موضع للمناقشة
وبيان التهافت، إنما نريد أن ننقل إلى أهل الشرق تصور الغربيين لهم وحكمهم
عليهم) .
أقول: إننا في حاجة إلى العلم بما يقول فينا أهل الغرب من خير وشر وحق
وباطل لا من الطعن فقط، وفي حاجة إلى تمحيص أهل العلم والرأي لما يُكْتَب عنا،
والفصل بين الحق والباطل من أقوالهم، والأستاذ المترجم يعلم أن أكثر قراء
مجلة الرابطة الشرقية من المسلمين ليس لهم من المعارف الإسلامية ما يقدرون به
على المناقشة وبيان الخطأ والتناقض، وأن الطعن في دينهم مما يضرهم قراءته،
ويا ليت شِعْرِِي هل تقبل مجلة الرابطة الشرقية هذه المناقشات إذا كتبها إليها بعض
المسلمين أم تعتذر عنها بأنها مما تبرأت منه في بيان خطتها في العدد الأول.
هذا بعض ما أنكرنا في هذا العدد الواحد من مجلة الرابطة الشرقية ورآه
الناس واستنكروه مثلنا، وكان أشدهم استنكارًا له المسلمون ولا سيما رجال الدين
ورجال السياسة منهم، وقد كتب إليَّ عالم سوري عصري كبير في فلسطين يقول
ما خلاصته: إنه ظهر للعامي والخاصي أن مجلة الرابطة الشرقية مجلة إلحادية أو
لا دينية على مذهب زعنفة دعاة التجديد المعادين للإسلام، وإنه يجب عليك
الخروج من جمعيتها حفظًا لمقامك الديني إلا أن تكون ساعيًا لمنعها في الاستمرار
على هذا الطريق ذي العِوَج ... وقال لي كاتب من أشهر الكتاب السياسيين: يظهر
أن مجلة الرابطة الشرقية مشايعة لجريدة السياسة ومجلة الهلال في نزعة التجديد
اللاديني ... إلخ.
على أن جريدة السياسة اعتدلت في خطتها بعض الاعتدال وقد نشر فيها عدة
مقالات في استنكار خطة الكماليين في استبدال الحروف العربية، وتنكر على ملك
الأفغان اتباعه لخطواتهم على أنها تسميها إصلاحًا، وتخشى عليه من الفشل بعدم
مراعاة ما عليه قومه من عقائد وتقاليد قديمة، ثم إنها مع ذلك تنصر الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر فيما نهض به من أمر الإصلاح
الإسلامي نصرًا لم نر فيما قرأناه منه شائبة من دسيسة الدكتور طه حسين التي
نشرها في مجلة الرابطة الشرقية، ولا من شذوذ رئيس تحريرها الأستاذ علي عبد
الرازق الذي بسطه في مجلة الهلال.
إنني قد اضطررت إلى هذا التطويل في نقد مجلة جمعية كنت من أوائل
المؤسسين لها والواضعين لقانونها؛ لأنها تنكبت في مجلتها ذلك الطريق الذي سرنا
عليه فيها، وقد كنت أوجزت في النصيحة بما ذكرتها في التعليق على إعلان
المجلة ثم بما نصحت بلساني فلما لم ينفع النصح المختصر الخفي، اضطررت إلى
هذا الإنكار الصريح الجلي، وإلى نشره في المنار، فعسى أن لا أحتاج إلى مثله
بعدُ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الغيدار الذي يسيء الظن فيصيب.
(2) غلط الدكتور في أول الآية فجعله (إنما مثل الحياة) وصوابه ما ذكرنا.(29/619)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر الإسلامي العام بالقدس
عقد المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف في الشهر الماضي للنظر في مسألة
اعتداء اليهود على جدار حرم المسجد الأقصى المعروف بالبراق، وبعد قتل المسألة
من كل وجهة وضع قرارات بلغها للصحف ومنها المنار هذا نصها.
25-5-47 و7-11-28
نقدم لحضرتكم صورة عن التقرير الذي قدَّمه المؤتمر الإسلامي العام لفخامة
المندوب السامي بفلسطين، وهو يتضمن القسم المختص بحكومة فلسطين من
مقررات ذلك المؤتمر المنعقد بالقدس من أجل مطامع اليهود في البراق الإسلامي
البحت وما يحيط به من الأوقاف.
ونضم إليه المقرَّرات التي لم تُرْفَع إلى الحكومة وهي:
(1) تأليف جمعية إسلامية كبيرة تُدْعَى (جمعية حراسة المسجد الأقصى
والأماكن الإسلامية المقدسة) ومركزها العام القدس فلسطين، ولها فروع في جميع
أنحاء العالم الإسلامي وفي المهاجر التي فيها جاليات إسلامية، وغايتها حراسة
الأماكن الإسلامية المقدسة وحمايتها من أي عدوان يقع على أي جزء منها بالطرق
المشروعة والاهتمام بشأنها، وأن يوضع لهذه الجمعية قانون وأنظمة خاصة تضمن
لها الحياة والنمو.
(ب) توكيل الوفد السوري في جنيف باتخاذ التدابير اللازمة لصيانة حقوق
المسلمين في الأماكن المقدسة الإسلامية أمام عصبة الأمم والرأي العام الغربي.
(ج) نشر نداء إلى الوطنيين في أن يحرصوا على أراضيهم وعدم بيعها
لليهود، وأن يؤازروا الشركات المساهمة التي شكلها الوطنيون لشراء الأراضي.
(د) نشر بيان مفصل للرأي العام في العالم في الشرق والغرب في قدسية
البراق الشريف عند المسلمين وحقهم الثابت فيه وفيما يمكن أن ينجم من توالي
اعتداء اليهود عليه من الاضطراب الديني في البلاد المقدسة.
(هـ) تأليف لجنة تضم إلى لجنة الدفاع عن البراق الشريف لوضع قانون
جمعية الحراسة المذكورة ولتنفيذ مقررات المؤتمر.
هذا وقد تألف الوفد المذكور بالقرار السادس وقابل في اليوم الثاني لانعقاد
المؤتمر فخامة المندوب السامي وبلغه طلبات المؤتمر فوعد فخامته في أن ينظر في
هذه الطلبات وأن يهتم بها الاهتمام الكافي.
سكرتير الجمعية
ونرسل إليكم أيضًا صورة البرقية التي أرسلها المؤتمر لجمعية الأمم
***
فخامة المندوب السامي المعظم
دوائر الحكومة - القدس
إن المؤتمر الإسلامي العام المنعقد بالقدس بعد ظهر الخميس الواقع في 18
جمادى الأولى سنة 1347 الموافق 1 تشرين سنة 1928، الممثل لمسلمي فلسطين
بجميع طبقاتهم وهيئاتهم وجمعياتهم وأنديتهم الإسلامية، المشترك فيه اشتراكًا
رسميًّا الوفود الممثلة لمسلمي سوريا ولبنان الكبير وشرق الأردن وللقبائل والعشائر
العربية في فلسطين والشرق العربي، والمعزَّز بجمعيات الشبان المسلمين بمصر،
والمؤازر بالرأي العام الإسلامي في الداخل والخارج، والذي اجتمع للبحث
والمشورة واتخاذ الوسائل والتدابير الضرورية في صد الخطر اليهودي عن مكان
البراق النبوي الشريف، وصيانة حقوق المسلمين في أماكنهم الإسلامية المقدسة قد
قرَّر بالإجماع المقررات التي توجبها عليه وعلى المسلمين جميعًا خطورة تلك الحالة
العاجلة، وإن سكرتيرية هذا المؤتمر تتشرف عملاً بقراره أن ترفع لفخامتكم القسم
الذي يختص بالحكومة من هذه المقررات، ونرجو أن تتفضلوا برفعها إلى حكومة
لندن وعصبة الأمم، والمقرَّرات هي:
أولاً: يعلن المؤتمر بالإجماع أن مكان البراق الشريف الذي هو جزء من
المسجد الأقصى المبارك هو مكان إسلامي مقدس بنص القرآن الكريم، وأنه هو
وما حوله وما يحيط به من الأوقاف المتراصة من جميع جهاته على مسافة واسعة
مِلْك خاص بالمسلمين، وأن كل زعم لليهود فيه باطل لا يستند إلى أي حق، وأنه
ليس لهم هناك أكثر من المجيء إلى ذلك المكان والوقوف أمامه وقوفًا عاديًا، مثل
غيرهم مجردًا عن العبادة والصلاة ورفع الأصوات وإظهار المقالات كما هو ثابت
بالوثائق الرسمية التي بيد السلطات الإسلامية المتعاقبة، والمعروفة حق المعرفة
لدى الحكومة المحلية التي اعترفت بذلك اعترافًا صريحًا للسلطات الرسمية
الإسلامية، واعترافًا فعليًّا بتصديها بنفسها لمنع ما يحاول اليهود إحداثه في ذلك من
حق لهم بوضع أدوات متنوعة، وبرفعها ذلك مباشرة كما حدث في الحادث الأول
سنة 1925، وفي الحادث الأخير في شهر أيلول سنة 1928 وعليه فقد قرَّر
المؤتمر بالإجماع:
(أ) أن يحتج بكل قوة على أي عمل أو محاولة ترمي إلى إحداث أي حق
لليهود في مكان البراق الشريف المقدس، ويستنكر هذا كله أشد الاستنكار كما أنه
يحتج على كل تساهل أو تغاض أو تأجيل يمكن أن يبدو من الحكومة في هذا السبيل.
(ب) أن يطلب من الحكومة منع اليهود حالاً منعًا باتًّا مستمرًّا من وضع أية
أداة من أدوات الجلوس والإنارة والعبادة والقراءة وضعًا موقتًا أو دائمًا في ذلك
المكان في أية حالة من الأحوال وأي ظرف من الظروف، وأن تمنعهم أيضًا من
رفع الأصوات وإظهار المقالات بحيث يكون المنع في كل هذا متكفلاً لأن لا يضطر
المسلمون إلي أن يباشروا منعه ورفعه بأنفسهم مهما كلفهم الأمر؛ دفاعًا عن هذا
المكان الإسلامي المحض المقدس، وعن حقوقهم الثابتة لهم فيه مدة ثلاثة عشر قرنًا.
(ج) أن يلقى تبعة ما قد ينتج من إقدام المسلمين على الدفاع عن البراق
الشريف بأنفسهم على الحكومة إذا توانت هي في منع أي اعتداء يصدر من اليهود؛
لأنها متكلفة بحفظ الأمن، ومطالبة بالمحافظة على الأماكن الدينية الإسلامية من كل
اعتداء.
ثانيًا: يعلن المؤتمر بالإجماع أن محاولة اليهود إحداث الاعتداء على البراق
الشريف؛ ليتخذوا من ذلك سببًا في إيجاد مشكلة بينهم وبين المسلمين وليقحموا هذه
المشكلة في جملة الخلافات حول الأماكن المقدسة بفلسطين، هي محاولة باطلة
مستنكرة مجردة عن كل حق أو سبب إلا سبب الطمع في الاستيلاء على مقدسات
المسلمين، فالمؤتمر يقرِّر بالإجماع أن يحتج على هذا أشد الاحتجاج، ويطلب من
الحكومة باسم جميع المسلمين أن تحسم هذه المحاولة؛ لأن البراق الشريف - الجدار
الغربي للمسجد الأقصى المبارك - هو من الأماكن الإسلامية المقدسة المحضة
المكفولة الحصانة بالنص الصريح الواضح الذي جاء في الشق الأخير من المادة
الثالثة عشرة من صك الانتداب، ولا ينازع المسلمين فيه منازع شأن جميع الأماكن
الإسلامية المقدسة.
ثالثًا: قرَّر المؤتمر أن من واجبه الديني إزاء هذه الحالة الخطرة أن يعلن
للعالم قاطبة ما يلي: لما كان اليهود يوالون اعتداءهم على البراق الشريف، وكان
البراق الشريف قطعة لا تتجزأ من المسجد الأقصى، وكان المسجد الأقصى وهو
أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين مسجد العالم الإسلامي كافة، وكان مسلمو
فلسطين بالنيابة عن المسلمين سَدَنة هذا المسجد المبارك وحُرَّاس مكان البراق
المختص بإسراء نبيهم صلى الله عليه وسلم ولما كان توالي اعتداء اليهود هذا هو
بحقيقته الظاهرة والمقصودة تحديًا للمسلمين فيما هو من أعز مقدساتهم الواقعة في
أوسط بقاع العالم الإسلامي، وكان ذلك ينتج بطبيعة الحالة الاضطراب الديني
الشديد لا في فلسطين خاصة، ولا في الأقطار الإسلامية المجاورة فحسب، بل في
العالم الإسلامي كله لما كان ذلك، وكان مسلمو فلسطين مفروضًا عليهم بحكم كونهم
سدنة المسجد الأقصى أن يستصرخوا العالم الإسلامي لرفع هذا الجَوْر، وصد هذا
الخطر، فإن هذا المؤتمر يقرر إصدار نداء إلى العالم الإسلامي بذلك، وأن يبلغ
الحكومة المحلية وحكومة لندن، وعصبة الأمم، والدول الأجنبية بواسطة قناصلها،
وأن يعلن الرأي العام في الشرق والغرب أن اعتداء اليهود وتكرره على البراق
الشريف الجدار الغربي للمسجد الأقصى وعدم مبادرة الحكومة إلى قمعه بحزم،
يؤدي بطبيعة الحال إلى أحداث خطيرة في الأقطار الإسلامية يكون فيها المسلمون
مدافعين عن أعظم خطر نزل في القرون العثمانية الأخيرة بما هو من أعز مقدساتهم،
وهم يُشْهِدون دول الأرض وشعوبها على هذا الاعتداء الذي سيكون له تبعات
كبرى.
رابعًا: يقرِّر المؤتمر أن القانون الذي سنَّتْه حكومة فلسطين سنة 1924 باسم
قانون نزع الملكية قد تضمن في جملة مواده مواطن كثيرة دعت لتخوف المسلمين -
بالنسبة لظروف فلسطين الخاصة- على أوقافهم وأماكنهم الدينية، ولما كانت
المواطن الداعية للتخوف من هذا القانون يعلم المسلمون أنها من آثار المساعي
اليهودية توطئة للوصول إلى كثير من غاياتهم بالاستيلاء على أوقاف ومبان إسلامية
مكفولة الحصانة بموجب نص الشق الثاني من المادة الثالثة عشرة من صك الانتداب
ولما كانت الهيئات الإسلامية الرسمية قد احتجَّت للحكومة مرارًا باسم جميع
المسلمين على هذا القانون منذ صدوره، طالبة إزالة مواطن التخوف منه، التي
أخذت تتحقق بالفعل، ومن ذلك قيام اليهود الآن يطلبون استملاك مكان الوقف
الإسلامي المحض الذي فيه البراق الشريف، مستندين على هذا القانون: لما كان
ذلك، فالمؤتمر يطلب من الحكومة رفع مواطن التخوف من هذا القانون تأمينًا
للمسلمين على أماكنهم الدينية المقدسة وأوقافهم، ويرى أن لا سبيل إلى ذلك إلا
برفع ما جاء في ذلك القانون من أسباب هذا التخوف، أو بإعلان رسمي من
الحكومة أن هذا القانون لا يشمل الأماكن الدينية الإسلامية، وبأن أوقاف المسلمين
لا تنزع ملكيتها لأغراض طائفية أجنبية، ولا تنزع إلا بطريق الاستبدال الشرعي
بواسطة المحاكم الشرعية الإسلامية وفقًا للشرع الإسلامي الشريف.
خامسًا: لما كان النائب العام في حكومة فلسطين (المستر نورمان بنتويش)
زعيمًا صهيونيًّا قُحًّا بآرائه وأعماله ومؤلفاته، وكان مركز النائب العام في حكومة
فلسطين عاملاً أكبر في التشريع والتقنين، فإن المسلمين في فلسطين يرون في
وجود هذا الرجل في هذا المركز التشريعي النافذ مبعث الخطر على أعظم مصالحهم
وهم الأكثرية المطلقة في البلاد، وقد سبق لهم أن احتجوا على وجوده، يشغل في
حكومة فلسطين منذ الاحتلال وظيفة عالية، من شأنها أن تمهد كثيرًا للمقاصد
اليهودية والصهيونية، فالمؤتمر يطلب باسم المسلمين من الحكومة إقصاء المستر
بنتويش عن المركز التشريعي النافذ الذي يشغله في حكومة فلسطين، ويقرر
الاحتجاج على بقاء المذكور في مركزه هذا، ويرى من الظلم على المسلمين أن
يشغل هذا المركز زعيم صهيوني كالمستر بنتويش الساعي لتحقيق المطامع
الصهيونية، الماسة مساسًا ضارًّا بحقوق المسلمين الدينية في أماكنهم المقدسة.
سادسًا: يقرر المؤتمر أنه بالنظر إلى تفاقم الحالة واشتداد هياج المسلمين أن
يوفد إلى فخامة المندوب السامي وفدًا مستعجلاً يطلب منه باسم المؤتمر أن تصدر
الحكومة بأقرب وقت تصريحًا رسميًّا تعلن فيه صيانة البراق الشريف وسائر
الأماكن الإسلامية المقدسة من كل اعتداء يسعى اليهود لتحقيقه بأية وسيلة أو إحداث
أي شيء جديد فيه؛ إزالة لمخاوف المسلمين وتطمينًا لهم، ويبين الوفد للحكومة
خلاصة القسم المتعلق بها من مقررات المؤتمر ريثما تبلغ إليها هذه المقررات خطيًّا
بصفة رسمية بوقت قريب.
سابعًا: يقرر المؤتمر أن تبلغ رسميًّا حكومة فلسطين هذه المقررات المذكورة،
ويطلب منها أن تقدمها إلى حكومة لندن وإلى عصبة الأمم.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير المؤتمر
... 24جمادى الأولى 1347 الموافق (7 تشرين الثاني 1928)
(المنار)
إن حكومة فلسطين قد بلَّغت وزارة المستعمرات في لندن هذا، وكل ما علمته
في مسألة الخلاف من الجانبين، وكان ذلك موضوع مناقشات في البرلمان
البريطاني وأخيرًا أصدرت حكومة لندن (كتابًا أبيض) في المسألة اعترفت بأن
الحق للمسلمين فيها، وكفى الله المؤمنين القتال في هذه المعركة، وعليهم أن
يستعدوا لغيرها، وربما كان ما بعده أشد هولاً مما قبلها.
__________(29/628)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة العلامة الجليل الشيخ سليم البخاري
جاء في جريدة (العهد الجديد) البيروتية الغرَّاء لمراسلها في دمشق بتاريخ
25 تشرين أول سنة 1928 ما نصه:
طويت صباح أمس صفحة ماجدة وضَّاءة من صفحات العلم والوطنية
والإخلاص بوفاة سماحة العلامة الجليل الشيخ سليم أفندي البخاري والد الشهيد
البطل المرحوم جلال الدين البخاري وصاحب المعالي الوطني الكريم نصوحي بك
البخاري وزير الزراعة والتجارة ووزير المعارف سابقًا، فكان لِمَنْعَاهُ رنَّةُ حزنٍ
أليمةٍ في البلاد السورية جمعاء التي بادرت للصلاة على روحه الطاهرة الكريمة
صلاة الغائب.
والشيخ سليم أفندي البخاري علامة جليل من كبار علماء المسلمين، له ولعه
الشديد بجمع آثار السلف الصالح واقتفاء أثر المخطوطات النادرة، والحرص عليها
حرص البخيل على درهمه، كما أنه كان مثال النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل
وصورة الأخلاق الفاضلة الكريمة، وهو أحد أركان النهضتين الوطنية والعلمية
والنافخ في بوق التجديد، والعالم الفذ على استئصال شأفة البدع والخرافات، وقطع
السبيل على المرتزقة من رجال المشيخة الأغرار، حتى إنه رحمه الله سن قانونًا
خاصًّا للتدريس في المساجد إبَّان وجوده في رئاسة العلماء حظر فيه القيام بالنصح
والإرشاد وإلقاء الدروس الدينية في المساجد على غير العلماء المعروفين المشهود
لهم برسوخ قدمهم في علوم الدين، ولكن هذا القانون قد درست معالمه وألقي في
سلة المهملات بعد أن غادر سماحته منصب رئاسة العلماء مستقيلاً إثر ما جرى من
تدخل في شئون الدين يوم أعلنت خلافة جلالة الحسين بن علي ملك الحجاز السابق
فآثر رحمه الله اعتزال المنصب على أن يُقِرَّ هذا التدخل ويحول بين المسلمين وبين
المبايعة كما أنه رحمه الله بايع وأمضى صك البيعة، وهذا دليل ناهض وحجة
دامغة على مقدار صلابة سماحته في مبدئه.
وفوق هذا كله فلقد كان رحمه الله لغويًّا كبيرًا وعالمًا جليلاً في الأدب والمنطق
والفلسفة الإسلامية، ومن أشد الناقمين على البدع والخرافات والداعي إلى اجتثاثها
من أصولها؛ لتتنزه تعاليم الإسلام عما يحسبه الأغرار من الدين وما هو منه في
شيء.
وكان مجلسه رحمه الله مجلس علم وأدب ويأبى أن يذكر في حضرته اللسان
بسوء، وهو من أصحاب المغفور له العلامة الكبير الشيخ طاهر الجزائري.
وما ذاع النبأ في المدينة حتى تهافت الكبراء والوجهاء والعلماء والشباب
والأساتذة إلى المنزل يواسون معالي نجله الكريم الأستاذ نصوحي بك البخاري
وأخوانه، وعندما عرض جثمان الكريم على المغتسل دخل إلى الغرفة التي تجري
فيها مراسم الاغتسال سماحة العلامة الجليل المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي
الحسني فودَّعه وداعًا حارًّا استهل الدموع المدرارة وأثار العبرات الحارة.
وبعد أن تمت مراسم الاغتسال سارت الجنازة تتقدمها جنود الدرك ورجال
الشرطة وجلاوزة البلدية فالعلماء يتقدمهم سماحة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين
الحسني فجثمان الراحل الكريم فمعالي نجله نصوحي بك وإخوانه فالكبراء والعظماء
من رجال الوطنية والوجاهة والعلم ورئيس الوزراء الشيخ تاج الدين أفندي الحسني
ووزير المعارف الأستاذ محمد بك كرد علي ومعتمد الدولة العربية ورجال الصحافة
والمحاماة والأطباء والموظفون وطلاب الجامعة السورية والمعاهد العلمية الكبرى
وتلاميذ المدارس الأميرية والرسمية حتى بلغوا الجامع الأموي الكبير حيث صلى
على الجثمان الكريم سماحة الأستاذ الشيخ بدر الدين وقبل الصلاة عاد رئيس
الوزراء ووزير المعارف، ومن ثم سار موكب الجنازة بنظامه إلى مقبرة الدحداح
حيث ووري الجثمان الكريم، وقد كانت الجنازة منقطعة النظير تدل على ما للأستاذ
الفقيد من منزلة سامية في النفوس، وقد رافق الجنازة على عجزه وكبر سنه سماحة
المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي الحسني حتى المقبرة، رحمه الله رحمة
واسعة وألهم الأمة المفجوعة بفقده وذويه الصبر وجزاهم الأجر، وإننا نتقدم لمعالي
نجله الأستاذ نصوحي بك ولإخوانه الأكارم وذويه الأفاضل بواجبات التعزية، سقى
الله جسده الطاهر وثراه الطيب صيب الرضوان اهـ.
(المنار)
كان الأستاذ الكبير الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى من أفراد علماء
سورية العاملين المستقلين، وعلمًا من أعلام رجالها المصلحين، الجامعين بين علوم
الدين النقية من البدع والخرافات وبين الإلمام بعلوم العصر الكونية والعقلية،
وحاجات المسلمين فيه من مدنية وسياسية، سلفي العقيدة مهذب الأخلاق غيورًا على
الدين، نصوحًا للمسلمين، واسطة العقد بين المدنيين والدينيين، عرفته في دمشق
عند زيارتي لها عقب إعلان الدستور العثماني سنة 1326 (1908) ثم تلاقينا في
الآستانة في السنة التالية ثم في دمشق سنة 1338 وكنا متفقين في الرأي في كل ما
بحثنا فيه، ومن أهمه موافقة الأستاذ الإمام رحمه الله في آرائه الإصلاحية،
والإعجاب بمواهبه العلمية، ولكن بلغنا عنه في العهد الأخير رأي شاذ وافق فيه
بعض خصوم الشريعة الغراء والسلطان الإسلامي، ولا ندري سبب ذلك ومنزلته من
الصحة، وإننا نقترح على المجمع العلمي بدمشق أن يترجمه في مجلته ترجمة حافلة
تليق به.
__________(29/633)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحكومات اللادينية للشعوب الإسلامية الأعجمية
وعواقبها في الترك والفرس والأفغان
قوي حزب الملاحدة في الشعب التركي فسنحت له الفرص بما كان من أطوار
الانقلاب بعد حرب الأمم الكبرى فأسس حكومة لا دينية أعلنت الانسلاخ من دين
الإسلام وجهرت بمقاومته ومحاولة محوه من بلاد الشعب التركي، وسمعنا منذ
بضع سنين ونحن في أوربة أن الزعيم الأكبر لها يمهد السبيل لتنصير هذا الشعب
على المذهب البروتستانتي إذا كانت الحكومة الإنكليزية تبذل له ثمن ذلك معاملة
الحكومة التركية معاملة الدول الأوربية الكبرى، وحينئذ ينقض عهد الحكومة
الروسية الشيوعية وينفض عنه غمراتها، وكان لها ولأفراد من شعبها التأثير الأكبر
في هذا الاتحاد.
ولما شعر هذا الزعيم ورجاله أنهم خسروا بترك الإسلام زعامة الحكومة
التركية للشعوب الإسلامية كلها، وأن دولتهم صارت دون ولاية واحدة من الولايات
التي كانت تحت سيادة الدولة العثمانية (التي يحتقرونها اليوم) عددًا وعلمًا وثروة
وهي ولاية مصر، أنشئوا يبثون في جميع الشعوب الإسلامية دعوة الإلحاد؛
ليكونوا سادة لها في عهد الكفر كما كانوا سادة في عهد الإسلام، فراجت دعايتهم في
ملاحدة الأفغان وإيران، وخابت وفشلت وخسرت في جميع البلاد العربية، حتى
مصر التي كثر فيها الملاحدة وانتشرت دعاية الإلحاد، ولا يستبعد العالم بغرور
الترك أن يكون الكماليون طامعين في السيادة العسكرية على الأفغان وفارس بعد
انسلاخهما من الدين الإسلامي بدعايتهم والاستعانة عليهم بملوكهم وبعض كبرائهم.
وقد كان غرور الملك أمان الله خان بدعاية الكماليين غريبًا فلم يؤثر فيه
إنذارنا له سوء عاقبة تقليدهم منذ سنة فثار عليه شعبه ثورة لا يعرف قيمة خطرها
إلا من عرف شدة شكيمة هذا الشعب العزيز النفس الشديد البأس وقوة العصبية
الإسلامية فيه، فالآن قد علم أمان الله خان وزوجه ثريا ووالدها وزيره الأكبر
محمود الطرزي خان أننا كنا أعلم منهم بأنفسهم وبحال شعبهم إذ أنذرناهم أن هذه
الخطة ستكون خطرًا على حكومتهم، وعلى بيت المالك أيضًا كما تقدم بيانه في
الجزء الماضي.
وقد نجمت قرون الثورة في الإقليم العربي من مملكة إيران ثم في بعض
الأقاليم العجمية، ولكنها دون الثورة الأفغانية في قوة سَوْرَتها واستعدادها لما بين
الشعبين من الفوارق على أنها لا تزال في سن الطفولية، وأما الترك فلا يزالون
يأتمرون سرًّا باغتيال رئيسهم وتواترت البرقيات في هذا الشهر بنبأ جديد منها
والآجال مقدَّرة عند الله تعالى، ومن أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يرضى
ملك الأفغان وشاه إيران بتقليد مصطفى كمال باشا في إكراه شعوبهما على لبس
البرنيطة واستبدال الزي الإفرنجي بالزي الوطني القومي المعدود عند الجميع من
مشخصات الشعوب الإسلامية وفي تفرنج النساء وتبرجهن على ما فيه من المفاسد
الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
وأعجب من هذا وأغرب أن بعض كُتَّاب الصحف التي تسمى إسلامية تعبر
عن هذه المفاسد بكلمة (الإصلاحات) تبعًا لبعض كتاب الإفرنج وتلاميذهم من
النصارى والزنادقة، وأعجب من هذا وذاك وأغرب أن بعض المسلمين الأغرار قد
أظهروا تمنيهم لنجاح الشاهين بمثل ما يزعمون من نجاح مصطفى كمال باشا،
والحق أن هذا حكم مُبْتَسَرٌ، وما هي إلا كما قلنا تجربة هي أقرب إلى الخطر منها
إلى الظفر.
_______________________(29/635)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الجديدة
(حوليات مصر السياسية)
تقول العرب: الدهر بالناس دواري أي يدور بهم من حال إلى حال،
وينتقلون فيه من طَوْر إلى طَوْر، وقد كان لمصر من هذا الانتقال في قرن واحد ما
لم يكن مثله لقطر آخر، فقد انتقلت في عهد محمد علي الكبير من حكم استبدادي
مُخْتَل مُعْتَل إلى حكم استبدادي عمراني منظم، مداره على قطب الثروة والقوة، ثم
انتقلت في عهد حفيده إسماعيل باشا إلى طَوْر التفرنج والتمتع بالثروة والزينة
بالإسراف الذي أعقب الفقر والإفلاس فالاحتلال الإنكليزي، ثم انتقلت بالاحتلال
إلى حكم أجنبي اقتصادي يراد به سلب استقلال البلاد، وإفساد جميع مقومات
الشعب، ثم انتقلت أخيرًا إلى استقلال مقيد بقيود تحول دون حرية الأمة وحكومتها.
وقد كان لكل طور من هذه الأطوار تأثير خاص في أخلاق الشعب وعقائده
وعاداته يجب على العلماء من المؤرخين وغيرهم تدوين أحداثه وبيان تأثيرها فيه،
فإن ما تنشره الجرائد من ذلك غير كافٍ لتعريف الشعب بماضيه وحاضره، وما
لهما من التأثير في مستقبله، وإن كانت تقرع منه كل باب، وتخوض كل عباب،
فإن أصحابها مختلفو الآراء والأهواء بالتبع لاختلاف الأديان والأحزاب والمَنَازِع
والمنافع، وقد عني مؤرخو مصر السابقون بما لم يعن بمثله غيرهم من الذين كتبوا
تواريخ سائر الأقطار الغربية والشرقية في القرون الماضية، ولكن مؤرخي هذا
العصر قد قصروا في أداء ما يقدرون عليه من ذلك، وهم أقدر من مؤرخي العصور
الخالية على التأليف فيه حتى كان تقصيرهم مثار العجب.
بيد أنه ظهر في السنين الأخيرة تواريخ مختصرة لبعض شئون مصر (منها)
تاريخ السودان وهو جزء صغير لداود بك بركات رئيس تحرير الأهرام، ومنها
تاريخ خاص بإسماعيل باشا فيه محاباة ظاهرة لأنه كتب لنيل جائزة من جلالة الملك
(ومنها) تاريخ فتح مصر الحديث أو نابليون بونابرت في مصر لأحمد حافظ بك
عوض صاحب جريدة كوكب الشرق، وسنفرد له تقريظًا خاصًّا ما أخرناه إلا لأجل
العناية به ريثما نتمكن من تصفحه أو مطالعته، ثم ظهر في هاتين السنتين
الأخيرتين خمسة أسفار كبار من تاريخ مصر السياسي باسم (حوليات مصر
السياسية) من تصنيف صديقنا العالم الفاضل المؤرخ النزيه أحمد شفيق باشا
المتخرج في مدرسة العلوم السياسية بباريس الذي كان آخر ما تولاه من أعمال
الحكومة رياسة الديوان الخديوي فإدارة الأوقاف العامة قبل أن تسمى وزارة، فوفى
بهذا الكتاب مبلغًا كبيرًا من دين مصر على علمائها القادرين على تدوين تاريخها من
وجوهه السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية وغيرها، والحوليات جمع حولي
نسبة إلى الحول بمعنى العام والمراد بها حوادث السنين.
وقد طبع الجزء الأول منه (وهو تمهيد للمقصد منها) بمطبعة مؤلفه بمصر
سنة 1345هـ (1926) فبلغت صفحاته 872 من حجم المنار، ولكن الصفحة
منها 19 سطرًا، ويليه ملحق في قرار الجمعية التشريعية ببطلان الحماية
البريطانية واستقلال مصر والسودان، وهو يحتوي تاريخ مصر السياسي من أول
عهد محمد علي باشا إلى انقلاب عام 1914 الذي حدثت فيه حرب المدنية العامة،
وأعلنت إنكلترة فيه حمايتها على مصر.
ثم طبع الجزء الثاني منه (وهو من التمهيد أيضًا) في سنة 1346، 1927 م
فبلغت صفحاته 799 ويليه ملحق في تقرير لجنة ملنر البريطانية المنتدبة لمصر
وصفحاته 128 ويحتوي هذا الجزء على حوادث مصر منذ تولى العمل لها الوفد
المصري إلى عهد نجاح ثروت باشا مع اللورد ألنبي في إلغاء الحماية على مصر،
وإعلان استقلالها المقيد فيما يسمى تصريح 27 فبراير سنة 1922.
ثم طبع الجزء الثالث المتمم للتمهيد في سنة 1346، 1928 وصفحاته 735
وهو يدخل في بابين: (الأول) في إعلان تصريح 28 فبراير وما يتعلق به من
الأحداث والأخبار والآراء في إنكلترة ومصر والشُّرُوع في تنفيذه، وفيه فصل
خاص موضوعه (ثروت باشا والرأي العام) والباب الثاني في حوادث (تحضير
الدستور) لمصر، وموضوعه (اللورد ألنبي السودان - والجرائم السياسية
واحتجاج الحكومة الإنكليزية عليها - مشكلة تعويض الموظفين الأجانب المُقَالِينَ من
الخدمة - القبض على أعضاء الوفد ومحاكمتهم - مصر ومؤتمر لوزان) .
ويلي هذه الأجزاء الثلاثة التمهيدية للحوليات المقصد من الحوليات مرتبة على
السنين، وقد طبع منها حولية سنة 1924 في جزء بلغت صفحاته الأصلية 604
صفحات، وهي تدخل في ثلاثة أبواب في كل منها بضعة فصول ثم حولية سنة
1925 في جزء بلغت صفحاته الأصلية 1104 وفيه 12 بابًا في كل منها عدة
فصول، وهو آخر ما تم طبعه في هذا العام، وستليه حولية سنة 1926 وما بعدها،
ونسأل الله أن يطيل عمر صديقنا المؤلف له أعوامًا وأحوالاً كثيرة يدون لها أهم
تاريخها.
وجملة القول في هذا التاريخ الحافل الري أنه دائرة معارف لتاريخ مصر
الحديث يغني مقتنيه عن مجموعات الجرائد المصرية اليومية في هذه السنين؛ لأنه
جامع لزبدة ما نشر فيها مُبَوَّبَة مُرَتَّبَة، ونقترح عليه أن يضع لكل جزء منه فهارس
للمسائل والأحداث وللأعلام مرتبة على حروف المعجم لأجل تسهيل المراجعة فيه.
وثمن الجزء الأول من هذا الكتاب خمسون قرشًا مصريًّا وثمن كل جزء من
الأربعة الأخرى ثلاثون قرشًا، ثمن الأسفار الخمسة غير مجلدة 170 قرشًا، وهو
غني بنفسه عن الترغيب فيه ويطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(دفع شبهة التشبيه والرد على المجسمة)
عُني بطبع هذا الكتاب ونشره الشاب الفاضل الناشئ في رياض العلم والكتب
الدينية المفيدة حسام أفندي القدسي وبيَّن سبب ذلك في مقدمته للطبع قال فيها:
(أما بعد فهذا كتاب لابن الجوزي حجبه عنا هذه البرهة - بل عن كثير من
أهل الأخصاء في معرفة المؤلفات العربية - فئة من أشياع الذين رد عليهم المصنف
عملت على محو اسمه ورسمه، قد حملني على طبعه انتشار كتب المشبهة
مخطوطها ومطبوعها في الناس، واشتغال بعض المؤلفين بالدعوة إلى التشبيه حتى
اليوم، والحرص على نشر تصانيف ابن الجوزي النافعة، وكتب الردود المانعة
اهـ بنصه
ونقول: إننا على وقوفنا على الحركة الدينية ونشر الكتب فيها لم نفهم مراد
ناشر الكتاب من قوله هذا، فمَنْ هؤلاء الذين حجبوا عنه هذا الكتاب هذه البرهة؟
وما مراده بها؟ ومتى كان هذا الكتاب مشهورًا قبلها ولم نر له اسمًا في كشف
الظنون ولا في سرد مؤلفات ابن الجوزي المشهورة في ترجمة الحافظ الذهبي في
تذكرة الحفاظ وغيره من مترجميه؟
ثم لا ندري من يعني الناشر بقوله (واشتغال بعض المؤلفين بالدعوة إلى
التشبيه) إلخ، ولكننا علمنا مما نشره من الكتب ولم نر فيها من كتب ابن الجوزي
(النافعة ولا المانعة) شيئًا من التفاسير ولا الحديث ولا الفقه، بل هو يتلقف من
أستاذ له تعليقات على هذه الكتب غرضه منها الرد على أهل الحديث ومذهبهم في
الاتباع واقتفاء أثر السلف فيه وتفضيل مذاهب المتكلمين أو مبتدعة المتأولين وأهل
الرأي عليها.
ومن الغريب أن موضوع هذا الكتاب الرد على علماء مذهب مؤلفه (الحنابلة)
ممن يسميهم المجسمة كمتعصبي المتكلمين من الجهمية المعتزلة والشيعة والأشعرية
وغيرهم، ونحن لا ننكر أنه كان في الحنابلة وغيرهم غلاة في الأخذ بظواهر
النصوص والتعبير عنها باصطلاحات لم تَرِدْ في الكتاب ولا في السنة كما هو شأن
الغلاة من أهل كل مَهَبٍّ، ولكن جمهور علماء الحنابلة أشد علماء الإسلام محافظة على
النصوص واتباع هدي السلف الصالح.
وقد جاء بعد ابن الجوزي منهم من قام خير قيام بترجيح مذهبهم على مذاهب
المتكلمين والقياسيين بالحجج النقلية والعقلية جميعًا كالشيخ تقي الدين ابن تيمية
وتلميذه ابن القيم، ولذلك يُعْنَى أستاذ الناشر ومعلق حواشي مطبوعاته الشيخ محمد
زاهد الكوثري الحنفي بالنيل منهما والطعن عليهما، وقد بلغت صفحات هذا الكتاب
84 صفحة من قطع متوسط يقرب من حجم المنار مع فهارسه وثمن النسخة من
الورق الجدي منه أربعة قروش ومن الورق العادي ثلاثة قروش مصرية.
***
(شروط الأئمة الخمسة)
تأليف الحافظ الحازمي طبع مطبعة الترقي بدمشق سنة 1346
موضوع هذه الرسالة شروط الشيخين البخاري ومسلم في صحيحهما
وأصحاب السنن الثلاثة: أبي داود والترمذي والنسائي في سننهم، نشرها القدسي
الفاضل مع تعليقاته في حواشيها للأستاذ الشيخ محمد زاهد الكوثري أكثرها مفيد
على ما فيها من الغمز الأدبي في جماعة المحدثين وتعظيم شأن جماعة الحنفية في
الحديث بما لم يعرف عن أحد من متعصبيهم من قبل فيما نعلم.
وقد بلغت صفحات هذه الرسالة زهاء ستين صفحة من قطع دفع شبهة التشبيه،
وثمن النسخة منها ثلاثة قروش.
***
(جريدة الشورى)
في السنة الماضية هنَّأَْنَا جريدة الشورى بدخولها في السنة الرابعة مُوَفَّقَة في
خدمتها القومية الوطنية، ولما أتمت هذه السنة ودخلت في السنة الخامسة أقام لها
جماعة من حملة الأقلام ومحرري الصحف السياسية والمجلات العلمية حفلة أدبية
في الفندق الأهلي (ناشونال) دعوا إليه جمهورًا من العلماء والكتاب ومحرري
الجرائد فاجتمعوا على مائدة الشاي والحلوى يتبارون في الخطب المؤثرة وينشدون
القصائد البليغة في إطراء جريدة الشورى في خدمتها الصادقة، وما كان لها من
التأثير العظيم في أنفس دول الاستعمار القاهرة لأمتهم أمة صاحب الشورى العربية
ولوطنه الفلسطيني السوري حتى إن كلا من دولتي إنكلترة وفرنسة قد منعت دخول
الشورى إلى كل بلد لهم عليه سلطان، وهذا مما يهنأ به زميلنا الفاضل المخلص
محمد علي أفندي الطاهر بما يُحْمَد به ويعلي من قدره ويعد أبلغ تقريظ لصحيفته.
كما نهنئه باحتفال إخوانه من الكتاب ببلوغ جريدته السنة الخامسة وهو ما لم
يسبق مثله لغيره فيما نعلم، وكما نهنئه باشتراك الأقطار العربية في هذا الاحتفال
النادر بجريدته، وجاءت البرقيات والرسائل من أشهر الكتاب وكبار رجالات
العرب له وللجنة مهنئين حامدين مثنين، وفي مقدمتهم نصيرها أمير الكُتَّاب
والأدباء والسياسيين مُدْرِه العرب الأمير شكيب أرسلان.
ولكن علمنا أن أكثر قراء جريدته حتى في وطنه لم يقوموا له بحقها المالي
عليهم، وهو أداء الاشتراك السنوي، وكان أقل ما يجب عليهم أن يؤدوا هذا الحق
تامًّا في أول كل سنة، وأن يزيد أغنياؤهم عليه استمرار الأداء بعد منع الجريدة من
دخول البلاد، وأن يشتركوا بنسخ كثيرة منها يجعلونها هدايا لمن يثقل عليهم
الاشتراك في الصحف من فقراء طلاب العلم وغيرهم، بل أقول: إنه كان يجب
عليهم وجوبًا قوميًّا وطنيًّا سياسيًّا أن يتبرعوا له بنفقة المجلة أو بشراء مطبعة لها،
فإن أكثرهم يعلمون أنه كان يرتزق من التجارة، وقد تركها لهذه الخدمة الوطنية
التي لا تسمن ولا تغني من جوع لمن وقف مثل موقفه السياسي وترفَّع عن الطعن أو
التملق للأغنياء المجرمين الذين لا يبذلون المال إلا لفداء أعراضهم أو قضاء
أغراضهم، فعسى أن يتذكر هذا أهل النجدة والمروءة منهم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن
يُنِيبُ} (غافر: 13) .
__________(29/636)
شعبان - 1347هـ
فبراير - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
الإيمان بملك الموت دون اسم عزرائيل
س51 من صاحب الإمضاء الإمام المرشد في جزيرة (سمبس برنيو - جاوه)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم محمد رشيد رضا صاحب المنار،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد قرأت في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع والعشرين الأسئلة
من أحاديث الصحيحين وأجوبة المنار عنها، منها السؤال عن حديث الذباب الذي
تكلم عليه الدكتور محمد توفيق صدقي كما نقله السائل وجواب المنار عنه، وبسببه
زعم أنه كافر - إذا كان مثل هذا الحديث كفر به من لم يأخذ به كالدكتور صدقي،
فماذا يقول الأستاذ الأكبر في قوله: ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ
المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) لا يتعين عندنا أن نفهم منها ما يفهمون،
فعزرائيل لم يرد ذكر اسمه في القرآن ولا في سنة صحيحة، وإنما هو اسم مشهور
عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس، وله عندهم عدة صيغ أخرى ولذلك لا
نؤمن بوجوده اهـ نقلا من المنار من المجلد 18.
وإني أرى أن عدم إيمان الدكتور بوجود عزرائيل أشد تأثيرًا في سوء الظن
باعتقاده وإيمانه خصوصًا عند الناس الذين يقل عندهم علوم الدين من عدم أخذه
بحديث الذباب وعدم العمل به، وفي كتاب كلمة التوحيد للأستاذ العلامة الشيخ
حسين والي ما نصه: والذي يجب معرفته تفصيلا جبريل وميكائيل وإسرافيل
وعزرائيل ورضوان ومالك ورقيب وعتيد فيكفر منكر أحدهم دون غيره، هكذا
قالوا اهـ.
وعليه فمن تمسك بهذا القول فلا يخاف أن يكفِّر محمد توفيق صدقي رحمه الله
تعالى لإنكاره وجود عزرائيل الذي اعتقده المسلمون، وإن كان في المسألة خلاف
يفهم من صيغة التبري التي أتى بها الأستاذ، أما أنا فإني أعتقد أن الدكتور محمد
توفيق صدقي رحمه الله تعالى من أخلص المسلمين إسلامًا، ومن أقوى المؤمنين
إيمانًا؛ لما رأيته من مقالاته الدينية (الإسلامية) التي نشرها في المنار وبعض
دروسه الصحية التي ألقاها رحمه الله تعالى في مدرسة دار الدعوة والإرشاد بمصر
وكنت يومئذ من تلامذتها، هذا والمرجو من فضل مولاي الأستاذ أن يبين لنا
وللناس أجمعين هذه المسألة بيانًا شافيًا كعادته الحسنة ودأبه الجميل، وأسأله تعالى
أن يثيبه الثواب الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان فيجب الإيمان
بهم إجمالاً، وبمن وردت النصوص بأسمائهم أو صفاتهم تفصيلاً، ومنهم ملك
الموت إذا كانت النصوص قطعية الرواية والدلالة، وأما تسمية ملك الموت
بعزرائيل وما أوهمه كلام بعضهم من وجوب الإيمان بهذا الاسم له فغير صحيح فإن
اسم عزرائيل لم يرد في القرآن كاسم جبريل وميكال وهو ميكائيل ومالك، ولا في
الأحاديث الصحيحة المرفوعة كاسم إسرافيل، وأنا الذي أخبرت الدكتور صدقي
بهذا إذ سألني عنه، وقد أشار إلى هذا صديقنا الأستاذ الشيخ حسين والي بقوله:
هكذا قالوا كما فهم السائل، ولا أذكر أنني رأيت اسم عزرائيل في شيء من دواوين
السنة ولا في تفسير غريبها إلا في أثر رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في كتاب
العظمة لا يُحْتَجُّ به ولا يثبت بمثله فرع في أحكام الطهارة والنجاسة، فهل تثبت به
عقيدة يكفر منكرها؟ وذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) أنه جاء في بعض الآثار أن اسم ملك
الموت عزرائيل، فهل يعني هذا الأثر أو غيره؟ الله أعلم، والدكتور صدقي إنما
أنكر اسم عزرائيل ولم ينكر ملك الموت، ولكن كان له رأي شاذ في فهم بعض
أصناف الملائكة قد أنكرناه عليه عند ذكره في المقالة التي أشار إليها السائل،
وأرجو أن يكون قد رجع عنه كما رجع عن كثير من آرائه التي أنكرتها عليه
بالحجة والبرهان، ومن كفَّره بإنكاره صحة حديث الذباب للإشكال في معناه فهو
جاهل بأصول الإيمان، ويا ليت له مثل علمه وعمله بالإسلام، وهو لم ينفرد بهذا
فقد رد كثير من العلماء بعض ما صح سنده لما دون هذا الإشكال في متنه.
وجملة القول أنه لا يجب على مسلم أن يؤمن بأن ملك الموت يسمى عزرائيل
ولا إثم على مؤمن ينكر هذا الاسم بل الأصل في مثله أن يتوقف فيه إلى أن يثبت
بنقل صحيح عن المعصوم وهذا ما لم نقف عليه، ولا أن يؤمن بأن لله ملكين اسم
أحدهما رقيب واسم الآخر عتيد، وإنما ورد هذان اللفظان في سورة ق صفتين لا
اسمين، والخوف على دين من يوجب على الناس الإيمان بما لم يوجبه الله عليهم
بنص قطعي أقوى من الخوف على دين من أنكر ذلك؛ لأنه الموجب بدون علم قد
نصب نفسه منصب التشريع وافترى على الله، فكيف إذا كفر من ينكر ما لم يثبت
بدليل ظني؟ فما كل ما وجب الإيمان به يكفر منكره بل منه ما يعذر جاهله
والمتأول له.
***
أهم ما يجب على مسلمي الأعاجم من اللغة العربية
س (52 و53) ومنه أيضًا:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الغراء أدام الله النفع بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فالمرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية: قال الإمام أبو عبد الله محمد
بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته في أصول الفقه ما نصه: فعلى كل
مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله تعالى ويتعلق بالذكر فيما
افترض عليه من التكبير وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من
العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا
له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ويتوجه لما
وُجِّهَ له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا اهـ ص9.
1- فعلى قوله رحمه الله تعالى ما تقولون في الأعاجم الذين لا يعرفون شيئًا
من لسان العرب الذي هو لسان دينهم، والذي نزل به كتاب الله على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم حتى معنى كلمتي الشهادة لم يعرفوه، ولا تجد في كل بلد من
بلاد جاوة من يعرف اللغة العربية إلا قليلاً جدًّا، وإني لا أظن أنه يوجد في الألف
أو الألوف واحد يعرفها ولو معرفة قليلة، وإنهم يقرءون القرآن وغيره من الذكر
والدعاء بغير فهم، فهل أثموا بترك تعلمها أم لا؟
2- إذا كان في ترجمة القرآن مفاسد ومضار تقتضي عدم جواز ترجمته كله
كما قررتم في المنار والتفسير، فهل يجوز ترجمة بعضه بمثل اللغة الملاوية أم لا؟
فإني رأيت بعض الآيات يمكن ترجمته بالملاوية وتؤدي معناه الأصلي، وأكثرها
يتعسر ترجمته بل تتعذر إلا بتكلف، فإن لغتنا لا تؤدي معنى القرآن حرفًا بحرف
كلمة بكلمة إلا في النَّزْر اليسير منه، ومع ذلك يستحيل أن تكون الترجمة مؤثرة في
القلوب تأثير الأصل، فإن أسلوب اللغة العربية ليس كأسلوب سائر اللغات فكيف
أسلوب القرآن العربي المبين الذي هو أعلى الكلام فصاحة وبلاغة، المنزل على
أفصح العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم تجز ترجمة شيء منه
فكيف السبيل إلى إفهام الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية كلام الله تعالى كالفاتحة،
أو إقامة الحجة بآية أو آيات من القرآن على من لم يعرف اللغة العربية على
مسألة من المسائل الدينية أو غيرها؟ وهل يبين لهم تفسيره فقط أو يترجم هو
وتفسيره؟ هذا وتفضلوا بالجواب ولكم جزيل الشكر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) قد بيَّنا كل ما يتعلق بهذه المسألة في فتاوى المنار ثم فصَّلناه تفصيلاً
في التحقيق الذي نشرناه في الجزء التاسع من التفسير بما يغني عن إعادته هنا،
ولكننا نوجز فيما يتعلق بهذا الاستفتاء فنقول:
إن مسلمي الأعاجم يأثمون إلا لم يتعلموا من اللغة العربية ما لا بد منه لإقامة
دينهم ومن أهمه الفاتحة وأذكار الصلاة، والترجمة الحرفية لا تفي بفهم ذلك ولا
يتحقق بها ما فرضه الله تعالى من تدبر القرآن، بل لا بد من تفسير ذلك تفسيرًا
يعرف به المراد منه كتفسير ملخص معاني الفاتحة الذي بيَّناه في تفسيرها من جزء
التفسير الأول مبينين به ما يطلب من المصلي تدبره عند قراءتها (ص 103ج1)
وكذلك يفسر لمتعلم دينه منهم أذكار الصلاة كالتكبير والتسبيح والتشهد والصلاة
والدعاء بعده وبعض السور القصيرة التي تقرأ بعد الفاتحة والأدعية المأثورة بعد
الصلاة وهي مستحبة لا واجبة، ومن أراد الحج تُفَسَّر له ألفاظ التلبية بعد حفظها،
وغير ذلك كما نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وإننا نرى الذين يقتصرون في التفسير على المعاني الحرفية أو الاصطلاحية
من الأذكار والآيات من العارفين بالعربية ومن العلماء المؤلفين أيضًا يخطئون في
بيان ذلك حتى كثر الخطأ في تفسير كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام وعنوانه
ومدخله وفي معنى لفظ التوحيد الشرعي أيضًا، فهذا الشيخ محسن العاملي الشيعي
يفسر التوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الإسلام بقوله: هو الاعتراف
بوجود الخالق وأنه واحد لا شريك له (كما ترى في كتابه الدر الثمين فيما يجب
معرفته على المسلمين) ، وهو تفسير قاصر ناقص لا ينفي جميع أنواع الشرك ولا
سيما عبادة غير الله تعالى بالدعاء لجلب النفع ودفع الضر من غير طريق الأسباب
العامة، وهو الشرك الأعظم الذي كان فاشيًا في أقوام الرسل من نوح إلى محمد
صلوات الله وسلامه عليهم فقد كان أولئك المشركون أو أكثرهم يعترفون بوجود
الخالق سبحانه وبأنه واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، ولكنهم كانوا يتقربون
إليه بدعاء غيره من الملائكة والصالحين، وبما يذكر بالموتى منهم من تماثيلهم
وقبورهم، وبغير ذلك مما هو منصوص في القرآن العظيم والآثار والتاريخ، وهذا
الرافضي وأمثاله يبيحون عبادة أئمة أهل البيت وغيرهم بالدعاء والتضرع وغيره
كما صرَّح به في كتابه كشف الارتياب، ولكنه لا يسمي ذلك عبادة، وقد فصَّلنا هذا
من قبل مرارًا فلا نعيده، ولا عجب في جهل مثل هذا الرافضي وأخطائه وهو مقلد
لقومه حتى في عقيدته فالإمام الرازي قد أخطأ؛ إذ ظن أن معنى الرب الخالق
والإله المعبود واحد كما بيَّناه في التفسير (ص111ج9) فلا بد من تفسير
الشهادتين وغيرهما للأعاجم بما يبين المعنى أتم التبيين.
***
احتفال المولد بدعة وحكم حضوره والامتناع منه
س54 من صاحب الإمضاء في (بتاوي - جاوه) .
إلى حضرة صاحب الفضيلة العلامة الإمام ومرجع العلماء الأعلام السيد محمد
رشيد رضا حفظه الله آمين.
سلامًا واحترامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه
على صفحات المنار المنير، ولكم الفضل علينا والثواب من الله، وهو:
هل يجوز للإنسان حضور حفل مولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا لم
يحضر هل يُعَدُّ كفرًا؟ ومن لم يقم أثناء قراءة المولد أي عند سماع قول: (مرحبًا
بالنبي إلخ) هل يعد كافرًا أيضًا؟ لأن العلويين في جاوه عندنا يعقدون كل سنة
حفلات كثيرة وفي أماكن متعددة، وأوقات مخصوصة، يذبحون لها الذبائح وتشد
لها الرحال من أماكن بعيدة، ويلقنون الناس في أثناء الحفلات أن من لم يحضر
المولد ومن لم يقم عند سماعه (مرحبًا) إلخ فهو كافر، وإذا سأله سائل هل هذا
أمر من الله ورسوله؟ أجابوه بقولهم: أنت كافر، اسكت، لا تنازعنا في هذا؛ لأنا
أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم، أفتونا مأجورين وأبقاكم الله عونًا للحق.
وقد عرفناكم سابقًا في كتاب أرسلناه لكم ببعض أعمال العلويين، وما يشيعونه
ضدنا وضدكم وضد مناركم، ونحن نغار عليكم وعلى مناركم كما نغار على أنفسنا؛
لأن في جاوه حركة مباركة، ولا شك هي وليدة أفكاركم المتواترة في المنار،
نرجوكم أن تشدوا أزرنا كما هو رجاؤنا فيكم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص
... ... ... ... ... ... ... عبد السميع بن منصور الجاوي
(ج) سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي هل هو بدعة أم له
أصل؟ فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح
من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن جرَّد عمله
في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومن لا فلا.
وأقول: إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل فقد كان أحفظ حفاظ السنة
والآثار، ولكنه لم يؤت ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط، فحسبنا من
فتواه ما تعلق بالنقل وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة
الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم بأنه يأتي في هذا الدين بخير مما
جاء به رسوله الله صلى الله عليه وسلم وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل فقد زعم أنه
صلى الله عليه وسلم لم يُؤَدِّ رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وقد
أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله:
وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
وأما قول الحافظ: إن من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها كان عمله بدعة
حسنة، ومن لا فلا، ففيه نظر ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته والصدقات،
وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص
بالهيئة المخصوصة والوقت المخصوص، وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا
تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب
المطلوبة شرعًا، وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه
تُعَدُّ من شرع ما لم يأذن به الله، ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم،
فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه كأنه من قواعد العقائد المعلومة من
الدين بالضرورة؟ أليس يُعَدُّ في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع
التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه فإن الزيادة في ضروريات الدين
القطعية وشعائره كالنقص منها يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين
عن الله تعالى القائل فيه {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فهو تشريع
ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له، ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان
دينهم ناقصًا أو كفارًا، وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس (رضي الله عنهم)
قد تركوا التضحية في عيد النحر؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة كما ذكره الإمام
الشاطبي في الاعتصام (ص276ج2) وغيره أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه
الحفلات المولدية، وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن؛ لئلا يظن العوام
أنها من الفرائض التي يأثم فاعلها أو يكفر كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين
المذكورين في السؤال. فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب
على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وأقواله وأفعاله كما هو المعهود في
أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات؟
وأما القيام عند ذكر وضع أمه له صلى الله عليه وسلم وإنشاد بعض الشعر أو
الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع وقد صرَّح بذلك الفقيه ابن حجر المكي
الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم، فقال عند ذكر الإنكار على
من يقوم عند قراءة {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) لما ورد في ذلك
بسبب قد زال ما نصه: ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم
ووضع أمه له من القيام، وهو أيضًا بدعة لم يرد فيه شيء على أن العوام إنما
يفعلون ذلك تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص.
اهـ من الفتاوى الحديثية ص60.
وإنما يصح قول الحافظ ابن حجر في كون حفلة المولد بدعة حسنة بشرط
خلوها من المساوئ والمعاصي المعتادة فيها إذا كان القائمون بها لا يعدونها من
القرب الثابتة في الشرع بحيث يكفر تاركها أو يأثم أو يُعَدُّ مرتكبًا للكراهة الشرعية،
فإن البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة، ويقال: إن منها حسنة وسيئة هي البدع
في العادات، وأما البدع في الدين فلا تكون إلا سيئة كما صرَّح به المحققون،
وذكر ذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي المكي في موضوعين من الفتاوى الحديثية، وقد
سبق تحقيق هذا البحث في مقدمة كتابنا (ذكرى المولد النبوي) فلا نطيل فيه هنا
فمن شاء التفصيل فليراجعه، ومن عنده المجلد الثامن عشر من المنار يجد هذه
المقدمة فيه صلى الله عليه وسلم.
وأما ادعاء هؤلاء العلويين الجاهلين بأنه يجب الأخذ بقولهم هذا كفر وهذا
إيمان، ومن فعل كذا فقد كفر، وتعليلهم ذلك بأنهم أحفاد الرسول صلى الله عليه
وسلم فهو أقبح الجهل بحقيقة هذا الدين، وصاحبه أدنى إلى الكفر من تارك حضور
بدعة المولد، لأنه ادعاء لحق التشريع في العقائد والعبادات لكل من هو علوي
فاطمي، ولم يقل بهذا أحد من المسلمين حتى غلاة الشيعة الذين يقولون بعصمة
بعض أئمة آل البيت لا كلهم فكيف بجهلة عوامهم فإنهم إنما يقولون بعصمتهم من
الكذب في نقل نصوص الدين ومن المعاصي إلخ، ولكن لم نر لأحد منهم دعوى
مثل هذا للأئمة فضلاً عن هؤلاء العوام الجاهلين بضروريات الدين، ولو جعل لكل
فاطمي أو لبعضهم هذا الحق في التشريع لزال هذا الدين من الوجود إن وجد من
يقبله ويدين به.
وقد نشرنا رسالة أخينا السائل التي أشار إليها في الجزء الماضي مع التعليق
عليها بما نرى أنه نصيحة لإخواننا العلويين المضطربين الذين يظنون أنهم
يحافظون على ما بقي لهم من الجاه عند عوام المسلمين ويستردون ما فقدوا منه
بالغلو في آبائهم وأجدادهم ونشر الخرافات والبدع التي ابتدعها غلاة الروافض
وغيرهم، وهو مخطئون في هذا الظن وآثمون، ولو عرفوا حقيقة حال زمانهم
لأيقنوا بأنهم يهدمون بهذا الغلو والابتداع ما بقي لهم من ذلك، ومن عقلائهم وأهل
الخير فيهم من يعلم هذا علم اليقين فعسى أن يكثروا ويكون لهم الرأي الراجح في
هداية الغلاة المغرورين.
وأما صاحب المنار فلا يبالي ما ينشرون من الطعن فيه والافتراء عليه؛ لأنه
يعمل عمله ويبذل نصحه للمسلمين ابتغاء مرضاة الله تعالى فسواء عنده أمدحوا أم
ذموا، ولو كان عمله للمال أو الجاه لداراهم أو لسكت عنهم ابتغاء كثرة الكسب أو
زيادة الجاه عند من يقبل كلامهم من الجاهلين، وكذلك يجب أن يكون رجال جمعية
الإرشاد.
وقد ظهرت في هذه الآونة دعاية جديدة للرفض وهدم السنة من بعض علماء
الشيعة في سورية وكل واحد من دعاتها ينوه بما اشتهر من غلو بعض علوية
الحضارمة في علي عليه السلام والرضوان، ولكن هؤلاء العلويين على نزعة
الرفض عندهم لا يزال يتلقون دينهم من كتب الشافعية، وسيُقْضَى على غلاة
الرفض في سورية قبل أن يقدروا على تحويل علويي حضرموت وجاوه إلى بدعهم،
فطبع هذا العصر لا يهضم الغلو في عباد الله المكرمين، ولا الخرافات والدَّجَل
لصدورها عن العلويين، بل كان هذا الغلو هو سبب وجود النواصب بمقتضى سنة
الله في الخلق، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
***
أسئلة من الزبداني - بقرب دمشق - سورية (تأخرت)
س (55 - 57) من صاحب الإمضاء:
بسم الله وحده والحمد لله وحده
سيدي الهمام العالم العلامة المقدام الأستاذ الإمام السيد أبو محمد شفيع محمد
رشيد رضا المفخم زِيدَ علاه.
السلام عليكم ورحمته ورضوانه وبركاته.
(1) نعرض لجنابكم أنه هبط لديارنا من العراق شيخ من أهل الفضل بعلوم
الدين الحنيف فقام يدرس بالجوامع وفي الاجتماعات ويحض الناس على التمسك
بتعاليم الدين الشريف ومن جملة ما نصحنا قوله لنا: (لا يجوز صلاة السنة لما
فاته صلاة الفرض، بل الأجمل ترك صلاة السنة في كل وقت من أوقات الصلوات
الخمسة، والقيام بصلاة الفرض أو الفروض الفائتة بالترتيب إلى أن تعلم علم اليقين
أنك قضيت ما عليك من الفروض) فاشتد الخلاف بين الناس فمنهم من أطاعه
وترك السنة، ومنهم من تمسك وعليه جئنا نستفتي من بحر علمكم؛ لنعمل بما
تشيرون علينا به، أدامكم الله للمتقين إمامًا مولاي.
2- سيدي معلوم لجنابكم أن كل من يقرأ القرآن الكريم بإيمان وبإمعان
وبصيرة يجد في نفسه تأثيرًا عميقًا حتى إنه ليبكي على حال أبناء آدم، والأخص
منهم صاحب هذا الكتاب، ومن جملة هذه الآيات المؤثرة قوله تعالى في سورة
السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (السجدة: 15) وأمثال هذه الآية الشريفة كثير في كتاب الله
العزيز، فهل يلزم السجود عند قراءة أمثال هذه الآيات البينات أو حين التذكر في
آياته تعالى ... إلخ؟ وهل السجود يم الكعبة الشريفة؟ وإذا كنا في تلاوة القرآن
الكريم وقرأنا آية مثل ما قدمنا أيلزم ترك المصحف الشريف ونسجد لله تعالى؟
أفتونا مأجورين من رب العالمين، سيدي.
3 - {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) ... سيدي ما معنى
مشاهد الشهر؟ فإن كان بالبصر نشاهد أهلة رمضان ... فهذا مما يدعنا نتساءل
لعله يصير يسكن القطب الذي ليله نصف سنة ونهاره مثله تنعدم رؤية الشهر بعين
رأسنا ... وإذا كان معنى شهد بعين العقل وعين البصيرة فهل يجوز نشهد بدون أن
تنظر أبصارنا؟ نرجو الإجابة على ما تقدم والله ربنا يحفظكم ولا يحرمنا علمكم
العظيم.
... ... ... ... ... ... ... محبكم بالغيب المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد الباقوني
أجوبة هذه الأسئلة
ترك النفل لمن فاتته صلاة مكتوبة حتى يقضيها
ما ذكره لكم الشيخ العراقي من تقدم قضاء الصلاة المفروضة لمن فاتته على
صلاة السنن الرواتب وغيرها إلى أن يتم قضاؤها صواب.
***
سجود التلاوة
ثبت في بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسجد عند تلاوة بعض الآيات التي ذكر فيها السجود بصيغة الأمر أو الخبر
الدال على الترغيب فيه، وقد اتفق جمهور علماء السلف وأئمة الأمصار على ثلاث
عشرة آية منها:
(1) أولها آخر سورة الأعراف.
(2) الآية 15 من سورة الرعد.
(3) الآية 49 من سورة النحل ولكن ورد السجود عند قراءة الآية 50 التي
بعدها وآخرها {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 50) .
(4) الآيات 107 إلى 109 من سورة الإسراء التي تسمى سورة بني
إسرائيل أيضًا، والسجود عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الإسراء:
109) .
(5) الآية 58 من سورة مريم.
(6) الآية 18 من سورة الحج.
(7) الآية 60 من سورة الفرقان.
(8) الآية 25 من سورة النمل والسجود عقب تلاوة الآية 26 التي بعدها.
(9) الآية 15من سورة (الم السجدة) وهي التي ذكرها السائل.
(10) الآية 37 من سورة فصلت (وتسمى حم السجدة) أيضًا، والسجود
عقب تلاوة الآية 38 التي بعدها وآخرها {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} (فصلت: 38) .
(11) آخر سورة النجم.
(12) الآية 21 من سورة الانشقاق، وقال بعض العلماء: إن السجود عند
آخر السورة.
(13) آخر سورة العلق، فيُسَنُّ السجود عقب تلاوة الآيات في الصلاة
وغيرها.
واختلفوا في السجدة الثانية من سورة الحج عقب تلاوة الآية 77 فأثبتها
الشافعي وأحمد والجمهور ونفاها أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي: إنها سجدة شكر
لا سجدة تلاوة لورود الحديث بذلك، ولا يشرع السجود عند تلاوة شيء من القرآن
غير هذه الآيات الخمس عشرة.
وسجود التلاوة عند قراء هذه الآيات أو سماعها مندوب عند الجمهور وواجب
عند أبي حنيفة، ويدل على الندب ترك النبي صلى الله عليه وسلم له في بعض
الأوقات لبيان الجواز. وشروطه شروط الصلاة من الطهارة واستقبال القبلة وإذا لم
يسجد القارئ لآية السجدة لا يسجد السامع، كما أن المصلي في الجماعة لا يسجد
إلا مع إمامه، وأما إذا سجد المنفرد فيُسَنُّ له السجود، وسجود مستمع القرآن عن
قصد آكد من سجود من سمعه بغير قصد كما نص عليه الشافعي.
***
صيام شهر رمضان على من شهده
شهود الشهر حضوره والبلاد التي ليس فيها شهور كالقطبين وما يقرب منها لا
يجب عليهم شهر رمضان بعينه لعدم وجوده عندهم، وإنما يجب عليهم صيام مثله
بالتقدير، وكذلك يقدرون للصلوات الخمس، وقد بيَّن ذلك الفقهاء، وذكرناه في
تفسير هذه الآية {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) فراجع
تفسيرها في 173 و 174 من جزء التفسير الثاني.
__________
(1) (راجع ص 440 ج 8) .(29/659)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة رسائل السنة والشيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ،
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ
تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) .
بَرَّأَ اللهُ ورسولَه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعًا ونهى عباده المؤمنين من هذه الأمة المحمدية وحذَّرهم أن يكونوا من
المشركين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولكن التفرق في الدين إلى الشيع
والأحزاب كالتفرق في السياسة سنة من سنن الاجتماع تابعة لدأبهم في الاتباع
والابتداع.
***
تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة
كان التشيع للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبدأ تفرق هذه
الأمة المحمدية في دينها وفي سياستها، وكان مبتدع أصوله يهودي اسمه عبد الله بن
سبأ أظهر الإسلام خداعًا للمسلمين ودعا إلى الغلو في علي كرَّم الله وجه لأجل
تفريق هذه الأمة وإفساد دينها ودنياها عليها كما فعل أمثاله في النصرانية قديمًا
وحديثًا، وسبب ذلك ما كان من العداوة والقتال بين قومه اليهود وبين النبي صلوات
الله وسلامه عليه وكانوا هم المعتدين فيه، وقد انتهى ذلك بنصر الله تعالى لرسوله
عليهم وإخراجهم من جواره في مدينته ودار هجرته، ثم أجلى عمر بن الخطاب
الخليفة الثاني بعده من بقي منهم في أرض الحجاز.
ابتدع هذا اليهودي بدعته، وأعانه عليها آخرون من أهل ملته، أظهروا
الإسلام نفاقًا ليقبل المسلمون أقوالهم الخادعة، ومنها وضع الأحاديث وغش رواة
التفسير بالخرافات الإسرائيلية وغير ذلك.
بيد أن العداوة بين المسلمين واليهود لم تطل عليها الأمد؛ لأن اليهود كانوا
مظلومين مُضطهدين في وطنهم القديم في البلاد المقدسة وما جاورها، وفي البلاد
التي تفرقوا فيها، فلما فتح المسلمون الأمصار في الشرق والغرب رفعوا عنهم الظلم
الذي أرهقهم من نصارى الروم والقوط وعاملوهم بالعدل والرحمة كالمسلمين
وغيرهم فكفوا عن الكيد لهم وفضلوا سلطانهم على كل سلطان.
ولكن بدعة التشيع كانت قد سرت وانتشرت في المسلمين بالدعاية السرية،
وكانت أقوى الأسباب في العداوة السياسية بين كبراء الصحابة رضي الله عنهم بما
كان مما يسمى في عرف هذا العصر بسوء التفاهم وحسن النية، ومن راجع أخبار
واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين لذات البَيْن،
وحَيْلُولَتهم بالمكر والفساد دون ما كاد يقع من الصلح [1] .
لولا أن خلف زنادقة الفرس هؤلاء السبئيين، في إدارة دعاية التفريق بين
المسلمين، بالتشيع والغلو في علي وأولاده وأحفاده الطاهرين رضي الله عنهم لزال
خطرها بعد ترك اليهود لزعامتها السرية، ولكن الخليفتين الجليلين أبا بكر وعمر
رضي الله عنه حاربا الفرس وتم للثاني فتح جُلّ بلادهم وثَلُّ عرش كسرى والقضاء
على ديانتهم المجوسية، فأحفظ ذلك قلوب أمرائهم وزعمائهم من رجال الدين والدنيا،
وليس لذي العجز عن الثأر بالقوة الحربية إلا المكايد السرية، فتولى مهرة رجال
الفرس أمرها وكانوا أجدر بها وأهلها، فمنهم من تولى السعي لإفساد دين العرب
الذي انتصروا بتعاليمه وجمعه لكلمتهم على الفرس وغيرهم، ومنهم من تولى
السعي للإفساد السياسي بتحويل الخلافة إلى العلويين، ولما لم يجدوا منهم لزهدهم
في الدنيا من يواتيهم على كل عمل ولو غير مشروع في الدين حولوها إلى
العباسيين، ثم صاروا يكيدون للعباسيين بما كان أغرب طرقهم فيه ما قام به
البرامكة من جعل جميع إدارة ملك الرشيد الواسع وسياستهم في أيديهم، حتى تنبَّه
لذلك فبطش بطشته الكبرى بهم، وكانوا قد ملكوا عليه سويداء قلبه، مع قبضهم
على أزمة ملكه، وكان أذكى من فطن لدسائس البرامكة وإلحاد الشيعة الباطنية
ووقف على كثير من دقائقه العلامة المحقق القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي
كما نوَّه به في رحلته وفي كتاب العواصم والقواصم، ويليه حكيم الإسلام ابن
خلدون فقد أشار إليه في مقدمة تاريخه.
كان من تعليم غلاة الشيعة بدعة عصمة الأئمة الذين استخدموا أسماءهم
وشهرتهم لترويج سياستهم، وبدعة تحريف القرآن والنقص منه بفريتهم ثم البدع
المتعلقة بالقائم المنتظر محمد المهدي وكونه هو الذي يظهر القرآن التام الصحيح
الذي يزعمون أن عليًّا كتبه بيده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفتحهم أبواب
التأويلات لنصوصه بما لا يتفق مع شيء من قواعد اللغة، فكان قدوة سيئة لجميع
المبتدعة، دع قول بعضهم بألوهية بعض أئمة أهل البيت الموروثة عند الإسماعيلية
وغير الموروثة عند غيرهم من الباطنية، ثم دع كون غايتهم بعد الوصول إلى آخر
درجات الدعوة الكفر الصريح كما تراه مبسوطًا في خطط المقريزي وغيره.
وأهم ما يجب بيانه في هذه المقدمة أنه كان بين من أطلق عليهم لَقَبُ الشيعة
أو وَصْفُ التشيع على اختلاف تعاليمهم وعقائدهم الظاهرة والباطنة أناس من أهل
السنة والجماعة وكانوا يرون أن عليًّا رضي الله عنه أحق بالخلافة من غيره،
ومنهم من يرى أنه أفضل من سائر الصحابة أو يفضله على من دون الشيخين،
ويرون أنه أحق بالخلافة من عثمان لا من أبي بكر وعمر، ولكن لم يقل أحد من
هؤلاء ببطلان خلافة الثلاثة، وكان عدد هؤلاء قليلاً من السلف والخلف، ولكن
السواد الأعظم من أهل السنة سلفهم وخلفهم يعتقدون أن معاوية كان باغيًا على
الإمام الحق أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وإن قدر بدهائه وسياسته على تأليف
قوة عظيمة له، ولكن الجمهور تأولوا له بأنه كان مجتهدًا أخطأ في اجتهاده.
والغرض من ذكر هذا أن اسم الشيعة كان يطلق على بعض أهل السنة
والجماعة وعلى كثير من المبتدعة الذين حافظوا على أركان الإسلام الخمسة،
وعلى فرق زنادقة الباطنية حتى إن بعض كبراء علماء الإمامية حاول جعل فرقة
الشيعة 73 فرقة وفسر بذلك الحديث الذي ورد بافتراق هذه الأمة إليها ليخرج أهل
السنة والجماعة التي هي السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد انقسم الشيعة الذين يحافظون على أركان الإسلام إلى غلاة أطلق عليهم
اسم الرافضة، وإلى معتدلين وهو الذي خص أكثرهم باسم الزيدية لاتباعهم للإمام
زيد بن علي رضي الله عنه الذي أبى على الغلاة البراءة من أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما فرفضوه ويوجد معتدلون في غيرهم أيضًا.
ومن الغريب أن يشتبه أمر زنادقة الباطنية على كثير من مسلمي الشيعة حتى
أهل العلم والذكاء منهم كالشريف الراضي المشهور باعتداله في شيعيته الذي قال:
ألبس الذل في ديار الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي
من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ
لف عرقي بعرقه سيد الناس ... جميعًا محمد وعلي
إن ذلي بذلك الجو عز ... وأوامي بذلك النقع ريّ
فالمراد بالأعادي عنده الخلفاء العباسيون أبناء عمومته وكان الخليفة العباسي
يعامله معاملة الأقران حتى إنه كان يفتخر عليه مخاطبًا له بمثل الأبيات التي أنشدها
الخليفة القادر بالله في آخر قصيدة يمدحه بها:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق
فلهذا الاختلاط ترى في تراجم المحدثين والعلماء والأدباء والشعراء أسماء
رجال كثيرين وصفوا بالتشيع؛ إذ كان هذا الوصف يطلق كثيرًا على من عرفوا
بالمبالغة في حب آل البيت النبوي عليهم السلام ومدحهم وذم الظالمين لهم، وإن لم
يكن أحد منهم على مذهب أحد من الشيعة المعتدلين كالزيدية ولا روافض الإمامية،
فضلاً عن كونهم من زنادقة الباطنية، بل منهم المجتهد المستقل والمنسوب لأحد
مذاهب أهل السنة.
والشيعة الإمامية منهم معتدلون قريبون من الزيدية، ومنهم غلاة قريبون من
الباطنية، وهم الذين لقحوا ببعض تعاليمهم الإلحادية، كالقول بتحريف القرآن
وكتمان بعض آياته، وأغربها في زعمهم سورة خاصة بأهل البيت يتناقلونها بينهم
حتى كتب إلينا سائح سني مرة أنه سمع بعض خطبائهم في بلد من بلاد إيران
يقرؤها يوم الجمعة على المنبر وقد نقلها عنهم بعض دعاة النصرانية (المبشرين) .
فهؤلاء الإمامية الاثني عشرية ويلقبون بالجعفرية درجات، وينقسم جمهورهم
إلى أصوليين وإخباريين، فالأصوليون هم الذين يعرضون ما يروى من أخبار
الأئمة على أصول وضعها المتقدمون فينقلون منها ما وافقها ويردون ما خالفها،
والإخباريون هم الذين يتلقون جميع تلك الأخبار بالقبول، وإن خالفت المعقول،
وما عند أهل السنة والجماعة من المنقول، وهدمت الفروع مع الأصول، وحدث
في المتأخرين منهم مذاهب أخرى كالكشفية، ولهم في الدين فلسفة غريبة، ويرد
عليهم الشهاب الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) .
ولهذا الاستعداد في الإمامية للغلو وقرب الكثيرين منهم من زندقة الباطنية
ظهرت منهم وراجت فيهم بدعة البابية ثم البهائية الذين يقولون بألوهية البهاء ونسخه
لدين الإسلام وإبطاله لجميع مذاهبه.
وقد نقل الإمام (المقبلي) في العلم الشامخ عن بعض العلماء أنه قال:
ائتني بزيدي صغير أُخْرِج لك منه رافضيًّا كبيرًا، وائتني برافضي صغير
أخرج لك منه زنديقًا كبيرًا، قال: يريد أن مذهب الزيدية يجر إلى الرفض،
والرفض يجر إلى الزندقة اهـ , والمقبلي سلم هذا في أفراد من الزيدية رد عليهم
لا في جملتهم.
***
سعينا للتأليف بين أهل السنة والشيعة
كان من قواعد الإصلاح التي وضعها حكيم الإسلام في هذا العصر وموقظ
الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى وجوب السعي لجميع المسلمين
والتأليف بين فِرَقهم التي يجمعها الإيمان بالقرآن المجيد المعصوم ورسالة محمد خاتم
النبيين صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على ذلك بالسياسة التي كانت السبب
الأول لهذا التفرق الذي ألبس بعد ذلك لباس الدين، ولكن كما يلبس الفرو مقلوبًا [2]
فكانت سبب ضعف جميع الفرق، ومن أهم أسباب ضعفهم وسلب الأجانب لملكهم.
ولا أعرف أحدًا عُني بعد السيد المصلح رحمه الله بهذا السعي كما عُنِيَ به
هذا العاجز (منشئ المنار) في أسفاره ومقامه في هذه البلاد الحرة أدام الله عمرانها،
وأتم لها استقلالها، وفي المنار كثير من الدلائل والشواهد على هذا، منها تقريظ له
من أحد علماء الشيعة الفضلاء في سورية نشر في الجزء الثاني من مجلده السابع الذي
صدر في 16المحرم سنة 1322 ص 66 - 68 كتم اسمه في ذلك الوقت لتشديد
الدولة في منع المنار من بلادها وعقاب من يوجد عنده، ومما قال في المنار:
***
أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار وصاحبه
حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل الساطع في
كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة
يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في
السماء، ومن طابت أرومته، وزكت جرثومته فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب
عن طيب أصله أقواله وسجاياه.
(ومما استعذبته منه وكله عذب سائغ، تأليفكم بين فرق الإسلام ورفع
الوحشة التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر وفشت بين العامة
والخاصة حتى فتت في عضد الاجتماع وحلت عرى الارتباط) إلخ.
ثم قال في آخره: (وحقيق بحملة العلم في كل قطر أن ترفع أيدي الابتهال
إلى ذي العزة والجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد، والتوفيق لنصر الدين
وإيضاح الحق ودَحْض الباطل وإرشاد الضال، وجمع الكلمة وإحكام الألفة بين
المسلمين إنه على ذلك قدير بالإجابة جدير، آمين آمين) .
ولما أعلن الشاه مظفر الدين حكومة الشورى النيابية في إيران نوَّهْنَا بعمله في
(م7، 8 من المنار) وفضلناه بها على سائر ملوك المسلمين، وإن عارض ذلك
بعض علمائهم المتعصبين الجامدين، إذ بيَّنا أن حكومة الشورى هي حكومة القرآن،
فإذا نفذتها حكومة إيران تكون هي الحكومة الإسلامية الوحيدة.
ثم نشرنا في ج12م9 رسالة جاءتنا من طهران فيما كان من تأثير ما كتبه
المنار في تلك العاصمة ذكر فيها مرسلها أن الجرائد الفارسية ترجمت مقالتنا
(الشورى في بلاد إيران) فاعترض عليها سفير الدولة العثمانية الأمير شمس الدين
بك وكتب بذلك إلى وزير الخارجية (علاء السلطنة) كتابًا أغلظ فيه، وزعم أن ما
نقلته الجرائد عن المنار أسباب يلقيها أعداء الدولة لإيقاع النفاق بين الدولتين،
وإحداث الشقاق بين الفريقين إلخ، وذكر أن وزير خارجية إيران أجاب السفير
التركي بأن كاتب المقالة ليس من رعيتهم حتى يؤاخذوه ... إلخ.
ومما قاله صاحب هذه الرسالة في أولها: إن أول من ترجم مقالة المنار هو
ذكاء الملك في جريدته (تربيت) فنبه علماء الفرس وسواسهم وذكر لهم بعد
الترجمة (أن منزلة ومقام حضرة حكيم الإسلام وفيلسوفه السيد محمد رشيد رضا
عند جميع أهل الأقطار من المسلمين وخصوصًا العرب الكرام بمنزلة مائة عالم
مجتهد من أهل التشيع، فاغتنموا الفرص وفكروا أيها السواس في مقالة هذا الحبر
واقرءوها على المنابر وفي المعابر) .
وذكر صاحب الرسالة أن صاحب جريدة (مجلس) نقل الترجمة وما قالته
جريدة (تربيت) في جريدته، وإنها جريدة يقرؤها في طهران وسائر إيران الكبير
والصغير والذكر والأنثى، وإن مديرها السيد محمد صادق نجل السيد محمد
الطباطبائي المجتهد الشهير.
وذكر أيضًا أنه حضر في إثر ذلك مجلسًا غاصًّا بطلاب العلوم الدينية في
طهران فتذاكروا في المسألة وما جرى بين السفير التركي ووزير خارجيتهم فقام
أحدهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه وكان مما قاله:
(انفتحت علينا أوربة وأتانا أهلها من كل حَدَب ينسلون: هذا تاجر وهذا
سائح وهذا حكيم والآخر داعٍ إلى دينه والقصد من الكل ابتلاعنا معاشر أهل الإسلام،
فإن تيقظتم وإلا فأنتم صبوحهم ونحن غبوقهم لا سمح الله بذلك.
أيها الترك! تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئًا، ولا نتخذ المستبدين أربابًا من دون الله طاعتهم كطاعته ومعصيتهم كمعصيته،
بل نجادلهم بالسيف والسنان، والقلب واللسان، فإن توليتم فنشهدكم بأنا مسلمون
ونبرأ إلى الله من المستبدين الخائنين، ومستمسكون بقوله عز من قائل في وصف
المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وهم الذين قال فيهم:
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) .
هذا مثال مما كنا ندعو إليه ونسعى له سعيه من جمع كلمة المسلمين، وتأييد
المحسنين منهم وتفنيد المسيئين، ولا تزال كذلك إن شاء الله تعالى حتى يأتينا اليقين،
ولكن هذا الذي أرضى عنا جماعة المسلمين المنصفين، قد أغضب علينا
المتعصبين المفرقين، وإنما اشتد علينا غضبهم في هذه السنين، بعد أن أظهر الله
تعالى دولة السنة باستيلاء إمامها عبد العزيز آل سعود على مهد الإسلام، وقيامه
بإحياء السنن، وهدم مباني البدع، فأيدناه ودافعنا عنه كما يجب علينا شرعًا، وكما
شرعنا من قبل في تأييد دولة الشاه مظفر الدين الشيعية فيما كنا ندعو إليه الدولة
العثمانية، من إقامة حكومة الشورى الإسلامية، على ما بين الحكومتين من البَوْن
البَيِّن، وما بين الشعبين من الفرقان المبين وليس بهين، فكان خصومنا في تأييد
دولة السنة فريقين: دعاة الإلحاد وغلاة الروافض.
***
تعصب صاحب مجلة العرفان
للشيعة مجلة عربية اسمها (العرفان) كنا نَعُدُّ صاحبها من المعتدلين ونحسبه
من أصدقائنا وأعواننا على جمع كلمة المسلمين، على ما نرى من احتذائه في تأييد
مذهبه وأهل فرقته الإمامية، حذو مجلة المشرق اليسوعية في تأييد الكاثوليكية،
وقد كان كتب إلينا في 30 رمضان سنة 1927 رسالة ينكر فيها ما عزوناه إلى
الشيعة من إباحة الجمع بين تسع نسوة، واستطرد فيها إلى الطعن في رسالة عالم
من ثقات العلماء أرسلها إلينا من بغداد ذكر فيها بثَّ الشيعة لمذهبهم في بدو العراق،
وهي الرسالة التي ذكرت في الفصل الأول من مقصد رسالتنا هذه، ولكنه على
شدة لهجته في الإنكار، لم يكن قد بلغ من شدة التعصب ما بلغه في هذه الأعوام،
بل كان متحليًا بشيء يعتد به من الأدب والإنصاف، فقد افتتح رسالته بقوله:
(كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
كتاب معجب بما له من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة ورفع (منار) الإسلام
وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لا بد
لجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو) .
ثم ذكر المسألة التي أنكرها، وأحسن ما قاله في هذه الرسالة إنكاره نقل
المخالف في المذهب، ووجوب أخذ أقوال كل طائفة من كتبها دون كتب المخالفين
لها، وقوله في ذلك.
فإني رأيت كثيرًا ما ينسب السنة إلى الشيعة ما يتبرءون منه وما لم يوجد في
كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ لذلك مثالاً ما ينسبه أكثر المسلمين
إلى الوهابية من المقالات الشنيعة والاعتقادات الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم
يتبرءون منها ولم يكن علاقتهم بها إلا كقول الشاعر:
إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلمًا بعمرو
ثم استطرد بمناسبة الخطأ في النقل إلى الإنكار على رسالة ذلك العالم السائح
التي أرسلها إلينا من بغداد، وذكر ما نشره من الرد عليها في مجلته العرفان.
وقد نشرت رسالته هذه في (ج11م12 من المنار) مع تعليق بدأته بالشكر له
على بيانه وذكرت فيه شدة كراهتي لعصبية المذاهب وختمتها بأن نشري لرسالة
ذلك العالم السائح من باب النقل، وإن الناقل عدل ثقة عندي، ولكنه قد يخطئ
ويصدق بعض الروايات الباطلة.
فهكذا كنا وكان زميلنا وصديقنا من قبل صاحب مجلة العرفان المفيدة على
عصبيتها في بث العلم والأدب، وهذا ما كان يصرح به من افتراء الناس على
الوهابية وكذبهم في الطعن عليهم.
ثم اشتدت حماسة الرجل وغلا في الرفض فصار يطعن فينا كلما سنحت له
فرصة ولا سيما بعد ظهور دولة السنة التي يلقبها هو وأمثاله بالوهابية ويجعلون
الوهابية (أي السنة) مما لا يتفق مع الإسلام في عقائده ولا في أحكامه ويقر ما
كان أنكره من الطعن فيهم وبرأهم منه.
***
زعيم الرافضة وعدو السنة
ثم انتهى أمره بالتنويه بالكتاب الجديد الذي لفَّقَه أشد علماء الروافض في هذا
العصر تعصبًا وطعنًا في عقائد أهل السنة، وخداع عوامهم بما يبث من الدعوة إلى
الرفض وما فيه من الخرافات والبدع، وهو الشيخ الملا السيد محسن أمين العاملي.
أظهر ملاحدة الترك معاداة الإسلام والبراءة منه والطعن فيه وإجبار قومهم
على الارتداد عنه فلم يظهر من هذا الشيخ العاملي أدنى غيرة عليه ولا أقل دفاع
عنه.
وظهر من ملاحدة إيران الشيعية وملاحدة الأفغان السنية بوادر الاقتداء
بملاحدة الترك في شر ما عادوا به الإسلام وسعوا في هدمه، فلم نسمع عنه ولم
نقرأ له كلمة إنكار ولا نصيحة لهؤلاء المغرورين الأغرار بأن يدعو لهذه الشعوب
حريتها في دينها، وكذلك صاحب المجلة التي تنشر له دعوته وتنوه بكتابه (الشيخ
عارف الزين) .
بل فشا الكفر البواح، والفسق الصراح، وتهتك النساء وذهاب الأعراض
أدراج الرياح، وكثر دعاتهما في سائر الأقطار الإسلامية، إلا نجد والحجاز
واليمن، ولم نر منهم غيرة على الدين، ولا على أعراض المسلمين، وإنما ظهرت
غيرتهما على الدين بل الرفض المبين لَمَّا أيد الله إمام السنة في هذا العصر
(عبد العزيز آل سعود) ورأيا أن السنة تنفذ بالفعل وهياكل البدعة تُهْدَم في مهد
الإسلام، فإن أكثر البدع والخرافات إنما جاءت من غلاة الشيعة وهم حُمَاتها ودُعَاتها
وهي مرتزق زعمائها، وعليها مدار جاههم العريض، ومنهم سرت عدواها إلى طرق
الصوفية الذين ينتسبون كلهم إلى آل البيت بالباطل إلا طريقتين من الطرق المشهورة
وهي المَوْلَوِيَّة التي أيدها الترك مباراة للروافض، والطريقة النقشبندية الخفية التي
ليس لها تقاليد ولا مظاهر بدعية، وإنما ينكر عليها المعتصمون بهَدْي السلف مسألة
الرابطة والتزام الذكر غير المأثور.
***
سعينا للتأليف بين الوهابية والشيعة
اَمَا والله إنني لم أكن أرى في طريق الدعوة إلى التأليف بين المسلمين عقبة
يعسر اقتحامها إلا التقريب بين الشيعة ولا سيما غلاة الإمامية وأهل السنة السلفيين
الملقبين بالوهابية، وقد جرى بيني وبين جلالة الملك فيصل حديث طويل في هذه
المسألة لما كنا في دمشق، وكان أهم غرض لي في مقابلته المعروفة بمصر سؤاله
عن مبلغ خبرته في ذلك، وأما البحث في هذا بيني وبين أصحابي من عقلاء
الشيعة والسنة في مصر وسورية وغيرهما فكثير، ومن ذلك ما كان من سعيي
للتأليف بين الفريقين عندما سافر سفير دولة إيران السابق إلى مكة المكرمة للقاء ابن
السعود وقد زودته بكتاب إليه في ذلك وحمل هو إليَّ من ابن السعود كتابًا بل كتبًا
أخرى تتعلق بالمؤتمر الإسلامي العام، ولكن هذا السعي لم يثمر الثمرة المَرْجُوَّة،
كما أثمر من قبله السعي إلى التأليف بين الإمامين الجليلين يحيى وعبد العزيز
أحياهما الله وأعز بهما الإسلام والعرب.
ذلك بأنه ليس بين مذهب الزيدية ومذهب السنة من البُعْد كما بين الروافض
وأهل السنة، وقد كتبت إلى كل من الإمامين أدعوه إلى الاتفاق مع الآخر قبل فتح
الحجاز بسنين، فأجاب كل منهما إلى ذلك بالارتياح والقبول، ودارت بينهما
المكاتبات الودية في ذلك على ما طرأ من أسباب الخلاف، وما كان من سعي أهل
الفساد لإلقاء العداوة والبغضاء بينهما وإغراء كل منهما بقتال الآخر، ونسأل الله
تعالى أن يتم النعمة بنجاح ما نسعى له ويسعى له غيرنا من عقلاء المسلمين وأهل
الغيرة منهم بعقد المحالفة التي تكون أقوى الوسائل لحفظ جزيرة العرب من التعدي
على استقلالها، ولبلوغها أقصى ما هي مستعدة له من العمران وإحياء حضارة
الإسلام.
ولما رأيت ما رأيت من سوء أمر مؤتمر النجف لشيعة العراق، ومن أمارات
نشر الإلحاد في إيران والأفغان، ومن تجديد الشيخ العاملي في تواليفه والشيخ
عارف الزين في مجلته الطعن في السنة وتنفير المسلمين من دولتها الوحيدة في
إقامتها ونصرها، ومن بث الرفض والخرافات بين المسلمين، رأيت من الواجب
عليَّ أن أظهر للمسلمين ما يخفى على جمهورهم من الحقائق التي لم يكن العاملي
ولا الزين يعلمان بوقوفي عليها لعلهما يفيئان إلى أمر الله، فكتبت الفصول التالية
بهذه النية و (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) .
وكنت عند البدء بالكتابة عقب اطلاعي على كتاب العاملي الجديد وما فيه
الطعن الباطل في السنة باسم الوهابية، وفي شيخ الإسلام المصلح الكبير ابن تيمية،
ومن تشريفي بطعنه فيَّ وبهتانه عليَّ، كنت عند البدء بذلك عازمًا على
الاختصار، والاكتفاء بما ينشر في المنار، ثم جاءتني مجلة العرفان، فإذا هي بعد
اطلاعها على الفصل الأول في المنار قد أسرفت في البهتان، والبغي والعدوان،
والشتم والسب والكذب والإفك فرأيت من الواجب في نصر السنة ودفع البدعة، أن
أتوسع في الكتابة، ونشر ما أكتبه في رسالة أو رسائل مستقلة.
ثم جاءتني بعد ذلك جريدة أم القرى حاملة تفصيل ذلك النبأ العظيم، نبأ عقد
المؤتمر الإسلامي في الرياض عاصمة نجد، الذي هو الحجة الكبرى على انفراد
حكومة ابن السعود بإحياء حكومة الخلفاء الراشدين في الأرض، فشحذ ذلك غرار
عزمي على نصرها وشد أزرها، ومجاهدة أعداء الله ورسوله من الطاعنين فيها،
وفي هذا العصر الذي نرى الحكومات الأعجمية تفضل شرائع أعدائهما على
شريعتهما، وفسادهم على إصلاحها والإلحاد على دين الله وهو الإسلام، والعصبية
العمية على الوحدة وجماعة ملة محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بما تيسر لي من الاختبار الطويل بأن هذه
الخرافات والبدع التي كان التشيع مثارها الأعظم ستقضي على الإسلام إن لم يقض
المصلحون عليها، وإن سيرة ملاحدة الترك في الصد عنه برهان على ذلك فإنهم
يصورون لعامة أهل بلادهم تلك الخرافات الفاشية في الأولياء والصالحين بأقبح
الصور المنفرة، ومن ذلك أنهم نبشوا بعض قبورهم وأروا الناس بأعينهم رميم
عظامهم، وعجزهم على الدفاع عن أنفسهم وعن مراقدهم ... وطالما صرَّح المنار
بإثبات فنائهم وأكل الأرض لأجسادهم وشرك الذين يدعونهم كما يدعون الله تعالى
لجلب النفع لهم ورفع الضر عنهم.
وإنني أدعو عقلاء المسلمين كافةً، والمخلصين في إسلامهم من عقلاء الشيعة
المعتدلين خاصةً أن ينهضوا معنا نهضة جريئة لإحياء عقيدة التوحيد الخالص،
والقضاء على عبادة الميتين، من أئمة أهل البيت الطاهرين، ومن سائر الأولياء
الصالحين، وعن التمسك بما يدعيه فقهاء الشيعة الجامدين، من تلقي الدين والفتوى
من سرداب سامرا حيث اختبأ المهدي المنتظر فإن هذا التشريع لا يقبله أحد من
عقلاء البشر، ومن بيَّن لي أنني على خطأ فيما دعوت إليه بالدليل فإنني أرجع إلى
قوله من قريب {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع ص 95، 96، 103 من الجزء الثالث، وفي هذه الصفحة أنهم طعنوا على عليٍّ وهم الدعاة إلى القول بألوهيته.
(2) هذا التشبيه مروي عن أمير المؤمنين علي كرَّم الله وجهه.(29/671)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
كتاب العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية
تحت هذا العنوان قد ظهر مؤخرًا كتاب جدير بالمطالعة، حقيق بأن يتنبه له
المسلمون المفكرون؛ لا لأنه من الكتب التي تَذُبُّ عن حقائقهم وتناشد الأمم الأوربية
إنصافهم؛ بل لأنه بالعكس من ذلك يتضمن من السموم بحق الإسلام والمسلمين ما
ندر أن عثرت به في كتاب آخر مع أني طالعت في هذا الباب ما يفوق الإحصاء.
يمتاز هذا الكتاب عن غيره بأنه يضع هذه السموم في قالب غير خشن وكثيرًا
ما يريد إنصاف الإسلام في توافه الأمور، ويمتدح من أوضاعه ما ليس في
الاعتراف به كبير جدًّا، حتى إذا وصل البحث إلى المسائل الأساسية أظهر المؤلف
كل ما في قلبه من العدوان وذهب في التحامل أبعد المذاهب، وقد أخطرت ببالي
خطته هذه نكتة وقعت عندنا في جبل لبنان وهي: أن بقالاً شكا إلى مدير إحدى
النواحي أحد الأهالي الذين يبتاعون من دكانه أنه أصبح مديونًا له بمبلغ غير قليل،
وأنه يلويه بدينه، وقد طالبه به مرارًا ولا يزال يماطله، فاستدعى المدير ذلك
الرجل المديون وسأله عن سبب ليانه بدين البقال فأنكر هذا وقال له: إني حاضر
لمحاسبته وستراني دافعًا له كل ما يثبت له في ذمتي، فأمر المدير البقال أن يأتي
بدفتره فجاء ومعه دفتره وبدأوا بالحساب أمام المدير، فكان المديون وهو رجل فقير
كلما قرئت عليه نبذة من قبيل: بعشر بارات ملح، وبخمس بارات بهار وبعشرين
بارة ينسون، يهتف هذا عندي: أو يقول من عيني هذه وعيني هذه أنا لا أفر من
الحق، فإذا وصل البقال إلى النفذات المهمة بثلاثين قرشًا طحين، بعشرين قرشًا
صابون، بخمسة عشر قرشًا أرزًا إلخ، صاح اذكر الله يا هذا أنا متى اشتريت منك
هذا؟ وأخذ يناكر ويجادل، وقد يقسم أنه لا علم له بهذه النفذات، والحاصل أنه لا
يعترف إلا بما ثمنه زهيد لا يستحق أن يتكلف البقال مشقة الشكوى والأخذ والرد
من أجله.
ومن قرأ هذا الكتاب عرف أنه على هذا النمط لا يعترف بفضل الإسلام إلا
فيما لا طائل تحته، وأنه يحاول غمط محاسنه الجوهرية.
ومؤلفه ضابط فرنسي اسمه جول سيكار Sicarsd jules مترجم أول في
الجيش الإفرنسي، وقد أهداه إلي المسيو ستيغ الذي كان المشرف العام على
السلطنة المغربية، واستعفي منذ أيام قلائل، وأصل الكتاب عبارة عن دليل اقترحه
قائد الجيش الفرنسوي الذي يحتل بلاد الرين من ألمانية لأجل العمل به في إدارة
التوابير الفرنسوية التي فيها جنود مغاربة فأنت ترى أنه كتاب رسمي حكومي معتمد
على أقواله وآرائه في معاملة العساكر المسلمين الذين في الجيوش الفرنسوية وليس
بكتاب راهب ولا قسيس غير مسئول ولا بتأليف مبشر جَوَّابٍ في الأقطار كلما
ذكرت تهوره لقومه أجابوك: هذا مبشر موسوس مهوس في أمور الدين ونحن لا
نبالي كلام هؤلاء المبشرين.
ولقد كنت اطلعت على هذا الكتاب منذ أشهر ولما لم يكن عندي متسع من
الوقت للرد على جميع ما فيه من مواضع الاعتداء على الإسلام اكتفيت بوضع
علامات على أهمها، ووعدت نفسي بمراجعة هذا العمل في وقت مناسب، ولا
أعني أني أصبحت اليوم ذا ندحة كافية من الوقت لإعطاء هذا الرد حقه، ولكني
رأيت أنه لا بد من أن ننبه المسلمين إلى ما في هذا السفر الخبيث من الأباطيل
المدسوسة على شكل دس السم في الدسم، وسبق أني نبهت إخواننا المغاربة إلى
ذلك في رسالة بعثت بها إلى جريدة (وادي مزاب) الصادرة في الجزائر والتي هي
من الجرائد الفاضلة وضربت مثلا على تحامل المسيو سيكار هذا بما نقله إلى كتابه
عن مؤلف آخر اسمه (ديولافوي) Dieulafoy في حق الرسول صلى الله عليه
وسلم وهو قوله:
(كان يستأكله طمع هائج وشوق لاعج إلى التمتع بجميع الخيرات التي يمكن
الحصول عليها بواسطة الحظ والقوة ولقد وضع تحت تصرف شهواته قوة عقلية
نادرة المثال وثباتًا لا يتزعزع) .
فقلت في الرد عليه: لم نعلم ما الخيرات الدنيوية التي قصدها النبي صلى الله
عليه وسلم وجاهد من أجلها، وما تلك الشهوات التي استخدم السلطان في سبيلها.
الحق أن الرسول عليه السلام لم يكن عنده طمع هائج إلا في نشر كلمة
التوحيد، ولا شوق لاعج إلا إلى استئصال عبادة الأوثان وكسر هاتيك الأصنام في
جزيرة العرب وغيرها، ولم يقصد من وراء قوته ملكًا ولا إمارة لنفسه كما يعلم كل
أحد، ولا بسطة في المال والعقار؛ لأنه عاش فقيرًا ومات فقيرًا، وطالما وجد
مديونًا بشيء ليس بذي بال، مع أنه وجد بين صحابته الموسرون الكبار كعثمان
وطلحة والزبير وغيرهم ممن كانوا يفدونه بحياتهم فكيف كانوا لا يفدونه بمالهم لو
رضي هو بذلك لنفسه، وإنما كان يستجيدهم البذل في تجهيز بعوث المسلمين
والمصالح العامة.
وأما إنه تزوج بكثير من النساء مما لا يزال يتقعر به بعض الأوربيين فهذه
سنة الأنبياء ولقد تزوج أنبياء بني إسرائيل أكثر منه ولا يزالون أنبياء في نظر هؤلاء
المنتقدين المصدقين بالتوراة، وأغرب من هذا أن داود مروية عنه في التوراة حادثة
(أوريا) وأنه أحب امرأة وقتل لها بعلها وهو برغم هذا معدود من الأنبياء [1] فنبي
الإسلام كان يأمر بالزواج والإكثار منه ويكره التبتل وينهى عن الرهبانية ويقول:
(تزاوجوا [2] تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) أو نحو ذلك.
وهذه هي القاعدة العصرية بعينها فاليوم الأوربيون مجمعون على أن أحسن
الأمم مستقبلاً أكثرها نسلاً فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم في هذا
الرأي، ولعمري متى كان الزواج حلالاً بل كان من السنن الإلهية التي لا يعمر
الكون إلا بها، فما معنى انتقاده من جهة الكثرة؟ وما معنى الافتخار بالتبتل وقطع
النسل الذي كان ينبغي أن يعيش ليسبح بحمد الله ويزيد في عمارة الأرض، ولقد
ثبت زائدًا إلى ذلك بتقارير الأطباء من الأوربيين بعد الاطلاع على الحوادث الكثيرة
من المستشفيات وغيرها أن التبتل يورث أمراضًا كثيرة وأن المتبتلين المخالفين
لمقتضى الطبيعة البشرية يضطرون إلى ممارسة أمور يُسْتَغْنَى عن ذكرها بالإشارة
إليها من طرف خفي ... وإنها قد تقع مع أشد الناس تدينًا وترهبًا، وإن من هؤلاء
من يريد التخلص من أزمة الاتعاظ هذه فيخصي نفسه، فهل على هذه الحالة يأسف
دعاة التبتل ومنتقدو الزواج الذي أحله الله أم على الزنا وغيره من الممارسات
الشائنة المضرة بالعقل والبدن التي يدعو إليها الاكتفاء بالمرأة الواحدة التي إذا
تجاوزت الستين وأحيانًا الخمسين وأصبحت من الكبر بحيث لا يهفو إليها قلب
زوجها تعرض زوجها لكبيرة الفاحشة وللتجاوز على حرم الغير.
وانتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة القتل وسفك الدماء ونسبوا إليه
القسوة [3] وأخذ بعض المستشرقين يبحثون عن وقائع الإسلام الأولى وغزوات
النبي وأصحابه ليستخرجوا منها أدلة على دعواهم، وجواب هذا كالجواب الأول
وهو أن النبي قاتل من أجل إبطال الشرك ورحض العقول من عبادة الأحجار
والتماثيل من العجين والسجود للشمس والنار ... إلخ، وهذه هي المعرات التي
تهوي بالنوع الإنساني إلى الدرك الأسفل، ولم يكن ليستغني عن إرهاف الحد في
سبيل التوحيد ولو كان قادرًا أن يستغني عن شهر السيف لكان أحب شيء إليه،
ولو أن الوعظ وحده كان جازيًا ما لجأ صلى الله عليه وسلم إلى السيف، هذا إلى
أنهم كانوا قد أهانوه وأخرجوه وحاولوا قتله وقتل دعاية التوحيد معه، وهذا أمر قد
سبقه إليه موسى عليه السلام، وأنبياء بني إسرئيل ولم يخرجهم ذلك عن كونهم
أنبياء حتى في نظر هؤلاء المنتقدين، وكذلك غنم أموال الأعداء واسترقاق بعضهم
بعد الغلبة عليهم كان ذلك من أوضاع تلك القرون وكان القتال بدونه متعذرًا، ولقد
جاء في التوراة من هذه الوقائع ما هو أعظم من هذا بكثير، ولعمري لماذا لا
ينتقدون أعمال أنبياء بني إسرائيل الجارية بأمر الله تعالى ثم لماذا لا ينتقدون كلثين
أحد مؤسسي البروتستانتية الذي ثبت أنه أحرق أناسًا بالنار، ثم لماذا لا يفكرون في
الغنائم التي تتقاسمها الدول الأوربية اليوم من أموال العدو وأملاكه، وهي ما
يطلقون عليه اسم الغرامة الحربية، وهو لا يفترق في شيء عن تلك الغنائم إلا من
جهة القلة والكثرة، فالغنائم التي كان يقسمها الرسول على المجاهدين في سبيل الله
كانت بعض أباعر وشياه وأوقار من حنطة أو شعير مما لا يقطع شأفة قوم ولا يقسم
ظهر أمة، ومما يعتاض منه ويسهل تجديده، ولكن دعاة المدنية الأدعياء اليوم
يضربون الغرامات التي تدكدك الجبال فكيف الرجال ويسترقون الأمم لا الأفراد
ويضمون كل ذلك إلى خزائنهم لينالوا به السعة والثروة ورفاهية العيش، والرسول
صلى الله عليه وسلم لم ينشد في مغازيه كلها ثروة ولا رفاهية معيشة ولا قصد
بفتوحاته عزًّا ولا سلطانًا، وإنما كان عزه وسلطانه تلقين شهادة لا إله إلا الله وأينما
عرف بصنم في الجاهلية أمر بكسره.
فمن هنا تعرف مقدار تحامل (سيكار) و (دولافوي) وأضرابهما على محمد
صلى الله عليه وسلم وما يرمونه به مما البراهين ساطعة كالشمس على بطلانه،
ولم يكن الرسول قاسي القلب ولا تشدد إلا عندما كان الإسلام في ضعف وفي مقام
المقابلة بالمثل، وأما في الحقيقة فلقد كان رءوفًا رحيمًا، وفينا أمينًا برًّا، وعندما
أرسل عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في سرية أقعده بين يديه وعمَّمه بيده،
وقال: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله ولا تغلّ ولا تغدر ولا
تقتل وليدًا) وعندما سار أسامة لغزو الشام قال له أبو بكر ما يلي:
(ولا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً
ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا
بعيرًا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا
أنفسهم له، وإذا قدم لكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه، يا أسامة اصنع ما أمرك به
رسول الله ببلاد قضاعة ولا تترك من أمره شيئًا) .
فأبو بكر رضي الله عنه إنما كان يلقن أسامة وصايا رسول الله نفسه وهذه
الوصايا هي أعلى جدًّا من وصايا الأمم الأوربية (المتمدينة) التي تجيز قتل
الأطفال والنساء والعاجزين بالطيارات، وتصب من السماء عليهم القناطير وألوف
القناطير من الديناميت بدون تأمل فيما يهلك بها من المخلوقات، التي يأنف الشهم
الكريم أن يقذف عليها بحصاة.
وأما عدم قطع النخيل، وما شاكله وهو محرَّر أيضًا في الشريعة الإسلامية
مع منع هدم البيوت ومنع قتل الأنعام في بلاد العدو ومنع قتل المُدْبِر فقابِلْه بما عمله
الأوربيون في الحرب العامة بعضهم ببعض من حرق وقطع وحطم ونسف عمران
وخنق بالغاز وغيره.
وأما ترك الرهبان يتعبدون في صوامعهم فقابِلْه بما جرى في الحرب العامة
من الاعتداء على الرهبان والراهبات وسل الفاتيكان عن الذي حل بالراهبات ...
في بلاد لا نريد أن نسميها وأغرب شيء فيه أنه ثبت كون الفاعلين بالراهبات لم
يكونوا من جنود الأعداء بل من جنود تلك البلاد نفسها.
وبعد هذا لا يستحي سيكار وديولافوي ولامنس اليسوعي وهو من المؤلفين
الذين يستشهد بهم صاحب كتاب (العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية) وكثير
من هذه الطبقة من التشنيع بشريعة الإسلام ومحاولة التجريس بمؤسسيها.
وإني مضطر إلى الإمساك بعنان القلم عن الخوض في جميع ما خاضوا فيه
من المسائل التي تعرضوا فيها لعقيدة الإسلام ولسيرة رجاله إذ كان الأخذ والرد لا
بد من أن يجرا البحث إلى ما يمس عقائد الملة التي ينتمون إليها، ولست ممن
يرغب في هذا الشأن ولا ممن يرونه ضروريًّا، بل مذهبي في هذا المقام مجرد
الدفاع بدون تعرض إلى عقيدة أهل الكتاب في عرض الجدال، فإن ذلك يُوغِر
الصدور ولا يخفف من الشنآن، وإنما يقدر الكاتب أن يخوض في سيرة الأقوام التي
ينتمي إليها أولئك المفترون وبين مسافة الخلف بين أقوالهم وأفعالهم، وبهذا كفاية.
وكذلك يستحب تنبيه المسلمين على دسائس هؤلاء في البلاد التي يستعمرونها
ويحاولون تحويل عقائد أهلها بمختلف الأساليب ونقل ما ينشرونه بحق الإسلام
وتقدمه وتأخره وامتداده وتقلصه ونهوضه وعثاره حتى يعلم المسلمون من أين يأتيهم
العدو، ومن هذا القبيل فصلٌ عَقَدَه صاحب هذا الكتاب على (التدرج) العصري
الذي وقع في الإسلام، وأدار أكثر الكلام فيه على الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
رحمه الله والأستاذ الحجة السيد رشيد رضا أبقاه الله، وسنترجم هذا الفصل في
الجزء الثاني من المنار، ونعقب عليه بما يلزم إن شاء الله تعالى.
لوزان في 14 يناير 1929
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(1) المنار: ساق أمير البيان هذا بطريق الإلزام لأولئك المعترضين من المؤمنين بأسفار العهد العتيق، والإلزام يكون بما يعتقد الخصم، وإن لم يعتقده المستدل به ونحن المسلمين لا نؤمن بما يروونه من قصة أوريا بنصوصها عندهم.
(2) لفظ الرواية تناكحوا فذكره بالمعنى للسبب المعروف، والحديث رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال مرسلاً.
(3) المنار: تواترت الروايات بأنه صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس وأشجعهم وأن غزواته كلها كانت دفاعًا ولم يقتل بيده إلا واحدًا وصل إليه يريد قتله فسبقه صلى الله عليه وسلم.(29/687)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تطور الاعتقاد بألوهية المسيح
قد سبق لنا نشر بعض مباحث بعض رجال الكنيسة الإنكليكانية في هذه العقيدة
التقليدية، وجزم بعضهم بأن المسيح عليه السلام ما ادعى الألوهية قط، والآن قد
جاءنا من بعض قراء الجرائد الإفرنسية اللغة في هذا الموضوع ما يأتي:
إن جريدة (جورنال دوجنيف) التي تصدر في جنيف هي من الجرائد
المشهورة بالتعصب للمسيحية البروتستانتية حتى لا تُقَاس بها جريدة أخرى في هذا
الباب إلا إذا كانت جريدة (غارت دولوزان) وإنما كانت الأولى أعلى مقامًا بين
الجرائد.
وكلتا هاتين الجريدتين لا تدع فرصة نتحامل فيها على الإسلام إلا توردتها مع
هذا ليتأمل القارئ المقالة التي نشرتها جريدة (جورنال دوجنيف) في تاريخ الأحد
27 يناير سنة 1929 الحاضرة تحت عنوان (ألوهية يسوع المسيح) قالت: (إن
مشكلة طبيعة المسيح هي قديمة بمقدار قدم المسيحية، فمنذ القرون الأولى للكنيسة
ثارت على هذه المسألة المجادلات الكبرى اللاهوتية (أي الكلامية) واختلفت
المجامع وأحدثت أعظم الانشقاقات التي عرفتها الكنيسة في صدر النصرانية.
ولا تزال هذه المسألة كما كانت منذ عشرين قرنًا شغلاً شاغلاً لأفكار المتدينين،
ولا تزال الكنائس كلها كاثوليكية كانت أم بروتستانتية تدين بألوهية المسيح،
وتبني على هذه المقدمة جميع علم اللاهوت المسيحي.
على أنه إذا كان المسيح إلهًا تكون إذًا المسيحية عابدة إلهين، ولا تكون حينئذ
ديانة توحيد، وهذا هو الاعتراض العظيم الذي يوجهه عليها المسلمون، فالاعتقاد
بألوهية المسيح يستلزم نظرية عقلية فيما يتعلق بعلاقات الأب والابن، ونرجع
حينئذ إلى المجادلات الأولى، فهل يا ترى تقررت هذه النظرية بشكل جازم إلى
الأبد بموجب قرارات المجامع؟ الجواب: نعم هكذا تقول الكنيسة الأرثوذكسية،
وهل يحكم بذلك البابا بصورة معصومة من الغلط؟ الجواب: هذا هو قول الكنيسة
الرومانية.
فما مركز البروتستانتية في هذه المسألة الجلى؟ كم هم البروتستانتيون الذين
يعلمون هذا جيدًا؟ لا شك أن هذه المسألة قد تلونت وتحولت، وأنه لا يوجد
بروتستانتي معتصم بدينه يقدر أن يعطي على هذه المسألة جوابًا قاطعًا غير قابل
للتغيير، فالإيمان يستند إلى التوراة وإلى أعمال الرسل والتاريخ، ومقرَّرات
المجامع هي عناصر مهمة يتكون منها الإيمان، ولكن الإيمان هو قبل كل شيء
مسألة شخصية، ويجب أن يطبق على احتياج الأشخاص أي على احتياج أهل
أوربة.
فهذا التأليف بين الضرورات المقارنة للحقائق الأبدية والاحتياجات الروحية
المتحولة هو من أشد المسائل إشكالاً في اللاهوت البروتستانتي.
فالأستاذ أوغست لومتر LEMAITRE AUGUST الذي سيحاضر مساء
الأربعاء 30 يناير بدعوة جمعية أصدقاء الفكرة البروتستانتية فيتكلم عن هذه
المعضلة المحزنة هو ضد الإفراط في الفكرة العصرية المحتقرة للسلام، كما أنه
ضد الجمود السهل والرجوع إلى الصيغ القديمة، فكيفية البحث في جوهر الإله
وكيفية فهم كُنْه المسيح كما هو في التاريخ تتحولان بمرور الأعصار، فمن الجائز
أن العلاقة بين المسيح والإله لا يقال عنها كلمة جازمة الآن، ولا في وقت من
أوقات التاريخ، ويحسن المصير إلى تعديل دساتير الإيمان عصرًا بعد عصر مع
مراعاة التقليد تمامًا لكن مع إرادة تامة بتسهيل المناسبات الحقيقية بين هذا التقليد
والعصر الحالي.
وإن شخصية الأستاذ لومتر الذي يدرس الديانة في معهد اللاهوت كفيلة
لسامعي محاضرته بساعة تتجلى فيها الآراء الدينية الصائبة والأفكار العقلية العالية
اهـ. مترجمًا بالحرف.
والحقيقة أن هذه الجمل المبهمة التي تحاول بها الجريدة والمحاضر المذكور
تسهيل الانتقال من طور إلى طور لا يمكنها أن تغير جوهر الموضوع، فالعصر
الحاضر أصبح برقيّ العلم وانتشار المعرفة لا يمتزج بوجه من الوجوه مع القول
بألوهية المسيح ... وإن كثيرًا من الأوربيين قد نفضوا أيديهم من الدين المسيحي
بتاتًا بسبب هذه العقيدة.
فكثير من المسيحيين البروتستانتيين يقصدون إلى دعم المسيحية العصرية
بالاعتقادات المعقولة خوفًا على الدين المسيحي من الانهيار التام، وقد بدأوا في
إنكلترة حتى بين الأساقفة والقسوس يبحثون في إلغاء القول بألوهية سيدنا عيسى
عليه السلام، وطالعنا في مجلاتهم الدينية كلامًا صريحًا في ذلك.
وهنا الأستاذ لومتر وجريدة جورنال دوجنيف يريدان أن يقولا: إنه إذا كانت
بعض الأعصر الغابرة قد تلقت عقيدة تأليه المسيح بالقبول - لعوامل سياسية، وقد
كان تقرير هذه العقيدة في المجامع بأكثرية الآراء على حين أن الأكثرية لا شأن لها
في أمور عقلية فلسفية كهذه - فالعصر الحالي لا يقدر أن يقبلها ولذلك كان يجب أن
يكون لكل عصر مسيح حَرِيٌّ به لائق بدرجة مداركه.
ونحن نقول لهما: لولا الملوك والسياسة كانت الأعصر السالفة أخذت بقول
آريوس أيضًا، وآمنت بأن المسيح رسول الله كما يعتقد المسلمون.
وستتغلب هذه العقيدة في أوربة وأمريكا بالتدريج وتقبلها الكنائس بصورة
رسمية.
