الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما يسمى النهضة النسائية بمصر
وعدنا بأن نكتب شيئا في هذا الموضوع , فإن فساد النساء الذي يسميه دعاة
الإلحاد والإباحة نهضة تجديد قد تفاقم , واستشرى في هذه السنين حتى صار
العقلاء من أهل الدين , والصيانة يخشون أن يفضي في أقرب وقت إلى هدم بناء
الأسر والفصائل (العائلات) التي تتألف منها وحدة من الشعب المصري , وذهاب
ما بقي من مقوماته القومية والملية وذهاب الثروة والصحة في أثرها , وقد كنت
أتربص فرصة فراغ أبين فيها هذه الحقائق بعبارة لا تهيج عليَّ زنابير السفهاء
حماة هذا التجديد حتى رأيت المقالة الرابعة من سلسلة مقالات تنشرها في جريدة
السياسة نفسها امرأة أوربية فاضلة اهتدت إلى الإسلام، فإذا هي قد وصفت المرأة
المصرية بعد الاختبار وصفًا لم ينكر أحد عليها شيئًا منه للطفه واعتداله , فرأيت
أن أنشره بنصه , وهو:
المرأة المصرية
أتيت في مقالي السابق على ما كان للمرأة المسلمة من الشأن , وتنقلت بها في
جميع الأدوار التي مرت بالإسلام منذ بدئه إلى هذا العهد.
إلا أن لي كلمتين أقولهما عن المرأة المصرية في هذا العصر، وأختم كلامي
عن المرأة.
ولكي أقوم بهذا التحليل الذي أرجو أن يكون من ورائه فائدة لكل أخت
مصرية مسلمة؛ أرجو أن يقابل كلامي بشيء من روح التسامح، وأن ينظر إليه
نظرة ودية إصلاحية لا انتقادية عدائية.
فلتعذرني إذن القارئة إذا كنت أجرؤ على القول بأني لم أجد في المرأة
العصرية في مصر ما أستطيع أن أشيد بذكره , أو أتغنى بمحاسنه.
فكم كنت أتمنى أن أراها آخذة في دور الرقي الحقيقي , والحضارة الصحيحة
المؤسسة على روح الدين , وحب الفضائل والآداب الإسلامية التي لم أجد فيها ما
يحول دون التقدم المنشود , والتمشي مع التطور الاجتماعي كما أقمت الدليل على
ذلك فيما أسلفت من مقال , وقبل أن أبدأ في شرح وجوه النقص في التربية
الأخلاقية الحاضرة، أرى أن أقسم المرأة في مصر إلى ثلاث طبقات، أتكلم عن
كل طبقة بما استطعت أن أراه وأشهده، فإن رأى القارئ مني خطأ؛ فليتراكم
بتصحيحه , أو شططًا فليعذرني , وينبهني.
***
طبقة العامة
أستطيع أن أقول بوجه عام: إن هذه الطبقة من النساء لم تمتد إلى رؤوسهن
بعد يد العلم والتهذيب , ولا ما عداها من الفنون العادية أو الجميلة , وقليل منهن من
تفهم , أو تدرك معنى من معاني الرابطة الزوجية , أو التربية العائلية يخيم على ربوع
تلك الفئة الجهل المطبق بأبسط شؤون الحياة.
كما أنهن بعيدات كل البعد عن معرفة أمور دينهن حتى أكثرها بساطة
وسهولة! ! وتكاد نساء هذه الطبقة لا يفهمن من العيش أكثر من التمتع باللذتين على
نحو ما تعيش العجماوات في الغابات!
وما كانت كذلك البدوية الساذجة؛ فقد كان من بينهن من تقرض الشعر ,
وتستظهر القرآن , أو بعضًا منه , ولو كانت أمية، وكن على تمام التمسك بالدين
وآدابه , وتأدية فرائضه.
وما هكذا نساء هذه الطبقة في أوربا , فجلهن - إن لم أقل كلهن - يعلمن
القراءة , والكتابة ومبادئ الحساب والتاريخ والجغرافيا وغيرها.
حتى لتراهن يزاحمن الرجال في ميادين الخدمة , والأعمال الكتابية البسيطة.
فأين أختنا المصرية في هذه الطبقة من ربيبتيها العربية والأوربية!
***
(الطبقة المتوسطة)
أخذ أكثر فتيات هذه الطبقة بقسط من الثقافة والتهذيب , وكثيرات منهن
الآن يعرفن القليل من الموسيقى , وغيرها من الفنون الجميلة، وأرى أن هذا القدر
من التعليم يكفي لأن يجعل من الفتاة زوجة تعرف كيف ترضي بعلها، وأُمًّا
صالحة لتربية طفلها , وأغلب نساء هذه الطبقة يفهمن من آداب المجالس واختيار
الأحاديث , وإن كان لا يزال من بينهن من قد يحملك مجلسها على الملل في
بعض الأحيان خصوصًا إذا كانت من عشاق (المودة) والأزياء!
وفتاة هذه الطبقة لا تخلو من العلم بالمبادئ الدينية , وإن كانت الأغلبية قد
انصرفت عنها , وأخذت في التهاون والتفريط! …
إني لأقنع من المرأة الشرقية بهذا النصيب من الثقافة , وإن تفوقت عليها
الغربية في هذا المضمار، وأرى أن المسلمة في القرون الأولى لم تكن تفوق فتاة
هذه الطبقة علمًا وتهذيبًا , وإن سبقتها إلى الفضيلة والدين.
***
(الطبقة الراقية)
يجب أن أكون شجاعة إلى حد ما حتى أستطيع أن أخاطب صراحة نساء هذه الطبقة.
لا أنكر على الفتاة الراقية في مصر ما أحرزته من العلم والتهذيب , ولا كيف
تستطيع أن تنقل أناملها الرقيقة فوق (بلابل) البيانو , وأوتار العود! … ولا
يستطيع بصري أن يأخذ به بريق لآلئها البحرية، التي تخشع أمام در ثناياها اللؤلؤية,
ولا يمكنني أن أنكر عليها رشاقتها , وخفة حركاتها، ولا رطانتها بالفرنسية
والطليانية كأنها إحدى بنات روما والسين، ولا أقوى على مباراتها في تموجاتها فوق
مراقص (هليوبليس) ، و (جروبي) على نغمات (التانجو والشالستون) .
كل ذلك يا سيدتي العظيمة لا قبل لي على إنكاره والمكابرة فيه , فأنت قد
أصبحت أوربية؛ أوربية قلبًا وقالبًا، عادة ولسانًا، رشاقة وفتنة؛ ولكن اسمحي لي
كمسلمة أن أسألك بالله , ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أين إلى جانبك هذا
كله.. التمسك بالدين وتعاليمه! ..
قد انتهيت من التقسيم , ولكن بقي لي كلمة إجمالية أقولها بصراحة، وأرجو
أن أرى لي بعدها مشجعات لا ناقمات.
ها أنا (ذا) قد استعرضت أمامك يا سيدتي المصرية صورتك في طبقاتك
الثلاث؛ فلم أر الدين , ولا لآدابه في أخلاقكن أثرًا، وكأنه الكابوس على النفوس،
وكأني بكن تتمثلنه شبحًا مخيفًا مزعجًا يريد أن يهوي بكن إلى الظلمات , أو يرجع
بكن إلى عهد البرابرة والوحوش.
وإلا فأين تلك المرأة التي كانت لا تخرج من خدرها إلا نادرًا، ولا تزور
غيرها إلا غبًّا، وإن برزت في الأسواق فعلى صورة , وفي زي يخشع له نظر
الفاجر، ويرق له قلب العابد، ويكبره ويجله شباب الرجال قبل شيبهم؟؟
أين ذلك العصر الذي كانت فيه المساجد عامرة زاخرة بالمصليات الخاشعات
في مقاصير أفردت لهن خاصة في بيوت الله؟
أين تلك المرأة التي كانت إذا جلست من الرجل مجلسًا ملأت قلبه خشوعًا ,
وإجلالاً، وألقت عليها بنظراتها الطاهرة البريئة دروسًا بالغة في العفة.
بيض غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
دالت دولة تلك المرأة المتعففة الفاضلة، وأصبحت لا ترى في الأسواق إلا
كل بارزة النهدين، مزججة الحاجبين، مكحولة العينين، دامية الشفتين، عارية
السواعد والسيقان، متمايلة في مشيتها، مداعبة في نظرتها، متراخية متكاسلة،
حركتها تطمع، ونظراتها توقع، ثم دعك قليلاً من الطريق، وادخل معي دكانًا من
الدكاكين (الكبيرة) , وانظر هل ترى إلا بحرًا زاخرًا من الأجسام النسائية،
وسواعدَ ونهودًا وصدورًا عارية وضحكات كأنها نغمات الموسيقى أو أحلى، تستوي
في ذلك كله الثلاث الطبقات.
وأسمع أن هناك جمعيات نسائية، غير أني لم أر مع الأسف أثرًا جديًّا في
سبيل نهضة المرأة المصرية , والرجوع بها إلى حظيرة الفضيلة والدين، وصونها
عن التبذل والخلاعة، وإلا فمن من الرجال لا يشكو اليوم إسراف زوجه , وبناته في
الملبس والمسكن واقتناء الحشم، ومن منهم لا يشكو كثرة الخروج , والزيارات
وإنفاق الأموال في الملاهي والسياحات؟
وأين الفتاة أو والد الفتاة اللذان لا يشكوان إعراض الشبان عن الزواج
ورغبتهم عن البنات؟ وأين الكتَّابُ والأُدَبَاءُ والشعراء الذين يحضون بكتاباتهم
وخيالهم وأشعارهم على حب الفضيلة والعفة والتمسك بآداب الدين؟ ثم أين
المجتمع والخطباء الذين يبينون مواضع الضعف الأخلاقي وعلاجه ويرشدون
إلى مواطن الفضيلة والشرف؟
إني لا أرى الغرب يكتسح بمدنيته الخداعة كل ما بقي في هذه الديار من آثار
التقى , وآداب القرآن، وأرى النفوس تستعذب هذا الطريق , وتستمرئه، وتصبو
إلى المزيد منه , والتمادي فيه!
لم تتعلم المصرية من الغربية حب الاقتصاد , والتدبير في المنزل، ونظافة
الداخل، وتربية الأطفال؟
لم تقلدها في القبيح، وتقف جامدة أمام الحسن المليح؟
لِمَ لَمْ تنقل عنها خروجها يوم الأعياد والآحاد إلى المعابد والهياكل تصلي
وتذكر ربها قبل أن تنصرف إلى أماكن اللهو والنزهة.
وما لنا لا نبتدع إن كنا قد شغفنا بحب تقليد الغربيين إلى هذا الحد أناشيد
دينية , وألحانًا أخلاقية مستعيضين بها عن تلك (الطقاطيق) السخيفة المبتذلة تثير
في القلوب نشوة الدين، وتحث على التمسك بالفضيلة، وتزجر عن التمادي في
التبذل والغواية؟
ثم ما لنا لا نعمر بيوت الله بذوي الأصوات الشجية يرسلون مثل تلك الأناشيد
الدينية والأخلاقية على مسامع الشبان والفتيات قبل أو بعد الصلاة [1] ؟ وليس فينا من
يجهل تأثير النغمات على النفوس، ولعب الصوت الحسن بالقلوب , والعقول؛ فتنمو
فينا بذلك روح الطهر , وتزكو النفس، وتتهذب بالأخلاق، وتسمو بالرجل والمرأة
إلى أعلى مراتب الفضيلة!
سيدتي! الأخلاق الأخلاق، الفضيلة، العفة، كل أولئك لا تجدينه إلا في
دينك، ولا يمكن أن تري لك منزلة عالية في القلوب قبل المكانة التي تنشدينها في
المجتمع إلا بعد أن تتفهمي ما انطوى عليه دينك من حكمة عالية، وآداب سامية.
سيدتي؛ اعملي على تقويم الأخلاق، وأحبي الدين , والشريعة، وحضي
على التمسك بهما، ثم دعي بعد ذلك المرأة تخرج سافرة , أو مقنعة، تخالط الرجال ,
وتمشي في الأسواق، فلن تقع عيناك إلا على كل فاضلة عفيفة، ثم انظري هل
ترين رجلاً يبغي الزواج من اثنتين، أو شابًّا راقيًا يفضل عيش العزوبة على
الزواج من فتاة طاهرة نقية، أو حياة زوجية لا تسودها السعادة , ولا الهناء؟ ثم
انظري وانظري! ..
ألا إنما المرأة كشجرة، فاسقوها بماء الفضيلة وغذوها ببذور العفة واجتثوا
منها - وهي ناشئة - جراثيم التبذل والرذيلة، وأنموها على التقوى ومبادئ الدين،
فالمرأة إن سَمَتْ كانت مخلوقًا سماويًّا يوحي إلى الرجل كل عزيمة، ويبث في قلبه
روح التضحية وغيرة الرجولة وعبقرية العظماء.
فإن أحبت - ولست أجهل ما في الحب من سر قدسي - فهو عذري طاهر
كحب ليلى وقيس، وحب معنى لا مبنى، وهيام روح طاهرة إلى روح طاهرة
تجانسها , وتكمل ما فيها من نقص , لا حب بهيمي إرضاء لغريزة الحيوان.
فإن تزوجت فزوجة كخديجة تناصر زوجها وتؤازره، وإن أنجبت فبأمثال
عمر وعلي، وإن جلست من الرجال؛ فمجلسًا كمجلس عائشة.
وإن عملت فعلى طراز خالدة أديب التي قدم لها رجال تركيا كرسي وزارة
المعارف اعترافًا منهم لها بفضلها ويدها على النهضة التركية.
لا أريد لمصر امرأة كالتي قيل فيها: إنها أحبولة الشيطان , أو واحدة من
ثلاث من تجارة إبليس.
إنما أريد المرأة الطاهرة السماوية التي يخشع أمامها قلب الرجل كأنه يرى
فيها صورة الرحمن..!
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
... ... ... ... ... ... ... ... ... مدام رئيفة كامل
(المنار)
لا يوجد في أوربة كلها شعب أهمل التربية الدينية للإناث كإهمال مصر
شعبًا وحكومة وهي مع ذلك تبيح حرية الكفر والفسق كالرقص والسباحة مع
الرجال والزنا في بعض الأحوال فكيف يكون المآل؟
__________
(1) الصواب في مثل هذا التعبير أنه يقال: قبل الصلاة , أو بعدها.(28/380)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشيخ أحمد عباس الأزهري البيروتي
وفاته وترجمته
في يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر شوال هذا العام توفي الأستاذ العالم
العامل الشيخ أحمد عباس الأزهري في مدينة بيروت مسقط رأسه، وموطن عمله،
ودفن في مقبرة الباشورة باحتفال كبير يليق بمقامه.
وقد كتبت خبر وفاته مع الوعد بترجمته؛ لينشر في الجزء الماضي، ولم
أعلم بأنه لم ينشر لكثرة مواد الجزء إلا بعد صدوره.
كان الأستاذ صديقًا لي، وكان لي معه مجالس إصلاحية خاصة في زياراتي
الأخيرة لبيروت، ولكنه لم يكن يعلم فيما أظن أنني أفضله على جميع علماء بلادنا
في مجموعة معارفه، لا في كل نوع منها، ولا في علم , أو فن خاص امتاز به،
وفي إقدامه , وسعيه لنشر علوم الدين والدنيا , وفي وطنيته وقوميته.
لا أعرف أحدًا من علماء سورية كان خبيرًا بزمانه وأهله كما قال بعض
السلف في وصف العالم أو الفقيه , وكان بخبرته يهتم بأمر أمته ووطنه , ويحب
لهم أن يسابقوا غيرهم في العلم والعمل - إلا أستاذي الشيخ حسين الجسر , فصديقي
الشيخ أحمد عباس رحمهما الله تعالى , وكان الشيخ حسين أوسع من الشيخ أحمد علمًا,
ولكن الشيخ أحمد كان أنشط منه في العلم والسعي.
سعى الأول لإنشاء مدرسة وطنية في طرابلس تجمع بين العلوم الدينية
والفنون العصرية , وبعض اللغات الأجنبية التي تقتضيها ترقية التجارة والعلم ,
ثم سعى لأن تعترف الحكومة العثمانية بأنها مدرسة دينية يعفى طلابها من الخدمة
العسكرية , فلما لم تقبل الحكومة؛ سقطت المدرسة , وقضى الأستاذ بقية عمره في
تدريس فنون العربية والعلوم الدينية على الطريقة الأزهرية التقليدية مع نوع من
سهولة الإلقاء , والتنبيه الفكري , ولو ثبت على النهوض بإدارة المدرسة الوطنية؛
لأحدث انقلابًا كبيرًا في سورية.
وأما الشيخ أحمد عباس؛ فما زال يجاهد في هذه السبيل إلى أن قضى نحبه
كما ترى في ترجمته، وهو لم يلق من أغنياء سورية ولا بيروت , ولا من وجهائها ما
كان يجب عليهم من مساعدته.
ولو ساعدوه؛ لأمكن أن يستغنوا بسعيه عن مدراس الأجانب.
جاهد الشيخ أحمد عباس في سبيل نشر العلم بالتعليم نصف قرن , وقد احتفل
بعيده الذهبي في بيروت احتفالاً حسنًا لم يتح لنا الاشتراك فيه، وقد ألقى صديقنا
الأستاذ عبد الباسط فتح الله خطابًا في ذلك الاحتفال أودعه تاريخ الأستاذ المحتفل به ,
وهو أجدر الناس بذلك علمًا واطلاعًا وحسن بيان، فنحن ننشر هذا التاريخ
بنصه في المنار مع تغيير ألفاظ قليلة جدًّا اقتضاها الفرق بين الكلام عن رجل في
حياته , ثم بعد وفاته , وهو:
مولد الأستاذ ومنشؤه
كان مما تركته الحملة المصرية التي اكتسحت الديار الشامية سنة 1245هـ
بقية صالحة تأصلت في ثغر بيروت؛ فنشأ منها فرع أزهر , وأثمر، وانتظم البلاد
خيره.
العباس بن سليمان من جند إبراهيم باشا ابن محمد علي الخديوي تزوج
ببيروتية من بني الشامي؛ فرزق منها عدة أولاد صفوتهم (أحمد) الذي لبس حلة
الوجود عام سنة 1270 هجرية؛ فكان شعلة من نور أضاءت بيت والد فقير , فلما
بلغ الخامسة من عمره؛ أدخله إلى الكتاب , فقرأ القرآن الكريم على الشيوخ الحفاظ
المجودين، واستظهر منه بضعة أجزاء , وفي السنة العاشرة دخل المدرسة الرشدية
التي أنشأها المرحوم الشيخ حسن البنا حيال سنة 1280 , وهي أول مدرسة
إسلامية عصرية سماها صاحبها بالرشدية قبل أن تنشئ الدولة مدارسها المعروفة
بهذا الاسم نسبة إلى راشد باشا والي سورية لذلك العهد , فتعلم الخط والحساب ,
وكان من شيوخه فيها علامة الفقه والأدب المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب.
إلى ذلك الزمن ظل العلم عزيزًا , والعلماء نادري الوجود , والناس ولا
سيما المسلمون في هجعة قطعت صلتهم بالماضي، وتراكمت على فكرهم سحب من
الجهل حجبتها عن التطلع إلى المستقبل، فظلوا في فترة من العلم حتى نبغ
الأستاذان الفاضلان الكبيران الشيخ محمد الحوت , والشيخ عبد الله خالد قدس الله
روحيهما، فصاحا بالقوم صيحة أيقظتهم من سباتهم، وزحزحتهم عن مضاجع
غفلتهم، وجعلا ينيران بدروسهما عقول الكافة، ويثقفان عقول النابهين من الخاصة،
حتى استرشدوا , وأحسوا الحاجة إلى العلم؛ فهبوا لطلبه، وكان آنئذ بدء النهضة
العلمية في الطائفة الإسلامية في بيروت.
ثم أراد العلامة الناهض الشيخ عبد الله خالد أن يتوسع في نشر العلم , فاقترح
على زملائه والنابهين من تلاميذ قرينه العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير انتخاب
طائفة من نجباء تلامذة الرشدية , واختصاصهم بدروس توسع ما أدركوا من علوم
الدين , فتزيدهم معرفة بالعلوم العربية؛ ليتسنى لهم أن يخدموا الأمة بنشر العلم فيها
عملاً بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) فارتاح الأساتذة إلى هذا
الاقتراح , واقتسموا المنتخبين , فكان (أحمد) من نصيب الأستاذ الأديب الشاعر
الشهير السيد عمر أنسي؛ فلزم دروسه , ووجد فيه السيد عمر أنسي نباغة ,
وحرصًا على التحصيل , فزاده من عنايته حتى فاق رفاقه , وصار يذاكرهم الدرس
عندما كان يغيب الأستاذ الذي شغلته تجارته بعد حين عن مواصلة التدريس في
الأوقات المعينة.
واتفق أن الأمير محمد أرسلان صادف الشيخ عمر , ومعه تلميذه الصغير
(أحمد) يماشيه , فسأله عنه , فعرفه إليه , وأثنى عليه , فجعل الأمير يباحثه في
بعض مسائل النحو , وهو يحسن الجواب حتى التفت الأمير إلى الشيخ عمر , وقال
له: جدير بتلميذك أن يدخل الأزهر , فكان لهذه الكلمة أثرها في نفسه , وبعد قليل
يمم الأزهر أحد رفقائه في طلب العلم , وهو الشيخ خضر خالد , فهاجت رغبته
الكامنة , واشتد شوقه إلى ورود ذلك المورد العلمي العظيم غير أن أباه الفقير كان
كثيرًا ما يمنعه من الانقطاع إلى الدرس في نفس بيروت للاستعانة به على الكسب ,
فكيف إذا سأله السفر , وما يستلزمه من النفقة؟ فجعل يستنجد بأستاذه؛ ليبلغه
مقصده، والأستاذ الأنسي يقول له: رويدك لا يصبر على الأزهر إلا كل ضامر
مهزول. فيجيبه (أحمد) : وهل أنا إلا ذلك الضامر المهزول؟ واتصل الخبر
بالسري الأديب المفكر الناهض السيد حسين بيهم , فأجرى عليه وظيفة شهرية من
ريع لأسرتهم كان موقوفًا على عمل الخير , ثم انتدب الشيخ الأنسي , ورفيقه الشيخ
عبد الرحمن الحوت , فهونا الأمر على والده , وأقنعاه؛ فأذن له , وفرض على
نفسه مبلغًا أضافه إلى ما رتبه المرحوم السيد حسين بيهم , وولى أحمد وجهه شطر
الجامع الأزهر سنة 1285هـ , فعكف على التحصيل مدة ست سنين , فنال من
فضل الله بجده ما لم ينله غيره في مثلها من الزمن.
والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار
فتلقى علوم العربية وآدابها من خواص مدرسيها لذلك العهد كالشيخ المرصفي
والأشرافي والإبياري والبابي الحلبي، وأخذ الشريعة على مذهبي الإمام محمد بن
إدريس الشافعي , والإمام أبي حنيفة عن أعلام علمائها (الأشموني والعز والرافعي
ومنقاره) , واضطلع بالعلوم العقلية والنفسية والتصوف بين يدي جهابذتها حكيم
الشرق السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ أحمد البابي الحلبي والشيخ محمد الولي
الطرابلسي.
وعندما كان يأتي بيروت أثناء العطلة الأزهرية لم يكن يقضي أيامه في
الاستراحة , بل كان يتزود في المنطق والأدب من دروس العلامة الشيخ يوسف
الأسير رحمه الله.
وبينما هو على وشك الفراغ من التحصيل أصابته في السنة الخامسة مصيبة
كادت تعجله عن الإتمام؛ إذ توفي أبوه , ففقدت أسرته المعين , وأعوزته النفقة،
فاضطر إلى ترك الأزهر في بدء السنة السادسة , وقفل راجعًا , وحل ضيفًا على
رجل المروءة والإحسان المرحوم سعد الله بك حلابه بالإسكندرية , فسأله عن
أسباب عودته في غير ميعاد العطلة , فنبأه بخبره، وما كاد يتم قصته حتى نقده -
تغمده الله برحمته - مبلغ الراتب الذي كان يرسله إليه أبوه عن السنة كلها , وأمره
بالعود , وإتمام التحصيل , فأحسن له الدعاء , وعاد؛ فأتم , ونال إجازات التدريس
سنة 1219 من أساتيذه في العلوم التي تعلمها (بعد التحصيل) .
تلك المرحلة الأولى من حياة الأستاذ الرئيس , وهي في كثير من ماجرياتها
تشبه حياة أكثر العصاميين , فأين مميزات ذاته ومقومات ماهيته التي ترتسم بها
صورته الخاصة في أذهان المعاصرين، ويحتفظ بها لوح التاريخ؟
لا جرم أنه يسهل على الإنسان تصور حقيقة ما كما هي كلما كانت أقرب إلى
السذاجة , فإذا تشعبت وعلت مرتبتها في الوجود عز ضبطها , فتفاوتت صورها
في الأذهان بتفاوت المدارك ووسائل التصوير، من أجل ذلك نرى الناس يختلفون
في وصف الرجل الواحد من العلماء , والمفكرين المصلحين.
فكل يرسم له صورة حسبما وصل إليه من خيره، وقلما يصيب الحق فيه
واصف؛ لما يعترضه من وعورة الرواية , واختلاف أهواء الراوين، وفي هذه
الحال لا يبقى إلى معرفة الحقيقة غير سبيل واحدة , وهي النظر في العمل؛ لأن
الأعمال هي وحدها مرآة الرجال الصافية التي تحتفظ من حقائقهم أمثل صورة ,
وأصدق مثال، فهلم نستقرئ شيئًا من أعمال شيخنا التي تتجلى فيها صورته
المعنوية الخالدة.
نرى للمعاهد العلمية الكبرى أثرًا خاصًّا تطبعه في نفوس واردها بقصد , أو
بغير قصد؛ حتى ليدركه البصير في نقد الرجال أثناء المعاملة أو المذاكرة والمباحثة
غير أن الأزهر - وإن اتحد أثره في الأزهرين من حيث التحقيق في البحث
والاستقصاء في التقرير إلا أن له آثارًا مختلفة من حيث العمل بالعلم والاستفادة منه -
فترى في الأزهريين المجتهد العامل الذي استعد عقله للجري على نظام التجدد ,
وقبول الحقائق التي يقررها العلم الحديث , وتأهلت نفسه لسلوك سبل الحياة سهلها
وحزنها، كما ترى فيهم الجامد والخامل الذي لا فرق بينه وبين الصحيفة تؤثر فيها
المطبعة , أو يد الخطاط , فلا تعود تقبل الزيادة، ويعتريها النقص بما ينتابها من
عوارض الطبيعة، ثم هي تستقر حيث تلقى لا تغيير , ولا تبديل حتى يدركها الفناء،
فمن أي الفريقين جاء الأستاذ الرئيس؟ كأني بكم تقولون معي: من الفريق الأول ,
ولا ريب.
عاد من الأزهر إلى بيروت سنة 1291 هجرية , وكان العلامة العامل الكبير
المعلم بطرس البستاني قد أنشأ مدرسته الوطنية , وازدحم فيها الطلبة من كل ملة ,
فدعا الأزهري الجديد إلى التدريس فيها , واختصاص التلامذة المسلمين بدرس
ديني. فلبى الدعوة , وقام بالعمل إلى آخر سنة 1294 حيث صرفت المدرسة
تلامذتها , وأقفلت بسبب انتشار الهواء الأصفر، وهكذا أصبح الأزهري بلا عمل ,
فماذا فعل؟ لم يكن ثوبه العلمي ليمنعه من كسب الرزق الحلال من موارده
المشروعة , فاتخذ له دكانًا , وجهزها بما استطاع من البقول والأثمار , وقعد يبيع ,
ويشتري كعامة الناس، ومر به الوجيه الورع المرحوم الحاج محيي الدين بيهم , فعز
عليه أن يرى الشيخ الفتى يحترف الحرفة المبتذلة , فدنا منه , وقال له: أرى أن هذا
غير لائق بك. فأجابه: أرى أن هذا أليق من التسول للقيام بأود الأهل , وبعد قليل
من الزمن - أي: في سنة 1295 - دعاه الأمير مصطفى أرسلان إلى التدريس في
المدرسة الداودية في (عبية) , فلبى دعوته , وظل يعمل هناك بجد وإخلاص مدة
ثلاث سنين آخرها سنة 1298.
وكان من تلاميذه ثمة المحامي المشترع المرحوم عباس حميه , والأفاضل
محمود بك تقي الدين مدير المعارف السابق , وسامي بك العمار وثامر بك
العمار وفرحات بك حمادة وغيرهم , ثم ترك الداودية ليتولى إدارة مدرسة المقاصد
الخيرية التي تأسست في بيروت سنة 1299 بعناية أبي الأحرار المرحوم مدحت
باشا , وصديقه الكبير رائف باشا متصرف بيروت، ثم انتخب لتدريس العلوم
العربية والدينية في المدرسة الرشدية العسكرية سنة 1300.
ولما افتتحت جمعية المقاصد الخيرية مدرستها السلطانية عام 1302؛ دعته
إلى التدريس فيها , وتولى نظارة السلوك كما دعت الأستاذ علامة سورية المرحوم
الشيخ حسين الجسر إلى تولي إدارتها؛ فقام بالوظيفة خير قيام مع محافظته على
التدريس في الرشدية العسكرية حتى كاد لا يكون له ساعة للراحة.
في المدرسة السلطانية عرفنا في الأستاذِ الرئيسَ الناظرَ البعيد النظر،
والرقيب الشديد الحذر، والمربي الحكيم يحسن سياسة النفوس، حتى إذا ما
استقامت على الطريقة بث فيها روح التقدم وساقها إلى أنبل مقصد من مقاصد العلم ,
وأمثل غاية من غايات العمل.
في المدرسة السلطانية كان أول من (شنف) آذاننا , وشغل أذهاننا بهذه
الكلمات الذهبية: حب الوطن، الغيرة على الأمة، والاستعداد للمستقبل، المجد،
النهوض، الاعتماد على النفس، إلى أمثالها من الفرائد الكريمة التي كان ينسج منها
خطبه , ومواعظه، ويشعل بنارها أفئدة النشء الذي كان يربيه , ويعده؛ لخدمة ملته
وبلاده.
لم تطل إقامته في المدرسة السلطانية؛ لما اعتور إدارتها من تأثير السياسات
المختلفة , فاستقال من خدمتها سنة 1304 , ولما كانت همته وعصاميته تأبى
الارتزاق من موارد الكسل؛ انصرف إلى تجارة الكتب؛ لكيلا يفارق العلم في أيما
عمل متأسيًا بأستاذه البابي الحلبي صاحب المطبعة والمكتبة المشهورة , وأسس في
تلك السنة مكتبته العثمانية , ومع ما في ظاهر هذا العمل من النفع الخاص , فقد خدم
به العلم؛ إذ حبب المطالعة إلى كثير من الناس , وزاد في رغبة الراغبين فيها بما كان
ينتقي لهم من التآليف الحسنة في كل فرع من الفروع على أن تجارته هذه لم تكن
لتغفله عن غرضه الأسمى من إصلاح النفوس بالوعظ والإرشاد والتربية والتعليم؛
لذلك ما كان ينفك عن إلقاء الدروس في المسجد الجامع العمري.
تلك الدروس التي كان يرمي فيها إلى تهذيب الأخلاق التي إنما يكون المسلم
بها مسلمًا , بل الإنسان إنسانًا، وتفقيه الكافة في الدين، وتنوير عقولها بمواعظ
التاريخ الإسلامي، ومناقب الرسول صلى الله عليه وسلم , وصحابته الكرام رضي
الله عنهم، ولمثل هذه الغاية من الإصلاح كان سلك غب عوده من الأزهر الطريقة
الشاذلية، وعمل جهده على ضبط أفكار مريديه من العامة بضابط الشرع، وشحذ
قرائح المعلمين منهم بآداب التصوف، وقاية لأولئك من الشذوذ الذي قلما يسلم منه
السالك الجاهل، وصونًا لهؤلاء من الجمود الذي يستولي على الطالب الواقف عند
ظواهر الفقه دون النفوذ إلى أسراره المتعلقة بكمالات الروح , وتهذيب النفس،
على نحو ما أشارت إليه هذه الكلمة الحكيمة: (الطريقة بلا شريعة باطلة،
والشريعة بلا طريقة عاطلة) [1] .
ثمان سنين مضت على الأستاذ في المكتبة دون أن يفارقه الفكر في خدمة
الأمة من أقرب الطرق بأنجع الوسائل خصوصًا وقد رأى (بعد) ما عرى المدرسة
السلطانية من القلب , والإبدال في المبدأ والمقصد أن الخطب يتعاظم , والخطر يشتد.
تنبه المسلمون للعلم بصحبة القطبين الجليلين: الحوت , وخالد، ثم اندفعوا
إلى تحصيله من الطريق الوطني الإسلامي الذي اختطته لهم جمعية المقاصد الخيرية
أسوة ببقية الطوائف المواطنة؛ ليجاروها في حلبة المدنية.
بيد أن الحكومة السابقة التي كانت تخصهم من مراحمها بالقسط الأوفر أخذت
عليهما هذه الطريق , وصدتهم في بدئه عن بلوغ غايته؛ إذ حولت المدرسة
السلطانية إلى معمل موظفين؛ فارتدوا حيارى , وسبل العلم متفرقة , ومناهله
مختلفة لا يدرون أي سبيل يسلكون، ولا أي منهل يردون، وألحت بهم الحاجة إلى
مدرسة يعتاضون بها عن المدرسة الوطنية التي فقدوها، فمن لهذا الأمر العظيم غير
الكفء الندب العظيم؟
دفعت الغيرة والحمية أستاذنا لسد هذه التلمة , فترك تجارة الكتب سنة 1312
استعدادًا لإنشاء المدرسة المنشودة , وكاشف بالأمر صديقه المفضال صاحب السعادة
السيد عبد القادر أفندي قباني , فوجد عنده من الشعور مثلما كان يجد هو في نفسه
حتى إن سعادته ارتاح إلى مشاركته في رأس المال.
وهكذا تيسر له سنة 1313 هجرية فتح المدرسة التي سماها بالعثمانية تعوذًا
من شر.
ودعاني إلى ما أحب من الخدمة؛ فلبيت , وسعدت بموازرته زهاء عشرين
سنة، ومنذ ذاك دخل الأستاذ الرئيس في طور من الجهاد الأدبي لا يحتمل المقام
وصف مصاعبه ومتاعبه.
جرت المدرسة العثمانية على نظام عصري في الإدارة والتدريس لم يعهد
بمثلها في المدارس التي ينفرد بتدبيرها شخص واحد حتى زهت في برهة يسيرة ,
وانتشرت شهرتها في الآفاق؛ فأمتها الطلبة من أقاصي البلاد الإسلامية فضلاً عن
الأحياء السورية، ثم اتسعت دائرتها , وجمعت داخل محيطها أقسام التعليم الثلاثة:
الابتدائي والاستعدادي والعلمي عدا روضة الأطفال، وبهذه صارت كلية وأخرجت
للأمة من الشباب الناهض الذي انطلق يؤدي ما وجب عليه لأمته من خدمة
المدنية في فروع العلم التي حصلها في الكلية الإسلامية، ثم اضطلع بها في جامعات
بيروت وأوربا , فكان منه الأديب الصحافي والطبيب والصيدلي والحقوقي والتاجر،
وبالجملة فإن تلامذة الكلية الإسلامية إن لم يرفعوا أمتهم إلى ذروة المجد؛ فقد
قربوها من المنزلة التي تليق بها بين أخواتها في الوطنية من الأمم الراقية.
هذا ومن الأماني الإصلاحية التي كانت تشغل قلب الأستاذ الرئيس التوفيق
بين مقتضيات العلوم الحديثة , ومقررات العلوم الدينية.
كان يزعجه ما يرى من التباين في الرأي بين بعض تلامذة المدارس
العصرية , وبعض طلبة العلوم الدينية؛ لجهل كل من الفئتين بعلم الفئة الأخرى ,
وخاف على الجهود المبذولة في سبيل نهضة الأمة أن يحيط بها هذا الخلاف ,
ويحبطها إلى عكس المقصود منها، فهم بتلافي الأمر , فوسع قدر ما أمكن دروس
العلوم الدينية من فقه , وتوحيد , وأضاف إليها درسًا في علم الأصول، ثم حاول
إنشاء دائرة خاصة بمريدي الاختصاص في العلوم الدينية شرط أن لا يقبل فيها إلا
من اضطلع بالعلوم العصرية , وأحرز (إجازة البكلوريا) .
ولما كانت واردات المدرسة لا تتسع للإنفاق على هذه الدائرة رأى أن يستنجد
المشيخة الإسلامية؛ فسافر إلى الآستانة سنة 1913 , وعرض عليها الفكر؛
فأعجبت به , ونقلته إلى رجل الدولة إذ ذاك (أنور باشا) , فحبذه أيضًا , ووعد
بتخصيص ألف ومائتي ليرة تدفع مشاهرة معاونة لهذا المشروع [2] .
غير أنه لم يدفع منها سوى قسط واحد , ووقعت الحرب العالمية؛ فبدلت
الخير شرًّا، وانقلبت المعاونة إلى مضايقة وإحراج , وانتهى إلى إقفال المدرسة ,
ونفي الأستاذ الرئيس إلى إستانبول , ووضعه هناك تحت المراقبة كما هو معلوم،
على أن الكلية ومشاغلها العظيمة ما كانت تستغرق همته، وما كانت عزيمته لتقف
عند حد من الخدمة، فقد كان لا يدع فرصة تسنح إلا اغتنمها للقيام بعمل مفيد، وإن
أنس لا أنسى دهشتي , وقد دخل علي المخزن [3] يومًا من أوائل أيام الدستور
العثماني , وفي يمينه أسطوانة من الورق , فقلتُ له: يا أستاذ , ما تلك بيمينك؟
فألقاها إليَّ , وإذا هي ثلاث استدعاءات بطلب ثلاث رخص بإنشاء جريدة ومجلة
ومطبعة.
إلى ذلك اليوم كنت أحسب نفسي أعرف الناس بمبلغه من علو الهمة ,
والإقدام، ولكن استصغرت نفسي , واستضعفت إدراكي؛ عندما ظهر لي أن همته
لا تحد بحد، وأن إقدامه لا يقدر بمقدار.
***
آثاره العلمية والأدبية
إن ما تقدم بيانه من المهام التي شغلت قلب الأستاذ , وجوارحه منذ برز
لمعركة الحياة كانت تكفي لإشغاله عن سواها من الكتابة , والتأليف غير أن احتماله
أعباء التدريس حمله على وضع عدة كتب نافعة في علوم الصرف والبلاغة
والمنطق وأحوال الفقه [4] على أسلوب يقرب هذه العلوم الرياضية والطبيعية واللغات
وآدابها.
وكان شرع في تصنيف كتاب في تاريخ آداب العربية , وأملى منه عدة
فصول على تلامذته، فلما ظهر كتاب (الوسيط) الذي وضعه الأستاذان الفاضلان
الشيخ أحمد الإسكندري , والشيخ مصطفى عناني في مصر وجده وافيًا بالغرض؛
فاعتمده في تدريس هذا العلم , وأجل إتمام كتابه.
أما مكانته من الشعر , وفنون الأدب , فيكاد لا يجهلها أحد , فقد صور شهامة
العرب ومكارمها , وعواطف القلب البشري , وأهواء النفس في رواياته البليغة:
السموأل والسباق، وذي قار، وفتاة الغار، التي تكرر تمثيلها , وشهدها الألوف من
الناس؛ فراقهم حسن سبكها , وما رصعت به من الشعر الجزل , والأمثال الحكيمة
التي للمسامع , والقلوب (كذا) .
***
أثره الأكبر
على أن للأستاذ أثره الخالد , وتأليفه الحي النامي الذي أبدعته عزيمته
الماضية، وتعاهدت تنسيقه , وتنميقه قواه العقلية والبدنية تعضدها مزاياه النفسية
من حزم , وثبات , وإخلاص، ذلك الأثر الذي اتخذ له من عقول النابتة وقلوبها
صحائف حساسة أودعها ما شاء أدبه , وشاءت الوطنية والمدنية من كل علم
وفضيلة , ثم هو لم يفعل بها فعل المؤلفين يجمعون صحفهم بين دفتين، بل فرقها في
الآفاق تشع النور والعرفان، وتنمو , وتكثر ما تعاقب الملوان، وأضاء النيران
(عنيت المدرسة) {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 4) .
(المنار)
يظن بعض الناس أن قصر مدة مجاورة الشيخ أحمد عباس في الأزهر يدل
على أنه لم يكن من علماء الدين بكل ما في هذا اللقب من معنى، ونقول: إن
اشتغال طالب العلم الذكي بتلقي العلوم الأزهرية بضع سنين , وتلقيه فيها عن
علماء أذكياء كالشيخ المرصفي , وغيره من شيوخ فقيدنا كاف لتحصيل القدر
الكافي من هذه العلوم الذي يمكن صاحبه من الإخصاء بنفسه في كل ما يريده منها ,
ولتحقيق كل مبحث يريد الإحاطة به من مباحثها , ولو أنه مكث بضع عشرة سنة في
دراسة تلك الحواشي , والتقارير المعلومة , والغوص في مناقشاتها؛ لغرق في بحر
من الخيال تتقاذفه أمواج الأوهام والشكوك , ولم يخطر في باله خدمة أمته بمثل ما
خدمها به.
وأما الذي أذكى مصباح استعداده للعمل والسعي للنهوض بالأمة فهو حضوره
بعض مجالس السيد جمال الدين الأفغاني , ثم قراءته لصحيفة العروة الوثقى
التي كان يصدرها هذا الحكيم بقلم مريده وصديقه الأستاذ الإمام رحمهم الله أجمعين.
__________
(1) المنار: إذا أريد بالطريقة هذه النظم المعروفة المنسوبة إلى المتصوفة كما هو الظاهر؛ فهو مراد باطل، وإذا أريد ما هو أعم , وهو الاهتداء بالشريعة عملاً وحالا؛ فالمراد صحيح.
(2) المراد أن المبلغ المذكور إعانة سنوية , ولكنها تدفع مشاهرة كل شهر مائة ليرة.
(3) محل تجارة صاحب الترجمة.
(4) أي: قسم العبادات من الفقه.(28/386)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسلمون في أميركا يطلبون أستاذًا من الأزهر
وقفنا على الكتاب الآتي الذي أرسل إلى شيخ الأزهر بوساطة وزارة الخارجية
المصرية , ولم نعلم ماذا كان من أمر الجواب عنه، وهذا نصه:
226 يونيون هول جمييكا. ل. ا. مدينة نيويورك
صاحب الفضيلة المفتي الأكبر شيخ الجامع الأزهر القاهرة القطر المصري.
أود أن أبين لفضيلتكم - معبرًا ببياني عن عواطف الكثرة من السكان -
الحالة الدينية السيئة التي تحيط بمسلمي هذا القطر خصوصًا المتزوجين منهم
العائلين للأطفال , ليس لقومنا إمامة دينية تهديهم، الرجال أحرار في معتقداتهم ,
ولهم أن يصدقوا ما يشاءون , وليس للشبان فضيلة إلا أنهم مسلمون صادقون، أما
الأطفال فيشبون جاهلين بميراث أسلافهم , وبمبادئ الدين لا جامع , ولا مدرسة
تؤويهم.
أما الأساتذة القليلون الذين يفدون إلى هذا القطر , فإن مكاسب التجارة تغريهم
بمجرد وفودهم؛ فيهجرون التعليم , ويقبلون على الدخول في غمار المتاجرة ,
وحينئذ ينبذ عامتنا فكرة تلقي الهدي الروحي عنهم، وقد أصبحوا رجال أعمال مثلهم.
ومن الممكن أن نثق وثوقًا صحيحًا أنه إذا تحسنت أحوال الأسر التي يجرى
فيها الدم الإسلامي؛ فإن عدد المسلمين يزيد زيادة عظيمة , ويكون ذلك يومئذ أجل
المكافأة للجهود التي تبذل في هذا الصدد، ولقد حاول القوم كثيرًا أن يُنْشِئُوا عدة
مراكز للعمل، ولكن لم تكلل تلك الجهود بالنجاح؛ لعدم وجود قيادة ذات سلطة ,
ولضعف الإلمام بأحوال القطر المحلية.
هذا , وهناك رغبة ظاهرة تقضي بتسيير الأعمال في حدود الدائرة الوطنية ,
مع إهمال روح الإسلام العامة إهمالاً كليًّا؛ فلذلك يمكن أن يجني المسلمون
الأميركيون من جراء توحيد جهودهم أكبر الفوائد.
وليكن من المفهوم يا صاحب الفضيلة أن عريضتنا هذه ليس لها أية صبغة
سوى الصبغة الدينية، وأن قضيتنا ما هي إلا قضية قوم ذوي دين خاص يريدون
لهم أستاذًا هاديًا.
والآن قد رغبنا في إيجاد وحدة دينية , فإنا نلتمس بهذا أن تكون حاجاتنا
المساسة المستعجلة موضع التروي والفحص منكم , وأن يبعث إلينا أستاذ معلم يعرف
أحوال هذا البلد , ويبقى بيننا حتى تصبح هذه الجماعة قادرة على إخراج أساتذتها.
15 نوفمبر سنة 1926 ... ... (إمضاء) حسين أديب
نيويورك، الولايات المتحدة ا. ل. ... ... الداعي الأول
... ... ... ... ... ... أسماء وعنوانات بعض العاملين معه
__________(28/396)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المطبوعات الحديثة
(مفتاح الخطابة والوعظ)
كتاب في العقائد والعبادات والأخلاق والفضائل وآداب المعاملات الشرعية
للحكام وسائر الناس، صنفه صديقنا الأستاذ الشيخ محمد أحمد العدوي أحد علماء
الأزهر المشتغلين بالسنة، ومدرسي القسم العالي فيه، ووعاظ المساجد الرسميين؛
ليستعين به في وعظه وخطبه، ويكون خير مادة لغيره من خطباء المساجد
وغيرهم من الواعظين، ومباحثه تدخل في بضعة عشر كتابًا: الإخلاص، العلم،
العقائد، الأخلاق، الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، المعاملات
المدنية، النكاح، الجهاد، القضاء، والولايات، المنكرات الظاهرة، وختمها
بالكلام في التوبة وما تنال به سعادة الدارين، ولم يسمه كتابًا.
وفي كل كتاب من هذه الكتب فصول فيما تشتد حاجة جميع المسلمين إلى العلم
به؛ ومادتها كلها من الكتاب والسنة التي يحتج بها.
يبتدئ كلاًّ منها بالآيات معدودة معزوة إلى سورها، ويقفي عليها بالأحاديث
النبوية مقترنة بأسماء مسنديها إلى النبي صلى الله عليه وسلم معزوة إلى مخرجيها
من كتب حفاظ السنة وجامعيها لا يزيد على ذلك إلا تفسير بعض الألفاظ التي يحتاج
الجمهور إلى تفسيرها في حواشي الكتاب.
عرض المؤلف كتابه هذا على وزارة الأوقاف لتقرر إرشاد خطباء المساجد
التابعة لها ووعاظها على الاستعانة به على عملهم؛ فندبت لجنة من كبار علماء
الأزهر لفحصه، ثم قررت (تحت رقم 1282 سنة 1341) : (إن هذا الكتاب
صالح لأن يكون مادة يستعين بها الوعاظ والمدرسون في إلقاء مواعظهم، ودروسهم) .
بعد هذا طبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا متقنًا على ورق جيد في سنة
1344، فبلغت صفحاته 212 بقطع المنار، وثمن النسخة منه عشرة قروش
يضاف إليها أجرة البريد، وهو يطلب من مكتبة المنار، فننصح لكل مسلم قارئ أن
يتخول نفسه بمواعظه وحكمه.
***
(الأخلاق والواجبات)
(مباحث في القرآن والحديث، الأخلاق والإيمان، الأخلاق والعبادات، الدنيا
والآخرة، الخير والواجب، الواجبات الشخصية، الواجبات العائلية، الواجبات
الاجتماعية، الواجبات المدنية، ستون آية وحديثًا) .
صنف هذا الكتاب صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي الطرابلسي
الشهير، وعضو المجمع العلمي بدمشق، وكان قد اقترحه عليه، ورسم خطته له
الأستاذ ساطع بك الحصري مدير المعارف في العراق أيام كان مديرًا للمعارف في
سورية في فترة استقلالها القصيرة، قال المؤلف في فاتحته بعد بيان الحاجة إلى
مثله في هذا العصر التي كنت سبب الاقتراح ما هو أصح وصف له قال:
(ورغب إلى أن أضع كتابًا مدرسيًّا في تهذيب أخلاق الناشئة الإسلامية يجمع
بين حاجة المربي والمعلم؛ فيستعينان به على ما هم بصدده من تربية الأحداث،
وتكوين أخلاقهم، وفائدة المتعلم؛ فيجد فيه كلمات جامعة، وأقوالاً في الحكم
والآداب رائعة، تكون عونًا له إذا راعاها على تهذيب نفسه، وتقوية ملكاته، وإن
اقتصر فيه من المنقول والمأثور على اقتباس ما ورد في الكتاب السماوي والحديث
النبوي. اللهم إلا ما جاء عرضًا من أقوال الحكماء مما يلتحم معناه في معنى الآية
والحديث، وأن أفرغ ذلك كله في أسلوب سهل المأخذ، قريب التناول، وأعلق عليه
من الشرح والتفسير ما تستدعيه الحاجة، ويتطلبه ذهن المطالع) ثم ذكر أنه احتذى
في تأليفه هذا المثال الذي رسمه، ووضعه ساطع بك له، وزاد عليه مقدمة في مباحث
القرآن، والحديث (توسع المطالع بيانًا، وتزيده رسوخًا وإيمانًا) .
وكنا قد اطلعنا على طائفة من هذا الكتاب قبل طبعه، وانتقدنا على صديقنا
المؤلف عدم ذكر مخرجي الأحاديث التي جمعها فيه، وعدم تحري الصحيح،
والحسن منها، فأجاب عن ذلك في خاتمته بمثل ما كان كتبه إلينا في كتاب خاص
قال:
(ولم نعن بتخريج هذه الأحاديث، ولا بينا درجتها قوة وضعفًا؛ لأن مواقف
كتابنا خطابية مراعى فيها التأثير في نفوس المخاطبين، وقد يوجد فيهم من إذا سمع
أن الحديث ضعيف؛ فترت همته عن العلم به، ولم يكترث لموضوعه.
على أن كتابنا هذا لم نؤلفه في فن الحديث؛ وإنما ألفناه في الفضائل، وهذه
يتسامح فيها، ويستشهد لها بأي حديث كان اللهم إلا الحديث الموضوع الذي خلا
كتابنا هذا منه، والحمد لله) اهـ.
ونقول: إن هذا الإطلاق غير مسلم، فإن الحديث الواهي الشديد الضعف أو
النكارة لا يقول أحد بالعمل به، بل اشترطوا للعمل بالضعيف الذي لا يصل إلى هذا
الحد شروطًا بينها الحافظ ابن حجر , وسبق للمنار نشرها.
وجملة القول؛ إن الكتاب نفيس مفيد جدير بأن تستفيد منه النابتة الإسلامية
الحديثة، فإنهم لا يجدون فيه شيئًا مما يستنكرونه من كتب القدماء في الأدب؛
لاختلاف التربية والتعليم في المدارس العصرية، والعادات المنزلية والاجتماعية
بين هذا العصر وما تقدمه، وقد أشار إلى ذلك المؤلف بقوله:
(وقد اجتهدنا أن نشرح هذه الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية شرحًا يقرب
فهمها، ويسهل حكمها على أبناء هذا العصر، ولم نخالف فيما قلناه أصلاً تقرر بين
علمائنا رضي الله عنهم، نعم خالفناهم في بعض التراكيب الاصطلاحية، وكثير من
الأساليب الكتابية، مما اختلف باختلاف الزمان، وتطور العمران، وتبدل القرائح
والأذهان) , واستشهد على الحاجة إلى هذا بعبارة من كتاب (أدب الدنيا والدين)
للعلامة الماوردي في اختلاف الأدب باختلاف الزمان والعرف.
وقد طبع الكتاب في سنة 1334 في المطبعة السلفية طبعًا حسنًا، وبلغت
صفحاته 227 صفحة، وثمن النسخة منه 25 قرشًا.
(البينات) مقالات في الدين والاجتماعات والأدب والتاريخ للأستاذ الشيخ
عبد القادر المغربي جمعت في جزأين.
سبق لنا تقريظ الجزء الأول منها، وقد طبع الجزء الثاني في سنة 1344
بالمطبعة السلفية أيضًا، وهو مُصَدَّر بمقدمة لنا في ترجمة مؤلفه , ومكانته في العلم
والأدب والإصلاح , وهو جدير بأن يطالعه قراء العربية , ولا سيما نابتة المدارس
العصرية , والمولعون بقراءة المجلات والصحف الدورية المتعارضة المتناقضة في
أمثال هذه المباحث التي ولج المؤلف أبوابها على علم وبصيرة، وقد بلغت صفحاته
314 بقطع المنار , وثمن النسخة منه 25 قرشًا.
__________(28/397)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحج في هذا العام
بلغ عدد حجاج هذا العام 225 ألفًا بالرغم من أنوف الملاحدة والمبتدعة
والروافض الذين بثوا الدعاية لمنع الحج , وكان منهم ألوف من الشيعة الإيرانيين ,
وغيرهم بالرغم من حكومتهم التي منعت الحج رسميًّا، وقد كان الأمن العام
والخاص على أكمله كما ثبت بالتواتر , وقد بلغنا أن حجاج الشيعة كانوا في غاية
الغبطة والهناء , وقال من سبق لهم الحج منهم: إن الشيعة لم يكونوا مكرمين
أحرارًا في موسم كهذا الموسم , ففي سبيل الله ما سيلقون من ظلم حكومتهم , وعقابهم
على أداء ما فرضه الله عليهم، فقد بلغنا أنها أمرت بنزع أملاكهم , وعقارهم من
أيديهم، وسكت لها علماء الشيعة الأعلام على ذلك! !
وقد ظهر للعيان خطأ الحكومة المصرية فيما فعلت من تخويف المصريين من
الحج , وزعمها أنهم يستهدفون للخطر؛ لعدم خروج المحمل وحرسه معهم، وقام
البرهان الحسي على أن ذلك الحرس لا حاجة إليه؛ لأن الأمن في الحجاز أتم
وأكمل منه في مصر , بل هو هنا مختل معتل أعيا أمره الحكومة , والشكوى عامة.
هذا , وإننا ننتقد ما كتبه بعض الحجاج في الجرائد من ذم الحجاز بحرارته ,
وطرز مبانيه القديمة , وغلاء بعض الحاجات والأجور فيه , فإنهم يجهلون أن
الحج تقشف ينافي الترفه , والتنعم شرعًا , وأن أهله فقراء , وحكومته فقيرة , وأن
المسلمين كانوا يقضون في سبيل الحج عدة أشهر , وينفقون ألوفًا كثيرة , ويعدون
ذلك أفضل ما أنفقوا طول عمرهم , فمن لم يفقه هذا؛ فهو لم يحج , ولم يعرف
الحج، ومن لم يرض به؛ فليحج مع الملاحدة الفاسقين إلى منتزهات أوربة ,
ومعاهد الخلاعة فيها , ولا يدعي الإسلام.
__________(28/400)
صفر - 1346هـ
أغسطس - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من البحرين
في الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي
(س 7-10) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين؛
هل يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة أحمد ومالك
والشافعي وأبي حنيفة، وهل يجوز للعامي ألا يتمسك بمذهب من المذاهب الأربعة ,
وألا يقلد إمامًا من الأئمة الأربعة , وأن يكون مذهبه مذهب من أفتاه، وأن يلقب
نفسه محمديًّا، ويومًا يسأل عالمًا شافعيًّا ويعمل بقوله، ويومًا يعمل بفتوى مالكي ,
ويومًا بفتوى حنبلي، ويتبع الرخص في مسائل العبادات.
وهل يجوز له إذا أفتاه عالم من المسلمين من الفقه أن يقول: ما أقبل الفقه ,
أقبل الكتاب والسنة فقط.
أفتونا على ذلك ولكم من المولى جزيل الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... لمخلصكم خليل الباكر
(أجوبة المنار)
(1) هل ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة؟
إن لأئمة الفقه الأربعة المتبعين فضلاً على الشيخ أحمد تقي الدين ابن تيمية؛
لأنه لم يصر فقيهًا إلا باطلاعه على فقههم، كما أن لأئمة الحديث كأحمد , والشيخين ,
وأصحاب السنن الأربع وغيرهم فضلاً عليه بأنه لم يكن محدثًا إلا بكتبهم.
ولقد كان مثل مالك والشافعي وأحمد أصح منه فهمًا للكتاب والسنة فيما أعتقد؛
لأن اللغة العربية كانت لهم سليقة لا صناعة فقط كعلماء عصره، وهو قد بلغ
رتبة الاجتهاد المطلق، واطلع على ما لم يطلعوا عليه كلهم من الأخبار والآثار؛
لأنه اطلع على ما رووه وعلى غيره وحفظه وعرف ما قالوه هم , وما قاله
غيرهم من أقرانهم في أسانيدها وفي معانيها , فهو في فتاويه يذكر خلاف الأئمة
المجتهدين في المسألة وأدلة كل منهم , ويمحص هذه الأدلة؛ فيتبين الراجح منها
بالدليل، فمن تأمل فتاويه بنظر الإنصاف؛ يرى أن ما رجحه هو الحق في الغالب ,
كما ترى في رسالة أحكام السفر التي خالف فيها الأئمة الأربعة في بعض المسائل
كتحديد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويباح الفطر , ووافقه من جاء بعده من فقهاء
الحديث المستقلين كالشوكاني.
ثم إنه قد حَدَثَ بعد الأئمة الأربعة بدع خلع عليها مبتدعوها ثياب زور عزيت
إلى الدين، فاتبعها خلق كثير من المسلمين، منها ما جاء من شبهات الفلسفة ,
ومنها ما جاء من تصوف الهنود، ومنها ما كان من أوضاع غلاة الشيعة الظاهرية
والباطنية إلخ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم الناس - إن لم يكن أعلمهم -
بمثارات هذه البدع وشبهاتها ومنتحليها، ومن أقدرهم على بيان وجوه مخالفتها للدين
الإسلامي , والاستدلال على بطلانها، ولم يكن الأئمة يعرفون ذلك كله؛ لأنه لم
يكن في زمنهم إلا بعضها، فالأمة الإسلامية محتاجة إلى شيء من علوم ابن تيمية
لا تجده في شيء مما روي عن الأئمة - رضي الله عنهم أجمعين - وأهمه بيانه
لحقيقة التوحيد , وهدم قواعد الشرك والبدع , ودحض شبهات أهلها.
مع هذا كله لا ينبغي لأحد أن يقول: إن ابن تيمية كان أعلم من هؤلاء الأئمة
هكذا على الإطلاق لما فيه من الدعوى بأنه - أي القائل - من طبقتهم , أو أعلم
منهم، ولذلك قدر أن يرجح بعضهم على بعض، ولما فيه أيضًا من إثارة الخلاف
والشقاق بينه وبين أتباعهم , وهم سواد المسلمين الأعظم مما هو في غنى عنه إن لم
يكن صاحب هوى، ولأن الله تعالى قد نفع بعلمهم وهديهم أضعاف من انتفعوا به،
وهذا أمر عظيم , مثاله في المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وأولاده وأحفاده الذي
يظهر من كتبهم أن الشيخ عبد اللطيف كان أوسع علمًا بفنون العربية وأصول الفقه
وفروعه ومصطلح الحديث من جده شيخ الإسلام، ولكن جده هو الذي هدى إلى
العلم الواسع الدقيق بتوحيد الله تعالى الذي هو أساس الإسلام , وقام بالدعوة وهدى
الله به الألوف ومئات الألوف إلى دين الله الخالص , وكان أولاده وأحفاده - ومنهم
الشيخ عبد اللطيف هذا من بعض حسناته , وله مثل أجورهم كلهم رحمهم الله
أجمعين.
****
(2) هل يجوز لعامي ترك تقليد كل من الأربعة ... إلخ؟
زعم بعض المقلدين من المتكلمين والفقهاء أنه يجب على جميع المسلمين تقليد
أحد هؤلاء الأربعة في الأحكام الدينية العملية من العبادات والمعاملات، وزاد
بعضهم تقليد الشيخ أبي القاسم الجنيد إمام الصوفية كما قال اللقاني في عقيدته
(جوهرة التوحيد) .
ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم
قالوا كما قال هو في شرحه: إنه أراد بسائر الأئمة الثلاثة - أبا حنيفة
والشافعي وأحمد , وهذا ما عليه جمهور متأخري العلماء الرسميين من أهل الأزهر
ومن على شاكلتهم في سائر الأمصار , إلا من آتاه الله حظًّا من الاستقلال في العلم ,
والنظر في الأدلة , واتباع ما تقوم عليه الحجة، وكنا نسمع هذا من مشايخنا منذ
أول عهدنا بطلب العلوم الدينية، وكانوا يحتجون على ذلك بأن هؤلاء الأئمة هم
الذين دونت مذاهبهم وبسطت فيها المسائل وكثرت الفروع بحيث يجد الناس فيها
جميع ما يحتاجون إليه دون غيرها، وكل هذا غير صحيح فإن للظاهرية كتبًا مدونة ,
ولا سيما الإمام أبي محمد ابن حزم وهم من أهل السنة، وكذلك الشيعة الزيدية
والشيعة الإمامية والأباضية قد دون فقه مذاهبهم في مجلدات كثيرة.
هذا وما ذكروه ليس متفقًا عليه عند علماء القرون الوسطى ومن بعدهم ممن
صرحوا بوجوب التقليد، بل قال بعضهم: بجواز تقليد غيرهم من الأئمة كالليث بن
سعد وداود الظاهري وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير
الطبري وسفيان بن عيينة كما تراه في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ
الأزهر في عهده على الجوهرة - وقد ذكر هو وغيره أنهم استدلوا على أصل
وجوب التقليد الذي حصره بعضهم في الأربعة بالعلة المتقدمة بقوله تعالى {فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) , قال: فأوجب التقليد على من لم
يعلم , ويترتب عليه الأخذ بقول العالم وذلك تقليد له.
وأقول: إن هذا الاستدلال ظاهر البطلان , فإن من لا يعلم حكم الله تعالى في
مسألة يجب أن يسأل عن النص فيها من كتاب الله تعالى , أو سنة رسوله صلى الله
عليه وسلم لا عن رأي أحد الأربعة أو غيرهم , والاجتهاد ظن المجتهد في المسألة
الذي أداه إليه بذل الجهد في البحث عنها، وهو ساقط الاعتبار مع وجود النص
بغير خلاف، ولا يجب على أحد من خلق الله أن يدين الله بظن غيره , والتقليد أن
تأخذ بقول لم تعرف له دليلاً، وما المانع أن يقال: إن الجاهل يسأل عن نص
الشارع الذي كلف اتباعه فإن لم يوجد؛ سأل المجتهد عن ظنه , وعن الدليل الذي
استنبطه منه، فإذا اقتنع به واطمأن قلبه أخذ به وإلا فلا، فقد روى أحمد من حديث
أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعا: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب،
والإثم ما لم تسكن إليه النفس , ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون) حديث
حسن , وروى أحمد , والبخاري في التاريخ من حديث وابصة بن معبد رضي الله
عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر
والإثم إلا سألته عنه. فقال لي (ادْنُ يا وابصة) , فدنوت حتى مست ركبتي ركبته ,
فقال: (يا وابصة أخبرك ما جئتَ تسأل عنه , أو تسألني؟) فقلت: يا رسول
الله أخبرني. قال: (جئت تسألني عن البر والإثم) قلت: نعم، فجمع أصابعه
الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: (يا وابصة! استفت نفسك، البر ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر،
وإن أفتاك الناس وأفتوك) وفي طريق إسناده مقال , ورواه أحمد من طريق
آخر باختصار , وهذا المعنَى مروي عن غيرهما من الصحابة , وفي صحيح مسلم
من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا (البر حسن الخلق , والإثم ما حاك في نفسك
وكرهت أن يطلع عليه الناس) , وأخرجه النووي في الأربعين , وقد أورد الحافظ
ابن رجب في شرحه له حديث وابصة , وتكلم على طرقه , ثم قال: وقد روي هذا
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة , وبعض طرقه جيدة ,
فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد
بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإثم؟
قال: (إذا حاك في صدرك شيء؛ فدعه) , وهذا إسناد على شرط مسلم إلخ , ثم
ذكر رواية أحمد لحديث أبي ثعلبة المار بإسناد جيد، والمراد من اطمئنان القلب هنا
ما يعبر عنه في هذا العصر بالوجدان وراحة الضمير، وعليه المعول في
المشتبهات بين الحلال والحرام دون البين منها كما حديث: (الحلال بين , والحرام
بين , وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ
لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام (الحديث رواه الجماعة
كلهم من حديث النعمان بن بشير , وإن من الجاهلين من يقترف المعصية , أو
يطلق امرأته , ثم يستفتي أحد العلماء ويحرف له القول؛ ليفتيه بما يوافق هواه ,
فإن أفتاه بما يحلل له المعصية كأكل مال غيره بالباطل , أو معاشرة مطلقته معاشرة
الأزواج؛ فعل وإن كان قلبه غير مطمئن للفتوى ظانًّا أن الله يعذره بفتوى المفتي
كما يفعل الحكام في الدنيا.
ألا فليعلم كل مسلم أن المفتي ليس شارعًا للدين , وإن كان مجتهدًا , وإنما
وظيفته بيان حكم الله الذي أنزله في كتابه , أو بينه على لسان رسوله صلى الله
عليه وسلم , فإذا لم يكن في المسالة نص عنهما؛ فليس له أن يحمل الناس على أن
يدينوا الله ويعبدوه بمقتضى رأيه واجتهاده الذي هو ظن من ظنونه فضلاً عن حمله
إياهم على العمل برأي غيره مما يقرؤه في الكتب، ولم يكن أحد من الأئمة المجتهدين
بحق - ولا سيما الأربعة - يأمر الناس بالعمل باجتهاده وتقليده في رأيه وفهمه، وإنما
كانوا يبينون للناس ما يفهمون من نصوص الشارع بطرق الدلالة المعروفة عندهم،
فمن وافق فهمه فهم أحد منهم فعمل به؛ كان عاملاً بما اعتقد أن الله شرعه له، ومن
لم يوافقه؛ تركه وعَدَّهُ كأن لم يكن , وليس له أن يدين الله تعالى به , والنصوص
عنهم في ذلك مشهورة سبق لنا ما يكفي منها في (محاورات المصلح والمقلد)
وغيرها , ولا سيما ما نقلنا بعد ذلك عن كتاب (أعلام الموقعين) للمحقق ابن القيم
وسيأتي بعضها.
قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) , وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ} (الشورى: 13) الآية.
وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:
21) , وقال في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) فقال عدي بن حاتم عندما سمعها وكان نصرانيًّا فأسلم: يا رسول
الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ فبين له صلى الله عليه وسلم أن المراد بها أنهم كانوا
يحلون لهم ويحرمون عليهم؛ فيتبعونهم. فاعترف بذلك، وما كان يفعله علماء
اليهود والنصارى من التحليل والتحريم , والقول في دين الله برأيهم , وفهمهم
للتوراة والإنجيل من غير أن يكون نصًّا ظاهرًا في الحكم فعله كثير من علماء
المسلمين المقلدين؛ فاتبعهم العوام فيه حتى صارت الجرأة على التحليل والتحريم
موضع العجب والاستغراب عند العقلاء المستقلين؛ بل صار العوام يحلون
ويحرمون، وليس لأحد حق في التحليل والتحريم على العباد إلا ربهم تبارك وتعالي ,
ولكن كان ذلك وهو مصداق ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من اتباع هذه الأمة
سنن من قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.
حتى إنهم حرموا كثيرًا من العلوم والفنون والصناعات التي تعتز بها الأمم
وتقوى، والمنافع العامة التي تدل نصوص الكتاب والسنة على إباحتها كامتنانه
تعالى علينا بتسخير جميع ما في الأرض لمنافعنا، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما
رواه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني وحسنه: (إن الله فرض فرائض؛
فلا تعتدوها، وحد حدودًا؛ فلا تقربوها، وحرم أشياء؛ فلا تنتهكوها، وسكت عن
أشياء رحمة لكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها) , ويؤيده ما رواه البزار في مسنده
والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو
عفو , فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى) , ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) .
ويدخل فيما أحله الله وحرمه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فكأنه مستنبط من كتاب الله وبيان له كما يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره،
أو لأنه بوحي آخر غير القرآن كما يقول آخرون، أو لأن الله تعالى أذن له
بالتشريع باجتهاده كما فهم بعضهم من حديث (إلا الإذخر) .
هذا وإن ما ورد في الكتاب والسنة من أمور الدين المحضة كالعقائد والعبادات
والحلال والحرم؛ فهو قسمان: قسم قطعي الرواية والدلالة وهو التشريع العام الذي
يجب على كل مسلم الأخذ به، ويجب على أئمة العدل إلزام الناس إياه، وقسم ليس
كذلك وهو محل الاجتهاد، فمن فهم منه حكمًا اعتقد أنه مراد الله تعالى ولو بواسطة
بيان غيره من العلماء له؛ وجب عليه العمل به دون من لم يفهم ذلك ولم يعتقده
استقلالاً ولا تبعاً , وليس للأئمة أن يجعلوه تشريعًا عامًّا.
كما يؤخذ ذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه حين نزل
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) ، وقد وضحنا هذا في مقدمتنا لكتاب
المغني في الفقه، وبناءً على هذا كان ما يجب على كل فرد من أفراد المسلمين
عوامهم وخواصهم وجوبًا عينيًّا معلومًا كله أو جله منتشرًا بين الناس في عصر
السلف الصالح لقلته وجلائه , فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلقنون
الأعرابي دينه وما يجب عليه في مجلس واحد - فكان ما يحتاج العامي إلى سؤال
العلماء عنه قليلاً، وإنما كانوا يسألونهم عن حكم الله لا عن آرائهم واجتهاداتهم، ومن
المعلوم من تاريخهم وسيرتهم بالقطع أن أحدهم كان يسأل في كل أمر يعرض له من
يلقاه من أهل العلم , ولم يكن أحد يلتزم عالمًا بعينه لا يأخذ عن غيره , وكان علماء
السلف يجيبون كل سائل بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,
ثم صاروا في عصر التابعين يذكرون ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في
المسألة , أو علماؤهم المشهورون إذا كان فيها خلاف، وقد دون رواة السنة وحفاظها ما
رووه من أقوال الصحابة وأعمالهم تبعًا لتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
وعدوا إجماع الصحابة حجة شرعية دون أقوال أفرادهم إلا من احتج بإجماع الخلفاء
الراشدين.
هذا وإن مدار الاجتهاد على القياس , ومن أئمة الشرع من ينكره ألبتة , ومنهم
من لا يقول إلا بما كانت علته منصوصة وما قطع فيه بنفي الفارق , ومنهم من
يدخل هذا المعنى في مدلول النص، ومنهم من منعه في التعبدات، فعلى هذه
الأقوال كلها لا تثبت عبادة مستقلة باجتهاد المجتهد فلا حاجة بمسلم إلى تقليد أحد في
مذهبه , وإنما يأخذ الجاهل عن العلماء ما أوجبه الله وما حرمه عليه بنصوص
الكتاب والسنة القطعية الثبوت والدلالة كما تقدم , هذا هو الضروري فإذا وجد سعته
لطلب العلم واقتنع ببعض الظنيات العملية أخذ بها.
وإنما يثبت الاجتهاد في المعاملات والقضاء وسياسة الحكام بنص حديث معاذ
المشهور فإذا قال علماء السنة: إنه يتعين على الحكام في هذه الأزمنة الاعتماد على
هذه المذاهب المدونة في الأحكام القضائية والسياسية والحربية لأنهم يجدون أكثر ما
يحتاجون إليه فيها كان لقولهم هذا وجه في الجملة - وأما القول التفصيلي في ذلك
فهو: إنه لا يمكن إدارة حكومة إسلامية إلا بعلماء مجتهدين يستفيدون من علم الأئمة
المتقدمين , ويزيدون على ذلك ما تضطرهم إليه حالة هذا الزمان بما تجدد للبشر
فيه من أمور المعايش والسياسات والمعاملات مع الأمم الأخرى، إلا إن وجد
حكومة صغيرة في عزلة عن العالم كله؛ فإنها يمكنها أن تلتزم أحكام مذهب معين لا
تحتاج إلى غيره كما هي حالة أهل نجد في نجدهم وأهل اليمن في يمنهم دون من
خرج منهم للتجارة في الهند أو العراق أو مصر أو سورية دع من اتسعت تجارته
فبلغ بها أوربة.
هذا وإن بعض علماء القرون الوسطَى الذين زعموا وجوب تقليد واحد من
الأئمة الأربعة دون غيره لم يوافقهم جميع أقرانهم في زمنهم , ولا فيما بعده.
قال الباجوري في شرحه بيت الجوهرة المتقدم: وقال بعضهم لا يجب تقليد
واحد بعينه , بل له أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى , فيجوز
صلاة الظهر على مذهب الإمام الشافعي , وصلاة العصر على مذهب مالك وهكذا.
ثم ذكر أن بعضهم جوز تقليد الأربعة في غير الإفتاء كما قال:
وجائز تقليد غير الأربعة ... في غير إفتاء وفي هذا سعة
والحاصل أن التقليد باطل بنص القرآن , والعمل به مفض إلى إضاعة الدين
لأن من طبع العوام تقليد من يثقون به في كل زمان ومكان , وأنى لهم بتمييز الإمام
المجتهد من غيره , وإننا نرى الملايين ممن ينسبون إلى المذاهب المعروفة يأخذون
بأقوال رجال من الجهلة الدجالين أدعياء طرق التصوف وأدعياء الفقه أيضًا لتلبيسهم
عليهم بالدعاوى الباطلة وإظهار التدين أو بعض الغرائب التي يسمونها كرامات ,
حتى صار الشرك الصريح من أصول عقيدة الدين , والتوحيد المحض من الكفر
المنكر بدعوى أنه احتقار لأولياء الله تعالى وإنكار لكرامتهم إلخ ما شرحناه مرارًا
فلا محل هنا لإعادته.
فالواجب أن يعلم الناس دينهم كما كانوا يعلمون في الصدر الأول من الإسلام
يلقن العوام عقيدتهم من الكتاب والسنة وكذا عباداتهم وما أحل الله لهم وحرم عليهم ,
ويجعل تعليم هذا على درجتين الأولى المجمع عليه الذي كان يقال فيه إنه معلوم من
الدين بالضرورة بحيث يعد جاحده غير مسلم , والثاني ما قويت أدلته من مسائل
الخلاف وكان عليه جمهور السلف بحيث كانت تعد مخالفته شذوذًا، مهما يكن
المخالف فيه جليلاً، وأرى بعد اختبار حال المسلمين منذ ثلث قرن أنه لا يمكن أن
يعرف جمهورهم حقيقة دينهم إلا بهذه الوسيلة التعليمية وإنني أعلم أن الملايين من
المنتسبين إلى هذه المذاهب المدونة الأربعة وغيرها يقلون سنة بعد سنة، واعلمْ
أن أكثرهم لا يعرف ضروريات المذهب معرفة صحيحة وإنما يعرف في الغالب منه
أضر ما فيه , وهو بعض مسائل الخلاف بينه وبين المذاهب الأخرى في بلده أو
قومه , فإن الأصل في الدين الوحدة والاتفاق وأضر ما فيه تعدد المذاهب الاختلاف
والافتراق {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) .
فعلم من هذا أن أكثر الناس إذا قالوا: نحن شافعية , أو مالكية مثلاً يكذبون
لأنهم ليسوا على مذهب من ورثوا الانتساب إلى مذهبه عن آبائهم لا في العلم ولا
في العمل لأنهم قلما يعرفون منه إلا بعض مسائل الخلاف في مسائل اجتهادية ليست
من أمور الدين القطعية ولا يضر أحدًا جهلها , ولا العمل بقول أي إمام فيها كما
وضحناه في (محاورات المصلح والمقلد) , وكذا في مقدمتنا لكتاب المغني الشهير
التي جعلناها في أول الجزء الأول منه ونشرناها في المنار , فليراجعها السائل.
فإذا قال من هذه حاله: إنه محمدي أي من أهل ملة محمد صلى الله عليه
وسلم؛ فلا بأس بذلك ولكن ليس له أن يحتقر هذه المذاهب التي قامت على أساسها
حضارة الدول الإسلامية كلها ووجد بها تشريع للإسلام كان يمكن للمسلمين الاستغناء
- بمواصلة الاجتهاد فيه - عن قوانين جميع الأمم التي ما زال يقلدها بعض الدول
الإسلامية ويبعد عن التشريع الإسلامي حتى انتهى بعضها إلى نبذ الشريعة الإسلامية
بجملتها وتفصيلها ويخشى أن يتبعها غيرها من الدول المشابهة لها في سيرتها إذا
استمر علماؤها على جمودهم على تقاليدهم، وحكامها على اقتباس التشريع عن
غيرهم.
***
(3) هل يجوز تتبع الرخص في العبادات؟
الأصل في أحكام الدين العزائم , وقد شرع الله الرخص كما شرع العزائم ,
وهو يحب أن تؤتى رخصه , كما يجب أن تؤتى عزائمه، وبعض الرخص مقيد
بأحوال محدودة لا يتعداها , كالمجاعة المبيحة لمحرمات الطعام , والسفر والمرض
المبيحين لترك الصيام وللتيمم، وبعضها مقيد بأحوال غير محدودة , بل تحتاج إلى
اجتهاد المكلف كالجمع بين الصلاتين على التحقيق فيه كما بينه شيخ الإسلام في
رسالة في القصر والجمع , فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ,
كما رواه الشافعي ومسلم غيرهما من حديث ابن عباس وعلله بقوله: لئلا يحرج
أمته , فلا يجوز لمسلم أن يلتزمها دائمًا , فيجعل أوقات الصلوات الخمس المعلومة
من الدين بالضرورة ثلاثًا.
ولا يحظر عليه أن يحرج نفسه إذا تعسر عليه أداء الظهر أو المغرب في
وقتها لشغل ضروري عارض , فيمتنع من تأخيرها إلى ما بعدها ليجمعها معها ,
ومن كان مقلدًا لمذهب يتأول فقهاؤه حديث الجمع في الإقامة؛ فليقبل هذه المسألة
بعدها من باب المثال.
هذا ما يقال في رخص الشرع الثابتة بالنصوص، وأما رخص المذاهب
الاجتهادية فتتبعها وتقليد أصحابها فيها تلاعب بالدين لا يفعله إلا جاهل متهاون.
وإذا كان التقليد المحض بدون بينة ولا بصيرة باطلاً في عزائم الشريعة ,
فكيف يكون صحيحًا في العبث والتلاعب؟
***
(4) هل يجوز رد الفتوى الفقهية طلبًا للنص؟
إن الله تعالى أمرنا باتباع كتابه واتباع رسوله، ونهانا أن نتبع غيرهما، وإنما
العلماء أدلاء ومبلغون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما الواجب
على من يجهل شيئًا من دينه أن يسأل العالم عن حكم الله ورسوله فيه , لا عن رأيه
أو رأي من يقلده هو فيه كما تقدم شرحه قريبًا , فإذا قال له العالم: حكم الله كذا ,
فله أن يسأله عن النص , ويقول له: لا أقبل قولك ولا ما تنقله من كتاب من كتب
الفقه؛ حتى تبين لي دليله من الكتاب والسنة , قال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد أن
يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين قلناه , وكتب المزني صاحب الشافعي في أول
مختصره في الفقه ما نصه: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس
رحمه الله , ومن معنى قوله: لأُقَرِّبه على من أراده , مع إعلامه نهيه عن تقليده
وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه وبالله التوفيق اهـ.
ورئي مالك يبكي في مرض موته؛ لأنه بلغه أن بعض الناس يعملون بأقواله ,
مع أنه يقول القول ويرجع عنه، وامتنع أحمد عن كتابة شيء في الفقه؛ لئلا
يقلده الناس فيه.
هذه جمل عن الأئمة الأربعة من عمل بها؛ كان منتفعًا بعلمهم , وأكثر ما في
كتب الفقه آراء لمن لم يبلغ رتبتهم من أتباعهم، وأكثر من يسمون العلماء الآن لا
يتقيدون بأقوال الأئمة , بل العمل عندهم على اعتماد بعض المقلدين لهم.
إن الله تعالى لم يأمر باتِّبَاع أحد في الدين غير رسوله صلى الله عليه وسلم ,
وأمر بطاعة أولي الأمر فيما يتعلق بالأحكام المنوطة بهم , لا في عبادة الله تعالى ,
فإلى متى نحجب الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم , ونكلهم إلى هؤلاء الأشياخ
الأدعياء الذين لا يوجد في الألف منهم عالم , ونخالف الأئمة أنفسهم في ذلك من
حيث ندعي اتباعهم؟
__________(28/423)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كيف تنهض اللغة العربية
بحث للأستاذ عبد السميع أفندي البطل من حذاق مدرسي المدارس الأهلية
عرضه على مؤتمر اللغة العربية المتصور بمناسبة الاحتفال بأحمد شوقي بك أمير
الشعراء بمصر - قال بعد مقدمة مناسبة للاحتفال ما نصه:
(آمالنا في المؤتمر)
طالما تمنت نفوس الغيورين من شداة الأدب، والذادة عن لسان العرب، عقد
مؤتمر كهذا للبحث والتشاور في حالة اللغة ومستقبلها، وما يجب عمله على أبنائها؛
لتثبيت قدميها أمام هذا التنازع المستحر بينها وبين اللغات الحية قبل تطبيق قانون
بقاء الأصلح على المصروع منهن في ميدان التجاذب.
حقًّا! إن الفرصة سانحة، والوقت مساعد، وما نرى اللغة في وقت بمسيس
الحاجة إلى هذه المباحث أشد منها في هذا الوقت الذي أصبحت فيه اللغات أداة من
أدوات المزاحمة في الحياة الزاخرة بعلومها وآدابها وصناعاتها ومخترعاتها وكل
ناحية من نواحيها.
وإن مما يذكر بالشكر للقائمين بتنظيم الاحتفال بشاعرنا العبقري أن دعوا
دعوة جفلى , كل من له اقتراح أو عنده رأي في خدمة اللغة ونهضتها أن يقدمه لهم؛
ليكون له ما بعده، ففتحوا بذلك بابًا واسعًا يجدر بكل غيور على اللغة أن يلجه
غير متوان ولا متواكل.
لذلك يتقدم هذا الضعيف إلى جماعة المحتفلين بالشكر والثناء، عارضًا عليهم
ما يراه الطريق اللاحب إلى تعليم اللغة - عرض خبير زاول تعليمها بضع عشرة
سنة بدت له في خلالها عيوب كثيرة في طرق التدريس، ويرى أنها هي التي قعدت
بالمتعلمين عن إجادة لغتهم - بله النهوض بها وخدمتها من طريق العمل كالتصنيف
والترجمة والتعريب والوضع العرفي.
ولما كان استقصاء هذه العيوب , وشرح مضارها , وذكر طرق إصلاحها
بالتوسع المطلوب لا يتسع له وقت المؤتمر - رأيت أن أسلك سبيل الإيجاز، ورب
قليل خير من كثير.
فإذا أسعدني المؤتمر بقبول هذه الرسالة ونشرها فيما يرتئي نشره؛ كان ذلك
إعزازًا للفكرة وأطير لها ذكرًا، والفكرة متى برزت من مكمنها , ووجدت تربة
خصبة، وجوًّا ملائمًا، نمت وترعرعت وآتت أكلها ضعفين.
***
(الموضوع)
ليست اللغة العربية ببدع من اللغات الحية الناهضة النشيطة، فسبيل تلقينهن
والتبحر فيهن، هو عين السبيل المهيع للغتنا إذا أردناها غضة بضة، وما سبيلهن
إلا الحفظ والتقليد في الكتابة والمحادثة، وليس لنا من وسيلة إلى إتقان لغتنا في
قليل من الزمن غير هذه الطريقة، وما سواها باطل وضلال وإليكم أسوق الدليل:
يقضي الطالب في مدارسنا صدر حياته بتعلم اللغة، فينفق الشطر الأكبر من
هذا الزمن في دراسة الوسائل بطريقة ملتوية غير مفيدة , وكلما أمعن فيها زاد بعدًا
عن الغاية , وإن هو وصل إليها؛ وصل وقد أنهكه السرى، وأضناه التعب، وقعد
به الملل، وهيهات أن يحصل شيئًا نافعًا يكسبه ملكة الذوق بحيث يقتدر على
ارتجال خطبة بليغة، أو كتابة رسالة عالية الأسلوب؛ لذلك أرى أن تكون طريقة
التعليم هكذا:
***
(النحو والصرف)
ليست قواعد النحو والصرف مطلوبة لذاتها، بل لتعصم اللسان عن الخطأ في
النطق، وكلما كانت طريقة تعليمها سهلة قريبة المنال، مقتصرًا فيها على القواعد
الأساسية التي يحتاج إليها في تصحيح اللسان وتركيب الجمل - كان ذلك أدعى إلى
الاقتصاد في الوقت , وتوفير جزء كبير منه يصرف في دراسة اللغة نفسها؛ لذلك
يجدر أن يفرغ من دراسة النحو والصرف عند الفراغ من المدارس الابتدائية [1]
مراعى في ذلك تطبيق العلم على العمل في كل قاعدة وبحث، ومراعى في ذلك
أيضًا سنة التدريج مع الطالب في سني الدراسة المختلفة، فيُسْتَغْنَى إذن عن كثير
من أبواب النحو والصرف كلها أو بعضها، كالتوسع في الكلام على المبتدأ والخبر
والمجرد والمزيد من الأسماء، ومواضع الإعلال والإبدال والتصغير والنسب
والإمالة وإعراب (لا سيما) , وفعلي التعجب وصيغ الاستغاثة والندبة والاختصاص
والمنادى المرخم، لعدم الحاجة إليها في الاستعمال، وعدم الاشتباه في بعض الصيغ
إذا جهل إعرابها، لأنها ملازمة لحالة واحدة لا تختلف عنها، والإعراب لا يكسبها
شيئًا جديدًا إلا التهويش واضطراب الذهن وقتل الوقت فيما لا يجدي.
والمهم في تثبيت القواعد: التطبيق في أثناء المطالعة، والتنبيه إلى مواضع
الرفع والنصب والجزم والجر وتوابعها، مع سلامة المفردات، وجعلها موافقة
للفصيح، وقد يكون ذلك صعبًا على الطالب في أول الأمر - ككل شيء في أوله ,
ثم لا يعتم أن يمرن عليه لسانه مع طول الدربة، وكثرة التنبيه، ولا نريد من
القواعد أكثر من هذا.
ولو وجدت هذه الطريقة عناية من المعلم لنجحت نجاحًا باهرًا في أقل زمن
وقد جربتها أنا نفسي في درس خصوصي فكان من نتائجها أن صار الطالب مع قلة
الدروس بعد سنة واحدة في مستوى طلبة السنة الثالثة من المدارس الثانوية بحيث
كنت أعطيه من التطبيقات ما كنت أعطيهم إياه، ولا تسل عن باقي فروع اللغة،
فقد أظهر فيها مهارة عجيبة.
***
(البلاغة)
البلاغة إحساس روحي، وشعور وجداني، وسلامة في الذوق، وملكة في
النفس، ولا يتهيأ ذلك كله لأمثالنا إلا بكثرة مزاولة الكلام البليغ نظمًا ونثرًا،
ومحاكاته كتابة وقولاً، فمن كان حظه من القراءة والحفظ وفيرًا؛ كان قسطه من
البلاغة عظيمًا، ومن كانت حافظته مهزولة مجدبة، وقريحته بليدة مفلسة؛ نأت
عنه البلاغة بجانبها، ولوت عنه أعنتها، وشمست به رامحة، ورفسته جامحة،
وهيهات أن يذلل قيادها، ويمتلك عنانها، إلا بفضل دربة ومرانة، وطول صبر
وأناة.
عرف ذلك رجال الأدب المبرزون، الأقدمون منهم والمحدثون، فكانوا حفظة
بارعين، ورواة ناقلين، والتاريخ يحدثنا عنهم بما يثير في النفس العجب، ويبعثها
على تلمس السبب، فمن في زماننا يتصور أن شاعرًا كأبي تمام كان يحفظ أربعة
عشر ألف أرجوزة غير المقطعات والقصائد، ولا يخجل أن يسميه الناس أديبًا، أو
يخلع هو هذه الخلعة السنية على غيره من الأدعياء؟
قد يكون في مثل هذا الخبر بعض المبالغة، ولكنه يفيد على كل حال في
موضوعنا.
لذلك أقول في غير مواربة: إن قراءة هذه الكتب التي يطلقون عليها كتب
البلاغة - مضيعة للوقت، مهزلة في الحياة، فما كانت إلا مبعدة للبلاغة عن طلابها،
حابسة لها عن ورادها، وما علمنا يومًا أن ضليعًا في البلاغة وقواعدها، خبيرًا،
برسومها واصطلاحاتها، كان كاتبًا مجيدًا، أو شاعرًا مفلقًا، أو خطيبًا مصقعًا اللهم
إلا إذا كان ممن لم تشغلهم المباني عن المعاني، ولم ينصرفوا إلى العناية بالأشباح
مجردة عن الأرواح، في حين أنك تستطيع أن تعد ألوفًا من أهل الخبرة والذوق في
البلاغة، وهم لم يقرؤوا من قواعدها حرفًا، ولا سمعوا فيها درسًا، ولكنهم عرفوها
بالتقليد والمحاكاة، والموازنة بين كلام وآخر، فانطبعت صورتها في نفوسهم،
وتغلغلت في صدورهم، ثم جرت على لسانهم عفوًا لا قصدًا، وهدرت شقاشقهم بها
طبعًا لا تعملاً، وتلك - لعمري هي البلاغة التي تبلغ بصاحبها ما أراد، وتنزل به
في كل واد، ويقتاد بها العاصي، ويستدنى القاصي.
وقد أخجل إذا ذكرت لكم الطريقة التي نتبعها في دراسة البلاغة بالمدارس
الثانوية، وأخبرتكم كيف نضحي بوقت الطلبة بلا جدوى.
إن الطلبة لا يجهلون القواعد الأساسية لعلوم البلاغة، ولا يجهلون التطبيق
عليها، إنهم يدرسون ذلك , وينفقون فيه سنتين من عمرهم، ولكنها دراسة فنية
اصطلاحية محضة، لا حظ فيها للعلم من حيث يكسب ملكة الذوق، ويشعر بجمال
المعنى وطلاوته، فيعرف الطالب مثلاً مواقع التشبيه أو الاستعارة وأركانهما
وإجراءهما بطريقة فنية، ويفرق بين الاستعارة الأصلية والتبعية، والتصريحية
والمكنية، والمرشحة والمجردة والمطلقة، ويعرف التشبيه المجمل والمفصل
والمرسل والمؤكد والبليغ الاصطلاحي وغير البليغ، ولكن ذوقه لا يساعده على
التمييز بين تشبيه بليغ رائع، وآخر مبتذل خامل، ولا بين استعارة بديعة طريفة،
وأخرى ركيكة سخيفة، وقل مثل ذلك في البديع، فهو يستطيع أن يبين المحسنات
البديعية فيما يقرأ من النظم، ولو كان مهلهل النسج فاتر الخيال مبتذل المعنى، ولا
تساعده بلاغته على إدراك هذه العيوب، بل متى ظفر بحاجته من المحسنات؛ طار
بها فرحًا غير ناظر إلى ما وراءها من حسن أو قبح , وهذا الحكم نفسه يجري في علم
المعاني.
وأظنني لست بحاجة إلى التدليل على فساد هذه الطريقة وعقم نتيجتها.
***
(خير الطرق لدرس البلاغة)
وأنفس الطرق عندي لدرس البلاغة دراسة جدية نافعة، أن يوضع كتاب
مختصر على طريقة إمام الفن عبد القاهر الجرجاني في الإكثار من الأمثلة والشواهد
البليغة من القرآن فما دونه من كلام الفصحاء، ويوجه الأستاذ نظر تلامذته إلى ما
أودع فيها من أسرار البلاغة ونكتها، والإحساس الذي شعرت به نفوسهم عند
قراءتها، وارتياح القلب واهتزازه حين استخراج دفائنها، ثم يقفي على ذلك بسرد
عدة شواهد دونها في البلاغة والروعة، ويوازن بين القولين، ويزيّل بين النفوس
في الحالين، عند ذلك تستقيم طباع الطلبة، وتسلم أذواقهم، فلا ترمحهم البلاغة
مولية، ولا تجمح بهم هاربة، بل تضع في أيديهم زمامها، وتسفر لهم عن بدرها.
***
(الأدب وتاريخه)
هذا فن حديث العهد بمدارسنا، ولذلك لما تتعبد طريقته، ولا تزال فجة ثمرته،
ولم تجذب التلامذة إليه روعته، وأكثرهم يستثقله؛ فيلفظه، ومنهم من يتجرعه
ولا يكاد يسيغه، لو أضيف إليه قليل من التوابل، ووضع بجانبه بعض الكوامخ؛
لاشتهته نفوسهم ولم تصد عنه، ولفتحت له صدورهم ولم تنقبض دونه.
ورأيي أن يبدأ بدراسته عندما يضع التلميذ قدمه على عتبة المدارس الثانوية،
فيدرس له في السنتين الأولى والثانية حالة اللغة في عصورها المختلفة لا بطريق
التلقين والحفظ، بل بطريق الاستنباط والاستقلال، فإذا أراد الأستاذ مثلاً أن يتكلم
عن مميزات النظم أو النثر في عصر من العصور، استعرض طائفة منه، ووجه
نظر الطلبة إلى ما فيها من متانة التركيب وقصر الجمل، وقلة الاستعارة والغلو،
وترك التمهيد، والبعد عن العجمة، إن كان الكلام في نثر الجاهلية، أو وصف
الخمر ومجالس الشراب والأنس، والقصور البديعة ومحاسن الطبيعة، والمعارك
الحربية، والأساطيل البحرية، وعذوبة الألفاظ والمحسنات البديعية، والأخيلة
الجملية، إن كان الكلام في مميزات النظم في العصر العباسي.
عند ذاك تكون دراسة الأدب نافعة شائقة لا يملها الطلبة.
وفي باقي السنين يدرس ترجمة النابهين , ومن لهم أثر بارز في اللغة من
الكتاب والخطباء والشعراء ومدوني العلوم كالفقهاء والمؤرخين بالطريقة المتقدمة
عينها، فيذكر المترجم نشأته وبيئته وحياته المادية والأدبية وصلة الثانية بالأولى
وتأثرها بها، وما لذلك من أثر في نفسه وأفكاره وتخيلاته، ثم تعرض أثارة من
قوله، وينبه الأستاذ إلى ما فيها من حسن وإبداع، أو تقليد لقول سابق، أو تكلف
باد، وما أشبه ذلك.
ويحسن أن تدرب التلامذة على إجراء موازنات بين شاعر وشاعر، أو
خطيب ومثله، وكاتب وتاجر، فإن ذلك مما يزيد في سلامة الذوق وصحة الحكم،
وتنبيه الذهن، وتفتق القريحة.
ويتوسع بعض التوسع في الكلام على القرآن الكريم: إعجازه وأسلوبه وأثره
في اللغة، ويقرر جزء كبير منه في كل سنة لدرسه وحفظ بعضه؛ ليستعان به على
إصلاح النفوس التي استفحل مرضها، وأعيا نطس الأطباء علاجها، وتثقيف
الألسنة التي اعوجت، وخصوب الملكات التي أجدبت، ولا يخفى صلة ذلك بعلمي
الأخلاق والبلاغة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) كان المكرمون لأحمد بك شوقي أذاعوا في دعوتهم التي نشرتها الجرائد أن الحفلة التي سيقيمونها ستكون كهيئة مؤتمر للغة العربية، وطلبوا إلى الكتاب أن يكتبوا ما يرونه من المباحث مفيدًا للغة العربية , فبادرت إلى كتابة هذه الرسالة وإرسالها إلى جماعة المكرمين , ثم ظهر أن فكرة المؤتمر كانت أمنية فقط، وقد رغبت إلى المنار في نشر الرسالة بعد حذف مقدمتها التي كانت في التعريف بشعر شوقي بك.
(1) يعني في التعليم العام وهذا لا يمنع وجود أخصائيين في النحو والصرف يتوسعون فيهما.(28/433)
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
__________
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا
(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العالم الجليل، المحقق النبيل، السيد مهدي الكاظمي القزويني سلمه الله
ووقاه، وبلغه مناه، وسلام عليكم ورحمة الله: أما بعد فقد وافاني جوابكم الكريم
المؤرخ في 22 شعبان سنة 1345 , فتلقيته بكامل التجلة وعظيم الارتياح، وأثنيت
على همتكم الشماء وعنايتكم السامية بما يقتضيه المنصب الذي ولاكم الله إياه، ومن
كمال لطفكم ووافر ظرفكم أن استسمحتموني في تطويلكم الجواب عما في المنار،
وإلا فهو رياض بهيجة، وموارد عذبة، وثمار بحث شهية، بعبارات رائقة طلية،
فبها يحق لكم أن تفتخروا لا أن تعتذروا.
ولما التمستم مني القضاء بينكم وبين المنار بعد الإمعان فيما كتبتم في الرد
عليه؛ وجب علي أن ألبي التماسكم معترفًا بقصور باعي وقلة اطلاعي متجردًا من
الهوى ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، غير متحيز إلى مذهب، ولا واقف مع
مشعب، إذ لا مذهب لي إلا الحق، وأتمثل بقول الشاعر البليغ الشيعي:
وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب
وهذا الجواب الذي سأجيب به عن كلامكم هو الذي أنوي أن أجيب به بين يدي
الجبار سبحانه وتعالى إن سألني - والملائكة والأنبياء والصالحون شهود - فإذا تحققتم
إخلاصي؛ فلا أظن أنكم تجدون من شيء من كلامي، وإن باين مذهبكم
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) .
(المقام الأول) قولكم: إن مكاتب المنار حرف الكلم عن مواضعه، ولم ينقله
على وجهه.
أقول: لا يمكنني أن أبدي رأيي في هذه القضية؛ لعدم اطلاعي على الكتاب
المنقول منه.
(المقام الثاني) تكذيبكم إياه في قوله [1] : (إنه لا يوجد كتاب من كتب فقه
الشيعة إلا وبه:، أنه لا يجوز البناء على القبور) ، يعكر عليه ما نقلتم عن كتاب
جواهر الكلام أنه ذكر خبرًا عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: (لا يصلح
البناء عليه) .
ونفي الصلاح فيما يتعبد به؛ يستلزم الفساد، إذ لا واسطة بينهما، والفاسد
شرعًا لا يجوز التعبد به، وعليه فمن قال: إن عدم جواز البناء على القبور موجود
في كتب فقه الشيعة صادق في قوله. نعم إذا كان عدم جواز البناء على القبر يوجد
في بعض كتب الفقه دون بعض لم يصح كلامه.
(المقام الثالث) تأويلكم الخبر فيه نظر بيّن لأن الإمام سئل عن البناء على
القبر: هل يصلح أم لا؟ فقال لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا
تطيينه. هذه أربعة أشياء نفَى عنها الإمام الكاظم (عم) الصلاح في مقام السؤال
عن حكمه شرعًا فلزم أن فعلها فساد عند الإمام (والله لا يحب الفساد) والفساد
محرم لقوله تعالى {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} (الأعراف: 56) .
وقولكم: (وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص أن الجلوس على
القبر ليس محرمًا عندنا فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة للزوم
تساوي المتعاطفات في الحكم) في غاية البعد مع ما فيه من الإبهام إذ لم تبينوا دليل
جواز الجلوس على القبر: أهو البراءة الأصلية أم نص من القرآن أو من حديث
إمام معصوم، أما القرآن فليس فيه دليل على جواز ذلك فإن كان هناك نص صريح
عن النبي أو أحد من الأئمة كان ينبغي لكم أن تذكروه لنضعه إلى جانب كلام
الإمام الكاظم فإن تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر
بشيء من المرجحات توقفنا عن العمل بهما جميعًا وطلبنا دليلاً من الخارج، فإن
وجد؛ حكمنا به، وإلا، قلنا: لا نص معتبر في الجلوس على القبر , ويسلم لنا
نص الإمام الكاظم على عدم جواز البناء على القبر بغير معارض، وظاهره الحرمة
لأن عدم الصلاح في مقام السؤال عن الحكم شرعًا يستلزم الفساد، وهو حرام كما
تقدم.
(المقام الرابع) قولكم: (ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث [2] إلا
قوله: لا يصلح البناء على القبر، وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث
دال على التحريم، ولا شك أن إسقاط بعض الحديث خيانة في النقل) فيه نظر
أيضًا لأنه ليس كل إسقاط موهمًا، وإنما يكون الإسقاط تحريفًا وخيانة إذا كان مخلاًّ
بالمعنى المقصود، أما الاقتصار على ذكر دليل المسألة من الخبر وحذف سائره إذا
كان لا يتغير المعني بحذفه كما هنا؛ فليس بخيانة، بل هو اختصار، وهو مقبول
عند أهل العلم، موجود في كتب الثقاة الأمناء كالبخاري وغيره.
(المقام الخامس) قولكم: ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة
التجصيص [3] قول الصادق (ع) كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر ,
فهو ثقل على الميت: قلتم: وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن
المفهوم منه كراهة أن يهال على الميت من غير تراب القبر فالصادق (ع) كأنه
قال: لا يهال على القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره، ولا
يُؤْتَى بشيء من غيره , فيوضع في القبر إلخ.
أقول: كلام الإمام يقتضي قطعًا أنه لا يوضع على القبر شيء إلا تراب القبر
سواء أكان ذلك الشيء ترابًا أم جصًّا أم تابوتًا وستورًا ومباخر وشموعًا
وغيرها؛ لأن الإمام لم يقل: كل تراب يهال على القبر من غير تراب القبر، فهو
ثقل بل عبر (بما) التي هي من ألفاظ العموم، فلا يصح تخصيصها بجنس التراب
بلا دليل، ولذلك فهم منه صاحب الجواهر النهي عن التجصيص، وحمله على
الكراهة، والظاهر الحرمة؛ لأنه من جنس البناء على القبر، وتقدم الدليل على
حرمته.
(المقام السادس) قولكم: وقال صاحب الجواهر: وكذا يشعر بالكراهة
حديثه عليه السلام [4] قال أمير المؤمنين (عم) : بعثني رسول الله صلى الله عليه
وسلم في هدم القبور، وكسر الصور.
أقول: استدلال صاحب الجواهر بهذا الحديث على كراهة التجصيص يدل
على أنه فهم منه مشروعية هدم القبور مطلقًا سواء أكانت للكفار، أو المؤمنين،
وكسر الصور مطلقاً ولو كانت صور الأنبياء والأئمة، وينافي ما ملتم إليه فيما بعد
من أن مشروعية الهدم خاصة بقبور الكفار.
(المقام السابع) اعترافكم بأن تجديد القبور بعد اندراسها مكروه في مذهب
الشيعة [5] وهو يرشد إلى أن المشروع عند سلف الشيعة هو إهمال القبور وتركها
لأيدي الزمان؛ تعفوها، وتمحو آثارها، وأن تجصيصها وتطيينها والبناء عليها
واتخاذها مساجد، وأعياداً، ومواسم، وجعل التوابيت المزخرفة المذهبة، والستور
المزركشة الموشاة، وتبخيرها واتخاذ السرج عليها، والحج لها والعكوف عندها،
والطواف بها، وتقبيلها والتسمح بها وأخذ ترابها للاستشفاء، والنذر لها، وتقريب
القرابين لها، والإقسام على الله بأهلها؛ وغير ذلك مما يجعلها أوثانًا تعبد من دون
الله، كل ذلك بريد الكفر بل الكفر بعينه، وقد عمت البلوى بهذا الداء العضال الذي
هو أعظم أسباب شقاء المسلمين واستيلاء العدو عليهم وضرب الذالة والمسكنة
عليهم وضلالهم ضلالاً بعيدًا، حتى صار المخلوق في صدورهم أعظم من الخالق،
وصاروا أكثر توكلاً، وأخضع وأرجى للمخلوق منهم للخالق، حتى إنك إذا اتهمت
أحدهم، فسألته أن يحلف بالله ويجمع أسماءه، وصفاته يفعل ذلك بدون مبالاة ولا
خجل ولا وجل، وإذا قلت له: احلف بالشيخ فلان إن كان ممن ينتسب إلى السنة
أو بالإمام فلان إذا كان ممن ينتسب إلى الشيعة ظهرت عليه علامات الاهتمام
والرعب، وخاف أن يحلف بها كاذبًا، وبعضهم يخاف أن يحلف بالمخلوق، ولو
صادقًا، ولا يبالي أن يحلف بالملك القهار ألف مرة كاذبًا.
وكذا يتصدق لوجه المخلوق بكرائم الأموال، ولا يتصدق لله إذا سئل به بفلس،
وهذا أعظم الشرك والكفر، وهو مشاهد في العوام، وفي أكثر الخواص معلوم
بالضرورة إنكاره جحد للضروريات، ومكابرة فيها لكنه عام في الشيعة وأهل السنة
ما رأيت فرقًا بينهم في ذلك إلا أن كثيرًا من أهل السنة متجنبون لذلك متبرئون منه،
وأما الشيعة فلم أختبر خواصهم كثيرًا، ويغلب على ظني أنهم لا يجمعون على
ذلك الضلال البعيد، وهم يتلون كتاب الله ويدرسون أحاديث النبي وآثار الأئمة،
هذا ظني بهم والله أعلم.
(المقام الثامن) إنكاركم على المكاتب قوله: لا يوجد كتاب من فقههم إلا،
وفيه: لا يجوز البناء على القبور وتجديدها والسرج عليها [6] ، وقولكم: إنه لم
يتعرض أحد من فقهاء الشيعة لذكر الإسراج على القبر، وذلك يقتضي أنه غير
مكروه عندهم، فادعاء المكاتب وجود ذلك في كل كتاب من فقههم بهتان عظيم،
هذا معنى كلامكم.
أقول: الذي يغلب على ظني أنكم أنتم أعلم بما في كتب الشيعة من المكاتب ,
ولو كان ذلك في كل كتاب؛ لما خفي عليكم، وعليه فظاهر كلامه غير صحيح،
لكن يمكن أن يكون قد اطلع على النهي عن الإسراج في بعض كتب الشيعة , ولم
تطلعوا عليه أنتم، أو سهوتم عنه حين كتابتكم هذا الجواب، فظن أن ذلك موجود
في جميع كتبهم؛ فأطلق في كلامه، ولا غرابة في ذلك , فقد يوجد في النهر ما لا
يوجد في البحر، وعلى كلٍّ؛ فالواجب عليه ألا يطلق إلا بعد تحقق وجود ذلك في
كل كتاب من فقههم.
(المقام التاسع) تشنيعكم على المنار ومكاتبه ورميه بالافتراء والتحريف
والتحامل على الشيعة والسعي في تشويه سمعتهم [7] .
أقول: أما مكاتب المنار؛ فلا أعرف حاله، وأما صاحب المنار فالذي أعتقده
فيه هو الصدق فيما ينقله، وأنه لا يتحامل على الشيعة، ولا يغضي عن عيوب
أهل السنة ويبحث عن عيوب الشيعة، بل كل من طالع المنار علم يقينًا أنه انتقد
على أهل السنة , وأنكر عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة، وهذه مجلدات المنار
شاهدة بذلك , وقولكم: وكم من فرق بين بناء نفس القبر وبين القبة المبنية على
أساسات لا دخل لها بالقبر أصلاً [8] .
أقول: لو لم يرد في الأحاديث إلا النهي عن البناء على القبر؛ لخص النهي
به , ولم يتناول القبة، أما وقد عزز الشارع النهي عن البناء بالنهي عن اتخاذ
المساجد عليها ولعن فاعل ذلك في مرضه الذي توفي فيه فواضح أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان ينهى عن كل بناء على القبر أو حوله ويأمر بهدمه، وكذلك فعل
عليٌّ (عم) بعده وسائر الأئمة، ولم يتجرأ أحد على بناء قبة على قبر في زمانهم.
والذي أعتقده في علي عليه السلام أنه لو رأى ما يفعله الغلاة عند القباب التي
ابتدعوها لحرقهم كما حرق الغلاة، وحاشا للسلف الصالح أن يرضوا بهذه الأوثان،
وهذا الذي أعتقد وأدين الله به.
(المقام العاشر) في قولكم: قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب
الكليني عن سماعة قال: سألت الصادق عن زيارة القبور وبناء المساجد عليها ,
فقال: (أما زيارة القبور فلا بأس، ولا يبنى عليها مساجد) . قال النبي صلى الله
عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا , فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد) اهـ.
ثم قلتم: ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة
بصورة توهم أن الصادق (ع) استشهد به على قوله مع أن الحديث النبوي لا
وجود له في كتاب الكليني أصلاً.
نعم توجد رواية مرسلة في بعض كتب الشيعة وكيف كان؛ فليعلم أن جميع
ما جاء من بناء المساجد واتخاذها على القبور أو فيها أو عندها حسب اختلاف النقل؛
إنما يراد به النهي عن جعل نفس القبر مسجداً، أي موضعاً يسجد عليه، وليس
المراد ما هو معروف بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه.
أقول: فيه اعترافكم بأن الإمام الصادق (ع) أفتى بأنه لا يبنى على القبور
مساجد , وهو صريح في المنع من بناء المساجد على القبور، ولكن تأولتموه على
أن النهي إنما هو عن جعل القبر مسجدًا أي محلاًّ للسجود لا عن بناء المسجد على
القبر؛ لأن ذلك كما قلتم: لا يتصور إلخ.
أقول: هذا تأويل بعيد جدًّا كنت أربأ بكم عن ارتكابه ويرده:
(أولاً) أن قوله: لا يبنى عليها مساجد نهي عن البناء لا عن السجود، فإن
السائل سأله عن الزيارة والبناء؛ فأثبت الزيارة ونفى البناء , ولم يتعرض السائل
ولا المجيب للسجود على القبر ولا تشم رائحته من كلامهما، فحمل كلام الصادق
عليه من أبعد التأويل، بل هو سلب لمعنى اللفظ الذي يدل عليه دلالة مطابقة،
وتحميله معنى آخر لا علقة بينه وبينه.
(ويرده ثانيًا) أن بناء المسجد على القبر نفسه لا يتصور ولا يعقل كما قلتم،
وكذلك لا يعقل أن يريد الصادق وجده صلى الله عليه وسلم النهي عن السجود
على القبر، ويعبر عن ذلك بالنهي عن بناء المساجد على القبور، والنبي صلى الله
عليه وسلم أفصح العرب، والصادق من أفصح العرب، ولو أراد عالم اليوم أن
ينهى عن السجود على موضع فقال للمخاطب: لا تبن مسجدًا على هذا الموضع؛
لعيب عليه ذلك , وعد غالطًا , أو جاهلاً باللغة , فكيف يقع ذلك من أبلغ الناس.
(ويرده ثالثًا) أنكم اعترفتم بأن أحاديث الباب وردت بألفاظ في بعضها
النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وفي بعضها النهي عن اتخاذ المساجد على القبور،
وفي بعضها النهي عن اتخاذها عندها، وفي بعضها النهي عن اتخاذها فيها , وفي
بعضها النهي عن بناء المساجد عليها , فهذه خمسة ألفاظ.
(اللفظ الأول) يحتمل معنيين: (أولهما) النهي على بناء المساجد عند
القبور , كما تدل عليه بقية الألفاظ.
(والثاني) ما ذكرتم وهو اتخاذ القبور نفسها موضعًا للسجود , ويتوجه أن
يكون دالاًّ عليهما معًا فتكون فيه فائدة زائدة على ما بعده.
(اللفظ الثاني) النهي عن اتخاذ المساجد على القبور , هذا اللفظ واضح
المعنَى , وهو يفسر سائر الألفاظ ويقطع النزاع لورود مثله في كتاب الله تعالى ,
وذلك قوله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} (الكهف: 21) , قال الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير في تفسيره عند هذه
الآية ما نصه: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (أحدهما) أنهم المسلمون
منهم , (والثاني) أهل الشرك منهم , والله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ , ولكن هل هم
محمودون في ذلك؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) , وقد روينا عن أمير المؤمنين
عمر رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى على
الناس , وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها
انتهى.
ولم يفهم أحد من المفسرين فيما علمت أنهم أرادوا أن يسجدوا على أجسادهم ,
أو يبنوا فوقها مسجدًا , بل فهموا ورووا عمن قبلهم أنهم أرادوا أن يتخذوا مسجدًا
أي يبنون عند باب كهفهم تبركًا بهم وتعظيمًا لهم , وذلك مخل بالتوحيد , ولذلك
رجح الحافظ ابن كثير أنهم مذمومون على ذلك، ويظهر لي أن الذين غلبوا على
أمرهم هم أهل الشرك؛ لأن أهل التوحيد لا يتخذون المساجد عند قبور الأنبياء
والصالحين؛ لأن الله حرم ذلك , ولعن فاعله على لسان نبيه.
وهذا من دقة نظر الإمام ابن كثير وسعة اطلاعه وجمعه بين الكتاب والسنة ,
وقد اتضح أن المراد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور
هو بناؤها حولهم أو بالقرب منهم خوفًا عليهم من الفتنة والوقوع في الشرك كما وقع
للذين من قبلنا , وقد اتبع سننهم من أراد الله فتنته من هذه الأمة؛ فوقعوا في مثل ما
وقع فيه من قبلهم من الشرك، ومن تأول الحديث على النهي عن السجود فوق القبر؛
لزمه أن يفسر الآية بذلك , وتأويلها بذلك ظاهر الاستحالة.
(اللفظ الثالث) النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور , وإذا أردنا أن نعرف
معنى هذا اللفظ على التحقيق؛ ينبغي لنا أن ننظر علام يدل لفظ (عند) في اللغة؟
قال المختار بن بونا في أرجوزته الممزوجة بألفية ابن مالك:
وعند للحضور والقرب وقد ... تضم عينها وفتحها ورد
قال في حاشيتها: للحضور حسًّا أو معنى , واجتمعا في قوله تعالى: {قَالَ
الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ} (النمل: 40) , والقرب نحو {عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى} (النجم:
14-15) انتهى.
وإذا تحقق هذا؛ فكلمة عند في الحديث إما بمعنَى القرب أو الحضور , وكلا
المعنيين موجود في القباب والمشاهد المبنية حول القبر أو بقربه فهي داخلة في النهي ,
وهذا واضح لا يحتمل التأويل.
(اللفظ الرابع) النهي عن اتخاذ المساجد في القبور هو بمعنى اللفظ الثاني؛
لأن (في) فيه بمعنى (على) , كما في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ} (طه: 71) , وتقدم بيانه.
(واللفظ الخامس) النهي عن بناء المساجد على القبور , وهو بمعنى اللفظ
الثاني سواء؛ لأن المراد باتخاذ المساجد عليها بناؤها عليها.
فتضافرت الألفاظ الخمسة على معنى واحد , وهو النهي عن بناء المساجد عند
القبور أي بحضرتها أو بقربها , وإذا صحب البناء قصد التبرك والتعظيم؛ اشتد
تحريمه لعظم مفسدته حينئذ , وكونه ذريعة موصلة لا محالة إلى اتخاذ قبر ذلك
النبي أو الصالح وثنًا يعبد , كما هو واقع في غالب الأقطار التي ينتسب أهلها إلى
الإسلام، وهم عاكفون على عبادة الخشب وستور الحرير والجدران تبعًا لعبادة
المقبور فيها , ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(ويرده رابعًا) أننا لو سلمنا أن أحد الألفاظ وحده لا يدل على تحريم بناء
القباب على القبور؛ لكانت الألفاظ بمجموعها دالة أوضح دلالة على ذلك , ومن
عرف المعنى الذي لأجله خص النبي صلى الله عليه وسلم قبور الأنبياء والصالحين
بالذكر دون سواهم , وإن كان داخلا في النهي؛ علم يقينًا أن هذه القباب المشيدة
المزخرفة بأنواع الزخارف على قبور الأنبياء والصالحين وغير الصالحين شر على
الإسلام مِنْ سقم على بدن، وعرف مقدار حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجانب
التوحيد إن في ذلك لآيات لقوم يفقهون.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) هو في ص 350 و 351 من الجزء الماضي.
(2) ص 352 أيضًا.
(3) (ص 353) .
(4) (ص 353) .
(5) يعني ولا تجديدها ولا وضع السرج عليها - راجع آخر ص 353.
(6) راجع ص 354.
(7) ص 345.
(8) ص 355.(28/439)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربية
عند خواص أمريكا
ذكر مستر تشارلس كراين الأميريكاني الشهير في محاضرته التي ألقاها في
جمعية الرابطة الشرقية (أنه يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد ,
وتشابه عقائد هذه الطائفة من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة) , وذكر أنه
ظهر فيها رجال عظماء في أوربة وأمريكا أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، وذكر
أنه كان في مقدمتهم في الولايات المتحدة صديقه الرئيس (إيليوت) الذي بقي مدة
أربعين سنة رئيسًا لأعظم مدرسة جامعة أمريكية وهي جامعة هارفرد , وقد توفي
في العام الماضي , وذكر أنه لقنه قبل وفاته سورة الفاتحة قائلاً له: اسمع هذه
الصلاة الإسلامية الجميلة - وذكرها قال: (فأعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا ,
وكانت هي آخر العهد بيننا) .
وقد زار صديقنا الأمير شكيب أرسلان الشهير الولايات المتحدة في الشتاء
الماضي , فكان مما اطلع عليه من نفائس مخبآتها جمعية سرية مؤلفة من خواص
العلماء والكبراء تعقد اجتماعات خاصة في محافل لها يلبس فيها أعضاؤها
الطربوش والعمامة، وألقابهم فيها عربية إسلامية، وتحيتهم فيها (السلام عليكم) ,
واسم الجمعية مرادف لاسم الكعبة , واسم المحفل من محافلهم الجامع إلخ ما ستراه.
فظهر لنا من هذا أن مستر تشارلس كراين منهم , وأن صديقه العلامة
(إيليوت) كان منهم , ذلك بأن مستر كراين كان إذا دخل علينا يحيينا بالسلام , فنظن
أن ذلك مجاملة منه , وتمرين للسانه على النطق بالتحية العربية التي يحب أهلها.
كتب الأمير شكيب مقالته في المقارنة بين هؤلاء الأمريكيين وبين حكام الترك
الكماليين ومقلدتهم من المصريين الدعاة إلى هدم مقومات الإسلام والعرب تقليدًا
للإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من زي ولغة وعادات مهما تكن قبيحة، ونشرت هذه
المقالة في جريدة الشورى , ونقلتها عنها جريدة كوكب الشرق بعد مقدمة، ثم نقلتها
مجلة العرفان , وأضافت إليها بعض الصور والرسوم لأعضائها جاءتها من مراسل
لها في الولايات المتحدة , ونحن ننشرها مع مقدمة الكوكب وهي:
***
مهين عند قومه مكرم عند الناس
سفير مصر يلبس القبعة في تركيا مراعاة لشعور حكومتها
وسفير تركيا في مصر لا يحفل بشعور حكومة مصر
مقال بديع من قلم الأمير شكيب أرسلان
قرأنا في الصحف أن سعادة عبد العظيم راشد باشا وزير مصر المفوض في
تركيا بدأ عمله الرسمي في الآستانة بحديث امتدح فيه البرنيطة , وحقر الطربوش
ناسيًا أنه شعار بلاده الرسمي من مليكها إلى نوابها وشيوخها وأعضاء حكومتها ,
وأنها في وقت ما نهضت لتستبدله بالبرنيطة عارضت كل هيئاتها الرسمية في ذلك ,
وفي المقدمة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس النواب سعد باشا زعيم الأمة.
لا بد أن سفيرنا العظيم أراد أن يستميل إليه الأتراك وأن يكون قريبًا من قلوبهم ,
ولكن ألا يتم ذلك إلا بتحقير شعارنا الرسمي , وإلا بأن يكون التقرب على حساب
قومه وبلاده؟ ؟ وهل هو عين في وظيفته ليرفع رأس مصر وليعلي من شأن زيها؟
أو ليكون في المجلس الذي هو فيه لا يهمه إلا أن يرضي جلساءه , ولو بالنيل منه
فيكون ذلك شأن (الستري) لا عمل السفير؟ ؟
لقد أدى عبد العظيم باشا راشد في مثل هذه الأيام فريضة الجمعة في جامع
عمرو بالجزمة , وها هو مع أنه يلبس الطربوش , ومع أنه يمثل لابسيه يراه دون
البرنيطة ورمز التأخر، فهل تقره وزارة الخارجية على ذلك؟ وهل يبقى مع هذا
أهلاً لأن يمثل البلاد؟
وهل غاب عن سعادة عبد العظيم راشد باشا سفير مصر في تركيا أن محيي
الدين باشا سفير تركيا في مصر يلبس القبعة التي اختارتها حكومة بلاده لشعارها في
جميع الحفلات الرسمية وغير الرسمية في هذه الديار؟
ولقد كان من الواجب عليه ألا يلبس غير الطربوش الذي لا يزال شعار
الحكومة التي يمثلها.
بهذه المناسبة ننشر المقال الآتي الذي أرسله إلى (الشورى) الأمير شكيب
أرسلان من الديار الأمريكية تحت العنوان الذي صدرنا به هذا المقال.
خلع بعض الشرقيين الطربوش , وعدوا لبسه دنيئة من الدنايا , وحاكموا
عليها الناس ودقوا أعناقهم.
وأوشك آخرون أن يقتدوا بهم لو لم يمسك رجال الحل والعقد برمق الكرامة
الشرقية ويقفوا في وجه أولئك الحمقى الذين ألقوا على دعايتهم الأجنبية اسم (تجدد) ,
وأنكرت فئات لبس العمائم , وزعمت أنها رمز الهمجية , وضربت الرقاب من
أجل لبسها , وودت زعانف آخرون أن تضرب الرقاب على لوث العمائم , كما
تضرب على لوثها في تركيا , ولو قام أحد منذ سنوات قلائل وحدثنا بأنه سيكون من
الشرقيين أناس يبلغ بهم التقليد الأعمى أن يجازوا بالقتل من لبس الطربوش , أو
العمامة؛ لظننا أنه ممسوس يخلط أو محموم يهذي , ولكننا رأينا ذلك بأعيننا
وسمعناه بآذاننا.
وحاول أناس أن يحملوا الشرقيين والعرب خاصة على التفصي من كل شيء
شرقي أو عربي , وزعموا أن لا حياة للأمم الشرقية بدون ذلك.
ولسنا نعجب من أن يصاب الشرق بمثل هذه الأمراض الاجتماعية على أثر
الحرب الكبرى , وأن ينكر الشرق بعض بنيه , وأن يحتقروا كل ما هو منسوب
إليه؛ فما زالت الأمم قديمًا وحديثًا تبتلى بمثل هذه الأمراض , إذ مجموع الأمة
عبارة عن جسم معنوي لا يخلو من أن تطرأ [1] على الجسم الحيواني عوارض
الأمراض البدنية.
ولكن الطربوش والعمامة والزي الشرقي واللغة العربية كل ذلك كان مكرمًا
معززًا مقدسًا في بلاد غربية تعرف الفضل وذويه , ولا يمنعها كونها أعرق البلاد
في التغرب أن ترفع للشرق منارًا، وتحيي له آثارًا.