(المنار)
وحينئذ يعلم هؤلاء وغيرهم أن القرآن قد بيَّن على لسان محمد النبي الأمي
صلى الله عليه وسلم ما خفي على أهل الكتاب من حقيقة دين المسيح، وأصله الذي
هو التوحيد وكونه كان نبيًّا رسولاً، وما غشي هذه العقيدة من تحريف وتبديل،
وتأويل وتحويل، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
على أن المستقلين في الفهم والمحققين في العلم من رجال الكنائس كلها
يعلمون أن ما جاء بالإسلام من تصحيح العقائد المسيحية في التوحيد ونبوة المسيح
عليه السلام هو الحق، وأن عقيدة التثليث والعشاء الرباني لا يقبلهما عقل، ولم
يتواتر بهما عنه نقل، ولكنهم يخشون أن يصرِّحوا بذلك فتنفصم عُرَى الكنيسة
وتنحل كل جامعة نصرانية، ويصير جميع النصارى أحرارًا في اعتقادهم فيدخل
الباحثون منهم في الإسلام أفواجًا، وقد نقلنا أصل هذه المسألة عن لاهوتي كاثوليكي
كبير في سورية طردته الكنيسة البابوية من رعيتها لحرية رأيه وعلمه في الدين.
__________(29/693)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المؤتمر النجدي الشوري العام
ومثال ديمقراطية الإسلام
(ننقل تفصيل هذا النبأ العظيم عن العدد 208 من جريدة (أم القرى)
الغراء ثم نُقَفِّي عليه ببيان ما فيه من الفوائد والعبر) قالت الجريدة:
عوامل الاجتماع
لقد علم القاصي والداني ما كان من نقض العراق لعهودنا واختراقها لحرمة
استقلالنا، وامتهانها لمبادئ الحقوق المتبادلة بين الجوار، ونصبها لحبائل الشر
بإقامة حصون بصيه والشبكة والسلمان، وعزمها على إتمام ذلك بسلسلة من
حصون تطوق بها نجدًا في أراضٍ هي ملك نجد وأهله من قبل ومن بعد، وإنما
ظروف قاهرة مجبرة حكمت بالتنازل عن تلك الأراضي بالكره للعراق على أن تبقى
مرتعًا للجميع فاتخذتها حكومة العراق قاعدة لحصون ومعاقل تريد بها في الظاهر
حفظ الأمن في دارها وفي الباطن والحقيقة ليس لها منها غرض غير جعلها مركزًا
لمهاجمة نجد ومنع أهل نجد من ارتياد مراتعهم ومياههم كما نص على ذلك في بنود
عهدية صريحة لا تحتمل تأويلاً ولا تضليلاً.
غضب لذلك أهل نجد في العام المنصرم غضبتهم، وظهرت بوادر غيظهم
ونقمتهم ببضع غزوات قام بها بعضهم واجتمع منهم لغزو العراق كله دفاعًا عن
بلادهم الذين ظنوا أن الاعتداء على الآمنين من أهل نجد في عقر دارهم مما يُسَكِّن
جأش الغاضبين من نقض العراق لعهده في بناية تلك الحصون، فكان جوابهم أن
غلت مراجل القلوب، وانكشف الغطاء عما في الصدور، من أن هذه النفوس
العربية المنحدرة من أصلاب الشم الأشاوس، أباة الضيم من العرب الخالدين
بمآثرهم وأخلاقهم لن تقر على ضيم، ولن ترضى بالدَّنِيَّة، وأنه لا سبيل إلى
صبرها على انتقاص شيء من كرامتها، أو خفر مثال حبة من خردل من ذمتها،
فهبت تلك الهبة التي علم الناس بعض أخبارها، ولم يكن من جلالة الملك في تلك
الأيام الرهيبة التي عزم فيها أهل نجد على أن يبيعوا الدماء فيها بثمن بخس
ويهدروها بغير حساب إلا أن يشد بيديه على تلك النفوس الجامحة فيكبح جماحها
ويرد عصيها ويوقف سيلها بعزمه وحزمه، وقد استعمل في ذلك أسلوب الإقناع
فوعد الذين طارت حلومهم أنه سيوصل نجدًا إلى حقها بطريق السلم والسكينة،
فأطاع الناس أمره، وأمسكوا على أنفسهم يستنجزونه وعده، وينظرون ما تأتي به
المفاوضات.
ترك جلالة الملك نجدًا تغلي مراجلها ويمم الحجاز حيث وصل إليه المندوب
المفوض البريطاني ومستشاروه من موظفي العراق، وكان حوار وأحاديث انتهت
بما علم الناس من إصرار الفريق الثاني المفاوض على استبقاء ما بني من قلاع
وحصون وزاد في حراجة الموقف أنه والمفاوضون يتفاوضون كانت سيارات من
في العراق تجوس خلال الديار النجدية والطيارت تصب العذاب على الآمنين
المطمئنين في (لينا) و (جالها) وما والاها من ديارنا النجدية، وكان من جراء
إصرار المسئولين في العراق على ذلك الموقف أن أعلن كل من الفريقين المتفاوضين
صاحبه أننا وصلنا للفشل من مفاوضتنا، ولم ننجح وانقطع حبل البحث على (لا
شيء) .
***
النفس العالية
إن القلب العظيم الذي يشعر بمسئولية عظيمة أمام ربه ثم أمام ضميره الحي
الذي امتلأ شرفًا وشهامة وشجاعة ونبلاً لا يستصغر الموقف الذي وراء انقطاع
المفاوضات على ذلك الشكل وبلاده وشعبه ومحارمه موضوعة على كفه ينظر إليها
ليحميها والخطر يداهم هذا الحمى، أيوقد النار ويضرب القلوب بالحديد حتى تنال
تلك النفوس إحدى الحسنيين، أم يغمض العين على قذى، وذلك ليس من دأبه ولا
شيمته؟ النفوس جامحة، والقلوب طائرة، والأهواء متضاربة، والخصم مُصِرٌّ
على نكثه ونقضه، أيطلق للجواد العنان؟ وإذا أطلقه أين يصل بالجواد المدى؟
ومن يردي إذا عدا؟
***
كتاب الدعوة
إن قوة الإيمان في النفس العالية الكبيرة لتجسم لصاحبها المخاطر وتكثر لديها
المحاذير، أما هذا المواقف وأمام هذه المخاطر العظيمة لم ير جلالة ملك الحجاز
ونجد، وملحقاتها عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلا أن يرى السير محفوفًا
بمخاطر لا يريد تحمل مسئوليتها بنفسه، بل رأى أن يكون واحدًا من أفراد شعبه
يتحمل من المسئولية ما يتحمله أدناهم؛ لأن خشيته من ربه وخوفه من عقابه لم
تحمله على تحمل ما يبصر من مستقبل الحوادث، لذلك لما وصل إلى نجد بعث لكافة
أهل نجد بكتاب (يستقيله ببيعتهم ويدعوهم للاجتماع لانتخاب (ولي الأمر) لهم
يسير بهم حسبما يُجْمِعُون عليه أمرهم في الخطة التي يرونها، وإن عبد العزيز بن
عبد الرحمن الفيصل واحد من أولئك الجمع من العرب المسلمين يرى في (ولي
الأمر أو الإمام) ما تراه الجماعة) .
***
تأثير الكتاب
صارت النجائب بصور من الكتاب الرهيب شرقًا ومغربًا وجنوبًا وشمالاً،
تخبر البادية والحاضرة، حتى جاب النبأ نجدًا بكامله في أقل من شهر فضجت نجد
للهول، ولم يكن ما أصابها من سماع ذلك النبأ من ألم وحزن ليوازيه حزن أو ألم
لحادث من حوادث الزمان؛ إذ إنهم يعلمون أن الله بعبد العزيز قد أعطاهم كل ما
يتمتعون به من استقلال وبلاد وأمن وراحة، وكانوا قبله شيعًا وقبائل يعدو بعضهم
على بعض ويتخطفهم الناس من كل مكان، فمهما فقدوا فهم يرجون من الله أن يرده
لهم بفضله ثم بسعي عبد العزيز، ولكنهم إن ترك عبد العزيز أمرهم ضاعت ريحهم
وفقدوا كل شيء.
سمع الناس النبأ فأصابتهم السكرة منه ثم أخذوا يشدون الرحال للرياض
وقلوبهم تطير فزعًا، وقدم أكثرهم النجائب أمامه تنهب الأرض نهبًا؛ لتخبر من
في الرياض أن النفوس طارت خوفًا وفرقًا لنبأ الأنباء، وإننا قادمون طائعين راجين
مستغفرين، ولو أن المجال يتسع لنشر ما ورد من الكتب من جميع أنحاء نجد لرأى
الناس حقيقة الروعة التي أصابت النجديين من ذلك الخبر العظيم.
لقد حاسب كل من تلقى الدعوة العامة نفسه وحادثها في سره ماذا لعل الإمام
نقد عليَّ شيئًا؟ أو تأثر من عمل حتى عزم على ما عزم عليه، أو لعله متألم من
أحد، حيرة ودهشة تدع الحليم حيران وكيف لا يحتار الحليم، ولو سمع أهل نجد
هذا النبأ في أحلامهم لنهضوا منه فزعين؟ فكيف بهم وهو يسمعونه مستيقظين.
سارت نجد إلى سيدها، وكل واحد من رجالها قد وطَّن العزيمة في قلبه أنه
إن كان ما أغضب الإمام عمل من أعمالي فإني أستغفر الله وأتوب إليه وإنني طائع
مستسلم، وإن كان ما أغضبه عمل قريب أو بعيد فهذه النفوس والأموال والعيلات
كلها تفدي دونه، ذلك هو الشعور العام الذي استولى على جميع من وفد إلى الرياض
في هذا الاجتماع العظيم.
***
قبيل المؤتمر
وصل الناس للرياض وفدًا وفدًا، وكان كل وفد حين يقابل الإمام يقص له ما
كان للخبر من وقع أليم لديه، وكانت دموع الكثيرين تسبق ألسنتهم، إذ ما كانوا
يظنون أن سيسمعوا تخلي إمامهم عنهم، وكان الإمام يطمئنهم بأنه على كل حال
نازل على رأي الجماعة في هذا الأمر، وقد بلغ ببعضهم أن أرسل الكتاب معلنًا
السمع والطاعة، ولكنه غلظ الأيمان بأنه لا يحضر مجلسًا يذكر فيه خبر تنازل
الإمام عن إمامته، ولم يكن سعي المؤتمرين في مجالسهم الخاصة قبيل المؤتمر
ليتناول معالجة شيء أهم من هذا الأمر حتى تمكنوا في النتيجة من حمل جلالة
الملك على عدوله عن رأيه في هذه القضية، ثم نظرًا لأن موعد اجتماع المؤتمر
كان في منتصف ربيع الثاني وتأجل إلى منتصف جمادى الأولى ربما تصل بقية
الوفود فقد كان لدى الوفود التي وصلت الرياض متسع في الوقت لدرس المواضيع
التي يمكن أن تكون موضوع المناقشة في المؤتمر، وقد عقد لذلك مجالس متعددة
خاصة وتبادل أكثر الزعماء الرأي مع جلالته في كثير من الشئون الداخلية
والخارجية حتى أصبح هناك رأي عام متحد في مواضيع البحث ونضوج في
الأفكار توفر من أوقات المناقشات داخل المؤتمر، ولم يدخل الناس المؤتمر حتى
كادوا يكونون مجتمعين على قرار واحد سواء في الأمراء أو العلماء أو الزعماء أو
القادة.
وإن العربي الناظر لهذه الاجتماعات والسامع لتلك المحاورات لتأخذه أريحية
ويخامره سرور لهذا التبادل الذي يراه في التطور الفكري في قلب هذه الجزيرة
العربية؛ إذ يرى أن أولئك البُدَاة الحُفَاة الذين لم يكن الرجل منهم يدرك وينظر لأبعد
من الوصول لشهواته البدنية من مأكل ونكاح أخذت تبدو عليه علائم الجد والنشاط
للبحث والتفكير بحماسة واهتمام في أمور دينية لها علاقة عظيمة بأمور الاجتماع
والعمران والسياسة ويناقش كل موضوع بما فطر عليه من ذكاء وفطنة فتسمع كلامًا
جميلاً وقولاً سديدًا.
***
لغة المؤتمر
ومما هو جدير بالذكر قبل رواية ما كان في المؤتمر أن أذكر شيئًا عن اللغة
التي كان يتكلم بها المؤتمرون فهي بالضرورة اللغة العربية، ولكني شهدت كثيرًا
من المؤتمرات والمجتمعات في حواضر المدن من مصر وسوريا، وفي تلك
المؤتمرات خلاصة المتعلمين في تلك الأمصار، ويمكنني أن أقول: ولست بمسرف
ولا جانف أن من كانوا يتكلمون في مؤتمر الرياض كانوا أفصح لسانًا وأقوى بيانًا،
وإنك لتسمع للفظ العربي الفصيح رنة في الأذن تسترعي السمع أكثر من ذلك اللفظ
الذي كان يتداول في مؤتمرات الأمصار في اللفظ العامي الساقط الذي ينبو عنه سمع
الأديب الذي مارست حافظته القول العربي الرصين من أقوال العرب الأولين وكان
يعجبني من بعضهم؛ إذ كان يرتجل الأسجاع الرصينة التي لا أثر فيها للتكلف ولا
يخامر السامع ريب في أنها مرتجلة، ولم تكن أعدت لتقال، وقد يكون ملقيها ممن لم
يحسن القراءة والكتابة، وإن آسف في هذا المؤتمر فلأني لم أوفق لأن أنقل أقوال
القائلين بألفاظها، ولكني كنت أقيد المعاني وأعد القراء بأني لم أهمل معنى ذكر في
ذلك الاجتماع إلا نقلته لهم.
***
نظام المؤتمر
لقد كان الوافدون يعدون بالألوف، ولذلك كان من المتعذر أن يدعى الجميع
للحضور والاشتراك في الكلام فاختير من بين هذه الجموع العلماء والأمراء
والرؤساء والقادة فبلغ عددهم الثمانمائة أو يزيدون، وقد عرضت أسماؤهم بقائمة
خاصة على جلالة الملك، فأمر بدعوتهم فردًا فردًا، وأخبروا أن موعد الاجتماع
سيكون الساعة الثانية من صباح يوم الإثنين الواقع في 22 جمادى الأولى، وقد
أعدت غرف انتظار خاصة يجمع كل فريق من المؤتمرين فيها حتى يتكامل عددهم
فخصصت غرفة لانتظار العلماء وغرفة أخرى لانتظار أمراء الحاضرة ورؤسائهم
وغرفة لانتظار رؤساء الهجر من القبائل، وعُيِّن لكل غرفة من هذه الغرف خدم
ومستقبلون يتلقون الوافدين ويجلسونهم في أماكنهم، وقبيل الوقت المضروب
بنصف ساعة تقريبًا شرف جلالة الملك مكان المؤتمر وجلس في مجلسه المُعَدّ له
وكان حوله أصحاب السمو الأمراء من رجال العائلة المالكة وجلسوا بين يديه
يتحدث إليهم ببعض الشئون، ولما لم يبق للموعد غير دقائق معدودات أمر بصاحب
الضيوف إبراهيم بن جميعه، فحضر وسأله هل تكامل جميع المدعوين فأخبر
بأسماء بعض من تأخر، فأمر بتأخير الاجتماع بضع دقائق حتى وصل الخبر
لجلالته باستكمال عدد المجتمعين، فنادى ببعض رجال حاشيته وعين مواقع كل
فريق من المؤتمرين فجعل العلماء في الصف الأول عن يمينه وشماله وكان الشيخ
عبد الله بن بليهد والشيخ عمر سليم والشيخ العنقري عن يساره، وتبعهم بقية العلماء
عن اليمين والشمال، فلما استقر بعلماء المجلس نودي أهل حواضر المدن فجلسوا
بعد العلماء عن اليمين والشمال فملأ الجميع محيط الرواق من جوانبه الأربع ثم
نودي برؤساء الهجر من قبائل العرب فدخلوا هجرة هجرة وقبيلة قبيلة وجلسوا صفًّا
صفًّا مقبلين على جلالة الملك بوجوههم وقد احتمل هذا الترتيب وعمله ما يقرب من
15 دقيقة إلى أن غصَّ المكان بالمدعوين.
***
مكان المؤتمر
لم يكن المؤتمر الذي اجتمع فيه المؤتمرون ذا أبهة وفخار، ولكنه كان يمثل
البساطة العربية والديموقراطية الإسلامية العربية التي يتساوى فيها الكبير والصغير
لقد كان المجتمعون كما يرى القارئ لا يقل عددهم عن ثمانمائة مندوب بين أمير
وعالم ورئيس، وإيجاد مكان فسيح في بلد مثل الرياض يسع مثل هذا العدد الوفير
ليس من الهينات لذلك أمر جلالة الملك أن يختار للمؤتمر أكبر مكان يوجد في قصر
جلالته فاختير لذلك رواق في بيته الكبير من قصره تبلغ مساحته 238 مترًا مربعًا
وقد فرشت أرض الرواق بسجاد جميل وبُسُط أنيقة وصُفَّت المساند على الأطراف
ولم يتميز مقعد جلالة الملك في ذلك المؤتمر الحافل بغير وسادة وضعت عن يمينه
كان يسند يده إليها في بعض الأحيان، وكان الرواق مكشوفًا للسماء فنصبت في
مشرق الشمس منه بعض أقمشة من (الشراع) لصد الشمس عن المجتمعين، وقد
فرشت بعض الأروقة التي حول الرواق الكبير بالسجاد أيضًا لجلوس المستمعين
فيها كما أعد في الطابق العلوي مقاعد لبعض المستمعين الذين لا يشتركون في
أحاديث المؤتمر.
***
أحاديث المؤتمر
فلما استقر بالوافدين المجلس وأخذ كلٌّ مكانه أمر جلالة الملك بالقهوة فأديرت
على الحاضرين ولم تمر إلا هنيهة حتى تناول الجميع القهوة ثم أقبل جلالته على
الجالسين فحمد الله ثم قال ما خلاصته:
خطاب جلالة الملك
(أيها الإخوان: تعملون عظم المنة التي مَنَّ الله بها علينا بدين الإسلام؛ إذ
جمعنا به بعد الفُرْقَة، وأعزنا به بعد الذِّلَة، واذكروا قوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: 105) إن شفقتي عليكم وعلى ما مَنَّ الله به علينا
وخوفي من تحذيره سبحانه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتتذكروا أولا
ما أنعم الله به علينا فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة، وثانيًا لأمر بدا في
نفسي وهو أنني خشيت أن يكون في صدر أحد شيء يشكوه مني أو من أحد نوابي
وأمرائي بإساءة كانت عليه أو بمنعه حقًّا من حقوقه، فأردت أن أعرف ذلك منكم
لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك وأكون قد أديت ما عليَّ من واجب، وثالثًا لأسألكم
عما في خواطركم وما لديكم من الآراء مما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم.
إن القوة لله وحده وكلكم يذكر أنني يوم خرجت عليكم كنتم فِرَقًا وأحزابًا يقتل
بعضكم بعضًا وجميع من ولاه الله أمركم من عربي أو أجنبي كانوا يدسون لكم
الدسائس لتفريق كلمتكم وإنقاص قوتكم لذهاب أمركم، ويوم خرجت كنت محل
الضعف وليس لي من عَضُد ومساعد إلا الله وحده ولا أملك من القوة غير أربعين
رجلاً تعلمونهم، ولا أريد أن أقُصّ عليكم ما مَنَّ الله به عليَّ من فتوح ولا بما فعلت
من أعمال معكم كانت لخيركم؛ لأن تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم،
وأنتم تعلمونها جميعًا وكما قيل (السيرة تبين السريرة) إنني لم أجمعكم اليوم في
هذا المكان خوفًا أو رهبًا من أحد منكم فقد كنت وحدي من قبل وليس لي مساعد إلا
الله فما باليت بالجموع، والله هو نصرتي، وإنما جمعتكم هنا في هذا المكان لأمر
واحد ولا أجيز لأحد أن يتكلم هنا في غيره، ذلك هو النظر في أمر شخصي،
وحدي فينبغي أن تجتنبوا في هذا المجلس الشذوذ عن هذا الموضوع، ولا أبيح
لأحد أن يخاصم في المجلس أحدًا في رأيه ولو أخطأ فالجميع أحرار فيما يتكلمون به
في هذا الموضوع، أما الأشياء الخارجة عن هذا فسأعين لكم اجتماعات خاصة
وعامة في غير هذا الاجتماع العلني ننظر فيها بجميع الشئون التي ينبغي النظر فيها
من سائر شؤوننا.
أريد منكم أن تنظروا أولاً، فيمن يتولى أمركم غيري، وهؤلاء أفراد العائلة
أمامكم فاختاروا واحدًا منهم، ومن اتفقتم عليه فأنا أقره وأساعده، وأحب أن تكونوا
على يقين بأنني لم أقل هذا القول استخبارًا أو استمزاجًا؛ لأنني ولله الحمد لا أرى
لأحد منكم مِنَّة عليَّ في مقامي هذا، بل المنة لله وحده، ولست في شيء من مواقف
الضعف حتى أترك الأمر لمنازع بقوة، سواء كان المنازع ضعيفًا أو قويًّا، وسواء
كنت في كثرة أو قلة وما يحملني على هذا القول في هذا الموقف الذي لا فضل لأحد
في وقوفي فيه إلا الله وحده الذي نصرني وأيدني إلا أمران: الأول محبة لراحتي في
ديني ودنياي، والثاني أني أعوذ بالله أن أتولى قومًا وهم لي كارهون، فإن
أجبتموني إلى هذا فذلك مطلبي ولكم أمان الله أنه من يتكلم في هذا فهو آمن ولا
أعاتبه لا عاجلاً ولا آجلاً، فإن قبلتم طلبي هذا فالحمد لله، وإن كنتم لا تزالون
مصرين على ما كلمتموني به على أثر دعوتي لكم فإني أبرأ إلى الله أن أخالف أمر
الشرع في اتباع ما تجمعون عليه مما يؤيد شرع الله) .
(أصوات: كلنا مُصِرُّون على آرائنا ولا نريد بك بديلاً)
(فإذا لم يحصل ذلك منكم أن تبحثوا أمر آخر، ذلك هو شخصي وأعمالي
فمن كان له عليَّ أنا يا عبد العزيز شكوى أو حق أو انتقاد في أمر دين أو دنيا
فليبينه، ولكل من أراد الكلام عهد الله وميثاقه وأمانه أنه حر في كل نقد، يبينه وأنه
لا مسئولية عليه، وإني لا أبيح إنسانًا [1] من العلماء أو من غيرهم أن يكتم شيئًا من
النقد في صدره، وكل من كان عنده شيء فليبينه ولكم عليَّ أن كل نقد تذكرونه فما
كان واقعًا أقررت به وبينت سببه وأحلت حكمه للشرع يحكم فيه، وما كان غير بيِّن
هو عندكم من قبيل الظنون فلكم عليَّ عهد الله وميثاقه أنني أبينه ولا أكتم عليكم منه
شيئًا، وأما الذي تظنونه مما لم يقع فأنا أنفيه لكم وأحكم في كل ما تقدم شرع الله فما
أثبتَه أثبتُه وما نفاه نفيتُه.
لذلك فأنتم [2] أيها الجماعة أَبْدُوا ما بدا لكم بما سمعتموه وبما يقول الناس من
نقد وَلِيّ أمركم أو من نقد موظفيه المسئول عنهم، وأنتم أيها العلماء اذكروا أن الله
سيوقفكم يوم المعرض [3] وستسألون عما سُئِلْتُم عنه اليوم، وعما ائتمنكم عليه
المسلمون فأبدوا الحق في كل ما تسألون عنه ولا تبالوا بكبير ولا صغير وبيِّنوا ما
أوجب الله للرعية على الراعي، وما أوجب للراعي على الرعية في أمر الدين
والدنيا، وما تجب فيه طاعة ولي الأمر وما تجب فيه معصيته، وإياكم وكتمان ما
في صدروركم في أمر من الأمور التي تسألون عنها فمن كتم ما في صدره فالله
حسبه [4] يوم القيامة، ولكل من تكلم بالحق منكم عهد الله وميثاقه أنني لا أعاتبه
وأكون ممنونًا منه، وأني أنفذ قوله الذي يُجْمِع عليه العلماء، والقول الذي يقع
الخلاف بينكم فيه أنتم أيها العلماء فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح؛ إذ أقبل منه ما
كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو قول لأحد العلماء الأعلام المعتمد
عليهم عند أهل السنة والجماعة، إياكم أيها العلماء أن تكتموا شيئًا من الحق
تبتغون بذلك مرضاة وجهي فمن كتم أمرًا يعتقد أنه يخالف الشرع فعليه من الله اللعنة،
أظهروا الحق وبينوه وتكلموا بما عندكم) .
***
كلام العلماء
ثم تكلم بعض العلماء وخلاصة ما قالوا: إنا نبرأ إلى الله أن نكتم ما ظهر لنا
من الحق، أو أن تأخذنا في الله لومة لائم، وحاشا لله فما علمنا أنه منذ ولاك الله
أمرنا أننا نصحناك في أمر من الأمور وخالفتنا فيه، ونبرأ إلى الله أن نكون قد
رأينا في عملك عملاً يخالف الشرع وسكتنا عنه، اللهم إلا أن يكون في بعض أمور
يجب علينا أن ننصحك عنها فقط لا يجوز لنا الخروج عليك من أجلها، كما أنه لا
يجوز للرعية الخروج عليك فيها؛ ذلك لأنه ما معصوم إلا محمد صلى الله عليه
وسلم فهو المعصوم من الخطأ والذنوب، أما الأمر الذي يوجب مخالفتك أو يوجب
حضّ الرعية على مخالفتك فيه فيأبى الله، ووالله إننا ما رأينا ما يوجبه فيك وسكتنا
عنه، ولا علمنا من سيرتك وأعمالك إلا حرصك على إقامة شعائر الإسلام واتباع
ما أمر الله به ورسوله في أعمالك.
***
كلام رجال الؤتمر
(إنه كما يرى القراء أن المجتمعين كانوا حول الثمانمائة نفر وإذا كان كل
إنسان سيتكلم فسيضيع الوقت بغير الوصول إلى نتيجة، وحيث إن الموضوع
محصور ومعلوم ما بخاطر كل فريق من الناس فقد ناب عن الحاضرين بالتعبير
عما في نفوسهم فريق من كبار الحاضرين منهم الدويش من أمراء مطير والبهيمة
والفرم والذويبي وابن بخيت من رؤساء حرب وابن ربيعان من رؤساء عتيبة وابن
عمر وابن خشر من رؤساء قحطان.
وقد تكلم هؤلاء بعد أن استأذنوا الإمام بالكلام واستأذنوا الإخوان بالتعبير عن
آرائهم، وكان خلاصة ما قالوه ينحصر فيما يأتي:
يا عبد العزيز: ما يخفاك أننا كنا بالأول بادية نعمل جميع الأعمال المخالفة
للشرع والسمت والشرف وكنا نَعْمَه في طغياننا، فلما مَنَّ الله علينا بهدايتنا للرجوع
إلى هذا الدين كان بفضل الله ثم بسعي آبائك وأجدادك في أول الأمر، وفي الأيام
الأخيرة كانت هدايتنا بفضل الله ثم بمساعيك، فقد تركنا عشائرنا وأموالنا وهاجرنا
لوجه الله، ولا نبتغي إلا مرضاته ووقفنا أموالنا وأنفسنا للجهاد في سبيل الله، لا
نريد بذلك عرضًا من أعراض الدنيا وما نريد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه
الظاهر، وأن يكون رأسنا في هذا الأمر أنت ثم أحد أولادك وأحفادك، وأعمالنا ما
تخفى عليك ونبرأ إلى الله أن نعتدي في القول عليك وما نقول إلا جزاك الله عنا
خيرَ الجزاء، لقد علمتنا ما يجب علينا في ديننا فأعنتنا على هجرتنا، وبنيت لنا
المساجد وقدمت لنا العلماء، وأشركتنا في بيت المال، ورحمت ضعيفنا ووقرت
كبيرنا، ونبرأ إلى الله أن ننازعك الأمر أو أن نترك من ينازعك ما أقمت فينا
الصلاة، وما زلت لم تفعل كفرًا بواحًا معنا من الله عليه برهان، وإننا نسمع
ونطيع ما دمت فينا كذلك ولو ضربت الظهر وأخذت المال، نبرأ إلى الله أن نركن
إليك لدنيا لديك كما نبرأ إليه إن شاء الله أن تكون من قال فيهم: {وَمِنْهُم مَّن
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (التوبة: 58) فأنت جزاك الله عنا خيرًا لم تقصر علينا في شيء، فهؤلاء طلبة
العلم الذين أقمتهم فينا نسألهم ما يعرض لنا في أمر ديننا، وما قصروا فيه رجعنا
لأكابر علمائنا الأعلام فاستفتيناهم وأجابونا، وامتثلنا أمر الله، أما وقد ألححت علينا
في القول، فإن كان هناك إشكال لدينا ففي بعض أمور نسردها أمامك وأمام العلماء؛
لأن لبعض الناس في بعضها شبهًا وبعضها في نفوس الناس من أمرها الشيء
الكثير، ونحن نعرضها على مسامع الجميع إذا سمحت بذكرها، فقال جلالة الملك:
كل ما بدا لكم في أمر أعمالي فلا تكتموا منه شيئًا وقولوه:
فقالوا: أولاً مسألتان واحدة منها سأل عنها بعض الإخوان وأجيب عنها وقنع
بها وبعضهم لا يزال يذكرها ولا بد من سماع قول العلماء فيها لينتهي مشكلها على
وجه صريح تلك هي مسألة (الإتيال) فإنه يقال: إنها سحر ولا يخفى حكم السحر
والسحرة في الإسلام، وأما المسألة الثانية فهي: من الواجبات ونخشى أنك إن لم
تقم بها كما يجب نخاف أن يسلط الله علينا أَعْدَاءَنَا بسبب تركنا لها، وهي المرادة
بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ
فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41) تلك هي تعاليم الدين على وجهه الصحيح فإنا
رأيناك في الأطراف التي توليتها قد منعت أهلها من السرق والنهب وأخذت منهم
الزكاة، ولكننا لم نعلم أنك أرسلت إليهم من يعلمهم أمر دينهم، ونحن نخشى من
سخط الله عليك وعلى علمائنا إن كان في هذا الأمر تهاون.
هذا أولاً، وثانيًا هنا أمر عفنا فيه الأموال والأرواح والبنين وليس لنا من
مقصد فيه إلا مخافة أن يلحقنا في ديننا منه حرج ولا يمكن أن نأمن على أوطاننا
منه ولا تستقيم لنا حياة بوجوده أو وجود أمثاله، وفيه كل الخطر على أوطاننا بل
الخطر منه على رأسك أنت بنفسك يا عبد العزيز، ونحن نتمنى أن يقبض الله
أرواحنا ولا نرى فيك أو في عائلتك ما يسوؤنا، وأنت وحدك المقصود في ذلك من
دون سائر الناس، إننا نحن الرعية إذا أصاب هذه البلاد ضرر فالطيب في دينه
يأوي إلى الكهوف والجبال والخائب يكون كما كان في السابق، ذلك هو الأمر الذي
أمرضنا من زمن ووضع في أكبادنا غصة ولا نستطيع الصبر عليه، وهو أمر
يستوي في التأثر منه يا عبد العزيز الكبير والصغير والأمير والوضيع حتى النساء
في خدورهن، وفي جميع الناس تأثر منه حمية دينية وطنية: تلك هي القصور،
القصور التي قدمها وبناها أعداؤنا في أوطان هي أوطاننا ومراتعنا فماذا يريدون
منها غير الاعتداء علينا؟
إنك تعلم أن البادية كلها باديتنا نحن أهل نجد وتذكر احتجاجنا عليك يوم
جعلت لهم حدودًا في البادية بغير حق، وهل يجوز لك دينك وضع تلك الحدود لهم
في بلادنا؟ فأجبتنا إذ ذاك أن تحديد الحدود ليس معناه تملكًا لهم وإنما الحدود لأجل
بعض المنازعات التي قد تقع بين البادية، وأننا أحرار في مراعينا حيث نشاء من
هذه البادية، وأخبرتنا أنه بناء على معاهدتك معهم في العقير أنهم لا يبنون في تلك
الأراضي أبنية ولا يعملون معسكرات لا على الآبار ولا على المياه فالصبر على
هذه لا يقنعنا فيه غير أمرين: أولا أن تحكم الشريعة في أننا إذا سكتنا وتركنا هذه
المسألة فليس علينا حرج من قبل الله، ولو كان في سكوتنا ضرر على الإسلام
والمسلمين: والثاني أن تقسم لنا أنت بالله أنه لا يوجد علينا من هذه القصور ضرر
في ديننا ولا في أوطاننا لا في العاجل ولا في الآجل، وبغير ذلك فلا والله ما
نتركها قائمة وفينا عرق ينبض أو في أحد منا نسمة من حياة، فكوننا نموت أو نقتل
عن بكرة أبينا هو أفضل بكثير من أن نرى الخطر على ديننا وأوطاننا ونرضى به؛
إن هذا أمر لا يمكن يا عبد العزيز أن نتحول عنه.
وهناك مسألة في خواطرنا غير هذه ونحب أن نبديها لك لتبرأ ذمتنا منها، إننا
لا نريد أن نعترض في أمر من أمور السياسية، ونحن واثقون بالله ثم بك في هذا
الأمر، وعلى كل حال علينا السمع والطاعة لك في الأمر الذي نبديه، ذلك هو منع
الناس من الجهاد وعدم السماح به لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر، فهذه
مسألة نذكرك بها لتعلم أنه لو تلفت النفوس ونفدت الأموال فليس ذلك بشيء بجانب الله
من الجزاء للمجاهدين في سبيله، وعلى كل حال فنحن نسمع ونطيع لك فيما تأمرنا به
في هذا.
وأما مسألة القصور فو الله ما يرضى ببقائها ويقرها إلا إنسان (يقر محرمه
على الفساد) يا عبد العزيز أدبك وقتلك لنا وغضبك كله أهون من غضب الله،
وأن تهتك محارمنا ونحن ننظر، فاتق الله في أمرنا وأمرك، ومحارمنا ومحارمك،
واتق الله في أوطاننا، هذا الذي عندنا أبديناه ولم نُخْفِ في صدورنا شيئًا.
ولما فرغ المتكلمون ووصلوا لهذا الحد، وأنصت المجلس قليلاً نادى جلالة
الملك في الحاضرين هل أحد عنده شيء يقال في أعمالي أو عليَّ غير هذا؟ فما
أجاب أحد، ثم كرَّر السؤال ثانيًا وثالثًا فأجابوا ليس لدينا شيء غير ما تقدم.
فالتفت جلالة الملك إلى العلماء وقال: ليتكلم العلماء بما عندهم في شبهة
البعض بمسألة (الإتيال) أولا، فتلا أحدهم فتوى للعلماء في شأنها وخلاصة ما
جاء فيها: إننا لم نعلم دليلاً في تحريمها من كتاب أو سنة ولا من أقوال أحد من
العلماء ولا من أخبار من رواها من الثقاة، ونبرأ إلى الله أن نقول شيئًا بتحريمها
وإن من يقول بتحريمها مفترٍ على الله الكذب ونبرأ إلى الله من حاله:
فقال جلالة الملك أما مسألة الأمر بالمعروف وتعليم الناس دينهم فإننا قد عَيَّنَّا
في جميع البلدان التي توليناها دعاة إلى الله ما عدا بعض عربان في شمال الحجاز
وما عدا العرب الذين قضى الله عليهم هذه الأيام (يعني قبيلة بني مالك جماعة بن
فاضل) فهؤلاء أسعى اليوم في إرسال الدعاة لهم، وإذا كان المشايخ يعلمون
تقصيرًا في هذا السبيل فليخبروني، وأنا أنفذ ما يقولون.
فقال العلماء: إن أمر الرعايا بإقامة دين الإسلام ونفي ضده واجب وأبدى من
كل شيء، وهو من الفرائض التي أوجبها الله على الناس عامة، وعلى ولاة
الأمور خاصة، والذي نعلمه من الإمام أنه مهتم بهذا الأمر، وهو عامل فيه بكل
جهده.
فقال جلالة الملك: أما مسألة القصور فإن القوم يدعون أنكم أنتم الذين بدأتموهم
بالعدوان وذلك بقتل السرية التي أرسلها الدويش لأهل بصيه، ثم غزوات الدويش التي
تبعتها في حين إنني أنا يا ابن السعود ما قمت بذلك، وأنتم يا أهل نجد ما حميتم ذمة
ولي أمركم، وإنهم يزعمون أن هذه القصور ما بنيت إلا مخافة من الخطر منكم:
(الإخوان: نعم إنا نبرأ إلى الله من عمل الدويش وتعلم أننا قاطعنا الدويش
ومن غزا معه، وحرمنا ما حرم مشايخنا من كسبهم ونذكر أننا أتينا إليك وأخبرناك
أننا على استعداد لمهاجمة الدويش ومجازاته ولكن بضمانة شرطين: الأول أن يهدم
القصور المحدثة التي لا نرى لنا حياة بوجودها، والثاني أن يتعهدوا بأنهم لا
يحولون بيننا وبين من نؤدبه كما فعلوا مع جماعة يوسف السعدون، ولم تجبنا إلى
ذلك إلا بعد أشهر حيث أخبرتنا أنهم يقولون بأنهم لا يأوون الدويش إذا فر إليهم،
ولكن القلاع ما زالت قائمة وهو يزيدونها تحصينًا، وما دامت هذه القلاع موجودة
فنقول لك بالصراحة: إن ديننا وحياتنا على خطر، وهم الذين بدأونا بالشر وليس
نحن الذين بدأناهم.
فقال العلماء: إن مسألة القصور وإحداثها أمر نبرأ إلى الله منه ونشهد الله أن
ضررها على الإسلام عامة وعلى العرب خاصة وعلى أهل نجد بصورة أخص
عظيم جدًّا، وما نراها إلا عدوًا نازلاً بساحتنا، وإنه ليس لك يا عبد العزيز إلا أن
تجتهد في إزالتها فإذا أزيلت فأمر الصلح والسياسة إليك وليس لنا، ولا لأحد من
الرعية أن يتداخل فيه، إلا في صلح يُخِلُّ على المسلمين في دينهم أو وطنهم، وأما
مسألة القصور خاصة فإن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله
ويرضى بهذه القصور فنبرأ إلى الله من حاله، ونقول: إن العمل لإزالة هذه
القصور ليس جهادًا بل هو دفاع عن الدين والمحارم.
فقال الإخوان: لقد سمعت يا عبد العزيز ما قاله العلماء فنسألك بالله ما تقول
في هذه القصور.
فقال جلالة الملك: أقول: إن ما قاله علماء المسلمين في هذا الأمر حق،
وهذا الذي أدين به، وإن ضرر هذه القصور علينا ظاهر وباطن، وأبرأ إلى الله أن
أقول غير هذا، وإن ضررها الدنيوي في العاجل والآجل، ولكن أمر هذه القضية
وإنهاءها ومسألة الجهاد أحب أن يكون الحديث فيها في غير هذا المجلس وأريد أن
تنتخبوا من بينكم مقدار خمسين رجلا أجتمع معهم، وأبين لهم جميع ما عندي في
هذه المسألة لنقرر ما يختاره الله لنا، وأما الذي أقوله على ملئكم ويسمعه صغيركم
وكبيركم أني لا أرى لنا حياة كاملة إلا في صلح يثبت حقوقنا كاملة في دفاع عن
حقوقنا لنصل منه أما للظفر أو نموت مدافعين عن حمانا وأوطاننا هذا الذي أدين الله
به وهذا الذي أعاهدكم عليه.
وكانت دموع الخشوع والإخلاص تسيل على الخدود، ثم قام المجتمعون
جماعة جماعة يجددون البيعة لإمامهم، وهم يقولون: نبايعك يا عبد العزيز على
السمع والطاعة، وأن نقاتل من تشاء عن يمينك وشمالك، ولو دفعتنا إلى البحر
لقطعناه وإنا نبايعك على أن نقاتل من ينازعك ونعادي من عاداك ونقوم معك ما
أقمت فينا هذه الشريعة الطاهرة.
وقد جلس جلالة الملك ما يقرب من الساعة والوفود تتقدم إليه وفدًا وفدًا تبايعه
على ذلك وبين يديه أكبر أنجاله سمو الأمير سعود يقدم الناس إلى أبيه ويرتبهم.
***
المائدة
ولما انتهت البيعة أمر بجفان الطعام وكانت مهيئة فجيء بها وجلس الناس
حولها حِلَقًا حِلَقًا، وجلس جلالة الملك في إحدى تلك الحلقات يأكل مع رجال
المؤتمر من تلك الجفان المترعات وهو يؤانسهم بأحاديثه إلى أن فرغوا من طعامهم
وانصرفوا.
***
الاجتماعات التي تلت المؤتمر
وفي المساء علمنا أن خمسين من الجمع اختلوا بجلالة الملك ودام اجتماعهم
من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة ليلاً، وكانت أحاديث لم ينتشر شيء من
أخبارها، ولكن الذي علمناه أن الجميع خرجوا متفقين على خطة واحدة ورأي واحد.
وعلمنا أنه عقب ذلك اجتماعات خصوصية تعددت غير مرة وجميع ما دار
في تلك الاجتماعات من أبحاث وما اتُّخِذَ من مقرَّرَات لم ينتشر شيء منه أيضًا اهـ.
(المنار)
سننشر تعليقنا على هذا المؤتمر التاريخي في الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قال في المصباح: أباح الرجل ماله - أذن له في الأخذ والترك وجعله مطلق الطرفين اهـ فأباح يتعدى بنفسه إلى مفعولين.
(2) هذا الاستعمال من لغة الجرائد فشا في الأمصار وما أظن أن عداوة وصلت إلى نجد من طريق الحجاز ولعله من ناقل الخطاب عبر عنه بالمعنى فزاد فيه كلمة (لذلك) ولا حاجة إليها وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.
(3) كذا في الأصل ولعلها العرض مأخوذ من قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ] (الحاقة: 18) .
(4) لعل أصلها حسيبه فالحسيب المحاسب، والحسب الكافي للمرء ما أهمه وما طلبه.(29/696)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر
قد نشرنا في ص (280 - 291) من جزء المنار الرابع انتقادًا على تفسير
آية من جزء التفسير الثالث مع الجواب عنه، وقد جاءنا في أثناء تحرير هذا
الجزء رد من المنتقد على ذلك الجواب مؤلف من 22 ورقة كبيرة يظهر أنه ألفها
انتصارًا لنفسه ونقحها من عهد نشر ذلك الجزء من عدة أشهر، إن وقتنا أثمن
وأغلى في اعتقادنا من أن يضاع في نقحها من قراءة الجدل والمراء في العبارات
والرد عليها، وصفحات المنار أثمن وأغلى عند قرائه من أن تنشر فيه أمثال هذه
المناقشات كما صرَّحنا بهذا مرارًا، كان آخرها في الجزء الثامن، لذلك لم نقرأ هذا
الرد الطويل؛ بل نظرنا في أوائل الكلام من بعض أوراقه في أثناء وجودنا في
خارج مكتبنا لقضاء بعض الحاج، ورأينا فيما قرأنا منه على قلته ما لا يكفي في
الرد عليه وتفنيده إلا عدة كراسات أو جزء كامل من المنار، وذلك يقتضي استمرار
الجدل والمراء من صاحبه والانتقال منه من مسألة إلى أخرى انتصارًا للنفس
وانتقامًا لها.
وإذا كان ذلك كذلك رأينا أن نقترح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر
الشريف الذين يطلعون على المنار وتفسيره أن يراجعوا الانتقاد المذكور والرد عليه
في الجزء الرابع ويبينوا حكمهم فيهما، فإن حكموا بأن عبارتنا في تفسير تلك الآية
نص قطعي في أن قتل الأنبياء قد يكون بحق، وأنها كفر صريح كما زعم المنتقد
فإننا نستغفر الله تعالى ونعترف بأننا أخطأنا في التعبير خطأ لا يعدو ضعف التحرير،
وإن كان المُنْتَقِد بل المُشَنِّع إن لم نقل المكفِّر لنا أو الحاكم علينا بأننا لا نميز بين
الكفر والإيمان - هو المخطئ إما بجهله بمدلولات الكلام وهو أهون الشَّرَّيْنِ، وإما
بسوء قصده في انتقاده - فله الخيار فيما يفعل.
__________(29/711)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ عبد العزيز شاويش بك
وفاته وشيء من ترجمته
إن العالم الإسلامي قد خسر اليوم بفقد الشيخ عبد العزيز شاويش رجلاً من
أركان حزب الإصلاح المعتدل الذي هو وسط بين المسلمين الجامدين الخرافيين
والمسلمين الجغرافيين الملحدين، لا عزاء عن فقده إلا بما رأينا من إكبار الأمة
لفقده.
يموت في كل يوم كثير من الأغنياء والوجهاء والحكام وأصحاب الألقاب
الرسمية فلا ينشر في الصحف شيء من خبر موتهم وتشييع جنائزهم إلا ما يرسل
إليها من أوليائهم وأقاربهم، ومنها من تذكر له عملاً نافعًا، وتعد فقده خسارًا بَيِّنًا،
ومنها من تصف الاحتفال بجنازته وكثرة من عز من أقاربه، تزلفًا إليهم، أو لمكانة
له أو لهم عند من يكتب ذلك، وقد توفي الشيخ عبد العزيز شاويش في منتصف هذا
الشهر فكان لخطبه من الهزة والاضطراب في البلاد، ما لم يعهد له نظير إلا في
بعض الأفراد، أبَّنَتْه الجرائد على اختلاف سياستها ومشاربها، وأطراه كثير من
الكتاب والأدباء، ورثاه كثير من الشعراء، وبكاه كثير من الأفراد والجماعات،
وعطف جلالة الملك على أولاده فتبرع لهم بألف جنيه وراتب شهري، وقررت
حكومته التبرع لهم بخمسة آلاف جنيه وتعلميهم في المدارس مجانًا؛ لأنهم لا يستحقون
عليها شيئًا من راتب والدهم باسم المعاش ولا غيره لحداثة عهده في خدمتها وقصر
مدتها، وقلما رأينا مثل هذه العناية بأولاد أحد من مستخدميها حتى من كانوا من
أحزاب وزارتها على ما عهد من أكثر وزرائها من محاباة أنصارهم ورجال أحزابهم،
وإنما كان رحمه الله من رجال الحزب الوطني المعارض لكل وزارة والمقرَّر لديه عدم
التصدي لخدمة حكومة بلاده ما دام للاحتلال الأجنبي نفوذ فيها.
لماذا كان لموت هذا الرجل هذا الإكبار الذي حزن قلوب الشعب، وأطلق
ألسنته بالرثاء، وبسط يد حكومته بالعطاء؟ إنما كان كذلك؛ لأن من فقدوه كان
كبيرًا في نفسه، وإن لم يكن كبيرًا في وظيفته، عاليًا في همته، وإن لم يكن عاليًا
في ثروته، وكان يوجه كل ما أوتي من كبر نفس وعلو همة إلى خدمة الأمة والملة
بجرأة جنان، وذلافة لسان، وقوة إيمان، وقلم سيال، وهمة لا تعرف الكلال، وقد
أوتي جميع المواهب التي يكبر بهما التأثير في أنفس الأفراد والجماعات من حسن
صورة وطلاقة وجه، وفصاحة نطق، وجرس صوت، وحسن أداء، وغزارة مادة،
وكان خطيبًا مفوَّهًا، وكاتبًا مدرها، وداعية مؤثرًا.
جاور في الأزهر وانتقل منه إلى دار العلوم، ومنها إلى كلية أكسفورد في
إنكلترة، ولما عاد منها اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام، فتلقح ذهنه بأفكاره، واقتبست
بصيرته من أنواره، وكنت أنا الذي قدمته إليه وذكرت له ذكاءه وغيرته وطموحه
وهمته، وجمعه بين التعليمين الإسلامي والأوربي ... قال: وماذا حذق من العلم
في إنكلترا وبأي شُعَبِهِ كان يُعْنَى؟ قلت: إنه عاد حديثًا، ولما نرو في ذلك عنه
حديثًا، قال: سله كم سنة مكث في الأزهر، فإن كان أطال فيه المكث، فقد فَقَدَ
الاستعداد للعلم، وما أراه حصَّل شيئًا ذا قيمة، فذكرت هذا للشيخ عبد العزيز
(رحمهما الله تعالى) فأغرب واستغرب، وذكر أنه لم يمكث في الأزهر طويلاً.
عينته الحكومة مساعدًا للتفتيش في نظارة المعارف، ورقاه سعد زغلول باشا
في عهد وزارته للمعارف مرة بعد مرة بما يزيد على ما يبيحه له القانون إلا بقرار
من مجلس النظار فاستصدر القرار بعد القرار بذلك، ولكن تلك النفس الطموح
الجموح أو الوثابة الثائرة كما يقول كتاب العصر قد استصغرت الترقي الاستثنائي
واحتقرت كل ما يُرْجَى من ورائه، وكان مَيَّالاً إلى السياسة فاتفق له أن زار مع
زميله وصديقه الشيخ محمد مهدي المشهور مصطفى كامل باشا (رحمهم الله تعالى)
في إدارة جريدة اللواء، وشاهد ما كان ثَمَّ من إقبال الوجهاء والكبراء، فلما خرجا
قال للشيخ مهدي إننا كالموتى مدفونون في نظارة المعارف، ونحن أقدر على خدمة
البلاد بالصحف وغيرها، وكان من تأثير تلك الزيارة في نفسه أن أَعْقَبَهَا زيارات
انجلت عن استقالة الشيخ شاويش من وزارة المعارف وانتظامه في سلك محرري
جريدة اللواء، وكان فيها أشد حماسة في نقد الحكومة المصرية والاحتلال من سائر
المحررين، ومن أشهر ما كتبه فيها مقالات في وزارة المعارف ووزيرها سعد باشا
زغلول عنوانها: (ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل) وهو مثل قبله (أوردها سعد وسعد
مشتمل) .
ههنا أذكر أنني كنت أمدح الشيخ عبد العزيز لسعد باشا بالغيرة الوطنية
والإخلاص ليعنى بجعله من رجاله وأنصاره فقال لي مرة: أين ما كنت تصف
وتقول في هذا الرجل؟ قلت: إنني أعتقد مع هذا كله أنه مخلص فيه، وأن
الإخلاص اضطره إلى ما يسوءك على إحسانك إليه أو ما هذا معناه - فقال ما
خلاصته:
أنا لا أنكر أن في وزارتي ما ينتقد حتى عندي، وإنما أبذل جهدي، وليس
الأمر كله بيدي، ولو لم يقل في الشيخ شاويش إلا ما يعتقده لما كان لي أن أطعن
فيما تصف من إخلاصه (ولكنه كذب عليَّ، والكذب والإخلاص ضدان لا يجتمعان)
هذا إجمال ما دفع به وزير المعارف عن نفسه يومئذ.
إنني لم أذكر هذه الكلمة لسعد كتلك الكلمة التي نقلتها عن الأستاذ الإمام؛
لأنهما مما يؤثر عن أمثال هذين الرجلين العظيمين فقط؛ بل لأستدل به على أن
سعد باشا كان يقدر الرجل قدره بعد ما كان من إساءته إليه ولو حقد عليه لما رضي
في العهد الأخير بتوظيفه في وزارة المعارف وأمر الحكومة كلها بيده.
صار الشيخ شاويش ركنًا من أركان الحزب الوطني وأشد محرر جرائده
اللواء فالمعلم فالشعب حماسة في مشربه، ولكنه لم يقف قلمه على السياسة وحدها
فيها، بل أنشأ مجلة باسم (الهداية) غرضها الإصلاح الديني كالمنار، وكان ينشر
تفسيرًا عصريًّا للقرآن المجيد، ويطرق سائر أبواب الإصلاح الإسلامي المدني،
وكان الفرق بين خطتي المجلتين أن إحداهما كانت أشد التزامًا للنصوص والأخرى
أشد عناية بالمصلحة.
ثم إنه اتصل من طريق الحزب الوطني بجمعية الاتحاد والترقي التركية
وتطوع لخدمة الدولة العثمانية تحت لوائها، وقاوم مشروع الدعوة والإرشاد
بإغرائها، كما جاهد في مقاومة الحركة العربية التي حدثت تجاه العصبية
الطورانية التركية، وبها صرنا على طرفي نقيض، وشرح هذا لا يليق هنا، ثم
التقينا في برلين وتصالحنا بسعي صديق الجميع الأمير شكيب أرسلان، وبعد أن
عاد إلى مصر نشرت له في المنار تلك المقالة التي كتبها في مفاسد مقاومة الترك
الكماليين للدين؛ لأنه رجع فيها إلى رأينا في ملاحدة الترك وعداوتهم للإسلام،
وللعرب وقوم خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
عاد الأستاذ رحمه الله تعالى إلى مصر بعد غربة طويلة قاسى فيها شدائد
عظيمة في أثناء الحرب وبعدها متنقلا بين الآستانة وسورية والمدينة المنورة،
واشتغل بالتدريس في المدرسة الإصلاحية التي أسسها الاتحاديون في القدس
الشريف وهي مدرسة دينية مدنية، كان لهم فيها أغراض سياسية، ثم عاد إلى
الآستانة، وتنقل بعد انكسار الدولة في أوربة إلى أن ألقى عصا التسيار في ألمانية
فكان يشتغل فيها بإرشاد المصريين من طلاب المدارس ولا سيما المنتمين إلى
الحزب الوطني، ولما ظهر سعد باشا بحركته الجديدة في الوفد المصري كان السواد
الأعظم من أولئك الطلبة في ألمانية، وكذا في سائر أوربة مشايعين له وضعف نفوذ
الفقيد فيهم وقد كان هذا نافعًا له؛ لأنه صرف كل همته إلى المطالعة والاستزادة من
العلم فاستفاد كثيرًا؛ ولما عاد إلى مصر بعد ذلك كله عاد باستعداد عظيم لخدمة
الأمة بعلمه الواسع واختياره الدقيق، فتصدى للدخول في مجلس النواب المصري
بأن رشَّح نفسه للانتخاب في الإسكندرية بمساعدة الحزب الوطني فلم ينجح
لمعارضة مرشح الوفد السعدي له، ثم إن الحكومة عينته بعد ذلك رئيسًا لإدارة
التعليم الأوليّ في وزارة المعارف فنهض بها نهضة عظيمة، وكان هو المدير
الوحيد الضليع بالجمع بين أحدث خطط التعليم النظامي الأوربي مع مراعاة التربية
الدينية والعقائد الإسلامية.
ولكن طموحه وعلو همته أبى عليه الاكتفاء بهذه الخدمة الجليلة فكنت تراه
يساعد الجمعيات الإسلامية المتعددة كجمعيات المواساة الإسلامية ومكارم الأخلاق
والشبان المسلمين وكان قد أصيب منذ سنين بضعف في القلب أقعده عن الوصول
إلى كل ما يطمح له ويرمي إليه، ويقال: إنه كان مع هذا كله ينوي إعادة إصدار
مجلته غير مُبَال بنصح الأطباء له، فانتهى ذلك بقضاء القلب الروحي على القلب
الجسدي، وتوفي في وقت اشتدت حاجة أمته فيه إلى خدمته لها في دينها ودنياها
فرحمه الله تعالى وأحسن عزاءها فيه وعزاء أهله وولده وحزبه.
__________(29/712)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المجالس الملية
لماذا لا نتمتع في بلادنا بعد انتقال السلطان فيها إلى غيرنا
بمثل ما متعنا به غيرنا في عهد سلطاننا؟
سمحت الحكومات الإسلامية في بلادها لغير المسلمين بأن يستقلوا بأمورهم
الدينية وما يتعلق بها من مصالحهم الملية، ويتصرفوا فيها بحريتهم فكانت إدارة
كنائسهم وبِيَعِهم وأديارهم وما لها من الأوقاف الواسعة في أيديهم، وكان رؤساؤهم
الدينيون يتولون إقامة عباداتهم وشعائرهم والحكم بينهم في أمورهم الشخصية من
زواج ونفقة زوجية وحضانة وإرث وغير ذلك لا تنازعهم الحكومات الإسلامية في
شيء منها، ولكنهم إذا تحاكموا إليها في شيء تحكم بينهم بما تحكم بين المسلمين
سواء، والأصل في ذلك قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما أراد اليهود
أن يتحاكموا إليه: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ
شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) .
ولما انتقل الحكم في بعض البلاد الإسلامية إلى الدول الإفرنجية لم يعاملوا
المسلمين فيهم بمثل ما كانوا يعاملون به أقوامهم ولا اليهود والنصارى وغيرهم من
أهل هذه البلاد، بل وضعوا عليهم سيطرة بعضها ثقيل وبعضها دونه، فهي تختلف
باختلاف أشكال تلك الحكومات وصفة الاستيلاء عليها وبحسب درجة أولئك
المسلمين في معرفة حقوقهم ومصالحهم وفي تعاونهم واتحادهم على المطالبة بها
والقيام بشئونها، حتى إن بعض تلك الحكومات استولت على أوقاف المسلمين كلها
في بعض الأقطار، ولم تُبْقِ لهم تصرفًا في شيء منها لا صورة ولا حقيقة، وهي
تمد السبيل إلى مثل ذلك في قطر آخر.
فهذه الحكومة البريطانية التي هي أدهى الحكومات الاستعمارية وأدقها حكمة
وأشدها حرصًا على حسن الصيت والتبجح بعدم التعصب لم تنصف المسلمين في
الهند في أوقافهم ولا أحكامهم الشخصية، ولكنها أنصفتهم في فلسطين وحدها
بالسماح لهم بإدارة محاكمهم الشرعية وأوقافهم الخيرية وتعليمهم الديني فناطوا ذلك
بمجلسهم الملي الذي أسسوه برضاها وسموه (المجلس الإسلامي الأعلى) فقام به
قيامًا لا نعلم له نظيرًا في قطر إسلامي آخر، وكان الفضل الأكبر في هذا لرئيس
هذا المجلس الحازم الشجاع السيد محمد أمين الحسيني الذي يجدر بفلسطين أن
تفتخر به على جيرانها، وحسبه منقبةً ما قام به من جمع المال العظيم لعمارة
المسجد الأقصى، ولدينا من العلم بما تفعل الحماية الفرنسية في المغرب الأقصى
من التصرف في أوقاف المسملين ومراقبة أمورهم الشرعية والدينية ما يخشى أن
تكون عاقبتهم فيه شرًّا من عاقبة مسلمي الجزائر لا تونس فقط! !
***
المجلس الملي
الإسلامي في بيروت
وقد فكر مسلمو بيروت عقب الاحتلال الأوربي لسورية بعد الحرب الكبرى
في إنشاء مجلس ملي؛ إذ كلف وجهاؤهم المرحوم أحمد مختار بك بيهم وغيره
بإقناعي بأن أتولى إدارة شئونهم الدينية كلها إما بتفويضهم ذلك إليَّ شخصيًّا، وإما
بالاستعانة بمجلس ملي بعد أن اقترحت عليهم هذا المشروع، وذكرت لهم مجلس
القبط الملي بمصر، ولكنني اعتذرت عن قبول ذلك، وكان ذلك في أثناء إلمامي
بسورية في أواخر سنة 1918 ومما رغَّبَنِي فيه أحمد مختار مع بعض أصدقائه أن
المسلمين يتعهدون لي بأداء زكاة أموالهم لأصرفها في مصالحهم بما أراه.
ومن الغريب أن بعض رجال فرنسة المحتلة عرض عليَّ وقتئذ من قبل
المندوب السامي الأول (جورج بيكو) أن أنقل مركزي من مصر إلى بيروت؛
لأكون زعيمًا للمسلمين فيها، وأنه - أي المندوب السامي- يعدني بأن حكومته
تعترف لي بما يراه المسلمون من إمامة وزعامة لهم وتسهل لي عملي في إصلاح
شئونهم الدينية والأدبية.
ولم تزل أمنية المجلس الملي تجول في أنفس مسلمي بيروت حتى حققها الله
في هذه السنة فوضعوا له نظامًا وانتخبوا له أعضاء من خيرة الشبان المعروفين
بالغيرة والنشاط فسررنا بذلك جد السرور ويا حبذا لو كان معهم بعض فضلاء
الشيوخ وتمنينا لو يتبعهم فيه مسلمو طرابلس وسائر الأمصار، فيؤسسون فيها
مجالس ملية كهذا المجلس؛ ثم يؤلفون في سورية وملحقاتها ولبنان بينها،
فيجعلون لها مجلسًا كليًّا جامعًا يسمونه المجلس الإسلامي الأعلى للمصالح الملية
ترجع إليه المجالس الموضعية في الشئون العامة المشتركة كالتعليم الديني والإدارة
العامة للمحاكم الشرعية وما يخص ذلك من ريع الأوقاف مع مراعاة الأحكام
الشرعية فيها، وفي شروط الواقفين التي لا تنافي الشرع.
وقد اتفق في هذه الأيام أن بعض رجال حكومة لبنان الكبير اقترح عليها سلب
المحاكم الشرعية الحكم في قضايا غير المسلمين فسَنَحَتْ للمسلمين فرصة المطالبة
بجعل هذه المحاكم تحت إدارة المسلمين ورفع سلطة وزارة الحقانية اللبنانية عنها
وجعلها كمحاكم البطركيات لطوائف النصارى التي تحكم بين أبناء كل طائفة في
أمورهم الشخصية، فإن حكومة لبنان غير إسلامية وقد راعت السلطة الفرنسية فيما
ألحقته بلبنان من البلاد السورية أن يبقى أكثر أهله من النصارى؛ لتكون لهم
السلطة العالية، فليس من العدل والمساواة ولا الإنصاف في شيء أن تكون
محاكمهم الملية وأوقافهم غير تابعة لإدارة الحكومة التي تعد مسيحية، وتكون محاكم
المسلمين وحدها وأوقافها هي التابعة لهذه الحكومة.
__________(29/715)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التبرع الملكي في مصر لترميم المسجد الأقصى
زار مصر في هذا الشهر صاحب السماحة الأستاذ المصلح السيد محمد أمين
الحسيني مفتي القدس الشريف ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لفلسطين
وتشرَّفَ بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم بقصر عابدين فنال من عطفه الملكي
ما ملأ قلبه غبطة وأنطق لسانه بالشكر، وقد عرض على مسمعه ترميم المسجد
الأقصى وإصلاحه ورفع إلى جلالته رسوم المسجد وقبة الصخرة وفيها ما تم ترميمه،
وما بقي وغير ذلك من الرسوم فتفضل جلالته بخمسة آلاف جنيه مصري
للمساعدة على الإكمال، فكان لهذا التبرع الملكي أحسن تأثير في قلوب المسلمين
عامة ومسلمي فلسطين خاصة، ونوَّهَت بذلك جميع صحف القطرين ناشرة
للبرقيات والرسائل الكثيرة في الثناء على مكارم جلالته والدعاء بطول بقائه مؤيدًا
للإسلام عامرًا لمساجده ومعاهده الدينية والخيرية والعلمية.
وقد زاد في قيمة هذا النَّوَال من ملك مصر في هذا العصر ما يراه المسلمون
من بعض ملوك أعاجم المسلمين ورؤساء حكوماتهم من نبذ هداية الإسلام وشريعته
وراء ظهورهم وإباحة الارتداد عنه لشعوبهم، بل إكراههم على ترك مقوماته
ومشخصاته بالتدريج حتى لغة القرآن والسنة وحروفها العربية المُذَكِّرَة بها.
وقد توجهت همة السيد الحسيني إلى استنداء أكُف أمراء البيت العلوي المالك
ونبلائهم وغيرهم من أغنياء هذا القطر الإسلامي الذي هو أرقى الأقطار الإسلامية
ثروة وحضارة وكرمًا بالتبرع لإحياء هذا المعهد الإسلامي العربي الذي هو أعظم
آثار الحضارة العربية وأفخم المعاهد الإسلامية، والمرجو أن يجودوا بما قدر لإتمام
العمارة وهو ثلاثون ألف جنيه، وما ذلك على ثروتهم وكرمهم بكثير، وحينئذ نقول:
إنهم ما قصروا في التبرع له أولاً، إلا ليكون لهم فضل الإتمام والإكمال آخرًا.
__________(29/717)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإلحاد ودعاته في مجلة الرابطة الشرقية
والأستاذ أحمد أمين
راجعني تلميذ لي في عدِّي الأستاذ أحمد أمين من أركان دعاة الإلحاد الذي
سقط من قلمي في انتقادي على مجلة الرابطة قائلاً: إنه لم يعرف عنه هذا وليس
في مقاله في تلك المجلة شيء صريح فيه، وذكَّرني بأنه هو المتخرج في مدرسة
القضاء الشرعي الذي كان قاضيًا شرعيًّا فاعترفت له آسفًا بأنني أخطأت في عده
من أركانهم؛ لأنه اشتبه عليَّ بكاتب آخر كتب مقالات إلحادية كثيرة في جريدة
السياسة، ولكنني لا أراني مخطئًا في نظم مقالته التي نشرتها له تلك المجلة في
سلك سائر مقالاتها التي تؤيد دعاية ما أَعْنِيه بكلمة الإلحاد، على أنني جعلت عنوانها
(الدعوة إلى التفرنج) ورأيت من الواجب عليَّ الآن أن أفسر في المنار ما أعنيه
بكلمة الإلحاد التي يشتمل عمومها على تلك المقالة، فقد علمت أن بعض الناس
يفهمونها مرادفة لكلمة الكفر والتعطيل، والصواب أنها أعم من ذلك لغة وشرعًا كما
بينته بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) إذ قلت
في أوله ما نصه:
وأما الإلحاد فمعناه العام الميل والازْوِرَار عن الوسط حسًّا أو معنًى، والأول
هو الأصل فيه كأمثاله وبعد ذكر الألفاظ والجمل المستعملة من هذه المادة قلت:
ولما كان (خيار الأمور أوساطها) كان الانحراف عن الوسط مذمومًا، ومنه
أخذ التعبير عن الكفر بالتعطيل والشك في الله تعالى بالإلحاد، ويسمى ذووه
الملاحدة والملحدين، ثم نقلت ما قاله الراغب في مفردات القرآن تفسيرًا لهذه المادة
ومنه:
ألحد فلان: مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله،
وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عُرَاه
ولا يبطله إلخ، ثم بيَّنْتُ أن الإلحاد في أسمائه تعالى سبعة أنواع (راجع ص
440 - 448 ج9 تفسير) .
فأنا أعني بالإلحاد في كل ما أرد به على الملاحدة المعنى العام الذي يشمل الكفر
المُخْرِج من الملة وغير المُخْرِج منها وما ليس بكفر مما يضعف الإيمان ويوهن
روابط الإسلام اللغوية والاجتماعية كالثقافة اللادينية التي كانت تدعو إليها جريدة
السياسة وغيرها، وكثير مما يسميه جماعة الكتاب اللادينيين بالتجديد كأزياء
الرجال والنساء الإفرنجية التي جعلها مصطفى كمال باشا ومريده أمان الله خان من
أركان الإصلاح لما يقصد بها من إنساء المسلمين جميع ماضيهم، ومن أركانها
استبدال الحروف اللاتينية بالعربية وغير ذلك من الميل عن الوسط إلى إفراط أو
تفريط في الشئون الإسلامية، وليس منها تجديد الصناعات والفنون العسكرية
والمالية والتجارية وأمثال ذلك مما يزيد قوة الأمة وثروتها بل هذا واجب شرعًا.
ويرى القراء في عناوين مقالنا في الإنكار على مجلة الرابطة ما يدل على هذا
التقسيم للآراء الإلحادية ولا سيما التفرقة بين دعاية سلامة موسى إلى هدم الإسلام
ودعاية أحمد أمين إلى التفرنج، فثبت من كل ما تقدم أننا لا نعد كل ما ننتقده من
التجديد المدني إلحادًا، ولا كل إلحاد وتفرنج كفرًا يخرج به صاحبه من الملة.
هذا وإن مقالة المنار في الإنكار على مجلة الرابطة الشرقية قد كان لها وقع
عظيم في نفوس المسلمين هنا، وربما كان وقعها أعظم في سائر الأقطار الإسلامية
التي لم يوجد فيها من حرية الإلحاد مثل ما هو معهود في مصر.
نشرتها جريدة كوكب الشرق اليومية التي يقال: إنها الآن أوسع صحف
القطر انتشار، ونشرتها صحيفة الفتح الأسبوعية، وقد جرى حديث بين أحد
محرري الكوكب وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا في موضوع المقالة كانت فيه
أجوبة سعادته للمحرر مُشْعِرَة برضاه عن تلك المقالات التي انتقدناها على المجلة إلا
مقالة سلامة أفندي موسى فقد اعتذر عنها بحرية النشر ... فكان ذلك موجبًا لمزيد
استياء المسلمين كما بينته مجلة الفتح، وجرى بيننا وبين سعادته وسماحة الرئيس
في المسألة ما لا ينبغي لنا أن ننشره؛ لأنه من أمانة المجالس ثم جرى حديث آخر
في جلسة مجلس إدارة الرابطة الأخيرة، وقد علم من كل هذه الأحاديث أن هيئة
تحرير مجلة الرابطة ستبين رأيها في انتقاد مجلة المنار لها بما يصح أن يبنى عليه
رأي مجلس الإدارة فيها وكذا الرأي الإسلامي العام بالأولى، فعسى أن يوفق صاحبا
السماحة والسعادة الرئيس والوكيل إلى انتياش المجلة من الورطة التي نشبت فيها
بشذوذ الأستاذ رئيس التحرير الذي لم يعرفا كُنْهَه من قبل، وإن ما نعهده فيهما من
الحنكة والحلم والروية جدير بأن ينتصر على ما عنده من الشرة والحدة والإصرار،
وقد بلغنا أنه يستعد للانتقام منا بنقد التفسير وغير التفسير من الآثار والمطبوعات،
وما نقده بالذي يخيفنا ونحن نعرض كل ما نكتبه للنقد وننشر ما يرسل إلينا منه،
وإن كان تجهيلاً وتضليلاً، حتى لامنا خيار قراء المنار على إضاعة أوقاتنا
وأوقاتهم في ذلك، وإنما نحسب حسابًا لما عسى أن يكون لإطلاق العنان له في
مجلة الرابطة من تأثير سَيِّئٍ في جمعية الرابطة وتأثير أسوأ في جميع المسلمين،
وإنا للجزء الثالث منها لمنتظرون.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/718)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الهداية الإسلامية
مجلة إسلامية علمية أدبية تصدرها جمعية الهداية الإسلامية ويحرِّرها نخبة من
أعضائها مديرها رئيس الجمعية (محمد الخضر الحسين) ألا وهو صديقنا الشيخ
الأستاذ التونسي الزيتوني الأزهري العالم الفاضل الكاتب الخطيب المتفنن، فنعمت
الجمعية ونعم المدير، ورئيس التحرير، والمجلة تصدر في كل شهر، مؤلفة من ست
كراسات (48صفحة) مع الوعد بأن ستصدر مرتين في الشهر، وقيمة الاشتراك
السنوي فيها ثلاثون قرشًا في القطر المصري، وأربعون قرشًا في سائر الأقطار،
ولطلاب العلم عشرون قرشًا، فنحث المسلمين على قراءتها؛ لأنها من المجلات التي
نعتقد فيها تحامي خلط الخرافات والبدع بالشرع والتوسل لخدمة الإسلام بما
يخالف دين الإسلام كما نرى في كثير من الصحف الإسلامية أو المسلمية.
__________(29/720)
شوال - 1347هـ
أبريل - 1929م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسائل إخوان الصفاء
لما تُرْجِمَتْ كتبُ الفلسفة بالعربية، وخاض المسلمون فيها وجدوا فيها ما
يخالف التعاليم الإسلامية أو النصوص التي ذكر فيها الخلق والتكوين من الكتاب
والأحاديث النبوية فتصدى علماء الكلام للرد على ما رأوه معارضًا؛ إذا لم يمكنهم
الجمع بينه وبين النصوص القطعية أو بتأويل ما ليس بقطعي منها.
وكان علماء الأثر يردون كل ما رأوه مخالفًا للظواهر، وأما أعداء الإسلام
المجاورة فكانوا يردون نصوصه مما يتلقفون من الفلسفة بزعمهم أنها حقائق ثابتة،
وقلما يثبت منها شيء ثبوتًا قطعيًّا، وأما أعداؤه من الزنادقة والمنافقين فكانوا
يتأولون نصوص الكتاب والسنة بحملها على أقوال الفلاسفة التي يزعمون أنها هي
الحقائق العليا التي يرتقي إليها خواص العلماء، وأن ظواهر الشريعة وسائل إقناعية
يراد بها تهذيب العامة، وأساطين هذه الضلالة فريقان: ملاحدة الصوفية الأعجمية
وزنادقة الباطنية.
وكان غرض هؤلاء سياسيًّا غايته عندهم إفساد دين الإسلام على أهله لإزالة
سلطان العرب من فارس ثم من سائر البلاد كالإسماعيلية ثم دخلوا في أطوار أخرى.
من هذا الفريق فريق الباطنية مؤلفو الكتب المشهورة برسائل إخوان الصفاء
وهي مشهورة، وقد طبعت في هذه الأيام بمصر بسعي بعض الملاحدة المعاصرين
وهم يروجونها لمثل الغرض الذي ألقيت لأجله، وهو إفساد عقائد المسلمين التي
يهاجمونها بالفلسفة العصرية وبغير الفلسفة مما يسمونه علمًا وأدبًا وفنًّا، ويجمع هذه
المعاني عندهم كلمة الثقافة.
لأجل هذا رأينا من الواجب علينا شرعًا أن نعتني ببيان الحق ونكشف ما
يغشيه من الدسائس والتلبيسات، وأول ما نبهنا إلى ذلك رسالة نشرت في المقطم
أيضًا، وهذا نص الرسالة والفتوى:
حضرات الأفاضل أصحاب
المقطم الأغر
قرأت ما دبَّجَتْه يراعتكم حول كتاب أعياني فهم مرامي مؤلفه أو مؤلفيه على
حد رأي الأستاذ زكي باشا ووقف نظري عند قولكم: (إن حرية الرأي في الزمن
الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة الفلسفية الهامة) أو ما في معناه فعلمت أن
لهذا الكتاب خطره وقيمته، وأنه كتب بأسلوب خاص لا يفطن إلى ما فيه من دقة
متعملة وأسلوب مُلْتَوٍ إلا من وُهِبَ اطِّلاعًا واسعًا على مختلف ما أنتجت العقول
الجبارة في القديم والحديث، ولا أكتمكم أني قرأ مقدمتيه مرات متكررة لعلي أعثر
على مفتاح السر فكان جُلُّ ما ظفرت به أن الدكتور طه حسين يقول:
(إن هذه الجماعة (إخوان الصفا) كانت متبرمة بنظام الحكم في بغداد
والقاهرة وأنها ما ألفت كتابها إلا لتغرس بذور تربية خاصة لإعداد جيل يغير
هذا النظام الممقوت مسترشدة في هذا برأي فلاسفة اليونان في التربية والنظام
السياسي) .
أما مقدمة العلامة زكي باشا فكلها كَرٌّ وفَرٌّ وبحث وتنقيب حول مؤلف الكتاب
أواحدٌ هو أم جماعة؟ وخرج الباشا ظافرًا بأنهم جماعة ولكن واحدًا منهم لم يعرف.
لكن الأولى بالعناية من كل هذا هو موضوع الكتاب، وما فيه من بحوث
علمية دقيقة وإشكالات عويصة لم يتعرض واحد من الذين كتبا للكتاب تصديرًا لذكر
شيء منها، بل هربوا هربًا ليس فيه من اللباقة بقدر هرب المقطم بقوله: (إن
حرية الرأي في الزمان الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة إلخ) وإذن فقد أصبح
من حقي كقارئ من قراء جريدتكم تعود الثقة فيما تكتب والصراحة فيما تبدي من
رأي أن أستوضحكم عما يأتي: قال إخوان الصفاء في الجزء الأول: (إن الله خلق
النفس والنفس هي التي تدبر العالم، فلعل معنى هذا أن للعالم صانعين؟
ثم قالوا: إن السموات السبع أو الكواكب السبعة هي كرات جوفاء سابحة،
كل كوكب منها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، وإنها تدور وفق قرانات خاصة
ودوراتها مع اختلاف القرانات هو مبعث ما في العالم من خير وشر وشقاء وسعادة
وعدل وجور وليس فوق الكواكب السبعة إلا الفلك الأول وهو مبعث الحركة
والدوران فهل معنى هذا أن الفلك الأول هو الله؟ أو أي شيء هو إذا لم يكن كوكبًا
وإلهًا مع أنه يُكْسِب الكواكبَ الدورانَ والسبوح؟ وأين اللوح وأين العرش وأين
الكرسي وأين القلم؟ أيصح لي أن أسميهم ولو من باب حرية الفكر غير مسلمين،
وإن حمدوا الله وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم واستشهدوا بالقرآن.
أخاف أن أكون قد ثقلت على حضرتكم في توجيه أسئلتي وأخاف أيضًا أن
يحول عملكم فيما أخذتم به على أنفسكم من الخدمة العامة دون إجابتي، لكنه لا
يخيب لي سؤال ما دمت أعلم أن للأستاذ لطفي جمعة المحامي جولات فسيحة على
صفحات جريدتكم وهو ممن اشتهروا بالاطلاع الواسع في الفلسفة القديمة والحديثة،
وإن كان عند الأستاذ ما يحول دون إرشادي فلا عدمت من فيلسوف الشرق وحكيم
الإسلام الأستاذ طنطاوي جوهري هاديًا ومرشدًا سيما وقد قضى زهاء نصف
قرن وهو يوفق بين القرآن والعلوم الطبيعية والرياضية والكيميائية وغيرها من
فنون العصر الحديث، هذا وأختم عجالتي هذه بأن أهيب بحارس الشريعة خليفة
الأستاذ الإمام مولانا السيد رشيد رضا أن يفتينا فيمن ينكر العرش والكرسي واللوح
والقلم، ثم يحمد الله ويصلي على نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم، وإلا فهل
لهذه الأسماء مدلولات غير المدلول العادي، أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحائر القَلِق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي درويش
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بالمدارس الإلزامية
جواب الاستفتاء في إسلام
مؤلفيها وأمثالهم
نشر المقطم منذ شهرين رسالة للأستاذ علي درويش المدرس في بعض
المدارس الإلزامية في رسائل إخوان الصفاء المشهورة التي كانت طبعت كلها في
الهند وطبع بعضها في مصر، وأعيد طبعها في هذه الأيام فرأيت صاحب الرسالة
يستفتيني في خاتمتها (فيمن ينكر العرش واللوح والقلم ثم يحمد الله ويصلي على
نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم؟ وإلا فهل لهذه الأسماء مدلولات غير
المدلول العادي؟)
أي كما يزعم مؤلف أو مؤلفو تلك الرسائل فأقول:
إن هذا الاستفتاء مهم جدًّا؛ لأن المسألة واقعة في عصرنا فإننا نجد في
مصرنا، وفي غيرها من الأمصار أناسًا كإخوان الصفاء ينتمون إلى الدين
ويجحدون بعض أصوله القطعية ويكذبون كتابه المقدس بضرب من خلابة التأويل
الذي تتبرأ منه لغة الكتاب ونصوصه وآياته البينات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ
أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 8-9) .
إن الذي حقَّقه شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية في رسائل إخوان الصفاء
هو أنها لبعض الباطنية الذين كانوا يظهرون الإسلام على مذهب الشيعة، ويسرون
الكفر به والعداوة له ويحاولون هدمه وصرف أهله عنه بالتشكيك فيه والتأويل
لنصوصه لا تأويل صفات الله وأفعاله ونصوص عالم الغيب من العرش والكرسي
واللوح فقط.
بل كانوا يتأولون نصوص العبادات التي هي أركان الإسلام أيضًا حتى لا
يبقى عنده من الإسلام شيء على ما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم
ويستعينون على ذلك بالفلسفة اليونانية، وكان منهم خلفاء الفاطميين بمصر، وكانت
لهم دعاية إلى الإلحاد منظمة بيَّنَها المؤرخون وعلماء المقالات في نِحَل المبتدعين.
ويجد القارئ لتاريخ المقريزي المشهور خلاصة لها في الجزء الثاني منه في
سياق الكلام على أولئك الخلفاء يذكر فيها (وصف الدعوة وترتيبها) وهي تسع
درجات أو دعوات مرتبة تبدأ بالسؤال (عن المشكلات وتأويل الآيات ومعاني
الأمور الشرعية وشيء من الطبيعيات ومن الأمور الغامضة) يذكر المقريزي أمثلة
منها؛ ثم إن الداعي ينقل المدعو من درجة إلى أخرى بعد أن يقتنع بالسابقة حتى
إذا ما رسخت في نفسه جميع الدرجات كاشفه بالنتيجة المُرَادة من الدعوة ومنها قول
الباطل الخادع:
(إن الوحي إنما هو صفاء النفس فيجد النبي في فهمه ما يُلْقَى إليه ويتنزل
عليه فيُبْرِزُه إلى الناس ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما
يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب العمل بها حينئذ إلا بحسب الحاجة
من رعاية مصالح الدهماء بخلاف العارف فإنه لا يلزمه العمل بها ويكفيه معرفته،
فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما
هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأغراض والأسباب (ويعني
باليقين هذا قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر: 99) أي
فحينئذ تسقط العبادة) .
ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطفاء أصحاب الشرائع إنما هم
لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة) إلخ.
وذكر قبل ذلك في الدعوة السادسة أن المدعو إذا تمكن في المرتبة الخامسة
أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة
وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة على
عجلة تؤدي إلى أن هذه الأشياء وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة وسياستهم
حتى يشتغلوا بها على بغي بعضهم على بعض، وتصدهم عن الفساد في الأرض،
حكمة من الناصبين للشرائع وقوة في حسن سياستهم لاتباعهم، إتقانًا منهم لما رتَّبوه
من النواميس ونحو ذلك حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعو.
فإذا طال الزمان وصار المدعو يعتقد أن أحكام الشريعة كلها وضعت على
سبيل الرمز لسياسة العامة، وأن لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، نقله
الداعي إلى الكلام في الفلسفة وحضَّه على النظر في كلام أفلاطون وأرسطو
وفيثاغورس ومن في معناهم ونهاه عن قبول الأخبار (أي الأحاديث النبوية)
والاحتجاج بالسمعيات (أي نصوص القرآن) وزيَّن له الاقتداء بالأدلة العقلية
والتعويل عليها، فإذا استقر ذلك عنده واعتقده نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة
ويحتاج ذلك إلى زمان طويل) اهـ المراد منه.
إذا علم المستفتي هذا، وعلم أن إخوان الصفاء من هؤلاء الباطنية الملاحدة
الذين كانوا يُظْهِرُون الإسلام ويُسِرُّونَ الكفر علم أن حمدهم لله وصلاتهم على نبيه
خداع للمسلمين؛ ليقبلوا كلامهم، ولذلك قال بعض الفقهاء: إن من علم حاله منهم
لا يعتد بدعواه التوبة والرجوع إلى الإسلام، وإن نطق الشهادتين وصلى وصام
وزعم أنه مسلم.
وليس كل تأويل من تأويلاتهم للنصوص ارتدادًا عن الإسلام بحيث لو قال به
غيرهم يُعَدُّ مرتدًّا بل منه ما هو كفر صريح، ومنه ما هو ابتداع قبيح، ومنه ما
هو محتمل للترجيح والتجريح، ولكنه كله صادر عن الإلحاد في الدين والغرض
منه إفساد عقائد المسلمين، ولذلك صار لقب الإلحاد والزندقة في القرون الوسطى
علمًا عليهم، قال صاحب المصباح المنير: والملحدون في زماننا هذا هم الباطنية
الذين يدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وأنهم يعلمون الباطن فأحالوا بذلك وجه
الشريعة؛ لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن اهـ.
وهذا حكم ملاحدة زماننا غير المجاهرين بالكفر والتعطيل، والطعن في محكم
آيات التنزيل، وقد ثبت عندنا أن لبعضهم جمعية كبعض جمعيات الباطنية تعنى
بإفساد العقائد وتنكر ضروريات الشريعة، وتزعم أن الإسلام دين روحاني لا
تشريع فيه يجب اتباعه، بل يجوز لأهله أن يأخذوا بكل قانون يعجبهم ويتبعوا كل
دولة تحميهم وتعزهم، وهم يبنون دعايتهم على تفضيل كل جديد على كل قديم
فالتشريع البلشفي على قاعدتهم خير للحضارة من التشريع الإسلامي فبعض ما
يقولونه وينشرونه ارتداد عن الإسلام لا يحتمل التأويل، ولا ينفع معه النطق بكلمة
التوحيد، وبعضه ليس ردة ظاهرة في نفسه، ولكنه صادر عنها، ولهم صحف
تنشر دعايتهم لا يخفى على أحد أَمْرُها.
ويقال: إن لبعضهم علاقة ببعض الجمعيات الغربية من بلشفية وتبشيرية،
وإن جل عنايتهم موجهة إلى إفساد عقائد طلبة المدارس ولا سيما العليا وهم
يحرصون على إضلال أذكيائهم واصطناع الكتاب والخطباء منهم، ولهم من الكبراء
من يؤيدهم فهو أكبر خطر على دين الأمة ودنياها، كما سنبين ذلك في مقالات
أخرى ننشرها في مجلتنا (المنار) وغيرها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(29/747)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير المنار
شهادات علماء العصر له
(تقريظ العلامة الفقيه الأديب، الكاتب الشاعر الخطيب، صديقنا الأستاذ
الشيخ إسماعيل الحافظ الشهير من نابغي تلاميذ الأستاذ الإمام ومريديه، وعضو
محكمة فلسطين الاستئنافية الشرعية في القدس الشريف) .
قال بعد رسوم الخطاب:
تشرفت بالتحفة السنية التي تفضلتم بإهدائها إليَّ، وهي الجزء الأول، ثم
الجزء التاسع من تفسيركم الكبير المعروف بتفسير المنار وهو الذخيرة الثمينة،
والحجة القويمة، والنعمة الورافة، والقدوة المتبعة، التي طالما ارتقبها المخلصون
ليفوزوا باقتنائها، ويهتدوا بضيائها، وينعموا بآلائها، ويتقدموا إلى معرفة الحق
الصريح، وممارسة العلم الصحيح، تحت لوائها.
قرأت الجزء الأول من هذا التفسير وقسمًا غير قليل من الجزء التاسع فعلمت
كيف يختص الله من يشاء من علماء هذه الأمة بفضله، فيفضي إليهم بسر شريعته،
ويكمل نفوسهم بفقه دينه، ويقيمهم على الطريق السوي، في فهم كتابه، والتحقق
بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوهما إلى الناس في كل زمان على الوجه
الملائم لذلك الزمان، ورأيت بعين الإعجاب كيف أحاط السيد الكريم حفظه الله
بمقتضيات الزمان، ونفذ إلى روح العصر، ووقف على ما حدث فيه من مسائل
العلم ومشاكل الاجتماع، وما تجدد من مذاهب وآراء، ومزاعم وأهواء، وما نبغ
من شبهات وشكوك يثيرها دعاة الإلحاد إرضاء لأهوائهم، ومن أباطيل وأضاليل
ينشرها رجال التبشير توصلاً إلى غايتهم، وكيف قدر حالة المسلمين إزاء ذلك كله
وحاجتهم الماسة إلى هداية قرآنية تنقذهم من ظلمات هذه المدنية الحاضرة
وشرورها، وتأخذ بيدهم إلى الأخذ بمحاسنها والاستضاءة بنورها، فأخرج لهم
تفسيره هذا لم ير الناس مثله تفسيرًا تُبَادر القارئ فائدته، وتدنو من المستفيد
قطوفه، وتملأ القلوب جلالته، ويأتي على أقصى ما يطلب المتفهم من معاني
الآيات، ومن نكات بلاغتها ووجوه إعجازها، وما يقتبسه من نور هدايتها،
بأسلوب فذ طريف يلقيها به في نفسه، ويقر ما يلقيه من ذلك بشواهد من نفس القرآن
الحكيم، وبطرائف من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وشمائله وجوامع
كلمه، بعد التثبت منها وتمحيصها تمحيصًا قلما كتب مثله لأحد من قبله، ويؤيده
بأمثلة من كلام البلغاء وجهابذة الفصاحة، ومن عبر التاريخ الصحيح، ومن آثار
الصحابة ومن يليهم من علماء الدين، ثم يوضح ذلك بقضايا العلوم والفنون
القديمة والحديثة، وبقواعد الاجتماع وبسنن الله في خليقته، فهو لا يترك في
معاني الآيات الكريمة سؤالاً إلا بادره بجوابه، ولا خطأ من بعض وجوه الفهم
إلا عاجله بصوابه، ولا شبه معارضة بين العقائد الدينية والقواعد العلمية إلا أزالها
بفصل خطابه، ولا أصلاً من أصول الاجتماع، ولا سنة من سنن التكوين، ولا
حكمة من حكم التشريع، إلا عالجها معالجة الحكيم، حتى راض صعابها،
واستخرج لبابها.
وجعل ذلك كله خادمًا لبيان الهداية الإلهية، والدلالة الربانية، التي اشتمل
عليها القرآن الحكيم، والتي هي الغاية المقصودة للمؤلف أيده الله من تأليف هذا
التفسير، فأفاض في بيان تلك الهداية وفي دلالة العقول عليها، وسوق النفوس إليها.
وعني ما شاء له إخلاصه بكشف شبه الحائرين من المسلمين في فهم العقيدة،
ودلَّهم بيانه العذب على مزايا الشريعة، وسلك في تقرير عقائد الإيمان مذهب
السلف الأقوم، ونصره على مذاهب المتكلمين، وقرب فهمه إلى الأذهان بأحدث ما
عرف في هذا العصر من النظريات العلمية، في المظاهر الروحية والمدارك
النفسية، وفي مادة الكون الأصلية وظواهرها وأطوارها، كما نراه في بحث الرؤية،
وفي تحقيق معنى الكلام الإلهي والاستواء ونحوها.
ثم انبرى للملحدين فدمغهم بالحجة الساطعة حتى كشف أسرارهم، وأبرز
للناس عوارهم وعمد إلى جماعة المبشرين الذين لم يتركوا وسيلة من وسائل التنفير
من الدين الإسلامية فَفَلَّ حدهم وهزم جندهم.
واهتم الاهتمام كله بتقرير أن الإسلام هو موطن العزة والسلطان، وأنه هو
الذي يرفع نفوس الآخذين به إلى أسمى ما ترتفع إليه نفس بشرية، ويوجب عليهم
اجتناب سَفْسَاف الأمور والأخذ بمعاليها، ويهيب بهم إلى الرقي المادي والمعنوي
في هذه الحياة بالأسباب التي جعله الفاطر الحكيم نتيجة لها ومترتبًا عليها، ويتبع
ذلك أن يوجب عليهم تعرف كل ما يتوقف عليه ذلك الرقي من علم وعرفان،
وإحسان وإتقان وسيرة وخلق , ولقد أمعن حفظه الله في جميع ذلك استقراء
واستقصاء، وأتى على ما يستقصيه إيضاحًا وبيانًا، ودليلاً وبرهانًا، حتى ملأ
القلوب حكمة وإيمانًا، وأفاض على سرائر العاملين وجوارحهم إخلاصًا وإحسانًا.
ليس للمسلمين سبيل أهدى لهم في حياتهم الأولى والآخرة إلا سبيل القرآن،
وليس لهم وسيلة للنجاة مما مُنُوا به إلا الرجوع إلى هداية القرآن، ولا أرى بين
تفاسيره ما يُجْلِي هذه الهداية ويُشِفُّ عن أسرارها ويقرُّها في النفوس مثل هذا
التفسير، المنقطع النظير، ولا طريقة أقرب إليها وأدل عليها كالطريقة التي جرى
عليها المؤلف مقتفيًا آثار شيخنا الأستاذ الإمام طيَّب الله ثراه، فهو قد قدم بتفسيره
هذا أعظم خدمة للمسلمين في هذا العصر، فما أجدرهم أن يتلقوه بما يجب له من
العناية والاهتمام، وما أحقه بأن تتزين به دور الكتب ومعاهد العلم، وما أخلق
أساتذة المدارس العلمية والمعاهد الدينية في البلاد الإسلامية، أن يرجعوا إليه،
ويُعَوِّلُوا عليه، جزى الله مؤلفه الكريم خير ما جزى به العاملين المخلصين،
وحفظه بوقايته، وأمده بتوفيقه وعنايته؛ ليكمل هذا الكتاب الجليل في عمله الجليل
في أثره، ولينشئ أمثاله من الخيرات الحسان، إن شاء الله تعالى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ
***
تقريظُ
(الأستاذِ المُعِنِّ المُفِنِّ، الغوَّاصِ على جواهر كل علم وفن، في بحار آيات
التنزيل صاحب المصنفات التي سارت بها الركبان أخينا الشيخ طنطاوي جوهري
الشهير) .
قال بعد رسم الخطاب:
اطلعت على الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم المنار،
فأحببت أن أكتب ما عَنَّ لي فيه فأقول:
إن الله عز وجل لما خلق الناس جعلهم مختلفين صورًا وأشكالاً وأحوالاً وألوانًا،
فهم وإن اتفقوا في الماهية، واتحدوا في الإنسانية، افترقوا في أميالهم وتباينوا في
مشاربهم وطرق أعمالهم وتفكيرهم وسبل تعبيرهم وتأويلهم، وفهم ما يسمعون،
وتفسير ما يقرءون، كما افترقت أغصان الأشجار في رياضها، وتباينت في أفانين
أزهارها، ويانع ثمارها، وإنما كان ذلك لتَعْظُم العطايا، وتَكْثُر المزايا، وتَسْعَد
البرايا، فيأخذ كل امرئ ما يواتيه، ويتعاطى منها ما يشتهيه) .
فما مثل العلماء إلا كمثل الدوحات المختلفات أثمارًا، المتفقات غايات،
فالروض يتنوع صنوف أزهاره، وافتنان أفنانه، واختلاف أزهاره، مثل مشاهد
بما يقتطفه الناس من ثمار العلم والحكمة، وما يجتنون من أزاهير الأدب والفن من
مؤلفات للمؤلفين الذين اتفقت غاياتهم وتباينت طرقهم، وما مثل كتاب الله تعالى إلا
كمثل روضات غناء، ومثل المفسرين والعلماء بالفنون المختلفات، إلا كمثل علماء
بفنون علم النبات وثمراته، قد أتوا من كل حدب ينسلون {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) فمنهم من نظر في أشجارها وترتيبها، ومنهم من فكَّر في
ثمارها وأزهارها، ومنهم من فكر في أسمائها ومنافعها الدمائية والغذائية، ومنهم
من قاده رأيه ودله اختباره على البحث في أمر السماد وإزالة الحشائش لتنمو
الشجرات.
هكذا تفسير القرآن فمن المفسرين من فكروا في العلوم اللسانية، ومنهم من
بحثوا في العلوم العقلية، ومنهم المجدون في العلوم الفقهية أو القصصية أو
التاريخية أو الكونية و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) .
فأما أخونا الفاضل الشيخ محمد رشيد رضا فقد أمده الله بالتوفيق في التحقيق،
فلا يزال يبحث في المسألة الفقهية أو التاريخية، أو رواية الحديث أو القصة
الإسرائيلية، حتى يستخلص الخلاصة الوافية، ويؤيدها بالحُجَج الواقية، فجزاه الله
أحسن الجزاء، فما كل من ألف أجاد، ولا كل من قال وفَّى بالمراد، فلا يدع في
القول مجالاً يطلب المزيد، لا يرحم مبتدعًا ولا زنديقًا، فهو يصب عليهما سوط
غضبه، وعلى المخرفين من المسلمين، إنه لهم عدو مبين، ومن المتفرنجين
الضالين منتقم مهين، يصول بسيف الحق والحق أبلج، ولا تأخذه في الله لومة لائم،
وكم له من صولة في ميدان حرب البدع، والحق أن الأمم الإسلامية قد تفرقت
شِيَعًا، وذاق بعضها بأس بعض، ولقد أذاقها الله سوء ما جهلت، وجرعها غصص
ما كسبت، ولكن من عادة الله تعالى أن يجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق سعة
{وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} (البقرة: 74) وبعد موت الأرض
حياتها.
وفي الكتاب الكريم: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الحديد: 16-17) .
ولقد جعل الله أيامنا هذه عصر انتقال، وتبدل في الأحوال، فليبدلن الله
أحوال المسلمين من ذلة الجهالة إلى عز المعرفة، ومن شقاء الخمول إلى سعادة
العمل، ومن حاملي لوائهم صاحب تفسير المنار الذي أذاع في المشرقين ذم
الخرافات، ونبذ البدع والضلالات، بقلمه السيال وهماته المتواليات، على قوم
مثلهم كمثل كفار مكة إذ قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35) فهو قائد صفوف الجيوش المعدة لمحاربتهم في بلاد
الشرق، ولقد اصطفاه المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده لهذه المنقبة الشريفة، إذ
وجده ابن بجدتها، وأخا محذرتها، وها أنا ذا أضرب للقارئ مثلاً لما في الكتاب.
ذلك أنه في تفسير آية {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) ذكر فصلا في بيان
بشارات التوراة والإنجيل وغيرهما، فهذا الفصل ذكر فيه البشارات التي وردت في
الكتابين، وأوضح الكلام على لفظ (الفارقليط) وأنها لم تدل ولم تنطبق إلا عليه
صلى الله عليه وسلم.
فلم يدع شاردة ولا واردة من هذه المباحث في هذا المقام إلا أوردها مع حسن
العبارات والتلخيص والإيجاز بحيث:
يقرب الأقصى بلفظ موجز ... ويبسط البذل بوعد منجز
ويحق الحق ويبطل الباطل، ويذكر السير التاريخية المناسبة لها، مثل ما
جاء في صفحة (280) من أن متنس المسيحي الذي ادعى النبوة في القرن الثاني
سنة 177 تقريبًا من الميلاد قد كان رجلاً نقيًّا مرتاضًا شديد الارتياض وكان في
آسيا الصغرى مستندًا في تلك الدعوة إلى كلمة (الفارقليط) التي وردت عن المسيح
عليه السلام ونقل عن صاحب (لب التواريخ) ما نصه:
إن اليهود والمسيحيين من المعاصرين لمحمد كانوا منتظرين مجيء نبي
فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم؛ لأنه ادعى أنه هو ذاك المنتظر انتهى ملخص
كلامه، هذا ما جاء في صفحة (280) من الجزء التاسع المذكور.
ثم أورد حكاية النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر فهذان الملكان
النصرانيان أقرا بأن كتابهما ناطق بانتظار نبي، ومثلهما الجارود بن العلاء، وهو
من علماء النصارى فقد أسلم وأسلم قومه معه بناء على بشارة عيسى عليه السلام.
وبالجملة فهذا المقام مع تلخيصه وحسنه استغرق من الكتاب نحو (70)
صفحة فليشكر الأستاذ أخونا الشيخ محمد رشيد رضا على حسن صنعه وتحقيقه
ومحافظته على السنة والشريعة.
إنما مثل تفسير القرآن والعلماء المخلصين في الإسلام كمثل آلة موسيقية لها
فروع مختلفات، صادحات بأنغام شجيات، فعلى مقدار كثرتها وتناسبها وتقاربها
وتعاشقها يزداد حسنها ويظهر جمالها، يعظم الانتفاع بها وتأثيرها في السامعين،
ألا فليكن هذا دأبكم يا علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.
يفسر العلامة الرازي ويفسر الأستاذ البيضاوي والعلامة الزمخشري ويفسر
الشيخ محمد رشيد رضا، وآخرون يؤلفون في الفقه وحده، وغيرهم في علوم
أخرى، ألا فليعلم المسلمون أن لكل موقف مزية، وأن الأمم كلما كانت أكثر جهالة
كانت أكثر تباعدًا، وأشد تباغضًا، ومن جهل شيئًا عاداه.
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا
فللقرآن مزايا لا يبرزها إلا اختلاف المباحث وتباين المناهج في البحث
والتنقيب.
إن المسلمين لم يكونوا في أزمان أحوج إلى التفنن في العلوم منهم اليوم
فليقرءوا كل علم، وليدرسوا كل فن، وليحيوا ما أماتته يد الإهمال، وليكن العلماء
منهم أصفى قلوبًا، وأقرب زلفى، وأعظم ودًّا، فإن العامة على آثارهم يهرعون
والله يتولى الصالحين.
... ... ... ... ... ... ... ... طنطاوي جوهري
__________(29/753)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حال المسلمين في الشرق والجنوب
للسائح العالم المصلح صاحب الإمضاء في لمفوغ بتاريخ 20 جمادى الأولى
سنة 1347هـ، حامدًا، شاكرًا، مصليًا، مسلمًا
محترم المقام، حكيم الإسلام، الأستاذ المفضال، ربيب الفضل وأبي الكمال،
مجدِّد القرن الرابع عشر السيد محمد رشيد رضا أدامه الله ناصرًا للسنة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، داعيكم كثير الاشتياق
إليكم ولا يغيب شخصكم الكريم عنه طرفة عين، وأرجو الله أن يجمعني بكم لأن
النفس تواقة لذلك.
وصلني كتابكم الكريم، إنه من لطائفكم وإنه لذو نبأ عظيم، ومع الأسف التام
أنه وصل مركزي وكنت غائبًا في السياحة، وأتاني على قدر، وفرج ما بي من
الهم والكرب، وفرحت به كثيرًا؛ لأني كنت آيبًا من سياحتي في أرض السيام.
أخذت منذ دخولي أدعو إلى الدين الصحيح، وترك البدع المضرة بالدين،
جهد المستطاع، فعند ذلك قامت قيامة الدجالين، من علماء السوء الوطنيين،
يشنون الغارة علينا، وينفرون الناس منا، بأن الراضي وهابي من أنصار المنار،
ونحن معهم في حرب وجلاد، والنصر ولله الحمد والمنة حليفنا، والمؤمن سريع
الانقياد إلى الحق، وباطلهم لم يثبت أمام قوة الحق وأنصاره، ولا يخفى عليكم أن
تغيير العوام ما هم عليه من العقائد الفاسدة والخرافات التي لا أصل لها، والضلال
الذي شب عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، وباض وفرَّخ في أدمغتهم، من
أصعب الأشياء، وهذه الأمة المسكينة لَمَّا يرزقها الله عاملاًَ ناصحًا أمينا من أبناء
جنسها، لأجل ذلك تراها في حضيض الجهالة، ولا تتمسك إلا بالعادات الجاهلية
ولو في ذلك هلاكها، ولا رادع لها من النفس، ولا وازع من الدين، ولا مصلح
من المرشدين، والسبب الوحيد أن منبع الضلال والخرافات من علماء السوء
البطالين.
ويمكن أن نستثني عصابة من أنصار الحق، ومحبي المنار الأغر،
يستميتون في الدفاع عن الدين، وترك البدع والخرافات وهم مع علماء السوء في
كفاح مستمر، يبذلون في نصرة الدين أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم، وعلماء
السوء السياميون يكفرون هؤلاء المصلحين ويُبَدِّعونهم ويخرجونهم عن دائرة
الإسلام، وأخيرًا أفتوا بقتل رئيس هذه العصابة المصلح الوحيد (ببنكوك سيام)
الشيخ أحمد وهاب صديقكم ومكاتبكم عن أحوال السيام بما فيه الكفاية.
بعد كتابة ما ذكر، وقبل أن أرسله إليكم قصدت بعض الجهات من الهند
الشرقية فوجدت الحجاج الجاويين راجعين من أداء فريضة الحج فسألناهم عن
الحالة في الحجاز فأجاب بعضهم بأن الأمن عام لم يعهد له مثيل، إلا أن الحكومة
الوهابية غليظة شديدة، وإن ضرائبها ومكوسها وما وضعته على الحجاج يزيد على
الحصر، ومع ذلك تدعي حماية الدين وترك البدع المضرة، وأخذوا يذكرون
سيئات ما لاقوه من أوباش الموظفين، فأخذت أدافع عن القوم وحكومتهم بكل ما
عندي من البيان فلم أفلح (ابتداء) مع أكثرهم؛ لتعصبهم وجهلهم المُرَكَّب؛ لأنهم
حتى الآن يعتقدون أن مذهب الوهابية خارج عن الأئمة، وأن قصدهم تخريب الدين
شيئًا فشيئًا، منه تعلمون أن سمعة الوهابية سيئة في هذه الأصقاع، وأنصارها
قليلون، وأعداؤها الدجالون القبوريون الخرافيون كثيرون! خصوصًا السادة
العلويين الحضارمة فإنهم حتى الآن يكفرون القوم ويعدون كل مصلح مارقًا وخارجًا
عن الدين؛ وهم في هذه الجهات لا يحصون كثرة، والجهلة يتبعونهم في أقوالهم،
ويصدقونهم في مفترياتهم وأكاذيبهم {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 119) لانتمائهم
إلى المرشد الأعظم صلى الله عليه وسلم وهم مع الأسف أبعد عن هديه وشريعته
المطهرة، عاكفون على الضلالات، وطلب الحاجات من الأموات، والاعتقاد في
القبور وأهلها وتقبيلها، ودعاء ساكنيها فيما لا يدعى فيه إلا الله تعالى، وغير ذلك
من التُّرَّهَات التي يبثونها في هؤلاء المساكين، والآن ولله الحمد باطلهم في
اضمحلال، وجاههم المزيف إلى الزوال، لأن بعض الوطنين قد تنوروا وأخذوا
ينشرون الدين الصحيح بين قومهم {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ
زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .
قام أكبر شياطين الإنس بأرض البوكس من أعمال سليبس أبو بكر الحبشي
واعظًا في المجالس والنوادي بأن الوهابية كفرة يغيرون الدين فالحذر منهم ومن
دعاتهم الراضي والـ ... (هناك رجل آخر من دعاة الحق وأكبر معضد لي في
نشر التوحيد وهو صديقي الوحيد في هذه الديار ممن بذل نفسه ونفيسه في سبيل
إحياء السنن الميتة، ومن أكبر المخلصين لكم أيضًا، وهو أحد أبناء علماء مكة
العاملين، وممن يحب إخفاء اسمه) قام الحبشي يحذر الناس منا ويقول:
كونوا على بصيرة، واعلموا أن الحج غير مفترض عليكم ما دام الوهابية
مقيمين في الحجاز! ! وأخذ هذا الدجال يكتب إلى الحكام في جميع الجهات بذلك،
ولكن باطله لم يثبت أمام قوة الحق وأنصاره على قلتهم، والدين الحق الخالي من
الشوائب دين الفطرة لا يعدم أنصارًا.
ولقد طلبنا مناظرة الدجال الحبشي فأبى وفر هاربا وأقسم بأنه لا يجتمع مع
الراضي الوهابي الخارجي.
هذه حالة غالب الحضارمة من العلويين ومنه خراب الدين، إذًا فالوهابية على
رأي هؤلاء العلويين، ومن على نِحْلَتِهم من علماء السوء الدجالين والجهلاء
المقلدين، ليسوا بمسلمين على دين صحيح، لأجله أرجو الرجاء الأكيد أن تنبهوا
حكومة الحجاز بذلك لتعقد جمعية خصوصية لتفهيم الحجاج عقائد الوهابية (من
الكتاب والسنة) وما يدعون إليه؛ لأنهم بذلك يكونون وسائط بين الوهابية وسائر
المسلمين، وهنا تظهر فائدة الحج ويكون التعارف بواسطة خادمي الحجاج، ويجب
عليهم أن يطلبوا العلم ويتحلوا بمكارم الأخلاق، وأن يجبروا أبناءهم على الدخول
في مدرسة مخصوصة ليتهذبوا ويشبوا على حب الخير والعلم والاعتماد على النفس
والقيام بما يجب؛ لأن مصالح الحجاج مشتركة بين الحكومة وخادمي الحجاج،
وعليهم أن يجتهدوا فينشروا مبادئ الدين الصحيحة بين الحجاج، ويستمدوا تعاليمهم
من جمعية تخصص لذلك، ويسعوا في رفع وإزالة الخلاف وسوء التفاهم الواقع
بين الوهابية بقية السلف وبين من لم يرهم من المسلمين فيتعارف البعض بالبعض،
وإذا كان من الحجاج علماء فلا بد لخادمي الحجاج أن يجمعوهم بعلماء الحجاز
ليحسن التعارف، وبعد ذلك يزول (إن شاء الله) سوء التفاهم من بين المسلمين،
ولا شك أن هذا من أعظم الأعمال وأجل المقاصد التي فرض الحج من أجلها، وإن
فردًا واحدًا ليصلح مئات إذا رجع إلى بلاده، وبغير ذلك لا ينجح عمل الوهابية
المصلحين؛ لأن بذرة الضلال التي زرعها الدحلان قد أثمرت في أفئدة سماسرة
الباطل وأرباب الضلال، وهم يتوكئون على كتابه وهو من أكبر الأسلحة لتنفير
العوام من الوهابية، لا يخفى عليكم أن المؤلف من علماء مكة بل كان مفتيًا بل كان
مفتي الحرمين، نعم أصبح كل ضال مضل إذا أراد هدم الدين ترجم نبذة من ذلك
الكتاب ونشره بين قومه لتنفير الناس من كل مصلح يسعى في إزالة البدع (فقد
صار لقب وهابي علمًا لكل داعٍ إلى الحق) لأجله يرى محبكم أن من الواجب تنبيه
الحكومة الحجازية وجلالة الملك على ذلك، وأن تطلبوا من الحكومة بكل إلحاح -
ولكم الحق لأنكم تسعون لصلاح الإسلام والمسلمين وهو غرضكم من إنشاء مجلة
المنار- أن ترفض جميع العادات السيئة التي كان يجريها الملك السابق مع
الحجازيين الضعفاء؛ لأنه كان يحكم بالجبت والطاغوت والعوائد الجاهلية والقوانين
الجائرة، ولأجله غضب عليه البعيد والقريب، وأبغضه العالم الإسلامي بأجمعه
وأنشدوا في حينه:
أوتيت ملكًا فلم تحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسًا ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فعنه الله ينزعه
كان أحب الأعمال إليه ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل وبالطرق الخسيسة
وله أعوان سوء وبطانة شر يساعدونه على ذلك ويسعون في الأرض فسادًا،
فأراح الله منهم العباد والبلاد، وأملنا أن الحكومة السعودية السلفية العقيدة والمشرب
يجب عليها أن تربأ بنفسها عن تلك المناهج الرديئة، وأن تترك الناس أحرارًا في
أعمالهم وتساعدهم على حرية الفكر والضمير والقول (ما لم يكن في ذلك محظورٌ
شرعًا) وما داموا مطيعين لها.
سببه أني كنت سائحًا في بعض هذه المدن (مواضع القلاقل والفتن) وهناك
رأيت الناس في ضجة قائمة قاعدة وتشويش واضطراب وهم وغم يتذمرون من أمر
أصدرته الحكومة على مهاجري الجاويين (العمدة على الكتب المرسلة لهم من
الحجاز وصحتها) لأن محبكم ما بارحت مركزي منذ تسعة أشهر، وطول هذه المدة
في برور هذه الديار- فلمبغ ولمفوغ لم أقرأ جريدة ولم أستلم كتابًا حتى إني محروم
من مطالعة المنار لبعد المسافة بين مركزي وهذه الديار (5 أيام برًّا وبحرًا) لهذا لم
أعلم صحة هذه الأخبار، ولكني بحول الله وقوته سأعود باتوكاجه في الشهر الآتي.
خلاصة هذه الأخبار أن الحكومة منعتهم من قراءة كتبهم الملاوية وحظرت
عليهم التدريس في البيوت، وأخذ المهاجرون يراسلون أهليهم بذلك ويبالغون في
تشويه الخبر ويقولون: إنهم لا يمكنهم طلب العلم ما دامت هذه القوانين جارية في
الحجاز، ثم أراد أولئك الضعفاء الهجرة إلى مصر لطلب العلم فطلب سفيرهم منهم
تأمينا قدره 400 ربية جاوية تبقى عنده تحت المحافظة، وأولئك البوساء فقراء
لأجله سيضطرون لترك طلب العلم، ويزيد ذلك في تشويه سمعة الحكومة السلفية
كما لا يخفى على سيادتكم لأن آباء المهاجرين متأثرون جدًّا، ولما وصلت ديارهم
أخبرت بذلك فأخذت أدافع عن القوم الموحدين بكل وسيلة، وقلت لهم بأني سأسعى
لإصلاح هذا الشأن بواسطة أكبر مصلح في العالم الإسلامي ومحبوب لدى الحكومة
السلفية، ومسموع الكلمة وهو الأستاذ محمد رشيد رضا، لأجله بادرت بتقديم هذا
إليكم وما للحكومة وطلب العلم والتداخل في أمرهم.
لقد سررنا بإعانة الحكومة لكل طالب بست روبيات وهو كرم يذكر فيشكر،
وليتها بعد ذلك تتركهم أحرارًا كما يريدون (اللهم إلا أن ... لأن هذه الحالة وإن
كانت لمصلحة المهاجرين أنفسهم التي يجهلونها فمما يجد أنصار الضلال طريقًا في
انتقاد أعمال الحكومة وتشويه سمعتها، ولقد سخر الله أقوامًا مصلحين لمساعدة
الحكومة السعودية في كل قطر من أقطار المسلمين ولا جامع بينهم وبينها إلا الكتاب
العزيز والسنة المطهرة، لأجله كل مصلح مضطر إلى الدفاع عن القوم؛ لأن كل
من ينكر البدع ويسعى في إحياء السنن الميتة ينبزه الدجاجلة بالوهابي (كما ذكرت
لكم أعلاه وهو في الحقيقة يدافع عن نفسه وبالإضافة عن الوهابية؛ لاعتقاده بأن
هؤلاء القوم أشد الناس تمسكًا بما عليه السلف الصالح، وأقدر الناس على إحياء ما
اندرس من السنن، هذا وأنتم أعلم بهذه الحقائق، هذا قليل من كثير والعفو مأمول،
فإن الفرص لم تسنح بغير هذا.
... ... ... ... ... ... ... ودوموا لأخيكم في الله المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... أبو الطيب الراضي المكي
***
جواب جلالة ملك
الحجاز عما في هذه
الرسالة من الطعن على حكومته
نشرنا هذه الرسالة لإعلام قراء المنار بأحوال إخوانهم المسلمين من مصلحين
ومفسدين، ومعتصمين ومبتدعين، وصادقين في مسألة الوهابية وكاذبين، وإننا
كتبنا قبل نشرها إلى الإمام العادل ملك الحجاز ونجد نقفه على ما يقال في حكومته
ونسأله الجواب عنه، وهو في الرياض عاصمة نجد فتفضل علينا بالجواب الآتي:
أما ما ذكر من نقد أعمال بعض الموظفين فنحن نبذل كما تعلمون غاية الجهد
في مراقبة أعمال الموظفين، ولا يمكن أن ترفع إلينا شكاية في أمر معين إلا دققناها
ونصرنا صاحبها، وأما الذي يقع مما لم يبلغنا فنحن نبرأ إلى الله منه.
وأما مسألة تعليم المطوفين وهم أكثر الناس اختلاطًا بالحجاج فنحن لم نقصر
في هذا الباب وأسسنا مدرسة خاصة (أي لتعليمهم) وهي ببدء تكوينها ولا يمكن
أن تأتي الشجرة بثمرتها من أول غرسها، ولا بد من تعهد الإصلاح بالعناية شيئًا
فشيئًا حتى تثمر المساعي.
وأما مسألة إطلاق الحرية للناس في التعليم فلم نمنع منه إلا ما كان مخالفًا
للعقيدة الإسلامية الصحيحة، وهذا لا يمكن التساهل فيه.
وعلى كل حال فإن الباطل مهما جال وصال لا بد أن يظهر الله الحق عليه
ولو كره المفسدون.
(المنار)
نعم، إن الحق ما صارع الباطل إلا صرعه، ودمغه كما قال الله عز وجل،
ولو كان الذين تروج لديهم دعاية الحبشي وأمثاله من أنصار الخرافات والرفض من
العلويين وغيرهم يميزون بين الحق والباطل والكفر والإيمان لعاقبوهم على
تصريحهم بتحريم إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العظيم (الحج) بعدم اعتدادهم
بدعواهم الإسلام على الأقل، فإن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97)
واستحلال ترك الحج وجحود فرضيته على المستطيع كفر وردة عن الإسلام بإجماع
المسلمين.
__________(29/759)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عناية الإنكليز بتنصير مسلمي السودان
رجال السياسة والجيش يدعون إلى توسيع سلطان الكنيسة
نداء حاكم السودان العام:
كان السودان الجنوبي منذ خمسين سنة مرتع الأهوال التي تجل عن الوصف
فكانت العصائب المسلحة من تجار الرقيق تهاجم الأهالي الآمنين، واقتيدت عشرات
الألوف من الرجال والنساء والأولاد بخزائم الأسر، وعشرات مضاعفة من الألوف
أعملت فيها السيوف ذبحًا في الغارات الوحشية، وتركت عظامها منتثرة على الأديم
لتبقى أثرًا دالاًّ على طريق الرق، وبين المصاعب والمخاطر قام الجنرال تشارلس
غوردن وكان قد قطع ما بينه وبين العالم الخارجي ودام ذلك أشهرًا بما قام به،
فقاتل تجارة الرقيق، وأنقذ الضحايا من بين أيديهم، وجعل القبائل الجنوبية تشهد
فجر الشجاعة والأمل.
ثم إن الثورة على الحكومة المصرية، اندلع لهيبها مطبقًا السودان الأوسط
والشمالي وأصبح القتل نذيرًا لكل من بقي على الإخلاص أما غوردن، فبعد أن
قضى في إنجلترة مدة قصيرة للراحة، أخذ مرة أخرى لينقذ الكتائب المنعزلة ويفك
عنها أغلال الحصار، وليمكن غيرها من وسيلة الانسحاب إلى مصر، فبذل
مجاهيد في هذا السبيل تُذْكَر فتُشْكَر؛ إذ استطاع كثيرون أن يدركوا النجاة بالانسحاب
إلى الشمال، ولكن الذين كانوا لا يزالون في الوراء كان عددهم وافرًا،
ومع أنه كان بوسع غوردن - برعاية الأوامر التي بيده - أن يلتحق بالقوم النازحين
ويلوذ بمصر ناجيًا، فإنه أبى أن يفارق الذين اتخذوه مأمنًا لهم، فبقي في الخرطوم
حتى أحدق بها الثوار بعد ذلك بقليل، وبعد حصار مرهق، دخلوها في 26 يناير
1885 ونهبوها، وخر غوردن قتيلاً بحراب الدراويش، فمات كما عاش في سبيل
غاية من معالي الغايات، واسمه لا يزال كأنه الوحي والإلهام لكل فرد من الجنس
الناطق بالإنجليزية: إن هذا هو التراث الباقي.
لأجل تخليد ذكرى حياته وموته، وتوحيد العمل المتعلق باسمه وإدامته يوجه
الآن هذا النداء للاكتتاب بمبلغ (60000 جنيه) فإن السودان بلاد مترامية
الأطراف، تكاد تكون رقعتها أكبر من ألمانية وفرنسة وإيطالية مجتمعات،
والبريطانيون الآهلون في هذه البلاد، نراهم ضاربين في المطارح العديدة والأماكن
السحيقة حيث يصعب أن يكونوا حيث هم، وحاجاتهم الروحية غير مقضية، وقد
أسلف إلى الآن أهل التضحية الخاصة، الباذلون بسخاء، كثيرًا من جيد العمل
الكافل لتخليد اسم غوردن في هذه الديار، ولكن العمل الذي هو أكبر، لا يزال
ينتظر أن يعمل: فالكنائس يجب أن تشاد في بورسودان، وعطبرة، وواد مدني،
ولكن المال الذي يكفي ليس ناجزًا، والكتدرائية التي في الخرطوم، وفي كنيسة
غوردن التذكارية، لم تزل غير مكملة، ولم تحبس عليها الهبات بعد، والقسس
عددهم نزر يسير، في قطر عظيم، وأجرهم أجر قليل، عن عمل كثير، وليس
باليد رأس مال يكفي نتاجه الآن حتى لأعطيات هؤلاء القسس فإلى أولئك القوم
الذين يذكرون اسم غوردن منذ عهد الطفولة، وإلى غيرهم من الذين يجدون في هذا
المثال العظيم الوحي والإلهام، نوجه هذا النداء، إذ - ونحن لا نتناول عون
المعين- ليس إلى القيام بعبء هذا التراث الجليل من سبيل.
__________(29/765)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نداء عظماء رجال الجيش لتخليد ذكرى غوردن
غايته السامية
الكنيسة في السودان
إلى محرر التيمس:
اطلعنا على نداء موجه من السير جون مافي، الحاكم العام للسودان، بمناسبة
ذكرى موت الجنرال غوردن، يدعو إلى الاكتتاب بالمال لوضع أعمال الكنيسة في
السودان على أساس صحيح باق، وإننا نحن الذين نلنا الفخار بأن كنا رفقة السلاح
في ميادين القتال التي أخذ بعضها برقاب بعض بين سنة 1883 وسنة 1898 من
دنقلة إلى فاشودة، ومن سواكن إلى كردفان، وخيضت غمراتها لتحرير السودان
من كابوس الدراويش كابوس البغي الرهيب؛ ولتمهيد السبيل إلى إنجاز العمل لخير
الإنسانية، العمل الذي كان غوردن رائده وفاتح طريقه، نود أن نعضد ذلك النداء
بكل ما في مقدورنا من قوة.
ثلاث وأربعون سنة قد انقضت على سقوط غوردن قتيلاً في الخرطوم، وقد
مات كما عاش، في سبيل غاية من معالي الغايات، واسمه يبقي الوحي والإلهام
لكل فرد من الجنس الناطق بالإنكليزية، فحياته وموته هما حقًّا مخلدان بعمل
التمدين العظيم الجاري القيام به الآن في السودان، والتذكارات المادية لحفظ شهرته
ليست بالقليلة، ولكن شيئًا أكثر من هذا لا يزال منتظرًا أن يُعمل؛ إذ يظهر للذين
يجلون ذكرى غوردن أنه من العجز - مع ما انقضى من الزمن منذ موته، ومع ما
هناك من الجهود المتواصلة من أهل التضحية الذين قاموا بما قاموا به من الخدمة
في سبيل الكنيسة في السودان - أنه من العجز مع كل هذا أن لا يكون من الممكن
استئناف العمل في سبيل الكنيسة في البلاد التي أنفق غوردن من أجلها تضحيته
السامية.
فالواجب المفروض لا يزال غير ناجز بعد، وقبل أن يذهب أهل هذا الجيل
إلى ربهم، وهم الذين لم تبرح مأساة يناير سنة 1815 ذكرى حية في خواطرهم،
وقبل أن يتباعد اسم غوردن من الأذهان، ويحوطه شبه النسيان، فيندرج مختفيًا
مع ما يختفي من الأشياء السالفة الأوان، ومعارك القتال القديمة الأيام، نحن بعض
الذين شهدنا كوائن فتح السودان، مُوَفِّينَ ما كان علينا من قسط في كل دور من
الأدوار، وكتب لنا البقاء إلى هذا الزمان، نناشد جميع القوم على السواء، مناشدة
الجد والحزم باسم غوردن وغيره من بُسْل الرجال الذين سقطوا في تلك البلدان، أن
يلبوا نداء الحاكم العام بما يملكونه من مصدر إعانة لجمع المال الذي به يستعان في
تخليد عمل غوردن الدائم البقاء.
الإمضاءات
بلومر - فليد مارشال، بيتي رجلد ونجت، أرشبولد منطر - جنرال.
مكسويل - جنرال. ملن - فيلد مارشال. سميث دوريان - جنرال لسلي رندل.
- جنرال. سنو - فريق ثان، جوسلين ودهوس جنرال إدورد غليشن - فريق ثان.
فريد ستيفورد - فريق ثان. بيتن - جنرال. ستوكلند - فريق ثان. أسار - جنرال.
هويجهام جنرال.
***
نداء عظماء رجال الجيش لتخليد ذكرى غوردن
مقالة التيمس
منذ أربع وأربعين سنة، ختامها يوم السبت الماضي، كانت تجريدة عسكرية
بريطانية، بعد أن تناقص عددها حتى التلاشي لكثرة القتال المتواصل ولا سيما بعد
معركتين دمويتين جلبتا الويل الأكبر، تشق طريقها، بشق الأنفس، مذعورة، نحو
الجنوب في كبد الصحراء، وكان قائد التجريدة قد قتل، وكان خليفته في القيادة
وقتئذ قد وقع في الشرك لجنوح الباخرة إلى اليابسة، ولما قيض للقائد والتجريدة في
النهاية الاتصال والاجتماع، كان لا يزال بينهما وبين المكان المقصود مسيرة يومين،
فوصلوه متأخرين يومين، وكان الخرطوم بيد المهدي ودراويشه، وكانت عشرة
أشهر طافحة بضروب اليأس، وبصنوف من الدفاع المقرون باليأس، وبأعمال كانت
للدهاء مجلى عجيبًا وللفظاعة مشهدًا غريبًا، بقدر ما كانت كوائن عظيمة ووقائع
جليلة، بل كانت العشرة من الأشهر انقطاعًا وانعزالاً، قل من يعرف لهما مثالاً،
فكان الأمل يحيا ثم يفنى، ثم بعيد حين تراه يبعث حيًّا، ثم يعود سيرته الأولى
متعاقبًا عدمًا ووجودًا، وقس على هذا ما كان من إيمان وعزم، وأخيرًا وافق اختتام
العشرة الأشهر، وكان اختتامًا مظفرًا، ولكنه كان هائلاً.
في 26 يناير 1885 كان تشارلس غوردن قد جندل بطعنات الكفار، تجار
الرقيق، القتلة، الذين صمد لهم حتى النفس الأخير من حياته، وليس بوسع أحد
كان حيًّا في إنجلترا يومئذ أن ينسى تلك الفترة: من الملكة إلى أدنى طبقات الشعب،
كان كل فرد قد طاف به طائف من الدَّهَش والروعة، فقد كان بالإمكان إنقاذ
غوردن، وقد كان يجب إنقاذه بشيء أكثر من التصميم والإقدام هنا بشيء أكثر من
نفاذ البصيرة هناك، كان من الممكن إنقاذه ولكنه لم ينقذ، ولما كانت تلك العاصفة
من الشعور في إبان عصرها، لم يكن من طبع الإنسان (ولا المرأة) أن يبعث
بنظره ناقدًا أول السياسة الرشيدة وطرق الحرب وأساليبها، وموازنًا بين تفاصيل
الحقيقة والقصد، وتفاصيل الأوامر المعطاة والأوامر المفروضة، وتفاصيل الطاعة
المخلصة والعصيان الموحى به، وتفاصيل الوعود المقطوعة والوعود التي أخذت
كأنها قضايا مسلمة، مما يمكن الآن لصاحب النظر العادل، بعد أن مضى ما مضى،
أن يستخرج من مجموعه الحقيقة المتعلقة، بتاريخ كارثة غامضة معقدة، دع
عنك كيف وصل غوردن إلى الخرطوم بل اعلم أنه هو هناك محصور فيها، ويكفي
أن تعلم أن جنديًّا إنجليزيًّا باسلاً مقدامًا أرسلته بلاده لينقذ من أصبحوا أذلاء تحت
مواطىء الأقدام، قد ترك ليلاقي في حصاره الموت الزؤام، وإن هذا عبرة كافية
لشعب صحيح الشعور، وإننا نعلم الآن الموضع الذي يجب أن توضع فيه الملامة،
ونعلم أيضًا مقدار هذه الملامة، ولكن عند النظر خلال الأربع والأربعين سنة
الماضية، لا يكون من شيمة العقل الحر أن يأخذ بأفكار الملامة، فالعاصفة قد
سكنت واضمحلت ويرى الناس جميعًا شبحًا مضيئًا خارجًا من ذلك المضطرب،
وهو على كل حال ليس شبح بطل من أبطال الأساطير، ولكنه لما كان له نور
العبقري وإشراقه، فله أيضًا عظمة العبقري وتساميه: التجرد عن الدنيا الإيمان
الكامل، والانصراف عن كل شيء، ما خلا إرادة الله، وليس بإمكان البصيرة
الإنسانية أن تكشف حُجُب الغيب عما عساه يقع ويحدث، ولكن حقيقة ما وقع
وحدث بيِّنَة جلية، فقد اقتضى الأمر ثلاث عشرة سنة عملاً وحربًا، لمحو الضرر
السيئ الذي كان من الأشهر العشرة ولكن الثلاث عشرة سنة، أخرجت لإنجلترا
رجلاً قائدًا ورجالاً سواه قوادًا بحسب مراتبهم، وصاغت منهم أبطالاً، أبطال يوم
كان مأزقه حرجًا.
وإذا كان من المُسَلَّم به أن هذا هو الخير الوحيد الذي جاء من جميع ذلك الشر،
فمن الواجب أن يرى إلى جانب هذا الخير خير آخر أيضًا، وأن شهادة المستشهد
في الخرطوم أكسبت بريطانيا وجميع العالم، بطلاً جديدًا، ومثالاً جديدًا، وأضافت
اسمًا جديدًا إلى أسماء الرجال الذين وهم على صورتنا البشرية - وما أبعد الفرق-
أصبحوا يضيئون في الخيال ويشرقون، ويتسامون بالروح ويتعالون.
أما غوردن فقد بذل نفسه في سبيل تحرير السودان من القهر وأيدي السلب
والنهب، بل وفي سبيل ما هو أكثر من هذا، ألا وهو (تنصير السودان) وفي
يوم السبت الماضي، وهو يوم الذكرى الأربع والأربعين لموته، وذكرى قريب
الثلاثين لتحقيق الغرض الأول من أغراضه، أذاع حاكم السودان العام نداء عامًّا
للاكتتاب المالي لاستئناف العمل في سبيل تحقيق الغرض الثاني - وهو الأعز-
وعضَّد النداء أعاظم القواد الذين كانوا في الحملة الحربية ولم يزالوا أحياء يرزقون،
وهي الحملة التي بإحرازها الحرية للبلاد عَبَّدَتِ الطريق لنشر الدين، ومن المؤكد
أن مثل هؤلاء القواد لا يذهب نداؤهم عبثًا.
وبعد أن انقضى على موقعة أم درمان سنتان وهي موقعة تحرير السودان أذيع
نداء لبناء كتدرائية في الخرطوم، ولكن حرب جنوب إفريقيا صرفت أذهان الناس
وأيديهم عن العناية بالمشروع، ومنذ زهاء عشرين سنة افتتح اكتتاب في (منشن
هوس) وكان الملك إدورد ومليكنا الحالي في الطليعة، ثم إلى الآن انقضى سبع
عشرة سنة على تكريس الكتدرائية في الخرطوم لم تبرح تلك المحطة الخارجية من
محطات النصرانية في إفريقيا، وهي مبنية على مرمى حجر من مقتل غوردن،
وفي القسم الأوسط من داخلها المصلب كنيسة غوردن التذكارية، لم تبرح تلك
المحطة غير ناجزة وغير محبوسة عليها الهبات.
وهناك حاجة إلى أن تُشَاد الكنائس في بورسودان على ساحل البحر الأحمر
شمال سواكن، وفي عطبرة على النيل جنوبي بررة وفي واد مدني على النيل
الأزرق للشمال الشرقي من الخرطوم، في أماكن أخرى حيث الطوارئ البريطانية
مُوَزَّعَة جماعات هنا وهناك.
وهناك حاجة إلى كنيسة سيَّارة تروح وتغدو في القطار وإلى هذه الكنيسة
السيارة الحاجة أمس لما نعطي من الوسيلة لنشر الدين الذي كان عليه غوردن،
وفي سبيله مات، وإن الروح التي لا تغلب روح رجل العبقرية في التضحية
والغرابة، لم تزل قوة حية في بلاده وإنها الآن لفرصة وواجب في المتناول، أن
يشترك في عمله الذي بدأ هو به، وتبذل المعونة لنشر ذكراه وتعميم تلك النفس
السامية النادرة المثال، في كل ناحية وصوب اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/766)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعليق المنار وتنبيه المسلمين الأغرار
اعتبروا أيها المسلمون الغافلون الأغرار بتصريح عظماء الإنكليز وحكومة
السودان بهذا المشروع تنصير السودان.
اقرءوا هذه الوثائق الرسمية الناطقة بلسان دينكم مصرحة بأن الغرض الأخير
الأعلى للإنكليز من حملهم صاحب مصر الذي أضاعها على إرسال (غوردون)
الإنكليزي القائد القسيس إلى السودان إنما هو انتزاع أهله من حظيرة الإسلام
وجعلهم نصارى تستخدم الدولة البريطانية أرواحهم كما تسخر أجسادهم في سبيل
ترقية البريطانيين محرري الأمم والشعوب.
وأما الغرض الأول من دسِّ هذا الإنكليزي القائد الفاتح المبشر فهو التمهيد
لانتزاع أمبراطورية السودان من سلطان الحكومة المصرية الغافلة المغفلة، ونقله
إلى حظيرة الإمبراطورية البريطانية المرنة، التي يعمل أبناؤها الأيقاظ لرفع علمها
الصليبي فوق رءوس جميع البشر.
هذان هما الغرضان الحقيقيان المقصودان بالذات من تحكيم (غوردن) في
السودان، ولكن كان له غرضان آخران صوريان بل وسيلتان إنسانيتان له لذينك
الغرضين (إحداهما) إنسانية عامة وهي تحرير الرقيق حبًّا في البشر والسود منهم،
وإن كان في الإنكليز من الإفرنج من يقولون: إنهم ليسوا من ذرية آدم، ومنهم
من يقول: إنهم من أصل غير أصل الإنسان الأبيض - وعلى كل قول من الأقوال
يستحق السوداني أن يجعل مسيحيًّا، وإن لم تلحقه معصية آدم الذي ظهر للمسيح -
وهو عندهم رب البشر- بناسوت أحد أنبائه، وولد من بطن بعض بناته لأجل
تخليص ذريته من تَبِعَة المعصية ومعصية زوجه - وإنما الذي لا يجوز فهو أن
يكون مساويًا في النصرانية للإنكليز بحيث يصلي معهم في صف واحد في الكنيسة
كما يتساوى المسلمون في المساجد، وكذلك يستحق اسم الحرية الشخصية لأفراده
وإن كان معناها استعباد شعبه لبريطانيا العظمى.
والوسيلة الثانية لتنصير السودان وأنكلتهم أو سكسنتهم أو كلنزتهم - وأعني
الوسيلة الصورية الرسمية - هي خدمة الحكومة المصرية، وهل احتل الإنكليز
مصر بعد إخماد تألب أهلها على أميرهم إلا لأجل حفظ سلطانه عليها؟ وهل أنقذوا
السودان من الدراويش بجند مصر ومال مصر وأنشئوا فيه السكك الحديدية بهما إلا
إخلاصًا في خدمة مصر وأمراء مصر. فإن كانوا رأوا بعد ذلك أن السودانيين أولى
بالحب والعشق الإنكليزي والخدمة البريطانية من المصريين وأمرائهم فأنقذوهم منهم
فما خرجوا عن شنشنتهم في عشق الشعوب وخدمتها فهم كما قال عاشق الحسان:
محا حبها حب الأولى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حل من قبل
وكان مبدأ الوظيفة الرسمية التي نِيطَ به في أول الأمر أن إسماعيل باشا
الخديو واضع الألغام تحت مصر والسودان قد أصدر أمره في أواخر سنة 1290
يناير سنة 1874 بجعل الكولونيل غوردن حاكمًا على خط الاستواء ومنحه مائة
ألف جنيه من الخزينة المصرية نفقة لحملته، وسموه لا يدري أنها لفتح السودان
لدولته.
لم أكتب هذا التنبيه لأحث حكومة مصر أو شعبها المسلم على السعي لمنع
تنصير الإنكليز لمسلمي السودان فإنهم في هذا مضرب المثل العربي (الصيف
ضيعت اللبن) ولا لأدعوهم أو أدعو غيرهم إلى الاحتجاج على هذا العلم فإنني لا
أرجو أن يرتفع لهم صوت ند في ذلك يُشهر به ويؤثر في أنفس سامعيه على أنه لا
يصد الإنكليز عنه بعد أن أظهروه وشرعوا فيه.
وإنما كتبته للمقاصد الآتية:
(1) توجيه أنظار المسلمين ما عدا العميان المنكوسين ولا سيما العرب
الغافلين إلى خطة الإنكليز في استعمار الأقطار واستعباد الشعوب وهدم حكوماتها
وديانتها.
(2) ما هو أهم من هذا، وهو أنهم لم يستولوا على قُطْر من الأقطار
بقوتهم البرية أو البحرية إلا باستخدام الجهلة أو الخونة من ساداتها وكبرائها لذلك،
فمن لم يعرف شيئًا من تاريخ استعمار الهند فلينظر في سيرتهم في بلاد العرب
وليقس مستقبل فلسطين وشرق الأردن والعراق على ماضي مصر والسودان
وحاضرهما.
(3) تفطينهم لما هو أخفى عليهم من هذا، وهو أن دعاة تجديد الإلحاد
والزندقة بهدمِ عقائد الإسلام وآدابه - أو ثقافته كما يقولون - وتشريعه ولغته حتى
حروفها هم أضر على الإسلام والمسلمين من الإنكليز والفرنسيس والهولنديين
والإيطاليين، سواء أكانوا في أعاجم الترك والفرس والأفغان، أو في عرب مصر
وسورية والعراق.
فإذا كان أولئك الرؤساء والأمراء قد باعوا ولا يزالون يبيعون بلادهم للأجانب
بتأمير الأجانب إياهم فيها، فهؤلاء الملاحدة دعاة الهدم المسمى بالتجديد - كتسمية
الاستعباد بالانتداب وتسمية الشِّرْك الخرافي بالتوسل - يسعون لهدم جميع مقوماتها
ومشخصاتها التي كانت بها أمة ولا سيما الدين وهم بذلك يخدمون الأجانب
المستعبدين لهم بما يمكن لهم في أرض الشعوب التي يحتلونها بالأسماء الخادعة
(كالاحتلال المؤقت والانتداب وغير ذلك) حتى لا يُرْجَى أن تبقى لهم جامعة توحد
قواهم وتمكنهم من استعادة استقلالهم عند سنوح الفرص له.
وقد حدثني الثقة الذي لا يماري أحد يعرفه في صدقه أن أحد دكاترة الإلحاد
بمصر قال له: لولا تعصب المسلمين الديني الذي من تعاليمه أن تكون حكومة
المسلمين لأولي الأمر منهم لأمكننا إقناع الشعب المصري بالجنسية الإنكليزية
والتبعية لحكومتها العزيزة القوية واسترحنا من هذا الكفاح في سبيل الاستقلال.
(4) تذكير المسلمين من جميع الطبقات بأن يعتبروا بعناية الإنكليز بنشر
دينهم ومذهبهم، وجعل ذلك غاية الغايات لفتوحهم الذي يسمونه في أول الأمر
بأسماء لطيفة لخداع أهلها، فإذا كان الدين من الأمور العتيقة البالية، التي لا يصح
أن يبقى لها في القرن العشرين من باقية، فما لأقوى الأمم وأعز الدول يبذلون
الجهود، والقناطير المقنطرة من النقود في المحافظة على دين شعوبهم فيها، ثم
على نشره مع مراعاة مذاهبهم في الشعوب الأخرى، فإذا تأملوا هذا يدركون مقدار
ضرر دعاة الإلحاد منهم فيهم، وكونهم يخدمون بل ينصرون خصومهم عليهم.
ومن العبرة في هذا المقام تنافس كل من إيطالية وفرنسة في استمالة البابا
رئيس الكنيسة الكاثوليكية إليها، بل يقال: إن اقتراح بعض رجال الإنكليز لتعديل
كتاب الصلاة لكنيستهم لا سبب له إلا التقرب من البابا والتمهيد لتوحيد كنائس
النصرانية كلها، وهو ما تعقد لأجله المؤتمرات في كل عام في الأقطار المختلفة،
ومنها بلدنا هذا في قطرنا هذا.
فيا أيها المسلمون: اعلموا أن جميع دعاة التجديد الإلحادي أعداء لكم وأولياء
لأعدائكم، وأن كل من يمدح لكم خطة الكماليين ومقلديهم من الإيرانيين والأفغانيين
فهو لكم عدو مبين، فلا يغرنكم خداعهم لكم بذكر مخترعات الصناعة من الطيارات
وآلات المواصلات والغواصات وغيرها، فهذه الأشياء مما يوجبها الإسلام على
المسلمين، وليست من مبتكرات الملاحدة الإباحيين، فهو يحث عليها ويفرضها
على الأمة فرضًا، فلا ننكرها على تلك الشعوب بل نحثهم عليها، وإنما ننكر
عليهم إفساد العقائد الدينية والفضائل الشرعية، وإباحة الكفر والسُّكْر والزنا والقمار
وغيرها من المفاسد المهلكة للأمم القويمة فضلاً عن الضعيفة كهذه الشعوب الشرقية،
وإننا نؤيد هذا التنبيه ببعض الأخبار عن عظماء أوربة من رجال العلم والسياسة
بالمختارات الآتية من الصحف:
***
المسألة الدينية في إنكلترا وغيرها [*]
ورد تلغراف من لندن إلى جميع جرائد أوربا مفاده أنه في مجمع الأساقفة
الإنكليز الذي انعقد في وستمنستر قرئ الكتاب الآتي الذي وجهه المستر ويليام
جونسون هيكس ناظر الداخلية الإنكليزية وهو:
(ينبغي لكنيسة بريطانيا العظمى أن تحدد خطتها بجلاء، هل تريد أن تتحد
مع رومية اتحادًا تامًّا أو ناقصًا؟ وهل تريد أن تستند على تأويلاتنا للكتب المقدسة
وتتحد مع الكنائس البروتستانتية التي في البلاد؟)
ثم قال ناظر الداخلية المشار إليه: إنه لا يقدر أن يصدق (أن الكنيسة
الإنكليكانية تريد أن تعود إلى ما تحت سلطة الباب كما أن سائر الكنائس
البروتستانتية التي تتبع العقائد التي تتبعها الكنيسة البروتستانتية هي معها في هذا
الأمر) .
ومن هنا يعلم القارئ أن فصل الدين عن السياسة هو فصل إداري لا غير،
وأن الحكومات في الممالك الراقية تهتم بالمسائل الدينية وتبحث فيها؛ لأنها تتعلق
بوجدان الأمم التي وجدت تلك الحكومات لإدارتها. أو الثرثرة التي معناها تخطئة
المسلمين لجعلهم الخليفة رئيسًا دينيًّا كما هو رئيس دنيوي إن هي إلا من جملة
الثرثرات التي لا طائل تحتها.
فالخليفة عند المسلمين رئيس ديني كما أن ملك إنكلترة رئيس للكنيسة
الإنكليكانية. والمسلمون يدعون للخليفة في الجوامع كما يدعو الإنكليز لملك إنكلترة
في الكنائس بلا فرق. لا بل عندما تفتح الإنكليز هذه المرة كتاب الصلاة الذي هو
دستور الكنيسة الإنكليكانية اختلفوا في أشياء كثيرة ولكنهم اتفقوا على زيادة صيغ
الأدعية المتعلقة بحفظ حياة الملك وعائلته وتوفيقهم وتأييدهم.
ومنذ أيام قلائل احتفل في قصر دورن من هولاندة بدخول القيصر الألماني
السابق ويليام الثاني في سن السبعين، وتواردت عليه التهاني من أحد عشر ألف
شخص، واجتمع في القصر أكثر أبناء الأسر النبيلة يتقدمهم ملك الساكس السابق
وولي عهد بافاريا، وأقيمت المراسم الدينية بمناسبة هذا العيد في كنائس ألمانيا
وتليت الأدعية بحفظ حياة القيصر وعائلته ونعت بلقب (رئيس الكنيسة المسيحية
في ألمانيا) وذلك أن إمبراطور ألمانيا وملك بروسيا هو رئيس الكنيسة اللوثيرية في
العالم وحاميها كما أن ملك إنكلترة هو رئيس الكنيسة الإنكليكانية وحاميها. ولا يزال
اللوثيريون في ألمانيا يعدون الإمبراطور ويلهلم الثاني رئيسًا لكنيستهم ويدعون له.
إذًا الدعاء للملوك حماة الأديان ليس خاصًّا بالمسلمين ولا موجبًا للهزؤ
بالمسلمين.. بل ليس منحصرًا بالمسلمين والمسيحيين معًا. فقد فات المسلمين
والمسيحيين في هذا الأمر اليابانيون الذين ليس اليوم في الشرق ولا في الغرب أمة
تسبقهم في ميدان التقدم، ومع هذا فعند تتويج إمبراطورهم منذ نحو شهرين أو ثلاثة
كانت الحفلة كلها دينية واستمرت نحو شهر من الزمن، ولبس الإمبراطور حلة
الكهنة وأخذ بيده العكاز الذي يتوكأ عليه؛ وذلك لأن الإمبراطور هو الرئيس الفعلي
للديانة اليابانية وهو الذي يقال له: ابن الآلهة الشمس، وقد كان من جملة المراسم
التي أقيمت في حفلة تتويج ملك اليابان أن الإمبراطور أكل الأرز المقدس مع الآلهة
التي يتعبدون لها ... وكان هذا الأرز قد زرع هذه السنة زراعة خاصة توكل عليها
عمال من قبل الحكومة تحت ملاحظة الكهنة، فالإمبراطور في الحقيقة هو رئيس
الدولة ورئيس الديانة معًا، ولم يضر ذلك شيئًا برُقي اليابان المدهش الذي يبهر
الأبصار وليست في الدنيا حكومة لا تعرف الدين إلا الحكومة البولشفيكية، فكان
الأولى بهؤلاء الذين لا يزالون يهزءون بصبغة الملوك الدينية أن ينشروا الثقافة
البولشفيكية ويحبذوها دون غيرها، هذا إذا أرادوا أن يكون عندهم شيء من
المنطق.
والحال أنهم لا يكرهون صبغة الملوك الدينية إلا إذا كانت المسألة متعلقة
بالإسلام، فلم نفهم لماذا؟ لا تراهم يعترضون على صفة ملك إنكلترة الدينية ولا
على صفة آل هونسولرن الدينية ولا على الثقافة الدينية التي أقامتها الحكومة
الإيطالية في زمن موسوليني، ولا على إدخال تنصير أهالي الكونغو في بروغرام
حكومة بلجيكا ... إلخ إلخ، ولا على صفة عاهل اليابان الدينية التي هي اليوم كما
كانت من ألفي سنة.
ولو سقط البلاشفة وأعيدت القيصرية إلى الروسية وسيكون بالطبع قيصر الروسية
رئيسًا حاميًا للكنيسة الأرثوذكسية كما كان من قبل، وهذا شيء لا مفر منه - فلن
تجد لهؤلاء اعتراضًا بل يكون لهم بذلك مزيد الرضى والاغتباط.
فالاعتراض إذًا منحصر في الصبغة الدينية إذا ظهر بها ملوك الإسلام.
فهناك ما شئت من قذف وطعن وسخرية....
ولا نظن ذوي العقل والإنصاف يفرقون بين الأمرين ويجعلون الدين
معرة للحكومات إذا كان إسلاميًّا، ومفخرة لها إذا كان مسيحيًّا أو يابانيًّا، فالدين
دين مبدؤه واحد فإذا صح الاعتراض على انتحال الملوك له إذا كانوا مسلمين فقد عم
هذا الاعتراض على انتحال الملوك له إذا كانوا مسيحيين أو شيلتوبيين , وإذا
جاز لمجالس إنكلترة النيابية أن تبحث عدة أسابيع في الخبز والخمر، وهل
استحالتهما إلى جسد المسيح حقيقة أم رمز؟ فقد جاز للحكومات الإسلامية أن تهتم
فيما هو عائد لعقيدة شعوبها. وإذا كان ملك إنكلترة لدى تتويجه يحلف على أنه
سيحمي الدين الإنكليكاني.. فليس إذًا من غرابة في اهتمام خليفة الإسلام
بالمحافظة على الدين الإسلامي وبالاختصار لا نفهم لماذا لا يجوز هنا الذي هو
جائز هناك؟
ولماذا الذي هو إكليريكي في هذا الموضع ينقلب (لابيكيا) في الموضع
الآخر؟
ولماذا الذي لا يأتلف مع الرقي عند زيد يأتلف تمام الائتلاف عند عمرو؟
وأما الذين أقوالهم أشبه (بعنزة ولو طارت) فلا أحد يبالي بسفاسفهم، وهي
من نحت الجدال ومن دون الخطاب.
__________
(*) لكاتب من أنصار الدين، نشرت في جريدة المنار الغراء.(29/771)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعديل كتاب الصلاة في إنكلترا
جاء في جريدة الأخبار ما يأتي:
جاء في جريدة الطان بعددها المؤرخ في 14 ديسمبر (سنة 1928) أنه
انعقد مجلس اللوردة في جلسة تُعَدُّ من أعظم الجلسات شأنًا منذ نهاية الحرب إذ
اقترح فيها رئيس أساقفة (كانتربري) التصديق على النص المُعَدَّل لكتاب
الصلوات. وقد ذكر في أثناء كتابه أنه لم يقع أدنى تبديل أو تغيير في عقيدة
الكنيسة الإنكليزية، وجُلُّ ما هناك أن عبارات دعائية قد أضيفت لأجل الملك
ولأجل الأموات , وكذلك بعض أنظمة تتعلق بحفظ الأشياء المقدسة.
فاقترح اللورد هانفورد رفض الاقتراح وقال اللورد (دنبيغ) إن أعضاء
المجلس الكاثوليكيين لا يشتركون في هذه المناقشة فتأجلت الجلسة إلى الغد اهـ.
(الأخبار) سبحان الله ما زالوا يقولون لنا: إن الأمم المتمدنة قد فصلت الدين
عن السياسة فصلاً تامًّا، وإن أمور الدين إذا اختلطت بأمور الدنيا أفسدتها، ولذلك
جميع الحكومات الراقية في هذا العصر (لا ييق) أي لا دينية، وأن هذا كان سبب
رقيها، وقد كانت هذه الدعوى أعظم ما تمسكت به حكومة أنقرة وتابعها عليه أذنابها
بمصر فليخبرونا الآن ما مدخل (كتاب الصلوات) بمجلس اللوردة وأي فصل هنا
بين السياسة وبين الدين، وليخبرونا هل حكومة إنكلترة خارجة عن كونها (لا ييق)
بسبب طرح قضية الصلوات في مجالس الحكومة، وعلى فرض أن الحكومة
الإنكليزية غير (لا ييق) وأن حكومة أنقرة هي حكومة (لا ييق) بمعنى الكلمة،
فهل صارت حكومة أنقرة أرقى في سلم السياسة والاجتماع من الحكومة البريطانية؟
أخبرونا أيها (اللاييق) أثابكم الله، أو فاخرسوا واخجلوا واعلموا أن بين
الدين والسياسة صلات لا تنقطع، وإن كان كل منهما منفصلاً عن الآخر في دائرة
اختصاصه، فهناك أمور عامة لا بد للسياسي الحكيم أن يأخذها بنظر الاعتبار،
وإن تعظيم شعائر الدين والاهتمام بتثبيت العقيدة لن يضرا شيئًا رقي الأمم وانتظام
الحكومات بل يساعدان على سير الانتظام واستمرار الترقي بما يكفلانه من تمكين
دعائم الأخلاق وعدم إقلاق ضمائر الأفراد الذين تتركب منهم الأمة، فإذا كانت
حكومة أنقرة تريد أن تحارب الدين الإسلامي فلتتخذ لها برهانًا على عملها المنكر
غير قضية الاقتداء بالأمم المتمدينة.
__________(29/777)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع قانون جمعيات المرسلين الدينية
في فرنسة
باريس في 19 مارس - يتناقش مجلس النواب في مشروع قانون جمعيات
المرسلين الدينية، وقد قال المسيو بول بونكور رئيس لجنة الشئون الخارجية: إن
هذه اللجنة حصرت أبحاثها في السياسة الخارجية وهي تحاذر أن تقيم العقبات.
ووصف المسيو هيرو المقرر ما قدَّمه المرسلون من الخدمات المنطبقة على
الشرائع العلمانية وحق فرنسا الأسمى، وقال الخطيب: إن جميع وزراء الخارجية
في فرنسا عضدوا المرسلين في البلدان الأجنبية، وأن الرسالات العلمانية تعمل
أعمالاً تستحق الإعجاب ولكنها محدودة وهي تتعاون تعاونًا وديًّا مع الرسالات
الدينية. ولا بد من إبداء هذه الملاحظة، وهي أن الرسالات الدينية التي تعلم في
مدارسها خمسمائة ألف طالب وطالبة تقبض إعانة من الحكومة قدرها سبعة ملايين
فرنك، أما الرسالات العلمانية التي تعلم عشرة آلاف طالب وطالبة في معاهدها،
فإن الإعانة التي تقبضها تبلغ 34 مليونا ثم إن إيطاليا والولايات المتحدة تجودان
بسخاء على رسالاتهما الدينية.
وختم المسيو هيرو كلامه طالبًا الموافقة على المشروع اهـ.
(المنار)
هذا إحدى البرقيات التي وردت من باريس في هذا الموضوع ثم جاء بعد ذلك
أن مجلس النواب الفرنسي وافق على هذا المشروع:
فهل يعتبر بهذا ملاحدة الترك والأفغان وإيران ومصر وغيرها من البلاد
العربية الذين تَلَقَّى أكثرهم دروس الإلحاد وإباحة الفسق من بعض ساسة فرنسة أو
تلاميذهم ومقلديهم؟ كلا إنهم كما قال الشاعر:
عُمْي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدًا.
__________(29/778)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحريم موسوليني تهتك النساء وتبرجهن
أصدر السنيور موسوليني سيد إيطاليا الآن الأوامر والتعليمات الآتية التي
يجب على من يرتاد الشواطئ الإيطالية أن يحترمها ويسير بموجبها، وهي:
يحرم على النساء أن يغتسلن في البحر في نفس المكان الذي يغتسل فيه
الرجال.
يحرم على كل من يغتسل في البحر، رجلاً كان أو امرأة أن يرتدي ثوبًا
يترك جسمه عاريًا أكثر مما يجب، فلباس الحمام ينبغي أن يغطي الجسم كله ما عدا
اليدين والقدمين.
يحرم على من يغتسل في البحر، رجلاً كان أو امرأة، أن يضع عليه لباسًا
لاصقًا بالجسم.
يستولي البوليس على كل لباس لا يكون جامعًا لهذه الشروط ويساق صاحبه
إلى نقطة البوليس لكتابة محضر مخالفة.
يحرم قطعيًّا على كل من يغتسل في البحر أن يرقص وهو بلباس الحمام.
وقد بدأ القوم ينفذون هذه الشروط والتعليمات القاسية.
في الوقت الذي يُعْنَى فيه موسوليني كل العناية بتقوية الإنتاج في إيطاليا،
وتقليل الوارد تراه يُعْنَى بمسألة الزي النسائي. وقد أنشأ لهذا الغرض لجنة لتعمل
على (توحيد زي المرأة) وقبلت ملكة إيطاليا أن ترأس هذه اللجنة، وقد علقت
جريدة الماتان على ذلك بقولها: إن توحيد زي المرأة معناه خلق زي إيطالي محض
يسمح لغادات رومية وميلان أن يستغنين عن اقتناء الأزياء الباريزية وعن صنع
أثوابهن من الأقمشة الأجنبية، وهذا مما يقلل أيضًا مقدار الفاضل في التجارة
الإيطالية، ثم إن موسوليني يريد أيضًا أن ينقذ المرأة الإيطالية من ضروب الخلاعة
التي تعصف اليوم بأوربا وأمريكا. وعلى ذلك فإن اللجنة الجديدة تنوي أن تقرر
نماذج لأثواب واسعة محتشمة تبدأ من العنق وتنتهي حتى العقب.
(المنار)
من العجيب أن تنشر جرائدنا العربية في مصر وغيرها مثل هذه الأخبار
الحسنة عن أعظم رجال أوربة، ثم ترى أكثرها تدعو إلى إطلاق العنان للنساء في
الخلاعة والتهتك، وتسمي هذا - وما هو شر منه - النهضة النسائية، وتثني على
الحكومة التركية الجديدة في إباحتها الكفر والإلحاد والسكر والزنا والقمار وتسميه
إصلاحًا وتجديدًا، وما هو بجديد، بل هو الذي أهلك الشعوب القديمة كلها.
__________(29/779)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحروف العربية واللاتينية
إذا مسستم الحروف العربية هددتم وحدة الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... ... عالم إنكليزي كبير
زار القاهرة في هذا الشتاء المنصرم السير إدوارد دنيسون روس مدير مدرسة
اللغات الشرقية في لندن وهو من أعظم مستشرقي العالم شهرة، وأكبرهم شأنًا
وأكثرهم اطلاعًا. له مؤلفات عدة عن آداب الشرق وحضارته. وقد قابله أحد
محرري الأهرام في فندق شبرد، ودار بينهما حديث محوره مسألة الحروف
اللاتينية والعربية.
قال العلامة المستشرق في أوائل حديثه: لقد تقدمت في السن وأخشى أن لا
يتيسر لي بعد الآن أن أزور فلسطين وسورية والعراق في طريقي إلى إيران،
أريد قبل كل شيء أن أرى حال الإسلام وما حدث له. وسيكون في مقدمة ما أقوم
به زيارة الأزهر وفضيلتي شيخ الجامع الأزهر والمفتي.
ونظر إلى الأستاذ عزام (وكان حاضرًا) ثم قال ضاحكًا: ولكن يجب أن لا
أعامل كَكَافر فإني مؤمن، مؤمن حق الإيمان.
ثم جرى الحديث في شتى المسائل وانتقل إلى مسألة الحروف التركية
واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية فسأله المحرر رأيه في ذلك فقال:
لا شك أن مصطفى كمال باشا من أكبر العبقريين في العالم [1] فإنه إذا أراد
إدخال إصلاح يجعله قانونًا مفروضًا على الناس، خذ مثلا مسألة الحروف ولو ألفت
لجنة لبحثها لقضت سنوات بعد سنوات، دون أن تصل إلى نتيجة........ ...
وأما كمال باشا فإنه جلس مع آخر أظنه وزير المعارف الذي توفي ووضع معه
الحروف التركية اللاتينية، ثم قال (غدًا تكون هذه حروف البلاد) وفي الغداة فرض
الغازي على الناس تعلُّمها.
ثم قال: عندي أن هناك غلطتين في تطبيق الحروف اللاتينة على الحروف
التركية (أحدهما) في حرف (i) اللاتيني فقد استعمله كمال باشا بالنقطة للقيام
مقام حرف قديم وبدون نقطة للقيام مقام حرف قديم آخر، واستعماله بدون نقطة
ارتباكًا لاسم إذا كان قبله أو بعده حروف (n) أو (u) أو (m) إلخ، بل هذه
الحروف نفسها يشكو الإنجليز من تشابهها، وقد عمد الألمان إلى التخلص من هذا
التشابه، فكان الأجدر بمن يصنع حروفًا جديدة أن يتجنب وجوه التعقيد والارتباك.
قلنا: وهل يعمد الفارسيون إلى مثل هذا التغيير؟
فقال: لا أدري وسأرى هذا، متى وصلت إلى هناك، ولكني على أي حال
بحثت الموضوع بحثًا دقيقًا، وسأضع نفسي تحت تصرف الحكومة الفارسية إذا
طلبت رأيي في الأمر [2] .
قلنا: وهل تظن أن من المتيسر استبدال الحروف العربية بلاتينية؟
قال: إياكم وهذا الأمر، إني أفهم اقتباس الحروف اللاتينية في بلاد مثل
تركيا أو إيران أما في مصر فالحذر من هذا؛ لأن الحروف العربية هي حروف لغة
القرآن، وإذا مسستم الحروف العربية مسستم القرآن بل هدمتم صرح وحدة الإسلام.
قد يمكن أن تطبق الحروف اللاتينية على اللغة العامية؛ لأنها لا ضابط لها،
تكتب كما تسمع، أما العربية فيجب أن لا تمس مطلقًا؛ لأن الإسلام أساسه اللغة
العربية فإذا ضاعت ضاع الإسلام. اهـ المراد منه باختصار.
__________
(1) إن ما فسر به هذه العبقرية يدل على قيمتها عنده فإنه لا يوجد عالم ولا عاقل في الدنيا يستحسن وجود حاكم قاهر يجعل كل ما يريده شرعًا مفروضًا وقانونًا يُكْرِه الناس عليه إكراهًا من غير بحث ولا تحقيق على أنه صرَّح بتخطئة هذا العبقري تصريحًا بعد أن عرَّض به تعريضًا.
(2) المنار: إن أخبار إيران جاءت بأن اللجنة التي ألفتها الحكومة للبحث في هذه المسألة رفضت استبدال الحروف العربية باللاتينية بعد أن استحسنها هذا العالم الإنكليزي، وهو لم يستحسنها إلا لإخراج الشعب الإيراني من عضوية الوحدة الإسلامية، وهذا يعارض نصحه لنا في مصر بأن لا نقدم على هذا، كأنه يريد أن يحصر الإسلام في العرب دون الفرس والترك وهو ما يدل عليه كلامه الآتي.(29/780)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حول قتل الأنبياء بغير حق
كتب إلينا الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء تحت هذا العنوان حكمه في انتقاد
هذه المسألة بما نصه:
بينما أنا أقرأ المنار (الجزء التاسع من المجلد التاسع والعشرين) إذ وقع
نظري على عنوان (اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه بالأزهر) صفحة 711؛
وإذا به يحتوي على تحكيم العلماء المفسرين بالأزهر في جدل نشأ بين صاحب
المنار وبين منتقد حول عبارة من عبارات تفسير القرآن (جزء ثالث) لصاحب
المنار حيث ادعى المنتقد أن عبارة المفسر عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) تفيد نصًّا أن قتل الأنبياء قد يكون بحق وجائزًا،
واعتقاد هذا كفر، ورد صاحب المنار بأن هذا غير صحيح. فرأينا وجوب الرجوع
إلى عبارة الأصل وعبارة المنتقد لنكون على بينة فبمراجعة العبارتين تبين لنا أن
عبارة الأصل جزء ثالث تفسير صفحة 262 هكذا.
وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) بيان للواقع بما يقرِّر بشاعته
وانقطاع عرق العذر دونه وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا كما يقول
المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرِّر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع
الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف فإذا قلنا: إن كلمة {حَقٍّ} (آل
عمران: 21) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد
العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري وإن لم يكن متعمدًا لقتله،
فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتله وقتلوه يكون قتله حقًّا في عرفهم لا
يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة واليهود لم يكن لهم حق ما في
قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفًا) اهـ.
ووجدنا عبارة المنتقد في الجزء الرابع من هذا المجلد (صفحة 280) هكذا:
(أدهشني جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ} (آل عمران: 21) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد
بكلمة حق في الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق
النفي كان قيد (بغير الحق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى
لقتله القبطي، فإنه بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ، يكون قتلهم
له بحق فلا يعاقبون عليه وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ.
وهذا مما يقضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن مصلح
عظيم وأستاذ محقق كبير مثل السيد. والحق واحد وهو ما طابق الواقع، فالحق
العرفي أي ما يُعَدُّ في عرف الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق وإلا فباطل،
فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره حقًّا يقضي بقتله،
ثم بعد فرض أن شريعة الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته
كيف يتردد في كونها عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تُذَمُّ إذا كانت
غير عادلة) العبارة نص في نظرنا في أن قتل النبي قد يكون بحق وجائزًا،
واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا بشرحه وافيًا
اهـ.
فبتأمل ما سبق تبين لنا أن كلام المفسر يحتوي على ثلاث نقط:
أولاً: قوله: إن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا.
ثانيًا: قوله كنتيجة للبحث (واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من
النبيين لا حقيقة ولا عرفًا) .
ثالثًا: قوله: (لو كانت كلمة (حق) تشمل الحق العرفي لدخل في مضمونها
مثل قتل المصريين لموسى عليه السلام إذا كانت شريعتهم وعرفهم تقتضي بذلك
لقتله رجلاً منهم، وإن لم يكن متعمدًا ولا يذمون وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير
عادلة.
فالعبارتان السابقتان تدلان دلالة صريحة على أن قتل الأنبياء لا يكون بحق
أبدًا، والعبارة الثالثة إذا تأملناها مقطوعًا النظر فيها عما قبلها وما بعدها وجدناها
محتملة لأن يكون التمثيل بقتل المصريين لموسى القاتل منهم تمثيلاًَ لقتل الأنبياء
بمقتضى الحق العرفي وذلك بأن يكون الممثل له (حق) ملحوظًا فيها ربطها بقتل
النبيين وأن يكون موسى نبيًّا وقتئذ، وأن يكون ذلك تمثيلاً لا تنظيرًا، ومحتملة
أيضًا لأن يكون المذكور تمثيلاً بمطلق قتل بحق عرفي لا بقتل نبي.
فلو جاءتنا هذه العبارة المحتملة منفردة مقطوعة عن سابقتها ولاحقتها لوجب
علينا أن نحملها على ما يتفق وحسن العقيدة حيث قرَّر العلماء أنه إذا قال مسلم كلمة
تحتمل الإيمان من وجه وغير الإيمان من تسعة وتسعين وجهًا وجب حملها على
وجه الإيمان فرارًا من تكفير مسلم بدون قاطع {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ
لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94) .
أمَا والعبارة تكتنفها عبارتان صريحتان في أن قتل الأنبياء لا يكون بحق
فليس لنا أن نهملهما ونهمل مقتضى القاعدة السابقة ونتلمس وجوه الخطأ من وراء
ظهر السياق؛ إذ لا حظ لمسلم في تخطئة مسلم.
وأما قول المفسر: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) فلا يصح أن
يكون فيه مغمز؛ إذ لا تستطيع هذه العبارة أن تقف في وجه صريح العبارتين
السابقتين فضلاً عن أن ما فيها من التقييد يساير كثيرًا من القيود التي لا ينظر إلى
مفهوماتها وذلك كثير حتى في القرآن الكريم: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ
بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون: 117) .
على أنه ما الذي يهمنا من هذا التقييد إذا كان الكلام كله فيما وقع وانقضى،
والمفسر معترف بأن جميع من قتل من الأنبياء قتل بدون أي شائبة من الحق،
وليس عندنا في المستقبل أنبياء نخاف من فتح باب العذر في قتلهم.
بقي من كلام حضرة المنتقد قوله: إن الحق لا يطلق إلا على ما طابق الواقع،
وذلك إنما يصح له إذا أمكننا أن نحجر على الاصطلاح أما إذا سلمنا أن الحق
ينقسم إلى عرفي وغيره، وغير العرفي هو الحقيقي، وهو ما طابق الواقع،
والعرفي هو ما اصطلح الناس على أنه حق وتعاملوا وتقاضوا على مقتضاه وإن لم
يكن في الواقع حقًّا بالمعنى الأول ككثير من القوانين الوضعية إذا سلمنا ذلك - ولا
مفر من تسليمه؛ لأنه الواقع المشاهد - فلا يصح للمنتقد هذا الحصر ولا ما بناه
عليه.
على أنه فُهِمَ من كلام المفسر أن الذي حمله على هذا التقسيم إنما هو قطع ما
فيه شائبة العذر لمن قتل نبيًّا أي أن بني إسرائيل قتلوا من قتلوا من الأنبياء ظلمًا
وعدوانًا بدون مسوغ شرعي ولا وضعي وليس لديهم شيء مما يتعللون به، ولو لم
يكن نافعًا في نفس الأمر، وهذا منتهى الحمق والسفاهة المُرْكِسَة لهم في أعماق
الجحيم والعياذ بالله تعالى، والله نسأله الهداية وحسن التوفيق آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الجليل عيسى
... ... ... ... ... ... مدرس تفسير بالقسم العالي بالأزهر
(المنار)
نكتفي بهذا الحكم بيننا وبين المنتقد، وإن لم يرجع فيه الحكم إلى ما رددنا به
عليه وصرَّحنا فيه بأننا ننكر دلالة عبارتنا على ما فهمه كما أننا لم نقصده منها
بالضرورة وحكم العقيدة فلو كانت العبارة تدل على ما فهمه لكان خطؤنا فيها لفظيًّا.
وكنا فهمنا أن غرضه من الانتقاد أن نبين له قصدنا من ذلك إن كان لنا قصد
صحيح، فبيَّنا له أن قصدنا مبالغة الكتاب العزيز في تعظيم شأن الحق ونوط
الأحكام به لتقرير المبالغة من تجرد اليهود من أدنى شائبة لحق ما في قتل من قتلوا
من الأنبياء، ومثله المبالغة في تعظيم شأن العلم في قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ
عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (لقمان: 15) وفي معناه
تعظيم شأن البرهان في الآية التي أوردها الأستاذ الحكم آنفًا، فهل يماري فيه
المنتقد كمرائه فيما قبله أم يذعن للحق؟
ومما تحكم به في تفسير عبارتنا زعمه أننا لما قلنا: (إن قتل الأنبياء لا
يكون بحق مطلقًا) وصلناه بكلمة (كما يقول المفسرون) وأن هذا يفيد أننا منكرون
لقولهم: وهذا تحكم ظاهر البطلان فالعبارة لا تدل عليه لغة ولا عرفًا ولا نحن
قصدناها، بل هي تؤكد ذلك النفي المطلق المؤكد وهو من قولنا لا حكاية للفظهم،
وكم لنا ولغيرنا من أمثال هذا التأييد، فهو يقلب كلامنا إلى ضد ما يدل عليه.
ومثل ذلك إنكاره لاصطلاح الناس وتواطئهم على تفسير الحق بحسب عرف
كل منهم فهو مكابرة للواقع كما قال الأستاذ الأزهري (وماذا يقول في هذا التشبيه
أيضًا؟ هل هو إنكار منا لصحة قول المفسر الأزهري؟) .
وإن لنا مقالاً ممتعًا في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع عنوانه (الحق
والباطل والقوة) قلنا فيه (ص 53) : (إن الحق والباطل يتنازعان في خمسة
أمور كلية وهي:
1- الفلسفة والنظريات العقلية.
2- الوجود والسنن الكونية.
3- السنن الاجتماعية.
4- القوانين والمواضعات العرفية.
5- الدين والشريعة الإلهية.
ثم فصلنا كل قسم من هذه الخمسة تفصيلاً، وتدخل مسألة قتل فرعون لموسى
عليه السلام لو قدروا عليه في القسم الرابع مما هنا، على أنه لم يكن عند قتله
للمصري وإرادتهم قتله نبيًّا. أفليس من دلائل سوء النية في النقد أن يجبرنا المنتقد
على حمل كلامنا على عرفه المزعوم، دون عرفنا وعرف سائر الناس المعلوم؟
__________(29/782)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نبي دعي في دبي
رسالة لصاحب الإمضاء الفاضل جاءتنا في أواخر السنة الماضية فَنُسِيَتْ في
الرسائل المهملة وهي:
قدم (دبي) في أوائل شهر ذي القعدة نبي جديد يُدْعَى (السيد جلال) الهندي
مرسل إلى هداية العجم الكورخردية خاصة - وإلى بعض أفراد من البستكية.
يدعوهم إلى الشرك والخرافات، ويسوقهم إلى (النار) فُرَادى وجماعات (بدجل
وتحاريق) ويوهم البسطاء وضعفاء العقول منهم أنها كرامات.
مال إليه الكثير، وهرع إلى داره الكبير والصغير. يتقدمون بين يديه بذلك
الخشوع التام، ولا كخشوعهم بين يد الملك العلام، وبذلك الانحناء والانكسار،
الذي لا يجوز فعله إلا لله، لا لنبي من الأنبياء، ولا لولي من الأولياء، فضلاً عن
هذا المشعوذ الشيطاني وإن شئت فقل نبي (النار) وذلك بمناسبة (نار) أجَّجَها لهم
ليريهم من آياته العظام، وليبين لهم من خوارقه ومعجزاته، ما يجعلهم يصدقون
برسالته!
وقال ادخلوا فيها باسم الشيطان، واطلبوا المدد مني في أثناء دخولكم إياها
وإذن لا تحرقكم، بل تكون بردًا وسلامًا عليكم! كما كانت بردًا وسلامًا على
إبراهيم عليه السلام. فأطاعوا لأمره، وصدقوا لأول وهلة من قوله، وأخذوا
يتهافتون على تلك (النار) المتقدة، ولسان حالهم يردد (مدد بوهاشم مدد) ظانين
أنها لا تحرقهم ولا تلذعهم ولا تصليهم من حرها، وكأن أبا هاشم نسي أو تناسى
حيث احترقوا جميعًا وتشوهت أعضاؤهم وجسومهم بحروق خطيرة وصاروا عبرة
لمن اعتبر، وآية لمن أراد أن يتذكر، وجلبوا على أنفسهم الخزي والعار، والفضيحة
والشنار، وسببوا على أنفسهم بهذه الفعلة الشنيعة لفت أنظار الناس إليهم ورمقهم لهم
بكل هزء وسخرية، فلا حيا الله (السيد جلال) الذي أحرق هؤلاء المساكين في هذا
الفصل فصل الحر.
وأخيرًا اتضح لعقلاء أهل (دبي) وشقيق أميرها المحبوب الشيخ حشر بن
مكتوم من أعمال هذا المشعوذ الشركية وأفعاله الكفرية فأصدر أمره البات له
بمبارحة بلاده وعند أول (باخرة) رست في ميناء (دبي) سافر عليها , ومن
حسن حظ الكوخردية والبستكية أن (الباخرة) بقيت في الميناء إلى يومين من
ركوبه كانوا يترددون فيهما إليها كل آونة وأخرى زرافات للسلام عليه وموادعته
من جهة أخرى! !
وإني لأشكر أهل (دبي) جميعًا وأخص بالذكر منهم الشيخين الهمامين الشيخ
مانع بن راشد ولي عهد إمارة دبي، والمحسن الكبير الشيخ محمد بن أحمد بن دلوك
على مقاومتهما للبدع والخرافات وتخليصهم لهؤلاء المساكين من هذه الورطة
وإنقاذهم لهم من هذه (النار) التي كاد يقع في شركها ويهوي في هويها الكثير من
أولئك المغفلين الذين هم أتباع كل ناعق فيا لله العجب.
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يأتوا بشيء من الخوارق النارية وإنما أتوا
بمعجزات تبهر العقول وبآيات تحير الألباب وهي من لدن العزيز الحكيم مما تدل
على عظمة الله سبحانه وتعالى وإخلاص العبادة له ولا يشرك معه فيهما سواه، فأي
إيمان يبقى عند اقتحام هذه (النار) وأي تقوى يتقيها الإنسان بعد عمله الشرك،
وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فليتنبه لهذه الممخرقات السحرية المسلمون وليأخذوا حذرهم من كل
شيطان مريد.
فالواجب على العلماء أن يبذلوا النصيحة للعامة ويأخذوا بأيديهم إلى سبيل
الحق والرجوع إلى الدين الصحيح وينقذوهم من مهاوي الضلال ومظان الشرك،
وإلا فما فضلهم وهم سُكُوتٌ عن مثل هذه الأعمال الشركية، والخزعبلات الخرافية،
كأنهم لا يسمعون، وكأن الأمر لا يعنيهم ولا يهمهم فلا حول ولا قوة إلا بالله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دبي ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مبارك بن سيف الناخي
(المنار)
ما دام عوام المسلمين الجهلاء يقبلون كلام الدجالين دعاة الخرافات
والبدع، وخصوم القرآن والسنن، غرورًا بأنسابهم، وانخداعًا بألقابهم، وجهلاً
بشعوذتهم وحِيَلهم التي يسمونها كرامات، فهم لا يزالون عُرْضَة للضلال بمثل هذا
الهندي الدجال , فطوبى للوهابيين المحاربين لهذا الضلال المبين.
وإن من آثار فساد العقول والدين، وموت العلم والعلماء الراسخين، أن يدعي
الولاية أو النبوة مثل هذا الدَّعِي الدجال، ويحاول التلبيس على المغرورين بدعوى
الإسلام، بالإتيان بكرامة تدل على صحة ما قال، فيأتي بما يبوء به بالخزي
والنكال، وهو أن تحرق النار من ادعى أنها لا تحرقهم كرامة له، فهو لم يأت
بشيء يشبه خوارق العادات بشعوذة ولا سحر، فكيف ظلوا متعلقين بأذياله،
ضالين بإضلاله؟
__________(29/786)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية الرابطة الشرقية ومجلتها
وما كان من الخلاف والصلح بيننا وبين لجنة تحريرها
تأسست جمعية الرابطة من أفراد متعارفين يكرم بعضهم بعضًا بل كان بعضهم
لبعض صديقًا، ثم صاروا كلهم أو جُلُّهم أصدقاء تجمعهم فكرة واحدة، وإن اختلفوا
في غيرها من عقيدة ورأي وخلق , وكنت أعرف كلا من صاحب السماحة عبد
الحميد البكري وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا ويعرفاني ثم ازددنا بكثرة الاجتماع
في هذه الجمعية تعارفًا وتآلفًا وتزاورًا وتآزرًا، فلم نختلف في هذه السنين في رأي
ديني ولا علمي ولا اجتماعي ولا سياسي، اللهم إلا في انتقاد (كتاب الإسلام
وأصول الحكم) الذي كان سبب انفصام عروة الصداقة بيننا وبين مؤلفه كما هو
معروف فقد كان حكمي عليه وعلى صاحبه أشد من حكمهما أو غير حكمهما.
وقد اتفق أن بعض إخوان علي أفندي عبد الرازق كثروا في جمعية الرابطة
الشرقية، وأن صار هو عضوًا في مجلس إدارتها مع بعضهم ممن سبقه إليها - ثم
اتفق أن تمكنت الجمعية في هذا العام من نشر المجلة التي كانت من مقاصدها
المذكورة في قانونها، وأن قرر مجلس إدارتها تأليف لجنة لإصدار المجلة من
رئيسها ووكيل مجلسها وسمي علي أفندي عبد الرازق مشرفًا على التحرير فيها -
وكان من أمري ما كان من الإنكار على المجلة وانتقاد خطتها بالشدة التي أعتقد أنها
واجبة عليَّ لديني ولجمعية تعبتُ في تأسيسها وخدمتها بعض سنين.
ساء هذا النقد الشديد كلا من صديقي الرئيس والوكيل، ورأيا أنه كان ينبغي
لي وأنا عضو في مجلس إدارة الجمعية أن أتكلم معهما أولاً فيما أنكرته فإن لم
ينصفاني كان لي حينئذ أن أكتب وأنشر , وأما أنا فلم أكتب ما كتبته إلا لاعتقادي
أنه واجب شرعًا ومصلحة كما قلت آنفًا، وإن كلامي معهما آخرًا، لا يكون إلا كما
كان أولاً أعني أنه لا يكون إلا مراءًا وجدلاً، وإن كوني عضوًا من مجلس إدارة
الجمعية لا يرفع عني واجب الإنكار شرعًا، بل يؤكده توكيدًا.
ثم إنني عرضت المسألة على مجلس إدارة الجمعية لتحكيمه في المسألة لكن
ظهر لنا في المجلس أن أعضاءه لم يكونوا قد اطلعوا كلهم على ما كتبته في المنار
ونقلته جريدة كوكب الشرق مقرة له وناصرة لي فيه، وقال سماحة الرئيس: إنه
سينشر في الجزء الثالث من المجلة شيء في الموضوع، فلا يصح نظر المجلس
في المسألة إلا بعد صدور هذا الجزء واطلاع الأعضاء عليه وعلى ما سيكون من
رأيي في المجلة بعده ويجب أن أبينه للمجلس مكتوبًا.
وكنت قد علمت قبل الجلسة أن سماحة الرئيس وسعادة الوكيل لا يوافقاني
على إنكار شيء مما أنكرته إلا على مقالة سلامة أفندي موسى وأن الرئيس نفسه قد
رد عليها بمقال طويل سينشر في الجزء الثالث، وقد بينت في الجزء التاسع من
المنار ما ظهر لي أنني أخطأت فيه في نقدي على المجلة وأنني أنتظر من رَوِيَّة
الرئيس والوكيل أن يفصلا في المسألة فصلاً معقولاً يحل الإشكال، بما ينصف
المُنْتَقِد ويحفظ كرامة المُنْتَقَد عليهم فماذا كان؟
كان أن ظهر الجزء الثالث مفتتحًا بمقالة لسماحة الرئيس تشعر برضاه عن
كل ما أنكرته مما نشر في الجزء الثاني إلا بعض عبارات من مقال سلامة موسى
بحث معه فيها بحثًا علميًّا أدبيًّا مع المبالغة في الثناء على علمه وأدبه، والإعجاب
والإكبار لآرائه وأفكاره.
وهو مع هذا يشتمل على مقالة عنوانها (نحن وصاحب المنار) سداها
ولحمتها النبز بالألقاب، كلقب الدعي والكذاب، الذي يكذب على الله والناس، مع
تكبير شأن المشرف على تحرير المجلة وإخوانه الذين انتقدنا عليهم. وهو الكاتب
لذلك كله ولكن باسم المجلة لا باسمه.
فلما رأينا هذا المقال مع مقال الرئيس حمدنا الله تعالى أن نصرنا عليهم
بحكمهم على أنفسهم.. وبعد صدور هذا الجزء من المجلة نشر مجلس إدارة الرابطة
بلاغًا في الصحف اليومية جاء فيه أن المجلس قد انعقد وكان من أهم ما قرره إقرار
خطة مجلة الرابطة إلى هذا اليوم واستنكار خطة صاحب المنار في حملته عليها،
ففهم الناس من هذا أن مجلس الإدارة موافق للجنة تحرير المجلة على خطتها
المذكورة وفهموا أن ذلك يشمل الجزء الثالث منها.
أما أنا فلما رأيت هذا القرار الذي صدر في جلسة لم أحضرها مخالفًا لما اتفقنا
عليه في الجلسة التي قبلها فكان باطلا شكلاً وموضوعًا شرعت في كتابة مقال
طويل لينشر فصولاً متوالية في جريدة كوكب الشرق التي نشرت مقالتي في الإنكار
على مجلة الرابطة دفاعًا عن ديني وعقيدتي وعن عرضي وشرفي.
فبعد أن كتبت فصلين من المقال نشر أولهما في الكوكب زارني صديقي
صاحب السماحة والفضيلة السيد محمد أمين الحسيني الشهير وكلمني في الصلح،
فقلت له: إن الله عز وجل يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128) وإنما
يكون خيرًا إذا صلح به الأمر، وزال به الشر، فأشترط فيه أولاً استنكار ما نشر
في المجلة من الطعن عليَّ بما رأيت.
وثانيًا: أن لا ينشر في المجلة شيء من مسائل الإلحاد في الإسلام بأي معنى
من معانيه التي بَيَّنْتُها في المنار.
ثم جمعنا السيد عنده فعلمت في هذا الاجتماع أن للسيد البكري عذرًا في بعض
ما كان، لا يحسن نشر مطويه الآن، وقد قررنا قواعد الصلح بالاتفاق، ومنها أن
أكف عن المضي فيما كنت أنشره في جريدة كوكب الشرق، وكان قد نشر الفصل
الأول منه وهُيِّئَ الفصل الثاني في مطبعته للطبع فحاولنا منعه فلم يمكن.
ثم اجتمع مجلس الإدارة وبحث في المسألة بحثًا طويلاً كان مما أثر في نفسي
منه قول الأستاذ علي عبد الرازق إنه عنى بكلمة (الدَّعي) فيه أنني لست من
علماء الأزهر لا في نسبي وإنه مهد لهذا المعنى، وأنا لم أدع يومًا ما أنني أزهري،
وإنما الذي أثر في نفسي قوله بعد ذلك: إنني لا أحترم في الدنيا أرستقراطيةً إلا
النسب النبوي، ولما كان السيد رشيد من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم فأنا
أفضل قطع لساني على الطعن في نسبه وقطع يدي إن كتبته - أو ما هذا مؤداه.
ثم أصدر المجلس القرار الآتي في الموضوع ونشره في الجرائد اليومية
وهو:
قرار مجلس إدارة الرابطة في فض الخلاف
في يوم 6 مارس سنة 1929 انعقد مجلس إدارة الجمعية برياسة حضرة
صاحب السماحة الرئيس، ونظر فيما لديه من الأعمال، ومن أهمها الاقتراح المقدم
من حضرة الأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني أحد أعضاء مجلس الإدارة بحسم
الخلاف الذي نشأ عن شيء من سوء التفاهم بين فضيلة الأستاذ الشيخ محمد رشيد
رضا صاحب المنار وأحد أعضاء مجلس الإدارة وبين مجلة الرابطة الشرقية.
وحضر الاجتماع سماحة السيد محمد الحسيني أفندي مفتي القدس الشريف
ورئيس المجلس الإسلامي، ودار الحديث حول ما تضمنه اقتراح السيد التفتازاني،
وقد تجلى بين الجميع روح الصفاء والحرص على خدمة الجمعية، والأسف على ما
جر إليه سوء التفاهم من الخلاف مع إظهار الاستياء والاستنكار لما جر إليه سوء
التفاهم من تبادل الحملات بين مجلتي: الرابطة والمنار.
وتقرر إسدال الستار على ما مضى مع رجاء جميع الكتاب أن يقلعوا عن
الخوض في هذا الموضوع.
ويكرر مجلس الإدارة أن الرابطة الشرقية ومجلتها بعيدتان عما يمس المسائل
الدينية والسياسية عن قرب أو بُعد طبقًا لقانونها.
وقرَّر مجلس الإدارة إسداء الشكر لسماحة السيد أمين الحسيني أفندي لما أبداه
من الغيرة في سبيل الوفاق.
وقد شهد هذا الجلسة فضيلة السيد محمد رشيد رضا بصفته عضوًا في مجلس
الإدارة كما شهدها حضرات أعضاء لجنة المجلة اهـ.
كنت قبل هذا الصلح كتبت مقالة شرحت فيها المسألة بصورتها الظاهرة
وسريرتها الباطنة وجعلتها مقدمة للفصول التي شرعت في نشرها على صحائف
جريدة كوكب الشرق وكانت مطبعة المنار جمعت ذلك كله لنشره في المجلة فأمرت
بتفريق حروفها كلها واستبدلت بها ما نشر هنا.
وكانت جريدة السياسة قد نشرت مقالة تنصر فيها الإلحاد وأهله على هداية
الدين ومنارها، وتستعدي فيها الوزارة الحاضرة علينا تأييدًا لها ولمن تنصرهم،
وكانت مقالة سخيفة في عدواتها واستعدائها، ومسيئة إلى الوزارة بمطالبتها على
حماية سلاطتها بسلطاتها، فرددت عليها بمقالة كسهام القدر أريتها فيها أنني لا
أخاف إلا من الله تعالى، ورأيت أن لا أخلدها في المنار، تكريمًا لمن بلغنا أنه
ألجمها عن العود إلى مثل ذلك بلجام من نار.
__________(29/788)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مؤتمر الرياض وشكل الحكومة السعودية
لقد كان في المؤتمر أو مجلس الشورى العام، الذي عقد بالرياض في هذا
العام آيات لأولي النهى والأحلام؛ إذ كان مظهرًا للنشأة الأولى لحكومة الإسلام،
التي تفضل جميع الحكومات النيابية المعروفة في هذه الأيام، وتشير إلى فوائده
العامة بالإجمال:
1- قد أظهر لنا هذا المؤتمر أن حكومة الإمام عبد العزيز آل سعود حكومة
إسلامية شورية مقيدة لا شخصية مطلقة، ملكية الصورة جمهورية الروح،
استقراطية المظهر، ديمقراطية المخبر، بل هي زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد
زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، وهي أشبه بحكومة الخلفاء الراشدين من كل
حكومة إسلامية جاءت بعدهم إلا حكومة عمر بن عبد العزيز.
2- أن نجد وملحقاتها هي القطر الوحيد الذي يوجد فيه الجماعة التي تسمى
في عرف الشرع بأهل الحل والعقد، الذين تنعقد الإمامة (أي السلطة العامة)
بمبايعتهم، وتنفذ أحكام الإمام برضاهم وإقرارهم وينعزل بعزلهم، وهم كبار العلماء
وأمراء الأجناد ورؤساء العشائر.
3- إن هؤلاء الزعماء يدينون الله بوجوب طاعة إمامهم عبد العزيز آل سعود
وعدم عصيانه في معروف، والشعب تَبَعٌ لهم في ذلك، والإمام يدين الله
باستشارتهم في مصالح الأمة العامة، وكل منهما يدين الله بتحكيم كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتنازعون فيه، والمرجع في كل ما ذكر قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) .
4- تجدد لعبد العزيز آل سعود باتساع ملكه عهود مع بعض الدول، وتنازع
في بعض المصالح مع بعض البلاد المجاورة لنجد والحجاز، وأقضية وأعمال في
الرعايا الذين تخالف أحوالهم أحوال النجديين، وعرضت لبلاده أحوال غريبة عن
مداركهم ومألوفاتهم كالمواصلات البخارية والبرقية من تلغراف وتليفون وسيارات
وغيرها فلما رآها بعض عوام النجديين في الحجاز الذين لم يكونوا رأوها ولا
سمعوا بها ظنوا أنها من السحر وصنع الشياطين. وقد أنكر بعضهم إقرار إمامهم
كل ما ذكر، وأنكر بعض قوادهم عليه منعهم عن غزو جيرانه، وبعضهم صبره
على أذاهم مع قدرته على الانتقام منهم.
فكان من مقتضى ما ذكرنا من شكل حكومته أن كتب ذلك الكتاب العجيب إلى
العلماء والقواد والرؤساء باستقالته من حكم البلاد والعهد إليهم باختيار غيره مع تأكيد
الوعد بمبايعته لمن يرضونه وطاعته له فكان هذا سببًا لذلك المؤتمر العظيم الذي
جددت فيه الأمة مبايعتها له.
وسنبين في جزء تال حال الشاذين منهم.
__________(29/792)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جامع باريس
قضت سياسة فرنسة الاستعمارية أن ينشأ جامع للمسلمين في عاصمتها
(باريس) يكون حجة لها على ما تدعي من حب المسلمين وحسن معاملتهم من حيث
يكون مثابة لمسلمي مستعمراتها وغيرهم ومجتمعًا عامًّا لهم يمكن عيونها (البوليس
السري) من الوقوف على جميع شئونهم وأفكارهم ومقاصدهم، فقامت أولاً بالدعاية
(البوربغندة) له والتنويه بشأنه ثم رسمت له رسمًا نشرته في مشارق الأرض
ومغاربها، وعُرض علينا في تلك الأثناء أن ننشره في المنار في مقابلة مال ننقده
فامتنعنا، ثم عهدت إلى أخلص خدم سياستها وأشهرهم في البلاد العربية الإفريقية
وهو الحاج قدور بن غبريط بجمع الأموال له من الأوقاف الإسلامية التي يتولى هو
إدارتها أو مراقبتها في تونس والجزائر والمغرب الأقصى ومن مسلمي هذه الممالك
الثلاث ففعل فأخذ من تلك الأوقاف ما شاء من مبالغ عظيمة وقرضت الحكومة
الفرنسية من الإعانة للجامع على أهل تلك البلاد ما كانوا يئنون من ثقله ويشكون من
غرمه.
ولم يشبع المشروع كل هذا، بل استجدى القائمون به ملوك المسلمين
وكبراءهم في جميع الأقطار، وقد بني المسجد، وبني له مقهى وملهى ومطعم
متصلة به فيجتمع هنالك الرجال مع النساء بصفات منكرة يحرمها الشرع الإسلامي
كما روى لنا الكثيرون، وقد انتقدها كل من رآها من المسلمين ومن غيرهم، ولا
يزال الوزير الفرنسي قدور بن غبريط يسعى لجمع المال له فقد زار في العام
الماضي مصر وسورية لهذا الغرض فلم يستفد من مصر ما كان يؤمل؛ لأن أهل
مصر يعرفون حقيقة هذا المسجد، ولا يعتقدون أن في بذل المال له قربة ولا
يرجون منه مثوبة عند الله تعالى، بل منهم من يعتقد أن البذل له من إضاعة المال
التي لا ترضي الله تعالى.
ولكن رأينا في بعض الصحف السورية أن رئيس حكومتها الجديد السيد الشيخ
تاج الدين الحسني بذل من خزينة البلاد مبلغًا عظيمًا لإعانة هذا المسجد إرضاء
لولية نعمته فرنسة لا لله تعالى، فأنكر المسلمون عليه ذلك وعدوه من تزلفه للدولة
الفرنسية التي نصَّبته رئيسًا لهذه الحكومة لثقتها بإخلاصه لها، وذكرت الصحف من
حاجة البلاد وأهلها المنكوبين إلى مثل هذا المال ما يجب تقديمه على إعانة ذلك
المسجد السياسي الغني الجشع النهم الذي لا يشبع، ولا يعلم أحد أين تنفق الأموال
العظيمة التي لا تزال تُجمع له.
وإننا نقترح على حضرة الرئيس الحاج قدور بن غبريط أن ينشر في الجرائد
العربية والمصرية والسورية والإفريقية ما جمع من أموال الأوقاف ومن الضرائب
القهرية والإعانات الاختيارية لهذا الجامع بالتفصيل وما أنفق على بنائه ووجه
الحاجة إلى استمرار هذه الإعانات الدائمة، فإنني ما رأيت أحدًا واقفًا على أمر هذا
الجامع ممن رأوه ولا من غيره إلا وهو منتقد ضربًا من ضروب الانتقاد.
ونحن على هذا كله نقول: إن وجوده لا يخلو من فوائد للمسلمين الذين
يجتمعون هنالك من زائري تلك العاصمة العظيمة، ومن المقيمين فيها وحسبك من
ذلك تعارفهم واستفادة بعضهم من بعض وإقامة شعائر صلاة الجماعة وصلاة العيدين
التي يحضرها فيما بلغنا سفراء الدول الإسلامية وكثير من كبراء سياحي المسلمين
فيتعارفون ويتآلفون، وإن كانت إقامة الجمعة يشترط فيها عند بعض الأئمة أن
تكون في مِصْر من دار الإسلام تقام فيه أحكامه، وينفذ سلطانه. وحسبنا أن تصح
عند آخرين منهم.
__________(29/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
أهدتنا دار الكتب المصرية مطبوعاتها الآتية:
(كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني)
كتاب الأغاني من أمهات كتب الأدب والتاريخ العربية وأشهرها منذ أُلِّفَ إلى
هذا اليوم، وقد كان طُبِعَ في المطبعة الأميرية ببولاق التي هي أقدم المطابع العربية
في الشرق، وكانت أشهرها بجودة الطبع وتصحيح المطبوعات، ثم آلت هذه
الشهرة إلى القسم الأدبي الذي انفصل منها وجعل تابعًا لدار الكتب المصرية العامة
باسم (مطبعة دار الكتب المصرية) ولكن تلك الطبعة كانت كثيرة الغلط؛ لفقد
الأصول الصحيحة الخطية للكتاب، وقد نفدت نسخها فلا تكاد توجد منها النسخة
إلا من تركات الموتى وتباع ببضعة جنيهات. ثم طبعه الحاج محمد الساسي الكتبي
التونسي المشهور طبعة دون الطبعة الأميرية الأولى.
ومنذ سنتين عنيت بطبعه أخيرًا مطبعة دار الكتب المصرية عناية لم يسبق لها
نظير في المطبوعات العربية، وكان هذا باقتراح سليل بيت المجد والشرف الأديب
السيد علي راتب نجل المرحوم محمد راتب باشا الشهير - وتبرعه بنفقة الطبع
للمطبعة، فقد كتب إلى مدير دار الكتب كتابًا في ذلك افتتحه ببيان شأن اللغة
العربية ومكانة كتاب الأغاني منها وتوجه همته لخدمة هذه اللغة والبدء من ذلك
بطبع هذا الكتاب ثم قال:
(فإن اقتنعتم برأيي الذي أدليت، ونفعه الذي أملت، أمرتم من عندكم من
المصححين بمراجعته وتصحيحه وضبطه وتفسير مغلقه كاملاً كما وصفه مصنفه
من غير حذف ولا إبدال، وأنا المتكفل بنفقة الطبع , وعسى ألا تضنوا عليَّ بكلمة
أعرف بها صيوركم [1] لنتفاوض في الأمر) .
شكرتْ له دار الكتب هذه الأَرْيَحِيَّةَ بكتاب بعث به إليه وزير المعارف الذي
هو رئيس المجلس الأعلى لدار الكتب ثم شرعت في الطبع مع المعارضة على عدة
نسخ خطية وطبعية توجد في دار الكتب، وافتتحت الجزء الأول بمقدمة في
(تصدير) الكتاب بلغت 56 صفحة بدأتها بذكر مكانة الكتاب واقتراح السيد علي
راتب والشكر له عليه، وتلا ذلك فصول في صناعة الغناء، فترجمة المؤلف،
فثناء أهل العلم والأدب عليه، فنقدهم له، فمختصراته، فما أُلِّفَ قبل في موضوعه،
فبيان الكلمات الاصطلاحية فيه وتفسيرها، فالنسخ التي عُورِضَ عليها عند
التصحيح وهي ثمان، فالكلام على الجزء الحادي والعشرين منه، والخلاف فيه،
فطريقة تصحيح الكتاب فأسماء أعضاء اللجنة المؤلفة لتصحيحه.
وقد رأيت من التقصير في ترجمة أبي الفرج أنهم اعتمدوا فيها على أقوال
بعض الأدباء من معجم ياقوت ولم ينقل فيها عن مؤرخي المحدثين إلا طعن ابن
الجوزي فيه، ونقل ابن شاكر ما رواه الذهبي عن ابن تيمية من الطعن في نقله،
فأحببت أن أستدرك على ذلك ملخص ترجمته من لسان الميزان للحافظ ابن حجر
وأصله الميزان للحافظ الذهبي، وفيه من الثناء على حفظه وفضله ما هو أعلى
قيمة من كل ما ذكروه، وهو:
(علي بن الحسين أبو الفرج الأصبهاني) الأموي صاحب (كتاب الأغاني)
شيعي وهذا نادر في أموي. كان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس
والشعر والغناء والمحاضرات، يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا وكان طلبه في حدود
الثلاثمائة، فكتب ما لا يوصف كثرة حتى لقد اتُّهِمَ، والظاهر أنه صدوق.
(وقد قال أبو الفتح ابن أبي الفوارس: خلط قبل موته، قال: ومات سنة
ست وخمسين وثلاثمائة في ذي الحجة. قال: ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين) .
قلت: أكبر شيخ عنده مطين ومحمد بن جعفر القتات وآخر أصحابه علي بن
أحمد الرزاز [2] وتصانيفه كثيرة سائرة. وكان سريع النادرة - إلى أن قال -:
(قال الخطيب: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طباطبا العلوي سمعت أبا
محمد الحسن بن الحسين النوبختي يقول: كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب
الناس [3] كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف ثم تكون روايتها كلها منها. ثم قال
العلوي وكان أبو الحسين البتي يقول: لم يكن أحد أوثق من أبي الفرج
الأصبهاني اهـ[4] .
(وقد روى الدارقطني في غرائب مالك عدة أحاديث عن أبي الفرج
الأصبهاني ولم يتعرض له، وقال أبو علي التنوخي كان يحفظ من الشعر والأغاني
والأخبار المسندات والأنساب ما لم أر قط من يحفظ مثله إلى ما يحفظ من اللغة
والمغازي والنحو والسِّيَر، وله تصانيف عديدة اهـ ملخص ما زاده الحافظ على
الذهبي.
وقد بلغت صفحات الجزء الأول 417 ما عدا مقدمة التصدير وتقدم عدد
صفحاتها، والفهارس وهي ثمانية، وصفحاتها وهي تبلغ 118 صفحة فتكون مع
صفحات الكتاب 535 وقد تم طبعه في سنة 1345هـ الموافقة لسنة 1927م وثمن
النسخة منه 25 قرشًا مصريًّا، ويطلب من دار الكتب ومن مكتبة المنار.
وأما الجزء الثاني فقد طبع في سنة 1346 الموافقة (1928م) وبلغت
صفحاته الأصلية 428 ومع الفهارس وإصلاح خطأ الطبع 523 وقد زيدت العناية
بتصحيحه، وثمنه كثمن الأول.
***
(الجزء السادس من نهاية الأرب في فنون الأدب)
وموضوعه القسم الخامس من أقسام الكتاب وهو (في الملك وما يشترط فيه،
وما يحتاج إليه، وفيه أربعة عشر بابًا) جاء فيه 13 منها أولها في شروط الإمامة
الشرعية، وآخرها في نظر الحسبة وأحكامها. وصفحاته 315 وآخر الباب الرابع
عشر إلى الجزء السابع وموضوعه الكتابة وما تفرع منها، وثمن الجزء خمسة
عشر قرشًا.
***
(الجزء الثاني من ديوان مهيار الديلمي)
وفيه تتمة قافية الراء وما بعدها إلى آخر قافية الكاف وصفحاته 373 وثمنه
15 قرشًا أيضًا.
***
(كتاب الأصنام)
كتاب الأصنام لابن الكلبي وهو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي
المتوفى سنة 204 وكان من أكبر العلماء في الأنساب والتواريخ ورواة المثالب ولم
يوثقوه في رواية الحديث، وكتابه هذا مشهور قد عني الأستاذ أحمد زكي باشا
بتنقيحه وتصحيحه وصدّره بترجمة حافلة له بلغت أربعين صفحة. ووضع له
حواشي تساوي أصله أو تزيد عليه وملحقًًا بلغ ثلاثين صفحة وفهارس وتكملة،
ولعل الكتاب نفسه لا يزيد على تصديره أو حاشيته، فصفحاته مع الحاشية 94
وهذه الطبعة هي الثانية له وثمن النسخة منها ستة قروش، وهذه الكتب كلها تطلب
من مكتبة المنار بمصر.
***
(الفهرس العربي لدار الكتب)
وأهدتنا الجزء الثاني والثالث من طبعته الجديدة المختصرة، وثمن كل منهما
خمسة قروش، وقد نفدت نُسَخ الجزء الأول وهي تعيد طبعه.
***
(الأعلام - قاموس تراجم)
(طبع المطبعة العربية بمصر. صفحات الجزء الأول والثاني منه 803)
رأى صديقنا الأديب شاعر الشام خير الدين أفندي الزركلي ما يراه جمهور
أهل العلم والأدب من الناطقين بلسان العرب أن اللغة في حاجة إلى معجم لتراجم
أشهر الرجال والنساء من العرب الجاهلين والمخضرمين ومن بعدهم إلى هذا
العصر يكون مختصرًا مفيدًا تسهل مراجعته عند الحاجة إليه - وما أشد عروض
هذه الحاجة للمطالعين والمؤلفين - فشرع في تأليف هذا المعجم وسماه (الأعلام)
وقد تم طبع جزأين منه انتهى الثاني منهما بحرف القاف، وثمن كل واحد منهما
خمسة عشر قرشًا صحيحًا، وهو ثمن بخس قلما يباع مؤلف جديد بمثله ويطلب من
مكتبة المنار بمصر.
***
الصحف الإسلامية العربية
إنه ليسرنا أن نرى الصحف الإسلامية العربية في حياة ونماء وازدياد تؤدي
واجب النصح للأمة، والخدمة للملة في زمن فسدت فيه أكثر الصحف العربية
والشرقية بافتتانها بدعاية التجديد الإلحادي وحرية الإباحة والتفرنج المقطع للروابط
الملية والقومية.
(الشهاب)
صحيفة تصدر في مدينة قسنطينية من قطر الجزائر في المغرب الإسلامي،
وهي إصلاحية تحيي مذهب السلف، وتقاوم الخرافات والبدع، يصدرها الأستاذ
الفاضل الناصح عبد الحميد بن باديس، وقد أتمت العام الرابع وصدرت في أول
الخامس بشكل مجلة شهرية يتألف كل جزء منها من 44 صفحة من قطع المنار
وقيمة الاشتراك السنوي فيها نصف جنيه من الذهب، فنتمنى لها طول العمر ودوام
النفع، ونتمنى مع ذلك أن يعرف المسلمون لها قيمة خدمتها فيؤدوا لها حقها.
***
(الجامعة العربية)
جريدة سياسية إصلاحية عامة تصدر بمدينة القدس في كل أسبوع مرتين
مؤقتًا، مديرها ورئيس تحريرها الأستاذ منيف الحسيني سليل بيت السادة الحسينية
الشهير، وهي تسدي إلى الإسلام والعرب خدمة صحيحة لا تشوبها نزغات شياطين
الإلحاد والتفرنج الباطل ولا إباحة الأعراض باسم تحرير النساء والحرية العامة -
ولا تدنسها نزعات الاستعمار، ولها في جهاد المطامع الصهيونية والاستعمار
البريطاني وتأييد مجلس فلسطين الإسلامي الأعلى، العلم المرفوع والصارم
المسلول، والحجة الناهضة. وقيمة الاشتراك السنوي فيها في فلسطين جنيه
فلسطيني (إنكليزي) واحد، وفي خارجها جنيه ونصف.
***
(المصباح)
مجلة إصلاحية شهرية تصدرها جمعية التمدن في سوريا وجاوه ويحررها
جماعة من تلاميذ مدرسة الإرشاد وقيمة الاشتراك فيها عن نصف سنة ربيتان في
جاوه وثلاث في سائر البلاد، والرجاء فيها أن يوافق مسماها اسمها بكفالة هذه
الجمعية المليئة لها.
__________
(1) صيور الرجل بتشديد الياء رأيه الذي يصير وينتهي إليه وصيور الشيء مآله ومصيره.
(2) في المشتبه علي بن أحمد بن محمد بن بيان الرزاز بمعجمتين - محمد بن شريف الدين.
(3) يعني بكذبه فيما فسره به من جعله صحف الأخبار التي يشتريها روايات مسموعة ولا يدخل فيه اتهامه بافتراء شيء منها.
(4) أي انتهى كلام الذهبي في الميزان وما يليه فهو لابن حجر.(29/794)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد التاسع والعشرين للمنار
بسم الله وبحمده نختتم المجلد التاسع والعشرين كما افتتحناه. متبرئين من
حولنا وقوتنا إلى حوله وقوته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد كنا نؤمل أن يتم هذا
المجلد قبل تمام الذي قبله بشهرين لانتظام الإدارة، وحسن استعداد المطبعة، ولكن
قدر الله تعالى أن يتأخر عنه ثلاثة أشهر كاملة، ذلك بأنه تعالى قد ابتلانا بمرض
طالت مدته، وحسنت بفضله ومنته عاقبته، فكان نقمة في الظاهر، ونعمة في
الباطن؛ إذ كنت سمنت حتى زمنت، فاحتميت به حتى اعتدلت، وكنت أسرفت
في العمل حتى سئمت، فتركته أشهرًا حتى استجممت ونشطت، وابتلانا فوق ذلك
بعسرة مالية، أعقبها سعة نسبية، وابتلانا في أثناء ذلك وأطوائه بتضييق أهل
دارنا المستأجرة علينا بزيادة الأجرة، بعد أن تقاضونا لأجلها إلى المحكمة وعاملونا
شر معاملة؛ إذ جاملناهم أحسن مجاملة، فعاضنا الله تعالى دارًا خيرًا منها مكانًا،
وأكرم جيرانًا، وأمتن بناء وجدرانًا، وأرفع سمكًا وسقفًا، وأوسع حجرًا وغرفًا،
وأشرع صففًا وطنفًا، وأنقى هواءًا، وأطيب فناءًا، وأجمل رواءًا، وأحسن مرافق،
وأنظف طرائق، وجعل جل ثمنها نجومًا سنوية، كالكواكب الدرية، والمرجو
من فضله تيسير أدائها عند حلول آنائها، وجَعْل انتهائها، أسهل من ابتدائها.
اقتضى السعي لاختيار الدار ولابتياعها ولإنفاذ ذلك زمنًا إذا أضيف إلى عطلة
المرض، ثم إلى ضيق أوقات رمضان، عما سوى الصيام والقيام وتلاوة القرآن،
ولقاء الإخوان، وقد زاد زائرونا في هذا العام عن المعتاد في أكثر الأعوام، ثم إذا
أضيف إلى كل ذلك الشروع في تهيئة الدار، وبناء مكان في باحتها للمطبعة
والعمال، ومراقبة نقل الآلات والمطبوعات، والأمتعة، والأدوات والماعون
والأثاث، ثم وضع كل شيء في مكانه - يعلم قراء المنار عذرنا في تأخير هذا
الجزء منه ويقابلونه من كرمهم بالقبول، وعسى أن يكون عذر المرجئين
والمسوفين منهم في أداء المتأخر لنا بعض ما علموا من عذرنا، وأن يبادروا وقد
وفيناهم حقهم أن يوفونا حقنا.
***
نحن والرافضة
وأما ما وجه إلينا من النقد في هذه المدة فقد نشرناه وبيَّنا رأينا فيه واضطررنا
إلى تحكيم بعض العلماء فيما اختلف علينا فيه. ومما اضطررنا إليه في هذا المجلد
صد حملات بعض الرافضة على السنة وأهلها عامة، وعلى النجديين وعلينا خاصة،
بعد أن خاب أملنا في رصيفنا وصديقنا التليد الأستاذ الشيخ عارف الزين الذي لم
يكتف بسكوتنا عن إسرافه في نزعته الشيعية، وإكثاره من التعريض بنا ثم
التصريح بالطعن علينا في مجلته التاريخية الأدبية، حتى جاهر أخيرًا في إذاعة
دعاية غلاة فرقته ونشر كتبهم في مهاجمة السنة ومحاولة إغواء أهلها، ولما نبذنا
إليه وإليهم على سواء، وعلم كما علموا أن بني عمهم فيهم رماح، لجأ في الدفاع
إلى القذع بالسب والشتم، ثم إلى التهديد بما هو شر وأدهى وأمر، وأقول له
ولصاحبي (كشف الارتياب) ، و (الكلمات) ذينك الكتابين المؤلفين لهدم أركان
السنة، وهي أشد من السماء خلقًا وأرفع سَمْكًا، وللإدالة منها للبدعة، وهي أظهر
بطلانًا ومحكًّا، أقول لهم: إن صاحب المنار لا يخشى منهم ولا من أولي نحلتهم
ردًّا؛ لأنه يطلب الحق لذاته لا لمذهب ولا لفرقة ولا لشخص، فإن ظهر له الحق
على لسان أي إنسان قبله مسرورًا مرتاحًا، وأما السبابون والبُهْت فإنه يعرض عنهم،
ويرى أنهم عون له على أنفسهم.
***
انتقاد أو جهالة يوسف نجم
ومرآة الغرب
ومما انتقد علينا ولم يكتب به إلينا، مقالات لعامي سوري أو لبناني اسمه
يوسف نجم نشرها في جريدة مرآة الغرب العربية التي تطبع في مدينة نيويورك
قرأنا بعضها وأعرضنا عن بعض؛ لأنها جهل محض، ودعاوي غرور وإفك لا
تستحق أن يعنى بالرد عليها، وإنما عجبنا لنشر مرآة الغرب لها؛ لأننا كنا ظننا
أنها رجعت عما كانت عليه من الطعن في الإسلام والمسلمين، فإذا هو من المقاصد
الدينية التي تخبو أحيانًا ثم تعود إلى تسعرها والتهابها، كما جاء في مقال نشر في
جريدة الأخبار المصرية في الرد على نجمها وعليها.
وأخيرًا: جاءنا كتاب من تاجر مسلم في هفانا يذكر فيه طعن يوسف أحمد
نجم في الإسلام ومذاهبه وعلمائه المتقدمين والمتأخرين ولا سيما المصلحين حتى
السيد جمال الدين وكتابه المشهورين في تعظيم شأنه والدفاع عنه كالأمير شكيب
أرسلان وصاحب المنار ويقول: إنه داعية للنصارى بلسانه وقلمه كما أنه عدو
للإسلام بلسانه وقلمه، ويتحامل عليه بما لم نسمع مثله من النصارى أنفسهم، ثم
يستفتينا في يوسف نجم هذا بما سننشره في الجزء الآتي مع الجواب عنه إن شاء
الله تعالى.
هذا وإننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في عامنا الجديد، لزيادة العناية بالمنار
وتنويع فوائده، كما نرجو من محبي الإصلاح أن يعينونا بأفكارهم وأقلامهم على
الدفاع عن الحق والدين، ومناضلة الملاحدة والمتفرنجين، والله ولي المتقين،
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________(29/799)
المجلد رقم (30)(30/)
المحرم - 1348هـ
يونيه - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الثلاثين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، الذي ختم به النبيين،
وأكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الهادين المهديين، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال
سنة 1315 الموافق لشهر مارس (آذار) سنة 1898 ميلادية، بشكل صحيفة
أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية
بشكلها الذي هي عليه الآن، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم
سنة 1320 - 10 أبريل (نيسان) سنة 1902 - واستمر ذلك إلى السنة السابعة
عشرة , فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 (نوفمبر
سنة 1914) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى، فاختل في أثنائها نظام
صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها، وجعلنا أجزاء السنة عشرة؛ لأن الورق
والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى
كثير من الممالك والأقطار، وساءت معاملات الناس، ومن سنة 1333 إلى سنة
1347 لم يصدر من المنار إلا 12 مجلدًا في 15 سنة، فنقص من مجلداته ثلاثة
أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه
اليوم المجلد الثالث والثلاثين.
ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي
والثلاثين، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة، وعن سنيه
الشمسية اثنان فقط، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك
السنين النحسات، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين
المستنيرين، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة
الدنيا وهداية الدين، وهم قليلون ومتفرقون، والموسرون منهم هم الأقلون، ومن
عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا {وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: 58) .
ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا
متمتعين بالصحة، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة، وقد تأخر
صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة
في آخره.
وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على
عادتنا في هذه الفواتح، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من
خصومه في الداخل والخارج، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية،
وهم طلائعها وحُداتها، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية
نفسها، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين
والأرمن وغيرهم، بل أعني من هم أشر منهم وأضر، وأدهى وأمر، من ملاحدة
المسلمين، من الترك والإيرانيين والأفغانيين، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين،
وأشباههم من السوريين والعراقيين، ومن الهنود والأفريقيين، وسائر الشعوب
الإسلامية، الذين سممتهم التربية الإفرنجية، وأفسدتهم الآراء المادية، وخنثهم
الإسراف في الشهوات البدنية، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة
هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم، والتمهيد لمحو
عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم،
وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم، وكتابته كغيره بالحروف
اللاتينية، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة، بل كل من يسمي هذه الخطة
إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه، وعداوة الإسلام
أعم من الارتداد عنه والكفر به، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي
الكفر، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد، لأن الجاهلين بحقائق
الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه.
وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا، تسلك طرائق قددًا:
(الطبقة الأولى) :
المجاهرون بالكفر والصد عن الدين، والطعن في عقائده، وإلقاء الشكوك
والشبهات فيها، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة، ومنهم صاحب مجلة
ومطبعة في مصر معروف، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد
ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم،
ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به
بإمضائه.
ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح
النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام،
وطلب أن تكون حكومة معطلة (لا دينية) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال
الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية، وقد كان من أركان محرري
السياسة، ويقال: إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود. وأفراد هذه الطبقة لا
يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك.
(الطبقة الثانية) :
الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد،
وهم مع ذلك يطعنون في أصوله، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم
بالضرورة منه، ويشككون في بعض آيات القرآن، وهم لأفراد من الطبقة الأولى
إخوان وأخدان وأعوان، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم: مصلحين، ويدافعون
عنهم بألسنتهم وأقلامهم، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى.
ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في
الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة،
كالتجمل والزيارات في الأعياد، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد، واحتفال
الجنائز ومآتمها، وقراءة القرآن فيها، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها
الدين، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها، ولكن الصيام نفسه ليس
ركنًا من هذه الشعيرة، ولا شرطًا لها، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة -
والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق، فإنهما عندهم من
الأمور الشخصية، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش
مما تتناوله الحرية الذاتية، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما
تتناوله حرية الأفكار، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام، ونشره في الكتب
والرسائل، والمجلات والجرائد. قال بعضهم ما معناه: إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول:
إن ما في القرآن من كذا وكذا، صحيح مسلَّم، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول:
إنه غير صحيح وغير مسلَّم، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد
المسلمين، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل
عقلي ولا علمي، بل ربما يبطله الدليل.
ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله، وإن قال أحيانًا:
قال الله، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله، بل لكان إثبات
كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه، وإن لم يثبته أحد
من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه، فإن علم الله محيط بكل
شيء من خلقه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه، أي بما وهبهم من أسباب
كسبه من الحس والعقل، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر
من هذين الطريقين الكسبيين لهم، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم، وذلك لا يقتضي
عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح، فكيف إذا أثبته.
(الطبقة الثالثة) :
الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين، الذين يشايعون المؤمنين إذا
كانوا معهم، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر
ينصرونه ويردون ما خالفه، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم،
وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم، فتراهم
يجمعون بين الكفر والإسلام، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على
ذلك، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين، وينصر الملاحدة القائلين به، فإسلامهم
تقليدي، وإلحادهم تقليدي، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا
بهم، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم، ومنهم منهوم المال، ومفتون الجاه.
وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض، فيعسر الحكم عليها بالقطع، على
تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر.
وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة: اختلاط
الماء الحلو بالماء الملح، في مثل شط العرب من جهة البصرة، وساحلي رشيد
ودمياط من مصر، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت
على نسبة القرب والبعد من كل منهما، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين،
منهم ما غلب عليه أجاج الكفر، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا، ومنهم المزُّ بين
عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد، والمزازة فيه على درجات، بعضها مقطوب لا
تكاد تشربه إلا مقطِّبًا، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا.
ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخُبْر الطويل العريض، أن من أفراد
أولئك الملاحدة دعاة الكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك
جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض
جماعات اليهود البلشفية والصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ
أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها،
ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار، والحظوة
عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا
لهم على أقوامهم، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين،
كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة
في إبان ظهوره، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن
كتاب فرنسي جديد، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين.
كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول
من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام، بالطعن في
شريعته، وفي حكومته، وفي لغته، وفي أئمته، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من
الخلفاء، وكبار العلماء والأدباء، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور، ثم ظهرت
آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة،
وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي
ينصرهم.
ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار
أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن،
ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل.
وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوة التي يفتنون بها
الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم، وسنبينها في مقال آخر، ومما
بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه.
وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر، كان
الملاحدة هم المؤسسين له بالطبع، من حيث لا يدري كثير ممن انتظم في سلكه،
أو جعل نوتيًّا لتسيير فلكه ولكن بعضهم تجرَّأ فيه على كلام ساء بعض من حضره
من النصارى، فانتصروا لدينهم بالفعل، وكان ما كان من التشاجر الذي أفضى إلى
القضاء على ذلك الحزب.
وقد نشرت جريدة السياسة الأسبوعية في مارس سنة 1928 مقالاً لأحد
أركانهم صرَّح فيه بأنه يوجد في مصر تعصب ديني (إسلامي) ضار، وأن
جماعة كانوا ألَّفوا حزبًا لمقاومته وتوطيد دعائم الحرية، وهذه الجماعة لا تزال
تعمل لهذه الغاية.
ولما أُلِّفت في مصر جمعية الشبان المسلمين، عارضوها بتأليف (جمعية
الشبان المصريين) لأجل القضاء عليها بدعاية الوطنية، قبل أن تشب عن الطوق،
وتشب نارها، فلا يكون لهم بها طوق؛ ولكنهم لم يقاوموا جمعية الشبان
المسيحيين بقول ولا عمل، بل وُجد فيها من يكبر شأنها، ويلقي المحاضرات في
ناديها.
وليس الإلحاد في مصر بحديث العهد، بل نبت قرنه مع التفرنج منذ أكثر من
قرن، ومازال يرتفع ويقوى حتى طمع أهله بإطفاء نور الدين، وقد استباحه مَنْ
استباحه باسم الحرية، وفنَّد الأستاذ الإمام جهالتهم ببعض مقالاته في الوقائع
المصرية. كان غربيًّا غريبًا، فأصبح شرقيًّا قريبًا، أو كان سيلاً أتيًّا، فأمسى
ينبوعًا وطنيًا، وكان شر مظاهره وأشدها خطرًا ما فاه به بعض ملاحدة المسلمين
في مجلس النواب، من الطعن في الشرع وفي نفس القرآن، إذ فاه فض الله فاه،
وسلَّ لسانه من قفاه، ولا رحمه ولا رحم مجلسه الموؤد، بتلك الكلمة التي تقشعر منها
الجلود،: أنه لا يحترم - أو قال: يحتقر - كتابًا يبيح تعدد الزوجات. ولكن ذلك
الملحد الإباحي لا يحتقر قانونًا يبيح الزنا للرجال والنسوان، وتعدد البغايا والأخدان،
دع اعتراض آخر منهم على من طلب وقف الجلسة بعض دقائق لأجل فريضة
المغرب، وتصريحه بأنهم لا يبغون الصلاة مطلقًا أو في ذلك المجلس، ووافقه
الجمهور على ذلك، فكان الأفراد الذين يحافظون على الصلاة على قلتهم يتسللون من
الجلسات فيصلون فُرادى ويعودون إليها.
وإنما الحديث عندنا هو تأليف الأحزاب وتعاون الجماعات على بث الدعوة
إلى الإباحة والإلحاد، ونشر الجرائد والمجلات لمقالاتهم المسمومة، وإلقاء
المحاضرات في ذلك ونشر الكتب الملعونة، حتى إنني كتبت في المنار أنه لا فرق
بين ملاحدة الترك الكماليين، وملاحدة هذه البلاد المفتونين والمقلدين، إلا أن أولئك
أولو قوة عسكرية، فينفذون إلحادهم بالقوة القهرية، ولا سلاح هنا إلا بيد السلطة
الأجنبية، ولقد كان بمجلس النواب في الآستانة مسجد خاص يصلي فيه الأعضاء
وتقام فيه الجماعة، كما كان يوجد في دور الحكومة مساجد يصلي فيها أهلها جميع
الصلوات التي تدركهم فيها.
تجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنج:
إن ما فعله ملاحدة الترك من هدم معالم الإسلام من حكومتهم، وما ظهر في
حكومتي الأفغان والإيران من بوادر الاقتداء بهم، وما ذكرنا القارئ به مما حدث
في مصر، بل سرت عدواه إلى كل قطر، هو الذي أطمع المستعمرين ودعاة
النصرانية في أوربة بالإجهاز على الإسلام، والتذفيف على ما بقي من مظاهر
الحكم الإسلامي في جميع بلاد الإسلام، وتجديد النصرانية وتعزيزها في الغرب
والشرق، وهاك إشارة إلى بعض ما فعلوا في تجديد دينهم مما يعد أكثره ذريعة
للتعدي على ديننا:
(1) عقد دعاة البروتستانتية من الإنكليز وغيرهم مؤتمرًا بعد آخر في
القدس مهد النصرانية للتشاور في تعميم تنصير المسلمين، ونشرت جمعية لهم في
لندن بيانًا ذكرت فيه أنه لم يبق للإسلام رسوخ ولا ثبات إلا في جزيرة العرب،
وأنها تحتاج إلى مائة مبشر من المجاهدين لنشر النصرانية في هذه الجزيرة
والقضاء عليه في مهده الأول، ومعقله ومأرزه الأخير.
(2) أعادت الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من
أموالها وأوقافها تنشيطًا لها على نشر النصرانية في مستعمراتها الأفريقية وسورية.
(3) أُلِّفت كتب جديدة باللغة الفرنسية وغيرها في الطعن على الإسلام،
والحث على تنصير المسلمين ولو بالقهر والإكراه، وقد نشرنا فصول بعض هذه
الكتب في هذا الجزء وفيما قبله، وسننشر بعضها فيما بعده.
(4) صالحت الدولة الإيطالية دولة الفاتيكان الكاثوليكية، وأعادت للبابا
سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت اختانته من أموال دولته،
فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها وسياستها، وهذا بدء انقلاب جديد في تجديد
النصرانية في الشرق والغرب، وذلك لا يضيرنا إلا إذا اعتدوا علينا، وهو أهون
من التعطيل والإلحاد عندنا.
(5) نشطت الجمعيات التي تدعو إلى توحيد كنائس المذاهب النصرانية في
الشرق والغرب وسارت في سعيها خطوات إلى الأمام.
(6) إن حركة تجديد الدين في إنكلترة تلي في العناية حركة إيطالية، وقد
اشتهر ما كان من اقتراح تعديل كتاب الصلاة المتبع في الكنيسة الرسمية ورد مجلس
الأمة (البرلمان) له المرة بعد المرة. وقد أُلِّفتْ جمعيات أخرى للبحث في العقائد
المسيحية، وتقاليد الكنيسة، وتقريب ذلك من العلم، واستعداد العصر.
(7) تبارت الأمتان الإيطالية والإنكليزية في الرجوع إلى آداب الدين في
أزياء النساء وعاداتهن، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج والخلاعة،
المفضية إلى الإباحة، فكتب بعض كبار الكتاب من الإنكليز في ذلك مقالات نشرت
بعضها الجرائد المصرية.
وأما إيطالية فقد منع رجلها المجدد ووزيرها الأكبر كثيرًا من هذا الإسراف في
الأزياء والرقص والسباحة تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها، وذلك
مما يحمده كل فاضل له ولها.
العبرة في تجديد أوربة وتجديد ملاحدتنا:
وأما ملاحدة بلادنا ودعاة الكفر والإباحة فيها، فالتجديد الذي يدعون إليه هو
هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها، ويجمع كلمتها، ويهذب أخلاقها، من روابط
الدين والمحافظة على العرض، ويسمون الكفر والفجور وإباحة الأعراض تجديدًا
طريفًا، ومدنية وتقدمًا وترقيًا، ويسمون ما يقابل ذلك من التقوى والعفة والصيانة
قديمًا باليًا، وقد استشرى عيثهم وفسادهم، وعظم خطرهم بكثرة الجرائد والمجلات
التي ينفثون فيها سمومهم، على صغر شأنهم، وسوء سيرتهم الشافّ عن خبث
سريرتهم، فإنه لا مزية لأحد منهم في علم نافع، ولا عمل صالح، وإنما هي خلابة
الألفاظ التي وافقوا فيها أهواء كبار الفساق وصغار الأحداث، وإن أهل الرأي
والبصيرة عندنا يجزمون بأن جُل زعزعة العقائد وفساد الأعراض وإباحة النساء،
يناط بفساد أكثر الجرائد والمجلات، فيا حسرتا على جريدتي المؤيد واللواء،
ويا حسرتا على شعب يُعَدُّ من أرقى شعوب الشرق ثروة وحضارة وعلمًا ووطنية،
تعجز الأكثرية الساحقة فيه عن إيجاد جريدة يومية، تدافع عن عقائده وشريعته وآدابه
الملية، على حين نرى لكل الأقليات الملية المتعددة فيه جرائد متعددة تقوم بهذه
الوظيفة حق القيام! وهذه الأقليات بجملتها لا تبلغ عُشْر هذه الأكثرية الساحقة لها،
وإنما تفوقها في ثروتها النسبية وجامعتها.
خطر إباحة النساء أو تحريرهن:
إن مسألة فوضى النساء التي يعبر عن دعايتها بتحرير المرأة، وتفضيل
تهتكها - المعبَّر عنه بالسفور - على صيانتها وعفتها المعبر عنهما بالحجاب، قد
هبطت بالقطر المصري وغيره من شعوب الشرق المتفرنجة إلى مهواة من أشد
المهاوي خطرًا على أعراضها وتكوين بيوتها (عائلاتها) وعلى ثروتها وصحتها،
وإن سمى المفسدون دعاة الإباحة والدياثة هذا الخطر تجديدًا وتمدينًا، فقد صار النساء
من ربات البيوت والأمهات، ومن العذارى المتعلمات، يمشين في الشوارع بالليل
والنهار، مخاصرات للرجال، ويغشين الملاهي والمتنزهات، وهن كاسيات عاريات
، مائلات مميلات، ومنهم من يسبحن في البحر حيث يسبح الرجال أو معهم، وحيث
يراهن المارون بقرب الشواطئ منهم، ومنهن من يختلفن إلى المراقص المشتركة
فيرقصن معهم، وهن أشد من الأجنبيات عريًا وتهتكًا وخلاعة ومجونًا ورقاعة،
ومنهن من يدخلن في خلوات الحلاقين حيث يقصون لهن شعورهن ويحلقون لهن
أقفيتهن، ويزينون لهن نحورهن وصدورهن، وهنالك يلتقين بأخدانهن، ولا تسل عن
حديثهما جهرًا، وتواعدهما سرًّا، دع ذكر تعدد المواخير السرية، على كثرة الجهرية،
ومن المخادنات الشخصية، والجرائد والمجلات الكثيرة تغري بهذا أو تذكر من
وقائعه ما يجرئهن عليه.
وكان أول ما أعقبه هذا الفساد من الخطر قلة الزواج، المهدد للأمة بالوقوف
عن النماء، فالانقراض والفناء.
إن خصوم الإسلام القاعدين له كل مرصد يضحكون سرورًا مما أصابه من
الخزي بأهله، الذين يمهدون لهم السبل لاستعبادهم، والاستعمار لسائر بلادهم،
ويرقبون كل نبأة للإصلاح تخرج من فم أحد حكمائهم، أو حركة للتجديد الحق
يختلج بها بعض أعضائهم، فيبادرون إلى تحذير دولهم منها، وحضهم على تلافي
ما يخشى من تأثيرها، ثم إنهم يطعنون فيمن صدرت عنه لصد المسلمين الغافلين
عنها، كما ترى في مقال (ما يقال عن الإسلام في أوربة) من هذا الجزء نقلاً عن
(جول سيكار) العسكري الفرنسي (والأب لامنس) القس الجزويتي، والدكتور
(سنوك) السياسي الهولندي، من كلامهم في الأستاذ الإمام وصاحب المنار، وما
قاما به من دعوة الإصلاح، ورأيهم في المجلة وتفسيرها، ورسالة التوحيد وتحقيقها،
وتعزية أنفسهم بأن حركة التفرنج العصرية، قد أخذت تنتقص الأصول الدينية،
وبأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان لها المجال
الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين، قالوا
(ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم، لقلة
عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) .
بشائر الإصلاح:
وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين،
معتمدين على مساعدة الملاحدة المتفرنجين بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها
على رؤوس المصلحين، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام،
ونوابغ مريديه الأعلام، وهو الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ
الجامع الأزهر، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة، بقدر ما كان
يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة، فصارت ميزانية الأزهر
تبلغ مئات الألوف من الجنيهات، وصار للمتخرجين فيه نصيب من مصالح
الحكومة، فنكس الجامدون على رؤوسهم، وارتكست فتنتهم بين جراثيم شيوخهم،
وانطلقت في المعاهد الدينية ألسنة العلماء المستقلين، وصارت رسالة التوحيد تُدَرَّس
في الأزهر للقسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي
التفسير فيه، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية متغلغلة في أحنائه ومناحيه، بل صارت
مرجعًا للفتاوى الرسمية، وأخذ ببعضها في إصلاح الأحكام الشخصية للمحاكم
الشرعية.
هذا وإن مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، معدود
من هؤلاء المريدين، وكذلك رئيس المجلس الإسلامي الذي أنشئ أخيرًا في بيروت.
وهنالك بشارة أخرى في تحول الأحوال، ونصر حزب الله على أحزاب
الشيطان، من الشيوخ الجامدين، والمتصوفة الخرافيين، والمتفرنجين الملحدين
الفاسقين، وهو تأليف جمعية الشبان المسلمين، وتعدد فروعها في الأقطار العربية
من شرقية وغربية، وفوق ذلك كله يقظة الأمة العربية في جزيرتها، وشروعها في
تنظيم قوتها، واتفاق إماميها في الجنوب والشمال على شد أواخي وحدتها باليمين
والشمال، والأمم إذا عرفت نفسها وتعارفت شعوبها، تعذر على غيرها القضاء
عليها والاستبداد فيها، فلا يستعجلن سيكار الفرنسي وسنوك الهولندي وأمثالهما
بإغراء دولهما بسرعة القضاء على المسلمين، فربما كان هذا الاستعجال قضاء
على سلطان مجترحيه فيهم لا عليهم ولو بعد حين، وربما كانت محاسنتهم،
والتوسعة عليهم في حرية دينهم، ومساعدتهم على تنمية ثروتهم، أقرب إلى طول
العهد على الاستفادة منهم.
وليعلموا أن المنار ليس عدوًّا لدولة من الدول، ولا خصمًا لشعب من الشعوب،
ولا لعلوم الغرب وفنونه المنزهة عن فسقه ومجونه، كما يقول سيكار وأمثاله؛
وإنما هو صديق لأمته ولمن يصدق في ودها، وليسأل إن شاء مسيو (روبير
دوكيه) أشد خصم للمسلمين في سورية وأقوى داعية إلى استعمارها، عما نصحت
به له ودللته عليه في سنة 1920 عن الطريق المعقول لكسب فرنسة مودة المسلمين
عامة والعرب خاصة، وسورية بالأخص بما يُعلي نفوذها الأدبي والاقتصادي في
الشرق كله، وعن قوله لي أن هذا مشروع معقول لا خيالي، وأنه يمكن تنفيذه إذا
وُجد منا ومنكم من يقول به.
ثم ليسأل مسيو (هانوتو) عما كتبته إليه بهذا المعنى في جنيف سنة 1921،
فإذا علم هذا وعقله حكم بأنه يوجد فيمن يعدونهم أعداء لفرنسة من هم خير لها من
بعض ضباطها وقسوس جزويتها، الذين يسخرون نفوذها لمنافعهم دون مصلحتها.
والعاقبة للتقوى، والسلام عن من اتبع الهدى.
هذا وإننا على ما عهد قراء المنار منا وهو ما عاهدناهم عليه منذ سنته الأولى
من النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهم أول من يتلقاها
منهم، ويدخل في ذلك الدفاع بيان حقائق التنزيل، وما بيَّنه من سنة الرسول،
ومقاومة البدع والخرافات، وإبطال شبهات الزندقة والإلحاد والتحذير من أخطار
الاستعمار، والدمدمة على ضلالات المبشرين، وفضيحة مخازي المتفرنجين.
وتزييف مغالطات الماديين، وتأييد حرب الإصلاح والمصلحين والإصغاء لانتقاد
المخلصين، ونرجو من أهل الغيرة على الأمة والحرص على إحياء مجد الملة من
إخواننا العلماء، وسائر أفراد القراءة أن يشدوا أزرنا، ويؤدوا لنا حقنا، فقد آن لهم
أن يعتبروا بتعاون الملحدين والمفسدين على باطلهم، وتظاهرهم على من يَرُدّ على
أحد منهم، بل آن لحزب الإصلاح - الوسط بين حزب الجمود والتقليد، وحزب
التفرنج الملقب بالتجديد - أن يجمعوا كلمتهم، ويوحدوا شتيتهم، ويتعارف شرقيهم
بغربيهم، وجنوبيهم بشماليهم، فإن يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، وأرجو أن يكون آخر المنار خيرًا من أوله، وأن يزيده الله توفيقًا
بإحسانه وفضله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
__________(30/1)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
ووجوب إطلاع المسلمين عليه
لأمير البيان، ومدرة سلائل عدنان وقحطان
الأمير شكيب أرسلان
(1)
سبق لنا مقالة في المنار عن بعض الكتب التي أُخْرِجَتْ حديثًا في أوربة بشأن
الإسلام والمسلمين، ومن جملتها كتاب لرجل يقال له (جول سيكار) من كبار
تراجمة الجيش الفرنسي في المستعمرات الفرنسية سماه (العالم الإسلامي في
المستملكات الفرنسوية) .
وقد رددنا على شيء مما تضمنه هذا الكتاب، ووعدنا بإكمال البحث ونشر ما
قاله المؤلف المذكور عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، وعن خلفه
الأستاذ الحجة صاحب المنار أمتع الله ببقائه.
قال في الصفحة 73 تحت عنوان (الطور الديني الجديد) ما يأتي:
(إن المسلمين الحاضرين هم من حيث السواد الأعظم على مذهب السنة
والجماعة، إلا أن روح الحرية والنزوع إلى المبادئ العصرية قد ظهر في أكثر من
نقطة واحدة في العالم الإسلامي.
وقد كان مبدأ هذه الحركة في الهند ثم في فارس ومنها سرت إلى مصر وإلى
السلطنة (العثمانية) المنحلة. وسواءً أكان هناك أم هنا يجتهد المسلمون الأحرار
أن يثبتوا الوئام الواقع بين الإسلام والترقي، وبين العقيدة القرآنية والمقتضيات
العصرية، ومن سمع كلامهم خال أنه ليس ثمة إلا سوء فهم أدى إلى التناقض،
وأنه من الخطأ البيِّن الاهتمام ببعض جزئيات ليست لها إلا مكانة ثانوية، وأن يظن
أن بعض الأصول التي أولدها الاحتياج في وقت معين تعد قواعد سرمدية، وأن
يغفل عن سنة التحول التي عليها مدار الاجتماع البشري.
وهؤلاء العصريون Modernists الذين يليق بهم اسم (المعتزلة الجدد)
ينتقدون انتقادًا لا غبار عليه شدة جمود المقلدين وعماية هؤلاء، ويحاولون تخليص
قواعد الإسلام الأساسية وتطبيقها على مقتضيات الحياة والعلم الحديث، وقد امتاز
في هذا المشرب رجلان أحدهما (أمير علي) في الهند، والآخر - وهو الأهم -
الشيخ محمد عبده الطائر الصيت في جميع شمالي أفريقية مؤلف رسالة التوحيد.
فالشيخ محمد عبده (1849-1905) مفتي مصر الأكبر هو أنبغ تلاميذ
المحرك الأفغاني جمال الدين (1897-1939) باعث فكرة الجامعة الإسلامية،
وله طريقة خاصة به في تحقيق مصدر العقيدة وهي طريقة صارمة في ذاتها كما
يقر هو بذلك؛ لأنه لا يسلِّم بصحة شيء من مصادر الدين (إلا ما كان في القرآن
مع عدد قليل من الأحاديث المتعلقة بحياة الرسول) وخلاصة مذهبه وجوب التسامح
بين جميع مذاهب الإسلام المختلفة.
وأما فلسفته الأدبية فمستمدة من المذاهب الحرة لا سيما مذهب الغزالي المتكلم
الكبير المتوفى سنة 1277 (مسيحية) الذي له أكثر اليد في التسامح بين مذاهب
الإسلام المختلفة، وهذه الفلسفة مشتقة من الاعتزال الذي هو وليد المحاكمة العقلية
في علم الكلام الإسلامي، والذي يقول بالاختيار المطلق، لكنه مذهب اضمحل أخيرًا
على إثر المصارعة الهائلة التي وقعت بين حزب المفكرين وبين الجماعة المتشددة
التي كان لها الغلبة في نهاية الأمر.
(والشيخ محمد عبده كان أبصر الخطر الذي أحدق بعقيدة المسلمين من جراء
زحف العلوم الغربية (نقل المؤلف هذه العبارة بنصها من الأب لامنيس المستشرق
اليسوعي) فنشط إلى إجراء تمييز ينقذ به مذهب السنة والجماعة وشرع بإلقاء
دروس في الأزهر استجلبت الأنظار أولاً إلا أنه توقف عنها على إثر مقاومة العلماء
الجامدين، فعند ذلك أسس بمساعدة تلميذه المقدم السوري السيد محمد رشيد رضا
طريقة إصلاحية لسان حالها مجلة شهرية اسمها (المنار) ومنزع هذه الطريقة في
الدين هو تجديد المذهب الوهابي الذي لا يزال رشيد رضا يؤيده بمعارفه بالسنة،
وأما في السياسة فهي مبنية على الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، وبالحريّ:
على عداوة الأجانب، ولك أن تقول: على مقاومة الغرب.
وهي تميل إلى فكرة العصريين بتعديل الشريعة الإسلامية على ما يوافق
ضرورات الوقت؛ ولكنها تنشد أعتادها في مسلحة الوهابيين، وتستمد من مذهبهم
حججها على (المتفرنسين) فمن الوهابيين تأخذ مقاومة الخرافات الحشوية والتدمير
على المعتقدين بتأثير الأولياء، وعلى الطرق الصوفية، والمنار تطبع وتعيد طبع
تآليف ابن تيمية التي كانت منسية والتي هي أشد الكتب تهييجًا، هذا ورشيد رضا
هو سيد، أي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو نفسه يعلن كونه عربيًّا قرشيًّا.