يوجد في أمريكا جمعية شريفة نابهة عالية القدر اسمها (شراين) , ومعنَى
هذه الكلمة (الكعبة) , أو المكان المقدس الذي يحج إليه.
وليست هذه الجمعية من الجمعيات الماسونية ولكن مبادئها أشبه بمبادئ
الماسونية , وبعبارة أخرى: لا يوجد في مبادئ الجمعية ما يناقض المبادئ
الماسونية , ثم إن بين جمعية (شراين) والماسونية رحمًا ماسة؛ إذ لا يدخل هذه
الجمعية إلا من كان منسوبًا إلى الماسونية , ولا يكفي أن يكون منسوبًا إلى الماسونية ,
بل شرط الدخول في جمعية (شراين) أن يكون المريد مترقيًا في الماسونية إلى
درجة 32 , ومن علم مبلغ أهمية الماسونية في أميركا , وأنها هي مصاص هذه
الأمة الأميركية العظيمة , وتأمل في شرط الدخول إلى جمعية الكعبة المشار إليه؛
أمكنه أن يفهم في أي ذروة هي هذه الجمعية من ذرى الاجتماع الأميركي.
ويقدر عدد المنسوبين إلى جمعية الكعبة هذه بمائتي ألف وخمسين ألف
شخص.
من الفضول أن نقول بعد الذي تقدم من الكلام: إنهم جميعًا من الطبقة الراقية ,
ولهم محافل عديدة , ومنهم عدد كبير من رجال الحكومة من أمير وأعضاء مجلس
الشيوخ , بل ممن تولوا رياسة جمهورية الولايات المتحدة , والمحفل يسمَّى عندهم
(Mosque) أي (الجامع) , والمريد يسمَّى (شريفًا) , فكل المنتظمين في سلك
هذه الجمعية يطلق عليهم لقب شريف.
ويوجد عدا لقب شريف لقب (حاج) , وهذا يطلق على من يكون قد جاء من
محفل زائرًا محفل مكة وأثبت لدى هذا المحفل أنه ترك عند عائلته مالاً يكفيهم
لمعيشتهم إلى أن يكون رجع إليهم، فإنه يوجد عندهم محافل بأسماء عربية , ولكن
أسماها محفل نيويورك , وهو الذي يسمَّى بمحفل مكة
وقد علمت من أسماء محافلهم محفل سلام في نيويورك من ولاية نيوجرسي،
ومحفل الملائكة في لوس أنجليوس من ولاية كاليفورنيا، ومحفل عنزه بالمكسيك
وبلغني أن عندهم: محفل دمشق، ومحفل بغداد، ومحفل مصر، ومحفل عمر،
ومحفل علي، ومحفل رمضان، ومحفل زمزم، ومحفل المدينة، ومحفل فلسطين،
ومحفل الناصرة، ومحافل أخرى تحمل كلها أسماء عربية. وهذه الأسماء يلفظونها
بالعربي لا بترجمتها في اللغة الإنجليزية.
ولهم في ولاية بنسلفانيا محفل كبير فخم البناء مكتوب عليه بأحرف كبيرة
(أشهد أن لا إله إلا الله) وإذا دخل الواحد منهم إلى المحفل فلا بد أن يقول: (السلام
عليكم) يلفظها بالعربية، وعلى جدران أبهاء المحافل توجد آيات قرآنية كما هي
على جدران المساجد عندنا، ولا يجوز للداخل أن يدخل المحفل إلا بالطربوش ,
فالطربوش هو اللباس الرسمي للمنسوبين إلى جمعية (شراين) , أما أصحاب
الرتب الذين ترقوا في الجمعية؛ فيلبسون العمائم والطيالس.
وكثيرًا ما يجتمعون في الاحتفالات , ويخرجون في الشوراع مئات وألوفًا
وهم بالطرابيش والعمائم , وليس التعارف فيما بينهم على الطريقة الأوربية أي أن
الإنسان لا يكلم الآخر إلا بواسطة رجل يعرفه , بل طريقة التعارف عندهم أشبه
بطريقة الشرقيين , فإذا شاهد الواحد الآخر لابسًا طربوشًا؛ تقدم إليه وصافحه بدون
واسطة قائلاً له: السلام عليكم.
ثم إن المنسوب إلى هذه الجمعية يحمل على صدره زرًا عليه صورة سيف
وهلال ونجمة , فالهلال راكب عليه السيف والنجمة من فوقه , وهذا هو شعار
الجمعية.
قصدت بهذه المقالة أن يعلم من في الشرق أن الطربوش والعمامة والجبة
واللغة العربية والآية القرآنية والأزياء الشرقية يتنافس بها المتنافسون في أكمل
وأغنى مراكز المدنية الغربية , بينما كثيرون من الشرقيين يحقرونها , وينفضون
أيديهم منها {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
(المنار)
إن للجمعية الماسونية أسرارًا ورموزًا لا يفقهها إلا بعض أولي النهاية من
زعمائها كما كان شأن جمعية الباطنية من الشيعة. ومنها أن هيكل سليمان رمز
عند اليهود من أولئك الزعماء المؤسسين لاستعادة الهيكل من المسلمين؛ بل لتجديدهم
ملك سليمان؛ ولذلك نجد للصهيونيين أعوانًا كثيرين من النصارى كلهم من الماسون
فيما أظن.
وقد كان المعروف من رموز الماسونية بعضه يهودي , وبعضه نصراني
كالتثليث مثلاً.
ولم يبلغنا أن فيها شيئًا إسلاميًّا قبل جمعية الكعبة التي علمنا خبرها في هذه
الأيام، وهو في رأينا الاجتماعي ارتقاء في الماسونية إلى أفق أعلى، جزم الأمير
شكيب بأنه خروج منها. فمن لنا بمن يكشف لنا سر ذلك ويعرف الواضع له؟
__________
(1) المنار: كذا في الأصل المطبوع , والظاهر أنه سقط منه شيء , وأن يكون أصله: لا يخلو من أن تطرأ عليه عوارض الأمراض الاجتماعية كما تطرأ على الجسم الحيواني عوارض الأمراض البدنية.(28/450)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار
(5000 جنيه مكافأة على خدمته للملك وقومه 10000 جنيه رواية أخرى
1000 أو 2000 أجرة تعب العمل في المؤتمر 6000 جنيه بحيلة طبع المغني
وابن كثير , 600 جنيه باسم الجرائد المصرية. آلاف الجنيهات مبهمة في رواية
أخرى) .
لا بدع ولا غرابة إذا خطر في بال بعض الناس أن الملك العربي عبد
العزيز بن السعود يكرم صاحب المنار , أو أكرمه بالمال وبغير المال - ولا غرابة
في تقدير بعضهم لهذا الإكرام بكذا وكذا من المبالغ بحسب آرائهم، ولا عجب إذا
ذكر بعض الناس ما قدروه من هذا المال؛ فظن آخرون أن هذا التقدير رواية لا
رأي، وتناقلوه تناقل الروايات.
نقول: إن كل هذا ليس بغريب لأن من شأن مثله أن يقع، وقد وقع بالفعل ,
وكثر فيه القيل والقال , وتناقله خواص الناس كما ذكرنا ذلك في فاتحة الجزء الأول
من هذا المجلد من المنار (28) نقلاً عن بعض كبار العلماء والوجهاء , ونسمي
الآن من كبار العلماء الذين تحدثوا به في مصرالأستاذ الشهير الشيخ محمد بخيت
فهو أول من سمعنا منه رواية الخمسة الآلاف من الجنيهات التي تحدث بها بعض
الخواص في مصر - وأما صاحب رواية العشرة الآلاف التي تحدث الناس بها في
أوربة فقد سمعها الأمير ميشيل لطف الله في مدينة (جنيف - سويسرة) .
أمثال هذه الأحاديث إذا دارت بين خواص الناس لا ينبغي أن يهتم مثلنا
بتكذيبها إن ذا كانت كاذبة؛ لأن الذين يتحدثون بها لا يعدونها عارًا , ولا يقصدون
الطعن في عالم يأخذ مساعدة أو مكافأة على نشر العلم والدين من ملك من الملوك
الكرام.
وأما غيرهم من اللئام والحاسدين والسفهاء والخصوم الذين يفترضون سماع
مثل هذه الإشاعات أو يفترونها للطعن على من يأخذ أمثال هذه المبالغ التي تعد
عظيمة في هذا العصر , فيذمون آخذها بما شاءت آدابهم، وتحركت به أهواؤهم،
فقد اعتدنا أن نحتقر كل ما يقولون ويكتبون ونعده كالعدم، وماذا يهمنا إذا سفه سفيه ,
أو احترق قلب حسود؟ ؛ لهذا ذكرنا الخبر في أهم مكان من المنار (وهو فاتحة
المجلد) ولم نصدقه؛ لأنه غير صدق، ولم نكذبه لما ذكرنا آنفًا.
وقد سمعنا وقرأنا في بعض الصحف لغطًا كثيرًا في ذلك منذ العام الماضي
إلى الآن؛ فلم نحفل به على عادتنا.
ولكن السفهاء لم يقفوا عند حد أخذ صاحب المنار ألوفًا من الجنيهات مكافأة من
ملك الحجاز ونجد على خدمته السابقة له ولقومه على قولهم، أو مساعدة له على
خدمته المستمرة للعمل والدين على ما يدين الله به ذلك الملك من كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج سلف الأمة الصالح، وإن عد ذلك بعضهم
نقيصة فينا ودليلاً على أن هذه الخدمة التي كاد يمر عليها ثلث قرن لم تكن لوجه
الله تعالى , وإنما كانت لأجل أموال ابن السعود - كأننا كنا نعلم الغيب على تقدير
صحة زعمهم.
لم يقف خصومنا في ديننا ومذهبنا السلفي من ملاحدة وطننا هذا - ومن
روافض العلويين في جاوه الداعين إلى عبادة علي رضي الله عنه وذريته، ومن
بعض الحاسدين لنا على مكانتنا عند هذا الملك المسلم التقي السلفي - لم يقفوا عند
هذا الحد، بل أخذوا يختلقون علينا سلب مال الملك بالحيلة والسرقة (والنصب) ,
ويكتبون ذلك في بعض الصحف , ومنها صحف لا نراها عادة لعدم المبادلة بينها
وبين مجلتنا , أو لأنها لا تصدر إلا عند الحاجة إليها، وقد كان من سوء تأثيرها أن
كتب إلينا صديق لنا من خيرة فضلاء الحجاز رقعة أودعها كتابًا له يذكر فيها هذه
الإشاعات , ويزيد عليها قوله: (هذا عدا ما أتحفكم به جلالة الملك من الهدايا
والتحف الثمنية) - ويقول: إنه دافع عنا من حدثوه بتلك التهم على عدم وقوفه على
شيء مما قيل إلخ , وقد كان لهذه الرقعة من سوء التأثير في نفسنا ما كان هو
الحامل المباشر على بيان الحقيقة في المنار؛ فنقول:
أرسل إلينا أحد أصدقائنا في سورية نسخة من عدد جريدة ألف باء المشهورة
الذي صدر في دمشق في 9 يوليو (تموز) الماضي فإذا فيه ما قاله من راسل
الجريدة بمكة المكرمة بإمضاء (أبو هشام) في ذي الحجة الماضي يثني فيها على
ملك الحجاز ونجد ويخاف على أعماله الإصلاحية أن يتركها لمن لا يهمهم إلا جمع
الآلاف من الجنيهات , أو حب الذات وكرسي الوظيفة - وحينئذ تبوء مساعيه
بالفشل، ثم قال المراسل بعد هذا السياق:
ولنعد الآن لموضوعنا , فإننا ذكرنا ما التهم سادتنا المتعممين (كذا) من
ألفي جنيه وألف جنيه أجرة أتعابهم بالمؤتمر , فظن البعض أننا مغالين (كذا)
وربما جاراهم الأستاذ صاحب ألف باء بهذا الظن، ولكن ما قولهم وقول الأستاذ
بالتهام ستة آلاف جنيه آخر (كذا) ؟
وإليك البيان: يوجد في نجد كتابان خطيان وهما: (شرح المغني لابن
قدامة , وتفسير ابن كثير) وهما كتابان سلفيان؛ فلما كان المؤتمر الإسلامي منعقدًا
أطلع جلالة الملك عليهما الشيخ رشيد رضا؛ فتعهد الشيخ بطبعها لقاء ستة آلاف
جنيه , وهكذا تم الاتفاق , وتناول المبلغ , وباشر بالطبع , ولكن أتعلم ماذا طبع؟
طبع من كل كتاب جزءًا واحدًا , وأهمل بقية الأجزاء، وقد خاطبه جلالة الملك
مرارًا بتنفيذ تعهده وما تناوله لقاءه (كذا) , فكان الشيخ يحاول تارة ويعتذر أخرى
إلى أن ضاق ذرع جلالة الملك؛ فطلب أن يرد الكتابين وهو مسامح بالستة آلاف
جنيه , وللآن لم يردهما , ولم يقم بطبعهما مع أنه تناول المبلغ سلفًا.
فما قول الأستاذ صاحب ألف باء الذي مسخ لي مقالي السابق في هذا
الموضوع؟ , وما قول القراء الكرام؟ , وما قول سادتنا العلماء؟
ولا يظن أحد أن هذه القصة مختلقة , أو تصورتها مخيلة الكاتب، كلا فأنا
مستعد أن أناقش كل فرد يكذبني لأن الذي أطلعنا عليها كان هو الواسطة , وهو
رجل ثقة أمين واقف على كل شيء حتى إنه من أنصار الشيخ , ولكنه قالها عفوًا ,
وما علم أنها ستذهب إلى ألف باء , ولولا الخوف على الرجل لذكرت اسمه [1] ولكن
لا سبيل إلى ذلك.
حتى إن السيد الطيبي كان حاضرًا ذلك المجلس , ويقول المثل: (إذا أردت
أن تكذب فبعد شهودك) , ولكن ولله الحمد الشهود موجودون.
وهذه الحادثة يعلمها كثيرون من أعضاء المؤتمر من أهل الحجاز وغيرهم
من الأعضاء.
ونحن لا نقصد التشهير , وإنما نقصد أن يعرف الناس أن هؤلاء العلماء
الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى أخرى لا يهمهم من وراء هذه الدعوى الفارغة
إلا صيد القروش.
ورب معترض يقول: إن الشيخ رشيدًا قام بدعاية عظيمة لابن السعود ,
وخدمه أجل خدمة , فهو يستحق هذا المبلغ أو أكثر منه - فنحن لا ننكر ذلك , ولا
نجحد خدمة الشيخ للملك , ولكنه لماذا ينادي بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب
طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ... ... ... ... ... أبو هشام
(المنار)
لا أعرف أبا هشام هذا , ولم أطلع على مقالته الأولى التي يظهر من هذه
الثانية أنه ذكر فيها أنني أخذت من جلالة الملك ألف جنيه أو ألفين أجرة عملي في
المؤتمر، وكل ما كتبه عني في المقالتين كذب واختلاق , لو كان محررًا في جريدة
السياسة أو جريدة حضرموت؛ لما كنت أبحث ولا أتعجب من اختلاقه.
ويظهر من تأكيداته للخبر وتصريحه بأنه يدفع بها عن نفسه تهمة الكذب
أنه يعلم أن الأستاذ صاحب جريدة ألف باء وغيره يعهدون منه الكذب , كما يظهر
من حرصه على تصديقه , ومن استنباطه لما استنبطه منه أن له هوى فيه , إما
لأنه مأجور عليه وهو الراجح عندنا قياسًا على أمثاله وأقتاله , وإما لسبب آخر.
الراجح عندنا أنه قد أخذ أصل هذه الفرية , وما قبلها في الحجاز عن ذلك
الرجل المصري الذي كان هو المصدر الوحيد لكل ما نشر في جريدة السياسة
وغيرها , من الطعن فينا وفي السوريين الذين استخدموا في حكومة الحجاز أو عن
أحد أعوانه.
ونحن نعلم من مخازي ذلك الرجل وخياناته القطعية ما نستطيع أن ننشره في
جرائد العالم الإسلامي كله , لو كنا ممن يتصدى لعقاب المجرمين بمثل هذا.
ولكن ما بال أبي هشام أصلح الله باله يخرج عن حدود الشرع والعدل في
تأكيد بلاغ هذا المبلغ له , لو لم يكن مستأجرًا له والله تعالى يقول للمؤمنين: {إِن
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) .
وقد اطلعنا في جريدة ألف باء على رسالة لكاتب مطلع كذب فيها رواية أبي
هشام التي يدعي أنه يراهن على صحتها , فما له لا يبرز للرهان؟ أليس لأن
التكذيب مؤيد بالبرهان؟ وحسبه منه أن كلاًّ من كتابي المغني وابن كثير يقدر بنحو
من عشر مجلدات كبيرة , وأنه طبع من كل منهما ثلاث مجلدات من القطع الكبير -
فإن كانت رواية مخبره (الأمين) بأن صاحب المنار أخذ من الملك في أيام المؤتمر
ستة آلاف جنيه لنفقة طبع الكتابين صحيحة؛ فكيف يتصور عقله أن يطبع مثل
هذان الكتابان اللذان يقدران كلاهما بعشرين مجلدًا في أقل من سنة؟ , وإن عدم
إنجاز طبعهما في أقل من سنة يوجب ما ذكره من تبرم الملك وطلبه إعادة الكتابين
إليه مرارًا؟ ؟
وأنا أعتقد أنه لا يوجد بمصر مطبعة يمكنها طبع هذين الكتابين في سنة ولا
في سنتين ولا ثلاث لا مطبعة المنار ولا غيرها , ولا أستثني المطبعة الأميرية التي
تعد آلات الطبع فيها بالعشرات إلا أن تترك أكثر أعمالها الأخرى.
وقد طبع القسم الأدبي الخاص بطبع الكتب (صبح الأعشى) في ست سنين
وهو أصغر من أحد الكتابين.
وإذا لم يكن مأجورًا على التشهير في الطعن على صاحب المنار فما معنى
قوله إنه يقصد إعلام الناس أن هؤلاء العلماء الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى
أخرى , لا يهمهم من وراء هذه الدعوى إلا صيد القروش؟ , وهذه العبارة هي
عبارة مصدر سائر المطاعن التي أشرنا إليها وإلى صاحبها آنفًا.
ثم إنه قال في آخر مقاله: بأن صاحب المنار خدم ابن السعود أجل خدمة ,
وأنه يستحق عليها هذا المبلغ الذي ادعى أنه أخذه وأكثر منه - فإذا لم يكن صاحب
هوى ومأجورًا على التشهير فلماذا استدرك على هذا بقوله: ولكن لماذا ينادي
بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ؟
من المعلوم الذي لا يمكن إنكاره أن صاحب المنار كتب مقالات كثيرة , وألف
كتبًا في الرد على الطاعنين على الإسلام من المبشرين والملاحدة وغيرهم، وأنه
كتب مقالات كثيرة في التنفير عن البدع والخرافات والتقاليد والعادات الضارة منذ
أول سنة من سنة (1315هـ) ؟ , وأنه يفسر القرآن تفسيرًا هو الآن عمدة أشهر
مدرسي التفسير بمصر , وأنه كتب مقالات كثيرة في سبيل النهضة العربية - فهل
كانت هذه الأعمال من سنة 1315 إلى سنة 1346 لأجل تقاضي ابن سعود أجر
خدمته مدة ثلاثين سنة , لو صح خبر التقاضي الذي افتراه؟ .
ماذا يعلم الطاعن المشهور من دين الإسلام وعلومه؛ فيسوغ له الحكم على
علمائه , ويفرق بن المحصلين والأدعياء منهم - وهو لا يحسن ضروريات اللغة
العربية حتى التمييز بين البديهيات التي يعرفها المبتدئون؟ .
ثم ماذا يعلم من قوادم النهضة العربية وخوافيها؛ حتى يصح له الحكم على
العاملين منهم وغير العاملين؟ دع المخلصين وغير المخلصين؟ أيدري من أسس
جمعية الجامعة العربية وكان يكاتب بمقاصدها أئمة الجزيرة يحيى والإدريسي وابن
السعود منذ بضع عشرة سنة , ويرسل إليهم الوفود؟ هل قرأ رد المنار على ما
كتب أشهر كتاب الترك في مصر سنة 1921 في تفضيل العرب على الترك؟ هل
قرأ تلك المقالات التي نشرت في الآستانة بعنوان (العرب والترك) مع ترجمتها
(عربار تركار) التي شرعت في نشرها جريدة إقدام التركية , ثم لم تتمها؛ لعجزها
عن الرد عليها وقيام الحجة فيها للعرب على الترك؟ هل يعلم على أي الرجال كان
يعول شبان العرب عند قيامهم بإنشاء النادي العربي بالآستانة؟ وهل يقول إذا كان
يعلم شيئاً من ذلك: إن صاحب المنار لم يكن مخلصًا لقومه فيما كان له من
المساعدة في تلك الأعمال؛ لأنه تقاضى في العام الماضي أجرة من ابن السعود على
خدمته الخاصة، على تقدير صحة رواياته المختلقة؟
لو كان منصفًا بريئًا من الهوى لما عد مساعدة ابن سعود له على خدمته
الخاصة تتناول أعماله الدينية والعربية التي بدأ بها شابًّا , ثم اكتهل وشاخ في سبيلها ,
وتكون منافية لدعوى خدمة دينه وقومه بها وهو يصرح بأن كل ما قيل إن
صاحب المنار قد التهمه هو دون ما يستحقه على خدمة ابن السعود وحده؟ وبعد هذا
كله ألم يكن العقل وحده كافيًا للحكم على أن الذي يقف حياته على خدمة عامة؛ له
حق أن يقبل كل مساعدة مالية له على ذلك إذ لا يمكن العمل ولا الحياة بغير مال ,
وأحق الناس ببذل هذا المال الملوك والأمراء؛ لأن مثل هذه الخدمة العامة تستغرق
العمر فلا تدع لصاحبها من الوقت ما يكتسب به من طريق آخر! ! كل هذا
معروف بالضرورة , ولكن الضروريات تكون أخفى من المجهولات عن نظر أهل
الأهواء.
هذا وإنه قد جاءني في البريد قصاصة لمقالة افتتاحية في جريدة تسمى
(الأماني) لم أرها ولم أسمع بها من قبل، عنوان المقالة (شكوى واحتجاج من
الحجاج المصريين) إلى ملك الحجاز ونجد , موضوعها عين موضوع تلك المقالات
المتعددة التي كانت تنشرها جريدة السياسة لمكاتبها في مكة المكرمة - وهو أحد
الأفراد الذين أشرت إلى مصدر عملهم آنفًا - موضوعها الطعن في السوريين
المستخدمين في الحجاز عامة , والشيخ يوسف ياسين خاصة وشكري بك القوتلي
من غير المستخدمين، وكان لصاحب المنار حظ منها وهو قول الكاتب: (فكم من
ألوف الجنيهات حملها ذلك للشيخ رشيد رضا النشيط يوسف ياسين وغيرهم من
أبالسة النفاق , وطوحوا بها حيث تقف مطامعهم وتضل في وادي المادة المحسوس)
اهـ نقلت هذه الكلمة من المقالة؛ لأنها تدل في الجملة على أنني مشارك لأولئك
السوريين في أكل الألوف من الجنيهات بزعم الكاتب، وإن كنت لم أفهم معنى
العبارة لأنها ليست عربية صحيحة ولا عرفية عامية.
وفي آخر هذه المقالة أن صورًا منها أرسلت إلى الوزارة المصرية , وأعضاء
مجلس الشيوخ والنواب , وزعماء الإسلام وأمرائه , وجميع الصحف في البلاد
الإسلامية - ولكن لم نعلم أن شيئًا من صحف العالم نشرها غير هذه الجريدة
المجهولة التي ذكرت أنه جاء في آخرها 37 توقيعًا.
ولكل عاقل اطلع عليها أن يقول: ما للحجاج وللطعن في السوريين الموظفين
بالحجاز؟ هل ذهبوا لأداء النسك وعبادة الله , أو لمعصية بالبحث عن عيوب الناس
وعوراتهم والتشهير بهم؟ , ثم إن كانوا قدموها لملك الحجاز ناصحين له فما شأن
الحكومة المصرية ونوابها وشيوخها وأمراء الإسلام وزعمائه وصحفه في ذلك؟
ومن ذا الذي أطلعهم على عناوين أولئك الأمراء عقب عودتهم من الحجاز ومن
تولى مكاتبتهم والنفقة عليها؟
هذه التواقيع تشبه تلك البرقيات العشرين التي وردت على سمو الأمير سعود
عندما كان بمصر احتجاجًا واعتراضًا على ما كان عزم عليه من زيارة صاحب
المنار، كاشف الأمير صاحب المنار قبيل صلاة الجمعة بأنه يريد زيارته في داره
غدًا , فما جاء المساء إلا وكان قد ورد عليه عشرون برقية أو أكثر من أقسام القاهرة
المختلفة المتباعدة الأطراف في استنكار هذه الزيارة والاحتجاج عليها! فمن ذا الذي
أعلم هؤلاء بذلك الوعد , وماذا أهمهم منه؟
الحق الواقع أن القائم بهذه السخافات رجل واحد صار معروفًا , وله أفراد من
الأعوان بمكة ومصر، فمصدر ما يسمى شكوى الحجاح المصريين واحتجاجهم على
السوريين الموظفين في الحجاز ومصدر تلك البرقيات للأمير سعود واحد - هو
بعينه مصدر ما نشر بهذا المعنى في جريدة السياسة وألف باء وغيرها، والغرض
منها واحد وهي التأثير الذي يطلبون أن يكون لهم عند جلالة ملك الحجاز ونجد
والانفراد بالنفوذ عنده، وأبغض الناس إليهم أشدهم إخلاصًا له، وهم يعلمون أنه
يميز حق التمييز بين المخلصين والمنافقين، ولكنهم يظنون أن هذا التهويش في
الجرائد يقلقه , فلا يجد له بدًا من تضحية أخلص المخلصين له للاستراحة منه.
فإن صح زعمهم فإن الرجل لن يستريح له بال طول حياته سواء ضحى
أصدقاءه أم لا , فقد علمنا من تاريخ السلطان عبد الحميد أن إصغاءه للجواسيس
والدساسين , ولما كانوا ينشرونه في الجرائد في مدحه وذمه هو الذي سلب راحته
وحرم الدولة العثمانية من مواهبه، أعاذ الله ابن السعود من ذلك.
وجملة القول؛ أن كل تلك الإشاعات باطلة , وأما مسألة المطبوعات فكل
ما ذكره فيها أبو هشام فهو افتراء، وإنما الحق أن ابن السعود يطبع عندنا كتبًا كثيرة
منها المغني مع الشرح الكبير، وتفسير ابن كثير مع تفسير البغوي، ولم نقاوله ولا
أحدًا من أتباعه على شيء منها، وإنما نطبع ونقدم لجلالته عند إتمام بعضها كشفًا
(فاتورة) بنفقتها ونطلب منه مبلغًا من الدراهم على الحساب سلفًا أو متأخرًا
فيرسله، وكل ذلك يقيد في دفاتر المطبعة على الطريقة المعروفة فيما يسمونه
الحساب الجاري، وإدارة المطبعة أعلم منا بتفصيل هذا الحساب لأننا نأخذ عنها.
وأما مسألة الهدايا التي كتب إلينا صديقنا أنها مما تناوله حديث الناس في
الحجاز , فالخوض فيها من الغرائب بمكان، إذا من المعلوم عندهم وعند ألوف من
الناس أن هذا الملك كثير الهدايا , وأنه قلما عرف أحدًا من أي جنس وملة كان ,
ولم يهده شيئًا، فما نال صاحب المنار من هداياه مع الصداقة القديمة واتحاد العقيدة
والمشرب ليس غريبًا فيذكر , لولا الحسد من قوم وحب الإفساد من آخرين.
إنني أغتبط بأي هدية منه لأنني أرى فيها آية المودة والإخلاص، لا للانتفاع
بها , فإنها مما لم أكن أستعمله عادة كالعباء الرقيقة الصيفية، ولا لأنها من ملك ,
وقد أبت علي نفسي أن أقبل من الملك فيصل في الشام أن يفرش لي الدار الواسعة
التي استأجرتها , وكان قد عرض علي ذلك , وأنا أعلم أن قيمة ما كان يفرشها به
من السجاد العجمي والأرائك والزرابي والسرر والآنية له قيمة عظيمة. وإحسان
بك الجابري سمع ذلك منه وما أراه نسيه، وقد أحضرت الأثاث لها من طرابلس
قبل أن يشعر فيصل باستئجاري لها.
كتبت هذا كله وإن كان الأخير منه غير لائق في العرف، ولولا ما كتبه إلي
ذلك الصديق لم أكتبه، وأزيد على ذلك أنني لمت هذا الإمام بلسان الشرع قولاً
وكتابة على بسط يده إلى الحد الذي اشتهر عنه من الصلات والهدايا للزائرين من
حجاج الآفاق وغيرهم وبينت له أنني أعتقد أنه محرم شرعًا، فهل هذا مما يفعله
ويقوله من كان طامعًا في ماله بحق أو بغير حق كلا , إنني أحمد الله أن نفسي لا
تستشرف لأخذ مال من أحد بدون استحقاق شرعي، على أنني أثق بما في يد هذا
الأخ في الله كما أثق بما في يدي ولكنني بما في يدي الله تعالى أوثق. وليعلم الحاسد
والمفسد أن الرابطة بيننا هي رابطة دينية روحية خالصة لوجه الله تعالى لا تزيدها
المعاملة المالية ولا تنقصها كما زعموا لأنها ليست للمال ولا لجاه الملك، وأن كل
تلك الإشاعات والتقولات لا تزيدها إلا قوة وثباتًا، هي رابطة لا يقدر على حلها أو
نكث فتلها إلا الله تعالى - والمرجو من فضله أن يحفظها بالإخلاص والعقل وهداية
الشرع - ولا يطمع فيها إلا الشيطان، وأعوانه من بني الإنسان، ولكن الله تعالى
قال في الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 99-100) ,
ونحن بحمد الله من المؤمنين المتوكلين.
__________
(1) المنار: لو كان يفهم الكاتب ما يكتب لعلم انه بيّن اسمه لمن لا يخاف عليه من غيره فإنه قال: إنه كان الواسطة بيننا وبين الملك ومن أدرى من الملك بالواسطة بيننا إن كان ثم واسطة؟ وهل يخاف عليه إلا من الملك أن يعاقبه؟ .(28/465)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين
كتب إلينا بعض القراء من جاوه ومن فلسطين يشكرون لنا ما كتبناه من
التحقيق في مشكلات أحاديث المهدي وأحاديث الدجال وبيان المخرج من مشكلاتها،
وسألنا بعضهم عن أحاديث نزول المسيح عيسى بن مريم لعلاقتها بتلك الأحاديث،
ولكن ليس فيها من التعارض والتناقض والإشكاليات مثل ما فيها، وإن كان بعضها
لا يخلو من ذلك.
وانتقد علينا بعض النجديين هذا البحث، وتمنوا لو لم ينشر، وإنهم لا
يعرفون لنا عذرًا في نشره، ولو كان جميع المسلمين كمسلمي نجد لما كنا في حاجة
إلى مثل هذا البحث، فإنهم قوم يأخذون بالإيمان والتسليم كل ما يجدونه في كتب
الحديث من غير بحث في تعارض ولا إشكال، حتى إن ناصحهم يحتاج إلى
الاحتراس في بيان ضعف بعض الأحاديث متنًا وسندًا؛ لئلا يخدش ذلك التسليم
والإذعان لكل ما نسب إلى السنة، وإن كان لا يصح عزوه إليها أو يعارض
الصحيح القطعي منها، وإذا بحث بعض المشتغلين بالعلم منهم على قلتهم في هذه
المسائل؛ فإنه يقبل في الجمع بين الحديثين، أو في دفع الإشكال الذي يرد على
بعض الأحاديث كل ما يقوله الباحثون في ذلك كالكثير مما أورده الحافظ ابن حجر
مما لا يكاد يعقل، حتى إنه قد يدافع عن الحديث الذي يعد من أقوى المطاعن على
أصول الدين كالتوحيد والرسالة إذا كانت صناعة فن رواية الحديث تعده مقبولاً
كحديث الغرانيق الصريح في إقرار عبادة الأصنام والثناء على اللات والعزى ومناة
الثالثة الأخرى، والمجوز لإلقاء الشيطان في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
لسورة النجم في مدح هذه الأصنام الكبري: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن
لتُرْتَجَى.
دافع الحافظ عفا الله عنه عن هذا الحديث الذي يعترف بأنه لم يصح له سند
بأن تعدد طرقه يقويه! ! ! و ... قاعدة للمحدثين لم ينزلها الله تعالى في كتابه، ولا
ثبتت في سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة،
فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق أو عقلاً لا قيمة له
لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل؛ ولذلك حكم صفوة المحققين من أهل
الحديث والأصول بأن حديث الغرانيق موضوع باطل.
ونحن قد علمنا منتهى شوط الانتقاد علينا من بعض النجدبين بلقائنا هنا لرجل
من أوسعهم اطلاعًا في الحديث , ومراجعته لنا في المسألة مرتين في مجلسين
طويلين , فيذكر صفوة ما دار بيننا وبينه في ذلك باختصار لبعض المسائل وإيضاح
لبعض.
بدأ الكلام في مجلسه الأول بالثناء علينا وعلى المنار وبحب النجديين لنا
لقيامنا من زهاء ثلث قرن بالدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك والبدع
وتأييد السنة ومذهب السلف , ثم انتقل إلى مسألة البحث في أحاديث الدجال والطعن
أو إيراد الإشكالات حتى على الصحاح منها، وما في هذا من مخالفة خطة المنار
ومنهاجه , قال: ولا ندري السبب المقتضي لذلك.
قلت له: إن استشكال هذه الأحاديث وأمثالها من أشراط الساعة قديم حتى إنك
تجد أكثره في شراح صحيحي البخاري ومسلم , وإن لأهل هذا العصر من الاستشكال
ما ليس لغيرهم , ومنهم من يجعلها شبهة على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله، وقد كثر سؤال الناس إياي عنها مشافهة ومكاتبة , فكنت أجيبهم بالإجمال ,
وأعد بكتابة التفصيل في فرصة أخرى، وقد قال لي من عهد قريب بعض إخواننا من
السلفيين المشتغلين بعلم الحديث: الأولى أن لا تكتب في ذلك شيئًا؛ لأن الإقناع بها
متعذر , فنحن نفوض علم الحقيقة فيها إلى الله تعالى ونعدها كأنها غير موجودة.
ولكن الناس يظلون يسألون ويستشكلون، وبعضهم يشككون ويطعنون، فكان
من الواجب على صاحب المنار القائم بفريضة الدفاع عن الإسلام أن يبين للناس ما
يدفع الشبهات عنه، ويثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما صح
عنه صحة لا شبهة فيها.
وقد صرحت فيما كتبت في آخر بحث أشراط الساعة بأن من صدق رواية
مما ذكر فيها ولم يجد فيها إشكالاً , فالأصل فيها الصدق , ومن ارتاب في شيء
منها [1] أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشكلين إشكالاً في متونها؛ فليحمله على
ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية بالمعنى أو غير ذلك مما أشرنا إليه. فعلم بهذا
أن غرضنا من أصل البحث تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل طعن
يورده أحد على بعض هذه الروايات تبرئة يقبلها عقله , ويطمئن لها قلبه، ومن كان
يكتفي برواية الشيخين أو أحدهما فإنه لا يستشكل ما رويا.
قال أخونا النجدي الفاضل: إن بعض ما ذكرتموه من الأجوبة عن التعارض
بين الأحاديث وحل مشكلاتها , مما يتضمن الطعن في أسانيد ما في الصحاح منها
كحديث الجساسة يمكن أن يجاب عنه بأجوبة أخرى مقنعة مع الجزم بصحة الأسانيد.
قلت: إن من جاءنا بأحسن مما جئنا به دفاعًا عن هذه الأحاديث وجمعًا بين
رواياتها؛ نشكر له صنعه , وننشره في المنار؛ ليهتدي الجمهور به، ومن أقنعنا
بخطأ في شيء مما جئنا به؛ نقبله مع الشكر أيضًا.
فعليك إذًا أن تكتب لنا ما عندك في ذلك؛ لننشره , وعسى أن يكون خيرًا
وأهدى سبيلاً.
ثم ذهب الرجل وغاب عنا غيبة طويلة جاءنا بعدها بمقال طويل غير ما
اقترحناه عليه , وقد اتهمنا فيه أننا أنكرنا أحاديث الدجال كلها , وحاول الرد علينا
بإثباتها وفيه أغلاط أخرى - فقرأنا عليه طائفة منه بينا له ما فيها من الغلط، وإن
بعضه قد جاء من عدم فهم عباراتنا التي صرحنا فيها بأنها متواترة تواترًا معنويًّا،
وإن القدر المشترك الذي يدل عليه التواتر المعنوي هو كذا وكذا (ص20 ج1م)
فاعترف بالخطأ , وأخذ منا المقالة ورسمنا له خطة لمقالة أخرى يقول فيها:
إنه اطلع في المنار على بحث كذا , فوجد فيه مطاعن في بعض أسانيد الأحاديث
وإشكالاً وتعارضًا بين بعض المتون , يمكن الجواب عنها بما يدفعها ويثبت صحة
تلك الأحاديث كلها أسانيد ومتونًا، ثم يسرد ذلك بالعدد , ويجيب عن كل منها بما
عنده , وأعطيناه المنار؛ لينقل منه ما يقتضيه الرد بالحرف لئلا يخطئ، بنقله
بالمعنى , ونصحنا له بأن يراجع عند الكتابة شرح البخاري للحافظ ابن حجر
وشرح مسلم للنووي في الكلام على هذه الأحاديث , فوعد بذلك , وانصرف شاكرًا ,
ولما يعد.
وإننا نطالب كل منتقد بما طالبنا به هذا النجدي الفاضل الغيور , ومن المعلوم
من أصول ديننا بالضرورة أن كل أحد يجوز عليه الخطأ إلا المعصوم فيما هو
معصوم فيه , وحسن النية مع بذل الجهد في استبانة الحق مما يرجى به عفواته
تعالى عن المخطئ.
__________
(1) جاء في ص 27\8 من الجزء الأول: ومن ارتاب في كل شيء - ولفظ كل زائد قطعًا.(28/474)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة
الدكتور يعقوب صروف، شيخ الأزهر
بطرك القبط، زعيم الأمة سعد باشا زغلول
اشتدت وطأة الحر في صيف هذا العام على تشبع هوائه الضعيف
بالرطوبة؛ فثقل علينا القيام بأعمالنا العادية الكثيرة، فعزمنا على جعل شهري
إجازة المنار السنوية شهري المحرم وصفر متتابعين، وقد حدث في هذه الفترة وفاة
أكبر أكابر رجال مصر في المنصب والمقام والسن جميعًا يتلو بعضهم بعضًا:
مات أولا الدكتور يعقوب صروف أحد مؤسسي مجلة المقتطف الشهيرة
والمحرر الأول لها عن 75 سنة , وما عهد الاحتفال بعيد المقتطف الذهبي
الخمسيني ببعيد، فكان لموته رنة أسف في مصر وسورية وسائر البلاد العربية ,
وجدد عشاق العلوم والفنون فيها الاعتراف له بخدمتها نصف قرن كامل.
وتلاه الشيخ أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد
الدينية , مات عن 85 سنة , وكان في الرعيل الأول من العلماء المتقنين للعلوم
الأزهرية كلها يقل نظراؤه فيها، ولم يكن معاديًا للإصلاح في عهد الأستاذ الإمام،
بل كان صديقًا له، ولكنه لم يعمل شيئًا في أيام مشيخته، على أن الأزهر في هذا
العهد مقيد بقيود ثقيلة , ودخل جمهور شبابه في مآزق السياسة فصار أمر إدارته أعقد
من ذنب الضب.
وتلاه بطرك القبط الأرثوذكس الملقب برئيس الكنيسة المرقسية , مات عن
زهاء 95 سنة , وكان عظيم الملة القبطية وأعطى منصبه حقه من الوقار
والمحافظة على التقاليد الكنسية، وفي عهده ترقت القبط في الشؤون الاجتماعية
وطالبوا رجال الدين الذي هو رأسهم بإصلاحات كثيرة أهمها: ما يتعلق بشؤون
أوقافهم , وانتفاع الشعب بها، وكانوا أمثل من المسلمين في خدمة دينهم وأوقافهم
وتكافلهم وأدبهم مع رئيسهم الديني , وفي مصالحهم السياسية والاجتماعية وسائر
أمور دنياهم.
***
سعد باشا زغلول
وتلاه زعيم البلاد الأكبر الرئيس الجليل سعد باشا زغلول , مات عن زهاء
سبعين سنة , فزلزلت الأرض، وعظمت أهوالها، وشاركت الشعوب العربية أخاها
الشعب المصري في المصاب , وعدوه مصاب الأمة العربية بأعظم رجل سياسي
نبغ فيها، وتجاوبت برقياتها مع مصر بالتعزية حتى كان أكبر ملوك العرب صاحب
الحجاز ونجد ونائبه الأمير فيصل في مقدمة المعزين للشعب المصري ولحكومته.
بل اهتزت لموته أرجاء الشرق والغرب وأكبرته جرائد الأمم كلها، حتى إن
جرائد أوربة عامة وإنكلترة خاصة قد أظهرت لنا من معرفة قدره وتقدير مواهبه ما
غاب بعضه عن جرائد مصر نفسها.
وأما الأحزاب المصرية وجرائدها؛ فقد أجمعت على إكبار الرجل في نفسه،
وإكباره في عمله، وإكباره في مصاب البلاد به، إجماعًا ظهر أنه خرج من صميم
أفئدة الكتاب، بالرغم مما كان من شذوذ بعض الأفراد والأحزاب.
وقد كان مشهد جنازته والاحتفال بتشييعه مما لم ير له أحد نظيرًا في هذه
البلاد ولا في غيرها إلا في يوم عودته من أوربة إلى مصر عظمة وحفلاً وجلالاً
ووقارًا، إلا أن الحزن العام، وقد اقتضى بطبعه شيئًا من الإخلال بالنظام، فإن
الجماهير من دهماء الشعب كانوا يهجمون المرة بعد المرة على النعش بسائق أقرب
إلى الاضطرار منه إلى الاختيار، وظهر أنهم كانوا يريدون انتزاعه , وإخراجه من
مركبة المدفع التي وضع عليها لحمله على أعناقهم.
لا يتسع هذا الجزء من المنار لوصف المصاب , ولا لوصف الفقيد العظيم
وترجمته، وإنما نقول: إن الشعور بأن المصاب بسعد مصاب كل فرد من أفراد
الشعب كان شعورًا عامًّا , ولكن لا نزاع في أن وقع الرزء على قرينته كان أعظم
من وجوه يعرفها بالإجمال كل أحد , ويعرفها بالتفصيل من عرف كيف كانت
حياتهما الزوجية في جميع أطوارهما , ولا سيما الجهاد السياسي الأخير فنحن نعزيها
بقول أشهر النساء في الحزن وهي الخنساء الشاعرة الصحابية رضي الله عنها:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على أحبابهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
بل نقول: إن الخنساء تعزت بكثرة الناس الذين يبكون حولها من فقدوا وإن
لم يكن في نظرها كمن فقدت - ولكن قرينة سعد أولى منها بالعزاء لأن الذين يبكون
حولها إنما يبكون من تبكي هي , فلا تستطيع أن تقول كما قالت الخنساء.
(وما يبكون مثل أخي) فإن كان المصاب لا نظير له في عظمته , فالتعزية
لها لا نظير لها أيضًا فهي على قدر المصاب سواء.
سننشر لهذا الزعيم الكبير ترجمة نودعها من العبرة ما يوافق خطة المنار ,
ونعجل الآن بذكر مسألة مهمة وهي أن مجلس الوزراء قرر أخذ بيت سعد باشا
الذي يدعَى (بيت الأمة) , وهو موقوف بطريق الاستبدال المعروف , وجعله من
المنافع العامة ذكرى للفقيد مع إبقاء كل آثاره فيه , وشراء البيتين المجاورين له ,
وهدمهما وإنشاء قبة عظيمة يجعل فيها قبره بنقل جثته إليها , وتجعل مسجدًا ومزارًا
للناس؛ فتكون كقبة الشافعي والبدوي ونحوهما، وقد رسم الرسامون شكل القبر
وشكل القبة، وطُبِعَا في بعض الجرائد.
وقد أنكر هذا العمل القبط ومن على رأيهم من وجهين (أحدهما) أن الفقيد
كان زعيمًا سياسيًّا للشعب المصري كله , لا للمسلمين وحدهم , ولم يكن زعيمًا دينيًّا
إسلاميًّا , بل هو الذي جمع بين الهلال والصليب , ولم يكن يفرق بين المسلمين
وغيرهم , فلا يجوز أن يجعل قبره معبدًا للمسلمين.
(ثانيهما) أن شكل القبة التي رسمت لقبره عربي إسلامي , والواجب أن
يكون مصريًّا فرعونيًّا؛ لأنه هو كان مصريًّا قبل كل شيء , ويعنون بهذه الكلمة أن
الجنسية المصرية الوطنية مقدمة على كل رابطة أخرى دينية كانت أو لغوية أو
غيرهما.
وقال بعض الكاتبين في ذلك: إن الزمن الذي كان فيه المصريون من القبط ,
والمسلمين يلعنون الفراعنة لأجل دينهم (الوثني) ولا سيما فرعون موسى تبعًا
للتوراة والإنجيل قد مضى , وصار جميع المصريين الوطنيين يفتخرون بفرعون
وبأنهم سلالة فرعون.
ولعل هؤلاء يستحسنون أن يجعل ما يبنى على قبره بشكل الهرم كما قالت
إحدى السيدات المسلمات.
ونحن نتعجب لسكوت علماء الدين , ولا سيما أهل الحديث منهم عما نستدركه
عليهم من النصح للحكومة أن لا تجعل قبره مسجدًا لأن بناء المساجد على القبور
محرم شرعًا , وقد وردت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن الأربع
وغيرها بلعن فاعليه , ووصفهم بشرار الخلق، ونحن نعلم أن العلماء إنما يسكتون
عن مثل هذا البيان والنصح للحكام لاعتقادهم أنهم لا يعملون به، ولولا الملوك
والسلاطين؛ لما وجدت هذه القباب العظيمة والمساجد على قبور الأئمة والصالحين
وعلى الملوك بالتبع لهم , فهم الذين ابتدعوا ذلك , ونفذوه بالرغم من أنوف العلماء؛
ولذلك أجاب بعض العلماء الأعلام في كتاب له من احتج بوجود هذه القباب
والمساجد في أكثر بلاد الإسلام على مشروعيتها , فكان مما قاله: إن هذه أمور
حكومية لا حكمية، ودولية لا دليلية، ولكن الحكومة المصرية الحاضرة لا ترضى
أن تجعل قبر سعد باشا فتنة لعوام الشعب يضلون به كما ضلوا بقبور الأولياء
فعبدوها بالدعاء والنذور والطواف بها وغير ذلك مما شرحناه مرارًا، وإنني قوي
الرجاء في امتناعها عن جعل قبة قبره مسجدًا؛ لمخالفته لنصوص الشارع ولحكمة
التشريع معًا، وهو افتتان الجاهلين بتعظيم القبر تعظيمًا دينيًّا , وتعليق آمال زائريه
بقضاء الحاجات، ودعائه لذلك في المهمات والنذر له , فهذه الحكومة لا تريد أن
يكون قبر رجلها السياسي سببًا لازدياد الخرافات والضلالات في البلاد، ولكنها لا
تسمع كلام العلماء فيما عدا ذلك من المباني والتماثيل التي قررتها , وقد يتأول لها
من يبالي بالدين من رجالها بأنها خالية من الحكمة أو العلة التي حرمت لأجلها،
وهي كونها ذريعة للشرك محتجين بأنه لا يوجد في مصر أحد يعظم تمثال محمد
علي باشا أو ولده إبراهيم باشا تعظيمًا دينيًّا , ولا غير ديني أيضًا، فإذا كان هذا
مأمونًا فيما ستنصب الحكومة لسعد من التماثيل , فليس مأمونًا في قبر عليه مسجد
يصلى فيه بجانب القبر , والصلاة إلى القبر ممنوعة شرعًا أيضًا.
وقد ظهر أن قرن الفتنة بعبادة سعد قد نجم في الأرياف؛ إذ بلغنا أن بعض
أهل الطرق ابتدعوا طريقة سموها السعدية الزغلولية.
وإننا لا نشك في أن جعل البناء على قبره مسجدًا معدًّا للصلاة فيه بفرشه
ووضع محراب فيه لمعرفة القبلة يكون ذريعة لجعله كقبر البدوي والسيدة زينب
وأمثالهما.
وهل يظن عاقل أن جميع عوام المصريين يفهمون أن خدمة سعد للبلاد
سياسية محضة لا شائبة للدين فيها؟ , كيف وإن بعض كبار علماء المغرب الأقصى
قد ذكر في مقال له نشر في المنار ما يدل على أن العلماء المستنيرين هنالك
يعتقدون أنه زعيم ديني , فعسى أن تتدبر الحكومة المصرية هذا الأمر وتحول دون
وقوع هذه الفتنة التي هي خلاف مرادها من إحياء ذكرى سعد بقبره وداره وآثاره
وما تنصب له من تماثيل، وإنما مرادها أن تحفظ ذكرى خدمته السياسية ومقاصده
الاستقلالية ويتمسك الشعب بها ويكون عونًا للقائمين بعده بتنفيذها كما كان عونًا له
يؤيده في كل أعماله.
وأما تعليل دعاة الإلحاد من القبط والمسلمين طلبهم جعل شكل القبة فرعونيًّا
تبعًا لجعلهم جنسية المصريين في هذا العصر فرعونية , وجعل سعد من ذرية
فرعون , فهو تعليل باطل، فسعد من أسرة عربية الأصل , كما أخبرني ابن أخيه
العالم الفاضل الثقة عبد الرحمن زغلول رحمه الله تعالى، والجنسية المصرية في
هذه العصر جنسية سياسية شاملة لكل سكان هذا القطر من عرب - وهم السواد
الأعظم - وقبط وترك وإفرنج وغيرهم من الأجانب الذين قبلوا هذه الجنسية
الوطنية السياسية , ولا دخل للأنساب القديمة ولا للحديثة فيها.
__________(28/477)
ربيع الأول - 1346هـ
سبتمبر - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خيرية القرون الثلاثة مع وقوع الفتن فيها
(س11) من صاحب الإمضاء في فكلوغن جاوه
إلى حضرة الإمام مفتي الأنام خليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد آل رضا
أطال الله بقاه ونفعنا بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام والمسلمين كما أشاهد (؟)
في مقالاتكم على صفحات مناركم المنير , ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية؛
ألتمس من فضيلتكم أن تبينوا لي مقصود هذا الحديث الشريف: (خير القرون
قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) بيانًا وافيًا كعادتكم في حل المسائل،
وتوضيح المشاكل، فإنه قد أشكل علي مقصود قوله صلى الله عليه وسلم (خير) ما
هو ذلكم الخير الذي يقصده صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن قرون الفتن والزلازل
والزندقة ما نجمت [1] إلا في تلكم القرون الثلاثة المشهود لها بالخير.
ألم تروا إلى فتنة عبد الله بن سبأ ذالكم اليهودي اللعين التي أدت إلى قتل
الخليفة الثالث رضي الله عنه وإيقاد نار الحرب بين الخليفة الرابع وسيدنا معاوية
رضي الله عليهم التي كانت السبب في إزهاق أرواح الألوف من خيرة رجال
الصحابة، وظهور الحرورية وقتلهم للإمام علي كرم الله وجهه، وواقعة كربلاء،
واستباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه، ورمي الكعبة بالمنجنيق،
ونبوغ الجهمية وغيرها من الفرق الضالة المضلة وافتراء الألوف المؤلفة من
الأحاديث الموضوعة على رسول الله إلخ إلخ، بل إن خذلان المسلمين اليوم
وسقوطهم في هاوية الذل والمسكنة؛ إنما هي عاقبة تلكم الوقائع السود التي وقعت
في تلكم القرون الثلاثة , وما تليها أفيدونا مأجورين، ولا زلتم ملجأ ومأوى
للحائرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... سعيد بن طالب الهمذاني
(ج) الحديث ورد في الصحيحين وغيرهما بلفظ: (خير الناس قرني)
إلخ وبلفظ: (خير أمتي أهل قرني) إلخ، وفي عدة روايات البخاري (خيركم
قرني) ، وقد بين علة الخيرية في الرواية المتفق عليها من حديث عبد الله بن
مسعود (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق
شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) ، وفي رواية من حديث عمران بن حصين في
البخاري (ثم يجيء من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون،
وينذرون ولا يفون , ويظهر فيهم السمن) وفي رواية له زيادة (ثم يفشو الكذب)
وفي رواية الترمذي والحاكم عنه: (ثم يأتي بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السمن،
يعطون الشهادة قبل أن يسألوها) ، فالمراد بخيرية كل قرن على ما بعده خاص
بتفضيل المسلمين فيه على من بعدهم فيما يليه، قيل: في جملتهم، وقيل: في
أفرادهم، والمشهور تفضيل الصحابة على من بعدهم مطلقًا.
والقرن: أهل زمان تجمعهم فيه جامعة يكون فيها بعضهم مقارنًا لبعض
كرئيس يجمعهم من نبي أو حاكم أو غيرهما أو عمل مشترك، وحدده بعضهم
بالزمان، وفيه أقوال: من عشرة إلى مائة وعشرين، والأشهر الذي جرى عليه
الناس أن القرن مائة سنة، وليس بمتعين في هذا الحديث، وعليه يمكن تفسير قرنه
صلى الله عليه وسلم بزمانه من بعثته …. والقرن التالي له بقرن الخلفاء الراشدين
لتشابهه، أو إلى آخر مدة عمر، أو إلى حدوث الفتن في زمن عثمان لامتيازه بذلك،
والمشهور عند جمهور العلماء أن القرن الأول قرن الصحابة، والثاني قرن
التابعين، والثالث قرن تابعي التابعين، قال الحافظ ابن حجر: (واتفقوا على أن
آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين،
وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت
الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا
شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن) , وظهر قوله صلى الله عليه وسلم:
(ثم يفشو الكذب) ظهورًا بيِّنًًا , حتى شمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله
المستعان اهـ.
وجملة القول؛ أن التفضيل خاص بما يكون عليه المسلمون من الاعتصام
بعروة الدين من صحة التوحيد، والبعد عن الشرك وخرافاته، واجتناب الرذائل
وشرها الكذب، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإخلاص في العبادات، وما وقع من
الدعوة إلى الشرك من عبد الله بن سبأ ثم إلى فتن السياسة والملك، فإنما وقع من
الكفار كعبد الله بن سبأ اليهودي وأمثاله من زنادقة أهل الكتاب وزنادقة الفرس
واصطلى المؤمنون بنارها.
وفي الصحاح أحاديث أخرى تؤيد هذا المعنى وهو أن كل زمن شر مما بعده
أي من حيث الدين والتقوى في مجموع الأمة، وهو مقتضى سنة الله في البشر التي
يدل عليها قوله تعالى: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) , ولا ينافي هذا وجود بعض
المزايا والأعمال في بعض الأزمنة المتأخرة بحيث تفضل بها على ما كان قبلها ,
كزمان عمر بن عبد العزيز على ما قبله من أزمنة ولاية قومه.
وقد روى الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس وابن حبان من حديث عمار
وصححه: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) قال الحافظ ابن
حجر: حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة , وحملوا الآخر فيه على
زمن المسيح وهو مع ذلك لا يظهر بالنسبة إلى قوة الإيمان وفضائل الأفراد , بل
بالنسبة إلى ما يكون فيه من جمع كلمة المسلمين وقوتهم وكثرة البركة في أموالهم
ومعايشهم وخفض كلمة الكفر وذلة أهله على ما روي في ذلك , والله أعلم.
__________
(1) المنار: كان الأصل بأن شمس الفتن … ما بزغت إلا إلخ فغيرنا الكلمتين بما هو المناسب للمعنى وجاء الجناس بلفظ القرون عفوًا غير متكلف.(28/502)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من إيبك - يوغو سلاويا: (أوربة)
(س12 15) من صاحب الإمضاء
حضرة صاحب الفضل والفضيلة، سيدنا ومولانا العالم العلامة، المحقق
المدقق مفتي الأنام السيد محمد رشيد رضا أطال الله بقاءه وحفظه آمين.
(1) هل يجوز أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة بالجماعة لأهل القرى في
القرى، مع أن الجمعة قد أقيمت قبلها؟ هكذا يفتي بعض العلماء , ويخصون هذه
بالقرى دون الأمصار , ونحن نظن أن إقامة صلاتين متغايرتين في وقت واحد من
الجماعة لا تجوز , كما قررت في الأصول، ومع هذا إذا أقيمت صلاة الظهر مع
الجماعة بعد صلاة الجمعة في المسجد؛ هل تبطل الجمعة بأداء الثانية؟ إذ
المصلون هذه يشكون من أن صحة الجمعة ليست قطعية (في القرى) لفوات بعض
شروطها.
(2) هل يعد من الزكاة الخراج المستأدية للحكومة المطروح من عندها -
أي حكومة كانت - ويسد مسدها؟
(3) ما معنى حديث: (استنزهوا عن البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) ,
أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والدارقطني عن أنس بلفظ
(تنزهوا) ؟ , وما حكمة تعميم النبي صلى الله عليه وسلم عذاب القبر بالبول؟
(4) هل (وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر) حديث صحيح أو من
الموضوعات , إن كان من الأحاديث الصحيحة , فما معناه؟ وما سبب إيراد النبي
صلى الله عليه وسلم هذا؟ ومن كان المخاطب بهذا؟
أقدم لفضيلتكم هذا , وأرجو الجواب والإفتاء عنها , مع فائق احترامي
وتشكري.
... ... ... ... ... ... المخلص والمشترك لمجلتكم الغراء
... ... ... ... ... ... ... يحيى سلامي
صلاة الجمعة في القرى والظهر بعدها جماعة
الجواب عن السؤال الأول أنه من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله
تعالى لم يفرض على عباده صلاتي فريضة في وقت واحد.
فمن كان في قرية فيها مسجد تقام فيه الجمعة؛ يجب عليه أن يصليها مع
الجماعة , إلا إذا كان يعتقد أن صلاة الجمعة فيها باطلة شرعًا لفقد بعض شروطها ,
وحينئذ لا يجوز له أن يصليها لأنه شروع في عبادة باطلة غير مشروعة في اعتقاده ,
وإن كان مخطئًا , وهو عصيان لله تعالى، وإذا عصى وصلاها معتقدًا بطلانها؛
تبقى صلاة الظهر متعلقة بذمته فعليه أن يصليها، وليس له أن يقيم له مع غيره
جماعة أخرى لأنه تفريق بين هؤلاء وبين إخوانهم المسلمين الذين أقاموا الجمعة
قبلهم , وهذه مسألة اجتهادية , هذا ما أراه في حكمها.
وأما إذا صلاها معتقدًا صحتها , فلا يجوز له أن يصلي بعدها ظهرًا لا
منفردًا ولا جماعة؛ لأنه يكون بهذا مخالفًا للمعلوم من الدين بالضرورة , وهو
قطعي بظن بعض الفقهاء.
وهذه المسألة قد بيناها بدلائلها التفصيلية من قبل، وإذا كان لمن تحكون
عنهم شبهات غير ما سبق لنا بيانه والرد عليها , فاذكروها لنا.
وليعلم المسلمون في بلادكم وأمثالها أنه لا ينبغي لهم تقليد من يقول من الفقهاء:
إن صلاة الجمعة لا تصح في القرى , فإن أول جمعة أقيمت في الإسلام قد أقيمت
بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرية جواثي من البحرين
كما في صحيح البخاري وشروحه , ولا تقليد من يشترط لصلاة الجمعة دار الإسلام ,
وإقامة الأحكام الشرعية من قبل الإمام، لأنه تقليد في إبطال شعيرة من أعظم
شعائر الإسلام، قال بعض الأئمة بعدم اشتراط ما ذكر في صحتها.
***
(2) اجتماع العشر والخراج
الجواب عن الثاني أن مذهب الحنفية عدم اجتماع الخراج والزكاة في أرض
واحدة , ومذهب الجمهور أنهما يجتمعان لأن الخراج أجرة الأرض لبيت المال ,
فهو واجب عليها، وأما الزكاة فهي حق على الغني المسلم لأصحاب الحاجة من
المسلمين ومصالحهم العامة؛ ولذلك لا تجب على الذمي , والخراج يجب عليه،
وهذا كله خاص بالحكومة الإسلامية سواء كانت حكومة الإمام الحق في دار العدل
أو حكومة البغاة المتغلبين منهم.
وأما إذا أقام المسلمون في غير دار الإسلام وملكوا فيها أرضًا , أو تحولت
دار الإسلام إلى دار حرب لغير المسلمين , فالمختار عندنا أنه لا وجه لجعل ما
تأخذه هذه الحكومة من المسلم كالخراج الشرعي في دار الإسلام، وإذا كان للمسلمين
إمام يقيم العدل في قطر آخر؛ فالمصلحة الإسلامية العامة تقتضي أن يرسلوا إليه
من زكاة أموالهم كل ما يتعلق بالمصالح العامة بعد أن يؤدوا للفقراء والمساكين ما
لهم فيها، وكذا المؤلفة قلوبهم والغارمون إن وجدوا، وإلا كان حالهم كحال المسلمين
قبل الهجرة.
وهنا مسائل يفتقر بيانها بأدلتها إلى بحث طويل لا محل له هنا , وهذا الوقت
ليس بوقته.
وإنما أقول للسائل الفاضل - وهو من أهل العلم ومتدارسي الفقه -: إن
أحكام الخراج وما يتعلق بها أحكام اجتهادية لا تعبدية , وإن جعل جماهير الفقهاء
اجتهاد الخليفة الثاني ومن بعده من الراشدين , كنصوص الشارع في التزام العمل به
عند عدم المعارض، وعدوا المتفق عليه منها داخلاً في مسائل الإجماع الأصولي،
والذي نعتقده: أنها من أحكام المصالح العامة المفوضة إلى الأئمة وأولي الأمر من
المسلمين , يقررون بالتشاور في كل زمان وحال ما فيه المصلحة.
وأما الزكاة فهي من العبادات الأساسية , والنصوص القطعية فيها معلومة
وكذا الاجتهادية , ومنها الخلاف في عشر غلات الأرض هل هي زكاة تعبدية أو من
قبيل الخراج؟ ، ومن فروع ذلك: هل يجب الوقوف فيها عند النصوص أم يدخل
فيها القياس؟ فليتذكر هذا على إطلاقه وإجماله , وليجعله محل تذكر وتأمل وبحث
لا موضع مناقشة ومراجعة معنا.
***
(3) حديث (استنزهوا من البول) إلخ
الحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: (استنزهوا من
البول فإن عامة عذاب القبر منه) , والحاكم لم يروه بهذا اللفظ , وإنما روى عن
أبي هريرة وابن عباس: (عامة عذاب القبر من البول) , وأما الدارقطني فرواه
من حديث أنس بلفظ: (تنزهوا) إلخ , ومعناه الأمر بالاحتراز والتوقي من البول
أن يصيب البدن أو الثوب , والتطهر منه إذا أصابهما أو أحدهما: ومعنى أصل
المادة (ن ز هـ) البعد , فالمراد أن يبتعد المسلم من نجاسة البول ويتقيها.
وأما حكمة كون عذاب القبر منه ومن النميمة كما في حديث الصحيحين في
الرجلين اللذين وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدة على قبورهما؛ فهو من
عالم الغيب الذي لا مجال للرأي فيه، ولم نقف على بيان له من الشارع.
***
(4) جملة (وجودك ذنب) إلخ.
هذه الجملة لا نعلم أن أحدا رواها حديثًا , وإنما المعروف أنها مصراع بيت
من الشعر من غير كلمة (آخر) فإن كنتم اطلعتم على كتاب ذكر به أنها حديث؛
فأخبرونا بنصه في ذلك.
__________(28/504)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زكاة الفطر وقت وجوبها وحكم تعجيلها
(س16و17) من فكلغان جاوه.
إلى جناب السيد الأفخم محمد رشيد رضا أدام الله عزه , وجعله ذخرًا للإسلام
والمسلمين , السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد السلام التام وأفضل التحية والإكرام , بما أنكم منار الإسلام وقبلته الذي
يرجع إليه المسلمون في جميع المشكلات العويصة؛ نتقدم إلى أيديكم البيضاء بهذه
المسألة , ونرجوكم إفادتنا بالأدلة الواضحة؛ لأن هذه المسألة صارت موضع اختلاف
الناس في هذه الديار ولكم منا مزيد الشكر وعاطر التحية والثناء وهي:
(1) متى يجب إخراج زكاة الفطر؟
(2) وهل يجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين أم لا؟ وإذا قلتم: إنه لا
يجوز؛ فلماذا أجاز الباجري في شرحه ص (303) , وهل هو معتمد على حديث
قوي أم لا؟ وإذا قلتم: إنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ فهل تسمى
صدقة أو زكاة؟ والسلام.
... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن أحمد باشراحيل
... ... ... ... ... ... ... ... دفكلنغان جاوه
(المنار)
أما الجواب عن السؤال الأول , فجمهور الفقهاء المجتهدين وأتباعهم على أن
زكاة الفطر تجب بوقت الفطر من آخر يوم من رمضان , ووقته غروب الشمس ,
واستدلوا على ذلك بتسميتها بزكاة الفطر في الأحاديث الصحيحة , ونازع بعضهم في
هذا الاستدلال، وزعم بعضهم أن المراد بالفطر الفطرة أي الخلقة ويرده رواية (زكاة
الفطر في رمضان) .
وأما الجواب عن الثاني , فهو أنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين عند
جمهور الأئمة المجتهدين , وادعى بعضهم الإجماع عليه لضعف الشذوذ فيه،
والأصل فيه ما رواه البخاري في صحيحه من أنهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو
يومين.
وسبب ذلك أن الغرض من زكاة الفطرة إغناء الفقراء في يوم العيد عن
السؤال , وهو يوم ضيافة الله لعباده المؤمنين.
وكانوا يعطون الفقراء الحَبَّ في الغالب كالبر والشعير , فإذا أعطوه يوم العيد
ولو وقت الفضيلة عند الجمهور , وهو ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد , فربما لا
يتيسر لبعض الفقراء طحنه وخبزه والفطر منه.
وفي هذه الحالة تسمى زكاة كما تسمى صدقة , باعتبار أن لفظ الصدقة يشمل
المفروض والمندوب , وإنما ورد اختلاف التسمية في حال أدائها بعد صلاة العيد ,
ففي حديث ابن عباس قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر
للصائم طهرة من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة؛ فهي زكاة
مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات) . ورواه أبو داود وابن
ماجه والدارقطني والحاكم وصححه ووافقه الحافظ الذهبي بأنه على شرط
الصحيحين.
والجمهور على أن الأداء جائز في نهار العيد كله وهو خلاف هذا الحديث.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بزكاة الفطر قبل صلاة العيد ويقسمها
بعدها على المستحقين , والاحتياط أن يؤديها الإنسان قبل العيد بيوم أو يومين , كما
كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه الشهير بالحرص على اتباع السنة.
والخلاف في صحة هذا التعجيل لها أضعف من الخلاف في صحة أدائها بعد
صلاة العيد من حيث الدليل , وجوز بعض الأئمة أداءها من أول رمضان وهو
ينافي حكمة فرضيتها.
__________(28/507)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حظر أخذ العلم الشرعي من الكتب بدون توقيف
(س18) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية.
حضرة الإمام العالم العامل الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا أمد الله في أجله ,
ونفع المسلمين بعلمه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد جاء في كتاب الإمام ابن حجر
الموسوم بالفتاوى الحديثية صحيفة نمرة 20 من طبع مطبعة الجمالية ما يأتي:
كل من أخذ العلم عن السطور كان ضالاًّ مضلاًّ؛ ولذا قال النووي رحمه الله:
من رأى المسألة في عشرة كتب مثلاً لا يجوز له الإفتاء بها؛ لاحتمال أن تلك
الكتب كلها ماشية على قول أو طريق ضعيف اهـ.
فما رأيكم في ذلك؟ وإذًا فما فائدة الكتب الدينية والمجلات العلمية؟ ألا يجب
بناء على ذلك أن نَدَعَهُمَا بطون المكاتب , حتى يتيسر لنا أخذها عن صدر عالم ,
أو ما معنى هذا الكلام؟ أفيدونا ولكم من الله الجزاء , والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
محمد عثمان
(ج) يعني الفقهاء أن علم الدين لا يوثق به إلا إذا أخذ بالتلقي عن أهله من
العلماء الراسخين، وأن الجاهل إذا احتاج إلى العلم بمسألة فبحث عنها في بعض
الكتب , وإن تعددت فأخذ بما رآه مدونًا فيها؛ يكون ضالاًّ بأخذه بها في نفسه،
مضلاًّ في فتواه بها لغيره، إن لم يكن هو عالمًا يقدر أن يميز بين ما يراه في الكتب ,
فيعرف بالدليل صحيحه من غيره وحقه من باطله , لاحتمال أن يكون ما رآه قولاً
ضعيفًا دليلاً أو مدلولاً.
وأنا قد اختبرت بنفسي أفرادًا من الناس تعرض لهم المسألة , فيأخذون بعض
الكتب ويراجعون فيها عنها في مظانها؛ فيجدون شيئًا لا يفهمونه حق الفهم؛
فيعملون به ويفتون ويحتجون ويجادلون، وهم لا يفهمون ما يقولون وما يكتبون،
لضعفهم في العلوم التي يتوقف عليها فهم المسألة من عربية وشرعية، وقد انتقد
بعضهم علينا بعض ما نشرناه في المنار , فنشرناه لهم على عادتنا وبينا لهم أنهم لم
يفهموا النقول التي استدلوا بها على آرائهم كلها أو بعضها.
ومنهم من ذكرنا في الرد عليهم بعض قواعد الأصول , فطعنوا في علم
الأصول نفسه , واحتجوا على طعنهم بأنه مبتدع ما أنزله الله تعالى ومثله النحو
والمعاني والبيان في ذلك , فتأمل وتدبر.
هذا سبب ما كتبه الفقهاء , وهو لا ينافي الانتفاع بكثير من الكتب السهلة
العبارة والمجلات وغيرها ومراجعة أهل العلم فيما يخفى على القارئ منها.
__________(28/509)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصريح والكناية في الطلاق
وكتاب الرجل بطلاق امرأته
(س19و20) من صاحب الإمضاء في سمبس برنيو (جاوه) وهو من
قضاة الشرع فيها.
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ العلامة المصلح السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الإسلامي نفعني الله والمسلمين بوجوده.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني أرجو من فضلكم أن تفيدوني
بالجواب عن الأسئلة الآتية وهي:
(1) هل ورد في الكتاب أو السنة نص في تقسيم ألفاظ الطلاق إلى ما هو
صريح وكناية فالأول لا يحتاج إلى، النية والثاني يحتاج إليها، أم هو من الأمور
الاجتهادية؟
(2) ما قولكم في رجل كاتب معروف الخط أو الإمضاء كتب إلى زوجته
أو إلى غيرها من أحد أقاربها يبين فيه أن طلقها بلفظ صريح كأن قال فيه: -
(طلقت زوجتي ثلاثة) وقدمت الزوجة الكتاب إلى قاضي بلدها ليثبت
الطلاق ويمكن لها أن تنكح زوجا غيره فهل يجوز للقاضي أن يعمل بمضمون ذلك
الكتاب أو يجب عليه أن يسأل صاحبه الذي هو الزوج عن الطلاق الذي هو فيه - هل
نواه أم لا؟ وهل تلفظ به بعد كنايته أم لا؟ أو حال الكتابة.
لو قال قائل يجيب عن هذه الأسئلة كما قال في شرح الروض: كتب الطلاق
ولو صريحًا كناية ولو من الأخرس فإن نوى به الطلاق وقع وإلا فلا.ا. هـ
لقلت له سائلاً: أليست الكتابة تدل على القصد والإرادة فهي كاللفظ، ولم لا
تعبر في الطلاق كاللفظ ولا يقع بها الطلاق إلا مع النية؟ على أننا لو نظرنا
صحيحا إلى الكتابة لقلنا إنها أثبت من اللفظ فإنه يسهل على اللافظ إنكار لفظه ما لا
يسهل على الكاتب إنكار كتابته فإنها باقية مخطوطة مقروءة فهل يتسامح في دين
الله تعالى لمن كتب إلى زوجته كتاب الطلاق الصريح أن يقول: إنني كتبته بلا نية
ولا قصد بل كتبته لأجل تمرين الكتابة فيقبل قوله بيمينه؟ أليس هذا تلاعبا بالدين؟
هذا والمرجو أن تبينوا لي ولقراء المنار وغيرهم أحكام الكتابة التي تتعلق
بالأمور الدينية كالطلاق والوصية والهبة والشهادة وهي كشاهد كتب شهادته إلى
الحاكم فهل يجوز له أن يعمل بكتاب شهادته بغير حضوره مجلس الحكم أم لا؟
وأسأل الله تعالى أن يجزيكم جزاء حسنا وفاقا.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
سمبس في 13 جمادى الآخرة 1345
(ج) أما الجواب عن الأول فهو أن تقسيم الطلاق إلى صريح وكناية من
اصطلاح الفقهاء لا مما ثبت في نصوص الكتاب والسنة فهو يتعلق بمفهومات لغات
المطلقين.
وأما الجواب عن الثاني فهو أن الكتابة كالنطق في مفهوم الكلام كما هو بديهي،
فإذا ثبت عند القاضي أن الخط خط الزوج المطلق حكم به. وقد قصر الفقهاء في
أحكام الخط على ما كان من عناية كتاب الله تعالى بها وسننشر إن شاء الله تعالى
فصلاً طويلاً في المسألة إجابة لاقتراحكم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/510)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الطلاق الثلاث باللفظ الواحد
(س21) من صاحب الإمضاء في (بوسعيد)
نسألكم سيدي في رجل طلق زوجته ثلاثًا دفعة واحدة , يقع ثلاثًا أو واحدة؟
وهذا الأمر وقع عندنا , وأفتانا شخص بأن الطلاق يقع واحدة , ونسب الفتوى لشيخ
الإسلام ابن تيمية , ولم يرنا الفتوى , وهو من أهل الطريقة لم أثق بكلامه؛ لأن
أهل الطرائق إلى دين النصرانية أقرب , لمحبتهم أن يعظموا إلى الحد الذي لا
ترخص الشريعة الإسلامية به حسب علمكم بهم سيدي، والآن مرادنا الإفادة منكم إن
كان هذا حقًّا؛ فالحق أحق أن يتبع.
... ... ... ... ... ... من تلميذكم راجي عفو المنان
... ... ... ... ... سليمان بن علي بن سليمان البوسعيدي
(ج) أصل المسألة خلافية , فجمهور العلماء على أن من طلق زوجه ثلاثًا
بلفظ واحد؛ يقع عليه ثلاث طلقات , ولا تحل له بعد ذلك إلا إذا تزوجت بعد
انقضاء عدتها زوجًا آخر ودخل بها وواقعها ثم مات عنها أو طلقها، وذهب آخرون
إلى أنه لا يقع عليه في هذه الحالة إلا طلقة واحدة.
وقد كان شيخ الإسلام يفتي بوقوع الواحدة , وكذلك تلميذه العلامة ابن القيم ,
وهذا الذي نعتقده ونختاره كما بيناه في تفسير الآية من سورة البقرة.
وقد وضع بعض العلماء بمصر عدة مسائل بصفة مواد قانونية للعمل بها في
المحاكم الشرعية , منها الحكم في الطلاق الثلاث باللفظ الواحد بطلقة واحدة رجعية ,
فاعترض عليه جمهور علماء الأزهر , وأقره بعضهم ودافع عنه.
وقد ذكرتم أن علة عدم ثقتكم بالمخبر لكم بفتوى شيخ الإسلام من مشايخ
الطريق بأنهم إلى دين النصرانية أقرب لحبهم الغلو في التعظيم إلخ , وهذا خطأ
منكر بهذا الإطلاق والتعميم , فأهل الطرائق ليسوا أشد حبًّا للتعظيم من غيرهم من
طبقات وجهاء الناس كالحكام والعلماء والأغنياء.
نعم إن هذه الطرائق مشتملة على بدع كثيرة محرمة , وبعضها لا يخلو من
الشرك الصريح , ولكن أتباعها متفاوتون في اتباع هذه البدع , فمن مقل ومكثر،
ومنهم من يتقي الكذب , ولا سيما في الشرع كما يجب فإطلاقكم خطأ.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/512)
الكاتب: عبد السميع البطل
__________
كيف تنهض اللغة العربية
(2)
(تتمة ما جاء في الجزء الماضي)
فقه اللغة ومتنها:
يضطر التلميذ كثيرًا إلى تصوير بعض الأشياء أو وضعها أو معرفة مرادفها
أو ضدها؛ فيتعاصى عليه ذلك، ولا يجد في خزانة فكره ما ينفق منه، وهنا يظهر
عجزه عن إبراز ما في نفسه، فيطوي صحيفته، ويكسر قلمه، ويتنفس الصعداء،
أو يركب متن التعسف والركة، ويؤدي مراده على أية صورة تهيأت له , فلا يكاد
يبين.
ولو درس فقه اللغة؛ لتدفقت عليه الألفاظ تدفقًا، ولوجد من ثوبها الفضفاض
خير حلة يجمل بها فكره، ويجلي ما في نفسه.
ومع أهمية هذا العلم لا تسمع به في مدارسنا ولا تحس له وجودًا، وحسبك
ذلك في جهل التلامذة وفقرهم المدقع في اللغة.
وأما متن اللغة؛ فيكفي فيه ما يحفظه الطلبة في تضاعيف الكتب التي
يدرسونها , والقطع التي يحفظونها مع الضبط ومعرفة المعنى الصحيح واشتقاقه،
ولكي تكون الفائدة محققة؛ يحسن تجريد الألفاظ من الكتب وتدوينها في كراسات
الطلبة لسهولة حفظها والرجوع إليها عند الحاجة.
وهنا أنبه إلى شيء مهم جدًّا يجدر بالمعلم الالتفات إليه، وهو تعويد التلامذة
مراجعة الكلمات , والكشف عليها في معاجم اللغة، فإن جلهم إن لم يكن كلهم يجهل
ذلك.
وأقول - والأسف شديد -: إن معاجمنا أصبحت بحاجة إلى تهذيب كبير،
ولم تعد أداة صالحة مع بقائها على ما هي عليه بل أقول: إننا في أشد الحاجة إلى
معجم عصري (وأريد أوسع معنى لكلمة عصري) .
ولعل جماعة المؤتمر تفترض الوقت لبحث هذا الموضوع , وترغيب حكومة
مصر في العمل لذلك بالمساعدة والتنشيط , فهي أحرى الحكومات بذلك لوجوه كثيرة
لا محل لبسطها الآن.
***
المطالعة
هي إحدى الأركان الثلاثة المهمة في تكوين اللغة , أعني الإنشاء والمحفوظات
والمطالعة، ويجب الإكثار منها مع الفهم والتطبيق، وإنما تفيد المطالعة حيث تكون
كتبها منتقاة من أعلى الكلام وأبلغه ككلام الله ورسوله , وما دونهما من كلام
الفصحاء في الجاهلية والإسلام، ولا أرى لذلك كتبًا تصلح من كل الوجوه، فينبغي
وضع كتب لذلك يراعى فيها الشروط السابقة، وملاءمتها لحال الطلبة وأسنانهم.
***
الإنشاء
يكتب الطلبة ما يستطيعون كتابته في الموضوعات المختلفة، وتصحح كتابتهم
بدقة وعناية، ويقفون على أخطائهم اللفظية والمعنوية والأسلوبية والتعابير العامية
والمبتذلة والدخيلة، ويرشدون إلى مواضع الصواب فيها؟ , ويحسن بالأستاذ أن
يقرئ بعض الطلبة موضوعاتهم ليوازن بين جدها ورديئها، ويشجع المجد بإظهار
استحسانه، لتدب روح الغيرة في نفس المقصر؛ فيجتهد في اللحاق به، كما يحسن
أن يقرأ التلميذ موضوعه غير مصحح؛ ليصلحه بإرشاده.
ولا بأس أن يتخولهم بدرس عناصر الموضوع قبل الكتابة فيه بطريقة
المحاورة والاستنباط.
***
المحفوظات
هي الركن الضخم في تكوين ملكة اللغة والبلاغة، وما نبغ خطيب أو شاعر،
أو كاتب إلا بعد أن كان له من محفوظه مدد لا ينفد، وهؤلاء شعراء الجاهلية
والإسلام قضوا عهد الثقافة والمرانة رواة ناقلين، قبل أن يكونوا شعراء مبرزين ,
وما قلناه في المطالعة من حيث الاختيار والفهم والتطبيق نقوله هنا، وأنفع المختار
للحفظ وأولاه بالتقديم كلام الله ورسوله , فينبغي الإكثار منهما.
***
العروض والقوافي
لا أقول: إن درس هذا العلم يتوقف عليه قرض الشعر , فكثير من الشعراء
المفلقين يجهلونه جهلاً تامًّا، وأكثر الذين يعرفونه يتعاصى عليهم معالجة النظم؛ لأن
قرض الشعر ملكة تقوى بالعكوف على دواوين الشعراء وحفظ الكثير المتخير منها
وفهمه، ثم تقليده ومعارضته، وتلك طريقة المتقدمين والمتأخرين , وحسبك
بالبارودي رحمه الله مجدد الشعر في العصر الحديث , فقد كان فحلاً من فحول
الشعراء دون أن يتعلم اصطلاحات العروض والقوافي , بله النحو والصرف
والبلاغة.
نعم إن هذا العلم يفيد من لم يكن شاعرًا بطبعه أن يقرأ ما يقرأ من الشعر
صحيحًا سليمًا من الاضطراب، فيسهل عليه فهمه، ولا يعزب عنه مراد الشاعر،
وقد يكون منشطًا له إلى معالجته , ثم التبريز فيه.
لذلك يحسن وضع مختصر فيه؛ ليدرس على الطريقة التي رسمناها في
القواعد كأن يقرأ الأستاذ البيت أمام الطلبة، ثم يبين لهم وزنه، ويسنده إلى بحره،
ويرشدهم إلى ما فيه من زحاف أو علل، ويساعدهم بمعرفة الأسباب والأوتاد على
طريقة الوزن، ثم يأتي بآخر من نوعه ويطالبهم بوزنه , وهلم جرًّا , حتى يثبت
ذلك في أذهانهم.
ولا بأس أن يطرح أمامهم بيتًا من الأبيات , ويطالبهم بمعارضته، أو يضع
معنى من المعاني , ثم يطالبهم بالنظم فيه، فإن في ذلك تنشيطًا لأفهامهم، وشحذًا
لقرائحهم، ومعينًا على قرض الشعر لمن عنده استعداد لقرضه.
***
الكلمة الأخيرة
هذه فكرتي في تعليم اللغة , أقدمها لجماعة العلماء المحتفلين بتكريم أمير
الشعراء , وكلهم إمام في اللغة غيور عليها، وفيهم كبار رجال التعليم في وزارة
معارفنا المصرية، وهم الذين يسند إليهم وضع نظم التعليم ومراقبة سيره في
المدارس , ووضع التقارير الضافية له، بل هم أجدر الناس بلمس عيوب التعليم
وتلافي ضررها، وقد أصبحوا الآن والحمد لله أحرارًا لا تسيطر عليهم رقابة أجنبية،
ولا تغل أيديهم عن العمل قوة دنلوبية.
ولعل هذه الكلمة الهادئة المتواضعة تتقبل بقبول حسن، فتكون نواة لأبحاث
مستفيضة في هذا الباب، بل جذوة لإضرام ثورة أدبية تأتي على الأخضر واليابس
من نظم التعليم العتيقة الرثة.
والله يوفق من شاء لخير الأشياء , والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
... ... ... ... ... ... ... مدرس الأدب بالمدارس الثانوية
__________(28/513)
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
__________
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا
(3)
(المقام الحادي عشر) قولكم: ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي (لا
تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا) , فإنه نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه المصلي ,
ولا يستقبل القبلة , ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه , فإن الله لعن اليهود
حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قلتم: ومن المعلوم أنه ليس لليهود مساجد
بالمعنى المعروف عند المسلمين , فالمقصود إذًا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
مواضع يسجدون عليها [1]
أقول: لا شك أن الحديث دال على ما ذكرتم , وهو النهي عن التوجه إلى
القبر والسجود عليه , ولكن معناه غير منحصر فيما ذكرتم؛ لأن من تحرى السجود
عند قبر النبي أو الصالح , فإنما يفعل ذلك تبركًا وتعظيمًا , وذلك هو المعنى الذي
وقع النهي لأجله؛ لأنه ذريعة للشرك، فالسجود على القبر وعنده سواء ما دام
المعنى المحذور موجودًا، وهنالك قرائن كثيرة لفظية ومعنوية تدل على ما ذكرت ,
فإن أبيتم إلا الوقوف مع ظاهر اللفظ , ففي غيره من الأحاديث التي تدل على تحريم
تحري السجود عند قبور الصالحين كفاية , وقد تقدم ما فيه الغنية منها , وربما يأتي
زيادة على ذلك.
(وقولكم) : (من المعلوم أنه ليس لليهود مساجد بالمعنى المعروف عند
المسلمين) [2] إن أردتم أن المتقدمين والمتأخرين منهم في مشارق الأرض ومغاربها
ليس لهم معابد عند قبور أنبيائهم؛ فذلك ممنوع , والعلم به مستحيل , وعدم العلم
بالشيء ليس علمًا بعدمه.
وكيف ينفَى عن اليهود ذلك , وقد أخبر به الصادق المصدوق , وذكرت له أم
سلمة كنيسة رأتها في أرض الحبشة وذكرت له ما رأت فيها من الصور , فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل
الصالح؛ بنوا على قبره مسجدًا , وصوروا فيه تلك الصور , أولئك شرار الخلق
عند الله) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فسمى النبي صلى الله عليه وسلم
الكنيسة مسجدًا؛ لأنها بمعناه , لأن المسجد محل عبادة الله من ذكر وصلاة ودعاء ,
وكذلك الكنيسة عند النصارى.
وروى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ألا , وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد , ألا فلا
تتخذوا القبور مساجد) , والمراد بالحديثين واحد , وهو النهي عن الصلاة عند القبر
وجعله محلاًّ للعبادة , وبناء المسجد عليه.
وخص قبور الأنبياء والصالحين بالذكر؛ لأن الفتنة إنما وقعت للأولين
والآخرين بها.
واتخاذ قبور الصالحين محالَّ للعبادة هو أعظم باب للإشراك بالله , وما قرت
عين إبليس بفتح باب مثله - نسأل الله تعالى العافية - ويظهر من حديث عائشة أن
الكنيسة التي ذكرتها أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على قبر صالح تبركًا
به , وصوروا فيه الصور؛ لأن الصور التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) هي التي رأتها أم سلمة، وهي كانت في
كنيسة , فسماها النبي صلى الله عليه وسلم مسجدًا، والكنيسة لا يمكن أن تكون
مبنية فوق القبر فقط , فلا بد أنها كانت حوله أو بقربه , وذكر النبي صلى الله عليه
وسلم أن من بنوها شرار الخلق , ونهانا عن ذلك في حديث جندب وغيره , فوضح
أن المعنى المقصود بأحاديث الباب كلها هو النهي عن تحري العبادة عند قبور
الصالحين والسجود على القبور نفسها , وإن كان اللفظ شاملاً له.
وقد فهم البخاري , وهو من أدق الناس فهمًا وأورعهم وأبعدهم من تحريف
النصوص , ومن التعصب للمذاهب أن من ضربت قبة على قبر زوجها استمتاعًا
بقربه وتعليلاً للنفس وتخيلاً باستصحاب المألوف من الأنس، ومكابرة للحس،
يشملها نص اتخاذ القبور مساجد؛ لأنها لا بد أن تصلي مدة إقامتها في تلك الخيمة ,
وكانت سنة مع أنها لم تضرب عليه القبة لأجل الصلاة عنده , والتبرك به؛ لأن
هذه البدعة لم تكن موجودة في ذلك الزمان , وإنما قصدت الاستئناس بقربه , وكانت
قبتها من شعر أو نحوه لا من مدر، فسمعت هاتفًا فهمت من كلامه أن فعلها مكروه
عند الله، ولما كان كلام ذلك الهاتف مطابقًا للدليل؛ أورده البخاري في الباب , ولم
يورده على أنه دليل يحتج به؛ لأن الأحكام لا تثبت بمثله , فكيف بمن يبني قبة من
مدر مزخرفة على القبر يقصدها الناس من كل صوب للدعاء والصلاة عندها ,
وذلك هو معنى بناء المساجد عليها واتخاذها أعيادًا , وقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك أشد النهي , ولعن فاعله , وأخبر أنه من شرار الخلق عند الله؟
وشرار الخلق عند الله هم الكفار , وذلك يقتضي كفر من يتخذون القبور مساجد ,
ويؤيده ما رواه أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام من حديث كسر الأوثان وتسوية
القبور ولطخ الصور فإنه قال في آخره: يا رسول الله لم أدع بها وثنًا إلا كسرته ,
ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من عاد إلى صنيعة شيء من هذا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) .ا. هـ
وهو صريح في أن من بنى بناء على قبر؛ كفر بذلك , ولا إشكال فيه؛ لأنه
لا يبني على القبر إلا من غلا في صاحبه , وذلك باب الشرك كما تقدم , والحديث
يدل على أنهم كانوا يجعلون التماثيل في القبور , ويبنونها تعظيمًا لأهلها؛ فخاف
النبي صلى الله عليه وسلم على أمته الشرك؛ فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد , ولو
كان السجود فيها لله وحده لأنها مظنة الشرك وبابه , لأن المصلي عند القبور يخشع
في صلاته لأهلها , ويكون قلبه مع الله تارة ومع أصحاب القبور أخرى , ولا يزال
الغلو يزداد في الجهلة , ويستدرجهم الشيطان حتى ينسوا الله , ويخلصوا التوجه
لصاحب القبر، وهذا أمر واقع معلوم يقينًا عند كل من خالط القبوريين، ومن كان
مبتلى بعبادة القبور , ثم تاب منها يقر على نفسه بذلك , فلا معنى لتجاهله وهو
وشمس الضحى صحوًا سواء.
وما أكثر ذلك في هؤلاء الذين ينتسبون إلى السنة , وهم من أبعد الناس عنها
وأشدهم عداوة لها.
اللهم إلا أن تكون سنة الشيطان الليطان، استذلهم وأغواهم، وأضلهم
وأرداهم، فنعوذ بالله من حال أهل النار.
(المقام الثاني عشر) نقلتم عن فتح الباري أنه قال عند لفظ: (لأبرز قبره)
أي لكشف عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يتخذ عليه الحائل [3] ,
واقتصرتم على هذا الكلام من شرح الحديث , وحذفتم قوله بعده: والمراد الدفن
خارج بيته، وهذا الكلام قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي , ولهذا لما وسع
المسجد؛ جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة
القبر انتهى كلامه , وحذفكم لبقية كلامه أخل بالمعنى وأبهمه , لأن من رأى ما نقلتم ,
ولم يطلع على بقية كلامه يظن أن الحائل المذكور هو الذي جعل على القبر بعد
إدخاله في المسجد , فيكون المعنى: ولولا ذلك أي خشية اتخاذ الناس قبر النبي
مسجدًا؛ لأبرز قبره , أي كشف ولم يتخذ عليه حائل بعدما دخل في المسجد , وليس
كذلك , بل مراد الحافظ ولولا ذلك لأبرز قبره - أي - كشف عنه بأن يدفن خارج
البيت ولا يتخذ عليه حائل , وهو الحجرة التي كانت تسكنها عائشة , هذا معنى
كلامه ولعل لكم عذرًا في حذف ما حذفتم لم نطلع عليه.
(المقام الثالث عشر) قولكم بعد نقل كلام الحافظ: فهل يوجد أصرح من
ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس القبر لا يجوز. [4]
أقول: إنما يستقيم ما أردتموه لو كان الحائل المذكور في كلام الحافظ هو
الجدران الثلاثة المتخذة على القبر بعد إدخال الحجرة في المسجد , كما أوهمه
إسقاطكم ذيل كلام الفتح , أما وقد تبين أن المراد بالحائل إنما هو حجرة عائشة ,
فالمخشي منه أولاً هو السجود عند القبر تبركًا وتعظيمًا , والسجود على القبر نفسه
تابع له , ولذلك دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة مسكونة , فكان قبره
محجوبًا عن الناس لا يسهل الوصول إليه , ولا سيما للعامة الذين يخشى عليهم أن
يصلوا عند القبر ويفتنوا به لجهلهم , فحصر المعنى في السجود على القبر نفسه
دون ما حوله لا تدل عليه أحاديث الباب , ولا كلام الحافظ , وسأنقل من كلام
الحافظ ما لا يبقى معه شك في أن صاحب الفتح فهم من أحاديث الباب النهي عن
الصلاة عند القبر كما فهمه سائر الأئمة , لكن بعض المتأخرين التبس عليهم الأمر؛
لأنهم نشئوا في أوطان غلبت البدع على أهلها حتى ألفوها وصارت دينًا يدان به لما
ماتت السنن وعفت معالمها.
ومن أولئك البيضاوي فإنه لم يفهم معنى الحديث؛ فتناقض في كلامه أقبح
تناقض، إذا جوز بناء المسجد عند قبر الصالح تبركًا به إذا أمن التعظيم , أولا
يدري أن التبرك هو العظيم أو هو ملازم له؟ فلا يبني أحد قبة أو مسجدًا على قبر
للتبرك به إلا وقصده تعظيم صاحب القبر.
والشارع صلى الله عليه وسلم سد هذا الباب البتة؛ فنهى أشد النهي عن
الصلاة عند القبور واتخاذ المساجد عندها , ولعن فاعل ذلك , وأخبر أنه من شرار
الخلق عند الله , ولم يفرق في ذلك بين من قصد التعظيم لأهل القبور أو التبرك بهم ,
فكيف يسوغ للبيضاوي أو غيره أن يفتح هذا الباب الجهنمي الذي سده النبي صلى
الله عليه وسلم بالتأويل والتحريف؟ فعسى أن يكون قد التبس عليه الأمر،
قال الحافظ في الفتح عند قول البخاري: (باب هل تنبش قبور مشركي
الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وما يكره من الصلاة في القبور) قوله: وما يكره
من الصلاة في القبور , يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو بين القبرين.
وقال الحافظ أيضًا في آخر شرحه حديث عائشة في الباب المذكور: وفيه
كراهية الصلاة سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه.
وقال: (في ص141 ج1 بعد ما تقدم بقليل: قوله - أي البخاري -: باب
كراهية الصلاة في المقابر , استنبط من قوله - يعني النبي صلى الله عليه وسلم -:
(ولا تتخذوها - أي بيوتكم - قبورًا) أن القبور ليست بمحل للعبادة؛ فتكون
الصلاة فيها مكروهة , ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والترمذي
مرفوعًا (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) .
وقد اتضح مما نقلته من كلام صاحب الفتح أنه لا يفهم من كلامه أن النهي
خاص بالسجود فوق القبر فقط كما ذكرتم قائلين: إنه لا يوجد أصرح من كلامه في
رده.
(المقام الرابع عشر) قولكم: وتوجد أيضًا معان ثلاثة غير المعنى الذي
قررناه، إلا أنه لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها أحدها: أن يراد النهي عن
وصل المساجد بموضع القبور، وهذا التأول خطأ فاحش؛ لأن مسجد النبي صلى
الله عليه وسلم قد وصل بموضع قبره في زمن الصحابة والتابعين , فكيف يدعي أن
ذلك منهي عنه , وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين؟ [5] .
(أقول) : قولكم: لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها , ممنوع لما تقدم وما
يأتي إن شاء الله.
قولكم: أحدها أن يراد النهي عن وصل المساجد , إلى قولكم: وهذا التأول
خطأ فاحش (أقول) : من نظر في أحاديث الباب متجردًا من العصبية وله أدنى
نصيب من معرفة لغة العرب؛ يعلم يقينًا أن الأحاديث ناطقة ومصرحة أتم تصريح
بالنهي عن وصل المساجد بالقبور , والنصوص في ذلك واضحة كشمس الضحى لا
تحتاج إلى تفسير ولا تأويل، تفسيرها قراءتها عند من يعرف لغة العرب، وليس
له في العصبية من أرب , ولم لا يمكن تفسير الأحاديث بذلك؟ , ولم صار تأولاً
وهو نص جلي؟ ولم صار خطأ فاحشًا؟ , قلتم: لأنه فعل في زمن الصحابة
والتابعين ورضوا به هم وسائر المسلمين في تعبيركم بموضع القبور وموضع قبر
النبي صلى الله عليه وسلم احتراس واعتراف بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
لم يوصل بالقبر نفسه بل بالحجرة وعبرتم عنها بالموضع وليس سواء , وإن كان
النهي يشملها، فإن وصل المسجد بالقبر نفسه أكثر فتنة من وصله بحجرة فيها قبر.
وقولكم: (وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين) دون إثباته
خرط القتاد، ونحن نطالبكم أن تنقلوا لنا ذلك بأسانيد تفيد العلم، كما هي شريطة
نقل الإجماع عند علماء الأصول، فيلزمكم أن تثبتوا ما ادعيتم , فالدليل على الناقل
والبينة على المدعي , وليس علينا أن نأتي بما يبطل هذه الدعوى؛ لأنها لم تثبت
بعد , ولكن نتبرع بذلك فنقول:
مما يدل على أن أهل العلم والفضل من الصحابة والتابعين لم يرضوا بذلك ما
قاله السمهودي في كتابه خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى (ص137 ط مصر) :
وللواقدي عن عطاء الخراساني: أدركت حجرة النبي صلى الله عليه وسلم
فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يأمر بإدخالها، فما رأيت يومًا كان أكثر باكيًا
من ذلك اليوم، قال عطاء، فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم
تركوها على حالها اهـ.
ثم قال السمهودي في الصفحة نفسها: وقال ابن زبالة حدثني محمد بن
عبد العزيز عن بعض أهل العلم قال: قدم الوليد بن عبد الملك حاجًّا , فبينا هو
يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حانت منه التفاتة فإذا
بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في بيت فاطمة بيده مرآة
ينظر فيها , فلما نزل أرسل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: لا أرى هذا قد بقي بعد،
اشتر هذه المواضع وأدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المسجد واسدده وفي
خبر ليحيى أنه لما نزل من خطبته أمر بهدم بيت فاطمة وأن حسن بن حسن
وفاطمة بنت الحسين أبوا أن يخرجوا، فأمر بهدمه عليهم وهما فيه وولدهما , فنزع
أساس البيت وهم فيه , فلما نزع قالوا لهم: إن لم تخرجوا منه؛ قوضناه عليكم ,
فخرجوا منه. اهـ ثم ذكر نحوه عن ابن زبالة أيضًا , ثم ذكر أن الحجاج اغتصب
بيت حفصة من عبد الله بن عمر , فأبى أن يسلمه فهدده بالهدم , فقال: والله لا
تهدمه إلا على ظهري , فأمر بهدمه فجاءت بنو عدي عبد الله فقالوا: ما أضعفك! هو
يتأسف على قتل أبيك وينزع عن قتلك؟ فأخرجوه فهدمه الحجاج.
ثم قال السمهودي في الكتاب المذكور في ص144: وعن عروة قال نازلت
عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يجعل في المسجد أشد
المنازلة , فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه قال: فقلت: فإن أبيت
فاجعل له جؤجؤًا أي وهو الموضع المزور شبه المثلث خلف الحجرة اهـ.
أقول: أفتكون أعمال أولئك الظلمة الغصبة حجة على حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم الصريح في النهي عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها
والقباب تعظيمًا لها وغلوًّا؟ وإن لم يصرح في الحديث بالنهي عن بناء القباب ,
فقد ورد النهي عن البناء على القبور مطلقًا غير مقيد بالمساجد ولا غيرها فالقباب
داخلة فيه , والأحاديث الناهية عن بناء المساجد على القبور تدل بفحواها على
تحريم بناء القباب , وإذا منعنا من بناء المساجد هناك وهي بيوت الله ومحال عبادته ,
فالقباب من باب أولى لأنها لا فائدة منها , بل فيها أعظم الضرر لأنها ذريعة إلى
الذنب الأكبر الذي لا يغفره الله وهو الشرك , وقد ظهر من الأخبار السابقة أن الذي
أدخل القبر في المسجد ليس من خيار الصحابة ولا التابعين , وإنما هو من الجبابرة ,
ولم يرض بذلك أبناء المهاجرين والأنصار ومن بقي من الصحابة كعبد الله بن
عمر , بل بكوا أشد البكاء، وتأمل إنكار عروة عَلَى عمر بن عبد العزيز إدخال
القبر المسجد وجوابه.
وفي الكتاب المذكور ما يدل على أن الوليد إنما بنى المسجد لأغراض فاسدة ,
وحسبك دليلاً على جهله بآداب الدين أنه زخرف المسجد فبناه بالفسيفساء , وقد صح
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زخرفة المساجد، وفي الحديث (لتزخرفنها
كما زخرفتها اليهود) فمن زخرف المساجد؛ فقد تشبه باليهود وكذا من اتخذ
المساجد والقباب على قبور الأنبياء والصالحين.
ونقل السمهودي أن الوليد لما أتم بناء المسجد بالرخام والذهب والفسيفساء
وأنواع الزينة والنقوش التفت إلى أبان بن عثمان فقال: أين بناؤنا من بنائكم؟
قال أبان: بَنَيْنَاهُ بناء المساجد , وبنيتموه بناء الكنائس اهـ بعضه بالمعنى.
ثم إنه لو لم يكن مدخل القبور في المسجد النبوي غير صالح للاقتداء به ,
لكنه غير معصوم , ولو لم ينقل لنا غصبه بيوت الناس ومباهاته بزخرفة المساجد
وإنكار الناس عليه وبكاؤهم على إدخاله الحجرات النبوية في المسجد؛ ما كان ذلك
حجة يعارض بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدم العلم بإنكارهم
ليس علمًا بعدمه , وكم أشياء ينكرها الصالحون بقلوبهم ولا يستطيعون إنكارها
بألسنتهم , أو ينكرونها بألسنتهم همسًا عند خاصتهم بعد ما يأخذون عليهم العهد أن لا
يبوحوا بذلك , وليس هذا مما تتوفر الدواعي على نقله كأفعال رسول الله صلى الله
عليه وسلم , وأقول: بل هذا بالعكس , فالدواعي على كتمانه وافرة لأن في
التصريح به إتلاف الأعراض والأموال والأرواح , فلا يتأتى لأحد أن يقول فعل
ولم ينكر فكان إجماعًا وقد عصم الله أمة محمد الذين جعلهم وسطًا أن يجمعوا على
إباحة ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله , وأخبر أنه من شرار
الخلق.
(المقام الخامس عشر) قول السيد مهدي:
(ثانيها) أن يراد النهي عن أن يقوم المصلي حول القبر , ويسجد على
الأرض قريبًا من القبر , وهذا التأول خطأ لا يصلح حمل الأحاديث عليه لأنه لا
ريب في أن البقعة المتضمنة لقبر نبي أو إمام عادل أو ولي لله تعالى أو غيره ممن
له عند الله منزلة جليلة وجاه عظيم , تكون أشرف وأفضل من غيرها بنسبة شرف
المدفون فيها , قال النووي في شرحه لصحيح مسلم في باب فضل الصلاة بمكة
والمدينة قال القاضي عياض: أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض.
اهـ[6]
قوله: وهذا التأول خطأ لا يصح حمل الأحاديث عليه , (أقول) : هذا
المعنى قد دلت عليه الأحاديث أوضح دلالة , فكيف يسمى تأولاً.
قوله: لأنه لا ريب إلخ , غير مُسَلَّم لأن فضل الحالّ لا يستلزم فضل
المحل [7] , قال البخاري في باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب: ويذكر أن
عليًّا كره الصلاة بخسف بابل قال الحافظ ابن حجر هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة
من طريق عبد الله بن أبي المحلى قال: كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي
ببابل، فلم يصَلِّ حتى أجازه. ومن طريق أخرى عن علي قال: نهاني حبيبي
صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة. في إسناده ضعف اهـ
بخاري، ثم أسند البخاري حديث عبد الله بن عمر مرفوعا (لا تدخلوا على هؤلاء
المعذبين، إلا أن تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم) زاد في
المغازي: ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي , وروى البخاري في
كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا
منها الحديث، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم بأرض ثمود وهي أرض عذاب من
شرار البقاع ولا تزال كذلك، ولم يلزم فضلها بنزول أفضل الخلق فيها وأفضل
الناس بعده أصحابه , ولم يقل أحد فيما علمت أنه يستحب السفر إلى الموضع
الذي نزل به النبي بالحجر أو يبنى عليه قبة ويصلى فيه , بل نهى عن الصلاة في
أرض العذاب كما تقدم في حديث علي وعن الشرب والاستقاء من مائها , وقد مر
علي وهو من أفضل خلق الله بعد النبيين بأرض بابل وهي أرض خسف
وعذاب , فلم تصر بمروره أرض رحمة؛ بل نهى عن الصلاة فيها ولا يستحب أن
تبنى فيها قبة ولا أن يصلى فيها.
وقوله: أو ولي لله أو غيره ممن له منزلة جليلة وجاه عظيم [8] فيه أن غير
ولي الله هو عدو الله ولا منزلة له ولا جاه لأن من كان مؤمنًا , ففيه ولاية لله ولا بد
لقوله: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُمَاتِ} (البقرة: 257) الآية , فلا واسطة بين الولاية والعداوة.
قوله: قال القاضي عياض أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه
وسلم أفضل بقاع الأرض [9] , قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول من
الفتاوى (ص292) أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله أكرم عليه منه ,
وأما نفس التراب - يعني القبر - فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام , بل
الكعبة أفضل منه , ولا نعرف أحدًا من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا
القاضي عياض , ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد عليه اهـ فقول عياض لا يصح
لأنه دعوى بلا دليل.
(المقام السادس عشر) قوله ولا ريب أن الصلاة ومثلها الدعاء وقراءة
القرآن وسائر الأذكار والأعمال الشرعية في الأماكن الشريفة تكون أقرب إلى قبولها
عند الله، ولهذا صارت الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره، ولأجل
الحصول على هذا الفضل كان السلف الصالح وأئمة المسلمين حتى في زماننا هذا
يصلون ويدعون ويتضرعون عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن الصفوف
تحاذي نفس القبر الشريف اهـ[10] .
أقول: فيه منتقدات (الأول) أن الصلاة والدعاء في الأماكن الشريفة أقرب
إلى قبولها عند الله فيه إجمال، وهو على إطلاقه غير صحيح حتى ما ذهب إليه
السيد مهدي من أن النهي يختص بالقبر نفسه , لأن الشرف إن كان في مدافن
الصالحين , فإنما هو في القبور نفسها، وما حولها تابع لها، والسيد مهدي مقر معنا
بأن السجود على القبر نفسه لا يجوز فضلاً عن أن يكون إلى القبور.
ونحن نقول: إن ما حول القبر أيضًا في حكم القبر للنصوص الدالة أوضح
دلالة على ذلك , فلو كانت الصلاة في كل مكان شريف أقرب إلى القبول لكان
الأولى أن تكون فوق القبر نفسه لأنه محل الشرف.
(الثاني) في كون البقعة لها فضيلة أن تشرع الصلاة فيها مطلقًا فضلاً عن
أن تكون أقرب إلى القبول، فغار حراء له فضيلة لتعبد النبي صلى الله عليه وسلم
فيه، ونزول الوحي عليه لأول مرة فيه ولم يشرع إتيانه للصلاة والدعاء فيه فضلاً
عن أن يكون ذلك أقرب إلى القبول وكذلك الغار الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه
وسلم وأبو بكر وهو المذكور في القرآن لا يشرع إتيانه لصلاة ولا دعاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم، في مخالفة
أصحاب الجحيم) : أجمع العلماء على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبر - أي قبر كان - لا فضل فيها , ولا
للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً , بل مزية شر , واعلم أن تلك البقعة وإن
كانت قد تنزل عندها الملائكة والرحمة ولها شرف وفضل , ولكن دين الله بين
الغالي فيه والجافي عنه , فإن النصارى عظموا [11] ...
ولو كانت للصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة لفعلها أحرص
الناس على الخير وأسبقهم إليه وأعلمهم به السابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه , وحاشى لهم أن يعصوا النبي صلى
الله عليه وسلم , بل كانوا يحذرون الصلاة عند القبر ويحذرون منها كما فعل عمر
مع أنس ولو كانوا يتحرون الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم لنقل إلينا
ذلك لأن الدواعي على نقله متوفرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : فأما إذا قصد
الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين متبركًا بالصلاة في تلك
البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن الله به،
وتقدم نقله الإجماع على أن الصلاة عند القبر لا فضل فيها، فكيف يظن مع ذلك
بأحد من السلف والخلف الصالحين أنه يتحرى الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه
وسلم أو غيره؟ .
(الثالث) قوله: ولهذا صارت الصلاة في المسجد أفضل منها في غيره.
أقول: هذا أيضًا على إطلاقه لا يصح , لما ورد في الصحيح أن صلاة المرأة
في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفضيلة الصلاة
في المسجد ليست لكونه مسجدًا فقط , فإن الله سمى المكان الذي بناه المنافقون
للصلاة مسجدًا , ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه بقوله: {لاَ تَقُمْ
فِيهِ أَبَداً} (التوبة: 108) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريقه , وإنما كانت
الصلاة في المسجد أفضل منها في غيره لأن الله شرعها فيه وأثنى على أهلها بقوله
في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ} (النور: 36-37) الآية ولم يأذن الله قط ولا رسوله في الصلاة عند القبور ولا
شرعها فيها , بل نهى عنها رسوله أشد النهي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} (النجم: 3-5) فكيف يقاس ما شرعه الله
وأثنى على فعله بما نهى الله عنه على لسان نبيه ولعن فاعله؟ قوله: ولهذا الفضل
كان السلف الصالح إلخ [12] تقدم جوابه.
وقوله: حتى إن صفوف الصلاة تحاذي نفس القبر الشريف [13] ممنوع؛ لأن
قبره صلى الله عليه وسلم في حجرته وحجرته مسورة بسور فالصفوف لا يمكن أن
تصل إلى قبره البتة , وقد روى مالك في الموطأ وغيره في غيره أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقد استجاب الله دعاء نبيه فصانه بالحجرة والسور.
وقدا أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم فقال وأجاد:
ولقد نَهَانا أن نصير قبره ... عيدًا حذار الشرك بالديان
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنًا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
فكيف يدعي أن صفوف المصلين تصل إلى القبر نفسه؟
وقول ابن القيم: ولقد نهانا البيت. إشارة إلى ما رواه الحفاظ من طرق كثيرة
منها ما في سنن سعيد بن منصور حدثنا حبان حدثنا علي حدثني محمد بن عجلان
عن أبي سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا
بيتي عيدًا , ولا بيوتكم قبورًا , وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ورواه
أبو داود بسنده عن أبي هريرة بلفظ (لا تجعلوا قبري عيدًا) وقال سعيد بن
منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد قال أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال
رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى:
فقال: إلى العشاء. فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت:
سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد؛ فسلم عليه، ثم
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا بيتي عيدًا ولا بيوتكم
مقابر , لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم
تبلغني حيثما كنتم) ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. اهـ.
فانظر إلى الإمام الحسن وكيف كره إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم
للسلام عليه ونهى عنه , وأمر الرجل إذا دخل المسجد أن يسلم على النبي ولا يأتي
القبر؟ والسلام على النبي مشروع عند دخول كل مسجد لا يختص بمسجد النبي
صلى الله عليه وسلم وفي مسند أبي يعلى حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا زيد بن
إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه علي بن الحسين أنه رأى
رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها
فيدعو فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا فإن مسألتكم تبلغني أينما
كنتم) . ا. هـ قال الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه الصارم المنكي ص109 وهذا
الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد
الزائدة على ما في الصحيحين اهـ.
فانظر إلى أهل البيت - سلام الله عليهم - كيف صانوا حمى التوحيد اقتداء
بجدهم , ولم يرخصوا في إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام ولا للدعاء ,
فكيف يُدَّعَى أن السلف الصالح كانوا يتحرون الصلاة والدعاء عند القبر؟ , وإذا
وقع ذلك من بعض المسلمين خطأ وجهلاً , فليسوا معصومين من الخطأ والزلل،
ولا تثبت المشروعية بفعل أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف يرد
حديث النبي صلى الله عليه وسلم وينسخ بمخالفتهم له ولو كان الأمر كذلك لنسخت
أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منها إلا ما شاء الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب: 36) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (في اقتضاء الصراط المستقيم) بعدما ساق
الأحاديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد: فهذه المساجد المبنية على قبور
الأنبياء والصالحين والملوك وغيره يتعين إزالتها بهدم أو غيره هذا مما لا أعلم فيه
خلافًا بين العلماء المعروفين، وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه , ولا تصح
عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن ولأحاديثَ أُخر. اهـ.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) العبارتان في ص 355 جزء المنار 5.
(2) ص 356 جزء 5.
(3) ص 356 جزء 5.
(4) ص 356 أيضًا.
(5) ص 356 أيضًا.
(6) المنار: في هذه المسألة مباحث أهمها أن فضل المكان على غيره إما ذاتي لمعنى فيه كخصب أرضه وجودة هوائه ومائه وهذا يعرفه كل أحد، وإما ديني كفضل المساجد وكون أفضلها الثلاثة لكثرة الثواب فيها إلخ وهذا لا يعرف إلا بنص الشارع، وإما عرفي كاختيار الناس بقعة يفضلونها على نظائرها لاجتماع أو عمل آخر أو لجلوس السلطان أو الأمير أو لدفن ميت شريف، وهذا التفصيل العرفي الإضافي لا يجعل للبقعة شيئًا من الفضل الحقيقي لا الذاتي ولا الديني , ولذلك صح في الحديث تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن موقفه في عرفات والمزدلفة ونحره في منى لا يقتضي فضل هذه الأماكن على غيرها من المشاعر الثلاثة قال: (وقفت هنا وعرفة كلها موقف ومزدلفة كلها موقف … ومنى كلها منحر) .
(7) ص 356 منه أيضًا.
(8) ص 356 منه أيضًا.
(9) 357 منه.
(10) بياض بالأصل.
(11) ذكرت هذه العبارة بالمعنى وهي في ص 357.
(12) في ص 357 أيضا.
(13) المحفوظ في سائر الروايات (صلاتكم) ولم أجد أنهم كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم بعد موته فلفظ مسألتكم شاذ رواية ودراية ولعله غلط من بعضهم.(28/516)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعاية المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية
كتب إلى جريدة البلاغ البيروتية مراسل من مدينة لاهور في بلاد الهند فصلاً
مسهبًا سماه (عقائد الجماعة الأحمدية في الهند) قسم فيه الفرقة إلى اثنتين: فرقة
(قاديان) وهي التي بنت الجامع الذي في لندن، وفرقة (لاهور) عاصمة حكومة
البنجاب وهي التي بنت جامع برلين.
وإننا ننشر ما جاء في البلاغ عن هذا المكاتب , ونعلق عليه بتحذير المسلمين
من هذه الدعاية التي تنشرها جرائدهم السياسية غير عليمة بما وراءها من الجناية
على الإسلام , وهذا نصه بأغلاطه العربية لم تصحح منها إلا آيات القرآن:
الفرقة الأحمدية في لاهور هي تحت رئاسة مولانا الأمير محمد علي مترجم القرآن
الكريم إلى اللغة الإنكليزية، وهي اعتقاد عامة المسلمين، لا تختلف عنهم إلا
ببعض نظريات كوفاة سيدنا عيسى، والناسخ والمنسوخ في القرآن، وقد قامت هذه
الفرقة بتضحيات عظيمة في الهند وأوربا في سبيل نشر الإسلام، وافترقت عن
الأحمديين القاديانيين منذ وفاة السيد أحمد مؤسس تلك الفرقة، وقد كان إسلام اللورد
هدلي على يد فرقة الأحمدية؛ لأن خوجه كمال الدين معين مبشرًا في إنكلترا من
قبل الأمير محمد علي.
هذه كلمة يقول عنها المراسل إنها توطئة لرسائله التي سيوافي بها البلاغ،
وإننا ننشر منذ اليوم أولى هذه الرسائل، قال:
إن تبليغ الأحمدية هو تبليغ الإسلام الروحاني [1] , ومقصدها تطهيره من
العناصر الأخرى , وتغلبه في هذه الدنيا.
كان المؤسس لهذه الدعوى هو مرزا غلام أحمد قادياني مجدد القرن الرابع
عشر حسب وعود النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة
على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ورجال يكلمون من غير أن يكونوا
أنبياء) [*] ، وقد قام هذا الشخص بدعوى مجدد ومحدث.
وبعد وفاته أقام لحفظ وإشاعة الإسلام (مجلس شورى خدام الإسلام) الذي
مركزه في لاهور (الهند) .
وعقائد هذه الجماعة هي مثل عقائد أهل السنة التي تطابق القرآن والحديث،
ولكن بإمعان النظر؛ فإن أفكار هذه الجماعة مبنية على المعنى الصحيح من القرآن
والحديث وهي:
1- تعليم القرآن والحديث:
إن حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وبعده لا يأتي
نبي، وجاء في الحديث أيضًا: (لا نبي بعدي) , وعقائد الجماعة الأحمدية في
لاهور هي مطابقة لهذا الحديث , على أنه لا يأتي نبي إن كان قديمًا أو جديدًا بعد
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن مجيء أحد الأنبياء قديمًا أو جديدًا قد تكون
بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ختمت، ومن غير الإيمان بالنبي الآتي لا
يحصل أحد على النجاة، وعلى ذلك؛ فإن أفراد هذه الجماعة يفهمون بأن من
خلاف المسلمات مجيء عيسى بن مريم الذي كان رسولاً إلى بني إسرائيل في الأمة
المحمدية , ومنه على حسب الآيات القرآنية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) ، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) , وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تبرهن على وفاته، ولهذا
أيضًا ممنوع مجيء نبي جديد؛ لأن الأنبياء من لدن الله عز وجل يأتون إلى الناس
إما ببعض الهدايات أو الشرائع، ولأن القرآن أتى بدين مكمل كما هو دعواه
{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) , ولهذا ممنوع للمستقبل مجيء إحدى
الهدايات والشرائع الجديدة، ومن هذا الوجه؛ فإن مجيء أحد الأنبياء الآن هو لغو
ولهج في الألسن فقط , وهي بعيدة عن شأن الله تعالى، من هذه الدلائل؛ فإن هذه
الجماعة مصدقة بأن النبوة المحمدية ووحي القرآن كافيان إلى يوم القيامة , ولا
ضرورة لنبي جديد أو قديم إلى يوم القيامة [2] .
2- إن ألفاظ القرآن كلها واجبة العمل وليس فيها ناسخ ومنسوخ؛ لأن دعواه
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) , ومعنى
التصديق في مسألة ناسخ ومنسوخ في الآيات القرآنية هو وجود الاختلاف فيها؛
لذلك فإن هذه الجماعات لا توافق على مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن , بل هم
يفهمون بواجب العمل على جملة أحكام القرآن طبقًا لحالات الزمان وضروراته.
3- معنى الإسلام هو مذهب الصلح والسلامة؛ لذلك فإن هذه الجماعة يفهمون
بأنه لا يجوز أي نوع من أنواع التشدد والجبر في الإسلام؛ لأن حكم القرآن {لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) , وحضرة النبي الكريم وصحابته لم يستعملوا
السيف ولا الجبر قط في تبليغ الدين الإسلامي , والقرآن أمرنا بالجهاد لأجل الدفاع
فقط {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190) , والإسلام انتشر
بقوته الروحانية , وسينتشر كذلك في المستقبل إن شاء الله , وثبوته موجود في هذا
الزمان , فالجماعة القليلة لمجدد هذا القرن , قد فازوا في إدخال الألوف من طبقة
الأدباء والفضلاء في أوربا وأمريكا في الدين الإسلامي، ونعلم علم اليقين أنه إذا
كان عقلاء المسلمين وعلماؤهم يقومون مع هذه الجماعة باتحاد العمل في هذا الشغل
الصالح، ويعضدوا قوتها؛ فتفوز بسرعة بغلبة الإسلام الروحانية على جميع الدنيا ,
وتدخل الطبقة العاقلة المخالفة للإسلام في الدين الإسلامي , ومتى زاد عدد
المعاونين في هذا العمل؛ يرتفع كثير من المشكلات السياسية عن المسلمين.
4- هذه الجماعة لا تأخذ حصة في التبليغ السياسي في أي مملكة كانت، وفي
أي بلاد مختلفة تشتغل فيها بالتبليغ، فعضوها المبلغ يحترم قوانين تلك البلاد.
5- هذه الجماعة تعتقد بأن جميع الناس الذين يؤمنون بكلمة لا إله إلا الله
محمد رسول الله من قلب خالص هم مسلمون، وتفهم بأن تكفير أحد أصحاب كلمة
الشهادة هو مناف لاتحاد المسلمين , واعتقاد هذه الجماعة بأن جميع المؤمنين إخوة ,
ويفهمون بأن معاونة جميع المسلمين من أي فرقة كانوا هي ضرورية؛ لأن الجماعة
التي تريد أن تَرْقَى , وتظهر في الدنيا تعليم الله ورسوله , فهي لا تقدر أن تفهم بأن
إخوانها الناطقين بالكلمة هم خارجون عن الإسلام.
6- إن أفراد هذه الجماعة يحترمون جميع الأنبياء والصحابة والأئمة
والمجددين , وليست طريقتهم بأن يهينوا أحد مشايخ الأمة , وعلى هذه الصورة
أيضًا يعززون كبار المذاهب الأخرى , وعلى موجب التعليم الإسلامي لا يذمون أحدًا
منهم.
إن الخدمات الإسلامية التي قامت بها هذه الجماعة المختصرة في ظرف مدة
قليلة هي على حسب ما يأتي , ندرجها ههنا؛ ليشترك المسلمون معنا في العمل في
هذا التبليغ والعمل الصالح , وليس مرادنا من درجها أن نحرز الفخر؛ لأن هذه
الجماعة إنما تعمل لخدمة الإسلام خدمة خالصة , وليس لأجل الفخر وهذه هي:
1- التبشير بالإسلام في الممالك الأخرى.
أ - أقيم على صرف الألوف من الدراهم مركز للتبشير في محلة (وكنج)
في إنكلترا، حيث تصدر هناك مجلة مصورة بالإنكليزية؛ لأجل تبليغ الإسلام ,
ومنها يوزع عدد كبير مجانًا لغير المسلمين , وعلاوة على ذلك , ينشر كثير من
الكتب الإسلامية المفيدة باللغة الإنكليزية هناك.
ب - ثم إن هذه الجماعة لإعلاء كلمة الإسلام بنوا مسجدًا في برلين
عاصمة ألمانيا , وصرفوا على تعميره نحو 150 ألف روبية , وأيضًا تصدر مجلة
باللغة الألمانية؛ لأجل تبليغ الإسلام , وكثيرًا من الكتب الإسلامية المفيدة انتشرت
باللغة الألمانية.
ج- ثم إن حركة التبليغ الإسلامي جارية في جزيرة (جاوا) التابعة لحكومة
هولاندا , وكثير من الكتب الإسلامية قد انتشرت لسكان هذه الجزيرة باللغة الملائية
ولغة هولاندا حاكمة البلاد , وقد يترجم الآن القرآن باللغة الملائية.
د- والتبليغ الإسلامي يجري في أوروبا وأمريكا وإفريقيا وآسيا والجزائر
المختلفة بواسطة الخط والكتابة وإرسال الكتب الإسلامية مجانًا، ويعطَى إلى جميع
المكتبات الكبرى في العالم كثير من المجلات والكتب مجانًا بدون ثمن.
2- التبليغ في داخل بلاد الهند:
أ- إن التبليغ الإسلامي جار في الأماكن التي لا يوجد فيها مسلمون , وقد دخل
إلى الآن ألوف من الناس في الدين الإسلامي.
ب- ويجري استعداد المبلغين الواقفين على العلوم الدينية والعلوم العصرية؛
لأجل دعوة المجوس والمشركين والمذاهب الأخرى إلى الإسلام , ثم إن كثيرين من
طلبة (البلاد) الأخرى يحصلون العلم في مدرسة " إشاعة الإسلام " بحيث يمكنهم
القيام بالتبليغ الإسلامي في بلادهم بعد فراغهم من تحصيل العلوم.
3- سلسة التصانيف:
أ - لكي يمد المبلغون الإسلام؛ تنتشر كثير من الكتب الإسلامية باللغة العربية
والتركية والإنكليزية والفرنسوية والألمانية والإيطالية وغير ذلك من اللغات
الأخرى.
ب - طبعت ترجمة القرآن باللغة الإنكليزية والهندية , وأرسل منها الألوف
إلى جميع أنحاء العالم؛ فحازت القبول [3] , والآن يترجم إلى اللغة الصينية
والملائية وفي بعض اللغات الأوربية، وفي هذه السنة وزعت 500 نسخة من
القرآن باللغة الإنكليزية على جميع مكتبات الدنيا المشهورة مجانًا.
ج - أرسلت أيضًا ترجمة السيرة النبوية باللغة الإنكليزية إلى جميع المكتبات
مجانًا، وترجمتها باللغة الألمانية والإيطالية تحت التصنيف.
- تنشر جريدة (لايت) الإنكليزية في كل خمسة عشر يومًا مرة، وتوزع
تقريبًا خمسمائة نسخة منها مجانًا على المكتبات وعلى بعض الإخوان من المسلمين
وغير المسلمين، وتعطَى القيمة إلى تلامذة المدارس والفقراء.
4- وسائل الدخول:
أ - لسد هذه النفقات الكثيرة كلها؛ يعطي كل فرد من هذه الجماعة حسب
اقتداره إلى (بيت المال القومي) المبلغ المعين له شهريًّا , وعلاوة على ذلك فإن
دراهم زكاة وصدقة هذه الجماعة أيضًا تجمع في (بيت المال) , ثم تصرف على
الشعبات المختلفة بواسطة إدارة منظمة، وأما جماعات المسلمين الأخرى فالقليل
منهم الذين قاموا بمد يد المساعدة لإشاعة الإسلام.
5- الواردات الداخلة والخارجة في السنة الماضية:
بلغ مجموع الواردات في السنة الماضية للجماعة الأحمدية في لاهور 934،
189 روبية , صرفت على الأشياء الآتية:
أ - شراء اللوازم العامة لجميع الدوائر (بيت الضيوف) , وإشاعة الكتب
والمجلات مجانًا , وللواعظين ومدرسة إشاعة الإسلام , ومساعدة المساكين واليتامى
المكتبة والأملاك غير المنقولة، متفرقة 31723 روبية.
ب - تبليغ الهند 5412 روببة.
ج - تبليغ البلاد الأخرى 30360 روبية.
د - الصحافة 12527 روبية.
هـ - نفقة تثقيف المتوحشين 3880 روبية.
و تصنيف وتأليف - 24924 روبية.
ز - تعليم المدارس 35534 روبية.
ط - تعمير المحلة الأحمدية - 83 روبية.
ثم إن الخدمات التي أتت بها هذه الجماعة المتحدة للإسلام والمسلمين لا
ينكرها أحد من عقلاء المسلمين، فنظامها قابل التقليد للمسلمين , فإذا كانت جماعة
متحدة صغيرة أتت بهذه الأعمال العظيمة، فكيف لو كانت القوة المتحدة للمسلمين
مع هذه الجماعة؟ لا شك إذ ذاك تكون للإسلام قوة شديدة وكبيرة جدًّا، ولخدمة
الإسلام يلزم على إخواننا المسلمين أن يشتركوا معنا في هذا العمل الجليل.
ومما تجب الإشارة إليه أن تبليغ الجماعة الأحمدية في لاهور (البنجاب) ليس
لها تعلق مع الجماعة التي تدعي بأن مرزا أحمد قادياني هو نبي حقيقي ورسول
ويكفر جميع المسلمين.
وقد أعلنت جماعتنا بأنها بريئة من هذه العقائد؛ لأن هذه العقائد اخترعت بعد
وفاة المجدد والمؤسس لهذه الحركة , وهو بريء من هذا الافتراء , والله على ما
نقول شهيد.
***
عقائد جماعة لاهور الأحمدية [4]
إن جمعية (ألأنجمن الأحمدية إشاعة الإسلام في لاهور) قد شرعت في
العمل لتوسيع نطاق التبليغ والتبشير في أوربا والممالك الأخرى , والقيام لمقابلة
المخالفين للإسلام، وهي تجاوبهم وترد عليهم بواسطة الإعلانات والمجلات
والجرائد والمبلغين , وقد تشيع ترجمة القرآن الكريم والسيرة النبوية في أنحاء
مختلفة , وهي ترفع علم التوحيد في ممالك أوربا الآن حيث يوجد مسجدان واحد في
(برلين) عاصمة ألمانيا والثاني في (وكنج) في عاصمة البلاد الإنكليزية وهناك
ألوف من إخواننا الذين اعتنقوا الدين الإسلامي يؤدون صلاتهم فيها.
وقد يشك بعض الناس في عقائد الأحمدية , ولذلك أرى من الواجب الإشارة
إلى هذه العقائد , لإطلاع إخواننا المسلمين عليها , وإلى القارئ تلك العقائد التي
يضعها فريق جماعة لاهور الأحمدية.
أولاً - إننا نؤمن بوحدانية الله تعالى , وبرسالة رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم.
ثانيًا - نؤمن بالقول والفعل بأن حضرة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم
خاتم النبيين , وقد أكمل الله تعالى الدين ببعثته؛ لذلك لا يأتي نبي بعده صلى الله
عليه وسلم , نعم يأتي مجددون يكون عملهم خدمة الإسلام وتأييد الدين.
ثالثًا - نحن نؤمن بالقول والفعل بأن القرآن الكريم الذي أنزل على محمد
المصطفى صلى الله عليه وسلم هو كلام الله , ولا يمكن نسخ أي حكم من أحكامه
إلى يوم القيامة.
رابعًا - نحن نصدق بأن حضرة مرزا غلام أحمد صاحب قاديان مجدد القرن
الرابع عشر , ولا نصدق بنبوته.
خامسًا - نحن نصدق بأن الله تعالى يكلم أولياء هذه الأمة , وأن هؤلاء الناس
يدعون بالمحدث باصطلاح الشريعة , وعلى هذا يصير استعمال لفظ (النبوة)
الظلية في اصطلاح الأولياء , والأمثل ظل الله لا يكون الله، ولا ظل النبوة يكون
نبيًّا.
سادسًا - نحن نفهم بأن كل إنسان يؤمن بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله
يكون مسلمًا.
سابعًا - نحن نعز جميع الصحابة الكرام ومشايخ الدين , ولا ننظر بنظر
النفرة والتحقير لأي صحابي أو إمام أو محدث أو مجدد ما.
ثامنًا: نحن نفهم بأن تكفير المسلمين هو فعل قابل للنفرة والاشمئزاز أكثر من
كل شيء , وعلى إظهار النفرة من أولئك الناس الذين يكفرون أحد المسلمين أو
جماعة ما من المسلمين لا نصلي خلفهم؛ إن كان المكفر أحمديًّا أو غيره من الناس ,
ثم إننا نصلي خلف أولئك الناس الذين ينفرون من فتاوى التكفير إن كانوا أحمديين
أم غيرهم من المسلمين.
تاسعًا: إننا نصدق بصحة الأحاديث التي فيها ذكر نزول المسيح , ولكن بما
أن القرآن الكريم يقول بألفاظ واضحة وصافية بذكر وفاة حضرة المسيح؛ لذلك نأخذ
المراد منها بظهور مجدد للدين.
عاشرًا: وفي قربنا أن الدين الإسلامي قبلاً لم ينشر بالجبر ولا يكون أيضًا
فيما بعد ظهور مهدي كهذا ينشر الإسلام بقوة السيف، بل إن المهدي هو على ذاك
الذي يحصل الهداية من الله تعالى ويظهر صداقة الدين الإسلامي.
وفي الختام أقول:
إن بعض الناس ينسبون عقائد الجماعة القاديانية لنا. على أن مما يؤخذ
الجماعة القاديانية غلوهم , بأن وضعوا حضرة مجدد القرن الرابع عشر في منصب
النبوة , وكفروا جميع مسلمي الأرض , وقرروا خروجهم عن دائرة الإسلام , وقد
رددت جماعتنا هذا القول مرارًا عديدة. اهـ.
(المنار)
إن ما علقناه من الحواشي الوجيزة على هذه الدعاية يظهر للمسلمين أن
هؤلاء الأحمدية على الباطل , وان كانت الفرقة الأخرى من أتباع القادياني أشد
منهم غلوًّا في مسيحيته الباطلة، وسننشر في جزء تال مقالاً في ذلك , يتبعه نُقُول من
كتب المسيح القادياني الدجال، يعلم منه أن كل متبع له خارج من حظيرة الإسلام.
__________
(1) هذا أول اعتراف من هذه الملة الجديدة بأنها تدعو إلى شطر الإسلام الروحاني , وتترك شطره الخاص بالأمور الجسدية أو الدنيوية , كما فعلت المسيحية في اليهودية , وهذه دعوى مسيحهم الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه مسيح الإسلام الموعود به في الأحاديث النبوية , مع أنها لا تنطبق على حاله بوجه ما.
(*) قوله: (ورجال يكلمون) ليس من هذا الحديث , ولكن ورد هذا المعنى في حديث آخر كما ورد أنه يظهر في هذه الأمة دجالون قبل الدجال الأكبر والقادياني من هؤلاء كما سنبينه.
(2) المنار: الغرض من هذا حمل أحاديث مجيء المسيح عيسى بن مريم على القادياني لدعواه هو المسيح المنتظر ولكنه هو قد ادعى الوحي حتى بالشعر كما سننقله عن كتبه بعد.
(3) هذا كذب فعلماء مصر أفتوا حكومتهم بمنع الإذن بدخول مصحفهم المطبوع مع ترجمتهم له, وكذلك فعل مفتي بيروت.
(4) مقالة أخرى نشرت في جريدة البلاغ البيروتية.(28/543)
الكاتب: عبد المتعال الصعيدي
__________
بول الصبي وبول الصبية
حكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائي
الأحاديث التي وردت فيهما
(1)
اتفق العلماء على أن ما تزول به النجاسة أمور ثلاثة: الغسل والمسح
والنضح [*] .
والنضح هو الرش، وقد اختلف الفقهاء في الاكتفاء به في طهارة بول الصبي
وبول الصبية على ثلاثة أقوال:
(الأول) أنه خاص بإزالة بول الصبي , ولا يكفي في إزالة بول الصبية ,
بل لا بد في إزالة بولها من غسله , ولا يكفي فيه الرش , وهو مذهب الشافعي في
المشهور عنه.
(الثاني) أنه لا يكفي فيهما , بل لا بد فيهما من الغسل , وإلى هذا ذهب
مالك، وعنده أن الغسل طهارة ما تيقنت نجاسته والنضح طهارة ما شك فيه.
وقد أخذ في هذا بحديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في بيته , فقال: (فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما يبس ,
فنضحته بالماء) .
(الثالث) أنه يكفي فيهما , وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي ,
وحجتهم في ذلك قياس الأنثى على الذكر الذي وردت أحاديث النضح فيه.
وإنا إذا رجعنا إلى العلم الحديث؛ نجد أنه لا يفرق بين تركيب بول الصبي
وبول الصبية , بل لا يفرق في ذلك بين بول الذكور وبول الإناث على العموم.
ومن الواجب أن نرجع إليه في ذلك , وأن نأخذ فيه رأيه , ولا نعتمد على
رأي بعض الفقهاء الذين يفرقون بين تركيب بول الصبي وبول الصبية , مع أنهم
ليسوا من علماء الكيمياء الذين يعرفون تركيب المواد والأجزاء التي تتألف منها.
يقول البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن بول الصبي أرق من بول
الصبية [1] , والائتلاف بحمله أكثر من الائتلاف بحملها؛ فخفف فيه دونها.
وأضاف إلى هذا أن أصل خلقه من ماء وطين , وأصل خلقها من لحم ودم ,
فإن حواء خلقت من ضلع آدم , وأن بلوغ الصبي بمائع طاهر وهو المني ,
وبلوغها بذلك وبمائع نجس وهو الحيض.
ولا شك أن البيجوري لم يحلل بول الصبي وبول الصبية حتى يكون حكمه بأن
بولها أرق من بوله ناشئًا عن بحث علمي؛ فيقبل منه، فضعف حكمه في هذا ليس
بأقل من ضعف حكمه بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر من الائتلاف بحمل الصبية.
وكذا حكمه بأن أصل خلقه من ماء وطين وبلوغه بمائع طاهر بخلافها فيهما ,
فما لهذا والاكتفاء بالنضح في بوله دونها؟ .
ولو كان لنا أن نحكم في تركيب بول الصبي وبول الصبية بظاهر الرأي كما
فعل البيجوري؛ لقلنا بأن بول الصبية أرق من بول الصبي؛ لأن الأنثى أرق من
الذكر جسمًا , فلماذا لا تكون أرق منه بولاً [2] ؟ ولكن الواجب تحكيم العلم في هذا ,
وعدم الأخذ بظاهر الرأي فيه.
***
(2)
رجعنا إلى بعض الأطباء؛ فأمكننا أن نحصل منه على هذه الأمور:
(1) أهم أجزاء البول هي: البولينا وحمض البوليك وكلور الصوديوم
والسولفات والفوسفات وأكسيدات الجير والصودا.
(2) إن هذه الأجزاء توجد في بول الذكور والإناث بكميات متساوية , ولا
فرق في ذلك بين الكبار والصغار من النوعين.
(3) تختلف النسبة بين أجزاء البول باختلاف السن وباختلاف الأغذية
وكيفية هضمها.
فمن يتغذى بالألبان كالأطفال؛ تقل في بوله كمية البولينا وحمض البوليك ,
وهما اللذان يكسبان البول الرائحة الكريهة الخاصة به.
ولعل هذا هو السر الذي يهدينا إليه العلم الحديث في تفريق الشارع بين بول
الأطفال الرضع وغيرهم في الاكتفاء في طهارته بالنضح؛ لأنه لا يوجد فيه من
الرائحة الكريهة بسبب هذا ما يستوجب الاعتماد في طهارته على الغسل , وكذلك
الأطفال لسلامتهم من الأمراض المعدية كالبلهارسيا وغيرها؛ يكون بولهم خاليًا من
جراثيم تلك الأمراض , فلا يخاف منه كما يخاف من بول غيرهم , ولذا لم يشدد
الشارع في طهارته , واكتفى فيها بالنضح , وشدد في طهارة غيره , وأوجب فيها
الغسل الذي يزول به ضرره , وتتقى عدواه.
فانظر كيف استفدنا من الرجوع إلى العلم في هذا الحكم , وكيف وقفنا على
هذه الأسرار الجليلة التي تدل على فضل الشريعة الغراء.
وما كنا لنصل إليها؛ لو فعلنا كما فعل البيجوري , ووقفنا عند ظاهر الرأي،
ولم نسبر أغوار العلم.
***
(3)
ورد في هذا الباب أحاديث - أولها - عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن
لها صغير، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا
بماء، فنضحه عليه ولم يغسله.
ثانيها - عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(بول الغلام الرضيع ينضح , وبول الجارية يغسل) .
ثالثها - عن أبي السمح خادم رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (يغسل من بول الجارية , ويرش من بول الغلام) .
رابعها - عن أم كرز الخزاعية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بول
الغلام ينضح وبول الجارية يغسل) .
خامسها - عن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت: بال الحسين في حجر النبي
صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، أعطني ثوبك، والبس ثوبا غيره
حتى أغسله , فقال: (إنما ينضح من بول الذكر , ويغسل من بول الأنثى) .
ومثل الحديث الأول لا يوجد فيه ما يمنع قياس الأنثى على الذكر؛ وفقًا
للمذهب الذي رجحناه , وقلنا: إنه الذي يوجد في العلم الحديث ما يؤيده , ولكن
الكلام في الأحاديث الباقية الناطقة بالفرق بين الأنثى والذكر في النضح , التي قال
فيها الشوكاني: إنه لم يعارضها شيء يوجب الاشتغال به.
وقد يكفيني في التخلص منها أن العترة والحنفية وسائر الكوفيين والمالكية لم
يروا العمل بها جملة , وآثروا عليها قياس بول الصبي على سائر الأبوال , فأوجبوا
الغسل فيه مثلها.
وإذا صح لهم إيثار هذا القياس عليها , وعدم العمل بها جملة؛ فإنه ليصح
من باب أولى أن نؤثر قياس الجارية على الغلام على ما جاء منها بالتفرقة بينهما.
ففي هذا إعمال لها في الجملة بخلاف ذاك , ولكنا نحب أن نبدي فيها رأيًا
حديثًا , بعد أن نلاحظ عليها إجمالاً أنها لم ترد في صحيحي البخاري ومسلم , وقد
قال ابن حجر في فتح الباري: (إنها لم تستوف شرط البخاري فيما يورده في
صحيحه من الأحاديث) .
وقد يكفيني عدم إيراد البخاري لها في صحيحه لهذا الذي يذكره ابن حجر في
التخلص منها أيضًا , فهو يرى أنها ليست من القوة بحيث تقضي بالفرق بين بول
الصبي وبول الصبية في ذلك الحكم , ولو كانت تكفي عنده في ذلك لذكرها في
صحيحه , لتكون حجة في ذلك , كما ذكر أحاديث بول الصبي؛ لتكون حجة في
الاكتفاء في طهارته بالنضح.
وكذلك نلاحظ مع هذا أنها ليست إلا أحاديث آحاد , والحنفية يقدمون عليها
القياس؛ لأنه من الأصول المعلومة المقطوع بها من الشرع , وخبر الواحد مظنون.
وهذا يسوغ لنا أيضًا أن نقدم قياس بول الجارية على بول الصبي على تلك
الأحاديث السابقة , التي هي أحاديث آحاد , ومع هذا فيها ما سنورده عليك.
حديث علي:
رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد والترمذي , أما ابن ماجه ففي سنده إلى
علي رضي الله عنه معاذ بن هاشم وأبوه هشام وقتادة بن دعامة. ومعاذ بن هشام
قال عنه ابن معين: إنه صدوق وليس بحجة , وقال الحميدي بمكة لما قدم معاذ بن
هشام: لا تسمعوا لهذا القدري , وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , حدثنا
معاذ بن هشام , حدثني أبي , عن قتادة , عن أبي نضرة , عن عمران بن حصين
أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم، فلم يجعل لهم شيئًا.
ومن يروي مثل هذا؛ لا يصح أن يحتج بحديثه. وأبوه هشام أحد الأثبات
إلا أنه رُمي بالقدر , وقيل رجع عنه. وقتادة بن دعامة حافظ ثقة ثبت؛ لكنه
مدلس , ورمي بالقدر , ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح , وأما أبو داود ,
فروى هذا الحديث موقوفًا على علي رضي الله عنه من غير طريق معاذ وأبيه هشام ,
ورواه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ومن طريقهما عن قتادة , وقد
عرفت ما في الثلاثة , وأما أحمد فرواه عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن هشام
عن قتادة أيضًا , وقد عرفت ما فيهما.
حديث أم الفضل:
رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد , أما ابن ماجه وأبو داود , ففي سندهما إليها
سماك بن حرب وقابوس بن أبي المخارق , وسماك قال سفيان: إنه ضعيف ,
وقال جناد المكتب: كنا نأتي سماكًا؛ فنسأله عن الشعر , ويأتيه أصحاب الحديث ,
فيقبل علينا , ويقول: سلوا فإن هؤلاء ثقلاء.
وقابوس لم يحدث عنه سوى سماك، وقال النسائي: ليس به بأس , وكلنا
يعرف معنى هذه الكلمة (ليس به بأس) .
وأما أحمد , ففي بعض طرق سنده إليها سماك وقابوس هذان , وفي بعضها
حماد بن سلمة وعطاء الخراساني , وحماد ممن تحايده البخاري , واحتج به مسلم.
وعطاء ذكره البخاري في الضعفاء، وقال: لم أعرف لمالك رجلاً يروي
عنه , يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني , وفي بعضها عفان بن مسلم ,
وقد قال سليمان بن حرب: إنه كان رديء الحفظ بطيء الفهم.
وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا عفان , حدثنا حماد بن سلمة , عن
ثابت، عن أنس مرفوعًا (أعطي يوسف وأمه شطر الحسن) يعني سارة , ورواه
الناس عن حماد موقوفًا , وقال أبو عمرو الحرضي: رأيت شعبة أقام عفان من
مجلسه مرارًا من كثرة ما يكرر عليه.
حديث أبي السمح:
رواه ابن ماجه وأبو داود والنسائي , وفي طريق الثلاثة إليه يحيى بن الوليد ,
قال النسائي: ليس به بأس , ومع هذا فمن هو أبو السمح خادم رسول الله؟ قال أبو
زرعة: (لا أعرف اسم أبي السمح هذا , ولا أعرف له غير هذا الحديث) .
حديث أم كرز:
رواه الطبراني وغيره، وفي إسناده انقطاع؛ لأنه من طريق عمرو بن شعيب
عنها، وهو لم يدركها، وقد اختلف على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه عن أبيه
عن جده كما رواه الطبراني.
البيهقي وأحاديث هذا الباب:
وبعد ففي هذا الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة , وهي كما قال البيهقي: إذا
ضم بعضها إلى بعض قويت , ويكفينا هذا في الحكم على هذه الأحاديث بأنها لا قوة
لها إلا في اجتماعها , ومعنى هذا أنه لا قوة لها في ذاتها.
وإذا كان هذا حالها؛ فالواجب تقديم القياس السابق عليها , والتخفيف في بول
الجارية مثل الغلام , فالائتلاف بحملها مثل الائتلاف بحمله , وقد ذم الله في كتابه
العزيز من لا يأتلف بالبنات ويسود وجهه إذا بشر بأنثى , فكيف يفرق بينهما في
ذلك وهو يؤدي إلى قلة الائتلاف بالبنات؟ وكيف يذم الشيء ويشرع ما يؤدي إليه ,
وهو أحكم الشارعين.
... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع الأحمدي
(المنار)
ما ذكره الأستاذ الكاتب من نقد أحاديث المسألة وطرق الاستدلال , فيه نظر
من وجوه لا حاجة إلى بسطها , وأهم ما نحب أن لا يعود إليه إعلال الحديث
بترك تخريج البخاري له في جامعه , فإن شرطه فيه معلوم , انفرد به دون سائر
علماء الملة , فهو على كونه احتياطًا في التصحيح , لا يقتضي ترك العمل بما
لا ينطبق عليه لا عنده ولا عند غيره بالأولى , فمتى صح الحديث؛ وجب العمل به
بالإجماع ما لم يعارضه ما هو أقوى منه دلالة على خلافه.
والحافظ ابن حجر صحح حديث علي المرفوع , ولم يعد الموقوف علة قادحة
فيه، ونقل عن ابن خزيمة تصحيح حديثي لبابة وأبي السمح وأقره , فهو لم يذكر
أن هذه الأحاديث ليست على شرط البخاري إلا لبيان سبب عدم تخريجها في جامعه ,
لا للتخلص منها كما تخلص الكاتب منها بعدم عمل العترة (الزيدية) والحنفية
وغيرهم بها، فأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على كل مسلم , ولا حجة
لأحد عليها.
وأما ترجيح القياس على خبر الواحد , فليس على إطلاقه كما قال , فليراجعه
في كتب الأصول.
__________
(*) كان ينبغي أن يقول: قال الفقهاء: إن النجاسة تطهر بالغسل وبالمسح وبالنضح.
(1) ثبت عندنا بتجارب قليلة خاصة بأطفالنا أن بول الصبي أشد نتنًا من بول البنت , وكون أصل التركيب الكيماوي واحدًا لا ينافي ذلك.
(2) (المنار) إن العلة في كون الشيء نجسًا هو القذارة التي مظهرها الرائحة الكريهة , وأصح أسباب إثباتها في الجنسية الاستقراء، وقد ثبت عندنا باستقراء ناقص في أطفالنا أن رائحة بول الصبيان الكريهة أشد , فإن ثبت عند غيرنا ضده ثبت أن الذكورة والأنوثة لا تأثير لهما في النتن الذي سبب الحكم بالنجاسة , وهو ما يقتضيه العلم الفني.(28/551)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال الخمسيني لدار العلوم
احتفلت مدرسة دار العلوم في مساء الجمعة ثاني المحرم بمرور خمسين عامًا
على تأسيسها، فحضر احتفالها كبار رجال الحكومة والعلم وشيوخ البرلمان ونوابه،
وكان في مقدمتهم الرئيس الجليل المرحوم سعد باشا زغلول، فافتتح الجلسة
الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس لجنة الاحتفال بخطاب وجيز مفيد، بين
فيه حال المتعلمين قبل إنشاء هذه المدرسة، ووجه الحاجة إلى إنشائها، وقيام
المرحوم علي باشا مبارك بذلك.
وتلاه الخطباء والشعراء من كبار أساتذة المدرسة وبعض طلابها، وكانت
خطبة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار من أنفع تلك الخطب، جامعة بين تاريخ
تأسيس المدرسة والأطوار التي مرت فيها، وبين الفكاهات الأدبية، ومنها نبذ من
إنشاء الكتاب قبل ظهور ثمرات هذه المدرسة، ونوَّه بالإصلاح الأول الذي قام به
الأستاذ الإمام للُّغَةِ والإنشاء , بمساعدة صحبه الذين كانوا أعوانه في تحرير جريدة
الوقائع الرسمية في عهد رياسته للمطبوعات , ومنها الرئيس الجليل.
وإننا ننشر من تلك القصائد الغر قصيدة شاعر البداوة في الحضارة (الشيخ
محمد عبد المطلب) لا لانفرادها بالبلاغة , فالقصائد كلها غر , وناهيك بشعر
الجارم والهراوي الشهيرين؛ ولكن هذه القصيدة امتازت بالرد على خصومنا
الملاحدة الذين يريدون إفساد ديننا ولغاتنا علينا , بشبهة التجديد الذي يزعمونه , وما
هو إلا تجديد الزندقة والإباحة المطلقة.
وقد سرنا أنه لما كان يتلو تلك الأبيات العامرة في الرد عليهم؛ كان الجماهير
يصفقون له تصفيقا شديدًا متواترًا , لا محرك له إلا تصفيق قلوبهم قبله.
وكان في مقدمة المصفقين المرحوم سعد باشا , وهذا نص القصيدة:
لي في ظلالك مسرح ومقيل ... روض أغن ومنزل مأهول
ومعاهد نشر الحياة بها الحيا ... فالعيش أخضر والنعيم ظليل
سر الجمال جمال مصر إذا سرت ... ريح الشمال بها وعب النيل
بلد جريت إلى المنى في ظله ... سبحًا على اللذات وهي شكول
أرد المرابع والمصايف سادرًا ... أختال بين ظلالها وأجول
لي في الصعيد إذا شتوت منازل ... فيها سراة العالمين نزول
بهرت مصانعها الزمان ولم تزل ... للعقل فيها حيرة وذهول
جلست على الآباد في جبرية ... يقف البلى من دونها فيحول
مشتى الملوك مراد أرباب النهى ... هذا يحل بها وذاك يزول
وإذا تربع أسل نجد بالغضا ... أوقاظ منهم بالشريف قبيل
فبغور وادي النيل كل منضر ... للعيش فيه غرة وحجول
فيح إذا نهض القريض لوصفها ... يحلو القريض بوصفها ويطول
أمرابعي والعمر فينان الهوي ... ومراد لهوي والصبا معسول
بالرمل منها منزل أشتاقه ... إن شاق صنوي حومل ودخول
يزهي ظباء النيل روح رياضه ... ونسيم ذاك البحر وهو عليل
أهوي إليه على البخار إذا سرت ... بالمنجدين هوادج وحمول
كالطيف يختلس الظلام إذا سرى ... لمحًا وطرف النجم عنه كليل
وإذا بكى الأثلات يحيى شاقه ... مغنى جفاه بقرقرى ومقيل
غنيت نشوان القريض يهزني ... سدر بريف جهينة ونخيل
أو غردت ورقاء رامة هزها ... حي هناك بذي الأراك حلول
فبجانب الفسطاط من غربيه ... وُرْقٌ لها بالمنيلين هديل
حيث القصور الشم تزهو حولها ... غلب الحدائق والنسيم عليل
والنيل في ثوب المخيلة بينها ... يسطو على جنباتها ويصول
متبهنسًا بين الرياض كما حبا ... ليث العرين دجا عليه الغيل
يا نيل أنت ثراء مصر وغيثها ... والأرض قفر والبلاد محول
بك يرتوي الوادي إذا جف الثرى ... ويبل من صادي الفؤاد غليل
وعلى يمينك بالمنيرة حلة ... للعلم فيها جمة وحفيل
راقت بها دار العلوم موارداً ... تُرْوَى بهن بصائر وعقول
أُمٌّ لنا في المنجبات مهادها ... دعم لمجد بلادها وأصول
أم إذا درج الوليد بحجرها ... فالدين يرعى والبيان يعول
لله در شبيبة كفلتهم ... أم لنا في الأمهات بتول
أخذت علينا منذ أيام الصبا ... عهد الكريم وعهدها مسئول
يا أم عندك في القلوب موثق ... صدق الوفاء بحبله موصول
الدين عهدك والمكارم بيننا ... والعلم والآداب والتنزيل
علمتنا أن الحنيفة ملة ... لا نَهْجُهَا وعر ولا مجهول
تهدي إلى سبل الرشاد إذا هوى ... المفتون بالإلحاد والتضليل
رفعت منار الحق لا يعيا به ... عقل ولا ينجاب عنه دليل
إلا الذين تبوءوا وخم الهوى ... فالنهج أعمى والمناخ وبيل
نزعوا إلى دنس الإباحة فانجلى ... للناس ذاك المنزع المرذول
مازوا الجديد من القديم وما دروا ... أن الجديد من القديم سليل
جلبات إفك في مهالك فتنة ... هوجاء كيد غواتها تضليل
دعوى وما ضربوا لنا مثلاً بها ... يجري عليه من القياس مثيل
وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... في العقل فهي على السفاه دليل
إن كان ما زعموا قديمًا ديننا ... فليأت منهم بالجديد رسول
أو عَلَّه لغة السماء؟ وإنها ال ... قرآن والتوراة والإنجيل
أو ذلك الأدب الذي شهدت له ... في كل شعب بالجمال عدول
زخرت به أم اللغات ولم تزل ... بعلاه تفترع اللغى وتطول
وسيعلمون إذا الحقيقة أعرضت ... أن الضلالة جندها مخذول
وترى الجديد يصيح في حجراتهم ... يا قوم عن تلك المهالك زولوا
ما في القديم معابة إن لم يكن ... فيه عن السنن السوي عدول
وذر الجديد إذا رأيت سبيله ... عوجًا عن الحق المبين تميل
واسلك سبيلك غير ذي عوج ترد ... شرع الحياة وصفوها مكفول
يا أم كم من شرعة لك في الهدى ... لا وردها رنق ولا مملول
وهديتنا سبل العلوم قواصدًا ... فالغور نجد والحزون سهول
دان القريض لنا فأما روضه ... فجنى وأما صعبه فذلول
ولنا إذا شئنا جزالة جرول ... وإذا نرق فتوبة وجميل
ولربما ملك النديّ خطيبنا ... والجمع يبهر والمقام يهول
وإذا كتاب الله عب عبابه ... قسمت إليه قراوح وفحول
فهناك منا من إذا شاء انبرى ... فدنا المدى وتبين التأويل
يا أم كم لك من يد في شكرها ... يعيا المقال ويعجز التفصيل
أحييت أحياء الجزيرة من نمى ... قحطان من ولد وإسماعيل
فبكل فصل منك مظهر أمة ... من أهلها وبكل يوم جيل
ولو استدار بك الزمان لأصبحت ... لك في عكاظ من البيان فضول
لم تقصري عن أهلها في خير ما ... صنعوا ولم يردد عليك مقول
أو عاد للزوراء عهد بيننا ... هارون يسمع والوفود تقول
لشأوت فرسان القريض إلى المدى ... لم يعدك الترتيب والترتيل
هذا مجالك في البلاغة فاسلكي ... ما شئت نهجك في البيان ذلول
وارعي تلادك أن يحيط به البلى ... فيحول أو ينتابه التبديل
لغة الكتاب وديعة الأحقاب ميراث ... إلى الأعقاب عنك يَئُول
من لم يحط بقديمها لم يعتقد ... علمًا بمجد الشرق وهو أثيل
وخذي المعاني في جمال جديدها ... ما شئت لا حجر ولا تخذيل
وتبختري في الابتداع فإنه ... دين أتى بكتابه جبريل
يا أم إن ملأ القريض بحاره ... فجرى سريع واستطال طويل
وتساجلت في المرسلات يراعها ... فانهل مندفق وفاض سجيل
لم يبلغوا معشار حقك مدحة ... فليقصروا إن المرام جليل
أو ما جريت إلى العلى لم تقصري ... عن غاية والسابقات قليل
خمسين عامًا أو تزيد قضيتها ... والعزم لا واه ولا مفلول
دأبًا على الإخلاص بين حوادث ... للدهر تخترم القوى وتغول
طورًا ينازعها البقاء معوق ... هو للمعارف والعلوم خذول
وتصيبها غول السياسة تارة ... بيد الهوان وللسياسة غول
خصمان مختلفا الهوى فإلى الهدى ... هذي وذاك إلى الضلال يميل
لولا دفاع الله عن أنصاره ... راحت بها في الذاهبات سبيل
فمضت مضاء البحر ليس يعوقه ... وعر ولا يعمى عليه مسيل
تأبى معاتبة الزمان شعارها ... صبر يعوذ به الكريم جميل
لم يعنها عرض الحياة وإنه ... ظل وإن طال المدى سيزول
ما لي وأيامًا مضين غواشمًا ... والدهر ألوى والليالي حول
دار الزمان بمصر دورة مقبل ... فالليل أقمر والرياح قبول
وامتد بالدستور ظل سريرها ... يرعاه ظل الله وهو ظليل
(بقي 12 بيتًا في مدح الملك والدستور والبرلمان ورجاله ورئيسه ضاقت
عنها الصحيفة) .
__________(28/557)
ربيع الآخر - 1346هـ
أكتوبر - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حل أموال أهل الحرب
(س 22) من صحاب الإمضاء في (بيتزرغ - جاوه)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده
ما قول السيد البار بالمسلمين، والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين،
في فتوى بعض العلماء بحل أموال أهل الحرب , فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها ,
مما كان برضاهم وعقودهم فهو حل لنا مهما يكن أصله , حتى الربا الصريح؟ !
أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله ,
والتعدي على الحدود التي لم يستثن منها اضطرارًا ولا عذرًا لفاعل؟ كالشرك
والكفر بغير إكراه والقتل عمدًا وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا ونحو ذلك،
لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر , وتأجيل بعض العبادات لعذر , كما بينه
الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان , عدا ما
استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله المؤيد بالتواتر , والحق
المهيمن بالإجماع والتواطؤ! ! أفتونا بما أمر الله به أن يوصل , واصدعوا بما
أراكم الله , والله يتولى الصالحين، والعاقبة للمتقين، لا معقب لأمره وحكمه , وهو
أحكم الحاكمين.
... ... ... ... ... مدير جريدة الوفاق ببيتنزرغ - جاوا
... ... ... ... ... ... محمد بن محمد سعيد الفته
(ج) أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها
وأحرزها بأي صفة كان الإحراز , إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في
الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة , فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنًا في حال
من الأحوال , فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيًّا على مال؛ وجب عليه حفظ
الأمانة , وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن
غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة؛ أفلا يكون حله أولى إذا أخذه
المسلم برضاه , ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين
والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟
إنه لم يظهر لي أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة -
وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب جميعًا - على مال
الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في
علة الحكم لا بضده.
هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام , وكذا في دار الحرب
بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ
المال من صاحبه برضاه واختياره ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال
بالربا؛ لا يعطي الزيادة برضاه واختياره , والشرع لم يجعل له حقًّا بأخذها , فكانت
حرامًا لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل، ولذلك عللت في نص
القرآن بأنها ظلم إذ قال تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ
تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) , وظلم الحربي غير محرم؛ لأنه جزاء على ظلمه،
فإنه لا يكون إلا أشد ظلمًا من المسلم، لأنه يخون , والمسلم لا يخون، ولأن المسلم
يمنعه دينه من أعمال في الحرب , ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها كقتل
غير المقاتلين، والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام، ونرى
غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم , لا المحاربة لهم
فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم.
على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ
منه , إذا كان بمحض اختياره , وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم من كان
اقترض منه بعيرًا بسن فوق سن بعيره كما في الصحيحين، ولو كان ذلك مشروطًا؛
لكان ربا، قال أبو هريرة - كما في البخاري -: إن رجلاً تقاضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم , فأغلظ له , فهم به أصحابه , فقال: (دعوه , فإن لصاحب
الحق مقالاً , واشتروا له بعيرًا , فأعطوه إياه) فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه،
فقال: (اشتروا؛ فأعطوه إياه , فإن خيركم أحسنكم قضاء) .
وما رواه الحارث عن علي (كل قرض جر منفعة فهو ربا) , فسنده ضعيف ,
بل قالوا: إنه ساقط , فإن راويه سوار بن مصعب متروك يروي المنكرات، بل
اتهم برواية الموضوعات.
لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله , لما فهمنا قوله فيه:
إن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى , فقد كتب إلينا أن
بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه , قد استنكروا الفتوى المسؤول عنها؛ لأنهم
فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي
كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقًا.
وهذا سوء فهم منهم , فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقًا كما تقدم.
ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ
المال بغير حق , فهل يقيسون إذًا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من
مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها:
عدم إقامة الحدود فيها.
ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون
أن الله تعالى يأمره بأن يدفع لأهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا
وغيره - ولا مندوحة له عن ذلك - ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم
ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى
يوجب على المسلم أن يكون على الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب
عليه أن يكون مظلومًا مغبونًا.
إن تحريم الربا من الأحكام المعقولة المعنى لا من التعبديات , وما حرم الله
تعالى شيئًا إلا لضرره على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في
نص القرآن؛ بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو
ضرورته إلا بالاقتراض.
والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودًا بين الناس في الجاهلية , وهو الربا
المضاعف كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور , ومنه
قول ابن زيد (زيد أحد علماء الصحابة الأعلام , وابنه من رواة التفسير المأثور) :
(إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل على الرجل
فضل دين , فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني؟ فإذا كان عنده شيء
يقضيه؛ قضى , وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي
في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي في السنة الثالثة) , ثم حقة (أي ابنة
السنة الرابعة) , ثم جذعة (في الخامسة) , ثم رباعيًا (وهو ما ألقي رباعيته ,
ويكون في السنة السادسة) , ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي الذهب والفضة)
يأتيه , فإن لم يكن عنده؛ أضعفه في العام القابل , فإن لم يكن عنده؛ أضعفه أيضًا،
فتكون مائة , فيجعلها إلى قابل مائتين , فإن لم يكن عنده؛ جعلها أربعمائة،
يضعفها له كل سنة أو يقضيه) . اهـ من تفسير آية آل عمران.
وضرر هذا عظيم , وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب
القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط.
وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور ,
وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة , وفيه ورد حديث: (لا ربا إلا
في النسيئة) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد
مرفوعًا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ: (إنما الربا في النسيئة) , وفي
لفظٍ: (ألا إنما الربا في النسيئة) , وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث؛
فلسد الذريعة كما نص عليه المحققون.
وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل , فلا نعود
إليها هنا , وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد , ولا
تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها؛ فلا يعملن بها.
__________(28/575)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المراد بالطعن في الدين
وكون مخالفة القرآن كفرًا
(س 23و24) لصاحب الإمضاء في دمشق الشام , بنصه على غلطه في
عبارته.
لجناب الفاضل صاحب مجلة المنار الأستاذ رشيد رضا المحترم.
قد وصلني جزء المنار الخامس , فقرأت فيه قرار النيابة العامة عن كتاب
الدكتور طه حسين , وما علقه المنار عليه , وإذ لم أتيسر للحصول على نسخة من
الكتاب المذكور , حيث منعته الحكومة؛ لم أقرأ منه إلا ما طبعته جريدة الميزان في
دمشق , ولكني مع ذلك سأوجه لكم الكلمات التالية فيها سؤالان , أرجو إجابتكم
إياهما في المنار.
ولربما تتعجبون من ذلك كما تعجبتم مرة من قبل عند ما سألتكم بعض الأسئلة ,
فجاوبتم عليها في المنار، ولا بد أن سبب تعجبكم هو الفكر الغارس فيكم أنه من
واجبات المبشر المسيحي أن يطعن في الإسلام، ولكني أتأمل أن المستقبل سيزيل
هذا الفكر عنكم وعن بقية المسلمين , فيدرك الجميع أن المسيحي لا يبشر بالمسيح
بين المسلمين إلا لاعتقاده بوجود بشارة في ديانته المسيحية ليس لها وجود في
الإسلام , ولا يمكن وجودها فيه , مع كل ما يحتويه القرآن من الأوامر والنواهي
المفيدة , حيث يرفض الاعتقاد بموت المسيح على الصليب , وقيامته من بين
الأموات.
وذلك ليس فقط اعتقاد بولس كما يقال , ولكنه يظهر بكل وضوح من سفر
أعمال الرسل، ومن رسائل بطرس ويوحنا أن موت المسيح وقيامته هما محور
تعليم الرسل، فأساس الديانة المسيحية منذ الأول، ولكن ليس قصدي هنا أن أطيل
الكلام في هذا الموضوع؛ بل أتقدم إلى السؤالين الناتجين عن قراءتي جزء المنار
الخامس.
وأولهما: ما هو معني الطعن في الدين؟ إنه ليس من أمري , ولا من
مقدرتي أن أحكم فيما إذا كانت استنتاجات الدكتور طه حسين ثابتة أم لا علميًّا،
ولكنه - بحسب ما يفهم من كتابه - وصل إليها عن مبادئه العلمية , دون غاية
أخرى , فهل يجوز تسميتها طعنًا في الدين؟ أليس معنى الطعن نوعًا من الاستهزاء
والاحتقار؟ أما إذا كان طعنًا كل ما يقال عن ديانة خلاف عقائدها؛ فكيف نتجنب
عنه في بلاد يسكنها المسلم بجانب المسيحي واليهودي , وكل منهم لا يعتقد بعقائد
الآخر , بل يرفضها؟ أفيكون كل ما يقولونه عن دين بعضهم لبعض طعنًا , وهم
يتكلمون به عن ضمير صالح وإن كانت أدلتهم غير مقبولة وغير مسلم بها عند
الخصم؟ أما الطعن إذا كان بمعنى الاستهزاء والاحتقار؛ فيمكن التجنب عنه؛ بل
هو واجب.
وسؤالي الثاني هو هذا: إذا وصل مسلم في أبحاثه العلمية إلى نتيجة تخالف
شيئًا من تعاليم القرآن أو من العقائد الإسلامية , فهل يحسب لذلك كافرًا أو طاعنًا في
الدين , ولو كان لم يزل يعتبر نفسه مسلمًا في الأمور الدينية والأدبية؟ وهذا السؤال
يهمني جدًّا جوابه؛ لأنني بصفتي مبشرًا مسيحيًا , لا أريد أن أقول عن مبادئ
الإسلام , ولا أن أفتكر عنها غير ما هو مُسَلَّم به من أهله، ولا يبعد عني الفكر أن
المسلمين المتنورين بعد مدة وجيزة سيغيرون اعتقادهم في القرآن , فيميزون فيه
بين الأمور الدينية والأدبية من جهة , وبين الأمور التاريخية والعلمية من جهة
أخرى، كما صار أيضًا بين المسيحيين؛ لأن كثيرين من المسيحيين اليوم يختلفون
عن مسيحيي القرن الثامن عشر في أفكارهم عن عصمة الكتاب المقدس , مع أنهم لم
يزالوا يشاركونهم بالإيمان بالمسيح كمخلص العالم , والوسيط الوحيد بين الله
والناس.
ويوجد بعض الدلائل لحدوث تغيير كهذا في العالم الإسلامي , كالذي يعمله
الأتراك اليوم , أو كالذي نجده في بعض المجلات الإسلامية العصرية كمجلة
Revue Islamic حيث يقال في العدد الأخير إن قصة آدم لربما مجازية , ولا
واقعة تاريخية.
قد باحثت في هذه الأمور بعض المسلمين الأتقياء المتفكرين من الذين لا
يرفضون البحث مع مبشر مسيحي , ولكني للتخلص من المشاكل العلمية في القرآن
لم أجد عندهم غير فكر التأويل؛ لأنهم لا يريدون أن يسلموا بوجود غلطة واحدة في
القرآن من أي نوع كان، وإلى الآن لم أجد أحدًا يعرف بإمكان بقاء المسلم مسلمًا
تقيًّا إذا أوصلته دروسه العلمية إلى نتيجة تخالف نص القرآن , كمسألة وجود
إبراهيم أو عدم وجوده التاريخي.
قد يكون للمنار أسباب أخرى لتسمية الدكتور طه حسين بكافر , ولكن سؤالي
هو هذا فقط: إذا قال عالم مسلم بعد دروس علمية بعدم وجود إبراهيم التاريخي ,
فهل بطل إسلامه؟ أم بصورة أخرى: هل يجب على المسلم أن يعتبر كل ما يقال
في القرآن من الأمور التاريخية والطبيعية أساسًا متينًا , لا يجوز له أن يخالفه
بشيء؟ ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... القسيس ألفريد نيلسن الدانيمركي
(المنار)
ما ذكرتم في مقدمة السؤال من توقع تعجبي من سؤالكم؛ فخطأ، وما قلتم في
الدفاع عن المبشرين , وتبرئتهم من الطعن في الإسلام , فقد طعن فيه بعضهم
بالمعنى الذي به فسرتم الطعن، وكذلك قولكم: إن المسيحي لا يبشر بالمسيح
بين المسلمين إلا لاعتقاده.... فقد عرفنا من بعض المبشرين أنهم كانوا مستأجرين
للتبشير , فلما وجدوا رزقًا من طريق آخر؛ تركوه البتة، وقولكم فيها: إن كتاب
أعمال الرسل ورسائل بطرس ويوحنا تثبت موت المسيح وقيامته , لا يقوم حجة على
المسلمين؛ لعدم ثبوت هذه الرسائل عندهم , وأنتم لا يمكنكم إثباتها بالتواتر إلى
مؤلفيها , كما علم مما كتبه علماء أوربة المحققون في تاريخها.
أما الجواب عن السؤال الأول وهو: ما معنى الطعن في الدين؟ فهو أن
الطعن في أصل اللغة قد وضع لمعناه الحسي المعروف وهو الطعن بالرمح أو
الحربة ثم أطلق على الذم والهجو والتكذيب والتحقير القولي الذي يؤذي المطعون
فيه إيذاء نفسيًّا , كما يؤذيه الطعن بالرمح أو الحربة إيذاء بدنيًّا، وما كتبه طه
حسين في كتابه المذكور قد آذى المسلمين وآلمهم , فصدق عليه أنه طعن في دينهم.
فالمسألة من المسائل التي تعرف بالبداهة، وأما إذا نقل أحد من النصارى أو
المسلمين أو اليهود نصوصًا من كتب الآخرين مع الأدب في العبارة , وبحث في
أدلتها، وقال: إنها لم تصح عنده أو عند أهل ملته , وإن ما يعارضها عنده هو
الذي يعتقدون صحته , فإن هذا لا يعده أحد طعنًا، ومنه ما كتبه السائل في مقدمة
سؤاله هذا , وما رددناه به , فهو ليس طاعنًا في الإسلام بتلك العبارة , ولا نحن
طاعنون في النصرانية بردها.
وأما الجواب عن الثاني , فهو أن من يعتقد اعتقادًا مخالفًا لنص القرآن القطعي
الدلالة عالمًا غير متأول , بحيث يعتقد أن خبر القرآن غير حق؛ فلا شك أنه لا يعد
من جماعة المسلمين.
فمن أنكر وجود آدم أو إبراهيم وإسماعيل؛ فهو كافر لأنه مكذب لكلام الله
تعالى، لا من تأول قصة آدم في معصيته وتوبته وسجود الملائكة له إلا إبليس ,
وما ورد في شأن إبليس من التخاطب مع الرب عز وجل , فقال: إن كل خطاب
فيها تكويني لا تكليفي , وإنها تمثيل لسنن الله تعالى في النشأة الآدمية البشرية، فمن
يقول بهذا (وقد قال به بعض علماء المسلمين كما تراه في تفسيرنا) ؛ لا يعد مكذبًا
للقرآن كمنكر وجود آدم وإبراهيم وإسماعيل بشبهة عدم ثبوت وجودهم بدليل علمي ,
فإنه ليس من شأن قواعد العلم العقلي أو الطبيعي إثبات وجود زيد وعمرو , أو
نفيه كما سيأتي.
وهذا الذي صدر عن مصطفى كمال باشا ورجال حزبه من الترك كفر محض ,
وارتداد عن الإسلام , لا شبهة فيه , وهم يقصدون به هذا الارتداد بغضًا في
الإسلام وعداوة له، وأما السواد الأعظم من الشعب التركي , فلا يزالون على دين
الإسلام وتقاليده كما عرفوها , وهم يتربصون الدوائر بهؤلاء الذين يجبرونهم على
الكفر بقوة الشعب ومال الشعب وجند الشعب.
وأما ما ارتأيته أن المسلمين المتنورين سيغيرون اعتقادهم في القرآن بعد مدة
وجيزة , فيميزون بين الأمور الدينية والأدبية من جهة، وبين الأمور التاريخية
والعلمية من جهة أخرى، فيجعلونه معصومًا في الأولى دون الثانية , كما فعل
النصارى؛ فهو بعيد , وإنما قربه إلى ذهنك قياس الإسلام على النصرانية , وقياس
القرآن على العهدين القديم والجديد، والفرق بين الأمرين مثل الصبح ظاهر،
وفرضك إمكان قيام أدلة علمية تنفي وجود إبراهيم عليه السلام غير معقول؛ لأن
هذا النفي ليس مما يثبت بالعلم.
فإن وجود إبراهيم وإسماعيل متواتر عند الإسرائيليين وعند العرب , وإن
نازعنا منازع في التواتر التاريخي المتصل , وفي الأنساب المتسلسلة به المثبتة له
علميًّا , فلا يمكن الإتيان بدليل ينفي وجوده علميًّا؛ لأن نفي وجود شيء في القرون
الخالية لا يمكن إلا إذا كان وجوده محالاً عقلاً، ووجود رجل اسمه إبراهيم غير
محال عقلاً، وقد جاء خبر الوحي مؤيدًا لخبر البشر المشهور أو المتواتر , وهو
أقوى منه متى ثبتت صحة الوحي , وهي ثابتة عند أهلها , فإذًا لا يمكنهم الجمع
بين التصديق بالوحي , وإنكار وجود إبراهيم.
نعم قد يوجد شبهات تاريخية قوية تعارض إثبات وجود رجل مشهور خبره
غير متواتر , أو تُعارِض دعوى تواتره , كقول بعض من أنكر وجود المسيح عليه
السلام: إن يوسيفوس مؤرخ اليهود الشهير لم يذكره في تاريخه , مع أنه كان في
العصر الذي قالوا إنه وجد فيه , وقد ذكر من تاريخ اليهود ما هو دون مسألة وجود
المسيح , فليس من المعقول أن يحفل بتلك الأخبار الصغيرة , ويسكت عن هذا النبأ
العظيم الذي هو أهم ما عزي إلى تاريخ قومه عندهم , إذ كانوا كلهم ينتظرون قيام
المسيح , ولا يزالون كذلك إلى اليوم.
وقد رددنا هذه الشبهة بأنها أمر سلبي , قد يكون له علة أقربها إلى التصور أن
هذا المؤرخ لم يصدق دعوى المسيح؛ فأحب أن لا يذكرها لئلا تكون فتنة لبعض
قارئي كتابه , فيكون كالداعية له.
ومثل ذلك إنكار بعضهم لوجود (هوميروس) شاعر اليونان , وزعمهم أنه
رجل خيالي , نسب إليه ذلك الشعر الكثير البليغ , ولا بدع في ذلك , فالقصص
الخيالية والأبطال الخياليون مما عهد وكثر في تاريخ الإغريق، ومثله (مجنون
ليلى) في تاريخ العرب , المشهور أنه رجل من بني عامر اسمه قيس كان يعشق
امرأة اسمها ليلى , وجن بحبها؛ فلقب بمجنون ليلى , وشبب بها بأشعار اشتهرت
في الأدب العربي شهرة واسعة , وقيل: إن هذه الأشعار لرجل من بني أمية نسبها
إلى قيس العامري؛ لأجل إخفاء اسمه.
بقي شيء لا ينكره علماء المسلمين , وهو يقرب مما عليه أهل الكتاب في
التفرقة بين ما جاء به الدين من أصول الإيمان بالله واليوم الآخر , وعالم الغيب،
وأصول الآداب الدينية والعبادات , وأحكام التشريع - وبين ما يذكر في الكتب
الإلهية من أمور الخلق والتكوين وأحوال المخلوقات العلوية والسلفية.
وذلك أن القسم الأول هو المقصود بذاته؛ لإصلاح أمور البشر , وتزكية
أنفسهم , وتهذيب أخلاقهم , وإعدادهم لحياة أعلى من الحياة الدنيا , فهو يؤخذ برمته
لذاته , كما أمر الله ورسله.
وأما القسم الثاني فإنما يذكر في الكتب الإلهية؛ لبيان آيات الله في خلقه الدالة
على وحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته , وسائر صفات الكمال الثابتة له، ولأجل
الموعظة والعبر , ولا يراد من ذكرها ما يريده أهل الفنون والصناعات , ولا
مدونو التواريخ من بيان حقائق أمور العالم العلوي والسفلي بقدر الطاقة التي
توصلهم إليها أبحاثهم , كعدد الكواكب وأبعادها ومساحتها وحركاتها وطبائع المواليد
الثلاثة , وسنن الله فيها ومنافعها ومضارها , وغير ذلك مما جعل الله في استطاعة
البشر الوصول إليه ببحثهم وحدهم , بدون توقف على الوحي الإلهي.
ويرى السائل هذا المعنى في الجزء الأول وغيره من تفسيرنا , فإذا وصل
بحث الباحثين في أمور الكون إلى حقيقة مخالفة لظاهر الوحي فيها , وصار ذلك
قطعيًّا؛ وجب تأويل عبارة الوحي فيها بحملها على التجوز أو الكناية أو مراعاة
العرف , كغروب الشمس في العين أو البحر مثلاً , وتخبط الشيطان للمصروع في
قول.
ونعتقد نحن معشر المسلمين أن من مزايا كتابنا أنه ليس فيه نص قطعي
الدلالة يمكن أن ينقضه دليل عقلي أو علمي قطعي , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
وغيره , ولا يستطيع أهل الكتاب مثل هذه الدعوى في كتبهم.
ولكن المسلمين على موافقة كتابهم وقطعيات دينهم للعقل , وعدم تعارضهما
مع العلم قد استحوذ على أكثرهم الجهل به من الجهتين الروحية والاجتماعية , فلا
يشعرون بالحاجة إلى الاعتصام به كما يشعر أكثر النصارى في الغرب بالحاجتين ,
ويبذلون الملايين في خدمة دينهم ونشره , على ما في نصوص كتبه من مخالفة
العقل والعلم التي لم يسعهم إنكارها، حتى قال أعظم رجل فيهم: إنه لا يضرنا
ثبوت اقتباس شريعة موسى من شريعة حمورابي , ولا يحملنا على ترك هداية
الكتاب المقدس؛ إذ لا يوجد لدينا كتاب غيره تعرف فيه الرب إلى خلقه بصفوة
أنبيائه ورسله - أو ما هذا معناه.
__________(28/578)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سعد زغلول
(1)
فطرته واستعداده - تربيته العقلية والنفسية - تعليمه - ونتيجة ذلك
إن اسم (سعد زغلول) أو (سعد) وحده قد صار أشهر وأكبر - وهو
غفل من الألقاب والنعوت - من كل ما تتحلى به أسماء العظماء وتحلى هو به
من لقب ونعت كالزعيم والرئيس الجليل وذي الرياستين والوزير الخطير
ورئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب؛ أعني أن جميع طبقات الناس صاروا
يعدون شخص الرجل أكبر وأعلى بصفاته ومزاياه الذاتية، من كل المناصب
الرسمية وغير الرسمية التي وصل إليها. ذلك بأن هذه المناصب قد تحلى بها
غيره، ولم يكن لأحدٍ منهم معشار ما بلغه من إجلالِ أمته وغير أمته له.
وعدتُ بأن أكتب شيئًا في ترجمة سعد يليق بمشرب المنار، وقد كان
يخطر بالبال أن اضطراري إلى تأخير إنجاز الوعد يجعلني مضطرًا للاقتباس
مما كتبه غيري لأن جمهور الكتاب من تاريخيين وسياسيين ومترسلين
وجمهور الشعراء المفلقين قد تسابقوا إلى تأبين سعد ورثائه وكتابة تاريخه
ببلاغة رائعة وعناية تامة، شارك فيها المصريين سائر الشعوب العربية من
فلسطين إلى سورية إلى العراق إلى عمان وجزيرة العرب في الشرق ومن
تونس والجزائر إلى مراكش في الغرب.
ناهيك بحفلة التأبين الكبرى في العاصمة وما قاله فيها الوزراء والرؤساء،
ومصاقع الخطباء وخناذيذ الشعراء، وبتراجم الجرائد الكبرى وما توخاه
محرروها من الاستقصاء.
حضرت حفلة التأبين الكبرى وسمعت ما قيل فيها مما أبكاني وأبكى
جمهرة الحاضرين، وقرأت كثيرًا مما نشر في أشهر الجرائد، ولا أدعي أنني
قرأتُ كل ما كتب في الصحف التي ترسل إليَّ وهي تعد بالعشرات، دع ما لا
يرسل إليَّ منها وهو أكثر؛ ولكنني على كثرة ما سمعت وقرأت قد بقي لي ما
أقوله مبتدئًا غير مقتبس، ومبتكرًا غير منتزع، بَيْدَ أنَّه لا بد من مزجه بغيره
مما قد يعرفه كل أحد.
ومن الغريب أن جميع من وقفت على كلامهم قد قصروا في بيان أهم
شيء في تاريخ الرجل وهو تربيته وتعليمه مع إجماعهم على أن التربية
والتعليم هما بعد الاستعداد الفطري كل شيء، على أنهم قصروا في الكلام
على استعداده أيضًا كما قصروا في الكلام على إيمانه بالله عز وجل الذي هو
السبب الأكبر في كل ما رأوا من شجاعته واستهانته بالمصائب، واهتمامه
بمعالي الأمور وعزوفه عن سفسافها، نعم إنهم قصروا فيما يجب بيانه من
هذه الأمور الأربعة وهي البذرة والجرثومة فالشجرة، وكيف نبتت واستوت
على سوقها ورسخ أصلها وعلا في المساء فرعها، فأينعت ثمراتها، وآتت
أكلها ضعفين بإذن ربها. وحق المنار على قرائه أن يتلافى هذه التقصير ويتم
ما كتب غيره في موضوعه.
***
(1) نفس سعد وفطرته
قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (الناس معادن كمعادن الذهب
والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري.
في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في
جواب مَن سألوه عن أكرم الناس وأرادوا معادن العرب وأنسابها. وقوله:
(كمعادن الذهب والفضة) من زيادة رواية العسكري. والمعنى أن الناس في
اختلاف استعدادهم للخير والشر كما في رواية أبي داود الطيالسي للحديث
معادن بعضهم كالذهب والفضة في صفاء جوهره وجماله وبقائه وقلة قبوله
للخبث والصدأ، وبعضهم كالزنك والقصدير في ضعف مادته وسرعة قبوله
للصدأ والتلف، وبعضها كالنحاس والحديد بين ذينك وذين، وقد كان سعد ذا
مزايا فطرية ووراثية يعد بها جوهر نفسه من أزكى النفوس، وعقله من أذكى
العقول، كان ذكي الفؤاد شجاع القلب دقيق التمييز عظيم الإقدام عالي الهمة،
يحب المعالي ويحتقر الصغائر، عرفت فيه هذه الصفات الفطرية من صغره،
وتجلت تمام التجلي في كبره، فكانت هي الأصل في استفادته مما صادفه من
حسن التربية والتعليم، وقد روى الطبراني في الكبير من حديث الحسين بن
علي مرفوعًا وحسنه (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره
سَفسافها) .
ولد سعد سوي الخلق، جميل الصورة، تام البنية، كبير الدماغ، مستعدًّا
لتربية يكون بها من عظام الرجال، وهو من عرق عربي أصيل ورث عنه
الشجاعة والإقدام، وغريزة الحرية والاستقلال، ولم يكن يحتاج إلا إلى رجل
حكيم جمع بين العلم الصحيح ومكارم الأخلاق وعلو الهمة وشرف المقصد
يربي فيه هذه الغرائز وينميها ويصقل معدنها ويضعه حيث ينتفع به، وكم وكم
يولد في الأمة من أطفال أزكياء الفطرة فيفسد فطرتهم سوء التربية؛ كما
يوضع المعدن النفيس في السبخة، فيعلوا طبعه الطبع، إلى أن يأكله الصدأ.
***
تربيته وتعليمه
إذًا إن خير ما قيضه الله لسعد فكان بعد ما ذكرنا من استعداده سببًا لكل
ما ظهر منه من المزايا أن ساقه في أول نشأته إلى كنف نادرة الزمان المصلح
الكبير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عند ما أراد طلب العلم في الأزهر،
ولم أسأله ولا سألت شيخنا وشيخه عن أول أمره فيه ولكنني علمت منهما أنه
لم يكن يعجبه درس غير درس الأستاذ الإمام بعد أن اعتاده، فسعد قد جلس
إلى كثيرٍ من شيوخ أستاذه وغيرهم من شيوخ الأزهر ولم يستفد إلا من واحدٍ
منهم ولم يتخرج إلا به؛ بل كان كثيرًا ما يجلس إلى تلك الدروس مختبرًا
للشيوخ والطلبة منتقدًا عليهم في نفسه تارةً وبلسانه تارةً كما سمعت من لسانه،
وسأنشر في هذه الترجمة بعض مكتوباته المصرحة بذلك.
قال لي مرة: علمت أن الشيخ أحمد الرفاعي يقرأ درسًا في المنطق -
لعله قال شرح السلم أو إيساغوجي - فجلست في درسه لأعلم كيف يقرأ علمًا
هو في عقله من أبعد الناس عنه، فإذا هو يبدي احتمالين في إعراب عبارة
يقتضي أحدهما بطلان القاعدة المنطقية التي يقررها وهي كون القضية الكلية
السالبة تنعكس جزئية ولا يطرد عكسها كلية فلا يصح. فقلت له: يا سي
الشيخ إن هذا الإعراب يبطل القاعدة من أساسها فلا يصح أن يكون مرادًا.
فقال: ما لنا؟ هم العلماء قالوا إذا صح الإعراب صح المعنى؟ فعجبت لأستاذ
يقرر بطلان قواعد العلم القطعية فيه بإيراد احتمال في إعراب عبارة مؤلف
فيه! أو ما هذا معناه.
وقال لي مرة إنه حضر له درسًا آخر في علمٍ آخر - لعله السعد أو جمع
الجوامع - فاستمر الدرس ساعتين كاملتين (قال) ولم أحضره من أوله،
وكان موضوعه مسألة واحدة لم يستقر ذهن الشيخ على فهم رضيه فيها إلا
بانتهائه، وهنالك تنفس الصعداء وقال الحمد لله، هذه المرة فهمناها في درس
واحد، وقد قرأت هذا الكتاب مرتين قبل هذه، فأما الأولى فقد استغرق بحثنا
في هذه المسألة ثلاثة دروس مثل هذا الدرس، وأما الثانية فقد فهمناها في
درسين مثله في طوله. قال سعد فقلت له: ياسي الشيخ لِمَ لَمْ تكتبوا الحل الذي
فهمتوه في المرة الأولى أو الثانية بعد ذلك التعب الطويل فيها ليستغنوا عن هذا
التعب في كل مرة؟
وإننا رأينا بعض الجرائد تذكر أن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى
كان من أشياخه كفلان وفلان، نعم وكان من أشياخ شيخه أيضًا؛ ولكن هل
علم أولئك الكاتبون بما استفاده من فلان وعلان؟ ولَمْ أَرَ أَحَدًا منهم بين أن
أستاذه الذي تخرج به هو فلان؛ بل ذكروا أو ذكر بعضهم أنه كان يحضر مع
(صديقه) الشيخ محمد عبده دروس الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني،
والسيد لم يكن يقرأ إلا دروسًا عالية في الفلسفة والكلام والأصول، ذكرنا
كتبها في تاريخ الأستاذ الإمام؛ إذ كان سعد مبتدئًا لم يستعد لحضور تلك
الكتب؛ ولكنه كان يختلف إلى مجلسه بالتبع لأستاذه فيستفيد منها علمًا وحكمة
وأدبًا وسياسة؛ لأن مجالس السيد - رحمه الله - كانت كلها كذلك كما قلت في
المقصورة الرشيدية:
وأشرع الطريق للإصلاح من ... علم وحكم ولسان وحجا
بما أفاض من هوامي حكمة ... قد زانها فصل الخطاب ونثا [1]
في خطب يُحْيِي القلوب وقعها ... وتكشف الخطب وتبعث الرجا
وفي دروس كتب أحيا بها ... من دارس العلوم ما كان عفا
وفي آمالي بها أنشأ من ... معالم الإنشاء ما كان أمحي
يقبسهن في ثبا [2] من داره ... مريده والشمس في رأد الضحى
ثبا له ينحوه أهل الرشد ما ... بين ثبات وفرادى وثنى
وفي كؤوس سمر يديرها ... في سامر (البورصة) ما الليل سجا [3]
لا لغو بين شربها يخشى ولا ... غول فيغتال الجسوم والنهى [4]
تنازعوها حيث لا تنازع ... صرفا بأفواه العقول تحتسى
كان سعد زغلول مريدًا للأستاذ الإمام لا تلميذًا فقط، أعني أنه كان ربيبه
ولا يصح لكل من حضر دروسه أن يدعي أنه مريده ولا ربيبه، وكان هو
يعبر عن نفسه في مكتوباته للإمام بالمريد، وهذا اللقب من اصطلاح الصوفية
الذين كان مدار التربية الروحية عندهم على تربية الإرادة. وتربية الإرادة هي
التي يكون بها الرجل رجلاً حرًّا من الرق والعبودية لغيرِ الله عزَّ وجلَّ - طليقًا
من الأسر؛ أسر الشهوات والأهواء، فلا تكون إرادته خاضعة إلا لاعتقاده،
ولا يتصرف فيها ملك من الملوك، ولا يستخذي لناسك من النساك؛ بل يأبَى
أن تذل ويخزَى لسلطان الجمال أيضًا.
وكان منهاج الأستاذ الإمام في التربية أن تكون غاية التأديب والتثقيف
حرية الإرادة وقوية العزيمة، ومنهاجه في التعليم أن تكون غايته حرية الفكر،
واستقلال العقل في الحكم، ويدخل في هذا تعليم الدين فقد كان منهاجه فيه
الرجوع إلى مذهب السلف الصالح، وفهم الدين من الكتاب والسنة كما كانوا
يفهمون، والاهتداء به في الأخلاق والعمل كما كانوا يهتدون، والتوسل إلى
ذلك بتحصيل ملكة اللغة العربية قَوْلاً وكِتَابَةً وخَطَابَةً عن فَهْمٍ وذَوْقٍ للكلام
العربي الفصيح بكثرة مزاولته مع الاستعانة بأحسن ما كتب في فنونه. وجعله
صديقًا للعلم وعونًَا له على إصلاح البشر، وكان يمزج التربية والتعليم بشيء
من السياسة يرى أنه لا تتم إنسانية المرء ولا كونه حرًّا مستقل الإرادة والفكر
بدونه، وهو الدعوة إلى استقلال الأمة وحريتها، وعدم استبعاد حكامها لها.
ويدخل في هذا الروح السياسي مسألة الوطنية واتفاق أهل الوطن على
مصالحهم الوطنية من غير جناية على الهداية الدينية.
وقد كتب فيما شرع فيه من ترجمة نفسه هذه المقاصد قال: وارتفع
صوتي بالدعوى إلى أمرين عظيمين: (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد،
وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب
معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها
الله لترد من شططه، وتقلل من خبطه وخلطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام
العالم الإنساني، وإنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في
أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، ومطالبًا بالتعويل عليها في
آداب النفس وإصلاح العمل. وكل هذا أعده أمرًا واحدًا.
وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم
الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن
هو في ناحيتهم.
(وأما الأمر الثاني) فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء
كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره
الجرائد على الكلفة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين
الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه
الذوق وتنكره لغة العربي؛ إلخ.
(ثم قال) وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جميعًا في عمى
عنه وبعد عن تعقله؛ ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية،
وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز
بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة
على الحكومة؛ نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على
حاكمها وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد
على عشرين قرنًا - دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو
من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يقف
طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل.
جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه
والظلم قابض على صولجانه
ويد الظالم من حديد
والناس كلهم عبيد له أيّ عبيد ا. هـ
كان سعد أيام طلبه للعلم في حجر الإمام وكنفه كولده لا كسائر تلاميذه
فكان يستفيد من علمه وعمله، ومن أخلاقه وشمائله، ومن فصاحته وبلاغة
كلامه، فشبَّ بين يديه كاتبًا خطيبًا أو أديبًا سياسيًّا، وطنيًّا إسلاميًّا.
لأجل هذه النزعة السياسية نفى الخديو توفيق باشا الأستاذ الإمام من
القاهرة إلى بلده محلة نصر في الغربية عقب نفي أستاذه السيد الأفغاني إلى
الهند، وكان يعلم أنهما قد بثا في مريديهما فكرة الحكومة النيابية الدستورية
في الحزب الوطني الذي ألفه السيد وكان سببًا لإسقاط إسماعيل باشا بالتواطؤ
مع ولي العهد توفيق باشا الذي كان انتمى إلى هذا الحزب وعاهد رئيسه السيد
على أن يجعل حكومة مصر نيابية إذا آل أمرها إليه إلخ ما بيناه بالتفصيل في
الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الذي سيصدر عن قريب إن شاء الله
تعالى، ثم انقلب على الحزب وزعيمه بدسائس الطامعين في ملكه وهو لا
يدري.
وأعجب من هذا أن توفيق باشا أبى على الأستاذ الإمام ما طلبه بعد
عودته إلى مصر بانتهاء مدة نفيه من أن يكون مدرسًا في مدرسة دار العلوم
لئلا يربي طلابها على أفكاره الاستقلالية - وأمر البلاد في أيدي المحتلين لا في
يده - وأمر بعد العفو عنه بأن يجعل قاضيًا في المحاكم الأهلية؛ ولكن في غير
القاهرة فقال الأستاذ لوزير الحقانية لما عرض عليه ذلك إنني لم أُخْلَقْ قاضيًا
وإنما خُلِقْتُ معلمًا، على أنني أعلم إذا دخلت القضاء أرتقي إلى أعلى درجة
فيه وأن التعليم ليس فيه ارتقاء.
هكذا كان شيخنا الأستاذ الإمام، وشيخه السيد الأفغاني موقظ الشرق
وحكيم الإسلام، يعلمان ويربيان مريديهما ويعدانهم لكل إصلاح. كانا يشبهان
في استفادة الناس منهما الكون الأعظم أو العالَم الكبير: سماؤه وما فيها من
النيرات، وأرضه وما فيها من جماد ونبات وحيوان، كل أحد يأخذ عنهما كما
يأخذ عن الكون ما هو مستعد له بفطرته، وبما توجهت إليه نفسه في تربيته،
وكانت مجالسهما وأوقاتهما كلُّها عِلْمٌ وحكمة كعالم الكون الأكبر لا تحجب عن
أحد، فكانت صيقلاً لمعادن مريديهما تعدها للنفع والفائدة للناس، والقيام بما
يتيسر للمرء من المصالح العامة، وقد كان تعليم سعد دينيًّا أدبيًّا سياسيًّا،
فعرض له أن يكون محاميًا في المحاكم الأهلية ففاق جميع المحامين؛ بل كان
أول من جعل لهذه المهنة قيمةً واحترامًا لم يكونا لها من قبله، ثُمَّ طفر
منها إلى أعلى درجة في القضاء الأهلي فكان مستشارًا في محكمة الاستئناف
في الذروة العليا منها، وتعلم اللغة الفرنسية وقوانينها في أثناء اشتغاله بها،
وذلك أن مَن كان مريدًا للأستاذ الإمام يصلح لما تَعَلَّمَ الوسائلَ له، ولِمَا لم
يتعلم وسائله. قال لي الأمير شكيب أرسلان الشهير: قلت لأستاذنا الإمام إن
الدولة عَرضت عليّ أن أكون مديرًا للمعارف في ولاية بيروت فامتنعت
معتذرًا بأن استعدادي للأمور الإدارية العامة لا للتعليم - فعذله الأستاذ عذلاً
شديدًا لقوله إنه غير مستعد لإدارة التعليم وإنني أنقل هنا كتابًا من كتب سعد
لأستاذه ليقف القارئ منه على ما كان من أثر تربيته له في نفسه، وسأنقل
غيره أيضًا إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) نثا الشيء ينثوه أظهره.
(2) الثبا بالضم المجلس الذي يحوي الأكابر.
(3) السامر محل السمر وهو الحديث في الليل والمراد به مَقْهَى كان يسمى (قهوة البورصة) بجوار حديقة الأزبكية.
(4) الشرب بالفتح جماعة الشاربين والغول بالفتح ما في الخمر من السم الذي يغتال العقل ويزيله، وهو ما يسمى في عرف الأطباء بالكحول أو الألكول.(28/584)
الكاتب: سعد زغلول
__________
أول كتاب من سعد إلى الأستاذ الإمام
بعد عودته من أوربة إلى بيروت
أيام النفي بعد الثورة العرابية
من مصر 24 ربيع الآخر سنة 1300 إلى بيروت
مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله معاده؛
بعد تقبيل الأيدي الكريمة , قد ورد الكتاب الكريم على طول تشوقنا إليه،
فتلوناه ووعيناه في الفؤاد، وحمدنا الله تعالى على أن شرفتم تلك الديار سالمين،
مبالغًا في إكرامكم والاحتفال بكم من كرام أعيانها المسلمين، وأماجد نبهائها
المؤمنين، جزاهم الله عن كل مصري يعرف مقداركم خير الجزاء.
ولهم منا معشر أتباعك ومريديك بما تقبلوك به من كريم الاحتفال، وعظيم
الإجلال ألسنة مرطبة بالثناء عليهم، وضمائر مطوية على مزيد احترامهم وفائق
تعظيمهم.
صحتي البدنية معتدلة , أما فكري فقد تولاه الضعف من يوم أن صدع الفؤاد
بالبعاد، وتمثلت فيه بعد تلك الحقائق التي كنت تجلو مطالعها معان، نعرفها أوهامًا
يضيق بها الصدر ولا ينطلق بردها اللسان؛ مخافة فوات مرغوب، أو لحاق مكروه
مما تعلمون.
توجهت إلى البيك صاحب تاريخ العرب وسألته إعارته فأجاب بأن محمود
سامي أخذه منه وسافر , ولم يرده إليه، ثم هو يسلم عليكم أطيب السلام ويقول:
إنه مستعد لخدمة جنابكم في أي شيء تريدون حسيًّا كان أو معنويًّا.
وسأتحرى هذا الكتاب في كتب سامي عند بيعها فإذا وجدته فيها؛ اشتريته،
وأرسلته في الحال إلى حضرتكم أو أحضرته معي إن وافق ذلك استجماعي لوسائل
السفر.
الحال العمومية على ما تركتها، غير أن الناس أخذوا في نسيان ما فات من
الحوادث وأهوالها، وقلَّت قالتهم فيها، وخفت شماتة الشامتين منهم، وأصبح
المادحون للإنكليز من القادحين فيهم وبالعكس، والكثير يتوقع انقلابًا أصليًّا , والله
أعلم بما يكون.
رفعت تحيتكم لجميع من ذكرتم في الكتاب تصريحًا وتلويحًا، فتقبلوها بمزيد
المسرة والانشراح.
يسلم على جنابكم الصادق في صداقته ومودته حسين أفندي وهو في غاية من
الصحة والعافية وقد عاد من الريف فرارًا من شروره، آسفًا على ما وقع لجنابكم
أكثر من أسفه على نفسه.
الشيخ محمد خليل والشيخ عامر إسماعيل والشيخ حمادة الخولي والسيد
عثمان شعيب والشيخ حسن الطويل ووالدي عبد الله وأخواي شناوي وفتح الله
(هو المرحوم أحمد فتحي باشا) وكثير غيرهم يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم،
ويقدمون مزيد تشكرهم لحضرات أولئك الكرام الأماجد الذين أحسنوا وفادتكم وأكرموا
مثواكم، زادهم الله كرمًا وكمالاً.
مولاي: ذكرت لحضرتك أن الضعف ألم بفكري فبالله إلا ما قويته بتواصل
المراسلة غير تارك فيها ما عودتنا على سماعه من النصائح والحكم التي نهتدي بها
إلى سواء السبيل، ونتمكن بها من السير في العالم المصري الذي اختبرت حقائقه،
وعرفت خلائقه، وما يناسبها من ضروب المعاملة , وفقنا الله لمتابعتك، ولا أطال
على بلادك مدة غيبتك، إنك إمامها وإن اقتدت بغيرك، ومحبها الصادق وإن لم
تعرف بقدرك، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولدكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعد زغلول
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/591)
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
__________
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا
(4)
(المقام السابع عشر) قوله: (ثالثها أن يراد بها النهي عن إنشاء المساجد ,
واتخاذها حول القبور , وهذا التأويل أيضًا خطأ؛ لأنه لا محذور في أن يتقرب
العبد إلى الله تعالى ببناء مسجد تقام فيه الصلوات في تلك البقاع الشريفة، مع ما
ورد من أن (من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) , وهو حديث عام لا
يختص بقعة دون بقعة , ولا بزمان دون زمان , بل بناؤه وإنشاؤه أولى؛ لأنه حينئذ
يشتمل على جهتين من الشرف شرف البقعة وشرف المسجدية [*] ) , ثم أيد تأويله
بكلام البيضاوي الذي سبق رده.
(أقول) : فيه مردودات , أولها قوله: إن تفسير الأحاديث بذلك تأويل ,
وليس كذلك , بل ذلك معناها الذي تدل عليها مطابقة بلا تأويل , ولا تحتمل خلافه
البتة، وقوله: (إنه خطأ) تسمية للشيء بضده , ونحن وجميع علمائنا شاهدون
بالله أن ذلك هو عين الصواب يقينًا.
قوله: (إذ لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله ببناء مسجد في تلك البقاع
الشريفة) , أقول: بلى - والله - فيه أعظم محذور , وهو معصية الرسول صلى
الله عليه وسلم , ومحادته , كما تقدم عن شيخ الإسلام , والتعرض للعنة الله , وفتح
باب الشرك وإضلال الناس والتشبه بالأمتين المغضوب عليها والضالة , فنشدتك ,
أي محذور أعظم من هذا؟ وهل يكون التقرب إلى الله بمعصية رسوله ومشاقته
والاستخفاف بأمره ونهيه؟
وقوله: (مع ما ورد من أن من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) إلخ ,
أقول: هذا عام , والنهي عن اتخاذ المساجد على القبور خاص , فهو مخصوص
به , ولو ترك على عمومه , ولم يلتفت إلى المخصصات؛ لكان الذين اتخذوا
مسجدًا ضرارًا مستحقين أن يبني الله لهم بيوتًا في الجنة , ولكن الله أخبرنا عنهم بما
يقتضي أنهم يعاقبون على بناء ذلك المسجد؛ لأنهم بنوه لمعصية الرسول , وكذلك
من بنى مسجدًا عند قبر , وفي الزواجر لابن حجر الهيتمي - وهو ممن يُجوِّز شد
الرحال لزيارة القبور , وغير ذلك من المردودات - قال: إن اتخاذ القبور مساجد ,
وإيقاد السرج عليها , واتخاذها أوثانًا , والطواف بها , واستلامها كل ذلك من كبائر
المعاصي , ثم أورد الأحاديث في ذلك , وذكر كلام الفقهاء من الشافعية والحنابلة ,
ومنه أنها من أسباب الشرك , إلى أن قال: وتجب المبادرة لهدمها , وهدم القباب
التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية
الرسول اهـ.
فمن بنى لله مسجدًا مأذونًا فيه بنى الله له بيتًا في الجنة , وأما من بنى مسجدًا
منهيًّا عنه أشد النهي، ملعونًا بانيه , معدودًا من شرار الخلق , مشتدًّا غضب الله
عليه , فإنما يتبوأ دركًا في النار؛ إن لم يتب , ويسارع إلى هدم ما بني على القبر.
قوله: بل بناؤه وإنشاؤه في البقاع الشريفة أولى؛ لكونه حينئذ يشتمل على
جهتين من الشرف.
أقول: هذا قياس مصادم للنص , وهو فاسد الاعتبار , وشرف الأماكن لا
يثبت بالعقل , بل مرجعه إلى الوحي.
وأعلم الناس بالشرف والفضل هو الذي لعن باني المسجد على القبر , ونهانا
عن ذلك , وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) , وأخبر
أن فاعل ذلك من شرار الخلق , فيتصور بعد هذا أن يكون للمسجد المتخذ على القبر
شرف , فضلاً عن أن يكون أشرف من المساجد التي أذن الله فيها , وأثنى على
عامريها.
وأما كلام البيضاوي في تجويز بناء المسجد عند قبر الصالح للتبرك , فهو
فاسد , وقد تقدم رده، ثم رأيت الشوكاني رده بمثل ما رددته به , فلله الحمد وهذا
نفسه في المجلد الثاني من نيل الأوطار ص 140 , (واستنبط البيضاوي من علة
التعظيم جواز اتخاذ المساجد في جوار قبور الصلحاء للتبرك دون التعظيم , ورد
بأن قصد التبرك تعظيم) اهـ بتفسير يسير.
(المقام الثامن عشر) قوله: (إنه لا يتصور صدور السجود للقبور من
مسلم [1] ) , إن كان مراده المسلم المؤمن الذي يميز التوحيد من الشرك؛ فنعم ,
وأما إن كان مراده أن كل من انتسب إلى الإسلام لا يتصور منه السجود لغير الله،
فليس كذلك؛ بل هو متصور ومصدق أيضًا، يعني أنه تجاوز التصور إلى
التصديق أي إدراك وقوعه.
وسجود أصحاب الطرق لأشياخهم مشهور حتى إنهم يدعون جوازه،
ويجادلون فيه، وكذلك السجود للقبور والصلاة موجودان في زماننا، وقد أخبرني
ثقة , وأنا أكتب هذا , أنه شاهد في السنة الماضية حين كان في النجف وكربلاء
الناس يصلون إلى الضرح , ويسجدون لها , فقلت له: إن السيد مهديًّا يستبعد هذا ,
بل يعده محالاً , فقال لي: أنا أروح معك إلى السيد مهدي بعد الفطر , وأخبره
أني رأيت ذلك بعيني , وأنا عازم أن آتيكم به , وقد تعجبت كثيرا كيف لم تطلعوا
على ما يفعله الجهلة بالنجف وكربلاء وبغداد من الأعمال الشركية التي تقشعر
منها الجلود، ولا يختص ذلك بالشيعة , بل لمن ينسبون أنفسهم إلى السنة الحظ
الأوفر منه عياذاً بالله.
قوله: (مع أن قبور الأئمة محاطة بصناديق وشبابيك تمنع من وصول أحد
إلى نفس القبر) , أقول: ولكنها لا تمنع من السجود حول الصندوق والصلاة له ,
بل التوابيت المزخرفة هي التي تملأ قلوب الجهلة هيبة وإجلالاً , فيعبدون القبور
وأصحابها , ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبر , وأمر
بهدمه.
(المقام التاسع عشر) قوله: وأهل السنة مشاركون للشيعة في ذلك [2] ,
أقول: اللهم نعم , وأشهد بالله , وكل من يقرأ المنار أو يعرف صاحبه أنه شدد
النكير عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة.
(المقام العشرون) قوله: مضافًا إلى أنّا لم نجد أحدًا بنى مسجدًا حول
القبور المشهورة [2] , أقول: إن لم تطلعوا على ذلك؛ فلا ينبغي لكم أن تنفوا كل
ما لم تطلعوا عليه فإنكم إن فعلتم نفيتم أشياء كثيرة واقعة , بلى - والله - قل أن
يوجد مسجد في مصر القاهرة وغيرها إلا وهو على قبر أو بقرب قبر، حتى صار
العامة وبعض من يزعم أنه من الخاصة إذا أراد أن يبني مسجدًا بحث عن قبر رجل
صالح يبني عليه , ويجد حرجًا في صدره أن يبني المسجد على غير قبر {فَاسْئَلْ
بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59) , وهذه من أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم ,
فإن الله أطلعه على ذلك؛ فلذلك شدد النهي عنه.
(المقام الحادي والعشرون) قوله: على أن مجرد الصلاة والدعاء - يعني
في مشاهد قبور الأئمة - لا يصيرها مساجد [2] , ولو أن أحدًا واظب على أن
يصلي ويدعو ويقرأ القرآن في مدة حياته في مكان خاص من بيته , فإن ذلك المكان
بالضرورة لا يصير مسجدًا بكثرة العبادة فيه.
أقول: ما قاله غير مُسَلَّم , بل كل مكان أعد للصلاة؛ فهو مسجد شرعًا ,
سواء اتخذه رجل في بيته , أم عند قبر , أم في غير ذينك.
قال البخاري (باب المساجد في البيوت) : وصلى البراء بن عازب في
مسجد داره جماعة , ثم روى بسنده عن عتبان بن مالك أنه أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم , فقال: قد أنكرت بصري , وأنا أصلي بقومي، فإذا كانت الأمطار
وسال الوادي الذي بيني وبينهم؛ لم أستطع أن آتي مسجدهم , فأصلي بهم , ووددت
يا رسول الله أنك تأتيني , فتصلي في بيتي , فأتخذه مصلى , الحديث وفيه أن النبي
غدا عليه ومعه أبو بكر فصلى في ناحية من بيته اهـ بعضه بالمعنى.
وأخرج أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب وفي البخاري أن أبا بكر ابتنى
مسجدًا بفناء داره؛ فكان يصلي فيه , ويقرأ القرآن قلت: وكان ذلك في مكة وفيه:
وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب.
فثبت ما قلته من أن كل ما كان أعد للصلاة يسمى مسجدًا شرعًا ولغة.
(المقام الثاني والعشرون) قوله: أما الحديث الذي وعدنا فيما سبق ببيان
معناه وهو المروي عن أمير المؤمنين (ع) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه
وسلم في هدم القبور وكسر الصور , فليس فيه بيان المواضع المبعوث إليها , ولا
بيان القبور التي بعثه في هدمها , لكن متن الحديث يرشدنا إلى أن الموضع كان في
بلاد المشركين يومئذ أو من بلادهم , وأن القبور قبورهم.
ثم ذكر أن الصور هي الأصنام المعبودة أو التماثيل , وأيد ذلك بما يجده
المنقبون عن الآثار في قبور الفراعنة وغيرهم , ثم قال: ومن المعلوم أن في زمان
النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قبور المسلمين مشيدة بالبناءات الضخمة , حتى
يبعث من يهدمها , ولم يكن المسلمون يعملون الصور والتماثيل , ونظير هذا
الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عنه (ع) قال: ألا
أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا
طمسته , ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته [3] .
قوله: ليس فيه بيان الموضع ولا بيان القبور إلخ , أقول: هنا حجة لنا على
أن الحديث عام غير مخصص بشيء , بل لو عين الموضع والقبور فيه أو في
غيره من الأخبار ما كان ذلك مخصصًا للفظه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب , وكل ما تكلف في استنباطه لتأييد أن القبور قبور المشركين؛ لا يجدي
شيئًا؛ لأن (أل) في القبور للاستغراق أو الجنس , فاللفظ شامل لقبور الأنبياء
والأئمة , بل هي من باب أولى لعظم المفسدة ببنائها , والبناء عليها , وللوعيد
الشديد الوارد في بنائها بالخصوص من اللعن وشدة غضب الله , وكون فاعل ذلك
من شرار الخلق , ولو زعم زاعم أن الهدم مخصوص بقبور الأنبياء والصالحين
للوعيد الوارد فيها بالخصوص؛ لكان أقرب من عكسه عند من أنصف , ومما يرد
تأويله أن هذا الحديث اتفق الفريقان على روايته , ولم يطعن أحد في صحته , وقد
استدل به أهل السنة قاطبة على عدم جواز بناء القبور كائنة ما كانت , بل نقل
الشوكاني اتفاق المسلمين على ذلك , وهو خبير بمذهب الإمامية وسائر فرق الشيعة،
وكثيرًا ما ينقل أقوالهم في الأصول والفروع , قال في جزء له سماه شرح
الصدور بتحريم رفع القبور) أجاد فيه كل الإجادة: اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم
ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة إلى هذا الوقت؛ أن رفع القبور والبناء
عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها , واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه
وسلم لفاعله كما يأتي، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع
للإمام يحيى بن حمزة مقالة تدل على أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور
الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه اهـ.
ثم رد عليه أبلغ رد، وساق النصوص في ذلك، وقد تقدم منها ما فيه مقنع
للمنصف، ومزجر للمتعسف، ثم قال أثر حديث أبي الهياج وحديث جابر نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ قال:
في هذا التصريح بالنهي عن البناء على القبور، وهو يصدق على من بنى على
جوانب حفرة القبر , كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعًا فما فوقه؛
لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدًا , فذلك مما يدل على أن المراد بعض ما
يقربه مما يتصل به , ويصدق على من بنى قريبًا من جوانب القبر كذلك , كما في
القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة على وجه يكون القبر وسطها , أو في جانب منها ,
فإن هذا بناء على القبر لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم , كما يقال: بنى
السلطان على مدينة كذا سورًا , وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدًا ,
مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو المكان , ولا فرق بين أن تكون
تلك الجوانب التي وقع البناء عليها قريبة من الوسط كما في المدينة الصغيرة
والمكان الضيق , أو بعيدة من الوسط كما في المدينة الكبيرة والمكان الواسع.
ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق؛ فهو لا يعرف لغة
العرب , ولا يفهم لسانها , ولا يدري ما تستعمله في كلامها اهـ.
فيه فوائد منها اتفاق المسلمين على أن البناء على القبور ورفعها بدعة منهي
عنها قد اشتد فيها وعيد رسول الله وما كان كذلك , فلا ريب في حرمته , وهذا مع
ما تقدم عن شيخ الإسلام ابن تيمية من نقل اتفاق العلماء على تعين إزالة المساجد
المبنية على قبور الأنبياء والصالحين , وما نقله مكاتب المنار من أن سلف الإمامية
كلهم متفقون على عدم جواز البناء على القبور , ولم يقل بجوازه على قبور الأئمة
إلا المتأخرون , ولا سند لهم إلا الاستحسان المجرد , كل ذلك يدلنا على أن الشيعة
لم يخالفوا سائر المسلمين في منع البناء على القبور كيف كانت , ووجوب هدم ما
بني عليها , وذلك الظن بهم , فمعاذ الله أن نظن بأئمة الشيعة الاثنا عشر وغيرهم
من الصالحين أنهم يجهلون ما يعلمه غيرهم بالضرورة من شريعة جدهم , كيف وقد
تقدم من حديث علي وأولاده الحسن والحسين والحسن المثني وعلي بن الحسين
وجعفر بن محمد وموسى الكاظم وعلي بن جعفر عليهم السلام ما يفيد موافقتهم
لسائر أئمة المسلمين في المنع من البناء على القبور , ووجوب هدمه متى وقع وأين
وقع , وبعض الأحاديث المروية عن أهل البيت اتفق على روايتها أهل السنة
والشيعة باعتراف السيد مهدي , وبعضها من رواية أحد الفريقين , وتذكر ما مر عن
علي بن الحسين والحسن بن الحسين من منع إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم
للسلام عليه والدعاء؛ يتبين لك أن أهل البيت هم أشد الناس صيانة وحماية لجانب
التوحيد , وأبعدهم من ساحات الشرك {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) والرجس: الشرك , ومن كان محبًّا
لأهل البيت معظمًا لهم لا ينسب إليهم الرضى بالقباب والمشاهد , وما يصنع عندها
من المناكر التي تقشعر منها الجلود.
ونقل السيد مهدي استدلال علماء الشيعة على كراهة تجصيص القبور بحديث
علي (بعثني رسول الله في هدم القبور) , ومعلوم أن علماء الشيعة لم يقولوا
بكراهة تجصيص قبور المشركين خاصة , بل المقصود بالذات كراهة تجصيص
قبور المسلمين مطلقًا , ولا فهموه منه , فهذا أوضح دليل على أن علماء الشيعة
فهموا من حديث علي مشروعية هدم ما يبنى على القبور أي قبور كانت , بل دلالة
حديث علي على هدم القبور مطلقًا أوضح من دلالته على كراهة تجصيص القبور
لأن البناء على القبر أحرم من تجصيصه، وأدنى إلى محادة الرسول، فاحفظ هذا
فسترى قريبًا من كلام السيد مهدي ما يناقضه , بل يصرح أنه من أقبح القياسات
وأشنعها , وهنالك الجواب بحول الله.
(المقام الثالث والعشرون) تقدم ذكر السيد مهدي حديث أبي الهياج عند
مسلم , وفيه أن عليًّا أمره بتسوية القبور [4] , تعلق بلفظ التسوية , واستأنس به ,
وأطال في ذكر الخلاف بين أهل السنة في الأفضل أهو تسنيم القبور أم تسطيحها ,
ونصر الثاني، وذلك كله خارج عن مسألة النزاع , وليس فيه ما يستروح منه
جواز البناء على القبور أو تركه بلا هدم متى وقع وأين وقع، ورواية الشيعة
مصرحة بالهدم , فهو المراد بالتسوية بلا شك لأن النبي ما بعث عليًّا , ولا بعث
عَلِيٌّ أبا الهياج إلا لتسوية القبور المبنية لا تسطيح القبور المسنمة , ففهم التسطيح
من هذا الحديث غير مستقيم , والرواية الشيعية قد بينت المراد بالتسوية , ورفعت
الإيهام , ودفعت الإيهام , فلا أدري لم تركها السيد مهدي وتعلق برواية التسوية ,
وبصرف النظر عن الرواية الشيعية يظهر من المقام بأدنى تأمل أن المراد بالتسوية
الهدم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ص 357 ج 5م28.
(1) ص 360 ج 5.
(2) ص 360.
(3) ص 361.
(4) ص 362 و363.(28/593)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
معاهدة جدة
بين جلالة ملك بريطانيا وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
نقلت عن جريدة (أم القرى) الصادرة في يوم الجمعة 27 ربيع الأول سنة
1346.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
نحن عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك الحجاز ونجد
وملحقاتها:
بما أنه قد عقدت بيننا وبين حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظيم
وأرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وإمبراطور الهند معاهدة صداقة
وحسن تفاهم؛ لأجل تثبيت وتقوية العلاقات الودية، وحسن التفاهم بين بلادينا.
ووقعها مندوبنا المفوض ومندوب جلالته الحائزان للصلاحية التامة المتقابلة.
وذلك في مدينة جدة في اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة سنة ألف
وثلاثمائة وخمس وأربعين هجرية (الموافق 20 مايو سنة 1927) , وهي
مدرجة فيما يلي: -
بسم الله الرحمن الرحيم
جلالة ملك بريطانيا وأيرلندا والممتلكات البريطانية من وراء البحار
وإمبراطور الهند من جهة , وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها من جهة أخرى.
رغبة في توطيد العلاقات الودية السائدة بينهما , وتوثيقها وتأمين مصالحهما
وتقويتها؛ قد عزما على عقد معاهدة صداقة، وحسن تفاهم.
لذلك أوفد صاحب الجلالة البريطانية حضرة السير جلبرت فلكنجهام كلايتن
مندوبا مفوضًا عنه، وانتدب صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها صاحب
السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز نجله ونائبه في الحجاز مندوبًا مفوضًا
عنه.
بناء على ما تقدم , وبعد الاطلاع على مستندات اعتمادهما والتثبت من
صحتها , قد اتفق سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز وحضرة السير جلبرت
فلكنجهام كلايتن على المواد الآتية: -
(المادة الأولى) يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالاستقلال التام المطلق
لممالك صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.
(المادة الثانية) يسود السلم والصداقة بين صاحب الجلالة البريطانية،
وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونَجْد وملحقاتها، ويتعهد كل من الفريقين المتعاقدين
بأن يحافظ على حسن العلاقات مع الفريق الآخر، وبأن يسعى بكل ما لديه من
الوسائل لمنع استعمال بلاده قاعدة للأعمال غير المشروعة الموجهة ضد السلم
والسكينة في بلاد الفريق الآخر.
(المادة الثالثة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسهيل
أداء فريضة الحج لجميع الرعايا البريطانيين، والأشخاص المتمتعين بالحماية
البريطانية من المسلمين أسوة بسائر الحجاج، ويعلن جلالة الملك بأنهم يكونون
آمنين على أموالهم وأنفسهم أثناء إقامتهم في الحجاز.
(المادة الرابعة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسليم
مخلفات من يتوفى في البلاد التابعة لجلالته من الحجاج المذكورين آنفًا، والذين
ليس لهم في بلاد جلالته أوصياء شرعيون إلى المعتمد البريطاني في جدة , أو من
ينتدبه لذلك الغرض؛ لإيصالها لورثة الحاج المتوفى المستحقين , بشرط أن لا
يكون تسليم تلك المخلفات إلى الممثل البريطاني إلا بعد أن تتم المعاملات بشأنها أمام
المحاكم المختصة وتُسْتَوْفَى عليها الرسوم المقررة في القوانين الحجازية أو النجدية.
(المادة الخامسة) يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالجنسية الحجازية أو
النجدية لجميع رعايا صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , عندما يوجدون
في بلاد صاحب الجلالة البريطانية، أو البلاد المشمولة بحماية جلالته، وكذلك
يعترف صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بالجنسية البريطانية لجميع
رعايا صاحب الجلالة البريطانية، ولجميع الأشخاص المتمتعين بحماية جلالته
عندما يوجدون في بلاد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , على أن
تراعى قواعد القانون الدولي المرعي بين الحكومات المستقلة.
(المادة السادسة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
بالمحافظة على علاقات الود والسلم مع الكويت والبحرين ومشايخ (قطر)
والساحل العماني الذين لهم معاهدات خاصة مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية.
(المادة السابعة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بأن
يتعاون بكل ما لديه من الوسائل مع صاحب الجلالة البريطانية في القضاء على
الاتجار بالرقيق.
(المادة الثامنة) على الفريقين المتعاقدين إبرام هذه المعاهدة , وتبادل
قرارات الإبرام بأقرب وقت، وتصير المعاهدة نافذة اعتبارًا من تاريخ تبادل
قرارات الإبرام، ويعمل بها مدة سبع سنوات ابتداءً من ذلك التاريخ , وإن لم يعلن
أحد الفريقين المتعاقدين الفريق الآخر قبل انتهاء السنوات السبع بستة أشهر أنه يريد
إبطال المعاهدة؛ تبقى نافذة، ولا تعتبر باطلة إلا بعد مضي ستة أشهر من اليوم
الذي يعلن فيه أحد الفريقين إبطالها للفريق الآخر.
(المادة التاسعة) تعتبر المعاهدة المعقودة بين صاحب الجلالة البريطانية
وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها في 26 ديسمبر سنة 1915 يوم كان
جلالته حاكمًا لنجد وما كان ملحقًا بها؛ إذ ذاك - ملغاة ابتداء من تاريخ إبرام
المعاهدة.
(المادة العاشرة) دونت هذه المعاهدة باللغتين العربية والإنكليزية،
وللنصين قيمة واحدة , أما إذا وقع اختلاف في تفسير أي قسم منها؛ فيرجع إلى
النص الإنكليزي.
(المادة الحادية عشرة) تعرف هذه المعاهدة بمعاهدة جدة.
وقعت هذه المعاهدة في جدة يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة 1345
هجرية الموافق (20 مايو سنة 1927) .
جلبرت فلكنجهام كلايتن ... ... ... فيصل بن عبد العزيز السعود
فبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر، وأمعنا النظر فيها؛ صدقناها ,
وقبلناها , وأقررناها جملة في مجموعها , ومفردة في كل مادة وفقرة منها , كما
أننا نصدقها ونقبلها ونثبتها ونبرمها , ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم
بحول الله بما ورد فيها , ونلاحظه بكمال الأمانة والإخلاص، وبأننا لن نسمح
بمشيئة الله بالإخلال بها بأي وجه كان , طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في
تثبيت صحة كل ما ذكر فيها؛ أمرنا بوضع خاتمنا على هذه الوثيقة , ووقعناها بيدنا ,
والله خير الشاهدين.
حرر في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة
وست وأربعين هجرية الموافق للسابع عشر من شهر سبتمبر سنة ألف وتسعمائة
وسبع وعشرين ميلادية.
الختم الملكي ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود
***
تصديق ملك بريطانيا
ومن المفيد في تتمة هذه الوثيقة التاريخية أن نثبت هنا النص الذي كان من
قبل صاحب الجلالة البريطانية في التصديق على نسخة المعاهدة , حيث جاء فيه ما
يلي: -
جورج بنعمة الله ملك بريطانيا العظيم وأيرلندا والممتلكات البريطانية فيما
وراء البحار حامي الإيمان وإمبراطور الهند إلخ إلخ إلخ إلى كل من يطلع على
كتابنا هذا , سلام.
بما أنه قد عقدت بيننا , وبين حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد
وملحقاتها معاهدة وقعت في جدة من قبل مندوبنا المفوض , ومندوب جلالته
الحائزين للصلاحية التامة المتقابلة , وذلك في اليوم العشرين من شهر مايس
(مايو) , والحمد لله بين بلادينا وهي كلمة بكلمة كما يلي: (هنا يأتي نص
المعاهدة , وبعد النص ورد في التصديق ما يأتي) :
فنحن بعد أن اطلعنا , وأمعنا النظر في المعاهدة المتقدمة؛ صدقناها , وقبلناها
وأثبتناها مجملة، وفي كل مادة وفقرة منها.
كما أننا بموجب هذا؛ نصدقها ونقبلها ونثبتها ونبرمها عن أنفسنا , وعن
خلفائنا وورثتنا، ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم , ونلاحظ بكمال
الأمانة والإخلاص ما ورد فيها إجمالاً وإفرادًا من الأشياء الموجودة والمبينة في
المعاهدة المذكورة، وبأننا لا نسمح لأحد بالإخلال بها , أو مناقضتها بأي وجه كان
طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في الاستشهاد والصحة في كل ما ذكر فيها؛
أمرنا بوضع خاتمنا الكبير على هذه المستندات، ووقعناها بيدنا الملكية.
***
تبادل قرارات الإبرام
وبعد أن أبرم جلالة الملك المعاهدة على الشكل المتقدم , تبادل مدير شؤون
خارجيتنا , ومعتمد وقنصل الحكومة البريطانية في جدة قرارات الإبرام , ونسخ
المعاهدة بعد أن وقعا شهادة التبادل الآتي ذكرها:
إن الموقعين أدناه قد اجتمعا لأجل تبادل قرارات إبرام معاهدة الصداقة ,
وحسن التفاهم المعقودة بين صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندة
والممتلكات البريطانية من وراء البحار إمبراطور الهند، وبين حضرة صاحب
الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , والتي وقع عليها في مدينة جدة في اليوم
العشرين من شهر مايس (مايو) سنة 1927 (الموافق 18 ذي القعدة سنة
1345) وبعد أن قابلا نسخ قرارات إبرام المعاهدة السالفة الذكر بدقة , ووجدا كل واحدة مطابقة تمام المطابقة للأخرى , قد جرى التبادل المذكور هذا اليوم
على الصورة المعتادة , وإقرارًا على ذلك قد وقعا على هذه الشهادة.
حرر في جدة في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1346
معتمد وقنصل صاحب الجلالة البريطانية ... مدير الشؤون الخارجية للمملكة
... ... ... ... ... ... ... الحجازية والنجدية وملحقاتها ...
ف. هـ، أستون. هبوور. بيرد ... ... ... عبد الله الدملوجي
* * *
الكتب التي تبودلت
تبودلت مع المعاهدة كتب يتعلق بعضها ببيان بعض مواد المعاهدة، وبعضها
مستقل بذاته، نثبت نصها فيما يلي:
(1)
إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.
يا صاحب الجلالة.
إشارة إلى الاقتراح الذي تفضلتم به لوضع مادة في المعاهدة تشرط على
حكومة صاحب الجلالة البريطانية عدم الممانعة في شراء وتوريد جميع الأسلحة
والأدوات الحربية والذخيرة والآلات , وغير ذلك من اللوازم الحربية , التي قد
تحتاج إليها حكومة الحجاز ونجد لاستعمالها لنفسها.
لي الشرف أن أخبر جلالتكم أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ترى أن
هذه مسالة لا تحتاج إلى ذكر في نص المعاهدة، وقد فوضتني حكومة صاحب
الجلالة البريطانية بأن أخبر جلالتكم أن تحريم تصدير الأدوات الحربية إلى جزيرة
العرب قد رفع، وأنه إذا استحسنتم طلب أسلحة أو ذخيرة، أو أدوات حربية من
أصحاب المعامل البريطانيين لاستعمال حكومة جلالتكم، وبمقتضى شروط اتفاقية
الاتجار بالأسلحة (1925) , فحكومة صاحب الجلالة البريطانية لا تعارض في
تصديرها , ولا تضع أي عرقلة في سبيل توريدها إلى بلاد جلالتكم، وسأجتهد
إجابة لرغبة جلالتكم أن أقدم نسخة من الاتفاقية المشار إليها بأقرب وقت، وأرجو
من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول أجل الاحترام
عن جدة 19 مايو سنة 1927 الموافق 17 ذي القعدة سنة 1345
... ... ... ... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية
... ... ... ... ... ... ... جلبرت كلايتن
***
الجواب
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة صاحب الفخامة
المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية.
جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ في 17 ذي القعدة سنة 1345 الموافق 19
مايو سنة 1927 تحت رقم 3 بشأن الأسلحة , فإني أشكركم على ذلك البيان الذي
يفيد أن جزيرة العرب غير ممنوعة من استيراد الأسلحة. وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي. ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم الملكي)
***
(2)
إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها.
يا صاحب الجلالة:
لي الشرف أن أذكر جلالتكم أنه في أثناء المفاوضات التي دارت بيننا , والتي
أدت - ولله الحمد - إلى عقد معاهدة صداقة وحسن تفاهم بين صاحب الجلالة
البريطانية وجلالتكم، كنا بحثنا في مسألة الحدود البريطانية في هذه المسألة كما هو
مبين في مسودة الملحق [1] التي قدمتها إلى جلالتكم , وأخبرت جلالتكم أن حكومة
صاحب الجلالة البريطانية مصرة على التمسك بذلك الموقف.
أما الحدود المشار إليها؛ فتعتبر حكومة صاحب الجلالة البريطانية أنها تعرف
كما يأتي:
تبتدئ الحدود بين الحجاز وشرق الأردن من نقطة تقاطع دائرة الطول 38
(شرقي) بدائرة العرض 35، 29 (شمالي) , حيث تنتهي الحدود بين نجد
وشرقي الأردن , فتمتد على خط مستقيم إلى نقطة على السكة الحديدية الحجازية ,
بعدها ميلان إلى الجنوب من محطة المدورة , ثم تمتد من تلك النقطة على خط
مستقيم إلى نقطة على خليج العقبة بعدها ميلان إلى الجنوب من مدينة العقبة.
وفي الختام أرجو من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول فائق الاحترام
عن جدة 19 مايو سنة 1927 الموافق 27 ذي القعدة سنة 1345
... ... ... ... ... ... ... جلبرت كلايتون
... ... ... ... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية
***
الجواب
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة صاحب الفخامة
المندوب المفوض لصاحب الجلالة البريطانية
جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ في 18 ذي القعدة سنة 1345 المختص
بمسألة الحدود بين الحجاز وشرق الأردن , قد أخذنا علماً بأن حكومة صاحب
الجلالة البريطانية مصرة على موقفها، ولكن نرى أن تسوية هذه المسألة بصورة
نهائية أمر متعذر في الظروف الحاضرة، ومع ذلك نظرًا لرغبتنا الصادقة في
المحافظة على العلاقات الودية المؤسسة على صلات الصداقة المتينة؛ رأينا أن
نعرب لفخامتكم عن استعدادنا لإبقاء الحالة الحاضرة على ما هي عليه في منطقة
معان والعقبة مع الوعد بأن لا نتداخل في إدارتها إلى أن تحين الظروف المناسبة
لتسوية هذه المسألة تسوية نهائية.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
18 ذي القعدة سنة 1345 الختم الملوكي
***
(3)
إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
يا صاحب الجلالة:
إلحاقًا بالمحادثات التي دارت بيننا بخصوص مسألة المتاجرة بالرقيق.
لي الشرف أن أخبر جلالتكم أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ترى أنه
من واجبها أن لا تتنازل في الوقت الحاضر عن حق إعتاق الأرقاء , ذلك الحق
الذي طالما عمل بموجبه حضرات قناصل جلالته، والذي يمكنهم من إطلاق سبيل
أي رقيق يتقدم إليهم من تلقاء نفسه , ويطلب تحريره , وإعادته إلى مسقط رأسه،
ثم أريد أن أؤكد لجلالتكم أن التمسك بهذا الحق من قبل حكومة صاحب الجلالة
البريطانية , ليس المراد منه أي تداخل في شؤون مملكتكم , أو أي تجاوز على
سلطان جلالتكم , وأن السبب في هذا التمسك إنما هو إصرار حكومة صاحب
الجلالة البريطانية على القيام بواجب تعتبره مفروضًا عليها نحو الإنسانية،
وأضيف إلى قولي هذا أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية , ستكون على استعداد
للنظر في إلغاء حق الإعتاق , حينما يتبين للفريقين أن التعاون المنصوص عليه في
المادة الثامنة من معاهدة جدة قد أدى إلى تدابير عملية كافية لإبطال حق الإعتاق.
آمل أن جلالتكم ستقدرون موقف حكومة صاحب الجلالة البريطانية في هذه
المسألة، وأنكم ستستحسنون الموافقة على الخطة التي شرحتها أعلاه، وأرجو من
جلالتكم أن تتفضلوا بقبول أجل الاحترام.
عن جدة 19 مايو 1927 - 18 ذي القعدة سنة 1345
... ... ... ... ... ... ... جلبرت كلايتون
... ... ... ... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية
(الجواب)
من عبد العزيز بن الرحمن الفيصل آل السعود.
إلى حضرة صاحب الفخامة المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية
جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ 18 ذي القعدة سنة 1345 الموافق 19 مايو سنة
1927 رقم 2 بخصوص عتق الرقيق , فإني واثق بأن المعتمد البريطاني في جدة
سيكون محافظًا على الروح التي توخيناها في مداواة الموقف الحاضر , فلا يدع
مجالاً للتشويش في هذا الموضوع الذي قد يؤثر على الحالة الإدارية والاقتصادية ,
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
19 ذي القعدة سنة 1345 الختم الملوكي
***
(4)
إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
يا صاحب الجلالة:
إشارة إلى المادة الرابعة من معاهدة جدة.
لي الشرف أن أثبت في كتابي هذا التصريحات التي ألقيتها أمام جلالتكم أثناء
محادثاتنا عندما صرحت بأن الغرض الوحيد من إدخال تلك المادة في المعاهدة هو
أولاً وضع المعاملة المتبعة الآن على أساس رسمي، وثانياً أن يقدم لحكومة صاحب
الجلالة البريطانية تأكيدات تمكنها من إعلان المعاملة المتبعة الآن لجميع المسلمين
في البلاد البريطانية، وعلاوة على ذلك أريد أن أؤكد لجلالتكم أن وجود تلك المادة
في المعاهدة لا يؤثر , ولا يفسر بأنه قد يؤثر على المعاملة المختصة بمخلفات
الأشخاص غير الحجاج , التي لا تزال خاضعة لقواعد المقابلة بالمثل , التي هي
أساس التعامل المعتاد بين البلاد المستقلة , وأرجو من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول
أجل الاحترام
عن جدة 20 مايو سنة 1927 - 19 ذي القعدة سنة 1345
... ... ... ... ... ... ... جلبرت كلايتون
... ... ... ... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية
(الجواب)
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى صاحب الفخامة المندوب
المفوض لصاحب الجلالة البريطانية الأفخم:
جوابًا على كتاب سعادتكم المؤرخ 19 ذي القعدة و 20 مايو سنة 1927
رقم 4 بشأن مخلفات رعايانا في دياركم , ومخلفات رعاياكم في ديارنا , فأحب أن
أؤكد لفخامتكم أن المعاملة ستكون كما ذكرتم حسب التعامل الدولي؛ إذ تقوم
محاكمنا باستلام المخلفات، وبعد إجراء المعاملات القانونية , واستيفاء الرسوم
عليها؛ تسلم إلى المعتمد البريطاني , وذلك مقابلة بالمثل لتسليم المعتمد البريطاني
في جدة مخلفات المتوفى من رعايانا في الممالك البريطانية.
وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي 20 ذي القعدة 1345
... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم الملكي
***
سكة حديد الحجاز
وقد دار أيام المفاوضات في المعاهدة بحث عن سكة حديد الحجاز , ولم تنته
المفاوضات بشأنها , والمنتظر في القريب العاجل أن يتم الاتفاق على تسييرها ,
وسننشر ذلك في حينه إن شاء الله تعالى اهـ ما نقلناه عن جريدة أم القرى بنصه.
(آراء السياسيين في المعاهدة)
(المنار)
قد صرحت الجرائد السياسية الكبرى بمصر , ومن لقينا من علماء القانون
الدولي , والحقوق العامة بأن هذه المعاهدة بنيت على أساس المساواة التامة بين
الدول المستقلة إلا في مسألة واحدة , وهي ترجيح اللغة الإنكليزية على العربية عند
التعارض - وبأن اعتراف الدولة البريطانية فيها بالاستقلال التام المطلق للحجاز ونجد
وملحقاتها اعتراف صحيح لا تشوبه شائبة امتياز , ولا تحفظ , ولا غير ذلك من
القيود , كالتي قيد بها الاعتراف باستقلال مصر مثلاً , فجعلته صوريًّا , أو اسميًّا.
وترجيح إحدى اللغتين عند التعارض ضروري , ولذلك تداركه أكثر الدول
بجعل المعاهدات بلغة واحدة وهي الفرنسية.
وجملة القول: أن السياسيين أجمعوا على أن المعاهدة ظفر لابن السعود
عظيم , وللأمة العربية التي أسس لها أول دولة عزيزة مستقلة بعد زوال ملكها عدة
قرون؛ اعترفت بها الدول ووقفت مع كبراهن (وهي بريطانية العظمى) موقف
الأقران والأمثال.
لو أن الدولة البريطانية رجعت عن طمعها وعدوانها على الإسلام والمسلمين
بعدم الإصرار على إبقاء منطقة العقبة ومعان ملحقة بشرق الأردن الذي جعلته داخلاً
في مسمى الانتداب البريطاني إلى فرصة أخرى؛ لكان حقًّا على كل مسلم وكل
عربي أن يشكر لها هذه المعاهدة , ويعدها أول خطوة للمسالمة بينها , وبين
المسلمين الناقمين عليها بالتعدي على بلاد الحجاز المقدسة , ونقض وصية خاتم
المرسلين.
والواجب على ملك الحجاز ونجد أن يعود إلى مطالبتها بإعادة هذه المنطقة إلى
الحجاز في أقرب فرصة؛ لئلا يموت هذا الحق بطول الزمن , أو يضعف بإنشاء
معاقل عسكرية ومدنية فيها , وعسى أن تثوب الدولة البريطانية إلى حكمتها؛
فتعترف بها للحجاز.
وقد انتقد بعض المشتغلين بالسياسة الدولية المادة الثانية , بأن الغبن فيها على
ملك الحجاز ونجد , وإن شئت قلت على الأمة العربية , وعلى المسلمين كافة بأنها
تقتضي أن يمنع ملك الحجاز ونجد من يلجأ إلى حرم الله تعالى لبث الدعوة إلى
مقاومة هذه الدولة القاهرة لهم المغتصبة لبلادهم، وغلا بعضهم , فقال: إن المنع
لهذه الدعاية غير جائز شرعًا , فملك الحجاز ونجد لا يستطيع الوفاء بهذه المادة إلا
بمخالفة الشرع، وليس له في مقابلة هذا الغبن ما يقابله من نفع , فيقال: إنها مبنية
على المساواة؛ لأن الدولة البريطانية لا تستطيع أن تمنع خصومه في الهند من ترك
الدعاية الموجهة إلى معاداته , وإلى ترك الحج أيضًا؛ لأن حرية قوانينها لا تسمح
لها بمنعهم، وكذلك إذا لجأ بعض المعادين أو المقاتلين أو الثائرين إلى بلاده؛ فإنه
لا يمكنه أن يقبلهم لئلا تحتج عليه الدولة البريطانية بهذه المادة.
والجواب على هذا من وجوه (أولها) أن الممنوع بنص هذه المعاهدة هو
استعمال كل من الفريقين المتعاقدين بلاده قاعدة للأعمال غير المشروعة الموجهة
ضد السلم والسكنية في بلاد الفريق الآخر , " ومعناه منع الدعوة إلى حربه , أو
الثورات والفتن في بلاده، ولا يدخل في ذلك الانتقاد السياسي ولا الطعن العادي في
حكومة كل من الفريقين كالذي نعهده في الجرائد المصرية، ويمكن لملك الحجاز أن
يعامل الإنكليز بمثل ما يعاملونه به في هذا , ويحتج بالشريعة إذا احتجوا بالقانون.
قال المنتقد: إنه لا يمكنه ذلك لضعفه , قلت: إن الاعتراض إذًا على الضعف لا
على المعاهدة , فالقوي لا يعدم وسيلة للعدوان على الضعيف إذا اقتضته سياسته،
وستعلم أنه قوي في مركزه، ولولا قوته لما عقدوا معه هذه المعاهدة التي لا يعقدون
مثلها إلا مع إحدى الدول العظمى.
(ثانيها) أن في الدعوة إلى الحرب أو الثورة , وهي الممنوعة مصلحة
للفريقين، بل مصلحة ملك الحجاز ونجد ومن ورائه مصلحة العرب والمسلمين هي
الأرجح.
ذلك بأن الغرض من هذه المادة منع التقاتل بين البلاد العربية التي تعدها
الدولة البريطانية تحت حمايتها باسم الانتداب , وهي العراق وشرق الأردن
وفلسطين وبين بلاد الحجاز ونجد المتصلة بها، وما أظن أنه يوجد عاقل من العرب ,
أو من سائر المسلمين يقول: إن مصلحة ملك الحجاز ونجد قتال هؤلاء المجاورين له
من أمته، لا بأن يكون هو البادئ به , ولا بأن يكونوا هم البادئين.
ومن المعروف أن الدولة البريطانية قد وضعت على رأس كل من الحكومتين
المجاورتين للحجاز ونجد رجلاً من أولاد الشريف حسين المعادين له , ويظهر أن
كلا منهما يود لو تساعدهما هذه الدولة على قتاله , أو إثارة الفتن والثورات في بلاده،
وليس في ذلك مصلحة له، ولا للعرب ولا للمسلمين؛ بل فيه الضرر العظيم بقتل
شعوب هذه الأمة الواحدة بعضهم لبعض , وإفناء قوتها , وتخريب بيوتها بأيديها،
وكل منها في طور التكوين، وأقواها في الحرب ابن السعود.
قال المنتقد لهذه المادة: إن الإنكليز يطمعون في جميع بلاد العرب , ولا يعقل
أن يعدوا من مصلحتهم منع بعضهم من إضعاف بعض , فما فائدتهم من هذه المادة
إذًا؟
قلت: إن استفادتهم من هذه البلاد تتوقف على عمران ما استولوا عليه , أو
أخذوا على أنفسهم حمايته منها، فإذا تصدى ملك الحجاز ونجد لمقاتلتها , فإنهم
يضطرون إما لتركها , وإما لبذل ألوف الملايين من الجنيهات ومئات الألوف من
الرجال للدفاع عنها، وليس هذا من مصلحتهم في شيء، وقد رأينا أن برلمانهم
ما زال يعذل وزارة المستعمرات على كثرة نفقات جيشهم في العراق , حتى لم يبقوا
منه إلا القليل , فكيف يسمح لهم بزيادته أضعافًا كثيرة لإيقاد نار حرب في جزيرة
العرب ما لم تلجئ إلى ذلك الضرورة التي لا دافع لها؟ فإذا كانت مثل هذه المعاهدة
تدفعها , فالمصلحة لهم فيها ظاهرة، وقد علمنا أن الفريق الآخر إليها أحوج، وإنما
تبنى المعاهدات الاختيارية بين الأقران على تبادل المصالح والمنافع , بخلاف
الاضطرارية كالتي تجري بين المحاربين الذين انتصر منهم فريق , وانكسر فريق،
أو بين قوي وضعيف.
فإن قيل: إن هذه فرصة لتمكين نفوذ الإنكليز في هذه البلاد العربية - قلنا:
إن تلافي هذا الخطر موكول إلى أهلها , والرجاء في الشعب العراقي عظيم.
(ثالثها) أن فرض التجاء فريق من العرب إلى بلاد الحجاز أو نجد
للاعتصام بها في حال مقاتلتهم للإنكليز فرض وهمي , فإن حال العرب المتصلين
بالقطرين المذكورين معروفة لنا , بل ثبت أن بدو شرق الأردن اعتدوا على
النجديين , فمنعهم إمامهم ابن السعود من مقابلة العدوان بمثله على قوته , وضعف
المعتدين على قومه , ورضي بالتحكيم بين الفريقين ولما يفد - فحمدنا له هذا.
(رابعها) أن نشر الدعاية القولية في الحجاز لقتال الإنكليز في الهند , أو
السودان مثلاً عقيم , وليس فيه مصلحة للمسلمين , بل فيه ضرر عليهم؛ لأن
الإنكليز يمنعون الجرائد والنشرات التي تنشرها من دخول البلاد التي يرون أنها
تضرهم فيها، وقد يتوسلون بنشرها في الحجاز إلى منع مسلمي تلك البلاد من الحج.