والمنار في استمساكه بالجامعة العربية مقيم على إيجاب إعادة الخلافة، كما
أنه في مخالفته للمنازع القومية التي تخالف برنامجه الإسلامي العربي يشير بتوحيد
مذاهب الفقه الأربعة في مذهب واحد، وضم شتات الفرق الإسلامية إلى جماعة
كبرى يمكنها أن تقاوم أوربة، وأن تقاتل ثقافتها المتقدمة.
وهو يعترف بانحطاط الإسلام؛ لكنه يزعم معالجة دائه بالرجوع إلى عقيدته
الأصلية على أن يفهمها الناس حق الفهم مستمدة من الكتاب والسنة، ويقول: لماذا
نلجأ إلى علم الغرب الموجب للشبهات؟ فكل شيء هو في القرآن، والمنار ينشر
تفسيرًا لا بأس به، فيقول - مثلاً - عندما يشير كتاب الله إلى الصاعقة: يلزم أن
نفهم منها الكهربائية، كذلك المنار يشير بالاهتداء بأشعة (رونتجن) لتقوم مقام
(العِدة) وهي مدة الثلاثة الأشهر التي يأمر بها القرآن أن تكون فاصلة بين طلاق
المرأة وزواجها من غير زوجها الأول (هذا غير صحيح) ولما كانت العلوم العصرية
لا تستغني عن التصوير اللازم في التعليم وفي إدارة الجيش وفي إدارة الأمن العام،
فالمنار يستنتج جواز ذلك للمسلمين، وهو يوجب على الطرق الصوفية الاشتغال
بالمصالح العامة من مؤاساة وتعليم ... إلخ.
وبهذه الأفكار الجريئة الشاذة (تأمل أيها القارئ) تزعم مجلة القاهرة (أي
المنار) متابعة طريقة المصلح الذي هو الشيخ محمد عبده، وصرف النظر عن
تعصبها الوهابي وشنآنها للأجانب، فهذا هو التجديد بالمقلوب (تأمل أيضًا) .
فالإسلام إذًا هو على ملتقى الطرق، ونراه غير شاعر كثيرًا بأنه أصبح
مضطرًّا أن يطرح من وسقه لينجو.
فأما ما كان من أمر الخلافة فالذي ألحظه أن التضحية بها تمت بدون ضوضاء،
ومثل ذلك تم العدول عما كان الهنود المسلمون يطالبون به من الأمور المتعلقة بهذه
الفكرة الجبروتية.
بقيت الأحوال الشخصية (تعدد الزوجات والميراث والعقود) فهذه هي التي
تمنع المسلمين في البلدان غير الإسلامية من الاستفادة من المساواة التامة المفروضة
عليهم، فكتاب الشيخ المصري علي عبد الرازق يشير عليهم بأن يتقدموا براحة
وجدان إلى قبول تشريع جديد بناء على كون النبي لم يلحظ جميع الأمكنة ولا جميع
الأزمنة، وهذا هو رأي كثير من مفكري الإسلام، فهل يتغلب رأي هذه الطبقة
المفكرة فيجر معه جماهير الإسلام، أم يبقى دون بلوغ الغاية؟ الجواب أن أوربة
تخطئ بعدم مراقبة سير هذه الحركة عن كثب، وقد تجد أوربة في هذا الرأي ما
يساعدها على سياسة إسلامية ذات فائدة حقيقية، ولو لم يكن منها سوى الاستغناء
عن سن قوانين مأخوذة من شريعة الإسلام لكفى، وهي المسألة التي تورطت فيها
فرنسة في أفريقية، ونشبت منها منشب سوء) انتهى ما نقله سيكار عن المستشرق
اليسوعي لامنيس.
ولنذكر هنا رأي المستشرق الشهير سنوك هور كرونجه الهولندي [1] الذي قال
في هذه المسألة قوله الفصل.
(إن الشريعة الإسلامية سواء من جهة النص أو من جهة الروح تعتمد على
القهر والإكراه في نشر العقيدة (تأمل أيها القارئ) لأن هذا الدين يُعِدُّ كل الناس
غير المؤمنين أعداء لله، ويوجد اليوم عصابة صغيرة من المسلمين تحاول تطبيق
الإسلام على الأفكار العصرية؛ لكن هؤلاء النفر تمثيلهم للدين الذي ولدوا فيه لا
يزيد على تمثيل (المجددين) Modernists للدين الكاثولوليكي، والحقيقة أنه لا
يوجد فرق في هذا الموضوع بين فقهاء المذاهب المختلفة) .
***
ماهية إصلاحيات الشيخ محمد عبده
يقول أحد مادحيه: إن المزية التي اشتهر بها الأستاذ هو الدقة النادرة التي يميز
بها بين ما هو في الديانة جوهري وما هو عرضي أو طارئ على الدين، وهو في
أشد اقتراحاته جرأة لم يتعرض بشيء للقسم الجوهري من العقيدة، ولا ترك نفسه
يهاجم أركان الدين الأساسية نظير كبار مصلحي القرن التاسع عشر كميرزا علي
محمد الباب المولود في فارس سنة 1821 مؤسس البابية، وبهاء الله مؤسس
البهائية في تركيا الذي صلبته الحكومة الفارسية سنة 1850 (هذا خلط عظيم،
فالذي صلبته الحكومية الفارسية هو الباب لا بهاء الله، وهذا قد توفي حتف أنفه في
عكا منذ نحو أربعين سنة) أو ميرزا غلام أحمد في الهند. بل الشيخ محمد عبده
بقي دائمًا ضمن حظيرة الإسلام بل ضمن مذهب السنة والجماعة [2] ؛ وإنما كان
عمله الوعظ والحث على التسامح الديني، والدفاع عن حقوق العقل، وإحياء
فضائل الدين، وتطبيق الإسلام على العلم الحديث.
ومما لا جدال فيه أن الشيخ محمد عبده قد دافع عن الإسلام دفاعًا شديدًا ذاهبًا
إلى حد ترجيحه على النصرانية، فهو ينتقد ما في النصرانية من الحث على الغلو
في حب القريب، وإماتة الحواس والزهد في الدنيا، غافلة عن طبيعة الإنسان
والغرائز التي هو مفطور عليها.
وهو يقول: (إنه لما جاء الإسلام خاطب العقل والإدراك، وأشركهما في
العواطف والحواس آخذًا بيد الإنسان إلى سعادة الدنيا والأخرى) .
ولكن الشجرة تعرف بثمارها، وهذه الجملة تكفي في هذا المختصر على الأقل
لتفنيد انتقادات الشيخ محمد عبده، فهل مآثر الإسلام تتحمل القياس مع مآثر
النصرانية، لا شك أن التاريخ الذي لا ضلع له يجاوب جوابًا فصيحًا على هذه
المسألة، وإن أراد القراء المسلمون الأدلة والوثائق فما عليهم إلا أن يختاروا، فإن
الكتب الحديثة المنوهة بمآثر النصرانية جديرة بالاعتبار.
(وذكر المؤلف سيكار في الحاشية اسم كتاب في تاريخ الأديان، وكتاب آخر
في بيان فضائل الدين الكاثوليكي؛ ولكن الجواب عن هذه القضية وهي أن الشجرة
تعرف بثمارها والتي معناها عزو تقدم أوربة إلى النصرانية، وعزو تأخر المسلمين
إلى الإسلام هذا الجواب سهل علينا وسنذكره بعد الانتهاء من ترجمة هذا الفصل،
وهما قد رأيا فيه حجج الأستاذ الإمام) .
ولم يغب عن الشيخ أن حالة المسلمين الحاضرة هي بعيدة جدًّا عن الصورة
التي يعطيها هو عن الإسلام، وفي الفصل الذي عنوانه (إيراد سهل لا يراد) تجد
منه أمرّ انتقاد لهذه الحالة إلا أنه يعزو هذا الانحطاط إلى انحراف المسلمين عن
جادة دينهم ويقول: إنهم طيلة ما كانوا سائرين بمقتضاه كما يجب كانت جيوشهم لا
تعرف إلا الغلبة والظفر، وكان سلطانهم فائقًا في اللمعان كل ما تَقَدَّمه من المدنيات،
وكان مفكروهم في مقدمة الحركة الفكرية التي كانت في عصرهم.
***
صدى الحركة العصرية في شمالي أفريقية
إن الحركة العصرية قد أخذت تنتقص المبادئ الدينية؛ ولكن انتقاصًا محدودًا
وبمقدار مختلف بين تونس والجزائر ومراكش، فأفكار الشيخ عبده تغلغلت في
عقول المفكرين ووجدت مجالاً واسعًا لدى الشبان على حين نرى أرباب العمائم
منكرين لها أشد الإنكار، ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن
يجهروا بأفكارهم نظرًا لقلة عددهم ولشدة مقاومة الجامدين لهم (لكن نفوذهم هو
الغالب حتى غلب على الأزهر ولله الحمد) .
وهؤلاء الجامدون [3] بعداوتهم لكل ما ليس به نص صريح في القرآن ينقمون
أشد النقمة على أتباع الطرق الصوفية تقديس الأولياء والطواف حول قبورهم،
وكل مقصدهم هو تطهير الدين من جميع الخرافات، ومن جميع الشعائر التي
يعدونها نصف وثنية، والتي قد شوهت عقيدة الإسلام الأصلية، وهي التي نجاحها
قد كان بسبب شدة تنزيهها الباري تعالى عن مشابهة مخلوقاته، فالشيخ محمد عبده
يقول: إنه إذا كان لا يجوز لمسلم أن يتشكك في النبوءة والمعجزات التي ثبت
وقوعها على يد النبي صلى الله عليه وسلم - فإنه حر أن يعتقد أو أن لا يعتقد كرامات
الأولياء.
ثم إنه يضاف إلى ما تقدم من الملاحظات كون مسلمي شمالي أفريقية لا
يبرحون أمناء للإسلام، وإن كان بعض الفتور قد بدأ يظهر في عقيدتهم نفسها،
وهذا الفتور إن هو لم يخالط العقيدة فقد ظهر في الشعائر، مثل ذلك صوم رمضان
الذي كان يتمسك به أقلهم تحمسًا بالدين قد مالت اليوم حباله إلى الارتخاء.
ثم إن سيكار صاحب الكتاب عقد فصلاً نحو صفحتين لخص فيه كتاب الشيخ
علي عبد الرازق في أصول الحكم والخلافة، ولما كان هذا الكتاب معروفًا عند
القراء لم نجد حاجة إلى ترجمة كلامه. ثم انتقل إلى موضع آخر أهم من كل ما
تقدم وهو تنصير المسلمين، وهل هو مستحب أم لا؟ وهل هو ممكن أم لا؟ وقد
كانت النتيجة التي وصل إليها بعد مباحث أخذت 15 صفحة أن تنصير المسلمين
مستحب، وفيه من الفوائد الدينية والسياسية ما لا يخفى، كما أنه ممكن أيضًا خلافًا
لما يذهب إليه بعضهم من استحالته، وإن كان في حد نفسه أصعب من تنصير
الوثني، وفي كلامه لوم ظاهر للحكومة الفرنسوية التي لم توجه إلى هذا الأمر
الجلل العناية الكافية بزعمه.
هذا ما ذكره هذا الضابط الفرنساوي المسمى جول سيكار المترجم الكبير في
الجيش الفرنسي في أفريقية الذي ليس بقس ولا راهب، بل هو من مأموري حكومة
تعلن أنها لا دينية أو (لاييكية) ... فتأمل.
وسنرسل الفصل المتعلق بتنصير المسلمين إلى المنار لأجل البحث فيما
تضمنه لأنه يحتوي مباحث كلامية، أو على رأيهم لاهوتية، صاحب المنار أولى
بالحكم فيها، أما أنا فإني أعلق على الفصل الذي ترجمته الملاحظات الآتية:
أولاً: ليس لسيكار، وبخاصة ليس للراهب لامنس اليسوعي أن يتكلم عن
قضية جمود الإسلام، ولا عن مخالفة نصوص كتابه للعلم الحديث، فليس في
القرآن ولا في الشريعة ما يخالف العلم الحديث، بل القرآن ملآن بالحث على العلم
مطلقًا لا يختص به نوعًا من الأنواع، وليس في الدنيا كتاب دعا إلى النظر والسير
وتدبر أسرار الكون ما دعا إليه القرآن، فهل يقدر أن يقول لامنس اليسوعي
والضابط سيكار شيئًا من ذلك عن الكتب المقدسة عندهما؟ وهي التي ألَّف علماء
من المسيحيين مؤلفات ذات أجلاد ضخمة على تناقض نصوصها وقواعدها مع
قواعد العلم الطبيعي الحديث؟ أيريان القذى في أعين غيرهما ولا يريان الخشبة
التي في أعينهما؟ أيتكلمان في الجمود وينسيان كل ما أورده المسيحيون من تاريخ
الكنيسة في محاربة العلم؟ لم نكن نود التعرض إلى هذا الموضوع لو لم يحرجانا
فيخرجانا إليه لأن الذي يقرع الباب يسمع الجواب.
ثانيًا: قضية أن (الشجرة تُعرف من ثمارها) لا تنطبق على ما نحن فيه،
فنحن لا يخطر لنا على بال أن ننكر ما في الإنجيل الشريف من مبادئ سامية وفضائل
بمثلها يرتفع قدر الإنسانية، وأن المسلمين يجب عليهم دينًا أن يقدسوا الإنجيل المنزَّل
ومبادئه الثابتة، ويؤمنوا بصاحبه صلى الله عليه وسلم كما يؤمنون بمحمد وإبراهيم
وموسى ونوح صلوات الله عليهم جميعًا، ولكن نسبة تقدم أوربة وتفوقها على غيرها
في الأعصر الأخيرة إلى ثمرات الدين المسيحي ونسبة انحطاط العالم الإسلامي
الحاضر إلى ثمرات التعليم الإسلامي كلاهما محض خطأ، فلو كان ذلك كذلك للزم أن
تتقدم أوربة وتترقى منذ دانت بالنصرانية، والحال أنه كان مضى عليها ألف
وخمسمائة سنة - مدة نظنها كافية للتأثر والتأثير - وهي دائنة بالدين المسيحي،
وكانت لا تزال متأخرة متقهقرة، لا بل قسم منها كان يعد متوحشًا فأين كانت ثمار تلك
الشجرة طيلة ألف وخمسمائة سنة؟ ومن الغريب أن أوربة لم تبدأ بالترقي - وهو
رقي لا يعدو في الحقيقة المادة والصناعة - إلا بعد أن تراخت فيها حبال العقيدة
المسيحية بخلاف الإسلام الذي كان راقيًا فائزًا يوم كان أهله شديدي الاعتصام به،
وأصبح متقهقرًا ضعيفًا عندما قعد أهله عن القيام بعزائمه، ثم إن المدنية اليونانية قبل
النصرانية كانت أعلى جدًّا من المدنية اليونانية بعد أن تنصر اليونان، فهل يريد
سيكار ولامنس أن ينسبا ذلك إلى تأثير الديانة؟ إذًا تكون الميتولوجيا اليونانية أعلى
من النصرانية! وهذا غير معقول، وأن مدنية رومة كانت لعهد وثنيتها أرقى جدًّا من
مدنيتها بعد أن تنصرت، لا بل كان دخول رومة في النصرانية موافقًا عهد بداية
انحطاطها، أفنقول كما قال بعض مفكري أوربة، ومنهم أتاتول فرانس: إن ظهور
النصرانية كان وَقفًا لسير المدنية في العالم، وأن بوار الدولة الرومانية كان من آثار
ديانتها الجديدة؟ نحن لا نعتقد ذلك، بل نذهب إلى أن لانقراض الدولة الرومانية
عوامل أخرى، كما أن انحطاط المدنية الأوربية في القرون الوسطى لم يكن المسئول
عنه الإنجيل، وكما أن انحطاط الإسلام الحالي ليس بالمسئول عنه القرآن، بل هناك
عوامل كثيرة، وأن نسبة درجة رقي الأمم إلى تأثير الديانة تفضي بنا إلى القول بأن
ترقي اليابان الحالي هو من ثمرات مذهب شينتو، هذا ما عدا المدنيات القديمة كمدنية
الصين والهند والمدنيات البائدة نظير مدنية بابل ونينوي والنبط والفينيقيين، وكل
هؤلاء كانوا وثنيين، فهل نجعل الوثنية مصدر هذه الثمرات؟ إذًا لم يبق فضل
للنصرانية على الوثنية.
إذًا البرهان على انحطاط الإسلام من جهة انحطاط المسلمين اليوم هو برهان
ساقط بأدنى تأمل، وليس الإسلام بمسئول في القرون الأخيرة عن انحطاط
المسلمين أكثر مما كانت النصرانية مسئولة عن سقوط رومة وانحطاط الأوروبيين
في القرون الوسطى، ولو عمل المسيحيون حق العمل بمقتضى مبادئ الإنجيل،
ولو عمل المسلمون حق العمل بأوامر القرآن ونواهيه لأفلحت كل من الأمتين في
الدنيا والعقبى، ونالتا سعادتي المادة والمعنى.
(ثالثًا) : الكلام المنسوب إلى (سنوك هور كرونجه) المستشرق الهولندي،
مستغرب من جهة الزعم بأن الإسلام يعتمد في نشر عقيدته على الإكراه، وذلك أن
قاعدة الإسلام النظرية والتي جرى العمل بها من صدر الإسلام هي {لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) نعم قاتل النبي صلى الله عليه
وسلم لأول الأمر المشركين لأنه نهاهم عن الشرك بالله، وعن عبادة الأصنام فلم
ينتهوا منها، وكان دعاهم إلى ذلك بالحسنى والقول اللين فلم يستمعوا له، بل ثاروا
به وقاتلوه فاضطر أخيرًا أن يقاتلهم بالسيف دفاعًا، وأن يحطم أصنامهم بالسيف
حتى يكون الدين كله لله، ومن المصائب أن بعض الناس يقرءون القرآن فتمر بهم
آيات لا يفهمون معناها أو يؤولونها بغير معناها الحقيقي إما عن ضعف ملكتهم
بالعربية - وهي ملكة لابد منها لمن أراد أن يفهم القرآن العزيز - أو لعدم اطلاعهم
على أسباب النزول والوقائع التي من أجلها وقع الوحي، وهذه المعرفة ضرورية
لمن أراد أن يفهم كتاب الله حق الفهم، فينشأ من جهل هؤلاء بهذين الأمرين خلط
كثير رأيناه في أكثر التآليف التي صنفها غير المسلمين في أمر القرآن.
أما المستشرق الهولندي سنوك هور كرونجه فهو من أعرف الأوربيين بالكلام
العربي والشرع الإسلامي، فإذا كان صدر كلام كهذا عنه فهو عن تجاهل لا عن
جهل، وعن تمام عن الحقيقة لا عن عماية، فسنوك هور كرونجه يريد قبل كل
شيء أن يخدم سياسة هولاندة التي من مقتضاها لأجل استتباب سلطتها على الجاوي
وسومطرة توهين العقيدة الإسلامية واستئصالها، مذهب الحيلة لا مذهب بالبطش،
فيقول: إن من الخطل العظيم أن تسن الدول الاستعمارية للمسلمين الذين استولت
على بلادهم قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية بمعنى أن هذه الشريعة فيها من
المرونة ما تسع معه احتياجات هذا العصر، بل يجب على الدول الاستعمارية أن
تعدل عن هذه الخطة، وتجتهد في إقناع المسلمين بأن شريعتهم أصبحت ثوبًا باليًا لا
يقيهم حرًّا ولا بردًا، فإن أرادوا أن يعيشوا كسائر الأمم المتمدنة لم يكن لهم مندوحة
عن طرح الإسلام تدريجًا؛ وبذلك تكون دول أوربة الغالبة اليوم على الإسلام اتقت
خطر انتفاض المسلمين عليها، وأمنت مستقبل سلطتها عليهم.
وفي كلامه هذا الذي لخصناه في حواشي (حاضر العالم الإسلامي) شيئان
جديران بالتقييد (أحدهما) أن سن قوانين عصرية مستمدة من الشريعة الإسلامية
غير موافق لا من جهة عدم مرونة هذه الشريعة، أو عدم اتساعها لذلك، بل من
جهة أنه لا ينبغي أن تسن لإدارة أمور المسلمين أنظمة عصرية يوقنون بها
أن شريعتهم قد تتلاءم مع العصر الحالي، فيزدادون بها تمسكًا وعليها عضًّا بالنواجذ،
والحال أنه يجدر بالدول المستعمرة أن تبذل كل جهدها في إقناع المسلمين بأن
شريعتهم أصبحت لا تصلح أصلاً لهذا الزمان، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما
أن يموتوا، وإما أن ينبذوا شريعتهم، فالمسألة إذًا ليست حقيقة علمية، بل حيلة
سياسية.
(والأمر الثاني) هو في كلام هذا الرجل الاعتراف بأن الخطر الوحيد الذي
يتهدد الاستيلاء الأوروبي ليس روح القومية، بل روح الإسلام، فإذا ذهبت روح
الإسلام من الأمم المسلمة هان عليها خنوعها للأجانب، ولم يتكاءدها فقد استقلالها.
وبعبارة أخرى: إن رابطة الاستقلال في العالم الإسلامي متوقفة على حياة
الدين الإسلامي، فإن ذهب الاستقلال وأمن المستعمرون شر الانتقاض في المستقبل،
فهذا الاعتراف من مستشرق عظيم نظير سنوك هور كرونجه ثمين جدًّا، يزيد قيمته
اعتبارًا أنه لسان حال دولة أوربية مستضعفة لـ 45 مليونًا من المسلمين.
بقي نقطة ثالثة في كلام هذا المستشرق الهولاندي وهي قوله (أن بعض
المجددين الذين عندهم أفكار عصرية من المسلمين لا يمثلون الدين الإسلامي أكثر
مما تمثل فرقة العصريين Modernists في النصرانية الكنيسةَ الكاثوليكية) .
يريد أن يقول: إن التعاليم الكاثوليكية مخالفة للمبادئ العصرية، وإن الذين
يحاولون هذا الأمر من الكاثوليك يحاولون المحال تقريبًا.
فليس إذًا لسيكار ولا للامنس أن يتكلما في عدم انطباق الدين الإسلامي على
العلم الحديث وعلى الأوضاع العصرية، ويكونان قد احتجا بكلام رجل شهادته
جاءت على الكاثوليكية كما جاءت على الإسلام أو أشد، ولهذا قلنا إنه ليس لهذين
وأمثالهما أن ينعتا الإسلام بالجمود وحب التقليد، ونضيف إلى ذلك أنه ليس لسنوك
هوركرونجه أيضًا، ولا للهولنديين ولا للبروتستانت أن ينبزوا المسلمين بالجمود،
فإن البروتستانت المفتخرين على الكاثوليك بالأخذ بالمبادئ العصرية وبالعمل بالعلم
الحديث، لا يفترقون عن الكاثوليك في شيء من جهة أساس العقيدة المسيحية، وأن
أكثر ما بين الفريقين من الخلاف إنما هو في عقائد ثانوية، ولسنا الآن في حاجة
إلى تفصيل هذه الأمور، إذًا هذه الفرقة مثل تلك الفرقة من جهة الجمود على القديم
وحب التقليد؛ ولكنهم أولعوا بنقد الإسلام والمسلمين ونسوا أنفسهم.
وفي هذا الفصل الذي ترجمناه مظان أخرى تركنا الملاحظة عليها لفهم القارئ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: هو الذي كان ادعى الإسلام، وجاور في مكة المكرمة يطلب العلم في الحرم الشريف عدة سنين لاختبار بواطن المسلمين لتكون دولته على بصيرة في معاملة عشرات الملايين منهم، وهو ممن يفترون الكذب على الإسلام وهم يعلمون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
(2) هذا هو الذي أسخط المستشرقين الهولندي والفرنسي على إصلاح الأستاذ الإمام، وكانا يودان كأمثالهما خروجه عن الإسلام كالباب والبهاء أو عن بعض أصوله كالقادياني.
(3) كذا، وهو مخالف للإصلاح فإن المصلحين هم الذين ينقمون من أهل الطرق خرافاتهم الوثنية، وأما الجامدون فيتأولون لهم بل يوافقونهم على أكثرها.(30/33)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السنة والشيعة
أو الوهابية والرافضة
(4)
نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية
أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية
كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم.
فنقول في الكلام عليها (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا
في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه الصواعق، وفي كتابه
مناقب معاوية في بدع الشيعة وتضليلهم ... إلخ، أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده
دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون
إلا ما يوافق أهواءهم؟
نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في
علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا،
فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في
المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره، وأما ابن تيمية فمن أكبر
حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه
الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما
اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم
بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون
بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء
مما ثبت عنه.
ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما
قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري
المتصوفة، فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي
وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله.
وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم فهو مقلد فيه
لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه -
للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى
سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص
الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة
لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية
بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه
اللوازم كلها؟ .
وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه
يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح
بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ
أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) وأي طعن في الدين وجناية
عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن
المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها.
وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن
حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم
من نسبه إلى التجسيم ... إلخ.
ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن
حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر
العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور
وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة
وكتبهم! .
(وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية،
وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة
حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه
في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة
العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن
الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام
وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم
تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في
الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص 132 من كتابه ما نصه:
(ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر
الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) .
(وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية، ومن ترجمة الحافظ
الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول:
ترجمة
شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره
للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة [1]
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية
الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين.
وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين
وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي
عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء،
ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس،
وأفتى وَفَاقَ الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع
في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.
وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين
وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع
من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال
الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه.
ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه
أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى
السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي،
وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع
الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من
الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على
معتقد الإمام الشافعي، وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي،
وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك،
وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري.
وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة 728 ثم قال:
قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد:
تمرت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عواها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي ... أداة إلى غير أحبابها
وأنشد له على لسان الفقراء:
والله ما فقرنا اختيار ... وإنما فقرنا اضطرار
جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار
يسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره
كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود
بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين
بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين
بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على
قافية الضاد المعجمة.
قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل
الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما
رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد
استحضارًا للمتون وعزوها منه ! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة
رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير
والتوسع فيه.
وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع
ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون
تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم (ثم قال)
ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى
التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده.
وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن
عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت،
فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) ولم أر مثله في
ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له
في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه
وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة
للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن
كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا
ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ
من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قال) وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا،
لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا
كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل
يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر
على خطئه، وأجران على إصابته.
إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين،
العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من
حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا.
قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة
سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول
للسلطان والأمراء، ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم
يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها.
(قال) ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل،
ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تميم إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر [2]
قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويه،
فناظره أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد ذا ماله، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر.
(قال) وحجَّ ابن المحب سنة 24 فسمع من أبي حيان أناشيد، فقرأ عليه
هذه الأبيات، فقال: قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير، فسأله عن السبب في
ذلك فقال: ناظرته في شيء من العربية، فذكرت له كلام سيبوبه، فقال: يفشر
سيبويه، قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما
كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما
تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره (البحر) بكل سوء،
وكذلك في مختصره (النهر) ورثاه شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة رائية مليحة،
وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى، ورثاه زين الدين بن
الوردي بقصيدة لطيفة طائية.
وقال جمال الدين السرمري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل
زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب يطالعه مرة، فينتقش في ذهنه وينقله في
مصنفاته بلفظه ومعناه.
وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين
والفرائض والحساب وفنون أخر، وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه
متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سألني مستفيدًا حققت له، ومن سألني
متعنتًا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه، وقال في كتابه
إبطال الحيل: هو عظيم النفع، وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع
الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد
أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه، فيأخذ منها ما يشاء، ويذر
منها ما يشاء، ومن ثم نسبت أصحابه إلى الغلو فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه،
حتي زها على أبناء جنسه، واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء
وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء، فبلغ الشيخ
إبراهيم الرقي، فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر، وقال في حق علي: أخطأ
في سبعة عشر شيئًا (كذا) ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها
زوجها أطول الأجلين.
وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سب الغزالي فقام
عليه قوم كادوا يقتلونه، ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه
بكلام قوي، فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.
واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس
الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي [3] لأنه كان يعتقد فيه أنه
مستقيم، وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه،
فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابًا طويلاً نسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة
الإلحاد [4] فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد
مغيرة وقعت منه في قواعده وفتاويه، فذكر أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر
درجتين وقال: كنزولي هذا [5] فنسب إلى التجسيم. ورده على من توسل بالنبي
صلى الله عليه وسلم واستغاث، فأُشخص من دمشق في رمضان سنة 698 فجرى
عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك
يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرًا قام على الشيخ كريم الدين الأيلى شيخ
خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من
تدريس الشريفية، فيقال إن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يومًا، فلم يخرج حتى
زالت دولة بيبرس، وخمل ذكر نصر، وأطلق ابن تيمية إلى الشام.
وافترق الناس فيه شيعًا [6] فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة
الحموية والواسطية وغيرها، من ذلك قوله في اليد والقدم والساق والوجه: صفات
حقيقية لله، وأنه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل: يلزم من ذلك التحيز والانقسام،
فقال: إنا لا نسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز
في ذات الله تعالى.
ومنهم من نسبه إلى الزندقة لقوله: النبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به،
وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس
عليه في ذلك النور البكري، فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض
الحاضرين: يعزر، وقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصًا يقتل،
وإن لم يكن تنقيصًا لم يعزر.
ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله: إنه كان مخذولاً
حيثما توجه، وأنه حاول الخلافة مرارًا ولم ينلها، وإنما قاتل للرياسة لا للديانة،
ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وأن عثمان كان يحب المال، ولقوله في أبي بكر
أسلم شيخًا لا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيًّا والصبي لا يصح إسلامه على قول،
وبكلامه في قصة خطبته بنت أبي جهل وما بها من الثناء، وقصة أبي العاص بن
الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه
وسلم: (لا يبغضك إلا منافق) .
ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى؛ فإنه كان يلهج بذكر ابن
تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدًا لطول سجنه، وكان له وقائع شهيرة وكان إذا
حوقق وألزم يقول: لم أرد هذا؛ وإنما أردت كذا، فيذكر احتمالاً بعيدًا.
(قال) وكان من أذكياء العالم، وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن
بكر السكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمي في إنكار القدر أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأعظم حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يَرضَه مني فما وجه حيلتي
فوقف عليها ابن تيمية، فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل
أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتًا أولها.
سؤالك يا هذا سؤال تعنت ... يخاصم رب العرش باري البرية
وكان يقول: أنا ما قرأت في الأقفاص.
وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح العمري في ترجمة ابن تيمية: حدا بي
(يعيش المزي) على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك
من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل
رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه
وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من
درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه
مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويروون من بحر
علمه العذب المنير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه
من أهل بلده داء الحسد، وألَّب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد،
فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه
خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع
طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق ناظر منها
وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة
الأولى من منازعيه، واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء
أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألَّبوا الرويبضة [7] للسعي
بهاتين للأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقل وأُوْدِع
السجن ساعة حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشروا لذلك قومًا من
عمار الزوايا وسكان المدارس، ما بين مجامل في المنازعة، ومخاتل في المخادعة،
ومجاهر بالتكفير مبادر بالمقاطعة، ليسوموه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن
صدورهم وما يعلنون، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل وقد دب إليه
عقارب مكره، فردَّ الله كيده في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على
أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم يزل ينتقل طول عمره من محنة إلى
محنة، إلى أن فوَّض أمره إلى بعض القضاة، فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل
بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله تُرجع الأمور،
وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودًا ضاقت
بجنازته الطريق، وأتى لها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقوم
الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.
قال الذهبي مترجمًا في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل
وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين،
وصنَّف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفه نحو
أربعة آلاف كراسة وأكثر.
وقال في موضع آخر: وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن
المذاهب الأربعة فليس له نظير.
وفي موضع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقل أن يذكر مسألة
إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنَّف فيها
واحتج بالكتاب والسنة.
ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض
مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن
يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.
وقال في موضع آخر: بصير بطريق السلف، واحتج له بأدلة وأمور لم
يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء
المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه
إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات
مصرية وشامية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجَّاه الله تعالى، وكان دائم الابتهال،
كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش، له أوراد وأذكار يديمها يومية وجُمعية.
وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه،
ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبر قدره،
وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه
في كل فن، ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في
نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع والديانة،
ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض في هذا سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه
بذلك المأخذ الأوفى، وغرابة مثله الزمان بل من أزمان.
وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في بيت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء
الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين
شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق، السالك بمن اتبعه
أحسن الطريق، ذي الفضائل المتكاثرة، والحجج القاهرة، التي أقرت الأمم كافة
أن هممها عن حصرها قاصرة، متعنا الله تعالى بعلومه الفاخرة، ونفعنا به في الدنيا
والآخرة، وهو الشيخ الإمام العالم الرباني، والحبر البحر القطب النوراني، إمام
الأئمة، بركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد
علماء الدين، شيخ الإسلام، فخر الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتكلمين، قامع
المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن،
أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، تقي الدين، إمام المسلمين، حجة الله على
العالمين، اللاحق بالصالحين، والمشبه بالماضين، مفتي الفرق، ناصر الحق،
علامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون
البديعة، أبو العباس ابن تيمية.
وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدِّث حلب، قال: اجتمعت بالشيخ شهاب
الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق، فكتب لي كتبًا إلى الباسوقي
والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك، فحصل لي بذلك
منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية وأثنى عليه وذكر
لي شيئًا من كراماته، وذكر أنه حضر جنازته، وأن الناس خرجوا من الجامع من
كل باب، وخرجت من باب البريد، فوقعت سرموذتي فلم أستطع أن أستعيدها،
وصرت أمشي على صدور الناس، ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموذة، وذلك
من بركة الشيخ رحمة الله تعالى انتهى.
(يقول أبو محمد شفيع صاحب المنار) هذا ما قال الحافظان الذهبي وابن
حجر وما نقلاه من ثناء الحفاظ والمؤرخين المنصفين في شيخ الإسلام أحمد تقي
الدين بن تيمية، وما نقلاه من تقولات حُساده وخصومه من المشايخ المقلدين
الجامدين، وما حققه بعضهم من أسبابها، ومنه يعلم كنه كذب السيد محسن العاملي
الرافضي وتعصبه وجهله؛ فإنه أوهم قراء كتابه الملفق أن الحافظين الذهبي وابن
حجر كانا يطعنان في عقيدته، وأنه لم يوجد في المسلمين من زكاه إلا تلاميذه، ثم
الشيخ محمد عبد الوهاب ثم صاحب المنار، وحسبنا هذا في بيان كذبه وافترائه
عليه وعلى العلماء وعلى الوهابية عن عمد وعلى جهل، وما زال غلاة الشيعة
أكذب الفرق وأبعدها عن طلب الحق في خلافها لغيرها كما قال أحد علماء الألمان
المستشرقين.
وأما طعنه علينا فإننا نفوض إلى الله تعالى أمر جزائه عليه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج: 38) .
(تمت الرسالة الأولى)
__________
(1) كان عندنا أصل من هذه الترجمة منقول من نسخة من الدرر الكامنة في بغداد، كثيرة التحريف والتصحيف صححناه على نسخة دار الكتب المصرية ونسخة الأزهر.
(2) وفي نسخة:
كنا نحدث عن حبر يجيء بها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر.
(3) لعله سقط من هنا شيء.
(4) قد نشرنا في المنار كتاب ابن تيمية للشيخ نصر هذا من قبل.
(5) الصحيح أنه قال: (لا كنزولي هذا) كما نقله بعض المؤرخين، وهو الموافق لما صرح به في مواضع من وجوب الجمع بين إمرار النصوص ونفي التشبيه، فحرف كلامه أعداؤه، ولعل بعضهم لم يسمع حرف (لا) فنقله مثبتًا.
(6) اقتصر الرافضي العاملي من هذه الترجمة الحافلة على ذكر هذه المطاعن المنقولة التي سيأتي فيها ما يدل على بطلانها من كلام العلامة العمري، وقد شاهدنا في عصرنا مثلها في شيخنا الأستاذ الإمام وشيخه السيد جمال الدين.
(7) العبارة غير واضحة وهي اشارة إلى حديث ورد في أمارات الساعة منه: (وأن ينطق الرويبضة، قيل: وما الرويضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامة) قال في النهاية:
والتافه: الخسيس الحقير، والمراد أن أدعياء العلم المقلدين الحاسدين صاروا يتكلمون في ذم إمام كشيخ الإسلام نابغة الأعصار.(30/47)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العيد الذهبي
لشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاء
عبد الحميد بك الرافعي
نشرنا في ص 238 م29 الإذاعة التي نشرتها اللجنة التي ألفت في طرابلس
الشام للاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني، وكنا ننوي حضوره لما تقضي به علينا
الحقوق الشخصية الموروثة، علاوة على الحقوق الوطنية والقومية والأدبية،
فشاعرنا الكبير في مقدمة أصدقائنا الأوفياء بالتعارف الروحي الأدبي والمتوارث
عن الآباء والأجداد.
كان والده الشيخ عبد الغني يكرمني تكريمه لأعز أنجاله وأنجب تلاميذه،
ويثني عليَّ في بداية طلبي ثناء كنت أخجل من ذكره، وكانت الزيارات والمودة
متصلة من قبل بين الآباء والأجداد، وعهدته مصطافًا بدارنا في القلمون مع أهل
بيته بمقام سيد الدار وكبير الأسرة.
ثم قد بلغت بيني وبين الشيخ محمد كامل الرافعي الشقيق الأكبر لعبد الحميد
بك درجة الكمال كما ذكرت ذلك في ترجمته رحمه الله تعالى، وكان نادرة المثال
في هذا العصر في الاشتغال بالعلوم العالية، والتخلق بالأخلاق السامية، حتى أنني
لما زرت الوطن في عام الدستور العثماني (سنة 1327 هـ 1909م) لم يكن
يسمح لي أن أبيت عند والدتي إلا ليالي قليلة، فكنت في معظم المدة التي أقمتها في
طرابلس أبيت عنده في حجرة نومه، وكان جل حظنا من هذا المبيت المذاكرات
العلمية فالاجتماعية والسياسية قبل النوم وبعد صلاة الفجر في أول وقتها بالجامع
الكبير المجاور لدارهم، دع تلك المسامرات والمساجلات الجميلة، في تلك الليالي
الشتائية القصيرة الطويلة، في تلك الدار التي كان عبد الحميد بك نجم سمائها
المتألق، وغيث آدابها المتدفق.
وكنت لما اقترن عبد الحميد بك نظمت وأنا تلميذ مبتدئ موشحًا كالموشحات
الأندلسية في تهنئته أنشدته بنفسي في حفلة الزفاف وهي أول تهنئة نظمتها، وأول
قصيدة أنشدتها، في أرقى محفل، وأكرم منزل، أذكر بعض ما أحفظ منها، وتشفع
لي البداية في ضعفها:
أسقط الطل في نبت الحمى؟ أم لآل فوق بسط السندس؟
أم نجوم تتراءى في السما ... أم ثغور زينت باللعس
***
ياعُريبا تخذوا نبت اللمى ... عند فقد الحرث منه بدلا
وبقلبي قد تركتم ألمًا ... لم يغادر لنجاتي أملا
لي منكم غادة لم يدر ما ... بفؤادي طرفها قد فعلا
حيث قالت حين زارت ريثما ... تقف الأنجم بعد الغلس
احذر الأنس بغيري إنما ... كنت إنسانًا لفرط الأنس
***
إن نجم الكأس فيما قد حوى ... هز منها العطف إذ تغتبق
غربت شمس الطلا لما هوى ... فبدا في وجنتيها الشفق
وبجفنيها لأرباب الهوى ... إن تأملت عدو أزرق
دائمًا يفخر في سفك الدما ... ويباهي بهلاك الأنفس
يسلب الروح برفق مثلما ... تسلب الراحة عقل المحتسي
ومنه في مدحه:
لسن إن نظم الشعر غدًا ... يتراءى فوق طوق البشر
تنصت الناس إذا ما أنشدا ... كيف تصغي لاستماع السور
كلما كرر يحلو موردًا ... وهو لم يهجر لفرط الخصر
ما أبو الطيب إما نظمًا ... وابن هاني شاعر الأندلس
ليس يهنئك إذا شعرهما ... وبه لم تلق طيب الأنفس
فإذا كانت باكورة شعري في التهاني قد أنشدت في عيد زفافه فأجدر بي أن
أكون أول السابقين إلى حضور حفلة عيده الذهبي، وأول الساجعين بمناقبه ومناقب
أبيه وأخيه وبيته؛ ولكن أحكام القدر القاهرة غلبتني على أمري، وما زالت غالبة لكل
الخلق، فحالت دون ما تصبو إليه نفسي ويوجبه على روحي وعقلي، وما كان إلا
خيرًا يعذرني به أخي وصديقي، فقد أنعم الله تعالى علي بشراء دار بل قصر، في
حي الإنشاء من مصر، وكان من قضائه وقدره أن أنتقل إليها بالعيال والمطبعة
والمكتبة في الشهر الذي أقيمت فيه حفلة العيد الذهبي له، وأن أجدد بجانبها بناء
للمطبعة، ولا أزال حتى كتابة هذه السطور في العشر الأخير من ذي الحجة مشغولاً
بذلك، وقد اعتذرت للجنة الاحتفال ببرقية تليت عقب افتتاحها هذا نصها:
لجنة يوبيل الرافعي (بطرابلس المدينة) :
أساهمكم بروحي وجناني، وقلبي ووجداني، ما حال القدر القاهر دون السعي
له بجثماني، من الاحتفال بيوبيل شاعرنا الأسمى، وصديقي الأوفى، محيي أدب
العرب، ووارث مجد العلم عن خير أب وجد.
... ... ... ... ... ... ... ... ... رشيدرضا
خبر الوفد المصري للعيد:
هذا وإنني كنت قد اتفقت مع أمير الشعراء أحمد شوقي بك وشاعر القطرين
خليل بك المطران ثم مع أحمد شفيق باشا وكيل الرابطة الشرقية على تأليف وفد منا
يرغب السفر إلى طرابلس معنا للاشتراك في هذا الاحتفال، وجعله في نظامه
الحلقة الثانية من حلقات مؤتمرات الأدب العربي؛ إذ كانت حفلة شوقي هي الأولى
منها، وأنا الذي اقترحت بالاتفاق مع هؤلاء تأخير موعد الاحتفال من شهر كانون
الثاني (يناير) إلى شهر نيسان، لأن السفر في عنفوان الشتاء مما يشق على كل
إنسان، ثم عرض لي من العذر ما أشرت إليه من قبل وعرض مثله لأحمد شفيق
باشا، فقد انتهت إجارته للدار التي كان يسكنها وتجتمع فيها الرابطة الشرقية، وتم
بناء الدار التي أنشأها في روضته من شبرا على ضفة النيل، واحتاج إلى الانتقال
إليها في شهر أبريل، كما أنه استأجر مكانًا للرابطة الشرقية نُقلت إليه فيه،
وعرض لخليل بك المطران عذر يتعلق بوظيفته الرسمية، وكنت كلمت أيضًا
نصيري العرب والأدب أحمد زكي باشا وحمد الباسل باشا فأظهرا لي الرغبة
القلبية في السفر؛ ولكن فاجأني خبر تحديد السابع من الشهر للحفلة في اليوم الثالث
منه فتعذر تأليف الوفد في بقية الأسبوع ممن لم تمنعهم الأعذار القاهرة، وكان أحمد
زكي باشا قد شرع في الدعوة إلى حفلته الشرقية الغربية التي اشتهر خبرها، وبقي
إلى يوم الجمعة وهو اليوم الخامس منه يرجو أن يتمكن من السفر فلم يُتح له،
وتأخر أحمد شوقي بك في نظم قصيدته فلم يدرك بها الاحتفال، فنشرت في الجرائد،
فهذا عذر مصر وعذر عارفي فضل الرافعي وآل الرافعي من المصريين في
تقصيرهم.
ثم رأيت من الواجب عليَّ أن أنوه بهذا العيد السعيد في المنار، وأبلغ خبره
ما يبلغه من الأقطار، فأذكر فيه شيئًا مما كنت أحب أن أقوله فيه، وأحسن ما أنشد
الشعراء في مناقب صاحبه وذويه، ولولا أنني تركت نظم الشعر منذ ثلث قرن
بالتقريب فلم أنظم بعد أن هاجرت من طرابلس قصيدة ولا مقطوعة، فلا مطمع لي
الآن في وصل ملكته بعد طول هذه القطيعة، وأحمِّلها ما تستطيع حمله من آيات
سروري، وكنت وعدت بأن أقول هنالك كلمة في تاريخ الأسرة الرافعية ومكان
بيت الشيخ عبد الغني منها، تعريفًا لمن يجهل من وفود عيد هذا الكوكب الدري من
كواكبها، بعض ما أعرفه دونهم من غرر مناقبها، والآن فات المقتضي لذلك
التفصيل؛ والموانع الشواغل لا تأذن من الإجمال إلا بالقليل.
مكانة الرافعية وبيت شاعرنا منها:
الأسرة الرافعية أشهر بيوتات العلم في ديار الشام ومصر، فهي إذًا أشهرها
في الأمة العربية والأقطار الإسلامية، وكان جُل شهرتها في فقه الحنفية، وقد
تولى كثير من رجالها مناصب القضاء والإفتاء في الديار المصرية والممالك
العثمانية، واشتهر بعض شيوخها بالإرشاد والصلاح؛ ولكن بيت الشيخ عبد الغني
قد اجتمع فيه من المناقب والفضائل ما لم يتفق لأحد منهم، وقلما اتفق مثله لغيره
من غيرهم.
كان الشيخ عبد الغني آية في الذكاء والزكاء، والهمة والمضاء، طلب العلوم
العربية والشرعية ففاق فيهما الأقران، وسلك طريق الصوفية ففات أهل العرفان،
وإنما سلكها بالمجاهدة العملية، دون الرسوم والمظاهر الصورية، فكان من أولي
الفرقان في درجات العرفان، بعد أن قطع المراحل متنقلاً في المنازل، حتى ذاق
طعم الفناء، وبلغ حال الجمع، ثم ارتقى إلى مقام الفرق بحكم الشرع، كما أنه
اشتغل من تلقاء نفسه بآداب اللغة كآداب النفس، وراض جواد يراعه في ميداني
النثر والنظم، وقد سمعت منه أنه قرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ثلاثين مرة،
وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرة، وناهيك ببلاغة عبارتهما، وحسن
إنشائهما، فكان كاتبًا يستخرج الدرر من أعماق البحور، كما كان شاعرًا ينظمها
كالعقود في نحور الحور، ولا أدري أي دواوين الشعراء كان يحفظ، وإنما أعهد
أنه كان حسن الاختيار، لكل ما يراجع من الدواوين والأسفار.
وقد ولي منصب القضاء في ولاية صنعاء اليمن وأقام فيها عدة سنين عاشر
في أثنائها علماء الزيدية وناظرهم، ورأى ما لم يكن يعرف من المصنفات في
خزائن عاصمتهم، فعاد إلى طرابلس الشام بعلم جديد كانت تصبو إليه سلامة
فطرته، وينبو عنه أو يحول دونه حال وطنه ودولته، ألا وهو الاستقلال
الاجتهادي في العلم وفقه الحديث، وكان الذي هداه إلى هذا كتاب نيل الأوطار
للإمام الشوكاني الصنعاني، يظهر أنه جاء به من اليمن وهو مطبوع في مصر،
وكان يقرؤه درسًا في بهو داره، فيحضره المنتهون من طلاب العلم من أنجاله
وغيرهم، وقد حضرت بعض دروسه بالاتفاق، وكان ذلك قبل شروعي في طلب
العلم، ولم أنس جرس صوته ولا إشارة يده عند نطقه بالكلمة التي يكررها
الشوكاني في التعبير عن الترجيح بين الأقوال المتعارضة في المسائل، بعد المعادلة
بين الدلائل، أعني كلمة (وهو الحق) إذ كان الشيخ يرفع بها صوته ويخفض يده
إقرارًا لها واستحسانًا.
نعم كان مستعدًا بفطرته الذكية وإخلاصه في طلب العلم للاستقلال في الفهم
واتباع الدليل، وزادته قراءة الإحياء فكُتب الشيخ عبد القادر الجيلي استعدادًا له
ونفورًا من التقليد، ثم كمَّل له ذلك بقراءة نيل الأوطار في فقه الحديث، فكان في
آخر عهده محدثًا فقيه النفس، صوفيًّا مصفى من آفات النفس، ولم يكن في يوم من
الأيام صوفي تقاليد وحلقات أذكار، وسماع دفوف أو أوتار، وإنما تصوفه علم
وأخلاق.
كان من أزهد الناس في الدينا بقلبه، وأصدقهم توكلاً على ربه، على كونه
أطيبهم عيشًا في مطعمه ومشربه ولباسه وزينة داره، وكان أشد الناس تواضعًا
للفقراء والمساكين، على كبر جاهه ورفعة مقامه عند الحكام المتكبرين، والكبراء
المفنقين المتأنقين، فكان يضع يده في يد من يعاشرونه من الفقراء كالشيخ صديق
الأفغاني ويماشيه في السوق، ويذاكره في آفات النفس والمعرفة وفلسفة الأخلاق،
مذاكرة الأقران للأقران، وقد سبق لي ذكر غير هذا من مناقبه وفضائله في المنار.
وقد ورث كل نجل من أنجاله ما شاء الله أن يرث من شمائله وخلاله.
واقتبس من أدركه منهم من معارفه وأدبه وحكمته، ماهو مستعد له بعقله وذوقه
وغريزته، كما أشرت إلى ذلك في رثائه:
فللمعارف والإرشاد كاملهم ... من حالف العلمُ فيه الهدى والعملا
وفي البلاغة كم عبد الحميد سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا
ولم أر مثلاً لامتياز بيت عبد الغني في رافعية سورية إلا امتياز بيت عبد
اللطيف في رافعية مصر، فهو قد أنجب عالمين سياسيين حقوقيين كاتبين بليغين
مؤلفين، خدما مصر في صحفها ومصنفاتها التاريخية السياسية أجل خدمة، وهما
أمين بك صاحب جريدة الأخبار رحمه الله، وعبد الرحمن بك صاحب المصنفات
المشهورة حفظه الله، وكل منهما حافظ على شرف أسرته بقوة عقيدته، والمحافظة
على عبادته، فتم بهما للأسرة الرافعية خدمة أمتهما العربية، في وطنيهما مصر
وسورية، من جميع الطرق الدينية والدنيوية.
عبد الحميد الرافعي:
امتاز عبد الحميد الرافعي بحب الفصاحة وعشق البلاغة، على ذوق في البيان
دقيق، وأسلوب في الشعر رشيق، وسليقة كانت تنبجس من عين غريزته وتستمد من
بحر والده، وكانت كتب الأدب وفنونه، والشعر ودواوينه، لا ترتقي في عهد طلبه
للعلم عن كتاب الجوهر المكنون إلى شرحي التلخيص للسعد إلا قليلاً، ولا تتجاوز
خزانة ابن حجة ودواوين البهاء زهير وابن الفارض وأمثالهما إلا نادرًا، فهو أول
من عني بديواني المتنبي والبحتري، ومارس ديواني الشريف الرضي وتلميذه مهيار
الديلمي، ولكن مجال الشعر في عصر نشأته كان ضيق الساحة، وحرية الكلام كانت
في الدولة التركية قليلة المساحة، والباعث على إجادة المنظوم كان في حكم المعدوم،
ولم يكن أحد من كبراء الدين مغرمًا به، مُغرٍ باستمالة أربابه، إلا الشيخ أبا الهدى
الصيادي، ولم يكن يرضيه منه إلا ما مزج بالخرافات، وانتحال الكرامات، وقد
ابتلي به أديبنا فحاول احتكاره لنفسه، وقصر أكثر شعره على مدح الرفاعي ومدحه،
حتى كان يستحي من نشر ديوانه من بعده.
ولو نشأ عبد الحميد في مصر لفاق جميع شعراء العصر في جميع مناحي
الشعر، فبذ البارودي في الفخر والحماسة، وشوقي في السياسة والكياسة، وحافظًا في
الاجتماعيات، وخليلاً في المدنيات، ورافعي مصر في الخياليات، كيف وهو على ما
ذكرنا من معارضة الزمان والمكان والسلطان، مصداقًا لقول الغزالي: ليس في
الإمكان أبدع مما كان.
كان والده يفضل الشيخ عبد القادر الجيلاني على جميع شيوخ الصوفية،
وكان الشيخ نجيب الزعبي الجيلاني من شيوخ والده في العلم، فأراد عبد الحميد أن
يرضي روح والده بنظم قصيدة في مدح الجيلاني، فكانت قصيدته بما بعث عليها
من روح الإخلاص أعلى من كل ما مدح به الرفاعي والصيادي بباعث القهر
والإكراه، وكان من أبياتها التي لا أنكر معانيها قوله:
أجل رجال الله في منتدى العلى ... مقامًا وخذ مني على ذلك الفتوى
تزاحم وفد العارفين بنهجه ... سراعًا ولم يبلغ له أحد شأوا
مآثره في جبهة الدهر غرة ... فلا ذكرها يبلى ولا صحفها تطوى
تطيب بذكراها المسامع واللهى ... فدونك ما شئت الحليَّ أو الحلوى
سليل بني الزهرا ولله نسخة ... لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى
فلما بلغت هذه القصيدة أبا الهدى كاد كجهنم يتميز من الغيظ، وكتب إلى
الناظم أبياتًا يهدده فيها بطعنة من حربة الرفاعي المسمومة، أراد بها سعيه إلى
عزله من عمله في الحكومة، وكان يومئذ مستنطق لواء طرابلس (أي قاضي
التحقيق) فاضطر إلى السفر إلى الآستانة لاسترضائه، وتقرب إليه بالقصيدة الدالية
الشهيرة التي نظمها في وصف سفره ومدحه:
قعد الحظ به حتى اقتعد ... غارب السعي ومن جد وجد
سامه الدهر خمولاً فنبا ... ولقد يخمل في الغاب الأسد
فلما دخل عليه كان أول ما خاطبه به قبل رد السلام: أصرت تفتي يا عبد
الحميد؟ يشير إلى البيت الأول من هذه الأبيات التي هاجت حسده، فأحرق كبده،
وفرض عليه أن يكفر ذنب هذه القصيدة بنظم ديوان في مدح الرفاعي من جميع
حروف الهجاء ففعل.
صفة الاحتفال
كان الاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني العربي في يوم من أجمل أيام الزمان،
وهو السابع من شهر نيسان، إذ الشمس في برج الحمل، والدنيا تزدان من سندس
الربيع بأبهج الحلل، قد تفتحت أزهارها، وتفاوحت أنوارها، وتناوحت أطيارها،
وصفت من كدورة الشتاء أنهارها، ورقش بساطها الأخضر بالشقيق الأحمر،
والعرار الأصفر، والبنفسج الأزرق، والأقاح الأبيض ... إلخ، وطرابلس الفيحاء
تعطر جواء الأرجاء، بأريج رياضها الغنَّاء، وجنانها التي تُضرب بها الأمثال،
وتُشَدُّ إليها الرحال، وناهيك بها في زمن البرتقال، وقد أخرجت في هذه الأيام
أزهارها، وادخرت للضيوف بقية من ثمارها، فكانت أشجارها كالقبب، قد تدلت
فيها قناديل الذهب، وعلاها من الزهر ما يشبه اللهب، ممتدة بين البحر الأبيض،
وجبل لبنان الأنضر، في سهوب لا يحيط بها الطرف، ولا يدرك دقائق محاسنها
الوصف.
كانت الفيحاء في ذلك اليوم كسوق عكاظ: تزاحمت فيها وفود الأدباء،
وتبارت في عيد شاعرها فحول الشعراء، وقد جلس في صدر المحفل رئيس
الاحتفال، صاحب السماحة الشيخ محمد الجسر وهو رئيس مجلس نواب البلاد،
وبجانبه الأستاذ المحتفَل به وهو رئيس الأدباء، فافتتح الجلسة بما يناسب المقام من
الثناء على صاحب العيد بما هو أهله، وجدارته باحتفاء الأمة العربية به، ثم قال:
إن فخامة رئيس الجمهورية الأستاذ دباس كان مزمعًا أن يؤم الفيحاء ليرأس حفلة
اليوبيل، لولا موانع قاهرة، وقد أناب عنه حضرة وزير المعارف والصحة
والإسعاف الدكتور أبو الروس، وذكر أنه أهدى إلى السيد عبد الحميد الرافعي وسام
الاستحقاق اللبناني، وشكر للحكومة ذلك، وحينئذ نهض وزير المعارف فقلده
الوسام، مع كلمة ثناء تليق بالمقام.
ثم تلا الرئيس برقيات التهاني والاعتذار، الواردة من مختلف البلاد والأقطار،
ثم أذن للأدباء والشعراء، بإنشاد ما لديهم من القصائد الغراء، فأنشد أحد الأدباء
قصيدة شاعر القطرين خليل بك مطران، فقصيدة أمير البيان الأمير شكيب أرسلان،
وهما غنيان عن وصفهما، وعن بيان مزايا شعرهما.
ثم أنشد الأستاذ أبو الإقبال اليعقوبي شاعر فلسطين وعميد وفدها قصيدة حافلة
الري، متينة الروي، قيل: إنها تزيد على مائة بيت، وحسبك من القلادة ما أحاط
بالجيد، وهو فيها بيت القصيد:
إنما العرب في الوجود قصيد ... فيه عبد الحميد بيت القصيد
وتلاه وفد حماه فأنشد قصيدة شاعرهم الأستاذ الشيخ طاهر النعسان، فكان فيها
خير موقظ يقظان، فقصيدة الأديب بدر الدين حامد.
وفي خلال ذلك عزف بعض المطربين بالبيانو بما يطرب كالبيان، ويروح
الأنفس ويرهف الأذهان، ثم أنشدت قصائد أدباء طرابلس نفسها، وقد قدمت اللجنة
ضيوف البلد على أبنائها.
فصل هزلي غير مضحك:
ثم قد قام في إثر الجميع محمود أفندي عزمي الصحفي المصري أحد دعاة
الإلحاد والتفرنج، وإباحة التهتك والتبرج، الذي يروجه هو وأمثاله بعنوان التجديد،
خلابة للنساء والأحداث المفتونين بالتقليد، وكل ما يدعون إليه قديم في جنسه
ونوعه، وإنما بعضه حديث في صنفه ووصفه، قام فقال:
أيها السادة.
وسكت هنيهة متكلفًا متعمدًا ثم قال: اعذروني إذا ارتُجَّ علي، فلقد كنت أريد
أن أقول: (أيها السيدات والسادة) يعرِّض بتقصير اللجنة، أو بتقصير البلد فيما كان
يجب عليها - بزعمه - من الجمع بين الرجال والنساء في هذه الحفلة، ثم إنه لم يقف
عند هذا الحد في التعريض بالغميزة في النقد، بل صرَّح بما مؤداه أنه جاء ليقتحم
أو ليفتح معقلاً من معاقل المحافظة على القديم، ليبني بأنقاضه مسرحًا من مسارح
التجديد، فبدت على وجوه الحاضرين كآبة الامتعاض، ومنعهم أدب الضيافة
وكرامة المجلس من الرد عليه جهرًا، بما تهامس به بعضهم، ولو أنه أطال لشوه
رونق الاحتفال.
ولم يكتف بما فعل هنالك، بل عاد إلى مصر، فنشر في جريدة الأهرام
مقالات سخيفة تجاوز بها ما يليق بالبلاد، إلى النيل من بعض الأفراد، ولعل بعض
الأسباب التي خرجت به عن صوابه، إلى ما لا يعهد من آدابه، أنه ذهب إلى
طرابلس لحضور يوبيل الرافعي موفدًا من جريدة العلم الغراء، وأخذ نفقة لسفره من
إدارتها أربعين جنيهًا مصريًّا ليرسل إليها أخبار الاحتفال بلسان البرق، فتسبق
غيرها من الجرائد إلى نشرها، وتعطير جو مصر بنشرها، فرأته قد خدعها
وذهب ليدعو إلى رأيه السقيم، وينعي على المعتصمين بعروة الدين ما يسميه
جمودًا على القديم. ومن مناقب آل الرافعي المحتفَل بأكبر أدبائهم، أنهم أنصار
الدين، وحملة لواء الشرع الحكيم، وهم في مصر من أعلام الحزب الوطني الذي
تعد جريدة العلم من أعلامه المرفوعة للدين والوطنية معًا؛ لذلك عزلته إدارتها من
قلم تحريرها، فلجأ إلى جريدة الأهرام فنفث نفثته المسمومة على صفحاتها.
(انتهى الفصل)
ثم ختم الاحتفال بإنشاد الأديب سمير الرافعي نجل صاحب اليوبيل لقصيدة
والده في شكر المحتفلين فكانت مسك الختام.
وقد ذكرت الصحف من مناقب عبد الحميد المحتفَل به، وشممه أن بعض
الفضلاء ومحبي الأدب تبرع له بسبعين ألف قرش سوري بمناسبة اليوبيل الذهبي،
فأبى أن يأخذها، وعهد إلى لجنة الاحتفال بأن تنفقها في خدمة الأدب بالطريقة التي
تستحسنها، فأكبر الناس ذلك من أريحيته، وإبائه وعفته، فلا زال قدوة لأمته، في
أدبه وبلاغته، وكرم نفسه وعلو همته.
وسننشر في الجزء التالي قصيدة أحمد شوقي بك أمير الشعراء فإنها من آيات
بيانه، التي فاق بها على أقرانه، وقصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ شيخ الفقهاء،
وأستاذ الأدباء، وشاعر العلماء، فإنها غرة القصائد وأجمعها لسمو المناقب وعلو
المقاصد، وقصيدة الأستاذ عبد الحميد، صاحب العيد، وهي الرحيق المختوم،
ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
__________(30/62)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة قتل اليهود الأنبياء بغير حق
وطريقة الأزهريين في المناقشات والفهم
أخطأنا بتحكيمنا مدرسي التفسير بالأزهر في هذه المسألة إذ فتحنا للأزهريين
وأمثالهم باب المناقشة الأزهرية فيها، فقد كتب إلينا اثنان من طلاب قسم التخصص
فيه رسالتين في ذلك إحداهما طويلة، والثانية قصيرة، وعاد الأستاذ المنتقد الأول
لعبارة تفسيرنا فأرسل إلينا رسالة أخرى في الانتصار لنفسه.
قرأت من هذه الرسالة بضعة أسطر، ومن رسالة الطالب الأزهري مثلها
الأول أو أكثر، فرأيت أنني أسفِّه نفسي إذا قرأت أمثال هذه الرسائل كلها، وأكون
جديرًا بأن يحكم عليَّ بالخرف أو الجنون إذا نشرتها ورددت عليها، فقد كان مذهبي
منذ أنشأت المنار إلى اليوم تخطئة الأزهريين والتشنيع عليهم بجعل جل حظهم من
طلب العلم المناقشات في عبارات الكتب وإيراد الاعتراضات عليها والأجوبة عن
هذه الاعتراضات، وقد قلت مرارًا ولا أزال أقول عن علم وبصيرة: إن هذه
الطريقة العوج هي التي أضاعت العلم في الأزهر، ونقلت عن شيخنا الأستاذ الإمام
رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وقال في درس رسالة
التوحيد في الأزهر أنه لا يسمح لأحد أن يشرحها ولا يكتب لها حاشية، ومن فعل
ذلك فلا سامحه الله، دع ما يثيره الرد من ضغن وحقد، ولا سيما الرد على المنتقد
الأول الذي كبر عليه أن أقول: إنه لم يفهم عبارتي التي أراد إثبات كفري بسوء فهمه
لها.
وقد لقيت أمس أخانا الأستاذ الفاضل الشيخ علي محفوظ من كبار المدرسين
في قسم التخصص من الأزهر، وقد مضت عدة سنين لم ألقه فيها، فتذكرنا أيام
تلاقينا في دروس الأستاذ الإمام رحمه الله، وأطراني الأستاذ وهضم نفسه تواضعًا
عن رفعة، ثم أثنى على تفسير المنار، وذكر من مزايا مؤلفه لصديق له حيث كنا
من دار الكتب المصرية:
(1) أنه لم يحاب أحدًا حتى أستاذه فيه فتعقبه في مواضع.
(2) أنه شديد الإنكار على التقليد لا يترك سانحة من التأويل تساعده على
إبطاله والنعي على أهله إلا اغتنمها.
(3) أنه يذكر من معاني الألفاظ ونكت البلاغة فيها ما يساعد على فهم
الآيات، ويجعل كل همه بيان المعنى، وما فيه من الهدى الذي هو المراد من كتاب
الله بخلاف جماهير المفسرين الذين يشغلون القارئ لتفاسيرهم بالمباحث اللفظية
الصارفة عن فهم القرآن وعن هدايته.
(4) تحاميه ذكر الإسرائيليات والروايات التي لا تصح فيه.
(5) بيانه لما فيه من المسائل والسنن الاجتماعية، وقد انفرد بهذا دون
جميع التفاسير، ذكر الأستاذ هذه المعاني كلها بعبارة مجملة مدمجة، والغرض من
ذكرها الأمر الثالث ولولاه لم نذكرها على قرب العهد بسماعها، فإذا نحن فتحنا باب
الجدل والمراء في عبارة تفسيرنا لآية (قتل الأنبياء بغير حق) نكون قد أضعنا مزية
من أهم المزايا الإصلاحية التي يعرفها لنا أهل البصيرة والاستقلال، بيد أنني أذكر
في الموضوع بعض المسائل التي يتجلى بها الحق لطالبه مخلصًا فيه فأقول:
(1) ليفهم كلمة (الحق) مُعرَّفة ومُنكَّرة من شاء كما يشاء، وليفهم معنى
التشبيه في قولنا: (إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق كما يقول المفسرون) .
كما يشاء، فنحن نصرِّح بأن مرادنا من العبارة في جملتها أن نكتة البلاغة في تقييد
قتل الأنبياء بكونه بغير حق هي تعظيم شأن الحق، وأنها من قبيل قوله تعالى
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون:
117) فإنه تعظيم لشأن البرهان وكون المدار عليه في إثبات الدعاوي بصرف
النظر عن موضوعها، وقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (لقمان: 15) فإنه تعظيم لشأن العلم كذلك، ومن المعلوم
بالعقل والنقل أن دعاء غير الله تعالى لا يكون عن برهان، وأن الشرك به لا يكون
مبنيًّا على علم، بل هو محض الجهل، فإذا كانت عبارتنا تؤدي ما أردنا كما نعتقد،
فالفضل لله تعالى وإن كانت لا تؤديه فالجهل والتقصير منا، ونستغفر الله تعالى.
(2) خطر ببالي عند كتابة هذا التنبيه أن أراجع تفسير الإمام فخر الدين
الرازي لآية آل عمران وآية البقرة؛ فإنه يوجد فيه من أمثال هذه الدقائق ما لا
يوجد في غيره أحيانًا فراجعته، فإذا هو يحيل في الثانية على الأولى لتقدمها،
فأكتب ما أورده فيها من سؤال وجواب في موضوعنا، وهو السؤال الثاني قال
رحمه الله تعالى:
(السؤال الثاني) لمَ قال (بغير الحق) وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا
الوجه؟ الجواب من وجهين [1] (الأول) أن الإتيان بالباطل قد يكون حقًّا لأن
الآتي به اعتقده حقًّا لشبهة وقعت في قلبه، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً، ولا
شك أن الثاني أقبح، فقوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) أي
أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقًّا في اعتقادهم وخيالهم، بل كانوا عالمين
بقبحه، ومع ذلك فقد فعلوه (وثانيها) أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى
{وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: 117) ومستحيل أن
يكون لمدعي الإله الثاني برهان (وثالثها) أنه تعالى لو ذمهم على مجرد القتل
لقالوا: أليس أن الله يقتلهم؟ ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ما،
ومن غير الله قتل بغير حق.
ذكر في آخر تفسير الآية ما رآه في نكتة تعريف الحق في موضع وتنكيره في
آخر ما نصه:
(فإن قيل) قال ههنا {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) ذكر
الحق بالألف واللام معرفة، وقال في آية آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) نكرة، وكذلك في هذه السورة
{وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران:
112) فما الفرق؟
(الجواب) الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه
السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى
بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق) [2] فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى
هذا، وأما الحق المُنَكَّر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي
يعرفه المؤمنون ولا غيره ألبتة. اهـ بحروفه.
وما ذكره من تقسيم الحق إلى ما كان حقًّا في شرعنا، وما كان حقًّا في
اعتقادهم وخيالهم فهو في معنى تقسيمنا إياه إلى ما كان حقًّا في الواقع، وما كان حقًّا
في العرف، وإن لم يكن حقًّا في الواقع، وهو يردُّ زعم من يقول إن الحق لا ينقسم،
وما قلناه أوجه، ويبقى أن يقال: إن الحق عند اليهود ما وافق شريعة التوراة لا ما
وافق شريعتنا، وهو ما نبينه في الفائدة الثالثة، وهي:
(3) بيَّنا في مقالنا الدقيق الذي نشرناه في المجلد التاسع من المنار في
تحقيق معاني الحق والباطل والقوة، أن الحق يدخل في معانٍ، منها المعنى الشرعي
وهو يختلف باختلاف الشرائع، وإن لم يعقل هذا من لا وقوف لهم على الشرائع،
ولا على العلوم والحقائق، وقد كان القتل عقابًا في شريعة التوراة التي كان يدين بها
اليهود الذين ذمهم القرآن بقتل الأنبياء بغير حق على ذنوب لا يُقتل فاعلها في
شريعتا، ففي الفصل 21 من سفر الخروج ما نصه:
(12 من ضرب إنسانًا فمات يُقتل قتلاً 13 ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله
في يده فأنا أجعل له مكانًا يهرب إليه 14 وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر
فمن عند مذبحي تأخذه للموت 15 ومن ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلاً 16 ومن سرق
إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلاً 17 ومن شتم أباه وأمه يُقتل قتلاً) إلى أن
ذكر في عدد 29 إن الثور (إن كان نطاحًا وأُشهد على صاحبه فلم يضبطه فقتل
رجلاً أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضًا يُقتل) ... إلخ فما يقول في هذا من
يزعمون أن القتل بحق لا يكون إلا واحدًا في كل زمن وكل أمة وكل شريعة
فيجعلونه كالحق في الإيمان بالله وصفاته مثلاً؟
(4) إننا قد صرحنا في تفسير] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [في الآية 112 من سورة آل عمران بمعنى ما قاله
الرازي في آية البقرة وذكرناه آنفًا من تحريهم الباطل وتعمدهم إياه مع مخالفتنا إياه في
كون الحق المنفي فيها ما وافق شريعتنا واعتمادنا أنه ما وافق شريعتهم لأنهم
مؤاخذون بها لا بما جاء بعدها. وهذا نص عبارتنا (ص29ج 4 من التفسير) (أي
ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق
تعطيهم إياه شريعتهم، وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ
عليهم، وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ) اهـ. وهو
صريح في اعتقادنا في المسألة لا يحتمل المراء.
__________
(1) قال: (من وجهين) وجاء بثلاثة، فلعل كلمة (وجهين) من غلط الطبع.
(2) هكذا أورد الحديث ولا أذكر هذا اللفظ لأحد من مخرِّجيه، وهو قد ينقل الأحاديث بالمعنى إذ ليس من رجال الحفظ والرواية، ومِن أنكر ألفاظه (ثلاث معانٍ) وهو في الصحيحين والترمذي من حديث ابن مسعود بلفظ (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولمسلم نحوه عن عائشة ورواه أبو داود
والنسائي والحاكم عنها بلفظ (لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زانٍ محصن فيُرجم ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا فيقتل ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض) .(30/75)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اعتذار عن قلة مباحث هذا الجزء
قد اضطررنا إلى جمع أكثر مواد هذا الجزء من حرف 24 لأنها جمعت قبل
إتمام تنظيم المطبعة في مكانها الجديد، واضطررنا إلى كتابة فصل طويل في الاحتفال
بالعيد الذهبي لصديقنا الرافعي ونشره كله في هذا الجزء لأن لجنة الاحتفال ألحت علينا
بطلبه لتنشره في كتابها الذي جمعته في شأن هذا الاحتفال، وما قيل وكتب فيه،
وجاءت فاتحة المجلد الثلاثين ضعفي المعتاد في أكثر فواتح المجلدات - فلهذا
اختصرنا في التفسير، ولم نفتح باب الفتاوى، وأرجأنا مقالات ورسائل أخرى،
ومباحث العالم الإسلامي، منها: كلمة في الدستور المصري، وكون البرلمان الذي
عُطِّل كان مخالفًا للإسلام ومصلحة المسلمين في شخصه الصوري لا المعنوي وهو ما
أشرنا إليه في الفاتحة.
__________(30/80)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعزية في مصاب زميل كريم
توفي في فترة احتجاب المنار الزميل الكريم ابن الكريم الأستاذ راغب المدهون
صاحب جريدة النذير البيروتية الغرَّاء، فكانت وفاته في عنفوان الشباب والقدرة على
الجهاد خسارة على صحائف البلاد، لا يجهل كنهها من عرف قلة الأكفاء من المنتحلين
لها، فنعزي والده الجليل والأمة بأسرها، ونحمد الله تعالى أن الجريدة لا تزال
تصدر، فأطال الله عمرها.
__________(30/80)
صفر - 1348هـ
يوليو - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من أوروبة
(س1 - 5) من صاحب الإمضاء أحد علماء المسلمين في (إيبك -
يوغوسلافيا) حضرة العالم الفاضل، شيخ الإسلام، مرشد الأنام، قطب المحققين،
غوث المدققين، سيدي الشيخ رشيد رضا أدام الله بقاءه ونفعنا به وبعلومه والمسلمين
آمين.
(1) كيف كان السلف الصالح يصلون الجمعة؟ يعني كم ركعة من الرواتب
للجمعة؟ يصلون قبل فرض الجمعة أربع ركعات، هل هذا من تحية المسجد أو من
سنة الجمعة؟ وهل من السنة المؤكدة أن تصلي شيئًا بعد فرضها؟ أنا أريد منكم أن
تتفضلوا بالجواب بالقرآن والسنة لا من أقوال أصحاب المذاهب.
(2) ما قولكم في رجل لم يكن مستطيعًا للحج فحج بدلاً عن غيره قبل أن
يحج عن نفسه؛ لأنه ما كان مكلفًا به عند الحنفية، ثم رجع بعد الحج إلى وطنه،
وما أقام في مكة لأداء مناسك الحج في السنة الآتية عن نفسه، فهل يكون مأمورًا
ألبتة ومكلفًا به عن نفسه أم لا؟
(3) أربع ركعات قبل العشاء، هل لها حديث ثابت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هذه؟
(4) الاحتقان في رمضان هل يفسد الصوم أم لا؟
(5) ما حكم الجعة في الشرع؟ وهل تُعَدُّ من الخمر أم لا؟
أقدم لفضيلتكم هذه الأسئلة راجيًا الجواب عنها بأسرع ما أمكن، وأسترحم
جنابكم العالي قبول تحياتي واحتراماتي الفائقة الخالصة.
... ... يحيى سلامي
(أجوبة المنار)
(1) هل للجمعة راتبة قبلها وبعدها؟
سبق لنا بحث في هذه المسألة طال عهده، ونقول الآن: إنه لم يرد نص عن
الشارع بطلب عدد معين من الركعات قبل الجمعة، والمعروف في الصحاح أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته لصلاتها فيبتدر المنبر فيؤذن بين
يديه فيخطب فينزل فيصلي فينصرف إلا أن يتأخر لسبب غير الصلاة؛ ولكن
وردت الآثار في التنفل قبلها، فكان السلف من الصحابة ومن بعدهم يبكرون في
السعي إلى المسجد قبل الزوال فيصلي كلٌّ ما بدا له لما ورد في السنة من الترغيب
في التبكير إلى المسجد وصلاة ما تيسر فيه، وكانوا إذا خرج الإمام إلى المسجد
يقطعون الصلاة لما تقدم إلا تحية المسجد لمن دخله، فقد ثبت في الصحيحين
وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما من دخل المسجد وهو يخطب. رواه
الجماعة كلهم، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام
يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث
جابر (رضي الله عنه) وفي رواية (وقد خرج الإمام) بدل (والإمام يخطب)
متفق عليه.
وجملة القول: إن صلاة النفل قبل الجمعة مأثور، ومن كرهه من العلماء بعد
الزوال فليس له عليه دليل خاص، وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج
عند الزوال فتنقطع الصلاة بخروجه إلا تحية المسجد - ليس نصًّا في اطراد ذلك،
ومن قال: إن لها راتبة معينة كراتبة الصبح والظهر بحيث يُستحب قضاؤها إذا
فاتت، لا يمكنه أن يأتي بنص يثبته أيضًا؛ وإنما قصاراه قياس الجمعة على الظهر.
وأما الصلاة بعدها ففيه حديث أبي هريرة المرفوع (إذا صلى أحدكم الجمعة
فليصل بعدها أربع ركعات) رواه مسلم وأصحاب السنن، وحديث ابن عمر (أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة
كلهم، وكان ابن عمر يفعل هذا لشدة تتبعه لآثاره صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان
في المسجد الحرام؛ فإنه كان يصليهما فيه، وعلل بأن سببه رغبته في البقاء في
المسجد مثلاً، وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل هاتين الركعتين بعد الجمعة،
فالأفضل لمن ينصرف من الجمعة إلى بيته أن يصلي فيه ركعتين، أو أربعًا،
وقال بعض الصحابة وفقهاء الأمصار: بل له أن يصلي ما يشاء؛ ولكنه ينوي
بالركعتين الاستنان به صلى الله عليه وسلم، وبالأربع امتثال أمره الذي هو هنا
للندب، وإن نشط للزيادة كان عاملاً بالترغيبات العامة في صلاة النفل.
(2) من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه:
في هذه المسألة أقوال أقواها قول الجمهور: من حج عن غيره ولم يكن حج
عن نفسه وقعت حجته عن نفسه دون غيره سواء كان قبلها مستطيعًا أم لا، ودليلهم
حديث ابن عباس فيمن سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عن
شبرمة. قال (من شبرمة؟) قال: أخ لي - أو: قريب لي - قال: (حججت عن
نفسك؟) قال: لا، قال (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أحمد وأبو داود
وابن ماجه وصححه ابن حبان والبيهقي، والراجح عند أحمد وابن المنذر والطحاوي
وقْفه، ولا محل على هذا القول لبقية السؤال، فإن هذا الرجل قد سقطت عنه فريضة
الحج، وقال أصحابه: إنه يجب عليه رد ما عساه أخذه من المال أجرة ممن حج
عنه.
وقال بعض الفقاء من الحنفية وغيرهم: إن حجه عن غيره صحيح فعلى هذا
يجب عليه أن يحج عن نفسه إذا استطاع الحج بعد عودته إلى وطنه.
(3) راتبة العشاء:
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما
صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات
أو ست ركعات) ومن حديث ابن عباس في حديث صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم في الليل عند البخاري أنه قال: بت في بيت خالتي ميمونة ... الحديث، وفيه
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات،
وفي المسألة أحاديث أخرى ضعيفة يقويها تأييد الصحيح لها.
(4) الحقن في رمضان:
الحقن في رمضان إذا كان تحت الجلد في اليد أو الرجل أو غيرهما كما هو
المعهود في طب هذا العصر - فلا وجه للقول بإفطار الصائم به.
وأما الحقن في البطن وهو المعهود من زمن لا نعرف أوله، فمقتضى قواعد
الفقهاء أنه يفطر الصائم، بل غلا بعضهم كالشافعية فقالوا: إن كل ما يُدخله الصائم
في جوفه أو غيره بإذنه من منفذ أو غير منفذ كالمسبار - فإنه يفطر به. ومن المعلوم
أن الصيام الشرعي عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وفي معناه
الاستمناء، وقد يكون امتصاص الدخان في معنى شرب الماء ونحوه لأن الأجسام
الدخانية (الغازية) قريبة من الأجسام السائلة؛ ولذلك يسمى امتصاصها بالفم شربًا
في العرف العام، وهي تؤثر في الأعصاب كتأثير السائلات المخدرة كالقهوة والشاي
والمنبهة كالخمر، وتفيد متعاطيها شيئًا من قوة الغذاء، وحقن السائلات في الأمعاء
معروف، وهو يكون تارة لتطهيرها من الفساد، وتارة لإزالة ما يعرض لها من
القبض والجفاف، وقد يكون للتغذية والتقوية إذا كان في المعدة مرض يمنع من
قبولها الطعام والشراب، فهو يقوم مقامهما في التغذية.
وجملة القول: إن الصيام الشرعي معروف، والغرض منه معروف،
ومفسداته معروفة، وكل ما يستحدثه الناس مما ينافيه ويكون كالطعام والشراب في
إزالة الجوع والظمأ فحكمه حكمهما، وليس منه - فيما أرى - ما يكون من الحقن
تحت الجلد لتقوية المريض على مرضه أو ضعفه، إذا لم تكن هذه التقوية كالتغذية
والري، فإن كانت مزيلة للجوع والظمأ كالطعام والشراب فللقول بإفسادها للصيام
وجه ظاهر، وإن كان الحقن لأجلها، يباح للمريض كما يباح له الأكل والشرب وعليه
القضاء، وقد يقال: إنه لما لم يكن هذا الحقن أكلاً ولا شربًا ولا وقاعًا في حقيقته ولا
في صورته ولا لذته، فهو لا ينافي حقيقة الصيام، ولا حكمته والغرض من فرضه
وهو الإمساك عن هذه الشهوات الغالبة تعبدًا واحتسابًا لوجه الله تعالى وما يترتب عليه
من تربية الإرادة واكتساب ملكة التقوى المشار إليها بتعليل فرض الصيام بقوله
تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) .
(5) الجعة خمر يحرم شربها:
الجعة هي الخمر الذي يُتخذ من نقيع الشعير المسماة عن الإفرنج (بالبيرة)
والمشهور أنها من الأشربة التي يُسكر كثيرها دون قليلها، والتحقيق أن ما أسكر
كثيره فقليله حرام، وإن كان لا يُسمى قبل بلوغه درجة الإسكار خمرًا كنبيذ التمر
والزبيب ونحوهما (أي ما ينقع منه بالماء ليحلو) فإنه متى صار يُسكر كثيره دخل
في عموم معنى اسم الخمر على التحقيق الذي بيَّناه في تفسير آيات المائدة في تحريم
الخمر القطعي، وإن قلنا: إنه لا يدخل في عموم اسمها، كان تحريمه من باب سد
الذريعة كتحريم ربا الفضل الذي هو ذريعة لربا النسيئة الذي من شأنه أن يتضاعف،
وهو الربا القطعي المحرم بنص القرآن كما بيَّناه في تفسير آية آل عمران فيه.
وقد بلغنا أنهم يصنعون في بعض البلاد جعة (بيرة) لأجل إدرار البول، لا
تسكر لخلوها من الغول (الكحول) ، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، إذ هي كنبيذ
التمر والزبيب (أي ما ينقع منهما في الماء) الذي كان يشرب منه النبي صلى الله
عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، حتى إذا ما تغير طعمه بطول المكث
وخُشي تأثيره وإسكار كثيره تركوه، وهو الذي صار الفساق من الملوك والأمراء
والأغنياء يشربونه بعد تغيره ووصوله إلى درجة الإسكار لمن أكثر منه، ووجدوا
من شذوذ بعض فقهاء الكوفة ما جرأهم عليه، إذ قالوا: إن ما يُسكر كثيره لا يحرم
منه إلا القدر المسكر، وتفلسف بعضهم فقال: إنما المحرم الجرعة أو الحسوة التي
يحدث بها السُّكر دون ما قبلها، فاغتر بذلك المتهاونون حتى وقعوا في السكر، إذ
لا يمكن لأحد أن يعرف الجرعة التي يحدث بها السُّكر، بل السُّكر لا يحدث
بالجرعة الأخيرة وحدها؛ لأنها في ذاتها كالجرعة الأولى؛ وإنما يحدث بالمجموع
فهو كله حرام، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في تفسير آيات المائدة فيراجعها من شاء
(ص51-55 ج7 تفسير) .
__________(30/101)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة في إهداء قراءة القرآن للموتى بالأجرة
(س من 6 إلى 10)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن
عبد الله (وبعد) فمن محمد أحمد عبد السلام مؤسس الجمعية السلفية المؤلفة لإحياء
السنة المحمدية بعزب فابريقة السكر بالحوامدية إلى حضرة صاحب الفضل
والفضيلة مفتي الأنام، وشيخ مشايخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، محيي السنة
وآثار السلف، ومميت البدعة وآراء الخلف، سيدي ووالدي، الشفيق بأبنائه
المسلمين، الذي أرجو من ربي، وأتمنى عليه يريني وجهه قبل مماتي، والذي يصير
الإسلام بعده يتيم الأبوين، المجتهد الكبير، والعلم الشهير، الذي جعل الله الحق على
لسانه (السيد محمد رشيد رضا) .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني سائل فضيلتكم عن الآتي،
وأرجو التكرم علي بالإجابة في أول عدد يُنشر من مناركم، وعدم إحالتي على
مجموعتكم لأني عارٍ منها؛ ولأني شارع في طبع كتاب اسمه المنحة المحمدية في
بيان العتاقة الشرعية من البدعية، وأريد إثبات فتواكم بهذا الكتاب، وصورة
المسألة:
(1) هل قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات مشروعة أم لا؟
(2) هل كان النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارته للقبور، أو عند موت
أحد أصحابه يقرأ له القرآن، أو يعمل له ختمة، أو عتاقة، أو سبحة أم لا؟ بيِّن
لنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) هل ما أورده عبد الحق الأزدي في كتاب العامة عن أبي بكر أحمد بن
محمد المروزي أنه سمع أحمد بن حنبل يقول: (إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة
الكتاب والمعوذتين، و (قل هو الله أحد) واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر؛ فإنه
يصل إليهم) وما رواه النسائي والرافعي في تاريخه وأبو محمد السمرقندي في
فضائل سورة الإخلاص من حديث علي رضي الله عنه (من مرَّ على المقابر،
وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر
عدد الأموات) كما في شرح الإحياء ج 10 ص 371، وما ذكره القرطبي في
تذكرته عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة
وخاتمتها، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دخل المقابر فقرأ
سورة يس خفف عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات) وما يروى عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنه: (أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة) كما في رسالة
جلاء القلوب للبركوي المطبوعة على هامش شرح شرعة الإسلام (ص94) هل
يا سيدي كل هذا وما شاكله صحيح أو موضوع لا يعمل به؟ وإذا قلتم بالوضع فمن
الذي قال به من علماء المحدثين أو غيرهم، وفي أي الكتب نجد ذلك؟
(4) هل يوجد في الكتاب أو السنة دليل صحيح قطعي ينافي الأحاديث
المتقدمة في وصول القراءة للأموات؟ إن قلتم يوجد فاذكروا لنا ما نقتنع به،
ويقطع لسان المبتدعة.
(5) ما حكم الله فيمن يقرءون القرآن بالأجرة في المآتم، وفي ليالي
رمضان، والذين يقرءونه بالقُرص والرغفان والبرتقان والملاليم والنياكل، أدركني
يا سيدي بالفتوى لعلي أدرك إثباتها في مؤلفي في موضعها أو ألحقها به قبل إتمام
طبعه، جعلك الله ذخرًا للمسلمين، وأراني وجهك قريبًا في خير، والسلام عليكم
ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... 9ذي الحجة 1347
أجوبة المنار:
الحمد لله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أعتذر للقراء عن
نشر إطراء هذا السائل ومن قبله لي بما لست أهلاً له ولا لجزء منه، وأرجو أن لا
يعودا إلى مثله، ولولا ما بينته في مجلد سابق من أسباب التزام نشر الأسئلة
بنصوصها، ومنه الاقتداء بمثله من كتب فتاوى جميع العلماء لما نشرتها، ثم أقول:
6- أما الجواب عن السؤال الأول فهو النفي، وقد فصلت أدلته في آخر
تفسير سورة الأنعام (من ص255 - 270 ج 8 تفسير) فيراجع فيه إذ لا يمكن
إعادته.
7- وكذلك الجواب عن السؤال الثاني، وهو يدخل في تفصيلنا المشار إليه
آنفًا وأزيد عليه أنني لا أعلم أن أحدًا ادّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
القرآن على القبور عند زيارتها أو يعمل ختمة أو عتاقة أو سبحة! على كثرة الروايات
الموضوعات والواهيات التي يدعيها أصحاب أمثال هذه البدع.
وأما ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور ويأمر به، فهو
معروف في دواوين السنة، وهو السلام عليهم ودعاء الزائر لهم وله بالعافية وغير
ذلك مما لا حاجة إلى ذكره لشهرته.
8- إن من إضاعة عمر الإنسان أن يبحث عن كل ما يراه في كتب المتأخرين
من الأخبار والآثار الشاذة والمنكرة المخالفة للأصول العامة المقررة في القرآن
المجيد والسنن الثابتة ليعلم ما عسى أن يكون لها من رواية، وماذا قيل في إسنادها
وذلك مثل كتب المروزي والسمرقندي والبركوي المذكورين في السؤال وأضرابهم.
فأما حديث علي في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) فلا نعرفه
في سنن النسائي ولم نجده في فضائلها من كتاب فضائل القرآن، ولا كتاب الجنائز
من كنز العمال الذي جمع فيه مؤلفه أحاديث الجامع الكبير كلها. والرافعي
والسمرقندي يرويان كثيرًا من الأحاديث الواهية والموضوعة وكتاباهما ليسا في
أيدينا لننظر أسانيدهما له إن وجد فيها، وكذلك حديث (من دخل المقابر فقرأ سورة
يس ... إلخ) لم نجده في فضائلها من كنز العمال، وأما حديث النسائي في قراءتها
على المحتضر فقد ذكرناه في بحثنا المشار إليه آنفًا، ولم يذكر العلامة الحافظ ابن
القيم هذين الحديثين فيما أورده من الاحتجاج على وصول ثواب القراءة للموتى،
وناهيكم بسعة اطلاعه، ولا ذكرهما غيره من العلماء الذين يعتد بنقلهم في استدلالهم
على ذلك، ولا وصفهما الزبيدي بصحة ولا حسن كعادته، وأما سائر ما ذكرتم من
الآثار فإن ثبت لا يعد حجة، وقد صرح ابن القيم أيضًا بأنه لم يصح شيء عن
السلف في القراءة على الموتى، وأجاب عنه باحتمال إخفائهم لهذا العمل حتى لم
يعلم به رواة الآثار، وقد بيَّنا ضعفه في بحثنا المذكور، ونقلنا أقوال فقهاء الحنابلة
في المسألة، ومن المقرر عند العلماء أنه لا يجوز لأحد الأخذ ولا العمل بحديث لا
يعرف صحة سنده وموافقة متنه للقطعيات من الكتاب والسنة، ومن احتج علينا
بأمثال هذه الروايات نجيبه بالقاعدة الآتية:
9- القاعدة عند أهل العلم أن يطلب الدليل ممن يدعي إثبات الشيء لا ممن
ينفيه فإنهم يكتفون من النافي بالمنع، والذي بيَّناه من قبل وفاقًا لأئمة الفقه أن آية
الأنعام التي ذكرنا هذا البحث في سياق تفسيرها وآية سورة النجم {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) تدلان على
عدم وصول ثواب قراءة القرآن إلى من يُهدى ثوابها لهم من الموتى أو الأحياء،
وقد بيَّنا هنالك وجه الدلالة بالتفصيل وما يؤديدهما من الآيات الكثيرة في كون جزاء
كل أحد بعمله لا بعمل غيره، له ثوابه وعليه عقابه، وكون المدار في ثواب الأعمال
على تأثيرها في تزكية النفس، وهذه نصوص قطيعة تؤيدها الأحاديث الصحيحة،
فإن فرضنا أن الحديثين اللذين أوردتموهما في السؤال الثالث في فضل سورتي
الإخلاص ويس مرويين؛ فإنهما لا يصلحان لمعارضة هذه النصوص وهذه القاعدة
المأخوذة من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس:
9-10) وإن صح سندهما! فكيف وهما لا يُعرفان في شيء من دواوين السنة؟
10- قراءة القرآن عبادة كالدعاء والتهليل والتسبيح وغيرها من الأذكار،
ومن المعلوم من الإسلام للخاص والعام أنه لا يجوز أخذ الإنسان أجرة على العبادة
المحضة، ولا أن يؤدي العبادة لأجل غيره، ولا سيما إذا كان على عمل غير
مشروع كجعله للموتى، وناهيك بأخذ أجرة خسيسة حقيرة تنافي ما يجب من تعظيم
القرآن، وقد منع الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن بناء على أنه عبادة أيضًا،
وأجازه الجمهور، ومما استدلوا به حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة
التي وهبت نفسها له لمن لا يجد مالاً يصدقها به بما معه من القرآن على أن يعلمها
ذلك، وبحديث إباحة أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة مع حديث (أحق ما أخذتم عليه
أجرًا كتاب الله) وكلاهما في صحيح البخاري وغيره، وما ورد في سنن أبي داود من
الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يرتقي إلى الصحة التي يعارض بها هذا
وهو غير صريح في المسألة، ولا يبعد أن يُعد من قبيل التعليم الإرشادي للقرآن ما
جرت به العادة من اختلاف بعض الحفاظ كل يوم إلى بعض البيوت في رمضان
وغيره يقرءون فيها شيئًا من القرآن ليسمعه أهلها، وسماع القرآن مفيد في تقوية
الإيمان، ومن السامعين له من يستفيد منه علمًا وأدبًا بقدر استعداده، فإذا قصد القارئ
ذلك مع التعبد والاتعاظ بنفسه أرجو أن يباح له أخذ ما يعطى في كل شهر وهو يكون
بغير عقد خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا
بهذه الوسيلة، وهو هجر له، وناهيك به من مصيبة.
__________(30/105)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
هل يكفر تارك الصلاة؟
حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم
الوهابية
(س11-12) من محمد أفندي جمعة الزيلع التاجر في ميناء طرابلس الشام.
مولاي الأستاذ المعظم السيد رشيد أفندي رضا الأفخم.
إنني لمست مناركم الأغر فوجدته يضيء، ولم لم تمسسه نار، نور على نور،
يهدي الله لنوره من يشاء، لقد أضاء مناركم على الشرق والغرب فأصبحتم بنعمة
الله حكيمها، لا زلتم مصدرًا للعلم والعرفان، مكللاً بالنصر المؤزر من الرحمن
الرحيم.
مولاي: سؤالين أعرضهما على سماحتكم أيها البحر الزاخر علمًا، وأسترحم
بيانهما على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق:
(11) إنني كلما أرتل هذه الآية الكريمة، قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ} (الروم: 31) وعندما أتلو هذه
الأحاديث الشريفة التي منها قوله عليه السلام: (ليس بين العبد والشرك إلا ترك
الصلاة فإذا تركها فقد أشرك) عن أنس صححه في الجامع الصغير، وعن ابن
عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا قد رفعه إلى النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من
ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة
المكتوبة، وصوم رمضان) رواه أبو يعلى بإسناد حسن، ورواه سعيد بن زيد أخو
حماد بن زيد عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مرفوعًا
وقال فيه: (من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يُقبل منه صرف ولا عدل،
وقد حل دمه وماله) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
ذكر الصلاة يومًا فقال: (من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة،
ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع
قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير
والأوسط وابن حبان في صحيحه.
فيرتعش فؤادي عندما أريد تطبيق ما ذكر على حالتنا الحاضرة معشر
المسلمين، فأجدنا غافلين عن الإسلام وتعاليمه فحسبنا الله تعالى، وبعد هذا
فيعترض البعض على قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم:
47) فأين المؤمنون ياترى؟ فما قول مولانا في صحة ما تقدم؟ فإن كان صحيحًا
هل يجوز شرعًا أن نعقد زواج بنتنا على الرجل الذي يترك الصلاة؟ وهل برئت
الذمة منه؟
(12) الدعاء إلى الله تعالى بالتوسل: هل فيه شك أو ريب إذ دعوت الله
قائلاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنني قد
توجهت بك إلى ربك في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفِّعه في واقض حاجتي هذه
بجاهه عندك؟ وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
أريد أن أزجر بهذا السؤال بعض الأفَّاكين الذين يقولون عن إخواننا المؤمنين
القائمين بالكتاب والسنة كبني نجد الكرام، وإمامهم العظيم خادم العلم الصحيح،
ونابذ البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكثير من الناس يقولون ما لا يعملون
عن هذا الإمام المعظم أدامه الله ذخرًا للإسلام، فيقول البعض: إن الإمام وقومه
يمنعون ذكر الرسول وتعظيمه عليه السلام، وهذا ما لا أعتقده؛ فإن أمثال الإمام
الكريم القائم بأمر الله وسنة نبيه لا يكون إلا محبًّا للرسول عليه السلام حيث قال
تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) إذًا محبة الله ورسوله هي
القيام بما أمر الله ورسوله لا بنشر البدع الى عمت، وأصبحت من الإسلام بنظر
الجاهلين حقيقة الدين وتعاليمه، فحسبنا الله.
نسأل الله أن يلهمنا الرشد إنه سميع مجيب، وأُقَبِّل أيادي مولاي في البدء
والختام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... محمد جمعة الزيلع
(11) الكفر بترك الصلاة:
يرى السائل في تفسير القرآن الحكيم من هذا الجزء بحثًا مستفيضًا في مسألة
الكفر بترك الصلاة والزكاة والصيام، وخلاف العلماء في ذلك، وأن التحقيق في
المسألة أن من ترك الصلاة وكذا غيرها من أركان الإسلام جاحدًا أو مستبيحًا لذلك
غير مبالٍ بالدين - فهو كافر بإجماع المسلمين، وأن من ترك بعض الصلوات دون
بعض يكفر في قول بعض الأئمة دون بعض، ومن لا يكفر بترك الصلاة لا يكفر
بترك غيرها؛ لأنها عمود الإسلام وأعظم أركانه، وقد بيَّنا أنه لا يعقل أن يتركها
مؤمن صحيح الإيمان مذعن صحيح الإسلام إلا أن يكون جاهلاً مغرورًا بالاعتماد
على المغفرة والشفاعة، ومثل هذا لم يكن يُعدَّ عذرًا شرعيًّا أيام كان الإسلام إسلامًا
معروفًا، وقد يعد صاحبه في هذا الوقت ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام على الوجه
الحق التفصيلي لعموم الجهل، والأحاديث التي استدلوا بها على كفر تارك الصلاة
كثيرة ذكرنا في هذا البحث أصحها، وما ذكره السائل منها لا يصح كله.
فمن علم من رجل أنه لا يصلي ولا يصوم لفساد عقيدته الدينية، وعدم
مبالاته بما أوجب الله وما حرَّم، فليس للمسلم أن يزوجه ابنته أو موليته؛ ولكنه إذا
علم أنه مؤمن مغرور متكل على المغفرة أو الشفاعة مثلاً فليس له أن يجزم بكفره،
بل ينصح له ويعلمه ما يجهله من ضروريات الدين وكونه بدون إقامة أركانه لا
وجود له.
وطالما أقمنا الدلائل وبيَّنا الآيات في إثبات أن الكثيرين من مسلمي البلاد
الإسلامية ليس لديهم من الإسلام الحقيقي إلا الاسم، وأطلقنا عليهم لقب (المسلمين
الجغرافيين) .
(12) التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الذي ذكرتم فله أصل في
حديث الأعمى الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله
عليه بصره، وأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن الصبر على مصيبته خير له في
الآخرة، فأبى إلا أن يدعو له صلى الله عليه وسلم، فدعا له صلى الله عليه وسلم
وعلَّمه أن يدعو الله تعالى بهذه الألفاظ، أو ما يقرب منها فدعا ورد الله عليه بصره
بدعاء نبيه ودعائه هو بأن يشفِّعه الله تعالى فيه، والحديث في سنن الترمذي
والنسائي وغيرهما من حديث عثمان بن حنيف الصحابي رضي الله عنه، وله
روايات عند غيرهما، والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا
بشخصه، ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه
وسلم بعد وفاته دعاء، لم يصح عن أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث
توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته
صلوات الله وسلامه عليه إذ قال عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا
فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) والحديث في صحيح البخاري، ولو كان التوسل
بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعًا معروفًا عندهم رضي الله
عنهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس
رضي الله عنه.
ولكن بعض العلماء المتأخرين لم يفطنوا لهذا الفرق بين التوسلين، فاستدلوا
بحديث الأعمى على جواز التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وبطلب
دعائه وشفاعته بعد وفاته، فهم معذورون باجتهادهم، وإن كان خطأ، وقد بيَّنا تحقيق
هذه المسألة من قبل في المنار، وهي مفصلة بأدلتها ومنها روايات حديث الأعمى ما
صح منها وما لم يصح في كتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله فليراجعها من شاء، وما ذكرتم من التقول والبهتان على الوهابية وملكهم إمام
السنة ومحييها فهو من غرائب افتراء أناس يدَّعون الإسلام، وقد عرف كذبهم في
العصر الملايين من الناس باختبار الحجاج الصادقين وأخبارهم، وما تنشره الجرائد
منها.
__________(30/108)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم من تبرأ منهن النبي صلى الله عليه وسلم
كالنائحات، ومدة الحداد
(س13-14) من صاحب الإمضاء في مزارع أولاد عليوة (برديس)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة المحترم الفاضل الشيخ السيد رشيد رضا: بعد السلام وواجبات
الاحترام، نعرف حضرتكم أنه استشكل علينا الأمر فيما يأتي:
(1) في صحيح البخاري حديث (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب
ودعا بدعوى الجاهلية، وإني بريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها والداعية
بالويل والثبور) [*] واختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال: إن الفاعلة ذلك طالقة
من زوجها لا تحل له إلا من بعد أن تُستتاب، وبعد عقد جديد، ومنهم من قال
بطريقة التوبة فقط.
فنرجو منكم بيان ذلك بيانًا شافيًا في عدد من أعداد مجلتكم الغرّاء قريبًا، ولكم
منَّا الشكر.
(2) وأيضًا في حديث المحدة المروي في البخاري (لا تحد امرأة فوق
ثلاثة أيام إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا) [1] .
منهم من أجاز الإحداد لسبعة أيام على الأب، ومنهم من منع ذلك، فنرجو من
فضيلتكم البيان الشافي في ذلك، وما الحكم في المحدود مع ما ذُكِرَ لأن الناس
استغرقت في هذا الأمر استغراقًا كثيرًا حتى قل من ينهى زوجته وأقاربه عن ذلك.
فلهذا نرجو من فضيلتكم كل الاهتمام في هذا الأمر؛ ولنرى ما نتبع في ذلك،
وسلامنا على جميع من يسأل عنا وعنكم، والسلام على من اتبع الهدى ودين الحق.
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمود أبو ستيت
... ... ... ... ... ... ... السلفي السني
جواب المنار:
(13) وردت أحاديث كثيرة في الزجر عن المعاصي والرذائل، وفي
التقصير في الفضائل بلفظ (ليس منا من فعل كذا) وبلفظ البراءة، منها ما ذُكر في
السؤال، ومنها (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من
الرجال) رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بسند صحيح، ومنها (ليس منا
من غش) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم بهذا اللفظ، ورواه الترمذي
بلفظ (من غش فليس منَّا) كلاهما صحيح من حديث أبي هريرة، ومنها (ليس
منَّا من لم يتغن بالقرآن) رواه البخاري من حديثه وغيره من غيره، ومنها
(ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) رواه أحمد والترمذي من
حديث عبد الله بن عمر والترمذي بلفظ (ويوقر كبيرنا) من حديث أنس وكلاهما
صحيح، ومنها (ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية،
وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم بسند
حسن، ولا يقول أحد يعرف أصول الإسلام وفروعه ويفهم نصوصه: إن هذه
الأعمال أو التروك كفر وارتداد عن الإسلام؛ وإنما اتفقوا على أن هذه الصيغة
وأمثالها للتغليظ والتشديد في هذه الأمور التي هي من أعمال الجاهلية وشؤونها،
فترى شراح البخاري يقولون في (ليس منَّا) أن معناه ليس من أهل سنتنا وطريقتنا،
وليس المراد به إخراجه عن الدين؛ وإنما المراد به المبالغة في الردع، وقال
بعضهم في حديث التبري: إنه وعيد للمتبرَّأ منه بأنه صلى الله عليه وسلم لا يُدْخِلَه
في شفاعته، فمن قال: إن المرأة المسلمة ترتد عن الإسلام وتبين من زوجها
بالنواح والندب ونحوهما من أعمال الجاهلية المحرمة - فهو جاهل، وإنما ينبغي
للمسلم الحريص على دينه وعلى زوجه أن يختبر عقيدتها فيما يُخِلُّ بتوحيد الله
تعالى مما نشأ في النساء والرجال من عقائد الوثنية كدعاء غير الله تعالى، والذبح
لغير الله تعالى وغير ذلك مما شرحناه في المنار والتفسير مرارًا كثيرة.
يجب العمل في الحداد بما صح في الحديث وعدم الالتفات إلى من أجاز
مخالفته بهواه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} (النور: 63) .
***
النفس الواحدة التي خلق منها الناس
(س14) من صاحب الإمضاء في (زنجبار) في ذيل كتاب خاص.
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) .
ما قولكم في معنى النفس الواحدة هل هي نفس آدم؟ وهل حواء من تلك
النفس؟ وهل هي من تلك الطينة التي هي نفس آدم؟ أو هي من ضلعه الأيسر
على ما يزعمون؟ أفيدوا بالجواب الشافي ولكم مني جزيل الشكر والسلام.
... ... ... محمد عبد الله قرنح
(ج) يطلق لفظ النفس في اللغة على روح الإنسان، وعلى ذاته وعلى الدم،
قال في المصباح المنير: والنفس أنثى إن أُريد بها الروح، قال تعالى: {خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) وإن أُريد الشخص فمذكر اهـ. ولا تطلق النفس
على الطينة مطلقًا، فالفيومي صاحب المصباح فسَّر النفس في الآية بالروح بدليل
وصفها بواحدة، ويظهر أنه يريد بها جنس النفس كأنه يقول: إنه خلقكم من جنس
واحد وحقيقة واحدة، فأصلكم واحد فلا ينبغي لكم أن يتكبر بعضكم على بعض
ويفتخر عليه بنسبه، وأما قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف:
189) فهو كقوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً} (الشورى: 11) أي جعل لكل جنس من الأحياء زوجين
لأجل التناسل كما قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49)
والذي عليه جمهور المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم عليه السلام، وهو
تفسير مراد مبني على الاعتقاد أن أبا البشر هو آدم عليه السلام لا تفسير بمدلول
اللغة، ولا بنص مأثور عن الشارع، وما صح في الحديث من كون آدم أبا البشر لم
يرد تفسيرًا للآية، وتفسير النفس بآدم في هذه الآية لا يظهر في آية الأعراف {هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً
خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) الآية، فإن النص يقتضي أن النفس الأولى
هي الأنثى، وأن زوجها الذي خُلق منها هو الذكر بدليل تغشيه إياها وحملها بالولد،
دع ما فيها من الحكم بالشرك عليهما وعلى ولدهما، وتجد في هذا الموضوع بحثًا
طويلاً في تفسير الآية، وهي أول سورة النساء في الجزء الرابع من تفسيرنا.
وأما قوله تعالى {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) فهو على القول بأن
النفس الواحدة آدم، لا يدل على أنها خُلقت من ضلعه، ولا من طينته، بل معناه
على كل حال أن هذا الزوج من جنس هذه النفس كما قال في سورة الروم {وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) فليس معناه أن
زوج كل واحد من البشر بضعة من جسمه، بل المعنى أنها من جنسه الذي هو علة
سكون كل من الزوجين إلى الآخر الذي هو مقدمة الاختلاط الذي يكون سبب النسل
بمقتضى سنة الله تعالى في خلقه كما بيَّناه في التفسير، وفيه أن جمهور المفسرين
الذين قالوا: إن المراد بالنفس آدم عليه السلام، يقولون: إن المراد (بزوجها)
حواء، وأنها خُلقت من ضلعه الأيسر وهو نائم، وأن هذا قول مأخوذ من الفصل
الثاني من أسفار التوراة الذي لا يعرف أحد كاتبه على سبيل القطع، وما ورد في
حديث الوصية بالنساء من الصحيح من خلقهن من ضلع، فالتحقيق أنه من قبيل
قوله تعالى {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) كما بيَّناه في المنار من قبل،
وفي لفظ للحديث من البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما المرأة
كالضلع) ... إلخ بالتشبيه، ونحن نقول بأن آدم عليه السلام أبو البشر، وأن
حواء عليها السلام أم البشر كما هو المشهور عندنا وعند أهل الكتاب، وإنما
نقول: إن الآية ليست نصًّا في هذا المعنى، ولا هو المعنى الظاهر المتبادر منها
بحسب مفهوم اللغة، والله أعلم بمراده.
__________
(*) قوله: (وإني بريء) حديث آخر رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه بلفظ (إني أبرأ ممن برئ منه محمد صلى الله عليه وسلم، برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) وليس في هذا الحديث ذكر الويل والثبور؛ ولكنه ورد في حديث آخر، والصالفة التي ترفع صوتها بالبكاء أو التي تضرب وجهها، والحالقة التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها.
(1) لفظ الحديث (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا زوج أربعة أشهر وعشرًا) وفيه ألفاظ أخرى.(30/111)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس
ومسألة التجديد والتجدد
(مجمل محاضرة ألقيناها في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة)
إن مسألة جمع البنات مع البنين في مقاعد التعليم الثانوي والعالي من أعظم
الأغراض التي يرمي إليها دعاة الثورة الدينية المدنية باسم التجديد المراد به هدم
القديم من مقومات الأمة من دين وتشريع وأدب وسياسة، ومشخصاتها من العادات
والأزياء وغير ذلك، والتجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجديد من مقتضى
الفِطر والطباع، ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع فلا
تناقض بينهما ولا تضاد إذا وضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط.
من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلق والديه وأخلاقهما بعض
المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ
الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتهما الجسدية والنفسية،
ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعا مستقلاًّ
بنفسه.
ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد من
محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة، ثم
تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما
تكونت البيوت والفصائل والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من
المشاركات في الأعمال، التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن
رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكون بها الفصائل قبيلة والبيوت
أمة.
ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تهدي إليه غريزة الاستقلال - المقابلة
لغريزة التقليد - من الميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر
كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل.
التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج
الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها، به يرتقون في مدارج
العمران، ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى إن الدين الإلهي الذي يستند
إلى وحي الرب الحكيم - بمحض فضله - لبعض من أعدّ أرواحهم القدسية لذلك من
أصفياء خلقه، قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور
حتى أكمله تعالى لهم بالإسلام عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال.
ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة
سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والبيهقي في
المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى
صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته، ونفي ما يعرض
لأهله من البدع أو الغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن
الاجتماع والعمران في شريعته، وبهذا المعنى أُعد نفسي داعية تجديد ديني مدني،
وعدوًّا مجاهدًا للجمود على التقليد، والإصرار على ما ثبت بطلانه أو ضرره من
القديم، فلا يحسبن أحد من شبابنا أنني أحكم في موضوعنا بتأثير الجمود على كل قديم.
أول شاهد لي على هذا مقدمة العدد الأول من صحيفتي المنار التي كتبتها في
مثل هذا الشهر [*] (شوال) أي سنة 1315 منذ ثلاث وثلاثين سنة، فقد أشرت
في أولها إلى الجديد والتجديد المدني بهذه الكلمة:
(أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك،
فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتًا زؤامًا.
تنبَّه من رقادك، وامسح النوم من عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد
بُدلت الأرض غير الأرض، ودخل بها الإنسان في طور آخر خضع له به العالم
الكبير) .
ثم أشرت فيها إلى جملة المخترعات الصناعية، وما تجدد في العلوم الطبيعية،
وانتقلتُ من ذلك إلى بيان أغراضي من إنشاء الصحيفة، مبتدئًا بقولي (وغرضها
الأول الحث على تربية البنات والبنين) هكذا بتقديم ذكر البنات على البنين، فأنا
داعية إلى تجديد من أهم قواعده ترقية مدارك النساء بالتربية والتعليم. وفي المنار
مقالات كثيرة وفتاوى في ذلك من أشهرها مقالات (الحياة الزوجية) التي أودع
بعضها الأستاذ الاجتماعي الاقتصادي محمد طلعت بك حرب الشهير كتابه (تربية
المرأة) .
فأنتم ترون أنني كنت منذ ثلث قرن داعية تجديد، وذلك قبل شيوع هذا اللفظ
في هذه السنين، وقد تفضل علي بلقب (المجدد) بعض الكتاب والمحبين، قبل أن
ينتحله ويريد احتكاره بعض المعاصرين؛ ولكني أسير في كل من التجديد
والمحافظة على سنن الطبيعة التي أشرت إليها آنفًا، فأقول في الدين بقاعدة الإمام
مالك رحمه الله تعالى، وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن
وبيان السنة النبوية له وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع،
ومراعاة مصالح العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها.
وأما ما فوَّضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم، ووكله إلى علمهم
وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله صلوات
الله وسلامه عليه: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به،
وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه، أما هذا فأنا
أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها، وإلى ما لا يُعرف له حد
من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة
على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها.
أومأت إلى هذا التجديد في مصالح الدنيا وهداية الدين، ومقاومة التقليد الديني
للكتب والمؤلفين، بقولي في تلك الفاتحة بعد الحث على تربية البنات والبنين:
(وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في
الأعمال النافعة وطروق أبواب الاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة،
والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبّستْ
الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر
توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا
وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات
صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة تواضعًا،
والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضا وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل متقدم علمًا
وإيقانًا) .
وعلى هذا الأساس المتين أبني رأيي في موضوع تعليم البنات والبنين، فأقول:
تقليدنا للإفرنج وما يجب نظره فيه:
إنني أرى أن ما يقال في فائدة الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد التعليم
في جميع درجاته، أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وأنه ناشئ عن تقليد للإفرنج،
لا عن خبرة تامة واستقلال في الرأي، ولا موازنة بينه وبين ما يعارضه في الضر
والنفع، ولا نظر دقيق في الفروق بيننا وبين أولئك القوم، وإنني خصم للتقليد
الديني والدنيوي معًا، وقد كان من أول نظمي للشعر في عهد طلب العلم في
طرابلس الشام قصيدة هذا مطلعها:
ليس التمدن تقليد الأوربي ... فيما انتحاه من العادات والزّي
إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
بل التمدن ملزوم التقدم مد ... عاة الرفاهة منفاة الألاقي [1]
روح شريف به تحيا الشعوب بما ... يبث فيها من العلم الحقيقي
وحتى ترى كثرة الآحاد راجعة ... لوحدة والفرادى كالأثابي [2]
والاختلاف بآراء الرجال لأجـ ... ـل الاتفاق على نيل الأماني
نعم إن الباعث الأول على التقليد هو احتقار المقلد لنفسه، وتعظيمه لشأن من
يقلده، سواء أكان المقلد فردًا وجماعة كبيرة أو صغيرة وهي الأمة، فمن وطَّن
نفسه أو أمته على التقليد فقد حكم عليها بالذل، وأن تكون تابعة لا متبوعة،
مستعبدة لا مستقلة، قاصرة لا رشيدة، وقد عقد حكيمنا العربي الاجتماعي ابن
خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً خاصًّا في بيان (أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء
بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده) .
فيجب علينا أن نتقي هذا الخطر في حكمنا الاستقلالي على ما نُدعى إليه من
اتباع غيرنا - مما أشار إليه حكيمنا - وأن نكون على حذر في كل تغيير في مقومات
أمتنا ومشخصاتها، وأن نعتبر في ذلك بسير الأمم العزيزة في كل انقلاب حدث فيها،
ونوازن بين نفعه وضره، وما ينطبق وما لا ينطبق علينا منه، ولا يجب مثل هذا
فيما نحتاج إليه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية والعسكرية ونحوها لأن
الحاجة إليها في جميع الأمم واحدة مهما تكن أديانها وآدابها ولغاتها وتقاليدها.
وأول مَثَل يجب أن نعتبر به الأمة الإنكليزية التي هي أعز أمم الإفرنج
وأعظمها حضارة وسلطانًا، فإننا نراها أشد الأمم اعتصامًا بكل ما يتعلق بروابطها
الملية والقومية، من دينية ودنيوية، ومن أهم ذلك مسألة التغيير في كتاب الصلاة
التي كثر الخوض فيها أخيرًا، ورفض البرلمان قبول اقتراح التغيير فيه مع العلم
بأنه من وضع الكنيسة وتقاليدها، وكون تنقيحه بما يحتج به المقترحون من
المصلحة الدينية العامة لا يتضمن تغيير شيء من كتب العهدين القديم والجديد التي
هي عندهم ينابيع الدين.
ودون هذا ما يصر عليه الإنكليز من مقاييسهم وموازينهم لأنه إنكليزي، وعدم
قبولهم ما يخالفه من المقاييس والموازين العشرية على أفضليتها وتسهيلها لوسائل
التعامل العام بين البشر؛ لأنها من صنع اللاتين، لا من صنع الإنكليز.
ولنلق نظرة عجلى على تعليم النساء عندهم نجدهم إلى منتصف القرن التاسع
عشر قلما كانوا يَعْدُون في تعليم البنات الابتدائي شغل الإبرة والرقص والعزف
بالبيانو، ثم زادوا في مناهج تعليمهن الدين والأخلاق وتدبير المنزل، وفي ذلك
العهد أُسست في إنكلترة مدارس البنات الابتدائية، وفي العشر الأواخر منه بُدئ
بتأسيس مدرستين كليتين لهن وتلاهما غيرهما، ونجد أن مدرستي كمبردج
وأكسفورد الجامعتين كانتا تمتنعان عن إعطاء البنات الدرجة العلمية التي يستحققنها
بالامتحان، إلا أن الثانية رجعت عن هذا الحرمان لهن في سنة 1920 أي بعد أن
عظم سلطان النساء في أوربة كلها بما أبلين في عهد الحرب الكبرى، وبقيت الثانية
مصرة عليه إلى العام الماضي على ما رأيت في بعض المجلات العلمية، ولا أذكر
أنني رأيت نصًّا في رجوعها عنه.
ومما يجب أن ينظر فيه في مسألتنا نظرة تدقيق واعتبار ما بين نسائنا ونساء
الإفرنج من الاختلاف في العلم والعمل والتقاليد، ومع أهمية مشاركة النساء للرجال
عندهم في الكسب، وهو يسوغ من مشاركتهن لهم في التربية والتعليم ما لا يسوغه
حال نسائنا.
حجة القائلين باختلاط الجنسين:
إن الذي أعلمه أن أقوى حجج القائلين باختلاط الجنسين في جميع مراحل
التعليم وزعمهم أنه خير وسيلة للتربية الصحيحة، أن كلاًّ منهما يختبر الآخر حق
الاختبار، فيقف على أخلاقه وآدابه وآرائه ومقاصده من الحياة، فيكون من فوائد
ذلك أن تبنى البيوت (العائلات) التي تتكون منها الأمة على أساس ثابت صحيح
لا تقوضه أهواء جهل كل منهما بما ذكر، وما ينجم عن هذا الجهل من خلاف
وشقاق.
والذي أراه أن هذه نظرية خيالية، تنقضها الخبرة والتجارب العملية، ولو
ثبتت من بعض الوجوه لكان ما يعارضها من غوائل الاختلاط في أمتنا أحق وأولى
بالترجيح عليها، وهو ما سأشير إليه بالاختصار بعد نقضها.
أقول في هذا النقض (أولاً) إن كلاًّ من الفريقين الشقيقين يعرف في بلادنا ما
عليه الفريق الآخر في جملته من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد العامة
وأغراض الحياة ومنازعها بما يسمعه كل منهما ويراه ويبلوه من معاشرة الأقريين
والجيران وغيرهم، وأما معرفة كل فرد منهما لكل فرد من الآخر فلا سبيل إليه
بالاختلاط في المدارس، ولا فيما سيكون عاقبة له من الاجتماع في المحافل
والمجامع.