(خامسها) وهو خاص بمن ظن أن مثل هذه المعاهدة محظور شرعًا لأن
الغبن فيها على المسلمين , أو لأنها تقيد حرية من يريد الطعن بأعدائه معتصمًا
بِحَرَمِ الله تعالى - أن المعاهدات تبنى على المصلحة العامة الراجحة , فمتى اقتنع
بها إمام المسلمين بعد مشاورة أهل الرأي منهم عنده؛ جاز له أو وجب عليه أن
يفعل ما فيه المصلحة الراجحة، وهذا لا ينفي أن يكون في المعاهدة مضرة
مرجوحة.
وحجتنا في ذلك معاهدة الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة ,
فجميع المسلمين رأوا أن فيها مضرة وغبنًا عليهم , أو ما هو أكبر من ذلك , ولا
سيما اشتراط المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم أن من تركه من أصحابه ,
ولجأ إليهم لا يعيدونه إليه، ومن لجأ منهم إليه مؤمنًا به؛ أعاده إليهم، وقد رضي
صلى الله عليه وسلم بهذا لأنه علم أن المصلحة في تلك المعاهدة أرجح؛ فأنفذها.
وهكذا فعل ملك الحجاز ونجد بعد مشاورة من لديه من العارفين بهذه الشؤون -
ومنهم بعض الدارسين للقوانين الدولية - ثم أنفذ ما رأى فيه المصلحة الراجحة.
ومتى عاهد إمام المسلمين قومًا؛ وجب عليه الوفاء , وإن كان فيه غبن
لبعض المسلمين , يدل على هذا قوله تعالى في أواخر سورة الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) والمعنى أن
المؤمنين الذين كانوا بدار الشرك , ولم يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في
دار الإسلام؛ تجب لهم على إخوانهم المؤمنين النصرة , إذا قاتلهم المشركون إلا
على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق , كمعاهدة الحديبية بين النبي صلى الله
عليه وسلم ومشركي مكة , فليس لهم أن ينقضوا العهد قبل انتهاء مدته لأجل نصرة
إخوانهم في الدين في غير دار الهجرة.
هذا كل ما سمعته , وعلمته من نقد هذه المعاهدة من أشد الناس مبالغة وإغراقًا
في التشاؤم من كل عمل للإنكليز , لشدة سوء الظن فيهم؛ لما ذاقت هذه البلاد من
لدغ سياستهم , ولسع مراوغتهم.
وأذكر على سبيل الفكاهة المضحكة انتقاد كاتب سوري لا يزال يحلم بما كان
يحلم به الملك حسين الهاشمي من الإمبراطورية العربية التي اقترح على (الحسيات
النجيبة للعظمة البريطانية أن تؤسسها له في حجرها , وتحت حمايتها في الداخل
والخارج) , قال هذا الكاتب: إن هذه المعاهدات قد أضاعت على الأمة العربية تلك
الإمبراطورية العظمى، وكان الواجب على ابن السعود أن يرفض عقدها , ويطالب
الإنكليز بالوعود والعهود التي كان يزعمها الملك حسين! ! ! ولكن ابن السعود
رجل عقل وعمل , لا رجل أحلام وأوهام , فهل يترك هذه الدولة المستقلة التي
أسسها بعقله وحزمه , ويعيش بأحلام حسين بك علي بعد أن صحا هذا منها منفيًّا من
البلاد العربية في جزيرة قبرص؟
هذا , وإن أكبر مصلحة لملك الحجاز ونجد في هذه المعاهدة تضمنها إلغاء
معاهدة سنة 1915 التي كان عقدها مع الدولة البريطانية في عهد الحرب الكبرى ,
إذ كان ضعيفًا قريب العهد باسترجاع إمارتهم المسلوبة من ابن الرشيد , ومضطرًّا
إلى إسقاط إمارته , وتوحيد البلاد النجدية وهذا نصها:
***
المعاهدة الأولى بين بريطانية العظمى وابن السعود
في 2 كانون ثان سنة 1915
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الكولونيل السير برسي كوكس وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل
السعود المعروف بابن السعود اتفقا وتعاقدا على المواد الآتية: -
(1) إن الحكومة البريطانية تعترف , وتقبل بأن نجدًا والحسا والقطيف
وحائل وملحقاتها التي تعين هنا والمرافئ التابعة لها على سواحل خليج العجم؛ كل
هذه المقاطعات هي تابعة للأمير ابن السعود وآبائه من قبل، وهي تعترف بابن
السعود حاكمًا مستقلاًّ على هذه الأراضي , ورئيسًا مطلقًا على جميع القبائل
الموجودة فيها، وتعترف لأولاده وأعقابه الوارثين من بعده على أن يكون خليفته
منتخبًا من قبل الأمير الحاكم، وأن لا يكون مخاصمًا لإنجلترا بوجه من الوجوه ,
أي أنه يجب أن لا يكون ضد المبادئ التي قبلت في هذه المعاهدة.
(2) إذا تجاوزت إحدى الدول على أراضي ابن سعود , أو أعقابه من بعده
دون إعلام الحكومة البريطانية، ودون أن تمنح الوقت المناسب للمخابرة مع ابن
سعود لأجل تسوية الخلاف؛ فالحكومة البريطانية تعاون ابن سعود ضد هذه الحركة،
وفي مثل هذه الظروف يمكن للحكومة البريطانية لمساعدة ابن سعود أن تتخذ
تدابير شديدة لأجل محافظة وحماية منافعه.
(3) يتعهد ابن سعود أن يمتنع عن كل مخابرة , أو اتفاق , أو معاهدة مع
أية حكومة أو دولة أجنبية، وعلاوة على ذلك يتعهد بإعلام الحكومة البريطانية بكل
تعرض أو تجاوز يقع من قبل حكومة أخرى على الأراضي التي ذكرت آنفًا.
(4) يتعهد ابن سعود بصورة قطعية أن لا يتخلى , ولا يبيع , ولا يرهن ,
ولا يقبل بصورة من الصور ترك قطعة , أو التخلي عن الأراضي التي ذكرت آنفًا،
ولا يمنح امتيازًا في تلك الأراضي لدولة أجنبية أو لتبعة دولة أجنبية، دون
رضى الحكومة البريطانية، وأن يتبع نصائحها التي لا تضر بمصالحه.
(5) يتعهد ابن السعود بأن يبقي الطرق الموصلة إلى الأماكن المقدسة
مفتوحة، وأن يحافظ على الحجاج أثناء ذهابهم إلى الأماكن المقدسة , ورجوعهم
منها.
(6) يتعهد ابن سعود كما تعهد والده من قبل بأن يمتنع عن كل تجاوز
وتداخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعمان وسواحلها , وكل
المشايخ الموجودين تحت حماية إنكلترة , أو الذين لهم معاهدات معها.
(7) الحكومة البريطانية وابن سعود يتفقان فيما بعد بمعاهدة على
التفصيلات التي تتعلق بهذه المعاهدة اهـ. ... ... ... ... التوقيع
__________
(1) قدم هذا الملحق ولم يقبل من الحجاز ونجد فرفع من المعاهدة , ولم يعمل به.(28/602)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الكتابة أو الخط
وثيقة شرعية يجب العمل بها
أمر الله تعالى المؤمنين في أواخر سورة البقرة (282: 2) بكتابة الدين
المؤجل، وأكد الأمر بالكتابة، ونهى الكاتب الذي يدعى إلى الكتابة أن يمتنع، وأكد
ذلك بأمره بأن يكتب، ثم نهاهم عن السآمة أن تكون مانعة من الكتابة للصغير
والكبير والقليل والكثير، ثم أمر بالاستشهاد , وعلل الأمرين بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ
عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} (البقرة: 282) , وقد ذكرنا في تفسير
هذه الآية من جزء التفسير الثالث (ص 125) أن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى
قال عند تفسير {وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} (البقرة:
282) : إن هذا دليل على أن الكتابة يعمل بها، وأنها من الأدلة التي تعتبر عند
استيفاء شروطها.اهـ. وقلت هنالك: إن الآية دليل على وجوبها أيضًا , ثم
ذكرت (في ص 133) الخلاف بين العلماء في وجوب كتابة الدين وأمثاله
أيضًا , وأن من القائلين بالوجوب عطاء والشعبي وابن جرير في تفسيره كما هو
الأصل في الأمر عند جماهير العلماء.
وقد عقد العلامة المحقق ابن القيم فصلاً للعمل بالخط في كتابه (الطرق
الحكمية، في السياسة الشرعية) , وعده من الطرق التي يحكم بها الحاكم، وهو
الذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل , فاخترنا نقله لإفادة من لم يطلع عليه من الفقهاء ,
وإيجازًا لوعدنا في الفتوى 20 كما في ص 511 ج 7 الماضي وهذا نصه:
***
فصل
(الطريق الثالث والعشرون) الحكم بالخط المجرد , وله صور ثلاث:
(الصورة الأولى) أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان , فيطلب منه
إمضاءه , فعن أحمد ثلاث روايات , (إحداهن) أنه إذا تيقن أنه خطه؛ نفذه وإن لم
يذكره , (والثانية) أنه لا ينفذه حتى يذكره , (والثالثة) أنه إذا كان في حرزه
وحفظه؛ نفذه وإلا فلا.
قال أبو البركات: (الرواية في شهادة الشاهد بناء على خطه إذا لم يذكره) ,
والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم، ولا في الشهادة،
وفي مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظًا عندهما كالرواية
الثالثة.
وأما مذهب أبي حنيفة فقال الخفاف (؟) : قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي
في ديوانه شيئًا لا يحفظه كإقرار الرجل بحق من الحقوق , وهو لا يذكر ذلك , ولا
يحفظه , فإنه لا يحكم بذلك , ولا ينفذه حتى يذكره.
وقال أبو يوسف ومحمد: ما وجده القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا
عنده لرجل على رجل بحق , أو إقرار رجل لرجل بحق , والقاضي لا يحفظ ذلك ,
ولا يذكره , فإنه ينفذ ذلك , ويقضي به إذا كان تحت خاتمه محفوظًا، ليس كل ما
في ديوان القاضي يحفظه.
وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكر؛ لإمكان
التزوير عليه.
قال القاضي أبو محمد: إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه , ولم يذكر أنه حكم به؛
لم يجز له أن يحكم به إلا أن يشهد عنده شاهدان , قال: وإذا نسي القاضي حكمًا
حكم به , فشهد عنده شاهدان أنه قضى به؛ نفذ الحكم بشهادتهما , وإن لم يذكره.
وعن مالك رواية أخرى أنه لا يلتفت إلي البينة بذلك , ولا يحكم بها.
وجمهور أهل العلم على خلافها , بل إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد
الراوي على الخط المحفوظ عنده , وجواز التحديث به إلا خلافًا شاذًّا لا يعتد به،
ولو لم يعتمد على ذلك؛ لضاع الإسلام اليوم , وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
فليس بأيدي الناس بعد كتاب الله إلا هذه النسخ الموجودة من السنن.
وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ , وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم , وتقوم بها حجته , ولم يكن يشافه
رسولاً بكتابه بمضمونه , ولا جرى هذا في مدة حياته صلى الله عليه وسلم , بل
يدفع الكتاب مختومًا , ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه , وهذا معلوم بالضرورة لأهل
العلم بسيرته وأيامه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم له
شيء يوصي فيه , يبيت ليتلين إلا ووصيته مكتوبة عنده) , ولو لم يجز الاعتماد
على الخط؛ لم يكن لكتابة وصيته فائدة , قال إسحاق بن إبراهيم: (قلت) لأحمد:
الرجل يموت ويوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها , أو أعلم
بها أحدًا , هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ , قال: إن كان قد عرف خطه - وكان مشهور
الخط - فإنه ينفذ ما فيها , وقد نص في الشهادة أنه إذا لم يذكرها , ورأى خطه؛
أنه لا يشهد حتى يذكرها , ونص فيمن كتب وصيته , وقال: اشهدوا علي بما فيها؛
أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه , أو تقرأ عليه فيقر بها , فاختلف أصحابنا ,
فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى , وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج،
ومنهم من منع التخريج , وأقر النصين وفرق بينهما , واختار شيخنا التفريق , قال:
والفرق أنه إذا كتب وصيته , وقال اشهدوا علي بما فيها فإنهم لا يشهدون؛ لجواز أن
يزيد في الوصية وينقص ويغير , وأما إذا كتب وصيته ثم مات وعرف أنه
خطه , فإنه يشهد به لزوال هذا المحذور.
والحديث المتقدم كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي , وكتبه صلى
الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك , ولأن الكتابة تدل
على المقصود , فهي كاللفظ , ولهذا يقع بها الطلاق.
قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم
لفعل الكتابة؛ لأنه عمل , والشهادة على العمل طريقها الرؤية.
وقول الإمام أحمد: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط؛ ينفذ ما فيها،
يرد ما قال القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة
الفعل، وهذا هو الصحيح فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه , فإذا
عرف ذلك , وتيقن كان العلم بنسبة اللفظ إليه , فإن الخط دال على اللفظ , واللفظ
دال على القصد والإرادة , وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط , وذلك كما يفرض من
اشتباه الصور والأصوات , وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن
خط غيره كتميز صورته وصوته عن صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا
يستريبون فيها على أن هذا فيه خط فلان , وإن جازت محاكاته ومشابهته , فلا بد
من فرق , وهذا أمر يختص بالخط العربي , ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعًا
لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة.
وقد دلت الأدلة المتضافرة التي تقرب من القطع على قبول شهادة الأعمى فيما
طريقه السمع إذا عرف الصوت , مع أن تشابه الأصوات إن لم يكن أعظم من
تشابه الخطوط , فليس دونه , وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا
وجد في دفتر مورثه: إن لي عند فلان كذا؛ جاز له أن يحلف على استحقاقه ,
وأظنه منصوصًا عنهما , وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ما علي؛
جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته، ولم يزل الخلفاء والقضاة
والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم إلى بعض , ولا يشهدون حاملها على
ما فيها , ولا يَقْرءُونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن.
وقال البخاري في صحيحه (باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من
ذلك وما يضيق عليهم فيه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي) : وقال
بعض الناس [1] : كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود , قال: وإن كان القتل خطأ؛
فهو جائز لأنه مالٌ بزعمه , وإنما صار مالاً بعد أن ثبت القتل , فالخطأ والعمد
واحد.
وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود , وكتب عمر بن عبد العزيز في سن
كسرت.
وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم ,
وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي , ويروى عن ابن عمر نحوه،
وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي: شهدت عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة
وإياس بن معاوية والحسن وثمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد
الله بن بريدة وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كتب القضاة بغير
محضر من الشهود , فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور , قيل له: اذهب؛
فالتمس المخرج من ذلك، وأول من سأل على كتاب القاضي البينة ابن أبي ليلى
وسَوَّار بن عبد الله , وقال لنا أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محرز: جئت بكتاب من
موسى بن أنس قاضي البصرة , وأقمت عنده البينة أن لي عند فلان كذا وكذا وهو
بالكوفة فجئت به [2] القاسم بن عبد الرحمن , فأجازوه، وكره الحسن وأبو قلابة
أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها , لأنه لا يدري لعل فيها جورًا، وقد كتب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر (إما أن تدوا صاحبكم , وإما أن تأذنوا
بحرب) . اهـ[3] .
وأجاز مالك الشهادة على الخطوط , فروى عنه ابن وهب في الرجل يقوم
يذكر حقًّا قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين على خط كاتب الخط , قال:
تجوز شهادتهما على كاتب الكتاب إذا كان عدلاً مع يمين الطالب , وهو قول ابن
القاسم , وذكر ابن شعبان عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على
الخط , وعد قوله شذوذًا، قال ابن حارث: ولقد قال مالك - في رجل قال: سمعت
فلانا يقول: ورأيت فلانا قتل أو قال: سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها -: إنه لا
يشهد على شهادته إلا أن يشهده، فالخط أبعد من هذا وأضعف، قال: ولقد قلت
لبعض القضاة: أتجوز شهادة الموتى، فقال: ما هذا الذي تقول؟ ، فقلت: إنكم
تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه في وثيقة , فسكت.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن
الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور.
وقد قال مالك في الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور ,
وقد روى ابن نافع عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتيم، حتى
إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه , فيجاز لهم حتى اتهم الناس
فصار لا يقبل إلا بشاهدين اهـ.
واختلف الفقهاء فيما إذا أشهد القاضي شاهدين على كتابه , ولم يقرأه عليهما ,
ولا عرفهما بما فيه , فقال مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله،
ويقول الشاهد: إن هذا كتابه دفعه إلينا مختومًا، وهذا إحدى الروايتين عن
الإمام أحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضي؛ لم
يعمل المكتوب إليه بما فيه , وهو إحدى الروايتين عند مالك، وحجتهم أنه لا يجوز
أن يشهد إلا بما يعلم، وأجاب الآخرون بأنهما لم يشهدا بما تضمنه , وإنما شهدا بأنه
كتاب القاضي وذلك معلوم لهما، والسنة الصريحة تدل على صحة ذلك , وتغير
أحوال الناس وفسادها يقتضي العمل بالقول الآخر , وقد يثبت عند القاضي من أمور
الناس ما لا يحسن أن يطلع عليه كل أحد مثل الوصايا التي يتخون الناس فيها ,
ولهذا يجوز عند مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن يشهدا على الوصية المختومة ,
ويجوز عند مالك أن يشهدا على كتاب مدرج , ويقولا للحاكم: نشهد على إقراره
بما في هذا الكتاب.
وقال المانعون من العمل بالخطوط: الخطوط قابلة للمشابهة والمحاكاة , وهل
كانت قصة عثمان ومقتله إلا بسبب الخط , فإنهم صنعوا مثل خاتمه , وكتبوا مثل
كتابه حتى جرى ما جرى , ولذلك قال الشعبي: لا تشهد أبدًا إلا على شيء تذكره ,
فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا، قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار
فنعم , وهاهنا أمثالها , ولكن كان ذاك إذ الناس ناس.
وأما الآن فكلا , إذ كان الأمر قد تغير في زمن مالك وابن أبي ليلى , حتى
قال مالك: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم , حتى إن القاضي ليكتب للرجل
الكتاب , فلم يزد على ختمه حتى اتهم الناس , فصار لا يقبل إلا شاهدان.
وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا هذا بالشهادة على الخط؛ لأن
الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور , وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة
على خاتم كتاب القاضي.
فإن قيل: فما تقولون في الدابة يوجد على فخذها صدقة أو وقف أو حبس هل
للحاكم أن يحكم بذلك؟ (قيل) : نعم , له أن يحكم , وصرح به أصحاب مالك ,
فإن هذه أمارة ظاهرة , ولعلها أقوى من شهادة الشاهد , وقد ثبت في الصحيحين من
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعبد الله بن أبي طلحة؛ ليحنكه , فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة،
وللإمام أحمد عنه دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسم غنمًا في آذانها.
وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب رضي
الله عنه: إن في الظهر ناقة عمياء , فقال عمر: ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها ,
قال: فقلت: هي عمياء , فقال عمر: يقطرونها بالإبل , قال: فقلت: كيف تأكل
من الأرض؟ , قال: فقال عمر: أمن نعم الجزية هي , أم من نعم الصدقة؟ فقلت:
من نعم الجزية، فقال عمر: أردتم والله أكلها , فقلت: إن عليهم وسم الجزية.
ولولا أن الوسم يميز الصدقة من غيرها , ويشهد لما هو وسم عليه؛ لم يكن
فيه فائدة , بل لا فائدة للوسم إلا ذلك , ومن لم يعتبر الوسم؛ فلا فائدة فيه عنده.
فإن قيل: فما تقولون في الدار يوجد على بابها أو حائطها الحجر مكتوبًا فيه
أنها وقف أو مسجد هل يحكم بذلك؟ قيل: نعم , يقضى به ويصير وقفًا , صرح
به بعض أصحابنا , وممن ذكره الحارثي في شرحه.
فإن قيل: يجوز أن ينقل الحجر إلى ذلك الموضع؟ ، قيل: جواز ذلك
كجواز كذب الشاهدين؛ بل هذا أقرب؛ لأن الحجر يشاهد جزءًا من حائط داخلاً
فيه ليس عليه شيء من أمارات النقل؛ بل يقطع غالبًا بأنه بني مع الدار , ولا
سيما حجر عظيم وضع عليه الحائط بحيث يتعذر وضعه بعد البناء , فهذا أقوى من
شهادة رجلين ورجل وامرأتين.
فإن قيل: فما تقولون في كتب العلم يوجد على ظهرها وهوامشها كتابة الوقف ,
هل للحاكم أن يحكم بكونها وقفًا بذلك؟ قيل: هذا يختلف باختلاف قرائن الأحوال ,
فإذا رأينا كتبًا مودعة في جراب , وعليها كتابة الوقف , وهي كذلك مدة متطاولة
وقد اشتهرت بذلك؛ لم نسترب في كونها وقفًا , وحكمها حكم المدرسة التي عهدت
لذلك , وانقطعت كتب وقفها أو فقدت، ولكن يعلم الناس على تطاول المدة كونها
وقفًا , فيكفي في ذلك الاستفاضة , فإن الوقف يثبت بالاستفاضة , وكذلك مصرفه ,
وأما إذا رأينا كتابًا لا نعلم مقره , ولا عرف من كتب عليه الوقف؛ فهذا يوجب
التوقف في أمره حتى يتبين حاله، والمعول في ذلك على القرائن , فإن قويت؛
حكم بموجبها , وإن ضعفت؛ لم يلتفت إليها، وإن توسطت؛ طلب الاستظهار ,
وسلك طريق الاحتياط , وبالله التوفيق.
وقد قال أصحاب مالك في الرجلين يتنازعان في حائط , فينظر إلى عقده أو
من له خشب أو سقف وما أشبه ذلك مما يرى بالعين: يقضى به لصاحبه , ولا
يكلف الطالب البينة، وكذلك القنوات التي تشق الدار والبيوت إلى مستقرها إذا
سدها الذي شقت داره , وأنكر أن يكون عليها مجرى لأحد , فإذا نظروا إلى القناة
التي شقت داره وشهدوا بذلك عند القاضي , ولم يكن عنده في شهادة الشهود الذين
وجههم لذلك مدفع؛ ألزموه مرور القناة على داره , ونهي عن سدها ومنع منه،
قالوا: فإذا نظروا في القناة تشق داره إلى مستقرها , وهي في قناة قديمة والبنيان
فيها ظاهر حتى تصب في مستقرها , فللحاكم أن يلزمه مرور القناة , كما وجدت في
داره.
قال ابن القاسم فيما رواه ابن عبد الحكم عنه: إذا اختلف الرجلان في جدار
بين داريهما كل يدعيه , فإن كان عقد بنائه إليهما؛ فهو بينهما , وإن كان معقودًا
إلى أحدهما , ومنقطعًا من الآخر؛ فهو إلى من إليه العقد , وإن كان منقطعًا بينهما
جميعاً؛ فهو بينهما، وإن كان لأحدهما فيه كوى , ولا شيء للآخر فيه , وليس
بمنعقد إلى واحد منهما؛ فهو إلى من إليه مرافقه، وإن كانت فيه كوى لكليهما؛ فهو
بينهما، وإن كانت لأحدهما عليه خشب , ولا عقد فيه لواحد منهما؛ فهو لمن عليه
الحمل، فإن كان عليه حمل لهما جميعًا؛ فهو بينهما.
والمقصود أن الكتابة على الحجارة والحيوان وكتب العلم أقوى من هذه
الأمارات بكثير , فهي أولى أن يثبت بها حكم تلك الكتابة , لا سيما عند عدم
المعارض , وأما إذا عارض ذلك بينة لا تتهم , ولا تستند إلى مجرد التبديل بسبب
الملك والاستزادة؛ فإنها تقدم على هذه الأمارات بمنزلة البينة والشاهد , واليد تدفع
بذلك. اهـ. الفصل.
وأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ دعوة ربه إلى ملوك الآفاق بالكتابة ,
وكتبت معاهداته مع الكفار كتابة , وكان يكتب لعماله , وكذلك خلفاؤه، والقرآن
بلغت نسخته إلى الآفاق بالكتابة على كون حفاظه كانوا من أول الإسلام إلى الآن
يعدون بالألوف , وسائر كتب السنة والفقه كذلك , فالخط حجة من أقوى الحجج،
وتضعيفه باحتمال التزوير فيه , وشهادة الزور أسهل وأكثر وأعم من تزوير الخط ,
ولذلك كان جل اعتماد كل الأمم على الخط.
__________
(1) هو أبو حنيفة وأصحابه.
(2) أي بالكتاب.
(3) أي البخاري.(28/617)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
زيارة القبور للتبرك
بسم الله الرحمن الرحيم
من مصطفى نور الدين إلى شيخ المرشدين وزعيم المصلحين وإمام المجددين
لما درس من أمر الدين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد , فإني سمعت بكتاب اسمه (الإبداع
في مضار الابتداع) لمؤلفه الشيخ علي محفوظ , فاستحضرته؛ لأقرأه , فلما
وصلت في قراءته إلى صحيفة 87 عثرت على هذه العبارة في السطر الثالث عشر
من هذه الصحيفة وهي: (ومن الزيارة التي يرجع نفعها إلى الزائر ما تكون للتبرك ,
فتستحب لأهل الخير؛ لأن لهم في برازخهم بركات، وعليهم تتنزل الرحمات) ,
فهل يحسن السكوت على هذه العبارة؟
إن السكوت على هذه العبارة وأمثالها يعد من الكتمان الذي توعد الله عليه في
كتابه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (البقرة: 159)
الآية، خصوصًا وأنها منشورة في كتاب موضوعه من أهم مقاصد أهل الإصلاح ,
فالثقة والاغترار بها أقرب، وأيضًا فإن المفاسد والأضرار المترتبة على مدلولها
كثيرة لا يحصيها إلا الله من الافتتان بالقبور وأصحابها، وهي الفتنة التي عم
بلاؤها، وانتشر وباؤها، وعظم داؤها، وعز دواؤها - ولا سبب للإفساد بالقبور
وأصحابها إلا الاعتقاد بالانتفاع بما لهم في برازخهم من البركات، وما ينزل عليهم
من الرحمات، فإن الإنسان مطبوع على حب النافع , فإذا اعتقد ذلك؛ سعى بكل
وسعه في تعظيم أهلها , ثم تدرج من تعظيمهم إلى تعظيم قبورهم بالصلاة عندها
والطواف بها وتقبيلها واستلامها ووضع التماثيل عليها , وهي مزينة بأنواع الزينة ,
حتى العمامة للذكر والخمار للأنثى، وبأشياء كثيرة مما كان يفعله عباد الأصنام
لأوثانهم.
إن دعوى استحباب زيارة قبور أهل الخير لأجل التبرك دعوى باطلة , وقول
على الله بغير علم , ولا دليل عليه أصلاً، بل قامت الأدلة على حرمتها، فإن
الأحاديث التي وردت في التحذير من الافتتان بالقبور وأهلها؛ تدل على أن الزيارة
لمجرد التبرك محرمة؛ لأن اعتقاد التبرك ذريعة من أعظم الذرائع المفضية إلى
أكبر الكبائر وهو الشرك , فقد قال ابن القيم في باب سد الذرائع: (ومن تأمل
مصادر الشريعة ومواردها؛ علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم
بأن حرمها) , وقال في موضع آخر: (إن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه
أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر، لهذا تجد كثيرًا من الناس عند القبور
يتضرعون , ويخشعون , ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله , ولا في
أوقات السحر) إلخ.
فهذا هو الدليل على حرمة الزيارة إذا كان الغرض منها التبرك , فما الدليل
على استحبابها؟
إن الأحاديث التي جاءت بشأن زيارة القبور لا تدل على استحباب الزيارة إلا
إذا كان الغرض منها التذكر والاعتبار بالموت وما بعده , ففي حديث مسلم (زوروا
القبور؛ فإنها تذكر الآخرة) , فقد قصر علة الزيارة على تذكرة الآخرة فلم يطلق
بدون ذكر علة , حتى يمكن أن يقال ولو للتبرك , بل قيدها بهذه العلة , واقتصر
عليها , ولم يذكر علة أخرى، وعلى هذا؛ فدعوى استحباب الزيارة لعلة غير التي
ذكرت في الحديث , وزيادة علة لا تشبهها في معناها؛ يعد من الابتداع والتشريع
لما لم يأذن به الله، ويعد افتياتًا على الشارع، بل معارضة لمقاصده من سد الذرائع
المفضية إلى الشرك بالقبور وأهلها , وهذا هو الابتداع بعينه، ومن المصيبة أن
هذه العبارة منشورة في كتاب اسمه (الإبداع في مضار الابتداع) , ويا ليته ابتداع
لم يترتب عليه ضرر؛ بل قد ترتب على هذه الفرية (استحباب الزيارة للتبرك)
من المضار والمفاسد ما لا يحصيه إلا الله.
فجميع أنواع البدع التي تفعل عند قبور الصالحين لا سبب لها إلا الاعتقاد بأن
لهم في برازخهم بركات , وعليهم تنزل الرحمات، وأنهم ينتفعون بتلك البركات
والرحمات، ولذلك تجد عوام الناس , بل وخواصهم لا يقصدون من زيارة قبور
الصالحين إلا هذه الغاية، فهل تجد أحدًا يقصد قبور الصالحين للتذكر والاعتبار
بالموت وما بعده؟ كلا , إنما كانت زيارة القبور عبادة مستحبة؛ لأن الغرض منها
أمر محبوب للشارع مقصود له , وهو التذكر والاعتبار، فكيف تكون الزيارة بقصد
التبرك عبادة مستحبة والغرض منها إنما هو من هوى النفس وحظوظها؟ {إِن
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} (النجم: 23) .
ثم يقال لأهل هذه الضلالة أيضًا: من أين أتاكم أن البركات التي لأهل الخير
في برازخهم , والرحمات التي تنزل عليهم تنال زائريهم؟ والحال أن هذا أمر
غيبي لا يصح أن يقال إلا عن توقيف من الشارع , إذ لا مجال للرأي والعقل فيه ,
ويا ليتهم اقتصروا على هذه الفرية؛ بل رتبوا عليها حكماً شرعيًّا , وقالوا: يستحب
زيارة أهل الخير لما لهم في برازخهم من البركات , وما ينزل عليهم من الرحمات ,
سبحانك هذا بهتان عظيم، وهل تدري أيها القارئ من أين أتت هذه الضلالة ,
وأدخلت في الدين؟ جاءت من الفلاسفة الضالين المضلين التاركين لنصوص
الشريعة معتمدين على عقولهم وآرائهم؛ فضلوا , وأضلوا، فقد قال ابن القيم في
إغاثته: (إن أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة من عباد الأصنام , فإنهم
قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف
من الله تعالى , وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به , وأدناه
منه؛ فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها) .ا. هـ
ثم قال: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي، ثم قال:
وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد , وبناء المساجد عليها ,
وتعليق الستور عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والدعاء بهم , والنذر
لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله قد بعث رسله , وأنزل كتبه بإبطال ذلك ,
وتكفير أصحابه ولعنهم , وهو الذي قصد رسول الله إبطاله , ومحوه بالكلية، وسد
الذرائع المفضية إليه، فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه , وناقضوه في
قصده، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان , وهو شديد التعلق به ,
فما حصل من السلطان من الإنعام والإفضال نال ذلك المتعلق من حصته بحسب
تعلقه به، وبهذا السبب عبد الناس أصحاب القبور.
وقال أيضًا رضي الله عنه: ولا تحسبن أيها المؤمن المنعم عليه باتباع
الصراط المستقيم أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانًا فيه غض من أصحابها ,
وتنقيص لهم، كلا ليس هذا من تنقصهم كما يحسبه الجهال أهل البدع والضلال،
بل هو من تعظيمهم وإكرامهم واحترامهم وسلوك فيما يحبون، واجتناب لما يكرهون،
وأنت - وايم الله - وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم، وأنت على هداهم.
وأما هؤلاء المبتدعون الضالون , فقد نقصوهم في صورة التعظيم، فهم أبعد
الناس من هداهم ومتابعتهم , كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى،
والروافض مع علي. هو من قبيل الصديق الجاهل الذي هو أضر من العدو العاقل،
فأهل الحق أحق بأهل الحق من أهل الباطل , والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء
بعض , والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض , فإن القلوب إذا اشتغلت بالبدع؛
أعرضت عن السنن، ولذلك نجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن
طريقة من كان يتبع السنن ويحييها، مشتغلين بغير ما أمر به ودعا إليه.
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما تكون باتباع ما دعوا إليه من العلم
النافع والعلم الصالح , واقتفاء آثارهم , وسلوك طريقهم دون عبادة قبورهم ,
والعكوف عليها , واتخاذها أوثانًا , فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم
باتباعه لهم، ودعوة الناس إلى اتباعهم، فإن أعرض عما دعوا إليه , واشتغل
بضده، حرم نفسه وإياهم من ذلك الأجر، فأي تعظيم واحترام له في هذا.. انتهى.
هذا وإني كنت أود أن الرد على هذه العبارة المضلة يكون من فضيلتكم؛ لما
هو معلوم من البون الشاسع بين ما أوتيتم من سعة العلم , وما أوتيه مثلي، ولكن
لعلمي بكثرة مشاغلكم الإصلاحية؛ كتبت هذا الذي يسر الله لي , فقد قال تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) , وقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7) , ولكن ما فائدة الكتابة بدون نشر، ومن ينشر مثل
هذا غير مجلتكم المنار مجلة الإصلاح الوحيدة في هذا الزمان، وإني لا أجد من
ينصر هذا الحق ويعينني عليه غيركم , فقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) , وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71) وفقنا الله وإياكم، وبارك لنا فيكم , ونفعنا بعلومكم والسلام عليكم.
... ... ... ... ... ... كاتبه: مصطفى نور الدين بدمياط
(المنار)
إن كتاب الإبداع هذا لم يهد إلينا , وإنما رأينا نسخة منه جيء بها إلى مكتبة
المنار لأجل تجليدها لصاحبها , فنظرنا في فهرسه وبعض أوراقه؛ فسرَّنا أن يؤلف
مدرس في الأزهر كتابًا في مضار الابتداع , وينكر كثيرًا من البدع التي يشارك
الأزهريون فيها العامة , ويتأولون النصوص الدالة على حظرها، ورأينا في النظرة
العجلى القصيرة الزمن بعض مسائل منتقدة , لعل هذه المسألة منها , وأحببنا لو يتاح
لنا تصفح الكتاب كله لبيان منافعه وفوائده , والتنبيه لما ينتقد منه لعله يجتنب
في الطبعة الثانية المرجوة لمثله , ثم لم نره بعد ذلك.
__________(28/625)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ الأستاذ الكبير صاحب الفضيلة الشيخ:
مصطفى نجا - مفتي بيروت
لخلاصة السيرة المحمدية
حضرة الأستاذ العلامة المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرم أدام الله تعالى
توفيقه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد اطلعت على كتاب (خلاصة
السيرة المحمدية) , وتأملت فيه؛ فوجدته من أنفس الكتب التي ألفت لتهذيب نفوس
أولاد المسلمين , وتعليمهم مكارم الأخلاق التي بعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم.
فيا له من كتاب علمنا كيف يكون الاقتداء بإمام المرسلين ورسول رب العالمين
الذي شرف الإنسانية بفضائله وآدابه الصحيحة السامية! ، ولكن أكثر الذين تعلموا
من أولادنا , وتربوا في مدارس الأغيار , وغيرها من المدارس الأهلية التي اقتفت
أثر الغرب في التربية والتعليم لا يعرفون فضل ما جاء به هذا النبي الكريم حق
المعرفة , فإذا ذكر اسمه الشريف لا يصلون عليه , ولا يسلمون لغفلتهم عما يجب
عليهم من تعظيمه , وقلما نرى أحدًا منهم متدينًا حق التدين، وربما كان السبب في
ذلك الآباء والمعلمون , فلأجل المحافظة على عقائدهم الدينية , وتنوير عقولهم
بأنواره عليه الصلاة والسلام؛ أرى من الواجب على نظار المدارس الإسلامية أن
لا يوسدوا أمر التربية والتعليم إلا إلى العالم المتدين الذي يهتم بأمر المسلمين ,
ويعرف طرق التربية الحقيقية , وأن يقرروا كتاب خلاصة السيرة المحمدية
للتدريس في مدارسهم لأنه من أفضل كتب المطالعة التي لها في القلوب أجمل تأثير ,
وشأن عظيم في التربية الروحية والأدبية والاجتماعية، بل هو فريد في بابه،
مفيد لطلابه، رواياته صحيحة، وعباراته فصيحة، والأخذ منه سهل على المعلم
والمتعلم، وهو ذخيرة للناشئين، وتذكرة للمتعلمين، كما قلت أيها الأستاذ الناصر
للسنة السنية الحريص على نفع الأمة.
فلك منا على تأليفه الثناء الجميل , ونرجو الله تعالى أن يمنحك الأجر الجزيل؛
... ... ... ... ... ... ... ... (الختم) مفتي بيروت
__________(28/629)
الكاتب: أحمد شوقي
__________
حفلة التأبين الكبرى
كانت الحفلة الكبرى لتأبين سعد باشا ورثائه أفخم وأعظم وأشجى من كل ما
سبقها من أمثالها كسائر مظاهر إجلال الرجل حيًّا وميتًا , وقد خطب فيها أعظم
رجال مصر من الوزراء والشيوخ والنواب وغيرهم , وأنشدت القصائد لأشعر
الشعراء كما أشرنا إليه في فصل ترجمة الفقيد، وإننا ننشر في هذا الجزء مرثية
أحمد شوقي بك أمير الشعراء , وسننشر من بعدُ بعضَ الخطب الجليلة؛ حتى لا
يحرم قراء المنار من أبلغ ما قاله أفصح العرب في هذا العصر في نابغة العرب في
السياسة والفصاحة العربية , وهي هذه:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الشرق عليها فبكاها
ليتني في الركب لما أفلت ... يوشع همت فنادى فثناها
جلل الصبحَ سوادًا يومها ... فكأن الأرض لم تخلع دجاها
انظروا تلقوا عليها شفقًا ... من جراحات الضحايا ودماها
وتروا بين يديها عبرة ... من شهيد يقطر الورد شذاها
آذن الحق ضحاياه بها ... ويحه! ! حتى إلى الموتى نعاها
كفنوها حرة علوية ... كست الموت جلالاً وكساها
ليس في أكفانها إلا الهدى ... لُحْمة الأكفان حق وسَداها
خَطَرَ النعشُ على الأرض بها ... يحسر الأبصار في النعش سناها
جاءها الحق ومن عاداتها ... تؤثر الحق سبيلاً واتجاها
ما درت مصر بدفن صُبحت؟ ... أم على البعث أفاقت من كراها
صرخت تحسبها بنت الشَّرى ... طلبت من مخلب الموت أباها
وكأن الناس لما نسلوا ... شعب السيل طغت في ملتقاها
وضعوا الراح على النعش كما ... يلمسون الركن فارتدت نزاها
خفضوا في يوم سعد هامهم ... وبسعد رفعوا أمس الجباها
سائلوا (زحلة) [1] عن إعراسها ... هل مشى الناعي عليها فمحاها
عطل المصطاف من سماره ... وجلا عن ضفة الوادي دماها
فتح الأبواب ليلاً ديرُها ... وإلى الناقوس قامت بيعتاها
صدع البرق الدجى تنشره ... أرض سوريا وتطويه سماها
يحمل الأنباء تسري موهنًا ... كعوادي الثكل في حر سراها
عرض الشك لها فاضطربت ... تطأ الآذان همسًا والشفاها
قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم ... كل نفس في وريديها رداها
قلت والنعش بسعد مائل ... فيه آمال بلاد ومناها
كلما أمعن في نقلته ... ضجت الأرض على قطب رحاها
يا عدو القيد لم يلمح له ... شبحًا في خطة إلا أباها
لا يضق ذرعك بالقيد الذي ... حز في سوق الأوالي وبراها
وقع الرسل عليه والتوت ... أرجل الأحرار فيه فعفاها
يا رفاتًا مثل ريحان الضحى ... كللت عدن بها هام رباها
وبقايا هيكل من كرم ... وحياة أترع الأرض حياها
ودع العدل بها أعلامه ... وبكت أنظمة الشورى صُواها
حضنت نعشك والتفت به ... راية كنت من الذل فداها
ضمت الصدر الذي قد ضمها ... وتلقى السهم عنها فوقاها
عجبي منها ومن قائدها ... كيف يحمي الأعزلُ الشيخُ حماها
منبر الوادي ذوت أعواده ... من أواسيها وجفت من ذراها
من رمى الفارس عن صهوتها ... ودها الفصحى بما ألجم فاها
قَدَرٌ بالمدن ألوى والقرى ... ودها الأجيال منه ما دهاها
غال (بسطورا) وأردى عصبة ... لمست جرثومة الموت يداها
طافت الكأس بساقي أمة ... من رحيق الوطنيات سقاها
عطلت آذانها من وتر ... ساحر رن مليا فشجاها
أرغنٌ هام به وجدانها ... وأَذانٌ عشقته أُذُناها
كل يوم خطبة روحية ... كالمزامير وأنغام لغاها
دلهت مصرًا ولو أن بها ... فلوات دلهت وحش فلاها
ذائد الحق وحامي حوضه ... أنفذت فيه المقادير مناها
أخذت سعدًا من (البيت) يد ... تأخذ الآساد من أصل شراها
لو أصابت غير ذي روح لما ... سلمت منها الثريا وسُهَاها [2]
تتحدى الطب في قفازها ... علة الدهر التي أعيا دواها
من وراء الإذْن نالت ضيغمًا ... لم ينل أقرانه إلا وجاها
لم تصارح أصرح الناس يدًا ... ولسانًا ورقادًا وانتباها
هذه الأعواد من آدم لم ... يهد خفاها ولم يعر مطاها
نقلت (خوفو) ومالت (بمنا) ... لم يَفُتْ حيًّا نصيب من خطاها
تخلط العمرين شيبًا وصبًا ... والحياتين شقاءً ورفاها
زورق في الدمع يطفوا أبدًا ... عرف الضفة إلا ما تلاها
تهلع الثكلى على آثاره ... فإذا خف بها يومًا شفاها
تسكب الدمع على سعد دمًا ... أمة من صخرة الحق بناها
من ليان هو في ينبوعها ... وإباء هو في صم صفاها
لقن الحق عليه كهلها ... واستقى الإيمان بالحق فتاها
بذلت مالاً وأمنًا ودما ... وعلى قائدها ألقت رجاها
حملته ذمة أوفى بها ... وابتلته بحقوق فقضاها
ابن سبعين تلقى دونها ... غربة الأسر ووعثاء نواها
سفر من عدن الأرض إلى ... منزل أقرب منه قطباها
قاهر ألقى به في صخرة ... دفع النسر إليها فأواها
كرهت منزلها في تاجه ... درة في البحر والبر نفاها
اسألوها واسألوا شانئها ... لِمَ لَمْ ينف من الدر سواها
ولد الثورة سعد حرة ... بحياتي ما جدٌّ حُرٌّ نماها
ما تمنى غيرها نسلاً ومن ... يلد الزهراء يزهد في سواها
سالت الغابة من أشبالها ... بين عينيه وماجت بلباها
بارك الله له في فرعها ... وقضى الخير لمصر في جناها
أو لم يكتب لها دستورها ... بالدم الحر ويرفع منتداها
قد كتبناها فكانت صورة ... صدرها حق وحق منتهاها
رقد الثائر إلا ثورة ... في سبيل الحق لم تخمد جذاها
قد تولاها صبيًّا فكوت ... راحتيه وفتيا فرعاها
جال فيها قلمًا مستنهضًا ... ولسانًا كلما أعيت حداها
ورمى بالنفس في بركانها ... فتلقى أول الناس لظاها
أعلمتم بعد موسى من يد ... قذفت في وجه فرعون عصاها
وطئت ناديَه صارخة: ... شاهَ وجهُ الرق يا قوم وشاها
ظفرت بالكبر من مستكبر ... ظافر الأيام منصورًا لواها
القنا الصم نشاوى حوله ... وسيوف الهند لم تصح ظباها
أين من عيني نفس حرة ... كنت بالأمس بعيني أراها
كلما أقبلت هزت نفسها ... وتواصى بشرها بي ونداها
وجرى الماضي فماذا ادكرت ... وادكار النفس شيء من وفاها
ألمح الأيام فيها وأرى ... من وراء السن تمثال صباها
لست أدري حين تندى نضرة ... علت الشيب أم الشيب علاها؟
حلت السبعون في هيكلها ... فتداعى وهي موفور بناها
روعة النادي إذا جدت فإن ... مزحت لم يذهب المزح بهاها
يظفر العذر بأقصى سخطها ... وينال الود غايات رضاها
ولها صبر على حسادها ... يشبه الصفح وحلم عن عداها
لست أنسى صفحة ضاحكة ... تأخذ النفس وتجري في هواها
وحديثًا كروايات الهوى ... جد للصب حنين فرواها
وقناة صعدة لو وهبت ... للسماك الأعزل اختال وتاها
أين مني قلم كنت إذا ... سمته أن يرثي الشمس رثاها
خانني في يوم سعد وجرى ... في المراثي فكبا دون مداها
في نعيم الله نفس أوتيت ... أنعم الدنيا فلم تنس تقاها
لا الحجى لما تناهى غَرَّهَا ... بالمقادير ولا العلم زهاها
ذهبت أوابة مؤمنة ... خالصًا من حيرة الشك هداها
آنست خلقًا ضعيفًا ورأت ... من وراء العالم الفاني إلها
ما دعاها الحق إلا سارعت ... ليته يوم (وصيف) ما دعاها
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) زحلة بلدة في جبل لبنان كان الشاعر مصطافًا فيها.
(2) المنار: السُّهَا بالضم كوكب صغير خفي يراه حديد البصر بجانب الكوكب الأوسط من بنات نعش فهو ليس من كواكب الثريا؛ ولكن فيها مثله , ولذلك يعدها بعض الناس ستًّا وبعضهم سبعًا.(28/630)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
شعر في وصفة طبية قديمة
جواب عن سؤال
مقتبسة من كتاب أطباء العرب في ألمانيا الذي يشتغل بتأليفه الدكتور زكي
كرام.
شكا الوزير أبو طالب العلوي آثار بثر بَدَا على جبهته , ونظم شكواه شعرًا ,
وأنفذه إلى الشيخ الرئيس (ابن سينا) وهو:
صنيعة الشيخ مولانا وصاحبه ... وغرس إنعامه بل نشء نعمته
يشكو إليه أدام الله مدته ... آثار بثر تبدى فوق جبهته
فامنن عليه بحسم الداء مغتنمًا ... شكر النبي له مع شكر عترته
فأجاب الشيخ الرئيس عن أبياته ووصف في جوابه ما كان به برؤه , فقال:
الله يشفي وينفي ما بجبهته ... من الأذى ويعافيه برحمته
أما العلاج فإسهال يقدمه ... ختمت آخر أبياتي بنسخته
وليرسل العلق المصاص يرشف من ... دم القذال ويغني عن حجامته
واللحم يهجره إلا الخفيف ولا ... يدني إليه شرابًا من مدامته
والوجه يطليه ماء الورد معتصرًا ... فيه الخلاف مدافًا وقت هجعته
ولا يضيق منه الزر مختنقًا ... ولا يصيحن أيضًا عند سخطته
هذا العلاج ومن يعمل به سيرى ... آثار خير ويكفى أمر علته
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ز. ك
__________(28/634)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
(بلادنا المصرية)
فقدت هذه البلاد بموت زعيمها الأكبر سعد باشا زغلول ركن نهضتها، وسياج
وحدتها، وروح قوتها، ومناط آمالها في نيل الاستقلال التام المطلق، وأثبت لها ما
قالته الجرائد البريطانية فيه بعد موته أنها غير مخطئة في آمالها فيه وتعلقها به،
ولكنه قد مهد السبيل قبل وفاته للسياسي المحنك عبد الخالق ثروت باشا رئيس
الوزارة الائتلافية، للاتفاق مع الحكومة البريطانية على حد عقد الخلاف بمعاهدة
بين المملكتين، فإذا أمكن لرجال الوفد وسائر الأحزاب المحافظة على وحدة البلاد
واتفاق كلمتها بنظام حكيم يؤدي وظيفة الزعيم في ذلك؛ فإن البلاد تنال بذلك ما كان
مرجوًّا لها بوجوده أو ما يقرب منه , وإلا تعذر الاتفاق بين الدولتين , وعاد الجهاد
إلى ما كان عليه، فالفرصة الآن سانحة للفريقين بهذا وبحرص الدولة البريطانية
على تسوية المشاكل بينها وبين الشعوب الشرقية لئلا تفاجئها الحرب البلشفية العامة
الآتية، وهذه الشعوب على عداوتها؛ فيتعذر عليها الاستفادة منها كالحرب التي
قبلها أو الأمن من قيامها عليها وانتقامها منها.
***
(الشعب التركي)
كنا نعلن أن مصطفى باشا كمال يشنأ الإسلام , ويمقته من قبل أن يظهر ذلك،
ونعلم أن ملاحدة الترك الموافقين له على السعي لتحويل الشعب التركي عن
الإسلام بغضًا فيه , وفي العرب قوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرون،
وكنا نتمنى قبل تأليفه للجمهورية اللادينية لو يظل هو وأركان حزبه يظهرون الإسلام
ويحافظون على اسمه وشعائره الظاهرة , ولا يعلنون عداوته مراعاة للشعب التركي
فأبوا إلا أن يهدموا كل ما بقي للدولة فيه من مظهر وشعيرة وحكم وعمل وعلم،
بعد أن وضعوا في قانون الجمهورية أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، فلم نشك
وقد رأينا ما رأينا من هدمهم للإسلام من الدولة , ثم محاولة هدمه في الأمة أن هذا
اللقب قد وضع تقية لئلا يكون لمفاجأة الأمة بترك دينها اسمًا ومعنى تأثير تخشى
غائلته، وقد صرح مصطفى كمال باشا نفسه أخيرًا بعد أن صرح مرارًا بأن التركي
حر في اختيار الدين الذي يعجبه وثنيًّا كان أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولعمري إنه ليس
حرًّا في أن يكون مسلمًا , فإنه يجبر إجبارًا على استباحة شرائع الإسلام من حلال
وحرام.
إن الحكومة الكمالية الشخصية العسكرية (الدكتاتورية) قد خصصت زهاء
نصف ميزانيتها للمصالح العسكرية وما يتعلق بها من حفظ الأمن في البلاد , وهي
في حال السلم , فمزقت شمل المعارضة التي قام بها الزعماء المسلمون , وكذلك
الثورات المتتابعة , ولما لم يبق في المملكة صوت يرتفع صرح مصطفى كمال باشا
بأن وضع اسم الإسلام في قانون جمهوريته كان مؤقتاً , وقد حان الوقت.
ومن أعجب أمر انتكاس المسلمين في دينهم وعقولهم أن أكثرهم لم يكونوا
يصدقون أن مصطفى كمال باشا قد انتزع الدولة التركية من حظيرة الإسلام , وأنه
يحاول انتزاع الشعب التركي منها، فإن منهم من سمى إلغاءه للأحكام الشرعية
ومحاكمها توحيدًا للمحاكم لا ينافي الإسلام - وسمى منعه للتعليم الإسلامي وإبطاله
لمدارسه توحيدًا للتعليم التركي لا ينافي الإسلام , وسمى تفضيله للقوانين الأوربية
المسيحية الأساس كقانون سويسرة للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث إيثارًا
للأحكام المدنية الجديدة على الأحكام الدينية القديمة الرثة البالية كما يقول هو وحزبه.
ولم يصرحوا بهذا إلا بعد أن صرح به كبراء الدولة الجديدة من الحكام
وأصحاب الجرائد، فكل ما ذكر لم يمنع بعض مسلمي الهند من إرسال وفد له
يعرض عليه منصب الخلافة الإسلامية؛ فرده خائبًا خاسرًا كما يستحق.! ! !
وقد بلغنا رواية عن بعض كبراء الترك في أوربة ونحن فيها منذ بضع سنين أن
مصطفى كمال باشا يرجح تنصير الشعب التركي , ولكنه يود أن يأخذ ثمنًا على ذلك
من الدولة البريطانية هو أن تعامل الشعب التركي معاملة الأقران والأمثال،
وتحالفه محالفة الأنداد والأقتال، وكان يرجو هذا بإلغاء الخلافة وإعلان اللادينية؛
فعز المنال.
من أشهر الكتاب الذين كانوا يغشون المسلمين بهؤلاء الملاحدة عمر رضا
أفندي المصري الأصل المقيم في الآستانة الذي كان يراسل جريدة الأخبار المصرية
الإسلامية قبل أن يصير أمر الحكومة التركية إلى هذا الحد من إظهار الكفر وعداوة
الإسلام , فلما برح الخفاء استبدل جريدة السياسة المؤيدة لنزعة الترك الإلحادية
بجريدة الأخبار الإسلامية التي صارت مناوئة ومقاومة لهم.
كتب الأمير شكيب أرسلان مقالات في إظهار خفايا شنآن الحكومة التركية
الجديدة للإسلام وللعرب نشرتها جريدة الأخبار , فتولى الرد عليها عمر رضا أفندي
هذا وبعض أصحاب الجرائد التركية، ثم شايعتهم جريدة السياسة في مصر، ولم
يرد له أحد حجته، ولا نقض له قضيته، وإنما جادلوا وماروا بالباطل , وزعموا
أنه ليس له حق في الدفاع عن الإسلام لأنه من طائفة الدروز! !
ولا عجز أظهر من عجز من يحاول دفع حجة خصمه بأنه ليس أهلاً لإيرادها
بسبب نسبه أو زعامته وزعامة بيته لطائفة كذا - فأي علاقة بين المباحث العلمية
والشرعية والتاريخية , وبين كون الباحث زعيمًا لطائفة من الناس لا علاقة لهم
بموضوع بحثه إلا أن تكون موافقته على الانتصار للإسلام، وتأييده في جهاد الكفر
والإلحاد؟
طائفة الدروز من الشيعة الباطنية الذين انشقت عصا الخلافة بينهم وبين أهل
السنة في القرون البائدة؛ فكانوا طرائق قددًا , منها جمعيات سرية ألبست لباس
الدين لجعل صلتها برؤسائها تعبدية لا مجال للرأي فيها وهم من صميم الأمة العربية
ولبابها , لا يعرف أكثر أفرادها من تلك التعاليم الباطنية شيئًا، والذين تعلموا
التاريخ من رجالها قد عرفوا أن تلك التعاليم كانت مكرًا من مجوس الفرس بالعرب
ليفرقوا كلمتهم، ويضعفوا شوكتهم؛ ليزول ملكهم، ويتقلص ظلهم عن بلاد فارس
فيعود لها ملكها التليد، ولذلك يسعى هؤلاء العلماء إلى رد من بقي من طائفتهم
محافظًا على تلك التعاليم الباطنية إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وقد استشارني
كثيرون من نابغي شبانهم في هذا، على أن الذين لا يزالون يعرفون تلك التعاليم
السرية أفراد من الطائفة يسمون رجال العقل ويشترط في اطلاعهم عليها استمساكهم
بكثير من الفضائل والآداب التي يقل في الناس من يحافظ عليها.
وباقي أفراد الطائفة لا يعرفونها فهم لا يعدون دروزًا إلا بالنسب، ككثير من
المنتسبين إلى السنة وهم على بدع بعضها شرك صريح بالله، وبعضها من كبائر
المعاصي , ومنهم الذين عرفوا مذهب السنة واعتصموا به.
وأما الأمير شكيب نفسه فهو من أنبغ مريدي الأستاذ الإمام الذين تلقوا عنه
عقائد السنة السلفية وحكمتها العالية في بيروت حيث ألف رسالة التوحيد التي لم
يؤلف مثلها في الإسلام، فكان بهذا من أنصار الإسلام والسنة لا من آحاد المسلمين
أو عوامهم، وقد قال له السيد جمال الدين حكيم الملة: حيا الله أرض إسلام أنبتتك.
وقد كان يصلي معي في فنادق أوربة أيام صحبته لي فيها، فيا ليت لهؤلاء
الذين عَرَّضُوا بدينه أو مذهبه بعض ما هو عليه من العلم الصحيح بالإسلام والعمل
به، دع الدفاع عنه والنضال دونه.
ولما كان الانتقاد في فوضى هذا العصر القلمية كالحمارة العرجاء يركبها كل
ضعيف؛ رأينا في بعض الجرائد انتقادات لغوية وشرعية على بعض عبارات
للأمير شكيب في بعض مقالاته , كان المنتقدون له فيها هم المخطئين , حتى في
مسألة المصالح المرسلة ويسر الشريعة التي كانت عبارته فيها غير محررة على
الاصطلاح الإسلامي الفقهي , ولم نفرغ يومئذ لتحقيق الحق فيها.
***
(الشعب السوري والثورة)
لكل مظهر من مظاهر الاجتماع البشري ظاهر وباطن، ولا سيما الثورات
والحروب فإنها كثيرًا ما تخفي حقيقتها وحقيقة رجالها زمنًا طويلاً إن لم يكن دائمًا.
وقعت الثورة السورية فعمل فيها بعض الناس اختيارًا، واضطر بعضهم إلى
الدخول فيها اضطرارًا، وكان هَمُّ بعض هؤلاء استغلالها والربح منها، وشاركهم
في هذه القصد آخرون ممن يشتغلون بالسياسة السورية حيثما وجدوا سواء كانوا في
داخل البلاد أو في خارجها، ومن طلاب الربح من يطلب المال، ومنهم من يطلب
الجاه كالزعامة والرياسة وكثرة الأتباع والأنصار.
وكان من أكبر جنايات هؤلاء المرائين أنهم أحدثوا شقاقًا في الأمة بطعن
بعضهم في الرجال الذين كانوا يتولون إيصال الإعانات إلى أهلها، لأنهم لم
يستطيعوا إرضاء طمعهم وإشباع نهمتهم، ومن دلائل سوء نيتهم وفساد طويتهم
استعانتهم على فعلتهم ببعض الجرائد المستأجرة للمستعمرين خصومهم، ومن
جرائمهم أنهم كتبوا إلى كرام المهاجرين الذين في البلاد الأميركانية مكتوبات تثبط
عزيمتهم وتقبض أيديهم عن إعانة المنكوبين في هذه الثورة، ولا سيما أباة الضيم
الذين أَبَوْا التسليم المخزي وأووا إلى حدود نجد يعتصمون فيها بعد أن أخرجتهم
حكومة الأمير عبد الله بن حسين الهاشمي من أرض الشرق العربي بأمر سادته
الإنكليز.
ولم يكتف هؤلاء بهذه الجريمة، بل ارتكبوا جريمة شرًّا منها أو مثلها , وهي
الوشاية باللاجئين إلى حدود نجد وبمن يخدمونهم ويسعون لسد رمقهم , فقد كتبوا إلى
جلالة ملك الحجاز ونجد من الطعن الكاذب في إخوانهم ما لا يرضاه لنفسه إلا
الشيطان الرجيم عدو البشر.
ثم دبت عقاربهم إلى اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني التي كانت
منذ أسست موضع إجلال جميع السوريين وثنائهم، فاحتلوا مكتبها وناديها وجعلوه
مركزًا لجميع ما تقدم ذكره آنفًا من الفساد والفتن، حتى اضطر أكثر الأعضاء إلى
هجر ذلك المكتب والاشتغال في مكان آخر - وقد بذلت كل ما استطعت من جهد
لتلافي ذلك فما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وقد سعى بعض فضلاء الإخوان هنا لما
عجزت عنه , ولا أزيد الآن على ما ذكرت إلا إذا خاب سعيهم.
ولكن من المحزن أن يلجأ من رفعه سادة المسلمين وكبراؤهم , ووضعوه فوق
رؤوسهم إلَى الاستعانة على مقاومتهم برجال الكنيسة ومتعصبي الدين والسياسة؛
لينصروه باسم النصرانية على المسلمين، ويزعم هو وهم أنهم نبذوه لأجل دينه،
فهل كان حين رفعوه مسلمًا أو " ما عدا مما بدا "؟
نفاق وشقاق، وخلف وافتراق , وقر لا يطاق، وبيوت مخربة، وقرى مهدمة،
ومزارع مستأصلة، وهجرة من البلاد متصلة، وذل وعبودية، وشكوى عامة من
الحالة الاقتصادية، وتخبط في التصرفات السياسية - كل هذا بعض ما تئن منه
سورية، وكل هذا وأكثر منه لم يصرف بعض شبان أم الوطن (دمشق) وشوابها
عن فتنة التفرنج، القاتلة للتدين، والتعرب، المزينة باسم التجدد.
فأما الشبان فيريدون تزيين رءوسهم بالبرنيطة ليكونوا كبعض محرري جريدة
السياسة المصرية والهلال المصري مجددين، فإن كانوا لا يعلمون من هذا التجديد
أو التجدد إلا لبس البريطانية لسهولته، وخفة مؤنته، والسبق إلى التميز عن الجمهور
به، فليعلموا أن من أساتذتهم في مصر من يدعو جهرًا إلى ترك الدين - كل دين ألبتة،
ومنهم من يدعو إلى ترك الجنسية النسبية، وقطع الرابطة الوطنية، والتجنس
بجنسية أوربية، فإن كانوا كذلك فما عليهم إلا أن يتجنسوا بالجنسية الفرنسية مباشرة
كما يقول المثل الذي يكثر من ضربه أبو حامد الغزالي: (كن يهوديًّا صرفًا وإلا فلا
تلعب بالتوراة) , وإلا فلبس البرنيطة وحدها لا تفيدهم علمًا ولا عملاً، ولا عزًّا، ولا
شرفًا، وأقل ما فيها من الضرر إيجاد شقاق وتفرق جديد في بعض مشخصات أمتهم
وهو إضعاف لها، وقطع لصلتهم بها وكذلك يصبحون بغير أمة ولا ملة.
وأما الشواب فقد طلبت زعنفة منهن إذن الحكومات لهن بأن يبرزن في
الشوارع والأسواق سافرات الوجوه، عاريات الصدور، حاسرات عن الذراعين
والعضدين، كاشفات عن الساقين والركبتين، أو كما ورد في الحديث في صفة
بعض أهل النار: (ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة
البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) فهل رأى هؤلاء أن العهر قد رث
وخلق؛ فهن يردن تجديده بتقليد عواهر الغرب؛ ليكون أشهر وأعم انتشارًا؟ فإن
لم يكن عندهم بقية من الدين وشرف العرض كما هو الظاهر، أفليس لهن شعور
بأن لهن أمة محتاجة إلى تجديد مجدها الذي كان فوق كل مجد في الأرض! وبأن
لهن وطنًا محتاجًا إلى تجديده بالعمران، بعد أن خربته أحداث الزمان، أَوَ لا يوجد
من أهلهن من يخبرهن بأن تجديد الأمم والأوطان إنما يكون بالجهاد في تحصيل
الثروة والقوة بالعلم والفن والصناعة والزراعة والتجارة - وأن الترف والسرف في
التورن والتنوق والتطرز والتطرس مدعاة للفسق والفجور المخرب للعمران لا
المجدد له؟ وهذه قضية متفق عليها بين علماء الشرق والغرب لم يختلف فيها أحد ,
وإن ظن الجاهل الناظر لظواهر ترف الإفرنج خلاف ذلك، وقد بينا شبهة هؤلاء
الجاهلين وفندناها في المنار مرارًا.
__________(28/635)
جمادى الأولى - 1346هـ
نوفمبر - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سمت القبلة
وأدلتها وأقواها بيت الإبرة والقطب الشمالي
(س25) من صاحب الإمضاء في أسريجه - منوفية مصر.
حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا أطال الله حياته
السلام عليكم ورحمة الله , وبعد عهدناك نصيرًا للشريعة عاملاً على توضيح
ما يَدْلَهِمّ علينا منها؛ لذا طرقنا باب فضيلتكم لنستنير برأيكم في موضوع تجادلنا فيه ,
ولم يقتنع كل منا بأقوال أخيه , نرجو التكرم بإثبات الحقيقة ولكم الأجر والثواب.
يا صاحب الفضيلة قال بعضنا: إن البوصلة (بيت الإبرة) هي العلامة
الوحيدة لقبلة الصلاة لأن عقربها لا يقف إلا مقابلاً لبناء الكعبة , فراجعه البعض
الآخر قائلاً: إن البوصلة ما وضعت إلا لمعرفة الجهات الأربع (الشمال ,
والجنوب , والشرق , والغرب) وبها يهتدي الملاحون والطيارون إلى الجهات التي
يقصدونها.
وعلامة القبلة: هي قطب السماء مستدلاًّ على ذلك بقول سادتنا العلماء في
كتب الفقه (شعرًا) :
قطب السما اجعل حذو أذن يسرى ... بمصر والعراق حذو الأخرى
والشأم خلفًا وأمامًا باليمن ... مواجهًا تكن بذا مستقبلن
وفسر الحذو أن يجعل القطب مقابلاً لثقب الأذن اليسرى.
فقال البعض الأول: إن معنى الحذو أن يكون القطب خلف الأذن لا مقابلاً لها،
وقال أيضًا: إن كتب الفقه محرفة , وكل واقف للصلاة في محراب المساجد كلها
حتى محراب الجامع الأزهر يجعل القطب خلف أذنه اليسرى لا مقابلاً لها , ثم قال:
إنه لا يصح مخالفة محراب المساجد , ولو تبين له بالدليل الشرعي أنه منحرف
انحرافًا كبيرًا , ثم قال: إنه لو قال كائن من كان بخلاف ذلك يكون كاذبًا ولا يصح
الاقتداء به.
لذا نرجو التكرم علينا بشرح أقوال الطرفين شرحًا وافيًا؛ حتى يتبين لنا
الحق فنتبعه , وهل الذي يجعل القطب خلف أذنه بمصر عامدًا متعمدًا صلاته
صحيحة أم لا؟ جعلكم الله مصباحًا نستضيء به في ظلمات الشبهات.
وتفضلوا يا صاحب الفضيلة بقول احتراماتنا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مرسي سيف
... ... ... ... ... ... ... ... ... بأسريجة - منوفية
(ج) إن بيت الإبرة تقف إبرته المشابهة لعقرب الساعة وأحد طرفيها متجه
إلى جهة الشمال دائمًا , وهو الطرف الأخضر القصير , والطرف الآخر متجه إلى
جهة الجنوب فيعرف بذلك الشرق والغرب وسائر الجهات غير الأصلية من الخطوط
التي ترسم في قاعدتها , فيستدل بها على القبلة من يعرف موقعها في كل قطر ,
والعلم الخاص بذلك علم تقويم البلدان , ولكن الفقهاء يذكرون ذلك في كتبهم , ومنهم
من ألف في ذلك رسائل مخصوصة، ومن المعلوم المنصوص في الكتب أن الجنوب
قبلة المدينة والشام , والشمال قبلة اليمن وأما قبلة مصر فهي بين الجنوب والشرق،
ويقابلها العراق فقبلتها بين الجنوب والغرب، ويعرف هذا وذاك بخطوط بيت
الإبرة.
وأما نجم القطب الشمالي فهو أضبط الأدلة لمعرفة الجهات لأنه ثابت لا يتغير
موقعه في الشمال، فمن استدبره؛ كان متوجهًا إلى الجنوب , لذلك يجعله أهل الشام
وراء ظهورهم في صلاتهم إلخ.
فعلم من ذلك أن أهل مصر يجعلونه خلف الأذن اليسرى لأن قبلتهم بين
الجنوب والشرق , وحذو الشيء وحذاؤه مقابله وتجاهه لا خلفه , وإنما يكون
القطب حذاء ثقب الأذن اليسرى لمن كانت قبلته جهة الجنوب كأهل المدينة المنورة
وأهل الشام، وكذلك قال الفقهاء في الكتب التي نعرفها، فصواب الشعر الذي
ذكرتموه " خلف أذن يسرى " وإلا فهو خطأ.
وأما المحاريب في البلاد الإسلامية فالمتواتر منها معتمد لا يحتاج فيه إلى
اجتهاد، وليس لأحد فيها رأي، ومنها محراب الجامع الأزهر، ولا يعتد بقول من
يخالف ذلك ولا قول من يقول إن كتب الفقه محرفة - هكذا على الإطلاق - فكثير من
كتب الفقه في غاية الضبط والإتقان، وما يقع في بعضها من تحريف النساخ أو
المطابع فيعرفه الفقهاء، ومنها الأصول المصححة على مصنفيها أو خطوطهم
والمتلقاة بالإجازة والتلقين أحدهما أو كليهما. والله أعلم.
__________(28/657)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعريف الأمراض بالأوهام
وسؤال عن 3 أحاديث
(س26) لصاحب الإمضاء في بيروت.
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي
الأنام ومرجع العلماء الأعلام شيخ الإسلام الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي
راجيًا التكرم بالإجابة عليه خدمة لله تعالى ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم ,
وأطلب إلى سيادتكم أن لا تحيلونا على فتاوى سبقت لكم في مجلدات مجلة المنار
بهذا الشأن لأننا خلو منها , والله تعالى يكلؤكم برعايته , ويمدكم بتوفيقاته ويجزل
لكم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.
ما قولكم دام فضلكم فيمن يتوهم له أنه إذا لبس الثوب الفلاني أو إذا دخل
المنزل الفلاني أو إذا فعل الأمر الفلاني أو إذا قرأ السورة الفلانية أو الآية الفلانية
أو الفائدة الفلانية وغير ذلك يصيبه المرض الفلاني أو المرض الفلاني أو يموت ,
وإذا قرأ أوراده في الصباح والمساء يتوهم أنه لم يقرأ الجملة الفلانية أو لم يبينها أو
يلحن فيها فيكررها المرة بعد المرة , فهل كل ذلك وسوسة شيطانية أم لا؟ وما حكم
الله تعالى ورسوله في ذلك كله؟ وهل لكل ذلك دواء شاف في الشريعة المطهرة أم
لا؟ - وهل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين أم لا وهما
(يس لما قرئت له) وفي رواية أخرى: (يس قلب القرآن) و (خذوا من القرآن ما
شئتم لما شئتم) ؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... السائل: عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت
(ج) للأمراض أسباب ليس منها لبس ثوب معين، أو دخول دار معينة،
أو قراءة آية أو سورة أو ورد ولا تركها، ولكن قد يكون في بعض الثياب أو الدور
أقذار مشتملة على جراثيم بعض الأمراض؛ فيكون لبسها أو دخولها سببًا للمرض
باتصال تلك الجراثيم باللابس أو المقيم في الدار لا لذات الثوب أو الدار- وما عدا
ذلك فأوهام خرافية لا علاج لها إلا العلم الصحيح بالأسباب والمسببات وسنن الله في
صحة الأبدان، ويحكم الشرع بأن هذه الأوهام جهالة ما أنزل الله بها من سلطان ,
وتكرار الآية أو الجملة أو الكلمة من الورد أو غيره لتوهم اللحن أو الترك وسوسة
شيطانية سببها كما قال العلماء قلة العقل أو الجهل بالشرع.
أما حديث: (يس لما قرئت له) فقال الحافظ السخاوي: لا أصل لهذا اللفظ ,
ولكن حديث (يس قلب القرآن) مروي وله تتمة , ولكنه ليس بصحيح , وأما حديث
(خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم) فلم أره في شيء من كتب الحديث.
__________(28/659)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاعتماد على كتب ابن تيمية والطاعن فيه
(س27) من صاحب الإمضاء في زنجبار
ما قولكم فيمن اعتقد وصرح بأن من يعتمد على كتب ابن تيمية الإمام
المشهور لا يؤخذ قوله ولا يجوز العمل بأقواله ولا أن يولى القضاء ولا الشهادة؟
بحجة أنه خرق الإجماع في ستين مسألة في مذهب أهل السنة والجماعة
محمد عبد الله قرنح
(ج) إن من اعتقد ما ذكر جاهل بالشرع مقلد لأمثاله من العوام المقلدين ,
فإن كان يعني بالاعتماد على كتب ابن تيمية تقليده في كل ما يراه فيها , فحكم مقلده
فيها حكم مقلد غيره من علماء المسلمين , ومنهم أئمة الفقه المشهورون , دع من
دونهم من مقلديهم , وقد بينا ذلك مرارًا بالتفصيل تارة وبالإجمال أخرى , وآخر ما
نشرناه في ذلك وفي بيان مكان ابن تيمية وكتبه ما رآه السائل في باب الفتاوى من
الجزء السادس من هذا المجلد وهو يغنينا عن الإطالة هنا.
إلا أننا نزيد عليه أن جميع أئمة الشرع يقولون بأن شرط من يولى القضاء أن
يكون مجتهدًا في الشرع، ومن قال: يصح تولية المقلد القضاء اشترط فيه عدم
وجود المجتهد الصالح للقضاء، وقالوا: إنه يُسْتَفْتَى في الوقائع غير المنصوصة ,
وهم يشترطون الاجتهاد في المفتي.
وأمثال هؤلاء ينتفعون بكتب ابن تيمية أكثر من انتفاعهم بكتب سائر فقهاء
المذاهب لأنه يذكر المسائل بأدلتها ويرجح بينها بدون التعصب لمذهب أو إمام،
وأمثال هؤلاء يعرفون ما عساه يخالف الإجماع من أقواله إن وجد كما ادعى بعض
المتعصبين عليه ممن لا يبلغون رتبة أوسط تلاميذه.
وأما الشهادة فشرطها العدالة ولا دخل فيها لكتب ابن تيمية ولا غيره.
__________(28/660)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
افتراء عقائد في عالم الغيب
وحياة الرسول فيه وجعله عقيدة
وتكفير من لا يتبع مبتدعها فيها
(ومنه) هل يجب على المؤمن أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم حي
في قبره حياة دنيوية، وأنه يتمشى في الكون على ما يشاء وأن ذاته الشريفة تحضر
في المجلس الذي تقرأ فيه قصة مولده صلى الله عليه وسلم وبالأخص البرزنجي،
وأن من لم يعتقد كل ذلك يخرج من دائرة الإسلام , ويفسخ نكاح زوجته ومأواه النار
والعياذ بالله؟ وألتمس من حضرتكم فتوى يطمئن بها الخاطر وينشرح الصدر حجة
لنا لا علينا , ودمتم محفوظين بالعناية الإلهية آمين والسلام.
(ج) ليس لأحد من خلق الله أن يوجب على أحد من عباده عقيدة ليس فيها
نص قطعي في كتاب الله أو سنة رسوله , وأجمع عليها أهل الصدر الأول، فإن
العقائد لا يقبل فيها دليل القياس عند من يقولون إنه حجة في الشرع دع من
يرفضون الاحتجاج به مطلقًا , أو فيما عدا المنصوص على علة الحكم فيه، وذلك
لأنه عند المحتجين به دليل ظني خاص بالأحكام العملية , والتحقيق أنه خاص فيما
دون التعبديات منها، والله تعالى يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) , وأجمعوا على أن أمور الغيب تؤخذ من نصوص الشارع القطعية ,
ولا يقاس عليها , ولا يحتاج فيها إلى القياس؛ لأنها من أصول الدين والله تعالى
يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فإذا تذكرت هذه القواعد
القطعية علمت أن من أوجبوا على المؤمن أن يعتقد ما ذكر في السؤال , وكفروه
بعدم قبول زعمهم ضالون مضلون قد كذبوا على الله ورسوله وشرعه , ويصدق
عليهم قوله تعالى في أصول المحرمات والكفر: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) ومكذبون لقوله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ومخالفون لإجماع المسلمين، فهم أجدر بالكفر والخروج من
الملة ممن يكفرونه بعدم تصديق بدعهم في المولد وقصة البرزنجي وغيره ,
والواجب عليهم عند إعلامهم بذلك أن يتوبوا ويجددوا إسلامهم , فإن التشريع الديني
كفر صريح , وصرح بعضهم أنه أشد من الشرك لأن ضرره متعد , كما بيناه في
تفسير سورة الأعراف تبعًا لغيرنا من العلماء , ومنه تكفير المسلمين الذين لا يقبلون
بدعهم , وأئمة أهل السنة لا يكفرون مسلمًا إلا بجحد ما هو مجمع عليه ومعلوم من
الدين بالضرورة لأن غير المعلوم من الدين بالضرورة يعذر منكره بالجهل.
قال صاحب عقيدة الجوهرة:
ومن لمعلومٍ ضرورةً جَحَدَ ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
فكيف يكفر المسلم بإنكار البدع , وإنكارها واجب شرعًا؟ وقراءة قصة المولد
بدعة , ومن أشد فسادها اعتقاد هؤلاء المبتدعة ما ذكرتموه بشأنها , وهو كفر
صريح , وقصة البرزنجي وغيرها فيها مشتملة على أكاذيب أغنى الله خاتم رسله
عنها بما مدحه به في كتابه , وما هدى به من خلقه، وحياته بعد الموت من عالم
الغيب , من قال فيه قولاً من رأيه قياسًا على حياة الدنيا التي انقطعت بموته وإلا لم
يكن ميتًا؛ فهو كاذب مفتر على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومنه ما
ذكرتم في السؤال.
ومن عجيب أمر هؤلاء المبتدعة أنهم يخترعون عقائد للإسلام ليس لها أصل
من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولم يقل بها أحد من الأئمة المجتهدين على أنه لو
قال بها لردها المسلمون عليه.
ثم إنهم يطعنون في كتب الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية لما افتراه عليه
بعض المقلدين بزعمهم أنه خالف الإجماع في بعض مسائل الفروع يَعْنُونَ إجماع
فقهائهم , وهم يجهلون اختلاف الأئمة وعلماء الأصول في حجية هذا النوع من
الإجماع وفي إمكانه أيضًا.
وأشهر المسائل التي زعموا أنه خالف فيها الإجماع مسألة الطلاق الثلاث بلفظ
العدد مرة واحدة , وسترى قيمة زعمهم في الفتوى التالية.
__________(28/661)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طلاق الثلاث بلفظ واحد
(س28) من صاحب الإمضاء بكفر مجر (مصر) .
حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد قلتم في المنار في م28 ج7 ص
12 س 14: (وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يفتي بوقوع الواحدة وكذا تلميذه
العلامة ابن القيم وهذا الذي نعتقده ونختاره) , وحينئذ تكونون أحق من يرجع إليه
في استيضاح عبارتيهما , وقد استدل ابن تيمية على رأيه هذا بحديث رواه الإمام
أحمد بن حنبل في المسند ص2 ج1 من طريق ابن إسحق عن داود بن الحصين
عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة بن عبد يزيد طلق زوجته سهيمة ثلاثًا , فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما تلك واحدة) , وقال: إن هذا الحديث رواه
أبو داود في سننه عن ابن عباس من وجه آخر , ولام أبا داود على طعنه على هذا
الحديث مع جعله رواية أبي داود شاهدًا لرواية الإمام أحمد هذه كما أوضحه في
الجزء الثالث من فتاويه من ص18 إلخ , وقد راجعت سنن أبي داود , فوجدته كما
يتضح لكم في (باب نسخ المراجعة بعد الثلاثة تطليقات) , الثاني أن الذي رواه
من طريق عبد الرازق عن ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة أيضًا
عن ابن عباس أن المطلق هو عبد يزيد أبو ركانة طلق أم ركانة , ونكح امرأة من
مزينة , فعابته؛ فاستحضر النبي صلى الله عليه وسلم أولاده ركانة وغيره وأمر
عبد يزيد فطلق المزنية وراجع له أم ركانة مع قوله له طلقتها ثلاثًا وأن أبا داود
أتبع هذه الرواية بقوله: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن
ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم
أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة فجعلها النبي
صلى الله عليه وسلم واحدة ثم بعد ثلاثة أبواب ترجم (باب في ألبتة) وأتى
بروايات عن نافع بن عجير وعبد الله المذكورين من طريق الإمام الشافعي رضي
الله عنه وغيره، وفيها أن المطلق هو ركانة , وأن طلاقه كان بلفظ ألبتة وأنه حلف
أنه ما أراد إلا واحدة , فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأي شاهد في ذلك
(يقصد ابن تيمية) لحديث الإمام أحمد , وأي رواية رواها أبو داود عن ابن عباس
بما في الحديث من وجه آخر؟ فإن رواية باب نسخ المراجعة بعكس ما ذكر أي أنها
تعتبر معارضة لحديث الإمام أحمد حيث إن الراوي فيهما واحد وهو عكرمة ,
والمروي مختلف فأين أن المطلق ركانة من أن المطلق والده بناء على حادثة زواج
المزنية , فلا سبيل للجمع بين الروايتين بحال كما أنه لا قائل بتعدد الحادثة مطلقًا ,
وكون المطلق ركانة وأن طلاقه كان بلفظ ألبتة , وأنه حلف بعد استحلاف النبي
صلى الله عليه وسلم له على ما أراد بلفظ ألبتة أمر مستفيض بين المحدثين من أنه
حلف ما أراد إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبأي الروايتين نصدق عكرمة؟ وتصديقه في إحداهما يلزم عليه تكذيبه في
الأخرى , فصار المتعين رفض الروايتين.
وليس من غرضنا ذكر كل ما يؤخذ على ابن تيمية في هذه المسألة التي خرج
فيها على الأئمة الأربعة بدون مبالاة , إنما نريد فهم عبارته التي نسب فيها لأبي
داود أحد أصحاب الكتب الستة مراجع المسلمين عكس مراده , بل ما تبرأ منه
صراحة , أما الإمام أحمد فلم يعلق على حديثه بشيء يفيد التبرأ منه أو التمسك به ,
ولكن نقل عنه مجد الدين بن تيمية الكبير في كتابه (منتقى الأخبار) ما يدل على
تبرئه وهو قوله: (كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قال طاوس) يشير
بذلك لرد رواية طاوس عن ابن عباس من أن الطلاق كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق
الثلاث واحدة.
لأنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه بواسطة ثمانية من أشهر أصحابه
القول بلزوم الثلاث , وتأول العلماء أثر طاوس تأويلات كثيرة أصحها أن ذلك كان
في غير المدخول بها كما رواه أبو داود وغيره , وهذا هو المتعين أمام ثلاثة من
أصحاب الكتب الستة جزموا برواية أن ركانة طلق ألبتة وحلف , كما سبق وهم أبو
داود المذكور والترمذي وابن ماجه، وباقي الستة البخاري ومسلم والنسائي لم
يخالفوهم وكما رواه الحاكم وابن حبان وصححه والدرامي المطبوع على هامش
منتقى الأخبار ومثلهم أبو يعلى والبغوي وابن شاهين وابن منده كما نقله الحافظ
ابن حجر في الإصابة في ترجمة يزيد بن ركانة وكذا الدارقطني وغيره , وعلى
ذلك إجماع المحدثين , بل هو قول جميع المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني
... ... ... ... ... ... ... ... بكفر مجر غربية
(ج) إن اضطراب السائل في روايتي عكرمة , وفي فهم كلام الشيخ تقي
الدين بن تيمية لحديث أبي داود وفي رأي جده مجد الدين المخالف لرأيه هو في
المسألة , وما أوهمه أول سؤاله من أن ابن تيمية لم يستدل إلا بهذا الحديث وقوله:
إن البخاري ومسلمًا والنسائي لم يخالفوا أبا داود والترمذي وابن ماجة في حمل
حديث عدم وقوع الطلاق الثلاث باللفظ الواحد على غير المدخول بها من أنهم
يقولون بذلك , وإن كان هذا الإيهام على بطلانه لا ينطبق على قاعدة من القواعد بل
يستلزم الباطل القطعي , وهو أن كل ما رواه راوٍ أو رآه باحث , ولم يكذبه فيه
سائر العلماء يكون ثابتًا عندهم إن ما ذكر كله وما هو أبعد منه عن أبحاث أهل العلم
وأهل العدالة والفهم من دعوى الإجماع في المسألة والتعبير بالخروج على الأئمة
الأربعة مما لا نضيع وقتنا بالبحث فيه لأننا لا نكلف مناقشة أقوال السائلين، ولا
إفهام العوام دلائل المجتهدين، وإنما نتكلم هنا في أصل المسألة لبيان ما اعتمدنا
عليه في اختيارنا لفتوى شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية لكثرة السؤال عنها، ومنه
يعلم أنا نتبع الدليل , ولسنا مقلدين له فيها، فنقول:
إن الحافظ ابن حجر ذا الاطلاع الواسع على كتب الحديث كلها ووجوه
الترجيح بين الروايات فيها، وعلى أقوال أئمة السلف وأئمة الأمصار وأساطين
المفسرين وفقهاء المذاهب المشهورة قد لخص المسألة في فتح الباري، وذكر أشهر
الأقوال فيها حريصًا في ذلك على ترجيح مذاهب الفقهاء الأربعة، فنذكر هذا لأنه
أجمع ما رأيناه لتأييدهم في المسألة، ونقف عليه بما نراه فيه من ضعف وقوة وما
هو إلى الحق أقرب، والقبول أجدر، كما هو شأن طالب الحق بدليله لذاته لا لتقوية
حجة القائل به، فنقول:
قال الحافظ في شرح قول البخاري في صحيحه (باب من جوز الطلاق
الثلاث) ما نصه: (وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجز وقوع
الطلاق الثلاث , فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى , وهي
بإيقاع الثلاث أعم من أن تكون مجموعة أو مفرقة، ويمكن أن يتمسك له بحديث
أبغض الحلال إلى الله الطلاق (, وقد تقدم في أوائل الطلاق، وأخرج سعيد بن
منصور عن أنس أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا؛ أوجع ظهره ,
وسنده صحيح، ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال: لا يقع الطلاق إذا
أوقعها مجموعة للنهي عنه , وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر وطرد بعضهم
ذلك في كل طلاق منهي كطلاق الحائض وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه
مع منع جوازه , واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام مغضبًا فقال:
(أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟) الحديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، لكن
محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له منه سماع وإن
ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده , وأخرج له
عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع , وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا
أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه اهـ.
ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع
من أبيه , وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه
الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أم لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك
وإن لزم , وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض أنه قال لمن
طلق ثلاثًا مجموعة: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وله ألفاظ أخرى نحو هذه
عند عبد الرزاق وغيره، وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال:
كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا , فسكت حتى ظننت
أنه سيردها إليه , فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا
ابن عباس , إن الله قال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاّ} (الطلاق: 2) ,
وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا , عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وأخرج
أبو داود له متابعات عن ابن عباس بنحوه.
ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثًا مجموعة وقعت واحدة
وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي , واحتج بما رواه عن داود بن الحصين
عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس
واحد فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها) ,
قال: ثلاثًا في مجلس واحد , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما تلك واحدة ,
فارتجعها إن شئت فارتجعها) , وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق
محمد بن إسحاق، وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره
من الروايات الآتي ذكرها , وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء:
(أحدها) أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما , وأجيب بأنهم احتجوا
في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد، كحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رد
على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول , وليس كل مختلف فيه
مردودًا [1] .
(الثاني) معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية
مجاهد وغيره , فلا يظن بابن عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخير أخبر من غيره بما
روى , وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه؛ لما يطرق رأيه من احتمال
النسيان وغير ذلك، وأما كونه تمسك بمرجح , فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال
التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل , وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر.
(الثالث) أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة , كما أخرجه هو
من طريق آل بيت ركانة , وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل ألبتة
على الثلاث , فقال: طلقها ثلاثًا , فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس [2] .
(الرابع) أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نقل عن علي وابن
مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في كتاب
الوثائق له وعزاه لمحمد بن وضاح ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة
كمحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهما ونقله ابن المنذر
عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار، ويتعجب من ابن التين
حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه وإنما الاختلاف في التحريم مع ثبوت
الاختلاف كما ترى.
ويقوي حديث ابن اسحق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن
معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث
واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو
أمضيناه عليهم , فأمضاه عليهم، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن
طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل
واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟
قال ابن عباس: نعم، ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن إبراهيم بن ميسرة
عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع
الناس في الطلاق؛ فأجازه عليهم.
وهذه الطريق الأخيرة أخرجها أبو داود , لكن لم يسم إبراهيم بن ميسرة ,
وقال بدله: عن غير واحد، ولفظ المتن: (أما علمت أن الرجل كان إذا طلق
امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ الحديث، فتمسك بهذا السياق من
أعل الحديث , وقال: إنما قال ابن عباس ذلك في غير المدخول بها [3] .
وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث وهي متعددة، وهو جواب إسحاق بن
راهويه وجماعة , وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية , ووجهوه بأن غير
المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق , فإذا قال: ثلاثًا؛ لغا العدد
لوقوعه بعد البينونة , وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثًا كلام متصل غير
منفصل فكيف يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكمًا , وقال النووي: أنت
طالق , معناه أنت ذات الطلاق , وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير
ذلك [4] .
(الجواب الثاني) دعوى شذوذ رواية طاوس، وهي طريقة البيهقي فإنه
ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن
بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا , ويفتي بخلافه، فيتعين
المصير إلى الترجيح , والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم،
وقال ابن العربي: هذا حديث مختلف في صحته , فكيف يقدم على الإجماع [5] ؟
قال: ويعارضه حديث محمود بن لبيد -يعني الذي تقدم - أن النسائي أخرجه ,
فإن فيه التصريح بأن الرجل طلق ثلاثًا مجموعة , ولم يرده النبي صلى الله عليه
وسلم بل أمضاه , كذا قال , وليس في سياق الخبر تعرض لإمضاء ذلك ولا لرده.
(الجواب الثالث) دعوى النسخ فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه
أن يكون ابن عباس علم شيئًا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود
من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا طلق
امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا فنسخ ذلك وقد أنكر المازري ادعاء النسخ ,
فقال: زعم بعضهم أن هذا الحكم منسوخ , وهو غلط , فإن عمر لا ينسخ , ولو
نسخ وحاشاه؛ لبادر الصحابة إلى إنكاره، وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم , فلا يمتنع , لكن يخرج عن ظاهر الحديث لأنه لو كان كذلك
لم يجز للراوي أن يخبر بقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر، فإن
قيل: فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك؛ قلنا: إنما يقبل ذلك لأنه يستدل
بإجماعهم على ناسخ , وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم , فمعاذ الله لأنه إجماع
على الخطأ , وهم معصومون عن ذلك.
فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر؛ قلنا: هذا أيضًا غلط لأنه
يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر , وليس انقراض العصر
شرطًا في صحة الإجماع على الراجح (قلت) : نقل النووي هذا الفصل في شرح
مسلم , وأقره وهو متعقب في مواضع:
(أحدها) أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى
يلزم منه ما ذكر , وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئًا من ذلك نسخ أي اطلع
على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعًا , ولذلك أفتى بخلافه , وقد سلم المازري في
أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
(الثاني) إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب , فإن الذي يحاول الجمع
بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتمًا.
(الثالث) أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضًا لأن المراد
بظهوره انتشاره , وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن
الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ , فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ , وما
أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا لأن عصر الصحابة لم ينقرض
في زمن أبي بكر , بل ولا عمر , فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين , وهم
في زمن أبي بكر وعمر بل وبعدهما طبقة واحدة [6] .
(الجواب الرابع) دعوى الاضطراب قال القرطبي في المفهم: وقع فيه مع
الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه , وظاهر سياقه يقتضي النقل عن
جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك , والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر ,
فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العلم
بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه [7] .
(الجواب الخامس) دعوى أنه ورد في صورة خاصة , فقال ابن سريج
وغيره: يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ كأن يقول: أنت طالق أنت طالق
أنت طالق , وكانوا أولاً على سلامة صدورهم يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد , فلما
كثر الناس في زمن عمر , وكثر فيهم الخداع ونحوه مما يمنع قبول من ادعى التأكيد
حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار , فأمضاه عليهم وهذا الجواب ارتضاه القرطبي ,
وقواه بقول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال
النووي: إن هذا أصح الأجوبة [8] .
(الجواب السادس) تأويل قوله: واحدة , وهو أن معنى قوله: كان الثلاث
واحدة أن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلقون واحدة , فلما كان
زمن عمر كانوا يطلقون ثلاثًا، ومحصله أن المعنى أن الطلاق الموقع في عهد
عمر ثلاثًا كان يوقع قبل ذلك واحدة لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلاً أو كانوا
يستعملونها نادرًا , وأما في عصر عمر , فكثر استعمالهم لها، ومعنى قوله:
(فأمضاه عليهم وأجازه) وغير ذلك أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان
يصنع قبله , ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي وكذا
أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: (معنى هذا الحديث عندي
أن ما تطلقون أنتم ثلاثًا كانوا يطلقون واحدة) ، قال النووي: وعلى هذا فيكون
الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة لا عن الحكم في الواحدة فالله أعلم.
(الجواب السابع) دعوى وقفه، فقال بعضهم: ليس في هذا السياق أن
ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فيقره، والحجة إنما هي في تقريره ,
وتعقب بأن قول الصحابي: كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حكم الرفع على الراجح حملاً على أنه اطلع على ذلك؛ فأقره لتوفر دواعيهم
على السؤال عن جليل الأحكام وحقيرها [9] .
(الجواب الثامن) حمل قوله: (ثلاثًا) على أن المراد بها لفظ ألبتة كما
تقدم في حديث ركانة سواء وهو من رواية ابن عباس أيضًا , وهو قوي , ويؤيده
إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها ألبتة , والأحاديث التي فيها التصريح
بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما , وأن ألبتة إذا أطلقت حمل على الثلاث
إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل , فكأن بعض رواته حمل لفظ ألبتة على الثلاث
لاشتهار التسوية بينهما , فرواها بلفظ الثلاث , وإنما المراد لفظ ألبتة , وكانوا في
العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بألبتة الواحدة , فلما كان عهد عمر أمضى
الثلاث في ظاهر الحكم , قال القرطبي: وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر
ظاهرة جدًّا , وهو أن المطلقة ثلاثًا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجًا غيره , ولا
فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعًا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع
اتفاقًا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة
واحدة؛ انعقد كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه , وكذا في العتق والإقرار وغير
ذلك من الأحكام [10] .
واحتج من قال: (إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة) بأن
من قال: أحلف بالله ثلاثًا , لا يعد حلفه إلا يمينًا واحدة , فليكن المطلق مثله ,
وتعقب باختلاف الصيغتين , فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته , وقد جعل أمد طلاقها
ثلاثًا , فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا , فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق , وأما
الحالف فلا أمد لعدد أيمانه؛ فافترقا [11] .
وفي الجملة؛ فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء
أعني قول جابر: إنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وصدر من خلافة عمر قال: ثم نهانا عمر عنها؛ فانتهينا، فالراجح في الموضعين
تحريم المتعة , وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك , ولا
يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما , وقد دل إجماعهم على وجود
ناسخ , وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر،
فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له , والجمهور على عدم اعتبار من أحدث
الاختلاف بعد الاتفاق والله أعلم.
وقد أطلت في هذا الموضع لالتماس من التمس ذلك مني والله المستعان.
انتهى.
(المنار)
قد علم من هذا التفصيل الذي أورده الحافظ أن المسألة كانت لا تزال مشكلة
بتعارض أدلتها إلى عهده في القرن التاسع , وأن بعض كبار العلماء التمسوا منه بيانها
بالتفصيل؛ ففعل، فهي ليست كما توهم السائل مما أجمع عليه المحدثون؛ بل
المسلمون , وأن المخالف فيها هو ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وحدهما، وأن حجتهما
عليها حديث أحمد المذكور، بل هي لولا جريان العلم عليها اتباعًا لعمر رضي الله
تعالى عنه لما اتفق عليها جمهور الفقهاء , وعللوها باحتمال ظهور ناسخ لعمر نسخ ما
كان من العمل بظاهر القرآن , وحديث جعل الطلاق الثلاث باللفظ الواحد طلقة
واحدة، ولما سمى بعضهم ذلك السكوت إجماعًا وتأولوا آية (الطلاق مرتان) بما ينبذه
اللفظ.
***
استدراكنا على الحافظ ابن حجر
ونحن نستدرك على الحافظ بما يحرر المسألة تحريرًا استقلاليًّا لا تعصب
فيه لمذهب على مذهب , ولا لعالم على آخر بالمباحث الآتية:
(الاستدراك الأول) قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة: 229)
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثالثة؛ فقرأ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) .
الظاهر المتبادر من ذكر المرتين هو التطليقة التي تحل بها عقدة النكاح بعد
الأخرى , فيليها مثلها بأن يطلق ويراجع , ثم يطلق ويراجع , وليس معناه النطق
بها مرة واحدة , وذكر كلمة مرتين بعدها وكذلك الثلاث، فإننا نعلم من لغة
العرب بالضرورة أنك إذا قلت: (من فعل كذا ثلاث مرات أو من قال هذا ثلاثًا)
لا يفهم من قولك إلا تكرار الفعل , أو تكرار القول بقدر العدد.
فإذا قلت في ألفاظ الأذان: الواجب أن تقول: (الله أكبر) أربع مرات
و (أشهد أن لا إله إلا الله) مرتين إلخ لا تكون قد أتيت بالمشروع إلا إذا ذكرت كل
لفظ بقدر كالعدد المذكور , ومثله ما ورد من قول سبحان الله 33 مرة , والحمد لله
33 مرة , والله أكبر 34 مرة عقب الصلاة لا يحصل المراد من الحديث إلا بتكرار
كل ذلك بقدر العد المذكور , فإذا قلت: (سبحان الله ثلاثًا وثلاثين مرة الحمد لله
ثلاثًا وثلاثين مرة الله أكبر أربعًا وثلاثين مرة) بهذا اللفظ لا تكون قد عملت
بالحديث الوارد في ذلك.
وهذا في عدد ما يقصد به اللفظ كالذكر ظاهر جلي , وهو في الفعل المحض
كالسجود والفعل الذي يعبر عنه بالقول كالطلاق واللعان أظهر، فإن الطلاق حل
لعقدة النكاح التي عبر بها الكتاب العزيز عما نسميه رابطة الزوجية، فمعنى
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة: 229) أن حل عقدة النكاح الذي يملكه الرجل ولا تبين
به امرأته منه إذا شاء أن يراجعها مرتان , ويتعين عليه بعدهما إما إمساكها
بمعروف , وإن كان يشكو منها ما كان سببًا للطلاق المرة بعد المرة وإما أن
يسرحها بإحسان.
والحكمة في ذلك ظاهرة وهي أنه بالطلاق بعد الطلاق يكون قد اختبر حاله مع
المرأة هل الأصلح له أن يظل على معاشرتها الزوجية على ما ينكر من خلقها أو
أخلاقها وأعمالها والصبر على ذلك ومعالجته بحسن المعاملة أو أن يطلقها ويبينها
بالمرة الثالثة لعدم صبره على ما ينكر منها؟ .
ومن يقول بأن له أن يبينها منه البينونة الكبرى بقوله: هي طالق ثلاثًا؛ فقد
أبطل الحكمة من تكرار الطلاق بما لا فائدة منه في حال من الأحوال , ولكن قد
يكون فيه غوائل ومضار كثيرة.
ذلك بأنه إذا كان يريد مفارقتها دائمًا فإن ذلك يحصل له بطلقة واحدة من غير
أن يقيدها بلفظ يحرم به على نفسه ما أحل الله تعالى له من المراجعة في العدة
وبعقد ثان بعد العدة، وقد يندم على ذلك بأن يظهر له بعد الطلاق أن دوام هذه
الرابطة الزوجية معها فيه صلاح لحاله ولحال عياله، وقد يترتب عليه فتن وخسائر
ومعاصٍ كثيرة إذا لم يتفق أن تتزوج بعد ذلك زواجًا صحيحًا من رجل يموت
عنها , أو يطلقها قبل حدوث تلك المفاسد فتحل له بذلك أو يضطر إلى قبول لعنة
التحليل على قول من يعده كالزواج الشرعي الصحيح تقليدًا.
ومن عجيب تأثير التقليد ادعاء بعضهم أن لفظ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة:
229) يدل على جواز جمعها بكلمة (مرتين) , وكذلك الثلاث المدلول عليه بقوله:
{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) مع أن التسريح في الآية مذكور بعد
ذكر المرتين، فمفروض بعد وقوعهما متعاقبتين!
ولا يوجد أشبه بهذا النص في القرآن من نص شهادة اللعان لأنها يمين في
المعنى يترتب عليه الفراق بين الزوجين فقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ} (النور: 6-7) لا يحصل العلم به إلا بتكرار الشاهدة، فإن كان اللعان يصح
بالشهادة مرة واحدة يسميها أربعًا , فالطلاق يصح بمثل ذلك.
ومثله سائر الأيمان , فمن قال: أقسم بالله ثلاثًا إنني فعلت أو ما فعلت كذا ,
وكان كاذبًا لا يلزمه إلا كفارة واحدة , وما ذكره الحافظ من التفرقة بين القسم
والطلاق بأن للثاني حدًّا دون الأول لا يقتضي اختلاف الحكم.
(الاستدراك الثاني) أن الحافظ رد على من ادعى أن عدم وقوع الطلاق
الثلاث باللفظ الواحد شاذ بذكر بعض من قال به من الصحابة وغيرهم من علماء
الأمصار , ولكنه لم يرد الحصر , فهنالك آخرون قالوا بذلك من الصحابة والتابعين
وعلماء الأمصار والظاهرية والشيعة الزيدية والإمامية وبعض أتباع المذاهب
الأربعة كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم رواية وعزوًا إلى كتب معروفة،
وممن روى عنهم عدم وقوع الثلاث أبو بكر (أي وكل الصحابة إلى آخر عصره
وأوائل عصر عمر) والزبير وعبد الرحمن بن عوف وكذا أبو موسى كما في البحر
للإمام يحيى , وممن رُوِي عنه فيها القولان علي وابن مسعود وابن عباس.
وذكر الإمام الشوكاني في نيل الأوطار نقلاً عن كتاب البحر للإمام يحيى أن
من القائلين بعدم الوقوع من أئمة العترة الهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد
بن عيسى وعبد الله بن موسى بن عبد الله ورواية عن زيد بن علي (قال) : وإليه
ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين , وقد
نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ونقل الفتوى بذلك عن جماعة
من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن السلام وغيرهما , ونقله ابن المنذر
عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمر وابن دينار، وحكاه ابن مغيث أيضًا
في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف
والزبير.
(قال) : (وذهب بعض الإمامية إلى أنه لا يقع بالطلاق المتتابع شيء لا
واحدة ولا أكثر منها) , وقد حكي ذلك عن بعض التابعين , وروي عن ابن علية
وهشام بن الحكم وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل الظاهر وسائر من يقول: إن
الطلاق البدعي لا يقع لأن الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة منه. وعدم وقوع
البدعي هو أيضًا مذهب الباقر والصادق والناصر. اهـ.
(الاستدراك الثالث) أن بعض الأجوبة التي سكت الحافظ عنها فلم يردها
ولم يؤيدها، قد ردها الإمام الشوكاني بما ذكرناه في حواشي عبارة الحافظ التي
أورد فيها أجوبة الفقهاء في المسألة، فإن الذي ارتضاه الحافظ منها هو ما عليه
المدققون من الفقهاء ولا سيما الذين بعده، وهو أن العمدة في المسألة وهو موافقة
جمهور الصحابة لعمر على إمضائه الطلاق الثلاث في الوقت الواحد، فإنه إجماع
منهم يدل على أنهم عثروا للحكم على ناسخ لما دل عليه القرآن والسنة العملية مدة
النبي صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وإنما رجحوا هذا
التعليل لأنه يتضمن تسليم دلالة الآية على أن مرات الطلاق إنما تتحقق بحل عقدة
النكاح مرة بعد أخرى لا بمجرد التلفظ بالعدد، يقولون: ولكنه نسخ، وتسليم
منطوق حديث مسلم يجريان العلم على ذلك إلى أوائل خلافة عمر، يقولون: ولكن
ممن لم يكن قد وقف على النسخ كما وقع في مسألة المتعة , فهذا هو الذي يحتاج
إلى الجواب دون تلك التكلفات لأنه المعتمد عند الأكثرين، وقد أجاب الإمام
الشوكاني في آخر هذا البحث بما نصه:
(والحاصل أن القائلين بالتتابع (أي بوقوع الثلاث باللفظ) قد استكثروا من
الأجوبة على حديث ابن عباس , وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف , والحق
أحق بالاتباع , فإن كانت تلك المحاماة لأجل مذهب الأسلاف؛ فهي أحقر وأقل من
أن تؤثر على السنة المطهرة , وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب , فأين يقع
المسكين من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم أي مسلم من المسلمين يستحسن
عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟) اهـ.
وأقول: قد أساء الشوكاني التعبير هنا , وإن كان مثل قوله الأخير مأثورًا عن
بعض الصحابة رضي الله عنهم بعضهم في بعض، فإنه لا يخطر في بال مسلم
ترجيح قول عمر ولا غيره على قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل لا يسوغ
لأحد عرف آداب عمر مع الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية، وخضوعه
للحق والإنصاف إذا ظهر له ولو على لسان امرأة عجوز، أو أعرابي جلف من
ناحية ثانية أن يظن فيها أنه يتعمد مخالفته صلوات الله وسلامه عليه، وأبعد من
هذا أن يخالفه , ثم يسكت له جمهور الصحابة على مخالفته على من تعودوا منه
قبول معارضتهم له بكل ارتياح وقبول فلأجل هذا وذاك ترك الجمهور ظاهر الكتاب
والسنة في المسألة , وتكلفوا تأويلها بما رأيت.
أما عمل عمر فالظاهر الذي لم يخطر في بالنا غيره منذ فكرنا في هذه المسألة
أنه اجتهاد أراد به تربية الناس في تتابعهم على ترك ما شرعه الله تعالى وجرت
عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق بعقابه إياهم بإمضائه عليهم
لعلهم يرجعون عنه بعد أن يظهر لهم خطؤهم بحرمان أنفسهم من رحمة الله
بالمؤمنين بشرعه لهم المراجعة مرة بعد مرة.
وهذا هو التعليل هو الذي ذكرناه في محاورات المصلح والمقلد من زهاء ربع
قرن , وقد عهد من بعض الصحابة ولا سيما الأئمة والحكام الاجتهاد في المسائل
وأن يكون منه الخطأ والصواب، ويصح جعل هذا الاجتهاد حجة لقاعدة الإمام مالك
في وجوب الاستمساك بظواهر النصوص في العبادات، ومراعاة المصلحة العامة
ومقاصد الشارع في أحكام المعاملات، وسنزيد هذا بيانًا في ص 680.
وأما سكوت جمهور الصحابة المقيمين مع عمر في المدينة على اجتهاده هذا؛
فلاعتقادهم أن مثله جائز للإمام (الخليفة) على أن بعضهم كان يفتي بخلافه , كما
تقدم وأشهرهم ابن عباس , والظاهر أن هذا كان بعده لئلا يكون خروجًا على الإمام،
ويحتمل أنه كان لاعتقاد أنه كان مخطئًا في ذلك الاجتهاد.
ومن الخطأ تسمية ذلك السكوت من بعض الصحابة رضي الله عنهم إجماعًا
لأن أكثر الصحابة كانوا متفرقين في الأمصار يجاهدون في سبيل الله فمن أين
علموا بفعل عمر هذا في وقائع كانت قليلة بالطبع , ولا سيما بعد تنفيذه ذلك الطلاق
عليهم , وبعد ما روي عنه أنه كان يضرب فاعل هذه البدعة الطلاق الثلاث باللفظ
دون مراجعة حتى يوجعه.
وأظهر من هذا الخطأ ما قيل في تعليله من احتمال ظهور دليل ناسخ لما سبق
من عد الطلاق بلفظ الثلاث واحدةً عملاً بالكتاب والسنة لا أقول في إثبات هذه
التخطئة ما قال بعضهم من أنه لو وجد الناسخ لذكر ونقل ونحن إنما نكلف ما ثبت
بالنقل , ولا قيمة للاحتمال في نسخ نصوص صريحة , بل أقول - مع تسليم هذا
وكونه لا مجال للنزاع فيه -: إن هذا الحكم لو كان نسخ لما استمر العمل عليه في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومدة خلافة أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر.
وأما تشبيه الحافظ هذه المسألة بمسألة المتعة , فهو يصح من وجه واحد ,
وهو أن عمر هو الذي أرجع الناس عنهما , ويفترقان من حيث وجود نص عن
النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرم المتعة على التأبيد بعد أن أباحها , وكان آخر
الأمرين , ولا نص في الطلاق الثلاث ينسخ ظاهر القرآن والسنة العملية به.
هذا وإنني راجعت بعد كتابة ما تقدم كله كتاب الروضة الندية للعلامة السيد
صديق حسن خان فرأيت أن أنقل عنه ما نصه:
وقد امتحن بهذه المسألة جماعة من العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية
وجماعة ممن بعده والحق بأيديهم، ولكن لما كان مذهب الأربعة الأئمة أن الطلاق
يتبع الطلاق كان المخالف لذلك عند عامة أتباعهم وكثير من خاصتهم كالمخالف
للإجماع، وقد ظهر مما سقناه ههنا من الأدلة والنقول أن الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد
أو ألفاظ في مجلس واحد من دون تخلل رجعة؛ يقع واحدة وإن كان بدعيًّا , فتكون
هذه الصور من صور الطلاق البدعي واقعة مع إثم الفاعل دون سائر صور البدعي ,
فلا يقع الطلاق فيها لما قدمنا تحقيقه , وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب
والكلام عليها , وأثبته بالكتاب والسنة واللغة والعرف وعمل أكثر الصحابة , ثم قال
بعد ذلك:
فهذا كتاب الله تعالى وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كلهم
معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدهم العاد
بأسمائهم واحدًا واحدًا أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها ,
ولو فرض منهم من لم يكن يرى ذلك , فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به , بل كانوا ما
بين مفت , ومقر بفتيا , وساكت غير منكر، وهذا حال كل صحابي من عهد
الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر , وهم يزيدون على الألف قطعًا كما ذكر
يونس بن بكير عن أبي إسحاق، فكل صحابي كان على أن الثلاث واحدة بفتوى
أو إقرار وسكوت، ولقد ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع
الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنًا بعد قرن وإلى يومنا
هذا , فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد
عن أيوب عن عكرمة , وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف
حكاه عنهما ابن وضاح , وأما التابعون فأفتى به عكرمة وطاوس، وأما تابعو
التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق وخلاس بن عمرو والحارث العكلي، وأما
أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، وأفتى به بعض
أصحاب مالك وأفتى به بعض الحنفية وأفتى به بعض أصحاب أحمد، والمقصود
أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده
إجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس استهانوا بأمر
الطلاق , وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة , فرأى من مصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ,
فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه.
والذي ندين الله تعالى به ولا يسعنا غيره , وهو القصد في هذا الباب، أن
الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه حديث آخر
ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه، ولا
نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان؛ انتهى حاصله.
وتمام هذا البحث في أعلام الموقعين , وإغاثة اللهفان للحافظ ابن القيم , وفي
رسالة مستقلة للماتن (الشوكاني) , وفي كتابنا مسك الختام , فليرجع الطالب إليها
إن أراد التفصيل والتحقيق وبالله التوفيق.
***
تلخيص للمسألة وإيضاح لاجتهاد عمر رضي الله عنه
(1) إن الله تعالى شرع للمسلم إذا تنازع مع زوجه , وخاف ألا يقيم حدود
الله في معاشرتها أن يطلقها في أول طهر لها لم يباشرها فيه حتى لا يضارها
بإطالة العدة وشرع له أن يراجعها في العدة إذا ندم على طلاقها , وتبين له أن
الأصلح له البقاء معها، فإذا عاد فطلقها مرة ثانية , ثم تبين له خطؤه , فله أن
يراجعها أيضًا , فإن عاد مرة ثالثة بانت منه , ولم يملك مراجعتها إلا بشرط يقل
وقوعه , ويثقل على الرجال الرجوع إلى المرأة بعده إن وقع إلا لشدة الحاجة ,
وهو أن تتزوج رجلاً آخر زواجًا صحيحًا , ثم يموت عنها أو يطلقها، ومن رحمة
الله تعالى في يسر شرعه أنه لم يحرم عليه امرأته بطلقة ولا بطلقتين قد يكونان من
غير روية ولا معرفة اختبار لحاجته إليها، ولم يبح له أن يجعلها كالكرة يعبث بها
ما شاء هواه , فيطلق , ويراجع بغير عدد ولا حساب كما كانوا يفعلون في الجاهلية
لما فيه من امتهان المرأة ومضارتها , وقد كرمها الله كما كرمه , وأعزها بالإسلام
كما أعزه.
(2) لم يشرع الله تعالى للرجل أن يبطل حكمته في شرعه ورحمته فيه
بجمع الثلاث بالقول دون الفعل، وجعل إيقاع الطلاق مرة واحدة كإيقاعه ثلاث
مرات في تحريم المراجعة، فيجعل الثلاث واحدة كأهل التثليث في العقائد، ولكن
بعض أصحاب الرعونة وضيق الصدر من المسلمين أرادوا أن يضيقوا على
أنفسهم ما وسعه الله عليهم، فطلق بعضهم امرأته جامعًا للثلاث بكلمة واحدة , فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فغضب وقال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين
أظهركم) كما تقدم , ولكنه صلى الله عليه وسلم جعل هذه الفعلة لغوًا , ولم يوقع
على أحد فعل ذلك إلا واحدة , وكذلك فعل أبو بكر وعمر مدة سنتين في رواية
وثلاث سنين في رواية أخرى، وكان يضرب من يتصرف بدينه هذا التصرف
المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحكمة شرعه ويسره، فلما
تتايعوا عليه رأى أن ينفذه عليهم عقوبة لهم لعلهم ينتهون ففعل بعد المشاورة.
ولهذا الاجتهاد في العقاب من ولي الأمر نظائر.
(1) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية والمحقق ابن القيم كثيرًا من الشواهد
والمدارك لعمل عمر منها قول الأول في هذا البحث من الفتاوى:
وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإلزام بالثلاث ,
وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر رضي الله عنه وهو أن الناس
لما تتايعوا فيما حرم الله عليهم استحقوا العقوبة على ذلك؛ فعوقبوا بلزومه بخلاف
ما كانوا عليه قبل ذلك , فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم، وهذا كما أنهم لما
أكثروا شرب الخمر , واستخفوا بحدها كان عمر يضرب فيها ثمانين وينفي فيها ,
ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وكما قاتل علي
بعض أهل القبلة , ولم يكن ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , والتفريق
بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانًا، إما مع بقاء النكاح , وإما بدونه ,
فالنبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الثلاثة الذين خلفوا , وبين نسائهم حتى تاب
الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثًا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجًا
غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق، وعمر بن الخطاب ومن وافقه كمالك وأحمد في
إحدى الروايتين حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدًا لأنه استعجل ما أحله الله ,
فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض
إذا رأيا الزوج ظالمًا معتديًا لما في ذلك من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل
على ذلك الكتاب والسنة والآثار , وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب
الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه إما أن يكون رآه عقوبة
تستعمل وقت الحاجة، وإما أن يكون رآه شرعًا لازمًا لاعتقاده أن الرخصة كانت
لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلاً.
وهذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة (يعني متعة الحج) هل كان
نهي اختيار لأن إفراد الحج لسفره , والعمرة لسفره كان أفضل من التمتع، أو كان
قد نهى عن الفسخ لاعتقاده أنه كان مخصوصًا بالصحابة، وعلى التقديرين
فالصحابة قد نازعوه في ذلك , وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشورى وغيرهم في
المتعة وفي الإلزام بالثلاث.
وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، كما أن
عمر كان يرى أن المبتوتة لا نفقة لها , ولا سكنى , ونازعه في ذلك كثير من
الصحابة , وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا
يتيمم , وخالفهما عمار وأبو موسى وابن عباس وغيرهم من الصحابة وأطبق العلماء
على قول هؤلاء لما كان معهم الكتاب والسنة.
والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر , والمقصود هنا التنبيه على ما
أخذ الناس به. اهـ.
وقال تلميذه العلامة المحقق ابن القيم في زاد المعاد:
فإن قلت: قد ثبت من حديث ابن عباس أن الصحابة كلهم قد أجمعوا على
أن الثلاث (باللفظ) واحدة , فكيف خالفهم عمر حيث أمضاها عليهم؟ قلت: لم
يخالف عمر رضي الله عنه إجماع من تقدمه , بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم
لما علموا أنه حرام , وتتايعوا عليه , ولا ريب أن هذا جائز للأئمة أن يلزموا
الناس ما ضيقوا به على أنفسهم , ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل وتسهيله؛ بل
اختاروا الشدة والعسر , فكيف بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ,
وكمال نظره للأمة وتأديبه لهم.
ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والتمكن من العلم بتحريم
الفعل المعاقب عليه وخفائه , وأمير المؤمنين رضي الله عنه لم يقل لهم إن هذا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة لا إخبار عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما علم رضي الله عنه أن تلك الأناة والرخصة
نعمة من الله على المطلق , ورحمة به وإحسان إليه , وأنه قابلها بضدها , ولم يقبل
رخصة الله , وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها وألزمه ما التزمه من
الشدة والاستعجال.
وهذا موافق لقواعد الشريعة؛ بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرًا وشرعًا ,
فإن الناس إذا تعدوا حدوده , ولم يقفوا عندها؛ ضيق عليهم ما جعله لمن اتقاه من
المخرج، وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة رضي الله عنهم لمن
طلق ثلاثًا: إنك لو اتقيت الله لجعل لك مخرجًا , كما قال ابن مسعود وابن عباس.
فهذا نظر أمير المؤمنين رضي الله عنه ومن معه من الصحابة , لا أنه رضي
الله عنه - غير أحكام الله , وجعل حلالها حرامًا , فهذا غاية التوفيق بين النصوص.
أقول: وذكر في أعلام الموقعين من أفتى بعدم وقوع الثلاث من علماء
المذاهب المشهورة على خلاف المشهور في مذاهبهم , وذكر أسماء الكتب المصرحة
بذلك.
وقد أطال المولوي أبو الطيب محمد شمس الحق في تحقيق هذه المسألة ,
والنقول فيها , والرد على الحافظ ابن حجر في حاشيته على سنن الدارقطني وشرحه
سنن أبي داود بما لم يسبق إليه.
***
ذيل للفتوى في رواية أبي داود ورأيه في المسألة
وردت أحاديث مرفوعة في وقائع في الطلاق الثلاث، أشرها حديث ركانة
الذي رواه أبو داود من طريقين ضعيفين كليهما، ولكنه رجح أحدهما على الآخر
قال شارحه: وهذا لا يقتضي أن الراجح عنده على الآخر صحيح في نفسه ,
فرواية ابن إسحاق له عند الإمام أحمد وغيره أصح منها , وهي التي قال الحافظ ابن
حجر وغيره: إنها نص في الموضوع لا يحتمل التأويل , ولذلك عني الفقهاء
بتأويلها لمخالفتها لمذاهبهم، والسائل لم يفهم هذا ولا غيره , ولا ما قاله شيخ الإسلام
فيه فضلاً عن أصل المسألة , فجعل إشكاله محصورًا فيه بما يوهم أن ابن تيمية لم
يستدل فيها إلا به، والواقع أنه استدل بالكتاب والسنة والإجماع السابق على إمضاء
عمر رضي الله عنه للثلاث عقوبة مؤقتة وبالقياس.
وأما وجه تخطئة ابن تيمية لأبي داود أنه روى حديث ركانة من طريقين
ضعيفين إلا أنه رجح أحدهما على الآخر , وهو أن الطلاق كان بلفظ ألبتة لا بلفظ
الثلاث , ولم يروه من طريق ابن إسحاق التي رواها الإمام أحمد وهي نص في لفظ
الثلاث وعدم إيقاعه صلى الله عليه وسلم له فخالف أستاذه الإمام أحمد الذي قال:
حديث ركانة في ألبتة ليس بشيء، وقال أيضًا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق
امرأته ألبتة لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس
أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، وأهل المدينة كانوا يسمون الثلاث: ألبتة , قال شيخ
الإسلام: فقد استدل أحمد على بطلان حديث ألبتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه
طلقها ثلاثًا إلخ , أقول: وهذا موافق لحديث ابن عباس الصحيح الذي رواه مسلم
عنه.
فالسائل لم يفهم هذا ولا غيره لجهله باصطلاح المحدثين والأصوليين ,
وضعفه في اللغة أيضًا , فجعل ترجيح أبي داود لأحد الحديثين الضعيفين على
الآخر , وتأويله لحديث ابن عباس الصحيح بحمله على التخصيص هو كل ما في
المسألة، ولو أردنا بيان كل ما في سؤاله من الخطأ والخطل؛ لأسخطنا علينا جميع
قارئي المنار.
وأما بسط أصل المسألة وأدلتها , فهو ضروري لأن الأمة الإسلامية شعرت
بحاجتها إلى الرجوع فيها إلى يسر الشريعة ورحمتها، واقترح بعض الفقهاء
والعقلاء على حكومتنا المصرية الرجوع فيها إلى أصل الكتاب والسنة الذي كان
أول من بسط دلائله شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم في كتبه أعلام
الموقعين , وإغاثة اللهفان , وزاد المعاد، ووافقهما وأيدهما من أعلام السنة وفقهاء
الحديث بعدهما الإمام الشوكاني والسيد حسن صديق وصاحبي شرح أبي داود
وحاشية سنن الدارقطني من متأخري علماء الهند الأعلام , فعارض الاقتراح مقلدة
الأزهر في ذلك , والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والمرجو من أخينا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني أحد الأمرين إما أن
ينصرف عن زراعته إلى العلم الاستقلالي , فيدرس وسائله ومقاصده من فنون اللغة
وعلوم الأصول والحديث، وإما أن يرضى بتقليده ويكب على زراعته وفاقًا للمثل
الذي كان يكثر أبو حامد الغزالي من ضربه لأمثاله: (كن يهوديا صرفًا , وإلا فلا
تلعب بالتوراة) .
__________
(1) ولابن القاسم كلام مسهب في عدالة محمد بن إسحاق في الرواية والاحتجاج به.
(2) العكس أولى وأقوى وهو التعبير عن الثلاث بألبتة فإن ألبتة تكون بغير الثلاث.
(3) وذكر الشوكاني جوابًا آخر وهو أن التقييد بقبل الدخول لا ينافي صدق الرواية الأخرى الصحيحة على المطلقة بعد الدخول وغاية ما في هذه الرواية أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد الرواية الصحيحة المذكورة في الباب وذلك لا يوجب الاختصاص بالبعض الذي وقع التنصيص عليه.
(4) الحديث صحيح والإجماع غير واقع.
(5) قال الشوكاني في عبارة الشافعي: ويجاب بأن النسخ إن كان بدليل من كتاب أو سنة فما هو؟ وإن كان بالإجماع فأين هو؟ على أنه يبعد أن يستمر الناس أيام أبي بكر وبعض أيام عمر (أي ثلاث سنين) على أمر منسوخ وإن كان الناسخ قول عمر فحاشاه أن ينسخ سنة ثابتة بمحض رأيه وحاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه إلى ذلك اهـ.
(6) قال الشوكاني في دعوى الاضطراب: وهو زعم فاسد لا وجه له اهـ.
(7) أجاب الشوكاني عن هذا بما حاصله أن حكم تكرار الطلاق واحد في كل عصر عند جميع العلماء ولم يجعل أحد منهم لكل عصر حكمًا.
(8) وأزيد على هذا أن عبارة الحديث أقوى في الدلالة على الرفع مما ذكره نقلاً عن اصطلاح المحدثين والأصوليين , وذلك أن قول ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ يعني به أنه كان كذلك في الحكم والفتوى , وهما مظهرا التشريع الذي لا يكون إلا منه صلى الله عليه وسلم، وأما قولهم كنا كذا في عهده صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يدل على الرفع بدلالة اللزوم.
(9) الأمر خلاف ما قال القرطبي لغة وشرعًا كما سنوضحه تعليقًا على كلام الحافظ وفيما يلي هذا.
(10) هذا إنما يتمشى على زعمهم، والحق أن الشرع لم يجعل للمطلق هذا الحق , بل جمعه الثلاث مبتدع مخالف للشرع إجماعًا , ولذلك عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم باللعب بكتاب الله كما في حديث النسائي المتقدم والفرق بينه وبين (زَوَّجْتُك هؤلاء الثلاث ظاهر فإن لفظ الثلاث لم يجعل المرات واحدة بل المثال الصحيح لمسألة الطلاق الثلاث مسألة اليمين العادي أو يمين اللعان.(28/662)
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
__________
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا
(5)
(المقام الرابع والعشرون) قوله: فبأي وجه يزعم من ليس له قدم راسخة
في العلم أنه عليه السلام أمر بهدم القباب والبناءات التي حول قبور الأنبياء والأئمة
والشهداء والصالحين.
أقول: ادِّعاء الإنسان لنفسه رسوخ القدم في العلم، ونفيه ذلك عن علماء
الأمة وسلفها الصالح يقدر عليه كل واحد , ولا يمتنع منه إلا الورع؛ ولكن الشأن
كل الشأن في إثبات الدعوى وتدعيمها بأساطين البراهين التي تثلج الصدور
وتستولي على الألباب، وتنقاد لها أعناق النقاد، والحق أبلج، والباطل لجلج،
وجوابه أن ما أنكره من مشروعية هدم القباب وما يشابهها ثابت بالأخبار المحمدية
والآثار الصحيحة الجياد، وإجماع السلف الذي هو أصح إجماع.
وقد استوفيت الكلام على ذلك بقدر ما يحتمله المقام , وهل يشك عالم بأحاديث
الباب، ناصح لنفسه، خائف من ربه، في وجوب هدم القباب التي بنيت على
معصية الرسول؟ ولا يقدح في الأنبياء والصالحين هدم قبورهم وقبابهم لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بحقوقهم وأرعاهم لها، وقد لعن من اتخذ
المساجد على قبور الأنبياء ونهى عنها أشد النهي، فلا يجوز لمسلم عالم بذلك أن
يترك القباب مشيدة على القبور، بل هي شر من المساجد لأن المقصود منها هو
التعظيم المجرد بخلاف المساجد، فإن ظاهر الحال أن المقصود منها الاجتماع لذكر
الله لكن لما كان اتخاذها عند قبور الأنبياء والصالحين يفضي إلى الغلو ثم الشرك؛
حرم الله اتخاذها، وشدد الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عنها؛ فوجبت إزالتها،
كما تقدم عن شيخ الإسلام وابن حجر الهيتمي والشوكاني وتقدم أنها أولى بالهدم
من مسجد الضرار.
(المقام الخامس والعشرون) قوله: ومع أن هذه لم تكن مشيدة في زمانه
حتى يأمر بهدمها هل تقاس بقبور المشركين والتماثيل والصور؟ حاشا وكلا فإن
هذا من أقبح القياسات وأشنعها.
أقول: عدم وجودها في زمن علي دليل على أنها شر محض لا خير فيها،
وقال مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقال أيضًا: من ابتدع
في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة
لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وما لم يكن يومئذ دينًا لا
يكون اليوم دينًا.
ولو كان بناء القباب على قبور الصالحين جائزًا لفعله النبي , أو أمر به , ولو
كان في الدين نص يشتم منه رائحة مشروعية القباب أو أن فيه شيئًا من الخير ما
تركها أهل القرون الثلاثة المفضلة , فهل يريد الشيعة وأهل السنة بزعمهم أن
يسبقوا إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم قال: فإذا قدر
أن الصلاة هناك توجب الرحمة أكثر من الصلاة في غير تلك البقعة كانت المفسدة
الناشئة من الصلاة هناك تربي على هذه المصلحة حتى تغمرها أو تزيد عليها بحيث
تصير الصلاة هناك مُذْهِبَة لتلك الرحمة ومثبتة لما يوجب العذاب.
ثم ذكر كلامًا طويلاً في تقرير تحري الصلاة والدعاء عند القبر من المنكرات،
وفي كلامه خفاء بالنسبة إلى بعض الأذهان، ويوضحه أنه ليس كل بقعة يثبت لها
فضل أو نزول رحمة أو ملائكة تشرع الصلاة والدعاء فيها , وينال المصلي
والداعي بركتها، لأن رحمة الله قريب من المحسنين , ولا تكتب إلا للذين يتبعون
الرسول النبي الأمي , ويطيعونه كما تدل عليه آيات الأعراف، والمصلي عند
القبور قصدًا مسيء عاص للرسول، معدود عنده من شرار الخلق، فاعل ما أوجب
اللعنة، فلا يناله شيء من تلك الرحمات، ولا تصلي عليه الملائكة؛ بل تناله
اللعنات الواردة في الحديث، ولا سيما إذا بلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم
فأصر على مخالفته للهوى والأغراض الفاسدة.
ومن العجب أن السيد مهديًّا جعل السبب الذي لأجله حرمت الصلاة عند القبور
هو فضل أصحابها ونبوتهم سببًا لاستحباب الصلاة عندها وفضلها على الصلاة في
غيرها، وهذا عكس قضية أحاديث الباب وفقنا الله وإياه لاتباع الحق، وإنما قلنا: إن
علة النهي عن الصلاة عند القبور هي فضيلة أهلها المفضية إلى الافتتان المفضي إلى
الشرك , لأننا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند قبور الأنبياء
والصالحين , ونبش قبور المشركين وبنى مكانها مسجدًا لأنها لا حرمة لها , ولا
تخشى منها فتنة، وقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذا المعنى وبينه شارحه، وقد
نقل الشوكاني في المجلد الثاني من نيل الأوطار تحريم الصلاة في المقبرة عن أحمد
ابن حنبل والظاهرية قال: قال ابن حزم: وبه يقول طوائف من السلف , فحكى عن
خمسة من الصحابة النهي عن ذلك وهم عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس
قال: وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت المنصور بالله والهادوية
وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها , ثم قال: وقال الرافعي يعني أحد أئمة
الشافعية -: أما المقبرة؛ فالصلاة فيها مكروهة في كل حال وهو مذهب الثوري
والأوزاعي وأبي حنيفة. اهـ ببعض تغيير.
وذكر البخاري في صحيحه أن عمر رأى أنسًا يصلي عند قبر فقال: القبر
القبر.
أقول: فانظر كيف حذره عمر منه مع أن أنسًا لم يقصد الصلاة عنده ,
والخلفاء الراشدون وسائر الصحابة والتابعون لا جرم أنهم لا يبغونهم إلى رذيلة
وبدعة ضلالة.
وروى الجم الغفير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما بعد، فإن أصدق
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة
ضلالة) ، ورووا عنه أنه قال: (المدينة حرام) الحديث وفيه: (فمن أحدث حدثًا ,
أو آوى محدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , لا يقبل الله منه صرفًا
ولا عدلاً) , فنحن نسأل أصحاب القباب والمشاهد: أهي من هدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ أهي من الدين؟ فإن زعموا أنها من الدين؛ سألناهم: أكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعلمون ذلك أم لا؟ فإن قالوا: كانوا يعلمونه؛
قلنا: فلم لم يفعلوه , ولم يبنوا قبة واحدة مع عناياتهم بزيارة القبور المشروعة، فإن
زعموا أنهم لم يتمكنوا من ذلك مع تمكنهم من بناء بيوتهم وبيوت الله وخط المدن
والقرى؛ أبطلوا وأحالوا، وإن قالوا: تركوه كسلاً؛ فقد جعلوا أنفسهم أنشط إلى
الأعمال الصالحات , وأحرص عليها من محمد وأصحابه , وذلك هو البهتان
والضلال البعيد، وإن قالوا: إن النبي وأصحابه كانوا يجهلون أن بناء القباب
والمشاهد على قبور الصالحين من الدين , فعلمنا ما لم يعلموا؛ فقد جاءوا بالطامة
الكبرى المهلكة في الدنيا والآخرة.
وروى الدارمي وابن وضاح أن عبد الله بن مسعود بلغه أن قومًا يجتمعون
في مسجد الكوفة حلقًا فيقول أحدهم: سبحوا مائة , فيسبحون , وبين أيديهم الحصى
يعدون به، ثم يقول: هللوا مائة , فيهللون، ثم يقول: كبروا مائة , فيكبرون ,
فقال لهم: (ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم والله , لقد فقتم أصحاب محمد
علمًا، أو جئتم ببدعة ظلمًا) ، فقال أحدهم: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا
الخير , فقال: (وكم مريد للخير لم يصبه) الحديث أو كما قال مما هذا معناه ,
ومحل الشاهد منه قوله: (لقد فقتم أصحاب محمد علمًا أو جئتم ببدعة ظلمًا) .
وكذلك يقال لأصحاب القباب؛ بل هم أولى بذلك لأن بدعتهم أقبح البدع
وأنكرها , وهذا وحده كاف للرد عليهم، وقوله: إن القول بهدم ما يبنى على قبور
الأنبياء والصالحين مأخوذ من القياس وهو من أقبحه عجيب لأن العلماء متفقون
على أن الهدم مشروع بالنص النبوي , والأثر العلوي عاضد له لا بالقياس , وأي
حاجة بهم إلى القياس سواء أكان حسنًا أم قبيحًا مع وجود النص الصحيح الصريح،
فإن قال: إن حديث علي لا يدل على هدم قبور الأبرار، بل هو مخصوص بقبور
الكفار، فقد تقدم جوابه , ونقول الآن: إن تخصيصه بقبور الكفار مع أن عليًّا أمر
أبا الهياج بهدم ما على القبور تخصيص بلا مخصص، وهو تحكم لأنه عزل اللفظ
عن بعض مدلولاته بلا دليل مع أن قوله: (أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته)
بمنزلة قولكم: سَوِّ كل قبر. اهـ.
لأن النكرة في سياق النفي تعم , ولو كانت هناك قبور مستثناة لذكرها النبي
صلى الله عليه وسلم لعلي , وذكرها علي لأبي الهياج الأسدي , ولم يكونا يتكلمان
بالأغاليط وما كان فيهما عيّ عن بيان مرادهما، بل قبور الأنبياء والصالحين إذا
بني عليها بناء كان أولى بالهدم من قبور غيرهم لنص النبي صلى الله عليه وسلم
على النهي عن ذلك , وإيعاده الشديد في ذلك لا بتأويل ولا رأي ولا قياس، وإذا
كان فهم دخول البناء على قبور الصالحين في حديث علي وغيره من أقبح القياس
فكيف يكون فهم علماء الشيعة الذين فهموا من حديث علي كراهة التجصيص مع
أنهم لا يقولون بالقياس لا حسنًا ولا قبيحًا.
(المقام السادس والعشرون) قوله: مضافًا إلى ما عرض به مكاتب المنار
من أن القباب والبناءات المعتمدة على أساس لا دخل لها بالقبور أصلاً لأنها كانت
مشيدة منذ عدة قرون بمرأى من المسلمين ومسمع لم ينكره أحد منهم حتى الذين
رووا حديث أبي الهياج الأسدي لعلمهم أن هذا ونحوه إنما ورد في المعنى الذي
ذكرناه.
أقول: من أين لك أنه لم ينكره أحد؟ هذا لا يعلمه إلا الله , وليس مما تتوفر
الدواعي على نقله , وهذا لو لم يبلغنا إنكار أحد منهم فكيف وقد مر إجماعهم على
إنكاره؟ سلمنا أنهم لم ينكروه أفلا يكفي إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنه
فاعله قبل وفاته بخمس ليال؟ , والأخبار بذلك مستفيضة , فسكوت الناس على
إنكار المنكر لا يصيره معروفًا، وعدم العلم بالإنكار ليس علمًا بعدمه.
والذي عليه المحققون من علماء الأصول أن الإجماع السكوتي ليس حجة ,
والساكت لا ينسب له قول , كما حققه الشافعي في المجلد الأول من الأم صفحة
134 وغيره في غيره.
ثم إن هذا يحتج به من يحتج به فيما لا نص فيه، وأما ما فيه نصوص ناطقة
صريحة صحيحة فعدم عمل الناس بها لا ينسخها , ولو كان الأمر كذلك لنسخت
أكثر النصوص , ونسخ بعضها في إقليم دون إقليم , بل في مصر دون مصر ,
وهذا في غاية الفساد، بل كل مسألة فيها نص , فواجب على الناس أن يعملوا به ,
وإن ترك بعضهم العمل به , فلا تزر وازرة وزر أخرى.
على أن العلماء من جميع المذاهب أنكروا القباب ونحوها أشد الإنكار , ومن
لا يعتد بإجماع خير القرون الصريح القولي وبيعتهم في خلافة أبي بكر وعمر
وعثمان، وكيف يليق به أن يحتج بسكوت شرار القرون على منكر عمت به البلوى
كالقباب، هذا لو لم ينقل لنا إنكار أحد كما ادعاه السيد مهدي , كيف وقد مر نقل
إجماعهم على إنكاره؟ قال في الإقناع وشرحه , وهو المعتمد في الفتوى منذ زمان
عند الحنابلة في المجلد الأول صفحة 410: (ويكره البناء عليه) ؛ أي القبر (سواء
لاصق البناء الأرض أو لا , ولو في ملكه من قبة أو غيرها للنهي عن ذلك) لحديث
جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه،
وأن يعقد عليه.
رواه مسلم , وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : وكذلك القباب التي على
القبور يجب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء
على القبور انتهى.
وهو أي البناء في المقبرة المسبلة أشد كراهة , وعنه - يعني أحمد بن حنبل -
منع البناء في وقف عام وفاقًا للشافعي وغيره قال: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم
ما يبنى , ثم قال: وكره أحمد الفسطاط والخيمة على القبر، وتغشية قبور الأنبياء
والصالحين أي سترها بغاشية ليس مشروعًا بالدين , قاله الشيخ , وقال في موضع
آخر: في كسوة القبر بالثياب اتفق الأئمة على أن هذا منكر إذا فعل بقبور الأنبياء
والصالحين فكيف بغيرهم , ويكره المبيت عنده وتجصيصه وتزويقه وتخليقه
والطواف به والاستشفاء بالتربة من الأسقام لأن ذلك كله من البدع إلخ.
وقال الإمام المجتهد المطلق محمد بن علي الشوكاني اليمني في شرح الصدور
رادًّا على الإمام يحيى بن حمزة الزيدي إباحته بناء القباب , ولم يجد دليلاً يستدل به
إلا أن ذلك شاع بين المسلمين , فلم ينكره الشوكاني المتوفى سنة 1255.
(فائدة) وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: لاستعمال المسلمين فهذه
أدلة النهي عنه تذكر في مدارسهم ومجالس حفاظهم فيرويها الآخر عن الأول ,
والصغير عن الكبير , والمتعلم عن العالم من لدن الصحابة إلى هذه الغاية ,
وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة , وأهل الأخبار والسير , فكيف يقال: إن
المسلمين لم ينكروا ذلك , وهم يروون أوله عنه واللعن لفاعله خلفًا عن سلف في كل
عصر , ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه , وقد
حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين وهو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة
وخلفها أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال:
وصرح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، لكن
ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم إحسانًا للظن بهم، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا
ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه انتهى.
وقال الإمام النواب صديق خان في المجلد الثاني من الدين الخالص ص 352:
قال الحافظ ابن القيم: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور لأنها أسست على
معصية الرسول , وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم
ابن الجميزى والظهير الزميني وغيرهما , وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن
تجصص القبور , ولا يبنى عليها قباب ولا غير قباب , والوصية بها باطلة , وقال
الأذرعي: أما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية , وإنفاق الأموال
عليها , فلا ريب في تحريمه , وقال القرطبي: في حديث جابر نهى أن تجصص
القبور أو يبنى عليها بظاهر هذا الحديث , قال مالك: وكره البناء والجص على
القبور.
وقد أجازه غيره وهذا الحديث حجة عليه , وقال ابن رشد: كره مالك البناء
عليها , وجعل البلاطة المكتوبة , وهو بدع أهل الطول أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة
والسمعة , وهو مما لا اختلاف في تحريمه , وقال الزيلعي في شرح الكنز: ويكره
أن يبنى على القبر، وذكر قاضي خان أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر
والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم، وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح
الكنز، وقال الشافعي: أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة
على الناس، قال في فتح المجيد: وكلام الشافعي يبين أن المراد بالكراهة كراهة
التحريم , وجزم النووي في شرح المذهب بتحريم البناء مطلقًا وذكر في شرح مسلم
نحوه، وقال ابن قدامة صاحب المغني: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على ذلك، وقد روينا أن ابتداء
عبادة الأصنام تعظيم الأموات واتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى.
أفبعد هذا يدعي أن أئمة الأمة لم ينكروا البناء على القبور؟
(للمناظرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/684)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رسالة من يحيى محمد البكري
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل والسيد [1] ؛
سلامًا وتكريمًا، وتحية وتعظيمًا , ما أوضح مناركم للمؤمنين سبل الإسلام،
وبدد عن طريق رفعته غياهب الأدران والأوهام، أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى،
وطعن الإسلام في صدره طعنات قاتلة، وأوشك المسلمون أن يفقدوا ما بقي بين
أيديهم من رمق القوة والأمل، فبينما نحن نرى السواد الأعظم من الدول الإسلامية
يرسف في قيود الاستعمار والعبودية، إذا بالقسم المستقل منها تلعب فيه أيدي
العابثين، ثم بينما نرى تركيا قد أديرت عنا وشغفت بمظاهر الغربيين الذين شغفوا
بإفنائها إذ بإيطاليا ترسل عقاربها وتبث سمومها باليمن، وإذ بإنكلترا تحاول أن
تخادع ابن سعود , وتريد أن تظفر به، وإجمالاً هذه كلمتي التي أملاها ضميري
على لساني، الذي أناب عنه بناني في تحريرها إليكم، وليس على فضيلتكم إلا أن
تنظروها وتفحصوها نقدًا وتمحيصًا، ولكم أن تدرجوها في صحيفة مذاكرات
النهوض الإسلامي , أو أن تنشروها على صفحات صحيفتكم الغراء؛ كي يتمكن
القراء من الاطلاع عليها ويبدوا فيها الآراء العامة، ولكم أن تضربوا عنها صفحًا
وعفوًا عن إقدامي هذا وإنا لما يرتضيه الأستاذ لمنتظرون.
***
روح الثقة في الإسلام
للدين الإسلامي المكان الأجل من قلوب معتنقيه، والسلطة العظمى على
خواطرهم وأعمالهم، حتى إنك لتجد من إذا طرق سمعه اسم من بعث به في
الأرض بشيرًا عليه أزكى السلام لابتهل فازعًا إلى الله بالصلاة والتسليم عليه , لا
فرق بين عامتهم وخاصتهم في ذلك - أو إذا نودي إلى الصلاة؛ لرأيت منهم كل
مقبل من كل فج ابتغاءًا لمرضاة الله واجتنابًا لمعصيته وخشية من عقابه، يقفون
صفوفًا في انتظام وقور يؤدون ما كتب الله عليهم في كتابه الحكيم والخشوع يملأ
جوانحهم {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} (الفتح: 29) .
الديانة الإسلامية هي العقيدة التي تكفل لبني الإنسان طريق السعادة الدنيوية
والسعادة الأبدية , لا يجنح من يسير ويستنير على سننها وشرائعها إلى ضلة الإثم
والعدوان، أو إلى هاوية الذل والخذلان، بل لا يهتدي إلا إلى طريق الهدى والمنهج
القويم والصراط المستقيم، ولا يرضى أن يشوب ما أوضحه له دينه الحنيف من
المبادئ والشرائع أدنى شائبة من الحبائل الأجنبية ومظاهرها الخلابة، ويشفق على
نفسه أن يصيبها تزعزع في العقيدة أو أن يتصدع منها في قلبه ركن من أركانها
يتهدم به كل ركن من أركان الخير والفلاح , وكل أصل من أصول السعادة، ويبذل
في سبيل صيانتها وقوتها ونصرتها ما كان بين يديه وكل ما تملك أيمانه من قوة
ومال ونفوذ، بل يقدم أبناءه وفلذات كبده واحدًا واحدًا، بل يقدم نفسه معهم في
ساعة الحرب طعمة لما يريد أن يهشم شيئًا من أطراف شدة عقيدته وعظمتها
ومجدها , ولا ينثني مطلقًا عن هذه الجهود والتضحيات، ما لم يكن قد تسرب إلى
قواه العقلية والنفسية شيء من النقص والاضطراب، أو تطاير شيء من أوراقها
وعروقها مع عواصف الانقلابات والتطورات الاجتماعية، أو أصيبت صحتها
بعدوى أخلاقية خارجية.
الدين الإسلامي هو نور الحق الذي انبلج في أفق الكون منذ أربعة عشر قرنًا
مضت، ذلك النور الذي أديرت وانقشعت أمام أشعته ظلمات الجهالة والضلالات،
وعلى بنيانه خفقت أعلام اليقين والعمران، وانتشرت روح الثقة والإيمان،
ورسخت في نفوس الشعوب كرسوخ النقوش في الأحجار الصلدة، فبذلك أصبحوا
بنعمة الله إخوانًا يشد بعضهم بعضًا، يتعاونون في السراء، ويتناصرون في
الضراء، يشفق غنيهم على فقيرهم؛ فيساعده، ويلتف صغيرهم حول كبيرهم؛
فيظاهره، فتجدهم أشداء على الكفار العادين رحماء فيما بينهم، يرون السعادة كل
السعادة في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وإظهار دينه على الدين كله ولو كره
المشركون. هكذا دينهم في كل زمان ومكان {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) .
الدين الإسلامي هو الدين الذي ألف بين قلوب الناس؛ فجرى في عروقهم دم
المحبة والألفة، وأمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يستعفوا، وأن يأكلوا
بالمعروف؛ فانغرست في نفوسهم الأمانة والعفة.
وعد الصابرين بأحسن الأجر، وأمرهم إذا عزموا أن يتوكلوا على الله،
فجبلوا على الإقدام والصبر، وبين لهم أن الأعمال بالنيات، وأمرهم بالطهارة؛
فنبت في قلوبهم الإخلاص والطهر، أمرهم أن يتعاونوا على البر والتقوى , وكرم
منهم من يمشي سويًّا على صراط مستقيم؛ فنشئوا على الاتحاد والاستقامة، وأمرهم
أن يقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونهم؛ فتمكن منهم روح الشمم والشهامة، بين لهم
أن في كتابه آيات لأولي النهى، وعبرة لمن يخشى، وأن من يؤت الحكمة فقد أوتي
خيرًا كثيرًا؛ فادرعوا بالموعظة والحكمة، وأمرهم أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء
لله ولو على أنفسهم؛ فلاذوا بالعدل والرحمة، أمرهم أن يتقوا الله ويكونوا مع
الصادقين , وأن يثبتوا ويذكروا الله كثيرًا؛ فاستعانوا بالصدق والثبات، وبين لهم
أن من اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليهم؛ ففطروا على الحرية
والمساواة، بين لهم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأمرهم إذا
قضيت الصلاة أن ينتشروا في الأرض , ويبتغوا من فضل الله؛ فلجئوا إلى العمل
والعلم، وبين لهم أن علو الهمة من الإيمان؛ فحثهم بذلك على المجد والعزم، أمرهم
أن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فتوطد بينهم أساس النجدة والمروءة،
وبين لهم أن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وأمرهم أن
ينفقوا أموالهم في سبيل الله؛ فسادت بينهم الآداب والسماحة. ذلك هو دين القيمة الذي
منحه الله عباده , وفضل المؤمنين به على سائر الأمم، يأمرهم بالمعروف والعدل
والإحسان، وإيتاء ذي القربى واليتامى أموالهم، ويجنبهم عن الفحشاء والمنكر
والبغي , وأكل أموال الناس بالإثم، وينهاهم عن النميمة والحقد والحسد , وما فيه
الخسران المبين لهم، وما كانت تلك الأوامر والنواهي منه سبحانه إلا رحمة منه ,
ونعمة من كبريات نعمه رغبة في سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحفظًا لكيانهم من أن
يصيبه عدوان المعتدين , وهم في غيهم وغفلتهم يعمهون.
كان والله عجبًا أن يحدث ما يقع في كل يوم , بل في كل ساعة تحت مشاهد
أنظارنا ومدارك حواسنا من صنوف الفتك والإجحاف بالعقد الإسلامي، ومحاولة
كسر أجنحته، وإفناء قوته، وإزهاق روحه، والمسلمون يكادون لا يشعرون بما
ينوبهم من طوارق الحادثات مع شدة وطأتها , وتحكيم أغلال الذل والاسترقاق في
أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، بل في ضروراتهم وإراداتهم، بل في أفكارهم وعواطفهم،
كأنهم يحسبون أن الإسلام هو الخنوع لسيطرة العدو الباغي , والاستسلام لما
ينصب عليهم من المحن والبلاء.
عجبًا والله ما نشاهد من الممالك الأوربية إذ كلما قام قائمهم يدعو إلى الفتح
والغزو وظلم الشعوب لا يقابل ذلك النداء لدى شعوبهم إلا بالتلبية والإجلال والتأييد،
فينقضون على أطراف ممالكنا ويشبعون أهلها طعنًا وسلبًا ونهبًا وتقتيلاً، حتى إذا
ما استقر لهم الأمر فيها جرعوا البقية الباقية منهم من سموم المدنية الغربية ما فيه
هلاك للأجسام وذهاب للإيمان، ويقلبون نظامها الإسلامي الجليل حتى تندثر معالمه ,
ويصير كأن لم يكن شيئا من قبل، هذا هو محور غايتهم من كل أفكارهم وحركتهم
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) .
كما كانت غرائز الجور والطغيان , وحب الفتك متمكنة من مشاعر الغربيين
كان إزاء ذلك من التخاذل والتجافي المتغلب على نفوس الأمة المحمدية , وميلها إلى
اللهو والطرب والغفلة عن عواقب الأمور مما جعل الأولين يتمادون في طيشهم
وظلمهم ووحشيتهم، ويغرقون في سلب حياة الإسلام , وضياع زهوه وبهائه بين
أمواج ما ينشرون من دعوات الفسق والكفر والفجور، وتحطيم حصون الدين
المنيعة، وهدم صروحه الجميلة، فيهيم المسلمون على وجوههم في مهامه الحيرة
والارتباك حتى يأخذهم أولئك لقمة سائغة، وغنيمة باردة إذا شاءوا محقوهم عن
آخرهم، وإن أرادوا أبقوهم آلات بين أيديهم يدفعون بها أينما تريد لهم أهواؤهم،
يسوقونهم لمحاربة بعضهم بعضًا سوق الأنعام إلى مواطن نحرها.
أليس بعجيب أن ينهض الريفيون في مراكش ويهبوا للمطالبة بحقوقهم
المهضومة؛ فيردهم على أعقابهم جنود سورية [2] والجزائر وتونس وغيرهم من
الشعوب التي تربطهم بهم رابطة العروبة والدين التي هي أقوى الروابط وأوثقها
فضلاً عن اشتراكهم في شاكلة الخسف والضيم، أليس من الغريب أن تغلب سورية
على أمرها بواسطة جنود مراكشية وصومالية، أليس ما يبعث على التحرق والحوقلة
أن تستعمل الجنود الهندية للمحاربة في مصر والعراق وتركيا، والجنود الإفريقية في
الهند وفلسطين، رحمتك اللهم الطف بعبادك المؤمنين , واهدهم إلى سبل الرشاد ,
واجعل لهم من ماضيهم وحاضرهم عبرة وموعظة لمستقبلهم فأنت خير الراحمين.
تفرق كلمة المسلمين فيما بينهم وعدم اجتماعهم في الآراء العقلية والوجدانيات
النفسية مما حسن في مخيلة الأوربيين غارتهم تلك , وسهل لهم سبلها حتى اندفعوا
يهدمون بناء الإسلام حجرًا حجرًا، ويخربون حديقته شجرة بعد شجرة، ويسعون
جهدهم في غرس المفاسد والآثام , وتحليل ما حرمه الله ومعصية ما أمر به، حتى
أذهلوا المسلمين عن أنفسهم، وزادوهم سكرًا على سكرهم وغفلتهم، وحمقًا على
حمقهم وغباوتهم، ذلك بأنهم فقدوا كثيرًا من موازنة إرادتهم وشعورهم بتكرار
الأعمال المغايرة لطبيعة أخلاقهم وشريعتهم، فتنكبوا سبل دينهم , وحادوا عن طرق
إرشاده وإصلاحه , واندفعوا وراء الشهوات والموبقات وأسباب الشقاق، كاندفاع
الجنادب إلى المواضع القذرة، ضاربين صفحًا عن هاتف الإيمان الذي يهتف من
أعماق صدورهم، الذي يهيب بهم إلى التعقب والاعتبار، والرجوع إلى أنفسهم،
ودفع عادية ما قد يغتال روح الإسلام وينقض دعائمه , مع عدم إحساسهم بداعية
الحق والواجب عمله في سبيل نصرة ملتهم وعقيدتهم، أشد ظلمًا لأنفسهم وأكبر
ضلالاً عند الله {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة: 109) .
إذا ضعفت ملكة العاطفة والحساسية من القلب , وهي القاعدة التي تبنى عليها
عماد العقيدة؛ ذهبت معها وسائل الشجاعة والإقدام وما يلازمها من خلال الشهامة
والثبات واقتحام المهالك، ويعدم الإنسان الصفات التي بها يتمكن من دفع المؤذيات
والذب عن حوضه وكيانه، بل تجده كثير التواني في حقوقه الشخصية والوطنية
والدينية، لا يحرك ساكنًا في سبيلها , ضربت عليه الذلة والمسكنة، وعاش طول
حياته كسيف الضمير حزينًا حسيرًا.
ولما كان لكل عمل من الأعمال وكل هيئة من الهيئات البشرية حيز معلوم
ودائرة محدودة لا يتعداها الإنسان؛ كان فيها ما يحمي قيامها ويقوم اعوجاجها
ويردع من ينزع إلى أحد حدي التفريط والإفراط فيها , ويرده إلى مواطن الحق
والصواب، ولقد كان من ضرورة الاجتماع الإنساني أن يكون من بينهم الضعيف
والقوي، فمن شأن الضعيف أن يرضخ ويستسلم للقوي، فإذا شعر بشدة الظلم ,
وقرب وجوب الفناء؛ كان الواجب عليه أن يفيق , ويثب على من ظلمه وثبة ترده
إلى صوابه وحده؛ بل وربما تحطمه تحطيمًا تامًّا وترد إليه جميع حقوقه تامة كاملة،
وإن القوي من شأنه الترفع والعلاء حتى إذا ما بلغ أعلى شأوها كان الطغيان
والتعدي أول نذير له بالسقوط.
أجل قد بالغ المسلمون في تخاذلهم , وفناء الثقة فيما بينهم بقدر ما لج
الغربيون في تصلفهم وتبجحهم، حتى حق القول بأنه إذا سار الطرفان على هذا
المسلك دون أن يكون لليقظة والنهوض سبيل لدى نفوس المسلمين؛ فإنهم يكونون
قاب قوسين أو أدنى من المحق والفناء، ويصبح التلاشي أقرب إليهم من حبل
الوريد، بل قل على شريعتهم السلام , فهلا تشعرون بالعاقبة , وهل أنتم منتهون؟
ألا أن من الهمة والحزم أن يتعاون المسلمون على نيل المنافع، ويتضافروا على
دفع المضار إذ قد تبين لهم أن في التدابر والتقاطع وترك الأمور على تيارها ما
يؤدي إلى الانحلال، في عناصرهم وذواء فطرتهم، والضعف في ملتهم، فيتفرق
شملهم، وتنفصم عرى الائتلاف بينهم، فتذهب ريحهم , ويصبحوا من الخاسرين،
فلقد آن أوان صحوهم من سكرتهم، ونهوضهم بعد سباتهم؛ ليتداركوا ما ذهب إليه
اختلافهم، ويمكنوا روح الوحدة والاعتصام من قلوبهم حسبما جاء به الدين , حتى
يكون العالم الإسلامي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالحمى والسهر، ما هذه إلا بينة الرشد تُوحَى إليكم , يصدع بين جنباتها الحق
المبين، أفلا تستمعون لها وتتلمسون محجتها باليقين، فإذًا تعتصمون بالعروة الوثقى
وحبل الله المتين، وتنبذون كل خلاب مهذار مخذال مهين إنه خير لكم لو كنتم
تعلقون، أم أنتم عن ذلك تعرضون {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ
يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 22-23) .
إن للحق مبادئ وغايات، وللباطل قواعد ومآرب، ولكل منهما شيعة وأنصار،
وليس علينا إلا أن ننصر الحق أو ننبذه، أو ندحض الباطل أو نرهبه، على أن
الحق ليس من الضعف لدرجة أن يرهب أو ينبذ؛ بل إن للحق سطوة عظمى فوق
بطش الباطل وطيش الضلال، تستولي على النفوس بدون جزع أو إرهاب،
فيعتريها الشعور بجلال الحق والإذعان لروحه، أفبعد ذلك يشغب الهارفون؟
جدير بالعلماء وكبار المفكرين وقواد الآراء في مصر , بل في جميع من سواها من
الدول المسلمة أن يتعاهدوا ويعقدوا الخناصر على إحكام رابطة الإسلام وتشذيبه مما
قد خالطه من الشوائب والأسقام، وأن يعملوا جميعًا في ذلك يدًا واحدة، وأن
يرسموا للشعوب الخطط القويمة والمبادئ الرشيدة، ويأخذوا بناصرهم حتى يتبوأ
الجميع مكانهم من العزة والمنعة، ويفوز الجميع بجني ثمار أفكارهم وأعمالهم،
وتمهيدًا لاتجاهنا إلى غايتنا التي ننشدها نقول:
(1) على كبراء المسلمين من العلماء والفلاسفة والرجال الروحيين ورؤساء
العشائر وحكام الأقاليم من سائر الأقطار الإسلامية أن يوالوا عقد الاجتماعات
المتعاقبة لإبداء آرائهم الصائبة , وأفكارهم الثاقبة في إصلاح شأن الإسلام , وجمع
شتاته , وتوحيد لوائه مع الرغبة الصادقة والعزم التام , وتوجيه الجهود إلى ذلك من
العام والخاص.
(2) سعي الجميع لتوثيق عرى المودة والتعاون بين الشعوب والحكومات
الإسلامية بحيث يعمل الفرد منهم في سبيل المنفعة العامة، وأن تعطف الجماعات
على مصالح الأفراد منها.
(3) القيام لإصلاح ذات البين بين الشعوب الإسلامية التي بين أفئدتها
ضغائن أو سوء تفاهم إذا طرأ ذلك , وإحلال الأخوة والصفاء والتضامن بدلاً من
ذلك.
(4) البحث في إصلاح شئون الأقطار الإسلامية ووسائل رفعتها وكرامتها،
والقضاء على كل ما يؤدي إلى نقص قدرها وهيبتها، وإقامة شعائر الدين والإرشاد ,
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(5) الإسراع في تنصيب خليفة المسلمين الذي يكون بالانتخاب كما كانت
الطريقة المتبعة لدى الخلفاء الراشدين الأربعة , لا بطريق الذرية والوراثة.
(6) أن يكون المرشحون للخلافة من أساطين العلماء الجهابذة ذوي العبقرية
على أن يكونوا من ذوي الجد والهمم والإرادة القوية والعزيمة الماضية العاملين
الممتازين بماضيهم المجيد المعروف، وكفاءتهم الشخصية، ومقدار ثقة الشعوب
فيهم من سائر الممالك الإسلامية على السواء.
(7) أن يكون مقر الخليفة القاهرة , ويكون مجردًا من السلطة الأجنبية , أو
أن يكون في أي قطر مستقل وأن يسري نفوذه الديني لدى جميع المسلمين على نص
الشرع والسنة.
(8) أن يكون للخلافة مجلس أعلى يسمى مجلس الخلافة ينعقد في أوقات
مخصوصة معينة برئاسة الخليفة , ويكون له عن كل قطر إسلامي نائب أو أكثر
للنظر في شؤون الإسلام والمسلمين المادية والمعنوية.
وختامًا نضرع إلى الله أن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه الخير والصلاح والسعادة
والعمران , وأن يهدينا إلى صراطه القويم وطريقه المستقيم , وأن يجعل الحق
والنجاح والحكمة رائدنا , إنه على ما يشاء قدير.
سيدي الأستاذ:
لقد أبديت لك صراحة ما أشعر به , وما ينبض به قلبي , بل وقلب كل مسلم ,
ولم أعرضه ولن أعرضه إلا على أنظار فضيلتكم كي تحكموا فيه بحكمتكم
المشهورة، والله على ما أقول وكيل؛
... ... ... ... ... ... ... ... يحيى محمد البكري
... ... ... ... ... ... ... ... ... بفرشوط
(المنار)
إن كل جملة من رسالتكم تدل على معرفتكم بحال أمتكم وعصركم إلا هذه
الاقتراحات في الخلافة، من الذي ينصب الخليفة؟ من ينتخبه؟ من يرشح جهابذة
العلماء ذوي العبقرية للانتخاب؟ أي مملكة ترضى أن تكون مقرًّا لخليفة منتخب
غير ملكها أو أميرها؟ أما قرأت يا أخي ما كتبته الجرائد المصرية من الطعن بمؤتمر
الخلافة , والسخرية من كبار العلماء لتأليف هذا المؤتمر؟ أما سمعت صياح ملاحدة
مجلس النواب في إنكار صرف مبلغ حقير من الأوقاف الخيرية على هذا المؤتمر
اتباعًا لملاحدة جريدة السياسة؟
__________
(1) وصف الكاتب لفظ السيد هنا بالأعظم , فوقف شعري عند رؤيتها , وذكرتها لتذكيره بعدم العودة إليها , وليعلم هو وغيره أنني لا أحب الإطراء , ولا أعشق الألقاب , وإنما أترك ما يكتبه إلي منها للأسباب التي بينتها من قبل , ومنها اتباع العلماء السابقين في ذلك.
(2) الذي نعلمه أن فرنسة لم تجند في سورية جنودًا وإنما هنالك قليل من متطوعة نصارى لبنان.(28/693)
الكاتب: مسلم غيور من مراكش
__________
التمدن الآثم، القاضي مترنيخ، تلقيح القضاء المصري
الجامعة المصرية تحت راية القرآن
رسالة من مسلم عالم غيور من مراكش
لجريدة السياسة خطط متبرقشة وبرنامج متموج يتدفق بالتفرنج الآثم، وتهلل
السياسة في إذاعته مهما كان بشعًا متوحشًا، وإن قراءها يعرفون الكثير من ذلك،
ومن أسمج ما رأينا فيها قصة مترنيخ المنشورة في عدد 1519 تاريخ 24 ربيع
الأول عام 1346 ولا ترى في (قصة اليوم) التي تنشرها السياسة في كل عدد إلا
أمثالها وأشنع منها.
وخلاصتها لمن لم يقرأها أن هذا القاضي الفاجر أو الوحش مترنيخ سطا على
فتاة , ويعلم الله كم استعد لسرقتها , واستشار إبليس اللعين في خداعها حتى تمكن
منها؛ فغصبها أثمن شيء لدى الفتاة (وهو عفافها) , ولا شك أنه دفع لها قناطير
مقنطرة من الأيمان بشرفه وشرف تمدنه أنه سيتزوجها على عادة شأن هذا التمدن
الوحشي.
حملت نيتاشا من ذلك القاضي المتمدن وولدت طفلاً ألقته في البحر خوف
العار والشناعة.
عثر البوليس على جثة طفل حديث الولادة , وشوهدت فتاة تدعى نيتاشا تلقي
به في قاع البحر , فقبض عليها , والبحث جار لمعرفة والد هذا الطفل.
يقول القاضي المتمدن بعد ذلك: ماذا يكون جزاء نيتاشا؟ لا بد أن يقتص منها
القانون , ثم يقول الوحش: تخيلت نيتاشا وهي واقفة تستعطفني في قاعة المحكمة
أن أرحمها وأرحم شبابها الغض , ثم يقول الفاجر مترنيخ بعد أن تكلف إظهار
تشنجات وخيالات مبرقشة كاذبة مغزاها أنه غالب نفسه (المتيمة) , ونفذ القانون
كما يجب.
لقد غصت المحكمة بجمهور المتفرنجين , وبكت نيتاشا واسترحمتني بصوت
مؤثر أهاج الشفقة في القلوب (الله في قلبه القاسي) , وأسال العبرات من العيون ,
ولكن حكمت … نعم حكمت , ويا لقساوة القانون … القانون يا دكتور … العدل
يا عزيزي.
نحن لا نفهم من شر هذه القصة وأمثالها إلا تلقيح الشباب بهذه الجراثيم الفتاكة ,
وإغرائهم بهذه الموبقات , وتعليمهم الاعتذار بعد الوقوع.
إذا كان هذا الوحش خان هذه الفتاة التي تفنن في وصف جمالها بدون خجل ,
فهل ضاق عليه القانون ولم يهتد لحيلة يخلص بها فريسته من العقاب والعار؟ إنه
لو تأمل قليلاً واعتمد على مادة من مواد القانون لما عدم مادة من مواده المرنة يمكنه
بها من تخليص نيتاشا بسهولة.
لا أدري أيهما أشد إجرامًا؟ خداعه إياها وسلب عفافها وحنثه في أيمانه , ثم
افتخاره بتنفيذ القانون الوضعي وهو المجرم المحتال المتعمد؟ , أو فحص مواد
القانون للعثور فيه على بند يخلص تلك الفتاة المخدوعة بلا شك، هلا راجع كتب
الحكمة التي تحض دائمًا على الرحمة والشفقة والتخلق بهما , والإيثار على النفس ,
ولو مع الخصاصة عوض تكرار مواد القصاص القاحلة الجافة؟ هلا درس باب
بدل الغلط الذي هو أصل من أصول الشرع الوضعي كما قيل وإن كنت أستبعده.
***
(بدل الغلط)
وقعت لي محاورة مع محام يقال: إنه بارع في فنه جدًّا في موضوع الغلط
(والعهدة عليه) خلاصته أن غلط القاضي في إلقاء نص الحكم يخلص الجاني أو
يدين البريء، فإذا سرق جانٍ ألف جنيه مثلاً , وثبت ذلك عليه ثبوتًا صريحًا , أو
أقر , وأراد القاضي أن ينطق بنص الحكم في مجلس القضاء كأن قصد أن يقول:
حكمت عليه بأداء الألف جنيه , فسبقه لسانه , وقال: حكمت ببراءته , فإن الألف
جنيه تضيع على ربها , وتذهب مع الإجراءات التي اتخذت تحت الأحكام العرفية
في مصر.
وإن أراد أن ينطق في مجلس الحكم على متهم ثبتت براءته بالحجج القاطعة ,
وأن يقول: حكمت ببراءته , فسبقه لسانه , وقال: حكمت بإعدامه نفذ الحكم،
وهكذا.
وكم انتفخ هذا المحامي انتفاخ العصفور بلله القطر , واغتاظ , وتهجم على
الشرع الإسلامي حين قلت له: إن القضاء الذي يدين البريء , ويفلت الجاني لا
يمكن أن يكون قضاء الإنسانية , وإن قضاء الإنسانية هو القضاء الإسلامي الذي لا
يعتمد إلا النصوص الصريحة والحجج الناهضة , ولا يُعرِّج أبدًا على أبواب الغلط
والشبه والأوهام.
وقد اشتد غيظه جدًا لما قلت له: إن قضاء القاضي الإسلامي لا يحل حرامًا
ولا يحرم حلالاً، وإن خطأ القاضي إذا كان صريحًا أو ظاهرًا فإنه ينقض الحكم ,
ولو طالت عليه الأيام والشهور.
دعاني إلى تسطير ما ذكر تنبيه الرأي العام الإسلامي الذي هو الأكثرية
الساحقة في مصر لما تريده جريدة السياسة وأذنابها من نشر هذه الأقاصيص
السمجة , فهي لا تفتأ تنشر أقاصيص اليونان والرومان والتفرنج الآثم، ولا تزال
ترغب في قراءة اليونان وأدبهم وفنونهم في حالة أنها تسعى هي وطاهاها في
إغراء المصريين بالإعراض عن آداب العرب وعلومهم وتاريخهم، ومع ذلك لا
تأتينا من آداب اليونان وغيرهم إلا بأبشعه وأثقله على النفوس.
ومن أعظم كبائرها وأكبرها جرمًا منصارتها لطه حسين , ونشر حماقته
وإلحاده فيها , والتمويه به وبجراءته , مع أن أكثر الجرائد حكمت بمروقه وتجرده
من القومية المصرية، وبتهجمه على الشريعة الإسلامية، دين الأمة والدولة،
والتحريش بالآداب العربية التي هي مادة الأدب العالي من آداب الإفرنج.
وأدهى من ذلك حماية الجامعة المصرية لذلك الأخرق المتطاول على آداب
الإسلام كأنها خلفت الدولة الإنكليزية في حماية الأقلية التي لم يسلم بها أحرار
المصريين لأعظم دولة على وجه الأرض.
وأدهى من ذلك وأمر ما نراه من استخذاء المصريين بما فيهم مجلس النواب
للجامعة المصرية , مع ظهور مكابرتها وشدة عنادها في ترك طاهاها على طغيانه.
أفلا تغري الجامعة بعملها هذا كثيرًا من الهيئات التي هي أشبه بحكومات
بتمسكهم بقوانينهم الداخلية في حالة أن مصر الفتاة تبذل أكثر جهودها لمحو جميع
الامتيازات.
يظهر أن الجامعة لا تهتبل بالمصريين ولا ببرلمانهم , وأن أساتذتها أو بعضهم
مأجورون لناحية من النواحي إن لم يكونوا مكرهين على حماية طه حسين داعية
الكفر والعصيان.
لو كانت تعتبر المصريين لقرأت انتقاداتهم بإمعان وتدبر , وأحلتها محلها ,
واقتدت على الأقل بمدارس العراق التي أكرهت.... نصولي.... على مغادرة
مدارسها بسبب كتابته على الدولة الأموية التي يحبذها جمهور المسلمين , ومع ذلك
انقادت وزارة المعارف لإرادة الأكثرية , وسكنت الفتنة.
لو قرأت الجامعة كتاب (تحت راية القرآن) لمؤلفه حامل راية البيان
مصطفى صادق الرافعي لما تركت طه حسين لحظة واحدة , ولتنازل كل واحد من
أعضائها والمدرسين فيها عن مرتب شهر , وأخرجوه من مصر , ونفوه إلى جزيرة
لارينون عوض الشهم الكريم بطل الريف العظيم.
من أعظم كبائر الجامعة أنها كادت تمزق شمل الأمة في سبتمبر سنة 1926
فاصطدم مجلس النواب مع الحكومة اصدامًا مفزعًا بسبب طاهاها , ولو لم يسع
أحرار مصر والمخلصون لها للتوفيق بينهما لخلاص مصر من ذيول محنها لوقعت
فتنة عظيمة , ولكن الله سلم.
هل تحب الجامعة أن يكون طه حسين في الجامعة أشبه بمومسة عجفاء علق
في أشراكها شاب مهذب عزيز على أهله , وأقاربه وأصدقاؤه يسعون لتخليصه من
تلك الحية الرقشاء , ويتوسلون بكل الوسائل لإنقاذه , والمحافظة على سمعته وسمعة
أهل بيته، والمومسة الفاجرة لا تقاومهم إلا باستبكائها على قلب ذلك الشاب الطيب
السريرة , وقبضها على فؤاده قبضًا محكمًا , وتظاهرها بحبه وتعشقه، ولولا
محافظتهم على فلذة كبدهم لسحقوا المومسة بنعالهم.
وأعجب من ذلك إبقاء المصريين على هذه الجامعة وإرسالُهم , أولادَهم لتعلم
الزندقة والإلحاد فيها؛ ليهلك من هلك عن بينة ويلحد من ألحد على رغم أنف
المصريين.
فسر إلى الإمام يا صادق الرافعي , واحمل كل يوم راية من رايات البيان ,
واحرق كتاب الأدب الجاهلي كما مزقت كتاب الشعر الجاهلي , ولا تفتر عن هدم
الجامعة بريشة قلمك حتى تقضي عليها قضاء مبرمًا كما قضى (أسد الإسلام) السيد
رشيد رضا في مجلته المنار على دولة الحسين طاغية الحجاز فدارت عليه الدوائر ,
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
وهذه جريدة الأخبار الغراء مفتوحة على مصراعيها لنشر كتابتك الرائعة ,
والله في عونكم جميعًا ما دمتم في عون الإسلام دين الإنسانية {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: 88) .
سيقول ساسة السياسة: ما لمراكش ومصر , فإن نظرت القذى الطفيف في
عيون المصريين , فما بالها تعامت عن الأخشاب في أبصار المراكشيين؟
وهلا نظر المراكشيون إلى حالتهم , وما هم فيه من التأخر والانقياد الأعمى
للمحتلين , والجهل الضارب أطنابه حتى إنه لا يوجد في مراكش مدارس ولا جرائد
أو مجلات أو أندية ولا جمعيات خيرية أو سياسية , ولا مجالس شورية أو تشريعية
حتى المجالس البلدية لا وجود لها هناك , فالرعية في مراكش كالغنم في يد الجزار
متى أرادها للذبح يسوقها بسهولة؟
سيقولون ذلك أو أكثر منه , ولهم الحق كل الحق , ونقول في الجواب , ونحن
في غاية الخجل، نقول لهم: لا يذفف على جريح ونقر لهم سلفًا بكل ما قد يدعونه ,
ومع ذلك نعيد عليهم النصيحة بأنه ما قاد المراكشيين إلى جحيم الاحتلال ,
ثم الهوان والخزي إلا أمثال طه حسين بمثل حماقته وانقياد القادة لأمثاله , حتى
حلت الحاقة الحاقة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وإن العاقبة للمتقين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور
__________(28/701)
الكاتب: قسطنطين ملحم
__________
لماذا دخلت في الإسلام؟
(نشرت بعض الجرائد العربية في أمريكا ثم في مصر مقالاً بهذا العنوان
لصحاب الإمضاء الذي هداه الله تعالى إلى الإسلام ببحثه الحر , وعقله المستقل ,
وفطرته السلمية؛ فلغط أهل ملته التقليدية في إسلامه بما شاءت عصبيتهم , فكتب
مقاله النزيه ردًّا عليهم قال) :
لم ألزم الصمت حتى الآن , ولم أتحاش إذاعة إسلامي على صفحات الجرائد
إلا لاعتقادي بأن الأمر ليس بذي أهمية تذكر.
وما هو إلا حادث بسيط خاص بي وحدي دون سواي، ولست بمؤد عنه
حسابًا إلا لخالقي عز وجل.
وما كنتُ لأحسب - وايم الحق - أن شخصي الحقير يستأهل مثل هذه
الاهتمام , ويستفز كل هذه الجلبة والضوضاء مستثيرًا الظنون المتضاربة والأقاويل
المتنوعة حول عمل كنت أعده بسيطًا , ولم يقعدني عن إذاعته إلا خوفي من أن
يحسب العاذل أنني أرمي من ورائه إلى حب الشهرة والمجد الباطل.
أما وقد وقع ما كنت أتحاشاه تواضعًا لا خوفًًا , فإنني لم أخف قط في قول
الحق , ولا خشيت فيه لومة لائم , فلم يبق بد من بسطي لبني وطني رأيي الصراح
في الأمر المذكور كي لا تبقى حسرة في نفس يعقوب.
ليس في اعتناق الإسلام مدعاة للاستغراب , ولا موضع للظنة والريبة، فإن
هو بحسب اعتقادي إلا تطور طبيعي يؤدي إليه التعمق في درس الأديان المتسلطة
اليوم على عقول البشر، اللهم إذا كان عقل الدارس غير مقيد بقيد غليظ يربطه
بأحد الأديان ربطًا محكمًا لا يستطيع الإفلات منه.
وليس غرضي الآن التبسط في شرح كل دين على حدة لتبيان أفضلية الواحد
على الآخر , فذاك أمر يستلزم مجلدًا ضخمًا، لا مقالاً واحدًا ينشر في جريدة سيارة ,
فأكتفي إذن من هذا البحر الواسع بالوشل مقتصرًا على بعض المميزات بين الدين
المسيحي الذي ولدت في أحضانه والدين الإسلامي الذي اتبعته.
لا جدال في أن الأول دين سام غاية في الجمال والنفع لبني البشر إذا جردناه
من الزوائد التي أدخلها عليه الأكليروس فمسخته مسخًا , وشوهته تشويهًا جعله اليوم
دينًا أقرب إلى المادة الفانية منه إلى الروح الشريفة السامية.
ادخل مثلاً إحدى الكنائس؛ فترى التماثيل والأيقونات والرسوم محيطة بك من
كل جانب.
تأمل ملابس الكهنة وزخرفتها وزركشتها، لاحظ بدقة طقوس الصلاة
والعبادة , وما يعتورها من رائحة بخور وابتهال حار لطغمة لا يحصى عديدها من
قديسين وقديسات يقومون سدًّا منيعًا دون الوصول إلى العزة الصمدانية.
تبصر في كل هذا وقل لي: ألا تحسب نفسك في هيكل أعد لعبادة الأوثان؟
تعالى معي الآن لندخل هذا الجامع الخالي من التماثيل والصور.
انظر هذه الجموع الغفيرة المؤلفة من مئات وألوف الرجال الأشداء.
تأمل خشوعهم العديم المثال , وسجودهم بورع زائد كأنهم رجل فرد أمام
الواحد القهار , أصغ إلى صلاتهم السامية في بساطتها والمختصرة [1] في كلمات
الشهادة
(أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الله أكبر الله أكبر)
انظر إلى إمامهم اللابس ثيابًا بسيطة كواحد منهم , والمتعمم بعمامة من الشاش
الأبيض الرخيص الثمن , وقابل ملابسه بملابس ذاك الكاهن أو المطران المزركشة
بخيوط الفضة والذهب , والمرصعة قلنسوته بالحجارة الكريمة.
في الجامع كل شيء يحولك عن بهرجة هذا العالم الفاني , ويصعد بك في
عوالم اللانهاية؛ ليضعك عند أقدام العزة الصمدانية.
أما في الكنيسة فكل ما يحيط بك يبعد عن الواحد الأحد , ويلصقك بالمادة.
قد يقول لي قائل: إن البروتستنت وهم شيعة من المسيحية قد نسخوا من
كنائسهم الرسوم , فلماذا لم تتبع مذهبهم وفضلت الإسلام عليه؟ ، فجوابي أن
المذهب البروتستنتي هو أقرب المذاهب المسيحية إلى الدين المسيحي الحقيقي ,
غير أنه يعاب في نظري لإقراره بألوهية المسيح.
وأنا مع اعتباري السيد المسيح من فضلاء المصلحين والأنبياء وفي اعتباري
النبوة وحي إلهي لا أقر له بالألوهية , ولن أعبد قط رجلاً مثلي من لحم ودم.
وهذه العقيدة راسخة في منذ بلغت رشدي , وقد جاهرت بها منذئذ بين أهلي
وأقربائي وكل من شافهني في هذا الموضوع من سنين طوال إلى يومنا هذا ,
فتطوري إذن ليس حديث العهد كما يتوهم غير عارفي، بل هو نتيجة اقتناع راسخ
مستحوذ لا عليَّ فقط , بل وعلى السواد الأعظم من المسيحيين المتعلمين الذين
سنحت لي مباحثتهم في الأمر، وجلهم ينكرون حتى وجود الباري تعالى عز وجل.
أما ميلي إلى الدين الإسلامي الحنيف , فليس حديث النشأة أيضًا، ولهم بذلك
علم (أعني) من كانوا يطلعون على كتاباتي في جريدتي المحتجبة (أداليد)
ومجلتي (لابالابرابورتانيا) ، فمنذ خمس سنوات خلت بدأت بالمدافعة جهرًا عن
الإسلام بقلمي ولساني بعد أن كنت أدافع عنه سرًّا بلساني فقط.
غير أن ميلي المذكور لم يصل بي إلى حد التدين نهائيًّا بالدين الذي آليت على
نفسي الدفاع عنه.
وما ذلك إلا لأني كنت لم أزل أجهل عنه الشيء الكثير , فعندما عولت على
وضع كتابي (شرائع الإسلام) رغبة مني في دحض افتراءات المفترين على
الشريعة السمحة رأيت نفسي مضطرًّا لمراجعة مصنفات الأئمة الأعلام , ومطالعة
أكثر من واحد من كتب الدين؛ فاتضح لي عندئذ بجلاء جمال هذا الدين السامي
وفضل المصلح الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على الإنسانية جمعاء؛
فصممت حينئذ على اتخاذ الإسلام دون باقي الأديان دينًا أتدين به , وكان ذلك عام
1924، أي حين انتهائي من وضع الكتاب المذكور.
بيد أني للأسباب التي ذكرتها آنفًا، ولحذري من سوء ظن أولئك الضعفاء
العقول الذين لا يبصرون أعمال بني جنسهم إلا مدفوعة بدافع مادي، ولا
يتصورون أن المرء قد يعشق الجمال لمجرد الجمال , بل لما يتضمن من لذة مادية
وحشية قلت: إني لهذه الأسباب تركت أمر إسلامي طي الخفاء إلى أن جاء زمن
إعلانه , ولم يبق في وسعي السكوت، لأن سكوتي الآن إما أن يحسب عليّ جبنًا
وخيانة , وإما مراوغة ومداجاة، فأكون نصرانيًّا مع النصارى ومسلمًا مع المسلمين،
وأنا بعيد عن ذلك.
فأنا منذ ثلاث سنوات مسلم بكل ما في الإسلام من مبادئ سامية وأفكار راقية
وروح تعاضد وحب خير وابتعاد عن المنكر.
والذي يزيدني تمسكًا به ما وجدته فيه من الحض على العلم والعرفان ,
ومطابقته روح المدنية الحقيقية.
فالإسلام دين علم وعمل , وبعبارة أخرى هو دين إيجابي، بعكس الدين
المسيحي الذي هو سلبي: يأمر بإنكار الذات التام , ويحض على الابتعاد عن كل ما
في هذه الدنيا من رزق ومتاع بصورة أن من أراد العمل [2] بأوامر الدين المسيحي
بالحرف الواحد؛ لزمه ترك الدنيا والتنسك في صومعة.
أما الدين الإسلامي فيمكننا العمل بأوامره تمامًا دون أن يحوجنا ذلك إلى
الابتعاد عن العالم وما فيه من لذة وتمتع غير محرمين.
ورب قائل يقول: إنه كان بوسعي أن أفعل كباقي متعلمي النصارى المحافظين
بالاسم فقط على دينهم , والعاملين فعلاً ضد تعاليمه , فجوابي على قولهم هو أني لا
أرضى لنفسي ادعاء ما ليس في , فما دمت لا أستطيع العمل بتعاليم الدين المسيحي
فما لي وللادعاء الفارغ بحملان اسمه.
ثم إني لأشعر بذاتي حقيرًا في عيني نفسي إن لم أجسر على التصريح
بأفكاري بحرية واستقلال , وكيف يحق لي طلب استقلال لبني أمتي وبلادي إذا
كنت لا أبدأ بإنالة روحي استقلالها؛ لتفعل ما تراه صالحًا وموافقًا لخلاصها وراحتها
الأبدية؟
وهل يليق بمن كان مثلي أن يظل أسير التقاليد إذا كان في هذه التقاليد ما ينافي
عقله واعتقاده؟ فإذا ولدت مسيحيًّا من أبوين مسيحيين، هل يكفي ذلك لبقائي على
الدين المسيحي حتى لو كان هذا مخالفًا لما يوحيه إلي ضميري ويمليه عقلي؟
ولو كان هذا صحيحًا ومقبولاً لما جاز للسيد المسيح عليه السلام وتلاميذه
الأبرار ترك اليهودية والتبشير بالنصرانية , ولا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
وصحابته (رضي الله عنهم) هجر عبادة الأصنام، ونشر الإسلام من المشرق إلى
المغرب.
إن سنة النشوء والارتقاء تقضي ببقاء الأصلح , فمن ترك أمرًا صالحًا للتمسك
بما هو أصلح منه , أو بما يعتقده أصلح منه كان عاملاً بأوامر تلك السنة الأزلية
التي لا مرد لأحكامها.
هذه هي حقيقة حالي والأسباب الجوهرية التي حملتني على اعتناق الإسلام
لأقف على خدمته البقية الباقية من عمري.
... ... ... ... ... ... ... ... ... قسطنطين ملحم
__________
(1) أي المختصرة معانيها ومقاصدها الكلية في الشهادتين والتكبير.
(2) أي بحيث أن من أراد العمل إلخ.(28/705)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سعد زغلول
(2)
تكلمنا في النبذة الأولى من هذه الترجمة على فطرة سعد الزكية، وغريزته
الاستقلالية، ووراثته للسجايا العربية، كالفصاحة والشجاعة والحرية، وحاجته إلى
تربية حكيمة وتعليم نير يكمل بهما استعداده لعظائم الأمور.
ثم تكلمنا على هداية الله له , وسوقه إياه عند إرادته طلب العلم إلى حضن
الأستاذ الإمام , فكان له تلميذًا عنه يتلقى العلم، ومريدًا إليه ألقى مقاليده في تربية
النفس، كما أنه أدرك معه أواخر عهد حكيم الأمة السيد جمال الدين الأفغاني، فكان
يختلف إلى مجالسه، ويلتقط بعض ما ينثر من درره، وتنفعل روحه بما يتجلى في
شكل خلقته، وعلو همته، وملامح نظرته، من شعاع ينبعث من عينيه، وحرارة
تفيض من بين جنبيه، وحكمة تتدفق من بين ماضغيه، وهمة تتضاءل أمامها
العظائم، وشجاعة تجبن دونها الضياغم، وناهيكم بفصاحة لسانه، وقوة عارضته،
وتأثير خطابته.
حدثني حفني بك ناصف وهو كسعد ومحمد باشا صالح من الرعيل الأول من
تلاميذ الأستاذ الإمام قال: كنا إذا قيل لنا: إن السيد سيخطب الليلة نفضل سماع
خطبته على سماع أطرب المغنيين (كالسي عبده) فنؤثرها عليها حتى إن المدعو
منا إلى وليمة عرس يترك الإجابة لها، وكنا نجد في أنفسنا من سماع خطبته (وكذا
سائر كلامه في الإصلاح) أن الواحد منا جدير بإصلاح مديرية أو إصلاح مملكة
اهـ.
قد صار جميع الذين اختلفوا إلى مجلسه خطباء يتفاوتون بقدر معارفهم
ولسنهم، وكان الأستاذ الإمام أوسعهم علمًا وأصحهم حكمًا وأفصحهم لسانًا
وأحسنهم بيانًا وأبلغهم قلمًا، وكان يليه في سلاسة الإنشاء ودقة التعبير إبراهيم بك
اللقاني، وانفرد إبراهيم بك المويلحي ببلاغة الترسل ونكت النقد، فخلف وراءه
فيهما كل أحد، وخطابة إبراهيم بك الهلباوي معروفة للجماهير لأن الشيخوخة لم تنل
من منته، ولم تضعف من شرته، ولم تخفض من جرس صوته، وقد اشتهر السيد
عبد الله نديم بخطابة التهييج في عهد الثورة العرابية فكان مسعر نارها , ولم تكن
تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، فإنه ذو خلابة وغلو، ولا يهيج العوام إلا
الغلو، وأما سعد فقد بز الجميع في الخطابة الجدية بعد أن زاولها في عهد اشتغاله
بالمحاماة، وإن أصعبها مركبًا، وأعزها مطلبًا، وأعلاها على العقول منالاً،
وأعصاها على فصاح الألسنة مقالاً، لهي الخطابة السياسية، في متنازع المصالح
الدولية والمطامع الاستعمارية، كما هو شأننا مع الدولة البريطانية، وقد أصاب
سعد القدح المعلى منها، حتى شهد له أشهر خصومه الإنكليز وغيرهم بنبوغه
فيها، وكانت أفعل مواهبه في زعامته، وكان مع هذا كاتبًا مجيدًا، والأستاذ
الإمام هو الذي علمه الإنشاء، ثم مرنه عليه بجعله أحد المحررين بالقسم الأدبي
في الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) في عهد توليه لرياستها مع إدارة
المطبوعات العامة.
وقد رأى القراء نموذجًا من مكتوباته العادية لأستاذه وأستاذنا إذ كان في
بيروت عقب نفيه من مصر [1] .
***
(3) إيمان سعد وخلائقه وتأثيره في عمله
قد علم مما تقدم أن سعدًا تربى في حجر الأستاذ الإمام تربية إسلامية استقلالية ,
فكانت عقيدته الدينية راسخة , وآدابه الإسلامية عالية ظهر أثرهما في أعماله
الكسبية , ونزاهته فيها عن الطمع والدناءة وأهل السحت، بل كان يقيد في دفاتره
ما يأخذه من مقدم جعل الوكالة في المحاماة في دفتر الأمانة لا في دفتر الدخل
والإيراد، ليردها إلى صاحبها إذا لم يقدر على عمل شيء له.. ولم يكن يقبل
الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها على الباطل، وربما كان ينصح لبعض الذين
يطلبون توكيله عنهم نصائح يستغنون بها عن توكيله، حدثنا عن نفسه أن رجلاً
عرض عليه أن يوكله في قضية ذكرها له , فقال له: إنني لا أقبل جعلاً منك أقل
من مائتي جنيه، وقضيتك هذه بسيطة لا يحتاج المدافع فيها عنك علمًا واسعًا , ولا
حججًا تعجز أنت عن الإدلاء بها كما ألقنك، فأنا أذكر لك ما أدافع به عنك إذا قبلت
الوكالة , وأرجو أن يحكم لك به كما يحكم لي إذا كنت صادقًا فيما ذكرت لي من
موضوع القضية، فاسمع ما أقوله لك , ووفر على نفسك مبلغ 200 جنيه , وذكر
له ما يجب أن يدافع به , فقال الرجل: بل أرجو أن تقبل الوكالة عني , وتدافع لي
في المحكمة بنفسك وتأخذ الجعل حلالاً طيبة به نفسي.
قال سعد: فقلت له قبلت , وسترى وتسمع صدق ما نصحت لك به،
وذهب إلى المحكمة في بنها ومعه الموكل , وقال فيها عند الدفاع عنه ما كان ذكره
له بعينه , وحكمت له المحكمة على خصمه , (قال) : وكان دفع لي نصف الجعل
فلما جاءني بالنصف الآخر قال لي: أتظن أني أبله (عبيط) لم أفهم نصيحتك لي
أو لم أصدقها؟ كلا إنني فهمتها وصدقتها , ولكنني رجل ذو نعمة وأطيان واسعة ,
وقد كثر المعتدون علي , فأردت أن يعلموا أن وكيلي (سعد زغلول) ليكفوا عن
الاعتداء علي , فأنا وفرت بهذا المبلغ مالاً كثيرًا أو تعبًا لا يُعْرَف آخِره! . اهـ
وهذا القول يدل على بعد مدى الصيت الذي وصل إليه سعد في أثناء اشتغاله
بالمحاماة.
ثم إن سعدًا دخل في أطوار التفرنج في معيشته وأفكاره الاجتماعية والقانونية،
وغلبت نزعة الوطنية المصرية عنده على فكرة الجامعة الإسلامية، وظل يقول بأن
المسلمين لا يرتقون ارتقاء صحيحًا إلا بالإصلاح الديني الذي كان يدعو إليه
الحكيمان أستاذه وأستاذ أستاذه، وأما العبادات فلا نعلم أنه كان يذهب إلى المساجد
إلا في بعض الاحتفالات الرسمية في عهد وزارته وبعض صلوات الجمعة في زمن
زعامته، وأنكر عليه أهل الدين أمورًا منها عمله في تجرئة النساء على السفور
المتجاوز للحد الشرعي، ولكنه قاوم الدعوة إلى لبس البرنيطة.
وأما إيمانه بالله وتوحيده له وتوكله عليه فلم يزدد في هذه السنين الأخيرة إلا
قوة وثباتًا، حتى إنه صار حالاً له ووجدانًا، وقد بلغ من الإيمان بالقضاء والقدر أن
صار من قبيل من يسميهم الصوفية أهل الفناء في التوحيد , أو ممن يسميهم
المتكلمون بالجبرية , فكان كثيرًا ما يصرح في الكلام على كل ما مسه من مصيبة،
وكل ما أُوتي من فلج على الخصوم في حادثة، بأن هذا فعل الله وحده، وأنه لا
حول له فيه ولا قوة، حتى إنني ناظرته في بعض كلامه هذا , وبينت له فيه مذهب
السلف ومذهب متكلمي السنة , فكان يقول: إنني أعبر عما أشعر به , وأراه
ضروريًّا لا اختيار لي فيه مهما تكن المذاهب، وكان أول عهدي بهذه الحال فيه
عقب فوزه المضاعف في انتخابه للجمعية التشريعية في دائرتين، بعد أن تصدى
لمناهضته في الانتخاب صاحبا السلطتين، سلطة الأمير الشرعية، وسلطة عميد
الاحتلال الفعلية.
وقد جرى بيني وبينه مناظرات كثيرة في بعض المسائل الشرعية الاجتهادية ,
وبعض المشكلات في تفسير القرآن , فكان فيها كلها متحليًا بالاستقلال والإنصاف لا
يتعصب لرأيه ولا فهمه، ولا يجد أدنى غضاضة في قبول ما يظهر له أنه الصواب
وكان يسأل عن بعض المشكلات سؤال استفهام لا يشوبه رأي يحتج له أو يدافع عنه.
جلست بجانبه في مأتم صديق الجميع حسن باشا عاصم رحمه الله تعالى ,
وكان القارئ يقرأ سورة النمل , فسألني عدة مسائل في بعض الآيات , وقبل مني
كل ما أجبته به عنها , وربما كان يكون الجواب كلمة واحدة.
مثال ذلك أنه سأل عند قوله تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا
دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} (النمل: 34) الآية , قال: إن
الأمر ليس كذلك الآن، وكم يحفظ التاريخ مثل ما تراه الآن من زيارة الملوك
لعواصم غير بلادهم , فما المراد من الآية؟ قلت: المراد إذا دخلوها فاتحين , قال:
ظاهر.
وسألني مرة عن الإنجيل المنزل على عيسى بن مريم كما ورد في القرآن أين
هو؟ وإنما عند النصارى أربعة أناجيل هي عبارة عن تواريخ وجيزة كالسيرة
النبوية عندنا، قلت: إن الإنجيل المفرد المذكور في القرآن مذكور في هذه الأناجيل
الأربعة أيضًا , وفي غيرها من كتب تلاميذ المسيح ورسله المعبر عنها عندهم
بالعهد الجديد كقوله للحواريين (التلاميذ) : (واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) كما
ترى في أواخر إنجيل لوقا عنه عليه السلام.
وأول كلمة في إنجيل مرقس: (بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله) , فهذا
الإنجيل المفرد في كلامهم هو الذي يعنيه القرآن , وهو ما كان يعظهم ويبشرهم به ,
ولم يوجد كله في كتاب كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) إلخ ما فصلته له ,
فأعجبه , ومن شاء الوقوف عليه فليراجعه في أول تفسير سورة آل عمران وغيره
من تفسيرنا.
فمن كان يسمع منه إشكالاً مثل هذا أو ذاك يظن أنه معترض على القرآن وهو
لا يبالي ذلك، والأقرب أن يقال: هو مستشكل لا معترض، ولولا أنه كان صريحًا
في أمثال هذه الإشكالات إذا عرضت , ومجاهرًا بما أنكرنا وأنكر غيرنا عليه لما
ذكرناه. وأرجى ما يرجى له عند الله تعالى قوة إيمانه به وتوحيده إياه توحيدًا علميًّا
وجدانيًّا لا يشوبه شرك في ألوهيته تعالى ولا في صفاته ولا في أفعاله، حتى كاد
يكون منكرًا للأسباب أن يكون لها تأثير في الوجود كما علمت , وأنه كان إذا ظهر
له الحق يذعن له وينقاد , فهو حسن النية فيما أخطأ فيه.
لهذا أنكرت على الذين كانوا انشقوا عليه من الوفد , وطفقوا يطعنون عليه
بأنه متكبر مستبد، وعلى من قلدهم في ذلك، أنكرت على هؤلاء كلهم قولاً
ومناظرة لبعضهم في المجالس وخطابًا على المنابر وكتابة في المنار، وقد كتبت
مقالاً طويلاً في تلك الأثناء نشرته في الجزء 7 من المجلد 22 (سنة 1329
هـ 1921م) بلغت صفحاته 27 صفحة عنوانه (الطور الجديد للمسألة
المصرية) ومما ذكرته فيه من خطبة لي في إحدى الاحتفالات بعد عودته من أوربة
إثر تولية عدلي باشا للوزارة وظهور الشقاق في أثنائها ردًّا على من اتهم سعدًا
بالكبرياء والاستبداد بالرأي (إن الذي نعهده فيه بالاختبار هو الاستقلال في الرأي ,
واحترام الحقيقة , والاعتراف بها إذا ظهرت له، وطالما شهدنا له في داره
محاورات في مسائل علمية وشرعية واجتماعية كان ينصف فيها مناظريه ومحاوريه
بكل ارتياح، ويعترف بصحة رأيهم إذا ظهر له أنه الصواب، وربما كنا معهم أو
منهم في بعض الأحيان) اهـ.
على أنه كان شديد الإعجاب بنفسه، وعدم المبالاة بخصمه؛ بل غلبت عليه
في المدة الآخرة المحاباة السياسية، على ما سبق له في الأولى من العدالة القضائية،
فصار يؤثر المتملقين له على المتنزهين عن التملق والدهان حتى من محبيه
الناصحين , وكنت ذكرت في مقالي المذكور آنفًا (الطور الجديد للمسألة المصرية)
ما ينتقد عليه من ضعف السياسة بغلب ملكة القضاء عليه، ولما قرأ تلك المقالة في
المنار قال: هذه مقالة تحفظ للتاريخ، سمع هذا منه محمد بك يوسف المحامي
المشهور , وهو الذي نقله إلي.
وجملة القول أن سعدًا قد ربي تربية إيمان وعقل، واستدلال واستقلال،
وحب للحق والعدل، وعزيمة قوية، وشجاعة أدبية، فكانت هذه التربية سبب
نجاحه في كل عمل تولى أمره، وكانت أعماله في الكتابة والتحرير , ثم في
المحاماة , ثم في القضاء في وزارتي المعارف والحقانية , ثم في الجمعية التشريعية
هي المكملة لاستعداده الفطري لزعامة الأمة , واضطلاعه بما حمل من أعبائها،
والاستهانة بأعظم الأخطار في سبيلها، وكان استعداد الشعب مع استعداده هما
السبب فيما نال من الفلج والظفر في مكافحة بريطانية العظمى فقد صرحت الجرائد
الإنكليزية المشهورة بأن كفاحه كان هو السبب في رفع الحماية الرسمية عن مصر
والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة القومية، ولما كان هذا الاعتراف مقيدًا بما سموه
التحفظات الأربع لم يعتد ولم يزده إلا مضاء في جهاده.
والأمة لم تأل جهدًا في تأييده وتفويض أمر قضيتها له، ولولا ذلك لذهب
استعداده كما ذهب استعداد أستاذه الذي كان أكبر من استعداده كما سنفصله في النبذة
الثالثة من هذه الترجمة إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) مر في ص 591 ج8 أن ذلك الكتاب كان بعد عودة الأستاذ من أوربة إلى بيروت والصواب أنه كان بعد ذهابه من مصر إلى بيروت وقبل سفره إلى أوربة , ووقع غلط آخر في ص 590 من تلك النبذة وهو أن محلة نصر بلدة الأستاذ في مديرية الغربية والصواب أنه في مديرية الشرقية كما بيناه في ترجمته وتاريخه، وكان الغلط من المطبعة.(28/709)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
التقريظ والانتقاد
(الحديث)
مجلة: (تبحث في الآداب والتاريخ والعلوم الاجتماعية) أنشأها
في حلب كل من سامي أفندي الكيالي وهو محررها ومديرها المسئول , وأدمون
أفندي رباط.
قيمة الاشتراك فيها 75 قرشًا , وإنه ليسرنا أن تكثر المجلات العلمية والأدبية
في أمتنا , ولكن يسوءنا أن يكون بعض هذه المجلات أضر على الأمة من بعض
الجرائد السياسية التي تخدم الأجانب الضراة باستعبادها واستعمار بلادها، وتمهد
لهم السبيل لذلك , فإن جمهور الأمة يسهل عليه أن يدرك خيانة هؤلاء , فإن ثوب
الوطنية المزور الذي يلبسونه نهنهٌ يشف عما وراءه، وأما إفساد المجلات والجرائد
لتكوينها بتقطيع الروابط التي توحد جمعها وتجمع كلمتها من دين ولغة وأدب
وتشريع وهو ما نعبر عنه بمقوماتها، ومن عادات وأزياء وهو ما نعبر عنه
بمشخصاتها، فلا يدرك كنهه ويحيط بمفاسده إلا أفراد قليلون، ذلك بأن أولئك
المفسدين يدعون أنهم يخدمون العلوم والآداب ويرقونها لتنهض بها الأمة إلى
مستوى الأمم العزيزة الراقية، ويقل من يدرك أنهم يخربون بيوتها بأيديها وأيدي
أعدائها من حيث يعجزون عن بناء بيوت أخرى لها تكون خيرًا مما هدموا.
ذلك مثل بعض محرري جريدة السياسة ومجلة الهلال بمصر كسلامة موسى
وطه حسين ومحمود عزمي … المنتحلين لأنفسهم صفة تجديد الثقافة، وإننا نرى
مجلة الحديث السورية معجبة بهؤلاء منوهة بآرائهم مثنية عليهم، فإن كان محررها
العريق في هذه الأمة العربية، الأصيل في بيوتات هذه الملة الإسلامية، غير مقلد
لهؤلاء الواغلين عليهما، الأدعياء فيهما، الذين لا ينزع بهم عرق غيرة عليهما ,
ولا موافق لهم في كل رأي من آرائهم، ولا مائل مع كل ريح من أهوائهم، وهو ما
نعتقده في نفي الكلية لا الكل المنطقيين فلماذا لا يفتأ ينوه بهم، بما يغري قراء
مجلته باتباع خطتهم، وهي ما يسمونه الثقافة الجديدة التي يحكمونها في كل ما
أشرنا إليها من مقومات الأمة ومشخصاتها، وبذلك كانوا دعاة هدم وإفساد فيها؟
الثقافة في اللغة مصدر ثقف الرجل (كضخم) أي صار ثقفًا وثقيفًا , ويقال
ثقف (كتعب) أيضًا أي صار ثقفًا أي حاذقًا خفيفًا، وهذا الحذق والخفة اللذين
يدعو إليهما هؤلاء الملاحدة مفسدة ظاهرة للأمة الإسلامية وشعوبها , ولا سيما
العربية ذات التشريع العادل والتاريخ المجيد، غايتهما تقليد ملاحدة الإفرنج وفساقهم
فيما يشكو منه جميع عقلائهم وحكمائهم، وهو فيهم عرض من أعراض الترف
والثروة والسيادة والملك الواسع، فلو لم يكن في نفسه مفسدة لكان ضارًّا للشعوب
الضعيفة الفقيرة الجاهلة كشعوبنا، فكيف وهو الذي أفسد شعوب المدنيات القديمة
ذات البأس والقوة، ولا يشك حكماء أوربة اليوم بأنه سيفسد مدنيتهم في زمن لم يعد
بعيدًا حتى إن بعضهم يعد عمر بعض الدول الكبرى بعشرات السنين، ولدينا عنهم
نقول كثيرة في ذلك قد نشرنا بعضها.
هذا , وإن هؤلاء الدعاة للثقافة الجديدة التي تشمل في استعمالهم ثمرة العلوم
والفنون والآداب والأديان ليس لأنفسهم حظ منها إلا بعض مدلولها اللغوي , وهو
الخفة الشبيهة بخفة الصبيان فهم عاقون لأمتهم هادمون لهدايتها وتشريعها وآدابها ,
بل ساعون لابتلاع الإفرنج لها، ومنهم المستخدمون لذلك , وهم يوهمون الناس في
هذه الأيام أنهم مبدعو هذه الدعوة في بلادهم , وليس كذلك بل ابتدعها في مصر
الخديو إسماعيل اغترارًا بزينتها وشهواتها , فهو أول من أراد أن يجعل مصر
أوربية , وله في ذلك كلمة مشهورة , فكان أول ثمرة منها جناها فقد ملكه، وأما جده
محمد علي فإنما أخذ عن أوربة أسباب الثروة من صناعة وزراعة وأسباب القوة،
وهو الواجب على كل شعب شرقي يملك أمر نفسه دون تقليد القردة في الأزياء
والزينة والعادات وحرية الفسق والفجور والكفر التي يدعو إليها منتحلو الثقافة
الجديدة، وإنا لنرجو من مجلتنا السورية الجديدة التي لا يملك هو ولا غيره من
أهل وطنه شيئًا من أمر تعليم الشعب ولا تربيته ولا إدارته ولا سياسته أن يحرر
أولاً تحديد الثقافة والتجديد الذي يحييه , ويجعله شعبا حرًّا قويًّا؟ فإنا لنضن بابن
الكيالي الكريم أن يكون مقلدًا لسلامة موسى ومحمود عزمي وطه حسين الذي لا
وطن لهم ولا ملة ولا أمة عليهم.
***
(العصور)
(مجلة انتقادية في الأدب والعلم والسياسة، محررها وصاحب امتيازها
إسماعيل مظهر) تصدر بمصر في كل شهر إفرنجي , وقيمة الاشتراك فيها كل سنة
60 قرشًا في مصر و15 شلنًا في سائر الأقطار.
إسماعيل مظهر بك شاب بحاث في العلوم العصرية عاشق لها , وقد جعل
عنوان مجلته المبين لغرضه منها قوله الذي ينشره تحت عنوانها في كل جز منها:
(حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة حتى لا تجد صعوبة ما في رفض
رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب، اطمأنت إليه نفسك، وسكن إليه عقلك، إذا
انكشف لك من الحقائق ما يناقضه) .
هذا عنوان فلسفي حسن , ونصيحة أحاول الجري عليها في جميع أبحاثي
حتى الدينية منها، ولكن لا أدري أفهمي لها موافق لفهم كاتبها أم مخالف له؟ ،
التقاليد في عرف علمائنا هي العادات الموروثة , وكل رأي غير قطعي يتبع فيه
الإنسان من لا يمتاز عليه بعصمته عن الخطأ في تبليغ عن الله تعالى، فهو يتبعه
بغير دليل , والأساطير هي أخبار الأوائل المسطورة في الكتب الخرافية التي لا
يثبت فيها نقل، ولا يعرف لها أصل، والمذهب هو طريق من طرق الاستدلال
الاجتهادية التي لم تصل عندك إلى درجة اليقين، الحقائق جمع حقيقة وهي ما ثبت
باليقين والقطع , والنقيضان هما الأمران اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان كإثبات
الشيء ونفيه في حال واحدة وزمن واحد إلخ ما هو مقرر في علم المنطق من
شروط التناقض.
فالقرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين لا يدخل عندنا
من التقاليد ولا الآراء ولا المذاهب، فضلا عن الأساطير، فإذا كان فهمنا لكل ما
ذكر واحدًا، فإن عنوان مجلته لا يعارض ديننا الإسلامي في عقائده وأصوله ولا في
فروعه الاجتهادية أيضًا.
وذلك أن نؤمن برب وإله واحد نعبده ولا نعبد غيره، ونؤمن بأن محمدًا عبده
ورسوله وخاتم النبيين وأن القرآن كتابه المنزل الثابت بالتواتر القطعي عن رسوله
صلى الله عليه وسلم نؤمن بما دل عليه دلالة قطعية، ونأخذ بظاهر ما دل عليه
دلالة ظنية، إلا إذا عارضه دليل قطعي يبيح لنا حمله على مجاز أو كناية تتفق مع
الدليل القطعي المعارض , وكذلك نأخذ بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
من أمر الدين بالدليل القطعي رواية ودلالة ونستعمل اجتهادنا فيما روي عنه من
الظني فيهما. وفي هذه الحالة لا يجوز له أن ينشر في مجلته ما يشكك القراء في
الدين الذي هو الوازع النفسي لاجتناب الفواحش والمنكرات , واستحلال الأموال
والأعراض، والتحلي بالفضائل والأعمال الصالحات، بل لا يباح هذا الإفساد في
الأمة لعاقل , فإن الفلسفة الحق تحظره أيضًا كما بينه الفيلسوف العربي الكبير ابن
رشد بما معناه أن الفيلسوف لا يبيح لنفسه البحث في حقيقة الدين وصحته لأنه
عبارة عن التشكيك في الفضيلة , ومحاولة البحث هل هي ثابتة أم لا. الناس
يمكنهم التشكيك في كل شيء وقد فعلوا، فإذا أرادوا أن يشككوا في فائدة علم الطب
مثلاً فإنهم يجدون على ذلك شبهات كثيرة وحقائق ووقائع صحيحة تشكك غير
المحقق في ذلك , ولكنهم يكونون في ذلك مفسدين جانين على الناس، وإن نفع الدين
للبشر فوق نفع الطب فالتشكيك فيه أشر وأضر، وأدهى وأمر.
وإننا مع هذا نسأل صاحب العصور الواسع الاطلاع أن يعد لنا كل ما أجمع
علماء الغرب وعقلاؤهم عليه , ويعدونه من حقائق العلوم القطعية التي يجزمون بأنه
لا يمكن الارتياب فيها ولا الرجوع عنها، أو كل ما يعلمه من ذلك ليعلم قراؤه منه
ما الذي يجب ترك كل مذهب وكل رأي يخالفه لأجله، ولنرى نحن علماء الدين
الإسلامي والدعاة إلى هدايته والمدافعين عنه رأينا في موافقته أو مخالفته لقطعيات
الإسلام وما هو بين هذا وذاك، وأما إطلاق المشككات في هداية الدين تلذذًا
بنظريات بعض الباحثين، فهو فتنة في الأرض وفساد كبير، فعسى أن يتأمل
فيلسوفنا الشاب في ذلك ويراعيه فيما ينقله إلينا من علوم الغرب الناضجة.
***
مطبوعات المطبعة العصرية
لصاحب المطبعة العصرية المتقنة إلياس أفندي أنطون إلياس عناية بنشر
الكتب والرسائل التي يصح أن توصف بالعصرية كمطبعته وهذه طائفة منها أهداها
إلينا.
(التربية الاجتماعية)
تأليف علي أفندي فكري أمين دار الكتب المصرية وموضوعه الآداب التي
تجب مراعاتها في هذا العصر بين أصناف الناس من شخصية ومنزلية
واجتماعية ووطنية ودينية وآداب المحادثة والمناظرة والمراسلة والمرافعة
والضيافة والزيارة والتهنئة والتعزية وجميع أنواع الاجتماع، والكتاب مؤلف
من 200 صفحة ونيف بقطع رسالة التوحيد، وهو يطلب من طابعه ومن
مكتبة المنار وثمن النسخة منه 10 صاغ.
***
(المرأة الحديثة وكيف نسوسها)
بقلم الكاتب القانوني الاجتماعي (عبد الله حسين الخريج في الحقوق والعلوم السياسية) وفيه فصول عن المرأة الإنكليزية للموسيو (جلليكان) افتتح هذا الكتاب
مؤلفه بمقدمة في وجه الحاجة إلى مباحثه , وخلاصة تلك المباحث وهي في عشرين
فصلاً:
(1) في الخلاف بين الجنسين في القبائل الوحشية والحب والبغض وكونهما
يوجدان معًا.
(2) في سوء التفاهم الدائم بين الجنسين ومن مباحثه: المرأة والدين،
المرأة والفن , ظلم النساء.
(3) الزوجان في الحب.
(4) الحرب الزوجية , ومن مباحثه: الزواج الأمثل، رأي المرأة الحديثة
في الزوجية، الزواج في الحال والاستقبال، المقابلة بين الحياة الزوجية والمعاشرة
الحرة أي السفاح واتخاذ الأخدان.
(5) العراك في الأسرة.
(6) النزاع في الكسب , وفيه الكلام في احترام النساء ونتائجه.
(7) المعركة السياسية، ومن مباحثه الخوف من حكم النساء , تطلع المرأة
إلى الحرية , عداء الرجال باستعمال القوة في الحرب الجنسية.
(8) هل السلام ممكن؟ ذات بين الزوجين.
(9) المرأة والكتاب , ومن مباحثه: المقابلة بين المرأتين الإنكليزية
والمصرية , مسائل المرأة في العالم الواحد، الحب وَهْم.
(10) صفات الزوجية , ومن مباحثه: الزواج ليس ضروريًّا دائمًا , خطر
النسل على هناء الزوجية , المرأة تحت القوة , الفتور في الزوجية.
(11) اختيار المرأة خطيبها , ومن مباحثه: تعدد الزوجات , والطلاق ,
جهل الفتاة بخداع الشبان.
(12) مطالب المرأة المصرية يعني مطالب جماعة الاتحاد النسائي كحقوق
الانتخاب ومنع تعدد الزوجات والطلاق.
(13) الأمانة الزوجية، ومن مباحثه: احتكار الرجل لزوجه، وذوبان
حمية الرجولية في هذا العصر، وخطر الجناية على الأمانة الزوجية وهو انحلال
الأسرة، وفضائح الأسرة الكبيرة في أوربة ومصر.
(14) الزواج والطلاق.
(15) هل تتزوج؟ , ومن مباحثه: الرغبة عن الزواج وعللها , انتشار
الفجور، الراحة في الحياة الطليقة، كثرة المشاكل الزوجية، الجمال الزائل ,
الأولاد، الاستقلال عند الرجل والمرأة.
(16) بمن نتزوج؟
(17) الزواج بالأجنبيات.
(18) المناعة الجنسية , وهو فصل مهم لا يدل عنوانه على مباحثه , وهي
شكاية الأخلاق الفاضلة سيئات اللهو غير الشرعي، مشاكل الخليلات (أي ذوات
الأخدان) … والصحة والشهوة الجنسية والعفاف، وأهمه قرارات المؤتمرات
الطبية والمجامع الدولية في فضل العفاف وبحث طبي في ذلك.
(19) البغاء، ومن مباحثه: أسبابه الثمانية , وتشريعه في أوربة ,
واستحالة مقاومة البغاء.
(20) الرقص.
وقد طالعنا هذا الكتاب المهم , ونتربص فرصة لإبداء رأينا التفصيلي فيه،
وأما الرأي الإجمالي فهو أنه مثال للاضطراب والذبذبة اللذين أحدثهما العلم
العصري الناقض , وإهمال التربية , وإن جميع ما يشرحه الكتاب من مشكلات
الحياة الزوجية لا علاج له إلا في التربية الإسلامية الصحيحة مع العلم الصحيح
الناضج كما بيناه من قبل في مقالاتنا (الحياة الزوجية المنشورة في مجلد المنار
الثامن وغيرها وصفحات الكتاب 256 ما عدا فهرسه من قطع رسالة التوحيد , وهو
يطلب من مكتبة المنار.
***
مجلة وجريدة شابتان رباعيتان:
(مجلة الزهراء)
أتمت مجلة الزهراء ثلاث سنين من عمرها , ودخلت في سنتها الرابعة حسنة
النبتة، راسخة الشجرة، يانعة الثمرة، تخدم النهضة العربية العصرية خدمة
صالحة، على خبرة وبصيرة، يتوخى منشئها الكاتب البارع محب الدين أفندي
الخطيب فيما ينشئه بقلمه وما ينشره لغيره كل ما يفيد أدب اللغة وأدب النفس وأدب
الاجتماع، ويجتنب كل ما يزلزل العقائد أو يفسد الأخلاق، مما يكثر في المجلات
والجرائد في هذه الأيام، ويمده في اجتهاده كثير من الكتاب المجيدين، والشعراء
النابغين، الذين عرفوا قيمة خدمته، أو أعجبوا بأدبه وهمته، فكيف بمن جمعوا بين
الأمرين، وبلغوا منها مجمع البحرين، فنسأله تعالى أن يزيدنا وإياه علمًا نافعًا،
وعملاً صالحًا، وينصرنا في جهادنا على أعداء أمتنا، الذين يهاجمونها في دينها
ولغتها وسائر مقوماتها ومشخصاتها، وأكثرهم من الأدعياء فيها، والمدعين لخدمتها
وتجديد شبابها، ألا لعنة الله على الكاذبين.
***
(جريدة الشورى)
أَتَمَّتْ جريدة الشورى ثلاث سنين من عمرها , ودخلت في سنتها الرابعة ,
وهي تنبت نباتًا حسنًا , وتزداد في كل عام نموًا وتأثيرًا وفائدة على اضطهاد بعض
الحكومات الاستعمارية لها , ومنعها إياها من دخول البلاد التي ابتليت بحكمها، حتى
صار لها من موارد الأخبار ومصادر الانتشار وثقة الأحرار ما ليس للجرائد
اليومية المعمرة , فنهنئ صاحبها محمد علي أفندي الطاهر بنجاحه على حين
نرى الجرائد الحديثة في كل عام تولد فلا تلبث توأد، زاده الله نجاحًا وتوفيقًا.
__________(28/715)
رجب - 1346هـ
يناير - 1928م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة من تونس
(تأخرت سهوًا)
(س 29-33) من صاحب الإمضاء بتونس.
حضرة صاحب الفضيلة والفضل، والرأي والقول الفصل.
سيدي أعزك الله وأخذ بيدك , من بعد تقديم السلام والاحترام لسعادتكم، وما
يجب عليّ أن أبرز ما أشعر به بفؤادي نحو خدمتكم من الشكر الجزيل، والدعاء
لكم بالبقاء والعمر الطويل , فإني أرجو من فضيلتكم أن تعيرونا فترة من وقتكم
النفيس كي تجيبونا على السؤالين التاليين خدمة للعلم ودحضًا للدعاية التي يبثونها
جماعة المبعوثات البروتستانت بهذه البلدة المنكوبة الحظ , مما جعل الناس في حيرة
من القبض على دينهم , وكأنه قد انطبقت عليهم كلمة الرسول (يأتي يوم) الحديث -
ولكم المنة والشكر وعظيم الأجر.
أولاً: أن تفسروا في مناركم المنير: ما معنى أو كنه الآية التي بعد: {اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) الآية , وما يقصد
بالمثلية؟ وإن كانت في العدد كما هو المتبادر فكيف يتصور عدهن؟ وإن كانت
طبقات طبقات بعضها فوق بعض (حسب ما أشار إليه ذو الجلالين) وتحيط
بجميعها الكرة الأرضية فلماذا لحد الآن لم يكشف شيئًا من هذا الانفصال العلم
الحديث رغم ما حفروا ونقبوا الأرض تنقيبًا , ولماذا يفرق بينهن إن كانت على
هاته المنوال والحالة هذه؟ , وإن فرضنا أن كل أرض مصورة بكرة أرضية خاصة
والحال أننا في واحدة فقط كما هو المقرر فالباقيات الست أين هي؟ ومن يسكنها؟
وما أقوال الباحثين فيها؟ انتهى.
ثانيًا: ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسم سيدنا عيسى من ورحه؟ وما
قولكم في الآية التي بعد {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) الآية،
وإن كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم
حيواني كما هي سنة الله في خلقه؟ وإن قلنا: إنه في السماء , وأثبتنا من الآية أو
غيرها ما تقدم فعند نزوله في أي مكان ينزل؟ ومن أين يأتي؟ وما أقوال السادة
العلماء فيه؟ وما حكم من ينكر وجود سيدنا عيسى الآن حيًّا ويعتقد [1] في يوم يأتي؟
وما نصيب هذا المفكر من الإيمان؟ أفيدونا عن ذلك ولكم الدعاء بالإعانة
والامتنان.
ويا حبذا لو تسرعون بنشر السؤالين في المجلة حتى ينفصم حبل الإلحاد
والتضليل (وإبادة كل بدعة أو ضلالة أنفع لجميع المسلمين) والله يحق الحق
ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا على لسان من يقيضه من خلقه ويجعله بذلك
خليقًا، والسلام.
... ... ... ... ... ... من محبكم الداعي لكم مشترككم
... ... ... ... ... ... ... فقير ربه عمر خوجة بتونس
تفسير
] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [[2]
جاء ذكر السموات والأرض معًا في عشرات من الآيات، وجاء ذكر الأرض
وحدها في آيات أخرى كثيرة , ولم تذكر في القرآن إلا مفردة، بل ليس فيه ما
يشير إلى تعدد الأرض إلا هذه الآية في آخر سورة الطلاق على بعض الوجوه
المحتملة في المثلية , وهي مبهمة لا يمكن تعيين المراد منها بالرأي على سبيل
القطع، وقد تغلغلت الإسرائيليات في تفسيرها , ولا سيما أقوال كعب الأحبار ,
ووهب بن منبه التي صرح المحققون بعدم الثقة بشيء منها، وناهيك بهذه
الإسرائيليات في وصف السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن، ومن أغربها
أثر ابن جريج الطويل العريض في خرافات طولهن وعرضهن , وما فيهن ,
والمسافات بينهن , وبالصخرة الخضراء المكللة , والثور ذي الثلاث القوائم
والقرنين , وبالحوت الذي ذنبه عند رأسه , وبالخرافة التي أخرجها أبو الشيخ في
العظمة عن كعب الأحبار قال: الأرضون السبع على صخرة , والصخرة في كف
ملك , والملك على جناح الحوت , والحوت في الماء , والماء على الريح , والريح
على الهواء ريح عقيم لا تلقح , وإن قرونها معلقة بالعرش.
وروي عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال: (لو حدثتكم بها لكفرتم ,
وكفركم تكذيبكم بها) , وروي عنه أنه قال: (سبع أرضين في كل أرض نبي
كنبيكم , وآدم كآدمكم , ونوح كنوحكم , وإبراهيم كإبراهيمكم , وعيسى كعيساكم) .
قال البيهقي: إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرة , لا أعلم لأبي الضحى عليه
متابعًا , وقال الذهبي مثل ذلك , وزعم أبو حيان أنه موضوع من رواية الواقدي ,
وهو رأي في المثلية معناه: وخلق من الأرض مثلهن في الصفة , وهو كونها
كأرضنا حتى في حياة أمثالنا من العقلاء المكلفين فيها , وهذا المعنى يقتضي أن في
السموات السبع , ولو في جملتهن ومجموعهن أحياءً كبني آدم بعث فيهم رسل
كرسلهم , وهو ليس بشاذ لا يعرف له أصل كما زعموا , بل له أصل في القرآن
نفسه وهو {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى
جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: 29) .
وقال جمهور المفسرين: إن المراد بالمثلية العدد وهو كونها سبعًا وحاول
بعضهم وصفهن بكل ما وصفت به السموات السبع من كونهن طباقًا بعضها فوق
بعض إلى غير ذلك، ومن وجود السكان فيهن قيل من الملائكة وقيل من الجن -
ولكن الملائكة والجن لم يطلق عليهما اسم الدواب، ولا أدري لماذا يهرب هؤلاء من
إثبات أنواع الحيوان فيهن والله تعالى يقول: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} (الشورى:
29) أي السموات والأرض ولو في جملتهما.
وقال بعضهم تبعًا للضحاك: إنهن سبع طبقات متصل بعضها ببعض , لا
متفرقة , وفصله بعضهم بما يقرب من قول علماء الجيولوجيا في طبقات الأرض.
وقال آخرون: ومن الأرض مثلهن في العدد فقط مع الإمساك عن الاتصال
والانفصال.
والسائل مطلع على هذه الأقوال , والآية ليست نصًّا في شيء مما قيل ,
والمتبادر منها بحسب العبارة وصرف النظر عن الروايات والأقوال أن الله خلق
سبع سموات , وخلق الأرض مماثلة لهن , أو خلق من الأرض مثلاً ونظيرًا لهن ,
أي أن خلق الأرض كخلق السموات، والمثلية تصدق في الأمور المشتركة بين
المثلين , ولا يجب أن تكون من كل وجه في المادة والصفات، كيف وقد ضرب الله
المثل لنوره المصباح في المشكاة، وإنما تعرف الصفات المشتركة بين الأشياء
بالحس يقينًا أو بالقياس ظنًّا أو بالوحي إيمانًا، وليس عندنا نص من الوحي في
وجه المماثلة، وأما الحس فإننا نرى الأرض على قرب , ونعرف من صفاتها شيئًا
كثيرًا إن لم نقل كل شيء ولو بالإجمال، وأما السموات السبع فإذا كان المراد بها
الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه كما كان يفهم العرب مثل أمية بن أبي الصلت
الذي ذكر السبع في شعره , وكما يقول الكثيرون من العلماء بالتفسير وبعلم الهيئة
الفلكية فوجه الشبه ظاهر عندهم وهو أن هذه الأرض نفسها كوكب من كواكب
النظام الشمسي كالمريخ والمشترِي التي تستمد النور من الشمس , وترتبط معها
بسنة الجاذبية العامة، إلا أن بينها فروقًا , وأقربها إلى صفة الأرض في أحيائها
النباتية والحيوانية المريخ.
وقد نقل الراغب عن بعض العلماء عبارة بديعة في هذا المعنى وهي: كل
سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض، إلا السماء العليا
فإنها سماء بلا أرض , قال: وحمل على هذا قوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ
وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) .
وأقول: إن هذه الدراري إنما كانت تعد سبعًا في عرف المتقدمين بعد الشمس
والقمر منها دون الأرض، وهي تعد الآن ثماني منها الأرض وكوكبان عرفا
بمراصد هذا العصر , وهما أورانوس ونبتون , ومكانهما وراء زحل أي فوقه
ودونه المشتري فالمريخ فالزهرة فعطارد , وهي سبع سموات بالنسبة إلينا كما تقدم ,
فبقيت عبارة القرآن صحيحة في نفسها , وإن كانت السموات السبع مجهولة لنا
كأن تكون من عالم الغيب فالواجب أن يحمل معنى المثلية على أعم الوجوه ككونها
من خلق الله الدال على قدرته وعلمه , كما يدل عليه آخر الآية وسيأتي، ولكن هذا
القول مردود بالآيات القرآنية المتعددة.
وقد ورد في الأحاديث والآثار روايات كثيرة في ذكر السموات السبع
والأرض , وفي بعضها ذكر لتعدد الأرض , وقد عقد البخاري في كتاب بدء الخلق
من صحيحه بابًا سماه (باب ما جاء في سبع أرضين) , وقول الله تعالى: {اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) إلخ الآية , وذكر
فيه حديث عائشة مرفوعًا (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ,
وحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع
أرضين) , وظاهره يوافق قول من قال: إن المراد بالسبع الطبقات , وإنهن
متصلات كطبقات الجيولوجية قال الحافظ في شرح الحديث من كتاب المظالم من
الفتح: وفيه أن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها عن بعض لأنها لو فتقت
لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها، أشار إلى
ذلك الداودي , وفيه أن الأرضين السبع طبقات كالسموات , وهو ظاهر قوله تعالى:
{وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) خلافًا لمن قال: إن المراد بقوله سبع
أرضين سبعة أقاليم إلخ.
وأنت ترى أن هذين القولين مختلفان , فإن كانت السبع الطبقات من السموات
منفصلاً بعضها عن بعض لا يظهر معنى التطويق منهن في الحديث الصحيح،
وهو الحديث الصحيح في التعدد دون غيره , ولا ندري أكان هذا الجمع مستعملاً
بالسبع عند العرب كالسموات أم لا.
وروى أحمد والترمذي عن الحسن عن أبي هريرة حديثًا مرفوعًا فيه عد سبع
أرضين بين كل منها خمسمائة عام، وهو حديث غريب منقطع , والحسن لم يسمع
عن أبي هريرة , ورواه البزار والبيهقي من حديث أبي ذر مرفوعًا بنحوه , وهو
مرسل قال في البداية: ولا يصح إسناده.
وقد علم مما تقدم أن أصح ما ورد في تعدد الأرض حديثا عائشة وزيد بن
سعيد رضي الله عنه في مغتصب شيء من الأرض أنه يطوقه من سبع أرضين ,
وهذا لا يدل على تعدد الأرض بوجود سبع مستقلة منفصل بعضها عن بعض
كالسموات , وهو لم يرد تفسيرًا للآية.
ويليه حديث ابن عباس في كون كل أرض منها منفصلة عن غيرها مستقلة
يسكنها عقلاء مكلفون فيهم رسل منهم كأشهر الرسل منا.
وقد ضعفوه بشذوذ متنه عندهم لاستغراب وجود رسل في عالم آخر غير
أرضهم.
قال القسطلاني: ففيه - أي في تضعيف البيهقي والذهبي له بالشذوذ - أنه لا
يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما هو معروف عند أهل هذا الشأن , فقد يصح
الإسناد ويكون في المتن شذوذ وعلة تقدح في صحته , ومثل هذا لا يثبت بالحديث
الضعيف.
وقال في البداية: وهذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من
الإسرائيليات. اهـ.
وأقول: إن هذه القاعدة صحيحة عند المحدثين والأصوليين جميعًا , ولكن قل
من عني بتحكيمها في الأحاديث الشاذة المتون بمخالفة القطعيات حتى الحسية منها
كحديث أبي ذر رضي الله عنه في غروب الشمس , وكونها تكون مدة غيابها عن
الأرض ساجدة تحت العرش تستأذن ربها في العودة إلى الطلوع إلخ , وهو متن
مخالف للحس , فإن الشمس لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين , وإنما تغرب
عن قوم وتطلع على آخرين، وهذا مشاهد معلوم بالقطع.
ولما أوردنا رد طعن الطاعنين على الإسلام به , وبينا الرد على ذلك من عدة
وجوه طعن في ديننا دجال بيروت يوسف النبهاني الشاعر بجهله وتعصبه لأنه
مروي في الصحيح.
ومما سبق لنا بيانه في هذا المقام من وقوع مثل هذا الشذوذ في الصحيحين
على قلة أن حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم في خلق السموات والأرض في
سبعة أيام وأوله (خلق الله التربة يوم السبت) , وصرح فيه أبو هريرة بالسماع
منه صلى الله عليه وسلم , قال القسطلاني كغيره: لكن اختلف فيه على ابن جريج
وقد تكلم فيه فقال البخاري في تاريخه: وقال بعضهم عن كعب الأحبار وهو أصح.
يعني أنه أصح مما سمعه أبو هريرة , وتلقاه عن كعب فوهم بعض الرواة
فجعله مرفوعًا , وفي متنه غرابة شديدة إلخ.
أقول: وقد حققنا من قبل أن كعب الأحبار من زنادقة اليهود الذين أظهروا
الإسلام والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين وتحمل على الرواية عن أنبياء بني إسرائيل ,
وقد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة ورووا عنه , وصاروا يتناقلون
قوله بدون إسناده إليه حتى ظن بعض التابعين ومن بعدهم أنها مما سمعوه من النبي
صلى الله عليه وسلم , وأدخلها بعض المؤلفين في الموقوفات التي لها حكم المرفوع
كما قال الحافظ ابن كثير في مواضع من تفسيره من أوضحها كلامه في تفسير هذه
الآية، ونحن كما بينا ذلك مرارًا في التفسير وغير التفسير من مباحث المنار.
وجملة القول أنه ليس لدنيا حديث صحيح مرفوع ولا قطعي ولا ظني في
بيان المراد من قوله تعالى {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) والمتبادر منه
أنه خلق لنا من هذه الأرض أو هذه نفسها مثلهن خلقًا وتكوينًا , ويدخل في هذه
المثلية تنقل خلق كل من هذه الأرض وتلك الأجرام المماثلة لها في الأطوار المبينة
في آيات حم السجدة , وليس الغرض من ذكر ذلك بيان حقيقة السموات والأرض
وصفاتها، بل دلالة ذلك على قدرة الله تعالى وعلمه بما خلقه فإنه قال في آخر الآية:
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق: 12) .
فعلم مما تقدم كله أن نص الآية المسئول عنها لا يرد عليه اعتراض علمي
فلكي مما ثبت في علم الهيئة بالقطع , بل هي موافقة لهذا العلم في الجملة , ولا
سيما على القول الذي نقلنا ما ذكره الراغب في بيانه، وهو أن كل كوكب من
الدراري أرض بالنسبة إلى من فيه من المخلوقات وسماء بالنسبة إلى من يراه فوقه
من سكان سائر الكواكب - وهذا التعبير أصح مما نقله هو لموافقته للهيئة الجديدة -
وإذا ضممنا إليه سائر الآيات في هذه المسائل ظهرت معجزة أو معجزات جديدة
للقرآن بإثباته لحقائق أخرى لم يكن يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قومه
من قبله بل منها ما لم يكن يعلمه أحد , وقد بينا الشواهد على هذا في الكلام على
إعجاز القرآن من جزء التفسير الأول وغيره وفي مواضع أخرى من المنار، وآخر
ما أثبته بعض كبار الفلكيين الغربيين من ذلك إثبات حركة للشمس تجري فيها إلى
غاية مجهولة , وجميع دراريها تابعة لها , وهو صريح قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) ولكن ما ورد في كتب
اليهود والنصارى في الخلق والتكوين للسماوات والأرض وغيرهما هو المعترض
الذي لا يمكن الجواب المعقول عنه، وسبب ذلك أنه لم ينقل عن الوحي نقلاً
صحيحًا متواترًا.
***
حالة سيدنا عيسى الآن وآية وفاته ورفعه
الذي نعلمه قطعًا أن سيدنا عيسى عليه السلام في عالم الغيب كغيره من إخوانه
النبيين، وأن حالته فيه حسنة لأنه من أولي العزم والرسل , وقد وعد الله أمه بأن
يجعله وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين.
ولا نعلم شيئًا تفصيليًّا عن حالته كما هو شأننا في سائر ما في عالم الغيب لأنه
لا مجال للعقل والرأي فيه , وإنما الواجب فيه اتباع النصوص القطعية من القرآن
ومن أخبار المعصوم القطعية الرواية والدلالة , فليس عندنا نص من ذلك في علاقة
جسده بروحه ولا في صفة رزقه , ولو وجد نص في ذلك لما كان إلا مثل ما ورد
في صحيح مسلم عن حياة الشهداء , وكون أرواحهم في الآخرة تكون (في جوف
طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك
القناديل) فهل يمكننا أن نفهم من هذا الحديث شيئًا نعرفه معرفة تفصيلية؟
وأما قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران:
55) الآية فهو على ظاهره كما رواه مخرجو المأثور عن علي بن طلحة عن ابن
عباس قال: (إني متوفيك) : مميتك. ونقله الحافظ ابن كثير ومحيي السنة البغوي
في تفسيريهما [3] وذكرا بعده أن وهب بن منبه قال: (توفاه الله ثلاث ساعات من
أول النهار حين رفعه إليه) . وقال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا وليس
بوفاة موت وكذا قال ابن جرير رضي الله عنهما أن معناه: إني مميتك - يدل عليه
{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: 11) , فعلى هذا له تأويلان أحدهما ما قاله
وهب - وذكره وقَفَّى عليه بقول الضحاك.
فعلى هذا يكون قول ابن عباس هو الظاهر المتبادر , وقول وهب والضحاك
تأويل مخالف للظاهر , فيكون كل منهما ضعيفًا في نفسه , على انحطاط رتبة قائله
في علمه وفهمه، ولا سيما وهب بن منبه الذي هو صنو كعب الأحبار في بث
الخرافات الإسرائيلية في تفسير أمثال هذه الآيات من القرآن بدهاء غريب ألبس
بعضها ثوبي زور من المرفوعات والموقوفات.
وذكر المفسرون عند تفسير هذه الآية من سورة آل عمران ما في موضوعها
من آية سورة النساء وهي قوله تعالى في اليهود: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء: 157-158) وهي لا تختلف مع الآية الأولى في
شيء.
وقد كتبت في تفسيرها (من جزء التفسير 6 ص 20) ما نصه:
وأما قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 158) فقد سبق نظيره
في سورة آل عمران وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: 55) روي عن ابن عباس تفسير
التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر، وعن ابن جريج تفسيرها بأصل معناها
وهو الأخذ والقبض , وأن المراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من
الله الذي اصطفاه وقربه إليه قال ابن جرير بسنده عن ابن جريج: فرفعه إياه توفيه
إياه وتطهيره من الذين كفروا. اهـ.
أي ليس المراد به الرفع إلى السماء لا بالروح والجسد ولا بالروح فقط ,
وعلى القول بأن التوفي الإماتة لا يظهر للرفع معنى إلا رفع الروح , والمشهور بين
المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء.ا. هـ
وذكرت هنالك استدلالهم على هذا بحديث المعراج وكونه يقتضي حياة كل
الأنبياء الذين ذكر صلى الله عليه وسلم أنه رآهم في بيت المقدس وفي السموات
كحياته بالروح والجسد، ولم يقل بهذا أحد.
وورد في إدريس عليه السلام من سورة مريم {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم:
57) , وقال تعالى في الرسل: {مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) , وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) .
نزول المسيح من السماء:
وأما نزوله عليه السلام في آخر الزمان؛ فقد استدلوا عليه بآية] وَإِن مِّنْ
أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ (النساء: 159) بناءً على وجه من ثلاثة
أوجه قالوها في تفسيرها: (الأول) وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى
قبل موته الذي سيكون بعد نزوله - وهو أبعد الوجوه عن المتبادر من لفظها إذ ليس
فيها إشارة ما إلى نزوله , وأن هذا الموت يكون بعده.
(الوجه الثاني) الضمير في موته إلى الكتابي، والمعنى أنه يؤمن بعيسى
عند موته وقبيل خروج روحه بإطلاع الله إياه على حقيقة أمره عند الغرغرة،
وعلى غير ذلك من أمر الآخرة، وهو الوقت الذي لا ينفع فيه أحدًا إيمانه لأنه
يصير اضطراريًّا.
(الوجه الثالث) أن الضمير في قوله (ليؤمنن) به لمحمد صلى الله عليه
وسلم.
وجملة القول أنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه
وجسده إلى السماء حيًّا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى
غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء ,
وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى , وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى
الآن بثها في المسلمين , وممن حاولوا ذك بإدخالها في التفسير وهب بن منبه الركن
الثاني بعد كعب الأحبار؛ لتشويه تفسير القرآن بما بثه فيه من الخرافات كما تقدم
آنفًا.
والأحاديث الواردة في نزوله عليه السلام كثيرة في الصحيحين والسنن
وغيرها، وأكثرها ورادة في أشراط الساعة , وممزوجة بأحاديث الدجال وفي تلك
الأشراط , ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي اضطراب واختلاف وتعارض كثير
بيناه في أواخر تفسير سورة الأعراف.
والظاهر من مجموعها أنه يظهر في اليهود دجال , بل أكبر دجال عرف في
تاريخ الأمم فيدعي أنه هو المسيح الذي تنتظره اليهود فيفتتن به خلق كثير لما
يظهره من الغرائب والعجائب التي هي أغرب من جميع معجزات الأنبياء أو مثل
أعظمها، وفي آخر مدته يظهر المسيح الذي هو عيسى ابن مريم , ويكون نزوله في
(المنارة البيضاء) شرقي دمشق ويلتقي بالمسيح الدجال بباب لد - وفي فلسطين
بلد يسمى باللد - فهنالك يقتل المسيحُ الصادقُ عيسى ابنُ مريم عدَّو الله المسيحَ
الدجال بعد حرب طويلة تكون بين المسلمين واليهود والله أعلم.
حكم من ينكر وجود المسيح حيًّا:
وأما من ينكر الآن وجود المسيح حيًّا بروحه وجسده وما نصيبه من الإيمان؟
فقد علم حكمه مما تقدم.
وهو أن هذه المسألة ليست من أصول عقائد الإسلام التي تلقن لمن يدخل فيه
ولأهله - ولا من الأحكام التي تذكر في كتب الردة بناء على أن جاحدها يرتد عن
الإسلام لدخولها في قاعدة كفر من يجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة -
بل هي من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى
السماء ممن لا قيمة لأقوالهم كوهب بن منبه , وكذا الضحاك ابن مزاحم على أنه
وإن اختلف في توثيقه وتضعيفه خير من وهب بن منبه الذي وثقه الجمهور انخداعًا
منهم وغفلة عن كون دسائسه الإسرائيلية من وضعه لا منقولة من كتب بني إسرائيل
المقدسة.
ولم يرو الضحاك عن أحد من الصحابة سماعًا , وكان يأخذ التفسير عن ذا
وذا كما اعترف به.
وأما من اطلع على الأحاديث الواردة في نزوله وقتله الدجال واعتقد صحتها؛
فلا يسعه إلا أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها بإعلام من الله تعالى لأنها
ليست من الآراء الدنيوية التي يتكلم فيها الأنبياء كغيرهم بحسب الظن الذي يخطئ
ويصيب وهم غير معصومين فيه , كما ورد في أحاديث تأبير النخل في صحيح
مسلم وما في معناه , وحينئذ يجب عليه الإيمان بصدقه فيها، فإن أنكره ورده عالمًا
بصحته غير متأول لمدلوله يكفر والعياذ بالله تعالى.
والأولى والأسلم له أن يقول: إن قول الرسول حق , وسيقع على الوجه الذي أراده
من قوله، والله أعلم بمراده منه في جملته وتفصيله , وصحته لا تتوقف على القول
بعدم موت عيسى , فقد قال حبر القرآن وأعلم المفسرين في تفسير آية آل عمران
بدلالتها على موته عليه السلام والله تعالى قادر على بعثه، وعلى إرساله بصفة
خارقة للعادة.
وقد ذكر الأستاذ الإمام أن بعضهم تأولها بأن روح المسيح ومقاصده التي جاء
بها لإصلاح جمود اليهود على ظواهر الألفاظ وتركهم لمقاصد الدين إلخ كما تراه في
تفسير آية آل عمران من تفسيرنا.
وهذا التأويل بعيد عن ظواهر الألفاظ في تلك الأحاديث , ولكن المتأول يقول:
إنها وأمثالها من أشراط الساعة وأمور الغيب قد نقلت بالمعنى فعبر الرواة عما سمعوا
بما فهموا، وقد تقدم هذا البحث في أشراط الساعة من تفسير سورة الأعراف المشار
إليه آنفًا.
وأما العهد الجديد عند النصارى من الأناجيل وغيرها فهي صريحة في أن
المسيح يظهر في الملكوت قبل انقضاء الجيل الذي كان فيه , وتقوم الساعة ويدين
العالم.
وقد ظهر عدم صحة تلك النصوص فاضطروا إلى تأويلها بما لا يعقل , ومع
ذلك ينتقدون علينا بما لا إشكال فيه , ينظرون القذى في أعين غيرهم وينسون
الجذع الذي في أعينهم.
والخلاصة أنه لا يجب على مسلم أن يقف على تلك الأحاديث وأمثالها لأنها
ليست من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام كما تقدم - ولا يضره في إيمانه
وإسلامه الاشتباه في صحتها , وعدم القطع بروايتها ودلالتها على ما قال الجمهور -
وإنما الذي يضره هو أن يكذبها أو يردها بعد العلم بصحتها واعتقاده إرادته صلى
الله عليه وسلم لظاهرها لأنه حينئذ يكون مكذبًا للصادق المصدوق المعصوم من
الكذب , وكذا من الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى والله أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل ولعله سقط منه شيء وهل هو إثبات نزوله في يوم يأتي أو عدمه؟
(2) (الطلاق: 12) .
(3) راجع ذلك في تفسير ابن كثير وتفسير البغوي (ص 150 ج2 من طبعة المنار) .(28/747)
الكاتب: محمد عرفة
__________
الإصلاح الحقيقي
والواجب للأزهر والمعاهد الدينية [*]
إن الأمة المصرية كسائر أمم الشرق جماعة دينية جمعها الدين ووحد بينها،
وبنيت أخلاقها وحضارتها عليه.
وقد تغلغل الدين في جميع شؤونها، فنظم سلوك الرجل في منزله، وسلوك
المدنيين بعضهم مع بعض، وسلوك الملك مع رعيته والرعايا مع ملوكهم.
فلو قد سألت مصريًّا: لماذا تصدق في قولك، وتتوخى العدل في حكمك
وتؤدي الأمانة إذا اؤتمنت؟ ولماذا لا تأتي الفحشاء والمنكر، ولا تكذب، ولا تجور،
ولا تخون؟ لأجابك بأن الله أمر بالأولى ونهى عن الثانية، وإذا كان عالمًا أو
متعلمًا؛ تلا عليك الآيات والأحاديث الدالة على ذلك مثل آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90) ,
ومثل حديث (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا اؤتمن
خان) ، فإذا لم تقو الروح الدينية في نفوس المصريين أو ضعف الدين عندهم؛
انهارت هذه الفضائل لأنه الأساس لها عندهم، وقد بنيت عليه فتتداعى وتتصدع
بانصداع الأساس، وكذلك إذا شوه بإدخال البدع والخرافات عليه فسدت الأمة
وضعف أمرها.
وإذا قوي الدين، واستحكمت عقيدته فيهم، وبقي بمنجاة من الزوائد والبدع؛
صلحت الأمة وقوي أمرها، لذلك كان حتمًا مقضيًّا على أولي الأمر في مصر أن
يعنوا بأمر الدين ويتعهدوه؛ مخافة أن تضعف العقيدة في نفوس الأمة , أو تطرأ
البدع والمحدثات عليه؛ فتشوه جماله , ولا يكون في الأمة أداة عز ومنعة.
ولما كان الأزهر والمعاهد الدينية هي معقل الدين في مصر , والمنبع الذي
يتخرج منه رجاله؛ وجب أن يعنى بها , وأن تتعهد بالقيام عليها وإصلاحها.
لذلك كان المصلحون الأولون: الشيخ جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام
وغيرهما يولون وجوههم قبل الأزهر، ويرجون صلاح الأمة بصلاحه، ورقيها
برقيه.
ولكن الأزهر أبى على المصلحين , وامتنع عليهم من الإصلاح، والسبب في
إبائه أن الأزهريين لم يكونوا قد اطلعوا إلا على علومهم في كتبهم التي تدرس في
الأزهر، ولم تكن قد أخرجت لهم المطابع من كتب السلف , ولا نتائج قرائح الأمم
فما كانوا يرون وراء علمهم علمًا، ولا غير تعليمهم تعليمًا، ويعتقدون أن كل يد
تمتد إليهم فإنما تمتد بالمسخ والتشويه والإفساد.
تلك كانت العقيدة السائدة، ليس غير الأزهر معهدًا , وليس غير ما فيه من
علوم علمًا , ولا غير الأزهريين علماء، لذلك أبى ما كان يريده منه المصلحون،
فاضطروا إلى إنشاء مدارس يراد منها ما كان يراد منه، فعلوا ذلك وهم يعلمون أنه
لا يجدي إلا قليلاً، لأن الأزهر لما له من المكانة الدينية والتاريخية في الأمة هو
المسموع الكلمة , والنافذ الرأي فيها , والمعلم الموثوق به عندها في شأن الدين،
فعقيدتها عقيدته، وآراؤها في الحياة والاجتماع آراؤه، وإن هذه المدارس التي تنشأ
بجانبه ليست لها هذه المنزلة فلا تؤثر الأثر المطلوب، ولكنهم فعلوا ذلك ريثما
يفيء إليهم ليكون الإصلاح به تامًّا وشاملاً.