(ثانيًا) كانت هذه النظرية مسلَّمة عند جماهير المتفرنجين، وكثير من
غيرهم فيمن يريدان التزاوج، وقد بيَّنا بُطلانها في مقالات (الحياة الزوجية) بما
يؤيده ما فشا في هذه السنين من قلة الزواج وكثرة الطلاق في العالم الإفرنجي القديم
والجديد، وفي الشعوب المقلدة له وفي مقدمتها شعبنا المصري، وإنني في غنى عن
إيراد الشواهد وسرد الإحصاءات المخيفة في هذا بما تنشره الصحف منها في هذه
الأيام نقلاً عن صحف أوربة والولايات المتحدة الأمريكانية [**] .
(ثالثًا) إن من المعلوم بالاختبار أن كلاًّ من الجنسين يتجمل ويرائي الآخر
في معاشرته له منذ يشعران بالميل الغريزي الذي جعله الخالق الحكيم داعية التناسل
فيهما، فيخفي كل منهما عن الآخر ما يعهد أو يظن أنه يكرهه أو يستنكره،
ويتوخى إظهار ما يرجو أن يحبه ويؤثره، ولا سيما إذا كانا يميلان إلى الاقتران،
وقد شرحت هذا في مقالات الحياة الزوجية.
وإننا نرى علماء الإفرنج الأحرار يصرحون بأنه قلما يوجد عندهم زوجان
يعيشان كل عمرهما أو جله متحابين متوادين كما يصوره كُتّاب القصص الخيالية
التمثيلية وغيرها، ومنهم من قال إن الاتفاق الودي بين الزوجين لا يكاد يزيد عن
ثلاث سنين، ومنهم من مدَّ في أجله إلى خمس سنين، ولعل كثيرًا من السامعين
لهذه المحاضرة قد وقفوا على ما كتبه ذلك الحكيم الألماني الذي صور فقد السعادة
الزوجية من بيوت عاصمتهم بطرق أبواب كل بيت منها قائلاً لأهله: إنني سمعت
أن السعادة هبطت على الأرض ودخلت بيتكم، فأرجو أن تأذنوا لي بالدخول
لزيارتها، وبأن جواب أهل كل بيت منهم كان واحدًا: أن السعادة لم تدخل بيتنا، ولم
نرها. وقد نشرت جريدة السياسة من عهد غير بعيد أقوالاً لبعض الرجال والنساء من
الإنكليز في الحياة الزوجية تؤيد هذا.
والذي نعلمه عن الحياة الزوجية في الشعب الألماني أنها خير منها في غيره
من شعوب أوربة، كما حدثنا بذلك صديقنا المرحوم الدكتور الشيخ حامد والي الذي
تزوج ألمانية رُزق منها بعدة أولاد، وكان مغتبطًا بها كما كانت مغتبطة به.
ويظهر لي أن فضلاء الإفرنج، ولا سيما القائمين بحقوق الزوجية بما يرضاه
كل من الزوجين من الآخر إنما يعملون بحكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، وإن لم يقفوا عليها، ذلك أن امرأة كانت تختصم إليه مع زوجها
فغلبها الغضب على الجهر بأنها لا تحبه، فقال عمر: إذا كانت إحداكن لا تحب
الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقل البيوت ما بني على المحبة؛ وإنما يتعاشر
الناس بالحسب والإسلام، والمراد بالحسب الشرف، ولا سيما إذا كان موروثًا،
والمعنى أن شرف الزوجية والأسرة يدعو كلاًّ من الزوجين لحفظ كرامة الآخر
وشرفه، وأن العمل بما تدعو إليه أحكام الإسلام كافٍ لهناء المعيشة من فرضه
المعاشرة بالمعروف والمساواة في الحقوق بين الزوجين، إلا رياسة الأسرة الخاصة
بالرجل، وإحصان كل منهما للآخر الذي يمنع بطبعه تطلعه إلى غيره، وكذا
توزيع الأعمال بينهما بجعل الخارجية للرجل والداخلية للمراة.
وأما غير الفضلاء منهم فلا يطيق الزوجان منهم الصبر على الحياة إلا
بإطلاق كل منهما الحرية للآخر حتى في اتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان،
وقد سَرَتْ عدواهم في بلادنا إلى بعض المتفرنجين، المجردين من هداية الدين.
بعد هذه الإشارة إلى تفنيد نظرية التماس السعادة الزوجية بالاختلاط بين
الجنسين في المدارس أشير إلى غوائله الشخصية والملية فأقول:
غوائل الاختلاط بين الجنسين:
(الغائلة الأولى) من المعلوم أن الشعور بالميل الفطري في كل من الجنسين
إلى الآخر يبتدئ في سن المراهقة، ويقوى بعد البلوغ، والقرب يذكي ناره،
والمعاشرة تضرم أواره، فإذا جُمع بينهما في مقاعد التعليم كان لكل منهما من شغل
القلب ومسارقة النظر، ومساوقة الحديث الشاغل للفكر - ما يكون صارفًا له عن
تربية قوة الذهن كلها إلى العلم.
ولعل هذا هو السبب في إباحة اليابانيين للجمع بينهما في التعليم الابتدائي،
والمنع منه في التعليم الثانوي، على أنه ليس عندهم من صيانة الحجاب ولا من
شدة المحافظة على الأعراض ما عندنا بوازع الدين والوراثة والوجدان، فنحن
أولى في جميع الأطوار والأحوال.
(الغائلة الثانية) أن قرب السَّواد من السواد، يدعو إلى المناجاة وطول
السِّواد، ويثير فيهما ذكرى الوساد [3] فيفضي إما إلى التبكير بالزواج إن تيسر،
وفيه من الصد عن العلم ما فيه، دع ما يذكره الأطباء وغيرهم من المضار الأخرى
له، وإما إلى مفاسد أخرى من دينية وصحية واقتصادية واجتماعية، بدأ الباحثون
يشكون بوادرها، ونعوذ بالله مما يتوقع من عواقبها.
وإنا لنعلم أن من دعاة ثورة التجديد والإباحة المعنية من التحرير، من لا
يبالون هذه العواقب، وإن منهم من يكابر الحس، ويماري في غرائز النفس،
فيدعي أن اختلاط الجنسين أقوى وسائل العفة والصيانة، يكسب كل منهما حصانة أي
حصانة، يعنون أنه كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية والتسمم بميكروبها،
يكسب صاحبه مناعة تقيه من العدوى بوبائها، وهذا قياس مع الفارق فإن ما نحن
فيه هو أشبه بالتعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، منه بالتلقيح ببعض ميكروبه
مع البعد عنه.
ولو شئنا لسردنا ما علمناه من الشواهد التي نقرءها في الجرائد، أو نسمعها
من كل مختبر أو مشاهد، على ما مُنِيَتْ به بلادنا من شرور الإباحة، وضروب
التهتك والوقاحة، وما أراني إلا من أقل السامعين لمحاضرتي علمًا بها.
وإنني أُذَكِّر من تنفعه الذكرى بأن تأثير هذا الاختلاط في مثل أمتنا أدهى وأمر
من مثله في أوربة بقدر ما بيننا وبين أهلها من التفاوت في العقائد والتقاليد والعادات،
وناهيكم بسرعة الانتقال من طور إلى طور، وما تقتضيه من غلو وإسراف، وقد
ثبت أن الذين ابتلوا بمصيبة السكر من المسلمين في الكبر، كانوا أشد إسرافًا فيه
ممن اعتادوه وكانوا يستحلونه من أول النشأة، وهذا يرجع إلى السنة المعروفة في
الطبيعة والاجتماع بناموس رد الفعل.
ومنه ما حدثني به عالم اجتماعي مؤرخ في سورية قال: إننا نحن النصارى
لما هتكنا ما كنا نجاري فيه إخواننا المسلمين من حجاب النساء لم يبق في مدينتنا
امرأة منا إلا ولها خدن أو أخدان، وقد هبط هذا الإسراف الآن، قال هذا منذ
عشرات من الأعوام، ولا بد أن يكون الإسراف قد عم وطم بما تجدد من حرية
الإباحة بعد الاحتلال الأجنبي.
(الغائلة الثالثة) أن الجمع بين الجنسين في مقاعد التعليم في جميع مراحله
وأسنانه، هو مبدأ ما ظهرت بوادره من إباحة الاختلاط بجميع صوره وأشكاله،
من رقص وسباحة وسفر مع الأجانب ومخادنة لهم وتزوج بهم، وفي ذلك من
المفاسد والمضار الأدبية والاجتماعية والصحية والمالية ما لا يمكن بيانه إلا في
محاضرة مستقلة أو رسالة طويلة.
(الغائلة الرابعة) أنه هدم لكثير من أحكام الدين وآدابه، وقطع لأقوى
الروابط المعنوية في الأمة، فهو جناية على الأفراد وعلى البيوت وعلى الأمة
بجملتها، ولا سيما أمة كالأمة الإسلامية استولى على نظام التربية والتعليم فيها
أناس من خصومها في دينها وفي سياستها، فلم يبق لها من القوى الروحية والأدبية
ما يقاوم فتك هذه المفاسد فيها، ولم يوجد فيها من السروات والزعماء ولا من رجال
الدين من يتلافى شيئًا من شر منع السيطرة الأجنبية على المدارس الأميرية والأهلية،
دع شرور المدارس التبشيرية، وإنما كان الباقي لها من صيانة الدين بعض تقاليده
الموروثة، وكانت كافية لحكم المختبرين بأن المسلمين أطهر أهل الملل أعراضًا،
وأصحهم أنسابًا.
ودعاة التجديد الإباحي يريدون التذفيف على هذه الجروح العميقة التي أحدثتها
هذه المدارس التي صَرَّح لورد سالسبوري بأنها الخطوة الأولى لاستعمار البلاد التي
تنشر فيها؛ لأن أول تأثيرها أنها تُحْدِث الانقسام والتفريق بين الأمة؛ فتجعل
بعضها لبعض عدوًّا، فهؤلاء الدعاة أعداء لأمتهم ووطنهم، أعوان لأعدائها، فإذا
لم تقو على القضاء عليهم قضوا عليها.
هذا ما كان كُتب في المسألة، وقد وضَّحنا بعضه باللسان، وقد قام بعدنا
الأستاذ الدردير فأثنى على المحاضرة وملقيها، وقال إنه موافق له على كل ما قاله
فيها؛ ولكن بقيت مشكلة زواج الرجل بمن لا يعرفها ! وقد أجبته عن ذلك بما
أقنعه وأقنع غيره بعد بحث ومراجعة، ثم سألني بعض الشبان مسائل كثيرة في
الموضوع وما حوله، وكان من سرورهم واقتناعهم ما حمل جماعة منهم على
المشي معي إلى الدار لإطالة المذاكرة.
__________
(*) كنت كتبت هذا بطلب الجامعة المصرية في شوال العام الماضي؛ ليكون موضوع مناظرة فيها فمنعتها الحكومة لسبب سياسي عارض، ثم ألقتيه في جمعية الشبان المسلمين في المحرم الماضي مع زيادات تناسب المقام.
(1) الألاقي: جمع ألقية وزان أمنية، وهي الشدائد والدواهي.
(2) الأثابي: الجماعات الكبيرة.
(**) يراجع قراء المنار ما نشرناه من إحصاء الطلاق في الولايات المتحدة الأمريكانية في ص 308 من المجلد 29.
(3) السواد، بالفتح هنا: الشخص، وشبح إنسان، والسواد بالكسر: المسارة في الكلام، فهو مصدر ساوده، أي: ساره، وبالضم اسم منه، والوساد: بالكسر - بل بالتثليث - المخدة والمتكأ، وهو هنا كناية عن الفراش ظاهرة المعنى.(30/115)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها
(أول من وضع الكتابة في العالم عرب اليمن، وعنهم أخذ الفينيقيون
الذين هم من عرب البحرين وما جاورها، وعنهم أخذ اليونان. والحروف اللاتينية
لا تصلح للغة العربية، ولا للشعوب العربية والإسلامية أبدًا) .
بحث وتحقيق للأمير شكيب أرسلان
كان أمير البيان قد كتب مقالاً في تفنيد ما انخدع به بعض كتاب العربية
المتفرنجين من استحسان تقليد الترك الكماليين في شر ما جَنَوا به على لغتهم
وثقافتهم، ومدارسهم وصحافتهم، إتمامًا لما جنوه على دينهم وآداب ملتهم، وهو
كتابة التركية بالحروف اللاتينية، ونشر هذا المقال في جريدة العهد الجديد التي هي
من أخلص الجرائد العربية لأمتها ووطنها وأقدرها على خدمتها، ثم استزاده بعض
المعجبين بتحقيقه لأمثال هذه المباحث فراجع فيه قبل إتمامه بعض كبار المحققين
من علماء أوربة، ذلك وفي مقدمتهم الأستاذ (مورتيز) الألماني المعدود من أشهر
علماء هذا الفن في العالم كله، وله فصل طويل في الكتابة العربية نُشر في دائرة
المعارف الإسلامية، والأستاذ (هس) السويسري مدرس الألسن الشرقية في جامعة
(زوريخ) وهو من أصحاب القدم الراسخة في تاريخ الخطوط عامة والخط العربي
خاصة، وقد تلقى عنه أستاذنا الإمام الخط المسند في سويسرة، كتب إليه الأمير في
ذلك وتلقى عنه مقدمة لجوابه مع وعد بتتمتها، وكتب أيضًا إلى الأستاذ ليتمان
الألماني العلامة الشهير يستوري زنده في الموضوع فلم يجده في برلين لأنه كان
بمصر.
وكان ذاكره في هذا البحث مرارًا، ثم جاء برلين، وبحث مع الأستاذ مورتيز
في المسألة زهاء ساعتين، وشرع بعد ذلك في كتابة خلاصة هذه المباحث، وأرسل
ما كتبه إلى جريدة العهد الجديد فنشرته متفرقًا في شهر شوال الماضي.
المقالة الأولى
قال الأمير بعد مقدمة ذكرنا خلاصتها آنفًا:
الأستاذ (موريتز) يرى ما يراه هذا العاجز، وما كان سبق لي ذكره في مقالة
بهذه الجريدة، وفي مقالات أخرى من قبل، وفي تصريح صرحت به في أيام
الحرب لإحدى الجرائد الألمانية وهو أن الخط العربي الحالي الذي يسميه علماء
الخطوط بالخط النسخي هو نوع من الاختزال (الستينوغرافيا) وأن العرب لم
ينتقلوا إليه من الخط المسند الحميري الذي كانت حروفه منفصلة إلا حبًّا بالسرعة،
ومن بعد أن استبحر العمران، وكثرت العلائق التجارية عند العرب.
والأستاذ مورتيز موافق لي على القول بأن طريقة العرب في الخط النسخي
هي الطريقة التي يجدر أن يقال لها طريقة عصرية، وأن فيها اختصارًا لائقًا بكتابة
الأمم التي ازدحمت أشغالها وتناهت مدنيتها، وأن فيها أيضًا توفيرًا من الوقت ومن
القرطاس.
ثم إن الأستاذ موريتز يصرح تصريحًا لا مجال معه لأدنى مراجعة بأن
الحروف اللاتينية لا تصلح أبدًا للسان العربي، وأن اللسان العربي بالحروف
اللاتينية لا يمكن أن يُعرف.
ومن بعد أن قررنا هذا نقلاً عن هذا العلامة الشهير المشار إليه بالبنان في
الشرقيات لا سيما علم الكتابات السامية - يحسن أن نذكر خلاصة آرائه في تاريخ
الخط البشري.
فالأستاذ موريتز يذهب إلى ما هو معروف عند جميع العلماء من أن الكتابة
وقعت بالتدريج، وأنها كانت في البداية صورًا تامة، فإذا أريد التعبير عن الأكل
مثلاً رسم الكاتب صورة رجل يأكل، وإذا أُريد التعبير عن النوم رسم صورة رجل
نائم على فراشه، وإذا كانت العبارة عن الضرب رسم رجلاً يضرب رجلاً آخر
وهلم جرًّا، وهذا الخط التصويري الذي يسمى بالهيروغليف في مصر وبالمسماري
في العراق والذي منه آثار عند قدماء سكان أمريكا قد مست الحاجة إلى اختصاره،
وفي الصين لا يزال التصوير غالبًا على الخط.
يقول البروفسور موريتز: إن أول واضع للكتابة على شكلها الحالي منتقلاً
من الصورة التامة إلى الإشارة الجزئية يجب أن يكون رجلاً عربيًّا من أهل اليمن
ويقول إن الأستاذ ليتمان يرى هذا الرأي نفسه.
ويضرب مثلاً فيقول: كانوا في عهد الكتابة بالصور إذا أرادوا ذكر العين
صوروها كما هي أي هكذا (.) ثم عندما أرادوا الكتابة بالإشارات المختصرة عن
الصورة جعلوا حرف العين بصورة العين الباصرة فجلعوا حرف العين هكذا (5
أو ع) ثم إن الباء مختصرة من صورة البيت فالبيت صورته هكذا D، كما لا
يخفى لأن الأصل في البناء يكون مكعبًا، فعندما أرادوا الاختصار رسموا البيت
هكذا (ب) وتجد أن هذه هي صورة حرف الباء المشتقة من البيت، أما نقط الباء
فهو متأخر العهد، والعلماء مجمعون على أن النقط في العربي لم يقع الاصطلاح
عليه إلا في القرن الأول للهجرة.
ويستدل الأستاذ على أن بداية الخط وقعت عند عرب اليمن بما يأتي:
أن المدنية البابلية ترجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، وإذا رجعنا إلى
حفريات الإنكليز والأمريكيين الحديثة في (أرز) الكلدانية نجد أن مدينة بابل كانت
زاخرة مستبحرة العمران قبل المسيح بأربعة آلاف سنة.
والقرائن تدل على أن مدنية بابل جاءت إلى بابل من بلاد العرب.
ووجدت في بابل أسماء (حمورابي) و (عميصادق) وهي هذه الأسماء
نفسها وجدت في اليمن بلفظ (عمي رافع) و (عمي صادق) وإنما تحرف في
بابل قليلاً، ومن هذا وغيره استدل علماء الآثار على أن أصل المدنية البابلية هو
من اليمن.
وأما (الألف باء (Alphabet) فقد وجدت في اليمن، بل في الدنيا كلها
قبل المسيح بألفي سنة، وأقدم خط عربي وُجد في اليمن، ويقال له المسند، وقد
أخذه الفينيقيون وأدخلوا عليه بعض تغييرات، هذا هو رأي المحققين الذي عوَّلوا
عليه أخيرًا بعد أن كان العلماء يظنون أن الفينيقيين هم الذين سبقوا الأمم كلها إلى
الكتابة.
ولعل الذي حمل علماء أوربة على نسبة إيجاد الكتابة إلى الفينيقيين هو كون
اليونان أخذوا الكتابة عن هؤلاء، وكان ناقل الكتابة من الفينيقيين إلى اليونان رجلاً
اسمه (قدموس) ومعناه (شرقي) .
فاليونان يعلمون أن الكتابة وصلت إليهم من الشرق، وهم نشروها في الغرب،
وكان اليونان يكتبون نظير الشرقيين من اليمين إلى الشمال، ولم يكتبوا من
الشمال إلى اليمين إلا فيما بعد، ولم يكن عند اليونان بادئ ذي بدء سوى عشرين
حرفًا، ثم صاروا يزيدون عليها.
وأما الخط الأقدم وهو المسند الذي هو أصل الخطوط كلها فهو ثلاثة أنوع،
وكلها كانت حروفها منفصلة كالحروف الإفرنجية الآن، وهذه الأنواع الثلاثة هي
الخط اللحياني والثمودي والصفاءلي (نسبة إلى حرَّة الصفاة التي وُجدت فيها
كتابات بهذا الخط) .
ومن الخطوط العربية الخط السبآءلي، قيل إنه وُجد قبل المسيح بستمائة سنة
إلا أن العلامة موريتز يقول إنه وُجد قبل المسيح بألفي سنة.
ومن الخط السبآءلي نوع جديد وُجد منه كتابات في الرحبة شرقي جبل الدروز
ترجع إلى ما بعد المسيح بثلاثمائه سنة، ووجدت خطوط سبائية بين الكتابات
اليونانية التي وُجدت هناك.
والخط الثمودي هو قبل السبآءلي، وهو والصفاءلي مختصران من المسند،
ومن هذه الخطوط جاء الخط النبطي الذي هو أول خط وُصلت فيه الحروف بعضها
ببعض (Corsif) والخط النبطي هذا هو أصل الخط العربي الموصول المسمى
بالنسخي، وقد تسنى للعلماء بحسب ما حققوه إلى هذا اليوم تتبع سير الخط العربي
منذ أول إيجاده إلى أن تقرر الخط النسخي الحالي، وأن هذه الآراء هي نتيجة ما
انكشف إلى الآن وستبقى معولاً عليها إلى أن يجد في الحفريات ما يغايرها أو يعدلها.
المقالة الثانية
تقدم لنا في (العهد الجديد) ذكر آراء بعض العلماء المستشرقين المتخصصين
في أمر الكتابات السامية، ومنهم الاستاذ موريتز الألماني الذي هو مجمع على أن
أقدم من كتب على وجه الأرض هو رجل عربي من اليمن، وعلى أمر آخر وهو
أن اللغة العربية لا يجوز أن تكتب إلا بالحروف العربية.
وإني لناشر غدًا ما دار بيني وبينه من المباحثات الشفوية هذه المرة جوابًا
بعث به إلي إلى لوزان منذ نحو شهرين، وسأنشر له خلاصة بحثه عن الكتابة
العربية في (الإنسيكلوبيديا الإسلامية) التي بدأت بها لجنة من العلماء قبل الحرب
ولما تكمل، أما نص كتابه الأخير فهو هذا (بعد الترجمة) :
(ألف شكر لك على كتابك اللطيف، وعلى ما تمنيته لي بمناسبة دخول
السنة الجديدة التي ننتظر منها الاستمتاع بصحة جيدة والعون في إيصال أشغالنا إلى
غاية حسنة.
في الفصل الذي حررته في إنسيكلوبيدية الإسلام على الكتابة العربية قد فاتني
بعض تفاصيل لم يتسع لها المقام، فالكتابة النبطية التي تُشتق منها الكتابة العربية
(يريد الكتابة الحالية) هي ذات شكلين: (أحدهما) الشكل العادي الأقدم الذي منه
كتابات على المباني الباقية من الأعصر الأولى، ومنه الكتابات الرسمية، وحروف
هذا الشكل ليست متصلة بعضها ببعض (والثاني) الشكل المتصل وهو الشكل
الذي اختير له الاختصار والبساطة لأجل الكتابات اليومية، وقد وصلوا فيه
الحروف بقدر الإمكان حبًّا بالسرعة.
ولا شك في أن هذه الكتابة الموصولة قد جرى الاصطلاح عليها في المدن
التجارية الكبرى مثل بتراء ومكة حيث كانوا يشعرون بالاحتياج الشديد إلى أن
يكتبوا سريعًا وكثيرًا، وأنه يوجد كتابات حجرية من القرن الثالث والقرن الرابع
قبل المسيح ليست من الكتابات الرسمية، يتجلى لك فيها هذا الشكل الجديد بكل
وضوح.
وأما من القرن الخامس قبل المسيح فلم تُوجد كتابة من هذا الشكل كما أن
كتابة زيد بقرب حلب وكتابة حران هي من الخط العربي الكوفي، وأما أصل
تسمية هذا الخط بالكوفي فلا أزال من أمره في ظلمات، ويحتمل أن تكون دولة لخم
الصغيرة في الحيرة قد اصطلحت على خط مشتق من الخط السوري، وقد أعطي
هذا الخط اسم الخط الكوفي لأن الكوفة هي خلف الحيرة - كما لا يخفى - فكأنهم
أرادوا إعطاءه اسمًا يميزه عن الخط السوري إلا أن هذا الافتراض لا يزال محتاجًا
إلى أدلة من كتابات على الحجر أو في الورق وهذه لَمَّا توجد.
وأما النقط فلم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة وذلك على
كتابات المباني والمسكوكات المضروبة وعلى البردي، وكان الباعث إليها حس
الاحتياج إلي الفرق بين بعض أحرف الخط المتصل التي بوصلها بعضها مع بعض
تشابهت كثيرًا، ويظهر أن أقدم النقط هي نقطة الباء (ب) ونقطة الذال (ذ) وقد
وُجدت مؤخرًا قطعة سكة قديمة من مجموعة البارون أوبنهايم عليها الكتابة الآتية هكذا
(ضُرب هذا الدينار سنة سبع ومائتين) انتهى.
وإليكم هذا المكتوب الآخر من الأستاذ هس المستشرق الشهير الذي يدرس
الألسن الشرقية في جامعة زوريخ، وهو ممن أقاموا مدة مديدة في مصر، وعرفوا
بلاد العرب، وكانت له صحبة متينة العرى مع المرحوم الشيخ محمد عبده،
وعندما ساح الأستاذ الإمام في أوربة نزل ضيفًا على البروفسور هس في منزله في
فريبورغ، ولقد تمكنت الصحبة بيني وبين الأستاذ المشار إليه منذ نحو عشر
سنوات، ففي هذه المدة استطلعت رأيه في بعض مسائل تتعلق بالكتابة العربية
فصادف كتابي إليه أنه كان ملتاثًا فكتب إلي ما يأتي:
(يا أميري العزيز لم أكن قويًّا أصلاً عندما وردني بهذا الصباح كتابك الثاني،
وإني مع ذلك أسالك العفو، فمنذ ثمانية أيام أنا عليل بالنزلة الوافدة، وعندما جاءني
كتابك الأول لم أظفر بالوقت الكافي لأجاوبك إذ كانت الأسئلة التي ألقيتها علي
تقتضي لجوابها لا أقل من نصف نهار، وسأجاوبك عليها قريبًا، وإنما أكتفي الآن
بالجواب على نقطتين: الأولى هي أن جميع العلماء يذهبون إلى أن الفينيقيين هم
الذين اخترعوا الكتابة وحروف الهجاء السامية، وسأعطيك البراهين على أنه ليس
الأمر كذلك، فأما الكتابة العربية فيجب التمييز جيدًا بين الكتابة المعينية والسبائية
مما يسميه علماء العرب الخط المسند أو خط حمير، والكتابة العربية الشمالية
المسماة بالنسخي؛ فإنه لا تعلق لإحدى الكتابتين بالأخرى، وليس عندنا شيء من
العلم عن أصل (الألف باء) السبائية التي فيها عدة من الحروف لا توجد في
الفينيقية، أما الحروف الهجائية الشمالية التي أقدم أشكالها تشابه تمامًا النسخي الحالي
(بدون تنقيط كما لا يخفى) فهي مشتقة من حروف الهجاء النبطية، وأن أقدم كتابة
عربية بلغة عرب الشمال التي عندنا في القرآن هي المنسوبة إلى مر القيس (امرئ
القيس ابن عمرو) التي وجدت في (عارة) بقرب دمشق، وتاريخها سنة 328 بعد
المسيح وحروفها نبطية، والخط النبطي حروفه موصولة مثل النسخي.
وأنت تدري أن الكوفي هو مشتق من النسخي (وبعضهم ذهب إلى أن
النسخي مشتق من الكوفي) وقريبًا أكتب إليك مطولاً ... إلخ) انتهى، فمتى
وردني كتاب الأستاذ (هس) الثاني أبادر إلى نشره، وقد يصيب الإنسان في نشر
منقوله أكثر مما يصيب في نشر مقوله، لاسيما إذا كان لا يتوخى شيئًا سوى الفائدة
وتجلية الحقيقة، وهذا لا يمنعنا من تعليق ملاحظاتنا الخاصة عند اللزوم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________(30/128)
الكاتب: إسماعيل الحافظ
__________
الفريدة العصماء
لأشعر العلماء وشيخ الفقهاء والأدباء الأستاذ العلامة
الشيخ إسماعيل الحافظ
عضو محكمة الاستئناف الشرعية في فلسطين
في عيد الرافعي الذهبي
إن القريض صغت إليه الهامُ ... وأحاطه الإعجاب والإعظام
لم أدر حين بدت طلائع آيه ... فكر يجود بهن أم إلهام
سارت مواكب نظمه وكأنها ... جيش من الدر اليتيم لهام
يتألق الإبداع فيه وفوقه ... من هدي أعلام الهدى أعلام
لا تلمح الأحلام سر بيانه ... حتي تفيء برشدها الأحلام
رقت حواشيه فهن مناهل ... ورست قوافيه فهن إكام
وافترّ عن حر المعاني مثلما ... تفتر عن أزهارها الأكمام
تمليه من (عبد الحميد) قريحة ... عَزَّت مناهجها فليس ترام
فياضة بجوامع الكلم التي ... يبقى لهن على الدام دوام
دانت أساليب البيان لربها ... وأطاعه الإبداع والإحكام
وأقام في الفيحاء صرح بلاغة ... تعشو لضوء مناره الأقوام
سامٍ يجدد للعروبة سؤددًا ... يُزهى به جد العروبة (سام)
يهدي المشارق ضوؤه بروائع ... شغفت بها الأسماع والأفهام
من كل شاردة كأن بديعها ... قطع الرياض يجودهن غمام
جوابة الآفاق يُرقب نجمها ... في كل أفق أشرقت ويرام
كملت محاسن نظمها وسما بها ... طبع عليه وضاءة ووسام
والشعر هندام وطبع مشرق ... والبعض لا طبع ولا هندام
لك في مجال الفضل يا ابن زعيمه ... سبق وفي أوج العلى استعصام
جددت من عهد القريض محاسنًا ... ذهبت بها الأعصار والأوهام
ألقى عليك شعاع فكرك رونقًا ... للسحر في جنباته إلمام
وكسوته من صفو طبعك حلة ... أضحى بها في الناس وهو غلام
فلبسته ثوبًا قشيبًا مونقًا ... والشعر فوق حماته أهدام
وجلوت منه منهلاً مستغذبًا ... يغشاه من فطن العقول زحام
شعر عليه من الجديد ملاحة ... ومن البراعة والنبوغ وسام
نسقان، منه عبرة وهداية ... مثلى، ومنه صبابة وغرام
لولا احتشام فيه صان رواته ... إذ أنشدوه وسامعيه لهاموا
هو في النفوس كواكب مشبوبة ... تهدي النفوس وفي الرؤوس مدام
غزل كمعتل النسيم وحكمة ... صحت بها لأولي النهى أحكام
وقلائد للمدح لو هي قلدت ... للبدر تاه البدر وهو تمام
ولكَم له آيات وصف وحيها ... جهر، ولمح بيانها أعلام
يجلو الحقيقة ربها وضاحة ... لا الشك يعروها ولا الإبهام
فتكاد إذ يصف المعاني أن تُرى ... للعين أو يبدو لهن قوام
وتكاد لا تدريه هل هو شاعر ... بلغ المدى في الوصف أم رسّام
لا بدع أن سبق الرجال فإنه ... كسَّاب كل فضيلة غنَّام
صاغت يد الخلاق جوهر نفسه ... وأجاد صقل طباعه الإسلام
فبدا وفيه مناقب علوية ... وله من الخلق العظيم ذمام
وغدا وفي برديه نفس برة ... تنبو عن الأسواء حين تسام
تخفى لفرط صفائها فإذا انجلت ... للناس فهي محاسن ونظام
طبعت على الأدب الرفيع فما لها ... فيما سوى الحسن البديع مرام
فالكون شعر عندها، وضروبه ... أحداثه، ولُغى الورى أنغام
والأرض نادٍ والزمان قصيدة ... أبياتها الآناء والأيام
والنجم نور والظلام خمائل ... والصبح وجه مليحة بسَّام
والأفق بهو والبروج هياكل ... هي للشموس منازل وخيام
والنور لوح فيه من صور الورى ... نقش، ومن أعدادهم أرقام
والضوء ما بين العوالم صبغة ... كُسيت به ألوانها الأجسام
والكائنات جواهر منثورة ... نظمت بها الأشكال والأقسام
فاعجب لها فطنًا تناهت في العلى ... سبقًا فليس أمامهن أمام
واعجب لها نفسًا صفا لألاؤها ... فلها بآثار الفنون هيام
لو شاءت الأقلام وصف جمالها ... عيَت بوصف جمالها الأقلام
لئن اصطفت منك القوافي مبدعًا ... أحيا رفات الشعر وهي رمام
فأبوك بحر العلم جدد نهجه ... وجرى مع الشعراء وهو إمام
ونمتك في عليا عدي سادة ... لهمُ بأندية البيان مقام
من كل غطريف كأن جنانه ... قبس، ومتن يراعه صمصام
(عمر أمير المؤمنين) يقودهم يوم الفخار وشبله العلام
شرف أشم لو استقر ضياؤه ... لم يبق لا ظلم ولا إظلام
شرف صحِبتَ المجد تحت ظلاله ... وجفوت ما فيه عليك ملام
ورغبتَ عن زهو الحياة زهادة ... إذ قل أكفاء وعز كرام فلرب منزل رفعة طالت له الأعنـ ـاق وازدحمت به الأقدام
سحبت بساحته الأماني وانجلت ... في أفقه الآمال وهي وسام
أعرضتَ عن أفيائه متذممًا ... والمجد يأبى أن ينالك ذام
لا خير في نيل الفخار إذا استوى ... يوم المفَاخر منسم وسنام
يا شاعر الأوطان ذُد عن حقها ... فلقد يصادَر حقها ويُضام
أنت البصير بما يصون كيانها ... ويصد عنها الخطب وهو جسام
نافحت عنها والحفائظ تلتظي ... والعدل حور والضياء ظلام
وصوارم السفاح تحت شفارها ... حتف لأحرار البلاد زؤام
في فتية غرّ سمت بنفوسهم ... همم تخوض الهول وهو ضرام
كرهوا الحياة على الهوان فأزمعوا ... والعيش في ظل الهوان حِمام
فقضيت حقًّا لا يقوم بمثله - إذ ذاك - إلا الأروع المقدام
وسُقيت فيه النفي صابًا علقمًا ... والسجن، وهو على الليوث حرام
لك بين (جلق والحجاز) منازل جثم البلاء بها وعنَّ السام
وافيتها ثبت الجنان مشيعًا ... بالصبر والصبر الجميل عصام
ولو أن جزعت لكنت أخلق جازع ... لكنه لا يجزع الضرغام
والمرء لا يُبقي عليه نفسَه ... جبنٌ ولا يودي به الإقدام
حتى نزلت (بقركليسة) وانجلى عن وجه تلك المعجزات قتام
أطلقت من أبكارهن خرائدًا ... جذب القلوب لحسنهن زمام
وبعثت في الأوطان صوتًا مشجيًا ... مصر لقد طربت له والشام
فأعد على الأوطان من ألحانه ... تَنْتَبِهْ فقد خملت وطال مقام
وأجل مقالك للنضال مناهضًا ... فمن المقال أسنة وسهام
وأهب بقومك للمعالي إنهم ... نَهَضَ الورى للمكرمات وناموا
عصف الزمان بهم وهم في غفلة ... شغلتهم الأحلام والأوهام
وأزالهم عن خِيمهم وقديمهم ... سيل من البِدع الجديد عبُام
يتزاحمون على متاع زائل ... (فهمو قعود حوله وقيام)
نزعوا إلى الخلف الذميم فأركسوا ... والخلف داء في الشعوب عُقام
والخلف إن ينقض قضية معشر ... يومًا فليس لنقضه إبرام
ولكم خلت من قوة موفورة ... ذهبت بها الأشياع والأحزام [1]
أولى الشعوب بعيشة مرهوبة ... شعب حمته ألفة ووئام
وأدل مفعول على حكم الهوى ... بين الرجال تخاذل وخصام
فابعث لمن بعثوا الخلاف ملامة ... حرّى تذوب لبرحها الأوغام [2]
وأفض عليهم من شعورك إنه ... نعم الشعور محبة وسلام
وأدر سلافًا من بيان طالما ... تلفت على نبراته الأخصام
واهنأ بعيدك إنه عيد له ... أيدٍ على الأدب الصميم جسام
خمسين عامًا جزتها وكأنها ... من حسن ما غذت القرائح عام
أهديت للفصحى بهن قلائدًا ... لا عمرو أهداها ولا همام
واسلم يتيه بك القريض ويعتلي ... ويحوطك التكريم والإكرام
__________
(1) الأحزام: كالأحزاب وزنًا ومعنى.
(2) الأوغام: الأحقاد الثابتة في القلوب.(30/136)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شهادات علماء الغرب المنصفين
للإسلام والنبي والمسلمين [1]
الشهادة الأولى
من كتاب (استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية)
للأستاذ هورتن الألماني المستشرق
صحيفة 5- كانت العرب في القرون الوسطى (إلى سنة 1500 تقريبًا)
أساتذة أوربا.
صحيفة 8- لم ينشأ ظن الأوربيين بأن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية
إلا من جهلهم بهذا الدين وعدم تعمقهم فيه، بل لتعلقهم بالقشور التي لا يفهمون
منها إلا ما يكتبون.
صحيفة 9- في الإسلام وحده تجد اتحاد الدين والعلم، فهو الدين الوحيد الذي
يوحِّد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلاً متمكنًا في دائرة العلم، وترى وجهة الفيلسوف
ووجهة الفقيه متعانقتين، فهما واحدة لا اثنتان.
صحيفة 9 -10 - كان في القرن العاشر في قرطبة زاهد يسمى (ابن مسرة)
وكان هذا الزاهد يشعر هو وتلاميذه أنه من الأسرة الإسلامية.
صحيفة 10- ابن رشد الفيلسوف الطائر الصيت في القرون الوسطى كان
إيمانه بالله عظيمًا، وكان معتصمًا بالقرآن حتى بكل كلمة في القرآن، ومع ذلك لم
يمنعه دينه والقرآن الذي يعتصم به من مطالعة الفلسفة اليونانية والأخذ من آثار
أريسطوطاليس والبناء عليها.
صحيفة 12- لا تجد في الإسلام سدًّا يمنع نفوذ الثقافة الغربية عنه، بل ترى
أن له استعدادًا غير محدود لقبول الثقافة.
صحيفة 17- استعداد الإسلام لقبول ثقافة غير إسلامية لا حدود له.
الشهادة الثانية
من مقدمة ترجمة القرآن للعلامة منني المستشرق
صحيفة 9- كان محمد صلى الله عليه وسلم أمينًا وأعدل رجل.
صحيفة 31- إن مرشد المسلمين هو القرآن وحده، والقرآن ليس بكتاب ديني
فقط، بل كتاب علم وآداب، وتجد فيه بيان الحياة السياسية والاجتماعية، حتى إنه
يرشد الإنسان إلى وظائفه اليومية، والأحكام الإسلامية التي لا توجد في القرآن
توجد في السنة، والتي لا تكون واضحة لا بالقرآن ولا بالسنة توجد في الفقه
الواسع الذي هو علم الحقوق.
صحيفة 36- إن العربي الذي أدرك خطايا المسيحية واليهودية، وقام بمهمة
لا تخلو من الخطر بين أقوام من المشركين يعبدون الأصنام يدعوهم إلى التوحيد
ويغرس في أفكارهم عقيدة أبدية الروح - لا يستحق أن يُعَدَّ بين صفوف رجال التاريخ
العظام فقط، بل يستحق أن يدعى نبيًّا [2] .
***
شكوى المنار إلى المنار، من أحد علماء مليبار
رسالة من زميلنا الأستاذ الفاضل المولى محمد عبد القادر المليباري الهندي.
إلى فضيلة السيد الإمام، حجة الإسلام، صاحب مجلة المنار بالقاهرة - أدامه
الله للمسلمين ذخرًا، وزاده شرفًا وقدرًا.
من أحد مريديه في الغيب، المستفيدين من فيوض قلمه المهتدين بنور مناره
محمد عبد القادر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
مولاي الجليل، أرجوكم أن تتفضلوا ببذل بضع دقائق من دقائقكم الثمينة
لسماع شكواي التي طالما كنت أردت أن أرفعها إلى فضيلتكم، ولم أتمكن منه إلا
الآن لما كان يتوارد عليَّ من نوائب الدهر.
أهم ما أشكوه وأبث حزني منه إلى فضيلتكم هو انقطاع المنار عني منذ ثلاث
سنوات، وحزني على هذا عظيم لأني صرت منذ انقطاعه عني كمن يعيش في
الظلام، لأن المنار كان لي منارًا بالمعنى الحقيقي.
كنت قارئًا للمنار تسع سنوات متوالية لكن لا على سبيل الاشتراك، بل
بمحض فضلكم ومنكم، ذلك أنه لما بلغني نبأ المنار حين كنت مباشرًا لعمل جريدتي
(المسلم) سنة (1334) بادرت إلى طلبه من إدارته، فلم تجبني، ثم أردفت
بطلب آخر مع خمس روبيات، ثم بآخر، هكذا كنت أوالي الطلب بعد الطلب إلى مدة
تزيد على ثمانية أشهر، ولم ألق من الإدارة إلا السكوت، وأخيرًا تفضل علي
المرحوم السيد صالح مخلص رضا بأجزاء من المنار مع كتاب قال فيه بعد الاعتذار
عن تأخر الإجابة (.. . إن شقيقي السيد محمد رشيد عندما قرأ كتابك الأخير
المؤرخ 21 ذي الحجة سنة 1331 استاء جدًّا، وأمر بإجابة الطلب، وأن يقدم
إليكم المنار لا على جهة الاشتراك، بل مبادلة أو مساعدة لمجلتكم فاقبلوا ذلك كرمًا
منكم، واحسبوا ما أرسلتم من ثمن ما تطلبونه في المستقبل من المطبوعات، وهو
يهديكم عاطر السلام) .
هكذا كنت منتظمًا في سلك قراء المنار، لا أستطيع أن أعبر عما أنا متلبس
به من الشكر على هذا الإحسان الجسيم، كما أني لا أستطيع الغفلة عنه ولو لحظة
في حياتي.
من أجلِّ نعم الله علي أن وفقني لأن أكون من قراء المنار إذ نفخ في روحًا
جديدةً جعلتني بصير القلب، وحيّ النفس، أنشأت لنشر مبادئ المنار مجلة باسم
(الإسلام) بلغة بلدي (اللغة الملبيارية) فلما رأى الناس ضوء المنار منعكسًا منها
استغربوه، وعلت من بينهم جلبة وضوضاء، ونسبوني إلى الزيغ والضلال
ونبزوني بلقب الوهابي، ولكن نور الحق لم يعدم قلوبًا تنزل فيها أشعته، فتنبهت
أفكار واستيقظت نفوس، وبالجملة فتح المنار في الديار المليبارية التي كانت
متصلبة في الجمود باب فكرة (الإصلاح الديني) ولكن الجماهير ممن انتسبوا إلى
العلم أخذوا يقاومون هذه الفكرة، ويمنعون الناس عن قراءة مجلتي ويحذرونهم
أيضًا من المنار، مع أنهم لم يكونوا حينئذ رأوه حتى ولا غلافه، وذلك لأنهم كانوا
قد أساءوا الاعتقاد فيه من قبل بسوء تأثير مؤلفات يوسف النبهاني [3] ، ولهذا لم
أنجح في سعيي لأن أجد أحدًا يرغب في الاشتراك فيه، فكنت أعير لبعض
أصدقائي الذين آنست فيهم سلامة الفطرة وحسن الاستعداد بعض أجزائه للقراءة،
رجاء أن يوفقهم الله للاقتداء بنوره، فلم أخب في رجائي ذلك، فإن الذين لم تفسد
فطرتهم في هذه البلاد قد أخذوا يعرفون قدر المنار ولو في الجملة؛ حتى ظهر من
بعضهم في الأيام الأخيرة رغبة في الاشتراك فيه فطلبوه بأنفسهم من إدارته كعبد
القادر بكننور، ومحمد سيدي، بكرانكنور بكوشي، ومحرر مجلة الإرشاد،
ومحرر جريدة يولوكم بكاليكوت؛ ولكن من غرائب الزمن أن صرت بعد ذلك
أستعير منهم أجزاءه بعدما كنت أعيرها لهم، ومما يوجب المسرة بالنسبة إلى المنار
أن أرى منهم الآن في الإعطاء ما كنت رأيته منهم من قبل في الأخذ من الكراهة؛
ولكن ذلك يؤلمني نظرًا إلى ما صرت إليه من الحالة في أمر المنار.
فالمرجو من فضيلنكم أن تتفضلواعلي بأن تأمروا إدارة المنار أن ترسل إلي
المنار تباعًا، وإنما انقطع عني من الجزء الثاني من المجلد السابع والعشرين؛
ولكن لا أرى من الصواب أن أسالكم أن ترسلوا إلي جميع ما صدر منه إلى الآن،
فسأطلبها مع تقديم الثمن عندما يتيسر لي ذلك؛ وإنما أرجو الآن أن ترسل لي من
الجزء الأول من المجلد الجاري (29) .
هذا وإني لأستحيي أن أسألكم أن تواصلوا علي ذلك الكرم الذي غمرتموني به
تسع سنوات، ولهذا فإني مستعد لأن أدفع إليكم مبلغًا ترضونه لي ثمنًا للمنار، أو
كله على ما أنا عليه من ضيق اليد، وعلى كل حال فإني واثق بأني لا أكون
محرومًا من قراءة المنار؛ فإن حب المنار قد امتزج بدمي، وصارت قراءته قوت
روحي، حتى لا أستطيع فراقه، ولا يطيب لي العيش بدونه، ولولا أنه يأتي
لأصدقائي المذكورين وتمكنت من استعارة أجزاء منه منهم أحيانًا لضقت ذرعًا.
أود أن أفيدكم - للنشر في المنار- بيانات عما أحدث المنار في المليبار من
الشعور بالحاجة إلى الإصلاح الديني، وما يجري فيها من السعي وراء ذلك
الإصلاح، ومن المقاومة له ممن يُعرفون بعلماء الدين بادعائهم أنه (الوهابية) وما
قد حدث في هذه الأيام من قيام فريق يرأسه شاب عاد من مصر قبل سنة بعد أن
أقام بين المتفرنجين فيها مدة بالطعن في الإمام ابن سعود وأنصاره وقومه الذين
يُعرفون بالوهابيين انتصارًا للأخوين محمد علي وشوكت علي وسأرسل إلى
فضليتكم هذه البيانات بصورة مقالة إن شاء الله اهـ.
(المنار)
إننا نحيي أخانا وزميلنا بأحسن من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته
ونعمته، وسيُطبع عنوانه المرسل باللغة الإنكليزية ويُرسل إليه المنارهدية دائمة،
مع المجلدات الثلاثة التي فقدها تامة، لا نطلب منه جزاء ولا شكرًا عليها إلا نشر
دعوة الحق وجهاد الباطل وأهله، والله في عونه ونصره، كما نصرنا على الدجالين
ونصر إمام السنة عبد العزيز آل سعود وقومه على الباغين، ومكَّن له في خير
الأرض ومهد الإسلام، وأنطق بالثناء عليه جميع الأقوام.
__________
(1) أرسل إلينا شذرات الشهادات الآتية صديقنا الدكتور زكي كرام الدمشقي المقيم في (برلين) ووعد بترجمة غيرها من كتب علماء أوربة من كل شعب منهم على ضيق وقته، واشتغاله بالعلم والمعاش، فنشكر له جهاده واجتهاده، وما قصد به من تبكيت المبشرين وأعوانهم من ملاحدة المسلمين عبيد المستعمرين وخدمهم وأعداء أمتهم ووطنهم.
(2) المنار: إن بعض المستشرقين وغيرهم من علماء أوربة الذين اطلعوا على تاريخ الإسلام لم يروا ملتحدًا ولا مفرًّا من الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع حفظ كرامتهم العلمية إلا وصفه بأنه من الرجال العظام، وأما هذا العلامة المنصف فقد أبي عليه استقلاله واحترامه للعمل والحق إلا أن يقول لهم: إنه ليس عظيمًا فقط بل هو نبي أيضًا.
(3) هو الدجال الخرافي الشاعر البيروتي، وكان استأجره رجل كبير بمصر للطعن في الأستاذ الإمام وخطته فلم يجد بدًّا من الطعن في أستاذه الحكيم السيد الأفغاني ومريده صاحب المنار؛ لأن الإصلاح الذي يعاديه قام بهم وكان قبل ذلك يطري الأستاذ الإمام قولاً وكتابة.(30/140)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ميزانية الأزهر
وافق مجلس الأزهر الأعلى برئاسة حضرة صاحب الفضلية الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في اجتماعه بعد ظهر يوم
الثلاثاء 29 شوال الموافق 9 إبريل سنة 1929 على مشروع ميزانية الأزهر عن
السنة المالية المقبلة.
وقد قُدِّرت الإيرادات والمصروفات بنحو 320.000 جنيه، وهي تتضمن
المشروعات الجديدة التالية:
1- 7000 جنيه لإرسال بعثة أزهرية مؤلفة من عشرين طالبًا إلى الجامعات
الأوربية لتلقي العلوم التي تناسب التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية.
2- 6000 جنيه لإنشاء مكتبة لتعريب الكتب التي لها ارتباط بالتعليم بالأزهر
والمعاهد الدينية، وإنشاء مجلة دينية تدعو الناس إلى الدين، وتحببه إلى نفوسهم
بنشر فضائله وإذاعة محاسنه وتمكين عقائده من القلوب؛ حتى لا تزعزعها
الشبهات العصرية ومقاومة دعوة الملحدين ودفع أضاليلهم.
3- زيادة 2500 جنيه على الاعتماد الخاص بمكافأة أعضاء امتحان الشهادات
لتكون متفقة مع المكافآت التي تمنح لأمثالهم بوزارة المعارف.
4- 500 جنيه تمنح جوائز لتأليف كتب في العلوم التي تدرس بالأزهر
والمعاهد الدينية وتتقرر فائدتها للتعليم بهذه المعاهد.
5- 500 جنيه ثمن أدوات وعقاقير للعيادات الطبية الصغيرة التي ستنشأ
بالمعاهد وانتداب الأطباء اللازمين لها.
6- 5500 جنيه لاستئجار أماكن صحية لطلاب القسمين العالي والأولي
بالأزهر، وهم الذين يتلقون دروسهم بالمساجد على الطريقة القديمة، ولتجهيز هذه
الأماكن بالأدوات الحديثة.
7- رفع مرتبات هيئة كبار العلماء من 36 جنيهًا في الشهر إلى 40 جنيهًا
في الشهر.
8- جعل درجات العلماء المدرسين بالمعاهد ثلاث درجات: خامسة وسادسة
وسابعة، أسوة بدرجات مدرسي المدارس الأميرية التابعة لوزارة المعارف.
9- ضم مصروفات قسم الوعظ والإرشاد إلى مصروفات قسم التخصص
العالي.
__________(30/144)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحالة السياسية العامة في مصر
بيان حر للعبرة والحقيقة والتاريخ
منذ سنة كاملة حدث في مصر انقلاب في شكل الحكومة، إذ اقتضت إرادة
جلالة الملك تعطيل مجلسي النواب والشيوخ (البرلمان) إلى مدة ثلاث سنين،
ووقف العمل ببعض مواد الدستور التي تقيد الحكومة بالمجلس، وتتعذر مراعاتها
بدونه. واقتضى ذلك إقالة أو إسقاط وزارة مصطفى باشا النحاس البرلمانية، وهو
رئيس الوفد المصري ذو الأغلبية في البرلمان، ونوط رياسة الوزارة بمحمد محمود
باشا سليمان الذي كان وكيل الحزب الحر الدستوري ثم صار رئيسه، وكان ذلك
عاقبة اضطراب في أعمال الوزارة البرلمانية بتدخل السلطة البريطانية المحتلة في
شؤونها، ووضعها العواثير في طريق كل عمل من أعمالمها، ومحاولة السيطرة
على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية فيها، وتهديد الجرائد الإنكليزية لها من
بعد وفاة سعد باشا زغلول ورفض الحكومة الوفدية للمشروع المخزي الذي اتفق
عليه عبد الخالق ثروت باشا مع وزارة المحافظين البريطانية، وهو شر من الحماية
السابقة بما كان يجعل به سلطان الإنكليز في مصر والسودان شرعيًّا بإقرار برلمان
الأمة له.
كانت الوزارة البرلمانية من أول عهد دورتها الجديدة بعد تعطيل الدورة
السابقة بضغط السلطة المحتلة - وزارة ائتلافية تتمثل فيها قوى الأحزاب المصرية
كلها، وكان سعد باشا هو الضليع بجمع كلمتها وحفظ وحدتها في البرلمان والحكومة
معًا، بما آتاه الله تعالى من النفوذ الأعلى في البلاد المؤيد بالبصيرة والذكاء والعزم
والحزم وقوة العارضة، بعد أن ألانت قناته أحداث الزمان، حتى خضعت له
الأقران التي كانت تنافسه في الزعامة، واعترفت له بالتفوق والإمامة.
وقد كان من المقرر لدى جميع العارفين بحال مصر من أهلها ومن الأجانب
عامة، والإنكليز خاصة أنه لا يوجد في مصر رجل ذو مكانة عالية يمكن أن يملأ
الفراغ الذي حدث بموت سعد باشا، وصرَّح بذلك كبار محرري الجرائد الإنكليزية
كغيرهم، وظهر مصداقه بعد وفاته بقليل، فكان أول صدع حدث بعده في البرلمان
أن الأحزاب المنافسة للوفد صارت تنقم منهم أثرته في مجلس النواب، ثم تصرف
أعضائه في الحكومة، ونقم كثير من جماعات الأمة وأهل الرأي من أفرادها أثرة
القبط فيهما معًا (أي في المجلس والحكومة) فقد أسرفوا في ذلك حتى كادوا
يكونون - أو كانوا - كحزب البرامكة من موالي الفرس في حكومة الرشيد العباسية:
أخذوا من الوظائف فيهما أضعاف ما يناسب عددهم القليل وظلوا يطلبون المزيد،
وقد عجز خليفة سعد في الوفد عن القيام ببعض ما كان مضطلعًا به سعد من حفظ
الوحدة ومنع الشطط؛ لأنه على ما أوتي من علم بالحقوق واعتدال في الأخلاق،
وصدق في الوطنية، وما نعتقد فيه مع الجمهور من حسن النية - لم يؤت بعض ما
أوتي سعد من قوة الإرادة، وسحر البيان، وقوة السلطان.
هذا الضعف هو الذي أطمع السلطة المحتلة في إسقاط الوفد بعد اليأس من
تطويعه ونيل أربهم من مصر به، وزاد في طمعهم شقاق الأحزاب له، ولعله لو
قلد محمد محمود باشا رئاسة مجلس الوزراء، وقنع مصطفى باشا النحاس برئاسة
مجلس النواب لأمكنهما بالتعاون أن يحفظا تلك الوحدة التي كان سعد باشا يحرص
على بقائها حتى إنه ليفتديها بكل ما يراه معارضًا لها من آرائه ومقاصده، فإن محمد
محمود - فيما نرى - أقوى رجال مصر عزمًا، وأمضاهم إرادة بعد سعد وثروت،
ولقوة الإرادة في هذه المواقف ما ليس لغيرها من صفات الرجولية وقوة التأثير
وإمضاء الأمور.
لا يرجى ثبات أمر من أمور الأمم العامة يتوقف إتمامه على كفاية رجل واحد
إلا إذا عاش ذلك الواحد عمرًا طويلاً أمكنه فيه أن يربي جماعة يقرب استعدادهم
من استعداده، فيتمّوا ما بدأه بالتعاون والثبات، حتى إن الأمور العامة التي يكون
مبدؤها من الاختصاص الرباني لا من الكسب الإنساني (كالدين) تدخل في عموم
هذه السنة الإلهية في الاجتماع البشري، فلولا الخلفاء الراشدون وأعوانهم من
عظماء الصحابة رضي الله عنهم الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم في مدة
عشرين سنة لضاع الإسلام كما ضاعت أديان أخرى من أديان الأنبياء المرسلين
الذين لم يستطع أصحابهم ضبط ما جاءوا به من الوحي وحفظه في الصدور
والسطور، ونشره في الصحف والدعوة في أنحاء المعمور، كما حفظ أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم القرآن في المصاحف الرسمية، وضبط التابعون لهم
السنة النبوية، ونشر ذلك في العالم مؤيدًا بقوة البرهان وقوة السلطان، وإقامة
الميزان.
ولقد كان بدء هذه النهضة المصرية السياسية المدنية والعلمية والعملية دعوة
السيد جمال الدين الأفغاني؛ ولكنه نُفي من البلاد قبل أن يُتم تربية حزبه الوطني،
ونُفي من بعده زعيم أصحابه الشيخ محمد عبده الذي قال هو يوم نفيه أنه هو الذي
يتم عمله في مصر، واستولى على البلاد الأجانب، فلما عاد الشيخ محمد عبده لم
يجد أدنى منفذ للعمل السياسي لضعف حزبه، وضعف الأمة أو عدم تمام تكوينها
ووحدتها، وقد كان يقول في هذا الأمر (يا ويح الرجل الذي ليس له أمة) وقال لي
في الأمر الذي قبله: (والله لو أن في مصر مائة رجل لما أمكن للإنكليز أن يُقيموا
فيها) أو لما أمكن أن يعملوا فيها ما أقاموا عملاً، لا أعني أنه لا يوجد فيها من يعلم
ما يجب أن يعمل، ولا من يستطيع أن يعمل، فإن فيها كثيرًا من المتعلمين
القادرين على الأعمال؛ ولكنهم ضعفاء الإرادة لا عزيمة لهم، وقد أظهرت الأيام
من بعده صحة قوليه، ولهذا انصرف بكل جهده إلى الشق الثاني من الإصلاح الذي
كان نهض مع السيد جمال الدين به، وهو الإصلاح العلمي الديني، وقال في الشق
الآخر، بل كتب ما نصه:
(أما أمر الحكومة فقد تركته للقَدَر يُقَدِّره، ولِيد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد
عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال،
فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن) .
صدق الإمام في قوله؛ فإنه مقتبس من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد قدَّر سبحانه للشعب المصري
أن يغير ما كان عليه من التفرق والانقسام، والخنوع الذي يشبه التعبد للحكام،
وظهر في جمهور دهمائه مبدأ الوحدة التي تسمى بالرأي العام، وإنما كان هذا
بتأثير أحداث الزمان، وشطط رجال الاحتلال وإسرافهم في احتقار المصريين،
وسوء استعمالهم للسلطة العسكرية العرفية في زمن الحرب، وعدم وقوفهم في
إرهاف الحد عند حد، كما شرحناه في مقالنا التاريخي عن القضية المصرية سنة
1921 (ص496-522 ج7 مجلد22) فبذلك الإرهاف تم تكوين الشعور القومي
الوطني في الشعب المصري، وظهر ظهورًا جليًّا في ثورة سنة1919، وهو ما
كان ينوط به الأستاذ الإمام العمل السياسي المنتج لمصر، ولما كان هذا الطور
الجديد لابد له من زعيم سياسي قد أوتي من المواهب ما يمكنه به أن يوجهه إلى
السعي لاستقلال البلاد - لم يوجد في مصر من قدر على ذلك إلا بقية أعضاء حزب
السيد جمال الدين السياسي وربيب خليفته الأستاذ الإمام وهو سعد زغلول.
ولكن سعد كان شيخًا كبيرًا لم يرب أحدًا على الغرار- أو المبدأ - الذي
وضعه السيد جمال الدين قبل نيل هذه الزعامة؛ لأن القضاء كان قد شغله عن
التربية الأخلاقية والسياسية، ولا بعدها لقصر الوقت وكثرة الشواغل العملية عن
هذه التربية، ولكن آراءه ومنازعه الاستقلالية وسيرته في الجهاد دونها قد تمكنت
في أنفس كثير من رجال الوفد الذين جاهدوا معه وثبتوا على الجهاد والجلاد
فاستطاعت الثلة الإدارية له أن تحافظ على اتحاد الكثرة الساحقة في مجلسي الشيوخ
والنواب، وعلى تأييد السواد الأعظم من الأمة له.
فلما رأى المندوب السامي البريطاني هذا ناجز الحكومة المصرية العداء في
كل من هيئتها التشريعية والتنفيذية، وقعد لها كل مرصد، وشرع يعاقبها على كل
قول وفعل، ولا سيما تبرمها باستبداده، وحكومة لوندرة وهي بيد حزب المحافظين
تؤيده في كل ما يقرره، وتجيبه إلى كل ما يطلبه، حتى أرسلت بطلبه أسطولاً
ضخمًا إلى الإسكندرية لتأييد معارضته في مسألة داخلية صغيرة لا تدخل في معنى
التحفظات الأربعة التي قيدوا بها الاستقلال المصري بنص ولا فحوى، ولا يمكن
أن يُستدل بها عليها بطريق من طرق الدلالة الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام.
فثبت بهذا أن الحكومة البريطانية تريد أن تسخر الحكومة المصرية لمشيئتها
بالقوة القاهرة، إن لم تذل وتستخْذِ لإدارة مندوبها السامي وتنفذ أوامره الشفوية
والتليفونية بدون أدنى معارضة من البرلمان وغيره، فهو قد عارض البرلمان في
وضع بعض القوانين وتقرير بعض الإصلاحات الداخلية، كقانون الجمعيات
والإصلاحات العسكرية، وأكره الحكومة على إعادة من شاء من موظفي الإنكليز
الذين خرجوا منها بمقتضى قانون التعويضات الذي غُبنت به مصر غبنًا فظيعًا،
فعاد من شاء منهم بعدما أخذوه من ألوف الجنيهات تعويضًا عما بقي لهم من سني
الخدمة، إلى غير ذلك مما ليس إحصاؤه من موضوع مقالنا هذا، وهو من
الجزئيات التي نعنى بمعناها الكلي دون أفرادها.
لم يتجرأ اللورد جورج لويد المندوب السامي على هذا الاستبداد كله إلا لما
ثبت عنده وعند حكومته من زوال الوحدة المصرية السعدية التي ألجأت دولتهم إلى
إلغاء الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، ولو مع تلك التحفظات التي كان
ينكرها سعد باشا والرأي العام، ولم يكن لمصر من سبيل إلى وقف هذا التعدي عند
حده إلا المحافظة على تلك الوحدة في البرلمان والحكومة، فكان أكبر ما خسرت
بموت سعد أنه لم يوجد له خلف يستطيع أن يحل محله في جمع الكلمة كما قلنا،
ولم تكن وطنية زعماء الأحزاب قد ارتقت بهم إلى حيث يحلون النظام محل نفوذ
ذلك الزعيم الكبير، فيؤيدون خليفته في المصلحة العامة، ويتسامحون فيما ينكرون
من أنانية الوفد، ويُحكِّمون فيما يختلفون فيه معه ما يقضي به الشرع والعقل،
فاشتعلت نار الخلاف الحزبية في البرلمان، وانصدعت وحدة الحكومة باستقالة
بعض الوزراء، واندلعت ألسنة الكتاب والخطباء بالهُجر والبذاء، وشُرِّعت أسنة
الأقلام في ميادين الجرائد للطعن الهراء، والإفك والافتراء، فأحبط كبراء الأمة
أفضل ما كانوا قد عملوا فكان هباء منثورًا، وهذا هو الذي أطمع المحتلين فيهم،
فعادوا إلى شر ما كانوا عليه من العبث بهم، ويتعذر على المؤرخ المنصف حصر
التبعة في حزب أو شخص منهم.
وفي تلك الأثناء أثيرت شبهات في قضية الأمير سيف الدين، وما كان من
دفاع مصطفى النحاس باشا وغيره من كبار رجال الوفد عنه بالوكالة، إذ كانوا من
المحامين، وذلك قبل تقلد النحاس منصب رياسة الوزراء، فأسرفت الجرائد
المناصبة للوفد في الطعن على رئيسه ورفاقه المحامين برميهم بالطمع واستخدام
مناصبهم ونفوذهم في الحكومة والمجلس لتوفير منافعهم وتحقيق مطامعهم.
في أثناء هذه الزعازع صدرت إرادة جلالة الملك بما بدأنا بذكره في هذا
المقال من إقالة الوزارة المصطفوية البرلمانية، وتعطيل البرلمان، وإسناد منصب
الرياسة إلى محمد باشا محمود سليمان، فأراد إشراك بعض رجال الوفد في تأليف
وزارته فأبوا كل الإباء، فألَّف الوزارة من رجال حزبه، وأعلن أن عناية وزارته
ستتوجه إلى الإصلاحات الإدارية من زراعية وصحية وغيرها، دون الأعمال
السياسية التي استغرقت أوقات الوزارات السابقة كلها، وأن تراعي مقاصد الدستور
وأغراضه بقدر الإمكان حتى في أحكامه التي قضت الإرادة الملكية بوقفها.
كان وقع هذا الانقلاب في الأمة أشد من وقع الصاعقة، إذ ظهر لها أن
الحكومة الدستورية النيابية التي كانت كل ما ربحته من جهادها الطويل، ومن
ثورتها الدموية منذ عشر سنين، لم تكن إلا سرابًا خادعًا ليس له ثبات في الداخل،
فيحترمه الأجنبي من الخارج، ولولا الاحتلال الأجنبي لثارت له ثورة لا تنطفئ
جذوتها إلا بإعادة سلطانه وتوطيد أركانه وزيادة حقوقها فيه، ولكن لا يجهل أحد من
أهل الطبقات العليا ولا الوسطى أن الإنكليز يفترصون هذه الثورة لزيادة جيش
الاحتلال، والسيطرة العسكرية على البلاد، بحجة المحافظة على أموال الأجانب
وأنفسهم وتأمين ديونهم.
وكان الأكثرون من الناس يظنون أن وزارة محمد باشا محمود تعجز عن إدارة
أمور البلاد، والسواد الأعظم على ما يعلمون من السخط عليها والأسف على
دستورها، فبدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، من إرادة نافذة، وعزيمة ماضية،
وحزم (كالمبنيات في النحو) يعمل ولا تؤثر فيه العوامل، فكان كأحد الرجال الذين
سادوا أقوامهم وأخذوا حكوماتهم من رق رقبتها، فجعلوا إدارتها رهن إرادتهم،
وتصرفوا فيها كما يتصرفون في بيوتهم ورقبة أرضهم، حتى صار يلقب في
الجرائد الأوروبية بالدكتاتور كموسوليني ودريفيرا ومصطفى كمال.
ألجم الجرائد بعد أن عاقب بعضها بالنذر فالتعطيل الإداري، ومنع اجتماعات
التظاهر والاحتجاج على الحكومة، حتى اجتماع أعضاء الوفد وأعضاء البرلمان،
واستبدل بها الاجتماعات لتأييده والهتاف له بنفوذ الحكومة، وطفق حزبه (الحر
الدستوري) يعقد الاجتماعات في العاصمة وسائر المدن لإنشاء لجان جديدة له تمهيدًا
لانتخابات البرلمان الآتية بعد تعميمها، إذا اقتضت الحال إعادتها مع الثقة بفشل
الوفد فيها.
فالوفد هو الخصم السياسي للحزب الحر الدستوري، فلا يرجى له نجاح
في أي انتخاب ما دام الوفد هو صاحب النفوذ في البلاد، وكذلك الحزب الوطني
وحزب العهد، ومن المعلوم بالضرورة أن الوفد هو الخصم الألد للإنكليز، وأنهم لا
يرجون أن ينالوا من مصر ما يؤملون ما دام للوفد الأغلبية في البرلمان، ومن
المشهور أيضًا أن الوفد لم يُوفق لنيل العطف الملكي الذي لم يكن له بد منه.
ومما يجب أن يذكر ولا ينسى أن حكومة مصر آلة منظمة ذات سلطان على
الشعب يمكن لكل من تولى أمرها بالحزم أن يخضعه لإرادته وتصرفه، وأن
الشعور القومي في الشعب لم يرتق إلى الدرجة التي تضطر الحكومة إلى مراعاته،
وليس من موضوع هذا المقال شرح ذلك وبيان شروطه وأسبابه، وقد أشرنا إلى
بعضها فيه، وإنما ذكرناه لنقول: إن من فضل الله تعالى علينا في هذا البلد الآمن
المطمئن أن تكون القوة المسلحة التي تعتمد عليها الحكومة في حفظ الأمن وتنفيذ
الأحكام خاضعة لرؤسائها خضوعًا تامًّا لا تدخله السياسة ولا آراء الأحزاب، ومن
فضل الله علينا أيضًا أن كان مستخدمو الحكومة في جميع الوزارات خاضعين
لرؤسائهم كالشرطة والشحنة وإن خالفوهم في العقيدة السياسية، وبهذا وما قبله نقيم
الحجة على الأجانب بقدرتنا على إدارة شؤوننا بأنفسنا، وإنما الطريقة الأمينة
لإيقاف الحكومة عند إرادة الأمة هي جعلها شورى بالدستور.
قد سبق لنا بيان كنه سياسة الوفد، وكنه سياسة حزب الأحرار الدستوريين
في مقالنا التاريخي الممتع الذي أشرنا إليه آنفًا، كما بيَّنا فيه مزايا كل من سعد باشا
وعدلي باشا موزونين بالقسطاس المستقيم، في وقت كان فيه كل حزب يذم زعيم
الحزب الآخر منهما ويضعه في أسفل سافلين.
وقد ذكرنا في سياق هذا المقال بعض مزايا صاحبي الدولة مصطفى باشا
النحاس، ومحمد باشا محمود سليمان، وأما الموازنة بينهما فالحكم بالحق فيها أن
كلاًّ منهما وطني صميم؛ ولكن الأول رجل قضاء، والثاني رجل إدارة، وكل
منهما يصطنع رجال حزبه والمواتين له في حكومته كدأب من قبلهما، وإنما
يختلفان في السياسة بحسب اختلاف حزبيهما، فسياسة الوفد قائمة بمناصبة الإنكليز
بقوة الأمة إلى أن تنال حقها تامًّا كاملاً، وسياسة الأحرار الدستوريين قائمة
باستمالتهم، وفي كل من السياستين خطر على البلاد، فمناصبة الضعيف للقوي
تنتهي دائمًا أو غالبًا بفلج القوي وربحه وخسارة الضعيف، وكذلك استمالة الضعيف
الخاشع للقوي الطامع لا تزيد القوي إلا طمعًا وجشعًا، وإنما الأنفع للبلاد أن يتعاونا
ويتحدا ولو في الباطن، ويرتقبا الفرص للانتفاع بهذا التعاون، كما فعلوا في فرصة
الائتلاف الأخيرة التي كان لمحمد محمود باشا اليد البيضاء فيها.
فإذا عجز الآن أن يعيدها سيرتها الأولى، فالذي أراه أن من الجناية على
الأمة أن يستخدم قوى الحكومة في إضعاف الوفد؛ فإن الوفد هو الأمة فإذا ضعفت
عجز هو وغيره عن إدراك ما تطلبه من الاستقلال المطلق، بل عجز عن حفظ ما
نالته بالفعل من الاستقلال الإداري كما عجز مَنْ قبله، وهو يعلم أن زميله في
الحزب وسلفه في الوزارة الدستورية عبد الخالق ثروت باشا ما نال في عاقبة الثورة
الوطنية التصريح المعهود بإلغاء الحماية البريطانية الشؤمى على مصر، والاعتراف
لها بالاستقلال التام المقيد بتلك التحفظات التي انتقصته من جميع أطرافه - إلا بسبب
قوة الوفد ووحدة الأمة بزعامة سعد، كما صرحت بذلك الجرائد الإنكليزية حتى
التيمس في تأبينها لسعد، وقد رأينا ذلك الخزي العظيم الذي رضي به ثروت بعد موت
سعد، وكان الفضل الأكبر في رفضه للوفد.
ولا يخفى عليه أيضًا أن ما يظهره رجال الإنكليز من الرضا عنه والثقة به،
وما ينشرونه من الثناء عليه والإشادة بأعمال وزارته لا يزيده عند السواد الأعظم
من الأمة ثقة ولا حبًّا، بل هو من قبيل تعظيم الحسان للرجل بتسميته والدًا لهن أو
عمًّا.
وإذا دعوك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبالا
على أن أهل البصيرة والرأي من المصريين وغيرهم يعلمون أن ثقة كبار
الرجال من الإنكليز برجل من غيرهم ذات قيمة عظيمة، إذا يمكن أن تكون رأس
مال كبير في السياسة لمن يقدر على استغلالها عند سنوح الفرصة لها، وقد ذكرت
للأستاذ الإمام مرة طعن المؤيد واللواء على مصطفى فهمي باشا واشتهاره بين
الوطنيين بالإخلاص للإنكليز والخيانة لوطنه، فقال ما معناه: إن هذا الرجل مهذب
الأخلاق، نزيه النفس، محب لوطنه، ولعله لا يوجد أحد من العارفين يُنكر نزاهته
وترفعه عن الرشوة والتجارة بمصالح الحكومة؛ ولكن عيبه الكبير هو ضعف
الإرادة مع اعتقاده أن الإنكليز قد استولوا على هذه البلاد بضرب من ضروب الفتح
السياسي العصري، والإنكليز يجلونه ويثقون به، فلولا ضعف إرادته لأمكنه أن
ينفع البلاد بهذه الثقة نفعًا عظيمًا في أمور كثيرة جليلة، فهم لا يكادون يخالفونه في
شيء يقترحه عليهم؛ ولكنه هو لا يدري هذا ولا يدرك كنهه، فهو كما يقول العوام
في الولي الذي لا يعرف نفسه.
وأقول: إن لمحمد محمود باشا عندهم الآن مثل تلك المنزلة أو أعظم؛ ولكنه
يدرك كنه هذا، وهو على إدراكه له قوي الإرادة، واسع الحيلة، وقد يعلم من
حوادث الزمان وقواعد الحقوق وسنن العمران أن مصر لم تصر مستعمرة بريطانية،
ولا مما يسمونه أملاك التاج، ولعل الفرصة قد سنحت له بوزارة العمال
البريطانية الجديدة لخدمة وطنه أجلّ خدمة، فإن ما تتسامح به الدولة البريطانية مع
صديق لها موروث، وربيب لمدارسها شكور، لا تتسامح به مع غيره، كما علمنا
من إعراض وزارة العمال الأولى عن سعد باشا بعد تواده مع رئيسها وبعض رجالها
قبل تسنمها غارب الوزارة لما هو معروف من عناد الإنكليز وكبريائهم.
وهي إن تسامحت معه، فلن تتسامح معه إكرامًا لخاطره، ولا مكافأة له على
صداقته، بل لأجل حل عقدة المسألة المصرية بما يرجى أن يرضي الشعب المصري
من غير طريق الوفد المعروف بمناوأة الدولة البريطانية، وما لا يُرضي الشعب
المصري لن يتم إذ لا يمكن أن يكون اتفاقًا قانونيًّا يرضى به الشعب البريطاني، إذن
لا يمكن الاتفاق القانوني بين الدولتين إلا إذا أُعيد البرلمان المصري ووافق على
مشروع الاتفاق بما يصير به قانونيًّا، وكيف يكون ذلك؟
الوفد يرى أن البرلمان قائم، وأن تعطيله غير قانوني، والوزارة وحزبها
يريان أن تعطيله صحيح، وأن سببه أنه كان ضارًّا بالبلاد مضيعًا لمصالحها؛ لأن
أكثر أعضائه لم يكونوا إلا أرقامًا يتم بها العدد القانوني للأعضاء الذين لا رأي لهم
ولا إرادة مع أركان الوفد، والمشهور على ألسنة العارفين المعتدلين أن الوفد
يرضى بإعادة الانتخاب إذا كان قانونيًّا حرًّا لا تبذل الحكومة نفوذها وأموالها للعبث
به كما فعل إسماعيل صدقي وزير الداخلية في وزارة زيور باشا سنة 1925، بل
يقول الكثيرون إن الفلج مضمون للوفد في الانتخاب مهما تفعل الحكومة، وقد يصح
هذا إذ لم يأت محمد محمود بما يرضي الأمة، والأمة لا تجهل مصلحتها، ولا تكفر
صنع من أحسن إليها.
وقد آن لي أن أصرح هنا برأيي في البرلمان الأخير الذي هو رأي جميع أهل
البصيرة في الدين؛ إيضاحًا لكلمتي التي جاءت عرضًا في فاتحة المجلد الثلاثين من
الجزء الماضي (الأول) فأقول: إنه كان شرًّا مما يقول فيه كتاب الأحرار
الدستوريين؛ وإنما تختلف في هذا وجهة النظر بيننا وبينهم، فهم إنما يذمون أكثر
الأعضاء بانقيادهم للوفد، فذمهم موجه للأكثرية الوفدية لأنها وفدية، ونحن أنصار
الدين إنما نذم ملاحدتهم اعتقادًا أو تقليدًا، وهم أمشاج من الدستوريين والوفديين،
فالحق أن المجلس السابق كان يغلب فيه نفوذ الملاحدة كما علم من مسألة رد اقتراح
مَن اقترح إيقاف الجلسة عدة دقائق لأداء صلاة المغرب، وتأييد من جاهر منهم
بأنهم لا يريدون الصلاة، وكما علم من طعن أحدهم في كتاب الله وصرَّح بتحقيره
في المجلس، ولم يَرُد على هذا الجهر بالكفر والارتداد عن الإسلام أحد، وكما ظهر
في مناقشاتهم في قضية الدكتور طه حسين من الدفاع عنه بعد تصريحه بالطعن في
القرآن، وفي مسالة الخلافة وغيرها من احتقار العلماء والطعن فيهم.
فأهل الدين يعلمون أن الحكومة الدستورية أقرب إلى الإسلام من الحكومة
الشخصية الاستبدادية، بشرط أن لا يكون نوابها من الملاحدة الذين يحاولون هدم
الدين الذي تُهدم بهدمه الفضيلة، وتُباح الأعراض، وتُستحل المحرمات، وتَهلك
الأمة بفساد أخلاقها، فلا أعاد الله ذلك المجلس، وعلى جميع أهل الدين إذا أُعيد
الانتخاب لمجلس آخر أن لا ينتخبوا أحدًا من هؤلاء الملاحدة المفسدين من أي
طائفة كانوا.
__________(30/145)
الكاتب: إيراني كبير
__________
تطور الإصلاح في الحجاز
حديث إيراني كبير عن الحجاز
جاء في جريدة العهد الجديد البيروتية الغرَّاء تحت هذا العنوان ما نصه:
تمهيد: بعد انقلاب الحجاز الخطير الذي أدى إلى سقوط الدولة الهاشمية،
وتبوأ صاحب الجلالة الملك ابن سعود عرش الحجاز - كانت حكومة إيران قد قطعت
علاقاتها مع ابن سعود تحت تأثير الدعايات المؤلفة التي قام بها فريق من الرجعيين
ساءهم ما يشاهدونه في الحجاز من إصلاح وتقدم، فعملوا على تنفير القلوب،
وإيغار الصدور بين العرب والفرس.
علم أن صاحب الجلالة ملك إيران رضا خان بهلوي أدرك أخيرًا سوء نية
المفسدين، وأن ما أشاعوه فأقلقوا باله به لا يستند إلى ركن صحيح، فحسن ظنه
بحكومة الحجاز، وسمح لرعاياه بحج بيت الله الحرام في هذا العام، كما أنه أرسل
إلى مكة المكرمة ممثلاً سياسيًّا لدولته هو الميرزا حبيب الله خان عين الملك معتمده
السابق في بيروت.
وكان بين حجاج هذا العام حضرة الميرزا إقبال شاه أزاد خان نائب مقاطعة
شيروان في المجلس النيابي الإيراني، وقد وصل أمس إلى الثغر قادمًا من مكة،
ونزل في الفندق العربي، فأوفدنا أحد محرري (العهد) لمقابلته واستطلاع ما
أحدثته في نفسه زيارة الحجاز، فوافانا بما يلي:
كانت الساعة الرابعة بعد ظهر أمس الأول حينما قابلت حضرة النائب إقبال
خان، هو في أواسط العقد الرابع من عمره، طويل القامة، معتدل الجسم، أسمر
الوجه حليقه، يتكلم التركية والإفرنسية ما عدا لغته فحييته باسم العهد، وسألته أن
يتفضل ببيان ما أحدثته في نفسه زيارته للأراضي الإسلامية المقدسة، فقال سعادته:
انتدبني مجلس الأمة الإيراني بصفة خاصة لدرس حالة الحجاز، وما قيل عن
تلاعب الحكومة بالأماكن المقدسة، فقمت بمهمتي هذه دون أن أشعر الحكومة، وقد
دلني البحث الدقيق الذي قمت به بنفسي أن الحكومة السعودية وجلالة الملك شديدا
التمسك بالدين الإسلامي ونصوصه لا يدخران وسعًا في سبيل المحافظة على
المخلفات الإسلامية [1] ، وأن ما رأيته في الحجاز من وسائل الإصلاح ومن العناية
التامة براحة الحجاج والمحافظة على صحتهم وسلامتهم لم أر مثله في البلاد التي
سبقنها مراحل في ميدان المدنية.
وقد كان بعض المصادر المعادي لابن سعود يحاول إيهام الناس بأن الأمن
مختل في الحجاز صرفًا لهم عن الحج، وإذا الأمر خلاف ذلك تمامًا.
وإليك حادثة جرت لي تثبت مبلغ استتباب الأمن في الربوع العربية الحجازية،
فقد أضعت محفظة بين مكة وعرفة، وبالرغم من أنها تحوي مبلغًا كبيرًا من المال فإن
أحد الحجازيين وجدها، وأرسلها إلى الحكومة، وهذه أعادتها إلي دون أن تنقص منها
بارة واحدة، وهذا ما لا يمكن أن تشهد مثله في أعظم البلاد رقيًّا.
تقرير مندوب النواب الإيراني:
- هل أتمكن من معرفة التقرير الذي ستقدمه إلى البرلمان الإيراني؟
- تقريري لا يخرج عن حد إفهام زملائي حقيقة الوهابية، وبيان فساد الشوائع
التي كانت مثارًا لشعور الإيرانيين، ويمكنني أن أؤكد لكم بأنني سأكتبه بأمانة
وصدق وتجرد.
- أليس لكم ما تنتقدونه على الحكومة الحاضرة؟
- بالعكس، إني محبذ كل الإجراءات التي قامت بها حكومة صاحب الجلالة الملك ابن سعود.
- وهل يتضمن تقريركم بحث حالة الحجاز من الوجهة السياسية؟
- كلا، وإنما سأقتصر فيه على الوجهة الاقتصادية، فقد تبين لي أن الحكومة
الحاضرة تريد أن تقوم ببعض المشاريع الاقتصادية والعمرانية والزراعية، ولكن
ينقصها بعض المال للقيام بها، وهي لا تريد أن تستمد حاجتها من رؤوس الأموال
الأجنبية؛ لأنها تعتقد أن ذلك يؤدي حتمًا إلى توطيد النفوذ الأجنبي؛ ولهذا فهي
تنوي أن تضع يدها بيد أصحاب رؤوس الأموال الإسلامية بشرط أن لا تكون هناك
أية صبغة أجنبية فيها، وترى أيضًا أن المساعدة الوحيدة التي يمكن أن تحصل
عليها هي من إيران وتركيا [2] .
ونحن كنا في حاجة إلى رؤوس الأموال لإصلاح اقتصادياتنا وزراعاتنا في
إيران، إلا أن بيننا أغنياء عديدين يستصعبون القيام ببعض هذه الأعمال، وأنا
سأعمل على تشجيعهم للإقدام على هذا العمل الذي يفيدنا ويفيد الحجاز معًا، وأما
المساعدات الفنية فأعترف أننا لا نستطيع تقديمها، فعلى الحكومة الحجازية أن
تستمدها من تركيا [3] .
مهمة مندوب الشاه في الحجاز:
- وهل تعتقدون أن المفاوضات ستدور بهذا الصدد؟
- لا أعرف ذلك في الوقت الحاضر، ولا سيما وأن علاقتنا السياسية لم تُوطد
مع ابن السعود، ومن الواجب وضع الأسس العمومية أولاً للاتفاق السياسي [4] ثم
يباشر وضع اتفاقات اقتصادية وتجارية وخلاف ذلك.
- وماذا عمل حبيب الله خان حتى الآن في مكة؟
- لقد قابل جلالة ابن سعود وسلَّمه كتاب صاحب الجلالة الشاه الذي يعترف فيه
بملكيته على نجد والحجاز، وقد تقبل جلالة الملك كتاب جلالة الشاه وسفيره،
وأبرق إليه معربًا عن استعداده للقيام بكل ما يقدر عليه في سبيل توطيد العلاقات
الودية بين أمته والأمة الإيرانية، كما شكر له دعوته لسمو نجله الأمير فيصل
لزيارة إيران قائلاً بأن نجله سيغتنم أقرب فرصة لزيارتها، وأنا أعتقد أن سمو
الأمير سيزور بلادنا في هذا الصيف.
الأمير أرسلان:
- هل قابلتم جلالة الملك ابن السعود؟
- نعم، اجتمعت بجلالته لأول مرة في المأدبة التي أقامها للأمير شكيب
أرسلان، وقد سبق لي التعرف على هذا الأمير في أوربا حيث كان يدافع عن القضية
السورية، ثم اجتمعت بجلالة الملك مرارًا على انفراد فلاقيت منه كل إكرام، وقد
طلب إلي أن ابلغ الأمة الإيرانية تحيته بواسطة مجلسها النيابي، وسأقوم مسرورًا بهذه
المهمة عند عودتي إلى بلادي.
الرابطة بين الحجاج:
- كيف وجدتم الرابطة الإسلامية في الحجاز؟
- أقول: إن الرابطة الإسلامية مفقودة بين الحجاج الذين يؤمون البلاد المقدسة،
وسبب ذلك فقدان التجانس بين طبقات المسلمين، فمثلاً ترى الهنود في مقر منعزل
لا يختلطون بغيرهم؛ لأنهم يجهلون لغتهم، وكذلك الإيرانيون والعرب والروس
والترك وغيرهم من الأقوام الإسلامية، وأرى أن يتحقق ذلك بأن يلقى محاضرات
بكافة اللغات، وأن يصدر بهذه اللغات نشرات في موسم الحج، وبذلك يكون تقرب
نوعًا ما بين الجميع، وقد عرضت هذه الفكرة على جلالة الملك وكبار حجاج
المسلمين فلاقت كما أعتقد استحسانًا، وأرجو أن تنفذ في العام القادم.
والرابطة الإسلامية إذا توحدت يمكنها أن تؤدي نتائج حسنة تهم الجميع.
رأي في الخلافة:
- ما رأيكم في الخلافة؟
- أقول لكم بصراحة تامة: إن الخلافة بدعة!! وقد جرَّب المسلمون الخلافة
فماذا استفادوا منها؟ اللهم إلا أنها آلة يديرها الأجانب في الاتجاه الذي يريدونه، وكفى
المسلمين ما لاقوه، فعليهم الآن أن يلتفتوا إلى اللباب لا إلى القشور [5] . انتهى
الحديث.
__________
(1) المنار: يريد بالمخلفات: المعاهد الأثرية التي يعبر عنها بعض علماء الحجاز بالمآثر كالبيت الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ودار خديجة رضي الله عنها، وقبور آل البيت عليهم السلام، وقد منعت الحكومة السعودية ما كان يجري فيها من الخرافات، فأذيع أنها هدمتها، وجعل أصحاب الأهواء والبدع هذه الإذاعة وسيلة لصد الشيعة عن الحج.
(2) المنار: هذا رأي غريب، لا نظن أن صاحبه مصيب.
(3) إن مصر وسورية أقرب إلى الحجاز، وأقدر من الترك على هذه المساعدة.
(4) المنار: قد علمنا عن ثقة بأن أسس الاتفاق السياسي قد وضعت، واتُّفق عليها وستُمضى وتعلن في فرصة قريبة.
(5) المنار: إن هذا الرأي خطأ من وجوه، فالخلافة عند أهل السنة هي الإمامة العظمى التي يعدها الشيعة من أصول الدين في المرتبة التي تلي النبوة، وعند أهل السنة من فروع الشريعة المهمة، وقد استفاد المسلمون منها فوائد عظيمة على كون أكثر دولهم لم تقم بها كما يجب، ولا سيما خلافة التغلب المحض كخلافة الترك، وقد كانت دول أوربة تخشى أن يجيء يوم يعرف المسلمون كيف يستفيدون منها على علاتهم وعلاتها، وهم يعدون إلغاء مصطفى كمال لها خدمة جليلة لسياستهم الدينية الاستعمارية.(30/153)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أداء الأمير شكيب لفريضة الحج
كان قلب الأمير شكيب يحن إلى أداء فريضة الحج منذ سنين، كما هو شأن
كل مسلم، وإن كان أمثال الأمير شكيب في تربيتهم المدنية والسياسية والاجتماعية،
صار يقل فيهم من يحج كما يقل من يصلي ويصوم إذا لم تقرن تلك النشأة
العصرية بمعارف دينية صحيحة راسخة كالطود لا تؤثر فيها أمواج الشبهات، ولا
تنال منها عواصف الشهوات، ولكن شكيبًا تلقى عقيدته من الأستاذ الإمام، وغذاها
بالعلم الصحيح والعمل، وقد كان لكبراء الرجال السياسيين من موانع الحج في
السنين الخالية ما ليس لغيرهم.
عزم شكيب على الحج في موسم السنة الماضية (1347) وكان يحب أن
يسافر من أوربة قبل موعد الحج، فيعرِّج على مصر فيقيم فيها مدة مع صديقه
الحميم صاحب المنار بداره التي يُعِدُّها بحق داره، وكتب إلي بذلك، وأنه لقي في
برلين معالي وزير خارجية مصر الدكتور حافظ بك عفيفي، وكان بينهما صداقة
سابقة فكاشفه بعزمه، فتبرع الوزير بوعده بأن يمهد سبيل الإذن الرسمي له بزيارة
مصر في طريقه لعلمه بأنه كان ممنوعًا من دخولها بعد الحرب الكبرى، ومن
المعلوم بالبداهة أن المرجع الرسمي في هذا الأمر لوزارة الخارجية؛ ولكن الوزير
نفسه رأى أن الإذن له يحتاج إلى تمهيد وسعي! ! .
ثم أزمع الأمير السفر وخرج من داره في لوزان قاصدًا البحر عن طريق
إيطاليا، وطفق يراسل وزير الخارجية، ثم يراسل بعض أصدقائه في مصر،
سائلاً هل تأذن له الحكومة المصرية بالإلمام بمصر، ولو بميناءي بورسعيد
والسويس لينتقل من الباخرة التي يسافر فيها إلى باخرة من البواخر التي تنقل
الحجاج؟ وكانت هذه الرسائل برقية، فعلمنا بعد البحث أنه لا يزال ممنوعًا من ذلك،
وبعد بذل السعي من بعض المهتمين بالأمر لدى صاحب الدولة رئيس الوزارة، اقتنع
بأن اللائق بحكومة مصر بصفتها الإسلامية الرسمية أن لا تمنع أحدًا من الإلمام ببعض
ثغورها بقصد السفر إلى الحج من غير إقامة تزيد على مدة الانتقال من باخرة إلى
أخرى، فأصدر أمره بالإذن في آخر وقت أدرك به الأمير آخر باخرة تحمل الحجاج
في آخر وقت يمكن إدراك الحج فيه، وقد علمنا أن الأمير بذل في أجور البرقيات
أكثر من ثلاثين جنيهًا، وأنه لو كان يعلم هذا لفضَّل أن يسافر في باخرة إيطالية إلى
مصوع أو عدن ثم يسافر منها إلى جدة.
في أثناء هذه المساعي وتبادل البرقيات شاع بين الناس أن الأمير شكيبًا مسافر
إلى الحجاز، وأنه سينزل من الباخرة التي تقله من أوروبا في بورسعيد، وينتقل
منها إلى السويس، فعزم كثير من أصدقائه، وممن يحبون الحظوة بمعرفته،
لشهرته الشريفة في عالم العلم والأدب والسياسة، والجهاد الإسلامي والوطني -
على السفر إلى بورسعيد للقائه فيها، وطفقوا يتحدثون بتأليف الوفود لذلك في مصر
وفلسطين وسورية، ونُشر ذلك في الجرائد، ولكن بعضها ذكر خبر منعه من
الإلمام بالثغور المصرية، فلم يعلم بموعد وصوله إلى بورسعيد إلا بعض أصدقائه
في مصر، فسافر بعضهم إليها في ذلك اليوم، وبعضهم قبله بيوم، وقد نزلت مع
بعض السابقين في زورق بخاري، فاستقبلنا باخرته في البحر عقب وقوفها وإذن
طبيب المحجر بمخالطة ركابها للناس، وسبقنا ابن عمه الأمير أمين فصعد إلى
الباخرة مع الطبيب الرسمي، ولما تلاقينا لم أملك دمع السرور من حيث جرى،
ولا تسل هناك عما قد جرى، ووصل في ذلك اليوم إلى بورسعيد الأستاذ المربي
المصلح والزعيم الوطني الشهير الشيخ محمد كامل قصاب من حيفا لأجل استقباله،
وأخبرنا أن وفد حيفا ووفد القدس قد انفض جمعهما إذ نشرت جريدة الجامعة العربية
برقية من مصر بعدم الإذن له وهو إنما جاء للاحتمال، وقد جاءت الأمير برقيات
كثيرة، وعاد بعض المستقبلين له إلى القاهرة، وبات بعضهم في بورسعيد بعد
إلحاحه على الجميع بالعودة إلى أعمالهم، إلا كاتب هذه السطور، فقد قال له: أنت
تبقى معنا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.
وقد سافرنا في اليوم الثاني إلى السويس فوجدنا بعض المستقبلين في
الإسماعيلية من طريقنا، وبعضهم في محطة السويس نفسها، وممن جاءها
بالسيارات الخاصة أحمد زكي باشا وعبد الحميد بك سعيد، وقد بلغ الأمير في
المحطة أمر الحكومة المصرية إياه بالانتقال منها إلى باخرة الحجاج الأخيرة التي
تبحر في ذلك اليوم 29 ذي القعدة إلى جدة، وأنها أمرت شركة بواخر البوستة
الخديوية التابعة لها بتخصيص مخدع له (قُمْرَة) في الدرجة الأولى منها، وكان
يريد السفر في باخرة البريد في 2 ذي الحجة، فركب الأمير ومن كان ثم من
المستقبلين المودعين السيارات إلى الباخرة توًّا، وذهبت أنا السوق فأخذت له منه
ثياب الإحرام؛ لأنني علمت منه أنه لم يحمل من أوروبا شيئًا من ذلك.
الأمير شكيب أكبر رجال السياسة من زعماء الأمة العربية، وأشهر كتابها
الذائدين عن حوضها والمنافحين عن حقوقها، والعاملين لمصالحها، فالمجاهدون
المخلصون منهم يسرون بلقائه لمجدد مُلك العرب ومجد العرب، وقبلة آمال العرب،
الملك عبد العزيز آل سعود، وتناجيهما في المصالح العربية السياسية والمدنية،
ويرجون من ذلك خيرًا كثيرًا
وللأمير شكيب مكانة إسلامية سامية عند طلاب الإصلاح الديني المدني الذي
يقتضيه هذا العصر من عرب المسلمين، وشعوب عجمهم الكثيرة، ولا سيما الترك
والهنود لما له من خدمة الدولة العثمانية عندما كانت تمثل الزعامة الإسلامية، ثم ما
جاهد به ملاحدة الترك بعد جهرهم بنبذ الإسلام ومعاداتهم بالقول والفعل، ولما له
من الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواقع أخرى كثيرة قد كان آخر ما نشر منها
مقالة الممتع الذي رآه القراء في جزء المنار الماضي، ومن الدلائل على مكانته
الإسلامية إجماع أعضاء المؤتمر الإسلامي العام من جميع الشعوب بمكة المكرمة
في موسم سنة 1344 على اختياره لأمانة السر العامة (السكرتارية للمؤتمر الدائم)
ولم أكن أنا أشد تقريرًا وعناية بهذا الاختيار من الوفود الهندية، ولا سيما الزعيمين
محمد علي وشوكت علي، المناوئين لملك الحجاز ونجد لعدم اتباعه لهواهما، فأهل
الرأي من مسلمي الأقطار المختلفة يسرون برحلة الأمير شكيب إلى الحجاز لأداء
فريضة الحج، ولقائه للإمام المجدد للإسلام، في رحاب تلك المشاعر العظام؛ لأن
شخوص زعماء المسلمين السياسيين وعلمائهم العصريين إلى الحجاز مفيد بما فيه من
القدوة والأسوة الحسنة لأمثالهم المقصرين في أداء هذه الفريضة، ومفيد بما يرجى من
ورائه من التعاون على المصالح الإسلامية، ومن هذا الباب أنه لما شاع في السنة
الماضية أن الإمام يحيى حميد الدين سيحج في موسمها تناقلت هذا الخبر ألسنة
المسلمين وصحفهم وتلقته بالإكبار والإعظام لأمرين (أحدهما) أن ملوك المسلمين قد
تركوا أداء هذه الفريضة منذ قرون عديدة (وثانيهما) حرص مسلمي العالم كله على
اعتصام إمامي الجزيرة العربية وملكي الإسلام المستقلين بعروة التحالف والاتحاد
الوثقى، ورجاؤهم أن يكون تلاقيهما في بيت الله تعالى متممًا لما مهدا له السبيل من
ذلك بالوفود والمكاتبات والهدايا، ومن فضل الله على صاحب هذه المجلة أن كان هو
الساعي الأول إلى ذلك بالمكاتبات والوفود من قبل الحرب الكبرى ومن بعدها، ويليه
فيه صديقه الأمير شكيب.
ومن دلائل اهتمام أهل الرأي والخدمة العامة من مسلمي الشعوب المختلفة،
وعرب الملل المختلفة، بحج الأمير شكيب ورجائهم الخير فيه للملة وللأمة، أنه ساء
دعاة الإلحاد في المسلمين ودعاة الاستعمار في العرب، ولا سيما السوريين من
الفريقين، فنشروا في بعض الجرائد مقالات سخيفة طعنوا فيها على الأمير في دينه،
وفي سياسته، وفي غرضه من أداء الحج، وكان الذي تولى كبر هذه الأراجيف
ذلك القناف النفاج الحسود المدعي للزعامة السورية؛ ولكن بإمضاء ألصق الناس
بخدمته، ولم يصده عن ذلك اشتهاره هو بالدعوة إلى الإلحاد، ونبذ الدين، وتهتك
النساء وغير ذلك، ومما اتهمه به أنه يسعى بحجه إلى جعل الملك عبد العزيز إياه
سفيرًا له في أوروبا! ! وربما كان هذا الملك أشد احتقارًا لهذا التشفي الدنيء فإنه
صار من أعرف الناس بفضائل الرجل، ورذائل حاسده، وقد احتفى جلالته
بضيافته احتفاء يسعر نار الحسد في كبد الحسود.
استقبلت الحكومة السعودية ووجهاء الحجاز الأمير شكيب في جدة، ثم في
مكة أحسن استقبال، فقد خف إلى لقائه في الباخرة الحاكم الإداري (القائمقام) وغيره
من الموظفين والوجهاء، وفي مقدمتهم عين أعيان الحجاز الشيخ محمد نصيف، ثم
قابله جلالة الملك في جدة إذ كان فيها، وبعد أن تمشى مع جلالته سار معه في
سيارته الملكية إلى مكة المكرمة فكانت هذه أول فرصة واسعة للمذاكرة في المصالح
العامة، وقد كتب إليّ جلالته عن هذا التلاقي ما نصه:
(وقد أنسنا بلقاء صديقكم وصديقنا الأمير شكيب أرسلان، وهو كما وصفتم
إخلاصًا وعلمًا وأدبًا) ويعني جلالته بهذا الوصف ما كتبته إليه أخيرًا من أنني لم
أثن له على أحد وهو فوق ما أثنيت ووصفت من كل جهة إلا الأمير شكيب.
وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغَّب إليه أن يبقى لديه في الحجاز دائمًا أو
ما شاء، وطابت له الإقامة ليقوم بما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء
الإصلاح في حكومته، فاعتذر أولاً بوجود أهل بيته في أوربة، قال: نحضرهم إلى
الطائف، فاعتذر بأنه لابد له من البقاء في أوربة لأجل القضية السورية، وبأنه
يخدم القضية العربية هنالك بما شاء جلالته إلا الوظائف الرسمية؛ فإن فكرة
المناصب الرسمية قد خرجت من فكره، فهو لا يقبل منصبًا لا في الحجاز ولا في
أوروبة كالسفارة في بعض العواصم.
بعد هذا زار الملك جدة فذكر في مجلسه الحافل ما نشر في المقطم من اتهام
الأمير شكيب بالسعي إلى نيل سفارة في أوربة - وهو ما أشرنا إليه في المقال -
فغضب الملك، وقال من هذا - يعني صاحب مقالة المقطم - وإيش يكون؟ ؟ ثم أثنى
على الأمير شكيب ثناءً عظيمًا؟ قال في سياقه: والله إن السفارة التي يريدها في
أوربة تكون له بشرط أن يرضى.
ومن أخبار الأمير في الحجاز التي تسر محبيه الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى
أن هواء الطائف قد وافق مزاجه، فزال هنالك ما كان أصابه في أوربة من مرض
الصدر الذي كان فيما يظهر من أسباب ما أنكرته عليه من استطالته لعمره ونعيه
لنفسه، ويسرنا أن ما رأينا عند تلاقينا الأخير في وجهه من الإشراق والبهجة، وفي
حديثه من جرس الصوت وقوة اللهجة، وفي مشيته من النشاط وخفة الحركة، وفي
أكلته من زقم اللقم، وجودة المضغ في غير نهم - ليبشرنا بأنه مستعد لحياة طيبة
طويلة الأجل، إذا لم يجن عليها بالإفراط في الانكباب على العلم والعمل، وفقنا الله
وإياه للقصد والاعتدال، والتوفيق لما يحب تعالى ويرضى من الأقوال والأعمال.
__________(30/157)
ربيع الأول - 1348هـ
أغسطس - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من الشيخ محمد علي اليماني في بيروت
وكان مجاورًا في الأزهر الشريف
مقرونة بأجوبتها
(س 16 - 29)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليه.
(1) هل يجوز للمرأة أن تظهر صوتها ووجهها ويديها وغيرها أمام الرجال
الأجانب والأطباء وغيرهم أم لا؟
(الجواب) يجوز للحاجة المشروعة بقدرها كالتطبب والشهادة والعقود التي
تصح منها، ويجب كشف الوجه والكفين في الإحرام بالحج أو العمرة، ويحرم عند
توقع الفتنة، ويباح فيما وراء ذلك.
2- هل يجوز للمسلمين أن يرسلوا أولادهم إلى المدارس الأجنبية مع وجود
مدارس إسلامية نظامية مستعدة لتعليم أبناء الأمة حسب مبادئ الدين الإسلامي
الحنيف أم لا؟
(الجواب) لا يجوز إلا لطالب راشد متمكن من عقائد الإسلام وهدايته؛ لأن
هذه المدارس الأجنبية تفسد عقائد الأحداث والجاهلين.
3- ما قولكم - دام فضلكم - فيمن يرى عدم لزوم تدريس العقائد والعبادات
وغيرها في المدارس الابتدائية وغيرها، ويرى تدريس الحكايات والقصص
كقصص الأنبياء وأخلاقهم وغيرها فقط، هل هو مصيب أم لا؟
(الجواب) لا، فإن قصص الأنبياء ولا سيما السيرة المحمدية مفيدة جدًّا
ولكنها لا تغني عن معرفة أصل الإسلام وهو عقائده وعباداته وحكمه وآدابه.
4- أي الكتب الدينية الإسلامية أكثر فائدة في التفقه في المسائل الشرعية
الدينية كالعقائد والعبادات وغيرها، مع ملاحظة الشكل التام وسهولة اللفظ والمعنى
لتلاميذ المدارس الابتدائية وغيرها؟
(الجواب) لا أدري فإن الحكم بهذا التفضيل يتوقف على الاطلاع على ما
ذكر وقلما رأيت منها شيئاً وأحسن ما أعرفه منها (خلاصة السيرة المحمدية) إلخ
وكتاب (الدين الإسلامي) لطلاب المدارس الثانوية، وقد طبع الجزء الأول منه،
وكتاب (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) المقتبس أكثره منه.
5- هل يجوز تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية المنصوص عليها في
الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبرين؟ لأن كثيراً من الناس يحاولون تحكيم
العقل في المسائل الدينية فيقبلون منها ما يوافق عقولهم وينبذون ما يخالفها، ولو
كان في ذلك نص أو إجماع أو قياس، فهل هذا يجوز أم لا؟
(الجواب) لا يجوز تحكيم العقل في النصوص القطعية، وإنما وظيفة العقل
فهم العقائد وإقامة دلائلها، والآداب الشرعية ومنافعها، والترجيح بين الأدلة في
الأحكام الاجتهادية التي ليس فيها نصوص قطعية عند المستعد لذلك.
6- هل يجوز حمل ساعة الجيب واليد وغيرها لأجل ضبط أوقات الصلاة
والاشتغال كالمدارس والتجارة وغيرها أم لا؟
(الجواب) يجوز بلا شبهة والسؤال عنه مستغرب.
7- هل يجوز اعتقاد عمل المندل وضرب الرمل وتعليق التمائم وكشف
الضمائر وقراءة الكف وعمل السيمار جميع أنواع السحر من أعمال الطلاسم
وغيرها أم لا؟
(الجواب) لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنها خرافات ومفاسد.
8- هل يجوز التنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح ومخاطبتها شفاهيًّا أو
كتابيًّا؟ وهل هذا ثابت أم لا؟
(الجواب) يجوز إذا لم يكن فيه ضرر ولا معصية ولا خداع لأحد كما يفعل
كثير من الممارسين لذلك، والتنويم ثابت لا مراء فيه. وأما تحضير الأرواح أو
مخاطبتها فله أصل ثابت، وأكثر ما يقال فيه خداع باطل.
9- هل يجوز التقليد والتلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرها في العقائد
والمعاملات والعبادات وغيرها كالوضوء والغسل والصلاة وغيرها أم لا؟
(الجواب) إن جمع الأقوال الملفقة من المذاهب المختلفة للعمل بها تقليدًا
لأهلها عبث بالدين واتباع للهوى، ولكن الذي يتبع قوة الدليل إذا وافق استدلاله بعض
الأئمة في بعض الأقوال، ومن يخالفه منهم في قول آخر ولو في موضوع واحد - لا
يعد ملفقًا ولا مقلدًا.
10- ما الأدلة النقلية والعقلية على افتقار الطبيعة الكونية إلى صانع مختار؟
وما الطبيعة؟ لأن كثيراً من المسلمين تجردوا من الدين واعتقدوها.
(الجواب) الطبيعة الخلقية وهي مؤلفة من مواد ذات خواص وقوى، وفيها
من السنن والنظام الدقيق ما يدل دلالة ظاهرة على أن لها خالقًا قادرًا عليمًا حكيمًا
أزلاً، يمكن أن يكون ما ذكر قد وجد بالمصادفة، ولذلك اتفق جميع البشر ومنهم
العلماء والحكماء من الشعوب القديمة والحديثة على وجود خالق للخلق، وإنما شك
أو شكك في ذلك أفراد من الماديين بضروب من الشبهات والجدل وحسبك من الأدلة
قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) فهو أصح النقل
وموافق لأصح براهين العقل.
11- ما الروح وما أدلة وجودها النقلية والعقلية؟
(الجواب) الروح من عالم الغيب لا تُعْرَف إلا بآثارها وبأخبار الرسل عنها.
وأقوى الأدلة العلمية العصرية عليها أن جسم الإنسان ومنه دماغه يفنى مراراً ثم
يتركب من مواد جديدة ومع هذا تظل معلوماته ووجداناته الكثيرة التي أدركها قبل هذا
الانحلال والفناء المكرر محفوظة ثابتة في نفسه، فلو كان الإدراك من وظائف
الدماغ كما يزعم الماديون لزال بزواله في كل مرة ما كان انطبع فيه. ومستحضرو
الأرواح ومدركوها من أفراد البشر قد أدركوا من آثارها ما لا يدركه غيرهم، وقد
كثروا في هذا العصر والمصدقون لهم يزدادون في كل يوم بحيث يقل المنكرون إلى
أن يضمحلوا.
12- ما الدليل على وجود الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث الجسماني
نقلاً وعقلاً؟
(الجواب) العقل لا يمكنه أن يستدل على وجود هذه الأشياء وكلها من عالم
الغيب إلا من طريق كونها مما يقتضيها عدل الله وحكمه بين عباده وحكمته في
خلقهم مستعدين لحياة أبدية. وأما أدلتها النقلية فهي النصوص الكثيرة في كتاب الله
تعالى.
13- ما حكم من استخف واستهزأ بالعبادات كالصلاة والمصلين ولو على
سبيل المزاح؟
(الجواب) الاستخفاف والاستهزاء بالعبادات القطعية كالصلاة لا يكون له
سبب في الغالب إلا عدم الإيمان بها، فحكم فاعله - إن كان مسلمًا في الأصل -
حكم المرتدين، ولكن بعض المزاح في ذلك لا يقصد به الاستخفاف والاستهزاء.
والعبرة في الحكم المذكور قصد فاعله، وأقل ما يقال في المزاح المشتبه: إنه مكروه
أو حرام.
14- المرجو بيان أسماء الكتب التي خصصت في بيان حكمة التشريع
الإسلامي مما يناسب عصرنا الحاضر لا سيما في معترك الضلالات والزيوغ،
وتفضلوا بالجواب
(الجواب) لم أطلع على كتاب يعجبني في ذلك مما يوافق حاجة هذا العصر،
ولكن في المنار وتفسيره الشيء الكثير من ذلك، ولعلنا نوفق لجمعه، أو تأليف
كتاب مستقل طالما فكرنا فيه.
_____________________(30/185)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة أخرى من صاحب الإمضاء في بيروت
(من س 30 - 34)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني رافع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليها:
1- هل تحسين الثياب والهندام والتطيب بالروائح الزكية مع التواضع وحسن
الخلق ينافي الزهد والتقوى أم لا؟
2- هل يجوز تعليم النساء دق العود والبيانو وغير ذلك من أنواع آلات
الموسيقى أم لا؟
3- هل يجوز للرجل أن يسمع الغناء وصوت العود والبيانو وغير ذلك من
المرأة الأجنبية أم لا؟
4- هل تقبل توبة التائب إذا تاب من الذنوب الصغيرة والكبيرة كالقتل والزنا
واللواط وشرب الخمر والديون والسرقة والخيانة والكذب والغش والظلم وغير ذلك
ولا يعذب في القبر ولا في الآخرة أم لا؟
5- أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا لفظ التوبة، وهل تصح بكل لفظ أم لا؟
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... عبد القادر البعلبكي
... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت
(ج س الأول وهو 30 من باب الفتوى) تحسين الثياب والهندام والتطيب
من أمور العادات المستحبة إذا لم يكن فيه محرَّم كثوب الحرير الخالص، أو مكروه
كثوب الشهرة، وهو لا ينافي الزهد؛ لأنه عمل قلبي ولا التقوى لأنه لا معنى لها
في هذا الباب إلا اتقاء الحرام.
(ج 31) من يعتقد أن العزف بما ذكر من المعازف محرم تقليدًا لمن
يقولون بذلك وهم جماهير فقهاء المذاهب المتبعة - يلزمه تحريم تعليمه للمرأة، ومن
لا يعتقد تحريمه لعدم صحة الدليل عليه عنده أو لترجيحه رأي من أباحه من فقهاء
الحديث والصوفية بشرطه - لا يرى بأسًا بتعليمه لامرأته أو محرمه لأجل ترويح
النفس به في بيته مثلاً، وظاهر أنه يحرم تعليمه لامرأة تريد أن تكون مطربة
للسكارى والفساق أو يظن ذلك فيها، ومثل ذلك تعليم المرأة الأجنبية المستلزم
للخلوة بها أو رؤية ما لا يحل للرجل رؤيته منها، وكل ما هو سبب للافتتان بها.
(ج 32) في الجواب عن السؤال الذي قبل هذا ما يعلم منه جوابه، ومنه
أن حضور معاهد الغناء والعزف والسكر المشهورة في مثل مصر وبيروت حرام.
(ج 33) التوبة واجبة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، ومتى كانت
صحيحة نصوحًا كانت مرجوة القبول، ولكن حقوق العباد لا تُغفر بالتوبة وحدها،
بل لابد معها أو لصحتها من ردها إلى أصحابها إن كانت أعيانًا أو إرضائهم في مثل
الغيبة.
فعلم من هذا أن من كان لأحد عليه مال أخذه منه بغير حق كالسرقة والخيانة
والغش والدَّين الربوي وغيره؛ فإن توبته لا تصح من هذه الذنوب إلا إذا أرجع هذا
المال إلى صاحبه أو لورثته من بعده، فإن تعذر ذلك بانقراضهم أو عدم العلم بهم
فليتصدق بذلك المال، وإلا كان غاشًّا نفسه وخادعًا لها بدعوى التوبة، ولا يمكننا
في جواب هذا السؤال أن نبين حقيقة التوبة وشروطها بالتفصيل، فعلى الصادق
فيها أن يراجع هذه الأحكام في الكتب الخاصة بذلك، ومن أهمها كتاب الزواجر
لابن حجر المكي الهيتمي وأول الجزء الرابع من الإحياء للغزالي ومدارج السالكين
لابن القيم.
(ج 34) التوبة ليست أمرًا لفظيًّا فيصح السؤال الأخير: هل تصح بكل
لفظ أم لا؟ وإنما هي أعمال نفسية وبدنية من فعل وترك، والمشهور عند العلماء
في تعريفها أنها مركبة من ثلاثة أشياء (1) الندم على ما كان من اقتراف الذنب
في الماضي (2) تركه في الحال (3) العزم على عدم العودة إليه في المستقبل،
والغزالي يقول: إنها حقيقة مركبة من علم وحال وعمل، أما الأول: فالعلم بما ورد
من الوعيد على الذنب وكونه سببًا لسخط الله وعقابه، وأما الثاني فهو الحال
الوجدانية التي يوجبها هذا العلم أي الخوف من سخط الله وعقابه، وأما الثالث فهو
العمل الذي يوجبه هذا الحال، وهو ترك الذنب أو الذنوب إن كانت متعددة مع
العزم على عدم العودة إليه، والاجتهاد في إزالة أثره من النفس بالعمل الصالح
المضاد له ... إلخ.
__________(30/187)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجمع بين آيات القرآن والأحاديث وأخبار الدول في الكتب
(س35) من صاحب الإمضاء في دبي - على خليج فارس.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الفاضل العلامة الذابّ عن الدين طعنَ الزنادقة والملحدين، والناقد
للمرويات عن سيد المرسلين، السيد محمد رشيد رضا (رضي الله عنه وأرضاه)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد لازال يخطر ببالي وتجول في فكري من
جمعكم في المنار الأغر بين الآيات الكريمة والتفسير والأحاديث النبوية، وبين أخبار
دول أوربا وحوادث أمريكا، فهل الجمع بين ذلك يؤدي للإهانة بالقرآن (كذا) العظيم
وكلام النبي الكريم أم كيف؟ الرجاء كشف ذلك، السائل مسترشد والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المشترك
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن حسن
(ج) هذا السؤال غريب جدًّا، وتوجيهه إلي من هذا السائل الذي وصفني
بما وصفني به قبل السؤال أغرب، وأقول في جوابه (أولاً) إن إهانة القرآن
والأحاديث النبوية لا تقع من مؤمن بكتاب الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن
وقع منه مع اعتقاده بأنه إهانة حكم بكفره، فكيف يقع ممن نصَّب نفسه للدعوة إلى
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والذب عنهما؟ (ثانيًا) إن الجمع بين
الآيات والأحاديث وأخبار الأمم مؤمنها وكافرها موجود في القرآن نفسه، وفي كتب
الحديث والتفسير والتاريخ التي ألفها كبار علماء الإسلام، ولم ينكر ذلك أحد في يوم
من الأيام، بل نجد بعض كبار المفسرين حتى أنصار السنة منهم كالبغوي يذكرون
في تفاسيرهم من الخرافات الإسرائيلية الموضوعة والضعيفة ما هو أولى بالإنكار
من ذكر أخبار الدول والأمم الصحيحة، وقد كان عملهم هذا ضارًّا، ولكن لا وجه
لعده إهانة لكتاب الله (ثالثًا) إن ما نذكره نحن في المنار من أخبار دول أوربة
وغيرها نختار منه الصحيح الذي فيه عبرة للمسلمين أو دفاع عنهم وعن بلادهم،
أو تأييد للإسلام نفسه أو ذب عنه - كما يرى السائل وغيره في هذا الجزء - وكل
ذلك مما نرجو أن يثيبنا الله عليه.
***
هل المجذوب ولي أو مجنون
(س36) من أحمد محمد ثابت بالبطن تبع أبي عموري
إلى حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا:
ألتمس من فضيلتكم البيان الشافي في عدد من أعداد مجلتكم الغراء عن أمر
لُبِّس علينا: سمعنا كثيرًا من الناس يجزمون بأن المجذوب ولي بغير عمل لأنه
جذب من صغره في حب الله، وقد صح حديث (رُفع القلم عن ثلاث: النائم حتى
يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ) ، وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس:
62-63) .
فلذا اشتبه علينا لهذه الآية الكريمة، ولهذا الحديث الشريف أمر المجذوب هل
هو ولي أم لا؟ مع كونه رُفع عنه التكليف؟ وإنا نرى أن الولاية مقام كبير فلهذا لا
نعترض خوفًا من الخوض، وهل عند أرباب الطرق شيء صحيح ورد فيه شيء
عن النبي أم لا؟ أفتونا في ذلك مأجورين بارك الله فيكم وعليكم ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد
(ج) الولي في عرف الشرع المؤمن المتقي لله تعالى، والآية التي ذكرتموها
نص في ذلك، وفي اصطلاح الصوفية تفصيل لهذا الإجمال. في تعريفات السيد
الجرجاني: الولي: فعيل بمعنى الفاعل، وهو مَن توالت طاعته من غير أن يتخللها
عصيان، أو بمعنى المفعول وهو من يتوالى عليه إحسان الله وإفضاله، والولي هو
العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المجتنب عن
المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات اهـ.
وقد عرَّفوا الجذب الخاص عندهم بأنه جذب الله تعالى عبدًا إلى حضرته،
وقالوا: المجذوب من ارتضاه الحق تعالى لنفسه، واصطفاه لحضرة أنسه، وطهَّره
بما قدسه، فحاز من المنح والمواهب، ما فاز به بجميع المقامات والمراتب، بلا
كلفة المكاسب والمتاعب اهـ، يعنون بهذا أن الأحوال والمقامات التي تُنال بسلوك
طريق المعرفة بالتدريج والتنقل في المنازل قد تحصل لبعض الناس دفعة واحدة من
غير طول مجاهدة للنفس بالرياضة والأوراد، وهذا أمر ممكن وواقع إلا أنه نادر،
وإنني أعرف رجلاً كان ملحدًا بشبهات طرأت عليه من اشتغاله بالفلسفة فمرض
مرضًا لم يشف منه إلا وقد شفي من داء الإلحاد، فصار صحيح الاعتقاد محافظًا
على الصلوات، متورعًا عن الشبهات، أمارًا بالمعروف، نهاء عن المنكر، رحمه
الله تعالى، وأكثر من كانوا يعدون من المجاذيب عقلاء علماء حكماء، وإنما كان
من غلو بعضهم في الزهد والعبادة والقشف أن عراهم من الشذوذ ومخالفة
جماهيرالناس في آدابهم ومجاملاتهم ما يعد وسوسة وخللاً أو جنونًا (والجنون فنون)
وكانوا يسمونهم الموسوسين، ويعبرون عنهم بعقلاء المجانين، لما يصدر عنهم
من الحكم والمواعظ المعقولة أحيانًا، ومن الشذوذ أحيانًا، وقد يصل بعضهم إلى
درجة الجنون المطبق بحيث يؤذي الناس، فعند ذلك يُشد ويلقى في البيمارستان.
وقد غلا بعض ناشري الخرافات من المتصوفة كالشيخ الشعراني فصار يطلق
اسم المجذوب الإلهي والولي على المعتوهين في أصل خلقتهم، وعلى الدجّالين
والأدعياء المتبالهين، واشتهر هذا بين الناس فصار سمت الولي وشعاره عندهم
الوساخة والقذارة والهذيان وكشف العورة وفحش القول، كالذين نراهم يطوفون
حول الأضرحة المعبودة وهياكل الوثنية المشهورة، وإنما هؤلاء مجاذيب الشيطان،
وأولياؤه لا أولياء الرحمن.
***
يوسف نجم: علمه وأين تعلم؟
(س37) من تاجر مسلم في هفانا
ذكرنا في ص 800 من المجلد التاسع والعشرين أن تاجرًا مسلمًا كتب إلينا
كتابًا من هفانا يذكر فيه أن رجلاً اسمه يوسف نجم يكتب مقالات متتابعة في جريدة
مرآة الشرق العربية السورية التي تنشر في (نيويورك) يطعن فيها على الإسلام
ومذاهبه وأئمته وأشهر رجاله المصلحين في هذا العصر، وقد سألنا هذا الكاتب:
هل تعلم يوسف نجم هذا في الجامع الأزهر أو في غيره من المعاهد الإسلامية وما
درجة معارفه الدينية ... إلخ، وقد وعدنا في خاتمة ذلك المجلد بأن ننشر سؤاله في
باب الفتاوى ونجيب عنه، ولكننا نسينا أن نضع الكتاب في أضبارة كتب الأسئلة؛
لأننا كنا نعده من الرسائل الخاصة، فصار يشق علينا البحث عنه في أنواع الكتب
الأخرى من أدبية وسياسية وشخصية وغيرها، ولما كان السؤال والمسئول عنه
ليس بذي بال ولا شأن كالأسئلة العلمية والدينية رأينا أن نفي بالوعد بالقدر الذي
نرى أنه يفي بالفائدة فنقول:
إننا قرأنا من تلك المقالات ما علمنا به أن كاتبها عامي لم يتعلم في المدارس
الدينية كالأزهر، ولا في المدارس المدنية، وإنما جل ما حشي به دماغه أمشاج من
الصحف المنشرة وبعض القصص والرسائل التي يخلط فيها العلم بالجهل، والحق
بالباطل، وقد حفظت قصاصات من مقالاته لا أرى الآن حاجة إلى مراجعتها.
والدليل على ذلك كثرة الغلط الفاحش واللحن الفاضح في عبارته والتعارض
والخلط في موضوعاته، مثال ذلك أنه يذكر الخلاف بين إمام اليمن والسيد
الإدريسي حاكم عسير بما يدل على أنه لا يعرف مذهب كل منهما، ولا مركز ولا
وجه الخلاف بينهما وينكر على صاحب المنار أمورًا يعزوها إليه، وفي تفسيره
ومجلته ضد ما يعزوه إليه كزعمه أنه يتعصب لمذهب الأشعرية على ما اشتهر به
من الدعوة إلى مذهب السلف الذي كان عليه علماء الصحابة والتابعين قبل وجود
الأشعري ومذهبه، وعلى ما في تفسيره من الرد على الأشعرية وإمام نظارهم فخر
الدين الرازي، ولكن هذا العامي لم يقرأ ما كتبنا ولو قرأه لما فهمه.
فيوسف نجم هذا عامي جاهل بالإسلام ومذاهبه وتاريخه، وهو بغيره أجهل
وهو يكتب ما تمليه عليه خواطره من غير علم ولا فهم، ويزعم أنه يدعو فيما
يكتبه إلى مقاومة التعصب الديني والمذهبي والاتفاق بين أهل الأديان والمذاهب
المختلفة، وهي دعاية فلسفية اجتماعية دعا إليها بعض الحكماء وكبار الكتاب على
علم وبصيرة يرجى تأثيرها في المستعدين لها، وإنما حظ هذا العامي المسكين منها
التقرب إلى المتعصبين من النصارى بالطعن في الإسلام وكبار علماء المسلمين
وكتابهم وزعمائهم لمنافع له يرجوها من هؤلاء المتعصبين فيما يظهر.
وقد كان كتب إلينا بعض الفضلاء يوجبون أن نرد عليه ولو فيما يفتريه علينا،
وما كنا نجيب طلبهم لقلة الاهتمام بمثل طعنه الجهلي، والرد عليه يرفع قيمته إلى
جعله مناظرًا يُرد عليه؛ ولكننا لما رأينا هذا التاجر السليم الفطرة يظن أنه على
شيء من العلم كتبنا هذا، ولعلنا نجد فرصة أخرى نراجع فيها بعض قصاصات
مقالاته من مرآة الغرب، وننشر للقراء نموذجًا منها للعبرة والفكاهة.
__________(30/189)
الكاتب: عجاج نويهض
__________
هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم؟
محاضرة ألقاها الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية بالقدس،
ونشرتها جريدة الجامعة العربية فيها وهي جديرة بأن يتدبرها كل مسلم، ولا
سيما المغرورين بالصحف المصرية الإلحادية ومقلديها في البلاد العربية، ولذلك
نشرناها برمتها مع تصحيح لفظي قليل فيها، قال نفع الله به:
جدير بنا، ونحن في دور انقلاب عظيم لم يشهد له فيما مضى من تاريخنا
مثيلاً، أن نقف ونتفكر قليلاً على نور العلم الصحيح، هل ما نراه اليوم من تبدل
في جميع أوضاعنا الاجتماعية والدينية، هو تبدل جارٍ على سنته الطبيعية،
ومشتق من الحاجة الحقيقية في نفوسنا، تحركه عوامل سليمة، وتدفع به نحو غاية
معينة، بحيث نستطيع أن نعرف ونحن وسط هذا الانقلاب ما كنا عليه البارحة وما
نحن عليه اليوم، وما سنصير إليه في الغد؟ أم أن هذا الانقلاب يرافقه طغيان من
على جوانبه، وتتخلله عناصر سقيمة، لا هي وليدة الحاجة بالذات، ولا هي مما
ترمي البصائر الصحيحة إليه؟
فإن أممًا كثيرة اجتازت مثل هذا الدور قبلنا، وبلت من أمر الانقلاب أمورًا
وافرة حتى استطاعت أن تعلم بالخبرة واليقين ما يتمشى مع مصلحتها ويتلاءم مع
غرضها، فحري بنا أن نأخذ العبرة من تاريخ تلك الأمم، وهذا يفرضه علينا العلم
على كل حال؛ لأن نهضة تناوحت رياحها في جميع الأجواء، واتسع مجالها حتى
شمل جميع مناحي الحياة، تدعونا إلى أن ننظر فيها نظرة سليمة حتى تمكن الدلالة
على الخير منها، فيؤخذ ويثابر عليه، وعلى الشر فينهى عنه ويتنكب الناس
طريقه.
والحالات السياسية التي قامت في فلسطين وسورية والعراق والجزيرة بعد
الحرب العامة، لا يجب أن تكون مانعًا يمنع توحيد المصلحة العامة في الأمور
الاجتماعية والدينية والثقافية لجميع الأمة العربية على محور واحد؛ لأن القوة التي
نراها اليوم تتبدد وتتلاشى في الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية، هي قوة عامة
مشتركة بين جميع الأمم الإسلامية، فبفقدانها يفقد المجموع قوته، ثم تفقد الفروع
قوتها لانقطاعها عن الأصول، ولانفرادها في العناصر الحيوية التي تستمد من
المجموع قوتها وسبب حياتها.
وهذا يعرف ويسلم به لأنه هو الأمر الواقع، فكل قوة من قوى الإسلام، إذا
عراها الضعف اليوم وتسلط عليها الانحلال، تصبح قوة الإسلام من حيث مجموعها
ضعيفة، ثم لابد بعد ذلك من أن ينزل الضعف بالأمة العربية نفسها، فتندم ولات
ساعة مندم.
ولعله من المفيد أن يشار ولو على وجه الإجمال والتقريب إلى مواطن الانفعال
في هذا الانقلاب فنقول فيه:
أولاً: الانقلاب في مصر، وما يكون له من الصدى والأثر في نفوس الأقوام
العربية شرقي مصر وغربيها في الدرجة الأولى، وفي سائر الأمم الإسلامية
القاصية والدانية في الدرجة الثانية، ووسائل الكتابة والنشر والمواصلات، كل ذلك
مما يسهل بلوغ ذلك الصدى والأثر إلى أقصى حد، فيظهر في القاهرة رأي شاذ
مثلاً يحمل صبغة الخروج على سنة من سنن الإسلام، أو على عقيدة من عقائده،
أو على وضع من أوضاعه، أو على ثقافته العامة، أو على تاريخه - فلا يلبث ذلك
الرأي أن ينتشر في الآفاق، ويقبل عليه جمهور المقلدة من النشء المتعلم، وينتحله
على وجه التباهي به، ثم يأخذ بعرضه على الناس من قبيل حب الظهور، حتى
إنكم تجدون فريقًا من المنتمين إلى الدين؛ ولكنهم على جمود مطلق يصطفون مع
فريق المقلدين من المتعلمين ويغترفون من ذلك الرأي المطير من القاهرة، بإحدى
الجرائد اليومية، أو بمجلة أسبوعية أو شهرية، أو بكتاب يحمل سمة جديدة وكلمة
تدل على ما يفيد أنه قد كُتب بروح (العلم) فالمنزلة التي تتبوءها مصر اليوم في
هذا الانقلاب بمطابعها وجرائدها ومجلاتها منزلة عظيمة قوية سواء كانت للشر أو
للخير [1] .
ثانيًا: في كل بقعة إقليمية موضعية، كفلسطين لوحدها، وسورية لوحدها،
والعراق لوحده، جو انقلابي مستمدة قوته من الروح الموضعية بطبيعة الحال،
ومن التأثير الذي يأتي من مصر، وهذه النزعة الموضعية إذا نظر فيها على حدة
في كل بلد من البلاد المذكورة، وجد أنها تمثل حالة في الانقلاب الاجتماعي
والديني والثقافي على نسق (ملوك الطوائف) ولأن حركة النشر والطباعة في هذه
الأقطار الثلاثة من سورية وفلسطين والعراق، ليست متوفرة كتوفرها في مصر؛
ولأن البيئة الموضعية ليست زاخرة بالعمران الاجتماعي كما في مصر، فلذلك لا
ترى عناصر التقليد عاملة بنشاط كما في مصر من الجهة المحسوسة؛ ولكنك تجد
في النفوس استعدادًا ليس بالقليل للسير على منهج التقليد، ويتجلى هذا بأحاديث
المجالس وتبادل الرأي والمشاورة، والأبحاث التي تسقط عليك مصادفة ومن غير
قصد.
ثالثًا: هناك جو عام يوحي بالجديد في كل شيء، وهذا الجو ينتشر تارة من
أنقرة ومن فيها، وطورًا من كابل، وأخرى من طهران، وأخرى من الينابيع
الأجنبية الواردة في أكياس البريد التي تحملها البواخر الأجنبية وتفرغها في المرافئ
كل يوم أو كل اسبوع، ومن المدارس الأجنبية المشيدة في نقاط معينة في البلاد.
الخوف على الإسلام والرجاء فيه:
من الضروري أن يُشار إلى نوع القضية التي يُراد علاجها، وهذه القضية
هي أن الإسلام بقواه الاجتماعية والدينية في مأزق حرج، وهناك قوى آخذة بدفعه
من على جرف هارٍ إلى الهوة السحيقة، وهناك قوة أصلية أولية آخذة بتمكينه في
الأرض من جهة، وبِرَدِّ العادية عنه من جهة أخرى، وهذه العادية كان ينظر إليها
حتى زمن قريب أنها آتية من الخارج، ولكن ظهر إلى اليوم أنها نشأت في الداخل
أيضًا، وأصبح الجسم عليه أن يقاوم ما به من ميكروب يسري فيه داخلاً، وأن
يطرد عنه ما ينزل به من شر خارجي، وإذا أُريد تحديد الزمن الذي عُرف فيه أن
للإسلام أعداء منه في الداخل، فيمكن أن يُقال إن فكرة الإسلام ظلت قوة مجموعة
تعمل لحفظ ذاتها وتقوية وجودها، إلى أول الحرب العامة، أو بتعبير آخر إلى
انهيار السلطنة العثمانية.
ففي أقل من عشرين سنة ظهرت أفكار وآراء من المسلمين الخارجين على
الإسلام، هي من التطرف وحب الهدم والانتقاض والتخريب، بحيث تمثل من هذه
الروح أضعاف ما ظهر من هذا النوع من التطرف في الثورات الأوروبية التي
جاوزت الحد تطرفًا وغلوًّا، كالثورة الفرنسية مثلاً، حتى أن البلشفية نفسها أخذت
أخيرًا تتلمس طريق الاعتدال شيئًا فشيئًا، فالمسلم الخارج على الإسلام وتاريخه
وثقافته ولغته، ترى في نزعته الغلو أكثر مما ترى في عشرة أو عشرين أو مائة من
الذين أظهروا الغلو في (دور الرعب) من الثورة الإفرنسية، أو في هذا الدور
البلشفي الحاضر.
وإذا أُريد حصر القضية في أضيق الحدود، أمكن أن يقال (هل يستمر
ضعف الإسلام الحالي أو تنقلب حاله إلى القوة الصحيحة؟)
وإذا أريد حصر أسباب التأثير وعناصره في أقل الكلام، أمكن أن يكون ذلك
على هذا الوجه:
1- مطبوعات مصر على اختلاف أنواعها ودرجاتها.
2- المطبوعات الأجنبية التي ترد من أوربة بطرق شتى، وهذا النوع من
المطبوعات (وإن كان يرد بلغات أجنبية ويطالعه فريق قليل من أبناء هذه البلدان)
تأثيره واسع المدى لإقبال النشء على الكتب الأجنبية والنظر فيها والنقل والاقتباس
منها، زد على هذا أن هذا الفريق يجري على طريقة التلقيح الفكري أي أنه متى
قرأ شيئًا في كتاب أجنبي أو اطلع على رأي غريب، ولا سيما متى كان لتلك المادة
علاقة بالشعوب الإسلامية، أو بالإسلام، أو بالتاريخ الإسلامي، وبالانقلاب الحالي -
سارع إلى نشرها في الجمهور، تحت ستار العلم والمعرفة.
3- (روتر) و (هافاس) وما أدراك ما روتر وهافاس؟ هما الوسيلتان
اللتان تجبران القارئ أن يتلو بلهفة وتعطش نبأ سباق الكلاب في بلاد الإنكليز،
ونبأ الفرقة التي فازت في لعبة الغولف، ونبأ خروج القطار عن الخط الحديدي في
أقصى شمال أوربة، من حيث تحرمان القارئ أن يطلع على كل شيء فيه إظهار
الحقيقة من ظهور حركات صالحة في الإسلام وقيام جماعات أو أفراد أو زعماء
بنهضة قومية أو وطنية على وجهها الصحيح، وإذا نخلت جميع الأنباء التي
يطيرها روتر وهافاس من الشرق إلى الغرب، وجدت أن الكثرة المطلقة من تلك
الأنباء قلبت رأسًا على عقب، أو شُوهت أو صُرفت عن معناها الحقيقي، أو أُلبست
لباسًا غير لباسها.
4- المدارس الأجنبية، وخبر هذه المدارس والقائمين بأمورها والعاضدين لها
خبر طويل معلوم عند الجميع، وسيأتي شيء من الكلام على هذا.
النقد العصري وتأثيره في العالم:
ومن الضرورة بمكان من الوجهة العلمية الصرفة أن نُلم بحقيقة كبيرة منتشرة
في أرجاء العالم بعد الحرب العامة، وهي أن النقد بجميع ضروبه ومختلف أنواعه،
هو على الأكثر نقد هادم ناقض، لا نقد إنشائي بنائي، ويُراد بكلمة (نقد) جميع
ما يخرج من الآراء في المطبوعات المتنوعة، وما يجاهر به جماهير الكتاب
السياسيين وغير السياسيين، مما يدل على السخط والنقمة والتبرم، ومما يبعث في
جو العالم روح الانتقاض وطلب التبديل والتغيير، ومما ينفث في شرايين الفكر
الإنساني حب التطور على وجه السرعة والانفلات من الماضي.
إن هذا النوع من النقد الهادم الناقض على هذا الوجه، قد تفشى في أكثر
مناحي الحياة الاجتماعية والأدبية بعد الحرب فضلاً عن السياسة، حتى إن الأمم
التي هي أعرق أمم الأرض في التقاليد الموروثة ورعاية السنن القديمة في أصول
حياتها، قد هبت عليها عواصف كثيرة من هذا النوع، واجتاحت من قواها
الاجتماعية ما ليس بالقليل.
والسبب الأول في حصول هذه الظاهرة الكبيرة من النقد الهادم بعد الحرب
العامة، هو أن الحرب الكونية قد أورثت نفسية الأمم شيئًا كثيرًا من الكرب
والضعف، وخرجت نفسية الفرد من الحرب وهي على نصيب وافر من التمرد
والعصيان على النظم القديمة التي كانت منذ زمن بعيد ولم تزل هي الأصول التي
تتغذى منها الأمم في حياتها الاجتماعية، ولم يقصر أمر التأثر بهذه الروح الهادمة
على الأمم التي اشتركت في الحرب واكتوت بجمرة مصائبها، بل شملت تلك الروح
أغلب العالم على الإطلاق، ولكن على تفاوت بين أمة وأخرى.
وليس من الصعب أن يلمس الإنسان روح هذا النقد الهادم في كثير مما
تخرجه المطابع في الشرق والغرب، ومما ينشره كثير من المنتظمين في سلك
رجال الفكر والرأي في العالم، والأمم من حيث حب تقليد ضعيفها لقويها في مناحي
الحياة: تجري على سنة اجتماعية كما وصفها ابن خلدون وأسهب في الكلام عليها.
وليس من الصعب أن تدرك السبب الحقيقي فيما ظهر إلى اليوم، وفيما قد
يظهر في مصر من آراء التطرف الهادمة، وضروب النقد الناقضة لأصول القديم
برمته، والداعية على وجه الغلو الشديد إلى قلب النظام الاجتماعي في مصر والعالم
العربي المجاور، على أن الفرق الجوهري بين ما ظهر في جو مصر من هذا
النوع من النقد الملبس لباس العلم على غير سداد وحكمة، وبين النقد الذي في
أوربة، هو أن النقد المصري يجب أن يعتبر فيه شيئان وهما:
(أولاً) أن هذا النقد ولا سيما الذي ظهر ثورة وانتقاضًا على تراث المدنية
الإسلامية بوجه الوضوح والصراحة، هو نقد تقليدي في مصر، ونشاط العاملين
على هذا النقد هو نشاط تقليدي للنقد الشائع في العالم عامة، فكما ظهر في البلدان
التي ليست هي في المرتبة الأولى من المدنية والحضارة جماعات دعت إلى الهدم
بدعوى فناء القديم ووجوب مماشاة الجديد، فكذلك ظهرت في مصر دعوات مثل
تلك وعلى غرارها، أضف إلى هذا أن جمهرة المتعلمين من المصريين يحملون
نزعة الثقافة الفرنسية موسومة بذلك الميسم الخاص، ومن المعلوم أن الأمة
الفرنسية تختلف عن غيرها اختلافات جوهرية لا محل لذكرها الآن.
(ثانيًا) أن الجماعات الداعية إلى الهدم والنقض في البلدان الأوربية وغيرها
هي على الأكثر منغمسة في درس ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بمعنى أن الجديد
الذي يطلبونه، والنظم التي يريدون نقضها وإحلال غيرها محلها، كل ذلك يقولون
فيه إنه مكسب لهم القوة والملاءمة العصرية لحياتهم هذه؛ لأن نظمهم التي يثورون
عليها قد بلي أكثرها، أو بليت كلها بحيث أن الحياة اليوم لابد لها من خلع القديم
وارتداء الجديد، وهم في ذلك على تفاوت ودرجات.
وأما النقد الذي ظهر في مصر إلى اليوم انتقاضًا على الموروث من الثقافة
العربية الإسلامية أدبًا وتاريخًا واجتماعًا، فهو انتقاض مُذهِب للقوة في مجموع
الأمة المصرية نفسها، والأمم التي تقلدها في العالم العربي الإسلامي؛ حتى إن
الغالين من الناقدين المصريين يدعون إلى الثورة فورًا على النظم الاجتماعية وعلى
قتل الثقافة الموروثة، فهم بهذا عاملون على إفناء القوة التي في الأمة المصرية
وفي الأمم الأخرى دون أن يكون من الممكن إيجاد قوة أخرى تحل محل القوة
المنتقض عليها، وهذا النوع من الانتقاض تنافيه مصالح هذه الأمم في حياتها
الاجتماعية والثقافية، ثم إن العلم نفسه لم يظهر إلى اليوم أنه معوان لأولئك الناقدين
فيما يدعون إليه ويعملون له.
بعد هذا ينبغي لنا أن نسأل في وسط هذا الانقلاب، هل هو واصل إلى
الروح الدينية فيُحْدِث فيها إيهامًا أو جروحًا وثغرات في مواضع، ويصادمها
مصادمة عنيفة في مواضع أخرى، جريًا مع التيار الانقلابي الحادث في أوربة؟
من الواجب أن نتدبر بغاية العناية حقيقة الانقلاب الروحي في أوربة وأمريكا،
وأن نعرف مسيره، ونستشف من ذلك مصيره، بما يظهر في التيارات الحالية
من نزعات واتجاهات ظاهرة فيها الأدلة والبراهين، وأما المسارعة إلى الإكبار
والإعظام لكل نزعة ينشرها مقلد تارة تحت لباس العلم، وأخرى لحب الشهرة
والظهور، وأخرى انسياقًا بعامل حب الهدم والتخريب، فهذا ليس من شأنه أن
يجعل الانقلاب الحالي في هذه البلاد والبلاد المجاورة يسير سير صحة وسلامة إلى
مستقر الخير والنجح، والحكمة تحتم علينا أن نزداد عبرة وتبصرة بالحال، فكما
أن المريض الذي يتثاقل عن الأخذ بأسباب علاجه يُسبِّب لدائه تمكينًا، فكذلك
السكوت والصمت والتهاون والجبن في هذه الأيام إزاء الأضرار التي تدس في
نواحي النهضة الحالية موجب لاستشراء الداء، وسيحل بكثير من الأقوام الندم،
ولات ساعة مندم.
ونظرة عامة تُلقى على الحالة الانقلابية الروحية اليوم في أوربة وأمريكا -
على شريطة أن تُلقى هذه النظرة على ضوء العلم ومصباح الحقيقة بعيدة من
المكابرة، وبريئة من العاطفة الكاذبة - تكون معوانًا كبيرًا لنا في أن نتفهم الحقيقة
كما هي، فيسهل علينا بعدئذ القياس ووضع الشيء في محله.
العالم النصراني وتأثير الحرب فيه:
إن تقسيم العالم المسيحي اليوم إلى كاثوليكي أو لاتيني، وبروتستانتي،
وأرثوذكسي، ليس تقسيمًا مسلحًا بحدود منيعة تمنع انسياب العوامل الجديدة من قسم
إلى آخر، بحيث ترى النزعات الجديدة في المسيحية تهب في بلد ثم تنتشر في
كثير من أصقاع العالم المسيحي دون تهيب الحدود الكاثوليكية أو البروتستانتية أو
الأرثوذكسية.
لما فتقت ريح الحرب العامة، وهاجت في أوربة روح الدفاع الوطني،
وجدت الكنيسة نفسها أمام تيار جارف يدعو إلى الحرب والقتال، وهي تدعو إلى
السلم والوئام؛ ولكن سرعان ما طأطأت الكنيسة رأسها إلى نفير الحرب فتحولت
منابرها عن الدعوة إلى عبادة الله، إلى دعوة التجند والدفاع عن الحدود الإقليمية
للوطن.
ولما ألقت الحرب بكلكلها، وصارت الألوف والملايين تجندل في الأراضي
الأوربية، صارت الكنيسة ترافق الجيش، وتذكي فيه القوة الروحية، فأصبح
الجندي يقاتل وأكثر إيمانه أنه يقاتل في سبيل غاية قدسية هو مجاهد فيها، وعدوه
كافر مبطل؛ ولكن على كل حال ما لبثت الكنيسة أن وجدت أن القوة الروحية في
الجيش واهية متزلزلة إلى حد بعيد، فقامت (الكنائس الحرة) في بلاد الإنكليز
بامتحان واسع النطاق في الجيش، لتعلم مقدار ما في نفوس الجنود من إيمان
وعقيدة، فكانت النتيجة أن تلك القوة ضعيفة، وأن ضعفها كان قد بدأ من قبل
الحرب العامة. ثم قامت الكنيسة سنة 1916 بتأليف لجان كنسية سمتها (لجان
التوبة والأمل) لتمتحن القوة الروحية في الشعب أيضًا، فكانت النتيجة فيه مثلها
في الجيش، وقد أصدرت الكنائس كتابًا في نتائج عملها هذا ضمنته تفاصيل ما
قامت به من العمل والامتحان.
ثم لما وضعت الحرب أوزارها، وصار الناس يتوقون إلى أن يعودوا إلى
حالة الاستقرار الروحي والنفسي، رأوا أنهم طلبوا الزيادة فوقعوا في النقص، فإذا
بظواهر الضعف الروحي تتفشى في أوربة وأمريكا، ولم يكن الأمر مقصورًا عند
هذا الحد، بمعنى أن هذا الضعف الروحي كان عارضًا لم يُحْدِث أثرًا سيئًا في العالم،
بل رافقه ما هو أكثر هولاً، وهو أن ظواهر الضعف الروحي رافقتها ولم تزل
ترافقها حالات الضعف الخلقي مرافقة قوية الفعل والعمل، كأن ظواهر الضعف
الروحي إذا وجدت وصارت تعمل في المجتمع عملها المطلق بلا قيد، لا بد أن
تكون ظواهر الضعف الخلقي والأدبي متفرعة عنها أو مبنية عليها بناء النتيجة على
المقدمات، وقد ذكرت الكنائس الحرة في بلاد الإنكليز أن من أكبر الأسباب في هذه
الظواهر بنوعيها - الضعف الخلقي والضعف الروحي - هي أولاً: الهجرة من
الأقاليم إلى المدن، فتحمل هذه الهجرة أربابها على الانغماس في ملذات ما ألفوها
من قبل، فيعكفون عليها ويغترفون منها ما شاءت شهواتهم، واحتملت أجسامهم،
وأطاقت أبدانهم، أضف إلى هذا ما هنالك من ضائقات اقتصادية يضيق الخلق منها،
ولا سيما أهل الطبقات الوسطى والعاملة، وضيق الخلق يدفع أصحابه إلى ما هو
شر من ضيق الخلق. ثانيًا: كثرة الملاهي وتنوعها وانتشارها على وجه كثير من
الإغراء والاستمالة بحيث لا يحتاج الناس إلى كثير من ضبط النفس عند مقاومتها،
فيقبلون عليها وتكون صارفة لهم عن رعاية الحرمات والأخذ بحالة الاقتصاد. ثالثًا:
ما سمته الكنائس الحرة (روح العصر) وهو جميع ما في هذا الدور من أسباب
ووسائل وحالات تسهِّل حصول ظواهر الضعف الروحي والخلقي في الشعوب
الأوربية.
في سنة 1926 وضعت جريدة الناشن (Nation The) وجريدة الديلي
نيوز (News Daily) أربعة عشر سؤالاً بمعرفة أربعة من فحول العلماء
الإنكليز، منهم برنارد شو الذائغ الصيت، ونشرت الجريدتان هذه الأسئلة طالبة
من القراء الإجابة عليها، فأجاب عن أسئلة الناشن 1849 قارئًا، وعن أسئلة
الديلي نيوز 14043 قارئًا، ثم استُخرجت النسبة المئوية من الأجوبة فكانت
النتيجة تدل على أن الاعتقاد بالمسيحية اعتقادًا خاليًا من الإلحاد، والاعتقاد بألوهية
المسيح، لم يزل قائمًا في نفوس الكثرة من الأمة الإنكليزية، وقد كانت هذه الكثرة
سبعين بالمائة، وقال الذين تولوا هذا العمل: إنه لو وُجهت هذه الأسئلة منذ خمسين
سنة أو عشرين سنة على الأقل لكانت الكثرة مطلقة لا تقل عن تسعين بالمائة،
وقالوا أيضًا: إنه مع بقاء الكثرة من الأمة على العقيدة في الدين، فإن الضعف
الروحي ملحوظ جدًّا، وهو يزداد ذيوعًا وانتشارًا، ولما كانت هذه الأسئلة التي
وُجهت إلى الأمة الإنكليزية بلسان جريدتين من أهم الجرائد الإنكليزية، وكان الذين
أجابوا عليها ليسوا من سواد القوم، بل هم من صفوة الأمة الذين يقام لهم وزن،
كان من المفيد أن نعلم هذه الأسئلة بالضبط لندرك منها حقيقة من أكبر الحقائق
الساطعة، وهي أن الضعف الروحي في أوربة دليل على المرض والعلة، لا على
الصحة والسلامة، وأن الأمم التي ظهر فيها هذا الضعف بعد الحرب أخذ القلق
يساورها، والمشكلات الخانقة تزداد استفحالاً فيها، ومن ذكر بعض المذاهب
الناشطة للعمل اليوم في أوربة وأمريكا تزداد هذ الحقيقة وضوحًا.
... (الأسئلة) ... ... ... ... ... ... (الأجوبة)
... ... ... ... ... ... ... الناشن ... ... الدايلي نيوز
... ... ... ... ... ... نعم لا فراغ ... نعم لا فراغ
1- هل تعتقد بإله مجسد؟ ... ... ... 40 55 4 ... 71 26 2
2- هل تعتقد بقوة مجردة غير مجسمة
لها تصدر غاية، ولها استطاعة الخلق
والإبداع بحيث إن المخلوقات المشهودة هي من آثارها؟
وهل تعتقد أن الحياة كناية عن قوة
نشوئية؟ ... ... ... ... ... ... 37 48 13 ... 33 46 20
3- هل تعتقد أن المادة هي أساس
الحقيقة؟ ... ... ... ... ... ... 27 57 15 ... 21 59 18
4- هل تعتقد بخلود النفس؟ ... ... 43 47 8 ... 72 22 5
5- هل تعتقد أن المسيح ذو ألوهية
بمعنى أنه لا يمكن أن يقال إن جميع
النس هم ذوو ألوهية كألوهيته؟ ... ... 35 61 3 ... 68 29 2
6- هل تعتقد بشكل ما من أشكال
الكنيسة؟ ... ... ... ... ... 51 43 5 ... 75 20 4
7- هل تعتقد بمذهب الرسل أي
تلاميذ المسيح؟ ... ... ... ... 21 71 7 ... 53 36 10
8- هل تعتقد بالمذهب الذي ترسمه
الكنيسة؟ ... ... ... ... ... 24 68 7 ... 52 37 10
9- هل أنت عضو عامل في إحدى
الكنائس؟ ... ... ... ... ... 43 55 1 ... 62 43 2
10- هل تذهب إلى الكنيسة ذهابًا
مداومًا من تلقاء نفسك؟ ... ... ... 43 55 1 ... 71 27 1
11- هل تعتقد أن الإصحاح الأول
من سفر التكوين تاريخي؟ ... ... 6 ... 91 2 ... 38 53 8
12- هل تعتقد أن التوراة موحى بها
بمعنى أنه لا يمكن أن يقال أن كتب
الأدب إن كتب الأدب في بلادك
موحى بها كالتوراة؟ ... ... ... 29 68 3 ... 63 33 3
13- هل تعتقد باستحالة العشاء
الرباني إلى لحم ودم كأنه من
جسد المسيح؟ ... ... ... ... 4 ... 93 2 ... 10 86 3
14- هل تعتقد أن الطبيعة لا تبالي
بما عندنا من معالي الأفكار والمثل
العليا؟ ... ... ... ... ... 58 23 48 ... 4 35 23
فظهر من هذه الأسئلة والأجوبة على معدل النسبة المئوية أن عدد المعتقدين
بالمسيحية إجمالاً هم أكثر من الذين على مذهب خاص من مذاهبها، على حد قول
من قال: إن المتدين لا يتمذهب.
المذاهب الدينية الحديثة والقديمة في الغرب:
والآن لابد لنا من أن ننظر إلى التيارات الكبيرة، والمذاهب الكبيرة العاملة
في الانقلاب الديني في أوربة وأمريكا، ونعلم على وجه الحقيقة والضبط ما بيد كل
مذهب من تلك المذاهب من قواعد وأسس، وما يرمي إليه من غاية وقصد، كل
ذلك مضافًا إلى المسيحية قربًا وبعدًا، وهذه التيارات والمذاهب كما يلي:
أولاً: العصريون Modernists
ثانيًا: الأصوليون Fundamentalists
ثالثًا: الروحانيون Spiritualists
رابعًا: أهل العلم المسيحي Christian
خامسًا: الكاثوليكية البابوية Scientists
1- (العصريون)
هم فريق كثير العدد والانتشار، والذين ينتحلون عقائده يزدادون على التوالي،
وهذا المذهب كان قبل الحرب العامة؛ ولكن بعد الحرب تجددت قواه كثيرًا وهو
أكثر انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد الإنكليز، والقواعد الجوهرية في
هذا المذهب هي:
أ - أن الحياة تزداد قيمتها من حيث هي حياة ذات جهاز حي، ويجب أن
تكون قيمة الدين ظاهرة من الوجهة العملية المحسوسة لا من وجهة العقيدة فقط.
ب - أن قيمة الحية الدنيا إنما هي من أجل الحياة الدنيا نفسها غير معلقة على
أمل الحياة الأخرى.
ج - إن العقل من الوجهة الدينية كان مقيدًا فيما مضى، أما اليوم فيجب أن
يكون مطلقًا حرًّا عاملاً في نطاق الشخصية الإنسانية.
وأصحاب هذا المذهب يتخذون الوسائل الآتية لنشر مذهبهم وإعزاز قواعده
في الناس:
أ - نشر البر والإحسان في جميع الطبقات إيماء إلى أن الدين هو في العمل لا
في القول.
ب - عضد الكنيسة في تحريم المسكرات.
ج - الوساطة في حل المشكلات العامة التي تمنى بها الطبقات العاملة مثلاً.
د - الاستيلاء على الطبقات العاملة بطريق الاشتراك معها في تمريضها وحل
مشكلاتها.
هـ - الاستعانة بالوعظ الكنسي العام لنشر هذه المبادئ والتبشير بها.
2- الأصوليون
أصحاب هذا المذهب هم في الولايات المتحدة أكثر منهم في بلاد الإنكليز،
وهذه الحالة هي عكس حالة العصريين الذين هم في بلاد الإنكليز أكثر منهم في
الولايات المتحدة، وأهل هذا المذهب يختلفون عن العصريين اختلافًا بينًا، لا بل
يمكن أن يقال: إن الفريقين على حدين متقابلين بعيد ما بينهما، وهذا يتضح بإيراد ما
عندهم من قواعد وأسس وهي:
أ - قبول التوراة بحوادثها التاريخية كما وردت فيها.
ب - أخذ التوراة بمعانيها الظاهرة بلا تأويل.
ج - رفض الآراء المناقضة للتوراة كرأي النشوء والارتقاء.
د - الرجوع إلى عقيدة الأسلاف أهل القرن السابع عشر الذين هاجروا من
إنكلترا إلى أمريكا أيام الضغط الديني.
ويظهر من إمعان النظر في القواعد التي عليها أهل هذا المذهب أنهم أصحاب
رجعة إلى العقائد المسيحية دون أن يقبلوا تسلط أي قوة من القوى العلمية الحادثة على
تفسير ما ورد في التوراة من أنباء وأخبار، وهم يعضِّدون مذهبهم هذا بشيء من
الرأي الفلسفي اكتسب قوة بعد الحرب، فهم يقولون: إن استناد الإنسان إلى العقائد
الثابتة في وسط كثرت فيه المصائب وعمت البلايا، هو أهنأ للنفس والروح، وأنشط
للقلب والعزيمة، وأطرد للجزع والخوف، فالرجل يجد في اعتصامه بالعقيدة الثابتة
ذلك النوع من الطمأنينة العذبة والاستراحة المنعشة، وأما إذا استولت على المسيحي
الشكوك والريب في مثل هذه السنوات بعد الحرب والشدة والأزمة ما هما، فيزداد قلبه
اضطرابًا ونفسه هلوعًا، فيحل به التلاشي والانحلال؛ ولذلك هم يقولون بأنه خير
للمسيحي أن يُحمل على اعتناق العقيدة آخذًا بها صبرة واحدة، فإذا أخضع هذه العقيدة
لقوى التفسير والتأويل بما يناقضها أحيانًا، ويضعفها أخرى يزداد أمره بلوى وحيرة.
والوسائل التي بيد أهل هذا المذهب كادوا يكونون فيها منفردين، وإلى نوعها
سابقين، إذ هم فيها يشبهون أصحاب الأحزاب السياسية التي تود الاستيلاء على
الحكم والسلطان من طريق تكثير السواد والحصول على كثرة نيابية، كذلك يفعل
هؤلاء الأصوليون فهم يسعون إلى تكثيف سوادهم، وتكوين كثرة نيابية في الولايات
التي كثرت فيها جموعهم، ثم هم بعد ذلك يريدون استنان الشرائع والقوانين الرسمية
المؤيدة لمذهبهم، والمقاومة لمخالفيهم، وهم الذين قاموا منذ سنتين تقريبًا بمحاولة منع
تدريس رأي النشوء والارتقاء في إحدى الولايات الأمريكية.
3- الروحانيون
كان علم الروح في أول هذا القرن ضئيل الشأن جدًّا، حتى إن الجمهرة من
علماء النفس ما كانوا يحفلون به ولا يقيمون له كبير وزن، ففي سنة 1904 نشرت
طائفة من الصحف الكبرى أسئلة طلبت فيها من الجمهور أن يبدي رأيه فيما كان
وقتئذ لعلم الروح من مباحث سيارة وآراء منتشرة، فكانت الأسئلة دالة على أن
الجمهور لا يعبأ كثيرًا بذلك العلم وما إليه، ثم إن سير هذا العلم بعد مفتتح القرن
العشرين كان ضعيفًا بطيئًا حتى جاءت الحرب العامة فورًا، ووقع تأثير ما جرَّته
من المصائب والبلايا موقعًا عميقًا في نفوس الأمم الأوربية، فذُهل الناس، واشتدت
الحيرة وساد القلق، وكانت الألوف وعشرات الألوف تنقلب من على ظهر الأرض
إلى جوفها ما بين عشية وضحاها، فوقعت النفس البشرية في ضنك ما روى له
التاريخ مثلاً، وقد كان من طبيعة الحال أن صار الناس يتساءلون ما الموت؟
وكيف يحدث؟ وما حقيقته؟ وهل تلك الألوف المؤلفة من الرجال ماتت حقيقة ميتة
لا رجوع بعدها؟
هذه صفة الحال في وسط الحرب سنة 1916 فإذا بالسير أوليفر لودج شيخ
علماء الروح في هذا العصر، وهو عالم كبير في ضروب العلوم الكونية على
الإطلاق يباغت أوربة بكتابه الذي أخرجه تلك السنة موسومًا بـ (ريموند) وفي
ها الكتاب جال صاحبه في عالم الروح والمخاطبات الروحية جولة كبيرة لم يظهر
مثلها من غيره بعد، وهو كان له ابن تجند في الجيش وقُتل، وذكر السر أوليفر
لودج في كتابه أن روح ابنه خاطبته بواسطة الوسيطة مسز ليونارد.
ثم تجدد لعلم الروح شأنه الكبير، ولم يزل يعلو وينتشر كما نرى إلى هذه
الساعة، والأحوال التي يذكر الأصوليون أنها هي السبب لجعل الإنسان يستند إلى
العقيدة الثابتة، هي الأحوال المفعمة بالضنك والضيق، التي ساعدت علم الروح في
انتشاره الحديث، لما صادف هذا العلم في النفوس المضطربة القلقة على إخوانها
المفقودة، من ارتياح إلى تعليلاته في إمكان مخاطبة الأرواح الغائبة.
هذا ما يقال على الإجمال في نشأة هذا العلم ومسيره، أما مؤتمر الأساقفة سنة
1920 فقد أعلن الحرب على هذا العلم بلسان أساقفة كنتربوري، بدعوى أنه
ضلال شديد؛ لأنه يُخْضِع العقل والإرادة لقوة مجهولة.
4- أهل العلم المسيحي
العلم المسيحي - وهو مذهب يبدو اسمه غريبًا لأول وهلة - هو طريقة حديثة
في المسيحية قائمة على أساس مشترك بين التصوف وتعاطي العلاج النفساني
والجسماني بوسيلة العقيدة فحسب، دون الالتجاء إلى شيء من العقاقير الطبية، أو
تشخيص الطب لماهية العلل والأمراض، وقد سُمي بالعلم المسيحي لأن من أساس
العقيدة فيه التوسل بمعرفة التوراة والإنجيل إلى الفناء في المسيح طلبًا للخير
والشفاء من العلة والاقتداء به في حياته.
إن الذي أسس هذا المذهب هو سيدة أمريكية اسمها مسز ماري بيكر كلوفر
أيدي Eddy Glover Baker Mary.Mrs
وُلدت في أمريكا سنة 1821، وتُوفيت سنة 1910، وفي سنة 1843
تزوجت من الكولونيل كلوفر الذي توفي بعد سنة من زواجهما، وفي سنة 1853
تزوجت من دانيال براترسون ودامت حياتهما الزوجية عشرين سنة، ثم طلقها سنة
1873، وفي سنة 1877 تزوجت لثالث مرة من الدكتور آسا جيلبرت أيدي وكان
هذا الرجل آخر رجل تزوجته ومات سنة 1883، هذا ملخص حياتها الزوجية وقد
عاشت حياة طويلة، تسعين سنة.
وفي سنة 1867 أظهرت للناس مذهبها، وهو الشفاء بواسطة العقيدة العقلية
بانية تعاليمها على التوراة، وعلى أساس أن جوهر طبيعة الإنسان هو جوهر
روحاني، وأن روح الله هي المحبة والخير، وأن الشر المعنوي والشر المحسوس
هما ضدان مقاومان لروح الله، ووجودهما في الإنسان دليل على أن نفسه خالية من
الروح الحقيقية التي كانت في المسيح.
وهي تقول أنه ليس هناك إلا عقل واحد وإله ومسيح واحد، وليس هناك ما
يعد حقيقة إلا العقل، وأن المادة والمرض هما عارض موهوم تمكن إزالته إزالة
تامة بقيام العقل قيامًا حسنًا بمعرفة الله والمسيح، ومن هنا غلبت تسمية هذا المذهب
بالعلم المسيحي، وفي سنة 1876 بعد أن كان هذا المذهب قد عُرف أمره وشاع
ذكره، وعمت أصوله، وأقبل جمهور كبير من الناس عليه - أسست صاحبته
(جمعية العلم المسيحي) ودعت الناس إلى الدخول فيها، والسير على مبادئها،
وكانت المؤسِّسة قبل ذلك التاريخ بسنة واحدة قد وضعت كتابها الموسوم بـ (العلم
والصحة) وهو الكتاب الذي أصبح اليوم الإنجيل المرعي عند أهل هذا المذهب،
وطُبع عدة مرات، وقرأه كثير من الناس، وفيه فصَّلت مسز أيدي أصول المذهب
تفصيلاً كافيًا.
وانتشار هذا المذهب كان سريعًا جدًّا كما يدل عليه هذا الإحصاء التالي:
سنة 1910 كان لهذا المذهب 1207 كنيسة منها 1071 في أمريكا، و58
في بلاد الإنكليز.
سنة 1920 كان لهذا المذهب 1804 كنيسة منها 459 في أمريكا و 98 في
بلاد الإنكليز.
سنة 1926 صار مجموع الكنائس في البلدين 2150 كنيسة.
سنة 1914 ألقي 500 خطاب على 000,000,1 من الناس.
سنة 1926 ألقي 3423 خطابًا على 889,669,2 من الناس.
ومما هو جدير بالنظر والمقارنة بين العلم المسيحي والمذهب الروحاني أن
العلم المسيحي نشط من أول الحرب في الوقت الذي عمت فيه البلوى الجمهور من
كثرة الموت في ساحات القتال، وكان نشاط هذا المذهب ولم يزل معاصرًا لنشاط
المذهب الروحاني وبينهما فرق بعيد، فالمذهب الروحاني يقول: إن الموت لا يذهب
بالروح إلى حيث لا تعود بل من الممكن أن تخاطب الروح عن طريق الوسيط،
فتجد النفس القلقة شيئًا من الارتياح إلى هذا. ويقول العلم المسيحي: إن هذا الموت
الذي تحارون فيه لا قيمة له وليس هو بحقيقة؛ وإنما هو عارض، فإذا اعتقدتم في
حياتكم أن المرض والألم وهمان يزولان بالاستمساك بالعقيدة الإنجيلية ومعرفة
المسيح، فالموت الذي تلاقونه بعدئذ لا تنالون منه ضرًّا، وليس هو بشيء تهلع
له قلوبكم.
وقد انتشر هذا المذهب انتشارًا كبيرًا في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والدانيمرك
وأسوج ونروج وأسبانيا والروسية وهولاندة واليونان، وسنتا 1923-1925
كانتا زمن الفوز الأكبر لهذا المذهب.
5- الكاثوليكية البابوية
ذكرنا قبل الآن أن الكنيسة الأوروبية على الإجمال انقلبت عندما نادى منادي
الحرب سنة 1914 من منابر وعظ وإرشاد على منابر الدعوة إلى الكفاح والجهاد،
والمعني بالكنيسة الأوروبية على الأغلب في هذا القول، الكنيسة البروتستانتية
وغير البروتستانتية مما انكمش ضمن الدائرة الإقليمية، وخضع خضوعًا تامًّا
لفكرة لدفاع الوطني، وصار يبث روح الحرب في الجند بداعي أن القضية التي
جرت المدافع من أجلها واستلت السيوف من أغمادها، إنما هي قضية مقدسة من
جهة ذلك الوطن، وأما الكرسي البابوي فقد اتخذ نهجًا سلميًّا لسياسته إزاء الحرب
وويلاتها، وسارع البابا إلى إظهار الدعوة التي ينادي هو بها من زمن طويل،
وهي السلم المسيحي وتأييد الأخوة، ولم يتخذ الكرسي الرسولي فكرة الدفاع الإقليمي
عن الأوطان الأوروبية بمعنى استعمال السلطة الكنسية لتأييد القوة الروحية الحربية
في الجيوش الأوروبية.
ومذ انقلبت الأرض الأوربية إلى حفرة من النار وساحة من الدماء، أخذ البابا
ينادي السلم السلم، فلا يسمع له صوت، فينادي الصلح الصلح، فلا يفلح، فينادي
الرفق بالأسرى، حقن الدماء، إغاثة الملهوف، وما إلى هذا من تخفيف البلاء إذ
لا سبيل إلى إزالة البلاء.
حتى إن الدولة الإيطالية لم تستفد من الكرسي الرسولي في الحرب كما
استفادت إنكلترا من كنائسها، ولا كما استفادت كل البلاد المحاربة من السلطة
الكنيسية أو الروحية التي فيها.
فلما انجلت الحرب، إذا بالكرسي البابوي تنتشر هيبته، لا في أصقاع العالم
الكاثوليكي فقط، بل في البروتستانتي أيضًا، وإذا بتلك المبادئ السلمية التي كان
يدعو إليها البابا وقت الحرب تصبح من المثل العليا في أعين الأمم الأوروبية التي
صارت تتوق بملء نفسها وجوانحها إلى تحقيق الطمأنينة والعودة إلى السكينة، ثم
بعد الحرب أيضًا أعاد الكرسي الرسولي نظره فيما له من أوضاع وقصّاد،
ومُرسَلين في الداخل والخارج، فأفرغ على كل هذا جلبابًا جديدًا ماؤه النشاط وطلب
السعة والانتشار، فازدادت هيبته وعلا مقامه، وقاربت القواعد الأصلية في
الكاثوليكية ذلك الشوق المستكن في نفوس الأمم المسيحية المتألمة إلى الراحة
والسكون.
زد على هذا أن الرأي الفلسفي الذي يعتضد به الأصوليون أصحاب المذهب
الآنف الذكر، هو رأي يطابق بمعناه القاعدة الكبرى في الكاثوليكية، من الاعتصام
بالعقيدة، والأخذ بها على ما هي عليه، دون أن يسلط عليها عامل التفسير والتأويل
والتضييق والتوسعة، فاجتمع للكرسي الرسولي من كل هذا شيء جديد، هو القوة
المعنوية والأدبية، منتشرة في غالب أصقاع العالم المسيحي، والذي يدعو إلى
الدهش هو أن الكاثوليكية من حيث هي دين أصبحت عاملة مستميلة، آخذة بالدعوة
حتى إن كثيرًا من البروتستانت في بلاد الإنكليز يدخلون فيها، وعدد الداخلين في
الكاثوليكية يزداد سنة فسنة، يؤيد هذا إحصاء يركن إليه وهو أن في سنة 1914
كانت نسبة الداخلين في الكاثوليكية من البروتستانت في بلاد الإنكليز سنويًّا 651
نفسًا، وفي سنة 1917 كانت النسبة السنوية للداخلين في الكاثوليكية في بلاد الإنكليز
أيضًا 11064، وقد رأى الكرسي الرسولي ما حصل لمقامه من شأن حتى بلغ هذه
الذروة العالية، فتوسع في سد الحاجات التي في نفوس الأمم الأوروبية، ولا سيما
الكاثوليكية، فأخذ يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي ومكافحة التطرف الضار في
الاجتماعية، وقد مر القول أن الضعف الروحاني الذي بدأ في العالم بعد الحرب العامة
رافقته ظاهرة الضعف الخلقي الأدبي، حتى أصبحت مملكة الآداب الخلقية منذرة
بأخطار هائلة، وقد هتك سياجها في مواضع عديدة.
وكل ما نسمعه في هذه الأيام من ظهور جهود في إيطالية ترمي إلى الأخذ
بدرجة الاعتدال في الحرية الاجتماعية، والاستقرار على الصحيح من العادات
الاجتماعية، كمحاربة الأزياء الفاحشة وما أشبه، كل ذلك إن لم يكن من الكرسي
البابوي مباشرة فهو صادر بوحي منه وتدبير.
وأكبر السبب الذي حدا بالدولة الإيطالية إلى عقد المعاهدة الرومانية مع
الكرسي البابوي هو أنها رأت ما للبابوية من ذلك المقام الرفيع في العالم، فتاقت
نفس موسوليني إلى أن يعتضد بتلك القوة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يجعل له
من توسله بذلك الكنف الحصين طريقًا إلى الفائدة والمنفعة في إيطالية وخارجها.
بعد كل هذا البيان، المعزز بالأرقام الإحصائية والأدلة الواقعية، يتبين لنا
أجلى تبيان أن العالم الغربي على الجملة مصاب بمحنة الأزمة الروحية، ونزلت به
جائحة عامة هي ضعف القوة الروحانية، للأسباب التي سردناها، وبعضها كان قبل
الحرب فجاءت الحرب وزادته فعلاً وعملاً، وبعضها الآخر ولَّدته الحرب وأورثته
الأمم جميعًا، وتبين لنا أيضًا أن هناك في أوروبا وأميركا نزعات متنوعة،
ومذاهب عديدة، كلها يسارع إلى العمل على النحو الذي تمكن به مؤاساة النفس
الأوروبية الجريحة، ورد الطمأنينة إليها بحيث تذهب عنها حالات القلق
والاضطراب، وغالب تلك النزعات والمذاهب نشأ من الروح المسيحية ليواسي
النفس المسيحية بالوسيلة المسيحية، وإذا استثني علم الروح لكونه لا يحمل شارة
المسيحية الخاصة، فهو من جهة أخرى يطلب الاتصال بالروح ولا ينادي بأن
المادة هي كل شيء في العالم.
وإذا كانت جميع هذه الحركات الرامية إلى الإصلاح في حالات النفس
والروح والدين تنشأ في الأقطار الأوروبية والأميركية، فمعنى ذلك أن القائمين بتلك
الجهود وأصحاب تلك المذاهب هم يعتقدون أن مداواة النفوس بطريقة الدين أنجع ما
يمكن عمله، وهم لم يطرقوا في جهودهم هذه أبواب رجال السياسة، ولا الملوك
والأمراء، ولا طلبوا من حزب سياسي شيئًا، بل انقلبوا بمجموع ما في أيديهم من
قواعد وأصول ومبادئ إلى النفس المسيحية يداوونها ويعالجونها على النحو الذي
تقدم.
فهل الحركات التي طغت في بلادنا - ولها مريدون وعمال ووسائل وطرق
وأساليب - هي من حيث استقرارها على برهان علمي، ملائمة لنفسية هذه الأمم
التي تقطن مصر وسورية والعراق وفلسطين والجزيرة؟ أو هي تصادم ما في
نفسيات هذه الأمم من دين وعقيدة وإيمان؟ الجواب: إن تصادم ذلك لا يكون
عسيرًا، وحالتنا الحاضرة يجب أن يظهر فيها منطق اجتماعي يأمر بالمعروف فيما
هو مبقٍ لهذه الأمم في هذه البلدان قوتها الروحية وكيان ثقافتها وتاريخها ولغتها.
إفساد المدارس الأجنبية في البلاد العربية:
شر القوى المسلطة على النفسية العامة في هذه البلدان هي المدارس الأجنبية
بمختلف علاماتها وأنواع جمعياتها التي تنتمي إليها، ولا فرق بين التبشيري منها
وغير التبشيري، والسواد الأعظم منها هو تبشيري على كل حال.
هذه المدارس هي مراكز مسلحة بأحدث آلات الإفساد، وعملها في الغارة على
الأمة ونشئها لا يقل بوجه عن الوجوه عن الغارة العسكرية الحربية، بل غارة
المدارس الأجنبية أقتل وأنفذ، وأستر عن العين، وأخبث وسيلة، وأكبر شرًّا، فإذا
كان ابن الثلاثين أو الأربعين فما فوق يؤدي للأجنبي الضريبة المالية الفاحشة،
والأعشار من نتاج الأرض، ويخنع للقوانين الجائرة (فهو) يفعل كل هذا ولكن
يبقى له دينه وتقاليده، وما ورثه من آبائه وأجداده من عز نفس، وكرامة، وشمم،
وإباء، وهو يرى هذا العصر قد طغت فيه الخبائث وغارت الفضيلة لشدة ما رميت
به البلاد من المهالك الأجنبية، السالبة لكل عزة وكرامة؛ ولكنه عندما يجول في
خاطره مظهر الشرق القومي الكامل، يصعد الزفرات من بين حنايا ضلوعها،
وينتفخ وجهه حسرة وألمًا، هذا ما يفعل اليوم ابن الثلاثين أو الأربعين.
أما الناشئ، والحدث، والشاب، الذي لم يشب عن الطوق بعد، أو شب عنه
بعد الحرب العامة، والذي يدخل المدارس الأجنبية، المجهزة بكل الوسائل
المدرسية للاستيلاء على عقول الطلاب، فهو عندما يدرك الثلاثين أو الأربعين، أو
هو من اليوم وهو لم يزل على مقعد التحصيل في المدارس، قد انقلب ليس إلى أن
يكون عاملاً مسخرًا للأجنبي يؤدي للمسيطر عليه الضريبة والعشر وما إلى ذلك فقط،
بل هو مسلوب الدين والعقيدة، فاقد الأنفة العربية الصحيحة، بريء من الثقافة
القومية، تاريخ العرب في نظره قطعة بالية، وتاريخ الإسلام في رأيه ساقط
مكذوب، والتقاليد القومية يراها ضحكًا وسخرية.
على مثل هذا النوع من النشء تعمل المدارس الأجنبية، وتعتني بتخريج
الطلاب من أبناء هذه الأمة، والمدارس التبشيرية الموزعة في البلاد مرتبط بعضها
ببعض ارتباطًا وثيقًا محكمًا، بحيث إنك ترى في غاياتها ومراميها ومجالات أعمالها
وجهودها مقصدًا واحدًا، وهدفًا واحدًا لا يتغير.
والمدارس التبشيرية لها من الأنظمة ورؤوس الأموال ما يحير العقول
والأفكار، وبعد الحرب العامة دخلت جهود هذه المدارس في دور لم يسبق له مثيل
في التنظيم وكثرة الوسائل والارتباط.
وصار أكثر ما تخرجه مطابع الجمعيات التبشيرية الكتب والنشرات والمقالات
في استصراخ العالم التبشيري للحملة على هذه الديار حملة صادقة، والمدارس
الأجنبية من هذه الوسائل، وهي في المقام الأول، فحرام أن يسلِّم الوالد ولده،
والأخ أخاه إلى المدرسة التبشيرية، لتأخذه عدة سنوات، فتتسلمه ولدًا صحيحًا
بعقيدته وثقافته ودينه، ثم بعد حين ترده إلى أهله وأمته وبلاده ولدًا مزيفًا ما كان
فيه قد أُخذ منه، وما أعطيه ففاسد لا جدوى منه ولا منفعة.
(للمحاضرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: أكثر الناشرين لهذه الأفكار هم من فساق هذه البلاد وسفهائهم؛ الجرائد جعلت لهم قيمة لأن الناس هنا يحذورنهم لسفاهتهم، وفي الخارج لا يعرفون حالهم.(30/193)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
ماذا يقال عن الإسلام في أوربة
(2)
نشرنا في الجزء الأول تحت هذا العنوان ما ترجمه لنا الأمير شكيب أرسلان
من كتاب (العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسية) للضابط (جول سيكار)
وننشر هنا ترجمة الفصل الثاني منه وموضوعه للتلميذ النجيب صاحب الإمضاء
هذا نصها:
احتكاك الإسلام بالمسيحية
(1) هل تنصير المسلم ممكن؟ وهل هو مرغوب فيه؟
إن البراهين مهما تكن قوية جلية الدلالة على تفوق المسيحية تفوقًا كبيرًا فهي
ستلاقي أمامها حتى عند المسلمين الذين لا يستنكفون عن المناظرة (وعددهم قليل
جدًّا) هذا الجواب البسيط: (هذا مخالف لما جاء في القرآن، ومن المعلوم أن
الكتاب الكريم فوق كل مجادلة لأنه كلام الله ذاته) .
ومع ذلك نقول بأن تنصير المسلم باختياره ممكن خلافًا للرأي الغالب، وإن
كان أصعب بكثير من تنصير الوثني.
وإننا نجد لذلك أمثلة قاطعة في الماضي أثبتها التاريخ، وأنا لا أتردد في قبول
النظريات التي بنى عليها رونيه بازان (Bazin) مقدمته القيمة لكتابه (حياة الأب
فوكو) : إن الإنسان في جملته وعامة أمره يصعب عليه من طبيعته أن يعيش بدون
دين، أولسنا نرى في كثير من الأحيان تلك العقول التي تتبجح بأنها تحررت من
الاعتقاد وصارت تراه وهمًا باطلاً تسقط - طال الزمان أو قصر - في الشك
المطلق أو تُحبس في نوع من التصوف الضار كالبلشفيكية أو الشيوعية الثورية؟
فإذا افترضنا أن المسلم المترقي وصل يومًا ما إلى هذا الحد وصار لا يستمد من
إيمانه ما يرضي عقله وقلبه، فلماذا لا نعتقد أن تفوق المسيحية سيستغويه كما
استغوى كثيرًا من الشعوب، وينتهي بالميل إليها من نفسه، فيعتنق باختياره دينًا
كثير الفضل ساعد على المدنية إلى درجة عظيمة؟ ومن الوجهة الوطنية المحضة
أليس الأحسن ترك المسلم يتجه في هذا الطريق من أن نراه يسقط في أحضان
المذاهب السلبية أو الضارة [1] .
ولا محيد لنا عن الاعتراف بأن أكثر نصارى اليوم ليسوا نصارى إلا بالاسم،
هذا إذا لم يتظاهروا بالردة والكفر، فلهذا هم لا يؤثرون التأثير المطلوب لجلب
إخواننا المسلمين إلى المسيحية [2] .
قال أحد أعيان وهران السيد محمد بن رحال: (إن الأضرار التي يحدثها عند
الأوروبي انحلال العائلة، وانحطاط الأخلاق، وشرب الخمور، ومزاولة الميسر،
والانهماك في الملذات، والفوضى، ومحبة المال محبة لا حد لها، والإباحية، إلى
أضرار أخرى - تجعلنا نتساءل: أي الفريقين أشد مرضًا؟ أو أيهما المريض؟
ولماذا لا يصير الإسلام ملجأ لأوروبا وطريقًا لنجاتها؟ وهل يمكن للأوروبي أن
يتحمل كالمسلم وهو ليس له ذلك السند القوي الذي لا يؤثر فيه شيء ألا وهو
(الإيمان) ؟ [3] .
هذا وإن العقبة الكئود في سبيل تنصير المسلم هي العداوة والاحتقار الذي
يلاقيه المتنصر في وطنه فالمتنصرون المغمورون في أوساطهم يظلون عرضة
للتعصب المحيط بهم، وهم بلا شك يكونون مرغمين لسلامة أنفسهم على أن
ينزحوا عن بلادهم، هذا إذا لم يصل الضغط عليهم إلى حد إرجاعهم عن اعتقادهم
الجديد.
على كل حال يجب أن نترك لمبشرينا حرية تامة في أعمالهم، على أنها
يجب أن تكون مجردة عن كل ضغط وإرهاق؛ لأن ذلك ينافي روح المسيحية،
فإذن يجب ألا يجد المبشرون في أعمالهم سواء الخيرية أو التبشيرية عقبات من حقد
بعض موظفي الإدارة الملحدين أو المعادين للكنيسة فقط، الذين يغتنمون مثل هذه
الفرصة لإظهار عداوتهم للدين، وكذلك يجب ألا تجد الأعمال التبشيرية قيدًا من
حذر بعض الموظفين الجبناء أو القليلي الدراية الذين في خشيتهم انفجار التعصب
الإسلامي قد يستنتجون من هذه الحركة الاختيارية الروحية المحضة نتائج غير
مرضية لسلطتنا.
فالنتيجة التي يمكن أن تحصل هي ضد ما يعتقدون، نعم إن من قلة المعرفة
عدم الاعتراف بأن المسلم (إلا ما قل) يجد حتمًا في تعاليم علمائه حاجزًا لا حد له
في سبيل التقارب التام بين القلوب.
وإذا تنصر الأهلي [4] كان تنصيره سببًا في جعله من أنصارنا نهائيًّا، هذا
بقطع النظر عن الواجب الذي يحتمه عليه وجدانه من احترام النظام والسلطة
الموجودة كما تقتضيه روح الإنجيل [5] .
ولتعضيد هذه النظرية نقتبس من بحث كان نُشر في مجلة أفريقية الإفرنسية
(عدد 10 أكتوبر سنة 1926) باسم كافيه (Cavê) قوله:
(لابد من بيان أن تنصير أبناء العرب في تونس وكذا في الجزائر ودخولهم
في الجيش الفرنسي، واتباع أبنائهم أيضًا هذه الطريقة يفتح طريقًا سهلاً للتفرنج،
ولو لم يتجنسوا بالجنسية الفرنسية، فكأننا نخلق نوعًا من المالطيين لا همَّ لهم إلا
أن يذوبوا فينا، ويجب أن نعترف بأن الاندماج الديني على الطريقة التي اتبعت فيه
ينتج عند الأهالي من كل وجهة نتائج تفوق الاندماج المدني الذي كان أُعلن (أي في
مجلس النواب) ولكن لم ينفذ بمرسوم للتجنيس، ومن جهة أخرى نرى أن النزاع
الديني يمكن أن يستحيل إلى عداء وسوء تفاهم حتى في أوروبا يضمحل، والنتيجة
الأخيرة أن تبديل الاعتقاد يتبعه تبديل العقلية كلها) .
وما أصدق هذا القول أيضًا: (لو أن مجهودات رجال مثل الكردينال لفيجري
لم تعترض لكنا نجد في شمال أفريقية بضعة ملايين من المدغمين فينا بدلاً مما هو
الواقع إلى اليوم من وجود بعض آلاف من الفرنسيين في وسط عشرة ملايين من
السكان الأهليين (أي المسلمين) وأخص بهذا الإدغام والاندماج البربر سكان بلاد
الأصليين أبناء القديس أغستينوس والقديس بولي من غير أن يشعروا، فكان يمكنهم
اليوم أن يتكاتفوا معنا تحت العلم الفرنسوي ضد أعمال التفرقة التي يسعى لها منذ
بضع سنين بعض دعاة وطنية مضطربة ذات لهجة معادية للأجنبي) .
فحينئذ أصرح بدون تردد أنه يجب على رجالنا السياسيين، وكذا على الرجال
المكلفين بحكم الأهالي (أي المسلمين) أن يعضدوا حركة التبشير بطريق مباشر أو
غير مباشر على أن تكون مجردة عن كل ضغط، نعم يجب تعضيدها عوضًا عن
خنقها، ويجب أن ينظروا في ذلك بعين المصلحة الوطنية وانتشار السلطة
الفرنسوية، فهاك نتيجة تستحق البحث بكل إمعان من طرف الذين يقبضون على
زمام حكمنا والذين لا غاية لهم إلا عظمة فرنسا.
(2) موقفنا في المسألة السياسية الدينية
إنني أريد بهذا العنوان بيان الموقف الذي أقترحه في هذا الطريق الوعر بما
لدي من التجارب الشخصية، محررًا فكري من كل حكم سابق، ومن كل احترام
إنساني، ومن كل ما تملق نحو الأفكار التي كانت معتبرة منذ زمان قليل، ولا
يهمني إلا شيء واحد هو المصلحة الفرنسوية:
إذا احترمت الدين والعادات والتقاليد، وتسامحت في بعض الأفكار الباطلة
عند المسلم، وإذا لم تتكلم عن النبي إلا باحترام تكون قد أحسنت الأدب، وتكون قد
أحسنت السياسة.
ومن آيات التسامح التي يمكن أن تظهرها لإخواننا المسلمين ما يجب علينا
اتقاؤه من جرح عواطفهم، مثال ذلك أنك إذا كنت معهم في شهر رمضان فليس من
الذوق أن تدخن وخصوصًا إذا كنت في مكان مغلق؛ لأنه يكفي استنشاق رائحة
الدخان لإبطال الصيام [6] ، وكذلك يجب ألا تأكل لحم الخنزير بمحضرهم في أي
وقت كان، وهم يعترفون لك بجميلك هذا؛ ولكن لا تبالغ.
ليس من الأوفق أن تشجع الإسلام، ولا أن تحاربه، فتشجيعك إياه علامة
ضعف يؤسف لها كثيرًا، ومحاربتك له قد توقظ التعصب، وفي هذا المعنى قال
كاتب فأجاد في قوله: (إن الإسلام في أصله قوة معاكسة لرغائبنا وأمانينا وميولنا،
وتلك القوة يمكن أن تخمد وتسكن، ولكن لا يمكن أن تقهر أبدًا، ومن الواضح أن
من مصلحتنا أن نُعْمِل جهدنا في عدم انتشاره عند الشعوب التي تحت سلطتنا،
وهذه السياسة التي أبانت التجربة حكمتها لم تكن متبعة دائمًا) .
وقال الجنرال بريمون (Bremond) المعروف باختباره للعالم الإسلامي:
مما لا شك فيه ولا ريب أن الإسلام لا يمكن أن يكون مواليًا لمن هو غير مسلم،
إذن فليس معقولاً أن نجعل أنفسنا في مقام حماته، فإذا احترمناه وإذا أعطيناه جميع
الحريات الممكنة كان ذلك من جنس السياسة؛ ولكن من الخطأ الكبير أن ننشر
الإسلام بين قبائل البربر، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية،
وأن تكون معاملتنا للمسلمين أحسن من معاملتنا لغيرهم: إن للعربية مزاياها وجمالها؛
ولكنها كثيرة التعقيد فلا تصلح أن تكون أداة بسيطة واضحة سهلة التعليم للحياة
العصرية [7] .
إنه لمن خطل الرأي أن تكون نية بعض الكتاب والرجال السياسيين الحسنة قد
فاتت خبرتهم، ذلك بأنهم كثيرًا ما يُظهرون أمام المسلمين أنهم يعتقدون تفوق
الإسلام، فالمتعصبون من المسلمين أو أولئك الذين لا يزالون يعتقدون علوية دينهم
منهم - وأعني الأغلبية الساحقة - يغتنمون ما في مدحنا من مبالغة ويظنونه احترامًا
منا للحقيقة دُفعنا إليه بإرادة الله الذي يدفع الإنسان لإظهار خضوعه بارزًا ماثلاً أمام
ما يعتقدون هم أنه الدين الحقيقي.
إن خيلاء المسلمين الذي لا حد له ينبغي ألا يشجع على أن عقليتهم قابلة
للتطور، وإذا كان المسلمون - حتى أحرار الفكر منهم أو من يزعمون ذلك - لا
يقبلون أن يمس اعتقادهم المحترم ككل اعتقاد مخلص؛ فإن المسلمين المتنورين [8]
يزيد عددهم يومًا فيومًا، والتعصب يضحمل أمام مصلحة حسن فهمها، وبعض
الآيات القرآنية التي تعارض روح العصر معارضة عنيفة أو تُعارض العقل فقط [9]
تسقط بسهولة وسيزيد سقوطها كما دلت على ذلك السوابق.
ويجب أن نعترف بأن روح التسامح مع الديانات المخالفة كثيرًا ما تقع من
المسلم أو يتظاهر بها على الأقل.
فإذا كان احترام عقلية محكومينا الخاصة هو محور سياستنا، فذلك لا يقتضي
المبالغة فيها أكثر مما يجب في الخضوع إلى المبدأ لأننا إذا فعلنا سنؤخر إلى ما لا
نهاية كل إصلاح، وكل تقدم في كل مرفق من مرافق الحياة خوفًا من جرح
عواطف المسلمين، وذلك لأن عندهم أوهامًا لا تتفق والتقدم.
إياك وأن تخوض في أمر الدين مع المسلمين، فالرجل ذو التربية الحسنة
سيترك لك الكلام ويتحاشى جرح عاطفتك، وفي كثير من الأحيان يكتفي بابتسامة
ويخرج بالحديث عن موضوعه، وأما إذا كان الكلام مع رجل بسيط أو متعصب
فستتعرض لجواب قاسٍ منه.
إنك إذا تكلمت عن الإسلام لتمدحه أو لتذمه فإنك في الحالة الأولى تستفيد
الظنة والشك في إخلاصك، وفي الحالة الثانية تلقي في القلوب حقدًا كبيرًا، وكذلك
مدح المادية أو الإلحاد أو ذم الديانة المسيحية ضلال محض، وكثيرًا ما يقف بعض
الأشخاص هذا الموقف، فهم يريدون إظهار اختيارهم للإسلام؛ ولكن في الحقيقة هم
إنما يستسلمون لدافع فيهم إلى إظهار عدائهم للدين المسيحي أولأي حركة لرجال
الكنيسة.
المسلم تشمئز نفسه من عدم الدين، وإذا كان من المتنورين؛ فإنه يرى أن
محاربة الأوربي لعقيدته وهدمه بهذا العمل للركن الأصيل في مدنيته الخاصة غير
معقول.
وعند كلام فيو Veuillot عن أولئك السياسيين الذين يجتهدون في إخفاء
البقية الباقية لنا من الدين بحجة عدم إيقاظ التعصب الإسلامي قد اتهمهم بأنهم
يرتكبون أعظم خطيئة وسوس لهم بها الشيطان، فلا شيء يكرهه التعصب
الإسلامي كشعب بلا اعتقاد ولا إله [10]
وبهذه المناسبة نقول بأنه لا بأس بتبديد بعض الأوهام وبعض الجهالات
المتمكنة من الأهالي (أي المسلمين) فمثلاً نجد كثيرًا منهم لا يزالون يعتقدون أنه
ليس من عقائد المسيحية خلود الروح وإثبات الحياة الأخرى، ويتخيلون أيضًا بأن
الصور والتماثيل التي تزين الكنائس يعبدها المسيحيون عبادة وثنية، مع أنهم إنما
يحترمونها كرمز لإيمانهم أو لمحبتهم، كما يحترم العلم الوطني رمز الوطن وكما
يقبل الإنسان صورة شخص عزيز عليه [11] .
(3) عقيدة التثليث
إن لعقيدة التثليث في قلوب المسلمين عداوة شديدة جديرة بالاهتمام بما لها من
النتائج المهمة في التفريق بيننا وبينهم، والفكرة التي يتصورونها من هذا الاعتقاد
تضرنا كثيرًا حتى عند من يتجملون منهم بإظهار حرية الفكر، مع أن التثليث كما
يقول علماء الكلام عندنا ليس إلا مظهرًا من مظاهر الوحدة الإلهية خضع أمامها
أكثر العقول تكبرًا ودعوى، وهذا علامة على ما يسمونه بساطة التفكير
(وبالألمانية Keit.Eiseitig Die) في الشعوب السامية.
فهم لا يفهمون أو على الأقل أغلبيتهم بأن كلمات (أب) (ابن) لا تطلقها
المسيحية بكيفية مادية ولكن روحية محضة، ويجب أن نقف عند هذا الحد في كل
مناظرة في هذا الموضوع [12] .
قال مسلم صديق في كلامه - وقد كنت بينت له ما تقدم - إن هذا الإيضاح
كشف له سرًّا، وإن هذا الإيضاح يمكن أن يبدد ما يعتقده المسلمون ضد المسيحية،
وبذلك تضعف كراهتهم للأجانب.
(4) (الاتفاق في مسألة الاعتقاد)
يعتقد المسلمون أن كل من لا يشاركهم في الاعتقاد سَيَخْلُدُ في العذاب، قال
بوتجان وأحمد ضيف في كتابهما المسمى (منصور) : والتقينا في الإسكندرية
بصبيان أوربيين، وهم في جمالهم كالملائكة، فقلت إن هؤلاء الصبيان سيكونون
خدمًا لنا في الجنة، وفكرت في الكفار الذين سيذهبون إلى جهنم، وكلما نضجت
جلودهم بدَّلهم الله جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب. إذًا فقد حان الوقت لنبين لهم إلى
أي حد بلغ تسامح المسيحية واتساع صدرها مع الديانات الأخرى.
ونحن نقتبس هنا كلامًا في القضاء والقدر ورد في نشرة البابا بيوس التاسع
بتاريخ 10 أغسطس سنة 1863: إن أولئك الذين يتحملون جهالة مظلمة عن ديننا
المقدس يتبعون بكل خضوع القوانين الطبيعية التي وضعها الله في قلوب الجميع،
وهم مستعدون للخضوع لله واتباع حياة شريفة قويمة؛ لذلك يمكنهم أن يحصلوا
على الحياة الخالدة بواسطة النور الأبيض والرحمة الإلهية (التي يجهلونها لأن الله
الذي لا حد لرحمته لا يتحمل أن يخلِّد عبدًا في النار إذا لم يكن مسئولاً عن ذنب
اختياري) [13] .
وقد كتب أغريفوريوس السابع وهو أحد كبراء البابوات في القرون الوسطى
إلى أحد أمراء المسلمين. نحن أقرب الناس إليكم لأن الإله الذي تعبدونه نعبده نحن
أيضًا [14] .
إن الاحترام العميق الذي تكنه قلوب المسلمين لاسم الله يذكِّرنا بإيمان القديسين
المسيحيين القوي، وقد شاهدت ذلك وأثَّر في نفسي.
من جهتهم ليسوا كلهم متفقين على كراهتنا كراهة بالغة، فهم يعلمون أن الله
سيحكم يوم القيامة فيما فرق بين الناس في هذه الدنيا وخصوصًا الديانات المختلفة.
على أنه إذا كان هناك بيننا وبين المسلمين خلاف في الاعتقاد الأساسي فهناك
نقط نتفق عليها ويجب أن نتشبث بما يوحد لا بما يفرق.
قال الدكتور أنريكو أنسباطو الإيطالي: إن الشرقي في وقت مجده رجل على
الفطرة، فعدم الفهم يبعده ويملؤه حذرًا، وهو كثير الحذر مما لا يفهمه، والمسلم
الذي يتأمل في الأزل واللانهاية (الأبد) لا يمكنه أن يكون عدوًّا للمسيحي الذي
يعمل بمثل أعلى في العدل والحرية، وإنما يجب على أوربة المسيحية أن تنير
العالم الإسلامي، وأن تتعلم كيف تعطيه النور.
وإذا أبعدنا من الطرفين الآراء المتطرفة للمتعصبين أو المتشددين الذين لا
يقبلون أي تنازل، فيمكن القول بأن الاتفاق على محايدة دينية يمكن الوصول إليه
بسهولة نسبية.
ومن الواضح أن التعصب لا يخشى من جهتنا [15] ، إن التحامل الوراثي في
الأهليّ علينا لا يزال قويًّا، وإن كان هناك بعض الشواذ، وإذا كان الأهلي لم يصل
بعد إلى محبتنا (وأنا لا أستثني الأهلي الذي أسبغ عليه فضلنا وأخذ ثقافتنا ويتمتع
بمدنيتنا) فالسبب الأصلي في ذلك راجع إلى الشقة التي حفرها الإسلام بين أهله
وبين الخارجين عن عقيدته [16] .
قال رونيه بازان: هل الأهالي أقرب (أي المسلمون) منا الآن بفكرهم من
أول الاحتلال الجزائري، وهم صاروا يستعملون عن طيب خاطر كثيرًا من
الخيرات التي أتت بها مدنيتنا؟ فهل قبلوا هذه المدنية؟ وهل يمكن أن نقول بأنهم
يعتبرون أنفسهم رعايا مخلصين لفرنسا إلى الأبد؟ يكفي أن نعرف شيئًا من تاريخ
الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة، لا تاريخ النواحي التي ضُمت إلينا قريبًا؛ ولكن
تاريخ المقاطعات الثلاث القديمة - الجزائر ووهران وقسنطينة - ليكون الجواب: لا،
بل يكفي أقل من ذلك مجرد فسحة مدة ساعة في وسط الجماهير الإسلامية، ومعرفة
قراءة ما في عيونهم، لا شك أنه في مدة الحرب الكبرى جاءت الألوف من رعايا
فرنسا من عرب وبربر ليحاربوا مع جنودنا جنبًا لجنب، وكثير منهم ماتوا لسلامتنا،
وهذا برهان على الإخلاص لا ينسى أبدًا؛ ولكن كثيرًا من الشعوب والقبائل منذ
كان العالم حاربت لا ليدافعوا عن قضية لهم؛ ولكن ليرضوا شجاعتهم ومصلحتهم
وكبرياءهم، فمن الخطأ ومن الخطر أن نعتقد بأنه منذ سنة 1914 اندمج فينا مسلمو
أفريقية أو تقربوا منا أو بيننا وبينهم تفاهم واعتبار ومودة وتلك هي الصلات
المتينة [17] .
والخطأ راجع إلى الرجال (المختلفين في الأصل والمواهب، المتشابهين في
الوهم والحكم الباطل) الذين تولوا الأعمال الأفريقية في القرن السابق وفي أول هذا
القرن؛ فإنهم لم يفهموا أن مدنيتنا مسيحية قبل كل شيء.
ولكن لتكن لنا الثقة بالمستقبل، وفي أثناء الانتظار يجب ألا نضيع الفرص:
فرص التقرب، ولا شيء أثمن منها في الوقت الحاضر بعد التأثير الأدبي الناتج
عن اشتراك المصالح، وكلما نمت العلائق الفردية اضمحلت الأوهام وزاد الرخاء
المادي، وتكونت أجيال مستعدة للتفاهم، وراغبة في العيشة المشتركة.
والنظر إلى قوتنا المادية والعسكرية والاختراعات العصرية سواء الجدية أو
الهزلية يستهوي خيالهم، وإن لم يُظهروا الإعجاب بها، ووسائل الراحة التي
يوجدها التقدم وخصوصًا نظرهم إلى اتحادنا وتكاتفنا، كل هذا يمكن أن يقرِّب بين
الجنسين [18] .
(5) التأثير الأدبي
إن على الأوروبيين الذين يعيشون بالقرب من المسلمين أن يشغلوا وظيفة
المربي، إن خير خدمة يؤدونها لهم إعطاؤهم طرقًا للعمل والتعمير، ومُثُلاً للصبر
والمثابرة والجهد الذي لا يعرف الكلل والملل، وخير القدوة التي يمثلونها لهم هي
الحياة الشريفة التي لا عيب فيها، والفضائل العائلية، والاستقامة التامة والوفاء
بالعهد، والشرف في المعاملات، والصدق في كل المناسبات، تلك كلها خصال
يحتاجها مسلمونا أشد الاحتياج، فينبغي أن تنتمي فيهم وتقوى.
ونزيد على تلك الأخلاق المثال العالي للأخلاق الإنجيلية، وتجدها ممثلة في
جماعات التبشير في أفريقية الشمالية (! !)
وينبغي لنا نحن الإفرنسيين أن لا نشارك في هذا المدح جماعات التبشير
الأجنبية؛ لأنها في كثير من الأحيان تعمل لغرض سياسي لخير دولتها أكثر مما
تعمل لغرض ديني [19] .
وأكون ملومًا إذا أنا لم أشارك جميع الرجال المنصفين الذين يُظهرون إعجابهم
بالآباء البيض والأخوات البيض التابعين للكردينال لفيجري لما قاموا به من الأعمال،
وقد شاهدت ذلك مدة توظيفي الطويل في الجزائر وتونس، فتبشيرهم ينحصر في
إعطاء المثل بواسطة الإحسان والانقطاع الكلي لمساعدة أصحاب العاهات الأخلاقية
والمادية من الأهالي، وبواسطة مدارسهم يعملون على رفع مستوى المسلمين
الفكري المنحط، وتحسين حالة معيشتهم.
ومنذ احتلال المغرب الأقصى ما انفك الآباء الفرنسيسكان والأخوات يقتدون
بهم بانقطاع وإخلاص يستحقان الشكر من فرنسة كما يستحقانه من الكنيسة، وإن
في المثل الشريف الذي يضربونه ما يشرف بلادنا أعانهم الله.
وفي الختام يجب بواسطة حكومة حازمة عادلة محسنة أن نقطع الطريق على
أخطار الشيوعية والاشتراكية الثورية التي تجد مذاهبها عند سكان أفريقية الشمالية
أهل الفكر الخفيف المعادي لسلطننا غالبًا أرضًا خصبة [20] .
... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عبد السلام بلافريج
تعليق المنار على جملة الكتاب
وخطاب إسلامي حر إلى العقل الفرنسي الحر- إن أمكن أن يبلغه الخطاب
قد اطلعنا على كتب كثيرة لكتاب فرنسة المختلفي الأفكار والآراء في بيان
حال مسلمي مستعمراتها الأفريقية (ما يريدون جعله منها كسورية) وما ينبغي أن
يعاملوا به، وقد رأينا كل كاتب يتَّبع هواه، ويغني على ليلاه، دون ليلى حكومة
فرنسا الجمهورية الحرة، ويبغي مصلحة نحلته أو فرقته دون مصلحتها،
فالكاثوليكي المتعصب يرمي في كل ما يكتبه إلى إقناع الحكومة بمقاومة دين الإسلام
نفسه، ومحاولة إفساده على الأهالي بحجة أن المسلمين لا يمكن أن يخلصوا لفرنسا
ويحبوها، ويؤمَن انتفاضهم عليها ما داموا مسلمين، ومن هؤلاء جول سيكار مؤلف
هذا الكتاب، ومن يؤيد كلامه بالنقل عنهم من قسوس الجمعيات الدينية ومبشريها.
والمالي المفتون يحصر همه في إقناع هذه الحكومة بسلب ثروة المسلمين
بالوسائل النظامية - كما تفعل الآن في المغرب الأقصى من انتزاع ملكية الفلاحين
والقبائل لأرضهم - والحيلولة بينهم وبين العلم العصري بحجة أنه لا يمكن أن يدوم
خضوعهم لها إلا بالفقر والجهل.
والعسكري الذي لا يرى وسيلة لترقيته ونيله المكافآت المالية والرتب العسكرية
إلا بوجود العداوة بينهم وبين فرنسة، فهو يحاول إقناعها دائمًا برسوخ هذه العداوة
ويتمنى دائمًا حدوث الثورات والفتن التي يظهر فيها الحاجة إلى الجند واقتناع
الحكومة بأنها مدينة لهم.
لقد انسلخ على استيلاء فرنسة على الجزائر قرن كامل، ولا يزال هؤلاء
الكتاب يقولون لها إن المسلمين لم يزدادوا في هذا القرن بطوله إلا بغضاء لها،
ويلفقون الأدلة الخطابية والمغالطات الجدلية لإقناعها بمعالجة هذا الداء، والذي جزم
به موسيو جول سيكار أن العلاج محصور في مداراة المسلمين في الظاهر وإفساد
دينهم عليهم بالإلحاد المادي العصري توسلاً بذلك إلى تنصيرهم الذي هو العلاج
الأخير الممكن عنده، ويصح أن يقال في كل هؤلاء الكتاب ما قاله معروف أفندي
الرصافي الشاعر العراقي الشهير في وزراء الدولة العثمانية الثلاثة الذين تولوا
منصب الصدارة العظمى عقب إعلان الدستور:
مضى (كامل) من قبل (حلمي) وإن جرى ... كما جريا (حقي) فمثلهما حقي
إن لم يبصروا للحق غير طريقهم فإن طريق العدل هو أوضح الطرق
سبحان الله! أَيُستذل شعب ويهان وتسلب ثروته وأوقافه، ويُفَضَّل غيره عليه
في بلاده بل يؤمر بترك دينه ويحال بينه وبين العلم والنور ولا يكتفي منه مع هذا
كله بالطاعة بل يؤمر فوقها بالشكر والمحبة.
ولم أر ظلمًا مثل هضم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر
إن وزارة الخارجية ووزارة المستعمرات في فرنسة يحيط بهما نفوذ الجمعيات
الدينية ورجال المال ورجال العسكرية: ثلاثة أسوار تمنع من وصول أي رأي حر
يخالفها، ولو وجد في فرنسة زعيم حر واسع الفكر، كبير الهمة قوي الإرادة
كالسنيور موسوليني في إيطالية - لأمكنه حين يضع مصلحة الدولة والأمة فوق كل
مصلحة مع عدم التصعب الديني أن يعرف الطريقة المثلى لإرضاء مسلمي أفريقية
في ممالكهم الثلاثة، وما به تعمر بلادهم ويرتقي مجموعهم، وتستفيد فرنسة من
ثروتهم وقوتهم أضعاف ما تستفيده الآن من غير أن تخسر هذه الملايين التي تنفقها
لتوطيد الأمن وقمع الثورات، وإيقاع الرعب والإرهاب في القلوب لحفظ الهيبة.
ولو شاء مثل هذا الرجل أو غيره من كبار الرجال أن يستشير في هذه المسألة
كبار أهل الرأي من مسلمي هذه البلاد وغيرها، لأمكنه أن يعرف من مصلحة
فرنسا ما لا يمكن أن يعرفه من هؤلاء الكتاب الافرنسيين وأمثالهم من المسلمين
كالسي قدور بن غبرايط مثلاً، ولو وُجد هذا الرجل لاقترحنا عليه أن يعقد مؤتمرًا
للنظر في هذه المسألة تحت رياسة رجل فرنسي حكيم حر كالدكتور غوستاف لوبون
يدعو إليه من يشاء من الرجال المستقلين منهم ومنا، ولكن لا سبيل لنا والحالة في
فرنسة كما نعلم أن نبلغ أولي الأمر فيها ما نجزم بأنه خير لفرنسا مما هي عليه في
سياسة المغرب وسياسة سورية.
إنني كنت عرضت على موسيو روبير دوكيه أشد غلاتهم في هضم حقوق
سورية ما أراه خيرًا لها في سياستها وتجارتها ونفوذها الأدبي مما تجري عليه في
ذلك، فقال إن هذا أمر معقول غير خيالي وقابل للتنفيذ إن وجد منا ومنكم من يقوم
بتنفيذه، وإنني إلى الآن أضمن وجود من يقوم بتنفيذه منا إذا رضيت فرنسة به،
ومن ذا الذي يستطيع إيصاله إليها وإقناعها به وموسيو روبير دوكيه لم يفعل ذلك؟
إذن يجب أن تنظر فرنسة ما يفعل الزمان في أطواره في سورية والمغرب
والزمان أبو العجائب.
__________
(1) المنار: ملخص هذه النظرية في إمكان تنصير المسلمين بعد أن ثبت بالتجارب الطويلة أنهم لا يقبلون دينًا يخالف القرآن، هي السعي لإيقاعهم في الكفر والتعطيل بالتعاليم العصرية، وبما أن الدين المطلق من الحاجات الفطرية اللاصقة بالإنسان وجدانًا وعقلاً، وبما أن فقده يوقعه في ضروب من الحيرة والشكوك المظلمة، ويهوي به في مهاوي المذاهب الضارة كالبلشفية أو السلبية كاللاأدرية - فإذا وقع المسلم في هذه المضايق المظلمة بعد فقده للإسلام وجهله لتعاليم القرآن الهادية المعقولة يسهل عليه أن يقبل الديانة النصرانية باستغوائه بمزاياها الصورية والمدنية الملزوزة بها لزًّا قهريًّا التي سماها الكاتب تفوقًا، فملخص النظرية أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا ما دام يعرف هداية القرآن أو شيئًا منها، وهذا حق سببه أن صاحب الحق الجلي الموافق للعقل والفطرة لا يمكنه أن يتركه بإيثار الباطل غير المعقول عليه.
(2) يعني أن النصارى الذين يراد أن يستهووا المسلمين للدخول في جماعتهم ليسوا نصارى إلا
بالاسم، ومنهم من يتبرأ من هذا الدين (وفاقد الشيء لا يعطيه) فكيف يمكن أن يُنصِّروا المسلمين.
(3) المنار: إننا نحن علماء الإسلام ودعاته نعتقد اعتقادًا جازمًا أن فساد العقائد المسيحية والأخلاق والفوضى المادية والفلسفية لا علاج لها في أوروبا وأمريكة إلا الإسلام الصحيح: إسلام القرآن والسنة التي كان عليها مسلمو العصر الأول؛ لأنه هو الدين الوحيد المعقول الذي لا ينقضه العقل والعلم ولا تعارضه قواعد العمران.
(4) (الأهلي) لقب المسلم الوطني في أفريقية الفرنسية، وهو عنوان الاحتقار عند الفرنسيين الواضعين له.
(5) المنار: لماذا لا يوجد هذا الاحترام عند نصارى الدولة العثمانية الذين ثاروا عليها في كل قطر كثروا فيه؟ .
(6) المنار: قوله إن المسلم الصائم يستاء من تدخين جليسه صحيح؛ ولكن تعليله إياه غير صحيح.
(7) هذا كلام كله رياء، فالجنرال يعلم أن البربر مسلمون، وأنه ليس لهم لغة علم ودين غير العربية، وأن فرنسة تجتهد في الحيلولة بينهم وبين الإسلام ولغته لأجل تنصيرهم، والمسلمون لا يطلبون منها إلا أن تدع لهم ولغيرهم حريتهم في دينهم ولغتهم، فلا تجبرهم على شيء.
(8) يعني بالمتنورين: المتفرنجين من الملاحدة ومرضى القلوب.
(9) ليس في القرآن شيء يعارض حكم العقل الصحيح القطعي، وطالما تحدينا العالم المدني بهذا في المنار، وصرَّحنا بأننا مستعدون للرد على كل شبهة عليه، وأما معارضته لروح العصر في خاصة بما فشا في هذا العصر من مفاسد الأفكار المادية والاجتماعية كالشيوعية، ومفاسد الإسراف في الشهوات فقط، وأما المسيحية الحقيقية فلا تتفق مع روح العصر مطلقًا؛ لأن ما فيها من الغلو في الزهد وغيره كان شريعة مؤقتة إلى أن يأتي روح الحق محمد صلى الله عليه وسلم.
(10) المنار: هذا مكر ديني سياسي من الكاتب بأحرار قومه، يريد به أن لا يُظهروا عدم تدينهم بالنصرانية أمام المسلمين.
(11) هذا تأويل لا يقبله المسلم الذي يفهم حقيقة التوحيد، فإذا كان مع هذا يعرف دينهم؛ فإنه يرى فيه نصوصًا صريحة في عبادتها ولا سيما السيدة مريم التي يسمونها والدة الإله، وإلا فما معنى وضعها في المعابد.
(12) المنار: إن التوحيد الخالص عند المسلمين يقتضي اعتقاد بطلان الشرك بجميع أنواعه، ومنها التثليث وتعظيم الصور والتماثيل واتخاذها كما هو صريح وصايا التوراة التي هي أساس عقيدة الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وإذا سُمي اعتقاد البطلان عداوة، فالنصارى يعادون كل ما في الإسلام من العقائد الصحيحة وأولها التوحيد الخالص، ومن الغباوة أن يظن الكاتب أنه بهذه الكلمة المبهمة المجملة التي قالها في تقريب التثليث يخدع أحدًا من المسلمين: أما عوامهم فيكتفون في إبطاله بقول النصارى إن الثلاثة واحد، وأما خواصهم فيعلمون أن هذه العقيدة بتفصيلها من عقائد قدماء الوثنيين، وقد ألف بعض المتأخرين منهم كتابًا سماه (العقائد الوثنية في الديانة المسيحية) ذكر فيها النصوص الصريحة من كتب البوذيين وغيرهم في هذه العقيدة، فلم تستطع مجلة المشرق الجزويتية أن ترد عليه بالاعتراف بأن الوثنيين قد سبقوا النصارى إلى عقيدة الثالوث، وقولها إن ذلك ثالوث نجس، وإن ثالوث النصارى مقدس! ! ! وإننا نعلم بالاختبار من أحرار النصارى أن علماء اللاهوت المستقلين أنفسهم لا يؤمنون بهذا التثليث؛ ولكنهم لو بينوا الحقيقة للشعب، ومنها أنه عقيدة وثنية أدخلها الرومانيون في العقيدة لبطلت ثفته بالدين كله، وتعذر إقناعه بالفضائل الدينية، فليفهم هذا صديق الكاتب الذي زعم أنه أعجبه ذلك الإبهام الذي سماه إيضاحًا.
(13) إن هذا البابا وجميع البابوات يعتقدون أن كل من ليس بكاثوليكي فهو كافر خالد في جهنم وإن كان مسيحيًّا، وإن كلمته في رحمة الله تعالى لا تدنو ولا تقرب في تعظيم شأنها من قوله تعالى في كتابه القرآن: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] (الأعراف: 156) وهو قد قيَّد عدم الخلود في النار بمن لم يكن مسئولاً عن ذنب اختياري، ويدخل في هذا القيد ما كان من الذنوب دون الكفر بالله وكتبه ورسله، ورحمة الله أجلّ من ذلك وأوسع.
(14) هذه كلمة تودد واستمالة لذلك الأمير المسلم هو غني عنها بقوله الله تعالى في القرآن:
[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] (المائدة: 82) وبإباحته تعالى للتزوج منهم مع قوله في الأزواج [وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً] (الروم: 21) مع العلم بأنهم لا يعبدون الله الذي نعبده كما نعبده؛ فإننا نعبده وحده وهم يعبدون المسيح وأمه وغيرهما من القديسين، وقد أمرنا تعالى بأن ندعوهم إلى الإسلام بقوله: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) .
(15) إذا كان مثل هذا الكتاب الباحث عن وسائل الاتفاق محشوًّا بالتعصب فماذا يقال في غيره؟ .
(16) كل دين من الأديان يحفر شُقة خلاف بين أهله والمخالفين لهم، وفي الإنجيل نص صريح بأن المسيح جاء ليفرق بين المرء وأبيه وأمه وإخوته؛ ولكن الشُّقة التي حفرتها معاملة فرنسة للمسلمين في دينهم ودنياهم هي أوسع وأعمق مما تقتضيه العقيدة في الشريعة الإسلامية السمحة التي تأمر بالعدل والبر والإحسان للمخالف غير المحارب للمسلمين، وتحرِّم ظلمه، وكذا خيانته وإن كان حربيًّا.
(17) لعله لا يوجد في البشر من الأثرة والغلو في استعباد البشر أطغى ولا أبعد عن الحق والعدل ممن يغمط قومًا بذلوا دماءهم في الدفاع عن المضطهدين لهم في دينهم، السالبين لثروتهم وأوقافهم ويعدهم مقصرين وغير مخلصين في خدمتهم لاحتمال تلذذهم بشجاعتهم وإعجابهم بها، فهو يطلب من مسلمي أفريقية أن يكونوا مخلصين في بذل دمائهم في الدفاع عن فرنسة كإخلاصهم في عبادة الله تعالى، بل يوجب عليهم أن يكونوا لها أشد إخلاصًا لأنهم يرجون من الله الثواب، ولا يجوز لهم أن يطلبوا من فرنسة ثوابًا، ولا رفع شيء من الظلم والعقاب! ! .
(18) لعله يعني أنه يلجئهم للتنصر.
(19) المنار: لعل المؤلف نسي دعواه من أن كل ما ارتآه ووصى به فإنما غرضه منه خير دولته فرنسا ومصلحتها.
(20) إن أقرب الأسباب لقبول المسلم لهذه المذاهب ما اقترحه المؤلف في أول الفصل من إفساد دينه عليه.(30/211)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
العالم الإسلامي تتنازعه في هذا العصر الأحداث المتعارضة، وتتناوبه فيه
الأطوار المختلفة، وما دخل العام الماضي إلا وعوامل الخطر فيه أقوى من عوامل
الظفر، ودواعي الغي والفساد أكثر من دواعي الصلاح والرشاد؛ ولكنه كما قال
الشاعر:
كلما ذاق كأس يأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول
فقد حدث قبل انسلاخه ما يقوي أسباب الرجاء، ويبشر بضروب من الفلاح،
أعظمها في الإصلاح الديني تولية الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة
الأزهر ورئاسة المعاهد الدينية، وقانونه الجديد الذي نوهنا به في فاتحة هذا المجلد،
وأفضنا في بيان فوائده في أجزاء من المجلد 29.
اتفاق إيران مع حكومتي العراق والحجاز ونجد:
وأعظمها في الإصلاح السياسي اعتراف حكومة إيران بحكومة جارتها العراق،
بعدما كان من خلاف وشقاق، ثم إرسال جلالة الشاه مندوبًا سياسيًّا إلى جلالة ملك
الحجاز ونجد لعقد ميثاق المودة والاتفاق بين حكومتيهما، بعدما كان من خصام
مذهبي وسياسي بينهما، وقد تم ذلك ولله الحمد، وهذا يدلنا على أن جلالة شاه
إيران أبعد رأيًا وأكبر عقلاً من جاره في الأفغان، الملك المهزوم أمان الله خان،
وأكبر من هذا دليلاً تمكنه من كبح جماح الذين ثاروا على حكومته من القبائل
والعصائب، والذين عارضوها من حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب، ولعمري
إن انتصار كل من هؤلاء الجامدين وخصومهم الجاحدين، مما يفضي إلى
الاضطراب والفوضى، والخطر على الوحدة السياسية والاستقلال من ناحيتي الدين
والدنيا، كما أن اندحار علماء الدين وسقوط مكانتهم الدينية، مدعاة لخطر الإلحاد
وانفصام عروة الرابطة الملية، فعسى أن يلتزم كل من الرؤساء السياسيين والعلماء
المجتهدين موقف الاعتدال، فهو الذي يقي البلاد خطر الاختلال والانحلال، ولنا فيما
بدا من حكمة الشاه أوسع الآمال، إلا تقليده في البرنيطة لمصطفى كمال! على أنه
متهم بغيرها من تلك البدع والأعمال، فبلاده تتمخض بالثورة الدينية والسياسية،
ويتربص به الدوائر أشياع أسرة الملك القاجارية.
بلاد نجد وغلاة البدو:
وقد حدث في العام المنسلخ نزغة ثورة بدوية عصبية في نجد، كانت قد طال
على تمخض البلاد بها العهد، وكان آخر ما عرفه العالم المدني من طغيان زعمائها
غزوهم للكويت وأطراف العراق، بدون إذن ولا رضا من ملك البلاد، لجريانهم
على ما اعتاده جفاة الأعراب أمثالهم من الغزو؛ لأنه أقرب السبل عندهم للكسب،
وقد يكون أحيانًا للتلذذ بالقتل والسلب.
ولكن الإمام عبد العزيز المجدد قد ساسهم سياسة إسلامية حضرية أبطل بها
البداوة وتقاليدها، ووضع تحت قدميه ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت
قدميه من دماء الجاهلية وثاراتها، وجعل الحكم لشرع الله في كل تنازع وتشاجر،
عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) فحسنت الأحوال، وراجت الأعمال
بعد أن عمَّ الأمان، وبطل البغي والعدوان، على غلو في الدين بقي عند كثير من
(الإخوان) وكانوا به شبهة أو حجة لمن يطعنون في الوهابية، ويذهبون إلى أنهم
فرقة غير الحنابلة السلفية.
وقد ظهر من شذوذ هؤلاء الغلاة ما ظهر من القسوة في غزوة الطائف أخذًا
بثأر من قتلهم الشريف عبد الله الحجازي منهم في الخرمة لما هجم عليهم في المسجد،
فقد جروا في ذلك على عرف البدو في غزوهم لا على عرف الوهابيين الذين
يجرون في قتالهم على أحكام الشرع كما شهد لهم بعض أهل البصيرة ممن قاتلهم في
الحملة المصرية التي ساقها إليهم محمد علي باشا بأمر الدولة التركية، ونقله لنا
المؤرخ الصادق الجبرتي.
ولقد ساء عملُهم هذا الإمام عبد العزيز، وإن قابله كعادته بالحلم والمطاولة
في تربيتهم بأحكام الشرع؛ ولكنهم زادوا إسرافًا وغلوًّا بتعرضهم لما لا يعنيهم من
إدارة الحجاز الداخلية، وتحريمهم لما أحل الله تعالى من المنافع الآلية والصناعية،
بل لما يعد بعضه أو كله من فروض الكفاية في هذا العصر، كآلات المواصلات
والمخاطبات التي تشتد الحاجة إليها في أوقات الحرب، وغير ذلك مما هو من
خصائص ولي الأمر، وهذا التحريم شرع لم يأذن به الله، وكذب وافتراء على الله،
فهو كفر وشرك بنص القرآن، أشد مما يرمون به من لا يعرفون من الناس بحق
أو بغير حق؛ لأن الشرك بالتشريع ضرره متعد يعم كثيرًا من الناس، والشرك
بدعاء غير الله مثلاً ضرره قاصر على فاعله.
ثم افتأت بعضهم على الإمام في الإغارات المعروفة على العراق والكويت،
فانتهى الحلم الواسع بالإمام عبد العزيز أن جمع في العام الماضي جميع من في بلاد
نجد من أهل الحِل والعقد من العلماء والقواد والزعماء وجماهير الوجهاء وألَّف منهم
مؤتمر الرياض المشهور، وعرض عليه تنصله من حكم البلاد وأن يختاروا لها
غيره.. فكبر ذلك عليهم وجددوا مبايعته، وكاشفوه بما لا يرضيهم من حكومته،
وكونه لا يبيح لهم نزع اليد من طاعته، كمسألة الحدود بين نجد والعراق، وما
أحدثته حكومة العراق هنالك من المخافر العسكرية الضارة بهم، وهو أهم ما يهمهم،
وغير ذلك مما فصَّلناه في المجلد الماضي.
ولكن كل ذلك لم يُرجع أولئك الغلاة عن غيهم وجهلهم، ومنهم الفرقة المشهورة
بلقب (الغطغط) الذين كانوا يؤذون بعض الحجاج وينبزونهم بلقب المشرك،
وروي أنهم كانوا يضربون الذين يشربون الدخان، وهذا افتئات على الإمام ولي
الأمر، زائد على المشروع من إنكار المنكر، فلكل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى
عن المنكر بما يعلمه، ولكن العقاب خاص بالسلطان ونوابه بغير خلاف، وبهذا
كانوا سبب تجديد الطعن في الوهابية بعد أن ظهر لحجاج العالم فضل الإمام ابن
سعود في العدل والأمن العام، وقد دعوا إلى تحكيم علماء الشرع فيما ينكرونه فلم
يقبلوا، فاضطر الإمام إلى تأديبهم بالسيف ففعل وكان موفقًا منصورًا.
كتب إليَّ أيَّده الله تعالى في 22 شوال من العام الماضي كتابًا خاصًّا فيما وقع
له معهم، قال فيه ما خلاصته (إن بعض الإخوان من أهل الغطغط والدويش وقسم
من الغلاة يظهر منهم منذ ثلاث سنين تعصبات وأمور مخالفة للشرع، وقد كانوا
مغرورين ومعهم بعض المهاجرين من البادية، ويرون أن أمرهم حق لأجل محبتهم
للدين، ولكن الحمد لله انكشف الغطاء عن كثير من المسلمين، ورأوا أن الجماعة
بين فرقتين: واحدة تعبد على جهل وواحد [1] له بعض المقاصد السيئة مثل طمع
وغيره ويجعل الدين له حجة (وذكر هنا جمع الناس في الرياض، وما كان من
تأثيره وأنه ظهر لأغلب الناس حال هؤلاء الغلاة وأنهم ليسوا على حق) ثم قال:
ثم بعد ذلك أكثرنا عليهم النصائح والدعوة لأجل براءة الذمة عند الله، ثم
النصح للرعية ولكن لم يفد ذلك، فاجتمعوا في هذه الأيام وأشاعوا عند أهل نجد أنهم
غزاة، وأن قصدهم القصور، وأهل القصور التي في حدود العراق، يريدون بذلك
خديعة أهل الحق، وبعد ذلك تبين أمرهم أنه فاسد، وأخذوا بعض الرعايا، ولما
تحقق ذلك وثب المسلمون وثبة رجل واحد جزعًا من أمرهم، واجتمعوا لوضع حد
حازم لهذه الأمور.
فلما تكامل الجمع دعوناهم لتحكيم الشريعة في جميع أمرهم فأبوا، فأرسلنا
إليهم الشيخ عبد الله العنقري والشيخ أبو حبيب فدعوهم فلم يقبلوا، فلما رأينا ما بهم
من الفساد وعدم الامتثال للشريعة والولاية استعنا بالله عليهم وأمرنا المسلمين
بالزحف عليهم، والحمد لله أخذهم الله وقتل منهم جملة، والمسلمون من فضل الله
لم يصابوا إلا بخسارة قليلة جدًّا لا تعد بالأصابع، وبعد ذلك رجعوا وطلبوا العفو،
وتبين للقوم الذين كانوا معهم أنهم كانوا ضالين الطريق، وجميع من كان معهم
وسلموا من القتل عفونا عنهم إلا الدويش وابن حميد ما رضينا إلا بتحكيم الشريعة
فيهم؛ لأنهم أساس الفساد وقد قبلوا الأمرين (أحدهما) ترك الناس لهم (والثاني)
أنه لا ملجأ لهم، والدويش جريح الله أعلم يموت أو يحيا.
والحقيقة أننا ما كنا نحب أن يصير بين المسلمين قتل رجل واحد؛ ولكني
امتثالاً لأمر الله في قتال الباغين والسعي وراء راحة المسلمين أُجبرت على ذلك،
والعاقبة من فضل الله حميدة للإسلام والمسلمين) اهـ.
هذا ما تفضل جلالة ملك الحجاز ونجد بكتابته إلينا باختصار قليل؛ وإنما
نشرناه على خلاف عادتنا في المكتوبات الخاصة لما فيه من التصريح الرسمي بأن
في الإخوان النجديين غلاة في الدين وقساة تغلب عليهم طباع البداوة وقساوتها، وأن
الإمام كان يريد أن يربيهم بالعلم والشرع؛ لأن سبب غلوهم وقساوتهم الجهل إلا
بعض رؤسائهم المغروين الذين زيَّن لهم الشيطان استغلالهم بسوء بقصد،
وتصريحه بأنهم منذ ثلاث سنين قد ظهر من غلوهم ما لم يكن له مظهر من قبل،
يعني أنهم بعد استيلائه على الحجاز وما تجدد لحكومته من العلاقات مع البلاد
المجاورة قد حدث من الأسباب ما ظهر به ما كان خفيًّا من استعدادهم وجهلهم.
رأينا أن نثبت هذه التصريحات الرسمية ليعلم من لم يكن يعلم أن كل ما كان
ينسب من الغلو والقسوة إلى النجديين بعنوان الوهابين لم يكن إلا من فئة قليلة ينكر
عليها غلوها إمامهم وملكهم، وينكره علماؤهم وزعماؤهم، بل ينكره كذلك دهماؤهم؛
ولكن براءة الدهماء منه وإنكارهم له وهم السواد الأعظم كان مجهولاً حتى عند
الباحثين الذين يعرفون أن الذنب فيما ينتقد عليهم، لا يمس أهل العلم والمعرفة منهم.
سمعت السيد محمد بن عقيل بن يحيى المشهور وهو من أشد خصوم الوهابية
لما له من نزعة التشيع ودعايته يقول مرارًا أنه سمع أستاذه السيد أبا بكر بن شهاب
يقول ما معناه أن من يُحَدِّث أهل العلم والمعرفة من الوهابيين يجزم بأنهم ليسوا فرقة
مستقلة دون أهل السنة؛ ولكن عامتهم كغلاة الخوارج بلا فرق.
هذا وإن الدويش قد سلم من جرحه وحدث بعد عودة الملك من نجد إلى
الحجاز لحضور موسم الحج أحداث جديدة منها انتقاض بعض قبائل العجمان، وقد
نكَّل بهم أمير الحسا ابن جلوي الشهير تنكيلاً ما كان ليقع لو كان جلالة الملك في
نجد لسعة حلمه وتحاميه سفك الدم، وإرهاف الحد إلى هذا الحد، والمرجو أن ينهي
جلالته في رحلة هذا الصيف إلى نجد جميع مشاكلها الداخلية والخارجية والله
الموفق [2] .
حالة الأفغان، وهزيمة أمان الله خان:
ما برحت أنباء القتال بين أمان الله خان والخارجين عليه الذين قرروا ثل
عرشه، متناقضة متعارضة تعبث بها أهواء الناقلين لها إلى أن انكشف الغبار عن
هذا الملك المغرور، الذي غرَّته الأماني وغرَّه بالله الغَرور، موليًا دبره ساحات
النزال، مؤثرًا للهزيمة على القتال فارًّا بزوجه وولده، ومن كل ثم من أسرتها
وأسرته، قاصدين الحج إلى أوربة للتمتع بما رأوا فيها من الحرية، متكلين على
القبائل المناوئة لحبيب الله بجه سقا (أي رئيس السقائين) الذي انتزع منه ملكه،
ولا سيما التي يقودها نادر خان القائد الأفغاني الشهير وأخوه وأعوانهما، راجيًا أن
يتم لهم الفلج فيعيدوه إلى عرش بلاده عزيزًا كريمًا، بعد أن خرج منها مذءومًا
مدحورًا.
ولقد حزن عليه دعاة الإلحاد وأعداء السلام وحجتهم حب الحضارة والتجديد،
وإنقاذ الشعب الأفغاني الجاهل من الهمجية القديمة، وهل يمكن ذلك التجديد عند
هؤلاء السفهاء، إلا بالبرانيط وسائر أنواع اللباس الإفرنجي، وإلقاء العمائم وحلق
اللحى وتهتك النساء؟ ولكن كثيرًا من مسلمي الهند حزنوا عليه لأنه يكره الإنكليز،
كما أن جماهير المسلمين قد سروا بسوء عاقبة سياسته التركية الأنقروية، وهم لا
يشكون في أنها سياسية إلحادية إفسادية.
وأما أنا كاتب هذا، فإنني لم أكن أشك في سوء عاقبة أمان الله خان إذا هو
جرى على ما كانت تدل عليه بوادر سياسته قبل سياحته ثم أكدتها سياحته؛ ولذلك
نصحت له وأنذرته هو ووزيره وصهره - المغري الأكبر له - أنذرته خسارة الملك
بتقليد مصطفى كمال {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس:
101) وكتبت لهما هذا كتابة صريحة كما عرف قراء المنار، فلا غرو أن أُسرَّ
بصحة علمي وصدق رأيي، وأن أتمثل بقول أستاذينا الحكيمين في العروة الوثقى
إذ قالا في مثل هذه الحالة: إننا نتكلم عن طباع الأمم وحقائق السياسة.
ولا غرو أن أُسَرَّ بفشل السياسة الإلحادية في الأفغان، التي تحاول تنفيذ ما
عجزت عنه أقوى الحكومات ودعاة الأديان، من محو دين الإسلام من الأرض بعد
محو حكم الإسلام.
وكان يسرني أضعاف ذلك أن يرعوي أمان الله خان ويزدجر، ويسلك في
إصلاح بلاده الصراط المستقيم وهو هدي الإسلام الجامع بين مصالح الدارين،
والفوز بالحسنيين، ويستعين على جمود علماء بلاده بالمستنيرين من علماء هذه
البلاد وغيرها، وقد ضمنت له ولرجاله إقناعهم بكل ما يشتبهون في منع الشرع له
من الترقيات العسكرية والإدارية ونحوها، كما قنع قبلهم كثير من علماء العرب
والترك، حتى علماء نجد الذين لا يجهل أحد شدة اعتصامهم بالدين وقوة شكيمتهم
فيه، وها هو ذا ملكهم وإمامهم قد وجد منهم خير الأعوان الناصحين لغلاة قومهم
الذين استنكروا منه استعمال التلفون والتلغراف اللاسلكي ونحوهما، ظنًّا منهم أنه
من السحر وعمل الشيطان.
وإنه ليسوءني أن تبذل الأمة الأفغانية العزيزة النفس الشديدة البأس كل تلك
الدماء الغزيرة في سبيل إنقاذ بلادها العزيزة من الإلحاد، وفشو الفسق والفساد،
وأخشى أن يغلو من يتولى أمرها في مقاومة المشروع من الإصلاحات المدنية
والعسكرية كما غلا أمان الله في مقاومة الهداية الدينية.
__________
(1) كذا في الأصل، فهل هو سبق قلم أو عمد قُصدت به الإشارة إلى فيصل الدويش وابن حميد؟ .
(2) كُتب هذا الفصل لينشر في الجزء الأول، ثم اُضطررنا إلى تأخيره، وقد سافر الملك عبد العزيز أول هذا العام نجد، وكان من أمره معهم ما سننشر المهم منه بعد.(30/225)
الكاتب: عبد الحميد الرافعي
__________
الرحيق المختوم
وهي خاتمة المهرجان الذهبي للرافعي في شكره للمحتفلين به والذكرى الخالدة
لقومه.
خذ جبهة البدر عند التم قرطاسًا واجعل سواد عيون العين أنفاسا
ومن أشعة نور الشمس خذ قلمًا ... واقتبس لنفسك من حسان أنفاسا
وانظم نجوم السما واشمخ بشعرك عن ... جواهر الأرض إن درًّا وإن ماسا
عساك تبلغ ما يرضي العلى بثنا ... أكارم بثناهم نرفع الراسا
أقطاب مجد أقاموا للعلى فلكًا ... تسبيك أنجمه سرجًا وحراسا
وأولت الأدب العالي فضائلهم ... روحًا أعادته نضر الغصن مياسا
تواضعوا لك بالتكريم عن كثب ... شأن الكريم بمرجو الندى واسى
ومن نأى جاد عن بعد بعاطفة ... تُنسي المُعنَّى من الأيام ما قاسى
واشكر (حكومة) لبنان فقد جمعت ... أسدًا حوت شرف الأخلاق أخياسا [*]
رئيسها الندب قد أولاك عارفة ... أضحت حيال سناها الشهب أخناسا
وألبس الوطن الغالي بغيرته ... عزًّا على الفلك الدوَّار دواسا
وأنت إن لم تكن أهلاً لفضلهم ... فالغيث يسقي الربى خُضرًا وأيباسا
هم كرَّموا اللغة الفصحى لأنهم ... أبناء بجدتها ذوقًا وإحساسا
ومن لنصرك يا أم اللغات سوى ... أبنائك الغر أجوادًا وأحماسا
أنت العروس التي تهنأ بعزتها ... منا النفوس وتقضي العمر أعراسا
والله أغناك باللفظ الرشيق وبالـ ـمعنى الرقيق فكنت الراح والكاسا
وقد أمدك من نور الجلالة ما ... تود منه لغات الكون أقباسا
والشعر لولاك لم تعشق لطافته ... ولا غدا في خلال النفس جواسا
فرب نظم تفوق الراح رقته ... به سكرنا وعفنا الكأس والطاسا
ورب بيت نديّ الروح ذي عظة سلّى الحزين، ومكلوم الجشى آسى
ورب قول تخال النور يسطع من ... خلاله كان للألباب مقباسا
يُزَهى اليراع إذا ما خط حكمته ... وتستقل له الأفلاك أطراسا
سحر البيان تجلى فيه فانقلبت ... بسِرِّه وحشة الأقوام إيناسا
حمى القبيلة من خوف ومن حذر ... فليس تحتاج أسيافًا وأتراسا
هذا هو الشعر شعر الروح إن صلحت ... أبدت صلاحًا يصد الشر والباسا
وإن تسؤ صيّرتْ ماء الصفا لهبًا ... والسلم حربًا ودور العز أرماسا
هو القريض على أفق الجمال سما ... وفضله جاوز الجوزاء وأجناسا
شادت به العرب الأجواد بيت على ... سامي العلى ورسا في المجد أساسا
إذ كان مفخرة الأجيال عندهُم ... وبهجة النفس إصباحًا وإغلاسا
فكم معلقة منه لها سجدوا عرفان فضل به عطف النهى ماسا
وكم رقائق أجرى العرب سلسلها ... يُنبتن في الجلمد الريحان والآسا
كانوا ملوك الفلا يحمى الذمار منهم ... ويرتجى العون فيما سر أو ماسا
تسنموا من متون الخيل ضامرة ... عرشًا على كل عرش في الورى داسا
وما عليهم وهم أهل الشجاعة إن ... تخيروا من أسود الغاب جلاسا
سر الفراسة فيهم زادهم شرفًا ... عنه التوت أعين الحساد أنكاسا
وبالفصاحة زان الله ألسنهم ... سادوا بها الخلق أجناسًا فأجناسا
والقول كالفعل منهم كان ممتلئًا ... صراحة لم تدع في الصدر وسواسا
وعزمهم إن دعا داعي الهياج بهم ... يذلل الأسد مهما كن أشراسا
وهم رجال القرى والغوث من قدم ... ولن يزالوا مجاويدًا وأشواسا
لهفي على زمن عمت سيادتهم ... به وكانوا لأهل الأرض سواسا
ليت الليالي التي مذ ثار ثائرها ... أَردَتْ (كُليبًا) وغالت بعدُ (جساسا)
أبقت مشاهير أهل الجود من جعلت ... لها المفاخر أقطاعًا وأحباسا
وأخلفت كالموالي من بني مضر ... وآل قحطان أقيالاً وأكياسا
ممن أفادوا بني الدنيا هدى وندى ... ومن أقاموا بها للعدل قطاسا
توارثوا المجد عن أسلافهم وسروا ... مسراهم فزاكوا زهرًا وأغراسا
وصاحبوا العلم نضرًا والتقى أرجًا ... والحلم أزهر والأخلاق أقداسا
أولئك القوم لولا ذكرهم أبدًا ... يبني قصور الرجا أصبحن أدراسا
يا ابن العروبة جدد مجدها وأقم ... له العماد بعزم يطرد الياسا
اسلك إليه سبيل العلم مجتهدًا ... طول الحياة تنل جاهًا وأرغاسا
وخل نهج الكسالى إن تكن فطنًا ... فالنصل تكسبه الأصداء أدناسا
أهل البطالة أوهى الذل أنفسهم ... ولم يدع في ديار العز أحلاسا
والجهل إن ساد في الأقوام بدَّلهم ... من السعود - وقاك الله - أتعاسا
ناج الحقيقة واهجر كل مختبل ... يدق للوهم أبواقًا وأجراسا
ولا تمد لغير المستطاع يدًا ... فضارب الصلد يوهي الزند والفاسا
وإن ضربت بسهم في سبيل عُلى ... فكن معدًّا لها بالحزم أقواسا
كم ذلل الحزم صعبًا كان أمنع من ... صيد أقر عليه الليث أضراسا
أخو الحصافة يلقى الهول مبتسمًا ... كأنما شد للأفراح أفراسا
وعادم الرأي لا ينفك مبتئسًا ... حيران يضرب للأسداس أخماسا
واذكر مآثر أسلاف حضارتهم ... كانت لدى ظلمة التاريخ نبراسا
في كل علم وفن طال باعهمُ ... حتى جلوا عن طريق النجح أغلاسا
وألبسوا الوطن الغالي بسؤددهم ... عزًّا على الفلك الدوَّار دواسا
سادوا وشادوا صروح المجد واكتملوا ... عدلاً وفضلاً وكانوا خير من ساسا
وأصبحوا قدوة للخلق نافعة ... والناس خيرهم من ينفع الناس
فاعمل لإحياء ما شاد الجدود ولا ... تقم على الجهل إما كنت حساسا
عسى مع العالم الراقي يكون لنا ... حظ يعيد حواشي العيش أملاسا
واصرف جهودك طول العمر منتحيًا مجد العروبة أثرى الحظ أو خاسا
ولا تعش يائسًا في الدهر من أمل ... قد يبسم الدهر مهما كان عباسا
وليس ينساك من نجاك من زمن ... قسا وشد على الأعناق أمراسا
وما رميت ولكن الإله رمى ... وليس يخطئ سهم الله برجاسا
... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الرافعي
__________
(*) المنار: أسقطت بعض جرائد بيروت الوطنية شكر الناظم لحكومة لبنان ورئيسها لعدم رضاها
عنها، وكذا جمهور المسلمين المهضومي الحقوق فيها؛ ولكن الناظم معذور في شكره ما أحسن
به الرئيس وحكومته إليه.(30/233)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع الاتفاق الجديد
بين إنكلترة ومصر
ذهب صاحب الدولة محمد باشا محمود سليمان إلى إنكلترة مصطافًا، ولم يكن
يخطر بباله أن الفرصة سانحة لعقد اتفاق جديد بين إنكلترة ومصر؛ ولكن فاجأه
فيها أن وزارة العمال الجديدة أكرهت المندوب السامي (لورد لويد) على الاستقالة
من منصبه كراهة؛ وإنكارًا لما كان من استبداده بمصر وافتئاته عليها، ثم فاجأه أن
فتح له وزير الخارجية البريطانية باب المفاوضة في المسألة المصرية على
مصراعيه فولجه ووقع ما توقعناه في مقالنا الماضي، فانتهت هذه المفاوضة بعرض
وزير الخارجية الاقتراحات التالية لأجل أن تُعْرَض على الأمة المصرية في برلمان
قانوني، فإن قبلها عرضتها الحكومة البريطانية على برلمانها وأوصته بقبولها،
وهذا نص ترجمتها على ضعف فيها:
اقتراحات وزير خارجية إنكلترة لتسوية العلاقات الإنجليزية المصرية
1- ينتهي احتلال مصر عسكريًّا بجيوش ملك بريطانيا العظمى.