هذا شأن الأزهر في الماضي البعيد , أما بعد ذلك فقد أذعن للإصلاح لأنه قد
اتسع أفقه بما خرجته له المطابع من كتب السلف ومن علوم الشعوب فعلم أن وراء
علمه علمًا، وأن وراء كتبه كتبًا، لأنه رأى أبناءه يعزلون عن الحياة لأنهم لا
يتسلحون بأسلحتها الجديدة، لكن ذلك الإصلاح كان كذلك الإصلاح الذي بنيت عليه
مدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي في الشكل والعرض لا في الصميم
والجوهر.
لقد اقتصر الإصلاح في مدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي والمعاهد
الدينية إلى الآن على إدخال بعض علوم جديدة واختصار بعض الكتب وترتيبها
وتبويبها.
وأما العلوم نفسها فقد بقيت كما كانت لم تمتد إليها يد بتغيير ولا تبديل , وربما
كان ذلك الإصلاح خيرًا في ذلك الزمن ليتقى به الطفرة , ولأنه كان ملائمًا لحاجة
ذلك العصر.
أما الآن وقد تطورت الأمة وتغير الزمن وتطلبت أساليب الحياة الجديدة أنماطًا
من التعليم جديدة فمن الواجب لمصلحة مصر والعالم الإسلامي أن يكون الإصلاح
في موضوع العلوم وجوهرها , وأن يتناول ما في الكتب نفسها ومسميات العلوم
فربما يغير مسمى العلم نفسه , ولا يبقي منه إلا اسمًا يدل على مسمى آخر ليس بينه
وبين المسمى الأول إلا الاشتراك في الاسم.
يجب أن يكون الإصلاح أبعد في الوهم وأقصى في الأمد من تلك القشور التي
يقترحها المقترحون والتي وقف عندها المصلحون إلى الآن.
ومنذ صدر القانون بتنظيم سلطة صاحب الجلالة الملك على المعاهد الدينية ,
وأصبحت تابعة لرئيس مجلس الوزراء وأصبح مسؤولاً عنها أمام مجلس النواب،
أبدى مجلس النواب غير مرة رغبته في إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية , وقد أبدت
لجنة الأوقاف والمعاهد في تقرير ميزانية الأزهر تلك الرغبة أيضًا وتقدمت إلى
الحكومة أن تؤلف لجنة يكون فيها جماعة من النواب لوضع الإصلاح المنشود ليقدم
إلى البرلمان في الدورة المقبلة - ولما كنت قد درست الأزهر والمعاهد الدينية مدة
ربع قرن , وبحثت عن عللها وأمراضها بحثًا مستفيضًا؛ فعلمت داءها الدوي
ودواءها الناجع , وكنت أتربص الوقت الذي تتجه فيه نيات أولي الأمر إلى إصلاح
الأزهر والمعاهد الدينية إصلاحًا جديًّا , ورأيت الفرصة قد سنحت الآن لإظهار
أولي الأمر رغباتهم في ذلك الإصلاح , وفي تعيين لجنة لوضعه أردت أن أعرض
على أولي الأمر إجمال الإصلاح الذي رأيته بعد جهود بذلتها، ومشقات عانيتها،
وأن أضع بين أيديهم القواعد الكلية التي ينبني عليها ذلك الإصلاح، فإن رأوا فيه
غناءًا ورأوه جديرًا بأن يرضي حاجات الأمة التواقة إلى النهوض من إصلاح
الأزهر فصلت ما أجملته وأوضحت ما اختصرته وشرحته شرحًا وافيًا مبينًا.
وسأقصر بحثي هنا على الإصلاح العلمي، أما الإصلاح الإداري فقد تركته
لمن هم أمس به مني.
وها أنذا آخذ في إجمال الإصلاح الذي أراه:
هذا الإصلاح الذي نقترحه على أولي الأمر ونجمله هنا , ونأخذ على عاتقنا
بسط القول فيه وتنفيذه قد نظر إلى تطورات العلوم فرآها في طور عظمتها
وارتفاعها , ورآها في طور ضعفها وإسفافها.
رآها حين كانت مصاحبة لقوم أعزة فقويت بقوتهم، وحينما صارت مع قوم
آخرين أذهانهم كالمملحة لا يقع فيها شيء إلا أحالته ملحًا فضعفت بضعفهم، فيبعث
العلم الحي في طوره الحي من مرقده، ويرمس تلك الرسوم الميتة البالية التي هي
حثالة الأذهان الجامدة ونخالة الأفكار المتبلدة.
هذا الإصلاح خبير وجريء وحكيم: أما خبرته فلأنه ساير الدين في
أطواره المختلفة فرآه وهو في جدته ونضرته في الصدر الأول حينما كان مبعث
العظمة والمجد والسعادة لمن يدينون به، ورآه وقد أدخلت عليه البدع وغير فيه
كثير من رسومه وتواضع الناس على رسوم وأوضاع أدخلوها في الدين على أنها
من الدين، ونظر إلى تاريخ العقائد والنحل المختلفة والفرق الإسلامية المتباينة
ورأى ما عند بعضها من حق ونافع، وباطل وضار.
وأما أنه جرئ فلأنه سيعم إلى تلك الأوضاع والزوائد والبدع والخرافات التي
حشرت في الدين وليست منه ويزلزلها من قواعدها ويهدم شامخها ويحل محلها تلك
المبادئ العلوية السامية، ويعود بالدين إلى عهد السابقين الأولين، فيضحي كما كان
نورًا وسعادة ورحمة للعالمين، ويأخذ من الفرق الإسلامية أيًا كانت حقها ونافعها،
وينفي باطلها وضارها
وأما إنه حكيم فلأنه لا يغير فجأة وقسرًا واستبدادًا، وإنَّما يغير تدريجًا، ولا
يغير شيئًا إلا بعد أن تقوم الحجة على صحته ووجوبه وقبول الجمهرة له، فإن
الإصلاح بالرفق والأناة خير وأجدى منه بالعنف والشدة , وأدعى إلى الطمأنينة
والسلام.
وبذلك تصبح مصر الإمام المقتدى به في الشرق والمعلمة للثقافة الإسلامية.
وسيكون الإصلاح مبنيًّا على قاعدتين: أولاهما أن العلوم لم يفرغ من تمامها ,
ولم تبلغ الكمال المرجو لها، وإنما هي سائرة نحو التطور والكمال أمامها لا وراءها،
ثانيتهما أن الأخلاق والشرائع والأديان والعقائد والعلوم وكل ما في الكون جعلت
لمصلحة البشر وسعادته وعظمة الإنسانية وعزتها.
هذا الإصلاح ليس إصلاحًا للمعاهد الدينية فحسب , وإنما هو انقلاب اجتماعي
خطير له فائدته وخطره في الحياة الاجتماعية المصرية خصوصًا، والحياة
الإسلامية عمومًا. ذاك أنه نظر إلى أمم الشرق وإلى أمم الغرب فوجد الأولى أممًا
اتكالية، ووجد الثانية أممًا استقلالية.
وجد الأولى وانية قليلة الأمل في الحياة ترضى بالدون , ووجد الثانية بعيدة
الأمل لا ترضى من الغايات إلا أبعدها منالاً، وأشرفها مقصدًا.
وجد الأولى أممًا مكسالاً تألف الدعة والراحة , وقد أشربت نفوسها شيئًا من
معاني اليأس والقنوط، فهي نائمة تغط غطيطًا لا تكاد تصحو أو تفيق , وأما الثانية
فهي أمم ذات عزائم وذات جلد، تألف التعب والجهد، وهي آملة متطلعة تبسم
للحياة وتبسم الحياة لها , وبحث في علة ما في الشرق من أمراض؛ فوجد من
بعض أسبابها تلك العقائد والآراء التي أدخلتها الفرق المختلفة من المتصوفة وغيرهم
على الإسلام وليست منه فتأصلت في نفوس الشرقيين , وآتت أكلها الخبيث
المستوخم , فذلك الإصلاح سيجتث هذه العقائد الباطلة من الأمة ويحل محلها العقائد
الإسلامية الصحيحة التي تدعو إلى الجد والعمل والمثابرة والجهاد في هذه الحياة ,
وسيعد الأزهريين ليكونوا عونًا على ذلك، فهم معقد الأمل لهذه المهمة ومناط الرجاء ,
وسأمثل لبعض هذه الآراء ليعلم الناس أي خير يحل بالأمة، وأي شر يرفع عنها،
وأي بركة تنزل، وأي وباء يزول، إذا أدخل هذا الإصلاح.
من هذه الآراء ما أدخله المتصوفة من أن التوكل على الله ينافي الادخار
والكسب، والأخذ في الأسباب، وينافي التداوي، ولن يكون المتوكل متوكلاً حقًّا
حتى يقطع الأسباب، وأن التوكل ينافي التدبير والاحتياط والاحتراز، وكأنه هو
إهمال العواقب، وإطراح التحفظ، ويروون لتثبيت ذلك ما قاله أبو سليمان الداراني
وهو: لو توكلنا على الله تعالى ما بنينا الحيطان , ولا جعلنا لباب الدار غلقًا مخافة
اللصوص.
ويروون أن أبا يعقوب الزيات سئل عن مسألة في التوكل فأخرج درهمًا كان
عنده ثم أجاب فأعطى التوكل حقه، ثم قال: استحييت أن أجيبك وعندي شيء،
ويروون عن ذي النون المصري أنه قال: سافرت وما صح لي التوكل إلا وقتًا
واحدًا: ركبت البحر فكسر المركب , فتعلقت بخشبة , فقالت لي نفسي: إن حكم
الله عليك بالغرق فما تنفعك هذه الخشبة , فخليت الخشبة , فطفت على الماء فوقعت
على الساحل.
وهذه العقيدة تنافي الدين والعقل ومذلة للأمم: أما مخالفتها الدين فلأن الدين
يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) , ويقول: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) ,
ويقول: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) , ويقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) , وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين.
وأما مخالفتها العقل فلأن العقلاء ما زالوا يوصون بالادخار وكسب المال والأخذ
في الأسباب، ويقولون: لا عقل كالتدبير , ويطلبون أن ينظر المرء في الأمور
ببصر , وينفذ البصر بالعزم بعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف.
وأما أنها مذلة للأمة فلأنها تدعوها إلى الإخلاد والعجز والتواني وطرح
الأسباب فتضعف وتهن ويستولي عليها الأقوياء المستعدون المحتاطون الذين عرفوا
الأسباب واستعملوها , ولم يهملوها.
هذه العقيدة توارثها الأحفاد عن الآباء , وذاعت في الأمة ذيوعًا عظيمًا حتى
نطقت بها أشعارهم، ودارت في أمثالهم، وسيعنى الإصلاح بتطهير الأمة منها ,
ومن أمثالها , فليست هي الأولى والأخيرة، وإنما هناك عقائد أخرى لها ما لهذه من
الضرر وإنما سبيلنا هنا أن نمثل ولا نستقصي.
إن الغاية التي يرمي إليها ذلك الإصلاح ويسعى لتحقيقها وتبيين الأسباب
لإدراكها هي:
أولاً: تخريج قضاة مجتهدين , أو على الأقل متبعين يتبعون المجتهد بعد قيام
الدليل عندهم على صحة قوله , فيحكم القاضي عن اجتهاد أو اتباع لا عن تقليد كما
هو الآن، لأنه قد اتفقت كلمة الأولين على منع حكم المقلد , وفساد التقليد في الحكم
والإفتاء، وقالوا: إن التقليد مرتبة العوام لا من نصب نفسه للقضاء والفتيا، وقالوا:
لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد.
ثانيًا: تخريج معلمين ذوي كفاية لتعليم اللغة العربية والدين , والاجتهاد في أن
يكون معلم الدين متحليًا بمكارمه، واقفًا عند منهياته، متبعًا أوامره، ليقتدى به
وتحسن الأسوة، وأن يكون معلم اللغة العربية قد اكتسب ملكة الخطابة والكتابة
باللغة العربية البليغة ليكسب تلاميذه هذه الملكة بمحادثته إياهم ومحاورته لهم،
ويكون تعليمهم اللغة عمليًّا وعلميًّا لا علميًّا فقط، وبتوالي الزمن على ذلك ترقى لغة
التكلم إلى لغة الكتابة فيسهل انتفاع العامة من لغة الكتابة.
ثالثًا: تخريج وعاظ ومرشدين عارفين بسياسة المدينة والمنزل وما به تسعد
المدينة والمنزل، وبطباع الجمهور، عارفين بوسائل الإقناع قادرين على الإقناع
فيما فيه سعادة المدنيين، فيضبطوا المدنيين بالأقاويل الخطابية , ويحملوهم على ما
فيه سعادتهم وأمانهم - لا كما هم الآن يقلدون في الخطابة فيأتون بخطب قيلت في
عصور التأخر والانحطاط ليس لها غرض إلا التزهيد في الدنيا والكف عن الجهاد
فيها.
رابعًا: جعل رجال الدين مسؤولين عن الحياة الخلقية في مصر فكما أن
مصلحة الصحة مسؤولة عن صحة أجسام من في مصر كذلك رجال الدين مسئولون
عن صحة أخلاقهم والقيام عليها، فيعدون لأن ينشروا في الأمة قوة الإرادة وصحة
العزم وحب الوطن والإيثار والتعاون والتضامن وتفهيم المصريين أنهم كشخص
معنوي , كل عضو يعمل لمصلحة الجميع , وألم العضو ألم للجميع , وأن يكافحوا
الرذيلة الفاتكة بالمجتمع من الحسد والتباغض وانحطاط الهمم وضعف الإرادة وحب
الذات دون الصالح العام، وأخيرًا هم مسؤولون عن ذلك العامل المسكين الذي
يكسب ما يكسب بعرق الجبين فينفقه في الكوكايين والأفيون والحشيش والخمر وتلك
السموم الضارة والمهلكة.
إنه سيغرس في الأزهريين حب الإنسانية والمجتمع والتضحية بذواتهم لأجل
سعادة المجتمع , وبث الفضيلة فيه , وتنقيته من الرذيلة , وسيقض مضاجعهم
الشوق إلى نجاة المصابين من أمتهم بتلك الأمراض القتالة والسموم المهلكة من
الخمر والميسر والمخدرات , وسيقدمون إليهم الدواء الناجع إن جاءوا إليهم فإن لم
يجيئوا ذهبوا هم إليهم، وطرقوا عليهم أبوابهم وأماكن لهوهم ليقدموا إليهم الإصلاح.
وإنهم بذلك ليكونون منتجين في أمتهم إنتاجًا لا تنتجه أية طائفة من الطوائف،
ويقدمون لمجتمعهم يدًا لا يقوم بشكرها , فأين منهم حينئذ الأطباء.
إن الأطباء يصحون الأجسام أما هؤلاء فيبنون الأخلاق [1] في الأمة ويقومون
على تربية نفوسها، وليست الأمم إلا بأخلاقها.
فبالأخلاق تحكم أمة أمة أخرى , وتسخرها كما تسخر الناس الأنعام والدواب ,
وهذا الإنتاج الذي لا إنتاج بعده , وكلما تقدمت الأمة ورقيت وعلمت قيمة الأخلاق
في الوجود؛ عرفت لهم قيمتهم وفضلهم.
خامسًا: تسليح رجال الدين بالعلم الحق ليتمكنوا من تطهير أمتهم من العقائد
التي ورثها الناس عمن تقدمهم والتي هي تخالف الدين , وفي الوقت نفسه قاتلة
للأمة مضعفة لأخلاقها , وأكبر الظن أنها كانت أكبر عامل على ضعف الشرق
وانحطاطه وارتكاسه في تلك الهوة التي يتخبط فيها الآن.
سادسًا: إطلاق العقول من أسر التقليد إلى فضاء الحرية في الفكر
والاستنباط , وتعليمها صناعة الإنتاج العقلي , وخلق حركة علمية ابتكارية في
علوم الأخلاق والاجتماع والدين واللغة والعلوم الفلسفية كالتي كانت في أزهى
العصور السابقة كعصر المأمون.
هذا إصلاح نتيجة درس ربع قرن خمس وعشرين سنة مع الأناة والتثبت
ودقة الملاحظة والاستقلال في الرأي والحرية في الفكر , هذا علم لا يعلمه إلا من
توافر عليه وتهيأت له أسبابه.
إن أولي الأمر إذا أرادوا إصلاحها كهذا فإنه يقتضيهم ما شاء الله من زمن وما
شاء الله من جهود وقوى، ولعلهم بعد ذلك ينقطعون دونه.
إن في أعناقنا لأمتنا أمانة ثقيلة هي بعثها ببعث أسباب الحياة والمجد فيها.
وقد حملنا القدر هذه الأمانة بما علمنا من أسباب ضعفها , والأسباب التي تحيا
عليها , وإن ظهورنا لتنوء تحتها , ولا نكاد نستقل، فهل لأولي الأمر أن يعينونا
حتى نستقل بها ونؤديها كما وجبت،
محمد عرفة - أستاذ بمعهد الإسكندرية
(المنار)
يوافق الأستاذ إلى هذه الأصول الإصلاحية , وقد أكثر من الكتابة فيها بعد أن
أشرنا إليها في مقاصد المنار , وموضوع دعوته في فاتحة العدد الأول الذي صدر في
شوال سنة 1315.
__________
(*) للأستاذ الشهير صاحب الإمضاء.
(1) المنار: وكذا الصحة البدنية فإن من يتبع هداية الدين في حظر المسكرات والمخدرات والفواحش وفي الطهارة للبدن والثوب والمكان وأشباه ذلك قلما يصابون بالأمراض ويحتاجون إلى الأطباء، فاتباع الدين أعظم واق من الأمراض قبل وقوعها.(28/758)
الكاتب: مصطفى بك نجيب
__________
نظرة عامة في حالة الإسلام
(مقالة للمرحوم مصطفى بك نجيب الذي كان من أشهر كتاب المسلمين في
مصر أرسلها إلى المنار مشايعة له على خطته منذ أكثر من ربع قرن، فلم ننشرها
يومئذ لكثرة لحنها وخجلنا من الافتيات على صاحبها بتصحيحها بدون إذنه، ثم ضلت
بين الأوراق , حتى عثرنا عليها في هذه الأيام، فرأينا الحاجة إليها كما كانت أو أشد
مما كانت سنة كتابتها فصححنا أكثر غلطها ونشرناها وهذا نصها) .
من الأمور التي يحار فيها لب المدققين في الأمور الاجتماعية والذين لهم إلمام
بعلوم التاريخ وأسباب تقدم الأمم أن يرى الإسلام في درجة الشقاء التي أصبح بها
وهذه الحالة التي عليها الأمم المختلفة المتدينون بالدين الحنيف قد استلفتت أنظار كل
المجتهدين في أسباب تقدم وارتقاء سعادة الأمم , ومن جهة أخرى قد شمتت أعداء
الإسلام لأنهم جعلوا ذلك حجة قوية يحتجون بها على أن الدين المنيف هو دين
الهمجية والانحطاط , وقد كذبوا في زعمهم , ولكن المقادير لم تساعد المسلمين في
الارتقاء والارتفاع , ولا يسند هذا إلى الإسلام لأنه بريء من كل ما يسند إليه من
الخزعبلات والتعصب الأعمى.
ولو نظرنا نظرة عامة في أحوال المسلمين لوجدناهم في أسوأ حال لأنهم
تركوا فضائل ما يأمرهم به دينهم القويم , واتخذوا الكسل عادة , والخرافات طبعًا
غريزيًّا، مع أن القرآن الشريف يأمرهم بالاجتهاد والعمل، ويرغبهم في الكسب
والارتزاق، وأن يسعوا في الأرض من مشارقها لمغاربها ليحصلوا على الفوائد
والمنافع التي تعلي شأنهم وتنمي ثروتهم.
يتأسف المسلم الغيور أن يرى ما آلت إليه أحوال المسلمين من (ضلال عن)
سواء السبيل، فقد ضلت الأفراد , وتغيرت معالمهم , وصار بينهم وبين الدين بون
عظيم مع أنهم لو ساروا على مبدأ الدين الإسلامي لأصبحوا في العز الرفيع والسؤدد
الجليل، ولكن أين ذلك، وقد ضربت على أفئدتهم غشاوة من الجهل , وتركوا
لأنفسهم مسلك الغباوة حتى حادوا عن الفضائل، وتشبثوا بالرذائل، ومع ذلك تراهم
مصممين على ما هم عليه قائمون، وإليه متجهون؟ أما آنت لهم الفرصة؟ ألم
يستفيدوا من الدروس المدهشة التي يرونها اليوم بعد الآخر؟ ألم تعلمهم الأهوال
كيف المآل؟ فقد انتهز الأجنبي فرصة نومنا وتداخل في أمورنا، ورمانا بعدم
الكفاءة والأهلية للعمل، هل بعد ذلك احتقار؟ كيف تكون أحوال المسلمين وقد
أمسوا مستعبدين بالأجانب لا يملكون لنفسهم حرية , ولا يمكنهم أن يجعلوا لدينهم
صفة ولا شأنًا بين الأديان، أين العلماء المجتهدون منهم الذين يهبون أنفسهم للتعليم
ويرغبون في تهذيب أخلاق إخوانهم المُفْتَقِرِينَ لتنبيههم عن غفلتهم؟ لا غيرة عندهم،
ولا نفس ترغبهم في العمل للمنفعة العامة.
سمعت من سائح سألته عن حالة المسلمين في جاوه وسوماطرة , فجاوبني
أنهم في أتعس عيش وأحط حالة , لا يسوغ لهم أن يجتمعوا في اجتماعات، ولا
تأذن لهم الحكومة ببناء مساجد وجوامع يقيمون بها الصلاة، حتى مدائنهم خالية من
كل ما يقام فيه شعائر العبادات الدينية الإسلامية، وإذا وجد شيء من هذا القبيل
فيمكن العثور عليه صدفة في القرى، فالمسجد يكون مركبًا من أكواخ حقيرة تقام
فيه بعض الفروض، ولا يسمح لساكني هذه الجزر بشيء سوى الضروري جدًّا مع
أنهم ملايين عديدة يسكنون هذه البقاع الخصبة , والتي لا ينقصها إلا العلم والانتظام
في سلك المدنية، كل ذلك حاصل والمسلمون في غفلة شديدة لا يحركون ساكنًا ,
ولا يرفعون صوتًا، فهل هذا ما يأمرهم به دينهم السديد؟
هل يأمرهم بالذل والمسكنة؟ كلا ثم كلا.
وهذا مثل من الأمثال التي يصادفها الإنسان بنفسه في حياة الأمم الإسلامية ,
وإذا قلنا: إن هذا الضعف ناتج من الضغط على الأفراد وعدم تمكنهم من حكم
أنفسهم بأنفسهم , فإليك أمثالاً متنوعة تشاهد بالعين ونراه , وإذا لم نرها فقد سمعنا
عن أخبارها.
فعدد الممالك الإسلامية التي تحكم نفسها فترى (؟) أن حالهم أسوأ وأردأ من
غيرهم , لا نظام لحكوماتهم , ولا مبدأ لدى الحكام إلا الاستبداد والظلم، حتى إن
هذه الأسباب تجعل بابًا للتداخل الأجنبي كما هو مشاهد الآن بمراكش وغيرها من
الممالك الأسيوية الإسلامية المستقلة.
ما الذي ينتظر من هذه الأمم ما دامت على هذه الحالة من الضعف؟ هل يؤمل
منهم خير بعد أن سلموا أرواحهم وبلادهم للأجانب وبعد أن سيطر هؤلاء عليهم
وأخذوا زمام أعمالهم في قبضتهم؟ .
أرى أنه ما دام أمراء المسلمين لاهين في شهواتهم ولذاتهم، مبتعدين عن كل
ما يجلب السعادة لشعبهم، غير مبالين إلا بمنافعهم الشخصية ومزاياهم النفسانية،
فذلك ما يجلب الدمار ويورث الضياع، لأن الملك إذا ترك لنفسه العنان , وانقاد إلى
أهوائه؛ ضاع وضيع من هو عليهم سلطان، فمن الوبال أن يحرم الإسلام من
الأمراء العاملين لنفعه الساعين في مصلحته وإعلاء كلمته.
وإني أرى أن السلطان العادل أو الأمير العارف يفيد المسلمين كثيرًا , ويصلح
شأنهم لأنهم يعدون أن الحاكم عليه صلاح الرعية، وبفساده تفسد البرية، وقد رسخ
ذلك في أوهامهم بدرجة غريبة لأنهم تعودوا ذلك من قديم مع أن ذلك لم يكن إلا بدعة
من البدع التي أضاعتهم وهضمت حقوقهم، لأنهم إذا طالبوا الحكام بواجباتهم لم
يستطيعوا أن يفعلوا مثل ما يفعلون معهم، ويستبدوا مثل ما يستبدون، ويجحفوا
بحقوقهم مثل ما هم عليه قائمون.
هذا ومن جهة أخرى ترى أن المسلمين أصبحوا في حالة تأخير من جهة الفكر
والتصور لأنهم امتثلوا للخرافات وزودوا عقولهم بأفكار سخيفة , وتركوا الأصول
الحقيقية فلذلك أثرت في حياتهم ووجودهم هذه الاعتقادات المأخوذة عن محض الجهل
حتى صارت لهم عادة مأثورة وقياسًا مألوفًا مع أن ذلك مخالف لنصوص الشرع على
خط مستقيم.
ترى أيضًا أن المسلمين منقسمون بينهم لا تربطهم محبة , ولا تجمعهم ألفة ولا
جامعة لأنهم أصبحوا محكومين , ولا يخفى أن الضغط والاستبداد يذهبان ما في
الإنسان من الغيرة والحمية وخصوصًا إذا جعل هذا الأمر عادة فيصير كأنه مخلوق
لهذه الحالة.
فلهذه الأسباب لا تجد جامعة واحدة حتى إنك ترى في البلدة الواحدة فتورًا بين
الأهل والأفراد , وقد نسوا كل النصائح الحكيمة التي أتى بها القرآن الشريف من
الآيات البينات في الاتحاد {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (القصص: 35) , {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) إلى آخر تلك الآيات البينات.
ومن الحديث الشريف ما يغني عن البيان , ويفصح عن المقصود في مثل هذا
الموضوع.
وأما من يسمون بالعلماء فهم في حالة تأخر وانحطاط , فهم يرمون وراء
ظهورهم وينبذون نبذ النوى كل المبادئ الحديثة من العلوم , ويكفرون من اتبعها
زعمًا أن ذلك مخالف للشريعة السمحة ولو تصوروا قليلاً لعرفوا تمامًا سوء فهمهم
وقلة إدراكهم.
30 أغسطس سنة 905 ... ... ... ... ... مصطفى نجيب
__________(28/765)
الكاتب: عبد الرازق المليح آبادي
__________
كتاب الصحةلمهاتما غاندي
كلمة المترجم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين،
محمد وآله وصحبه الهادين المهديين.
(وبعد) فإني أقدم هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في معناه، إلى
الأمة العربية في لغتها الشريفة التي لها فضل كبير علي وعلى العالمين، وقد
خصصت مجلة (المنار) الغراء بنشر هذه الترجمة لما لها من الأيادي البيضاء في
الإصلاح الاجتماعي والديني، وما لصاحبها من المنة الكبيرة علي بتثقيفي وتربيتي،
إذ أنا تلميذه ومريده، وتشرفت بالمثول بين يديه سنين عديدة.
ترجمت الكتاب إلى العربية بعد أن استأذنت مصنفه مهاتما غاندي [1]
فاستحسن فكرتي، وأذن لي , بل ألح علي بذلك قائلاً: (إني أحب العرب
وأحترمهم، وأنتظر منهم أعمالاً عظيمة لخير الشرق والإنسانية، وأرغب في
عرض أفكاري عليهم) .
فقلت له: (ولكن العرب فطروا على عيشة تصدهم أن يأخذوا ببعض أفكارك
التي بسطتها في الكتاب، بل ربما يستهزئون بها) .
فقال: (لا عجب إن فعلوا ذلك , إني لا أنتظر من جميع الناس أن يقبلوا كل
ما أقول , وظيفتي أن أقول، لا أن أكره الناس على اتباعي) .
ألف مهاتما غاندي كتابه هذا وهو ليس بطبيب، وترجمته أنا ولست بطبيب.
أراد غاندي بتأليفه أن يخدم الناس بما جربه بنفسه من قواعد الصحة , وأردت
أنا بترجمته أن أخدم الناطقين بالضاد بما قرأته , ولم أجربه بنفسي قط.
فغرضي من هذه الترجمة ليس دعوة الناس إلى العمل بكل ما جاء في هذا
الكتاب، لأني لا أجزم بصحة كل ما جاء فيه , بل إنما غرضي الإخبار بما قاله في
مسألة الصحة هذا الزعيم السياسي والمصلح الاجتماعي والقائد الديني في القارة
الهندية، والذي يحسب كثير من الأوربيين والأمريكان - وفيهم عدد من القسيسين
أنه مسيح جديد، جاء ليجدد تعاليم المسيح القديم! وأقواله مهما تبدو غريبة،
وأفكاره مهما تظهر شاذة، تستحق الاعتبار والتأمل على كل حال.
إن من سوء حظ الشرق أنه لم يفقد استقلاله السياسي فحسب؛ بل قد فقد
استقلاله الفكري أيضًا، ولذلك تراه يقلد الغرب في كل شيء، حتى إنه أصبح لا
يتفكر في نفسه، ولا يقيم للأشياء وزنًا ولا يميز بين الحق والباطل، بل لا يزال
نظره إلى الغرب فإن رآه يقول لشيء إنه حق، قال هذا أيضًا: إنه حق وبالعكس.
وأنا لا أكره الغرب ولا أنكر فضله في العلم والمدنية , ولا أحرم الاقتباس
والاستفادة منه، ولكن الذي أقبحه وأشئمز منه هو الاستعباد الفكري للغرب، لأن
هذا الاستعباد إذا تمكن من نفوسنا لن نسترد حريتنا السياسية المغصوبة، ولن نجدد
أسس قوميتنا المتهدمة.
أقول هذا لأني أخشى أن ينبذ فريق من القراء هذا الكتاب قبل أن يطلع عليه
لا لأنه يستحق النبذ، بل لأنه جاء من مصدر شرقي بحت، فيحسبه سخافة شرقية ,
فلذلك أرجو من هو على هذه الشاكلة أن يتمهل في الحكم عليه ليقرأه بإمعان، فإن
لم يعجبه فليرمه إن شاء.
وإني تطمينًا لهؤلاء أقول: إن هذه الآراء ليست خاصة بغاندي وحده،
بل هناك في أوربا وأمريكا أيضًا ثورة كبيرة على الطب وأساليبه وأدويته , بل إن
تقدم العلوم قد أخذ يهدم أركان هذا الطب الذي نسميه (الحديث) ويسمونه هنالك
(القديم) .
إن مهاتما غاندي - وإن لم يكن طبيبًا - مهتم بمسألة الصحة اهتمامًا كبيرًا،
ذلك دأبه من نعومة أظفاره , وكتب ما كتب بعد أن جربه بنفسه على نفسه سنين
طويلة، وهو لا يزال متمسكًا بكل ما قاله , وعاملاً به بكل دقة وشدة.
يعلم اهتمام غاندي بمسألة الصحة من كتاباته , وخطبه الكثيرة فيها , وقد
صرح مرارًا بأنه لو لم يقدر له أن يكون سياسيًّا ومصلحًا اجتماعيًّا، لكان كناسًا في
بلدته، ينظف المراحيض , ويزيل القاذورات من البيوت، ليعيش الناس بالصحة
والعافية!
وقد سمعت ممن شهد المؤتمر الوطني سنة 1921 في بلدة أحمد آباد مقر
غاندي - ولم أستطع الاشتراك فيه لأني كنت يومئذ مسجونًا - أن مهاتما غاندي كان
ينظف المباول وبيوت الخلاء بنفسه ومعه تلاميذ مدرسته , مع أنا نعلم أن هذا
المؤتمر كان عظيمًا جدًّا اجتمع فيه أكثر من نصف مليون نفس.
وقد يتعجب الذين بهرتهم المدنية الغربية، وغرتهم أبهة الزعامة الوطنية،
كيف يقوم هذا الزعيم الجليل بهذا العمل القذر؟ هؤلاء يتعجبون لأنهم لم يعرفوا هذه
الشخصية العجيبة النادرة: شخصية مهاتما غاندي. إن هذا الرجل - وإن ظهر
ونبغ في القرن العشرين - يضرب لأبناء هذا العصر في نفسه مثل بوذا
وكونفوشيوس وغيرهما من المصلحين وقادة البشر في العصور الغابرة الذين أسسوا
دعوتهم على مكارم الأخلاق وحب الإنسانية والعيشة الساذجة والروحانية النقية ,
والثقة التامة بذات الله العلي الكبير والتوكل عليه.
إن هذا الزعيم كذلك يدعو الناس إلى المعيشة الفطرية الساذجة ونبذ البذخ
والترف، وإلى التخلق بالأخلاق الفاضلة، والمحبة الشاملة العامة، والتمسك بجميع
ما في الأديان من الخير والتقوى وخشية الله والرأفة بالبشر.
ليت شعري كيف كان يكون عجب المغترين بالمدنية الغربية إذا رأوا هذا
الزعيم الهندي بأعينهم؟ إنهم ليرونه عاريًا، حافيًا، حاسرًا قد تجرد من الملابس
قائلاً: (لا يصلح لي أن أتجمل بالملابس , والملايين الكثيرة من بني جلدتي لا
يجدون ما يسترون به عوراتهم ويقون به أجسادهم من الحر والبرد) فتراه الآن
متجردًا ليس على جسده لباس , اللهم إلا إزار صغير يستر به عورته! وكذلك شأنه
في مأكله: لا يأكل الملح ولا اللحم ولا العدس ولا الحبوب ما عدا خبز القمح نادرًا ,
وقد حصر غذاءه في الفواكه , وهو يكثر من أكل البرتقال والموز , ويفضلهما
على غيرهما من الفواكه.
وقد أخبرني عن سبب تركه الملح فقال:
مرضت زوجتي في إفريقية الجنوبية (وكان يشتغل هنالك بالمحاماة) مرضًا
شديدًا فداويتها أولاً بنفسي فلم ينفعها شيء فراجعت أحد الأطباء , وأدخلتها في
مستشفاه الخصوصي فأمرها أن تترك أكل الملح والعدس , فغضبت من نصحه ,
وأبت امتثاله فغضب الطبيب أيضًا، وكان حديد المزاج قاسيًا فدعاني في نصف
الليل , وقال: إن زوجتك عصت أمري، فأنا لا أعالجها بل لا أسمح لها بالبقاء
عندي دقيقة واحدة، فاذهب بها حيث تشاء حالاً بدون أدنى تأخير!
قال مهاتما غاندي: فتحيرت في أمري , ورجوت الطبيب أن يسمح لها بالبقاء
إلى الصباح , ولكنه أبى ذلك , وأصر على أمره، فاضطررت أن أخرج زوجي في
تلك الساعة من الليل البهيم البارد , وأحملها على ظهري مسافة 15 ميلاً حيث كان
مقامي! فلما وصلت بها إلى البيت، قلت لها: بئس ما فعلت , إنك لا تشفين إلا
باتباع نصح الطبيب , يجب أن تتركي أكل العدس والملح , وإلا تموتين , فقالت:
إن الامتناع عن العدس سهل، ولكن الملح لا أستطيع تركه , وإن مت بسببه، ولو
كنت أنت في مكاني لما وسعك تركه! فقلت: تقولين ذلك! فها أنا ذا أترك الملح
سنة كاملة مختارًا! فلما سمعت ذلك أخذت تبكي وتعتذر من قولها.
ولكني هدأت روعها , وقلت لها: لا بأس عليك , لم أقل ذلك لأني غضبت من
قولك، بل إنما أفعل ذلك لتتشجعي أنت في مكانك فيسهل عليك ترك الملح.
قال: (فلما مضت السنة , ورأيت فوائد ترك الملح، ما عدت إليه إلى الآن)
أما صحته - فجسمه نحيف جدًّا، لا يجاوز ثقله أكثر من 104 أرطال
(Pound) ولكنه يرى نفسه أصح الناس جسدًا , ويقول: إن الرطوبات والشحم
الزائد والفضلات التي لا احتياج إليها قد خرجت من جسمي , وأصبحت قويًّا بكل
معنى الكلمة.
وكلامه هذا ليس جزافًا لأنه يقوم بأعمال قد يعجز عنها الرجال الأشداء , فهو
يحرر ثلاث جرائد أسبوعية , وهي تصدر في أوقاتها المعينة بدون أن يحدث فيها
أي خلل , ونحن نعلم أنه يشتغل بالأشغال العقلية 16 ساعة كل يوم , ومع ذلك لا
يشعر بالتعب. وكذلك نراه من سنين كثيرة في السفر، لا يستقر في مكان،
يدور من بلد إلى بلد، يخطب مرات عديدة في يوم واحد , ويقابل ألوفًا من الناس.
وأكبر دليل على قوته أنه صام أربعين يومًا متتابعة لم يذق فيها أي شيء ,
ومع ذلك لا أغمي عليه ولا أحس بضعف، بل ما زال يكتب لجرائده المقالات ,
ويغزل كل يوم من القطن المقدار الذي قرره لنفسه , ومن أعجب ما رأيناه أنه بينما
كان ثقله قد قل كثيرًا في الأسبوع الأول من الصوم حتى خافوا على نفسه، أخذ
يزداد وزنًا بعد ذلك , وقد تحير الأطباء في تعليل ذلك! ثم إنه فوق ذلك قد ملك
زمام نفسه، فيعيش كما قرر لنفسه أن يعيش فلا ينام إلا القدر الذي قرر أن ينام،
ويقوم بجميع أعماله بنظام تام، بدون أن يطرأ عليه أي خلل.
ثم إنه لا يغضب أبدًا , ولا يستعجل ولا يفزع، بل يبقى دائمًا هادئًا مطمئنًا
كأنه مالك نفسه , سخرها؛ فأصبحت له أطوع من بنانه.
ومن عجيب أمره أنه يعيش مع زوجته , ولكنه يحسبها كأخته أو أمه كما أشار
في هذا الكتاب، وكما صرح في إحدى خطبه هذه الأيام فقال: (أنا وزوجتي قد
اتفقنا على أن نعيش كالأخ والأخت , أو كالابن والأب , أو البنت والأم , فأنا لها
كأب وهي لي كأم) .
وكلامه هذا لا يرتاب فيه , لأن عيشته مفتوحة , وليست بسر , وهو لا يكذب
أبدًا مهما اضطرته الأحوال.
فيعلم من كل هذا أن صاحب هذا الكتاب، وإن لم يكن طبيبًا قد عرف أسرار
الصحة وجربها في نفسه فأصبح رجلاً غير عادي في صحته الجسدية وصحته
العقلية , وقد قدم في نفسه نموذجًا للرجل الصحيح تمام الصحة , وأودع تلك
الأسرار في هذا الكتيب ليجربها الآخرون فإن وجدوها خيرًا؛ تمسكوا بها , وإلا
ضربوا بها عرض الحائط.
هذا ما أردت أن أقوله للقراء قبل أن يطلعوا على الصفحات الآتية.
إلا أنه بقي علي أن أشكر صديقي ورفيقي في الدرس حضرة الأستاذ الشيخ
عبد العزيز العتيقي من أهل نجد الذي ساعدني في تقويم عبارة الترجمة , فأشكره
شكرًا جزيلاً , وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيده ويمهد له السبيل لخدمة شعبه،
الذي كنت أعهده متفانيًا في حبه.
والحمد لله أولاً وآخرًا؛
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرازق المليح آبادي
(المنار)
لما عرض علينا ولدنا الروحي الفاضل الخادم لملته وأمته الإسلامية ترجمته
لهذا الكتاب النفيس؛ استحسناه , وقبلنا أن ننشره في أجزاء المنار ليستفيد منه
قراؤه الاهتمام بصحة أجسادهم وسلامة أرواحهم , فهو يَفْضُل جميع ما ألفه
الأطباء أنه يعنى بالأمرين معًا، ولعمري إن حاجة البشر إلى صحة أرواحهم
أشد كما أن تفريطهم فيها أعم، ولنا على قول المترجم إن المؤلف غير طبيب
أن الطب الصحيح ما صدقته التجارب , وكان مستنبطًا منها , وهو صادق في
خبره عن تجاربه إلا أنه لا بد من تكرار التجربة، وأن يراعى فيها اختلاف
الأحوال والأمزجة، وكذلك صفات الأنفس وقواها فإن المؤلف ذو إرادة قوية هي
الركن الأعظم لعظمته التي ساد فيها قومه , وأصبح زعيمهم الأكبر في دينهم
ودنياهم باستحقاق , وهي مع الذكاء والبصيرة ركن لصحته الجسدية أيضًا. ومثله
في استقلال عقله وكبر همته وعقائد ملته لا يخلو من شذوذ ذاتي , ومخالفة دينية
لكثير من الناس. وقد علقنا في حواشي الكتاب على أهم ما شذ به في نظرنا , وإننا
نشكر له بلسان أمتنا الإسلامية عنايته بالتأليف بين مسلمي الهند وهندوسها
وفاقًا لرأينا ونشكر له أيضًا ثناءه على أمتنا العربية وحسن أمله فيها , وقد
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل) .
__________
(1) (مهاتما) معناه في اللغة السنسكرية (الروح الأكبر) لقب غاندي بهذا اللقب لأن قومه يعتقدون بعظم روحانيته.(28/769)
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
__________
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا
(6)
(المقام السابع والعشرون) قوله: ومن جاء بعدهم قوم لم يتدبروا معاني
الحديث , ولم يتفطنوا لما عليه أسلافهم فشددوا النكير على تشييد القباب والبناءات
حول القبور زعمًا منهم أنهم فهموا من الأحاديث ما لم يصل إليه أئمة المسلمين
وهيهات ذلك.
أقول: وددت أن هذه المغالطة القبيحة لم تصدر من السيد مهدي - والمقدر
كائن- وما أدري كيف طاوعه ضميره ولم ينهه عن عكس القضية , فناشدتك الله
الذي هو عند لسان كل قائل: من أحق بهذا الكلام؟ في الاستدراك على السلف ,
والحكم عليهم بالجهل , والرغبة عن الخير , وعدم الفطنة لفضيلة بناء القباب مع
أنهم زعموا أنها من أعظم القربات.
الذين ابتدعوا بناء القباب وزخرفها , وزينوا للغافلين الجاهلين الغلو
فيها , ولم ينصحوهم حتى وقعوا في الكفر البواح , وعصوا الرسول , وضربوا
بنصوصه المستفيضة عرض الحائط , وجاءوا بموبقة لم تخطر ببال أحد من
السلف؛ سلف جميع الطوائف فضلاً عن أن يقولوا بها , بل أجمعوا على تركها.
ولو كانت خيرًا ما قصر عنها السلف , وسبق إليها الخلف، أم الذين تلوا نصوص
نبيهم , فقالوا: سمعنا وأطعنا , وأجروها على ظواهر دلالتها بلا تأويل ولا تحريف
ولا تعسف , وفهموا منها ما فهمه الأسلاف , فانتهوا عما نهتهم عنه كما انتهى سلفهم ,
فوافقوا السلف علمًا وفهمًا وعملاً , ولم يبتدعوا بعدهم مثقال ذرة، فهذه أقوال
الرسول صلى الله عليه وسلم , وأقوال السلف وأفعالهم وفيها هدم ما يبنى على القبر
وتروكهم , ومنها ترك بناء القباب وغيرها على القبور كلها مع المانعين من القباب ,
وليس مع المجيزين لها حرف واحد عن الرسول , ولا لهم سلف به في بدعتهم
ألبتة إلا من هو مثلهم أو قريب منهم , أو زلة صدرت من غير معصوم , ثم إن
النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحدث الناس بالأغاليط حتى تلتبس أحاديثه على
الأفكار , وتتضارب فيها الأفهام , وكيف وهو أفصح الفصحاء وأقدرهم على إيصال
مراده إلى الأذهان السليمة والقلوب البصيرة الطاهرة من البدع بكل سهولة , فكل
من له أدنى معرفة بلغة العرب , ورأى نصوص الباب , وتلقاها بقلب سليم من
العصبية تبين له كالشمس مراد الرسول فيها بلا كلفة لا يختلف في ذلك اثنان , ولا
ينتطح فيه عنزان.
ثم لو سكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور , وسكت
السلف لكان محرمًا بلا شك لأدلة (منها) أنه بدعة وكل بدعة ضلالة على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم , ومنها أنه حدث , وقد صح عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) , (ومنها) إجماع
السلف على تركه , (ومنها) أنه باب جهنمي من أبواب الشرك ما قرت عين
إبليس بمثله , وما ولجه أحد إلا ارتطم في قعر هاوية الكفر كما هو مشاهد بالعيان ,
ولا يحتاج إلى إقامة برهان , (ومنها) اتفاق العقلاء , (ومنها) أنه من سنن
المشركين وقد أمرنا بمخالفتها إلى غير ذلك.
(المقام الثامن والعشرون) قوله: مع أن هؤلاء ليس لهم أن يجتهدوا لو
كانت لهم أهلية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية , ومعرفة الحلال والحرام بعد
تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد , والأخذ بقول أحد الأئمة الأربعة [1] .
أقول: لقد حجرت واسعًا , وما أنصفت علماء أهل السنة إذ أبحت لنفسك
ولعلماء فرقتك الاجتهاد وحظرته عليهم , ولا أدري لم فعلت ذلك؟ أظننت أن
جمهور علماء المسلمين من أول المائة الرابعة إلى اليوم ما وجد فيهم أحد يعرف
حكم الله ويقوم بحجته؟ إني لأربأ بك عن تصور هذا فضلاً عن تصديقه , وما
المانع لهم من الاجتهاد بعد التبحر في علوم الشريعة والتضلع من موارد أدوات
الاجتهاد؟ وهل منعهم من الاجتهاد بعد ذلك إلا تحكم محض , وتلك إذا قسمة
ضيزى؟ ولو فرضنا أن علوم الاجتهاد انمحت ودرست معالمها عند جميع المسلمين
ما عدا الشيعة؛ ما جاز على علماء أهل السنة أن يقتنعوا بالجهل في تلك القرون
المديدة , وليس بعزيز عليهم أن يرحلوا إلى علماء الشيعة من جميع الأقطار ,
ويتلقوا عنهم من العلم ما يؤهلهم لمعرفة الحلال والحرام بالدليل وذلك أهون عليهم
من درس فلسفة اليونان والتبحر فيها , واستنباط العلوم الرياضية الدقيقة كعلم الجبر
والمقابلة ودقائق الهندسة وعلم النحو وغيرها.
وإن أمة مضى عليها ألف سنة إلا قليلاً , وليس فيها أحد يعرف حكم الله بدليله ,
ويقوم لله تعالى بحجته ويحمل ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ويبثه في الناس ,
ويدعو إلى الله على بصيرة لفي خسران مبين.
وإن كنت معترفًا بأن علماء أهل السنة يعلمون من علوم الاجتهاد ما يعلمه
علماء الشيعة أو أكثر , فكيف تختلف النتيجة عن المقدمات الصحيحة , ويتجرد
الملزوم بلا مانع عن لازمه؟
وقوله: (ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد) فيه نفي لأهلية
الاجتهاد عنهم وحجره عليهم حتى لو وجدت أهلية وما بعد هذا تحكم!
وقوله: (في استنباط الأحكام ومعرفة الحلال والحرام) أدهى وأمر لأنه لم
يقتصر على نفي استنباط الأحكام عنهم , بل نفى عنهم معرفة الحلال والحرام ,
ويلزم منه أن قضاتهم ومفتيهم جميعًا في تلك الأعصار كانوا يسفكون الدماء ,
ويبيحون الفروج [2] ويتصرفون في الأموال غير عالمين بحلالها وحرامها , وأي
قدح أعظم من هذا؟
قوله: (بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد) .
(أقول) : متى تقرر هذا الإجماع؟ وأين تقرر؟ ومن هم المجمعون؟ ومن
هم الناقلون له؟ فهذه أسئلة أربعة يجب الجواب عنها، والحق الذي لا شك فيه هو
أن علماء أهل السنة مجمعون على تحريم التقليد , والقول على الله بلا علم ,
وأجمعوا أيضًا على أن التقليد ليس بعلم , وأن المقلد ليس بعالم ولا هو من أهل
الإجماع , فلا يعتد بوفاقه ولا خلافه , بل هو بمنزلة الصبيان , حكى ذلك ابن عبد
البر في كتاب العلم وأبو شامة وابن حزم وابن القيم والسيوطي والشوكاني
والفلاني ونقلوه عن أئمتهم نقلاً يفيد العلم النظري , وهذه كتبهم شاهدة بذلك , وقد
ألف في رد التقليد كثير من السلف والخلف قال الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر
السيوطي في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل
عصر فرض) في ص42 ط الجزائر (الباب الثالث) في ذكر من حث على
الاجتهاد وأمر به وذم التقليد ونهى عنه: اعلم أنه ما زال السلف والخلف يأمرون
بالاجتهاد ويحضون عليه , وينهون عن التقليد ويكرهونه ويذمونه , وقد صنف
جماعة لا يحصون في ذم التقليد , فممن صنف في ذلك المزني صاحب الإمام
الشافعي ألف كتاب (فساد التقليد) نقل عنه ابن عبد البر في كتاب العلم
والزركشي في البحر , ولم أقف عليه , وألف ابن حزم ثلاثة كتب في إبطال التقليد
وقفت عليها , وألف أبو شامة في ذلك كتابه خطبة الكتاب (المؤمل في الرد إلى
الأمر الأول) وقفت عليه , وألف ابن دقيق العيد كتاب (التسديد في ذم التقليد) لم
أقف عليه , وألف ابن قيم الجوزية كتابًا في ذم التقليد وقفت على كراسين منه ,
وألف المجد الفيروزآبادي صاحب القاموس كتاب الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد ولم أقف
عليه , وهذه نصوص العلماء في ذم التقليد. اهـ.
ثم ذكر أقوال العلماء ومنهم الأئمة الأربعة في تحريم التقليد , فأين إجماع
أهل السنة على جواز التقليد فضلاً عن وجوبه؟ فمن الورع اللائق بالناس
عامة وبالعلماء خاصة أن لا يسارعوا إلى الحكم في مسألة , ولا سيما إن كانت
أجنبية عنهم إلا بعد تمحيصها.
(المقام التاسع والعشرون) قوله: (وقد فات المنار ومكاتبه أن يطعنا بمثلها
على أهل السنة حيث شيدوا بناءات القبور وقبابًا منذ أكثر من تسعمائة سنة , ومن
المعلوم بالوجدان أن القبور التي شيدها أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة
والطائف ومصر والشام والعراق وغيرها من الأقطار أكثر بكثير مما شيده الشيعة.
(أقول) : لم يفت صاحب المنار انتقاد ما صنعه من ينتسبون إلى السنة من
بناء القباب وعبادة القبور , بل رد عليهم بما لم يرد بمعشار عشره على الشيعة ,
وهو معروف بعدم التعصب والمجاملة والتساهل ما لم يفض إلى تضييع الواجب ,
وهو مسالم للشيعة متودد إليهم حتى إن جماعتهم بالقاهرة يدعونه لحضور المأتم
السنوي فيجيبهم إلى الحضور [3] فإذا قيل له في ذلك أجاب بأنه ارتكب أخف
المفسدتين لأن ما ينشأ عن عدم إجابتهم من التقاطع والتدابر بين المسلمين أعظم
فسادًا من حضوره بمكان تعمل فيه بدعة، وله أصدقاء كثير من علماء الشيعة، ولو
عرفتموه حق المعرفة لرفعتموه عن وصمة التعصب للمذاهب والوقوف مع
المشارب , ولا أدعي فيه العصمة فلا معصوم إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسن فقط؟
غير محمد الذي ... عليه جبريل هبط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ... ... ...
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) سبب هذه الفرية على أهل السنة أن بعض المقلدين الذين ينعقد الإجماع باتفاق أمثالهم قالوا ولم يوافقهم سائر علماء عصرهم بوجوب تقليد الجمهور , ولا سيما الحكام لبعض المذاهب المدونة وعللوا ذلك بالمصلحة وهذا ليس بإجماع كما زعم الشيعي تعصبًا كما ترى في رد مناظره وإنما ذكرت هذا لأقول إن الشيعة يكثرون من التبجح على أهل السنة بزعمهم أنهم انفردوا بالقيام بفريضة الإجماع دونهم، وهو زعم مردود بالبداهة فإنهم أشد من أهل السنة تعصبًا لمذهبهم والاجتهاد والتمذهب ضدان لا يجتمعان.
(2) اللزوم في هذين الأمرين على إطلاقهما غير مسلم فإن تحريمهما من المعلوم من الدين بالضرورة لا بالاجتهاد.
(3) أي في بعض السنن لا دائمًا.(28/776)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
رحلة جلالة ملك الأفغان (أمان الله خان)
تواترت أنباء البرق من أوربا ثم من الهند بعزم صاحب الجلالة أمان الله خان
ملك الأفغان على القيام برحلة طويلة من بلاده إلى الهند فمصر فأوربا فتركية
فروسية ثم تتابعت بشروعه فيها، ثم بوصوله إلى كراجي فبمباي فإبحاره منها إلى
مصر.
وأهم أنبائه في الهند عندنا أنه صلى الجمعة في مسجد بومباي الجامع فاكتظ
بعشرات الألوف من المصلين فيه وفي رحبته وفنائه حتى قال مراسل روتر إنهم
بلغوا خمسين ألفًا , وقد التمسوا منه أن يخطب فيهم فخطب خطبة بليغة بالفارسية
حثهم فيها على التسامح الديني والاتفاق مع الهندوس ووصاهم باحترام دينهم الوثني
ليحترموا هم الإسلام , وقد ترجمت الخطبة باللغة الأوردية في المسجد فكان لها
تأثير عظيم.
ومن أغربها أنه ظهر منه هنالك ما استدل به على جفوته للإنكليز.
ولما وصل إلى هنا سر أهل هذه البلاد جد السرور بزيارته وبدعوة جلالة
ملكهم إياه إلى ضيافته الملكية , وضيافة حكومته السنية لأنه ملك شرقي قد نالت
بلاده استقلالاًّ تامًا مطلقًا من كل قيد بعد الحرب العالمية الكبرى، التي هدم تأثيرها
ممالك , وبنى ممالك أخرى، وأخص من ذلك أنه ملك شعب إسلامي , وهذه البلاد
شرقية إسلامية وقد دخل كل من الشرق والإسلام في طور جديد من تعارف شعوبهما
وتآلفهما.
وثم سبب ثالث لاهتمام شعبنا المصري بالملك الأفغاني , وهو أن لقب
(الأفغاني) مرسوم في القلوب والأدمغة من رجال النهضة العصرية في مصر
وسائر الشرق وفي كتبها العصرية ومجلاتها العلمية والأدبية والدينية وصحفها
السياسية بأحرف من نور إذ كان هو اللقب الوطني لمصلح الشرق وموقظه من
رقاده وحكيم الإسلام الداعي لإصلاحه (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) الذي
كان الأستاذ الإمام والزعيم الأكبر للإصلاح الديني والعلمي والاجتماعي أول مريديه
وخليفته من بعده، وكان سعد باشا زغلول الزعيم السياسي الأكبر من أصغر تلاميذه
سنًّا، وأوائل تلاميذ خليفته وأظهرهم نبوغًا، رحمهم الله تعالى.
أجمعت الجرائد المصرية على التنويه بالزائر الكريم، والضيف العظيم،
وعنيت اليومية منها بنشر أخباره، وذكر ما عرفت من أقواله وأحواله، في زيارته
للمعاهد العامة من المساجد ودور الآثار العادية والكتب والبرلمان والمدارس العليا،
كقوله في دار الكتب المصرية الكبرى وقد قدمت له صورة السيد جمال الدين:
(أوه هذا رجلنا) , وكاستعباره عند رؤية سعد زغلول باشا وتمنيه رؤيته حيًّا ,
وكاستقصائه في السؤال عن كل شيء مهم , ولا سيما الآثار المصرية , ومنها
السؤال عن سبب معرفتهم للغتها الهيروغليفية , وتعجبه من سماح حكومتهم لخروج
(حجر رشيد) المشهور الذي عرفوها منه إلى بلاد أجنبية , والسؤال عن طريقة
استخراج الآثار , واستغرابه لكون الأخصائيين من الأجانب يتبرعون بالحفر عنها
واستخراجها والعناية بحفظها بغير أجر خدمة للعلم، وقوله إنه سيراعي ذلك في
استخراج آثار بلاده.
وخير ما أعجب به الجمهور من شمائله وآدابه تواضعه حتى لطبقة الخدمة ,
وذكروا من ذلك أن أحد خدم مسجد السلطان حسن قدم له عند إرادة الدخول ذلك
الجرموق الذي يلبسه السياح فوق أحذيتهم عند دخول المساجد، فلما انحنى ليربطه
له على حذائه كالعادة استكبر ذلك وقال: أستغفر الله، أستغفر الله، وانحنى هو
وربطه بيده.
وذكروا أيضًا أنه كان يصافح عامة الناس كخاصتهم في حديقة
الإسكندرية التي دعاه إليه مجلسها البلدي , ثم يضع يده على صدره ورأسه , ولم
يخل وجوده في القاهرة والإسكندرية من أمور تدل على كراهته للإنكليز كما ظهر
في إلمامه بالهند، ومثل هذا غير معهود في المعاملات الدولية بين الملوك
ورجال الدول الرسميين في الأحوال الودية العادية، وهو مع هذا يريد زيارتهم
في عاصمتهم زيارة رسمية، ويقال: إنه يرغب في التأليف بين دولتهم ودولة
الجمهورية التركية، ويسعى لعقد اتفاق ودي ثلاثي هو الركن الثالث فيه! !
وقد زرناه مع إخواننا من هيئة مجلس إدارة جمعية الرابطة الشرقية في دار
الضيافة فاستقبلنا فيها واقفًا إذ دخل علينا وألقى السلام , فصافحنا وصافحناه واحدًا
بعد واحد، وكان يعرفه بنا أحدنا ميرزا مهدي بك رفيع مشكي , ثم قرأ الرئيس
خطابَ ترحيبٍ به مُوَقَّعًا عليه من الأعضاء تلاه بالعربية , وتلا مهدي بك ترجمته
بالفارسية، فأجاب جلالته بخطاب وجيز رحب به بالجمعية , وأثنى عليها ونصح لها
بمثل ما نصح لمسلمي الهند بالتساهل الديني وعدم التعصب بين الملل والطوائف،
وقد علم أن هذا من مقاصد الجمعية وأنه ليس في مصر مثل ما في الهند من
التعصب.
ثم قدم له الخطابان مع صندوق لهما من الفضة منقوش نقشًا صناعيًّا دقيقًا
جميلاً من صناعة مصر لهذا العهد , وقدمت له من ذلك بعض كتبي وكتب شيخنا
الأستاذ الإمام المختصرة مجلدة بالسندس الأخضر، وقدم له توفيق بك من أعضاء
الجمعية الحاضرين كتابًا شعريًّا خطيًّا وجيزًا أيضًا فقبل الجميع بالشكر، ولما انفتل
راجعًا أراد حمل هذه الكتب بيديه فأخذها منه بعض بطانته فكان هذا مما عد من
تواضعه المطبوع غير المتكلف، ولكن لم يكن منه استقباله للجماعة وقوفًا , وإن
كان هو واقفًا أيضًا.
وأما الكتب التي قدمتها لجلالته فهي رسالة التوحيد للأستاذ الإمام , وكتاب
الوحدة الإسلامية وفيه محاورات المصلح والمقلد , وخلاصة السيرة المحمدية،
والدعوة الإسلامية , وكتاب الخلافة أو الإمامة العظمى.
هذا وإنه لولا لبس هذا الملك البرنيطة , وكذلك جلالة الملكة زوجه مع
سفورها الذي لم يجد له في مصر مجالاً واسعًا مع محافظة جلالة ملكة مصر على
الحجاب لما كان لأحد من أهل مصر أدنى انتقاد عليه، ولكان السرور به عامًّا ,
والثناء عليه غير مشوب بشيء إلا ما يقال همسًا من عدم تبرعه بشيء من المال
لشيء من الأعمال الخيرية كما هي عادة الملوك والأمراء في أمثال هذه الزيارات،
وأخبار تبرعات جلالة ملك مصر في ممالك أوربة لا تزال ترن في الآذان، وتلوح
في آفاق الأذهان.
كانت مخيلات المفكرين عندنا تصور ملك البلاد التي أنبتت السيد جمال الدين
بصور شتى، فبعضهم يتصور أنه متوج بتاج قد كورت عليه عمامة عجراء كعمامة
هارون الرشيد، وبعضهم يخيل إليه أنه يزين مفرقه خوذة عليها عمامة مخصرة
كخوذة صلاح الدين، وأنه يلبس قباء خسروانيًّا، ومعطفًا مزركشًا هنديًّا، وأكثر
الواقفين على حال العصر كانوا يعتقدون أنه يلبس الزي الإفرنجي كملوك أوربا
وسلاطين آل عثمان إلا أنه يمتاز بعمارة [1] شرقية غير الطربوش العثماني المصري
كالقلبق الإيراني أو غيره، ولم يكن يلوح في خيال أحد أنه يضع على رأسه
برنيطة عادية حتى رأوا ذلك بأعينهم حتى في زيارته لبعض المساجد الأثرية
والمعاهد العامة.
***
تأثير لبس ملك الأفغان البرنيطة:
إنما يسيح صاحب الجلالة الأفغانية في الأرض بقصد الاختبار والاعتبار ,
فمهما يجب أن يعلمه ويتلقاه بصدر واسع أن السواد الأعظم من علماء الإسلام وأهل
الدين من سائر الطبقات قد امتعضوا من رؤية البرنيطة على هامته، بل خشوا أن
تكون أثرت في نفسه دعاية الترك الكماليين , وأن يتلو تلوهم في حكومتهم اللادينية،
ويحذو مثالهم في مدنيتهم التقليدية، أعاذه الله وشعبه من ذلك.
قد شرع الترك في تقليد الإفرنج منذ قرن أو أكثر بتدريج بطيء ليكونوا مثلهم
مع اتقاء خطر الطفرة في التحول والانقلاب , فلم يزدهم التقليد إلا وهنًا على وهن،
ولذلك يقدر أهل الرأي والبصيرة من علماء الاجتماع أن وثبة مصطفى كمال
ستكون أشد خطرًا على قومه , وإن أوهم ظاهرها أنها دخلت في حياة جديدة، فإن
الدولة المهرمة يظهر فيها مثل هذا الانتعاش قبل موتها فيكون كإيماض الذبالة
(الفتيلة) في السراج قبل الخمود والانطفاء , كما قال مؤسس علم الاجتماع حكيمنا
العربي عبد الرحمن بن خلدون، وإننا نرى حكماء أوربة يسخرون من التقليد
التركي الجديد الجهلي، والأفغان أجدر بالحياة من الترك إذا راعوا في تجديد دولتهم
جميع مقومات ملتهم.
وأما دعاة الغلو الإلحادية في التفرنج من زنادقة المسلمين والملاحدة منهم ومن
سائر الطوائف المقيمة في هذا القطر فقد ابتهجوا وانشرحت نفوسهم برؤية الملك
الشرقي المسلم قد آثر البرنيطة الإفرنجية على كل عمارة إسلامية أو شرقية ,
وجددوا دعوتهم إلى إلقاء الطربوش واستبدال البرنيطة به اقتداء بالملك الشرقي
العظيم الذي صرح بأنه يعني بذلك أن لا يدخل في عموم حديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنه عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم
فهو منهم) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه أيضًا.
أول ما رأيناه في تجديد الدعوة إلى لبس البرنيطة اقتداءً بالملك أمان الله خان
بعد أن خفت أصوات دعاتها زمانًا ليس بقصير مقالة نشرت في المقطم , وأول ما
نقوله في ذلك: إننا نعلم أن دعاة البرنيطة لا يقصدون بالدعوة إليها إلا جذب الناس
إلى التفريج بترك مشخصات أمتهم وقوميتهم كما يدعونهم إلى ترك مقومات الأمة
الملية من تشريع وآداب ولغة ودين بحجة أنها عتيقة بالية , وأن لذة الحياة بالجديد،
وما التعلق بالجديد لأنه جديد إلا شأن الأطفال: يسرع إليهم الملل مما ألفوا،
فيؤثرون ما يعرفون كل يوم على ما كانوا عرفوا، وأما من بلغ أشده واستوى،
وكملت فيه جميع القوى، فإنه مهما يألف من المنازل فحنينه أبدًا للمنزل الأول،
ومهما ينقل فؤاده من الهوا فلا يزال حبه الصادق للحبيب الأول، ولذلك يعدون
الرابطة الوطنية من أقوى روابط الحضارة للإنسان، حتى أسندوا إلى حكم النبوة
قول بعضهم: (حب الوطن من الإيمان) وعلماء الاجتماع يقولون: إن الأمة سليلة
التاريخ القديم، لا وليدة العهد الجديد، فإن ملكات العلوم والفنون فيها لا تحصل لها
إلا بتعدد الأجيال جيل الاقتباس وجيل الحضرمة وجيل الاستقلال.
والحق الحقيق بالقبول أن كل إنسان مركب من قديم موروث، وجديد مخلوق
ومكسوب، وإنما يطلب المكسوب لحفظ الموروث وتكميله فهو تابع للمصلحة
والمنفعة، وإننا نرى أقوى الأمم وأعزها هي الشديدة المحافظة على القديم والتروي
في الجديد كالإسرائيليين والسكسونيين، فما لهؤلاء الأحداث المتفرنجين يبثون في
هذه الأمة الدعاية إلى تحقير كل قديم، والترغيب في كل جديد، حتى ما ينكره كل
عقل سليم، كتهتك النساء , والإسراف في الزينة والشهوات , وتقطيع ما لأممهم من
روابط وصلات، حتى المقومات والمشخصات.
يريد ناشر الدعوة إلى البرنيطة اليوم أن يخدع الشعب المصري بالاقتداء بهذا
الملك العظيم ملك الأفغان، فإن كان هذا الشعب ينتظر ملكًا شرقيًّا يقتدي به في مثل
هذا , فأقرب الملوك إليه ملكه , وممثل حكومته فهو أحق من غيره بالاتباع في هذه
الحالة التي عدوها من أحوال التنازع بين القديم والجديد، فجلالته شديد المحافظة
على زي قومه وحكومته الرسمي، وجلالة ملك الأفغان قد اعتذر عن لبس البرنيطة
بعذر إن صدق عليه فإنه لا يصدق علينا في مصر وأمثالها من الأقطار كسورية التي
سرى سم التفرنج التقليدي إلى بعض شبانها المغرورين , وقد قلت في مطلع قصيدة
نظمتها في عهد طلب العلم بينت فيها مضار هذه التقاليد الصورية وأهمها تفريق
وحدة الأمة:
ليس التمدن تقليد الأربي ... فيما انتحاه من العادات والزي
إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي
بل التمدن ملزوم التقدم مد ... عاة الرفاهة منفاة الألاقي
روح شريف به تحيا الشعوب بما ... يبث فيها من العلم الحقيقي
حتى ترى كثرة الأفراد راجعة ... لوحدة والفرادى كالأتابي.
بل جلالة ملك مصر وجلالة ملكتها حجة على كل هؤلاء الجناة على روابط
ملتهم ووحدة أمتهم , وخير قدوة في موضوع القديم والجديد التي ألمحنا بها.
ذلك أنهما على كونهما في أعلى درجات الحضارة والرفاهة العصرية يحافظان كل
المحافظة على شرف الملة والأمة وآدابها ومشخصاتها , فجلالة الملك يتنزه عن
شرب المسكرات في المآدب الملكية والمواقف الرسمية كما يتنزه عنها في قصره،
وبينه وبين ربه، حتى إنه لم يبح لنفسه أن يحسو منها حسوة بالتبادل مع أعظم
ملوك العالم فيما يسمونه شرب الأنخاب الودية.
بل نقل إلينا من أخبار رحلته الأوربية في الصيف الماضي أنه اشترط فيما
دعي إليه من مآدب الملوك ورؤساء الحكومات ووزرائها أن لا يكون على الموائد
شيء من لحم الخنزير , وقد كان نقل إلينا مثل هذا عن المرحوم الأمير حبيب الله
خان والد جلالة الملك أمان الله خان، عندما زار لندن عاصمة الإنكليز، بل قيل:
إنه اشترط في حضور مائدة الملكة فيكتوريا أن لا يكون عليها خمر , ولا شيء من
صحاف الذهب والفضة وكؤوسها.
وأما جلالة ملكتنا فأبت عليها وعلى جلالة الملك الآداب الإسلامية والتقاليد
القومية أن تظهر في أوربة سافرة الوجه , أو أن تحضر الاحتفالات والمآدب
الرسمية أو غير الرسمية التي يجتمع فيها النساء والرجال بالأزياء الرسمية المعهودة
في هذا العصر وهي مما لا يبيحه الإسلام.
فشكرًا لملكنا ولملكتنا على هذا منا ومن العالم الإسلامي كله.
__________
(1) العمارة والعمرة بالفتح كل ما يوضع على الرأس من عمامة أو تاج أو غيرهما.(28/782)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية الشبان المسلمين
أحمد الله تعالى أن وفق المسلمين في مصر إلى تأليف هذه الجمعية التي يرجى
أن تكون على تأخرها عن أخوات لها في بلاد أخرى هي الرأس لهن وهن
أعضاؤها، وأن تكون مصر هي الدوحة الباسقة لهن وهن فروعها، ولم يسرني
تأليف جمعية بعد جماعة الدعوة والإرشاد كتأليف هذه الجمعية التي طال تفكري في
شدة حاجة المسلمين إليها وتحدثي مع أهل الرأي في السعي لها، وقد مكثت سنين
أبحث عن تاريخها وتطورها وتعاليمها السرية، وعز علي أن أختار طائفة تنهض
بتأسيسها ثم تقوم بأعبائها، وكلفت الأستاذ توفيق دياب الخطيب المشهور في أيام
الحرب الكبرى أن يبحث في المسألة وهل يمكن لنا تأليف جمعية للمسلمين كجمعية
الشبان المسيحيين مع مراعاة قانونها في اجتناب السياسة أم تعارض السلطة
العسكرية في ذلك؟ ، ثم علمت منه ومن غيره عدم الإمكان في ذلك الزمان، على
أنني لم أهتد بعد عودة الحرية إلى البلاد إلى رجال ينهضون بهذا العمل الجليل،
ويستقلون بهذا الحمل الثقيل، ولكل قدر أجل، فلما استعدت البلاد بتطورها له ظهر
ظهورًا طبيعيًّا بتداعي بعض شباب المدارس العليا إليه، وهم أحق وأولى وأجدر به،
فلما تم تكوين أعضاء الجنين ظهر له الرأس الطبيعي القمين بتدبيره، وما كان
كذلك طبيعيًّا فهو الذي يحيا حياة طبيعية، فتأسست الجمعية ولله الحمد، وتأسس
مجلس إدارتها ولله الحمد، ووضع لها القانون وهذا نصه ولله الحمد:
***
القانون الأساسي لجمعية الشبان المسلمين
الباب الأول
في تأليف الجمعية ومقاصدها
(المادة الأولى) تألفت في القاهرة عام 1346 من هجرة الرسول عليه
الصلاة والسلام (1937 من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام) جمعية تسمى
(جمعية الشبان المسلمين) .
(المادة الثانية) لا تتعرض هذه الجمعية لشئون السياسة بأي حال.
(المادة الثالثة) تنحصر أغراض الجمعية فيما يأتي:
1- بث الآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة.
2- السعي لإنارة الأفكار بالمعارف على طريقة تناسب روح العصر.
3- العمل لإزالة الاختلاف أو الجفاء بين الطوائف والفرق الإسلامية.
4- الأخذ من حضارتي الشرق والغرب بمحاسنهما جميعًا، وترك ما فيهما
من مساوئ.
(المادة الرابعة) تتوسل الجمعية إلى هذه الأغراض بالطرق الأدبية؛ فتنشئ
ناديًا لإلقاء محاضرات أدبية علمية اجتماعية، وتنشر ما تدعو المصلحة إلى نشره
بأي لغة تمس الحاجة إلى استعمالها.
***
الباب الثاني في أعضاء الجمعية
(المادة الخامسة) تتألف الجمعية من أعضاء عاملين وأعضاء مؤازرين،
فالعضو العامل هو كل من يثبت على تأدية قيمة الاشتراك وهو عشرة قروش شهريًّا،
والعضو المؤازر هو كل من يعطف على الجمعية فيخدمها أدبيًّا أو يعينها ماليًّا
ويرجع تقرير عضويته إلى تقدير مجلس الإدارة.
(المادة السادسة) يشترط في العضو العامل أن يكون مسلمًا حسن السيرة
طيب السمعة، وألا يكون معروفًا بنزعة تخالف أصل العقيدة الإسلامية.
(المادة السابعة) يجب فيمن يطلب الانضمام إلى الجمعية أن يزكيه اثنان
على الأقل من أعضائها.
***
الباب الثالث في الجمعية العمومية
(المادة الثامنة) تتألف الجمعية العمومية من جملة الأعضاء العاملين وتنعقد
في خلال الأسبوع الثاني من شهر رمضان في كل عام، أو في غير هذا الميعاد إذا
اقتضت الحال انعقادها.
(المادة التاسعة) تكون قرارات الجمعية العمومية صحيحة نافذة إن تكامل في
أول اجتماع لها بعد دعوتها إليه ثلثا الأعضاء، فإذا لم يتكامل هذا العدد تأجل
انعقادها أسبوعين.
وعلى رئيس مجلس الإدارة أن يجدد الدعوة إلى هذا الاجتماع الثاني قبل
ميعاده بأسبوع على الأقل، وحينئذ تكون كل قراراتها صحيحة نافذة مهما كان عدد
الحاضرين من الأعضاء.
(المادة العاشرة) إذا طرأ في المدة الواقعة بين آخر انعقاد للجمعية والانعقاد
الذي يليه شيء يدعو إلى عقد الجمعية العمومية بصفة غير عادية؛ وجب أن تنعقد
في الموعد الذي تحدده الدعوة إلى ذلك، وتجرى عليها حينئذ أحكام المادة التاسعة
فيما يختص بانعقادها وقراراتها.
(المادة الحادية عشرة) إذا اتفق خمس أعضاء الجمعية العمومية على دعوتها
إلى انعقاد غير عادي ووجهوا الدعوة من أجل ذلك إلى مجلس الإدارة؛ كانت
دعوتهم قانونية، وكانت تلبيتها واجبة، ومثل ذلك أن يقرر هذا الانعقاد مجلس
الإدارة بأكثرية ثلثي أعضائه.
***
الباب الرابع
في مجلس الإدارة
(المادة الثانية عشرة) يتألف مجلس الإدارة من اثني عشر عضوًا تنتخبهم
الجمعية العمومية من أعضائها بالاقتراع السري لإدارة شئون الجمعية مدة سنتين
وفي نهاية السنة الأولى لانتخاب هؤلاء الأعضاء الاثني عشر يقترع المجلس سريًّا
لإسقاط نصفهم , وتكمل الجمعية العمومية - بطريق الانتخاب - عدد أعضاء
مجلس الإدارة بالانتخاب , وهلم جرا في كل عام.
أما رئيس المجلس ووكيل الرئيس وكاتب السر العام وأمين الصندوق
فتختارهم الجمعية من أعضاء المجلس.
(المادة الثالثة عشرة) يختص المجلس بالإدارة العامة، ويكون مسئولاً
عنها وعن تنفيذ أحكام القانون ونظام الجمعية، وعليه أن يفكر فيما يرقى بالجمعية
ويحقق مقاصدها ويتسع به نطاقها.
(المادة الرابعة عشرة) يكون انعقاد مجلس الإدارة قانونيًّا إذا حضر سبعة
من أعضائه، وتكون قرارات مجلس الإدارات قانونية متى صدرت عن الأكثرية
المطلقة، وهي ما تزيد على النصف بصوت واحد، وإذا تساوت الأصوات؛
ترجح الجانب الذي يكون الرئيس معه.
(المادة الخامسة عشرة) إذا تخلف أحد أعضاء مجلس الإدارة عن حضور
جلساته ثلاث مرات متوالية بدون عذر صحيح كتب إليه المجلس في ذلك , فإن لم
يحضر الجلسة الرابعة بعد وصول الكتاب إليه عد مستقيلاً عن عضوية مجلس
الإدارة.
(المادة السادسة عشرة) إذا خلا مكان أحد أعضاء مجلس الإدارة يحل
محله العضو الذي حاز أكثرية الأصوات في الجمعية العمومية بعد أعضاء المجلس،
فإن لم يتيسر هذا ندب مجلس الإدارة من أعضائه العاملين من يحل محله إلى أن
تعقد الجمعية العمومية فتنتخب من تشاء.
(المادة السابعة عشرة) على مجلس الإدارة أن يقدم للجمعية العمومية
تقريرًا سنويًّا ببيان أعمال الجمعية وميزانيتها من إيرادات ومصروفات.
***
الباب الخامس
في مالية الجمعية
(المادة الثامنة عشرة) تتكون مالية الجمعية من الاشتراكات التي يدفعها
الأعضاء العاملون , ومن إعانات أهل الغيرة والخير من الأعضاء أو غيرهم.
ومن ريع المطبوعات التي تصدرها الجمعية، ولمجلس الإدارة أن يوسع
موارد الجمعية بالطرق الشريفة المشروعة متى كانت متفقة مع روح الجمعية وغير
منافية لأغراضها.
(المادة التاسعة عشرة) مجلس الإدارة مسئول عن مالية الجمعية وعليه أن
يودع أموالها باسمها أمانة في مصرف يختاره , ويجوز أن يبقي المجلس في عهدة
أمين الصندوق عشرين جنيهًا ينفق منها لحاجة الجمعية.
(المادة العشرون) لأمين الصندوق بالاشتراك مع رئيس مجلس الإدارة أن
يتصرف من مالية الجمعية في مبلغ لا يزيد على عشرة جنيهات عند الضرورة،
وعليه أن يقدم حسابها لمجلس الإدارة في أول اجتماع له.
(المادة الحادية والعشرون) لا يصح أن يسحب شيء من أموال الجمعية
من المصرف المعين إلا بقرار قانوني من مجلس الإدارة وتوقيع الرئيس وأمين
الصندوق.
***
أحكام عامة
(المادة الثانية والعشرون) على مجلس الإدارة أن يضع لائحة داخلية
للجمعية تتضمن تفصيل ما أجمله القانون من أحكامه، وتأليف لجان من الأعضاء
العاملين يكون اختصاصها تحقيق أغراض الجمعية في وجوهها المختلفة، وتحديد
واجبات الأعضاء الأدبية , وما يتبع ذلك من أحكام تأديبية تختص بما يقع من
الأعضاء من مخالفة هذا القانون أو الخروج على الجمعية أو العمل ضد مقاصدها،
وتعرض هذه اللائحة على الجمعية العمومية للنظر فيها ثم إقرارها.
(المادة الثالثة والعشرون) للجمعية أن تنشئ فروعًا داخلية في القطر
المصري وشعبًا في الأقطار الأخرى، وتتكفل اللائحة الداخلية بتحديد الصلة بين
المركز وهذه الشعب والفروع.
(المادة الرابعة والعشرون) لا يجوز بحال من الأحوال تعديل شيء من
مواد هذا القانون إلا إذا اقترح ذلك ثلاثة أرباع الإدارة أو خمس أعضاء الجمعية
العمومية، وفي كلا الحالين لا بد من عرض مشروع التعديل على الجمعية العمومية
لتقبله أو ترفضه بأكثرية ثلثي أعضائها الحاضرين.
(المادة الخامسة والعشرون) لا يصح تغيير المادة الأولى والمادة الثالثة
والمادة السادسة من هذا القانون بأي حال.
(المنار)
في بعض مواد هذا القانون إجمال من جهة وتحديد من جهة أخرى سيدعو
الاختبار إلى تلافيهما على أن تنفيذه مع ذلك خير وبركة، وسيكون أول فوائده
صد سيل الإلحاد الآتي دون جرف عقائد الأمة وآدابها بدعاية التجديد العمياء الصماء،
ومناط الرجاء في التنفيذ أعضاء مجلس الإدارة الجامعون بين العلم بالحاجة،
وعلو الهمة في العلم، فرئيسهم عبد الحميد بك سعيد، والوكيل الأستاذ الشيخ عبد
العزيز جاويش، وأمين الصندوق الأستاذ أحمد باشا تيمور، وأمين السر الأستاذ
محب الدين الخطيب، فهم لعمري أولو كفاءة وكفاية، وجد وعناية، تغني شهرتهم
عن الثناء عليهم، وفقهم الله تعالى وسائر أعضاء الإدارة ومساعديهم المصلحين،
وخذل معارضيهم من الملاحدة والضالين والمفسدين، آمين.
__________(28/788)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفيات الأعيان
توفي في هذه الفترة - فترة تعطيل المنار السنوي - ثلاثة رجال من الممتازين
في أشخاصهم وبيوتاتهم: أمين بك الرافعي صاحب جريدة الأخبار بمصر والأمير
نسيب أرسلان في (لبنان سورية) والحكيم محمد أجمل خان في الهند، ولكل منهم
مقام معلوم، وحق من الفضل مشاع أو مقسوم، وعمل في خدمة الأمة ظاهر أو مكتوم
فعلى الأمة شكر ما ظهر، ولا يخفى على الله شيء مما بطن، والله شكور حليم.
(أمين بك الرافعي الفاروقي) هو ابن الشيخ عبد اللطيف الرافعي الفقيه
مفتي الإسكندرية في آخر عهده، وبيت الرافعي أشهر بيوتات العلم في مصر
وسورية على الإطلاق ووطنهم الأصلي طرابلس الشام وتخرج أكثر علمائهم في
الأزهر ونيطت بهم الوظائف الشرعية في هذا القطر من قضاء وإفتاء وولي كبيرهم
الشيخ عبد القادر الملقب بالرافعي الكبير إفتاء الديار المصرية في آخر عمره بعد
الأستاذ الإمام وهم ينتسبون إلى الخليفة الثاني الإمام العادل الفاروق عمر بن
الخطاب رضي الله عنه.
وقد علم الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى ولديه أمينًا وعبدَ الرحمن في
المدارس المصرية حتى تخرجا في مدرسة الحقوق ونالا شهادتها (الليسانس)
واختارا الاشتغال بالمحاماة الحرة على خدمة الحكومة لميلهما إلى السياسة، وقد
انتسبا كلاهما إلى الحزب الوطني فكانا من أركانه العاملين المتحمسين المخلصين،
واشتغل أمين بالتحرير في جرائد الحزب من اللواء والعلم والشعب فكان خير
محرريها بل خير محرري الصحف في هذا القطر علمًا وبيانًا وإخلاصًا وثباتًا
واستقامة. ثم انفرد بإدارة جريدة الأخبار ورياسة تحريرها فكان إمامًا مستقلاًّ تمام
الاستقلال في كل ما يعتقد أنه الأصلح للأمة والملة والوطن لا يتقيد بقرار الحزب
الوطني ولا غيره على كونه أشد أعضاء هذا الحزب استمساكًا بمقاصده وغايته
وهي استقلال مصر والسودان التام المطلق من كل قيد، وعدم الاعتراف للمحتلين
فيهما بأدنى حق، السعي لإخراجهم منهما بخفَّي حُنين.
وكانت تربية أمين وأخيه الإسلامية على كمالها اللائق ببيته ونسبه لم يؤثر
التعليم العصري تحت مراقبة الاحتلال في أنفسهما أدنى تأثير يزلزل العقيدة أو يفسد
الأخلاق أو يخل بأداء الفرائض أو يفتن الشباب باقتراف الشهوات المحرمة،
وناهيك بتربية دينية تحفظ على مثل هذين الشابين الموسرين الجميلي الصورة
عفتهما وصيانتهما في بلد مصر في حرية الفسق وانتشاره.
وقع بيني وبين أمين من التلاقي والمخالطة في السنين الأخيرة ما لم يكن من
قبل فعلمت منه بالاختبار المحافظة على الصلوات وتلاوة القرآن للتعبد والاهتداء،
وليس في سعي الإنسان عمل أقوى من هذين العملين في ملكة التقوى في القلب وما
للتقوى من حسن الأثر في عزة النفس وشرفها وشجاعتها وعزوفها من الدنايا
والمطامع والشهوات السافلة: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً *
وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19-23) إلخ لهذا كان أمين ممن قال الله تعالى فيهم: {يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) وكان من أركان حرب هذا
الجهاد وقواده وإن تراءى في صورة الجندي المعتاد بتواضعه وتَأَبُّهه عن الشهرة
عوضًا عن تَأَبُّهه بها، وزهده في الزعامة وفي الرياسة التي يعمل الكثيرون لها.
ويبتغون إليها الوسيلة بالوطنية وغيرها. على أن هذا الجهاد الشريف لمصلحة الملة
والأمة والوطن لما يوجد له جيوش ولو وجدت لعرفت أن أمينًا من قوادها وأركان
حربها وأعطته حقه من قيادتها وزعامتها.
بل أقول إن أمينًا الرافعي كان من طبقة الشهداء الذين هم حجة الله على متبعي
الهوى والباطل في هذا الزمن باستقامته والتزامه الحق الذي يعتقده ودعوته إليه
وجهاده في الدفاع عنه، لا يثنيه عن ذلك خوف إيذاء قوي ولا الطمع في منافع ذي
سلطان، وحجة على الذين يزعمون أن ما يسمونه الوطنية معارض للاستمساك
بعروة الرابطة الدينية، فقد كان أقوى أركان الوطنية في هذه البلاد لا من أقواها،
وكان مع ذلك مستمسكًا بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها إيمانًا وعملاً ودفاعًا،
لم يتهمه قبطي ولا إنكليزي ولا يهودي بأنه من المتعصبين الذين تحملهم عصبية
دينهم على هضم حق أي وطني في بلادهم لمخالفته له.
وهو حجة أيضًا على زنادقة المسلمين ودعاة الإلحاد فيهم سواء منهم الذين
يدعون إليه وما يستلزمه من الإباحة بالصراحة، والذين يدعون إليه بحيلة تجديد
شباب الأمة، وهدم كل ما للأمة من بنيان وتاريخ … فإنه لا يوجد فيهم أحد يدعي
أنه عرف من شؤون العصر وعلومه ونظمه وقوانينه المثبتة للحاجة إلى التجديد ما
لم يعرفه أمين فيتهم أمينًا بأنه معتصم بالدين لجهله أن الدين الإسلامي ينافي ما
يحتاج إليه أهله في العصر من علوم وفنون ونظام، ولذلك نرى الجرائد على
اختلاف منازعها ومشاربها وعلى وجود الزنادقة وغير المسلمين في محرريها قد
أجمعت بعد وفاة أمين على إطرائه بأعلى الأخلاق والصفات الوطنية العليا، مع
البر والتقوى.
نعم إنهم لم يصرحوا بأن سبب هذه الفضائل كلها هو هداية الإسلام، وتأثير
تلاوة القرآن، والمحافظة على الصلوات، فرحمه الله ورحم أحمد مختار باشا
الغازي الذي كان يقول إن الصلاة هي (بوليس المسلمين) المانع لهم من ارتكاب
الفواحش والمنكرات، ولكن مركزه في الباطن لا في الظاهر. اهـ
وليست فائدة الصلاة محصورة في التخلية والمعنى السلبي المعبر عنه بقوله تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) بل هي
تعين مقيمها بالخشوع والحضور على جميع معالي الأمور كما قال تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) وكما
علم من آيات: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (المعارج: 19) إلخ، وقد ذكرت
آنفًا.
مات أمين الرافعي فاهتز القطر المصري لموته هزة عنيفة بل زلزل زلزالاً
شديدًا، وأجمعت الهيئات الدينية والسياسية الحكومية والنيابية والوطنية والصحفية
على تشييع جنازته، والاختلاف إلى مأتمه، وإنشاء المقالات الحافلة والقصائد
الطنانة في تأبينه ورثائه، وتبيين فضائله ومناقبه، على أنه كان صاعقة شديدة على
بعض هذه الهيئات السياسية والإلحادية، وحسب المنار التذكير بهذه الكليات من
سيرته الحميدة وقد ترجمه وسيترجمه كثيرون من سائر نواحي فضائله، رحمه الله
تعالى رحمة واسعة ووفق محرري جريدة الأخبار للثبات على طريقته في الدفاع عن
الدين وفضائله، والتنفير عن الإلحاد ورذائله، والمحافظة على الوطن وحقوقه.
(الأمير نسيب أرسلان) هو من خيرة أمراء هذا البيت الكريم أمراء أرسلان
تهذيبًا وعلمًا وأدبًا، كان رحمه الله تعالى ركنًا من أركان النهضة العربية الجديدة
وشاعرًا من أبلغ شعرائها وخطيبًا من مصاقع خطبائها، وحسبك أنه ثالث القمرين
لأميرين الشهيرين شقيقه الأمير شكيب والأمير عادل، وإن لم يشتهر في مصر
والبلاد غير العربية كشهرتهما، لأنه لم يتح له من السياحة في الأرض ما أتيح لهما،
بل قضت عليه شؤون الأسرة النبيلة أن يظل في وطنه كما أشرت إلى ذلك في تعزيتي
عنه لآله وأسرته خطابًا لأخي الكريم، ووليي الحميم، الأمير أبي غالب شكيب،
وهذا نصها:
من محمد رشيد رضا إلى أخيه الأمير شكيب أرسلان:
أطال الله تعالى بقاء أمير البيان، وعماد بيت أمراء أرسلان، وأحسن عزاءه
وعزاءنا به عن شقيقه الأمير نسيب، الكاتب الأديب، والشاعر الخطيب، والكافل
لخدمة أم الأمراء في الوطن، وقد طوحت بأخويه طوائح الزمن؛ وأطال له ولنا
بقاء شقيقه الأمير عادل، رب السيف والقلم، ورافع الراية والعلم، خواض
الغمرات، ومتقنص الطيارات، قائد الكماة الأباة في ميادين الجهاد، والحماة الرماة
في مواطن الجلاد، وَأَبْقَى الله فيما يطيل من عهده، وللأمة في مستقبلها البعيد بعده،
عمر نجله النجيب، وغصن دوحته الرطيب (الأمير غالب) يحسن تأديبه
وتربيته، ويتم تثقيفه وتنشئته، فله منهما ولنا منهم خير عزاء وسلوة، وفيما فقدنا
وفقدوا من السلف والخلف أحسن أسوة.
ولأنت أيها الأمير بعلمك وتجاربك، وبكبر نفسك وعلو همتك، وبما يتنشب
في قلبك من حب وطنك، وما يلوث بزعامتك من حقوق أمتك، لأجدر بالصبر عن
أخيك من الخنساء بالصبر عن أخيها، على كونك أحق منها بالتمثل بقولها:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فأطال الله بقاءك لأمتك العربية المظلومة، ولملتك الإسلامية المهضومة،
ولوطنك السوري المجتاح. فكل منهن محتاج إلى علمك وبيانك، وإلى قلمك
ولسانك، وأطال الله حياتك لأمراء آل أرسلان، تجدد من مجدهم ما لا يخلقه
الزمان، وإنما هو طور جديد، وأسلوب طريف لفضل تليد، جمعت به بين قلم ابن
خلدون ومقول سحبان، في حكمة تملى بألسنة العرب والترك والفرنسيس والألمان،
أفليس هذا تجديدًا لأدب أجدادك الذين قال فيهم اليازجي الكبير شاعر لبنان:
شبانهم مثل الشيوخ نباهة ... وشيوخهم في البأس كالغلمان
ويخاطبون بكل فن أهله ... فكأن واحدهم بألف لسان
بلى، فهذا هو المجد، لا ما يكذب دعيّه فيه الأب والجد، وهذه هي الزعامة
والإمارة، لا الألقاب المزورة والمستعارة، فاصبر فإن مصابك بالجناة على وطنك
وأمتك، أوجع من مصابك بابن أبيك وأمك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم
مُّحْسِنُونَ} (النحل: 127-128) .
(الحكيم محمد أجمل خان مسيح الملك) هو من أكبر بيوتات المجد القديم
المسلسل الذي لم ينقطع، يتصل نسبه بملا علي القاري المحدث الفقيه المشهور كما
أخبرني بلسانه. ومن آثار هذا المجد الموروثة خزانة كتبه المشتملة على نفائس
المخطوطات في العلوم المختلفة من شرعية ولغوية وطبية وفنية باللغتين العربية
والفارسية المكتوب بعضها على ورق الحرير بالخط الفارسي أو النسخي الجميل
الذي يستحق كل سطر منه أن يكون زينة تحلى بها جدران القصور وأندية العلم
والأدب.
انتهت إلى هذا الحكيم الزعامة الطبية والاجتماعية والسياسية في مسلمي الهند
وكان من أبرع الأطباء على الطريقة العربية اليونانية مع إلمام بالطب الأوربي
المصري يجمع به أحيانًا بين الطبين في بعض صفات الأمراض ومشخصاتها
وبعض المؤثرات في الأدوية لها، وكان أمراء الهند في الممالك الهندية المستقلة
يعتمدون على طبه ويدعونه لمهمات الأمور. وداره في دهلي عاصمة الدولة، تدعى
(بيت الحكمة) وفيها يدرس الطب القديم كما كان على عهد آبائه وأجداده الذين لقب
كثير منهم بلقب الحكيم.
وقد كان رحمه الله تعالى من أصحاب الرأي والبصيرة في الأمور العامة
وتولى رياسة جمعية الخلافة وعقد بعض المؤتمرات الهندية العامة تحت رياسته
وكان من رأيه وجوب الاتفاق بين المسلمين والهندوس في الأمور الوطنية من
سياسية واقتصادية وغيرها، وكان الزعيم - أكرم الله مأواه - صديقي، ولما زرت
مدينة دهلي في أثناء سياحتي الهندية في أوائل جمادى الآخرة سنة 1330 الموافق
أواخر مارس سنة 1912 دعاني إلى النزول في داره العامرة وألح عليّ في ذلك
فاعتذرت بأنني إنما لم أعلمه بوقت مجيئي إلى دهلي وسبقت فنزلت في إحدى
فنادقها الكبرى في ضواحيها الخلوية بين الحدائق والبساتين في هذا الفصل الجميل
(فصل الربيع) لأجد بعض الراحة فيها من كثرة الزائرين، ولا يتيسر هذا مع
النزول بداره القديمة في البلد وهي مأوى طلاب العلم والطب ومنتجع الزائرين،
فاكتفى مني بقبول دعوة خاصة ودعوة عامة دعا إليها جمهورًا عظيمًا من العلماء
والكبراء، وقدم لي سيارته لركوبها في زيارتي للمعاهد العامرة والأثرية في البلد
وضواحيها فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء.
وجملة القول أن الهند قد خسرت بفقده أعظم زعمائها المحنكين علمًا وحكمة
وسياسة وإخلاصًا فنعزي عنه الأمة كلها ونخص ولده الكبير المهذب جعله الله خير
خلف لخير سلف. آمين
__________(28/793)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تفسير:] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [[*]
كتب إلي الشيخ عبد الظاهر الإمام في المسجد الحرام يقول: إن بعض
الإخوان أنكر علي تفسيري (الْهَمّ) في سورة يوسف عليه السلام بما خالف إجماع
المفسرين وخاصة شيخهم ابن جرير وأنه هو أي الكاتب وافقهم على ذلك.
وجوابه أن المفسرين اختلفوا في تفسير الآية فلم يجمعوا على قول، وأن
إجماعهم ليس بحجة ولا يمكن العلم به إن أمكن وقوعه ووقع، والإمام أحمد يحتج
بإجماع الصحابة إن علم وينفي ما سواه.
وإن الذي قلته أنا منقول عن بعض المفسرين في يوسف عليه السلام وهو أنه
هم بضرب امرأة العزيز.
وظاهر أنها هي أولى بإرادة هذا لأن الإنسان إنما يهم بفعل ما يقدر عليه وهي
تقدر على ضربه والضرب معتاد من السيدة لفتاها , ولا سيما إذا أهانها بمثل الإهانة
التي أهان بها يوسف مولاته إذ راودته عن نفسها فاستعصم , وهذا معهود في كل
زمن , وأما الفاحشة فهي لا تَقْدِر عليها وَحْدَها , وهو قد استعصم منها عقب
المراودة , ولم يجنح إلى القبول , وإنما تكون المرأة في حال التراضي مواتية لا
مُبْتَدِئَة , واستعمال هم بفلان في معنى هم بقتله أو ضربه وارد وله شواهد في الآثار
الصحيحة لأن الهم يتعلق بفعل لا بجثة , ويفسر الفعل بالقرائن فإذا قيل: إن فلانًا
فعل كذا من المنكر فهم به عمر مثلاً , فالمعنى الذي تقتضيه القرينة أنه هم بتأديبه
بالقتل أو ما دونه كالضرب ولو بالدرة.
وقد رأى جمهور المفسرين أن القرينة في قصة يوسف تقتضي أن يكون متعلق
الهم المشترك بينه وبين سيدته هو الفحشاء , وهذا إنما كان يترجح على إغماض في
تسمية قبولها همًّا لو كانت الداعية عندهما واحدة , ولكن الأمر لم يكن كذلك بدليل
عدة آيات من السورة , فتعين ترجيح تفسير الهم بالضرب والإيذاء منها كما هو
المعهود من الطباع في مثل هذه الحال في كل زمان: همت بضربه وهم بالدفاع عن
نفسه أولاً كما هو حق من صال عليه غيره، فرأى من برهان ربه ما حمله على
الفرار فاستبقا الباب إلخ.
والدليل على هذا من القصة المنزلة أمور:
(1) أنهما لما ألفيا العزيز لدى الباب شكت إليه فتاها بقولها: {مَا جَزَاءُ
مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} (يوسف: 25) إلخ , واللائق بمعنى السوء هنا التعدي
والإهانة بالضرب ونحوه لأن معناه في اللغة ما يسوء فعله أو الموجه إليه من قول
أو عمل , فهو يطلق حتى على المكروه وصغائر المعاصي.
(2) أنها لم تكن تتهم يوسف بإرادة الفحشاء بدليل قوله تعالى حكاية عنها:
{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} (يوسف: 32) , ثم قوله تعالى في آخر
قصتها حكاية عنها: {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: 51) إلخ فترجح أنها لم
ترد بكلمة السوء لزوجها إلا التعدي.
(3) أنه عليه السلام كان عرضة لأمرين الفحشاء التي دعته إليها بالقول
الصريح، والسوء الذي كادت تلجئه إليه بالهمِّ بضربه وقد صرفهما الله عنه كما قال
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} (يوسف: 24) ومثل هذا قوله تعالى
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} (البقرة: 169) .
ويؤيد ذلك من المعقول أن المرأة يبعد أن تفتح باب التهمة لزوجها على نفسها
فلما اتهمته بإرادة السوء بها دافع عن نفسه وصرح بأنها راودته عن نفسه، أي
فامتنع حتى همت بالانتقام منه، فأنكرت بالطبع، فشهد الشاهد من أهلها، بما دل
على صدقه وكذبها، ثم اعترفت بمراودتها هي له مرتين: مرة للنساء وشهدت له
فيها بأنه استمسك بعروة العصمة ومرة للرجال لما أرسل الملك من سأل النساء عن
سبب مراودتهن له عليه السلام هل كانت عن إظهاره الميل إليهن {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ
مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: 51) أي أدنى ميل سيئ بدليل النكرة المنفية
المؤكد عمومها بكلمة (من) {قالت امرأة العزيز} (يوسف: 51) حينئذ: {الآنَ
حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) .
وأما مخالفة ابن جرير فلا يستنكرها على أحد من الناس مسلم يعرف أصول
هذا الدين فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن فهم ابن جرير ليس أصلاً من أصول
الدين , ولا حجة من حججه , ولم يوجد عالم من علماء المسلمين قال بوجوب
اتباعه أو التزم اتباعه بالفعل تدينًا، وما من مفسر إلا وقد خالفه في بعض آرائه ,
وهو نفسه قد خالف في التفسير بعض ما رواه عن الصحابة , وهم أعلم منه ,
وصرح بأنه لا يحتج بقول أحد بعينه في تفسير آية إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وانتقد الشيخ عبد الظاهر أيضًا إيراد المثنى المجرور بالألف في ص469 ج6
م28 من المنار , وسأل عن إعرابه , وجوابه أنه كتب أو جمعه عمال المطبعة هكذا
سهوًا في الغالب , وهو مع هذا ليس خطأ فإن لغة استعمال المثنى بالألف في أحوال
إعرابه الثلاثة مشهورة , وهي لغة فصيحة حملوا عليها قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ
لَسَاحِرَانِ} (طه: 63) من سورة طه على قراءة تشديد إنَّ , فليراجع المنتقد
تفسيرها في كتب التفسير التي تعنى بالإعراب أو في المغني لابن هشام أو ما شاء
من كتب النحو.
وينبغي لمن ينتقد الإعراب أن يكون عارفًا بضروريات النحو على الأقل.
__________
(*) يوسف: 24.(28/798)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد الثامن والعشرين من المنار
بسم الله وبحمده نختم المجلد الثامن والعشرين كما افتتحناه بهما، ونصلي
ونسلم على خاتم النبيين، ومن أكمل الله برسالته الدين، محمد النبي الأمي العربي
الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وآله وصحبه الهادين المهديين، ومن اتبع هديه الذي
بلغه وبلغوه عنه بالقول والعلم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا قد ازدادت أعمالنا في هذه السنة بما حدث من الخلاف في
اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني التي كانت تقوم بأعمالها في خدمة
الوطن بالنظام التام وبكثرة المطبوعات لدينا بعد تجديد مطبعتنا وإدارتها بالكهرباء،
وتوسيع أعمال مكتبتنا وتنظيمها، فأما اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني
فقد علم الخاص والعام أن سبب الخلاف الذي حدث فيها هو ما ظهر من محاولة
أولاد لطف الله استغلال القضية السورية وثورتها بالتزلف لفرنسة لجعل أحدهم
أميرًا للبنان الكبير، والتوسل إلى ذلك بما يدعونه من خضوع جميع المعارضين
للانتداب للجنة للتنفيذية، وكون مقاليد اللجنة بيد رئيسها الأمير ميشيل بك لطف الله ,
وقد رأت اللجنة أنه لا علاج لذلك إلا إسقاط هذه الرياسة ففعلت ذلك , وانفردت
بالعمل , وألف الرئيس السابق لنفسه لجنة خاصة به ينعم برياستها , ولكنها لا تمثل
حزبًا موجودًا لا يثق بها حزب من تلك الأحزاب , بل زالت ثقة جماهير الوطنيين به
وبمن جرأه على الشقاق والانفصال من أعضاء اللجنة وصار أعضاء اللجنة الحقيقية
الممثلة للأحزاب والزعماء في سورية وفلسطين على رأي واحد وشعور واحد ,
ولكن بعد الاشتغال عن كل عمل بمفاوضات الصلح على أساس عودة ميشيل بك
لطف الله إلى الرياسة كما كان فلم يمكن ذلك.
وأما إدارة المجلة والمطبعة والمكتبة فقد انتظمت في سلك واحد , وصار لدينا
سعة في الوقت للعود إلى العناية بالمنار والتفسير الذي تطالبنا بإتمامه الأمة من
جميع الأقطار. ولم يبق إلا أن يؤدي لنا قراء المنار قيمة الاشتراك في أوقاتها ,
وستقاضي الإدارة الجديدة الماطلين المسوفين في هذا القطر لدى المحاكم إن لم يؤدوا
ما عليهم من الحقوق من تلقاء أنفسهم.
وإننا نطالب أهل العلم والرأي بأن يكتبوا إلينا بكل ما يرونه في المنار مخالفًا
للحق أو منافيًا لمصلحة الأمة مؤيدًا بالدليل ومراعى فيه الاختصار، {وَاللَّهُ يَقُولُ
الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) وسلام على المرسلين والحمد لله رب
العالمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(28/800)
المجلد رقم (29)(29/)
رمضان - 1346هـ
مارس - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد التاسع والعشرين من المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الأعظم الأجل، والثناء الأكبر الأكمل، لربنا ذي العظمة والجلال،
والكبرياء والكمال، مقدر الآجال للأفراد والأجيال، ومقلب القلوب ومحول الأحوال
على ممر السنين والأحوال , والتسبيح الأرفع الأسمى، لاسم ربنا الأعلى (الذي
خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، عالم الغيب
والشهادة الكبير المتعال) .
خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقام بين عباده ميزان الحكم
بالعدل، وحكمه في كل من التكوين والتشريع هو الفصل، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ
مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .
والصلاة الإلهية النورانية، وتحية السلام الربانية الرحمانية، على خاتم دولة
النبيين، ولبنة الزاوية الذي أكمل الله به بناء الدين، وأتم نعمة هداية الوحي على
المؤمنين، محمد بن عبد الله العربي الأمي الملقب من قومه بالأمين، المرسل من ربه
رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه المهاجرين والأنصار، ومن اقتفى
آثارهم من المقربين والأبرار، واجعلنا اللهم من هؤلاء المصطفين الأخيار، الذين
يذكرونك ذكرًا كثيرًا، ويسبحون بحمدك بالغدو والآصال.
أما بعد، فإن المنار يذكّر قرّاءه في فاتحة مجلده التاسع والعشرين، بمثل ما
عهدوا منه في غابر السنين، من العظات والمثلات العامة والخاصة بالمسلمين،
وما هم عرضة له من صلاح وفساد، وما يحتاجون إليه من إصلاح وإرشاد، وما
له من هذا شأن فيه، وذكرى في نواحيه، وما أريد أن أذكرهم به اليوم أجل مما
سبق من أمثاله خطرًا، وأوسع فجاجًا وسبلاً، وأدق علمًا وعملاً، على أنه عين ما
ذكرتهم به من قبل في جملته، وإنما هو أجل منه شأنًا وأبعد شأوًا في تفصيله مع
ضيق وقته.
كان سير الأمم والشعوب فيما سبق وئيدًا، كالأباعر يحملن جندلاً أو حديدًا،
ثم صار يسير بسرعة البخار، فيما يجر من المركبات في البر والجواري المنشآت
في البحار، ثم صار يطير في الهواء، ويسير سفنه في جو السماء، ثم إن الإنسان
العالم العامل، فسر لنا كيف سخر الله له ما في السموات وما في الأرض باستخدام
الكهرباء لمنافعه، وتصرفه بنورها وقوتها النافذين في الكائنات كلها لمصالحه،
وهذا ما أشرنا إليه آنفًَا في الصفحة الأولى من الصحيفة الأولى من المنار؛ منذ إحدى
وثلاثين سنة هجرية.
كان أكثر ما وصفنا به أعمال الإنسان المستيقظ يومئذ حقائق واقعة، وأقلها
تصورات متوقعة، وقد وقع ما كان متوقعًا، وتجاوز كل ما كان متصورًا، وعدا
كل ما كان مقدرًا، وأغربها المناطيد والطيارات، وتقريب المسافات، ونطق
الجمادات، وتراسل أهل الأمصار البعيدة بالصور والمخطوطات؛ كتناجيهم
بالأصوات، واستماعهم للخطباء والعازفين والمسمعات (المغنيات) ، فمن هو في
العالم القديم، قد صار بمرأى ومسمع ممن في العالم الجديد، بل ظهر من أسرار
الله في هذه الكهرباء ما صار به كل ما كان يستغرب من أخبار الوحي عن عالم
الغيب غير غريب، وكل ما كنا وصفنا من سعة سير الإنسان في أطوار الحضارة
بطيئًا غير سريع، بل كشف من عجائب سنن الله في الكهرباء ما لم يكن يخطر
على قلب بشر، وهو كل يوم في ازدياد، والناس من عجائب صنع الله في شأن،
يتنقلون بها من طور إلى طور، يتوقلون في نجد ويهبطون إلى غور، وقد عمت
مصنوعاتها الخافقين، فهي مبصرة بالعينين، مسموعة بالأذنين، ملموسة باليدين
موطوءة بالرجلين.
لكن كل هذه العلوم الزاخرة، والفنون الساحرة، والصناعات التي لو خفيت
أسبابها لعدت من السحر أو المعجزات، لم تزد المستمتعين بها إلا فسادًا في
الأخلاق وكفرًا بنعم الخلاق باستعمالها وسائل للحرب والنزال، وأسلحة للعدوان
والصيال، وآلات لتخريب ما لغيرهم من عمران، وتدمير ما لهم من بنيان، أو
يكون لهم ملكًا وأهله من العبدان، فماذا يجب على المسلمين أن ينتفعوا به من تلك
العلوم، وماذا يجب عليهم من اتقاء ضررها؟ .
طغى الغرب على الشرق بقواه العلمية والآلية يستغله ويستذله، ثم دفع دوله
التنازع على غنائمه والسيادة على أهله إلى طغيان بعضهم على بعض في حروب
صغيرة وكبيرة، حتى جاءت الطامة الكبرى وحرب المدنية العظمى، فخربوا
بيوتهم بأيديهم، وأحرقوا ثمرات كسبهم بنارهم، وأضاعوا فيها من رجالهم العاملين
زهاء عشرين ألف ألف نسمة بين قتيل ومشوه، من أقطع وأبتر وأجذم، دع عدد
المسلولين من مخابئ الخنادق والسراديب الشديدة الرطوبة على جوعهم، وفقدهم
الثياب الكافية لتدفئتهم، وأكثرهم كَلّ على أهله وحكومته، ولعل جملة خسائرهم في
أربع سنين تربي على ما ربحوه كلهم من الشرق في مائة سنة أو أكثر.
فإن كانوا كسبوا بهذه الحرب توسعًا في العلوم والفنون والصناعات، فقد
أعقبتهم فسادًا على فسادهم، وزادتهم رجسًا إلى رجسهم، فهم يستعدون في الباطن
لحرب أشر منها وأضر وأدهى وأمر، من حيث يسعون في الظاهر إلى عقد
المحالفات؛ لتحديد صنع الأسلحة وتقليل إنشاء الأساطيل والطيارات، وما كانت
عهودهم إلا دخلاً بينهم؛ أن تكون أمة هي أربى من أمة. فكل دولة من دولهم تمكر
بالأخرى وتكيد لها، بل هم يكيدون لشعوبهم ويمكرون بها، أعني أن كل حكومة
تمكر بشعبها نفسه وتخدعه؛ ليواتيها ويؤيد سياستها الحربية ويقرر لها نوابه المال
الذي تطلبه لها، وقد أحدثت الحرب الأخيرة في قلوب هذه الشعوب مقتًا للحرب
ورعبًا؛ مما عرفوا من أهوالها، ضاعف ما في الغرائز من كراهتها، فإذا جاءت
الحرب التالية كانت هي القاضية، ولن يستطيع أعداء البشر من وزراء دول
الاستعمار أن يتصرفوا في أموال شعوبهم وأنفسها بكيدهم تصرف سفهاء الوارثين،
وخونة القوامين على اليتامى والمجانين، ولا أن يسوقوا مئات الألوف بل
الملايين من شبان مستعمراتهم إلى جحيم الحرب، كما تساق الغنم إلى مجازر الذبح،
ولا أن يستحوذوا على ذهبها وفضتها وغلالها ومواشيها وجمالها وخيلها وبغالها
وحميرها فينتزعوها بالقوة القاهرة، كما فعلوا في الحرب السابقة، وإن صادفوا من
رجال حكوماتها المحلية من يسخرونهم لذلك كما سخروا الحكومة المصرية، فكيف
إذا لم يجدوا حكومةً وطنيةً قابلةً لمثل ذلك التسخير الذي لا يرضى به إلا الحمير؟
فلا ييأسن مسلم ولا شرقي من تحرير أمته من رق أوربة، فإن الفرصة ستسنح عن
قريب، والويل يومئذ للغافلين والمتخاذلين، بل الويل الأكبر للشعب الذي يفرق شمله
ملاحدة المجددين، فهم الخطر الأكبر على المسلمين وسائر الشرقيين.
ازدادت أوربة بعد الحرب علمًا وصناعة، وكذلك ازدادت جشعًا في
الاستعمار، وطمعًا في الدرهم والدينار، وضراوة في سفك الدماء , وتفننًا في المكر
والدهاء، وصراحة في نقض العهود، وإخلاف الوعود، كما فعلوا في البلاد
العربية التي ضمنوا لها الاستقلال والحرية، ثم تجاوزوا بالعدوان عليها ما كانوا
قرروه سرًّا من اقتسام ذات الثروة الغزيرة منها: تجاوزوا العراق وسورية
الساحلية إلى الصحراء العربية، بل إلى البلاد المقدسة الحجازية، فاقتسموا سكة
الحديد الممتدة من سورية وفلسطين إلى المدينة المنورة؛ وهي وقف إسلامي على
الحرمين الشريفين ثم انتزع الإنكليز منطقة العقبة ومعان التابعة لمدينة الرسول
- صلى الله عليه وسلم - وأنشئوا يقيمون فيها الثكنات العسكرية والمعاقل الحربية،
وسيمدون فيها سكة حديدية تصل ما بين العقبة والبصرة، أو ما بين ساحل الحجاز
من البحر الأحمر وشط العرب، وحينئذ يكون أداء فريضة الحج تحت مظلة
سلطانهم، وذلة صلبانهم من كل بر وبحر، ويكون الحرم النبوي تحت رحمة
طياراتهم وجنودهم في كل وقت، كل هذا فعلوه بمساعدة الشريفين المكيين
الهاشميين والحسنيين الأميرين الملكين ملك الحجاز - بزعمه - في ذلك الوقت
الشريف علي، وأمير شرق الأردن البريطاني إلى يومنا هذا الشريف عبد الله، فإذا
سكت العرب على هذا العدوان جهلاً، فلماذا يسكت سائر المسلمين والحجاز قبلة
ومنسك للجميع؟ وماذا يخافون والله يقول: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) .
سارع الإنكليز وحلفاؤهم بعد الحرب إلى استعباد ما لم يكونوا قد استعبدوه من
الشرق، وجعله كله من غنائمهم المحللة لهم، وظنوا أنهم قد ملكوا القسطنطينية
العظمى وبحر مرمرة والبحر الأسود والقسمين الجنوبي والشرقي من البحر
المتوسط وبلاد العرب من مصر والبحر الأحمر إلى شط العرب وبلاد إيران، وأن
قد اتصلت مصر بالهند، وستتصل بمدينة الرأس، ولكن ماذا كان؟ استبسل لهم
الترك استبسال المستيئسين فطردوهم من الآستانة وما حولها، وتنمر لهم الفرس
تنمر المستهتر المستقتل، فأحبطوا أملهم في إيران وضربوا بقصاصة معاهدة
كرزون عرض الحائط، وأعلنوا الاستقلال المطلق، وإلغاء الامتيازات الأجنبية فتم
لهم ما يريدون، وقامت في وجوههم ثورة مصر العزلاء، فاضطرتهم إلى إلغاء
الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال والسيادة القومية. ولكنهم قدموا هذا الاعتراف
بتحفظات، لا تزال مثار النزاع والمفاوضات.
وقامت على إدارتهم الهندية في العراق الثورة المسلحة، فألجأتهم إلى تأليف
حكومة عراقية ملكية. لكنهم جعلوا فيصل بن حسين أخلص صنائعهم لهم ملكًا عليها،
يحقق لهم بالسلم والاقتصاد كل ما يريدون منها، وسوف يخيب بتوفيق الله أملهم
فيها.
وآذنهم بالحرب أمان الله خان أمير الأفغان، فاضطروا للاعتراف له
بالاستقلال المطلق التام، وكانت بلاده تحت حمايتهم المذلة، فأصبحت عزيزة
مستقلة، وكان ما كان من أمر ثورة الصين عداوة لهم ونبذًا لسيطرة امتيازاتهم
واستعمارهم، فحاولوا تأليب أوربة عليهم كما هو المعروف من شنشنتهم، فخذلتها
الدول في هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، فعادوا خاسرين وانقلبوا خاسئين.
وثبت الإمام يحيى في اليمن على سياسته السلبية معهم، فلم يستطيعوا إقناعه
بالاعتراف لهم بأدنى حق في بلاده، بل لا يزال يطالبهم بالمقاطعات التسع وبعدن
نفسها.
وانتزع ابن السعود الحرمين الشريفين من صنيعتهم الشريف حسين الذي ولوه
عليه، وكان يعترف لهم بأنه موظفهم فيه، ونقض ما كان من اتفاق سنة 1915 الذي
كان ضربًا من الحماية، واضطرهم إلى الاعتراف له بالاستقلال التام المطلق في
الحجاز ونجد وملحقاتها ولا يزال الخلاف بينهما قائمًا على السكة الحجازية ومنطقة
العقبة ومعان، يطالبونه بالاعتراف بدخول هذه في شرق الأردن أو بالسكوت لهم
عنها، وينذرونه تأليب عرب العراق والأردن عليه، وتهييج مسلمي الهند وإيران
ومصر عليه.
نعم.. يطمع الإنكليز بالاستيلاء على الحجاز بقوة المسلمين عامة والعرب
خاصة؛ لأنهم رأوا من تخاذل العرب الوطني والجنسي، مثلما رأوا من تخاذل
المسلمين الديني، فكان زعيمان من أشهر خصومهم في الهند أشد خدمة لهم في هذا
السبيل من أخلص صنائعهم في بلاد العرب (الملك فيصل والأمير عبد الله) ،
هذان يهددان ملك الحجاز ونجد، ويعتديان حدود الله بالتعدى على حدوده والتحرش
بقوته، وذانك قد اجتهدا في إيقاع الفشل في المؤتمر الإسلامي العام الذي أجمع على
الإنكار على الإنكليز مسألة العقبة ومعان، ومسألة اقتسام منافع السكة الحجازية
بينهم وبين أحلافهم الفرنسيس. وما فعلا ذلك حبًا في الإنكليز بل بغضًا في ابن
السعود؛ لأنه لم يتبع هواهما فيما يريدان أن تكون عليه حكومة الحجاز وهو هوى
باطل، وتنفيذه محال وطلبه غرور بل جنون.
هذه حالهم في الشرق، خابوا في كل عمل، وانكشف خداعهم لكل أحد، ولم
يبق لهم أمل جديد إلا في بلاد العرب، ولولا فيصل وعبد الله ولدا الشريف حسين،
لرجعوا منا بخفي حنين؛ إذ كان يستحيل على التقاليد الإنكليزية أن تستولي على
شيء من أرض الحجاز لنفسها، وقد سبق لنا أن استنجدنا العالم الإسلامي على
والدهما موجد هذا الخطر فأنجد. والآن نستصرخه ليتم ما بدا، وينقذ حرم الله
وحرم رسوله من الردى.
إن الدفاع عن الحجاز واجب على المسلمين أينما كانوا، كل بقدر طاقته، فإن
استيلاء الإنكليز على ثغر العقبة وحده أكبر خطر على المدينة المنورة، وإن هذه
البلاد قد حرمها الإسلام على غير المسلمين، فلا يجوز لإنكليزي ولا لغيره أن يملك
فيها ذراعًا ولا شبرًا، ولا أن يصدر فيها نهيًا أو أمرًا، فإذا لم يبال المسلمون كافة
بمبدأ دينهم، ونقض الأجانب لوصية نبيهم، ولا بجعل ركن الإسلام الاجتماعي
العام تحت رايتهم ووصايتهم، فأي دين يبقى لهؤلاء المسلمين؟ أيظنون أن الإنكليز
يحافظون على حرية الحج وكرامة الحرمين في ظل ملكهم حامي الكنيسة الإنجيلية،
وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويقرءون في الكتب والصحف ما يفعل دعاة
النصرانية في ثالث الحرمين (القدس) ؛ من الطعن في الإسلام، والتواطؤ على
تنصير جميع مسلمي الأرض، وتخصيص الحرمين الشريفين وعرفات وسائر
العرب بالذكر؟ وقد ظهر لهم سر قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل
الإسلام) رواه أبو يعلى بسند صحيح.
أيها المسلمون:
أصغوا، أصيخوا، أنصتوا، استمعوا، وانظروا، وتأملوا في عاقبة دينكم،
وبيت ربكم، وحرم رسولكم، ليست المسألة مسألة حكومة ملكية أو جمهورية، ولا
مسألة أسرة سعودية أو هاشمية، ولا مسألة وطنية حجازية أو يمنية أو نجدية، ولا
عصبية مذاهب سنية أو زيدية أو إمامية، ولا قضية جنسية عربية أو فارسية أو
أفغانية أو هندية، ولا تعاليم سلفية وهابية أو خلفية تأويلية، بل المسألة العظمى
وهي الطامة الكبرى مسألة الديانة الإسلامية والملة الحنفية والوصية المحمدية، كل
ذلك على خطر الزوال، والذل والخزي والنكال؛ إذا ظل الأجانب محتلين بقواتهم
العسكرية للعقبة ومعان إن سكتنا عن القدس وشرق الأردن الآن، وهم يخترقون
منها قلب الصحراء العربية إلى العراق.
سبحان الله! ما بالكم تسمعون الإنكليز يصرحون بأن استقلال المصريين في
مصرهم خطر على الهند البريطانية - وبريطانيا أقوى دول الأرض - ولا يكون
احتلالهم هم للعقبة ومعان وعمان واستيلاؤهم على سكة الحديد الحجازية مع
حلفائهم الفرنسيس خطرًا على الحجاز، وليس للحجاز دولة ذات قوة برية بحرية
جوية، يمكنها أن تدفع عنه هاتين الدولتين القاهرتين كلتيهما ولا واحدة منهما،
اللهم إلا قوة الإيمان في الشعوب الإسلامية التي يجب أن تكون مع الحجاز إلبا
واحدًا عليهم.
ألا يجب عليكم شرعًا أن تستعملوا قوتكم المعنوية، فتجمعوا على مطالبة
الدولة البريطانية بترك ما انتزعت من الحجاز للحجاز، وتطالبوا الدولتين وسائر
الدول بالاعتراف باستقلال الحجاز وسائر جزيرة العرب، وبكونها بلاد حرة حيادية
لا يعتدي عليها أحد؟ بلى والله لئن سكتم عن هذا، ليحكمن عليكم الأجانب بالموت
والفناء أو لتكونن أنتم والحشرات الدنيئة في نظرهم سواء.
انظروا وتأملوا: لماذا أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم في مرض موته بإخراج
اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دينان؟ على ما علمتم من
تسامح الإسلام وما جاء به من حرية الأديان؟ أليس قد أوصى بذلك؛ لأن حرم الله
وحرم رسوله في الحجاز؟ وهما مهبطُ الإسلام ومثابةُ أهله ومفزعُهم وملجؤهم عند
الشدة، ولا يتم ذلك إلا إذا كان الحجاز خاصًّا بهم هو وسياجه من جزيرة العرب.
إذا كان هذا المعنى قد خفي على بعض العلماء المتقدمين، فلا يصح أن يخفى
على عوام المعاصرين فضلا عن العلماء ولا سيما المحدثين الذي اطلعوا على قوله
صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها)
رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء، وهو يأرز بين المسجدين كما
تأرز الحية في جُحْرها) رواه مسلم من حديث ابن عمر، وحديث (إن الدين ليأرز
إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
من رأس الجبل) .. إلخ، رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني، ومعنى أرز:
عاد وانكمش وانضم، والمراد الذي يدل على مجموع الروايات وحالة هذا العصر:
أن الإسلام عندما يضعف ويعود غريبًا ينكمش إلى الحجاز ويلجأ إليه، فيعتصم به
كما تعتصم الوعول في رؤوس الجبال، وهو الواقع الآن الذي أظهر لنا حكمة
وصيته صلى الله عليه وسلم بأن لا يبقى في جزيرة العرب غير الإسلام.
أيها المسلمون: إن الدولة البريطانية أطمع الدول ولكنها أعقلها، فإذا رأت
إجماع السواد الأعظم منكم على مطالبتها بما ذكرنا، وإذا بثثتم الدعوة في العالم
الإسلامي كله على وجوب عداوتها ومقاطعتها، فإنه يرجى أن تترك منطقة العقبة
ومعان للحجاز في المفاوضة السياسية التي ستكون بينها وبين حكومته عن قريب؛
لأن البت فيها قد أرجئ إلى هذه المفاوضة، وكذلك مسألة سكة الحديد الحجازية،
فإن لم تفعل وجب على كل مسلم أن يبث الدعاية التي أشرنا إليها آنفًا بمقتضى
النظام الذي يضعه الزعماء لها، وقد آن وقت الفصل بين الإسلام والإنكليز: فإما
صداقةٌ تامةٌ وهي خير لنا ولهم، وإما عداوةٌ عامةٌ ولن تكون شرًّا علينا منهم.
إن الدولة البريطانية تعلم أن لدى الإمام عبد العزيز بن السعود قوة حربية لم
تر مثلها جزيرة العرب بعد عصر الصحابة، وأن الجيش البريطاني لا يمكنه أن
ينازل هذه القوة في نجد ولا في الحجاز؛ لأسباب جغرافية وسياسية وتقليدية
واقتصادية معروفة، وأن الطيارات ما صارت قوة فاصلة في الحرب ولا سيما في
مثل هذه الأرض، فسالمته ودارته من جهة، ووضعت على حدوده في نجد
والحجاز عدويه الحاقدين عليه في العراق وشرق الأردن من جهة ثانية، وهو أقوى
منهما، ولكنه لا يرضى أن يتقارع العرب والمصلحة لغيرهما.
أفلم يئن للعرب أن يعرفوا كيف أسست أمبراطورية الهند وغيرها بمثل هذه
الحيل، أو لم يئن للمسلمين أن يتقوا الوقوع اليوم في شر مما وقع فيها من أضاعوا
بلادهم من قبل، وهو إضاعة دينهم مع بقية دنياهم.
أيها المسلمون: إن الإسلام لا يزال قوة عظيمة في الشرق كله؛ إذا وجد لها
زعماء جامعون بين العقل والعلم والحزم، فإنه يمكنهم أن يحفظوه ويرقوه ويحفظوا
له بقية بلاده، ويستعيدوا الكثير مما فقد منها، بل يمكنهم أن يحلوا بها عقدة مشكلة
المدنية الكبرى، ويعمموا نشره في بلاد الغرب كلها، أقول هذا عن علم وخبرة
اكتسبتها في بحث استمر زهاء ثلث قرن، ولما أجد لها الزعماء الصالحين لتنفيذها.
وكان شيخنا الأستاذ الإمام موقنًا بهذا وصرح به في الدرس العام بالجامع
الأزهر، وكان قبله حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين موقنًا بهذا، ويحاول
أن يكون بسعيه - وكان قبلهما بطل أوربة نابليون بونابرت يحاول ذلك عن عقيدة
راسخة - وما أحبط سعي هؤلاء كلهم إلا الدولة البريطانية، وهي التي تحاول
إحباط عمل كل عامل يعمل للإسلام أيضا ما استطاعت. ولكن الزمان قد اختلف،
ومثل هذا العمل يعمله الإنكليز سرًّا لا جهرًا، وكل قوتهم فيه خفاؤه وإخفاؤه، فمتى
ظهر فشل إذا أحكم في مقاومته العمل.
أيها المسلمون: إن مدنية أوربة المادية، لا تجد لها منفذًا من الهلاك القريب
في التنازع بين عباد المال والشيوعيين، وفي الإسراف في الشهوات والمطامع إلا
بدين القرآن، فعلى المؤمنين الراسخين أن يعجلوا بإنقاذها به قبل أن تقضي هي
على ما بقي لهم من ملك وملك وثروة وقوة، وقد شرحنا لهم هذا المعنى في كتاب
الخلافة، وسيرون في باب أحوال العالم الإسلامي من الجزء التالي تتمة ما كنت
عزمت على بيانه من جوانبه في هذه الفاتحة. فمن لم يعلم فليبحث وليسأل إن كان
لديه من الإيمان ما يؤهله للعمل، وإلا فلا يغشن نفسه بدعوى الإيمان.
اللهم إنك قد أمرت بالتبليغ، وقد بلغت ما عندي، اللهم فاشهد وأنت خير
الشاهدين.
__________(29/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة عن أحاديث الصحيحين وما قيل من أغلاطها
ورواية أبي هريرة، والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها
س 1-9 من صاحب الإمضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله هادي الأنام، والصلاة والسلام على البشير النذير خاتم الرسل الكرام
وعلى آله هداة الأمم ومنار الإسلام.
أما بعد: من أحمد محمد شهاب إلى حضرة من بعثه الله مجددًا لما اندرس من
معالم الدين، ناصر السنة، وقامع البدعة، حامي بيضة الإسلام، إمام الأئمة
الأعلام [*] صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا.
السلام عليكم ورحمة الله، اطلعت على كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام
الذي صححه وعلق عليه حضرة الأستاذ النابه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي
المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي، فَإذَا الكتاب طبع في مطبعتين
إحداهما المطبعة المنيرية لصاحبها حضرة الشيخ محمد منير أغا، والأخرى للشيخ
محمد علي صبيح، وقد جاء في نسخة المطبعة الأولى صحيفة 9 جزء 1 تعليق
لحضرة المصحح على شرح الحديث الشريف 12 عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في
أحد جناحي داء وفي الآخر شفاء) نقلاً عما كتبه حضرة الطبيب محمد توفيق
صدقي العالم المتدين في كتابه سنن الكائنات صحيفة 162 جزء10 ومما جاء فيه:
إن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات والنجاسات، ثم ينتقل منها على طعام
الإنسان أو يسقط في شرابه أو يقف فوق عينيه، وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى
الإنسان وتنتشر بين أفراد هذا النوع، واستشهد على ذلك بما قرره أطباء الإنكليز
في حرب الترنسفال من انتقال العدوى في أفراد الجيش بواسطة الذباب، إلى أن
قال: إذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال وإذا وقف على الطعام أو
سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار. أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث مشكل وإن كان سنده صحيحًا، فكم في
الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها، كحديث (خلق الله
التربة يوم السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المحققون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ
بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن
النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلفظه؛ مع منافاته للعلم وعدم إمكان تأويله، مع أن
مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا
الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه أو لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء
إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث
الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم!
خصوصًا فيما انفرد به كما يُعلم ذلك من سيرته، وهَبْ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ذلك حقيقة، فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع،
بل الواجب عليه أن يمحصها ويعرضها على العلم والتجربة، فإن اتضح له صحتها
أخذ بها وإن علم أنها مما قاله الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) بحسب رأيهم،
وهو يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك! وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه
الشفاء، فليراجعه من شاء. ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
(إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي فإنما أنا بشر
أخطئ وأصيب) انتهى.
والذي نريد أن نعرفه من فضيلتكم:
1- ما هي أحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها؟
2- ما في حديث وتحديث أبي هريرة رضي الله عنه من المقال؟ وما الذي
قيل في سيرته؟
3-إذا كان لا يجب الأخذ بكلام الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) في
المسائل الدنيوية المحضة، أفلا يكون الأخذ بها سنة أو مندوبًا؟
4- هل يوجد ضابط لا يتطرق إليه القيل والقال في التمييز بين ما قيل من
النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل الدنيوية، وما قاله من قبل نفسه، وما قاله
على سبيل التشريع؟
5- جواز خطأ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فما قالوه من أنفسهم
ودليله وحكمه؟ وهل ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القيل محصور وما
هو؟
6- التوفيق بين حديثي الذباب والفأرة؟
7- هل حديث الذباب مع ما يشتمل عليه من الأخبار، يقال من قبل الرأي أو
التشريع.
8- كيف يكون القول الصادر عن الطبيب محمد توفيق صدقي كفرًا مع قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما
قلت فيه من قبل نفسي) .. إلخ، وما درجة هذا الحديث ومن خرجه؟
9- جاء في تعليق النسخة طبعة صبيح، طعن مر على ما كتبه الدكتور محمد
صدقي وأنه كفر، فهل يجوز هذا الطعن، وما حكم قائله؟
نرجو الإفادة عن كل ما تقدم بتوسع، حتى تكون الأمة على بينة منه، وإنا
منتظرون فيما تكتبون الشفاء، والمعهود في سماحتكم الوفاء، ودمتم محفوظين،
وبعناية المولى القدير ملحوظين، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... 28/11/1927
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شهاب
... ... ... ... ... رئيس نقطة الحبابية مركز منوف منوفية
(المنار)
نحيي السائل بخير من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته،
ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه وإخلاص نيته، ونخبره بأن أسئلته المهمة
قد سبق لنا تحقيقها في المنار؛ لذلك نجيب عنها بالاختصار، فنقول:
(أجوبة المنار بالترتيب)
1- أحاديث الصحيحين التي ظهر غلط الرواة فيها
لم أقف على إحصاء لأحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث أن
الرواة غلطوا فيها، وعلماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها
وأحكامها الذي هو مراد السائل، وإنما كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون
وعباراتها والاختلاف والاتفاق فيها والمرفوع والموقف منها، وما عساه أن يكون
مدرجًا
فيها من كلام بعض الرواة ليس من النص المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ،
وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء الباحثين في شروحها وما فيها من أصول
الدين وفروعه وغير ذلك، ولو لم يكونوا من المحدّثين في الاصطلاح على أنهم
يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين؛ كقولهم: إن صحة السند لا تقتضي صحة
المتن في الواقع ونفس الأمر حتمًا، وعدم صحة السند لا تقتضي وضعه في الواقع
ونفس الأمر حتمًا، وقولهم: إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده - أن
يكون مخالفًا لنص القرآن القطعي، وفي معناه كل قطعي شرعي كبعض أصول
العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يتعذر الجمع
بينهما، ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السموات والأرض
في سبعة أيام الذي أوله: (خلق الله التربة يوم السبت) ؛ لأنه مخالف لآيات
القرآن الصريحة في خلق السموات والأرض وما فيها في ستة أيام، بل حكموا
بغلط حديث شُريك بن أبي نمر في الإسراء والمعراج من أحاديث الصحيحين في السند
والمتن وهو الحديث الذي فيه أن الإسراء والمعراج كانا في رؤيا منامية، وذكروا له
عللاً أشار إليها مسلم مقرونة بسياقه على أن بعض العلماء والحفاظ انتصروا له فيه.
وإذا كانت مخالفة القطعي سببًا للحكم؛ إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة
برواته، وإما لغلطهم في سياق متنه. فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك
باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن
الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة، لا يرون شيئًا من
الإشكال في حديث أبي ذر في بيان أين تكون بعد غروبها؛ لأنهم يظنون أن
غروبها عنهم غروب عن جميع العالم.
ولكن حفاظ الحديث ورجال الجرح والتعديل، قد انتقدوا بعض أحاديث
الصحيحين، وجرحوا بعض رجالهما بحسب أفهامهم ودرجات معرفتهم، وجاء
آخرون فانتصروا للشيخين في أكثر ما انتقد عليهما، وأشهر هؤلاء المنتقدين
وأوسعهم تتبعًا وإحصاء الحافظ أبو الحسن الدارقطني صاحب السنن المشهورة،
وإذا أردت معرفة ذلك مع ما فيه وما يرد عليه، فراجع الفصلين الثامن والتاسع من
مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح البخاري. فأما الأحاديث المنتقدة في البخاري فهي
110 أحاديث، منها ما انفرد به ومنها ما أخرجه مسلم أيضًا - وما انتقدوا من إفراد
مسلم أكثر من إفراد البخاري - وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها، رأيتها كلها في
صناعة الفن التي أشرنا إلى المهم منها عندهم. ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح
الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها،
مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض،
فهذا النوع ينبغي جمعه وتحقيق الحق فيه بقدر الإمكان، كما حاول الطحاوي في
كتابه مشكل الآثار، وترى نموذجًا منه في كلامنا على أشراط الساعة ومشكلاتها في
الروايات الصحيحة وغيرها، على أن من أطال البحث فيه وفيما قبله يدهش لدقة
الشيخين ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحريهما فيها.
وأما موضوع الفصل التاسع؛ وهو تضعيف كثير من رجال الجامع الصحيح
فقد سردها فيه الحافظ سردًا وأحصاها عدًا، وترى أن الطعن في أكثرهم مبني على
الاختلاف في أسباب الطعن والجرح، فيبني هذا جرحه على ما يخالف اصطلاح
الآخر، وترى أن المطعون فيهم قلما يخرج لهم حديث في الجامع الصحيح إلا في
المتابعات؛ للتقوية لا لأصل الاستدلال به، فإن جعله أصلاً كان له من الشواهد
والمتابعات ما يقويه، مثال ذلك حديث كثير بن شِنظير (بكسر الشين) البصري
عن عطاء: في الأمر بتغطية الأواني في الليل وربط الأسقية وإقفال الأبواب ومنع
الصغار من الخروج مساء خشية الجن أو الشياطين، كثير هذا قال فيها ابن معين
ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الساجي: صدوق فيه بعض الضعف
ولكن احتج به الجمهور، وقال البخاري عقب تخريج حديثه من كتاب بدء الخلق:
قال ابن جريج وحبيب عن عطاء (فإن للشياطين يعني أن ابن جريج وحبيبًا المعلم
رويا هذا الحيث أيضًا إلا أنهما قالا: (فإن للشياطين انتشارًا وخطفة) بدل قول
كثير بن شنظير (فإن للجن) إلخ، أقول: ويختلف في غير هذه الكلمة أيضًا، ولم
يذكر البخاري المتابعة إلا لعلمه بأن كثير هذا قد قيل فيه ما قيل، وهو لم يخرج له
غيره إلا حديثًا آخر في السلام على المصلي، له متابع عند مسلم.
فأنت ترى أن هذا من دقائق التحري في الروايات، وإنما اخترت التمثيل
بحديث كثير هذا على كثرة نظائره؛ للإشارة إلى شيء يتعلق بالمتن لم يكن مما
يلتفتون إليه ويبحثون فيه، وهو ما فيه من الخبر عن انتشار الجن والشياطين في
أول الليل والخوف على الأولاد منهم، في هذا من الإشكال أن أكثر أهل الأرض لا
يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت، وتمر الأعصار ولا يعرف أحد أن
الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا - هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم في الأمصار
التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم على طريقتهم
في القرى والمزارع، فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع الصغار من
الخروج في المساء أي في أول الليل، وقد يزيد على هذا بعض المشتغلين بالعلوم
الدينية؛ أن هذا خبر عن أمر يتعلق بعالم الغيب، فلا يقبل فيه انفراد راوٍ واحد فيه
من هذه الطرق الثلاث التي لا تخلو واحدة منها من علة، فكثير ضعفه بعضهم،
وكذلك حبيب المعلم قال فيه النسائي: إنه ليس بالقوي، وقال أحمد: ما احتج
بحديثه، وفي رواية عنه وعن ابن معين ثقة. وأما ابن جريج فهو على فضله وسعة
علمه وكثرة روايته مدلس، روى عن كثيرين لم يسمع منهم، وكان يدلس على
المجروحين كما قاله الحافظ الدارقطني، والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه إذا قال
حدثني فهو ثقة وإلا فلا. قال يحيى بن سعيد: كان ابن جريح صدوقًا، فإذا قال
حدثني فهو سماع، وإذا قال أخبرني فهو قراءة، وإذا قال (قال) فهو شبه الريح
(لا قيمة له) ، وقال الأثرم: قال أحمد: إذا قال ابن جريح: (قال) و (أخبرت)
جاء بمناكير، وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به، واختلفوا في روايته عن عطاء،
قال علي بن المديني (من كبار شيوخ البخاري ورجال الجرح والتعديل) في كتابه
سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف.
قلت: إنه يقول أخبرني، قال: لا شيء كله ضعيف إنما هو كتاب دفعه إليه. أقول:
فعلى هذا لا ينفعنا في تصحيح هذا الحديث قوله أخبرني كما رواه البخاري عنه،
ولولا مسألة الشياطين لم يكن في متن الحديث إشكال؛ فإن الأوامر فيه كلها نافعة لا
تتعلق بحفظ الطعام والشراب مما يدخل فيها من الحشرات الضارة، وكذلك إغلاق
الباب عند النوم وإطفاء السراج، على أنه يمكن أن يراد بالشياطين فيه شياطين الإنس
الذين يؤذون الأطفال، وفي مصر خطفة منهم يأخذونهم فيستخدمونهم لأنفسهم أو
لغيرهم، ويكرهون البنات على البغاء عند استعداد سنهن لذلك أو قبله، فيزول إشكال
المتن فيه.
***
2- الجواب عن حديث أبي هريرة وتحديثه
أقول: إن أبا هريرة (رضي الله عنه) كان من أحفظ الصحابة، وهو
صادق في تحديثه. ولكن إسلامه كان في سنة سبع من الهجرة، فصحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ونيفًا، فأكثر أحاديثه لم يسمعها من النبي صلى الله
عليه وسلم وإنما سمعها من الصحابة والتابعين، فإن كان جميع الصحابة عدولاً في
الرواية كما يقول جمهور المحدثين، فالتابعون ليسوا كذلك، وقد ثبت أنه كان
يسمع من كعب الأحبار، وأكثر أحاديثه عنعنة. على أنه صرح بالسماع من النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث (خلق الله التربة يوم السبت) .. إلخ، وقد جزموا بأن هذا الحديث غلط من أصله، وفي تفسير الحافظ ابن كثير أن أبا هريرة أخذه
عن كعب الأحبار.
وأما نهي عمر له عن التحديث؛ فلأن عمر (رضي الله عنه) كان يرى
التشديد في رواية الحديث وكتابته، وهذه مسألة كبيرة سبق للمنار سبْح طويل فيها.
وقد كتب بعض المبشرين بالنصرانية مقالاً طويلاً بالطعن في حديثه، وجاءوا
بشبهات على ذلك من بعض الكتب؛ وغرضهم من الطعن فيه الطعن في رواية السنة
وصحتها، وقد فندنا كلامهم في مقال مفصل نشرناه في الجزئين الأول والثاني من
مجلد المنار التاسع عشر فليراجعه السائل، فما نظن أنه يبقى مقالاً لقائل، وهو
يتضمن التفصيل في الرد على الدكتور محمد توفيق صدقي - رحمه الله - الذي
أجملناه في المجلد الثامن عشر.
***
3- حكم كلام الرسل - عليهم السلام - في الأمور الدنيوية
إن ما يرد في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي
والآراء الدنيوية المحضة يسميه علماء الأصول إرشادًا، كما قالوا في حديث جابر
الذي تكلمنا عليه في الجواب عن السؤال الأول وهذا لفظه (خمّروا الآنية وأوكئوا
الأسقية وأجيفوا الأبواب، وأكفتوا صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة،
وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة (أي: الفأرة) ربما اجترت الفتيلة
فأحرقت أهل البيت) ومثله (كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه طيب مبارك) رواه
الحاكم وابن ماجه من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وفي الأمر به روايات
أخرى ضعيفة، ومثله (كلوا البلح بالتمر) .. إلخ رواه النسائي وابن ماجه والحاكم
من حديث عائشة بسند صحيح، وكذا رأيه صلى الله عليه وسلم في تلقيح النخل
وسيذكر والعمل بأمر الإرشاد لا يسمى واجبًا ولا مندوبًا؛ لأنه لا يقصد به القربة
فليس فيه معنى التعبد، قال القرطبي: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد
إلى المصلحة، ويحتمل أن تكون للندب ولا سيما في حق من يفعل ذلك بنية
امتثال الأمر , اهـ. من الفتح وهو مأخوذ من قول بعض العلماء قبله: إن كل مباح
يفعل في الإسلام بنية القربة يصير عبادة يثاب عليها.
أقول: ولكنه لا يسمى سنة ولا مندوبًا بذاته؛ فإن القربة هنا هي النية.
***
4- الضابط القطعي بين ما قاله الرسول رأيًا وإرشادًا وما قاله تشريعًا
ظاهر حديث رافع بن خديج في صحيح مسلم (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء
من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وحديث
عائشة وأنس عن مسلم أيضًا من تعليله صلى الله عليه وسلم تلك المسألة: مسألة
تلقيح النخل بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ظاهره أن جميع
أمور الدنيا متروكة إلى الناس، يتصرفون فيها باجتهادهم لا يتعلق بها تشريع، ذلك
بأنه (صلى الله عليه وسلم) لما جاء المدينة ورآهم يؤبرون النخل ارتأى أنه ليس
له تأثير، وسمع بعضهم منه ما يدل على ذلك، فترك تأبير نخله فلم يثمر التمر
الجيد المعتاد بل خرج شيصًا رديئًا، فذكروا له ذلك فقاله كما سبق لنا بيانه، وذكر
لهم أنه قال: ظن أي لا عن وحي، وأنهم أعلم بدنياهم.
وليس هذا على إطلاقه؛ فإن من أمور الدنيا ما فعْلُه أو تركه ضار قطعًا
بشخص العامل أو بالناس، فيتعلق به تشريع التحريم، وما كان مظنة النفع
والضرر فيتعلق به تشريع الندب والكراهة، وكل ما يفعل بنية القربة ورجاء
الثواب من الله تعالى فهو عباده إذا كان مشروعًا، وبدعة إذا لم يكن مشروعًا، وكل
ما رتب على فعله ثواب أو عقاب فهو ما يتعلق به التشريع، والضابط العام أن
التشريع ما ثبت بنص يدل على طلب الشارع لفعل شيء على سبيل القطع وهو
الوجوب، أو غير القطع وهو الندب، أو طلبه لترك شيء بالنهي عنه أو الوعيد
عليه على سبيل القطع وهو المحرم، أو غير القطع وهو المكروه أو بالإباحة
الرافعة للحظر. فأفعال الرسل الدنيوية العادية تدل على أن ما يفعلونه مباح لا
حظر فيه على الناس، ولا وجوب ولا ندب إلا بدليل خاص يدل على ذلك.
فالتشريع لهم ولغيرهم عام إلا إذا قام الدليل على التفرقة بين الرسول وأمته؛
كالخصائص المختصة بنبينا (صلى الله عليه وسلم) دون الأمة وهي معروفة.
وقد بينت كتب أصول الفقه هذه المسألة في شرح الأحكام الخمسة. ولكنني لم
أر لأحد ضابطًا عامًا لا يمكن فيه القيل والقال، فهنالك الأصل الذي تشير إليه
أحاديث تأبير النخل، فلفظ (أمور دنياكم) عام تدخل فيه جميع أمور الزراعة
والصناعة، وكل ما يصل إليه البشر باختيارهم وبحثهم، ولا يحتاجون فيه إلى
وحي إلهي، وتدخل فيه أمور الطعام والشراب واللباس إلا ما استثنى نص القرآن
من تحريم الميتة والدم المسفوح؛ وما أهل به لغير الله وشرب الخمر، أو نص
الحديث كلبس الحرير (الخالص أو الغالب) للرجال، والأكل والشرب في أواني
الذهب والفضة؛ لما في ذلك من الإسراف والنهي عنه في القرآن، فهذه أمثال لما
استثني بعينه. وآيات حظر التحريم بغير وحي من الله تعالى وتسميته افتراء على
الله؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً
وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) ,وقوله: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32)
وغيرهما.
وفوق هذا أصل الإباحة بنص قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) ولكن لا يدخل في عموم الحديث والآيات إباحة ما فيه ضرر ولا
ما يتعلق به حقوق الناس، أو يقال: إنه من المستثنى بنصوص وقواعد أخرى؛
لأن التنازع في الحقوق والمصالح وإن كان مما يدخل في استطاعة البشر الاهتداء
إلى الأحكام الفاصلة فيه، يحتاج في قواعده إلى تشريع إلهي تخضع له النفوس
باطنًا بوازع الدين والعقيدة؛ كما تخضع له ظاهرًا بوازع السلطان والقوة.
وهنالك أمور مشتبهات لها جهات مختلفة؛ كإطلاق اللحية وقص الشارب أو
إعفائه وفرق الشعر وخضب الشيب. هذه أمور صح أمر النبي (صلى الله عليه
وسلم) بها، وهي من أمور العادات والزينة المباحة في الأصل، ولكن علل بعضها
بمخالفة أهل الملل الأخرى؛ ليكون المسلمون أمة مستقلة في جميع مشخصاتها
ممتازة عن غيرها، يقتدى بها ولا يقتدى بغيرها فهذه الأمور الدنيوية العادية، قد
نظر فيها إلى مصلحة اجتماعية للأمة. ولما لم تكن من الأمور التعبدية التي يقصد
الامتثال فيها لذاته، يصح أن يقال فيها: إنها تتبع علتها وجودًا وعدمًا، وقد ترك
المسلمون فرق الشعر خلافًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، وصار من
يفرق شعره يعد متشبهًا بغير المسلمين من الإفرنج وغيرهم، والنبي صلى الله عليه
وسلم كان يسدل شعره أولاً، فلما رأى أهل الكتاب بعد الهجرة يسدلون شعورهم
صار يفرقه مخالفة لهم، وقد اختلفت الحال اليوم، وقد سبق لنا بيان لها في مواضع
من التفسير والمنار، منها المطول والمختصر، وآخر المختصر ما ذكرناه في
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) هو في الجزء العاشر من المنار م 28 الذي صدر في
شعبان بتاريخ 30 رجب الماضي، أعني الذي صدر قبل هذا الجزء.
***
5- جواز خطأ الأنبياء في آرائهم ودليله وحكمه وحصره
قال الله تعالى لخاتم رسله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف:
110) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر
دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم والنسائي
من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال أيضًا: (إنما أنا بشر مثلكم
وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله) رواه
الإمام أحمد وابن ماجه من حديث طلحة رضي الله عنه بسند صحيح، وقال أيضًا:
(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها) رواه
الجماعة من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والجماعة هنا الإمامان مالك وأحمد
والشيخان البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، وموضوع الحديث الخطأ
في الحكم؛ بسبب خلابة المخطئ من الخصمين وقوة حجته.
ومن أصول العقائد الإسلامية المأخوذة من هذه النصوص وأمثالها؛ أن الرسل
عليهم السلام بشر، يجوز عليهم كل ما يجوز على البشر من الأمور البشرية التي
لا تخل بمنصبهم من الصدق والأمانة في تبليغ الرسالة، والعصمة عن مخالفة ما
جاءوا به من أمر الدين.. إلخ، وقد اتفق المسلمون على جواز وقوع الخطأ من
الرسل عليهم السلام في الرأي والاجتهاد. ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطأ يتعلق
بالتشريع كمصالح الأمة، بل يبينه لهم كما حصل في اجتهاد نبينا صلى الله عليه
وسلم في مسألة الأسرى ببدر مع المشاورة، إذ رجح رأي الصديق في أخذ الفداء
منهم، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) الآية، وفي اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الإذن لبعض
المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فأنزل الله تعالى عليه {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ} (التوبة: 43) ، وفي اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه قبل ذلك في
الإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى الفقير عندما جاءه؛ وهو يكلم كبراء
قريش راجيا هدايتهم؛ لئلا ينفروا منه لكبريائهم، فأنزل الله عليه {عَبَسَ وَتَوَلَّى *
أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1-2) إلى قوله: {كَلاَّ} (عبس: 11) ردعًا
عن مثل هذه السياسة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرجع عن رأيه لرأي أي من
أصحابه كما فعل عند ما اختار النزول في مكان يوم بدر، فأشاروا عليه بما هو
خير منها، وأولى من ذلك رجوعه إلى رأي الأكثرين بعد المشاورة كما فعل يوم
أحد، ولكني لم أقف لأحد من العلماء على إحصاء لحصر هذه المسائل في موضع
واحد يُرجع إليه، وهذا أشهر ما ورد في هذا الباب، وهو الذي يتبادر إلى الذهن
وقت الكتابة من غير مراجعة كتاب.
***
6-7 - الجمع بين حديثي الذباب والفأرة
وهل الأول رأي أو تشريع؟
الفقهاء يفرقون بين الحديثين؛ بأن الفأرة مما له دم سائل، فلا يعفى عن
تنجيسه لما ينجسه إذا كان ميتًا والذبابة ليست كذلك، فيعفى عن تنجيسها لما تقع
فيه أو يقال: إنها لا تنجسه. وأما الحكم الطبي فيهما فواحد فكلاهما ضار في
الطعام والشراب باتفاق الأطباء، فإن كان ضرر الذبابة الواحدة لا يبلغ ضرر الفأرة
الواحدة، فللكبر والصغر دخل في ذلك، ويجوز أن يكون مقدار ثقل الفأرة من
الذباب أضر منها، والمعول في مثل هذا على خبرة الأطباء.
وحديث الذباب المذكور غريب عن الرأي وعن التشريع جميعًا، أما التشريع
في مثل هذا فإن تعلق بالنفع والضرر فمن قواعد الشرع العامة أن كل ضار قطعًا
فهو محرم قطعًا، وكل ضار ظنًا فهو مكروه كراهة تحريمية أو تنزيهية على الأقل
إن كان الظن ضعيفًا، فغمس الذباب في المائع الذي يقع فيه لا يتفق مع قاعدة
تحريم الضار، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة. وأما الرأي فلا يمكن أن يصل إلى
التفرقة بين جناحي الذبابة في أن أحدهما سام ضار والآخر ترياق واق من ذلك السم
فإن صح الحديث بلفظه، ولم يكن فيه غلط من الرواة، ولم يكن معناه معروفًا
مسلمًا في ذلك الزمان، فالمعقول فيه أن يكون عن وحي من الله تعالى، وحينئذ
يمكن أن يعرف ببحث الأطباء المبني على القواعد الحديثة؛ كالتحليل الكيميائي
والفحص الميكروسكوبي، بأن يجمع كثير من أجنحة الذباب اليمنى واليسرى كل
على حدته، وينظر في أكبر منظار مكبر، ثم يحلل فينظر هل يختلف تركيبه ثم
تأثيره في بعض الأحياء كشأنهم في هذه النظائر، فإن ثبت بالتجربة القطعية أن
الجناحين سواء في الضرر كما هو الغالب في النظر، ثبتت معارضة الواقع
القطعي لمتنه وهو ظني؛ لأنه خبر واحد، فيحكم بعدم صحته إن لم يكن تأويله كما
هو الظاهر، ولا خلاف في ترجيح القطعي على الظني من منقول ومعقول
ومختلف، كما بينه شيخ الإسلام في كتاب النقل والعقل.
هذا، وإننا لم نر أحدًا من المسلمين، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا
الحديث، فالظاهر أنهم عدوه مما لا دخل له في التشريع كغيره من الأحاديث
المتعلقة بالمعالجات الطبية والأدوية، وقد تكلم علماؤنا في معناه، وذكروا اعتراضًا
عليه لبعض الناس جهلوه به، وهو قوله كيف يجمع جناحاه بين الداء والشفاء؟
وردوا عليه بأن كثيرًا من المخلوقات تجتمع فيها المتضادات؛ كالحية فيها السم
ولحمها يجعل في الترياق منه، والنحلة يخرج من فمها العسل النافع ومن أسفلها
القذر الضار. ونقلوا عن بعض الأطباء أن في الذبابة سمًا، فإذا وقعت في طعام أو
شراب أو غيرهما تلقى بسمها على ما تخشى أن يضرها: أي كما تفعل كل
الحشرات السامة، وذكروا أن من المجربات شفاء لسعة الزنبور بدلكها بالذباب أو
بالزنبور نفسه. وفي الطب الحديث أن نَسَم الجِنَّةِ الخفية التي يسمونها الميكروبات
منها الضار والنافع، وإنهما يتدافعان ويتقاتلان في دم الإنسان حتى يغلب أحدهما
الآخر، فعلى هذا لا يمكن القطع بأن متن الحديث مخالف للواقع ونفس الأمر، وأن
كل ذباب يغمس في الطعام أو الشراب فهو ضار إلا بتجارب خاصة بهذا الأمر.
هذا، وإن إخراج البخاري لهذا الحديث في جامعه لا يعصمه من التماس علة
في رجاله تمس مناعة صحته، فإن مداره عنده على عبيد بن حنين مولى بني
زريق، انفرد به وليس له غيره، فهو ليس من أئمة الرواة المشهورين الذين تخضع
الرقاب لعدالتهم وعلمهم وضبطهم كمالك عن نافع عن ابن عمر مثلاً، ومن الغريب
أنه لم يذكر في تهذيب التهذيب أن له رواية عن أبي هريرة، فإن كان بينهما
واسطة يكون منقطعًا. ولكن لم يذكر الحافظ ذلك على تحريه لمثل هذه العلل. وفيه
أن أبا حاتم قال فيه: كان صالح الحديث، وهي من أدنى مراتب التوثيق، حتى قدم
الحافظ الذهبي وغيره عليها كلمة (لا بأس به) فإذا غلب على قلب مسلم أن رواية
ابن حنين هذا غير صحيحة وارتاب بغرابة موضوع حديث الذباب لا يكون قد ضيع
من دينه شيئًا، ولا يقتضي ارتيابه هذا أو جزمه بعدم صدق ابن حنين فيه الطعن في
البخاري؛ لأنه قبل روايته لأنه لم يعلم جارحًا يجرحه فيه إلا هذا الشذوذ الذي يجبره
حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه بمعناه وإن كان على غير شرط البخاري في
الصحيح. ولكن يرد على المرتاب تصحيح لابن حبان لحديث أبي سعيد، وقد يقول:
إذا وجدت علة في رواية البخاري تمنعني من القول بصحة الحديث مع كونه أشد
الحفاظ تحريًا فيما يخرجه في صحيحه مسندًا، فهل يمنعني منه تصحيح ابن حبان
المعروف بالتساهل في التصحيح؟ وكل من ظهر له علة في رواية حديث، فلم يصدق
رفعه لأجلها فهو معذور شرعًا، ولا يصح أن يقال في حقه: إنه مكذب لحديث كذا،
كما أن من اعتقد أن حديث كذا صحيح، وكذبه يصدق عليه أنه مكذب، ويترتب عليه
حكم التكذيب.
(تنبيه) إن ابن حنين رواي حديث الذباب من مسلمة الأعاجم، والظاهر
أنه من النصارى. وراوي حديث الشياطين المتقدم وهو ابن شنظير منهم أيضًا،
وكل منهما غير مشهور بالعلم والرواية، فالظاهر أن البخاري اكتفى بعدم الطعن
فيهما.
***
8-9 - تكفير محمد توفيق صدقي لعدم تسليمه حديث الذباب
إن الذي كفّر الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى؛ لاعتقاده أن
حديث الذباب مخالف للواقع لا يصح رفعه إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه
وسلم جاهلٌ كما عُلم من الجواب الذي قبل هذا، وقد يصدق عليه حديث (إذا قال
الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري من حديث أبي هريرة وابن
عمر مرفوعًا، وله روايات أخرى عند غيره أيضًا، وأنا وإن لم أعرفه ولا رأيت
تكفيره، أتمنى لو يكون مثل المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي فيما اختبرت من
قوة إيمانه وقدرته على إقامة البراهين العلمية على عقائد الإسلام كلها، وفي قدرته
على رد الشبهات عنها، وفي غيرته على الإسلام التي حملته على درس الكتب
الكثيرة؛ لأجل الدعوة إليه والدفاع عنه جدلاً باللسان وتأليفًا للكتب، وإنني أعلم علم
اختبار واسع دقيق لا علم غيب أن هذا الرجل كان من أقوى المسلمين دينًا في
اعتقاده وفي عبادته واجتنابه لما حرم الله تعالى. فإذا كان مثل هذا الرجل يعد كافرًا؛
لأنه لم يصدق رفع حديث كحديث الذباب ليس من أصول الإسلام ولا من فروعه،
وهو يجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول مثله، فأين نجد المسلمين
الصادقين؟ !
هذا، وإنني أعلم بالاختبار أيضًا أن ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة
هذا الحديث كتابة؛ إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس عن
الإسلام، وتكون سببًا لردة بعض ضعفاء الإيمان وقليلي العلم الذين لا يجدون
مخرجًا من مثل هذا المطعن إلا بأن فيه علة في المتن تمنع صحته، وكان هو يعتقد
هذا. وما كلف الله مسلمًا أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه وإن لم يصح
عنده أو اعتقد أنه ينافي أصول الإسلام.
سبحان الله! أيقول ملايين المسلمين من الحنفية أن رفع اليدين عند الركوع
والقيام منه مكروه شرعًا، وقد رواه البخاري في صحيحه وغير صحيحه عن
عشرات من الصحابة بأسانيد كثيرة جدًّا، ولا إثم عليهم ولا حرج لأن إمامهم لم
يصح عنده؛ لأنه لم يطلع على أسانيد البخاري فيه، وكل من اطلع من علماء مذهبه
عليها يوقن بصحتها؛ ثم يكفر مسلم من خيار المسلمين علمًا وعملاً ودفاعًا عن
الإسلام ودعوة إليه؛ بدليل أو شبهة على صحة حديث رواه البخاري عن رجل يكاد
يكون مجهولاً، واسمه يدل على أنه لم يكن أصيلاً في الإسلام وهو عبد بن حنين،
وموضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ولا من شرائعه ولا التزم
المسلمون العمل به، بل ما من مذهب من المذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل
ببعض ما صح عند البخاري وعند مسلم أيضًا من أحاديث التشريع المروية عن
كبار أئمة الرواة؛ لعلل اجتهادية أو لمحض التقليد، وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر
من مائة شاهد على ذلك في كتابه إعلام الموقعين، وهذا المكفر للدكتور منهم،
فنسأله بالله تعالى أن يصدقنا: هل قرأ صحيح البخاري كله واعتقد كل ما فيه
والتزم العمل بكل ما صححه؟ ثم إن كان يدعي هذا فنحن مستعدون لدحض دعواه
مع هذا كله نقول بحق: إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله. ولكنه
ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ، وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا!
ما أسهل التكفير على مقلدة ظواهر أقوال المتأخرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________(29/37)
الكاتب: أحمد إبراهيم إبراهيم
__________
تفسير القرآن الحكيم
رأي الأستاذ العلامة الفقيه - مدرس الشريعة الإسلامية
في كلية الحقوق بالجامعة المصرية - فيه وفي مجلة المنار
إلى الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
تعلم أيها الصديق الحميم إعجابي بك وشغفي بما تخطه يمينك من مقالات
الإصلاح؛ لا لأنك صديقي (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) بل لأنك تكتب
وتقول عن علم صحيح، وتفكير صائب، وقلب فاهم، ونفس تريد الخير للمسلمين
في كل ما يصدر عنها، فلا عجب إذا كنت أدعو كل من آنسُ فيه الاستعداد للخير
أن يقرأ المنار فينتفع منه على قدر استعداده، فقد تناولتَ فيه من وجوه الإصلاح
الإسلامية - بفضل الله ونعمته - ما لم يتيسر في جملته لغيرك، وقد زدته حسنا
على حسن بما ضمنته من جواهر الكلام، لشيخنا الأستاذ الإمام، عليه من الله الرحمة
والرضوان، فنظمت فيه من اللآلئ ما كان ينثره رضي الله عنه في دروس التفسير
التي يلقيها على الجماهير في الأزهر المعمور، وضممتَ إليها ما شاء الله أن يفتح به
عليه من نفيس الفرائد، ثم انفردت به بعد أن استأثرتْ بالشيخ رحمة ربه فكنته فيما
استقللت به، ولا غَرْو (فإن العصا من العصية) .
ثم جردتَ تفسير المنار وطبعته على حدة جزءًا جزءًا مبتدئًا بالجزء الثاني،
وأخيرًا طعبت الجزء الأول كذلك بعد أن أنشأته خلقًا جديدًا، وقد أسعدني الحظ
بتصفحه وقراءة أدق مباحثه بعد قراءة مقدمتيه - فاتحتكم والمقدمة المقتبسة من
دروس الأستاذ الإمام - فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله
إلى آخره، وقد استوقفني في فاتحتكم عدة مواضع كان يتوارد على خاطري في كل
موضع منها بحكم تداعي المعاني الشيء الكثير.
من ذلك ما جاء من جعل مقلدة المذاهب - أصولاً وفروعًا - مذاهبهم أصلاً،
والقرآن فرعًا لها فعكسوا القضية، حتى لقد غلا بعضهم غلوًّا فاحشًا نعوذ بالله منه إذ
يقول: إذا خالف النص من كتاب أو سنة قول أصحابنا فإن النص يحال على النسخ أو
التأويل. وأذكر أني تناولت مرة بعض التفاسير المطولة [1] لأراجع فيه تفسير آية من
آيات الأحكام، فكنت في أثناء قراءتي أجدني قد قرأت مثل هذا الكلام في بعض الكتب
الفقهية فما انتهيت إلى آخره، حتى وجدته يقول كذا في فتح القدير، فأطبقت الكتاب
وعقدت النية على أن لا أعود إلى قراءة شيء فيه بعد ذلك؛ لأني إنما تناولته لأقرأ في
كتاب تفسير لا في كتاب الفتاوى الهندية.
ومن ذلك ما أوردتموه من الملاحظات الجيدة على التفسير بالمأثور، وأنه لا
يؤخذ بكل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من ذلك لما ثبت أن بعضهم روى
عن أهل الكتاب كأبي هريرة وابن عباس، فالحق هو ما قلتم أن كل ما لا يعلم إلا
بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل فيّ إثباته
إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه قاعدة الإمام ابن
جرير التي يصرح بها كثيرًا، فبهذا الطريق نسلم مما لا يحصى كثرة من الأكاذيب
والخرافات المخجلة، وتطهر منها كتب تفسير كلام الله.
ومن ذلك ما حكيتموه عن الأستاذ الإمام من قوله: (إن بعض الناس يوجد
فيهم خاصية أنهم يقدرون على الكلام في أي موضوع أمام أي إنسان؛ سواء أكان
يدرك الكلام ويقبله أم لا، وهذه خاصية كانت موجودة عند السيد جمال الدين يلقي
الحكمة لمريدها وغير مريدها. وأنا كنت أحسده على هذا؛ لأنني تؤثر في حالة
المجالس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاً وهكذا الكتابة،
فإنني أتصور أن أكتب في موضوع، وعندما أوجه قواي لجمع ما تحسن كتابته،
تتوارد على فكري معان كثيرة ووجوه للكلام جمة ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا
الكلام ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد
امتص بعضها بعضًا، حتى تلاشت ولا أكتب شيئًا) فأذكرني هذا ما صنعه أبو
حيان التوحيدي بكتبه إذ أحرقها ضنًا بها على الناس بعد أن بذل ما في وسعه في
تحريرها، وكتب في ذلك خطابه المؤثر لبعض أصدقائه، فهذه ثلاث مراتب مرتبة
من يلقى الحكمة على أيٍّ كان غير ناظرِ إلى من تُلقى عليه، فلعلها إن أخطأت مرة
أصابت مرة، وهذه هي مرتبة السيد رحمه الله، وهي مرتبة حب الخير المطلق
والإخلاص والغيرة على الإصلاح والطمع في هداية الناس أجمعين، فكان لا جرم
أن غبط الأستاذ الإمام السيد عليها قدس الله سرهما.
ومرتبة الحكيم الحذر الذي يتحين الفرص، فلا يلقي الحكمة إلا على من هو
مستعد لقبولها والانتفاع بها، وهذه هي مرتبة الأستاذ الإمام كما حدّث عن نفسه،
لكنه بعد ذلك ما كان يضن بدرره الغوالي كما شاهدنا ذلك منه في دروس التفسير
وفي غيرها، بل كان يصرح كثيرًا بمخالفة ما ألِفه العامة بمنتهى الشجاعة والإقدام
مؤيدًا ما يقوله بالبراهين الناصعة، والحجج الدامغة، والجمهور يستمع لما يقول.
ومرتبة الضنين على الناس بما يراه صالحًا لهم، فكأنهم وتروه فثأر لنفسه
منهم، وهذه مرتبة أبي حيان.
فصاحب المرتبة الأولى ينظر إلى الناس نظر الرحمة والشفقة، وصاحب
المرتبة الثانية ينظر إليهم بعين الحذر والحكمة مع محبته الخير لهم، وصاحب
المرتبة الثالثة ينظر إليهم نظر المقت والانتقام.
هذا بعض ما استوقف نظري مما مر به. لكن أشد ما استوقفني تلك الكلمة
الجامعة الحكيمة التي كأن روح القدس نطق بها على لسانك: (إذا صلحت النفس
البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) فوقفتني وقفة غارقة في بحار التأمل، تارةً
أستعيد ماضي الإسلام المجيد وما طرأ على المسلمين بعد عصر النور من ظلم
الفساد، وأخرى أنظر إلى حاضر المسلمين وما هم عليه من سوء الأحوال
الاجتماعية، وتفرقة الكلمة والانحراف عن كتاب الله تعالى، ثم أفكر في مستقبلهم
إذا استمروا على هذا الحال، فأرتد كئيبًا حزينًا يقتلني الأسى ويمزقني الغيظ.
وكان مما خطر ببالي في وسط تلك الدهشة؛ ما يظنه بعض المساكين من
متعلمي المسلمين ذلك التعليم الحديث الذي ظنوه كاملاً، وما هو إلا في أحط دركات
النقص، ظنوا - هداهم الله - أن السيادة والاستقلال يكفي لاستحقاقهما ذلك القدر من
العلم الذي حصلوه، وتلك الشهادات الدراسية العليا التي نالوها من أرقى المعاهد
العملية الأوربية بجدارة وتفوق؛ حتى على كثيرين من أبناء تلك الأمم التي نالوا تلك
الشهادات من معاهدها، حتى قال مسكين منهم معتزًا بما حمله من تلك الشهادات، وما
حصل عليه من قشور القشور التي ظنها علمًا قيمًا: ما بالنا لا نُعطى الاستقلال وقد
أعطيه العربُ الجهال رعاة الإبل، ونحن (أولاً) على درجة من العلم والمدنية
الغربية تجعلنا خير أهل لذلك. (وثانيًا) نحن من نسل أولئك الفراعنة ذوي الحضارة
القديمة التي بهرت أنظار الغربيين؟ وفات هذا الشيخ الطفل أن الاستقلال ليس منحة
تُعطى، بل هو نتيجة طبيعية لازمة لحالة الأمة الاجتماعية سنة الله في خلقه {وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) .
فهؤلاء العرب الجهال رعاة الإبل الذين لم يتشرف واحد منهم بنيل شهادة
الدكتوراه ولا ما دونها، إنما نالوا الاستقلال بنفوسهم الصالحة تربية ووراثة، فلم
يمسسهم ولا أسلافهم ذلك الاستعباد، ولم يتطرق إلى أخلاقهم الرفيعة الفساد الوضيع،
وأما أعلى الشهادات وأرقى أنواع تلك العلوم فمحال أن تكون من مهيئات
الاستقلال والسيادة مع فساد النفوس وضِعتها، وانحطاط الأخلاق وانحلالها،
والانغماس في الشهوات البدنية والتفاني فيها، فليس للاستقلال والسيادة إلا طريق
واحد هو النفس الصالحة فهي حسبهما وكفى، وأما التبجح بالانتساب إلى الفراعنة
فهو عجيب ممن ينتمون إلى الإسلام، بل الأولى بهؤلاء المنتسبين أن ينسبوا
أنفسهم إلى الأمة التي استعبدتها الفراعنة، وساموها الخسف والهوان وسخروها
لخدمتهم لا غير، فهذا هو الواقع. والانصاف يقضي عليهم بأن ينتسبوا إلى
أصولهم الحقيقيين.
على أن العلم المادي في أقوى معداته ومجهزاته المهلكة المدمرة، لم يستطع
أن يقف بأصحابه أمام الأخلاق المتينة. ولدينا أقرب شاهد على ذلك من الحرب
العظمى التي انهزم بها ذلك العلم المادي بجبروته وعظمته أمام الأخلاق الثابتة
والنفوس المطمئنة الهادئة، وولت الأدبار القوى المادية أمام القوة المعنوية، وما
انتصر المسلمون في عصور الهداية والنور إلا بنفوسهم الصالحة، فانتصروا على
دولتي الفرس والروم وكل من حاربوهم من الأمم مع كثرتها الساحقة في العدد
والعدد قديم حضارتها. ولكن ما قيمة كل ذلك أمام النفوس الصالحة؟ ولما استقرت
قدم المسلمين في البلاد التي فتحوها ونشروا فيها نور الإيمان الصحيح بالله تعالى،
أحلوا فيها العدل محل الظلم، والأمن محل الخوف، والسكينة محل الاضطراب،
والوفاء محل الغدر، والحرية الصحيحة محل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان،
فأصلحوا بنفوسهم الصالحة كل شيء اتصلوا به.
نعم.. (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) هذه حقيقة لا
ريب فيها، ففي صلاح النفس عزها وفلاحها وإعدادها لإصلاح كل ما اتصل بها
ولا طريق لصلاح النفس صلاحًا حقيقيًا إلا الأخذ بما جاء به الكتاب العزيز
والاهتداء بهديه، ففي ذلك الخير كله، بذا جف القلم وقُضي الأمر.
إن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية وإرشار
لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مُداجٍ ولا ممالئ، بل
أترجم لك عما تتحدث به إليّ نفسي غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك
بما أقترح عليك أن تقتبس من هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا، يحتوي زبدته
لينتفع به العامة، ومن لا يتسع وقته لقراءة التفسير المطول.
أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام هذا
التفسير ومختصره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... أخوك المخلص
... ... ... ... ... ... أحمد إبراهيم إبراهيم
... ... ... أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بالجامعة المصرية
__________(29/52)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من عهد الصليبيين
عثر أحد العمال في حي الميناء بطرابلس الشام على لوحة رخامية مكتوب
عليها بالفرنسية القديمة ما ترجمته:
(باسم الروح القدس نحن بومون بنعمة الله أمير أنطاكية وكونت طرابلس
صنعنا هذا البرج من أموال جالية طرابلس عام 1268 لميلاد السيد المسيح) .
وقد أرسلت هذه البلاطة إلى دائرة الآثار في المفوضية الفرنسية لإصلاحها
ووضعها في المتحف اللبناني.
__________(29/56)
الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي
__________
مناظرة في مسألة القبور والمشاهد
الرد على رسالة العالم الشيعي
للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي
وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب المقلدة
(7)
(المقام الثلاثون) قوله سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين (عفى الله
عنه) هو هارون الرشيد خليفة المسلمين في عصره، وتابَعه على ذلك سائر
الخلفاء حتى عبد الحميد خان التركي، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته.
أقول: لم يأت السيد مهدي بدليل يصح به ما نقله عن الرشيد، وأنا لا أدري
أول من بنى القبر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه) . ولكني
أذكر أني قرأت في بعض كتب شيخ الإسلام - وهو من أثبت الناس في النقل - أن
أول من بنى المشاهد وسنها للناس هم الشيعة، وظني بهارون الرشيد أنه لا يفعل
ذلك، ولا يبلغ به الجهل إلى هنالك، فإن صح ذلك عنه قلنا كان ماذا؟ غير
معصوم فعل ذنبًا فهو إلى الله، وأقوال هارن الرشيد وأفعاله ليست شرعًا يحتج بها
إلا عند الشيعة الذين يعتقدون أنه من أظلم الناس إن لم يكفروه، بل المفهوم من
كلام بعضهم تكفيره، ولا عند أهل السنة الذين يعتقدون أنه خليفة المسلمين وأفعاله
كأفعال غيره من الأمة، ليست حجة ولو لم تخالف نص الرسول، فكيف إذا خالفته،
وليت شعري أي فائدة في الاحتجاج بأفعال الملوك، وقد حبس الرشيد الكاظم
رضي الله عنه حتى مات في حبسه، فلو قال لك قائل: هذا خليفة المسلمين يجوز
له تعزير من خرج عليه أو توقع خروجه بالنصوص الصحيحة، بل يجوز له قتل
من خرج عليه، لا نعلم في ذلك خلافًا بين أهل السنة، فهل كان في حبسه للكاظم
محسنًا أم مسيئًا؟ فما جوابك؟ وبالاحتجاج بفعل الملوك يتأول المتأولون قتل من
قتله بنو أمية وبنو العباس في دولتيهم من أهل البيت وغيرهم، مع أن أكثرهم قُتَلوا
بلا حق، وبلغ ببعضهم التأول إلى أن قال في قتل الحسين إنما قُتل بسيف جده يريد
بذلك أنه خرج على الإمام، وقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتل من خرج،
وهذه زلة من الزلات صدرت ممن قالها. وسبب ذلك كله هو الغلو في الملوك،
وجعل كل ما صدر منهم شرعًا يدان به، وهذا مسلك وخيم لا يرضى به أهل العلم،
بل يجب أن تعرض أقوال الناس وأفعالهم كائنين من كانوا على ما جاء به
الرسول، فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو باطل، ولو فعله أو قاله خليفة أو إمام
كبير، فلا معصوم إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) .
أما قوله: إن ما شيده المنتسبون إلى السنة من القباب أكثر مما شيده الشيعة،
فقد يكون صحيحًا، والظاهر أن المبتدعين من المنتسبين إلى السنة والشيعة في بناء
القباب والغلو في المقبورين فيها سواسية، وبدعة القباب ضلالة أتباعها شياطين
الجن وشياطين الإنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) .
(المقام الحادي والثلاثون) أطال السيد مهدي في لوم صاحب المنار وتعنيفه
والنيل منه، وليته تجنب ذلك لا لأنه لا يجدي نفعًا في الحجاج، وإنما يوغر
الصدور ويكثر به اللجاج. ومن العجائب قوله: يحق للشيعة ولكل مسلم أن يعدوا
تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم القربات؛ لأن الجهات القاضية برجحان زيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور أهل بيته تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر
الأقطار والكون فيها؛ للصلاة وسائر العبادات، وذلك موجب لإعداد محال واسعة
حول القبور تكون مجمعًا للزائرين، وهي تفتقر إلى بناءات فخمة واقية لنفس القبور
والفُرش التي حولها، والقناديل المسرجة ليلاً لقراءة القرآن والأدعية، وحافظة لمن
يزور القبور من الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح.
أقول هذا الكلام فيه منكرات تقشعر منها الجلود، فيا أسفا لصدوره من أحد
العلماء المتبوعين في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسأختصر الجواب عنه
اختصارًا، فقد طال الكلام جدًا. كيف يكون ما لعن النبي فاعله وأخبر باشتداد
غضب الله عليه مباحًا؛ فضلاً عن أن يكون قربة؛ فضلاً عن أن يكون من أعظم
القربات؟ وأما زيارة القبور فهي مشروعة ولا تشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام
والمسجد الأقصى) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا
عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ؛ ولنهي حسن بن حسن وعلي بن الحسين عن
إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم سندًا، ولقول الله تعالى {لاَ تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ} (النساء: 171) ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وغير ذلك، ومن وصل قبر نبي أو صالح فليسلم، ويدعو
لصاحب القبر وينصرف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وكذا أصحابه، فلا
حاجة إلى قبة أو فرش ولا قنديل إلا من أراد أن يحادّ الرسول فيتخذ قبور الأنبياء
والصالحين مساجد وأعيادًا، ويتعرض للعنة الله واشتداد غضبه، ويتخذ القبور
أوثانًا، فإنما حسابه عند ربه وجزاؤه عليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) .
متى شرع الله الحج لغير البيت العتيق؟ ومتى شرع الله الاجتماع لذكر في
غير المساجد المأذون فيها؟ ولِم يسافر إلى قبر نبي أو صالح؟ إن كان مراده
الاتعاظ والتذكرة فهي حاصلة برؤية قبور بلده كفارًا كانوا أو مسلمين، وإن كان
قصده الدعاء لصاحب القبر فليدع في مكانه والله سميع عليم، وتقدم حديث نهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره (صلى الله عليه وسلم) عيدًا، ونهي
أهل البيت (عم) عن إتيانه للسلام والدعاء، فلا حاجة إلى القباب ولا منفعة فيها،
بل فيها مضرة وأي مضرة؛ لأنها نفق منها يتنزل إلى دركات الشرك، فالخير
والقربة والبر في هدمها وتسوية القبور، وتركها كما كانت على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء، وما أحدث الناس بعدهم في الدين إلا شرًّا.
(المقام الثاني والثلاثون) قوله: فإن بيت النبي وبيوت أهل بيته من أعاظم
البيوت التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في
تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال
حياتهم فكذا قبورهم، وإن تعظيم بيوتهم في حال حياتهم إنما هو لوجودهم فيها فكذا
قبورهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
أقول الاحتجاج بما رواه السيوطي محتاج إلى ذكر الإسناد وتصحيح الخبر،
والسيوطي في الدر المنثور ذكر الخبر المشار إليه، وحاصله أن النبي صلى الله
عليه وسلم فسر قول الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} (النور: 36) ببيوت
الأنبياء، فسأله أبو بكر عن بيت علي وفاطمة أهو منها؟ فقال: (نعم من
أفاضلها) وعزاه لابن مردويه بلا سند كعادته، ولم يلتزم أن لا يذكر فيه إلا
الصحيح، بل يذكر فيه ما ورد صحيحًا كان أم ضعيفًا، فالاحتجاج به والحال
هذه فيه ما فيه، سلمنا أنه صحيح فأي علاقة له في مسألة النزاع؛ لأن الله لم يقل
في قبور أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا
غيره بذلك، وأكثر المفسرين على أنها المساجد، وفسرت ببيت النبي صلى الله
عليه وسلم وببيت عليّ في الخبر المتقدم، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالرفع
الاحترام، وهو أن لا يدخلها أحد إلا بإذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب: 53) فدلت الآية على تحريم
دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وتحريم كل ما يؤذي النبي فيها
كالاستئناس للحديث، ويلحق بيوت النبي في ذلك بيت علي وفاطمة وبيوت سائر
بناته، بل وسائر بيوت المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) ولا يخفى أن
بيوت النبي وبيوت آله أعظم حرمة من بيوت عامة الناس، وأي دلالة في ذلك
على جواز البناء على القبور والصلاة عندها، وقد امتثل الصحابة ما أُمروا
به من تعظيم بيوت النبي ورفعها، ولم يبن أحد فيها قبة، ويقصدها للصلاة
والدعاء، وإنما يصلي فيها أهلها ومن أذنوا له في دخولها، أما تحري الصلاة
والدعاء فيها كالمساجد فلم يشرع لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، ولو سلمنا أن تحري
الصلاة والدعاء مشروع في بيوت النبي وآله، ما دل ذلك على مشروعية الصلاة
والدعاء عند قبورهم، وقياس قبورهم على بيوتهم في مشروعية الصلاة والدعاء
عند قبورهم فاسد؛ لأنه مصادم للنصوص الناهية عن اتخاذ قبور الأنبياء
والصالحين مساجد؛ ولأنه قياس مع الفارق، فإن البيوت يستحب لأهلها أن يتخذوا
فيها مساجد كما تقدم في حديث عائشة، والقبور ليست كذلك والبيوت يستحب
لأهلها أن يجعلوا فيها نوافلهم أو شيئًا منها كما تقدم في حديث (لا تتخذوا قبري
عيدًا ولا بيوتكم قبورًا) ولا كذلك القبور؛ فإن الصلاة عندها محرمة وإن قصد
بها التبرك والتعظيم كانت أحرم، وأيضًا البيوت ينتفع بها غير أهلها ولا كذلك
القبور والبيوت يجلس فيها وتوطأ بإذن أهلها وتُبنى وتشيد بخلاف القبور، وكون
الأنبياء والشهداء أحياء في قبورهم لا يقتضي جواز إتيانهم للصلاة والدعاء، والنظر
إلى وجوههم وسؤالهم، وتلقي العلم منهم، والشكوى إليهم من أفعال الكفرة
والمنافقين والظلمة والتحاكم إليهم، وسؤالهم أخذ الحق من الظالم وتغيير المنكر
وغير ذلك مما هو مختص بالحياة الدنيوية، وقد ورد أن الناس يأتون الأنبياء واحدًا
بعد واحد يسألونهم الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة؛ لأنهم حينئذ يرونهم
ويسمعون كلامهم كما في الحياة الدنيا بخلاف الحياة البرزخية، فلا يجوز ولا يمكن
ذلك فيها؛ ولذلك لم يشرعه الله تعالى ولا فعله السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان،
وبقية كلام السيد مهدي يفهم جوابه مما سبق.
وليكن هذا آخر ما أكتب في الحكم بهذا القضية؛ راجيًا أن يكون مقبولاً عند
الله والمؤمنين، وأسأل الله أن يشرح صدور من كتبوا في هذه القضية جميعًا إلى
اتباع ما أنزل الله على رسوله بلا تغيير ولا تبديل، وأن يجمعنا وإياهم على الهدى
وينزع ما نزغه الشيطان في صدور المسلمين من الغل، حتى يكونوا كالبنيان
المرصوص وكالجسد الواحد، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويغفر لنا ما
طغى به القلم {ربنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} (البقرة: 286) إلى آخر السورة، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قال كاتبه محمد بن عبد القادر الهلالي عفا الله عنه: كتبته في مدة يسيرة
وأنا مشغول البال بالتأهب للسفر إلى الحج - يسره الله على أحسن حال - ومكتنف
بأشغال وافرة، وكل ذلك يمهد لي سبيل المعذرة عند من يقف عليه من الأفاضل،
فيغضي عما فيه من القصور والتقصير {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً} (الطلاق: 7) .
__________(29/57)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مقدمة كتاب يسر الإسلام وأصول التشريع العام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي أكمل لنا بالقرآن هذا الدين، وختم بمحمد صاحب الرسالة
العامة دولة النبيين، وجعله المثل البشري الأعلى للهداية الإلهية العليا، وأرسله
رحمة للعالمين، وبعثه بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك،
وجعلها يسرًا لا عسر معه، وسعة لا حرج فيها، فبلغ عنه أصحابه ما أمرهم
بتبليغه من كتاب الله تعالى بالتلاوة والحفظ والكتابة، ومن سنته في بيانه للناس
بالقول والعمل، والحكم بين الناس بما أراه الله من الحق والعدل، {رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة:
22) .
تلقى العرب الأميون كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) في بيانه
بالقبول؛ إذ لم يكن لديهم فلسفة دينية يحكمونها في دين التوحيد والفضيلة، بعد أن
اجتث الله به شجرة الشرك الخبيثة، ولا كان لديهم تقاليد تشريعية يعقدون بها
شريعته العادلة النقية، فسهل فهم الشعوب والأمم له منهم، وتلقوه بالقبول عنهم،
فلم يلبث الألوف من مواليهم الأعاجم منذ العصر الأول والثاني أن حذقوا لغة هذا
الدين ففهموا كتابه المنزل، وشاركوا أساتذتهم العرب في نشر الدعوة وتدوين اللغة
والسنة، ثم فيما استلزم ذلك من فتح الأمصار، ونشر دين الله في الأقطار، فانتشر
الإسلام في الشرق والغرب بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ، فبلغ ملكه في
جيل واحد ما لم يبلغ ملك الروم (الرومان) في ثمانية قرون، فكانوا أعظم دول
الفتح والاستعمار في الأرض، وأشدها مراعاة للرحمة والعدل.
ثم نجمت قرون البدع في المسلمين، ودخلت عليهم فلسفة الأمم وتقاليد الملل
من أقطارها، واحتاجوا إلى التوسع في التشريع المدني والقضائي والسياسي،
فوضعوا علم الفقه بداعية حاجة الحكام، وعلم الكلام لحراسة العقائد من البدع
ونظريات الفلسفة المختلفة، فاختلط بعقائد الإسلام وأحكامه العملية ما ليس منها،
وخرجت تعاليمه من فضاء السهولة والبساطة واليسر، إلى مضايق الحزونة
والتعقيد والعسر؛ إذ كان الأعرابي في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعلم من
عباداته الشخصية في مجلس واحد ما يكون به مسلمًا، فصار يتعذر على المسلم
الناشئ بين المسلمين أن يتعلم مذهبه الديني الموروث في عدة سنين؛ لأن الأحكام
كثرت بأقيسة المذاهب وتفريعاتها، وعسر فهمها بضعف لغة المصنفين لكتبها،
فضاق ذرع الأمة بها، وانحصر الطالبون لتحصيلها في عدد قليل من أهل الأمصار،
يطلبها أكثرهم لأجل الدنيا لا لأجل الدين، فزال بذلك ما ذكرنا من مزايا الإسلام
القطعية التي كان بها على أكمله قبل أن يكتب شيء من المصنفات، ففي الخبر
المتفق على روايته مرفوعًا المجمع على معناه (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) .
ثم انتقل المسلمون من طور إلى طور، وركبوا طبقًا عن طبق، بعضهم ينتقد
هذه الكتب الكثيرة، ويقول: إما أن يكون جلها ليس من الدين، وإما أن يكون
الدين نفسه غير حق، وبعضهم لا يزال يقول: إن ما هو مقرر فيها هو دين الله لا
مندوحة لمسلم عن اتباعه وإلا كان خارجًا من هذه الملة، حتى انتهت حال بعض
حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب إلى أن يقول: إن من يهتدي بالكتاب والسنة
من دون كتب المذاهب الفقهية والكلامية فهو زنديق، وكان لهؤلاء الجامدين
الجاهلين مكانة عند الحكام وعند جمهور الأمة تخشى بها غائلة مخالفتهم، فزال ذلك
رويدًا رويدًا وهم لا يشعرون، حتى إذا لم يبق منها إلا القليل في بعض البلاد
(كمصر) بعد أن زال من بلاد أخرى، وزال بشؤمة الدين كله من دواوين
حكومتها ومحاكمها ومدارها (كبلاد الترك) ، طفق بعضهم يشعر بالخطر على
البقية الباقية من ظواهره ماثلة على شفا جرف، ولكنهم لا يدرون كيف يخرجون
من جحر الضب كما يخرج هو عند الخطر.
قد أنذر دعاة الإصلاح هؤلاء العلماء الرسميين هذا الخطر الذي هو عاقبة
ضرورية لجمودهم على تقاليدهم فتماروا بالنذر، وكان لنا في المنار جولات
تفصيلية في بيان ذلك أسبابًا ومسببات، وعللاً ومعلولات، ونتائج لمقدمات، مؤلفة
من اليقينيات أو المسلمات.
ولما كان أصل الداء، والمانع من قبول كل علاج له ودواء هو التقليد الأصم
الأعمى للكتب المؤلفة لا للأئمة، بدأنا تلك الحملات والجولات بتك المحاورات
التفصيلية التي نشرناها في المجلد الثالث وما بعده تحت عنوان: (محاورات
المصلح المقلد) ، وعرضناها للنقد فلم يرجع إلينا أحد في تفنيدها قولاً، ولم يكتب
لنا أحد في نقدها فصلاً، بل حازت القبول فطبعت وحدها مرة بعد أخرى.
ثم كان من أوسع ما كتبناه في هذه الموضوع تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) إلخ،
والفصل الاستطرادي الذي جعلناه علاوة لتفسير الآيتين الكريمتين، فالقارئ لذلك
يرى فيه من الآيات المنزلة والأحاديث الصحيحة، ومن مدارك أساطين علماء
الملة وأئمتها من الأولين والآخرين، ما هو حجة على الجامدين من المقلدين،
وعلى الملاحدة والزنادقة المعطلين، وعلى المحرفين والمسرفين من المستقلين،
كما أنه برهان مبين لدعاة الإصلاح المعتدلين، ولا يزال هؤلاء هم الأقلين {ثُلَّةٌ
مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13- 14) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) .
كنا نعد فرق المسلمين الذين يتنازعون أمر الأمة في هذا العصر ثلاثًا:
(الأولى) : حماة تقليد الكتب المدونة في المذاهب المتبعة من سنة وشيعة
زيدية وشيعة إمامية وإباضية. وحجتهم أن علوم الشريعة المودعة في الكتاب
والسنة إجمالاً وتفصيلاً قد انحصرت فيها، فمن لم يأخذ بمذهب منها فليس على ملة
الإسلام، دع ما يرجح به كل منهم مذهبه على غيره.
(الثانية) : دعاة الحضارة العصرية، والنظم المدنية، والقوانين الوضعية،
الذين يقولون: إن هذه الشريعة الإسلامية المدونة لا تصلح لهذا الزمان، ولا
يمكن أن تصلح بها حكومة، ولا تستقيم بها مصالح أمة. فيجب تركها، واستبدال
قوانين الإفرنج بها، أو استقلال كل قوم أو شعب من المسلمين كغيرهم بتشريع
جديد يوافق مصالحهم، وإلا كانوا من الهالكين، ومن هؤلاء من يرى من مصلحة
قومه وبلاده المحافظة على مهمات شعائر الإسلام، وما لا ينافي المدنية من
خصائصه الاجتماعية والأدبية، ومنهم من لا يرى وجوب ذلك، وهم درجات أو
دركات في هذه المسائل، منهم المسلم المتأول، والزنديق المجاهر أو المستكتم.
(الثالثة) : دعاة الإصلاح الإسلامي المعتدلين الذين يثبتون أنه يمكن إحياء
الإسلام، وتجديد هدايته الصحيحة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف
الصالح، والاستعانة بعلوم أئمة المذاهب كلها بدون التزام شيء معين من كتب الفقه
والكلام المذهبية التي جمد عليها الفريق الأول، وأنه يمكن الجمع بينه وبين أشرف
أساليب الحضارة والنظام وهو ما ينشده الفريق الثاني، بل يرى هؤلاء أن ما
يدعون إليه - وهو أقدم هداية الدين وأحدث وسائل الحضارة والقوة - صديقان
يتفقان ولا يختلفان، وإن كلا منهما يزيد الآخر قوة وشرفًا، فدين العصر الأول
للإسلام ينفي خبث المدنية المادية الحاضرة، وينقي قلوب أهلها من الرجس،
وينقذهم من فوضى الحرية البلشفية، وأخطار الفلسفة المادية، ويزكي أنفسهم من
الظلم والفسوق والعصيان. كما أن علومها وفنونها الصحيحة تظهر من إعجاز
القرآن، ومن آيات الله في الأكوان ما يكمل به الإيمان، ويوجه قوى هذه العلوم
إلى العمران، وإصلاح نوع الإنسان.
ثم تولد من بين هذه الفرق أناس مذبذبون بين كل منها.
لا إلى هؤلاء إن نسبوهم ... وجدوهم ولا إلى هؤلاء
يذمون التقليد ويدعون الاجتهاد، ويزعمون أنهم من دعاة الإصلاح وما هم إلا
دعاة فساد. ولكنهم متقنعون بما أوتوا، راضون بما أتوا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا
فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
أولئك الذين يدعون الاستقلال في علم الكتاب والسنة، والاجتهاد المطلق في
أحكام الشريعة، وهم لم يعدوا لذلك عدته، ولا سلكوا لاحِبَ طريقته، لم يحفظوا
القدر الكافي من مفردات اللغة العربية، ولم يطبعوا على سليقة البلاغة المضرية،
ولم تستحكم لهم ملكة البيان بالتمرس والصناعة، ولا حذقوا قواعد الأصول، ولا
مرنوا على مدارك الفروع، ولا جمعوا بين حفظ النصوص وقوة استحضارها عند
عروض الحاجة إليها، وإنما قصارى أحدهم أن يقرأ تفسير آية أو شرح حديث
فيعجبه ما فهم منه، ويغتر بما عساه يخطر بباله أنه انفرد به، مما شأنه أن يقع
للعامي والخاصي، وأن يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، ومن شاء منهم أن ينصف
نفسه بامتحانها في دعواها، فليكتب كتابًا أو رسالة طويلة في بعض المباحث
الاجتهادية التي يظن أنه انفرد بها، من غير أن يراجع فيها الكتب وينقل عن
العلماء، ثم لينشرها على أهل العلم، ولو كانوا ممن لا يدعون دعواه، ويعرضها
على نقدهم ثم لينظر قيمتها بعد نقدهم إياها، على أن الصواب في مسألة واحدة من
هذا القبيل أو مسائل معدودة لا يدل على ملكة الاجتهاد المطلق، فالاجتهاد يتجزأ.
من هؤلاء الأدعياء في العلم، المغرورين بالفهم، من هم أشد إحالة ليسر
الشريعة إلى العسر، وسعتها إلى الحرج من مقلدة كتب الفقهاء وغيرهم، ومن هم
أجرأ على شرع ما لم يأذن به الله، وعلى القول على الله ما لا يعلمون، هذا حلال
وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، هذا بدعة وتلك سنة. وهم في كل ذلك مفترون
على الله، وشارعون لما لم يأذن به الله، وما أسهل ذلك على الغلاة في الدين ,
ولا سيما تحريم ما حرموا من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وما
جهلوا من العلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار سيادة الأمة وتعايش الخلق.
ومنهم من يتعدى حدود اليسر إلى ما هو أدنى إلى الإباحة المطلقة، ويتأول
النصوص بما تتبرأ به مفردات اللغة وأساليبها، حتى يكون كزنادقة الباطنية أو أشد
تحريفًا وتبديلاً، ومن هؤلاء من لا يحتج إلا بما يفهمه هو من نصوص القرآن،
فيرد الأخبار النبوية كلها، ومنهم من يرد ما لا يعجبه منها، ويستدل على ذلك بأن
معناها غير صحيح (عنده) ، فلا يمكن إذًا أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم)
قاله.
وتجد على الطرف المقابل لهؤلاء ممن يدعون مذهب السلف، وينظمون
أنفسهم في سلك أهل الحديث؛ أناسًا يأخذون بظواهر كل ما رواه الرواة من الأخبار
والآثار الموقوفة والمرفوعة أو التي لم توصف بأنها موضوعة أو مصنوعة، وإن
كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن، أو من الإسرائليات مثل كعب ووهب، أو
معارضة بالقطعيات التي لا يعرفونها من نصوص الشرع، أو مدركات الحس،
ويقينيات العقل، ويكفرون أو يفسقون من أنكرها أو خالفها.
فالجامدون على تقليد ظواهر كتب الفقه والكلام؛ كالجامدين على ظواهر كتب
الأخبار والآثار، كل منهما فتنة منفر للواقفين على علوم هذا العصر عن الإسلام؛
لأنه يتوقف عند كل منهما على ما ليس منه مما تقوم على بطلانه البراهين القطعية
أو المشاهدات الحية، أو سنن الله المطردة في الأكوان، أو النظام الذي يتوقف
عليه العمران، دع نظريات التشريع المجربة، ومسلمات التاريخ المؤيدة بعلم
طبقات الأرض وغير ذلك، تلك العلوم كلها تعد عندهم من علوم الكفار المحرمة فلا
يعتد بشيء منها، وهم عاجزون عن إقامة أي حجة أو دحض أي شبهة، ومن جهل
شيئًا عاداه، ولا سيما إذا عد جهله نقيصة له.
كذلك المتبعون لأهوائهم في دعوى الجمع بين الإسلام والرقي المدني، هم
منفرون للسواد الأعظم من هذه المدنية وعلومها وفنونها وصناعتها؛ لأنه يعزو إليها
ما يراه من جحد بعضهم للسنة النبوية بجملتها وتفصيلها ورد بعضهم السنن
القولية منها وإنكار بعضهم ... لما لا يوافق رأيه وهواه منها، وتصدى بعضهم
لتأويلها وتأويل القرآن نفسه بما تتبرأ منه مفردات اللغة وأساليبها، وإجماع الأمة
الإسلامية وسيرة سلفها. ومن أحدث ما كتبه أدعياء القرآن إنكار مصري لحل
التسري، وما يتعلق به من الأحكام الثابتة فيه وفي السنة العملية والإجماع المتواتر.
وزعم هندي منهم أن الصلوات المفروضة فيه ثلاث لا خمس، وكل منهما يحرفه
كتحريف الباطنية أو أشد، دع القاديانية الذين يدعون نزول الوحي عليهم وأمثالهم.
طلاب الإصلاح الصحيح يريدون توحيد الأمة، وقد زادها كل فريق من
هؤلاء تفريقًا، طلاب الإصلاح الحق يبغون أن تكون كما وصفها الله تعالى أمة
وسطًا، وهؤلاء يجذبها كل منهم إلى طرف من محيط الدائرة إفراطًا وتفريطًا، هذا
يريد دينا بغير حكومة إسلامية ذات سيادة وعزة، ولا حضارة علمية فنية ولا قوة
آلية، وهذا يريد دنيا بغير دين ينهى عن الهوى، ولا سياج للفضيلة والهدى، وهذا
يتخبط بين الفريقين لا يدري ما يريد ولا ما يبدئ ويعيد، وكل أولئك في ضلال
بعيد فمن الناس من يقول:] ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق [
ومنهم من يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201-202) .
هؤلاء هم المصلحون المعتدلون طلاب المنهج الوسط، وقد أشرنا إليهم هنا
وبينا حالهم ومذهبهم فيما سبق، تارة في تفسير بعض الآيات، وتارة بالمحاوارات
والمناظرات، وتارة بإنشاء الفصول والمقالات، وتارة بالفتاوى في الأسئلة
والمشكلات.
وقد نشرنا من قبل بعض هذه المباحث في كتاب سميناه (الوحدة الإسلامية)
وفي كتاب آخر سميناه (الخلافة أو الإمامة العظمى) ، وننشر اليوم بعضها في هذا
الكتاب الذي سميناه (يسر الإسلام، وأصول التشريع العام) ، فعسى أن تكون هذه
الكتب مؤيدة ومعممة لدعوة المصلحين المجددين، الداعين إلى صراط الله المستقيم
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين، وحجة
على الجامدين الميتين، وعلى الشذاذ المسرفين، المتبعين لسبل الشياطين، والله
ولي المؤمنين، والعاقبة للمتقين.
__________(29/63)
الكاتب: سعد زغلول
__________
كتاب آخر جوابي من سعد زغلول
إلى شيخه ومربيه الأستاذ الإمام
عقب نفيه إلى بيروت في إثر الحوادث العرابية
مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله مآبه.
أكتب إلى السيد الأستاذ بعد تقبيل يده الشريفة عن شكر مزيد لمكارمه التي لم
يمنع من تواترها على صنائعه تباعد الديار، ولا تنائي البلدان، معترفًا بالعجز عن
وفاء واجب الحمد، مع الاعتقاد بأن هذا لا يثنيه عن المكرمات يوليها، والمبرات
يسديها، فما يفعل الخير التماس الثناء، ولا يصدر البر ابتغاء الجزاء، إنما يحسن
محبة في الإحسان، ويبر شفقة بالإنسان.
تفضل - أدام الله فضله - على خريج حكمه، الناشيء في نعمه، بكتاب هو
المحكم آياته، المعجز دلالته، الشافي لما في الصدور، الكاشف لحقائق الأمور،
الهادي إلى سبيل الرشد وإلى صراط مستقيم فسر لمرآه، سرور العليل بالشفاء وافاه،
وتلاه متدبرًا دقيق معناه مكررًا رقيق مبناه، فازداد إيمانًا بفضل مولاه، ويقينًا
بحكمة من أوحاه، وشكر الله على صحة من أهداه، دامت نامية وارفة الظلال.
وتكرم - أبقى الله كرمه - ببيان بعض أسماء الكملة الكرام الذين دارسوه
فصولاً من المروءة وأبوابًا من النجدة، وما لهم من كمال الفضل، وما فيهم من تمام
العقل فرسمنا أسماءهم على صفحات القلوب، وحفظنا أمثلة فضائلهم في الصدور،
وتشوقنا لأن تتشرف أبصارنا برؤياهم، كما تحلت بصائرنا بمعرفة أعلامهم
ومزاياهم، وما يحتاج في إقناع النفوس بضعف تلك الحجة، وإن كانت تمكنت في
الأذهان إلى قوة البيان، فمعرفتهم بمقام فضله، ومقدار حكمته ونبله، كافية بذاتها في
الدلالة على نزاهة نفوسهم، وطهارة قلوبهم وغزارة فضلهم، وسمو عقولهم، ورجاحة
هممهم، وسجاحة شيمهم، وفي توجيه ما ثبت من الفساد في أخلاق غيرهم إلى أسباب
أخرى؛ نود أن يبينها الأستاذ الجليل في كتاب مخصوص إذا وجد من الوقت مساعدًا،
إنما نحتاج إلى قوة البيان في هذا الموضع؛ لنتبين كيف يكون تدارس المروءة بين
الأفاضل، وتداول النجدة بين الكرام الأماثل، فما رأيتنا [1] من قبل لدينا إلا فاضلاً
كريمًا يدرس الفضائل بين من لا يعرفون للفضل مقدارًا، ولا يفقهون للكرامة
اعتبارًا.
ولقد زادني ميلاً في السفر، وبغضًا في الحضر، ما جاء في وصف أولئك
الأماجد ذوي النفوس الزكية، والمحامد العلية، وما تلاه من بيان حقيقة غوازي
الأمم، ساقطي الهمم، سافلي القيم، جاهلي مقادير النعم، غير أني عدلت عن
داعية هذا الميل امتثالاً للأمر، وفي النفس حسرات لا يقاومها صبر، وبها إلى
السفر أشواق لا يتناولها حصر.
وأحسن - خلد الله إحسانه - على صنيع آدابه، اليتيم في أترابه، بحكم من
مثل التي تعودها غذاء للعقل، ونورًا للفكر، فتلقاها بقلب شاكر، وتقبلها بفؤاد حامد،
وحفظها في الوجدان، راجيًا من الله التوفيق إلى الأخذ بمعانيها، والهداية إلى اتباع ما
فيها، آملاً من مكارم مواليها، دوام تواليها.
أسفت بل خجلت مما بلغ المقام الشريف عن الشيخ عبد الكريم الفاضل [2]
ثابتًا صدقه بشهادة من سئلوا من الصادقين، ولولا التحقق من سعة بال الأستاذ
الكريم، ومن وثوقه بي فيما أرويه لكان الأسف مضاعفًا.
إني - كما تعلمون - كثير الاجتماع بهذا الشيخ، وما سمعت منه ما يقصد به
مس مقامكم الكريم، ولم يتكلم أمامي يوم أن بلغه خبر الاعتراف باليمين المعروف،
إلا بما معناه الأسف والإشفاق من عاقبة هذا الاعتراف، فلعل ما بلغ المسامع الشريفة
من هذا القبيل، والسامعون لشدة حرقتهم وبلوغ الأسف من فؤادهم مبلغه، انصرف
خاطرهم عن رعاية مقام القول فتوجه ذهنهم إلى مفهوم الكلام الحقيقي، وطبقوا المقام
على ما فهموه، ولهم العذر، فهم لم يتعودوا سماع كلام مثل هذا في جانب حضرتكم
ولو مرادًا به غير حقيقة معناه، ولم يألفوا تأويل العبارات وصرفها عن ظواهرها،
ولم يعرفوا عادة ذلك الشيخ في كيفية تأدية مراده، والعبارة في حد ذاتها يصعب
تأويلها إلى غير المتبادر للأفهام منها كل الصعوبة على من لم يكن أزهريًا متعودًا من
الشيخ سماع أفظع منها مفهومًا وأشنع تركيبًا.
وكيف يتأتى له إرادة الظاهر مع علمه بكون ذلك لا يصدر إلا عن لؤم طبيعة
وخراب ذمة وسفاهة عقل؟
أنسي ما أوليته من كرائم النعم، وجلائل الأمم؟ التي لا يزال متمتعًا بها متفيئًا
ظلالها، وإنك لمؤرق أسفًا المحترق حزنًا المشفق عليه يوم وجدت اسمه مكتوبًا في
تقارير اللئام، حتى شغلك همه عن همك، وسعيت وأنت مسجون في تنجيته من
التهمة بواسطة المحامين.
ما نسي كل هذا وما قدم العهد عليه حتى ينقض ولاءك، ويبتكر هجاءك،
ويمس مقامك، في بيت أواه، ومنزل طالما رتع في بحبوحة نعماه.
فهذه العبارة - إن صح النقل - لا يمكن أن يكون المراد بها شيئًا وراء إعلان
الأسف والإشفاق، أما كونه لم يرسل خطابًا فمولاي يرى أنه من الأدلة الصادقة على
كون ذلك الشيخ الفاضل صادقًا في ولائه، حريصًا على دوام تذكر أوليائه، إذ لم
يدعه إلى ذلك الإتمام رغبته في المحافظة على النعمة التي غرستم أصولها، وأنميتم
فروعها، ليكون على الدوام متذكرًا الحقيقية مبدئها، متصورًا صورة منشئها.
أما كتاب الشيخ محمد خليل فقد علمت ما في إرسال صورته من (حسن
التعليل) وكمال التلطف في التأديب، على ما جرى به عادتكم الشريفة، وقد
طالعت هذه الصورة، فرأيت أنها من أقوى الأدلة على شدة ميل صاحب الأصل
إلى الصدق ورغبته عن التمويه، حيث أوضح حاله صادرًا في الإيضاح عن الحق،
برهانًا على شدة إخلاصه بإثبات العبارة التي نفيتها بين يدي حضرتكم في الدائرة.
فإن إثباتها لا يصدر إلا عن تمام إخلاص لا يشوبه تمويه، ومن هنا يتبين
لحضرتكم سلامة نيته وحسن طويته.
أما عنوان الجواب، فما أداه إلى نسجه على ذلك الأسلوب إلا اعتماده على
معرفتكم بكونه من الصادقين المعظمين لجنابكم الكريم، وعلى كل حال فنحن لا
نستغني عن كريم عفوك، وجميل صفحك، فإن لم تعف عنا وتصفح كنا من
الخاسرين.
إن ظنكم فيما رأيتموه في جريدة البرهان هو الموافق للصواب، ويحق
لحضرتكم السرور بما نال ولدكم [3] فهو المتربي في نعمتكم، المغترف من بحار
حكمتكم، المحفوف بعنايتكم، المشمول بعين رعايتكم، البالغ ما بلغ ويبلغ من
مراتب الكمال بحسن توجهاتكم، وكريم تعطفاتكم، أدامكم الله لكل خير مبدأ.
رفعت تحيتكم إلى حضرات من ذكرتم أسماءهم، وأشرتم إليهم فتقبلوها
بالاحترام، وهم جميعًا يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم، وأخص منهم بالذكر منبع
الصفا ومصدر الوفاء الذاكر لفضائلكم في كل حين، والدي حسين أفندي. وحضرة
ولدكم الصادق في متابعتكم الشيخ عامر إسماعيل الذي امتن غاية الامتنان بما
اختصصتموه به في كتابكم الشريف وحضرة الشيخ سليمان العبد والسيد أمين أفندي.
ونحن جميعًا نرفع أحسن التحيات وأزكاها لحضرات الكرام الذين تشرفنا
بمعرفة أسمائهم من الذين دارسوكم فصول الكرامات، ونقدم لهم واجبات الاحترام،
أدامهم الله مثالاً للفضل وعنوانًا للكمال، ونسلم على حضرات أخينا الفاضل إبراهيم
أفندي اللقاني وإبراهيم أفندي جاد ونجلكم الكريم وجميع من بمعيتكم حفظهم الله.
أحوالنا العمومية أنتم أعلم بها منا فلا حاجة إلى بيانها. نرجو تفصيل
أحوالكم وما تشتغلون به من قراءة وتأليف إذا حسن لديكم ذلك.
كتب سامي لم تشهر إلى الآن في المزاد، ولا زلت مراقبًا لإشهاره.
حضرة البيك صاحب الكتاب، توجه قبل ورود كتابكم إلى البلد، ولم يحضر
إلى الآن. وعند العلم بحضوره أتوجه إليه وأرفع لحضرته مزيد تشكراتكم، دامت
معاليكم. أفندم , في 8 جا سنة 1300.
... ... ... ... ... ... ... ... صنيعكم - سعد زغلول
أرجو عدم انقطاع المراسلات , وأتمنى أن لا أحرم كل أسبوع من كتاب
تطمينا للخاطر وترويحًا للفؤاد، ولمولاي في إجابة هذا الرجاء النظر العالي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعد [3]
__________
(1) الكلمة في الأصل هكذا (رايتنا) ، ولعل المراد فما رأيناك إلخ، الخطاب للأستاذ الذي بعث الفضيلة بالعلم والعمل في جماعة نكثوا عهده، وخانوا وده ووشوا به عند الشدة.
(2) ذكر لي الأستاذ الإمام رحمه الله أيام غضب الشيخ عبد الكريم سلمان علي؛ أنه كان بلغه في أثر الفتنة العرابية أنه طعن فيه يتبرأ من كونه من حزبه، فكتب في ذلك كلمة في كتاب لآخر؛ أظنه سعدًا قال: وأما ذلك الشيخ الذي اكننته كني وأدنيته مني، وجعلته في مكان النحو من ابن جني فهو يصرح بسبي ولا يُكني.
(3) يعني سعد نفسه، وأظن أن الخبر المشار إليه هو اشتغاله بالمحاماة.(29/71)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اقتراح إبطال الأوقاف الأهلية
ومكان الدين من الدولة المصرية
في قسميها التشريعي والتنفيذي
اضطربت هذه البلاد اضطرابًا عظيمًا؛ لاقتراح أحد أعضاء مجلس النواب
وضع قانون تلغى به الأوقاف الأهلية، ويحرم إنشاء شيء منها في المستقبل؛ لما
فيها من المفاسد الاقتصادية وغيرها، فكان الناس في هذا الاقتراح فريقين: فريقًا
يود ذلك لأن في أيديهم أعيانًا من هذه الأوقاف، يريدون أن يتصرفوا فيها تصرف
المالكين، فتكون لهم دون من بعدهم، ويؤيد هذا الفريق زنادقة المسلمين دعاة
الإلحاد في هذه البلاد، وكل ما يحب من غير المسلمين إبطال حكومتها لكل ما بقي
من التشريع الإسلامي فيها، وفريقًا لهم منافع في بقاء هذه الأوقاف على حالها،
ويؤيدهم جمهور علماء الشرع، ومن يؤلمهم التعدي على التشريع الإسلامي أن
يكون مباحًا للبرلمان، فيتصرف فيه برأي أكثرية أعضائه، فيكون تشريعه فوق
الشرع المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو اجتهاد أئمته،
وهذه الأكثرية قد تحصل بمن لا يدينون بالإسلام من ملاحدة وكتابيين، فإن من
هؤلاء الملاحدة من صرحوا - حتى في بعض جلسات النواب الرسمية - بردتهم عن
الإسلام وطعنهم في القرآن؛ لأنه يخالف مدنية أوربة في إباحة تعدد الزوجات
ولغير ذلك.
كتب كل من الفريقين مقالات كثيرة في الجرائد، يؤيد فيها رأيه بأدلة من
الشرع والقوانين والمصلحة العامة، ولا يعدم الفريق الأول شيئًا منها، فإن في هذه
الأوقاف من المفاسد ما لا يجيزه شرع الله بنص صريح، ولا باجتهاد صحيح على
ما فيه من المفاسد الاقتصادية، وكثر إلحاح أناس من الفريقين عليّ أن أكتب في
تحقيق الحق في المسألة؛ ما يعهدون أو يعتقدون من فصل الخطاب في أمثال هذه
المشكلات كمسألة الخلافة وغيرها، فكنت أقول لكل مقترح: إن لدى كل فريق
صوابًا وخطأ وحقًّا وباطلاً، وضارًّا ونافعًا، وإن الأوقاف الخيرية المسكوت عنها
الآن كذلك، فيها أوقاف باطلة مخالفة لأصول الشرع وفروعه، وفي التصرف فيها
مثل ما في التصرف في الأوقاف الأهلية من المفاسد والمضار، وتمحيص القول في
هذا الباب كله، وتحقيق الحق فيه من كل وجه لا يمكن إلا بتأليف كتاب ككتاب
(الخلافة أو الإمامة العظمى) ، ولو كان البرلمان المصري والحكومة يأخذان بما يقوم
عليه الدليل الأقوم، وتظهر فيه المصلحة العامة، لتركت جل أعمالي وتفرغت لذلك.
ولكن لا سبيل إلى هذا ولا سبيل إلى إقناع أهل الشأن به.
على أنه قد وضح من مجموع ما كتب الكاتبون أن للوقف أصلاً في الشرع
الإسلامي ثابت بالنص والعمل المتواتر من العصر الأول إلى اليوم، فلا يمكن
إبطاله باجتهاد مجتهد متقدم ولا متأخر، وإن سوء التصرف فيه وكون بعضه مخالفًا
لمقاصد الشرع، أو ما يعبر عنه بروحه وهو مناط التشريع، وبعضه مخالفًا
للنصوص أيضًا بحيلة شرعية أو بآراء فقهية؛ فهو واقع لا مراء فيه، فقلما يوجد
وقف أهلي أريد به القربة ومرضاة الله تعالى التي هي الأصل فيه، وما عساه يحلي
به مما صورته الخير، فمنه ما هو شر ومنه ما يحول بسوء التصرف إلى شر
وفساد، ومن ذلك ما يوقف على تشييد القبور وتجصيصها أو تزيينها، ووضع
المصابيح عليها وحمل الأطعمة إليها في الأعياد والمواسم المبتدعة أو المبتدع فيها
وغير ذلك، قلما يوجد في شيء من ذلك شيء مشروع يرضاه الله تعالى، فالوقف
عليها باطل كالوقف على بعض الوارثين لحرمان الآخرين.
ولكن سوء التصرف والاستعمال ليس مقتضى للشرع في ذلك، ولا لازمًا من
لوازمه، حتى يقال: إنه يجب إبطاله بإبطال مقتضيه وملزومه، فإن المبطلين
والأشرار يسيئون التصرف بجميع النعم الفطرية والكسبية: يسيئون التصرف
بمداركهم العقلية وبحواسهم وقواهم كلها، ويسيئون التصرف بأموالهم وبمعاملة
أزواجهم وأولادهم، وبالقوانين والعلوم والفنون والصناعات، فالواجب على أنصار
الحق وأهل الخير من أولي الأمر والحكم أن يمنعوا سوء التصرف بالشرائع والقوانين
وبالقوى والمشاعر وبالنعم؛ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما يجب على العلماء أن
يبينوه للناس.
***
الدين في الدولة المصرية
فأول ما أنكره ويوافقني على إنكاره كل مسلم يعرف دينه ويغار عليه؛ أن هذا
البرلمان المصري لا يجوز أن يعطى من حق التشريع ما ينسخ شيئًا من شرع الله
الثابت بنص الكتاب أو السنة الصحيحة؛ التي جرى عليها عمل سلف الأمة أو
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأعني ليس للقانون الأساسي أن يعطى هذا الحق؛
وهو يعترف بأن دين الحكومة الرسمي هو الإسلام.
وأما ما دون ذلك من مسائل الفقه الاجتهادية: فلأولي الأمر أن يتركوا منها ما
ضعف دليله، أو ضر فعله، أو كان منافيًا لمصلحة الأمة العامة، فإن مخالفة مثل
هذا من اجتهاد الفقهاء لا ينافي الإسلام.
وقد آن لهذه الحكومة الدستورية أن تفرق بين نصوص الإسلام القطعية من
الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ وبين اجتهادات أئمة الفقه الظنية، فتعلم أن
الأول لا بد من الاعتراف به لمن يدين الإسلام، وأن الثاني تحكم فيه الأدلة ومنها
مراعاة مصلحة الأمة، وإلا كان نص القانون الأساسي في كون دين الدولة هو
الإسلام لغوًا، كما كان في قانون الجمهورية التركية.
وقد ظهر بهذه المسألة مسألة ما اقترحته الحكومة من إصدار قوانين ببعض
أحكام الزوجية من: نكاح وطلاق ونفقة وفسخ عقد وتطليق حاكم؛ أن بعض علماء
مصر لا يرضيه من الحكومة إلا أن تتقيد بتقليد ما قرر اعتماده في كتب الفقه
المشهورة في الأزهر على مذاهب الفقهاء الأربعة المشهورة، بل يوجب عليها بعض
الحنفية منهم التقيد بمذهبهم وحده، وإن كان بعض المذاهب الأخرى أقوى منه دليلا ً،
وأقوم مصلحة وأيسر في التعامل، وأن بعضهم يقول بوجوب النظر في أدلة الأحكام
واتباع الأقوى والأصلح منها، فعلى الحكومة أن تؤلف مجلسًا شرعيًّا من الفريقين
يكون من أعضائه شيخ الأزهر، والمفتي الأكبر، ورئيسا المحكمة الشرعية الكبرى
والعليا، وبعض المشتغلين بالتفسير والحديث وآثار السلف وتطرح على هذا المجلس
ما تحتاج إلى معرفة حكم الشرع فيه، وتعتمد ما تقوم الحجة على أنه الحق الموافق لما
ثبت بنصوص الكتاب والسنة القطعية من يسر الشرع، وتقرر في نظام هذا المجلس
أنها مقيدة من الإسلام بالمُجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة الذي أجمعوا على
تكفير جاحده، ولا تقيد بغير ذلك من المسائل الخلافية بل تتبع فيها الأصح والأصلح.
اقترح بعض النواب في مجلسهم إلغاء منصب المفتي الرسمي؛ لأجل الاقتصاد
المالي، وليس راتب المفتي وكاتبه ونفقة مكتبه بالشيء الذي يعد كثيرًا
على الحكومة المصرية الغنية المسرفة؛ التي يمكن إدارة جميع أعمال وزاراتها
ومصالحها بنصف ما تنفقه عليها أو أقل من نصفه، وإنما الذي صار يثقل على
كثير من النواب أن يكون لهذه الحكومة مظهر للشرع الإسلامي مثل مظهر المفتي
الأكبر، ما أشد جهل هؤلاء المسلمين الجغرافيين بطبائع المال ونظام الاجتماع،
كنا ألفنا لجنة في حزب الاتحاد السوري؛ لتضع مشروع قانون أساسي لسورية،
واخترنا لرياستها إسكندر بك عمون المحامي الشهير؛ لأنه أعلم الأعضاء بالحقوق
والقوانين، فقال: أنا لا أقبل رياسة لجنة كهذه وفيها السيد رشيد؛ وهو أعلمنا
بالشريعة الإسلامية التي يجب علينا الاستمداد منها في هذا القانون؛ لأن أكثر أهالي
البلاد من المسلمين.
إننا نرى كثيرًا من المسلمين، ينشرون في بعض الصحف مقالات، يقيمون
بها الحجة على الحكومة المصرية بمخالفة نصوص الدين الإسلامي القطعية في
أحكام وأعمال بعض وزاراتها ومصالحها ولا سيما وزارتي المعارف والحقانية،
وهو الدين الرسمي لها بنص القانون الأساسي، ومن أفظع هذه المخالفة بل الجناية
على الأمة فيها إباحة الطعن في الإسلام في الجامعة المصرية، وإفساد عقائد النابتة
ووجدانها وآدابها النفسية بالإلحاد والإباحة، فيجب على الحكومة أن تتنصل من هذه
المطاعن بما ذكرنا؛ ليعلم رجالها وجمهور الأمة بما هو دين لا مندوحة عن الإيمان
به واحترامه، وما هو محل نزاع واجتهاد لا يكلفه إلا من ثبت عنده.
إني أوافق الذين يعتقدون من رجال الحكومة وغيرهم أنه ليس من الميسور لها
أن تدير نظام حكومة مدنية في هذا العصر، مع التزام مذهب الحنفية أو الشافعية
مثلاً، ولا سيما المذهب التقليدي الذي يوجبه المقلدون من أهل الأزهر وغيرهم من
كتبهم، وأقول مع هذا: إن الله لم يوجب على فرد ولا حكومة التزام تقليد كتب
مذهب من المذاهب، بل أبطل ذلك في محكم كتابه، ومن يدعي وجوب هذا التقليد
لتحقيق الأخذ بالإسلام، فهو أجنى على الإسلام ممن يرده وينكره، فقد كان الإسلام
على أكمله في الزمن الذي لم يكن فيه من هذه الكتب شيء، على أن في هذه الكتب
شيئًا كثيرًا تحتاج إليه الأمة، ولكن يكفي في ثبوت الإسلام ما أجمع عليه أهل
الصدر الأول من الدين؛ ومنه نصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة،
وما عداه فهو محل للاجتهاد، ومن أصول الإسلام فيه مراعاة مصلحة الأمة العامة
في جميع المعاملات السياسية والقضائية والإدارية، وإنه لا يكلف أحد أن يدين الله
باتباع أحد من الفقهاء فيه إلا ما صدر به حكم حاكم شرعي، فيجب اتباعه إقامة
للنظام العام.
__________(29/75)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
المسألة السورية بمصر
كتبنا في جزء سابق كلمة وجيزة؛ فيما وقع من الخلاف بين أعضاء اللجنة
التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني وبين رئيسها السابق الذي اقتضى أن تقرر
اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية الدائمة لها، وذكرنا أن بعض الفضلاء يسعون
للصلح بين الأعضاء، والرئيس السابق الذي ألف لجنة جديدة تعترف له برياسته
الملغاة، ليس فيها أحد من أعضاء اللجنة القانونية إلا واحد مستخدم عنده براتب
شهري، ونذكر الآن بالإيجاز أن الساعين بالصلح قد فشلوا، وظهر لهم ولغيرهم أن
سبب الخلاف الذي شجر؛ هو ما ثبت من أن الرئيس السابق يسعى مع أخويه
لاستغلال القضية السورية وثورتها لدى فرنسة، بزعمه أنه يمكنه بنفوذ اللجنة
إخضاع البلاد كلها لفرنسة بالشروط التي يتفق هو معها عليها سرًّا، وينفذها باسم
اللجنة جهرًا، وقد صرحت الجرائد الفرنسية حتى الطان منها: بأن أولاد لطف الله
معترفون بالانتداب ويسعون للاتفاق مع فرنسا خلافًا لرشيد رضا وأسعد داغر من
الأعضاء المتطرفين الذين يسعون للاستقلال العربي، وأن لطف الله وجد قوة جديدة
ترجح على هؤلاءالمتطرفين بمشايعة الدكتور عبد الرحمن شاهبندر له، واشتغاله
معه في خدمته السياسة الفرنسية.
كانت حجة طلاب الصلح علينا؛ أن اتفاق ميشيل وشاهبندر يحدث مضار
كثيرة في القضية السورية، يزيد شرها على قبولنا لرياسة ميشيل للجنة مع حفظ
الأكثرية فيها، واشتراط جعل الرياسة صورية بسلب الرئيس حق تمثيل اللجنة في
الخارج والكلام باسمها إلخ، ما قالوا: إنه قد قبله، وقبل أن يوضع في النظام
الداخلي.
وقد حدث بعد العلم بتعذر الاتفاق أن الهيئات السورية في داخل البلاد
وخارجها وفي مقدمتها سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وسائر جماعة
المرابطين في الصحراء، كلها أيدت إلغاء اللجنة للرياسة الذي اقتضى خروج
رئيسها السابق من جماعتها، وأصبح تأليفه للجنة أخرى عبثًا وسدى، ثم إن
الحزب الوطني في الأرجنتين قد ألغى تمثيل الدكتور شهبندر له في اللجنة كما فعل
الحزب الوطني في شيلي، والجمعية السورية الوطنية في الولايات المتحدة بإلغاء
تمثيل توفيق أفندي اليازجي، فلم يبق للجنة الجديدة وجود يصح أن يستند إلى
مؤتمر جنيف، ولا حزب يمكن أن تتوكأ عليه، ولا عصبية في الوطن ولا في
المهاجر يمكن أن يتقرب رئيسها إلى فرنسة بها، والمال وحده لا يفعل ذلك، وقد
راينا منتهى ما عمل، فإذا هو ضعف وعجز وخذلان.
رأينا وعلمنا أن بعض الجرائد السورية الساقطة، تنشر لهم بالأجور الكبيرة
مقالات في إطراء أنفسهم بما يهوون من ألقاب الرياسة والزعامة ! والطعن في
خصومهم بألفاظ البذاء والسفاهة حتى لقب الكلاب. وتنزهت الجرائد المصرية
المحترمة عن نشر شيء من ذلك لهم، وعهد التضليل لا يطول في هذه المسالة،
فسيعلم من لم يعلم من الشعب السوري من يخدمه ويخدم وطنه، ومن يستغلهما
ويتجر بهما.
ولكن الذي بدا لنا من حيث لم نحتسب، أن يخيب الأمير ميشيل وشقيقه آمالنا
في آدابهما الشخصية برضاهما من مستخدميهما أن يكتبوا تلك المقالات الحمقاء
المشتملة على التبجح الدنيء؛ بذكر موائد سراي لطف الله وإهانة ضويفهم الآكلين
عليها وضيوف القوم أمثالهم أو أكبر؛ ومن أحقر ذلك وأمسه بكرامتهم زعمهم أن
فلانًا وفلانًا بايعا جورج لطف الله بإمارة لبنان عقب غداء ثقيل.
ألا يفهم هؤلاء أن هذه مسألة لا تذكر إلا مداعبة ومزاحًا أو سخرية واستهزاء؛
لأن الإمارة في مثل سورية ولبنان لا تكون بمبايعة أحد من أهلهما ولا سيما في
خارجهما وهما تحت سلطة أجنبية، فلا يكون الحديث فيها من الجد في شيء.
إننا عاشرنا ميشيل وجورج بضع سنين، لم نر فيها منهما إلا الأدب العالي
في القول والعمل؛ ولذلك كنا مغتبطين بمعاشرتها، وقد قال لي الأمير ميشيل عقب
قرار 19 أكتوبر: إن اختلافنا في السياسة لا يمنع الصداقة الشخصية بيننا، فإن
مثل هذا معهود بين الأصدقاء في أوربة وغيرها، وقلت له أخيرًا عندما اجتمعنا
باقتراحه؛ لبحث في مسألة الصلح إنه لا يليق بآدابكم الشخصية استئجار السفهاء
البذاء، والطعن واستئجار الجرائد لنشرها ثم توزيعها من مكتب لجنتكم، ولا تظنوا
أن معرته لا تلحقكم فقد قال الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذاة الناس من رابط الكلب
فأطرق ولم يعتذر، وقد ذكرت له أنني أحتقر الشتامين وجرائدهم فلا أقرأها؛
ولذلك أرد لمكتبه السياسي بشارع عابدين جميع الجرائد التي يرسلها بغلافها وطابع
البريد عليها كما هو، ولولا أنه كان مما نشروه في منشوراتهم وجرائدهم المأجورة
للكذب؛ أننا قبلنا أن يكون من قواعد الصلح إعادة رياسة الجنة كما كانت، وسكتوا
عن القيود التي جعلنا الرياسة معها سدى لما نشرت هذه الكلمة هنا، وقد كان أخسر
الناس بما حصل عاشق الرياسة وعاشق الزعامة؛ إذ خسراهما وخسرا ما كان من
حسن ظن الأمة بهما (والعاقبة للمتقين) .
__________(29/79)
شوال - 1346هـ
أبريل - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
نظرية النصارى في خطيئة آدم
الطعن في حديث البخاري
س 10و 11 لصاحب الإمضاء
حضرة صاحب الفضيلة والإجلال؛ شيخ الإسلام ومفتي الأنام مولانا الأستاذ
الإمام السيد رشيد رضا نفع الله المسلمين به.
السلام عليكم ورحمة الله (أما بعد) : فإن اعتقادي ومذهبي واعتقاد الكثيرين
من الذين اطلعوا وقرءوا مؤلفات فضيلتكم في الكتب والصحف: أن فضيلتكم أكبر
عالم بحقيقة روح الإسلام ومقاصده السامية، وأعلم المدافعين عنه الذابين عن
بيضته، فنسأل المولى جل ثناؤه أن ينسأ في عمركم، ويمتعكم بالصحة والهناء.
رحمةً منه تعالى بالمسلمين إنه سميع مجيب. اللهم آمين.
أحيط علم سيادتكم أنه ضمني وبعض المبشرين مجلس، فتباحثنا في الدين
ونتج من هذا البحث؛ أن أسأل سيادتكم هذين السؤالين، وأرجو أن تتفضلوا
وتتكرموا بالجواب عنهما في المنار الأغر المحبوب.
أولاً - يقول المبشر: إن خطيئة آدم صلى الله عليه وسلم بأكله من الشجرة
التي نهي عن الأكل منها، صارت عالقة بذريته جميعهم لم يخل منها أحد؛ مهما
عمل صالحًا وتاب من ذنوبه؛ لذلك جاء المسيح وصلب، وبصلبه كفر عن خطيئة
من آمن به (أي المسيح) من ذرية آدم، ومن لم يؤمن بالمسيح أنه مات فداء عنه،
لم يزل خاطئًا بالوراثة من آدم، مهما عبد الله أو تاب من ذنوبه؛ لأنه بدون سفك
دم (كذا) لم تكفر خطيئته، وأن المسلمين لحد الآن يضحون عن أنفسهم، وأن
النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نفسه، وقال ما معناه: اللهم اغفر لي ذنوبي،
واجعل هذه الضحية فداء عني.
فما هو اعتقاد المسلم في ذلك، وهل حقيقة خطيئة سيدنا آدم عالقة بذريته لا
يمكن أن تغفر أبدًا أم لا علاقة بين خطيئة آدم صلى الله عليه وسلم وذريته؟ أرجو
الجواب.
ثانيًا - تقول العلماء: إن أصح كتب الحديث صحيح البخاري رضي الله
عنه، ويليه صحيح مسلم رضي الله عنه إلخ، فهل إذا أنكر أحد من المسلمين حديثًا
في صحيح البخاري يعد طاعنًا في الدين الإسلامي؟ مع العلم أن الأحاديث دونت في
الكتب بعد زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمدة مديدة، وأن البخاري رفض
أكثر من ستمائة ألف حديث، بل قال أحد نقاد الأحاديث: إن في صحيح البخاري
نفسه أحاديث موضوعة مثل (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) يعنى من الدم، ذكر
في (كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع) .
أرجو الجواب أثابكم الله تعالى
... ... ... ... ... ... ... ... المخلص المتعاني في حبكم
... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز نصحي عبد المجيد
... ... ... ... أمين مخزن الجمية الزراعية الملكية بأشمون ...
(جواب المنار)
أقول ما ذكر السائل من المبالغة في الثناء والتفضيل، فليس مما يثبت في
نفسه بما ذكره من دليل، وأما دعاؤه فأسأله تعالى أن ينفعني به ويجزيه عني خيرًا
وأما السؤالان: فأجيب عنهما بالاختصار؛ لما سبق لنا في موضوعهما من تفصيل.
***
عقيدة النصارى في خطيئة آدم وفداء المسيح
اعلم أولاً أن هؤلاء الدعاة للنصرانية الملقبين بالمبشرين جيش من جيوش
الدول الغربية؛ لفتح البلاد الشرقية ولاسيما الإسلامية كما قال لورد سالسبوري
الوزير الإنكليزي الشهير: (إن مدارس المبشرين أول خطوات الاستعمار، فأول
ما يحدثونه في البلاد التي ينشرونها فيها تفريق الكلمة، وإيقاع الشقاق بين الشعب
الواحد حتى ينقسم على نفسه، ويكون بعضه لبعض عدوًا) . هذا، وإن الله تعالى
قد أكمل دينه الذي أرسل به جميع رسله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى
لو كان موسى وعيسى وغيرهما من الرسل أحياء، لما وسعهم إلا اتباعه صلى الله
عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم أن يقرأ شيئًا من كتب هؤلاء المبشرين، ولا أن
يضيع وقته بمجادلتهم؛ لأنهم بجملتهم جند مستأجر؛ للإفساد في الأرض كما علمنا
بالاختبار، وإن شذ بعض الأفراد.
ثم اعلم أن عقيدة كون المسيح جاء ليفتدي البشر من خطيئة آدم؛ هي عقيدة
وثنية قديمة كما هو مفصل في كتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ،
ومثلها عقيدة التثليث، وأن مستقلي الفكر من علماء النصارى في أوربة وغيرها،
لا يعتقدون هذا ولا ذاك، ولا ما يتعلق بهما من البدع كالعشاء الرباني، وتحويل
الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه حقيقة بمجرد القداس الذي يتلوه الكاهن أو
بدونه؛ لأن كل ذلك مخالف لبداهة العقل ومدارك الحس جميعًا، ومخل بعظمة الله
وتنزيهه عن الظلم والحلول في أجساد خلقه، فبعض أحرارهم فند هذه العقائد
الخرافية بكتب كثيرة، وبعضهم يسكت للجمهور عليها؛ لئلا تكون معرفة العوام
ببطلانها سببًا لمروقهم من الدين، واستباحتهم لجميع الرذائل والمعاصي المفسدة
للعمران.
أذكر أنه كان لهؤلاء المبشرين مدرسة في باب الخلق، فبينما كنت مارًّا من
أمامها منذ 29 سنة، قال لي رجل منهم: تفضل واسمع كلام الله، فدخلت، فإذا
بخطيب يقرر لهم عقيدة الصلب والفداء، فلما أتم كلامه قمت بجانبه، وقلت له:
اسمح لي أن أعيد عليك ما فهمته منك؛ لتعلم هل كان فهمي صحيحًا كما أردت أم
لا؟ فأذن، فقلت:
ملخص كلامك: أن الله تعالى وقع في مشكل عظيم بعد خلقه لآدم وعصيان
آدم له؛ وهو أنه لما كان سبحانه رحيمًا كامل الرحمة، وعادلاً كامل العدل، رأى
أنه إذا عاقب آدم لا يكون رحيمًا، وإذا عفا عنه لا يكون عادلاً، فظل يتفكر في
استنباط وسيلة للجمع بين العدل والرحمة، حتى اهتدى إليها بعد ألوف من السنين
وذلك في السنة التي ولد فيها المسيح، وهذه الوسيلة هي أن يعذب المسيح المعصوم
من كل ذنب بعذاب الصلب، وقبول اللعن، ودخول الجحيم - المسجلين في الكتاب
على كل من يصلب - لأجل إنقاذ آدم وذريته من عذاب تلك الخطيئة التي لحقت
بهم كلهم على دعواكم، وبذلك جمع بين العدل الرحمة.
ولكنني رأيت أن الظاهر المتبادر من هذه الحكاية؛ أن الرب سبحانه وتعالى
قد فقد كلاً من العدل والرحمة بتعذيبه للبريء وعفوه عن المذنب بل عن الملايين
من المذنبين، فضلاً عما يلحقهم من خطيئة آدم على زعمكم.
ثم إنه مع هذا لم يتم للرب تعالى عما تقولون ما أراد من الرحمة ببني آدم؛
لأنكم تقولون: إنه لا ينال نعمة النجاة من العذاب بهذا الفداء إلا من صدق، هذه
الحكاية غير المعقولة وغير اللائقة بجلال الرب وعظمته وتنزهه عن كل نقص،
ومن المعلوم عندنا بالضرورة أن أكثر بني آدم لم يصدقوها، فإذًا لا بد أن يعذبهم
الله بذنب آدم، حتى من كان منهم لم يعص الله تعالى قط، فهل تدعوننا لأن ننسب
كل هذا الجهل والحيرة والفشل إلى الله تعالى الكامل المنزه عن كل نقص؟
فصاح المسلمون الحاضرون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال القس
المبشر: جوابي أننا غير مأمورين هنا بأن نجادل أحدًا، ولكن لنا مكتبا مفتوحًا؛
لأجل الجدال، فإذا زرتنا فيه نجيبك عن كل ما ذكرته، قلت: إننى على علم
برهاني فيما أقول وأعتقد، فلست بمحتاج إلى جوابكم عن شيء. ولكن كيف
تلقنون الناس ما يفسد عليهم إيمانهم بتنزيه الله وتعظيمه، وتتركونهم في ضلالهم
يعمهون إن صدقوكم؟
وإذا أراد السائل الفاضل أن يعرف فساد هذه العقيدة بالأدلة التفصيلية، فليقرأ
تفسير قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ
وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) .. إلخ من أواخر سورة النساء في
الجزء السادس من تفسيرنا، أو رسالة (عقيدة الصلب والفداء) المستخرجة من هذا
التفسير وهي مطبوعة على حدتها مع رسالة (نظريتي في قصة الصلب) للمرحوم
الطبيب محمد توفيق صدقي، ففيهما يجد القارئ ما لا يجده في الأسفار الكبار
المؤلفة في الرد على النصارى مؤيدة بالحجج من كتبهم وكتب أحرار علماء أوربا.
وأما سفك الدم في الأضاحي وأمثالها، فلم يشرع في الإسلام لمثل هذه
الخرافات الوثنية، وإنما شرع شكرًا لنعم الله تعالى علينا بهذه الأنعام بالتمتع بها مع
حمده وشكره وإطعام المحتاجين منها، وقد قال عز وجل فيها: {لَن يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) ، فاقرأ الآية وما قبلها،
تجده صريحًا في ذلك، وقد فصلناه من قبل.
وأما ما ذكره المبشر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند التضحية كذا
فهو كذب؛ يريد به إثبات الفداء في الإسلام بالمعنى الوثني الذي يقولون به.
***
أحاديث البخاري وحكم من أنكر شيئًا منها
لا شك في أن أحاديث الجامع الصحيح للبخاري في جملتها أصح في صناعة
الحديث، وتحري الصحيح من كل ما جمع في الدفاتر من كتب الحديث، ويليه في
ذلك صحيح مسلم، ومما لا شك فيه أيضًا أنه يوجد في غيرهما من دواوين السنة
أحاديث أصح من بعض ما فيهما، وما روي من رفض البخاري وغيره لمئات
الألوف من الأحاديث التي كانت تروى يؤيد ذلك، فإنما نفوا ما نفوا لينتقوا الصحاح
الثابتة. ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى الذي
عرفوا به الموضوع في علم الرواية ممنوعة، لا يسهل على أحد إثباتها. ولكنه لا
يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر، قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامة
الوضع؛ كحديث سحر بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكره بعض العلماء
كالإمام الجصاص من المفسرين المتقدمين، والأستاذ الإمام من المتأخرين؛ لأنه
معارض بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 8-9) وقد أجاب
الجمهور عن ذلك بما كانوا يرونه مقبولاً، لا يمس مقام الرسول صلى الله عليه
وسلم وعصمته. ويغنيكم عن التفصيل في هذا المقام ما فصلنا فيه في باب الفتاوى
من الجزء الماضي. هذا، وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات، والغرائز
ليست من أصول الدين ولا فروعه، كما بيناه في تلك الفتوى.
فإذا تأملتم هذا وذاك، علمتم أنه ليست من أصول الإيمان ولا من أركان
الإسلام؛ أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه، بل لم
يشترط أحد في صحة الإسلام ولا في معرفته التفصيلية الاطلاع على صحيح
البخاري والإقرار بكل ما فيه، وعلمتم أيضًا أن المسلم لا يمكن أن ينكر حديثًا من
هذه الأحاديث بعد العلم به إلا بدليل يقوم عنده على عدم صحته متنًا أو سندًا،
فالعلماء الذين أنكروا صحة بعض تلك الأحاديث، لم ينكروها إلا بأدلة قامت عندهم
قد يكون بعضها صوابًا وبعضها خطأ، ولا يعد أحدهم طاعنًا في دين الإسلام.
وأما حديث (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) يعني من الدم، فالذي في اللؤلؤ
المرصوع - نقلاً عن النووي - أن البخاري ذكره في تاريخه لا أنه رواه في
صحيحه، وما يدريك أنه ذكره في ترجمة أحد الوضاعين، واستشهد به على أنه
يروي الموضوعات.
وأما قول السائل: إن البخاري رفض أكثر من ستمائة ألف حديث فهو خطأ،
أخذه من قوله رحمه الله تعالى: (صنفت الجامع الصحيح من ستمائة ألف حديث
في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى) ولم تكن بقية هذه
الستمائة موضوعات عنده، بل كان منها الصحيح والحسن والضعيف، ولم يكن
يثبت في الجامع الصحيح كل ما صح عنده، بل كان من عنايته في أحاديثه فيه
اشتراط العلم باجتماع كل راو بمن روى عنه؛ لأجل الثقة بسماعه منه، ولم يكن
كل ما ذكره فيه على هذا الشرط بل الأحاديث المسندة بالأسانيد المتصلة، وكان
الذي يحفظه أكثر من ذلك، قال بعضهم: كان يحفظ ألف ألف حديث، وأحاديث
الجامع الصحيح المسندة أي غير المعلقات والمتابعات 7397 آلاف مع المكرر،
وإذا أضيفا إليها بلغت 9083 بالمكرر على ما اعتمده الحافظ ابن حجر في عدها.
***
حديث شد الرحال ومخالفة المسلمين له
(س12، 13) من صاحب الإمضاء في بلد الدية (السودان) .
سيدي الأستاذ المصلح فخر الإسلام والمسلمين، صاحب مجلة المنار السيد
محمد رشيد رضا: السلام عليكم ورحمة الله؛ إيفاء لما التزمتم به بالنصح لعامة
المسلمين، نرجوكم إفادتنا بالآتي:
1 - الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد
الأقصى) ما معناه؟
2- أرى الناس يسافرون لزيارة أضرحة الصالحين، وكذا أناس يسافرون
لحفلات تقام في بعض عواصم المدن، وأناسًا يسافرون للخارج لحضور حفلات
تقام هناك، هل يصح منهم قصر الصلاة؟ أفتونا مأجورين، وابسطوا لنا القول
جزاكم الله خير الجزاء.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي إسماعيل
... ... ... ... ... ... ... ... ناظر محطة الدية سودان
(ج) الحديث رواه الجماعة كلهم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري
وعبد الله بن عمر، ومعناه أن السفر إلى هذه المساجد الثلاثة مشروع وأنه غير
مشروع إلى غيرها، أما سبب ما أثبته من كونه مشروعًا إليها؛ فلما رود في
أحاديث أخرى من فضلها ومضاعفة ثواب الصلاة فيها وكذا غيرها من العبادات.
وأما كونه غير مشروع إلى غيرها؛ فإن العبادات لا تشرع إلا بنص وقد جاء
النص هنا بالمنع، وأما سببه وحكمته؛ فلأن غير الثلاثة من المساجد متساوية في
الفضل الديني، فالسفر إلى بعضها عبث، والذين يسافرون إلى أضرحة الصالحين
سواء أكانت في المساجد أم لا؛ لإقامة الاحتفالات هنالك لهم، وبأسمائهم يعتقدون أن
أضرحتهم والصلاة لديها أو في المساجد التي بنيت عليها له مزية فضل وثواب،
وهذا كذب وافتراء على الله، وشرع لم يأذن به الله والحق خلافه، بل يعتقدون أنهم
ينفعون من يزورها ويدعوهم لديها، ويدفعون عنه المضار، وفي ذلك من الشرك
والخرافات ما فيه، وقد بينا هذا بالتفصيل والدلائل في أجزاء كثيرة من المنار فلا
نعيده.
وأما استباحة رخص السفر من تيمم وقصر للصلاة، فمن اشترط في السفر
المبيح لها أن لا يكون لسفر معصية كالشافعية، لا يبيحها للمسافرين إلى الموالد
المعهودة والزيارات غير المشروعة، والمختار عندنا أن ذلك ليس بشرط.
نعم.. إن من سافر إلى مسجد آخر لسبب فني أو تاريخي أو علمي لا يدخل
عمله في عموم المنع؛ لأنه من المباحات لا من القربات والعبادات، فالعبادة هي
التي يشترط فيها ما ذكر، وكذا من يسافر إلى المساجد التي اتخذت مدارس كالأزهر
وجامع الزيتونة لأجل طلب العلم، فإن طلب العلم في كل المساجد مشروع، والله
أعلم.
***
حقوق الوالدين وحد عقوقهما
(س15) من صاحب الإمضاء في دنقلة السودان.