2- تُعقد محالفة بين الدولتين المتعاقدتين توطيدًا لصداقتهما، والتفاهم الودي
وحُسن العلاقات بينهما.
3- أن مصر رغبة منها في أن تصبح عضوًا بجمعية الأمم ستقدم طلبًا
للانضمام إلى تلك الجمعية طبقًا للشروط التي نص عليها في المادة الأولى من عهد
الجمعية، وتتعهد حكومة جلالته البريطانية بتأييد هذا الطلب.
4- إذا قام أي نزاع مع دولة ثالثة نشأت عنه حالة تنذر بخطر قطع العلاقات
مع تلك الدولة؛ فإن الفريقين المتعاقدين يعملان معًا بقصد تسوية ذلك النزاع
بالوسائل السلمية طبقًا لنصوص عهد جمعية الأمم ونصوص أي تعهد دولي يمكن
تطبيقه على تلك الحالة.
5- يتعهد كل من الفريقين المتعاقدين أن لا يقف في البلاد الأجنبية موقفًا لا
يتفق مع هذه المحالفة، أو ينشئ صعابًا للفريق الآخر، وعملاً بهذا التعهد لا يقاوم
أحدهما سياسة الآخر في البلاد الأجنبية، ولا يعقد مع دولة ثالثة أي اتفاق سياسي
قد يكون مجحفًا بمصالح الآخر.
6- تعترف حكومة جلالته البريطانية بأن تبعة المحافظة على أرواح الأجانب
في مصر وأملاكهم تقع من الآن فصاعدًا على عاتق الحكومة المصرية، ويتكفل
جلالة ملك مصر بتنفيذ تعهداته بهذا الشأن.
7- إذا اشتبك أحد الفريقين المتعاقدين في حرب رغم نص الفقرة 4 الواردة
آنفًا؛ فإن الفريق الآخر يبادر لمعونته مع مراعاة نص الفقرة 14 التي ستُذكر فيما
بعد وذلك بصفته حليفًا، وبوجه خاص فإنه في حالة وقوع حرب أو خطر وقوع
حرب يقدم جلالة ملك مصر إلى جلالته البريطانية في الأراضي المصرية جميع
التسهيلات والمساعدات التي في وسعه، ومن ذلك استخدام موانئه ومطاراته
ووسائل مواصلاته.
8- نظرًا إلى الرغبة في توحيد نظام التعليم والأساليب في الجيشين المصري
والبريطاني يتعهد جلالة ملك مصر بأنه إذا رأى من الضروري الالتجاء إلى مدريين
عسكريين أجانب؛ فإنهم يُختارون من الرعايا البريطانيين.
9- تسهيلاً وضمانًا لمحافظة جلالته البريطانية على قناة السويس بصفة كونها
طريقًا ضروريًّا للمواصلات بين أجزاء الإمبراطورية المختلفة - يجيز جلالة ملك
مصر لجلالته البريطانية أن يبقي على الأراضي المصرية، وفي مواقع يتفق عليها
فيما بعد شرقي الدرجة 32 من خطوط الطول: القوات التي يراها جلالته
البريطانية لازمة لهذا الغرض، ووجود هذه القوات لا يعتبر احتلالاً بأية حال من
الأحوال، ولا يمس حقوق سيادة مصر.
10- نظرًا إلى الصداقة بين الدولتين، وإلى المحالفة المرجو عقدها بهذه
الاقتراحات؛ فإن الحكومة المصرية عند احتياجها لخدمات موظفين أجانب تستخدم
رعايا بريطانيين كقاعدة عامة.
11- يعترف جلالة ملك بريطانيا العظمى بأن نظام الامتيازات القائم في
مصر الآن لا يلائم روح العصر، ولا حالة مصر الحاضرة، وعليه فإن جلالته
البريطانية يتعهد ببذل كل ما له من نفوذ لدى الدول ذوات الامتيازات في مصر لنقل
اختصاص المحاكم القنصلية الحالي إلى المحاكم المختلطة، وتطبيق التشريع
المصري على الأجانب بشروط تضمن مصالحهم المشروعة.
12- نظرًا إلى الصداقة بين الفريقين المتعاقدين، وإلى المحالفة المراد عقدها
بموجب الاقتراحات الحاضرة، يمثل جلالة ملك بريطانيا العظمى لدى بلاط جلالة
ملك مصر سفير يعتمد بالطرق المرعية، ويحفظ جلالة ملك مصر أسمى مركز
سياسي في بلاطه لممثل جلالته البريطانية. ويمثل جلالة ملك مصر سفير لدى بلاط
سانت جيمس.
13- مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل تعديلاً لاتفاق سنة
1899 يتفق الفريقان المتعاقدان على أن تكون حالة السودان هي الحالة المترتبة
على الاتفاق المذكور، وعلى ذلك يواصل الحاكم العام استعمال السلطة المخولة له
بموجب الاتفاق المذكور بالنيابة عن الفريقين المتعاقدين.
14- لا يُقصد بهذه الاقتراحات، ولا يمكن أن ينبني عليها الإخلال بالحقوق
والالتزامات المترتبة أو التي يمكن أن تترتب لأحد الطرفين المتعاقدين أو عليه
بمقتضى عهد جمعية الأمم أو ميثاق نبذ الحرب الموقع عليه في باريس في 27
أغسطس سنة 1828.
15- يتفق الفريقان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما في تطبيق
نصوص هذه الاقتراحات أو تفسيرها مما لا يتسنى لهما تسويته بالمفاوضات مباشرة
يُعالج بمقتضى نصوص عهد جمعية الأمم.
16- في أي وقت بعد انقضاء خمس وعشرين سنة من نفاذ معاهدة تبنى على
الاقتراحات المار ذكرها، يجوز إجراء أي تعديل في شروطها يُرى من الملائم
عمله وفقًا للظروف القائمة وقتئذ، وذلك بالاتفاق بين الفريقين المتعاقدين.
المذكرات المفسرة لهذه المقترحات
الجيش
المذكرة البريطانية
حضرة صاحب الدولة:
في خلال محادثاتنا الأخيرة نشأت بعض مسائل عسكرية، وتم النظر فيها بأتم
العناية، وتنقسم هذه المسائل بطبيعتها إلى قسمين:
أولهما: ما يتعلق بقوات الجيش المصري التي قد يمكن أن تدعى لمعاونة
القوات البريطانية المحالفة معاونة فعلية فيما لو نشأت لسوء الحظ أحوال من التي
أُشير إليها في الجملة الأولى من الفقرة السابعة من الاقتراحات.
وثانيهما: المسائل الخاصة بالقوات البريطانية التي سيكون مقامها بجوار
قنال السويس طبقًا للفقرة (9) لضمان الدفاع عن ذلك الشريان الحيوي من طريق
المواصلات البريطانية الإمبراطورية.
فأما فيما يتعلق بالقسم الأول فقد اتفقنا على ما يأتي:
1- ينتهي النظام الحالي الذي يقوم بموجبه المفتش العام وأركان حربه بتأدية
بعض الوظائف، ويسحب الموظفون البريطانيون من الجيش المصري.
2- على أن الحكومة المصرية ترغب وفقًا للفقرة الثامنة من الاقتراحات في
الإنتفاع بمشورة بعثة عسكرية بريطانية، وحكومة جلالة ملك المملكة المتحدة
وشمالي أرلندا تتعهد بتقديم بعثة كهذه.
وترسل الحكومة المصرية موظفي الجيش المصري لتدريبهم في بريطانيا
العظمى فقط، وتتعهد حكومة جلالته من جانبها بقبول جميع الموظفين الذين تريد
الحكومة المصرية إرسالهم إلى بريطانيا العظمى لهذا الغرض.
3- لمصلحة التعاون الوثيق المشار إليه آنفًا يجب أن لا يختلف نوع الأسلحة
والمهمات في الجيش المصري.
وتتعهد حكومة جلالته بالتوسط لتسهيل الحصول على تلك الأسلحة والمهمات
من بريطانيا العظمى كلما أرادت الحكومة المصرية ذلك.
أما فيما يتعلق بالقوات البريطانية المشار إليها في الفقرة (9) من الاقتراحات:
1- فإن الحكومة المصرية تقدم مجانًا لحكومة جلالته الأراضي والثكنات ...
إلخ في الأماكن التي يتفق عليها وتكون معادلة لما تشغله القوات البريطانية في مصر
في الوقت الحاضر.
وعند إكمال المحال الجديدة تُنقل تلك القوات إليها وتُسلم الأراضي والثكنات
إلخ ... بعد إخلائها إلى الحكومة المصرية.
ونظرًا إلى العقبات الفنية التي تعترض إجراء النقل تدريجيًّا؛ فإنه ينتظر إكمال
المحال الجديدة، ثم يؤخذ في النقل.
ونظرًا لطبيعة المنطقة الواقعة شرقي درجة 32 من خطوط الطول، فتُتخذ
التدابير لتقديم وسائل الراحة المعقولة بزراعة أشجار وحدائق وهلم جرًّا للجنود،
ومدهم أيضًا بمورد للماء العذب يكون كافيًا في الأحوال الطارئة.
2- تستمر الامتيازات التي تتمتع بها الجيوش البريطانية في مصر في
المسائل القضائية والمالية، ويجوز تعديل ذلك في المستقبل بالاتفاق بين الحكومتين.
3- تمنع الحكومة المصرية مرور الطيارات فوق الأراضي الواقعة على كلتا
ضفتي قناة السويس إلى مدى عشرين كيلو مترًا منها إلا في حالة الاتفاق بين
الحكومتين على عكس ذلك.
على أن هذا المنع لا يتناول قوات الحكومتين أو الخطوط التي تقوم بتسييرها
هيئات بريطانية أو مصرية حقيقية تعمل تحت سلطة الحكومة المصرية.
قد اتفقنا أيضًا على أن تقدم الحكومة المصرية جميع التسهيلات اللازمة
للطيارات الحربية البريطانية وموظفيها ومهماتها المتجهة إلى المطارات الموضوعة
تحت تصرف القوات البريطانية طبقًا للفقرة (9) من الاقتراحات أو القادمة من
تلك المطارات.
وتقدم حكومة جلالته التسهيلات الملائمة للطيارات الحربية المصرية
وموظفيها ومهماتها في الأراضي الواقعة تحت مراقبتها.
(هذا نص ترجمة المذكرة البريطانية في المسألة العسكرية، وقد أجاب
عليها رئيس الوزارة المصرية بالموافقة التامة، ويليها مذكرات متبادلة في مسائل
المستشارين المالي والقضائي، والبوليس الأجنبي، وإلغاء الامتيازات الأجنبية
والموظفين الأجانب، كلها في الدرجة الثانية من عظم الشأن) .
المذكرات في مسألة السودان
مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على الإطلاق لأن مصر لا حياة لها
بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن، والنيل الآتي منه بمنزلة الدم
الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته، وقد ورد في شأنه ثلاث مذكرات بريطانية أجاب
عن كل منها وزير مصر بالموافقة (إحداها) مسألة الديون التي على مصر، وقد
اتفق الفريقان (على أن تفحص مسألة الديون التي على السودان في الوقت الحاضر
بقصد تسويتها على أساس العدل والإنصاف) (الثانية) مسألة (جعل الاتفاقات
الدولية منطبقة على السودان) وقد اتفقا على أن هذه الاتفاقات ستكون (فنية أو
إنسانية) وأن الاتفاق عليها سيكون بين مندوبين عن الحكومتين، وفي هذا من
الإبهام والغموض ما يخول إنكلترة تفسيره كما تريد (الثالثة) مسألة عود الجنود
المصرية إلى السودان، وفي المذكرة البريطانية أنه إذا نُفِّذَتْ المعاهدة بالروح
الودية التي تفاوض فيها الفريقان في هذه الاقترحات؛ فإن الحكومة البريطانية
(تكون مستعدة لأن تفحص بروح العطف الاقتراح بشأن عودة أورطة مصرية إلى
السودان في الوقت الذين تنسحب فيه القوات البريطانية من القاهرة) ! !
وقد أجمع الناس هنا وفي أوربة على أن هذه المقترحات وتفاسيرها أعظم
تساهل وسماح صَدَرَ عن حكومة بريطانية مع مصر، وسنتكلم عليه في الجزء
الآتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(30/236)
ربيع الآخر - 1348هـ
أكتوبر - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة انشقاق القمر
(س38) من الشيخ عبد الرحمن الجمجمون بكفر مجر وغيره.
(مقدمة للسؤال) كتب صاحب السعادة أحمد زكي باشا الشهير مقالاً في
بعض الجرائد اليومية أنكر فيه انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
وأنكر ما روي في انشقاقه، وادعى أنه من رواية كعب الأحبار وأمثاله من رواة
الإسرائيليات، وأول آية أول سورة القمر بمثل ما أوَّلها به بعض السلف والخلف
خلافًا للجمهور من كون الفعل الماضي فيها {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) بمعنى
المستقبل كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) إذ اتفقوا
على أنه بمعنى (سيأتي) ومثله كثير في التنزيل؛ ولكن كتابة أحمد زكي باشا في
المسألة جاءت في سياق بحث تاريخي، ولم تكتب بالأسلوب العلمي الإسلامي عند
أهل الحديث والأصول، ولا بما اعتاده هو من تحرير المسائل التاريخية
والجغرافية فكان فيها مؤاخذات غير أصل المسألة، فتصدى للرد عليه كثير من
علماء الأزهر وغيرهم في صحف مصر وسورية، وكتب إلينا كثيرون يسألوننا
الرد عليه في الجرائد اليومية والمنار، ومنهم ومن كتب شيئًا ورغب إلينا في نشره؛
ولكنه ليس من التحقيق الذي يليق نشره في المنار مع السكوت عنه، ولا يحسن
نشره للرد عليه، وأول من طلب منا ذلك صديقنا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني
من كفر مجر، وذكَّرنا بما كنا نشرناه في إثبات المسألة في المجلد السادس من
المنار، ولما كان كل ما اطلعنا عليه من الردود على الباشا بمعزل من التحقيق في
المسألة كما كان الذي كتبه في إنكارها بمعزل من التحقيق أيضًا - رأينا أن الواجب
علينا أن نكتب تفصيلاً لما أجملناه في المجلد السادس فيها ونبينه على سؤال
الجمجموني، ونبدأ بعبارتنا هنالك وهذا نصها:
ورد ذكر هذه المسألة في الجزء الثاني من المجلد السادس المؤرخ في 16
المحرم سنة 1321 في جواب استفتاء من علي أفندي مهيب الذي كان مفتشًا في
إدارة مصلحة التلغراف، وهو الآن سكرتير وزارة المواصلات سأل فيه عما صح
من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس فيه وهذا نص المسألة من
تلك الفتوى (ص68م6) .
ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر، روياه كغيرهما عن جماعة
من الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق
ونقلوه بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه، بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم،
وأن القمر لا يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وأن بعض
المشركين لما قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفّار. وانتظروهم جاءوا
فأخبروا بأنهم رأوا القمر من ليلتهم قد انشق ثم التأم، وبأنه يجوز أن يكون رآه
غيرهم وأخبر به فكذَّبه من أخبرهم، وخشي أن يكذِّبوه فلم يخبر، وليس بضروري
أن يراه في تلك اللحظة علماء الفلك على قلتهم في الجهة التي رؤي فيها.
(ولكنني لا أذكر أن أحدًا أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الآيات المقترحة لأنها سبب نزول العذاب بالأمم
إذا لم يؤمنوا، وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب كفار قريش؛ ولا أذكر لهم
أيضًا جمعًا بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) وآية {وَمَا
مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من
تأويل إحداهما، وقد أوَّل بعضهم الأولى فقط، وليس المقام مقام التطويل في هذه
المباحث) اهـ.
هذا ما كتبناه في تلك الفتوى وموضوعها ما صح سنده من الروايات في
معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو خلاصة أصح الروايات في هذه المسألة، وما
اعترض عليها، وما أجيب به عن الاعتراضات وما فيها من إشكال لم يجيبوا عنه
من غير مراجعة ولا نقل.
وإذ قد اقتضت الحال الآن تحرير المسألة رواية ودراية فإننا نبدأ بالرواية
فنقول:
(أ) الروايات في انشقاق القمر وعللها:
زعم بعض العلماء المتقدمين أن الروايات في انشقاق القمر بلغت درجة
التواتر! وهو زعم باطل كقول ابن عبد البر الآتي أنه نقله جماعة كثيرة من الصحابة
والتابعين، وإن تلقاه الكثيرون بالقبول حرصًا على إثبات مضمونه كعادتهم في
الفضائل والمناقب ودلائل النبوة، فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسندًا على
شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم يخبر عن رؤية وهو عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد أخرجاه عنه كأحمد وغيره من طريق سفيان بن
عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر ومن طريق الأعمش عن إبراهيم
عن أبي معمر، وصح عندهما مرسلاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه من
طريق قتادة فقط، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة، وإنما كان هذان الحديثان مرسلين
لأن الحادثة وقعت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، ولم يكن ولد عبد الله بن عباس،
وأما أنس فكان في المدينة ابن خمس سنين، والخلاف في الاحتجاج بالمرسل
معروف، ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقًا يبني احتجاجه على أنهم يروون عن
مثلهم؛ ولكن ثبت أن بعضهم كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار،
وعلى كل حال لا يصح في مراسليهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى
من شاهد المروي، ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط.
ورواه مسلم من طريق شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وهي أحد
الطريقين عن ابن مسعود، وليس فيها أنه حَدَّثَ عن رؤية وقد تردد الحافظ في هذه
الرواية: هل هي إسناد آخر عند مجاهد (أو قول من قال ابن عمر وهمٌ من أبي
معمر؟) وقد روى الحافظ أن ابن عمر هاجر وهو ابن عشر سنين، وفي رواية
أخرى أنه كان سنة الهجرة ابن ست.
ورواه الإمام أحمد وتبعه ابن جرير والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله
عنه من طريق سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه.
فأما جبير فقد أسلم بعد عام الحديبية وقبل فتح مكة، وقيل في الفتح، وقد كان
مع المشركين في غزوة بدر وأسره المسلمون، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ سورة الطور، قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وليس في حديثه
أنه رأى، ولكن ظاهره أنه كان مسلمًا، ولم يكن مسلمًا، ولو رأى ذلك في حال
شركه لعده بعد إسلامه مما أثّر في نفسه.
وأما السند إليه فضعيف: فسليمان بن كثير ضعَّفه ابن معين كما ضعَّف ولده
محمدًا الذي روى هذا الحديث عنه، وقال ابن حبَّان: كان يخطئ كثيرًا، وأما
حصين بن عبد الرحمن فقد كان ثقة إلا أنه تغير في آخر عمره.
هذا أقوى ما ورد من الأحاديث في هذه المسألة، وعليها اقتصر الحافظ ابن
كثير في تفسيره، ورواه الترمذي في جامعه وغيره، ولها ألفاظ أخرى في التفسير
المأثور وكتب الدلائل غربلها الشيخان، واختارا ما أشرنا إليه وسنذكره بنصه،
وذكر السيوطي في الدر المنثور سائر مخرِّجيها وألفاظهم وزيادتهم على الصحيحين
فيها، وزاد ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد
الزهد، وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:
خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن
اليوم المضمار وغدًا السباق. اهـ، وابن جرير لم يذكر أن ذلك كان على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والراوي عن أبي عبد الرحمن: عطاء بن السائب
وعنه شعبة وابن علية، واتفقوا على أن عطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره
وتغير فلا تقبل رواية أحد عنه في آخرته؛ ولكن شعبة من قدماء الرواة عنه، وقد
روى ابن المنذر أنه - أي حذيفة - قرأ (وقد انشق القمر) والرواية تدل على أن
هذا خطأ؛ فإنه قرأ الآية في خطبته كما رواها القراء بالتواتر، ثم قال: ألا وإن
الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، وهذا من كلامه على أنه تفسير، على
أن أمثال هذه الروايات الآحادية الغريبة لا يثبت بها القرآن، بل لا بد من تواتره.
(ب) اختلاف المتون في هذه الأحاديث:
(1) في بعض روايات ابن مسعود في الصحيحين أنه قال: انشق القمر
ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى. وفي رواية أخرى أنه قال: انشق القمر
بمكة. وهو الموافق لرواية أنس، وكذا جبير بن مطعم فإنه قال: ونحن بمكة، وفي
رواية ثالثة لم يذكر المكان. قال الداودي: إن بين الحديثين تضادًّا، وأجاب الحافظ
ابن حجر بأن التضاد يُدفع بإرادة أنهم كانوا عند انشقاقه بمكة، أي قبل أن يهاجروا
إلى المدينة، ومِنى من جملة مكة لأنها تابعة لها، وذكر في رواية ابن مردويه
عنه أنه قال: ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة؛ ولكن هذا اللفظ لا يقال إلا
إذا كان ذلك قبيل الهجرة. وفي الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنه قال رأيت القمر منشقًّا شقتين بمكة قبل
أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء.
ثم قال الحافظ: والجمع بين قول ابن مسعود تارة: بمنى، وتارة: بمكة، إما
باعتبار التعدد إن ثبت (نقول: وهو ينفيه) وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن
قال: كان بمكة، لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن
الرواية التي فيها (بمنى) قال فيها: ونحن بمنى، والرواية التي فيها (بمكة) لم يقل
فيها (ونحن) وإنما قال: (انشق القمر بمكة) يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل
أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا تندفع دعوة الداودي، أن بين الخبرين تضادًّا والله
أعلم. اهـ.
وقوله رحمه الله: إن ابن مسعود لم يقل في رواية مكة (ونحن بمكة) إنما
يصح في رواية الصحيح التي كان يشرحها، وقد ذهل عما ذكره هو قبل ذلك في
شرحه من رواية ابن مردويه عنه، وفيها أنه قال (ونحن بمكة) على أن لفظ
(نحن) لا ينقض ما ذكره من التأويل، وإنما يبعده أن المتبادر من قوله (قبل أن
نصير إلى المدينة) أنه كان بالقرب من الهجرة، والمنقول أنه كان قبلها بخمس سنين
كما ذكره الحافظ وغيره.
(2) أن البخاري أسند قول ابن مسعود: (انشق القمر بمكة) من رواية
إبراهيم عن أبي معمر، ثم قال: وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن أبي
معمر عن عبد الله، وذكر الحافظ في شرحه أن هذه الطريق وصلها عبد الرزاق في
مصنفه والبيهقي من طريقه في دلائل النبوة بلفظ: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة
على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء بالمهلة والتصغير ناحية خارج
مكة عندها جبال. اهـ. وفي الصحيحين والترمذي وغيرهم عنه: انشق القمر
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه،
وفي رواية أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبي
نعيم عنه: رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل من بين فرجتي
القمر. وفي رواية ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل من طريق علقمة عنه: كنا مع
النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر حتى صار فرقتين، فتوارت فرقة خلف
الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اشهدوا) .
وفي حديث ابن عمر عن مسلم والترمذي وغيرهما من طريق مجاهد وقد تقدم:
انشق فرقتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة دونه. والحافظ شك في صحة هذه الرواية
عنه كما تقدم، وفي حديث جبير بن مطعم: حتى صار فرقتين، فرقة على هذا
الجبل وفرقة على هذا الجبل، وفي حديث أنس في الصحيحين وابن جرير - وتقدم -
فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، وفي رواية عن ابن عباس عند أبي
نعيم أن ذلك كان ليلة أربع عشرة، قال: فانشق القمر نصفين نصفًا على الصفا
ونصفًا على المروة.
فهذه بضعة ألفاظ يخالف بعضها بعضًا، وقد تكلف الحافظ في الفتح الجمع بين
قول ابن مسعود: شقة على أبي قبيس، وهو بمكة، وكونهم كانوا في منى، فقال:
يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف
جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقًّا حتى رجع ابن مسعود من منى
إلى مكة فرآه كذلك! وفيه بُعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب
غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع
في أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر. أو التعبير (بأبي
قبيس) من تغيير بعض الرواة؛ لأن الفرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على
جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل
بينهما. أي بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره
مثلاً صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه
أيضًا اهـ.
وفي هذا الجمع ضعف من جهات أغربها دعوى احتمال رؤية جبل أبي قبيس
من منى في الليل، وناهيك بغرابة هذا القول في حال طلوع البدر من الشرق، ومكة
في جهة الغرب من منى! ثم ماذا يفعل بسائر الروايات؟
أبو قبيس هو الجبل المشرف على مكة من شرقيها، وهي من جهة منى،
ويقابله قعيقعان من غربها، وحراء هو الجبل الذي يُرى في داخل مكة، ويسمى
الآن جبل النور وفيه الغار الذي كان يتعبد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في
الجهة الشمالية من مكة على يسار الذاهب منها إلى منى، فعرفات يبعد عن الطريق
زهاء ميل، ويبلغ ارتفاعه زهاء مائتي متر، ولا يُرى من منى، ورواية أبي نعيم
عن ابن مسعود (رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر) وأما السويداء فلا يعلم
مكانها من تفسير الحافظ لها وفي معجم البلدان وكتب اللغة أنها موضع تابع للمدينة،
وفي المعجم أنها على بعد ليلتين منها، والحافظ ثقة في النقل، ومنى أعلى من مكة،
والمسافة بينهما ثلاثة أميال.
وجملة القول: إن الروايات الواردة في كون القمر انشق وهم في مكة لا تتفق مع
الروايات المصرحة بأنهم كانوا في منى؛ لأن كل ما ذُكر في بعضها من التفصيل
والبيان للجبلين اللذين أُبهما في البعض الآخر يفيد أنه لا يمكن أن يراهما من كان
في منى، فقول الداودي بتناقض الروايتين ظاهر، وما اعتمده الحافظ من الجمع
بينهما مردود؛ ولذلك لجأ بعضهم إلى تعدد الانشقاق، وقد أبى الحافظ قبوله
على إغماضه وتساهله في الجامع بين الروايات المتعارضة؛ لأن مدار إثباته على
النقل ولم يُنقل إلا في رواية ضعيفة فيها لفظ مرتين، وقالوا: إن صوابه: شقتين
أو فرقتين؛ وفاقًا لسائر الروايات.
والقاعدة المشهورة عند العلماء في الأدلة المتعارضة التي يتعذر الجمع بينها
تساقطها، ومن الدائر على ألسنتهم في المتعارضين كذلك (تعادلا فتساقطا) والقطعيان
لا يتعارضان، والإفاضة في هذه المباحث ليست من موضوع هذه الفتوى.
(ج) استشكال الرواية بعدم تواترها:
ذكر علماء الأصول أن الخبر اللغوي ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، وأن
أقسامه العقلية ثلاثة: ما يُقطع بصدقه بالضرورة أو بالنظر الذي يؤدي إليها - وما
يقطع بكذبه كذلك - وما لا يقطع بصدقه ولا كذبه. وذكروا أن مما يقطع بكذبه
الخبر الذي لو كان صحيحًا لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر، إما لكونه من
أصول الشريعة، وإما لكونه أمرًا غريبًا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة.
ومن المعلوم بالبداهة أن انشقاق القمر أمر غريب، بل هو في منتهى الغرابة
التي لا يُعد سقوط الخطيب في جانبها غريبًا؛ لأن الإغماء كثير الوقوع في كل
زمن، ومتى وقع سقط صاحبه خطيبًا كان أو غير خطيب، وانشقاق القمر غير
معهود في زمن من الأزمان، فهو محال عادة، وبحسب قواعد العلم ما دام نظام
الكون ثابتًا، وإن كان ممكنًا في نفسه لا يعجز الخالق تعالى إن أراده، فلو وقع
لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر لشدة غرابته عند جميع الناس في جميع البلاد
ومن جميع الأمم، ولو كان وقوعه آية ومعجزة لإثبات نبوة النبي صلى الله عليه
وسلم لكان جميع من شاهدها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقلها وأكثر
الاستدلال والاحتجاج بها حتى كان يكون من نقلتها في رواية الصحيحين قدماء
الصحابة الذين كانوا لا يكادون يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في
مثل هذه المواقف، كالخلفاء وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم رضي الله
عنهم، وقد علمت أنه لم ينقل فيهما مسندًا إلا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
وأنه لم يقل: إن ذلك كان آية بطلب كفار قريش؛ وإنما روى هذا أنس بن مالك،
وروايته مرسلة ليست عن مشاهدة كما تقدم، وعلمت ما في الروايات في غير
الصحيحين من العلل.
وقد ذكر الحافظ هذا الإشكال في الفتح وأجاب عنه بما نصه:
(وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترًا، واشترك أهل الأرض في معرفته
ولَمَا اختص بها أهل مكة (فجوابه) أن ذلك وقع ليلاً وأكثر الناس نيام، والأبواب
مغلقة، وقلَّ من يرصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف
القمر وتبدو الكواكب العظام وغير وذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك
الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها،
ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق
دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم) . اهـ.
تضمن جواب الحافظ عن هذا الإشكال جوابًا عن إشكال آخر في معناه ذكره
بعده مع الجواب عنه نقلاً عن الخطابي أحد قدماء شُرَّاح صحيح البخاري، وسيأتي.
ونقول في جوابه عن مسألة نقل التواتر (أولاً) إن وقوعه في الليل وأكثر الناس
نيام لا ينافي نقله بالتواتر، إذ لابد أن يكون رآه عدد يحصل بهم نقل التواتر، ولو
من أهل مكة أنفسهم، ولا يمكن أن يختص برؤيته بعض الأفراد كما بيَّناه في توجيه
الإشكال، وقد علم من بعض الروايات أنه وقع في منتصف الشهر والقمر بدر، ولا
بد أن يكون ذلك في أول الليل كما ذكره الحافظ احتمالاً، وبه تظهر رواية كونه كان
آية على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والظاهر من رواية التصريح بأنهم
كانوا في منى أن ذلك كان في الموسم إذ لا يجتمع الناس في منى إلا في أيام
التشريق، وهي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، وصرَّح بعضهم بأنه
انشق في الليلة الرابعة عشرة، ولا يعقل أن يضرب للذين طلبوا منه صلى الله
عليه وسلم الآية من كفار قريش آخر الليل موعدًا، على أنه لا فرق بين أول الليل
وآخره من جهة اجتماع الناس من المسلمين والمشركين؛ لأنه لإقامة الحجة وهي لا
تكون بالسر والإخفاء.
(ثانيًا) أن المعلوم من عادة الناس في جميع البلاد أن يكونوا مستيقظين في
أول الليل، ولا سيما في الليالي البيض التي يكون القمر فيها بدرًا يطلع من أول
الليل، وأنهم يكثرون النظر إليه لجماله وخاصة في الأماكن الخلوية كمنى، وقد
علمت أنهم قالوا: إن انشقاقه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ومن راجع حساب
السنين في ذلك لذلك العهد علم أن موسم الحج قبل الهجرة بخمس سنين كان في
فصل الصيف.
(ثالثًا) أن التنظير بين انشقاق القمر والخسوف في غير محله؛ لأن
الخسوف من الأمور الكثيرة الوقوع التي لا يُعنى جماهير الناس بذكرها؛ وإنما يهتم
بها علماء الفلك دون غيرهم، وهي تُرى في بعض البلاد دون بعض، وأصحاب
التقاويم الفلكية السنوية المألوفة في هذه البلاد يذكرون في كل سنة ما لعله يقع في
أثنائها من خسوف القمر وكسوف الشمس ويحددون وقته بالدقائق والثواني،
ويذكرون البلاد التي يُرى فيها، والتي لا يُرى فيها؛ لأن سببهما من الأمور
المعلومة بالقطع، ومنه يُعلم أنهما ليسا من الأمور التي تعرض لجرم القمر والشمس؛
وإنما سبب خسوف القمر أن الأرض تقع بينه وبين الشمس فتجب نورها عنه
بقدر ما يقع من ظلها عليه، وسبب كسوف الشمس وقوع جرم القمر بينها وبين
الأرض، وأما انشقاقه فهو صدع لجرمه يفصل بين أجزائه، فإذا كان هذا الفصل
واسعًا كالذي تصفه لنا الروايات السابقة فلابد أن يراه كل من نظر إليه في كل قطر.
(رابعًا) أن قوله: ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ في بعض المنازل التي
تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم - لا يفيد في
دفع الإشكال؛ فإن كل من يراه في المنزلة التي انشق فيها لا بد أن يراه منشقًّا بخلاف
الخسوف كما علم مما قلناه آنفًا.
(د) إشكال خفاء الحادثة على جميع الأقطار:
هذا الإشكال في معنى الذي سبقه أو مؤكد له، وقد أفرده علماؤنا بالذكر
وأجابوا عنه، وقد كفانا الحافظ رحمه الله مؤنة مراجعة ما كتبوه فجاء بأحسنه، وهاك
ما أورده في هذه المسألة عقب ما نقلناه عنه فيما قبلها:
(وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات
الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جملة طباع ما في هذا العالم
المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهان
به أظهر، وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام
الناس؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على
رؤية كل غريب ونقل ما لم يُعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير
والتنجيم إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره.
والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء
طلبه خاص من الناس، فوقع ليلاً لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن
يكون أكثر الناس فيه نيامًا ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان
يُحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولاً بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن
يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم
يشعر به أكثر الناس؛ وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه ولعل ذلك إنما
كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر) .
ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ
التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن، بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت
عامة أعقبت هلاك من كذَّب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي
صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية فاختص بها
القوم الذين بُعث منهم لِمَا أُوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها
عامًّا لعوجل من كذَّب به كما عوجل من قبلهم.
وذكر أبو نعيم في الدلائل نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت
الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في
إطفاء نور الله (قلت) وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل
ذلك من الصحابة، وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه،
فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه وهذا كافٍ؛ فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن
يوجد عنه صريح النفي؛ حتى إن من وُجد عنه صريح النفي يُقَدَّم عليه من وجد
منه صريح الإثبات.
وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى
ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد
ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، ثم أجاب بنحو جواب
الخطابي وقال: وقد يطلُع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضًا فإن زمن
الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث
أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار وأخبرو بأنهم عاينوا ذلك؛
وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم
ذلك، وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير
منحصرة، ويُحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها
عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا
بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم. اهـ وفي كلامه نظر لأن أحدًا لم ينقل أن
أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة، فلم
يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدًا؛ ولكن لم ينقل
عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على الجواب الذي ذكره
الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم اهـ.
أقول: قد عُلم مما تقدم آنفًا ضعف الجواب عن هذا الإشكال كسابقه، ونزيد
عليه ما أرجأناه عمدًا وهو قول الخطابي ومن تبعه: لعل انشقاق القمر إنما كان في
قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. فهذا الاحتمال هو الذي يمكن أن يعقل به احتمال
عدم رؤية أهل الأقطار له حتى أهل مكة، وكذا من كان في منى؛ ولذلك ذكرناه في
تلخيص المسألة في المجلد السادس، وإذا أضيف إليه احتمال وقوع الرؤية في آخر
الليل يزداد قوة، وقد يكون كل من الاحتمالين معقولاً إذا اعتمدنا في المسألة ظاهر
حديث ابن مسعود المسند المتصل في الصحيحين وما وافقه من أن انشقاقه لم يكن
إجابة لاقتراح المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية تدل على
صدق دعواه، ولا يعقل على رواية أنس المرسلة في الصحيحين وما في معناها في
غيرهما كما تقدم من أن ذلك كان آية مقترحة؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يؤيد
رسوله صلى الله عليه وسلم بآية كونية عظيمة كهذه تكون حجة له على الناس؛
فإنه لا يجعلها كطرفة عين يراها أفراد قليلون في آخر الليل، وقد ران الكرى على
أجفانهم بحيث يعذرون في اتهام أبصارهم بهذه الرؤية كما ورد في بعض الروايات
أنهم قالوا ذلك، وجاء في بعض التفاسير أنه وقع مثل ذلك لبعض المتأخرين،
فزعم أنه رأى القمر قد انشق، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا تخيل، بل يجعلها
آية مبصرة كناقة صالح لا يمكن الشك ولا المراء الظاهر فيها.
وأما ما ورد في غير الصحيحين من انتظار أهل مكة للسفار وإخبارهم برؤيته
منشقًّا فهو لا يصح، ولو صح لكان مؤيدًا لإشكال توفر الدواعي على نقله متواترًا.
أما الحديث فقد رواه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وكذا أبو نعيم
والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة كلهم من طريق مسروق عن ابن مسعود، وفي
سنده عند ابن جرير المغيرة بن مقسم (بكسر الميم) الكوفي الفقيه وهو مدلس وقد
عنعن فلا يُحتج بروايته، وأما تأييده لما ذكر من الإشكال فظاهر؛ لأن رؤية أولئك
السفار له دليل على رؤية غيرهم من مسافر ومقيم وهم كثيرون، وحينئذ لابد أن
يرويه الكثيرون، ومن غرائب الاحتمالات التي تخيلها بعض المجيبين عن هذا
الإشكال قول القرطبي الذي نقلناه عن الحافظ آنفًا، فحاصله مع ما قبله أن هذه الآية
العظيمة جعلها الله تعالى في لحظة من آخر الليل وصرف عن رؤيتها أبصار جميع
الخلق غير الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وكذا بعض سفار
المكيين على رواية شاذة! ! !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(30/261)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاستفتاء في حقيقة الربا
يعلم قراء المنار أن مسألة الربا أعظم المشكلات الإسلامية المدنية التي شغلت
بال الحكام والزعماء والعلماء في هذا العصر، ولدينا أسئلة كثيرة في معاملات
المصارف المالية (البنوك) والشركات والعقود التي فيها شيء مما يعده الفقهاء من
المعاملات الربوية، وردت في تواريخ مختلفة، وكنا نرجئ الجواب عنها إلى
فرصة يتاح لنا فيها حل هذه المشكلة بتفصيل يشمل هذه الفروق أو يبنى عليه بيان
حكمها، وقد فتحت لنا هذا الباب حكومة حيدر أباد الدكن الهندية الإسلامية منذ
أشهر قليلة إذ نشرت في الأمصار الإسلامية الكبرى رسالة في حقيقة المسألة، وهي
فتوى لبعض العلماء هناك في محاولة تحرير الموضوع، طبعتها الحكومة الآصفية
ووُزعت بأمر الصدارة المالية والمحكمة الشرعية فيها على العلماء المشهورين في
الأقطار الإسلامية طالبة منهم بيان آرائهم فيها بالدليل الشرعي وإرسال الأجوبة
بعنوان (معين صدر الصدور - محكمة الصدارة العالية) في تلك العاصمة، وقد
أرسلت إلينا ثلاث نسخ من هذا الاستفتاء: واحدة خاصة بنا، والأخريان لصاحبي
الفضيلة شيخ الأزهر والشيخ محمد بخيت أرسلناهما إليهما، وها نحن أولاً ننشر
نص الاستفتاء بحواشيه، وبعد نشره نبين رأينا فيه، ثم نشرع بعد ذلك في نشر تلك
الأسئلة أو ما يغني منها عن غيره ونجيب عنها أجوبة مختصرة يغنينا تحرير حقيقة
الربا عن الإطالة فيها، إن شاء الله تعالى.
وليعلم القرَّاء أننا ننشر هذه الفتوى الطويلة مع حواشيها بنصها المطبوع، ولا
نعنى بتصحيح شيء منها ولا بالتعليل على ما نراه منتقدًا من عباراتها أو معانيها
في أثناء نشرها إلا ألفاظًا قليلة للكاتب عذر فيها كرسم الربا برسم المصحف
(الربوا) وكذا رسم الصلاة والزكاة بالواو وهي طريقة إخواننا مسلمي الهند.
بسم الله الرحمن الرحيم
(حامدًا ومصليًا)
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88)
وبه نستعين
اعلموا أن الله حرَّم الربا في القرآن بقوله جل ثناؤه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن كثير في تفسيره: باب الربا من أشكل
الأبواب على كثير من أهل العلم اهـ. فلو لم يفسره الفقهاء المجتهدون - شكر الله
مساعيهم - لما اتضح لنا حقيقته، فعلينا أن ننقل ما روي عن أئمتنا في تفسيره:
قالوا: إن الأمة اتفقت على أن المعنى اللغوي ليس مرادًا [1] في الآية؛ لأن
الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، وهي أعم من كل زيادة، وظاهر أن كل فرد من أفراد
الزيادة ليس بحرام بل بعضها حرام. وبعد اتفاقهم عليه تشعبوا فرقتين، فالأئمة
وجمهور العلماء عيَّنوا هذه الأفراد بالسنة، وهو الفضل الذي وردت السنة بكونه
ربا فهو حرام عندهم، أعني الفضل في البيع، فالربا عندهم منحصر في البيع لا
غير، وذهب البعض إلى أن اللام في (الربا) للعهد، والمراد به ربا الجاهلية،
فالمآل على هذا التفسير أن القرآن حرَّم ربا الجاهلية، ولما لم يثبت صورة ربا
الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن لم يلتفت الأئمة والجمهور إليه، وقالوا:
إن ربا القرآن مجمل والحديث مفسر له، قال القاضي سناء الله في تفسيره المظهري:
قال جمهور [2] العلماء: هذا مجمل؛ لأن طلب الزيادة بطريق التجارة غير محرم في
الجملة، فالمحرم إنما هو زيادة على صفة مخصوصة لا تدرك إلا من قبل الشارع فهو
مجمل، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التحقه بيانًا. قال الجصاص الرازي
الحنفي: وهو (أي الربا) يقع على معانٍ لم يكن الاسم موضوعًا لها في اللغة. وبعد
سرد الأدلة على إجمال الربا قال: فثبت بذلك أن الربا قد صار اسمًا شرعيًّا؛ لأنه لو
كان باقيًا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالمًا بأسماء اللغة؛
لأنه من أهلها اهـ. ثم قال: وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء
المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعانٍ لم يكن
الاسم موضوعًا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة اهـ[3] . وفي جواب
استدلال الشافعية عن كون علة الربا مأكولاً قال الجصاص الرازي: فهذا عندنا لا يدل
على ما قالوا من وجوه (أحدها) ما قدَّمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى
البيان، فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا
حتى يحرِّمه بالآية. انتهى. وقال صدر الشريعة الحنفي: والمجمل كآية الربا؛ فإن
قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) مجمل لأن الربا في اللغة هو
الفضل، وليس كل فضل حرامًا بالإجماع، ولم يعلم أن المراد أي فضل، فيكون
مجملاً، ثم لمَّا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الربا في الأشياء الستة احتيج بعد ذلك
إلى الطلب والتأمل ليعرف علة الربا في غير الأشياء الستة [4] ، وكذا في شرح
التحرير لابن الهمام وفي المسلم وفواتح الرحموت ومرقاة الوصول وشرحه مرآة
الأصول وغيرها من كتب الأصول.
قال العلامة النسفي في كشف الأسرار: وكذلك آية الربا مجملة لاشتباه المراد،
وهذا لا يُدرك بمعاني اللغة بحال فهو في اللغة الفضل؛ ولكن الله تعالى ما أراده.
وقال العلامة نظام الدين الشاشي: المجمل هو ما احتمل وجوهًا فصار بحال لا
يوقف على المراد إلا ببيان من قِبَل المتكلم، ونظيره في الشرعيات قوله تعالى:
{وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن نجيم في فتح الغفار: وليس المراد أن كل
مجمل بعد بيان المجمل يحتاج إلى الطلب والتأمل، فالصلاة بيانها شافٍ فلم تحتج
إلى تأمل بعده، وبيان الربا غير شافٍ - صار به المجمل مؤولاً وهو يحتاج إلى
الطلب والتأمل كما في الكشف، فالرجوع إلى الاستفسار في كل مجمل، والطلب
والتأمل إنما هو في البعض [5] .
قال صاحب فصول البدائع في حكم المجمل: هو التوقف إلى الاستفسار مع
اعتقاد حقيقة ما هو المراد حالاً ثم الطلب والتأمل إن احتيج إليهما كما في الربا؛ فإن
حديث الأشياء الستة الحاصل من الاستفسار معلل بالإجماع [6] . قال عبد العزيز
البخاري في شرح الأصول للبزدوي: والحاصل أن المجمل قسمان: ما ليس له ظهور
أصلاً كالصلاة والزكاة والربا أو ما له ظهور من وجه كالمشترك [7] .
وإذا ثبت من هذه النقول أن الربا الذي وقع في القرآن مجمل، وثبت أيضًا
أنه لا يثبت منه حكم بدون تفسير الشارع عليه السلام، فحينئذ علينا أن نحرر
التفسير الذي ورد عنه عليه السلام، وهو ما روى عبادة وأبو سعيد وأبو هريرة
وعمر وغيرهم في بيع الأشياء الستة بصورة مخصوصة، وقد جعله الفقهاء أيضًا
بيانًا للربا كما قال ابن عابدين في نسمات الأسحار: كبيان الربا بالحديث الوارد في
الأشياء الستة وفي نور الأنوار: كالربا في قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) فإنه مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الحنطة بالحنطة)
الحديث، قال ابن أمير الحاج في شرح التحرير لابن الهمام: كبيان الربا بالحديث
الوارد في الأشياء الستة في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير،
والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فمن زاد [8] أو
استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء) وكذلك يلحق في تفسير إجمال الآية
حديث أسامة بن زيد (الربا في النسيئة) أخرجه مسلم.
ولا يصح تفسيره بالحديث الذي روي عن جابر وعمرو بن الأحوص بلفظ
(إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه رِبانا ربا عباس بن عبد المطلب) لأنه
لم يظهر تفسير ربا الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن حتى يكون بيانًا له،
وكيف وهو مجمل كربا القرآن؟
فعلى هذا حقيقة الربا: الفضل الذي يكون في البيع، سواء كان فضل عين أو
أجل، وإذا بيع شيء من هذه الستة وما في حكمها من جنسه فالفضل والأجل
كلاهما ربا، وإذا بيع منها شيء بغير جنسه فالأجل فقط ربا وهو ربا النساء، وكذلك
الزيادة على الثمن المؤجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل، ربا، وهو ربا
النسيئة.
ففي الأولى أي إذا وقع بيع جنس بجنس، فلابد لجواز البيع من أمرين:
الأول المساواة في الكيل أو الوزن، والثاني قبض البدلين في المجلس.
وفي الثانية إذا كان الجنسان من هذه الأشياء الستة وما في حكمها مختلفين،
فلا يشترط ههنا إلا القبض في المجلس، ولا يشترط المساواة كيلاً أو وزنًا.
(وفي الثالثة) أي إذا كانت الأشياء من غير هذه الستة وما في حكمها لا
يجوز الفضل على الثمن المؤجل بعد حلول الأجل إن لم يقض هذا الثمن بمقابلة
الأجل.
والأصل فيه أن المتبايعين يريدان المساواة في البدلين وعليه مدار عقد البيع،
فلهذا وضع لها الشارع عليه السلام أصول وقوانين يُعرف بها المساواة والفضل
الذي يحكم عليه الشرع بأنه ربا (الأول) أن للنقد مزية على النسيئة (والثاني)
إذا كان البدلان - كيليًّا أو وزنيًّا - فلا بد أن يكونا متساويين في الكيل أو الوزن
(والثالث) إذا كان أحد البدلين غير المكيل والموزون فما تراضى عليه العاقدان فهو
بدل الآخر ومساوٍ له، ومن هذه الأصول يعلم ما جعل الشارع عليه السلام من
الفضل ربا في البيع والشراء.
فالفضل والأجل كلاهما ربا في بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون من
جنسه؛ لأنه فضل حقيقة أو حكمًا ولا دخل فيه لتراضي العاقدين والبيعين؛ فإن
تراضي البيعين في أمثال هذا البيع بالفضل أو الأجل أو بكليهما لا يصحح هذا البيع،
ويكون الفضل والأجل كلاهما ربا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من زاد) أي
أعطى الزيادة (أو استزاد) أي طلب الزيادة (فقد أربى) وفي المدونة أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه راطل أبا رافع فوضع الخلخالين في كفة فرجحت الدراهم،
فقال أبو رافع: هو لك أنا أحله لك، فقال أبو بكر: إن أحللته لي فإن الله لم يحله
لي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الذهب بالذهب وزنًا بوزن،
والورق بالورق وزنًا بوزن، الزائد [9] والمزاد في النار) [10] وعند اختلاف الجنس
من هذه الأشياء لم يجعل الشارع المساواة باعتبار التساوي كيلاً ووزنًا حتى لم يحرم
في هذه الصورة الفضل كيلاً أو وزنًا؛ لأنه أمر غير معقول، بل جعل المساواة
المطلوبة ما تراضى عليها العاقدان والبيعان من كون أحدهما مساويًا للآخر، نعم جعل
للنقد مزية على النسيئة فيكون الأجل ربا ولا يعد التراضي فيه شيئًا بل يصير ملغى،
وإذا اختلف جنس البدلين من غير هذه الستة بأن يكون المكيل في طرف وغيره في
طرف آخر، فالمساواة المطلوبة هي ما تراضى عليها العاقدان، ولم يكن الأجل ربا
في هذه الصورة لأنه خلاف القياس، ونحوه ينحصر فيما ورد فيه النص بشرط أن
يكون الأجل من أحد المتعاقدين لا من كليهما لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
الكالئ بالكالئ وإذا عين الأجل بالتراضي، فإذا حل الأجل ولم يقض المديون وطلب
النظرة وزاد بها في الثمن فتكون هذه الزيادة ربا أيضًا؛ لأنه فضل على ما تراضى
عليه البيعان أولاً وجعلاه مساويًا للآخر، فهذه الزيادة لا محالة تكون بمقابلة الأجل ولا
قيمة للأجل مستقلاًّ عند الشارع، فتكون هذه الزيادة فضلاً محضًا وهو عين الربا.
الحاصل أن هذه الأحاديث المفسرة لربا القرآن تدل على أن في بيع أحد
المتجانسين من الأشياء الستة وما في حكمها الفضل والأجل: كلاهما ربا، وفي بيع
أحد المتجانسين منها بخلاف جنسه: الأجل فقط ربا، لا الفضل، وهو ربا النسيئة،
وفي البيع بثمن بمؤجل ما يزاد على النسيئة أي الثمن المؤجل عند حلول الأجل
بمقابلة الأجل ربا وهو الربا في النسيئة، وجميع هذه الأقسام تنحصر في البيع،
فالربا ثلاثة أنواع وكل منها حرام بالقرآن؛ لأن المجمل من الكتاب إذا لحقه البيان
كان الحكم بعده مضافًا إلى الكتاب لا إلى البيان في الصحيح [11] الاثنان منها ما
يفسره حديث عبادة بن الصامت، وأبي سعيد وغيرهما، والثالث ما يفسره حديث
أسامة بن زيد.
قال القسطلاني في شرح البخاري: وهو (أي الربا) ثلاثة أنواع، ربا
الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع
تأخير قبضهما أو قبض أحدهما وربا النساء [12] وهو البيع لأجل وكل منها حرام
[13] .
قال صاحب تفسير السراج المنير: وهو لغةً: الزيادة، وشرعًا: عقد على
عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في
البدلين أو أحدهما، وهو ثلاثة أنواع: ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين
على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء
وهو البيع إلى أجل، وفي هذه الأقوال دلالة واضحة على أن الأنواع الثلاثة للربا
منحصرة في البيع، فعلى هذا لا يوجد الربا في عقد خلا البيع، قال ابن كثير في
تفسير سورة الروم: وقال ابن عباس: الربا ربوان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع،
وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها [14] ، وفيه تصريح منه
رضي الله عنه على أن الربا الذي لا يجوز هو ربا البيع فقط، وما خلا ربا البيع فلا
بأس به. قال العلامة العيني في شرح الهداية: ولما فرغ عن بيان أبواب البيوع التي
أمر الشارع بمباشرتها بقوله: {وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) مع أنواعها
صحيحها وفاسدها شرع في بيان أبواب البيوع التي نهى الشارع عنها بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران: 130) اهـ. ثم قال: وقال
علماؤنا: هو نوع بيع فيه فضل مستحَق لأحد المتعاقدين خالٍ مما يقابله من عوض
شرط في هذا العقد اهـ. وكذا في العناية، ولذا قال العلامة السرخسي في حده: وفي
الشريعة: هو الفضل الخالي عن العوض المشروط [15] في البيع (مبسوط) وما قال
صاحب الهداية: أعني: الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة
الخالي عن عوض شرط فيه فيأول إليه. قال شارحه: الربا هو الفضل الخالي عن
العوض المشروط في البيع (عناية) وفي الملتقى: الربا فضل مال خالٍ عن عوض
شرط لأحد العاقدين في معاوضة [16] مال بمال، وفي العالمكيرية: الربا في الشريعة
عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال.
قال صدر الشريعة في التوضيح: وأما المخصوص بالكلام فعند الكرخي لا
يبقى حجة أصلاً معلومًا كان أو مجهولاً كالربا حيث خص من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
البَيْعَ} (البقرة: 275) اهـ. يعني أن البيع عام يشمل الربا وغيره، وخص
منه الربا فلو لم يكن الربا فردًا من أفراد البيع وداخلاً تحته كيف يصح تخصيصه
من البيع؟ قال فخر الإسلام البزدوي: وخص الربا من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) اهـ. وقال ابن عابدين الشامي: الربا خص من
{وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
275) (نسمات) .
قال الملا أحمد جيون: نظير الخصوص المعلوم والمجهول قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فإن البيع لفظ عام لدخول لام
الجنس فيه، وقد خص الله منه الربا وهو في اللغة الفضل، ولا يُعلم أي الفضل يُراد
به؟ لأن البيع لم يشرع إلا للفضل فهو حينئذ نظير الخصوص المجهول، ثم بيَّنه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والتمر
بالتمر) الحديث (نور الأنوار) .
خلاصة الكلام أن القرآن حرَّم الربا، وكان لفظ الربا فيه مجملاً والسنة
الصحيحة فسرته بالأقسام التي كلها تندرج في البيع؛ ولهذا خصص الفقهاء الربا
بالبيع، قال العلامة الشاشي في حده: الربا هو الزيادة الخالية عن العوض في بيع
المقدرات المتجانسة. وفي النقاية: الربا هو فضل خالٍ عن عوض بمعيار شرعي
بشرط أحد المتعاقدين في المعاوضة (منح الغفار شرح تنوير الأبصار) .
قال محمد رحمه الله: والربا إنما يتحقق في البيع لا في التبرع بعد قوله؛
لأن القرض أسرع جوازًا من البيع؛ لأنه مبادلة صورة تبرع حكمًا اهـ (نشر
العرف) قال شيخ الإسلام المرغيناني: وهو الربا يعمل في المعاوضات دون
التبرعات (كتاب الهبة) قال ابن عابدين ناقلاً عن الزيلعي: وهو (أي الربا)
مختص بالمعاوضة المالية دون غيرها من المعاوضات والتبرعات [17] .
وقال العلامة الشيخ زادة في مجتمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: وهو
مختص بالمعاوضات المالية دون غيرها من غير المالية والتبرعات، وقال ملك
العلماء العلامة الكاساني: فلا يتحقق الربا إذ هو مختص [18] بالبياعات وعليه يدل
ما مر عن المبسوط والهداية وغيرهما.
فحينئذ ظهر أن النفع المعين المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص؛
لأن الآية كانت مجملة لا يُفهم منها المراد والأحاديث المفسرة لها كلها في البيع لا
في غيره؛ ولهذا صرَّح فقهاؤنا بأن الربا يتحقق في البيع لا في التبرع؛ ولعلهم
أنكروا [19] كونه نصيًّا كما يدل عليه ما قال ملك العلماء في البدائع؛ ولأن الزيادة
المشروطة تشبه الربا [20] فلا يكون الشبيه بالربا عين الربا، وأيضًا يظهر من كلام
العلامة العيني أن هذا النفع عنده ليس هو الربا المنصوص؛ لأنه يظهر من كلامه
الذي سيأتي أنه لم يظفر بحديث صحيح في هذا الباب بعد تجشمه وتفحصه مع سعة
نظره وكثرة اطلاعه على الحديث وطرقه ولو كان منصوصًا لم يحتج إلى هذا
التجشم والتفحص.
والحديث الذي أخرجه صاحب (بلوغ المرام) عن علي وجرى على ألسنة
العوام والخواص بلفظ (كل قرض جر منفعة فهو ربا) لا يجوز أن يقع تفسيرًا
للقرآن؛ لأنه غير ثابت ولا أصل له، قال ابن حجر: فيه الحارث بن أسامة،
وإسناده
ساقط، وقال الحافظ جمال الدين الزيلعي في نص الرواية: ذكره عبد الحق في
أحكامه في البيوع وأعله بسوار بن مصعب وقال: إنه متروك، وكذا نقل عن أبي
الجهم في جزئه أن إسناده ساقط وسوار متروك الحديث، قال البخاري في كتابه
(الضعفاء الصغير) سوار بن مصعب منكر الحديث، وقال يحيى: يجيء إلينا وليس
بشيء، وقال النسائي وغيره: متروك، وكذا قال ابن الهمام في الفتح، ولذا قال: هو
أحسن ما ههنا عن الصحابة [21] وعن السلف؛ لأن هذا الحديث عنده كان غير صالح
للاحتجاج، وعلم منه أنه ليس في الباب حديث صحيح قابل للاحتجاج.
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص عن عمر بن بدر أنه قال في المغني: لم
يصح فيه شيء اهـ. وأما ما قال الغزالي وشيخه: أنه صح، قال الشوكاني في
النيل: لا خبرة لهما بهذا الفن، ويدل على هذا المعنى ما قال المفسر الخازن:
(المسألة الرابعة) في القرض وهو من أقرض شيئًا وشرط عليه أن يرد عليه أفضل
منه فهو قرض جر منفعة، وكل قرض جر منفعة فهو ربا، ويدل عليه ما روي عن
مالك قال بلغني أن رجلاً أتى ابن عمر ... إلخ [22] . لأنه لو كان عنده حديث (كل
قرض) صحيحًا قابلاً للحجة لم يعدل عنه إلى أثر ابن عمر، وكذا العلامة العيني
نقل أولاً تضعيف هذا الحديث عن غير واحد من الأئمة، ثم قال: قال الأترازي
مع دعاويه العريضة: والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض
جر نفعًا وسكت عنه، وكذا قاله الأكمل وسكت عنه مع أنه [23] كان في ديار
الحديث وكتبه المنوعة والله أعلم (شرح هداية) وفيه دلالة على أن [هذا] الحديث
ليس له طريق صحيح وإلا لأتى به، وكذا لو كان في معناه حديث صحيح لم يترك
إيراده في هذا المقام.
وكذا لا يصح [24] تفسير إجمال الآية بالحديث [25] الموقوف على عبد الله بن
سلام الذي رواه بردة عند البخاري بلفظ: قال: أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام،
فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقًا وتمرًا وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك بأرض الربا
فيها فاشٍ إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل
قت فلا تأخذه. لأنه لابد للتفسير من بيان الشارع عليه السلام، وهذا الحديث [26]
الموقوف ليس في حكم المرفوع، وثانيًا أنه متروك العمل باتفاق الأمة، وثالثًا
تعارضه الأحاديث الصحيحة، ورابعًا لما قال العلامة عبد العزيز البخاري في شرح
كشف الأسرار للبزودي في تفسيره البيان القاطع الذي يلحق المجمل: احتراز عما
ليس بقاطع ثبوتًا أو دلالة حتى لا يصير المجمل مفسرًا بخبر الواحد وإن كان قطعي
الدلالة ولا بيان فيه احتمال، وإن كان قطعي الثبوت - وكذا أثر عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه الذي رواه يونس وخالد بن سيرين عن عبد الله بن مسعود أنه سئل
عن رجل استقرض من رجل دراهم ثم إن المستقرض أفقر من المقرض ظهر دابته
فقال عبد الله: ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا - لما بيَّنا ولما قال البيهقي: قال
الشيخ أحمد: هذا منقطع (إزالة) لو قيل: لمَ لا يجوز أن يكون هذا الأثر الموقوف
في حكم الحديث المرفوع؟ قلنا: له شرط وهو أن لا يكون مدركًا بالقياس، وههنا هو
مدرك بالقياس كما صرَّح العلماء بذلك، قال ابن رشد الفقيه المالكي في المقدمات: إن
رجلاً أتى عبد الله بن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلاً واشترطت
أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر ذلك الحديث بطوله، وقال رضي الله عنه:
من أسلف سلفًا فلا يشترط أفضل منه، وإن كان قبضة من علف فهو ربا. اهـ.
فهذا الفقيه أنكر كونه ربًا منصوصًا وجعله ربًا قياسيًّا كما يدل عليه قوله: وتفسير ذلك
(أي قول ابن عمر فهو ربا) أنه مقيس على الربا المحرم بالقرآن، ربا الجاهلية: إما
أن تقضي وإما أن تربي؛ لأن تأخيره الدين بعد حلوله على أن يزاد له فيه سلف جر
منفعة [27] على أن الفقهاء لم يتمسكوا بهذا الحديث والأثر من لدن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى زماننا هذا، ولم يفتوا بحرمة أمثال هذه المنافع مطلقًا، بل اتفقوا على
أنها لا تكون ربًا إلا أن تكون مشروطة في العقد، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الآثار
والأحاديث الواردة في هذا الباب لأنها تدل على حرمة كل منفعة سواء شرطت أو لم
تشترط مع أنها بدون الشرط جائزة بالاتفاق، قال العيني: وفيه ما يدل أن المقرض
إذا أعطاه المستقرض أفضل مما اقترض جنسًا أو كيلاً أو وزنًا أن ذلك [28] معروف
وأنه يطيب له أخذه منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أثنى فيه على من أحسن القضاء،
وأطلق ذلك ولم يقيِّده (قلت) هذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن عن شرط منهما حين
السلف، وقد أجمع المسلمون نقلاً [29] عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اشتراط
الزيادة في السلف ربا. اهـ[30] .
قال ابن حجر في باب استقراض الإبل تحت حديث أبي هريرة: وفيه جواز
وفاء ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، فيحرم حينئذ
اتفاقًا، وبه قال الجمهور. اهـ. ولما كان هذا الأثر عن عبد الله بن سلام مخالفًا لما
عليه الجمهور تأول ابن حجر قوله رضي الله عنه: (فإنه ربا) وقال: يحتمل
أن يكون ذلك رأي عبد الله بن سلام، وإلا فالفقهاء على أنه يكون ربًا إذا شرط، نعم
الورع تركه. اهـ. وأيضًا لما أخرج البخاري هذا الحديث بطريق آخر وليس فيه
ذكر الربا، فهناك قال ابن حجر: زاد البخاري في مناقب عبد الله بن سلام ذكر
الربا، وههنا فسر الربا المراد في قوله رضي الله عنه بقوله: وإن من اقترض قرضًا
فتقاضاه إذا حل فأهدى إليه المديون هدية كانت من جملة الربا [31] فثبت من هذه
الأقوال أنه لم يقل أحد من العلماء: إن الفضل والزيادة إذا كانت غير مشروطة في
القرض عند العقد أنه ربا سواء كان في صورة الهدية أم في صورة العارية أم في
غيرهما، فهذا الأثر وما ورد نحوه غير معمول به عند الأمة.
وقد ذهب الجمهور إلى جواز ما كان بدون شرط في العقد لما دلت عليه
الأحاديث الصحيحة والحسان المحتج بها بإعطاء الزيادة في ديون البيع والقرض
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لبلال (أعطه أوقية من ذهب وزده) فأعطاني أوقية من ذهب وزادني قيراطًا [32] .
ولفظ البخاري: (فوزن لي بلال فأرجح في الميزان) قال النووي في شرحه:
فيه استحباب الزيادة في أداء الدَّين وإرجاح الوزن، وقد روى هذا الحديث فوق
عشرة عن جابر، وأيضًا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء الزيادة في
قرض الحيوان كما في حديث أبي رافع، قال: استسلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكرًا فجاءته إبل من الصدقة. قال أبو رافع: فأمر لي أن أقضي الرجل بكره،
فقلت: لا أجد إلا جملاً خياريًّا رباعيًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطه
إياه فإن خير الناس أحسنهم قضاء) أخرجه مالك ومسلم والأربعة، وكما في حديث
أبي هريرة أخرجه الشيخان والترمذي مختصرًا ومطولاً: أن رجلاً تقاضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فَهَمّ به أصحابه فقال: (دعوه فإن لصاحب الحق
مقالاً، واشتروا له بعيرًا فأعطوه إياه، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، قال:
اشتروه فأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء) .
وأيضًا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى الزائد في قرض
الأموال الربوية - أعني المكيل والموزون - كما روى أبو هريرة قال: أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فأعطاه وسقًا فقال
(نصف وسق لك ونصف وسق من عندي) ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فأعطاه
وسقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وسق لك ووسق من عندي) أخرجه
المنذري في الترغيب وقال: رواه البزار وإسناده حسن.
ومن حديث ابن عباس قال: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل
من الأنصار أربعين صاعًا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ما جاءنا من شيء، فقال الرجل وأراد أن يتكلم، فقال صلى الله عليه
وسلم: لا تقل إلا خيرًا فأنا خير من تسلف) فأعطاه أربعين فضلاً وأربعين أسلفه
فأعطاه ثمانين، قال البزار: لم أسمعه إلا من أحمد وهو ثقة، وأخرجه المنذري
وقال: إسناده جيد، وقال الهيتمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار وهو ثقة.
ومن حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي برجال الصحيح في السنن الكبرى قال:
أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلف فاستسلف له رسول الله صلى الله
عليه وسلم شطر وسق فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقًا وقال
(نصف لك قضاء ونصف لك نائل من عندي) وهذه أحاديث صحيحة يحتج بها فلا
يعارضها مثل حديث السوار المتروك والآثار الغير المرفوعة، وأما كونه ربًا عند
الشرط فهو لا يصح أيضًا لما روي من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطل
أبا رافع، فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك أنا أحله لك، فقال أبو بكر: إن
أحللته فإن الله لم يحله لي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الزائد
والمزاد في النار) أو هكذا لأن فيه دلالة على أن الزيادة بغير شرط أيضًا حرام،
أعني أن الزيادة التي هي الربا شرعًا حرام شرطت أو لم تشترط، فلو كانت الزيادة
في القرض ربا لكانت حرامًا بدون شرط أيضًا مع أن الزيادة في القرض بدون
الشرط مباح باتفاق الأمة، فثبت أنها ليست بربا.
قال ابن نجيم في البحر: إذا لم تكن [33] المنفعة مشروطة فلا بأس به، وفي
البزازية من كتاب الصرف ما يقتضي ترجيح الثاني، قال ولا بأس بقبول هدية
الغريم وإجابة دعوته بلا شرط، وكذا إذا قضى أجود مما قبض يحل بلا شرط اهـ
كتاب الحوالة.
وأما ما قيل إنه لا حجة في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في
الديوان والقرض لأنه مخصوص به، وهو إمام وللإمام حق العطاء، فيكون ما
يعطي الإمام حلالاً، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليُقتدى به في كل فعل
حتى يقوم دليل على اختصاصه به، وليس هنا دليل على اختصاصه به صلى الله
عليه وسلم.
وكذا لا يصح تفسير إجمال الآية بحديث أنس والآثار المروية عن أُبي بن
كعب وابن عباس، أما أولاً فلأنه ليس فيها ذكر الربا فلا يتعين أن النهي والأمر
بالاجتناب لكونه ربا، وأما ثانيًا فلما مرَّ عن شرح كشف الأسرار بأنه لابد أن يكون
مفسر إجمال القرآن قطعي الدلالة وقطعي الثبوت، وحديث أنس وآثار أبي بن
كعب وابن عباس لسن بهذه المثابة لا باعتبار الدلالة ولا باعتبار الثبوت.
أما حديث أنس فأخرجه ابن ماجه بلفظ (إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه
أو حمله على الدابة فلا يركبه ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)
والراوي فيه عن أنس مجهول، وكذا فيه عتبة بن حميد الضبي البصري قال أبو
طالب عن أحمد هو ضعيف ليس بالقوي، وفيه إسماعيل بن عياش الحمصي وهو
مختلَف فيه وضعيف بالإجماع إذا روى عن غير أهل بلده، وأخرجه ابن تيمية في
المنتقى بلفظ (إذا أقرض الرجل الرجل فلا يأخذ هدية) وقال: أخرجه البخاري في
تاريخه فما ظفرت على سنده حتى أحكم على جودته وصحته ليثبت منه الحرمة،
وليس ببعيد أن يكون مختصرًا من حديث ابن ماجه فيعود الجرح والتعديل، مع هذا
هو خلاف ما عليه الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
أما أثر أبي بن كعب أنه قال لزر بن حبيش: إنك بأرض الربا فيها كثير فاش،
فإذا أقرضت رجلاً فأهدى إليك هدية فخذ قرضك واردد هديته - ففيه كلثوم بن
الأقمر: مجهول، وكذلك ما روى ابن سيرين أن أبي بن كعب أهدى إلى عمر بن
الخطاب من تمر أرضه فردّها، فقال أبي: لم رددت عليّ هديتي وقد علمت أني
من أطيب أهل المدينة تمرة؟ فخذ عني ما ترد علي هديتي، وكان عمر أسلفه عشرة
آلاف درهم. قال البيهقي: هذا منقطع، أي ليس بمتصل إلى أبي أيضًا.
وكذلك ما روى أبو صالح عن ابن عباس قال في رجل كان له على رجل
عشرون درهمًا، فجعل يهدي إليه فجعل كلما يهدي إليه هدية باعها حتى إذا بلغ
ثمنها ثلاثة عشر درهمًا، فقال ابن عباس لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم - لأن أبا
صالح لم يسمع من ابن عباس فالرواية منقطعة، وكذلك ما روى سالم بن أبي الجعد:
كان لنا جار سمَّاك عليه لرجل خمسون درهمًا فكان يهدي إليه السمك، فأتى ابن
عباس فقال: قاصه بما أهدى إليك. وأثر [34] فضالة بن عبيد مع ضعفه أيضًا ليس
فيه لفظ الربا حتى يفسر به الإجمال، بل لفظه: كل قرض جر منفعة فهو وجه من
وجوه الربا - فظاهره يدل على أنه ليس بربا، بل له شبه من الربا، وهذه الآثار
والأحاديث كلها أخرجها البيهقي في السنن.
(للفتوى بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قال فخر الإسلام البزدوي في كشف الأسرار: أما المجمل فما لا يدرك لغة لمعنى زائد ثبت شرعًا. قال شارح البخاري كالربا؛ فإنه اسم للزيادة وهي بنفسها ليست بمرادة اهـ (ص43-ج1) وقال في موضع آخر: ثم المجمل وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباهًا لا يُدرك بنفس العبارة، بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب، ثم التأمل، وذلك مثل قوله تعالى: [وَحَرَّمَ الرِّبَا] (البقرة: 275) فإنه لا يُدرك بمعاني اللغة بحال، وكذلك الصلاة والزكاة، وقال شارحه: فإن مطلق الزيادة التي يدل عليها لفظ الربا، وكذلك الدعاء والنماء اللذان يدل عليهما لفظ الصلاة والزكاة لم يبقيا بمرادين بيقين، ونقلت هذه الألفاظ إلى معان أخر شرعية، إما مع رعاية المعنى اللغوي أو بدونه فلا يوقف عليه إلا بالتوقيف كما في الوضع الأول (ص155-ج-1) وقال أيضًا: لأن المجمل ثلاثة أنواع، نوع لا يُفهم معناه لغة كالهلوع قبل التفسير، ونوع معناه مفهوم لغة؛ ولكنه ليس بمراد كالربا والصلاة والزكاة (شرح كشف ص 54 ج - 1 وغاية التحقيق شرح الحسامي) ثم قال شارح الحسامي: كآية الربا فإنها مجملة إذ الربا عبارة عن الفضل لغة، والفضل نفسه ليس بمراد بيقين إذ البيع لم يُشرَّع إلا للاسترباح وتحصيل الفضل فإن كل واحد من المتباعين ما لم ير فضلاً في البدل المطلوب له لا يبذل ملكه بمقابلته (غاية التحقيق) قال العيني في البناية: وليس المراد مطلق الفضل بالإجماع وإن فتح الأسواق في سائر بلاد المسلمين للاستفضال والاسترباح اهـ (شرح هداية كتاب البيوع) وقال الجصاص الرازي بعد تصريح: إجمال الربا لا يصح الاحتجاج بعمومه؛ وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدليل آخر أنه ربا حتى يحرمه بالآية اهـ أحكام القرآن (ص 464 ج-1) .
(2) وإليه مال الإمام الشافعي رضي الله عنه، والشافعية وأكثر المالكية، قال الجصاص الرازي: وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملاً أنه يوجب إجمال لفظ البيع (أحكام ص 469 - ج1) قال الإمام الرازي في تفسيره الكبير [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] (البقرة: 275) من المجملات التي لا يجوز التمسك بها. ثم قال: وهذا هو المختار عندي، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم (ص535-ج2) قال العلامة التفتازاني في التلويح: والمجمل وهو ما خفي المراد منه لنفس اللفظ خفاء لا يُدرك إلا ببيان من المجمل سوا كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام كالمشترك أو لغرابة اللفظ كالهلوع أو لانتقاله من معناه الظاهري إلى ما هو غير معلوم كالصلاة والزكاة والربا. قال البغوي في معالم التنزيل: واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى:
[وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ] (الروم: 39) أي ليكثر في أموال الناس، فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة؛ إنما المحرَّم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا الحديث. وأورد في تفسير إجماله حديث عبادة بن الصامت وقال في آخره: وهذا في ربا المبايعة - قال الشيخ عبد القادر الجرجاني في شرح الدرر: الذين يأكلون الفضل في المداينات، والربا في اللغة عبارة عن الزيادة والنماء، وفي الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفات معهودة، والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري (الذهب ... ) الخبر، تلقته الفقهاء بالقبول فدخل في حيز التواتر اهـ. وكذلك نقل السيوطي إجمال الربا قال ابن رشد الفقيه المالكي في المقدمات: قد اختلف في قوله تعالى: [وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] (البقرة: 275) ، [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] (البقرة: 43) [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ] (آل عمران: 97) ، [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ] (البقرة: 183) هل هي من الألفاظ العامة المجملة؟ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنها كلها مجملة لا يفهم المراد بها من لفظها وتفتقر في البيان إلى غيرها (ص121-ج3) وفي موضع آخر: وقد اختلف في لفظ الربا الوارد في القرآن، هل هو من الألفاظ العامة يفهم المراد بها، وتحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصها أو من الألفاظ المجملة التي لا يفهم المراد بها من لفظها أو تفتقر في البيان إلى غيرها؟ على قولين، والذي يدل عليه قول عمر بن الخطاب: (كان من آخر ما أنزل الله تعالى على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا) أنها من الألفاظ المجملة المفتقرة إلى البيان والتفسير (ص41-ج3) .
(3) أحكام القرآن ص 494 - ج1.
(4) توضيح قسم ثالث ص 125.
(5) قلمي ص 79.
(6) ج 2.
(7) ص 43 - ج1.
(8) وفيه دلالة على أن الفضل مطلقًا ربا ولو من غير شرط.
(9) فيه دلالة على أن الزيادة في القرض ليست بربا؛ لأنه لو كانت ربا لحُرِّمت بدون شرط أيضًا، ولم يقل به الفقهاء، على أنه ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد وقت الأداء في القرض، وأثنى على هذا كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقال ابن عابدين في الدر المختار: فإن الزيادة بلا شرط ربا أيضًا إلا أن يهبها على ما سيأتي (باب الربا كتاب البيوع) ص 274 - ج4.
(10) (ص110 ج3) .
(11) كذا في رد المحتار، باب صفة الصلاة، مبحث القعود الأخير (ص470) .
(12) المراد به الربا في النسيئة بقرينة أنه سمَّى ربا النسيئة بربا اليد فلا محالة أن يسمى هذا بربا النساء، وهو البيع نسيئة إلى أجل، ثم الزيادة عند حلول الأجل وعدم قضاء الثمن بمقابلة الأجل.
(13) (كتاب البيوع ص22 - ج4) .
(14) (ص 348 - ج7) .
(15) قال ابن عابدين في شرح الدر تحت قوله (مشروط) تركه أولى فإنه مشعر بأن تحقق الربا يتوقف عليه وليس كذلك لأن الزيادة بلا شرط ربا أيضًا اهـ ملخصًا - باب الربا.
(16) وسيأتي أن القرض ليس بمعاوضة مالية.
(17) (ص 273ج-4) كما سيأتي وظاهر أن القرض من التبرعات عند الفقهاء.
(18) بدائع (193ج - 5) لأن الربا هو الفضل، والفضل والمماثلة إضافتان تقتضيان الطرفين فلا تحقق لهما بدونهما كسائر النسب والإضافات، والطرفان لا يوجدان بدون المعاوضة، فلا يوجد الربا بدون المعاوضة أي بدون البيع، وظاهر أن الطرفين لا يوجدان في القرض لأن حكم رد المثل في القرض حكم رد العين كما صرَّح به الفقهاء والأصوليون. قال العلامة الشامي: ثم للمثل المردود حكم العين كأنه رد العين اهـ (ص263ج - 4) وإذا لم يتحقق الطرفان في القرض لا يتحقق الفضل فلا يوجد فيه الربا لأن الربا هو الفضل.
(19) وكذا أنكر ابن رشد الفقيه المالكي كونه ربا منصوصًا حيث قال في المقدمات: إن رجلاً أتى
عبد الله بن عمر، فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلاً واشترطت أفضل مما أسلفته، فقال عبد الله بن عمر ذلك الحديث بطوله - وقال رضي الله عنه: من أسلف سلفًا فلا يشترط أفضل منه، وإن كان قبضة من علف فهو ربا اهـ - فهذا الفقيه ينكر كونه ربًا منصوصًا حيث يقول: وتفسير ذلك (أي قول ابن عمر فإنه ربًا) أنه مقيس على الربا المحرم بالقرآن (ص 149ج-3) وكذا العلامة البغوي ينكر كونه ربا نصيًّا، حيث ذكر تحت آية الربا حديث عبادة، ثم قال: وهذا في ربا المبايعة، ومن أقرض شيئًا بشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة إلخ مراده أن الآية في ربا البيع، والنفع المستحصل بالقرض خارج عن حكم الآية فهو داخل تحت (كل قرض جر منفعة) وكذا العلامة الصوفي الشهير بالخازن ينكر كونه ربا منصوصًا حيث يقول: (المسألة الرابعة) في القرض وهو من أقرض شيئًا بشرط أن يرد عليه أفضل منه فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا اهـ. فإنه لم يدخل النفع المعين للقرض تحت ربا القرآن، بل أدخله في القرض الجارّ منفعة، يعني أثبت له حكمًا آخر بدليل آخر، ولو كان عند هؤلاء الأعلام أن نفع القرض هو الربا المنصوص لم يحتاجوا إلى التأويل وأدلة أخرى، وسيأتي الكلام عليه مفصلاً إن شاء الله تعالى.
(20) (بدائع الصنائع ص 395 ج - 7) .
(21) واتفقوا على كراهته، وهو دليل على عدم كونه ربا وإلا كان حرامًا.
(22) (ص 204) .
(23) غرضه منه أن هذا الحديث ضعيف؛ لأنه لو كان صحيحًا في طريق، أو كان شيء من الأحاديث في الباب صحيحًا لاطلع عليه، وأورده لأنه كان في ديار الحديث وكتبه المنوعة.
(24) قال السيد الجوزجاني في رسالته: الموقوف: وهومطلقًا ما روي عن الصحابي من قول أو فعل متصلاً كان أو منقطعًا، وهو ليس بحجة على الأصح اهـ.
(25) أخرج البخاري هذه الرواية عن سليمان بن حرب وعن شعبة عن سعيد بن بردة عن أبيه، وأخرجه أيضًا عن أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد عن أبي بريدة، وليس فيه ذكر القرض ولا ذكر الربا، ولكن قال ابن حجر: ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضًا كما أخرجه الإسماعيلي من وجه عن أبي كريب شيخ البخاري لكن باختصار عن الذي تقدم (فتح ص 262-ج13) وأخرج البيهقي عن أحمد بن عبد الحميد عن أبي أسامة عن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه وزاد فيه عن رواية البخاري ولفظه فقال: إنك في أرض الربا فيها فاش، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يقرض القرض إلى أجل فإذا بلغ أتاه به وبسلَّة فيها هدية فاتقِ تلك السلَّة وما فيها. وأخرجه أيضًا عن شعبة باختلاف يسير ولفظه: على رجل دين فأهدى إليك حبلة من علف أو شعير أو حبلة من تبن فلا تقبله؛ فإن ذلك من الربا. قال ابن حجر: في رواية أبي أسامة ذكر الربا لكن فيه اختصار عن رواية شعبة وما روى البيهقي عن أبي أسامة فيه زيادة عن رواية شعبة فافهم.
(26) قال ابن عابدين: لأن قول الصحابي إذا كان لا يُدرك بالرأي - أي بالاجتهاد - له حكم المرفوع (رسم المفتي ص41) وسيجيء أن في هذا الحديث مجال القياس أكثر.
(27) (ص 149ج 3) .
(28) هذا دليل على أن الزيادة في القرض ليست بربا، ولو كانت ربا لم يفترق حكمها حين الاشتراط وعدمه كما مر عن العلامة ابن عابدين، وأيضًا هذا مقتضى إطلاق الأحاديث في هذا الباب حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفضل ربا) مطلقًا بدون تقييد شرط وعدمه.
(29) واعلم أن العلامة العيني بعد شرحه للبخاري بكثير من الزمان شرح الهداية حين بلغ من عمره تسعين سنة، واعترف فيه بأنه لم يثبت في هذا الباب النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعتبر لأنه آخر أقواله ويؤيده الدليل.
(30) (عمدة القاري ص 689 ج - 5) .
(31) هذا التفسير خلاف ما عليه الجمهور فلابد له من بيان.
(32) مسلم ص 29 - ج2.
(33) فيه أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة في القرض، وليس فيه أنه كان مع شرط أو بدون شرط فمن ادعى الحرمة بالشرط لا بد عليه من بيان؛ لأن الأحاديث في هذا الباب مطلقة؛ ولا يجوز تقييدها بدون مخصص.
(34) أخرجه البيهقي بسند إبراهيم بن سعد عن إدريس بن يحيى عن عبد الله بن عياش، وعبد الله بن عياش منكرالحديث، وإبراهيم لم يعرف حاله، وكذا حال إدريس، ويمكن أن يكون إدريس بن يحيى الخولاني، ذكره ابن حبان في ثقاته وقال له: مستقيم الحديث إن كان دونه ثقة وفوقه ثقات.(30/273)
الكاتب: عجاج نويهض
__________
هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم؟
محاضرة الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية
(تابع ما قبله)
لأجل الوقوف إجمالاً على شدة الحملة الحالية التي يقوم بها المبشرون على
هذه الأمة أذكر لكم هذه الكتب، وأرجوكم أن تنظروا إليها، وهي هذه الرزمة
الضخمة التي تباع في مكتبة واحدة من المكتبات، ونظرة عامة على اسم كل كتاب
وروحه والغرض منه وعدد الطبعات التي طبعها كافية لكي تجعلنا نتصور وخامة
العاقبة.
وهذه الكتب هي:
1- العالم الإسلامي اليوم
The Moslim World Of To-day
وهو كتاب ضخم جمع ثلاثًا وعشرين مقالة مستفيضة لأشهر الكُتاب
التبشيريين، وهذه المقالات هي بصدد الانقلاب في العالم الإسلامي، وأن الفرصة
سانحة لإخضاع المسلمين وسط هذا الانقلاب إلى السلطة التبشيرية، وقد جمع هذا
الكتاب ووضع له مقدمة وخاتمة الدكتور موط رئيس (المجلس التبشيري الدولي)
ورئيس المؤتمر التبشيري العالمي الديني الذي عُقد على جبل الزيتون منذ زهاء
سنة ونيف، وأمره لم يزل معروفًا، وفي نهاية الكتاب المقررات التي كانت سرية
أولاً، وهي مقررات مؤتمر سنة 1925 في القدس التي نُشرت وأُذيعت واطلع
عليها الناس، وكان لها في العالم الإسلامي ذلك الصدى البالغ، عدد صفحات هذا
الكتاب (420) صفحة، وهذه النسخة التي بيدي من الطبعة الأولى سنة 1925.
2- (العالم الإسلامي في الثورة)
The Moslim World In Revolution
مؤلف هذا الكتاب هو معاون القس الأكبر للحملة المصرية وقت الحرب، وقد
كان مقيمًا بمصر قبل الحرب، وهو يقرأ ويكتب اللغة العربية، ولما كان في الحملة
المصرية كان يراقب تأثير الحرب في المسلمين وكيف كانوا يخضعون للسلطة
الأجنبية العسكرية المتسلطة عليهم.
ولب لباب كتابه في الباب السابع الموسوم بـ (الفرصة الجديدة للكنيسة)
وقد طبع هذا الكتاب لتتولى توزيعه (ثماني جمعيات) تبشيرية هي أكبر الجمعيات
من نوعها في العالم، وطُبع هذا الكتاب سبع طبعات كما يلي:
الطبعة الأولى في مارس 1925
الطبعة الثانية في يونيو 1925
الطبعة الثالثة في يوليو 1925
الطبعة الرابعة في نوفمبر 1925 -
الطبعة الخامسة في فبراير 1926 - ? أربع طبعات في سنة
الطبعة السادسة في يوليو 1926 - ... واحدة بل في ثمانية أشهر
الطبعة السابعة في نوفمبر 1926 -
هذا عدا الطبعات التي تلت نوفمبر 1926 إلى هذا التاريخ وعدد صفحاته
160 صفحة.
3- انتشار الإسلام
The Expansion Of Islam
مؤلف هذا الكتاب هو مؤلف الكتاب السابق (العالم الإسلامي في الثورة)
والنسخة التي بيدي هي من أول طبعة لسنة 1928.
والغرض من هذا الكتاب لا يختلف في الجوهر عن سابقه، غير أنه يطرق
الموضوع من نواحٍ أخرى، ويتوسع في درس عوارض الإسلام الحالية العصرية،
ويسوق نتيجتها إلى وجوب الاعتقاد أن الإسلام منحل متلاشٍ، وينطوي هذا الكتاب
على ثلاثة عشر فصلاً، أخبث هذه الفصول (الفصل الثاني: الرجل محمد) وعدد
صفحاته 304 وفيه مصور جغرافي للعالم الإسلامي.
وفي هذا الكتاب مقدمة كتبها المستشرق مرغليوث، صاحب المؤلف المعنون
بـ (محمد) الذي ذكر فيه من النيل وسوء القصد ما يعلمه الذين يطالعون لهذا
المستشرق كتاباته عن الإسلام، وأما الذين يظنون أن مرغليوث من (أهل الخير)
من المستشرقين بدليل ما طبعه من بعض كتب الأدب والتاريخ - فظنهم في غير
محله، وفي هذا الكتاب الذي نحن في صدده الآن (انتشار الإسلام) قال مرغليوث
مفتتحًا كلام مقدمته:
(لما أعلن مؤسس الإسلام أن مهمته ترمي إلى جعل نظامه (ظاهرًا على
الدين كله) فهو بلا شك قد عني أن يكون الظهورغلبة ونصرًا سياسيًّا على الأنظمة
السياسية الأخرى التي كانت في الوجود في ذلك العصر) ومرغليوث هو كما يعرفه
الناس صاحب النظرية أن الشعر الجاهلي موضوع، ويعرف الناس أيضًا ما كان
لهذا الرأي في مصر من أثر.
4- الإسلام الفتي في طريق السفر
Young Islam On Track
هذا الكتاب يبحث في اصطدام الإسلام وحضارته وجهازه الاجتماعي،
بالحضارة المسيحية، ويبين كيف تتخلل عناصر الحضارة المسيحية الحضارة
الإسلامية وتلاشيها، وهو يتضمن سبعة فصول مشبعة أضرها الفصل المرسوم بـ
(ما هي الغاية؟) وفي هذا الفصل يعلق المؤلف (باسيل مثيو) أهمية كبرى على
انقلاب الأزهر إلى جامعة إسلامية منظمة راقية، ويخشى من وراء ذلك تجديد قوى
الإسلام، كما أنه قد انتقد حالة الأزهر اليوم ووصف طرق التدريس فيه ونال منها
كثيرًا، وعدد صفحات الكتاب 208 وفيه مصور جغرافي للعالم الإسلامي، أول
طبعة منه كانت 1926 وطبع بعد ذلك طبعتين في سنة 1927 و1928، والنسخة
التي بيدي هي من الطبعة الأخيرة لسنة 1928.
5- سيرة الإسلام
The Story Of Islam
مؤلفه لنت ثيودور السكرتير العام (لجميعة نشر التبشير في السواد من الناس)
وكان سابقًا السكرتير التعليمي (للجمعية الكنسية التبشيرية) S. M. C
التي لها فرع في القدس، وغير القدس في فلسطين.
وهذا الكتاب طُبع للمرة الثالثة سنة 1916 وهذه النسخة التي بيدي هي من
طبعة 1916، والغريب في أمر هذا المؤلف أنه مقدم إلى جهة لم تخطر على بال
أحد من أهل هذه البلاد، وهذه عبارة التقديم بالحرف:
(مقدَّم إلى طلاب المدارس العامة في بلاد الإنكليز، الذين عليهم أن يقوموا
إلى الآن بالدور المتعين عليهم القيام به في تبديل مستقبل سيرة الإسلام) .
وفي هذا الكتاب 216 صفحة موزعة على 12 فصلاً كلها سم ناقع، ومن
بعض عناوين الفصول تعلم روح الكتاب، فهناك الفصل الأول وعنوانه (النشء
وكيفية تعليمه) وغاية هذا الفصل مربوطة بما جاء في عبارة التقديم المذكورة،
وهناك الفصل الثالث عنوانه (نبي بلاد العرب) والفصل الخامس عنوانه (السيف
المسلول) والفصل الحادي عشر عنوانه (الإسلام وكنيسة المسيح) وقد كُتب هذا
المؤلَّف على طريقة خاصة قريبة من الطريقة المتبعة في تأليف كتب التدريس
للصفوف الابتدائية في المدارس، وفي نهاية كل فصل أسئلة وأجوبة لتمكين الطالب
أو القارئ من (الحقائق) الموردة في ذلك الفصل.
6- توبيخ الإسلام
The Rebukeof Islam
قال صاحبه إنه يعني بتوبيخ الإسلام ما يلي: (أن الإسلام هو أبدًا مذكِّر
للمسيحية بأنها عاجزة عن تمثيل الرب، إذ لو لم يكن هذا لكان يجب أن يكون
محمد مسيحيًّا، أما الآن فيجب رفع هذا العجز بالمبادرة إلى العمل؛ لأن العالم كله
قد أصبح للمسيح) .
وصاحب هذا الكتاب ينتمي إلى (الجمعية التبشرية الكنسية) التي تقدم ذكرها
ولها فروع في هذه البلاد، ويقول المؤلف إن هذا الكتاب هو الطبعة الخامسة منقحة
والنسخة التي بيدي طبعة سنة 1920.
وفي آخر الكتاب بيان للبلاد التي تنتشر فيها الجمعية المذكورة وهي كما يذكر
البيان على الإجمال:
1- الشرق الأدنى.
2- بلاد فارس
3- بلاد الهند وبلوخستان
4- البلدان الأفريقية حيث يسكن المسلمون والوثنيون معًا كبلاد سيراليون،
ونيجيريا، وأوغندة.
وعندما جاء ذكر نصيب فلسطين من (خير) هذه الجمعية قال البيان:
(فلسطين! إنه وإن كان في فلسطين عدد من الجمعيات العاملة فإن الجمعية التبشيرية
الكنسية S. M. C واضعة بالأكثر نصب عينها بذل الجهود للوصول إلى الأهالي
المسلمين، وقد كان للجمعية قبل الحرب سبعة مراكز كبيرة، أما الآن فقد استؤنف
العمل في غزة، بناء على طلب السلطة العسكرية، وفي القدس، والناصرة،
والسلط، ويافا ونابلس، وعدد الموظفين المسلمين يبلغ 42 موظفًا، منهم الأطباء
والممرضات) .
وعندما جاء ذكر مصر قال البيان:
(للجمعية خمسة مراكز في مصر، والأعمال الطبية سائرة في مصر القديمة
ومنوف، وأم درمان، ودخل المستشفيات في مصر القديمة سنة 1918 (800)
مريض ما عدا عددًا كبيرًا من النساء، وفي السنة التي قبل شملت أعمال الجمعية
أكثر من 500 بلدة وقرية في مصر السفلى، و450 بلدة وقرية في مصر العليا،
والكثرة المطلقة من هؤلاء المرضى كانوا يبقون في المستشفى يعالجون لا أقل من
أسبوعين، وفي القاهرة مدرسة للصبيان فيها 180 طالبًا ومدرسة للبنات يزداد
الإقبال عليها وكثرة طالباتها من المسلمات، ويزداد افتتاح مراكز التبشير على
التوالي، وفي مصر القديمة صارت السيدات المبشرات من الاستطاعة بحيث يتمكن
من القيام بالدروس المسيحية توًّا بلا تهيب حتى بحضور شيوخ المسلمين) .
ويقول البيان إن نتيجة التبشير في فارس كانت كما يلي:
من سنة 1893 - 1902 تنصر 65 بالغًا، ومن سنة 1903-1913 تنصر
145 بالغًا، والفرص تزداد سنوحًا وصار العمل أجدى نفعًا وأقرب ثمرًا، عدد
صفحات هذا الكتاب 248 صفحة.
7- العقلية الإسلامية
The Moslim Mentality
مؤلفه ليفونيان مدير المدرسة اللاهوتية في أثينا سابقًا، وكان قبل ذلك
صاحب عمل في الآستانة، وطُبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1928 وهو ضخم يقع
في 248 صفحة، وقال مؤلفه: إن الغرض منه البحث في كيفية تقريب المسيحية
إلى ذهنية المسلمين، والمؤلف يعرف التركية، وقد أسرف كثيرًا في الطعن والقذف
واعتدى على التاريخ اعتداء فظيعًا بإيراده مسائل وأمورًا ليس لها ظل من الصحة.
ويقول المؤلف قبل مقدمة الكتاب، في الصفحة الأولى هذه الملحوظة، وهي:
لفت نظر
(حين كان هذا الكتاب يُطبع، حصلت أحداث هائلة في دستور الجمهورية
التركية، وأهم هذه الأحداث إلغاء المادة التي تقول إن الإسلام دين الجمهورية
التركية، وبالتالي تم فصل الدين عن الدولة بعدما كانا نسيجًا واحدًا، لحمة وسدى
وكان هذا الالتحام من فجر التاريخ الإسلامي أول مظهر تجلى به شكل الإسلام أنه
عقيدة وعمل) .
__________(30/292)
الكاتب: عن جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة
__________
بيان إلى العالم الإسلامي
من جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس
اليهود يثيرون الفتنة الدموية في فلسطين طمعًا في البراق الشريف والمسجد
الأقصى المبارك.
إن (جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة) في القدس
الشريف قيامًا بواجبها إزاء الفتنة الحالية التي سبَّبها اليهود بتوالي اعتداءاتهم على
البراق الشريف - فَجَرُّوا البلاد إلى البلاء الشامل والخسارة العظيمة في النفوس
والثمرات - تثابر على خطتها من الأخذ بكل الوسائل المشروعة الجائزة للدفاع عن
البراق الشريف والمسجد الأقصى المبارك وسائر الأماكن الإسلامية المقدسة لصد
كل طمع عنها يحاوله الطامعون، والجمعية تقوم بهذا من حيث تظل على صلة
بالعالم الإسلامي وملوكه وأمرائه وأممه وصحفه وزعمائه وأهل الغيرة والحمية من
المسلمين بمواصلة إرسال الأنباء عن الحالة، وعما يجدُّ من الأمور المهمة
والحوادث الخطيرة؛ ليقف العالم الإسلامي على ذلك ويعمل وسعه لصيانة مقدسات
المسلمين ودرء الأخطار عنها.
وهذا موجز ما حصل إلى اليوم في الأسابيع الأخيرة:
1- ضاعف اليهود في فلسطين جهودهم في الأسابيع الستة الأخيرة لامتلاك
البراق، ثم ليتدرجوا منه إلى امتلاك المسجد الأقصى بحجة أن أولى القبلتين وثالث
الحرمين الشريفين هو هيكل سليمان، وبحجة أن الوطن القومي اليهودي يظل
ناقصًا حتى يملك اليهود مكان الهيكل، وبهذا يصرح كبار زعمائهم.
2- عقد يهود العالم (المؤتمر الصهيوني العالمي السادس عشر) في زوريخ
في أواخر شهر تموز (يوليو) وأوائل آب (أغسطس) من هذه السنة، وقد كان
من محور المناقشات الحادة والمقررات الإجماعية في هذا المؤتمر استئناف العمل
وتحريض يهود العالم على بذل كل ما يستطعيون من قوة لاستعادة الهيكل ولو كلفهم
ذلك كل عظيم.
3- أعلن اليهود بلسان مؤتمر زوريخ وبلسان زعمائهم السياسيين والدينيين
وصحفهم وجمعياتهم أنهم لا يرضون بما حدده لهم (الكتاب الأبيض) الذي أصدرته
منذ نحو عشرة أشهر الحكومة البريطانية من أن يظل القديم على قدمه بحيث لا
يجاوز اليهود زيارة الحائط الزيارة المعتادة، والبراق واقع في ملك الوقف الإسلامي
البحت، ثم أعلن اليهود سخطهم على (الكتاب الأبيض) وأخذوا يجاهدون بكل
قواهم لحمل الحكومة البريطانية للعدول عن العمل بمقتضاه، وهي قد وضعته بعد
درسها القضية درسًا مدققًا استغرق عدة أشهر فضلاً عما كان قد سبق لها ملاحظته
ومشاهدته من عدوان اليهود على البراق أثناء السنوات الأخيرة.
4- أثناء انعقاد مؤتمر زوريخ وبعده ظهر اليهود في فلسطين بمظهر المتعنت
الطامع المحاول الباطل، مما دل دلالة قاطعة وأيدته الوقائع أن هناك خطة مدبرة
وصلة وثيقة محكمة بين مقررات مؤتمر زوريخ والحوادث التي اقتحمها اليهود على
أثره.
5- في 10 ربيع الأول سنة 1348 - 15 آب (أغسطس) 1929 سمحت
الحكومة لليهود بأن يقوموا بمظاهرة، فقاموا بها وكانت مظاهرة ظاهرها زيارة
البراق ومرماها محاولة إظهار القوة لامتلاكه فمشوا من الحي اليهودي الذي يبعد من
الحرم عدة كيلو مترات إلى البراق الشريف فاحتشدت المئات منهم عنده، ورفعوا
العلم الصهيوني، وخطب فيهم خطباؤهم خطبًا هائجة عنيفة شتموا فيها المسلمين
كثيرًا، وحرَّضوا جماهيرهم على امتلاك البراق تدريجيًّا لاستعادة الهيكل.
6- وصدرت الصحف اليهودية ومناشير الجمعيات الصهيونية وكلها تحريض
ونداء نحو هذه الغاية، وأصدرت حكومة فلسطين بعدئذ بلاغًا رسميًّا بينت فيه أن
القصد من مظاهرة اليهود المذكورة لم يكن كله لزيارة (المبكى) أي البراق زيارة
دينية مجردة.
7- في 11 ربيع الأول - 16 أغسطس قام المسلمون بمظاهرة كبيرة مقابلة
لمظاهرة اليهود في اليوم السابق، فمشوا من المسجد الأقصى إلى البراق الشريف
إعلانا لتصميمهم أنهم متمسكون بملكهم، مدافعون عن حقهم، وطيرت البرقيات إلى
الحكومة البريطانية، وقدَّمت الاحتجاجات إلى حكومة فلسطين شجبًا لأعمال اليهود
ومحاولاتهم المتكررة التي لا تنتهي إلا بسوء العاقبة إذا سُمح لهم بالمثابرة عليها.
8- في 12 ربيع الأول - 17 أغسطس يوم مولد الرسول صلى الله عليه
وسلم اعتدى اليهود على العرب المسلمين بالقرب من الحي اليهودي، فجرحوا 13
عربيًّا ودافع العرب عن أنفسهم، ثم انقلب اليهود يغدرون بالمارة من العرب في
حيهم يترصدونهم للإيقاع بهم ليل نهار.
9- في 16 ربيع الأول - 21 أغسطس كان اليهود ذاهبين بموكب كبير لدفن
أحد موتاهم الذي مات في مستشفى الحكومة متأثرًا من جراحه التي أصيب بها في
حادثة اعتداء اليهود السابقة، فاجتمعوا مئات عديدة وخطبوا خطبًا مهيجة وشتموا
المسلمين، ولما وصلوا بالميت إلى قرب دائرة البريد خارج المدينة القديمة عدلوا
عن السير في الطريق العام المعتاد سلوكهم فيها إلى مقبرتهم، وحاولوا أن يحدثوا
حدثًا عظيمًا، فأرادوا أن يدخلوا بالميت الأحياء الإسلامية كلها ويأتوا إلى البراق
قبل أن يدفنوه تحويلاً لجنازة الدفن إلى مظاهرة لم يسبق لها مثيل نوعًا وشكلاً،
فصدَّهم البوليس البريطاني بالقوة، وجرح منهم (23) شخصًا كما أفاد بلاغ
الحكومة الرسمي.
وكان اليهود بعملهم هذا يرمون إلى الفتنة صراحة، إذ من تقاليدهم التي
يراعونها بحسب دينهم مراعاة شديدة أنهم لن يؤخروا دفن ميتهم إلى الصباح إذا كان
مات قبل نصف الليل، غير أنهم في هذه الحادثة أبطلوا العمل بتقاليدهم الدينية،
فأخَّروا دفن الميت إلى قبيل ظهر اليوم التالي، وكان موته عصر اليوم السابق طلبًا
لأسباب الشر والفتنة.
10- فهال أهالي فلسطين المسلمين ما أخذوا يرون في اليهود من التحكك بنار
الفتنة، ومن الجرأة الغريبة في محاولتهم اقتحام البراق وامتلاكه والتصرف به
تصرف المالك فاحتجت (جمعية حراسة المسجد الأقصى) و (جمعية فرسان
البراق) و (جمعيات الشبان المسلمين) في فلسطين والهيئات الدينية على أعمال
اليهود ومصارحتهم العرب العدوان مصارحة منافية للحق والقانون، ومعرضة
الأمن العام في البلاد إلى خطر كبير.
11- في 18 ربيع الأول - 23 أغسطس خرج المسلمون من صلاة الجمعة
من المسجد الأقصى حسب العادة، فلما وصلت زرافاتهم إلى باب الخليل ذاهبين في
طريقهم إلى منازلهم وأعمالهم وجدوا اليهود هناك على حالة مريبة جدًّا، وكانت
جماهير المسلمين التي خرجت إلى جهة باب العامود قد رأت مثل ذلك من اليهود
الساكنين في حي ميشوريم القريب، فسبق أحد اليهود في باب الخليل إلى الاعتداء
بإلقاء قنبلة، ثم أطلق اليهود الطلقات النارية على المسلمين فوقع المحذور،
وحصل اصطدام قرب باب العامود في الوقت عينه، فاتقدت الفتنة ولم يكن بأيدي
المسلمين إلا بعض العصي يحملها الواحد منهم على عادته، فأخذ الرصاص يدوي
ولم تكن قوة البوليس كافية فاستعانت بإطلاق النار على المسلمين فقتلت وجرحت
منهم، واحتشد اليهود في مبانيهم الكبيرة في حي ميشوريم، وأخذوا يطلقون النار
من النوافذ على العرب واستمرت الفتنة على أشدها عدة ساعات، وأقفلت المدينة
وتوالى إطلاق الرصاص في أماكن عديدة، وفي العصر حلَّقت الطيارات وجيء
بقوات البوليس من الخارج وفي الساعة السادسة أعلنت الحكومة منع التجوال من
السادسة ونصف مساء إلى السادسة صباحًا، وانقضى الليل والرصاص لم يهدأ حتى
الصباح.
ولم تزل الحالة في القدس إلى هذا التاريخ غير اعتيادية رغم تكاثر القوة
العسكرية وتحليق الطيارات يوميًّا، فحوادث القتل والاعتداء يوالي مزاولتها اليهود
في أطراف الأحياء التي يسكنونها، ولم تنقض ليلة إلى الآن منذ 18 ربيع الأول
دون أن يثابر على إطلاق النار الليل كله أو معظمه في ضواحي المدينة.
وبلغ عدد شهداء المسلمين في القدس العشرات، ولم يمكن إحصاء الإصابات
إحصاء مضبوطًا إلى الآن وبلغ عدد الجرحى في القدس مبلغًا كبيرًا.
امتداد الفتنة إلى أنحاء فلسطين
في الخليل:
وامتدت الفتنة إلى الخليل يوم السبت 29 ربيع الأول 25 أغسطس، فقُتل من
المسلمين ثمانية، وجُرح عدد لم نعرف صحته بعد.
في يافا:
وحصل اصطدام عنيف في يافا يوم الأحد 20 ربيع الأول - 25 أغسطس،
فقتل وجرح من المسلمين برصاص الجنود البريطانية عدد لم يُعرف بعد.
في حيفا:
قام اليهود وباشروا مهاجمة العرب بالسلاح، فدافع العرب عن أنفسهم
وعائلاتهم، وفي اليوم التالي وصلت البارجة البحرية (برهم) تحمل الجنود
والطيارات والأعتاد الحربية، فكان العرب بقرب الرصيف يشاهدونها، وبينما هم
على هذه الحال إذا بجنود الدراعة يطلقون عليهم النار بغتة بلا سبب ولا إنذار فقُتل
27 عربيًّا وجُرح 59.
في بيسان وضواحيها:
ووقع قتال في بيسان والأماكن المجاورة، ولم تُعرف تفاصيل الحوادث وعدد
الإصابات بعد.
في صفد:
وحصل اصطدام شديد في صفد بين المسلمين واليهود مساء 24 ربيع الأول -
29 أغسطس لم تُعرف تفاصيله بعد.
في غزة والرملة:
اشتد الاضطراب في غزة وقامت المظاهرات، فنقلت الحكومة اليهود من
هناك إلى تل أبيب المستعمرة اليهودية الكبيرة قرب يافا، وهاج مسلمو الرملة واللد
والسبع هياجًا كبيرًا.
في نابلس:
ووقع اصطدام كبير في نابلس بين الأهالي والبوليس فجُرح 9 من المسلمين.
في سائر أنحاء البلاد:
وعم الاضطراب جميع أنحاء البلاد من بئر السبع جنوبًا إلى الحولة شمالاً.
الشهداء والجرحى
أخذت حكومة فلسطين تصدر نشرات رسمية منذ نحو أسبوع في بيان الحالة
العامة في البلاد، وجاء في النشرة المؤرخة في 29 أغسطس أن عدد الإصابات
لغاية الساعة الثامنة من صباح 28 آب حسب أنباء المستشفيات ما يلي:
... ... ... ... ... ... مسلمون مسيحيون يهود المجموع
القتلى ... ... ... ... ... ... 63 ... 4 ... 97 164
الجرحى الذين في المستشفيات ... ... 113 ... 9 ... 150 272
الجرحى الذين خارج المستشفيات ... ... لم يرد نبأ عن عددهم بالضبط
غير أن شهداء المسلمين وجرحاهم يفوق العدد الذي جاء في النشرة الرسمية
المؤرخة في 29 أغسطس؛ لأنه لم يمكن إلى الآن القيام بإحصاء دقيق لإصابات
المسلمين، وقد قالت النشرة المذكورة إن هذه الأرقام التي ذكرتها لا تشمل
الإصابات التي أوقعتها القوات المسلحة في إخماد الاضطراب والتي لم تصل إلى
المستشفيات.
13-ومع أن القوات العسكرية قد ازدادت بوصول النجدات من مصر ونزول
قوات عسكرية من البارجتين اللتين رست إحدهما في يافا والأخرى في حيفا،
فالحالة العامة في البلاد تسير باضطراب.
الفظائع تنزل بالمسلمين
ثبت أن كثيرًا من اليهود مسلحون، وأن كثيرًا منهم في القدس كانوا يرتدون
الألبسة العسكرية، ويتقلدون البنادق، ويتصيدون العرب في الطرق والأماكن
المنعزلة، وقد راع العرب تسلح اليهود وتخطفهم للعرب تحت هذا الزي وبعد
الاحتجاج للحكومة عثرت الحكومة على بعض المتسلحين منهم.
وتوزع الحكومة القوات العسكرية في البلاد بنشاط كبير، وقد كانت هائلة جدًّا
الخطة التي باشرت القوات العسكرية العمل عليها من رمي المسلمين بالنار رميًا بلغ
حد الفظائع الرائعة بلا سبب وبلا إنذار، بل بحجة التفتيش دون أن يعثروا على أي
شيء مما تفتش القوات عليه، وقد سقط أكثر شهداء المسلمين وجرحاهم برصاص
الجيش البريطاني والبوليس البريطاني ففي قرية (صور باهر) الواقعة في
الضاحية الجنوبية في القدس ذهبت حملة عسكرية باكرًا صباح 28 أغسطس مجهزة
بالرشاشات والدبابات والطيارات فأحاطت بالقرية، وأخذت تطلق النار من جميع
الجهات فقتلت ثمانية منهم النساء والأطفال وجرحت تسعة وحصل شبه هذا في
قرية قالونيا في الضاحية الشمالية.
ويجري من قبل المسلمين إحصاء مدقق للشهداء والجرحى الذين يذهبون
ضحية رصاص الجند البريطاني، ويجري أيضًا إحصاء لإصابات العرب على
العموم وستُرسل إليكم التفاصيل بوقت قريب.
13 طيارة فوق المسجد الأقصى
14- وقد حلقت البارحة (30 أغسطس) وقت صلاة الجمعة حين خروج
المسلمين من المسجد الأقصى (13) طيارة، وقامت بحركات مختلفة فوق الحرم
القدسي الشريف أكثر من ساعة.
المسلمون والمسيحيون يشتركون في الدفاع
15- وتشكر جمعية حراسة المسجد الأقصى لإخواننا المسيحين العرب
وقوفهم وإخوانهم المسلمين موقف المؤازرة والاتحاد الوطني في هذه الفتنة، فالبلاد
لأهلها مسلمين ومسيحيين على السواء.
إعانة عائلات الشهداء والجرحى
استنجاد العالم الإسلامي
إن (جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة) تدعو
المسلمين بصفة عامة، وأرباب الحمية والغيرة منهم بصفة خاصة، والمهاجرين
العرب الكرام في ديار المهجر إلى أن يسعفوا عائلات الشهداء والجرحى الذين
ذهبوا في سبيل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والجرحى الذين سالت
دماؤهم في هذا السبيل المقدس، في حين تستنجد الجمعية العرب والمسلمين عامة
ليسارعوا إلى الاحتجاج المتوالي على جناية اليهود في هذه الفتنة على ما تنزله
القوات العسكرية البريطانية بالمسلمين الأبرياء من الضربات العظيمة الذاهبة
بالأرواح بلا حساب.
وسيظل المسلمون في فلسطين معتصمين بشرف السدانة الصادقة والحراسة
الأمينة للمسجد الأقصى المبارك والبراق الشريف، وسائر الأماكن الإسلامية
المقدسة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (إبراهيم: 47) وهو {نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ} (الأنفال: 40) .
... ... ... جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة
... بيت المقدس 26 ربيع الأول سنة 1348 - 31 أغسطس 1929
__________(30/297)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
منشور المندوب السامي في فلسطين
(حدثت الفتن الأخيرة في فلسطين والمندوب السامي البريطاني مصطافًا في
بلاده بالإجازة، وقد تعجل العودة، ولم يلبث بعد وصوله إلى القدس أن نشر في
البلاد بلاغًا دل على تحيزه إلى اليهود والصهيونية هذا نصه) .
عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد الأسى أن البلاد في حالة اضطراب،
فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة.
وقد راعني ما علمته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار،
سفاكي الدماء، عديمي الرأفة، وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت في أفراد من
الشعب اليهودي خلوًا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم، وعما إذا كانوا
ذكورًا أو إناثًا، والتي صحبتها - كما وقع في الخليل - أعمال همجية لا توصف،
وحرق المزارع والمنازل في المدن وفي القرى ونهب وتدمير الأملاك.
إن هذه الجرائم قد أنزلت على فاعليها لعنات جميع الشعوب المتمدنة في أنحاء
العالم قاطبة.
فواجبي الأول أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد، وأن أوقع القصاص
الصارم بأولئك الذين سوف يثبت عليهم أنهم ارتكبوا أعمال العنف، وستُتخذ
التدابير الضرورية لإنجاز هاتين الغايتين، وبناء عليه أطلب من جميع سكان
فلسطين أن يساعدوني على القيام بهذا الواجب، ووفاقًا لتعهد أعطيته للجنة
التنفيذية العربية قبل مغادرتي فلسطين، في شهر حزيران المنصرم تباحثت في
أثناء وجودي بإنكلترة مع وزير المستعمرات بشأن إجراء تغييرات دستورية في
فلسطين، غير أني سأؤجل هذه المباحثات مع حكومة جلالته بسبب الحوادث
الأخيرة.
ولكي أضع حدًّا للأخبار الملفقة التي ذاعت أخيرًا حول موضع حائط المبكى
(البراق) أعلن لعموم الأهالي بأنني عازم - وحكومة جلالته موافقة - على تطبيق
المبادئ التي ينطوي عليها الكتاب الأبيض الصادر في 19 تشرين سنة 1928 بعد
تقرير الطرق لتطبيقها.
صدر هذا اليوم الأول من شهر أيلول سنة 1929
... ... ... ... ... ... ... المندوب السامي والقائد العام
... ... ... ... ... ... ... ... ج. ر. تشانسلور
احتجاج اللجنة التنفيذية
للمؤتمر الفلسطيني على منشور المندوب السامي
على إثر المنشور الذي أصدره فخامة المندوب السامي مساء يوم أول أيلول
الجاري أبرقت اللجنة التنفيذية العربية في فلسطين البيان التالي تعريبه إلى فخامته.
اطّلع عرب فلسطين بدهشة عظيمة على منشور فخامتكم الصادر في 1 أيلول
1929، ولم يكن أحد منهم يتوقع أن يرى (إغفال) الحقائق التي عرفها القاصي
والداني، والتي اعترفت بها الحكومة وهي:
1- أن أكثر اليهود كانوا مسلحين من أنفسهم.
2- أن الحكومة قد سلَّحت عددًا منهم.
3- أنه لا يوجد في قتلى اليهود تمثيل أو تشويه حتى في الخليل كما يؤيد هذا
تصريح إدارة الصحة العامة البريطانية في فلسطين.
4- أن بعض قتلى العرب قد مثَّل اليهود بهم.
5- أن جموع اليهود قد قتلت نساء وأطفالاً من العرب على الانفراد.
6- أن اليهود هم الذين بدأوا في قتل النساء والأطفال من العرب.
7- أن الجنود البريطانية النظامية قتلت النساء والأطفال والرجال من العرب
في بيوتهم وعلى فرشهم في قرية صور باهر وغيرها.
8- أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن
السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إفناء القومية العربية في وطنها الطبيعي
لكي تحل محلها قومية يهودية لا وجود لها.
كل هذه الحقائق لم يكن أحد من العرب يتوقع إغفالها في منشور صادر على
عجل وسابق لأوانه، وتعلمون فخامتكم أن عرب فلسطين قد خسروا كل شيء من
جراء هذه السياسة الصهيونية فلا يهمهم أي زيادة في الخسارة، وعليه فإن الجنود
البريطانية ستجدهم عُزَّلاً من السلاح عند إنزال أي ضربة بهم، فإن كان لم يزل
ثمة عدالة يحق للعرب أن يطلبوا نصيبهم منها، فهم يلحون بطلب إجراء تحقيق
نزيه من قبل أشخاص من خارج فلسطين، لا يتأثرون أثناء قيامهم بواجبهم نحو
العدالة بالنفوذ الصهيوني.
وإن التحقيقين اللذين أُجريا في فلسطين في ظروف مماثلة سابقة من قبل لجان
بريطانية قد أظهرا للملأ مطالب العرب الحقة ومقاصدهم القومية النبيلة، كما أظهر
مصائبهم السياسية.
إن العرب يعتقدون كل الاعتقاد أن تحقيقات نزيهة كتلك ستروي للعالم حكاية
حالهم الآن في هذه الاضطرابات الحاضرة رواية أكثر صدقًا مما صورتموه للعالم
في منشوركم الصادر قبل إعطاء العرب فرصة لاستماع صوتهم، وعندئذ يرى
العالم أن اليهود الذين تجاوزوا التحرش السياسي إلى الديني، والذين أصبح
تحرشهم في المدة الأخيرة مما لا يحتمل - كما صرَّحت بهذا الحكومة - والذين
كانت أعمالهم الفظيعة في هذه الاضطرابات ينطبق عليها كلام فخامتكم في منشوركم
بحق العرب، هم المسئولون أولاً عن الاضطرابات الحالية السياسية التي تؤيد ثانيًا.
وإن مثل هذا المنشور كان ينبغي إصداره بعد إجراء التحقيقات التي ينشدها
العرب وليس قبل إجرائها، فلذلك نحن نتأكد أنكم لو أعدتم النظر في الحالة
الحاضرة لوصلتم إلى حكم عادل.
... ... ... في 28 ربيع الأول سنة 348 الموافق 2 أيلول 929
... ... ... ... ... رئيس اللجنة التنفيذية العربية
... ... ... ... ... موسى كاظم الحسيني
... ... ... ... ... ... ... الأمناء
... ... ... مغنم إلياس مغنم. عوني عبد الهادي. جمال الحسيني
***
احتجاج جمعية حراسة المسجد الأقصى
والأماكن الإسلامية المقدسة
وجوابها على منشور فخامة المندوب السامي
جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس تتلقى
بمزيد الدهشة والأسف استعجال فخامتكم في إصدار منشور 1 أيلول سنة 1929،
الذي يحمل على العرب حملة غير عادلة مغفلاً ما اقترفه اليهود في يافا والقدس
وغيرهما، وقام به الجنود البريطانيون في صور باهر وقالونية وحيفا من الفظائع
والقتل في الأطفال والنساء والشيوخ من العرب، وهم عُزَّل من السلاح بعضهم
عابر سبيل وبعضهم في بيته أو في صلاته، وهي تلفت نظر فخامتكم إلى ما يأتي:
1- إن إصدار الحكم في المنشور بناء على دعاية اليهود فقط، ومن غير أن
تسمعوا الطرف الآخر، أو قبل أن يجري التحقيق من قِبَل هيئة عادلة غير متحيزة
ولا متأثرة من النفوذ الصهيوني، هو ليس من العدل.
2- إن تغاضيكم في المنشور عما اقترفه اليهود والجنود البريطانيون من
الفظائع في هذه الفتنة، وعدم تحميلكم المسئولية عن المسببين والبادئين سيتلقاه
العرب خاصة، والعالم الإسلامي عامة بمزيد الدهشة والاستياء.
3- يخشى أن تكون لهجة المنشور قد فهم منها اليهود تحريضهم وإغراءهم
لأنهم لم يكادوا يتلقون هذا المنشور حتى قاموا في ذات الساعة بالتعدي على أحمد
محمد عوض من لفتا أثناء مروره في الطريق وتهجموا عليه مئات يتناولونه بما في
نفوسهم من غل لكمًا وضربًا حتى قضى نحبه في ذات الليلة متأثرًا من تلك
الضربات الهمجية.
4- إن التسرع في الحكم القاسي يخشى أن يكون له أثره في الهيئات القضائية
والهيئات التحكيمية مما يتنافى مع الرغبة في أن يأخذ العدل مجراه.
5- إن تهمة التمثيل في قتلى اليهود في الخليل ثبت لدى موظفي دائرة
الصحة العامة من الإنكليز بطلانها وفسادها، وهي بلا ريب من أنواع دعايات
اليهود الباطلة.
6- إن العرب عاشوا هم واليهود الوطنيين في هذه البلاد قرونًا طويلة من
غير أن يتعدى بعضهم على بعض، أو يسعى فريق منهم لأن يجعل البلاد المقدسة
التي هي مقر الأديان ومهبط الأنبياء ميدانًا لإثارة الفتن وإراقة الدماء، فلا يصح أن
يوصم فريق العرب الذي اعتدي عليه جهارًا وتحرش به علنًا كما تعترف الحكومة،
فقام يدافع عن نفسه وعن نسائه وأطفاله الذين قُتلوا ومُثِّل بهم وهم عُزَّل من السلاح،
فلا يصح أن يوصم هذا الفريق المدافع المعتدى عليه بالهمجية والتوحش وحب
سفك الدماء، وهذه القرون الماضية الطويلة شاهدة.
فكان من واجب العالم المتمدن الذي صببتم لعناته على غير مستحقيها أن
يفتش عن السبب الذي جعل مهبط الأنبياء ومقر الأديان ميدانًا واسعًا للفتن، فيسعى
في إزالة هذا السبب باسم المدنية والإنسانية، وبذلك تعود فلسطين إلى ما كانت
عليه من الهدوء والسكينة والاطمئنان.
7- نستغرب جدًّا أن يحمل المنشور في أمر التخريب والإحراق على العرب
فقط، ويغفل ما قام به اليهود من هذا القبيل وحرقهم ونهبهم بيوتًا كثيرة وتعديهم
على مقام الصحابي المشهور (سيدنا عكاشة) وهدم قبره وقبر المجاهدين حوله
وإحراقها بعد تمزيق الستائر.
8- إن اليهود الذين أثار حماستهم وهاج هائجهم مقررات المؤتمر الصهيوني
الذي عقد مؤخرًا في زوريخ، هم البادئون في الاعتداء والمثيرون لهذه الفتنة
بالمظاهرة العنيفة التي قاموا بها في مكان البراق الشريف يوم 14 آب لأسباب لا
تنحصر بالصلاة العادية وهم يحملون العلم الصهيوني ويخطبون الخطب كما جاء
في بلاغ الحكومة الرسمي، وكانت خطبهم تحمل أنواع السباب والشتائم للمسلمين،
ومن جهة أخرى ابتداؤهم في الاعتداء يوم 16 و17 و18 منه على العرب
المنفردين في الأحياء اليهودية من رجال ونساء وأطفال، وإن حوادث قتل النساء
والأطفال بدأت منهم.
9- إن العرب الذين لم تُبق لهم السياسة الحاضرة ما يأسفون عليه من حق
سيتلقون مسلِّمين بصدرهم وهم عُزَّل من السلاح رصاص الجنود البريطانيين فيما
إذا رأت الحكومة أن سياسة الوطن القومي تقضي بالبطش بهم، وإزهاق نفوسهم
وإزالتهم من الوجود.
فالعرب مع احتجاجهم الشديد على هذا المنشور يطلبون أن تقوم هيئة عادلة
من الخارج لا يجد النفوذ الصهيوني إلى وجدانها إزاء واجب العدل سبيلاً بتحقيق
دقيق في هذا الأمر، وحينئذ سترون فخامتكم أن لعنات العالم المتمدن ستنصب على
المسببين وحدهم، كما أنهم يأملون إصدار منشور آخر بعد اطلاعكم على فظائع
اليهود في يافا والقدس وغيرهما.
ونحن واثقون بأن كل تحقيق عادل يجري بهذا الصدد سيكون حتمًا لصالح
العرب، وسيظهر أن المسئول عن هذه الفتنة اثنان لا ثالث لهما:
الأول: اليهود الذين تجاوزوا بمطامعهم واعتداءاتهم كل حد حتى المقدسات
والحقوق الدينية.
الثاني: السياسة غير العادلة وغير الطبيعية التي تعضد اليهود في مطامعهم
واعتداءاتهم، والتي قضت بتأخير تنفيذ الكتاب الأبيض الصادر منذ عشرة أشهر.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
... ... في 29ربيع الأنور سنة 1348 في 3 أيلول سنة 1929
... ... جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة
(المنار)
إذا كنا نعتقد اعتقادًا جازمًا عن بحث وروية أن الإنكليز قلما أقدموا
على عمل استعماري على جهل وقصر نظر كإقدامهم على جعل فلسطين وطنًا قوميًّا
لليهود، وأنه لم يُعرف في تاريخهم ظلم مشوه مفضوح كظلمهم في فلسطين، وأن
هذا العمل الذي قصدوا به إضعاف الأمة العربية وتقطيع أوصالها والحيلولة بين
أقطارها المستعدة للوحدة لتسهيل استعبادها هو الذي يرجى أن يأتي بضد كل ما
أرادوا من السوء والشر بالعرب، كما نعتقد اعتقادًا دينيًّا واستدلاليًّا أن اليهود لن
ينالوا ما يبغون من إعادة ملك إسرائيل في هذه البلاد، ونظن ظنًّا راجحًا قويًّا أن
الإنكليز يعتقدون اعتقادنا هذا، وأنهم يخدعون اليهود ليتخذوهم قوة لهم يهددون بهم
العرب ويهددونهم بالعرب، وإنما كنا نخشى من دهاء الإنكليز ومكر اليهود أن
يسيروا في خطتهم المشتركة بالحكمة والصبر والرفق والمداراة إلى أن يسلبوا من
عرب فلسطين جل رقبة الأرض، ويجعلوهم كالأجراء فيها؛ ولكن الله سلَّم ورحم
العرب بهذا الظلم المفضوح من الإنكليز، وهذا العدوان الأحمق من اليهود، فكان
كل منهما مؤيدًا لاعتقادنا، وخاذلاً للفريقين، ومحبطًا لكيدهما ومكرهما بنا، فقد
نبَّهت هذه الثورة الفلسطينية ما كان نائمًا من العصبية العربية والجامعة الإسلامية
في الشرق والغرب وفي القلب الذي هو جزيرة العرب، ولو قتل ألوف من العرب
في سبيل هذه الغاية لكان قليلاً، وقد كنا كتبنا في هذا الموضوع فصلاً طويلاً نرجئه
للجزء التالي إذ لم له يتسع هذا الجزء.
__________(30/304)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الآراء في مشروع الاتفاق الجديد
بين مصر وإنكلترة
اتفقت الآراء على أن هذا المشروع الذي جاء به صاحب الدولة محمد محمود
سليمان باشا هو أمثل من كل مشروع رضيت به الدولة البريطانية من قبل،
واتفقت أيضًا على أنه ليس بالاستقلال التام المطلق الذي ينشده الشعب المصري،
وكثر المؤيدون له في الصحف والمجالس من أفراد الشعب على اختلاف مشاربهم
ومشاهدهم في السياسة، وقل الناقدون له منهم.
وأما الأحزاب فاختلفت أقوالها فيه: قَبِلَه الحزب الحر الدستوري بالطبع، لا
لأنه يعده ثمرة لمفاوضة رئيس هذا الحزب للدولة البريطانية فقط، بل لأن سياسة
هذا الحزب مبنية على أساس الاتفاق مع هذه الدولة والقناعة منها باستقلال إداري
واسع النطاق بقدر الإمكان، وما زال كبار رجاله موضع ثقة رجالها منذ أُسس إلى
هذا اليوم.
قَبِلَه الحر الدستوري بِعُجَرِهِ وَبُجَرِهِ، ووعد الحزب الوطني ببيان ما ينطوي
عليه من المضار والخطر، وقرر حزب الاتحاد أنه صالح لأن يكون قاعدة لوضع
معاهدة بين الدولتين، وكثير من الأفراد المنكرين يقول بذلك بشرط أن يبين في
المعاهدة ما فيه من إجمال، ويفسر ما أودعه من إبهام، ويقيد بعض ما تضمنه من
إطلاق، ووجوب تضمن صيغة المعاهدة لهذه الثلاث هو الذي أعقله وأراه.
وأما الوفد أو الحزب السعدي الذي يمثل سواد الشعب الأعظم فأمسك عن بيان
رأيه فيه، وقال: إن الحق في الحكم فيه للبرلمان المصري الذي يمثل الشعب التمثيل
الصحيح الذي قرره قانونه الأساسي، فهنالك تحت قبة البرلمان نبين رأينا فيه،
فتبارت أقلام حزب الوزارة وأقلام أشياعها في الطعن على الوفد وزعمائه، وعاد
السباب والقذف بأفحش الشتائم إلى شر مما كان في عهد الشقاق الأول بين السعديين
والدستوريين الذي استمر إلى عهد الائتلاف المعلوم.
لقد كنت أخشى هذا وأحاذره متوقعًا له إذا وفق محمد محمود باشا بافتراص
سياسة وزارة العمال في إنكلترة لإقناعها بإنصاف مصر والاتفاق معها على ما
يرضاه الشعب المصري وتحفظ به المصالح البريطانية، فكتبت مقالة (الحالة
السياسية العامة في مصر) التي نشرتها في الجزء الثاني الذي صدر بتاريخ غرة
صفر (8 يوليو) راجيًا أن تكون بما قررته من الحقائق الناصعة المبرأة من الهوى
والتشيع تمهيدًا لائتلاف جديد نهائي يسعى له سعيه بعض الأمراء والكبراء لخير
مصر ومصلحة حاضرها ومستقبلها.
وقد كان حاضر مصر إلى وقت كتابة تلك المقالة شر حاضر ينذر شر مستقبل:
أمة مغلوبة على أمرها بالاستبداد البريطاني الذي سلبها ما اعترف به لها من الاستقلال
بقرار الوزارة البريطانية وتصديق البرلمان البريطاني، وحكومة (دكتاتورية)
عطلت الحكومة الدستورية وفضت برلمانها، ورضيت أن تكون خاضعة لسيطرة
أطغى مستبد بريطاني عرفته مصر، لا يرضى أن يُحل فيها ولا أن يُعقد أمر من
الأمور الداخلية المحضة إلا برضاه، دع ما يمس التحفظات من قرب، أو يومئ إليها
من بعد، تؤيده دولة معروفة بنقض العهود، وإخلاف الوعود، ونكث الأيمان
بالتأويل، الذي تتبرأ منه جميع اللغات والشرائع والقوانين، طردت الموظفين
المصريين والجنود المصريين من السودان، وانفردت بإدارته وسياسته وحدها، من
بعد أن كان ادعاؤها حق المشاركة لمصر في إدارته ظلمًا واستبدادًا لا مسوغ له،
فماذا عسى أن يكون مستقبل بلاد هذا حاضرها؟
كان ذنب محمد محمود عند الوفد وسواد الأمة من ورائه أنه رضي في هذه
الحال السوءى التي تنذر المستقبل الأسوأ أن يتولى الوزارة ويقبض على عنق
البلاد بيد من حديد، وأن يتحلى بلقب (دكتاتور) وهو يعلم أن القوة السلبية في
الأمم الضعيفة تفعل ما لا تفعل القوة المادية التي يفوقها الخصم فيها أضعافًا، ويعلم أن
أعظم مظهر لهذه القوة السلبية في مصر ما كان من امتناع رجال الحكومة كبيرهم
وصغيرهم من إدارة الأعمال تحت سيطرة الحماية الإنكليزية في إبان الثورة، وبهذا
وحده علم الإنكليز يومئذ أنه يتعذر عليهم إدارة أمور البلاد كما كانوا يديرونها في
السنين الخالية بأسماء الوزراء الوطنيين الجبناء الذين أطلق الأستاذ الإمام على
مجلس نظارهم لقب (جمعية الصم والبكم) وأنه كان يريد بهذه الوزارة القضاء على
وحدة الأمة المعتمدة على وفدها في السير إلى الاستقلال المطلق كما قضى على
حكومتها، وأن يقوي حزبه المشايع للبريطانيين في ثلاث سنين مقدرة ليكون صاحب
الأكثرية في البرلمان الموعود به بعدها فيعمل للإنكليز ما يريدون.
وكان عذر محمد محمود عند نفسه كما قال مرارًا وعند المؤمنين بصدق
وطنيته أنه لم يكن في ذلك الحين بد من الخروج من تلك الحالة السوءى بحكومة
تتزاور عن ذلك الضغط البريطاني المرهق، وتتحامى الوقوف في وجهه في إبان
طغيانه؛ لأنه يجرف كل ما يصادفه أمامه لا محالة، وأنه كان يرجو أن يشاركه
رجال الوفد في هذه الوزارة التي تألفت للنهوض بأعباء الإصلاح الداخلي بمعزل
من ميدان المناطحة مع الإنكليز إلى أن تتحول تلك الحال - ودوامها من المحال -
وأنه لم خاب أمله وبرز الوفد لمكافحته اضطر إلى الكفاح كارهًا له، وقد سمعت من
بعض هؤلاء المحسنين للظن فيه من يقول في أول العهد بهذا الكفاح أنه لو علم أن
سيعجز عما كان يؤمّل ويضطر إلى هذا النضال لما أقدم على تأليف الوزارة. والله
أعلم.
من أجل ما ذكرت هنا وهناك من الرأي في رجولة محمد محمود باشا
ووطنيته، مع العلم بقلة الرجال - كنت أحب أن يقوم بما له من الحظوة عند الإنكليز
التي كانت تزداد مظاهرها آنًا بعد آن بآخر تجربة في التوفيق بين مصلحتهم
الأساسية في مصر واستقلالها المطلق مع سودانها، مع عقد محالفة مرضية بينهما،
وأن يتفق مع الوفد على ذلك سرًّا إن لم يكن جهرًا، وأن يعلِّق بقاءه في الوزارة
على هذه المحالفة بأن يستقيل إذا لم يقبلوا، ثم يتفق مع الوفد سواء قبلوا أو لم
يقبلوا، وهذا هو الذي أملى علي تلك المقالة التي نشرتها في الجزء الثاني من منار
هذا العام، علمًا بأنها لا ترضي جمهور حزب الوزير، ولا جمهور حزب الوفد
لكراهة كل من الفريقين لإنصاف الآخر، والاعتراف بأي مزية أو فضيلة له،
وإنما ترضي بالطبع محبي الحق والعدل والإنصاف من كل منهما ومن غيرهما،
ولا يعنيني بعد تحري مرضاة الله تعالى إلا مرضاة من يحبون ما يحب الله من
الحق والعدل، والرجاء في سعيهم للاتفاق والصلح.
وقد علمت أن بعض الكتاب من أنصار الوفد انتقد المقالة في بعض صحفهم
على أنني كنت فيها أقرب إلى تأييد سياستهم الأساسية في المسألة المصرية، كما
أنني كذلك في نفسي على انتقادي لبعض تصرفهم، ثم رأيت هذا المنتقد في النادي
السعدي في أثناء إلمامة لي به، فبهتني بأنني صرحت في المقالة بعدم الحاجة إلى
مجلس النواب مطلقًا! ! ولم يمنعه إنكاري لذلك وتأييد بعض قراء المنار من
أعضاء الوفد الحاضرين لي في الإنكار من الإصرار عليه؛ ولكنني علمت من غير
واحد منهم أن النائب الذي طعن على القرآن في مسألة تعدد الزوجات لم يفُه بذلك
في المجلس، كما قلت في المقالة؛ وإنما ذكره في مقالة نشرها في جريدة الأهرام،
قال بعضهم: ولو قاله في المجلس لأقمنا عليه النكير، فأنا أستغفر الله من هذا الخطأ
الذي كان عالقًا بذهني مما قرأت من الرد على ذلك النائب الملحد، ولو ظهر لي
خطأ آخر لرجعت إلى الصواب بعد ظهوره بكل ارتياح، ولا أبالي من يرضيهم إلا
اتباع أهوائهم، ومتى كان طالب الحق لذاته مقلدًا للأفراد أو متعصبًا للجماعات؟
وإنما أكتب أحيانًا في المسائل السياسية لأجل أن أُسمع من استطعت من الناس
صوت الحق فيها لقلة من يقوله، عسى أن أكون من الصدِّيقين والشهداء.
أعود بعد هذا إلى مسألة الصلح بين الوفد ومحمد محمود باشا فأقول: أخبرني
بعض من قرأ مقالتي في الجزء الثاني أنه قد وجد من سعى لها سعيها وأجلهم عدلي
باشا يكن، فما أفاد ذلك السعي نجاحًا. ولما حمل مشروع الاتفاق محمد محمود باشا
في لندن أرسل بلاغًا إلى الجرائد قال فيه إنه نال ما نال من النجاح بجهاد الأمة وقوة
الأمة لا بحوله وقوته، وإنه يدعو الأمة كلها إلى النظر فيه بعيني المصلحة لمصر لا
بالأعين الحزبية، وإنه لوَّح للمخالفين المعارضين له بغصن الزيتون، فإن جنحوا
للسلم والاتفاق جنح لها، وإلا فلا لوم لهم إلا على أنفسهم - أو ما هذا معناه - وقام
أناس آخرون يسعون للصلح؛ ولكن الجرائد المنتصرة لكل فريق قد أسرفت في الطعن
وتوسيع مسافة الخُلف، وظل الوزير نفسه معتصمًا بعصبية حزبه، فصار معنى
الاتفاق خضوع الوفد له وقبوله أن تتولى وزارته أمر انتخاب أعضاء البرلمان الجديد
الذي له الحكم الفصل في مشروع الاتفاق المعروض من قِبَل الحكومة الإنكليزية
ليكون لها باستخدام نفوذ الحكومة وأموالها أعضاء كثيرون من الدستوريين وغيرهم
يشدون أزرها، ويمنحونها من الثقة ما يرجى أن تثبت به، وتكون هي التي تعقد
المعاهدة مع الدولة البريطانية وتتولى تنفيذها، فيتم بذلك مجدها ومجد أنصارها،
ولعلمهم بقوة نفوذ الوفد في الأمة يريدون أن تضع هذه الوزارة قانونًا للانتخاب يكون
فيه على درجتين، وتلغي القانون الذي وضعه البرلمان المقرر للانتخاب من قِبَل الأمة
مباشرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة لا يثق إلا بالوفد، وتأثير نفوذ الحكومة في
الأفراد المعدودين المعروفين أدنى من تأثيره في الدهماء.
والوفد يأبى أن تتولى هذه الوزارة (الدكتاتورية) المطلقةُ السلطانِ إعادةَ بناء
ما هدمت من حكم الدستور والبرلمان، بعد أن كان منها ما يعدونه عليها من
الأعمال، ويُصر على إسقاط هذه الوزارة ونوط أمر الانتخاب بوزارة حيادية تنفذ
القانون الذي وضعه مجلس النواب الأخير، ويقول: إن هذا المشروع الذي حمله
محمد محمود من لندن لم يكن ثمرة مفاوضته ولا أثر سعيه، فإنه صرَّح بأنه لم
يذهب إلى أوربة لأجل المفاوضة في المسألة المصرية، وأنها لم تكن تخطر له ببال،
وإنما المشروع ابتداع أتى من وزارة العمال الجديدة التي أخذت على عاتقها حل
جميع المشكلات البريطانية الخارجية، أعطي له ليعرضه على الأمة المصرية لأنه
صاحب الصفة الرسمية، لا لأن له يدًا فيه، ويقول بعضهم: إن الوزارة البريطانية
عرضت عليه ثلاثة صور للاتفاق اختار هذه الصورة منها، ومن المعقول أنه اقترح
بعض التعديل والتنقيح فيها فقُبل.
وقد اقترح بعض أنصار هذه الوزارة أن تستفتى الأمة في المشروع بجمع
جمعية وطنية لهذا الغرض وحده؛ ولكن الحكومة البريطانية لا ترضى بهذا
الاستفتاء؛ لأن شرطها أن تُعرض على برلمان مصري قانوني، فيكون له الحكم
فيه، والذي استقر عليه حزب الوزارة وأنصارها أخيرًا أن تؤلف وزارة ائتلافية
من جميع الأحزاب والمستقلين، ويُبنى الانتخاب على قبول المشروع أو رفضه،
ويأبى الوفد هذا ويعده غير قانوني؛ لأنه يقيد حرية الأمة ويفرض عليها أن تقبل
المشروع أو ترفضه بنفس الانتخاب لا برأي البرلمان المنتخب.
وجملة القول: إن الوفد لم يصرح برأيه في مشروع الاتفاق، وإنه يصر على
رأيه الذي بيناه آنفًا، وحزب الوزارة وأنصار مشروع الاتفاق منهم ومن غيرهم
يخشون في هذه الحالة أن ينتهي الأمر برفض الاتفاق؛ لأن المنتظَر أن يكون
البرلمان الجديد وفديًّا كما سبق، وأن يرد الاتفاق؛ لأن الفضل فيه لمحمد محمود
باشا؛ ولأنه دون الاستقلال المطلق الذي أسس الوفد للسعي له، حتى إن رضاه بما
دونه يُعَدُّ سقوطًا له، ويقال إنه يرى أنه يمكنه الإتيان باتفاق خير للبلاد منه، ومن
الناس من يظن كما نظن أن البرلمان الوفدي لا يرده ردًّا؛ ولكنه يتوخى خدمة
البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال، ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما نخشى
مغبته مما فيه من إطلاق.
ولا يزال أكثر كُتَّاب الإنكليز يطعنون على الوفد ويؤيدون وزارة محمد محمود
باشا وحزبه، ومنهم من يتمنون فشل المشروع بالرد، أو تأخير عرضه واستمرار
هذه الوزارة على ما جرت عليه إلى نهاية الأجل الذي ضربته لتعطيل الدستور وهو
ثلاث سنين تبقى بها البلاد تحت سلطان الاحتلال عسى أن تأتي أحداث الزمان بما
يزيده قوة ورسوخًا، وأن جمهور الجالية الإنكليزية في مصر ومنهم مراسلو جرائد
بلادهم على هذا الرأي أو الميل، قد كبر عليهم انتهاء أجل الاحتلال واستقلال
مصر في إدارتها الداخلية، واعتزازها برفع ذل السيطرة الأجنبية عن رؤوسها
على ما يقيدها به المشروع الجديد من احتلال ضفة القنال، وما في تقييد قوتها
الحربية بالدولة البريطانية من سلاسل وأغلال؛ ولكن الوزارة الإنكليزية نفسها لا
تظهر هذه المحاباة ولا تضمر مثل هذا المكر.
هذا وإننا نرى رجال السياسة من الشعوب الأوروبية، وكتَّاب صحفها قد
أكبروا مشروع هذا الاتفاق، وعدوه تسامحًا من الإنكليز لم يكن في الحسبان، وأنه
لولا رغبة وزارة العمل الصادقة في حل جميع الإشكالات الخارجية لما عرضت
على مصر مثل هذا بعد أن كانوا يعدونها من مستعمراتهم وإن لم تُسَمَّ بذلك.
وأما مستقبل المعاهدة التي تعقد على أساس هذه التصريحات البريطانية فهو
رهين بالطور السياسي الذي تكون عليه الدولة البريطانية، فإن عاد النفوذ الأعلى
في برلمانهم إلى حزب المحافظين على التقاليد الصليبية والاستعمارية الذين
يطمحون إلى استعباد جميع الشرق، والسيادة العليا على دول الغرب، فستكون هذه
المعاهدة (قصاصة ورق) فيخلقون من أحداث الزمان ما يستبيحون به نقض
حبلها ونكث فتلها، كدأبهم فيما وصفهم به البرنس بسمارك من التفصي من
المعاهدات بالتأويل.
وإن ثبت عندهم أن شعوب الشرق قد دخلت في طور جديد عرفت به نفسها،
وأنه لم يعد في الإمكان أن تتصرف الدولة القوية فيها كما تتصرف في العجماوات،
وأن الوسيلة الوحيدة لاستغلال ثروة بلادها أن يكون بالتراضي معها … فستكون
هذه المعاهدة نافذة بحسن النية، ووسيلة لمعاهدة تكون خيرًا منها، إما بعد انتهاء
مدتها وإما قبل ذلك.
هذا وما نراه في مستقبل الاتفاق والمعاهدة التي تُبنى عليه من الوجهة
البريطانية وحدها، وأما الرأي فيه من الوجهة المصرية فهو يتوقف على أخلاق
الشعب المصري وحالته النفسية ودرجة تأثيره في حكومته المستقلة عندما تكون
تحت سيطرته وحده دون احتلال أجنبي، قبل توقفه على ما أوتي من علم بشؤون
السياسة والإدارة وسائر ما تحتاج إليه الحكومة في هذا العصر، ولا مجال للبحث
في هذا الموضوع الآن.
والخلاصة أن الذي يعتصر من آراء الوطنيين والأجانب في شأن المشروع
يثبت أنه يجب قبوله على علاته بالقيد الذي أشرنا إليه في هذا المقال من بيان
وتوضيح وتحديد في مسائل السودان والعسكرية وغيرها، وأن قبوله أقرب وسيلة
إلى نيل خير منه من رده، وأمره موقوف على خطة الوفد وفَّقه الله تعالى لما فيه
خير البلاد.
__________(30/310)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الأزهر الأزهر والدين في هذا العصر
نُشر في المقطم مقال لصاحب السمو الأمير محمد علي عنوانه (الدين في هذا
العصر والجامع الأزهر) كان له تأثير حسن في الجمهور الإسلامي بموضوعه
ومكانة صاحبه؛ فإن كل مسلم يسره أن يرى من أمرائنا من يعنى بأمر الدين في
هذا العصر الذي شغلت الأمراء زينة الحياة الدنيا ولذتها عن الدين، لذلك أكبر
المسلمون مقال الأمير محمد علي في الدين والأزهر، وأثنوا بما يليق بمقام سموه،
ولم ينتقده في الجرائد إلا قليل منهم ولكن بما يليق بذلك المقام من حسن الأدب.
بدأ الأمير مقاله بما رآه في ممالك أوربة (من الجنوب إلى الشمال) من الهمم
المبذولة والعزم الصادق في إصلاح ما أفسدته الحرب العالمية من تجارة وصناعة
وعلم وعمل ولا سيما الاستعداد للحرب … وانتقل من ذلك إلى ما هو أهم منه
وأخفى على جماهير المسلمين في هذه البلاد وغيرها وهو ما رآه في بلاد أوربة من
التيار الديني الجديد الذي (يرمي إلى [*] ما كان للدين من شوكة وسلطان، وناهيك بما
يبذله رجل الكنيسة وطوائف المبشرين العديدة، ومن تبعهم من أرباب الملل والعلم
والقلم لاستعادة نفوذ الدين وسيطرته على ولاة الحكم ومعاهد التعليم، بل على الأسر
والناشئة الجديدة) ... إلخ.
ثم ذكر سموه أن هذه الحالة النفسية الجديدة التي رآها في بلاد الغرب هذه
المرة حملته إلى إنباء إخوانه في الشرق (بما يجري ويدور هنا من فاتحة القرن
العشرين ليكونوا على بينة من الأمر فيعتبروا ويتقوا الله في دينهم ولا يصغوا
لضلالات فرقة ظهرت بينهم تريد أن تضلهم عن سبيل الله باسم العلم العصري
والمدنية العلمية) .
وقفّى على هذا بقوله (إن هذا الموقف الجديد الذي أحرزه العامل الديني بين
الجماعات الأوروبية، ونموه السريع، بهذا الشكل المريع (؟) في مدة قصيرة من
الزمن ساقاني إلى التفكير فيما يجري في هذه الآونة في بلاد الشرق من الاضطراب
في الأفكار بشأن هذا العامل، فبينما نرى طائفة ظهرت حديثًا تسعى في محاربة
الدين وهدمه نجد المتمسكين بدينهم من عقلاء المسلمين ومتنوريهم جامدين كالأموات
لا يتحركون، وأما السواد الأعظم من المسلمين فهم في ظلمات الجهل والخرافات
يعمهون، حالة والله تبكي من بقي في قلبه ذرة من الإيمان) ... إلخ.
كل هذا حسن، وهو الذي أُعجب به المسلمون وأكبروا صدوره عن أمير من
أشهر أمرائهم، ثم استطرد الأمير إلى ذكر الأزهر وتساءل عن علماء الأزهر
وطلابه، قائلاً (ألا يجب على الأزهريين أن يكونوا في هذه الظروف العصيبة في
مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية في العالم) ... إلخ؛ ولكن كانت نتيجة ما ذكره
سموه من تفكيره الطويل في حال الجامع الأزهر، وما أوجبه على الحكومة
المصرية وعلى كل مسلم (لإنقاذ هذا المعهد الجليل مما أصابه من الأمراض)
مباينة لجميع تلك المقدمات من كل وجه.
تكلم في تاريخ الجامع الأزهر منذ تأسيسه إلى الآن بما يخالف الواقع إلا قليلاً،
وارتأى في إصلاحه آراء يتعسر تحديدها وتمحيصها، ويتعذر تنفيذها؛ ولئن
نُفذت على الوجه الذي ذكره لتكونن من أكبر الكوارث على الأزهر وعلى الدين
الإسلامي الذي يغار عليه سمو الأمير بحق، ولا يمكن بيان هذا كله بالتفصيل إلا
بكتابة رسالة طويلة أو مقالات كثيرة لا حاجة بنا إلى أكثرها الآن، ولا سيما القسم
التاريخي منها، كالغرض من بناء الشيعة الباطنية للأزهر وحالهم في دينهم
وسياستهم، والعلوم التي كانت تُقرأ فيه في عهدهم، والأطوار التي مرت عليه من
بعدهم، وكذلك الذين وقفوا عليه الأوقاف، وهل هم أهل لأن نعمل بما كانوا
يفهمون من العلوم وطرق التعليم والانتفاع به في مثل هذا العصر كما اقترح سمو
الأمير؟ ثم هل يتفق ذلك وما تمناه وندب إليه من وجوب جعل الأزهريين في
مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية التي يهتز لها العالم الغربي في هذا العهد؟
قال سمو الأمير في آخر مقاله إنه يعرض رأيه الذي أملاه عليه حبه للإسلام
والإخلاص لأزهره الشريف على من يشاركه في هذا الشعور من جمهور المسلمين
ليفكروا فيه طويلاً ويدرسوه بما يستحق من العناية واستحلف من يقبله منهم بالله
ورسوله [1] أن يتناصروا في سبيل إخراجه إلى حيز الفعل، وقد فكَّر فيه كاتب هذه
السطور كما أمر الأمير وهو ممن يبحث في شؤون الأزهر وشؤون الإصلاح
الإسلامي منذ ثلث قرن، وله في موضوع إصلاحه وبيان ماضيه وحاضره وفي
الرد على الملاحدة مباحث كثيرة منشورة في مجلدات المنار الثلاثين.
وأكتفي في هذا المقال الوجيز بتوجيه نظر الأمير وغيره إلى بعض القضايا
التي يجب التفكير فيها مع التفكير في مقترحاته لعل سموه يرى فيها ما يتوقف عليه
الحكم الصحيح فيها وهي:
(1) من المعلوم أن جده الأعلى الذي يتحلى هو باسمه قد أدخل هذه البلاد
في طور الحضارة الغربية، من غير اعتداء على مقوماتها الإسلامية العربية، وأن
جده الأدنى (إسماعيل) هو الذي أحدث فيها التفرنج بالتشريع المدني والجنائي
والتربية والتعليم والحرية الشخصية. وقد وصلت البلاد بهذا التفرنج إلى ما يشكو
سمو الأمير وغيره منه من فشو الإلحاد والفسق، فليتأمل في تاريخ الأزهر في كل
هذه المدة قبل البدء في دعوة إصلاح الأزهر التي ينكرها وبعده ولينظر ماذا كان من
تأثير شيوخ الأزهر وخطبائه في مقاومة ما يخالف الإسلام، ولا سيما الإلحاد الذي
فشا في هذا العهد، وفي إيجاد ما يوافق هدايته ويعلي شأنه؟ أظن أنه لا يجد لأحد
منهم أثرًا له قيمة أو تأثير في الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته إلا لطلاب الإصلاح
للأزهر ودعاته وإمامهم الشيخ محمد رحمه الله تعالى، ولو اطلع سموه إلى الخطب
الجُمعية التي كانت تلقي على منبر الأزهر وغيره من المساجد في مصر لرأى أن
أكثرها إما منفر عن الإسلام، وإما غير مؤدٍّ لحاجة المسلمين في هذا الزمان، ولو
اطلع على الخطب والمواعظ التي يلقيها أعضاء حزب الإصلاح في هذا القرن
لأعجب بها وقرت عينه بأهلها.
(2) إن أهم مقترحات سموه ترك الحكومة المصرية للأزهر ليكون مستقلاًّ
بشأنه، واستقلال المدارس العالية أصل من أصول استقلال العلم ونزاهة أهله عن
تأثير السياسة وأهواء أهلها، وأحوج العلم إلى الاستقلال علم الدين؛ ولكن الأزهر
طرأ عليه ضعف الدين والعلم واللغة في عهد استقلاله دون الحكومة لا بعد تدخلها
في أمر إدارته، وقد كان من أهم قواعد الإصلاح له في رأي الشيخ محمد عبده أن
يكون برأي شيوخه واقتناعهم، وأن لا يكون للحكومة نفوذ فيه، وقد نقلت عنه في
المنار مرارًا أنه قال إنني ما دمت في هذا المكان لا أدع للحكومة نفوذًا فيه، وكذلك
كان فإن نفوذ الوزارة لم يتسرب إليه إلا بعد خروج الشيخ منه، بل كان رحمه الله
يعارض نفوذ الأمير الشخصي فيه إذا كان مخالفًا لقانونه كما بيَّنا في ترجمته، وكان
هذا من أسباب سخط الأمير عليه وإلجائه إياه أخيرًا إلى الخروج منه، ولم يكن له
من شيوخه نصير يحب الاستقلال إلا السيد علي الببلاوي شيخ الأزهر الذي استبدل
الأمير به الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ عبد الكريم سلمان، وكان غرض
الأمير المصري من هذا التبديل إرجاع الأزهر إلى ما كان قبل النظام الحديث:
ولكنه لم يرجع ولم ينتظم أمره، بل كانت سياسة الأمير هي السبب في تدخل
الحكومة فيه أيضًا، فهل يوجد اليوم في كبار شيوخه من ينهض بهذا الاستقلال له
دون نفوذ الحكومة؟ ذلك ما نتركه للبرلمان المصري الآتي وإلى ما سيكون
للمصلحة الإسلامية من المنزلة فيه.
(3) إن أغرب ما في مقال الأمير تصويبه قول من يقول (إن الحكومة
ترى من الضروري تخريج نشء جديد من رجال الدين يكون لهم اطلاع واسع على
اللغات، أو على بعض العلوم التي لا وجود لها في الأزهر) وإجابته عنه بقوله:
(الأوفق إذًا للحكومة أن تنشئ كلية للعلوم الدينية ملحقة بالجامعة المصرية تؤسسها
على ما ترغب من الأسس وتنظمها كيفما تشاء، ولا بأس حينئذ من الاستغناء عن
مدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم وإدماجهما في هذه الكلية الجديدة) .
الغرابة في هذا الرأي الذي لا أظن أنه يوجد واحد في الألف من شيوخ
الأزهر وطلابه يوافق سموه عليه هو جعل التعليم الديني لتخريج رجال الدين
قسمين (أحدهما) يناط بالجامعة المصرية تبعًا لوزارة المعارف، ويكون من
خريجيه رجال القضاء الشرعي ومعلمو المدارس الأميرية، وكل من قد تحتاج
الحكومة إليهم من علماء الدين (وثانيهما) الأزهر ويُقصر التعليم فيه على ما كان
يُدرَّس فيه من العلوم الشرعية قبل نصف قرن، ويكون الغرض منه التعبد وإرادة
وجه الله تعالى، ومن لوازمه إرجاع راتب علماء الأزهر إلى ما كانت عليه وهو
قلما يزيد على راتب خادم أو بواب في هذا العهد، ومنع الحكومة عنه هذه المئات
من الألوف التي خُصصت لميزانيته! ! وحرمانهم من الوظائف الشرعية كغيرها
فيا ليت الأمير يعلم رأي أهل الأزهر في اقتراحه هذا.
(4) إن قانون الأستاذ المراغي الحديث للأزهر يجمع بين التعليمين اللذين
اقترحهما سمو الأمير، إلا أنه يجعل كلاًّ منهما تابعًا لإدارة واحدة هي إدارة المعاهدة
الدينية، ولا شك أن هذا أضمن أو أدنى إلى جعل الأول دينيًّا إسلاميًّا من إدارة
الجامعة المصرية له، وهي هي التي أعلن بعض أساتذتها الإلحاد في تعليمها إعلانًا
برضاء مديرها ووزير معارفها وغيره من وزرائها وحمايتهم، كما ظهر ذلك
للخاص والعامي في قضية الدكتور طه حسين، وندع ما لا يعرفه إلا الخواص من
الإلحاد والملحدين، ومن إهمال وزارة المعارف لأمر الدين في مدارسها؛ حتى إنه
صار يقل في طلاب مدرسة دار العلوم من يصلي! فما القول في غيرها؟
__________
(1) المنار: إن الحلف بالرسول لا يجوز، بل هو محرَّم، والاستحلاف فرع الحلف.
(*) لعلها: محو أو إزالة.(30/316)
جمادى الأولى - 1348هـ
نوفمبر - 1929م(30/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر
تتمة إشكال عدم رؤية أهل الآفاق له
وأما قولهم: إنه لم يُنقل إلينا من أهل الأرض أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة
فلم يروه انشق - ففيه أن رؤية انشقاقه لا تتوقف على رصده لأن من شأنه أن يراه
كل ناظر إليه، وأن الذين ينظرون إليه في ليالي تمه كثيرون.
وأما قولهم (إن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي حتى إن
من وُجد منه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات) ففيه أنه ليس
في موضع النزاع؛ لأن الواقع أنه وُجد مثبت فقط؛ ولكنه يدعي شيئًا لو صح لرآه
من لا يحصى من أهل الأقطار المختلفة، ولنقل عنهم بالتواتر، وإذا لم يحصل هذا
فيكون خبره غير مقبول كما تقدم تقريره من كلام علماء الأصول والمنطق في الخبر
الذي يقطع بعدم صحته (دع كونه معارضًا بآيات القرآن المحكمة كما يأتي قريبًا) .
وقد بالغ القاضي عياض في الاعتماد على هذا الجواب أو الدفع، فجعل نقل
النفي للشيء بالخبر المتواتر المفيد للعلم للقطعي مرجوحًا يرد ما يعارضه من إثباته
بخبر الواحد الذي لا يفيد الظن عندهم إلا بشروط منها أن لا يكون مخالفًا لسنة الله
في الوجود ونظام العالم، وأن لا يكون مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر، وأن
لا يكون معارضًا بنص قطعي كآيات القرآن الصريحة في عدم إعطاء الله رسوله
صلى الله عليه وسلم آية باقتراح الكفار (وسيأتي تقرير هذا في الإشكال
الأصولي (و)) .
وهذا نص عبارة القاضي: (ولو نُقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم - لكثرتهم -
على الكذب لما كان علينا به حجة) يعني أننا نصدقهم بأنهم رصدوه طول الليل ولم
يروه انشق، ولا يكون حجة علينا مع قطعنا بصدقهم، وعلل هذا بقوله (إذ ليس
القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على
الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول
بين قوم وبينه سحاب وجبال، ولهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض) ...
إلخ ما سبقه إليه الخطابي وغيره وتقدم.
وفيه أن التعليل الذي ذكره يصح في بعض الأقطار دون جميعها، ولكن لا
يجوز عقلاً أن ينشق ولا يرى في شيء منها، وتقدم الجواب عن اختلاف المطالع
والخسوف والكسوف.
على أن الحافظ المزي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض المسافرين
ذكر أنه رأى في بلاد الهند بناء قديمًا مكتوبًا عليه أنه بني ليلة انشق القمر، وأذكر
أنني رأيت في بعض الكتب أو الصحف أن هذا رؤي في بلاد الصين، ولكن مثل
هذا الخبر الغريب عن مسافر مجهول لا يعده أحد من أهل العلم حجة في مسألة
علمية ولو لم تكن كمسألتنا، لعدم الثقة بعدالته؛ ولأنه يروي ما لو صح لوقف عليه
المسلمون الفاتحون للهند، ولجعلوا لذلك البناء شأنًا يُشتهر به ويُزار، ولدُوِّن خبره
في كتب التاريخ، ولم يوجد شيء من ذلك، على أنه لو وجد بهذا الإبهام والإجمال
لما كان حجة في موضوعنا لجواز أن يكون سببه أسطورة أو إشاعة حدثت عند
الذين بنوه وربما كانوا من الوثنيين، وقد نقل الحافظ في سياق هذا المبحث أن
العلامة الحليمي المشهور قال - كما نقل عنه البيهقي في البعث والنشور - ما نصه:
(أن من الناس من قال: إن المراد بقوله تعالى: {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) أي سينشق [قال الحليمي] فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا،
فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقًّا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض
القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب، وأخبرني
من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى اهـ. وقد صرَّح الحافظ ابن حجر بتعجبه من
إقرار البيهقي لهذا مع حديث ابن مسعود، ونحن نصدِّق ما ذكره الحليمي عن نفسه
وعمن يثق به ونجزم أنهما تخيلا فخالا، أو عرض لبصرهما ما صوَّر لهما ذلك،
ومن العلل العارضة للبصر أو الدائمة ما يصور لها الواحد اثنين، وهذا معروف
مشهور.
(هـ) الإشكال الفلكي:
استشكل بعض الناس خبر انشقاق القمر بما هو مقرر في أصول علم الفلك
(القديم) كذا قال الحافظ (وإنهم احتجوا بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الخرق
والالتئام) وعزاه إلى الفلاسفة ونقل عن الزَّجَّاج عزوه إلى (المبتدعة الموافقين
لمخالفي الملة) وأجاب عنه بأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء.
أقول: وهذا حق لا ينكره مؤمن بالله، ومسألة عدم قبول الأفلاك للخرق
والالتئام، من أوهام فلاسفة اليونان، وقد كشفها وأبطلها علم الهيئة الحديثة؛ ولكن لا
يشك عاقل من المؤمنين وغيرهم أن خلقه تعالى للسموات وأجرامها في غاية الإبداع
والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل، وأن سننه تعالى في الخلق لا تتبدل ولا تتحول، فلا
يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت مثل ثبوتها وثباتها، كآيات الرسل
التي أخبر الله تعالى بها، ومن دونها آيات أرضية لا يتضمن وقوعها ما يتضمنه
انشقاق القمر ورجوع الشمس بعد غروبها من مخالفة الكون العام، ومعارضة قول الله
تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) ، وقول رسوله صلى الله عليه
وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته) متفق
عليه، وذلك كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فمثل هذا يقبل في خبره
ما صح وإن لم يتواتر ويصير قطعيًا، ونحن إنما نذكر مثل هذه الدقائق لغرض
شرعي صحيح سنذكره بعد.
(و) الإشكال الأصولي الأعظم:
قد ثبت بآيات القرآن المحكمة الكثيرة القطعية الدلالة أن آية الله تعالى وحجته
على صحة نبوة خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها الكفار ولم
يحتج عليهم بغيرها، هي كتاب الله المعجز للبشر ولغيرهم من الخلق، وثبت
بالحديث الصحيح الصريح أيضًا فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء
نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي،
فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) رواه الشيخان والنسائي فقوله صلى
الله عليه وسلم (وإنما كان) من شرح تفيد الحصر، وقد تأولوه بأنه لما كان القرآن
أعظم معجزاته وأدومها كان غيرها منها كأنه غير موجود، ولا حاجة إلى هذا
التأويل إذا اشترط في المعجزة التحدي؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتحدَّ العرب
ولا غيرهم إلا بالقرآن، وقد بيَّن العلماء حكمة ذلك بما هو معلوم مشهور بناءً على
أنه هو أصل العقيدة القطعي الذي لا نزاع فيه، وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة
القطعية الدلالة أن الكفار طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بآية من الآيات الكونية
التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضًا فلم
يجابوا إلى طلبهم، وفي بعض هذه الآيات ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان
يحب هو وأصحابه أن يؤيده الله بآية مما اقترحوه لعلهم يؤمنون، وأن الله تعالى لم
يؤته ذلك بل بيَّن له في بعض تلك الأحوال أن طلبهم الآيات إنما يقصدون به
التعجيز، وأنهم لو أعطوها لا يؤمنون، وأن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب
الاستئصال بكل قوم اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك، وأمره
في أحوال أخرى بأن يخبرهم بأن الآيات عند الله وبيده وحده، وأنه هو بشر لا
يستطيع شيئًا مما لا يستطيعه البشر، إلا أن الله تعالى أوحى إليه ما أمره أن يبلغه
الناس من البينات: الهدى والإيمان، وصرَّح في بعضها بأن آيته الكتاب العزيز
المشتمل على آيات كثيرة في آية الله الكبرى، وصرَّح في بعض آخر ببعض تلك
الآيات فيه.
ففي سورة يونس {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ
فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 20) وفي سورة الرعد {وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7)
وفيها {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد: 27) .
وفي سورة طه {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ
الأُولَى} (طه: 133) أي أخبار كتب الأنبياء في القرآن وهي إحدى معجزاته.
وفي سورة العنكبوت {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 50-51) .
وفي سورة الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ
لاَ يُنظَرُونَ} (الأنعام: 8) أي لقُضي الأمر بهلاكهم واستئصالهم، ثم لا ينظرون،
أي: لا يؤخَّرون ولا يُمهلون بعد نزوله.
وقال في سورة الإسراء {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء:
59) .
وقال في سورة الأنعام لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليًا إياه عن إعراضهم
ومؤيسًا إياه من إعطاء الآية الكونية المقترحة {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأنعام: 35-37) .
ثم قال فيها مؤيسًا لأصحابه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم إذا أوتوا آية
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 109-111) وليراجع من شاء تفسير كل ما ذكرنا من هذه الآيات التي في
سورة الأنعام في الجزء السابع وأول الثامن من تفسيرنا هذا وفي غيره.
بعد التذكير بهذه الآيات المحكمة القطعية كيف يمكننا أخذ رواية أنس بن مالك
رضي الله عنه في الصحيحين بالقبول؟ فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي
صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، ولم يدَّع غيره من رواة الحديث في
الصحيحين هذه الدعوى، مع العلم بأن روايته له مرسلة لأنه أنصاري كان عند هجرة
النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين، وعند انشقاق القمر ابن خمس سنين في
المدينة، ولا يعلم أحد إلا الله ممن سمع هذا الخبر، واحتمال سماعه له من ابن
مسعود بعيد؛ لأنه لم يأت في شيء من الروايات الصحيحة عن ابن مسعود أن
المشركين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر شقتين حتى
رأوا حراء بينهما، وفي رواية عنه (مرتين) وهي غلط من الرواة كما بيَّنه ابن القيم
وابن حجر ويُراد بها الشقين، ولم يصح ذلك عن أحد ممن رووا عنه هذا الحديث؛
وإنما روى نحوه أبو نعيم في الحلية ببعض أسانيده الواهية عن ابن عباس رضي
الله عنه، وروى عنه ما يعارضه وهو أن الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يريهم آية ليؤمنوا فأراهم انشقاق القمر هم بعض اليهود، وهي رواية شاذة
على شدة ضعفها لم يقبلها أحد من العلماء الذين يقبلون الأحاديث الضعيفة في
الفضائل والدلائل لمعارضتها للأولى؛ ولأن مكة لم يكن فيها اليهود، وسورة القمر
مكية بالإجماع.
قال الحافظ في شرح حديثه في (باب انشقاق القمر) من البخاري: ولم أر
في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس فلعله
سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس
صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه
حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في الدلائل من وجه
ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب
والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا
فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق اهـ. والحافظ حجة في النقل ضعيف في
إيراد الاحتمالات وتوجيهها في الغالب ولا سيما الاحتمالات المؤيدة لما يراه صحيحًا
أو حسنًا في نفسه كالفضائل والمناقب، وما يُعد من دلائل النبوة منها أولى.
وأول ما يخطر في بال مستقل الفكر أن الذين رووا الحديث عن ابن مسعود
نفسه عند الشيخين وغيرهما لم ينقل أحد عنه أن انشقاق القمر كان إجابة لطلب
الكفار بآية من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك معارض لنصوص القرآن فكيف
نلصق به احتمال تحديث ابن عباس بذلك في رواية لم تصح عن ابن عباس، مع
أن رواية ابن عباس في الصحيحين مرسلة يُحتمل أن يكون سمعها من بعض
التابعين حتى كعب الأحبار الذي ثبت أنه روى عنه بعض إسرائيلياته في التفسير
وغيره.
هذا مجمل ما يُقال في رواية كون انشقاق القمر كان آية مقترحة من الكفار
خلافًا لما يقتضيه ما ذكرنا من آيات القرآن وما لم نذكر منها، ولم نر أحدًا من
العلماء عُني ببيان الإشكال والجواب عنه، إلا أن الخطابي قرر في مسألة انشقاق
القمر حكمة عدم بلوغ شيء من المعجزات المحمدية مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه
إلا القرآن بما حاصله كما تقدم عن الحافظ ابن حجر (أن معجزة كل نبي كانت إذا
وقعت عامة أعقبت هلاك من كذَّب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس،
والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية) ...
إلخ ما تقدم - هو تلخيص الحافظ لكلامه أو لما فهم أو أراد منه، على أنه لم يرض
منه إلا تعليله لمناسبة إيتاء كل نبي ما يناسب حال أمته من الآيات كما تقدم، ولكن
الشيخ عليًّا القاري نقل عبارته نفسها في شرحه للشفا وهي:
(قال الخطابي: الحكمة في وقوعها ليلاً أن من طلبها من الرسول صلى الله
عليه وسلم بعض من قريش فوقع لهم ذلك ليلاً، ولو أراد الله تعالى أن تكون هذه
المعجزة نهارًا لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان، بحيث يشترك فيها الخاصة
والعامة - لَفَعَلَ ذلك؛ ولكن الله تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمة أتاها نبيها
بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا، وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها
عقلية، وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم، والله سبحانه وتعالى
أعلم) اهـ.
وهذه العبارة تفيد ما لم يفده تلخيص الحافظ لها؛ وإنما يلخص كل إنسان من
كلام غيره ما يفهمه مما يتعلق بغرضه، وما كل إنسان يفهم كل مراد غيره من
كلامه، وما كل ملخص يؤدي كل ما فهمه كما فهمه، وكل من العبارتين قاصر عن
تحقيق الحق في الموضوع، وقد بيناه في مواضع من تفسيرنا، ومنه أن الله تعالى
جعل آيته على صدق رسالة خاتم النبيين عقلية علمية دائمة لا تنقطع؛ لتكون حجة
قائمة على العقلاء ببقاء أمة الدعوة وأمة الإجابة أي إلى يوم القيامة؛ فإن الآيات
الكونية لا بقاء لها، ويحصل المراء في نقلها وفي دلالتها.
ومنه أنه مضت سنة الله تعالى بأن الأمة التي تقترح على رسولها آية، ثم
تكفر به بعد تأييد الله إياه بها؛ فإن الله تعالى يُنزل بها عذاب الاستئصال العام
عاجلاً لا عذاب المكذبين وحدهم، ولما كان خاتم النبيين قد أُرسل رحمة للعالمين
كان تعذيب قومه بعذاب الاستئصال منافيًا لهذه الرحمة ومستأصلاً لجميع البشر أو
لقومه في الجنسية النسبية وهم العرب عامة، لا من رآها منهم وكذَّبها خاصة، ولو
استأصل العرب، لما آمن بالقرآن شعوب العجم {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 198-199) وإنما
أعد الله لفهمه وفقه العرب، وقدَّر أن يكونوا هم الدعاة والهداة للعجم، بما يرون من
تأثير هدايته فيهم بالسيادة والعدل في الأمم، كما بيناه في فاتحة التفسير، فعبارة
الخطابي قاصرة، ومن الغريب أنه يزعم أن وقوع انشقاق القمر ليلاً يخرجه عن
كونه آية حسية، ليدفع به استشكاله بعدم نزول العذاب بهم لعدم إيمانهم بها، وهو
ما اشترطه هو دون غيره لعذاب الأمة إذا لم تؤمن عقب رؤية الآية، وهو زعم
مخالف للحس.
وجملة القول: إنه لو صح أن قريشًا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل
على صدق نبوته، وأن الله تعالى أجابهم إلى طلبهم فجعل انشقاق القمر آية كما هو
نص حديث أنس في الصحيحين وغيره في غيرهما - لعذب الله أمته أو قومه
باستئصالهم على حسب القاعدة الصحيحة الثابتة بالنص القطعي، أو لعذب من
رأوها وكذَّبوا بها على رأي الخطابي ومن وافقه؛ ولكن لم يُنقل أن الله تعالى عذَّب
أحدًا منهم عقب ذلك التكذيب، بل نُقل خلافه، وأن منهم من مات بعد ذلك، ومنهم
من قُتل ببدر بعد بضع سنين، ومنهم من آمن بعد إصراره على التكذيب بعد رؤيتها
بضع عشرة سنة كالنضر بن الحارث من مسلمة الفتح الذين شهدوا حنينًا وأعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعير تأليفًا له، وقيل إنه أخ له اسمه نضير
بالتصغير، وراجع الاسمين في الإصابة.
ومن غريب الذهول أن الحافظ ابن كثير لم يعرض لهذه المسألة في تفسير
أول سورة القمر، بل أورد حديث أنس وسكت عليه؛ ولكنه أشار إليها في تفسير
بعض الآيات الصريحة في عدم إجابة الكفار إلى ما كانوا يقترحونه على النبي
صلى الله عليه وسلم من المجيء بآية آية أو بآية معينة، قال في تفسير آية يونس
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} (يونس: 20) بعد أن أورد بعض الآيات
في معناها ما نصه:
يقول تعالى: إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عاجلتهم
بالعقوبة، ولهذا لما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن
آمنوا وإلا عذبوا، وبين إنظارهم - اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى إراشادًا لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى
الجواب عما سألوا {فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ} (يونس: 20) أي أن الأمر كله لله
وهو يعلم العواقب في الأمور {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس:
20) أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم،
هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى الله عليه وسلم أعظم مما سألوا حين أشار
بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه،
وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا ومما لم يسألوا اهـ. المراد منه
وقد أورد بعده بعض الآيات الناطقة بأنهم سألوا ذلك عنادًا وتعنتًا، وأنهم لا يؤمنون
إذا أجيبوا إلى ما طلبوا، وإلى ما هو أعظم منه، وظاهر عبارته هنا في مسألة
انشقاق القمر أنه لم يكن عن طلب واقتراح منهم، وإلا كان مناقضًا لما قبله ولما
بعده من الآيات هنا، ولما قاله كغيره في تفسيرها في مواضع أخرى من التفسير.
وما ذكره (ابن كثير) من تخيير الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم هو
المروي فيما ذكر من اقتراحاتهم في سورة الإسراء (90 - 93) وقال في تفسير
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء:
59) أي نبعث بالآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك؛ فإنه سهل علينا، يسير
لدينا، إلا أنه كذَّب بها الأولون بعدما سألوها، وقد جرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم
لا يؤخرون إن كذَّبوا بها بعد نزولها ... إلخ.
وقال البغوي في هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ} (الإسراء:
59) التي سألها كفار قريش {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59)
فأهلكناهم، فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم؛ لأن من شأننا في الأمم
إذا سألوا الآيات، ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم، وقد حكمنا بإمهال
هذه الأمة في العذاب فقال تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 46) اهـ. وتكررت أقوال المفسرين بهذا المعنى في تفسير الآيات الكثيرة
التي ذكرنا بعضها في أول بيان هذا الإشكال.
فهذه أدلة قطعية إجماعية على بطلان متن حديث أنس رضي الله عنه المرسل
الصحيح السند الذي لم يجد الحافظ ما يقويه به على سعة اطلاعه إلا حديث ابن
عباس عند أبي نعيم الذي اعترف بضعفه، وأقول إن في سنده عنده بكر بن سهل
وكان يروي الموضوعات وهو من طريق الضحاك عن ابن عباس، واتفقوا على
أنه لم يره فهو منقطع، وضعفه بعضهم، وطريق ابن جريج عن عطاء عنه وابن
جريج مشهور بالتدليس، فلا تقبل عنعنته بالاتفاق، دع ما تقدم من إرساله وبطلان
متنه.
وإذا بطل كون الانشقاق كان آية طلبها كفار قريش فأُعطوها زال السبب الذي
جعل أكثر العلماء الذين تكلموا في المسألة شديدي الحرص على تصحيح الحديث؛
حتى تجرأ بعضهم على ادعاء تواتره والإجماع عليه، ورد الأكثرون هاتين
الدعويين، ولله الحمد أن أكرمهم بعدم قبول مثلهما، وقد كان من حرص بعضهم
على تصحيحه - مع الغفلة عن معارضة القرآن لكونه آية مقترحة - أن طعنوا في
دين من أنكر صحته وأبى تفسير الآية الكريمة به وعدوهم من المبتدعين، وإن كان
لهم سلف من أكبر علماء التابعين، كعادتهم في نبز كل من خالف المشهور أو
الجمهور في كل زمن بلقب الابتداع، ولو تذكروا آيات القرآن الكثيرة المعارضة له
لما حرصوا كل هذا الحرص على تصحيح ما يخالفها، بل لما استحلوه، وإلا كانوا
أحق بلقب الابتداع ممن رموهم به، أو بما هو شر منه، وإن كان إكبارًا لآية
انشقاق القمر التي تصغر وتتضاءل دون كل آية من آياته، فإن نوره أقوى وأوضح
من نور الشمس التي يستمد القمر نوره منها، على أنهم لم يجدوا بدًّا من تصغير
هذا الانشقاق في سبيل دفع الاعتراضات عليه، حتى قال بعضهم: إنه وقع في آخر
الليل في لحظة من الزمان؛ ولذلك لم يره إلا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم
في تلك اللحظة، وأي برهان على النبوة في مثل هذه اللحظة من آخر الليل أو أوله
أو وسطه؟ وكل إنسان يتهم نظره في مثلها، وإن لم يكن ثمة تهمة في أنها من
تخييل السحر، وقد وقع مثلها للحليمي وغيره كالثقة الذي حدثه بمثل ما رأى؟
وأما معارضة جملة هذه الروايات بما استشكله العلماء ونقلناه عنهم مع
أجوبتهم والبحث فيها، فالذي نقرره فيها أن من قبل تلك الروايات في أن القمر قد
انشق ومن لم يقبلها لعدم اقتناعه بتلك الأجوبة عن تلك الإشكالات، سواء في كون كل
منهما لم يرد به شيئًا من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا مما صح من حديثه.
(فإن قيل) إننا رأيناك ذكرت كل الروايات عن أولئك الصحابة الكرام في
حديث انشقاق القمر إلا حديث علي رضي الله عنه فلم تذكر لنا لفظه ولا سنده لنعلم
درجته ودلالته فما سبب ذلك؟ (قلت) إنهم ذكروا اسمه كرَّم الله وجهه في رواته؛
ولكننا لم نر أحدًا منهم ولا من غيرهم ذكر لفظه ولا ذكر من خرَّجه لنراجعه في كتابه
إن كان من الكتب المشهورة المتداولة؛ ولكننا رأينا في شرح الشفاء لملا علي القاري
عند ذكر المتن لعلي في رواته ما نصه: قال الدلجي: لا يعرف مخرِّجه اهـ.
(ز) الخلاصة الأصولية لأحاديث انشقاق القمر:
خلاصة القول في أحاديث انشقاق القمر (1) أنها أحادية لا متواترة (2)
وأنها متعارضة مختلفة، لا متفقة مؤتلفة (3) وأنه ليس فيها حديث مرفوع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم كالأحاديث الناطقة بخصائصه (4) وأنه ليس في
الصحيحين منها إلا حديث واحد مسند إلى من صرح بأنه رأى ذلك، وفيه من
الاختلاف ما أشرنا إليه في محله؛ ولكن ليس فيه أن انشقاقه كان بطلب من كفار
مكة (5) وأن حديث أنس الذي صرَّح فيه بذلك مرسل، والأصل في المرسل أنه
من المردود غير المقبول، على ما فيه من التفصيل المشهور، ورواياته عندهما
كلها عن قتادة بالعنعنة، إلا لفظ للبخاري (عن قتادة عن أنس أنه حدثهم أن أهل
مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر) وقتادة كان على فضله
وسعة حفظه مدلسًا، فيحتمل أن يكون سمع هذا الخبر عن أنس ممن لا يوثق به،
وكلمة (حدَّثهم) ليست في قوة (حدَّثنا وحدَّثني وسمعته) وما في معناهن، وكما
يحتمل أن يكون قتادة رواه عن أنس بواسطة يحتمل أن يكون أنس سمعه ممن لا يوثق
به من التابعين أيضًا كما تقدم (6) وأنه على ذلك معارض بنص القرآن وسنة الله في
الرسل وأقوامهم، والحديث المرفوع المتفق عليه في حصر آية نبوته صلى الله عليه
وسلم في القرآن كما تقدم.
وغرضنا من هذا أن ما دلت عليه الدلائل القطعية من الآيات الكثيرة والحديث
المتفق عليه في حصر آية نبوته في الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليه وهو القرآن لا
تقتضي الطعن في صدق أنس ولا في صدق قتادة لما ذكرنا من الاحتمال، وهي
مقدمة على مضمون حديثهما على كل حال، بل لو وجد فيها حديث صحيح السند
مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكانت مقدمة عليه عند عدم إمكان الجمع بينها
وبينه، وكان هذا دليلاً على أنه موضوع في الواقع، وإن عدَّلوا رجال سنده في
الظاهر.
وإذا لم يصح هذا الحديث الذي انفرد به أنس في مراسيله على تقدير سماع
قتادة منه فسواء عندنا أصحَّ غيره مما رووه في انشقاق القمر أم لا، فإن غرضنا
الأول من هذا البحث كله أنه لا يوجد فيها حديث صحيح مخالف للقرآن، لا لأجل
المحاماة عن القرآن؛ فإن القرآن فوق كل شيء، وكل ما خلافه فهو باطل قطعًا،
وإنما غرضنا الدفاع عن أنس فقتادة ثم عمن روى عنهما ما ذكر وسكت عليه، ولا
يهمنا بعد هذا أمر من قبل الرواية واحتج بها وجعلها من دلائل النبوة، لغفلتهم عن
هذه الحقائق القطعية.
(ح) تفسير الآية:
إن لعناية المفسرين وغيرهم بتصحيح الروايات في انشقاق القمر سببين
(أحدهما) تكثير دلائل النبوة بالمعجزات الكونية كما تقدم (وثانيهما) تفسير
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) بها، وأن أكثرهم ليتجرد من كل فهم
ورأي وعلم باللغة وغيرها أمام ما دون هذه الرواية في تعدد طرقها، وجلالة رواتها،
كما ترى في تفسير محيي السنة البغوي فمن دونه في العلم بالرواية خضوعًا
وتسليمًا لكثير من الروايات الإسرائيلية الواهية والموضوعة.
فإذا أنت رجعت إلى لغة القرآن في معاجمها لتفهم الآية منها دون هذه
الروايات وجدت في لسان العرب ما نصه: والشق: الصبح، وشق الصبح يشق
شقًّا: إذا طلع، وفي الحديث (فلما شق الفجران أمرنا بإقامة الصلاة) يقال شق الفجر
وانشق: إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه وخرج منه [1] وانشق البرق وتشقق:
انفلق، وشقيقة البرق: عقيقته وهو ما استطار منه في الأفق وانتشر اهـ. فعلى هذا
يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق
ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر، وقال الراغب في مفردات القرآن:
(وانشق القمر) قيل: انشقاقه في زمن النبي عليه السلام، وقيل: هو انشقاق
يعرض فيه حين تقرب القيامة، وقيل: معناه: وضح الأمر اهـ. ونقله عنه صاحب
التاج، وهذا الأخير هو المتبادر من الآية بنص اللغة ومعونة السياق؛ لأن صيرورة
القمر شقتين منفصلين لا دخل لها في إنذار المشركين الذي هو موضوع السورة، ولم
يسبق أن عد من آيات الساعة كانشقاق السماء وانفطار الكواكب، فلم يبق إلا أنه
بمعنى ظهور الحق ووضوحه بآيات القرآن.
والقول بأن معناه أنه سينشق عند قيام الساعة مروي عن الحسن البصري
وعن عطاء من التابعين، والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي في القرآن كثير
جدًّا في أخبار الساعة والآخرة وغيرهما، وأخرج الطبراني وابن مردويه من
طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: سُحر القمر، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1)
إلى قوله (مستمر) فهذه رواية ثالثة حملها بعضهم على انشقاق القمر وهو بعيد.
وقد رد الآلوسي هذه الوجوه اللغوية أو بعضها بقوله: وزعم بعضهم أن
انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه، وهذا كما يسمى الصبح فلقًا
عند انفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قول النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر: وضح الأمر وظهر، وكلا الزعمين مما لا
يُعَوَّل عليه ولا يُلتفت إليه، ولا أظن الداعي إليهما عند من يقر بالساعة التي هي
أعظم من الانشقاق، ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق - سوى عدم
ثبوت الأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده، ومنشأ ذلك
القصور التام، والتمسك بشبه هي على طرف الثمام. ومع هذا لا يكفر المنكر بناء
على عدم الاتفاق على تواتر ذلك، وعدم كون الآية نصًّا فيه، والإخراج من الدين أمر
عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق اهـ.
وقد فاته قول أهل اللغة: انشق البرق وانشق الصبح بمعنى طلع القمر،
وبمعنى استطار نوره وانتشر في الأفق، ومثله القمر في ذلك، فما أنكره وسماه
مزاعم هو من نصوص اللغة، وما صَرَفَه هو عنها إلا اغتراره بالروايات في كون
الانشقاق كان آية معجزة اقترحها الكفار فأجيبوا إليها، ومنشأ ذلك غفلته عن كون
الحديث في ذلك مرسلاً شاذًّا عن مدلس، وكونه مع هذا معارَضًا بنصوص القرآن
القطعية وما يؤيدها من الأحاديث المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في كون آيته التي جعلها الله تعالى حجة نبوته وأمره بالتحدي بها في جملتها تارة،
وبعشر سور مثله وبسورة من مثله، وبالاحتجاج ببعض ما اشتملت عليه تارات
أخرى - هي القرآن وحده، وما كان صلى الله عليه وسلم يرجو بهذا أن يكون أكثر
الأنبياء تابعًا يوم القيامة، إلا لأن هذه الآية أعظم وأظهر وأبهر وأقهر من كل آيات
الأنبياء إجمالاً وتفصيلاً، وقد فهم هذا المعنى وأدرك هذه الحجة بعض حكماء
الإفرنج، فصرَّح بأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن كانت أقوى من كل
معجزات الأنبياء جذبًا إلى الإيمان.
وقد زعم الآلوسي وغيره أن قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2) حجة على أن المرد بالآية انشقاق القمر، ولو كان
كذلك لقال: فأعرضوا وقالوا: سحر مستمر، وأما الشرط فللاستقبال أو لبيان الشأن،
ولا علاقة بين انشقاق القمر ودعوى النبوة، فيكون آية عليها، ولفظ الآية يُطلق في
القرآن على كل ما يدل على وجود الله ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته وقدرته
ورحمته وحكمته، وعلى ما يؤيد به رسله، وأكثر ما يذكر فيه الإعراض عن
الآيات في القرآن يُراد به هذه الدلائل أو آيات القرآن، كقوله تعالى في النوع الأول:
{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: 105) وقوله في النوع الثاني: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ
كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) وأما قولهم {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2)
فأول ما قالوه في القرآن وهو ما حكاه عنهم في سورة المدثر {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ} (المدثر: 24) وهي ثالث سورة نزلت بمكة أو الرابعة على القول بأن
الفاتحة أول ما نزل، وفي معناها آية سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ
إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (سبأ: 43) وآية الزخرف: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا
هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 30)
وإنك لترى أوائل سورة الأنبياء بمعنى أوائل سورة القمر وهي: {اقْتَرَبَ
لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: 1-3) .
(ط) تأييد الإسلام في هذه المسألة وأمثالها:
إننا نختم هذا البحث بتنبيه قراء المنار لأمر عظيم الخطر والشأن، وهو أن
العلماء الذين تساهلوا بقبول روايات انشقاق القمر وجعلها آية كونية حسية جعلت
حجة على كفار مكة عندما اقترحوها، وتمحلوا في الأجوبة عن الاعتراضات
العقلية الأصولية عليها، فجاءوا بما لا يقبله العاقل المستقل - إنما حملهم على ذلك
حب تكثير المعجزات النبوية كما تقدم وتفنيد منكريها؛ لأن العوام يفهمون من
إعجازها ما لا يفهمون من إعجاز القرآن، وقد تغيرت الحال في هذا الزمان الذي
كثر فيه استقلال الفكر ورفض التقليد في أكثر المتعلمين، فصارت هذه الروايات
تعد طعنًا في علم المسلمين وعلمائهم، ويخشى أن تعد طعنًا في الإسلام نفسه،
والحق أنها ليست من أصول الإسلام ولا من فروعه، فأصول العقائد الإسلامية لا
تثبت إلا بدليل قطعي، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين، والدليل القطعي إما
عقلي وإما نقلي، والنقلي هو النص القطعي الدلالة عن الله ورسوله، والآية ليست
قطعية الدلالة على كون الانشقاق هو صيروة القمر فلقتين منفصلة إحداهما عن
الأخرى، كما اعترف بذلك الذين فسروها بذلك وآخرهم الآلوسي، وقد بيَّنا نحن أن
دلالتها على ما ذكر مرجوحة، فما كانت لتخطر على بال أحد لولا تلك الرواية
المنقوضة بنص القرآن والحديث المرفوع المتفق عليه، وسائر الروايات ليس فيها
شيء يصلح لتفسير الآية به إلا من وجه بعيد لا يعد نصًّا ولا ظاهرًا فيه، وهو عد
انشقاق القمر من علامات قرب الساعة بالتبع للآيات في انشقاق السماء وانفطار
الكواكب أو الدخول في عموم الثاني، إذ لم يذكر القمر في آيات الساعة إلا في قوله
تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة:
7-9) ... إلخ.
ومن الدفاع عن الإسلام وعلماء المسلمين بحق أن يقال لهؤلاء المستقلين في
الفكر أن الإسلام لا يكلفكم أن تؤمنوا برواية انفرد بها قتادة المدلس عن أنس في
خبر قد علم باليقين أنه لم يُحدِّث فيه عن رؤية ومشاهدة، بل عن سماع من مجهول
يجوز أن يكون كاذبًا، ولا يكلفكم الإسلام أن تؤمنوا بأن الأصل في مرسل
الصحابي أن يكون مقبولاً؛ لأن هذا إنما يكون عند قائليه فيما لا اعتراض ولا علة
في متنه ولا شذوذ، وحديث أنس خالف جميع الروايات عن غيره، بل الإسلام
ينهاكم أن تقبلوا حديث أي إنسان عن صحابي وغيره يخالف نص القرآن، وسنن
الله في الأكوان.
ومن اطمأنت نفسه من المسلمين بقبول سائر تلك الروايات على علاتها وكان
ممن يرى مخالفة النقل القطعي والعقل، أهون من مخالفة زيد وعمرو، وصدق
عقله أن تقع هذه الآية ولا يحدث أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من قدماء
الصحابة برؤيتها والاحتجاج بها فضلاً عن تواترها - فليس له أن يجعلها من عقائد
الإسلام، وينفِّر مستقلي الفكر ومتبعي الدليل من المسلمين وغير المسلمين منه.
(ي) ذيل في مسألة الثقة بالروايات:
قد يحيك في صدور بعض الناس - بعدما تقدم - مسألة الثقة بالروايات وعدم
الثقة بها، يقول بعض الناس: إذا بطلت الثقة بهذه الروايات في هذه المسألة على
كثرتها، بطلت الثقة بسائر روايات كتب السنة في غيرها.
ونقول لهذا القائل (أولاً) إن تحقيق الحق بالدليل هو مقدَّم في الإسلام على
توثيق الرواة وتقليد العلماء (وثانيًا) إن كثرة هذه الروايات إلى قلة بعدما علمت
من اضطراب أسانيدها ومتونها وعللها، ورب حديث واحد مروي من طريق واحد
أقوى دلالة منها، كحديث (إنما الأعمال بالنيات) مثلاً، فجملة القول: إن عدم الثقة
بها لا يقتضي عدم الثقة بغيرها؛ وإنما يقتضي أن في كل ما عدا القرآن من الكتب
مسائل تحتاج إلى التمحيص مصداقًا لقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) (ثالثًا) إن جملة
الروايات إنما تدل على أن بعض الصحابة وبعض الكفار رأوا القمر قد انشق فصار
فرقتين في لحظة من الزمان، ولا ضرر في تصديق ذلك مهما يكن سببه؛ وإنما
الضرر أن يجلوه آية مقترحة جعلها الله حجة على صحة نبوة رسوله صلى الله عليه
وسلم، وأنه يجب على كل مسلم أو كافر يريد الإسلام أن يؤمن بذلك {وَاللَّهُ يَقُولُ
الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
__________
(1) نقل صاحب اللسان هذه العبارة في تفسير الحديث عن النهاية في شرح غريب الحديث.(30/361)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
ترجمة جديدة للقرآن الكريم
رسالة للأمير شكيب أرسلان
من المستشرقين الكبار الذين يليق ذكرهم ويصح الاستشهاد بأقوالهم الأستاذ
إدوار مونته Montet Edouard مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، وهو
مشهور بين الاوربيين من جميع الأجناس، فتجد مؤلفيهم يستشهدون بكلامه في
المسائل الشرقية والإسلامية ويقدرون آراءه قدرها.
والأستاذ مونته هو من القسم المنصف بين المستشرقين لا يتحامل على
الإسلام، ولا يقصد في مباحثه إظهار عورات ومثالب للإسلام كما يفعل غيره، بل
يحاكم عقيدة الإسلام وتاريخ الإسلام، وكل شيء عائد للإسلام محاكمة من ينظر إلى
الأشياء كما هي لا كما يخيلها الوهم، أو كما يصورها الضلع، مما هو دأب كثير
من الأوربيين الذين يخوضون في هذه المباحث وصدورهم ملأى بالضغن وسوء
النية، وليس المسيو إدوار مونته مع ذلك بمسلم ليقال إنه في أحكامه وآرائه هذه
متأثر بالتربية الدينية الإسلامية، أو إنه اقتنع بالإسلام فاتخذه دينًا، وأصبح لا يجد
فيه عيبًا ولا يقبل عليه مطعنًا، لا إن المسيو مونته لم يتخذ الإسلام دينًا، وربما
كان غير معتقد بكل ما في النصرانية أيضًا، فهو يقول فيهما آراءه بكل صراحة،
ويحسِّن منهما ما يراه بحسب نظره هو حسنًا وينتقد ما يراه خليقًا بالانتقاد، وقد
بدرت منه انتقادات ومؤاخذات في كلامه على تاريخ الإسلام تدل على كونه غير
دائن بدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكنها تدل أيضًا على أنه غير مضمر سوءًا
ولا متعمد ثلبًا، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض كلامه لأنه لا يمكن أن يؤتى من قبل
تعصب للإسلام، ولا أن يقال عنه: إنه مسلم يدافع عن عقيدته.
وقد نضطر إلى تصحيح بعض معلومات ناقصة جاءت في كلام الأستاذ
المذكور أو إلى بيان رأينا في المسائل التي تختلف وجهتنا عن وجهته فيها.
فمن الكتب التي صنفها الأستاذ إدوار مونته كتاب جليل اسمه الإسلام
Lislam أخرجه سنة 1923، وطالعناه وأشرنا على مواضع كثيرة منه لنقلها إلى
اللسان العربي، وكانت تعوقنا عن ذلك كثرة الأشغال. وكتاب آخر أخرجه في
السنة الماضية يحتوي على ترجمة القرآن المجيد بتمامه إلى اللغة الفرنسية طالعنا
جانبًا منه، وقابلنا الترجمة بالأصل فوجدنا الترجمة حَرِيَّة بأن توضع في الطبقة
الأولى من تراجم القرآن الكثيرة، وقد صدَّر الأستاذ مونته هذه الترجمة القيمة
بمقدمة نفيسة سننقل إلى قراء المنار عدة أنموذجات منها، وها أنذا أنشر الترجمة
الحرفية لديباجة مقدمته لها كما يلي:
(القرآن في الحقيقة هو ذو قيمة خارقة للعادة، فهو بين الكتب الدينية من
أعظمها شأنًا، وهو يشتمل على الحياة الروحية لقسم من النوع الإنساني يقدَّر
بمائتين وخمسين مليونًا على الأقل، ومن أهم ما في القرآن استقاؤه من المنابع
اليهودية والمسيحية: التوراة العبرانية والتقاليد اليهودية من جهة، والإنجيل
والتقاليد النصرانية من أخرى [1] .
فالعقيدة القرآنية إذًا هي ذات علاقة وثيقة مع العقيدة اليهودية والعقيدة
المسيحية، والآثار التاريخية اليهودية المتعلقة بالأنبياء والآباء، وكذلك الآثار
النصرانية المتعلقة بالمسيح هي موضوع صفحات عديدة من القرآن، فهذا التشابه
في الفكرة الدينية بين الإسلام والنصرانية هو واصل إلى الحد الذي لا يفهم معه
الإنسان لماذا وُجد المسيحيون والمسلمون أعداء إلى هذه الدرجة [2] مدة هذه الأعصر
الطويلة، وقام بعضهم على بعض بمصارعات هي في الواقع مصارعات إخوان
لإخوان؛ لكنها صبغت القرون الغابرة بالدم الغزير.
على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا الاتحاد في أصليْ الإسلام والنصرانية أن
الإسلام القرآني فاقد للاستقلال، وأنه ليس ذا صفة خاصة أصلية، فالأمر بالعكس
والإسلام دين لا يمكن خلطه مع دين آخر من الأديان السامية، فهو دين سامي تحت
صورة عربية خاصة تتجلى فيه روح اللغة العربية.
ولا ينبغي لقارئ القرآن أن يُعجب من التكرار الذي يجده فيه؛ فإن مثل هذا
التكرار معهود في أعظم الكتب الدينية مثل التوراة ومثل كتاب الاقتداء بالمسيح
الذي هو الغذاء الروحي للنفوس المسيحية [3] والقارئ يجد في القرآن صفحات في
غاية الإبداع سواء من جهة الفكر، أو جهة القالب الذي وُضع فيه الفكر، وكذلك
يجد فيه لآلئ فريدة في علم الروح معروضة في آيات هي أعلى ما يمكن من
الأسلوب الشعري [4] ، وهو فيه أسلوب قائم بذاته، وفي القرآن منازع دينية ذات
سعة مدهشة لا سيما بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه ذلك المصلح العربي،
فالإبداع يتلألأ في هاتيك القطع الباهرة تلألؤ الكواكب الكبرى، ولا غرو أن ينظر
إليها القارئ كمثال أعلى للأسلوب الشعري الشرقي.
ومما يجعل للقرآن هذه الأهمية أنه الكتاب الديني للأمم الإسلامية التي تمثل
في شرقي أوربة، وفي العالم الآسيوي وفي ماليزيا وفي أفريقية دورًا ليس مهمًّا
وحسب، بل دورًا ذا صلة شديدة بالأمم الغربية المسيحية.
وتظهر عظمة هذا الدور بزيادة في المستعمرات الأوربية التي هي في مختلف
أقسام العالم الشرقي والأفريقي، وفي البلدان التي تحت الحماية الأوربية والبلدان
التي تحت الانتداب المتولد من الحرب الكبرى.
فأوربة مكافلة في وجودها اليومي للأمم الإسلامية التي هي تحت حكومتها،
أو هي ذات علاقة شديدة معها، ولقد ثبت هذا الأمر ثبوتًا كل أحد يعلم مقداره في
الحرب العالمية من 1914 إلى 1918.
وأخيرًا نقول: إن الذي يجعل للقرآن هذه الأهمية الخاصة التي نشير إليها هو
المستقبل المدَّخَر للشعوب الإسلامية، إذ لا ينكر أن مستقبلاً فخمًا ينتظر هذه
الشعوب على مقدار ما يقتبسون من الحضارة الأوربية.
فتركيا وسورية وبلاد العرب وفارس وأفغانستان وشعوب شمالي إفريقية،
والثمانون مليون مسلم الذين في الهند الإنكليزية، والثلاثون مليون مسلم الذين في
الصين، والشعوب الإسلامية التي لا تكاد تحصى في ماليزيا (جاوى، سومطره ...
إلخ) هي كلها على مراحل متفاوتة من قبول الحياة الاقتصادية والصناعية والفكرية
التي عليها أوربة.
وإن هذه النتيجة قد تكون غير منتظرة عند من يجهل هذه الأمم، أو من لم
يقدر أن يفهمهما حق الفهم، أو لم يُوفق لفهم عقيدتها التوحيدية التي هي أعلى
صورة روحية وُجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الآرية) انتهى.
ولا بد لنا أن نعقب على هذه الديباجة ببعض ملاحظات، منها أن المؤلف قال
عن عدد المسلمين أنه 250 مليونًا على الأقل، ولقد أصاب جدًّا في قوله (على
الأقل) لأن المسلمين على التحقيق يزيدون على 300 مليون نسمة، وربما كانوا
330 مليونًا، وأما قوله (إن للمسلمين مستقبلاً عظيمًا على قدر ما يقتبسون من
الحضارة الأوربية) فليس معناه ما تذهب إليه ملاحدة تركيا وما يقلدهم فيه هذا النفر
القليل الملحد المتفرنج في مصر والعراق وسورية من أنه يجب عليهم نبذ التعليم
الديني الإسلامي، وأن يستبدلوا به تعليمًا لا دينيًّا مارقًا من كل صبغة دينية إسلامية،
لا، هذا لم يخطر ببال الأستاذ العلامة مونته، ولا هو من أبحاثه في كثير ولا قليل،
ولو كان هذا مقصده لما كان معجبًا إلى ذلك الحد بأكثر مبادئ الإسلام وأصوله،
ولما كان ألف فيه هذه التآليف الممتعة، ولما قال (إنه أعلى صورة روحية وجدت
في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الأم الآرية) (أي الأوربية) .
وإنما كان مقصد الأستاذ مونته العلوم الاقتصادية والصناعات التي تفوقت بها
أوربة اليوم، والأساليب الصحيحة التي تسير عليها في حضارتها، وهذه يندب
شرعًا الاطلاع عليها والتحقق بها، حتى لا يفوت المسلمين شيء من أسباب القوة
والمنعة، وحتى لا يكونوا مقصرين فيها عن شأو أعدائهم أو أندادهم، وهي لعمري
مما يقترن بالتعليم الديني الإسلامي، بل مما تزداد الرغبة فيه بقوة هذا التعليم
وتأثيره، كما أن الأمم الأوربية واليابانية قد بلغت هذه المبالغ القاصية من هذه
العلوم الحديثة والصناعات الناشئة عنها، ولم تزل متمسكة بأديانها وعقائدها، ولم
يبرح التعليم الديني عندها سائرًا جنبًا إلى جنب مع التعليم الطبيعي، والروح فيها
متآخية مع المادة.
... ... ... ... ... ... لوزان 9 أكتوبر 1929 ...
... شكيب أرسلان
__________
(1) المنار: إن جميع المسلمين يخالفون المترجم في هذا الرأي، ويؤمنون بأن جميع ما في القرآن من عقائد اليهود والنصارى وأحوالهم وتاريخهم هو وحي من الله تعالى وافق ما عندهم من الحق، وأبطل ما ابتدعوا من الباطل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميًّا هو وقومه كما قال تعالى:
[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا] (هود: 49) .
(2) سبب هذا نزعة الحرب الصليبية التي أشعلت نارها الكنيسة الكاثوليكية، ولا تزال تراعى في التربية العامة في مدارس أوربة وبيوتها كما صرح به الدكتور غوستاف لوبون الحكيم الفرنسي
الشهير، وقد وجد الساسة الاستعماريون أن في مصلحتهم بقاء هذه النار مستعرة.
(3) المنار: لا ترسخ العقائد ولا الآراء العامة في الأنفس إلا بتكرار ورودها عليها والتكرار في القرآن من أساليب بلاغته المعجزة للبشر كما هو مبين في محله.
(4) المنار: يريد الكاتب بالأسلوب الشعري التعبير المؤثر في النفس من التشبيه والتمثيل والاستعارات الجميلة والكنايات اللطيفة لا صناعة نظم الشعر التي نزَّه الله القرآنَ والنبي عنها.(30/377)
الكاتب: زكي كرام العربي الدمشقي
__________
قواعد الصحة في الإسلام منذ 1348 سنة
وقواعد الصحة في أوربا بعد 1348 سنة
بقلم الدكتور زكي كرام العربي الدمشقي في برلين
وتصحيح المجلة
ذهب بعض أدعياء العلم إلى أن العلة الوحيدة التي حرَّم الإسلام من أجلها أكل
لحم الخنزير هي عدم وجود مجاهر (آلات مكبرة للأجرام) لفحص جرثومة
الخنزير المسماة باللاتينية (تريخينا سبيرالي) (Spirali Trechina) وتسميها
العوام على الإطلاق تريخين، معناه بالعربية (الدود الشعري) وقد ادعت تلك الفئة
المضللة، التي هي لكل حرام - بل لكل مضر - محلِّلَة أنه لو وُلد عليه الصلاة
والسلام في الممالك الباردة لما منع شرب الخمور! وبهذه الأضاليل والترهات
يريدون أن يضلوا عباد الله، بتجرئتهم على ما حرَّم الله.
وقبل أن نخوض في البحث العلمي نقول: إذا كانت حكمة الإسلام في تحريم
لحم الخنزير هي عدم وجود مجهر لفحص اللحم والتريخين من الخنزير، فهذا لعمري
من قول الحق [1] الذي يؤيد رسالة هذا النبي العظيم، وبأنه لا ينطق عن الهوى؛
وإنما هو وحي يوحى.
إنني ممن يؤيد تلك القواعد والأوامر والنواهي السامية لانطباقها على العلم
والمنطق، وعليه أقول مع ذلك: إنه لو كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مجهر
أو لو كان لهذه الدودة القتالة علائم تظهر على الحيوان الموجودة فيه، فيتجنبه
الناس لما كان ذلك كافيًا لإباحة أكل لحم الخنزير حتى الخالي من تلك الدودة، فثم
أسباب صحية أخرى لتحريمه، فقد أثبت علماء هذا الفن من أطباء العصر أن
المنهمكين المواظبين على أكل لحم الخنزير يصابون بتشحم القلب والكبد، وبالتشحم
العام أيضًا، ومرض التشحم القلبي والكبدي والتشحم العام ومضراته معلومة لدى
الجميع، فنضرب عن بيانه صفحًا ونكتفي بما دلت عليه الإحصاءات الأمريكية
والاستقراءات الطبية بألمانيا من توقف حفظ الصحة على الكف عن أكل لحم
الخنزير؛ لأن ذلك التشحم هو السبب لموت الكثيرين في عنفوان الحياة، وسن
الرجولية الحقيقية من 40-50.
وإليك أيها القارئ نسبة الوفيات التي تثبت هذا المُدَّعى:
قرر البروفسور غرافه في مستوصفه الخاص، وكذا الإحصاءات الأميركية
أننا لو قسمنا الذين في سن الأربعين إلى سمين ونحيف لوجدنا أنه لا يصل إلى سن
الستين من السمان أكثر من ستين في المائة، ومن النحفاء أقل من تسعين، وأما الذين
في الخمسين فلا يصل من السمان منهم إلى الستين أكثر من 30 في المائة، ويقابل
ذلك 50 في المائة من النحفاء، وإذا انتقلنا في هذه النسبة إلى سن الثمانين نرى أنه لا
يصل إليها إلا 10 في المائة من السمان، يقابلهم 30 في المائة من النحفاء، فلهذا
ينصح الأطباءُ العقلاءَ بالكف عن أكل لحم الخنزير الذي هو أعظم الأسباب لعلة
التشحم.
الخمور
وأما الخمور فقد كنت كتبت منذ بضع سنين شيئًا في مضارها، وبما أني
رأيت أن الوقت بحاجة إلى مواصلة البحث والتنقيب فسأنتهز إن شاء الله كل فرصة
أغتنمها من وقتي الضيق لبيان مضرات هذه الآفة، وأرى من الضروري الآن أن
أكتب كلمة في الموضوع الذي أنا بصدده، فأقول:
مضرات الخمر ثبتت للعالم الفني العلمي الذي يتوسل بكل ما لديه لإفهام
الشعوب مضراتها ليستريح البشر مما يعانيه من تلك الآفة، إن كثيرًا من التجار
الفجار، ومن الجواسيس المناحيس، ومن اللصوص الأفاكين، ومن الجناة
المحتالين، لا يفتكون بحياة صيدهم أو عدوهم وهو (الفكر الصحيح) ولا يأخذون
منه بحق أو باطل إلا بالخمر، فالحرارة التي يحدثها الكحول المؤثر في الخمر لا
تدوم إلا ثواني أو دقائق يعقبها برودة لا يتحملها الجسم، فيتطلب الحرارة مرة
أخرى بالشرب، ولا يلبث أن يعقبه رد الفعل، وهكذا تكون الحرارة بين طلوع
ونزول إلى أن يغمى على المدمن، ولا يعرف أين هو وما تجني يداه من الآثام،
وكثيرًا ما يصفون الكحول للمصابين بالحمى، فيشعر المريض بعد بضع ثواني من
تعاطيه بسقوط الحرارة؛ ولكن هذا الشعور ليس ناشئًا عن سقوط درجة الحرارة
سقوطًا حقيقيًّا، بل هو شعور كاذب يُحْدِثه الكحول.
وأما النشوة التي يتلذذ بها المدمن فسببها طروء خلل على وظائف الخلايا،
ونتيجة الاستدامة على تعاطي تلك الآفة هي الجنون أو ما دونه من اختلال العقل،
وكثيرًا ما تحدث أمراضًا تحار الأطباء في تشخيصها، ولذا نرى أوربة اليوم
تحاول اتخاذ وسائل تدريجية لإنقاذ الشعب من هذه الآفة، كما أن الإسلام حرَّم
الخمر تحريمًا تدريجيًّا بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء:
43) وقوله فيها وفي القمار: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) ولما
اعتاد بعض المسلمين تركها في بعض الأوقات، وبعضهم تركها ألبتة، بعد ذلك
نزلت آية التحريم القطعي {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) وأوربا
بدأت اليوم بمنع الخمر منعًا تدريجيًّا (أي بعد أن منعتها الولايات المتحدة الأمريكية
منعًا عامًّا قطعيًّا) وبصورة اختيارية مبنية على حفظ الصحة.
وإليك أيها القارئ نشرات صحية تصدرها جميعات الألعاب الرياضية بأوربا:
جاء في مقدمة نشرة جمعية السباحة المسماة (ويكينجربوته) ما نصه: يجب
على الذي يريد أن يشترك في السباق، ويكون من أبطاله أن يعتني قبل كل شيء
بصحته، ويكون صحيح الجسم، ولأجل أن يكون صحيح الجسم (والعقل) يجب
أن يتبع النصائح الآتية:
1- يجب الانقطاع عن تعاطي جميع المشروبات الكحولية أيًّا كان جنسها
(يعني الامتناع عن البيرا أيضًا) .
2- يجب الاهتمام بترك التدخين تمامًا أيًّا كان نوعه، وجميع المواد
الناركوتيكية.
3- التباعد عن الزنا بكل ما يدخل في الإمكان (هذا بمعنى قوله تعالى {وَلاَ
تَقْرَبُوا الزِّنَى} (الإسراء: 32) الآية) .
ويقول في السطر 51 و 52 من تلك النشرة الصحية (أحسن شيء يروي
العطش وينفع الجسم هو الماء الزلال الصافي البرَّاق غير المغلي) وفي سطر 62
(يجب على كل منتسب إلى الجمعية أن يكون مثال الأخلاق الحسنة بتحاميه كل
شيء فيه ضرر للجسم) .
وإنني اطلعت على التقارير التي تنشرها البعثات للبلاد الباردة، وأخصها
بعثات القطب الشمالي أن أكثر الذين يموتون من تأثير البرد هم الذين يدمنون الخمر،
وأما الذين لا يدمنون الخمر فهم أكثر صحة ومقاومة للبرد.
فهل بعد ذلك للملحدين الذين يتوسلون بالحجج الداحضة والأقوال الفارغة
لتحليل ما حرَّم الله أن يقولوا: إنه لو بُعث سيد الخلق في البلاد الباردة لما حرَّم
الخمر؟ (وإنما الذي حرَّم الخمر هو الله الذي خلق البلاد الباردة والحارة) .
أم عندكم أيها الملحدون ما به تحيلون النور ظلامًا والظلام نورًا؟ أم تريدون
فوق كل ذلك جعل الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة؟
إنما التجدد أيها الإخوان بنقل العلوم والفنون التي هي غذاء الأبدان والأرواح
لا بتسميم الجسم والعقل والتجريد من الفضائل.
(حاشية) سنأتي إن شاء الله قريبًا بنبذة على التريخين.
... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... زكي كرام
(المنار)
إن قول هذه الجمعيات: إن أفضل ما يُشرب هو الماء النقي، ذكرني ما لا أنساه
من قول المقتطف لمن سأله عما يقال في الجعة (البيرا) من تغذية وتحليل: إن لقمة
من الخبز أكثر تغذية من كوب من البيرا، وإن جرعة أو كوبًا من الماء أحسن أو أشد
تحليلاً من قدح من البيرا، وأما شربها للذة فذلك شيء آخر. أي فلماذا يكذب عبد
الشهوة على نفسه وعلى الناس، كما يفعل الآن دعاة التجديد الإلحادي في الترغيب في
لبس البرنيطة، وتهتك النساء، وغير ذلك باختلاق منافع للرذائل أو لمحاربة
المشخصات القومية والملية التي يراد بها جعل الأمم الشرقية غذاء سهل الهضم على
معدة الدولة المستعمرة.
__________
(1) المنار: الحق أن علة تحريم أكل الخنزير ضرره لا عدم وجود الآلة التي يرى بها الدود الذي يتولد منه معظم الضرر الخاص به؛ فإن هذه الآلة قد وجدت في هذا العصر في بعض بلاد الحضارة الآلية؛ ولكن أكثر بلاد الدنيا خالية منها والتشريع العام يجب أن يكون موافقًا لمصالح جميع البشر في كل مكان وكل حال ولا يجوز تقييده بحال بعض البلاد، ولا أن تتفاوت فيه الجماعات ولا الأفراد، والله تعالى هو المحرِّم للخنزير في التوراة والقرآن، لا موسى ولا محمد عليهما الصلاة والسلام.(30/381)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها
حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب
والرأي في مستقبل العرب والشرق
(1)
حقيقة حال اليهود
(1) من الحقائق التي أثبتها التاريخ أن الشعب الإسرائيلي أو اليهودي من
أشد شعوب الأرض شكيمة، وأقواها عزيمة، وأثبتها وحدة، وأعمها تكافلاً، ومن
ثم كان أشدها أثرة وعصبية، وكانت جامعته النَّسبية الملية المزدوجة غير قابلة
للذوبان ولا للاندغام في أية جامعة أخرى من الروابط البشرية كالوطنية واللغوية
وغيرها، فهم يشاركون كل قوم في أوطانهم ويزاحمونهم على منافعها المادية
والمعنوية، ويظلون مع ذلك يهودًا، كما أن جامعتهم لا تقبل شعبًا آخر أن يندغم
فيها، ومن المعروف من تاريخهم أنهم لما احتلوا بلاد فلسطين ظلوا يقاتلون أهلها
حتى غلبوهم عليها، وصار لهم ملك فيها، ثم كانوا يقاتلون جيرانهم من حولها،
ومن قواعد شريعتهم (التوراة) أن يستأصلوا القوم الذين يغلبونهم على أمرهم
(حتى لا يستبقوا منهم نسمة ما) ومن أثرتهم أنهم لا يعترفون لغيرهم بمثل الحق
الذي انتزعوا به فلسطين من أهلها، بل يدَّعون أنها صارت ملكًا لهم إلى الأبد.
(2) من الحقائق التي أثبتها الوحي مع التاريخ أن الله تعالى بعث فيهم
أنبياء وربانيين، وأئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وعبادًا صالحين، وأن الله
أراهم من آياته وآتاهم من نعمه ما لم يؤت أحدًا من العالمين؛ ولكنهم كانوا
يتمردون على موسى كليمه ويؤذونه في حياته، وقتلوا بعض أنبيائهم من بعده،
وفسقوا عن أمرهم وأمره، وعثوا في الأرض مفسدين حتى إنهم عبدوا الأوثان
مرارًا، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلوا ظلم غيرهم وأكل
أموالهم بالربا وغيره، فسلب الله ملكهم ومزَّقهم في الأرض كل ممزق، وسلط
عليهم الأمم تضطهدهم وتستذلهم، قال الله تعالى فيهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ
مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران: 112) فالذلة فقد الملك
والسلطان، وحبل الله ما حباهم به شرعه من حقوق العدل بدخولهم في ذمة الإسلام،
وحبل الناس ما لقوه من حماية المسلمين من قبل، وما يلقونه من حماية بعض
الدول الآن.
اليهود والإسلام والمسلمون
(3) من الحقائق الثابتة المعروفة في السيرة النبوية والتاريخ الخاص والعام
أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر من مكة إلى المدينة أقرَّ من كان في أرضها
من قبائل اليهود على دينهم، وآمنهم على أنفسهم وأموالهم، على أن لا يوالوا ولا
ينصروا عليه مشركي مكة وغيرهم من قومه، وكتب بينه وبينهم كتابًا في ذلك
كانوا به أهل عهد وميثاق؛ ولكنهم كانوا (ينقضون عهدهم في كل مرة)
وينصرون المشركين عليه في القتال، والمساعدة بالمال، حتى اضطر إلى قتالهم
وإخراجهم من جواره؛ ولكن أصحابه ومن بعدهم من قومه لما فتحوا البلاد
وسادوا العباد، أنقذوا اليهود من الاضطهاد وما كانت تسومهم الدول والأمم من
الظلم والاستعباد، فلم يذوقوا من طعم العدل في القرون الماضية بعض ما ذاقوا في
ظل الحكومات العربية وغيرها من الدول الإسلامية، فقد كانوا مساوين للمسلمين
في الحقوق وكانوا يتلقون ما يشاءون من العلوم في المدارس والمساجد ببغداد
والأندلس في صفوف المسلمين وحلق دروسهم كأنهم منهم.
اليهود وسلطان الكنيسة
(4) من الحقائق الثابتة المعروفة في تاريخ القرون الأخيرة أن اليهود الذين
تلقوا العلوم في الأندلس، ولا سيما تلاميذ الفيلسوف ابن رشد كانوا من حملتها إلى
أوربة ومن أسباب انتشارها فيها، وأنهم استطاعوا بتكافلهم وكيدهم أن يثأروا
لأنفسهم ولأساتذتهم العرب من سلطان الكنيسة الكاثوليكية التي اضطهدتهم هم
والعرب في الأندلس بالتقتيل والتشريد والإكراه على النصرانية، وذلك بما ألفوه من
العصبية للعلوم وحرية الفكر التي ناصبت الكنيسة العداء في أوربة، وأثارت عليها
القتال حتى ثلت عرشها وقوضت سلطانها السياسي من العالم.
اليهود والماسونية والمال
(5) من الحقائق الثابتة الخفية أن الجمعية الماسونية التي ثلت عروش
الحكومات الدينية من أمم أوربة والترك والروس هي من كيد اليهود، وهم أصحاب
السلطان الأعظم فيها، وإن كان ذلك يخفى على كثير من أهلها أو أكثر المنتمين
إليها، ومن غرائب كيد اليهود وقدرتهم التي فاقوا بها جميع شعوب البشر أن
الغرض السياسي النهائي لهم من هذه الجمعية هو تأسيس دولة يهودية دينية في مهد
الدولة الإسرائيلية التي أسسها داود وأتمها سليمان باني هيكل الدين اليهودي في
أورشليم على جبل صهيون، ولهذا سموها جمعية البنائين الأحرار، ويريدون بهم
الذين بنوا هيكل سليمان، وأكثر أفراد هذه الجمعية يجهلون السبب الصحيح لهذه
التسمية، فهل وجد في العالم أعجب وأغرب من قوم يهدمون ما عند غيرهم من
سلطان ديني لأجل بناء مثله لأنفسهم، ويسخِّرون أولئك الأغيار بمكرهم في الأجيال
الكثيرة والقرون العديدة لما لا يعلمون ولا يعقلون؟
(6) من الحقائق الاجتماعية التاريخية أن اليهود هم الذين وضعوا النظام
المالي الذي هو قطب رحى المدنية الغربية الحاضرة في العالمين القديم والجديد،
وأن لهم به النفوذ الأعلى في جميع الدول والأمم (الرأسمالية) كما يقال في عرف
هذا العصر، ومن عجائب كيدهم واقتدارهم أن أخفوا أنفسهم بصفتهم المالية أن
تظهر في مملكة المال ظهورًا يمكن به لغيرهم أن يسلبوا ثروتهم، أو يغلبوا عليها
بعصبية دينية أو وطنية، كما أمكنهم إخفاء شخصيتهم الملية في الجمعية الماسونية
السياسية السابقة، وكذا الرمزية اللاحقة.
الجزويت والماسونية
(7) من الحقائق الثابتة التاريخية أيضًا أنه لم يوجد جماعة من جماعات
البشر الدينية والسياسية عرفت كنه كيد اليهود ومكرهم في الأمم ومقاصد الماسونية
وأهلها وتصدت لمقاومتهم وإسقاط نفوذهم - إلا جمعية الجزويت الكاثوليكية، وذلك
أن الكاثوليك يدينون بوجوب الخضوع الديني والسياسي لأحبار رومية رؤساء
الكنيسة المعصومين عندهم، ويعلمون أن اليهود هم الذين ثلوا عرشها بنفوذ الجمعية
الماسونية التي انتظم في سلكها الملايين من النصارى ومن غيرهم وأكثرهم لا
يشعرون، لذلك بذلوا جهدهم في السعي لكشف الأستار عن أسرارها، وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم لصد تيارها، بتتبع عوارها، وتقليم أظفارها، وتحريم الدخول فيها
على من يدينون دينهم الكاثوليكي ويقلدونهم في فهمهم وعملهم به، وقد توسلوا إلى
معرفة أسرارها بعقيدة الاعتراف الديني الذي استباح به كثير من الكاثوليك الحنث
بالأيمان المغلظة، ونقض العهود الموثقة بترجيح العقيدة الدينية، على ما عاهدوا عليه
الجمعية، ولا سيما وقت الاحتضار، حيث يغلب خوف النار على ذلك العار.
من خفي عليه نفوذ اليهود في أحرار أوربة الغربية والوسطى وملاحدتهم وما
كان من حربهم للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، فلا أراه يخفى عليه ما كان
من نفوذهم في ملاحدة الروس الذين أضعفوا سلطة الكنيسة الأرثوذكسية بمجلس
الدوما، ثم أسقطوها بثل عرش القياصرة - دعاتها وحماتها - وتأسيس حكم البلشفية
في تلك الممالك الواسعة، وما كان من نفوذهم في ملاحدة الترك بإسقاط نفوذ الخلافة
التركية العثمانية، ثم بهدم الشريعة الإسلامية من المملكة التركية، وجعل حكومتها
إلحادية تسعى لمحو الإسلام من الشعب التركي ومن الشعوب الأعجمية الإسلامية
التي كانت تابعة لها كالألبان والبوشناق وغيرها كالإيرانيين والأفغانيين.
وهم - أعني اليهود - لا يزالون يدينون الله تعالى بتأسيس ملك ديني مدني
في فلسطين، يكون ملكهم فيه المسيح الذي ينتظرونه منذ ألوف السنين، كما ينتظر
جماعة النصارى والمسلمين المسيح الحق عيسى بن مريم عليه السلام، الذي ورد
في الأحاديث أنه سيقتل مسيح اليهود الدجال - أي الذي ينصبونه في فلسطين -
فعقائد الملل الثلاث في هذه المسألة متعارضة؛ ولكن المسلمين والنصارى فيها
متفقان على تكفير اليهود بجحود المسيح الحق - وهو عيسى بن مريم البتول عليه
وعليها السلام - والطعن فيهما، وكل منهم يؤمن به، على الاختلاف المعروف بينهما
في صفته، وإنما نقول هذا لبيان الواقع المعروف لا لتحريض الفريقين عليهم، على
أنهم استخدموا دول النصارى فظاهرتهم على المسلمين.
(8) كان اليهود متكلين على ما في كتب أنبيائهم من الإنباء بمجيء مسيح
(مسيا) يعيد مُلك إسرائيل سيرته الأولى ويجمع أشتات أسباطهم ... ويعتقدون أن
مجيئه سيكون بقوة إلهية فوق قوى البشر، كما يعتقد أكثر المسلمين في المسيح
والمهدي المنتظر، فلهذا لم يكونوا يستعدون لاستعادة الملك بسعي الشعب، فلما
طال عليهم الأمد، وكثر فيهم أحرار الفكر الذين لا يؤمنون بهذا الوعد كما انتشر
واستقر، أسسو الجمعية الصهيونية للسعي إلى ذلك بقوة الشعب اليهودي المالية
والمعنوية، وبجعل الاعتقاد التقليدي حاديًا لهم في هذا السعي وقوة روحية تؤيد
سائر القوى الكسبية، وهذا ما نبهنا له المسلمين في أمر المهدي في كتابنا (الحكمة
الشرعية) ثم في المنار، وأين المسلمون من علم اليهود وحزمهم وتكافلهم؟
تأسيس الصهيونية ومؤسسها
إن المؤسس للصهيونية كاتب من يهود بلاد المجر كان من علماء القانون
(اسمه تيودور هرتزل) أنشأ في سنة 1896 صحيفة باسم (دولة يهودية) للدعوة
إلى تأسيس هذه الدولة في فلسطين، فتقبلها الكثيرون من اليهود في أقطار العالم
بالبهجة والأمل، وارتاب كثيرون منهم في نجاح هذا العمل، وتأسست الجمعية
الرسمية لها في العام التالي لإنشاء الصحيفة، وطفقوا يجمعون لها الأموال
ويؤسسون الفروع ويعقدون المؤتمرات، حتى إنهم أسسوا لها مصرفًا ماليًّا خاصًّا
وصنفوا لها (دائرة معارف) خاصة، وقد قرر المجمع أو المؤتمر الصهيوني
الأول ما وضعه (هرزل) من غرضها وغايتها وعبر عنه بأنه إنشاء وطن شرعي
للشعب اليهودي في فلسطين تعترف به الدول، فيكونون فيه كالإنكليز في الجزائر
البريطانية، والفرنسيين في فرنسة ... إلخ، فيؤسسون الدولة اليهودية (استعدادًا
لمجيء مسيا المنتظر، الذي تخضع له شعوب البشر) وقرر الوسائل لذلك، وهي
البدء باستعمار فلسطين (1) بامتلاك الأرض وعمارتها بالزراعة والصناعة وسائر
الأعمال الاقتصادية والمهن الحرة، و (2) بجمع كلمة الشعوب اليهودية في
الشرق والغرب واتحادهم للتعاون على هذا العمل لتلك الغاية، بإنشاء الجمعيات في
كل قطر بما لا يخالف قوانين حكومته، و (3) بإحياء الشعور الإسرائيلي الملي
وتقوية آماله في مآله، و (4) بالسعي لدى الدول لنيل عطفها على الصهيونية
ومساعدتها على تحقيق أمنيتها.
وقد افترص الصهيونيون انفجار براكين الحرب العامة في العالم، فكان من
دسائسهم فيها ما بيناه من قبل من خدمة الدولة البريطانية وحملها مع حلفائها على
مكافأتهم على ذلك بالتأييد الرسمي لمقصدها ففعلت، وهذه ترجمة الوثيقة الرسمية
بذلك المعروفة (بوعد بلفور) مثير الفتن، وموقد نار الثورة، وموقظ الأمة العربية
والشعوب الإسلامية من رقادها، كما بلّغه لزعيم اليهود المالي الأكبر:
عهد بلفور الجائر
نظارة الخارجية في 2 تشرين الثاني 1917
عزيزي اللورد روتشيلد:
إني بملء المسرة أنقل إليكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي
المفعم بالشعور مع مطامح اليهود الصهيونية، والذي طُرح على هيئة الوزارة
وصدق عليه
أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين الرضا إلى تأسيس وطن قومي للشعب
اليهودي في فلسطين، وهي ستبذل الجهد لتسهيل السبل الموصلة إلى تلك الغاية
على شرط أن لا يحدث ثم شيء يؤدي إلى الإجحاف بحقوق بقية السكان غير اليهود
دينيًّا ومدنيًّا، أو يعبث بالحقوق والسنن السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد
أخرى
وأكون في غاية الامتنان إذا تفضلتم بإطلاع الاتحاد الصهيوني على هذا
التصريح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... لكم بإخلاص
... ... ... ... ... ... ... ... أرثور جيمس بلفور
اليهود والهيكل في حكم النصارى فالإسلام
(9) كانت الحكومات المسيحية قد طردت اليهود من مدينة المسيح الحق،
واضطهدتهم أشد الاضطهاد، وجعلت مكان الهيكل الذي دمره طيطس أخيرًا مزبلة
حتى غمرت الصخرة المقدسة في أعلاه بالأقذار، فلما جاء الإسلام المكمل لدين الله
الذي شرعه على ألسنة أنبيائه وآخرهم موسى وداود وسليمان والمسيح برسالة محمد
خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام - أعاد المسلمون تشريف ذلك المكان الذي سماه
الله تعالى في كتابه بالمسجد الأقصى، وأسرى بعبده ورسوله إليه في أوائل بعثته،
وقبل ظهور أمره، فنظفوه من الأقذار، وبنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه مسجده هنالك، ثم كان ما كان من أمر تشييد بني أمية للمسجد الكبير
ولقبة الصخرة، وأنفقوا عليه خراج مصر كله بضع سنين، فكان ذانك البناءان
من أعظم مفاخر الصناعة والهندسة في الأرض، وكان المسجد الأقصى أول
القبلتين وثالث الحرمين، وسيبقى كذلك ما دام الإسلام والعرب في الأرض.
وكان من عدل المسلمين ورحمتهم أن رفعوا الاضطهاد عن رؤوس اليهود
وعاملوهم بالعدل والرحمة، حتى إنهم صاروا يأذنون لبعضهم بالإقامة في بيت
المقدس مع تحديد العدد القليل، وكذا بزيارة الجانب الغربي من سور المسجد
الأقصى (البراق) بطلبهم، وكانوا لا يستحلون تجاوزه بمقتضى تقاليدهم، إلى أن
يجيء المسيح الذي ينتظرونه لإعادة الهيكل كله إليهم، وإقامة الشعائر والقرابين
الموسوية فيه بإعادة ملك سليمان لهم، بالرغم من أنوف جميع المسلمين والنصارى
في العالم؛ وإنما كانوا يأذنون لأفراد قلائل منهم بما يتخذون لذلك من الوسائل حتى
المالية، فيقفون أمام ذلك الجدار للذكرى وإحياء الشعور الملي مع البكاء والندب ...
فقوي أملهم بالتكاثر والتملك في المدينة المقدسة وفي سائر بقاع فلسطين، تمهيدًا
لامتلاكها، واستعدادًا لظهور المسيح مجددًا ملك اسرائيل فيها؛ ولكنهم استعجلوا
الشيء قبل أوانه، فعوقبوا بحرمانه.
الصهيونية والعرب
(10) ما زال هذا الأمل يقوى ويضعف، ويطفو ويرسب، حتى طمعوا
في عهد السلطان عبد الحميد بإباحة الهجرة والامتلاك بلا شرط ولا قيد، ثم طمعوا
على عهد دولة جمعية الاتحاد والترقي (التي أسقطت هذا السلطان وملكت على من
بعده الأمر بمساعدتهم) في شراء فلسطين من الجمعية ببضعة ملايين من الجنيهات،
ولما علمنا بهذه المساعي توخيت أن ألقى معتمد الجمعية الصهيونية بمصر
فأستعرف له وأعترفه الحقيقة وأُعرِّفه برأي الجمعيات العربية في الأمر، واهتديت
إلى ذلك بسعي بعض معارفي من اليهود. وكان مما كاشفت به المعتمد الصهيوني
أن عزم جمعيتهم على شراء فلسطين من إخوانهم في الماسونية زعماء جمعية
الاتحاد والترقي قد بلغ زعماء العرب المشتغلين بالسياسة وترقية الأمة العربية،
وقرروا فيما بينهم أنه إذا تحقق هذا النبأ ووقع بأي شكل من الأشكال فلا وسيلة
عندهم لمقاومته إلا تأليف العصابات المسلحة من البدو وغيرهم لمقاومة هذا الاعتداء
على بلادهم بكل ما يمكن من وسائل المقاومة المعهودة عند الشعوب الأخرى في
أوربة بإغراء دولها الكبرى وإرشادها، وأنه خير لليهود إذا كانوا يريدون أن يكثروا
في البلاد العربية (فلسطين وغيرها) ويكونوا فيها أحرارًا آمنين متمتعين بما يتمتع
به سائر أهلها من الحقوق المدنية والشخصية أن يتفقوا مع زعماء العرب أنفسهم
على ذلك من وسائل ومقاصد، وأرى أن ذلك ممكن ... ولما فصلت له هذا الرأي
أعجبه وبلَّغه لجمعيتهم وظهر له أثر في مؤتمر (بال) الصهيوني إذ صرح بعض
أعضائه بالخطر الوحيد الذي يستقبلهم من قبائل العرب البدوية.
ثم ذاكرت في هذا الموضع زعيم الصهيونية الكبير الدكتور (وايزمن) بعد
الحرب العالمية والشروع في تنفيذ عهد بلفور في إثر مذكرات أخرى مع بعض
رجال الجمعية في مصر والقدس وقف هو على تفاصيلها كلها، وكان يريد المجيء
إلى مصر قبل الحرب للبحث فيه معي، ومما قاله لي أن رأيي في اتفاق العرب مع
أبناء عمهم العبرانيين ممكن غير خيالي بشرط أن يرضى به أمراء العرب وحكامهم
المستقلون ... ثم انقطعت المذاكرة في هذه المسألة لاعتماد الصهيونيين على قوة
الإنكليز في إعادة مُلك إسرائيل لهم، وكل منهما يمكر بالآخر.
خلاصة القول في قوة اليهود وضعفهم
خلاصة القول في اليهود أنهم شعب من أعظم شعوب البشر يمتازون
بخصائص في العلم والعمل والاقتصاد والاتحاد والتكافل والتعاون والحزم والعزم
ونظام خاص في عمل البر والمعروف والمكر والدهاء والصبر والثبات واحتمال
المكاره وعدم اليأس من مقصدهم الأسمى - وهو المُلك - وإن تعذرت أسبابه وعظمت
صعابه، وإذا كانوا لم ييأسوا في أشد العصور إذلالاً لهم، وأعتى الأعاصير في
تمزيق شملهم، فكيف ييأسون في هذا العصر وهم سدنة هيكل المعبود الأكبر للأمم
والدول العظمى وهو المال، وهم الذين استعبدوهم له، وما لهم بهذا المال في العالم
المدني من النفوذ والصحف والقدرة على الدعاية التي تقلب الحقائق، وتلبس الحق
بالباطل؟
ولكنهم على كل ما أوتوا من هذه القوى المعنوية، ليسوا بأولي قوة حربية؛
لأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) وقد
فقدوا ملكات الملك والاستقلال، وليس لهم من البراعة في الزراعة واستغلال
الأرضين عشر معشار ما لهم من استغلال النفوذ، فهم يعتمدون فيما يرومون من
الاستقلال في الوطن القومي في فلسطين على قوة الإنكليز تحميهم، وعلى استغلال
أهلها العرب في تعمير ما يسلبونهم من رقبتها بجعلهم أجراء فيها، ولا يهولن أحدًا
طلب عشرة آلاف من شبانهم الأمريكيين إذن حكومتهم لهم أن يذهبوا إلى فلسطين
لقتال العرب؛ لأن الذي جرَّأهم على هذا هو ظل الدولة البريطانية، لا ظل الدولة
اليهودية والراية الصهيونية، ولا شك أن الأمة العربية الحربية بالطبع أقوى منهم
مهما يكن جمعهم وهجرتهم، وقد جمع اليهود وعدوانهم أشتات الشعوب العربية في
أوطانها ومهاجرها، فاتفقوا على الدفاع عن عرب فلسطين وحفظ وطنهم لهم،
واجتمعت كلمة العالم الإسلامي كله على تأييدهم، بل الأمر أعظم من ذلك، ولا قبل
للدولة البريطانية بعداوة العرب والمسلمين، وإن كانت لا تزال مصرة على ظلمها
في فلسطين.
(12) لقد كان الخطر الصهيوني على هذه البلاد عظيمًا لو جروا فيه على
النهج الذي أشرنا إليه من أعمالهم في الأمم، من دس السم في الدسم، والصبر
الطويل، مع إخفاء القصد البعيد، بنصب الحبائل الاقتصادية لابتياع الأرض
بالتدريج، وجعل الهجرة إليها بالسير البطيء، ولكنهم استعجلوا، وقد يكون مع
المستجعل الزلل، واغتروا باستخدام القوة الإنكليزية وضمها إلى قوتهم، وقد يحبط
الغرورُ العملَ، وناهيك بغرور الماديين منهم بالمال، وغرور المتدينين منهم
ببشارات الأنبياء، وغرور السياسيين منهم بما أوتوا من المكر والدهاء، ثم ناهيك
بتأييد الدولة البريطانية لهذه القوى كلها بقوتها العظمى قوة التصرف في الأمم،
والنفوذ في الدول، إذ أعطتهم بها وطنًا من أوطان الأمة العربية التي تعدها من
ميراثها، وعند هذه الأمة من بشارة نبيها في الظهور على اليهود ما هو أصرح من
بشارات أنبياء اليهود المبهمة، كما صرَّحنا به في العام الماضي وسنعود إليه
بالتفصيل.
(وسنبين في الفصل الثاني من هذا المقال كنه حال الإنكليز وسياستهم مع
العرب واليهود) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(30/385)