سيدي الفاضل الشيخ رشيد رضا، نفع الله به العباد:
السلام عليكم يا سيد ورحمة، وبعد: نرجو إفتاءنا بما هو آت:
إن حقوق الآباء على الأبناء غامضة بحسب نظر الكثيرين، وكثير من الآباء
يتطلب الدخول في كل شخصيات ابنه بدعوى هذا الحق المبهم، كما أن جل الأبناء
يريدون الحرية المطلقة في المعاملات والمجاملات، فوافونا في مجلتكم المنار بما
جبلتم عليه، وأرشدونا لكتاب يشفي العليل مع استقصاء الحد للعقوق وحكمة ذلك،
وهل للأب أن يأمر ابنه بمقاطعة أحد من المسلمين؛ بدعوى عدائه له؟ والله
يحفظكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد النجار
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع بدنقلة
(ج) هذا موضوع كبير، لا يمكن بسطه إلا في سِفْر كبير، ويمكن لمن
اطلع على الآيات الواردة فيه في سورتي الإسراء ولقمان، وكان فقيه النفس أن
يستغني بها في معرفة حقوق الوالدين، فكيف إذا أضاف إليها الأحاديث الصحيحة
فيها وفي كون العقوق من أكبر الكبائر، وأمثل كتاب بَيَّن الموضوع بيانًا وسطًا
مفيدًا، هو كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) للفقيه ابن حجر، فليراجعه
السائل في كتاب النفقات من الجزء الثاني منه.
بدأ الكلام في الكبيرة 302 وهي عقوق الوالدين بالآيات الكريمة الواردة في
الأمر بالإحسان بالوالدين، مقترنًا بالأمر بعبادة الله وعدم الشرك به، وأمره تعالى
بالشكر له وللوالدين مقترنين، ثم بالأحاديث في برهما، وجعل عقوقهما من أكبر
الكبائر، ثم بآثار السلف وأقوال بعض العلماء والأدباء في ذلك، ثم تكلم في حد
العقوق الذي هو كبيرة، قال: وهو أن يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس
بالهين عرفًا، ويحتمل أن العبرة بالمتأذي (أي لا بالعرف) . لكن لو كان في غاية
الحمق أوسفاهة العقل، فأمر أو نهى ولده بما لا تعد مخالفته فيه في العرف عقوقًا،
لا يفسق ولده بمخالفته فيه لعذره. وعليه لو كان متزوجًا بمن يحبها، فأمره
بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره، فلا إثم عليه) .. إلخ، ثم نقل فتوى من
شيخ الإسلام السراج البلقيني في الموضوع، وعسر تحديده أي لاختلاف العرف
والآراء والشعور والمصالح فيه - وذكر له بيانًا تفصيليًّا لدرجات العقوق ناقشه فيه.
ولعل كل هذا وأمثاله مما ذكره المتقدمون، لا يغني السائل عما فصلناه في
هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً} (النساء: 36) من سورة النساء؛ لأنهم لا يشرحون ما عليه أصناف
الناس المخاطبين بالأحكام في طباعهم وآدابهم، واختلاف معارفهم وشعورهم
ومصالحهم، وقد أشار السائل إلى ذلك في سؤاله، فأكثر الوالدين ولا سيما الآباء
يظنون أنهم بصفة الوالدية أو الأبوة يجب أن يكونوا أعلم وأعقل وأكيس من أولادهم
، وإن تعلم أولادهم من علوم الدين والدنيا ما لم يقفوا على شيء منه، وكانوا أذكى
وأكيس منهم في كل شيء، بل يظنون أنه يجب على الولد أن يطيع والده في كل
شيء، وإن خالف الشرع والعقل والمصلحة العامة والخاصة والوجدان لأنه والد،
كما أن بعض الأولاد في هذا الزمان من لا يقيمون لبر الوالدين وزنًا، ولا يراعون
لكرامتهما وشعورهما حرمة، مع أن الله تعالى أوصى حتى بالوالدين المشركين
الداعيَين إلى الشرك مع عدم طاعتهما، فقال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15) فمن
اضطر إلى مخالفة أحد والديه بحق، فينبغي له أن يتلطف ويراعي الذوق والأدب
ولا يصادمه بالعنف، ومنه يعلم ما ينبغي له إذا أمره بمعاداة من لا يجوز معاداته
شرعًا أو بغير ذلك من المحرمات، ومن المعلوم من الدين بالضرورة قوله صلى
الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) رواه
البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي مرفوعًا، وليراجع السائل عبارتنا في
التفسير من ص 84 من الجزء الخامس إلى ص 90.
***
حكم الثياب الحازقة التي تصف العورة
(س 14) من صاحب الإمضاء في بيروت.
حضرة صاحب الفضل والفضيلة: سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي
الأنام ومرجع العلماء الأعلام شيخ الإسلام، الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد
رضا صاحب مجلة المنار الغراء، حفظه الله تعالى.
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد: فما قولكم دام نفعكم في البنطلون
الإفرنجي؛ إذا كان يظهر منه جرم العورة كالقبل والدبر وغيرهما، بحيث يكون
ضيقًا كثيرًا، فهل ظهور ذلك الجرم حرام؛ لأنه مثار للشهوة أم مكروه أم جائز؟
أفتونا مأجورين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت
(ج) لبس الثياب الحازقة الضاغطة مكروه طبًا؛ لضرره بالبدن، وشرعًا
لضررها، ومضايقتها للمصلي، حتى إن بعضها يتعذر السجود على لابسه، فإذا
أدى لبسها إلى ترك الصلاة حرم قطعًا ولو لبعض الصلوات، وقد ثبت بالتجارب
أن أكثر من يلبسونها لا يصلون أو إلا قليلاً كالمنافقين، حتى إن منهم من يعتذرون
عن الصلاة؛ بأنها تحدث في السراويل (البنطلون) تجعدًا يشوه منظره، سمعنا
هذا بآذاننا من كثيرين؛ فإذا كانت مع هذا تصف السوأتين إحداهما أو كلتيهما، كان
التغليظ في لبسها أشد، وقد نهى سيدنا عمر رضي الله عنه عن لبس ضرب من
قباطي مصر الضيقة؛ وعلل ذلك بقوله: فإن لا تشف فإنها تصف، أي فإن لم تكن
رقيقة تشف عما وراءها من البدن فيرى فإنها بضيقها تحكي العورة وتصف شكلها
وحجمها. ولكن المفتونين اليوم بهذه الطرز (أو المودات) من الثياب، يقصدون
هذه العيوب الشرعية والطبية قصدًا لأنهم أسرى الشهوات وعبيد العادات، ولهم من
دعاة الإلحاد والإباحة من يرغبهم فيها، ويفضلها لهم على غيرهما بأنها من الجديد
اللائق، بمجددي الفسق والفجور وليست من العتيق البالي المذموم لأنه قديم.
***
كلمة: الله ورسوله أعلم
س 15 من عدن
بسم الله الرحمن الرحيم
لحضرة الأستاذ الكبير العلامة الشهير، السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الغراء، بعد إنهاء كامل التحية عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن أخاكم
وصديقكم الشيخ أبا بكر بن عبد الله باعشن بارحيم العدني، قد كلفني حين مروري
عليهم بعدن بسؤال أرفعه لحضرتكم بعد وصولي مصر، ثم إنه ألح علي ثانيًا - وأنا
هنا أيضًا - بذلك، فالرجاء من منصبكم العالي إتحافه وإيانا بالكلام على ما ذكر
مفصلاً مقرونًا بالدليل، وإن نشرتموه في مجلتك فهو أولى؛ ليعم النفع به للمسلمين،
وهذا نص السؤال: ما تقول السادة الفضلاء وبالخصوص منهم السيد رشيد رضا
رضي الله عنه وأرضاه؛ في قول القائل: الله ورسوله أعلم، هل يجوز إسناد العلم
شرعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في مثل هذه الصيغة، واستعمال
ذلك مطلقًا أو هو خاص به ما دام حيًا؟ فإن قلتم بالثاني، فما معنى عرض أعمالنا
عليه صلى الله عليه وسلم في كل أسبوع، أفتونا بالدليل لا زلتم كشافين المشكلات،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بن سعيد غباش
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السلفي العماني
(ج) كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يسأل أصحابه عن شيء لا
يعلمونه أو لا يعلمون مراده من السؤال، يقولون في جوابه الله ورسوله أعلم كما
سألهم يوم النحر في منى: (أي يوم هذا) ، فظنوا أن سؤاله تمهيد لتسميته بغير
اسمه الذي كان في الجاهلية بأمر من الله تعالى، فقالوا: الله ورسوله أعلم، ولم
يكونوا يقولون هذا لكل سؤال عن أي أمر، وإنما كان المسئول يجيب بما يعلم أو
يقول: لا أدري أو الله أعلم، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أنه لا يعلم أحد كل
شيء إلا الله خالق كل شيء، فمن قال في جواب كل سؤال: الله أعلم، سواء أجاب
بما عنده أم لا، كما يختم كثير من العلماء فتاواهم بقولهم الله أعلم، فقد صدق
وأصاب، ومن قال مثل هذا في النبي صلى الله عليه وسلم كان قائلاً ما لا علم له به،
ولا يجوز لأحد أن يقول بغير علم، ومتى علم السائل والمسئول عنهم سبب قول
الصحابة لتلك الكلمة في مواضعها التي بيناها، ظهر لهم أن اتباعهم فيها اليوم في غير
محله، فتركوه إن شاء الله تعالى.
وأما حديث عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم الذي تسمعونه من
بعض خطباء الجمعة (حياتي خير لكم) .. إلخ، فهو مرسل رواه ابن سعد عن
بكر بن عبد الله وغير صحيح، فلا يحتج به ولا سيما في مسائل تتعلق بعالم الغيب
وهو من المسائل الاعتقادية، ولو صح اتصاله وسنده لما كان حجة على إسناد كل
شيء إلى علم النبي (صلى الله عليه وسلم) ، كإسناده إلى علم الله تعالى.
__________(29/81)
الكاتب: طبيعي
__________
بحث في الطبيعة
النشأة الأولى [*]
إذا أراد الإنسان أن ينظر في نفسه وما حوله؛ ليتأمل في الوجود ونشأته،
وما في الطبيعة من مخلوفات، يرى نفسه قد خلق من نطفة، وأصله أبونا آدم عليه
السلام، وقد خلق من تراب، يرى في السماء والأرض وما بينهما مخلوقات كثيرة
الأنواع سائرة في حياتها بنظام متحد، والبعض منها له مواعيد منتظمة، وكل نوع
من هذه المخلوقات كالإنسان والحيوان والنبات والجماد إلخ خلقت بشكل منتظم،
وصنع دقيق؛ يزعم بعض الطبيعيين أن هذه الطبيعة وُجدت من تلقاء نفسها أو من
لا شيء، ونسائلهم: هل نظامها وجد معها أيضًا في كل نوع من المخلوقات؟ وإذا
حدث ما يخل بنظام شيء منها، كيف يعاد نظام سيرها؟ لو صح زعمهم لما أمكن
سير الطبيعة في نظامها سنين طويلة، ولرأينا منها اعوجاجًا واختلافًا كثيرًا من
حين لآخر؛ إذ أمد من حاد منها عن نظام سيرها لا يهتدي لطريقه، ولضل عنه
واضطرب في سيره.
بل الحقيقة أن المخلوقات التي نشاهدها في الطبيعة على اختلاف أنواعها،
خلقت بدقة ونظام، وهي تحيا حياة منتظمة مما يدل على أن نظامها هذا سائر بقوة
كبيرة جدًا تديره بعناية تامة ولا تفتر عنه لحظة واحدة، وهذا القدرة العظيمة لا
تراها العيون، ولا تدركها العقول.
وإذا رجع الإنسان إلى تاريخ أصله، يجد بالكتب السماوية قصة آدم من وقت
نشأته، ومنها يعرف أن الذي أنشاه وصوره في أحسن صورة إله عظيم الشأن، هو
صاحب هذه القوة العظيمة، وهو الخالق لهذا الكون الكبير وما فيه من مخلوقات.
عاش آدم في الأرض، وعلّم بنيه بما علم، وعرفهم ربهم لعبادته وتكاثر
النسل جيلاً بعد جيل، حتى صارت الذرية قبائل وشعوبًا في أنحاء الأرض،
وبعضًا منهم أغواهم الشيطان وأضلهم، فبغوا وطغوا وازدادوا في الأرض فسادًا،
ولقد اتخذ بعض المضلين منهم آلهة من دون الله، وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا
نفعًا، فأنذرهم ربهم وحذرهم بأن أرسل لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، يرشدونهم
للطريق القويم، ويأمرونهم بالإيمان بالله الذي خلقهم وخلق هذه الكائنات، واتباع
أوامره، ومن عهد آدم للآن أرسل الله تعالى الرسل للناس في أوقات مختلفة،
وأنذرهم بالإيمان بالله الذي خلقهم ولطاعته، فبعضهم كفروا بالله وأنكروه ولم يؤمنوا
لهم استكبارًا وعنادًا، ولقد كان في الناس أمم شديدة البأس، ظلموا أنفسهم بما كفروا،
فأخذهم الله بظلمهم {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) ، وصاروا عبرةً
لأمم من بعدهم.
بعد الذي ذكر ما على الإنسان إلا أن يؤمن بما أنزل الله تعالى من كتب على
رسله الكرام من عهد آدم للآن، وعليه أن يعلم بما أمره أخيرًا بكتابه المنزل على
رسوله آخر الأنبياء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، وبذلك يعتبر نفسه مؤمنًا بالله وكتبه ورسله جميعًا.
إن من يؤمن ببعض ما أنزل الله، ويترك البعض كالذين لا يؤمنون بالقرآن
لأي سبب كان، يدل على أنه مكابر، وقد ظلم نفسه أو لم يعقل شيئًا في نظام
الوجود، وليس له عذر بل عليه أن يبحث ويسأل أولي الألباب إذا كان لم يفهم ما
جاء بالكتب السماوية، ولا ريب أنه تظهر له الحقيقة، أما إذا عاش جاهلاً في
طريق حليته دون أن يفكر فيها، فقد جازف بنفسه في طريق الضلال دون أن
يشعر، وربما تمادى في جهله وتبعه بعض الجهلاء؛ لعقيدة حسنت في نظرهم،
وهو في الحقيقة كسراب اغترت به أنظارهم، وتمشت معها أفكارهم، وصاروا
حزبًا من الأحزاب له مبدأ العقيدة وبرنامج الطريق.
ومن هنا، اختلف الناس في عقائدهم في الأزمان الغابرة، فإذا بحثنا في مبدأ
كل عقيدة على ما جاء بالكتب السماوية، وجدنا أنها أجمعت على أن الله سبحانه
وتعالى إله واحد لا شريك له في ملكه، ولنترك ما قيل فيها للذين يعقلون، ولنجعل
بحثنا في الطبيعة ونظام الحياة فيها، فالناس جعلهم الله تعالى قبائل وشعوبًا وولى
عليهم ملوكًا وحكامًا، وزين للناس حب البنين ليكونوا لهم ورثة من بعدهم، ولا
يكتفي الإنسان من الذرية بواحد أو اثنين، بل يلتمس المزيد، وكذلك الملوك
يلتمسون من البنين والحفدة أكثر من واحد حفظًا لملكهم، حتى إذا خلا ملكهم من
الوراث الأول شغله الثاني وهكذا؛ لكيلا يأخذه ملك غريب، أو يغتصبه قوي رقيب.
علمنا أن الله تعالى إله واحد ولا شريك له في ملكه، وأنه يحيي ويميت؛
لأنه على كل شيء قدير، وهو باق لا يموت أبدًا، وكل مخلوق في هذه الحياة
سيفنى بانحلال عناصر حياته أو بموته، والأرض وما عليها من ميراث ونعيم
يرثها رب السموات والأرض، ثم بإذنه تعالى تحيا الناس في الآخرة حياة أبدية،
وفي مبدئها يحاسبهم ربهم على حياتهم الأولى، ويفعل ما يشاء بهم حسبما بشرهم
وأنذرهم في كتبه السماوية، ومما ذُكر يُعلم أن الله سبحانه وتعالى حقيقة غني عن
كل شيء، وقادر على كل شيء، وملك ومالك لملكه يفعل به ما يشاء {كُلَّ يَوْمٍ
هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) ، ولا وارث له إلا هو؛ لأنه باق لا يفنى.
ومن العقائد القديمة التي سار الناس عليها بالوراثة للآن؛ اعتقاد النصارى
بأن لله تعالى ولدًا - وحاشا لله أن يكون له ولد لأنه غني عن ذلك - ونسائلهم في
عقيدتهم هذه: لأي شيء يتخذ لنفسه ولدًا واحدًا؟ ولماذا لم يتخذ أكثر من ذلك وهو
قادر على كل شيء؟ وكيف يسمح بصلب ولده والتمثيل به؛ فداء للعالم مع أنه
سبحانه وتعالى فدى إسماعيل بكبش، ولم يرض بتضحيته في سبيل طاعته؟ وهل
يعز العالم على ولده فيتركه لأعدائه يمثلون به تمثيلا؟ إن ذلك لا يعقل أبدًا؛ إذ لا
يوجد مخلوق يرضى بتسليم ولده لأعدائه لا سيما إذا كان وحيدًا والله أعز وأرحم
وأعدل، وحيث إن الله تعالى قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يغفر لمن
يشاء من خلقه خطاياهم بدون حدوث فداء لأحد من العالمين، ولقد خلق في
السموات ملائكة يسبحون بحمده ويستغفرون لمن في الأرض كما ذكر في القرآن
الشريف.
ثم إن حقيقة مسألة الصلب؛ هي أن الذي صلب كان أكبر أعداء المسيح،
فأراد الله تعالى رفع المسيح إلى السماء، وألقى شبهه في الخلقة على الذي صلب،
فبحث الأعداء عن المسيح للتنكيل به، فوقع الذي هو شبهه في أيديهم، وعرفهم
باسمه الحقيقي. ولكنهم لم يصدقوه فأخذوه وصلبوه ودفنوه بعد موته، فإذا قالت
اليهود والنصارى: إن ما نجادلهم فيه مذكور في الكتب السماوية التي تؤمن بها،
لقلنا لهم: إن ربنا أرسل كتبه بالحق لا يقول إلا الحق للذين يعقلون، وعليهم أن
يبحثوا عن حقيقة ما أسند إلى الله تعالى بغير الحق، وأن لا يتبعون إلا ما يجدونه
أمامه حقًا؛ إذ ربما حصل شيء لم يكن في الحسبان، وخال على قوم كانوا في
غفلة منه فضلوا الطريق القويم، وضل من تبعهم من الذرية بغير علم.
ويدهشني أن يعرف بعض الناس الحقيقة ولا يرضى بها؛ إما حياء من
عشيرته أو اقتناعًا بميراث أبيه من الدين وإن كان على غير هدى، وبذلك يضحي
بنفسه في سبيل آبائه وأجداده، والله تعالى أحق منهم بذلك؛ إذ خلقه ورباه ووالاه
جنينا في بطن أمه قبل أن يراه والده ثم طفلاً ورجلاً وكهلاً، وهو الذي أحياه مدى
عمره ثم يميته ثم يحييه تارة أخرى كما ذكر آنفًا. أفبعد ذلك يقول: أتبع أبي إلا إذا
كان على غير هدى من ربه؟ وكل إنسان مسئول عن نفسه لا ينفعه أحد إلا إيمانه
وعمله.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضاه، ويحسن لنا العاقبة ولجميع
المسلمين إنه سميع مجيب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طبيعي
__________
(*) لصاحب الإمضاء الرمزي، نشرناها لسهولتها وسذاجتها بحيث يفهمها كل عامي.(29/111)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
دعوة المنار السنوية إلى انتقاده
فاتنا التصريح في فاتحة الجزء الأول وفي خاتمته بهذه الدعوة؛ لأننا
اضطررنا إلى إطالة الفاتحة، حتى احتجنا إلى الحذف منها، وإلى إعادة جمعها
بحرف صغير بعد جمعها بحرف كبير.
فنقول الآن: إننا نرغب إلى قراء المنار، بل نطالبهم بأن يكتبوا إلينا ببيان ما
يرونه من الخطأ في مباحثه ولا سيما مسائل الدين ومصالح الأمة العامة؛ بشرط أن
يقتصروا في بيانهم على موضع الخطأ ووجه الصواب فيه بالدليل من غير مقدمات
ولا استطرادات، ونعدهم بأننا ننشر لهم ذلك ونقفي عليه: إما بقبوله والرجوع إليه
إذا ظهر لنا أنه الحق، وإما ببيان ما عندنا من الرد عليه ولو من بعض الوجوه دون
بعض.
وبهذه المناسبة، نصرح بأنه جاءنا في العام الماضي كتاب من أحد أعضاء
الجمعية المؤسسة في برلين - ألمانيا - يؤنبنا فيه على ما كتبناه من استنكار أمرها
في دعوتها إلى الخلافة وجمع أموال الزكاة من جميع أقطار العالم الإسلامي، وما
هذا الذي كتبه برد ولا بيان لحقيقة حال الجمعية وإنما هو انتقام من المنتقد بسبه
وشتمه، فكيف يتصور عاقل أن يُشتَم إنسان ثم يحمله على نشر شتمه في صحيفته؟
__________(29/114)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أعداء الإسلام المحاربون له في هذا العهد
للإسلام أعداء كثيرون من أهله ومن غير أهله، كلهم يحاربونه ويسعون
لإطفاء نوره، وخضد شوكته، وتمكين أعدائه من مقاتله. منهم من يسعى لهذا
عالمًا به متعمدًا له، ومنهم الجاهل غير المتعمد، والجاهل الذي يظن أن ينصره
ويدافع عنه.
ويمكننا أن نحصر هنا هؤلاء المحاربين للإسلام في تسعة جيوش: ثلاثة من
الأجانب، وخمسة من المسلمين - وأعني المسلمين الجغرافيين أو الرسميين - أي
الذين يعدون في الإحصاء العام لأهل كل قطر من المسلمين.
فأما الأجانب منهم فهم: المستعمرون والمبشرون (دعاة النصرانية)
والمعلمون منهم لأولانا في مدارسهم ومدارسنا.
وأما المسلمون الجغرافيون فقسمان: منهم قدماء طال عليه العهد وهم مقلدة
الكتب الجامدون ومشايخ الطرق المبتدعون , وقسمان منهم حدثوا بعد ذلك وهم:
المتفرنجون والملحدون , والقسم الثامن دعاة التجديد والثقافة الناسخة لما قبلها، وهو
آخر جيش تألف لمحاربة الأديان كافة والإسلام خاصة , والقسم التاسع المتفرنجات
من النساء وهو الآن في طور التكوين، على أن هذه الأقسام يتداخل بعضها في
بعض.
من المفروض على المنار أن يكافح جميع أعداء الإسلام المهاجمين له في
عقائده وتشريعه وآدابه وملكه ولغته، وهو منذ أنشئ قائم بأعباء هذه الفريضة
على قلة النصير والظهير، وقد بدأنا في السنين الأولى بجهاد أعداء دينهم وأنفسهم
من المسلمين، فدعوناهم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلناهم بالتي
هي أحسن، ثم خضنا معامع مهاجمي الأجانب ولا سيما دعاة النصرانية
(المبشرين) ، فكان من أبواب المنار المفتوحة في كل جزء باب (شبهات
النصارى وحجج الإسلام) ، كما كان من أبوابه فيها باب (البدع والخرافات
والتقاليد والعادات) ، وفي أثناء ذلك كنا نلم المرة بعد المرة بمضار التفرنج
الصورية والمعنوية والاجتماعية، ثم ظهرت مفاسد الملاحدة من المتفرنجين؛
بمجاهرتهم بمهاجمة الدين في المحاورات والخطب تلقى في المحافل، والمقالات
تنشر في الجرائد، فنهد إليهم المنار متتبعا عوارهم مقلمًا أظفارهم، مبينًا مفاسدهم
ومضارهم.
وماذا عسى أن يبلي قلم واحد في صحيفة واحدة؛ يناضل هؤلاء المهاجمين
الكثيرين؟ جهد المقل، وأداء فرض كفاية أو فروض كفايات، تأثم الأمة الإسلامية
كلها بتركها، وما كان عمل المنار بدافع هذا الإثم عن جميع شعوبها في جميع
أقطار الأرض التي ظهرت فيها تلك الإغواءات النصرانية والإلحادية والبدعية،
وإنما كان يغني عنهم ويدفع لو كان منتشرًا كانتشارها، يصل إلى كل من تصل إليه
منهم بنفسه أو بترجمة ما ينشره، على أن هذه المفاسد تظهر في كل بلد أو قطر؛
بشكل قد يحتاج في رده وبيان بطلانه إلى عبارات وحجج غير التي يحصل بها
المراد في قطر آخر.
نعم.. إن بعض الجرائد الهندية كانت أكثر الجرائد الإسلامية عناية بالترجمة
عن المنار، وإن بعض أصدقائه قد نهض بمساعدته في تفنيد شبهات المبشرين،
وإبطال دعوتهم، وتخسير دعايتهم، وفي الرد على ملاحدة المسلمين أيضًا - ألا
وهو الطبيب محمد توفيق صدقي تغمده الله تعالى برحمته، وكل ما نشر لغيره من
أصدقاء المنار في مجلداته الثمانية والعشرين، لا يوازي بعض ما نشر له في مجلد
واحد، إنما الذي يفوقه قدرًا وتأثيرًا؛ ما نشرناه لشيخنا الأستاذ الإمام أجزل الله
ثوابه، ولا سيما مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية.
ولم يكن هذا التقصير من قلة حملة الأقلام من طلاب الإصلاح الإسلامي الذي
يدعو إليه المنار، فإنه أنشئ ليكون صحيفتهم، وقد كثروا بدعوته - ولله الحمد -
ولكن أكثرهم يرى خطأ أن اضطلاع منشئه يغنيه عن مظاهرتهم له، وبعضهم
غافل عن وجوب هذا التعاون.
هذا ما كان من قبل حرب المدنية الكبرى، ثم كان من عقابيل هذه الحرب أن
اشتدت وطأة جميع أعداء الإسلام، كل يحاول الإجهاز عليه من جهته، وينصر
بعض الأجانب منهم بعضًا عليه، فكان من عدوان المستعمرين الظافرين ما كان،
وشرحناه مرارًا آخرها ما أجملناه في فاتحة هذا المجلد إجمالاً أشد تأثيرًا من
التفصيل، وكان من جرأة المبشرين عقد المؤتمر في تلو المؤتمر جوار المسجد
الأقصى؛ لجمع كلمة الشعوب النصرانية، وتنظيم عمل الدعاة للإجهاز على الدين
الإسلامي، ونشر عبادة المسيح في جزيرة العرب عامةً والحرمين الشريفين خاصةً.
وأما مكافحو الإسلام من المتفرنجين والزنادقة الملحدين، فقد ابتدعوا دعاية
شرًا من دعاية المبشرين، وهي دعوة جمهور الأمة إلى التعطيل والإلحاد، وعلى
ما يترتب عليهما من الزندقة وإباحة الأعراض والأموال، وانتهاك حرمات الفضائل
والآداب، وحل جميع الروابط التي تتكون بها الأمة من مقومات ومشخصات، لا
يراعي في شيء من اقتراف هذه المفاسد والمخازي إلا اتقاء عقاب الحكومة على
مخالفة قوانينها وإنما يراعي هذا من يخاف هذا العقاب لترجيحه اطلاع الحكومة على
جرمه وإثباته عليه وأكثر المجرمين يرجحون إمكان إخفاء جرائمهم أو تعذر إثباتها
في المحاكم - فهم يحاولون هدم الدين الإسلامي من جميع جهاته: الاعتقاد والتشريع
والآداب والفضائل، وكذا هدم سائر مقومات الأمة الإسلامية ولا سيما العربية من:
اللغة والزي؛ حتى لا يكون للأمة شيء من ماضيها تحافظ عليه بل حتى لا تكون
أمة؛ فإن الأمم بماضيها وتاريخها ومقوماتها الصورية والمعنوية بل منهم من يدعوها
جهرًا إلى ترك جنسيتها ووطنيتها والالتحاق بدولة أجنبية قوية كالإنكليز، دع من
يعملون لذلك سرًّا.
وحجتهم على هذا الإفساد كله؛ أن كل ما كانت به الأمة أمة في الماضي، قد
صار قديمًا باليًا ضارًّا، يجب أن يستبدل به غيره من الجديد، يقتبس من النظريات
والآداب والتقاليد والأزياء الأوربية، فهم يدعون إلى كل جديد، وينفرون من كل
قديم. متكلين في رواج دعايتهم على النابتة الجديدة من الشبان والشابات الذين
يتعلقون عادة بكل جديد؛ لطرافته ولذته؛ ولعدم رسوخ عقائدهم وآدابهم واستكمال
عقولهم، ثم على العوام الذين يتلذذون بكسر قيود الصيانة وإباحة الشهوات،
وناهيك بمسلمي بلادنا الذين ليس لهم حكومة تغار على عقائدهم وآدابهم وتربي
أولادهم عليها، وهم على فقدهم للحكومة الإسلامية الموصوفة بما ذكر لا الإسلامية
الرسمية، فاقدون لطبقة أهل الحل والعقد من السروات الذين يحافظون على مقومات
أممهم واستقلالها ورفعة قدرها من جهة، ويقومون لها في كل طور وحال بما
يقتضيه من علم وعمل من جهة أخرى، فأمْر الناس فوضى ليس لديهم قواعد ثابتة
يلوذون بها عند اشتداد عصف هذه الرياح المتناوحة التي تهب عليهم؛ بما ينشر في
الصحف الضارة والمصنفات المفسدة، وقلما توجد في البلاد جريدة أو مجلة تتجنب
ما يضر الجمهور نشره في عقائدهم وآدابهم، وتتحرى ما تعتقد أنه النافع، دع
اختلاف آراء كتّاب هذه الصحف وأفهامهم وشعورهم في الضار والنافع الذي سببه
اختلاف التربية والتعليم والمعاشرة. ولكن يوجد جرائد يومية وأسبوعية ومجلات
تتوخى وتتحرى وتتعمد الدعاية إلى هذا الهدم والتجديد، على تفاوت بينها في
التصريح أو التعريض والتلويح، وأشهرها جريدة السياسة التي يكفلها الحزب الحر
الدستوري؛ المؤلف من أصحاب الدولة والمعالي والسعادة الوزارء والكبراء وكبار
رجال الحكومة.
ومثلها في ذلك بل أشد مجلة الهلال المشاركة لها في أشهر محرريها، التي
تدعي أنها لسان حال الشبان العصريين، ففي كل جزء من أجزائها عدة مقالات
لدعاة تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة، وقلما تنشر لغيرهم شيئًا يخالفه،
وحسبك أن سلامة أفندي موسى هو الركن الثابت المتين في تحريرها، وهي لا
تكتفي بما تنشر له من المقالات في ذلك، بل تطبع له في كل عام كتاب في تأييد
هذه الدعاية الهادمة للأمة المصرية؛ ولكل أمة شرقية تغتر بفلسفته المادية الإفسادية،
وترسله هدية إلى قرائها ترغيبًا لهم في قراءته. وقد زاد هذا الرجل على إخوانه
بأنه يدعو إلى خلع ثوبي الجنسية والوطنية، والانضمام إلى دولة أجنبية. ثم إنها
تنشر مجلات أسبوعية مصورة، تجرئ قراءها على نبذ كل عفة وصيانة وفضيلة
سمعنا عنها، وقرأنا في الأخبار من تفنيد لها، وإنه ليعز علينا أن يتنكب زميلنا
أميل أفندي زيدان منهج والده الفاضل في مراعاة العقائد والفضائل الدينية وسائر
مقومات الأمة، ولو في مجلة الهلال وحدها، إذا كان يصعب عليه ترك المال
العظيم الذي يجنيه من مجلاته الأخرى التي تزين للناس اتباع أهوائهم وشهواتهم،
وإننا كنا منذ سنتين ننوي بيان هذا بعد مجاهرته به حتى جاء أوانه.
ثم ظهرت منذ سنتين مجلة أخرى أشد جرأة على هدم الدين؛ والجهد بالطعن
فيه بسخافات من النظريات الفلسفية العصرية، وقد سبق لي تقريظ لها قبل غلوها في
المجاهرة، وأشرت إلى ما أنكره عليها، ثم ظهر من غرور صاحبها في دعوى
العلم والفلسفة ومن معرفة الدين أيضًا ما يقضي العاقل منه العجب. وما له بذلك من
علم ولا فلسفة، هي رأي ومذهب له يقدر أن يثبته ويدافع عنه وكذلك أمثاله، وإنما
يترجمون من بعض الكتب والصحف الإفرنجية بعض آراء أهلها ونظرياتهم،
ويأخذونها قضايا مسلمة بغير علم ولا بصيرة، وحسبنا دليلاً على هذا ما يردون
عليه من أمور الدين، ومنها ما هو افتراء يتبرأ منه الدين.
وقد اقتفت أثر هذه الصحف فيما ذكر مجلة حديثة أنشئت في حلب، فأنكر
عليها بعض الناس هنالك ما نشرته من حكاية طعن في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزال
غافلاً عما تعنيه بالجديد والحديث والاستغناء به عن القديم، وأن المراد ترك الإسلام
من أساسه.
لا نريد في هذا المقال الرد على هؤلاء، وإنما نريد إعلام قراء المنار بحالهم
وبرواج إفسادهم في البلاد؛ بسبب الجهل بحقيقة الدين وعدم التربية عليه، مع عدم
التربية الاجتماعية والسياسية أيضًا، وأن نعلمهم مع هذا بأن بعض قراء المنار
ومحبيه، يقترح عليه أن نزيد فيه بعض الفصول العلمية والأدبية والمباحث الفنية
العصرية؛ لترغيب القراء من كل الطبقات في قراءته.
أعود إلى أول سياق المقال فأقول: إنه لولا جمود مقلدة الفقهاء الذين احتكروا
التعليم الديني في بلاد الإسلام منذ قرون، ولولا بدع أهل الطرق الصوفية
وخرافاتهم؛ وهم الذين كان سلفهم يعنون بالتربية الدينية؛ ليكون الدين وجدانًا عند
صاحبه لا يقبل البحث والجدل، فانقلب بعدهم إلى إفساد لا يقبل الإصلاح بحيلة من
الحيل؛ لولا هؤلاء وأولئك لما كان لهؤلاء المفسدين ولا للمبشرين أدنى تأثير في
إغواء المسلمين.
لئن كانت مقلدة المذاهب المعروفة هي بقية الآخذين بظواهر الإسلام، فما هذا
بمبرئ لهم من تهمة الجناية عليه والتنفير عنه في هذا العصر؛ باحتكارهم لأنفسهم
الحكم في كل شيء باسم الدين، وإيجابهم على الناس اتباعهم فيه، لتعودهم هذه
الرياسة منذ قرون؛ وهي رياسة ما أنزل الله بها من سلطان، وكان ضررها في
الزمن الماضي قليلاً فأصبح عظيمًا؛ إذ كان من أسباب ارتداد من لا يحصى عن
الدين، إلى أن تجرأت حكومة إسلامية عظيمة الشأن والتاريخ على الارتداد عنه،
ومحاولة محو أصوله وفروعه وآدابه، وكل ماله صلة به من أمتها، كما محته من
حكومتها؛ وهي حكومة مصطفى كمال التركية.
العلوم والفنون والصناعات العصرية لا يمكن لحكومة أن تحفظ استقلالها
بدونها، ولا يمكن لأمة أن ترتقي في زراعتها وتجارتها بدونها، ومنها ما هو
قطعي لا يمكن الشك في ثبوته، ولكن هؤلاء الفقهاء الجامدين يتحكمون في الحكم
على من يعتقد هذه القطعيات بالكفر، وهم الذين كانوا يعارضون الدولة العثمانية
وغيرها بالانتفاع بهذه العلوم والفنون؛ بدعواهم أنها معارضة للدين مخالفة للقرآن
حتى إنهم كانوا يحرمون علم الجغرافيا، مع أنه ليس في موضوعه ولا مسائله ما له
علاقة بالمباحث الدينية إلا أن يكون إثبات كروية الأرض ودورانها، وكان فيهم من
يقول: بتحريمه ويعارض الدولة في تعليمه إلى عهد غير بعيد، كما يُعلم مما روي
لنا عن العلامة الشيخ سليم بوحاجب التونسي؛ إذ سأله أحد الوزراء في الآستانة
عن حكمها، فقال: الوجوب، فكبر ذلك على عالم كان عنده وسأله عن الدليل،
فقال: أرأيت إذا كانت الدولة في حرب مع العدو، وأمر الخليفة وزيرَ الحربية أن
يضع بعض الضباط رسمًا لمواقع هذه الحرب وطرق الجيوش فيها، مما يتوقف
عليه درء خطر العدو ويرجى سبقه إلى المواضع الحصينة، (مثلاً) ، فهل تجب
طاعته في ذلك أم لا؟ قال: تجب، قال وهل يكن هذا لمن لا يعرف علم الجغرافيا؟
اهـ، بالمعنى، ويراجع نصه في ترجمته رحمه الله من المنار.
إن أمثال هؤلاء المتفقهة المحتكرين لعلم الدين والمنتصبين للدفاع عنه بغير
علم، يزيدون فيها ما ليس منه تقليدًا لبعض المؤلفين الميتين الذين درسوا في كتب
التفسير والحديث، وشر زياداتهم خرافات زنادقة اليهود والفرس في الخلق
والتكوين وصفة السموات والأرض والكواكب والرعد والبرق وجبل قاف وقرن
الثور والحوت وما أشبه ذلك، ثم قاموا يكفرون من يخالفهم في ذلك، فجعلوا هذه
الخرافات الإسرائيلية من أركان الإيمان الذي يخرج منكره من الملة، على أن الذين
ابتلوا بذكرها في كتبهم من المتقدمين؛ لغرامهم بكل ما روي لم يرفعوها إلى هذا
الأفق من أصول الدين ولا من فروعه، فكيف يقل إسلام هؤلاء من أعطاهم الله
تعالى علمًا يقينيًا بأن تلك خرافات باطلة؟
إن الأرض صارت معروفة للناس طولاً وعرضًا، مشاهدة بالعينين من أولها
إلى آخرها، وقد طاف حولها كثير من الناس مرارًا، يخرج أحدهم من مكانه
متوجهًا إلى الشرق مثلاً، فلا يزال يستقبل شرقًا ويستدبر غربًا حتى يعود إلى
مكانه من الجانب الآخر، ثم إن مراكز المخاطبات التلغرافية عمت شرقها وغربها
فكل قطر يعلم ما يتجدد من الأحداث المهمة من غيره كل يوم. أفبعد هذا يقول لهم
هؤلاء الجهال: يجب أن تدينوا الله بأن الأرض سطح مبسوط غير كروي ثابت
على رأس ثور.. إلخ.
إن مسألة شكل الأرض ليست من عقائد الدين ولا من أحكامه ولا من آدابه،
ولم يوجب الله تعالى على عباده أن يعتقدوا أنها كالرغيف أو لوح الخشب ولا أنها
كرة، ولا يسأل أحد يوم القيامة عن إيمانه بشكل الأرض، فإذًا لا يضره في دينه
أن يجهل شكلها، ولا يضره أن يعرفه بطريق من طرق المعرفة ولكن ينفع في
الدنيا، وإنما يزعم هؤلاء الجاهلون المفتاتون على الناس في دينهم؛ الملحقون به
ما ليس منه أن قوله تعالى: {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 20)
ظاهر في أنها سطح لا كرة. قال الجلال في الأول وعليه علماء الشرع، وفي
الثاني أن عليه علماء الهيئة (لكنه قال) : وإن لم ينقض ركنًا من أركان الشرع.
والصواب أن كثيرًا من كبار علماء الشرع قالوا: إنها كرة، وأن قوله: (سطحت)
لا ينافي كرويتها؛ لأن للكرة سطحًا كغيرها من الأجسام، وأنه يوجد في القرآن
ما هو أظهر في الدلالة على الكروية منه على غيرها؛ كقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) ، وإنما التكوير في اللغة اللف
على الجسم المستدير كما بسطناه في مواضع أخرى. ومع هذا كله يوجد من هؤلاء
المفتاتين ومن مقلدتهم من يعدون الاعتقاد بكروية الأرض كفرًا بالله ومروقًا من دينه،
وهم يجهلون أن هذا المسألة أصبحت في هذا العصر من المسائل القطعية، فإن
الأدلة على كرويتها لا يمكن نقضها ألبتة، فإنكاره باسم الدين جناية على الدين.
نعم.. إنه يوجد كثير من أدعياء العلم الديني من يفتنون العوام بتكفير القائلين
بكروية الأرض، سواء كانوا من الفئة التي أوشكت أن تبيد من الأزهريين أو من
أمثالهم من مقذوفات سائر المدارس الدينية في الشرق والغرب، بل منهم من لا
يزال يقول: إن الأرض قائمة على قرن ثور، وإن الزلازل تحدث بهز رأس الثور
أو نقله إياها من قرن إلى قرن، ولكن أكثر المتعلمين في الأزهر على الطريقة
النظامية، صاروا يعرفون الحقيقة في ذلك.
وقد بلغني أن عالمًا من أجلّ علماء نجد وأوسعهم اطلاعًا على الكتب المختلفة،
قال بتكفير من يقول بكروية الأرض. وقد راعني هذا؛ لأن الذي نص عليه
الشيخ محمد عبد الوهاب إمام النهضة النجدية وغيره من علمائهم؛ أنهم لا يكفرون
أحدًا إلا بمخالفة الإجماع في المسائل الدينية القطعية، وهذه ليست مسألة دينية ولا
إجماع عليها. ولأن أكبر أئمة الحنابلة التي استمد الشيخ وخلفاؤه من كتبهم تجديده
للدين في نجد شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقد ذكر الثاني في بعض كتبه أن
الأرض كروية، فهل يكفره هذا العالم إن صح الخبر عنه؟
هذه مسالة جناية المقلدين الجامدين على الدين، قد فتحنا بابها وتغلغلنا في
زوايا بيوتها منذ السنة الأولى للمنار سنة 1315، وإنما ذكرناه هنا لإثبات اشتراك
هؤلاء مع الملاحدة في هدم الإسلام من حيث لا يشعرون كما تقدم في صدر المقال
فهم يفتنون جميع المتعلمين على الطريقة العصرية الاستقلالية عن الإسلام من
جانب، ويقطعون الطريق على حكماء الدين الراسخين؛ أن ينشروا حقيقته التي لا
يمكن المراء فيها من جانب ثان، وأن يدحضوا شبهات الماديين والمبشرين عليه
من الطريق العلمية التي لا يمكن إقناعهم أو إلزامهم الحجة بدونها من جانب ثالث،
فماذا يفعل المنار ومن على منهج المنار، في مكافحة أولئك الكفار الفجار، والحال
ما ذكرنا؟
إنني أرى كثيرًا من أفضل رجالنا علمًا ودينًا وعقلاً يائسين من الإصلاح هنا
ولست موافقًا لهم على اليأس التام، وإذا كان هذا رأيي في أعضل أدواء مفاسد هذه
الأمة، فما دونه من مفاسد المبشرين عندي أهون، إنني أقول بإمكان تلافي الشر
إذا نهض القادرون عليه نهضة سريعة بنظام محكم، وذلك أن القوة التي تغلب كل
قوة في هذا العصر هي قوة الرأي العام للأمة، والرأي العام في مصر لا يزال
متدينًا، سواء في ذلك مسلموه وقبطه وغيرهم من النصارى واليهود , والنصارى
منهم من جميع الفرق أشد اعتصامًا برابطتهم الدينية الاجتماعية من المسلمين؛ كما
بيناه من قبل في مقالاتنا (المسلمون والقبط) ، وقد طال هذا المقال فزاد على ما
قدرت له؛ لذلك أرجئ بيان ما ذكرت من الرجاء في انتصار التدين على الإلحاد،
والإصلاح على الإفساد، في مقال أفرده له في جزآت فقد آن لنا التصريح وعدم
تهيب سفهاء الكتاب المضلين، والوزراء والرؤساء المفسدين والله ولي المتقين.
__________(29/115)
الكاتب: الزنكلوني
__________
كلمة الأستاذ الزنكلوني
في تفسير القرآن الحكيم ومجلة المنار
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة
المنار الإسلامية حفظه الله، وأدام النفع به آمين.
السلام على سيدي الصديق ورحمة الله، أما بعد: فقد طلع على العالم
الإسلامي في هذا الأيام الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم، الذي دبجه يراعك،
وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد أودعت فيه من آيات العلم والحكمة
ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم من حسادك، ولقد كان من دلائل نصر الله
لك على الدوام أن تزداد ثقة الناس بك واقتناعهم بعظيم فضلك، كما برز لك أثر
جليل - وآثارك الجليلة لا تنقطع - وأن تشتد حاجتهم إليك وإلى قولك الفصل كلما
ظهرت فتنة عمياء، تكاد لشدتها تقضي على الكثير من الحق، وتنتقص من أطراف
النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وسار عليه الراشدون من أصحابه
رضوان الله عليهم أجمعين؛ لأنك من وقت إلى آخر تطلع على الناس في منارك بما
يزيل الجهل ويمحو آثار الظلمة، ولقد عرفك الناس من عهد بعيد، وعرفك المنصفون
منذ بدء حياتك العلمية على خير ما يعرف العلماء الأفذاذ. ولقد كان إعجاب رجال
العلم الديني بك شديدًا في جميع بلاد الإسلام؛ منذ ظهرت مجلة المنار الإسلامية التي
أنشأتها من ثلاثين عامًا، ولا تزال تنشئها بفضل الله إلى اليوم حافلة بالأبحاث العلمية
القيمة التي لا توجد في أمهات الكتب، ولا يخلو عدد من أعدادها من مشكلة دينة
يكشفها منارك، وقد خفي أمرها وتعذر حلها على كثير من الرجال المبرزين.
أما المتقدمون فعذرهم أن أحداث الناس الاجتماعية التي لها صلة بالدين، لم
يكن قد اتسع نطاقها، ولم تصل في كثرة وجوهها المختلفة إلى ما وصلت إليه اليوم
وقد كانت أمارات الحوادث الدقيقة التي يحملها كتاب الوجود العام غير واضحة
للعقول، وليس في إمكان العقل مهما قوي أن يقضي قضاءه الصحيح في حادثة لم
يكشف لها الوجود وجه الدليل، والعقل الإنساني في فطرته السليمة اليوم أقوى منه
بالأمس؛ لأن مواد التغذية العقلية الآن بين يديه أدسم وأوفر، وليس التفاضل بين
المتقدم من القرون والمتأخر منها راجعًا إلى جوهر العقول، واستكمال عناصرها
الذاتية، فالعقل هو العقل، والقرآن هو القرآن، وشواهد هذا العصر أتم منها في
كل عصر سابق، وإنما مرجع التفاضل؛ ضعف الإرادة وتأثرها بالأوساط السيئة
التي لم تكن لها قوة في عصر النبوة ولا في القرون التي تليها. أما العقل من حيث
ذاته وجوهره فلا دخل له في هذا التفاضل، فالمسألة هنا وهناك مسألة هداية
وتوفيق.
وأما المتأخرون، فعذرهم إن صح أن يكون ذلك عذرًا أنهم أضاعوا كل شيء
وباعدوا بينهم وبين منهل التشريع الإلهي، وما مثلهم في حياتهم العلمية الدينية إلا
كمثل من استعمل الماء الآسن في حياته للشرب، ينحدر من مستنقع إلى مستنقع،
وقد انقطع تمام الانقطاع عن مهبط السيل ومجاري الأنهار، لا يحمل غير جراثيم
الضعف وعوامل الفناء - كذلك رجال الدين في عصورهم المتأخرة، قد انقطعوا
عن الكتاب والسنة وعن فهمهما على الوجه الصحيح، وهما بلا شك مصدر الحياة
والقوة، عليهما مدار السعادة التامة - لهذا لا بدع إذا وهبك الله من الذكاء والفهم في
الدين ما لا عهد للناس به، ومكنك من استعراض الحوادث والحكم عليها بما لاح
لك من الأمارات والدلائل، وليس ذلك بدعًا في دين الله ولا من الدعاوى العريضة
كما يظن الجاهلون؛ لأن الإنسانية الكاملة التي لا تسابق ولا تجارى هي إنسانية
الأنبياء وحدهم لا يشاركهم فيها مشارك؛ لأنها موهبة من الله تعالى خاصة بهم لا
دخل للكسب فيها و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) .
أما من عداهم من الورثة فلكل نصيبه بقدر اجتهاده، فكتاب الله الذي خاطب
به العالم على السواء، لم يتغير ولم يتبدل وكذلك سنة رسوله، وفضل اليوم على
الأمس ما دام الإنسان مرموقًا بالهداية والتوفيق، إن العقل أقوى والدلائل أوضح،
وإن كان الفضل دائما للمتقدم.
وليست المسألة أكثر من متشابهات في الدين، يجليها الله على يد من يمنحهم
فضله، ولا تقوم الساعة إلا والحلال كله بيِّن والحرام كله بيِّن، حيث يرد العقل
بالدليل كل مشتبه في الماضي إلى فصيلته الحقيقية. وإذا لم يحقق الله بك وبأمثالك
هذه السنة فيمن يحققها؟ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 21) .
وقد كان من مزيد توفيق الله لك؛ أن خصصت جزءًا عظيمًا من منارك لتفسير
كتاب الله تعالى على طريقة لم تسبق إليها من كبار رجال التاريخ [1] في عصور
الإسلام، فقد وجهت كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن مراميه،
وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في الوجود،
ولم يفتك المهم من الأبحاث الإصلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن غرض
الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم؛ وهي
الهداية والسعادة.
نعم.. لا ننكر نحن ولا أنت أن واضع طريقتك ومحكم أساسها هو أستاذنا
الإمام؛ الذي جدد الله به عهد الإسلام على رأس القرن الرابع عشر الهجري
(الشيخ محمد عبده) رحمه الله ورضي عنه. ولكن إحكام البناء إلى التمام على
الوجه الذي وضع عليه هذا الأساس المتين لشاهد صدق على النبوغ والتفوق. ومن
الإنصاف أن نجاهر بأن الروح التي جارت في عملها التكميلي روح ذلك المؤسس
الحكيم؛ لهي الروح الكبيرة التي تستحق مزيد الإكبار والإجلال، والتي لها مع
استعدادها الفطري القوي بالمؤسس العظيم مزيد صلة وارتباط؛ لأنك في أبحاثك
القيمة تأتي كل يوم بالجديد المثمر، ولا زلت ترقب عن كثب في تفسيرك وأبحاثك
الدينية آثار سنن الله في الوجود، وهي نعمة كبرى لن تستطيع شكرها مهما حاولته،
وسر هذه النعمة فيما أعتقد أنك آمنت، كما آمن الموفقون من قبلك بأن خير ما
يفسر به كتاب الله فعل الله وسننه في عالم الشهادة، وكثيرًا ما أسمع من أهل العلم
وعنهم أن سبب انحطاط المسلمين؛ هو عدم العمل بالدين، وهو كلام حق في ذاته
إن لم يريدوا الدين بحسب تقدير عقولهم. إلا أن وراء هذا القول حلقة مفقودة يجب
إظهارها للعالم والتصريح بها على الدوام، حيث السعادة موقوفة عليها في نظر
العقل والدين معًا: هي أن سبب التأخر الحقيقي عدم فهم الكتاب والسنة على الوجه
الصحيح؛ لأن فهمهما كذلك يولد الإيمان بهما إيمانًا قويًا، والإيمان بهما كذلك لا
محالة يولد السعادة والقوة والعمل الصالح، رغم الصوارف التي ازدحم بها الوجود،
فالوجود ملوث بمثل هذه الصوارف منذ بدء الخلقة، والصراع قديم بين الخير
والشر وبين النور والظلمة.
ولقد أخذتني الدهشة يا صديقي حينما اطلعت على الجزء الأول من التفسير
الذي أخرجته في هذه الأيام مستقلاًّ عن مجلة المنار، لأنا كلما تصفحنا منارك وراجعنا
ما ظهر من التفسير، نظن أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإذا بالجزء الأول
يطالعنا بخير ما أخرج للناس في هذا الباب.
وفي الحق أن هذا السفر آية الآيات ومعجزة المعجزات في التفسير إلى اليوم
وليس من المبالغة في القول أن أصارحك بأن هذا السفر الجليل منحة إلهية كبرى،
قدر الله بها أن يكمل فضلك، ويعظم أمرك، وما يدرينا ما يجود به الغيب عليك في
المستقبل القريب والبعيد.
لهذا أحمد الله لك، وأرجو أن يديمك سعيدًا آمنًا في سربك، صحيحًا في بدنك؛
لتكمل التفسير على النحو الذي سرت عليه إلى اليوم، كما أرجو أن يوفقك الله
قريبًا لإنجاز تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة، فالخير كل الخير في هدي
الكتاب.
ولقد حقق الله لي يا صديقي ما كنت أرجوه من قبل، فقد تمنيت من عهد بعيد
أن أكتب عنك كلمة الحق التي امتلأت بها نفسي؛ ليسجلها التاريخ لي ولك فيما
يسجل، وأنا أحوج إليها منك؛ فلك من الآثار الخالدة في خدمة العلم والدين ما لا
سبيل إلى إنكاره. أما أنا فأقل ما أنتفع به من وراء هذه الكلمة الصادقة أن يقول
المنصفون: إنها كلمة حق بريئة من الحقد والحسد، فرحم الله قائلها.
وقد كانت هذه الأمنية اللذيذة تتردد وتقوى في نفسي كلما انتشر فضلك،
وازدادت عناية الله بك، إلا أن الحياء الشديد قد حال دوني ودون أمنيتي، فقد خشيت
أن تقصر العبارة عن آداء ما تحمله نفسي لك من الإكبار، فيمقتني منصفوك وعارفو
فضلك، أو يقول حسادك وهم كثيرون: إن الأمر لا يعدو مدح صديق لصديق؛ أما
وقد ظهر الجزء الأول من تفسيرك وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن الزيادات
ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه، فها أناذا أتقدم إليك بكلمتي هذه شاكرًا داعيًا
لأبلغ النفس أمنيتها غير مبال بالتقصير، ولا بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون،
وتفضل يا صديقي بقبول خالص تحياتي والسلام.
... ... ... ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني
... ... ... ... مدرس التفسير والحديث بالقسم العالي للأزهر
(المنار)
الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني من أشهر علماء الأزهر المستقلي الفكر
العارفين بحال العصر، وحاجة المسلمين إلى الإصلاح الديني والمدني، وإخوانه
المشاركون له في هذه المزية قليلون، ولو كانوا كثيرين لما كان الأزهر محتاجًا إلى
الإصلاح، وحاجته إلى الإصلاح صارت مسألة اجتماعية بين جمهور أهله حتى
الجامدين منهم وبين سائر طبقات الناس، لا خفية كما كانت في أول عهد الأستاذ
الإمام , وقد كان الجامدون يضطهدون هؤلاء العلماء المستقلين ولا سيما دعاة
الاعتصام بالكتاب والسنة. ولكن الزمان يظهر فضلهم وشدة حاجة الأزهر إليهم
وسيكونون هم المحبين للعلم فيه إذا أذن الله أن يعود إليه مجده كما يحب كل مسلم
ثم إن الأستاذ الزنكلوني ممتاز فيهم بالصراحة والفصاحة قولاً وكتابة وخطابة
ومناظرة، يمده في ذلك ما أوتي من عزة النفس والشجاعة الأدبية، فهو يقول ما
يعتقد ولا يبالي بمخالفه فيه مهما تكن منزلته، ومهما يكن سبب خلافه له، وهذا ما
أشار إليه بقوله في آخر كلمته: إنه لا يبالي بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون.
لست أقول هذا لأثيبه حمدًا بحمد، وأقارضه ثناء بثناء، فكل منا بعيد الطبع
والخلق عن هذه التجارة أو المداينة، وإنما قلته لأبين لبعض قراء المنار في
الأقطار النائية الذين لا يعرفون من مزايا الرجل ما تعرفه مصر، ومن لا يحصى من
زائريها في هذا العصر، أن قيمة كلمته عندي ليست في إطرائي الذي لا أستحقه بل
في صدورها عن عقيدة وإخلاص، مع تواضع حمله على الاعتذار، فقد أرسل إليَّ
معها رقعة قال فيها: (هذه كلمتي أبعث بها إليك؛ عنوان فرح وشكر لله على ظهور
الجزء الأول من التفسير، أكتبها وأنا متحقق بأنها غير وافيه بالغرض. ولكن شفيعها
إخلاص صاحبها) فهو كأفراد أجواد العرب الذين كان أحدهم يبذل النوال العظيم
وربما كان كل ما في يده؛ ثم يعتذر مع هذا لمن يبذله له.
ما هذه أول منة لصديقي التليد الشيخ علي سرورعلى المنار، بل كان في أيام
المجاورة يدعو إلى المنار في أيام مسامحات الأزهر، ويطوف على البلاد في
مديرية الشرقية وغيرها فيحصل قيمة الاشتراك من المشتركين، ثم يوصلها إلينا
ولا يأخذ على ذلك عمولة ولا جزاءً - وكان هذا قبل شروعه في حضور دروس
الاستاذ الإمام - فهو عملٌ دعته إليه فطرته الزكية وميله العقلي إلى الإصلاح، فالله
تعالى يشكر له ذلك ويثيبه عليه والله شاكر عليم.
__________
(1) المنار: المراد برجال التاريخ من دونت تراجمهم في كتبه العامة أو الخاصة ببعض دون بعض؛ ككتب الجرح والتعديل وكتب الطبقات.(29/123)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الوقف وأصح ما ورد فيه وأشهر أحكامه [*]
روى الجماعة - أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث
عبد الله بن عمر: أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر، فقال يا رسول الله:
أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال
صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر
على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، ولفظ الشيخين أنه لا يباع أصلها - زاد
مسلم ولا يبتاع - ولا يورث ولا يوهب: في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي
سبيل الله وابن السبيل والضيف؛ لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف
أو يطعم صديقًا غير متمول، وفي لفظ غير متأثل مالاً، وفي بعض روايات
الصحيح أن تلك الأرض يقال لها ثمغ وأنها نخل.
وذكر الحافظ في الفتح الروايات في وصية عمر، أن تكون بنته حفصة أم
المؤمنين هي التي تتولى أمر هذا الوقف بعده، ثم يكون بعدها إلى الأكابر من آل
عمر، وذكر من رواية عمر بن أبي شبة أنه اطلع على نسخة صدقة عمر قال:
أخذتها من كتابه الذي كان عند آل عمر فنسختها حرفًا حرفًا؛ هذا ما كتب عبد الله
عمر أمير المؤمين في ثمغ؛ أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله،
فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها.
(قال الحافظ) : فذكر الشرط كله نحو الذي نقده في الحديث المرفوع، ثم
قال: والمائة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها مع ثمغ على
سننه الذي أمرت به، وإن شاء والي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل،
وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم.
(وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا، وذكرا جميعًا كتابًا آخر نحو هذا
الكتاب وفيه من الزيادة: وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه صدقة كذلك. وهذا
يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن معيقيبًا كان كاتبه في زمن
خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين فيحتمل أن يكون وقفه في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصية فكتب
حينئذ الكتاب. ويحتمل أن يكون أخر وقفيته، ولم يقع منه قبل ذلك إلا استشارته
في كيفيته، وقد روى الطحاوي وابن عبد البر من طريق مالك عن ابن شهاب قال:
قال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها.
فهذا يشرع بالاحتمال الثاني، وأنه لم تجز الوقف إلا عند وصيته، واستدل الطحاوي
بقول عمر هذا لأبي حنيفة وزفر في أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها،
وأن الذي منع من الرجوع؛ كونه ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يفارقه
على أمر ثم يخالفه إلى غيره. ولا حجة فيما ذكره من وجهين:
(أحدهما) أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر.
(ثانيهما) أنه يحتمل ما قدمته، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى صحة
الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع فله أن يرجع. وقد روى الطحاوي
عن علي مثل ذلك، فلا حجة فيه لمن قال: بأن الوقف غير لازم مع إمكان هذا
الاحتمال، وإن ثبت هذا الاحتمال كان حجة لمن قال بصحة تعليق الوقف وهوعند
المالكية، وبه قال ابن سريج وقال: تعود منافعه بعد المدة المعينة إليه ثم إلى ورثته
فلو كان التعليق مآلاً صح اتفاقًا، كما لو قال: وقفته على زيد سنة ثم على الفقراء.
(قال الحافظ) : وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف: قال أحمد:
حدثنا حماد - هو ابن خالد - حدثنا عبد الله هو العمري - عن نافع عن ابن عمر
قال: أول صدقة - أي موقوفة - كانت في الإسلام صدقة عمر، وروى عمر بن
شبة عن عمرو بن سعد بن معاذ قال: سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال
المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي إسناده الواقدي [1] وفي مغازي الواقدي أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام
أراضي مخيريق - بالمعجمة مصغر - التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة
المتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شريح أنه أنكر
الحبس ومنهم من تأوله، وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه إلا زفر
ابن الهذيل، فحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع
الوقف، فبلغه حديث عمر هذا فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن
عُلية فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع
الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. ا. هـ، ومع حكاية الطحاوي هذا
فقد انتصر كعادته، فقال قوله في قصة عمر حبس الأصل وسبل الثمرة لا يستلزم
التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك، ولا يخفى ضعف هذا التأويل
ولا يفهم من قوله وقفت وحبست إلا التأبيد، حتى يصرح بالشرط عند من ذهب إليه
وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها حبيس ما دامت السموات والأرض.
(قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه، وأحسن ما
يعتذر به عمن رده ما قال أبو يوسف؛ فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيرهم وأشار
الشافعي: إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام؛ أي وقف الأراضي والعقار،
قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة
تقطع تصرف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف
منفعته في جهة خير.
وفي حديث الباب من الفوائد؛ جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرد من غير
كنية ولا لقب، وفيه جواز إسناد الوصية والنظر على الوقف للمرأة، وتقديمها على
من هو من أقرانها من الرجال. وفيه إسناد النظر إلى من لم يسم إذا وصف بصفة
معينة تميزه، وأن الواقف يلي النظر على وقفه إذا لم يسنده لغيره، قال الشافعي:
لم يزل العدد الكثير من الصحابة فمن بعدهم يلون أوقافهم، نقل ذلك الألوف عن
الألوف لا يختلفون فيه، وفيه استشارة أهل العلم والدين والفضل في طرق الخير،
سواء كانت دينية أو دنيوية، وأن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع
الأمور، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر لرغبته في امتثال قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، وفيه فضل الصدقة الجارية،
وصحة شروط الواقف واتباعه فيها [2] وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظًا، وفيه
أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، فلا يصح وقف ما لا يدوم
الانتفاع به كالطعام.
(وفيه أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة؛ سواء قال تصدقت بكذا أو جعلته
صدقة حتى لا يضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو
وقف المنفعة، فإذا أضاف إليهما ما يميز أحد المحتملين صح بخلاف ما لو قال:
وقفت أو حبست، فإنه صريح في ذلك على الراجح، وقيل الصريح الوقف خاصة
وفيه نظر؛ لثبوت التحبيس في قصة عمر هذه، نعم.. لو قال: تصدقت بكذا على
كذا، وذكر جهة عامة صح. وتمسك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدقت بكذا بما
وقع في حديث الباب من قوله، فتصدق بها عمر ولا حجة في ذلك لما قدمته من أنه
أضاف إليها لا تباع ولا توهب، ويحتمل أيضًا أن يكون قوله فتصدق بها عمر؛
راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف أي فتصدق بثمرتها، فليس فيه متعلق لمن
أثبت الوقف بلفظ الصدقة مجردًا، وبهذا الاحتمال الثاني جزم القرطبي. وفيه
جواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة وهو الأصح
عند الشافعية.
وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف؛ لأن عمر
شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر أو
غيره، فدل على صحة الشرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعينه العادة كان فيما
يعينه هو أجوز، ويستنبط منه صحة الوقف على النفس، وهو قول ابن أبي ليلى
وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه، وقال به من المالكية ابن شعبان وجمهورهم
على المنع إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته،
ومن الشافعية ابن سريج وطائفة وصنف فيه محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ
البخاري جزءًا ضخمًا، واستدل له بقصة عمر هذه وبقصة راكب البدنة [3] بحديث
أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، ووجه
الاستدلال به أنه أخرجها عن ملكه بالعتق، وردها إليه بالشرط، وسيأتي البحث
فيه في النكاح، وبقصة عثمان الآتية بعد أبواب. واحتج المانعون بقوله في حديث
الباب: (سبل الثمرة) وتسبيل تملكيها للغير، والإنسان لا يتمكن من تمليك نفسه
لنفسه، وتُعُقِّبَ بأن امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم
الفائدة، والفائدة في الوقف حاصلة؛ لأن استحقاقه إياه ملكًا غير استحقاقه إياه وقفًا؛
ولا سيما إذا ذكر له مالاً آخر، فإنه حكم آخر يستفاد من ذلك الوقف، واحتجوا
أيضًا بأن الذي يدل عليه حديث الباب أن عمر اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه
بقدر عمالته؛ ولذلك منعه أن يتخذ لنفسه منه مالاً، فلو كان يؤخذ منه صحة الوقف
على النفس لم يمنعه من الاتخاذ، وكأنه اشترط لنفسه أمرًا لو سكت عنه لكان
يستحقه لقيامه. وهذا على أرجح قولي العلماء: إن الواقف إذا لم يشترط للناظر
قدر عمله جاز له أن يأخذ بقدر عمله , ولو اشترط الواقف لنفسه النظر
اشترط أجره، ففي صحة هذا الشرط عند الشافعية خلاف؛ كالهاشمي إذا
عمل في الزكاة، هل يأخذ سهم العاملين؟ والراجح الجواز ويؤيده حديث عثمان
الآتي بعد.
واستدل به على جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد
عن الثلث رد، وإن خرج منه لزمه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن عمر
جعل النظر بعده لحفصة وهي ممن يرثه، وجعل لمن ولي وقفه أن يأكل منه،
وتُعُقِّبَ بأن وقف عمر صدر منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي
أوصى به إنما هو شرط النظر.
واستدل به على أن الواقف إذا شرط للناظر شيئًا أخذه، وإن لم يشترط له
لم يجز إلا إن دخل في صفة أهل الوقف؛ كالفقراء والمساكين، فإن كان على
معينين ورضوا بذلك جاز.
واستدل به على أن تعليق الوقف لا يصح؛ لأن قوله: حبس الأصل
يناقض تأقيته، وعن مالك وابن سريج يصح، واستدل بقوله لا تباع على أن
الوقف لا يناقل به [4] وعن أبي يوسف: إن شرط الواقف أنه إذا تعطلت منافعه بيع
وصرف ثمنه في غيره، ويوقف فيما سمي في الأول، وكذا إن شرط البيع إذا رأى
الحظ في نقله إلى موضع آخر، واستدل به على وقف المشاع؛ لأن المائة سهم
التي كانت لعمر بخيبر لم تكن منقسمة. وفيه أنه لا سراية في الأرض الموقوفة
بخلاف العتق، ولم ينقل أن الوقف سرى من حصة عمر إلى غيرها من باقي
الأرض، وحكى بعض المتأخرين عن بعض الشافعية أنه حكم فيه بالسراية وهو
شاذ منكر، واستدل به على أن خيبر فتحت عنوة، وسيأتي البحث فيه في كتاب
المغازي إن شاء الله تعالى اهـ، كلام الحافظ وفي بعض كلامه بحث.
وروى أحمد والشيخان وغيرهم من حديث أنس واللفظ للبخاري قال: لما
نزلت {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، جاء أبو
طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، يقول الله تعالى:
{لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي
بيرحاء؛ قال: وكانت حديقة كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدخلها،
ويستظل فيها ويشرب من مائها، فهي إلى الله وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم،
أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله: (بخ
يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين)
فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه، قال: وكان منهم أُبي وحسان. قال:
وباع حسان حصته من معاوية. فقيل له تبيع صدقة أبي طلحة، فقال: لا أبيع
صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟ قال: وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني
جديلة الذي بناه معاوية اهـ.
قال الحافظ في الفتح عند قوله: وباع حسان حصته.. إلخ: هذا يدل على أن
أبا طلحة ملكهم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم؛ إذ لو وقفها لما ساغ لحسان أن
يبيعها، فيعكر على من استدل بشيء من قصة أبي طلحة في مسائل الوقف إلا فيما لا
تخالف فيه الصدقة الوقف ويحتمل أن يقال شرط أبو طلحة عليهم؛ لما وقفها عليهم أن
من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها، وقد قال بجواز هذا الشرط بعض
العلماء كعلي وغيره والله أعلم اهـ.
وليعلم أن حسان بن ثابت وأبي بن كعب لم يكونا من ورثة أبي طلحة، بل
كان حسان يجتمع معه في الأب الثالث وأبي يجتمع معه في الأب السادس؛ كما
بينه البخاري نفسه في سياق نسبه في أول (باب إذا وقف أو أصى لأقاربه ومن
الأقارب) وذكر الحافظ في شرح هذه الترجمة من الفتح ما نصه:
قال الماوردي: تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير
وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم؛ إذا لم يكن وارثًا ولا قاتلاً والوقف منع بيع
الرقبة والتصدق بالمنفعة على وجه مخصوص. وقد اختلف العلماء في الأقارب
فقال أبوحنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة
الأب قبل الأم: وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو
أم من غير تفصيل، زاد زفر وتقدم من قرب منهم وهي رواية عن أبي حنيفة أيضًا.
وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا
يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشرط ذلك، وقالت الشافعية: القريب من اجتمع في
النسب، سواء قرب أم بعد، مسلمًا كان أو كافرًا، غنيًا كان أو فقيرًا، ذكرًا كان أو
أنثى، وارثًا أو غير وارث، محرمًا أو غير محرم. واختلفوا في الأصول والفروع
على وجهين، وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل:
يقتصر على ثلاثة. وإن كانوا غير محصورين، فنقل الطحاوي الاتفاق على
البطلان وفيه نظر لأن عند الشافعية وجهًا بالجواز، ويصرف لثلاثة منهم ولا يجب
التسوية، وقال أحمد: في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر. وفي رواية عنه
القرابة كل من جمعه والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه، وقال مالك:
يختص بالوصية سواء كان يرثه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطى الأغنياء،
وحديث الباب يدل لما قاله الشافعي سوى اشتراط ثلاثة، فظاهره الاكتفاء باثنين
اهـ.
***
شروط الواقف
المشهور على الألسنة أن شرط الواقف كنص الشارع، يجب العمل به،
وهذا باطل على إطلاقه كما تقدم في تعليقنا على عبارة الحافظ ابن حجر بحديث
عائشة المتفق عليه في الولاء، وأقوال الحنابلة في هذه المسألة أقوى مما خالفها،
فننقل هذا الفصل عن كتاب الفروع منها قال:
ويرجع إلى شرطه في تقديم وتسوية وجمع وضد ذلك، واعتبار وصف
وعدمه وعدم إيجاره أو قدر المدة، واختار شيخنا لزوم العمل بشرط مستحب خاصة
وذكره ظاهر المذهب؛ لأنه لا ينفعه ويعذر غيره، فبذل المال فيه سفه ولا يجوز،
وأيده الحارثي بنصه الآتي في شرط أجرة للناظر، وقال شيخنا: ومن قدر له
الواقف شيئًا فله أكثر إن استحقه بموجب الشرع، وقال: الشرط المكروه باطل اتفاقًا،
وقيل: لا يتعين طائفة وقف عليها مسجد أو مقبرة كالصلاة فيه، وفي الانتصار:
يحتمل أن عين من يصلي فيه من أهل الحديث أو يدرس العلم اختص إن سلم؛
فلأنه لا يقع التزاحم بإشاعته، ولو وقع فهو أفضل؛ لأن الجماعة يراد له، وقيل
يمنع تسوية بين فقهاء كمسابقة. قال شيخنا: قول الفقهاء (نصوصه كنصوص
الشارع) يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل مع أن التحقيق أن لفظه ولفظ
الموصي والحالف والناذر، وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم
بها، وافقت لغة العرب أو لغة الشارع أو لا، قال: ولا خلاف أن من وقف على
صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحوه لم يصح، والخلاف في المباح
كما لو وقف على الأغنياء لا يخرج مثله هنا؛ لأنه يفعل لأنه مباح، ولا يجوز
اعتقاد غير المشروع مشروعًا وقربة وطاعة واتخاذه دينًا، والشروط إنما يلزم
الوفاء بها إذا لم يفضِ ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي، ولا يجوز المحافظة
على بعضها مع فوات المقصود بها، قال: ومن شرط في القربات أن يقدم فيها
الصنف المفضول، فقد شرط خلاف شرط الله كشرطه في الإمامة تقديم غير الأعلم،
فكيف إذا شرط أن يختص بالصنف المفضول.
والناظر منفذ لما شرطه الواقف، ليس له أن يبتدئ شروطًا، وإن شرط أن
لا ينزل فاسق وشرير ومتجوه ونحوه عمل به؛ وإلا يوجه أن لا يعتبر في فقهاء
ونحوهم، وفي إمام ومؤذن الخلاف، وظاهر كلامهم وكلام شيخنا في موضع،
وقال أيضًا: لا يجوز أن ينزل فاسق في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه
يجب الإنكار عليه وعقوبته، فكيف ينزل وإن نزل مستحق تنزيلاً شرعيًّا، لم يجز
صرفه بلا موجب شرعي وإن حكم حاكم بمحضر الوقف فيه شروط، ثم ظهر
كتاب وقف غير ثابت وجب ثبوته والعمل به إن أمكن، وإن شرط للناظر إخراج
من شاء منهم وإدخال من شاء من غيرهم بطل؛ لمنافاته مقتضاه لا قوله: يعطي
من شاء منهم ويمنع من شاء؛ لتعليقه استحقاقه بصفة ذكره الشيخ [5] وقال الحارثي:
الفرق لا يتجه، وقال شيخنا كل متصرف بولاية إذا قيل ما شاء يفعل، فإنما هو
لمصلحة شرعية حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا، فشرط باطل
لمخالفته الشرع، وغايته أن يكون شرطًا مباحًا، وهو باطل على الصحيح المشهور،
حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه، قال وعلى
الناظر بيان المصلحة، فيعمل بما ظهر، ومع الاشتباه إن كان عالمًا عادلاً يسوغ له
اجتهاده، قال: ولا أعلم خلافًا أن من قسَّم شيئًا يلزمه أن يتحرى العدل، ويتبع ما
هو أرضى لله ورسوله استفاد القسمة بولاية كإمام وحاكم أو بعقد كالناظر والوصي
ويتعين مصرفه نقله الجماعة، وقيل: إن سبَّل ماء للشرب جاز الوضوء به،
فيشرب ماء للوضوء يتوجه عليه وأولى اهـ المراد منه.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) نكتب هذا الفصل وما يتصل به؛ إجابة لطلب الكثيرين بمناسبة اقتراح بعض أعضاء البرلمان
المصري إلغاء الوقف الأهلي.
(1) يعني وهو ضعيف الحديث.
(2) أي إذا لم يكن مخالفًا لنص شرعي، كما قال (صلى الله عليه وسلم) في الحديث المتفق عليه (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؛ ما كان من شرط ليس في كتاب الله؛ فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) .
(3) الرجل الذين أذن له النبي (صلى الله عليه وسلم) بركب البدنة التي كان يسوقها هديًا إلى الحرم، متأثمًا من ركوبها.
(4) أي لا يبادل به.
(5) يعني الموفق ابن قدامة صاحب المغني والمقنع.(29/128)
الكاتب: محمد نصيف
__________
إبطال الوقف الأهلي
فتوى للإمام مصلح نجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
في إبطال الوقف على الذرية.
نقلها صديقنا الأستاذ الشيخ محمد نصيف من كتاب روضة الأفكار والأفهام
لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام (وهو تاريخ نجد في زمان الإمام
محمد بن عبد الوهاب وأمراء نجد آل سعود) المطبوع في بومباي الهند بالمطبعة
المصطفوية عام 1337، الجزء الأول صفحة 160 وهو كثير الأغلاط والتحريف.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجَنَف والإثم،
ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة؛ وذلك أن السلف اختلفوا
في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه مثل: الوقف على الأيتام
وصوام رمضان أو المساكين أو أبناء السبيل. فقال شريح القاضي وأهل الكوفة:
لا يصح ذلك الوقف، حكاه عنهم الإمام أحمد، وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف
صحيح؛ واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة، فهذه الحجج التي
ذكرها أهل العلم، يحتجون بها على علماء أهل الكوفة مثل (صدقة جارية) [1]
ومثل وقف عمر وأوقاف أهل المقدرة من أصحابه على جهات البر التي أمر الله بها
ورسوله ليس فيها تغيير لحدود الله.
وأما مسألتنا: فهي إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة
الله، وتمرد عن دين الله؛ مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل ولا تأكل
منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فرارًا من وصية الله
بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا
العقار لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر
تُقَرِّب إلى الله [2] ويوقف على هذا الوجه قاصدًا وجه الله، فهذه مسألتنا. فتأمل هذا
بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من أوله، فنقول:
من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك
بالتقرب إليه وذلك مثل أوقافنا هذه، إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأته أو
امرأة ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطي من حرمه الله أو يزيد عما فرض
الله أو ينقص من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعدًا عن الله، فالأدلة
على بطلان هذا الوقف وعوده طلقًا، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن
تحصر، ولكن من أوضحها دليل واحد؛ وهو أن يقال لمدعي الصحة: إذا كنت
تدعي أن هذا مما يحب الله وسوله وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض
عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان
مجبول على حبه لولده وإيثاره على غيره حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15) ، فإذا
شرع الله لهم أن يوقفوا أموالهم على أولادهم ويزيدوا من شاءوا، أو يحرموا النساء
والعصبة ونسل البنات، فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟ ولأي شيء لم يفعله التابعون؟ ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟
أرغبوا عن الأعمال الصالحة، ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم وعلى
العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عشر [3] أم تراهم خفي عليهم
حكم هذه المسألة، ولم يعلموها حتى ظهر هؤلاء فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم
شأنه وأعز سلطانه.
فإن ادعى أحد أن الصحابة فعلوا هذا الوقف، فهذا عين الكذب والبهتان؛
والدليل على هذا أن هذا الذي تتبع الكتب وحرض على الأدلة، لم يجد إلا ما ذكره
ونحن نتكلم على ما ذكره.
فأما حديث أبي هريرة الذي فيه (صدقة جارية) فهذا حق، وأهل العلم
استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا
على من غيَّر حدود الله وتقرب إليه بما لم يشرعه، ولو فهم الصحابة وأهل العلم
هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه.
وأما حديث عمر أنه تصدق بالأرض على الفقراء والرقاب والضيف وذوي
القربى وأبناء السبيل، فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج
على الوقف على الأولاد ليس له حجة إلا هذا الحديث؛ لأن عمر قال: لا جناح على
من وليه أن يأكل بالمعروف، وأن حفصة وليته ثم وليه عبد الله بن عمر،
فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة.
وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح [4] وذكر
أن أكل الولي ليس بزيادة على غيره، وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا،
يقول صاحب الضحية لوليها الجلد والأكارع، ففي هذا دليل من جهتين:
(الأول) : أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره، لم يوقفوا على
ورثتهم، ولو كان خيرًا لبادروا إليه، وهذا المصحح لم يصحح بقوله: (ثم أدناك
أدناك) ، فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء وأبناء السبيل، فما باله
لم يوقف عليهم؛ أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل؟ أم تظنه أنه هو ورسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله.
(الثاني) : أن من احتج على صحة الوقف على الأولاد وتفضيل البعض،
لم يحتج إلا بقوله: (تليه حفصة ثم ذوو الرأي وأنه يأكل بالمعروف) وقد بينا
معنى ذلك وأنه لم يبر أحدًا، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك. فإذا كان
المستدل لم يجد عن الصحة إلا هذا، تبين لك أن قولهم تصدق أبو بكر بداره على
ولده وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته ليس معناه كما فهموا،
وإنما معناه أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا
البلد نزلوا تلك الدار؛ لأنهم من أبناء السبيل كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها
وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يوقف مسجدًا ويصلي فيه، وعبارة
البخاري في صحيحه: وتصدق أنس بدار فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير
بدوره واشترط للمردودة من بناته أن تسكن. فتأمل عبارة البخاري يتبين لك أن ما
ذكره عن الصحابة مثل: من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في هذا المسجد،
ويقول إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم، فأين هذا من وقف الجَنف والإثم
على أن هذه العبارة من كلام الحميدي، والحميدي في زمن القاضي أبي يعلى.
وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن
احتج بهذا فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا
معناه؟ ! ولله الحمد.
إذا تبين لك أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفضيل، لم يجد إلا حديث
عمر وقوله ليس على من وليه جناح.. إلخ، وأن الموفق وغيره ردوا على من
احتج به [5] تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة على بطلان الوقف الجنف
والإثم.
وأما قوله: لم يكن من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذو مقدرة
إلا وقف، فهل هذا يدل على صحة وقف الجَنف والإثم، وما مثله إلا كمن رأى
رجلاً يصلي في أوقات النهي، فأنكر عليه فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا
صَلَّى} (العلق: 9-10) ، ويقول: إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يصلون أو يذكرون فضل الصلاة؛ وكذلك مسألتنا إذا قلنا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) ، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (النساء: 12) ، وغير ذلك أو قلنا: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا
وصية لوارث) ، أو قلنا: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) غلَّظ القول فيمن
تصدق بماله كله، أو قلنا: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) [6] وادعوا علينا أن
الصحابة وقفوا هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة حتى يحتج علينا بذلك؟
وأما قول أحمد: من رد الوقف فكأنما رد السنة، فهذا حق ومراده وقف
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف
الإثم والجنف، فمن رده فقد عمل بالسنة ورد البدعة واتبع القرآن.
وأما قوله: إن في صدقة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يأكل
بالمعروف، وأن زيدًا وعمر سكنا داريهما التي وُقفتا؛ فيا سبحان الله من أنكر هذا
وهذا كمن وقف مسجدًا وصلى فيه هو وذريته، أو وقف مسقاة واستقى منها وذريته،
وقول الخرقي: والظاهر أنه عن شرط فكذلك، وهذا شرط صحيح وعلم صحيح؛
كمن وقف داره على المسجد أو أبناء السبيل واستثنى سكانها مدة حياته، وكل هذا
يردون به على أهل الكوفة، فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم.
وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ، وقوله:
(صدقتك على رحمك صدقة وصلة) وقوله: (ثم أدناك أدناك) وأشباه ذلك، فكل
هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال: {يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) ، وقف الإنسان على
أولاده ثم أخرج نسل الإناث محتجًا بقوله: (ثم أدناك أدناك) أو صلة الرحم،
فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة أو عمة فقيرة فتزوجها يريد الصلة، واحتج
بتلك الأحاديث، فإن قال: إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا: وحرم تعدي
حدود الله التي حدَّ في سورة النساء، قال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ
يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (النساء: 14) فإذا قال الوقف ليس من هذا، قلنا: هذا
مثل قوله: (من تزوج خالة إذا تزوجها لفقرها ليس من هذا) فإذا كان عندكم بين
المسألتين فرق فبينوه.
وأما قول عمر: إن حدث بي حادث إن ثمغي صدقة هذا يستدلون به على
تعليق الوقف بالشرط، وبعض العلماء يعطله فاستدلوا به على صحته، وأما القول:
إن عمر وقفه على الورثة فيا سبحان الله كيف يكابرون المنصوص ووقف عمر
وشرطه ومصارفه في ثمغ وغيرها معروفة مشهورة، وأما قول عمر: إلا سهمي
الذي بخيبر أردت أن أتصدق بها فهذا دليل على أهل الكوفة كما قدمناه، فإن هذا
دليل على صحة هذا الوقف المعلول الذي بطلانه أظهر من بطلان أصحابه
بكثير [7] .
وأما وقف حفصة الحلي على آل الخطاب فيا سبحان الله هل وقفت على
ورثتها أو حرمت أحدًا أعطاه الله أو أعطت أحدًا حرمه الله أو استثنت غلبة مدة حياتها
فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً على الضعيف من آل مقري أو مثل ذلك هل أنكرنا هذا
وهذا وقف حفصة، فأين هذا مما نحن فيه.
وأما قولهم: إن عمر وقف على ورثته فإن كان المراد ولاية الوقف فهو
صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد القائل أنه ظن أنه وقف يدل على صحة
ما نحن فيه فهذا كذب ظاهر ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر، وأما كون
حفصة وقفت على أخ لها يهودي فهو لا يرثها ولا ننكر ذلك، وأما كلام الحميدي
فتقدم الكلام عنه.
وسر المسألة أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد وعلى
الفقراء والقربات الذين لا يرثونهم فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة،
ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله وأشياء [8] حكم الجاهلية، كل
هذا ظاهر لا خفاء فيه، ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه، وأراد به التلبيس على
الجهل كما فعل غيره فالتلبيس يضمحل وإن كان هذا قدر فهمه وأنه ما فهم هذا الذي
تعرفه العوام في الخلفاء والخليفة على الله؟
وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} (الحشر: 7) فيا لها من كلمة ما أجمعها، ووالله إن مسألتنا هذه من إنكارها وقد أتانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم حدود الله والعدل بين الأولاد ونهانا عن تغيير
حدود الله، والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوجه وجه
الله لأجل من أفتاه بذلك فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين
الله ولو صحت نية فاعلها فقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [9] هذا نص الذي قال الله فيه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} (الحشر: 7) وقال:
{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) فمن قَبِلَ ما آتاه الرسول وانتهى عما نهى
وأطاعه ليهتدي واتبعه ليكون محبوبًا عند الله فليوقف كما أوقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكما وقف عمر رضي الله عنه وكما وقفت حفصة وغيرهم من الصحابة
وأهل العلم، وأما هذا الوقف المحدث المعلول المغير لحدود الله، فهذا الذي قال الله
فيه بعد ما حدَّ المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ
العَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ
مُّهِينٌ} (النساء: 13- 14) ، وقد علمت ما قال الرسول فيمن أعتق ستة العبيد
وما ردوا أبطل من ذلك فهو شبيه من أوقف ماله كله خالصًا لوجه الله على مسجد أو
صُوام أو غير ذلك فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف؟
وأما قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الحج: 77) فوالله الذي لا إله إلا هو إن فعل الخير اتباع ما
شرع الله وتبطيل من غيَّر حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله، هذا هو
فعل الخير المعلق به الفلاح خصوصًا مع قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم
ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) وقوله لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا
محارم الله بأدنى الحيل وقوله: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها
فباعوها وأكلوا ثمنها) فليتأمل اللبيب الخالي عن التعصب والهوى الذي يعرف أن
وراءه جنة ونارًا، الذي يعلم أن الله يطلع على خفيات الضمير هذه النصوص ويفهمها
فهمًا جيدًا ثم ينزلها على مسألة وقف الجنف والإثم، ثم يتبين له الحق إن شاء الله
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) أي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم والسنن الثلاث: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .
(2) أوقف يوقف لغة قليلة، ووقف أكثر وأفصح.
(3) عصر الشيخ رحمه الله.
(4) الشيخ الموفق هو ابن قدامة صاحب المغني في الفقه الذي هو أجل كتب الإسلام في الفقه وصاحب المقنع، وأما الشارح فهو ابن أخيه شارح المقنع والكتابان يطبعان الآن بمطبعة المنار بأمر الإمام عبد العزيز ملك الحجاز ونجد.
(5) وقد تقدم فيما نقلنا عن الحافظ ابن حجر من شرح الحديث حكاية هذا الرأي وأنه تعقبه بمثل ما نقله الشيخ هنا عن الشيخ الموفق وغيره.
(6) رواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير مرفوعا.
(7) كذا في الأصل وفيه بياض بعد كلمة أصحاب، ويجب أن يكون المعنى المراد أن قول عمر - على صحة وقفه- لا الوقف المعلول الذي بطلانه إلخ.
(8) كذا في الأصل.
(9) الأول رواه أحمد والشيخان وغيرهما، والثاني رواه أحمد ومسلم، وكلاهما عن عائشة رضي الله عنها.(29/136)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
من عنيزة إلى قاهرة مصر
في رجب سنة 1346
بسم الله الرحمن الرحيم
أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل
السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده
في كل أحواله آمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما
اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها
الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام
والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم،
وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه
الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا
واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء
الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم من
أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من
الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد
وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها
من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر،
وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير
من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي قد ذكر في
مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى
قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول
الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنه
يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين
الإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها
وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها،
ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب
إهمال علمها وعملها.
وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي
أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة
الفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في
الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد
والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها
الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها
الشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدم
وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة
له، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه
شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن
مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها
بكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد
تصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا
يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول
صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن.
وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي:
التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها
تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون
بالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله
ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة
ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا
شعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليد
من يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم
يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا
بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل، فالأمل قد تعلق بأمثالكم
لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء
فضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون،
وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه
والإشارة؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم؛ لأن
فيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا
فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما
يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله على
محمد وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الداعي
... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن ناصر السعدي
(المنار)
إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله
والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إليهما على الوجه
الذي كان عليه جمهور السلف الصالح، وفي الرد على خصومهما كما يرى في
مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة
اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد
نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة، وإن كان لها اتباع قليلون وتفسير
الشيخ طنطاوي جوهري لم نطلع عليه وإنما رأينا جزءًا واحدًا منه عند أحد
أصدقائنا فتصفحت قليلاً منه في بضع دقائق فرأيت أن همه منه حث المسلمين على
علوم الكون وشرح الكثير من مسائلها بمناسبة الآيات التي ترشد الناس إلى آياته
تعالى في خلقه ونعمه على عباده كما جرى عليه في كتب أخرى له، وما نعرفه
إلا مسلمًا يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع
بعلوم الكون التي تتوقف عليها قوة الدول وثروة الأمم في هذا العصر، ونحن قد
سقناه بالدعوة إلى هذا، وبيناه بالدلائل في مواضع كثيرة من تفسيرنا من المنار وإن
كنا أشرنا إلى الانتقاد على خطة الأستاذ المذكور في تفسيره فيما بيناه من أساليب
المفسرين في فاتحة الجزء الأول من تفسيره ومراجعة ما كتبه من الآيات التي
ذكرتموها.
ويجب عليكم أن تفرقوا بين علوم الكون التي ندعو إليها وبين الفلسفة قديمها
وحديثها، فالفلسفة آراء ونظريات فكرية، وعلوم الكون عبارة عن العلم بما أودع
الله تعالى في خلقه من المنافع كمنافع الماء وبخاره والهواء وما تركبا منه ومنافع
الكهرباء التي منها التلغراف والتليفون وغيرهما بجميع الصناعات العجيبة والآلات
الحربية من برية وبحرية وهوائية وجميع العقاقير الطبية مأخوذة من هذه العلوم
فهي حقائق قطعية ثابتة بالحس، فمن يزعم أنها تخالف ما بعث به الله رسله فقد
طعن في دين الله وصد العلماء بها عنه؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا حواسهم.
وأما كفر من يكفرون في هذا العصر فأكثره من تأثير فلسفة الإفرنج المخالفة
لفلسفة اليونانيين ومن جرى على طريقتهم كالعرب، وإن خالفهم في بعض
النظريات كابن سينا وابن رشد وغيرهما، والرد على هؤلاء بما يرجى أن ينفعهم
أو يقي كثيرًا من الناظرين في فلسفة العصر من إضلالهم يتوقف أحيانًا على تأويل
بعض الآيات والأحاديث تأويلاً ينطبق على مدلولات اللغة في مفرداتها وأساليبها
ويتفق مع العلم والعقل.
وليعلم أخونا صاحب هذه الرسالة أن الملاحدة والمعطلين في مصر وأمثالها قد
يصرَّحون بكفرهم ولا يخشون عقابًا ولا إهانة فهم لا يحتاجون إلى التستر بالإسلام
كزنادقة الباطنية المتقدمين، وقصارى ما يلقونه من النقد إذا صرَّحوا بكفرهم في
الكتب أو الجرائد أن يرد عليهم بعض المسلمين بالكتابة والناس أحرار فيها، فإذا
ادعى بعضهم مع نشر الكفر أنه مؤمن وجد من ينصره ويقول: إن ما كتبه لا ينافي
الإيمان ولا يصادم الإسلام، ولم يصرح أحد من المصريين في هذا العهد بالطعن
في الإسلام وتكذيب القرآن بمثل ما صرَّح به الدكتور طه حسين المشتغل بالجامعة
المصرية تدريسًا وتأليفًا ولم يلق أحد من التكفير والتجهيل والطعن على ذلك مثل ما
لقي من الكُتَّاب والمؤلفين من علماء الدين وعلماء الدنيا حتى اقترح بعض أعضاء
مجلس النواب عزله من الجامعة فلم تعزله الحكومة؛ لأن أنصاره فيها كانوا أقوى
من خصومه وكان منهم عدلي باشا رئيس الوزارة وثروت باشا وزير الخارجية
الذي طرز الدكتور طرة كتاب الطعن باسمه، وعلي باشا الشمسي وزير المعارف
وأحمد لطفي السيد مدير الجامعة.
وقد بيَّنا في فاتحة تفسيرنا وفي مواضع أخرى منه مسألة التأويل فذكرنا أننا
نلم بتأويل بعض الآيات لأجل الدفاع عن القرآن، ورد بعض الشبهات التي يوردها
الفلاسفة أو غيرهم عليها حتى لا يكون لهم حجة مقبولة عليها مع تصريحنا بأن
اعتقادنا الذي ندعو إليه ونرجو أن نموت كما نحيا عليه هو اتباع مذهب السلف في
كل ما يتعلق بعالم الغيب من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وجنته وناره.
والتأويل قد يكون المنقذ الوحيد لبعض الناس من الكفر وتكذيب القرآن؛ إذ
من المعلوم أن الموقن بصدق القرآن لا يخرج من الملة بفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا
لفهم غيره إذا لم يكن في فهمه هذا جحد لشيء مجمع عليه معلوم من الدين
بالضرورة، ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير
المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه، فإنني كنت منذ سنين
كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث
والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها، وقد كنت
كتبت إلى إمامهم بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء ليوزعها على
أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين ولكن لم يأتني منه جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك
النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها.
__________(29/143)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خرافات عباد القبور في الصومال
جاءنا من الموحد السني صاحب الإمضاء الرمزي في (مركة - بنادر)
بالصومال الرسالة الآتية:
ظهرت بهذا القطر الصومالي الإسلامي البحت فئة تشبه الأَرَضَة التي تأكل
خشب السفينة، تلك الفئة الضالة المضلة التي تجردت من كل عاطفة بعد أن خلت
من كل مزية وفضيلة، تلك الفئة التي تظهر في كل زمان ومكان يفتنون المسلمين
بزيارة المشاهد والقبور والذبح والنذور ويزينون لهم الخرافات بزخرف أقوالهم
وبظاهر كبر عمائمهم وطول ذقونهم حتى ليخيل للناظر لأول مرة أنهم من أفاضل
العلماء أو من الرجال والوجهاء على حين لو اطلعت على ما في قلوبهم أو تيسر لك
الوقوف على أسرارهم وما يفعلونه في الخفاء لوليت منهم فرارًا ولملئت منهم رعبًا.
فياللأسف وايم الله لقد فشت بهذا القطر الإسلامي البحت المنكرات والخرافات
بزيارات المشاهد والقبور والذبح لها والطواف بها كطواف الكعبة المشرفة
وخصوصًا عند مشهد عويس (أويس القرني) بمقدشوه إذ تجتمع بهذه الزيارة الألوف
المؤلفة وعند الطواف كل طائفة تأمر الأخرى بآية الاستغفار هكذا {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (نوح: 10-11) ثم يتوجهون
نحو البلاد يطوفون طولاً وعرضًا صائحين بأعلى أصواتهم بآية الاستغفار على ما
تقدم إلى أن تصل كل قبيلة حارتها فينتهي الاحتفال، وبعد غروب الشمس يتوجه نساء
البلاد نحو المشهد للزيارة ومعهن طبول وعيدان خشب مثقوب يصفقن بها بأيديهن
حاملات للبخور ويمكثن هناك قدر ساعتين يغنين ويمدحن سيدتنا فاطمة الزهراء،
وعند القيام يتبركن بصاحب المشهد بأخذ شىء قليل من تراب المحل يأكلن منه لأجل
الحبل أو للجاه والقبول عند الرجال وغير ذلك.
وكذلك تأسست من مدة قريبة زيارات جديدة للسيد أحمد الرفاعي بمقدشوه
وغيرها وهي من أكبر المنكرات، وليلة زيارة السيد المذكور ترخص الدولة جميع
اللعوبات والملاهي، كاليوم يعمل بها الطبول والمزامير والرقص والطنبرة السودانية
ولعب الزار ورقص في الخدم وغيرها من أصناف لعب الأرض حول المسجد الذي
تقام فيه بدع الطريقة الرفاعية مدة أربع ليال، وشيخ الطريقة ومريدوه وأنصاره
الناشرون للخرافات داخل المسجد يتلون مناقب السيد أحمد الرفاعي، والغوغاء
والطبول والمزامير حولهم ولا ينكرون عليهم شيئًا سوى أنهم يهنئ بعضهم بعضًا
بأن هذه السنة للزيارة تحسنت جدًّا، يكثر أصناف الرقص والملاهي أمام المسجد
والغرض من قولهم: تحسنت الزيارة لديهم، نعم تحسنت جدًّا بحصول الدراهم
والمال من عامة الجهال، عباد القبور والخيال، حتى إن أحد السادة ادعى أنه رأى
سيدتنا الزهراء فبنى لها مشهدًا يُزَار كل سنة وتجتمع عنده ناس كثيرون لتلاوة
المولد النبوي الشريف، وإن المنكبين على هذه الزيارة النساء فقط؛ لأن منهم
يحصل المقصود.
وكذلك زيارة الشيخ صوفي المشهور بعلمه وورعه المدفون بمقدشوه له زيارة
عظيمة تجتمع إليها الخلائق من جميع أنحاء القطر، ويكون بها رخصة لجميع
الملاهي والرقص مثل ما تقدم ذكره، ولكن قبة الشيخ المذكور خارج المدينة بعيدة
من محل الراقصات والطبول والمزامير، وعشية ليلة الزيارة تروح إلى القبة جميع
الطرائق بزفات كمثل زفة الرفاعي والقادري وزفة الصالحية والأحمدية، ويذكرون
هناك أذكارًا مبدلة وأسماء محرَّفة إلى غروب الشمس فإذا غربت توجهت زفات
الطرائق نحو المدينة إلى بيت أولاد الشيخ المذكور وهناك يتلون الفاتحة وينتهي
عملهم، وتلك الليلة تروح نساء المدينة ويمكثن هناك طول الليل إلى قرب الفجر
وتذبح البقر وبعض الغنم ويستمر الطبخ هناك طول الليل، والبعض إلى ثاني يوم
إلى وقت الرجوع يدخلن لتقبيل التابوت وأخذ قليل من تراب القبر.
ومن هذا النوع زيارة الشيخ عثمان بمركة يطوفون بقبته مثل زيارة عويس
(أويس) القرني المتقدم ذكره، وتلك الزيارة لها فسحة لجميع اللعوبات أصحاب
الطبول والمزامير وغيرها وتجتمع خلائق من أنحاء القطر الصومالي رجالاً ونساء
وأغلبية هذه الخلائق تجتمع لأجل الفحشاء والمنكرات، وثاني ليلة تكون زيارة
النساء الناشئات على الخرافات وسيء العادات فيغتسلن من ماء بركة المسجد
عاريات؛ لأن الشيخ المدفون كان يغتسل عند هذه البركة في أيام حياته، ومن
اعتقاداتهم أن من اغتسل من تلك البركة فقد محا الله ما تقدم من ذنوبه، ويقضي الله
مراده ولا يصيبه داء طول السنة ولا يخلو من اختلاط بعض الشبان معهن، وثالث
ليلة تجتمع جميع الطرائق، وكل طريقة تأخذ راية من الرايات التي على المسجد
ويدخلون في البلاد بزفات وحامل الراية أمامهم وعند مرورهم بالأزقة يقرب حامل
الراية حول شبابيك البيوت قصد التبرك بمسح الراية على وجوه النساء ويربطن
بالراية بعض نقود لحامل الراية الولي المذكور إلى أن يصل الجميع إلى دار القائم
بخدمة الولي المذكور فتنتهي الزيارة هكذا.
ومثله زيارة رجل عالم من علماء مركة وشيخ الطريقة الأحمدية تجتمع لها
جميع البوادي البرية وأهل بلدان أخرى رجالاً ونساء ويختلط الحابل بالنابل فهي
أعظم زيارة من نوعها لجمع المال من الجهال العامة ويجري بها حسب ما تقدم من
الكلام، وأحيانًا يقف أحد أولاد الميت ويخطب في القوم بأن من فاته هذه الزيارة
كمن فاته الحج بمكة والوقوف بعرفات.
وكذلك زيارة أحد علماء مقدشوه ورئيس القضاة سابقًا توفي إلى رحمة الله من
مدة قريبة فبنت الدولة على قبره أحسن قبة وأنشأت له زيارة بكل سنة مثل هذه
الأمور المتقدمة من عباد القبور الخرافيين، وإنها لخطة طيبة لجمع المال من عامة
الجهال بدون تعب، ومن هذا القبيل كل من مات له والد أو ولد أو أخ بنى على
قبره وبعد حلول سنة رتب الزيارة على القبر ونادى في البلاد بحضور زيارة الشيخ
فلان اليوم فتجتمع خلائق كثيرة: فبعض لأجل الأكل، وبعض للزيارة والتبرك من
الشيخ المدفون، وبعد تلاوة المولد النبوي الشريف يقف عند الباب أحد أقرباء
الميت يسأل الناس الخارجين من القبة واحد بعد آخر إيش جبت للشيخ حق الزيارة
فيتلجلج الزائر فيدفع الذي يتيسر له بجيبه خوف أن يبطش به الشيخ المدفون في
الليل عند المنام.
فإذا نصح لهم ناصح كفَّروه وأخرجوه من الدين بسبب أنه أهان معبودهم
المشهور أو المقبور فلقبوه بعدئذ بالوهابي أو الإرشادي وعندهم أصحاب هذه
الألقاب أهل بدعة وزندقة وخارجون عن المذاهب الأربعة:
فهل يجوز لهم أن يتجروا بالأموات؟ وهل يجوز أكل تراب المشهد؟ أو
تقبيل التابوت أو يحلفوا بهم؟ وهل يجوز الطواف على الصفة المتقدمة؟ وما حكم
هذه الأمة وهذه حالتها وهذه الزيارات المذكورة وخلافها أغلبها بدعية وشركية؟
ربنا اهدنا إلى الصراط المستقيم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
أحيي فضيلتكم، وبعد فإن دفاعكم عن الدين الإسلامي يشجعني على سؤالي هذا،
وأن أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى راجيًَا رد هذا
الجواب وإفادتي وأهل هذا القطر بنشره في مجلة المنار، نفعنا الله بكم وبالمسلمين
آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء الحقيقي
(المنار)
إن خرافات أهل الطرائق المنسوبة إلى الصوفية قد أفسدت عوام المسلمين في
المشرق والمغرب، وإن فتنتها في إفريقية أعظم مما في غيرها، ويظهر أن
إفسادها لدين أهل الصومال أشد من إفسادها لغيرهم؛ لعدم وجود العلماء العارفين
بالكتاب والسنة ومذاهب الأئمة، وإن هذا الفساد عندكم لم يُبق للتوحيد الإسلامي بقية
تعصم أصحابها من دعاء غير الله ورجاء النفع وخوف الضرر من الموتى بدون
الأسباب العادية التي يتساوى فيها البشر.
فما سألتم عنه من المتاجرة بالأموات وأكل تراب المشهد والقبر وتقبيل
التوابيت لو لم يكن ناشئًا عن عقيدة وثنية وخرافية شركية لكانت من المعاصي
العادية، ولكن كل هذه أعمال وثنية صرفة وأصحابها ممن وصفهم الله في كتابه
بأنهم {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) وبقوله:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165)
وبقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية، وبقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللَّهُ} (الشورى: 21) نعم، إن كل هذه الجموع التي وصفتم أعمالها عند هذه
المشاهد والمقابر يتقربون إلى الله تعالى بما يعملون، وكل ما يتقرب به إلى الله فهو
عبادة.
وأجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يُعْبَدُ إلا بما شرعه من الدين وبيَّنه عنه
خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، فإن عُبِدَ بما لم يشرعه كانت العباده معصية كما
قال الفقهاء في صلاة الرغائب وصلاة شعبان قال النووي في المنهاج: (وصلاة
رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان) فكيف القول ببدع القبور الوثنية وهي
عبادة لغير الله، نسأله تعالى أن ينصر إمام السنة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز
ونجد وقومه ليجعل الحرمين الشريفين مثابة لإعادة دين التوحيد بالعمل كما كان،
فإن نشره بالعلم وحده صار متعذرًا؛ لعموم الجهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________(29/147)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مختارات من الجرائد
فصل الدين عن السياسية [1]
من جملة بنود بروغرام الوزارة البلجيكية الجديدة مساعدة المبشرين للدين
المسيحي على تنصير أهل الكونغو الوطنيين.
وهذا البروغرام قد قُرئ في المجلس النيابي وجرى قبوله مع أن أكبر حزب
في بلجيكا هو حزب الاشتراكيين إذا قيس بكل من سائر الأحزاب السياسية في هذه
البلاد، ومعلوم أن حزب الاشتراكيين غير متدين لكنه لم يعترض.
ونحن لا يسوءنا أصلاً أن يتنصر أهالي الكونغو ويتخلصوا من الفتيشية ولا
نخشى أن النزر من المسلمين العرب الذين في تلك البلاد يتحولون عن الإسلام،
كما أننا نعتقد أن مرمى الحكومة البلجيكية في مشروع الدعاية المسيحية هو
الفتيشيون الذين هم الأكثرية في الكونغو، لذلك فكلامنا ليس من باب الاعتراض
على مشروع التنصير الذي قرَّرت الحكومة البلجيكية معاضدته، ولكن مقصودنا من
هذا الخبر شيء آخر، وهو أن الحكومات المتشبعة بروح المدنية لا تعادي الدين
كما يقول بعض الملحدين، بل هي تعاونه وتتزلف بنشره إلى شعوبها.
وعلى كل الأحوال فدولة بلجيكا دولة مدنية تامة الإرادة.
وعلى كل الأحوال أمة بلجيكا أمة متمدينة راقية لا تنحط عن أمة أخرى
أوربية في سلم الاجتماع ولا في درجات الثقافة.
وهي مع ذلك تجعل من أركان بروغرامها نشر الدين المسيحي في مستعمرة
الكونغو التي هي من أعظم مستعمرات أوربة في أفريقية وأغناها.
إذن المدنية تجتمع مع الدين
إذن الحكومة تتصل بالكنيسة.
إذن اللادينية ليست شرطًا من شروط الحضارة الأوربية.
إذن بلجيكا أمة مسيحية، لا تزال مسيحية وحكومتها تتقرب إليها بإعلان نشر
الدين المسيحي.
إذن هذه الدعاية الدينية لن تضير رقي بلجيكا شيئًا.
إذن الحكومات الشرقية التي تزعم أنها إنما تقطع صلتها بالدين الإسلامي
اقتداء بحكومات أوربة التي بزعمها قطعت صلتها بالدين المسيحي إنما هي حكومات
تضلل أفكار السُّذَّج من رعيتها وتموه عليهم وتقصد حربًا وتوري بغيرها.
إذن هذه الحكومة كاذبة فيما تزعم، وإذن ناشرو دعايتها في مصر والبلاد
العربية كاذبون أيضًا.
إذن على الأمة المصرية وعلى الأمة العربية جمعاء أن يتنبهوا للحقائق.
بروكسل 16 ديسمبر (ش)
(المنار)
من الجلي الواضح أن الكاتب يعني أن الحكومة التركية كانت تقصد حرب
الدين الإسلامي وتدعي أنها إنما تتبع مدنية أوربة الراقية، وقد برح الخفاء وظهر
غرضها لكل أحد.
***
الإسلام في أميركا
قسيس مسيحي يسلم
نشرت إحدى المجلات الأمريكية بحثًا ممتعًا لراهب جزويتي تناول فيه مسألة
سرعة انتشار الدين الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، ومما جاء فيه:
لقد أخذ الإسلام ينتشر بسرعة مدهشة في جميع أنحاء الديار الأمريكية،
ويبذل ناشروه جهدًا عظيمًا في هذا السبيل حتى عم القرى والمدن الأمريكية، وكلما
حل بجهة اتخذ له مقامًا فيها بشكل محفل أو لجنة أو جمعية يرأسها أناس من
المسلمين.
وفي أميركا خمسة مراكز إسلامية عالية: أهمها مركز نيويورك وأعضاؤه
135 شخصًا ثم مركز ديترويت ثم مركز أنديانانوس وأعضاؤه 36 شخصًا. وإمام
المسجد مسلم من إفريقيا، وفي سنت لويس 75 مسلمًا، ويرجع الفضل في ذلك كله
إلى قسيس مسيحي أسلم، وقام بمهمة التبليغ بالإسلام بين عامة الشعب وقد كلل
جهاده بالنجاح.
وهناك أيضًا سبعين عضوًا من عِلْيَة الأميركيين يقومون بوظيفة تبليغ الدين
الإسلامي ونشره في الأرجاء الأميركية، ولقد صار مركز المسلمين الأميركيين في
بلدة (ووتوكارو) وفيها مسجد شامخ.
وقد كثرت المساجد في أميركا، والصلاة تقام فيها في كل أوقاتها بانتظام
مستمر، وقد أثرت وأثمرت تعاليم الدين الإسلامي في قلوب الكثير من أبناء أميركا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الجامعة العربية
***
النصب الصهيوني
جامع عمر وهيكل سليمان
في العام الماضي نشرت جريدة الحرية التي تصدر في ديترويت من الولايات
المتحدة الأمريكية ما يأتي:
هل الصهيونية يهودية محضة أم هي أحدث الزحافات التي أخترعتها لندن
لتدويخ العالم أجمع؛ ولإنهاء أجل التمدن الحالي بالمعامع الكبرى الآتي وقوعها في
الشرق الأدنى، وستشعلها شرارة الصهيونية حول القبر المقدس وجامع عمر
ورجمة حجارة يحجها اليهود ويبكون مجد الهيكل الزائل منذ زوال الدولة اليهودية
على أيام الرومانيين أو بعد المسيح بنحو ستين سنة.
***
شيء عن الصهيونية وحكاية الهيكل
تذيع أخبار البروبغندا اليهودية أن الصهيونيين ساعون في الاستعداد لإقامة
هيكل سليمان مكانه القديم وعلى أنقاض أقدس جامع لدى العالم الإسلامي بعد مكة
والمدينة، وقد توسعت البروبغندا المذكورة فقالت: إن اليهود قد أتموا معدات
الهيكل لكنهم لم يجمعوها بعد، ولكنها معدة من حجارة ورخام وحديد وهلم جرَّا
وموزعة على مراكز الجمعيات اليهودية في أقطار أوربا وأميركا، وقد اصطنعوها
على طريقة منظمة كما تصنع أجزاء سيارة فورد في معامل عديدة، ثم متى حان
تركيبها معًا تجمع في المكان المعد لتأليفها وتركيبها وبقليل من الوقت تخرج من
المعمل معدة للاستعمال، وهكذا قضية الهيكل السليماني في أخبار الجرائد
الأميركية، وقد شفعه مذيعوه بالإشارة إلى ما دون ذلك من أهوال الحروب؛ لأن
العالم الإسلامي بأجمعه يقاوم بالقوة اعتداء كهذا على مقام ديني له أمجد أثر في
تاريخ التمدن الإسلامي بعد المقامات النبوية في مكة والمدينة ويعترف مخترعو
هذه الدعوة اليهودية أن مجرد ترويجها خطر على سلام فلسطين فكيف بهم إذا
حاولوا تنفيذها.
ويقولون - وليسوا بمكترثين لوخامة العاقبة -: إن أكبر المعامع في تاريخ
العالم ستجيء في فلسطين، ولكنهم يعتقدون أن مسيحهم المنتظر سيظهر على
الأرض وينصر الدولة اليهودية الجديدة ويُرجع إليها عز داود ومجد سليمان ويكون
الهيكل الجديد قصر الملك اليهودي ومقام النبي أو المخلص مسيّا الآتي، وتشف
البروبغندا التي يذيعونها بهذا الصدد عن كون الجامعات اليهودية قد أعدت مسيّا مع
معدات الهيكل وأخذت تمهد للهجوم بخيلها ورَجْلها ومالها وآمالها على جامع عمر
فتهدمه وعلى كنيسة القيامة فتكمل ما فعلته بها الزلازل، ثم بعد أن تكتسح المحمدية
والمسيحية من أرض الفلسطينيين تعيد إلى العالم اليهودي دولته وتجمع أشتاته من
أطراف الدنيا، وإذا لم تستطع الصهيونية تحقيق كل هاتيك الأوهام والأحلام تعود
قانعة بما تستطيعه من جمع أموال التبرعات اليهودية في الولايات المتحدة وسائر
بلدان العالم.
(المنار)
لا شك عندنا أن كلا من اليهود والإنكليز يكيد للآخر ليستعمله في الوصول
إلى غرضه المنافي لغرض الآخر، ولا شك عندنا في أن الفتنة المنتظرة هي من
أعظم فتن الأرض أو أعظمها على الإطلاق، وهي محاولة إعادة ملك اليهود المعبر
عنها في الأحاديث بفتنة المسيح الدجال.
__________
(1) نقلا عن جريدة الأخبار الصادرة في 28 جمادى الثانية سنة 1346.(29/152)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الملك فيصل بمصر
مر الملك فيصل بمصر في الخريف الماضي عائدًا من أوربة إلى العراق
واتفق لنا التلاقي مع جلالته بسعي الأخ إحسان بك الجابري الذي كان رئيس الأمناء
له في دمشق إذ كنت فيها؛ لاعتقاده أن تلاقينا قد يفضي إلى ما يفيد الأمة العربية ما
كنا سعينا له هنالك، ولم يتم أو أكثر منه، ذلك بأنه ذكر لي بعد زيارته له أنه
جرى ذكري في الحديث معه في اختلاف السوريين المشتغلين هنا بسياسة المسألة
السورية، وأن جلالته أثنى عليَّ بهذه المناسبة ونوَّه بما كان من احترامه إياي
وتقديمي والثناء عليَّ، وأنه لم يجر بيننا من التغاير ما يسوغ في نظره ما كان بعد
ذلك من طعني فيه، وذكر أنه مع ذلك لم يقل فيَّ كلمة سوء وما زال يقول كل خير.
وسألني إحسان بك هل لدي مانع يصدني عن لقائه بعد هذا العلم بشعوره
الشريف، وكلامه اللطيف، قلت: إن إخواني من هيئة إدارة جمعية الرابطة
الشرقية قد كتبوا إليَّ بأنهم قرروا أن يستقبل جلالته وفد منهم ودعوني إلى ذلك فلم
أذهب؛ لأنني لم أر من الذوق أن أقابله بادئ ذي بدء بعد أن كان ما كان من كلامي
في سياسته وسياسة والده وإخوته، ولو فعلت لكان ذلك مدعاة للقيل والقال، وسوء
التأويل.
قال: وما تقول إذا أبدى جلالته رغبة في هذا التلاقي؟ قلت: أقابل هذه
الرغبة بمثلها بل بخير منها؛ لأنني أسأت إليه ولم يسئ إليَّ، فهل يصح أن
يرضى هو وأظل أنا ساخطًا؟ إذًا أكون حكمت على نفسي باللؤم، وحكمت له
بأعلى مكارم الأخلاق، مهما أكن موقنًا بأنني كنت مصيبًا في انتقادي عليهم وخادمًا
لأمتي وملتي فيه وأنه كان واجبًا عليَّ.
ثم جاءني إحسان بك وأخبرني بأنه كلَّم جلالة فيصل في الموضوع فأظهر
حسن الرغبة في التلاقي، وقال: إنه لم يبق وقت فراغ للقاء الخاص إلا الليلة
المستقبلة، وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء، وأن جلالته سيتعشى مع المندوب السامي
البريطاني ويعود إلى الفندق في منتصف الساعة الحادية عشرة ويكون مستعدًا
لمقابلتك، فإن لم يكن لديك مانع أخبرته، قلت: لا مانع وقد عاد جلالته في الموعد
وكان كل منا قد سبقه بدقائق قليلة فخلونا به في حجرة صغيرة من الحجرات التى
خصت به ومكثنا معه إلى نهاية الساعة الأولى بعد نصف الليل، وكنت أنا الذي
استأذنت بالانصراف خلافًا للمعتاد في لقاء الملوك معتذرًا عنه بأنه يريد السفر ظهر
غد فلا بد من ترك فرصة له للنوم، ولم يحضر مجلسنا أحد غير إحسان بك إلا
الأمير أمين أرسلان الذي كان حضر بمعيته من الإسكندرية.
بدأت الكلام معه بعد السلام والمصافحة بذكر وساطة إحسان بك الجابري وأنه
ذكرنا بعهدنا في التلاقي بدمشق، وذكرت له ما قلته له وقال هو مثل ما نقله لي
عنه إحسان أيضًا من استغرابه لطعني فيه مع ما كان بيننا من المودة وعدم صدور
شيء منه يكدرها، وكون اختلافي مع والده لا ينال منه شيء؛ لأنهما لم يكونا
متفقين في موضوعه، بل كان والده ساخطًا عليه وبقى خمس سنين لا يكتب له.
لا أستحسن أن أنقل من حديثه في هذا الخلاف إلا قوله: إنه بذل جهده لدى
والده في أمور منها ما كنا بدأنا بالسعي له في دمشق من الصلح بينه وبين ابن سعود
قال: إنه كان يعتقد أنه مهما يتساهل والده فيه يكن خيرًا له ولهم وللقضية ولا سيما
مسألة الحدود بين الحجاز ونجد وبين سبب ذلك بما علمت منه أنه كان يريد به
حصر ابن السعود مع قومه في دائرة نجد الفقيرة؛ لاعتقاده أنه لا يمكنهم الحياة فيها
فتذكرت أنني لما اتفقت معه على السعي لإقناع كل من والده وابن السعود بالصلح
والاتفاق وكتب كل منا كتابًا لابن السعود بذلك وكتب هو وحده لولده جاء في جواب
ابن السعود لي مع التصريح بالرغبة في الاتفاق بطاقة صغير بأنه هو يرغب في
ذلك ظاهرًا وباطنًا بخلاف شرفاء مكة الذين تنقض أفعالُهم أقوالَهم، وأما هو فلم
يستطع أن يحول والده عن رأيه فيه، ولكنه على كل حال والده يجب عليه تقبيل
يده والمحافظة على كرامته والأدب معه فيما وافق رأيه وفيما خالفه كما قال،
ووافقته على قوله هذا.
ولما ذكر جلالته أن موقفي معه كان غير موقفي مع والده وافقته أيضًا مع
الإشارة بلطف إلى أن سياسة أهل بيتهم في أساسها واحدة، وصرحت بأنني لم
أكتب شيئًا في ذلك كله إلا وأنا أعتقد أنه حق وواجب عليَّ لمصلحة ملتي وأمتي قال:
وأنا ووالدي نعتقد مثل ذلك، ولكن كل أحد يخطئ في اجتهاده ويصيب أفلست
أنت كذلك؟ قلت: بلى، وحاش لله أن أدعي العصمة، ولكني أرجع عن خطئي إذا
ظهر لي، وإنني قد صرحت في أول مقالة كتبتها في انتقاد سياستهم ونشرت في
جريدة الأهرام قبل المنار بأنه هو ووالده من قبله وأخوه الأمير عبد الله من قبلهما قد
عاملوني بمنتهى الاحترام والتكريم والآداب العالية، وإنني لم أنتقد أحدًا وأنا في
خجل من نفسي مما سبق من حسن لقائه وتكريمه غير أهل هذا البيت، ولكن
مصلحة الأمة فوق المجاملات الشخصية.
ثم ذكرت له أنني من عهد قريب ذكرت في المنار ما كان في دمشق من لطف
احتياله عليَّ لقبول شيء لائق من التكريم المادي منه؛ إذ ألح عليَّ بأن أستأجر دارًا
لأن طول الإقامة في الفندق غير لائقة بي وقال: عليك الدار وعلينا الفرش والأثاث
وأنني لما استأجرت الدار لم أخبر جلالته بها، وكتبت إلى نسيبي في طرابلس
فأحضر لي جميع الأثاث منها (قلت له) : إنني ذكرت هذا في ردي على الذين
زعموا أنني أخدم الآن ملك الحجاز ونجد لما بذل لي من المال وأنني فعلت ذلك
معكم من قبل، ليعلموا أنني لم أخدم أحدًا ولا أخدم أحدًا، إنما أخدم أمتي في كل
وقت بما أعتقد أنه الصواب والمصلحة وإنكم تعلمون ذلك كملك الحجاز ونجد،
ويعلمه كل من اطلع على كلامي.
ثم انتقلنا من بحث العتاب إلى البحث الأهم وهو بحث الأمة العربية ومستقبلها
وما يجب على ولاة أمورها وأهل الرأي والعمل فيها وهو الذي كنت أحاول
استخلاصه من لقائه لأعلم ما عسى أن يكون بقي من تأثير تلك الأيمان المغلظة
والعهود الموثقة التي أخذتها عليه جمعيته العربية، بل لأعلم ما يقول في المسألتين
العربية والإسلامية اللتين بينت له في دمشق القول الفصل فيهما، وقد صار ركنًا
في تنفيذ ما وافقني عليه يومئذ من ذلك ولا سيما الاتفاق مع عبد العزيز آل سعود
الذي بدأنا به في دمشق وقد علمت من فحوى الحديث أنه لا مجال لعمل شيء في
المسألتين على أنه ذكر في حديثه رأيه في ابن السعود وملكه، وليس من الأصول
أن أذكر ما سمعته ولا استنبطته من كلامه، ولكنني أجيز نشر كلمة صالحة من
كلامه في خصمه باعترافه الملك عبد العزيز بن سعود ومعاهدته الأخيرة مع
الإنكليز قال ملخصه: إن عبد العزبز زعيم كبير ذو مزايا نادرة تفتخر به الأمة
العربية فإنه عمل بكفايته الشخصية عملاً عظيمًا في زمن قصير، إنه وفق في هذه
المعاهدة توفيقًا عظيمًا، ثم لما ذكر رأيه في قومه وسياسته لهم وتعذر دوامها مع
فقرهم وصعوبة مراسهم، ذكر مسألة إغارة فيصل الدويش على العراق وقال: إنه
يعتقد أن هذا الاعتداء بدون إذنه ولا رضاه وأنه لا يبعد أن يسر بتمكن العراق من
كبح جماحه إن حصل، ثم جاءت الأنباء بما يؤيد هذا بعد وصوله إلى العراق بمدة
طويلة، لكن لم تلبث المصادر الشبيهة بالرسمية في الحجاز أن بينت أن حكومة
العراق هي المتحرشة بالنجديين وحكومتهم ببنائها سلسلة حصون على الحصون
خلافًا للمعاهدة بين الحكومتين المانعة من ذلك.
__________(29/156)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(إعجاز القرآن)
الطبعة الثالثة، وهي الملكية بمطبعة المقتطف، صفحاته 450 تقريبًا.
سبق لنا أن قرظنا هذا السِّفْر الجليل بمقدمة الطبعة الثانية، ونشرها الأستاذ
المؤلف في صدر الكتاب وجعلها عرضًا له على الأنظار، ولما نفدت نسخ هذه
الطبعة رأى صاحب الجلالة الملكية الجالس على عرش مصر أن يعاد طبعه ويعم
نشره فأصدر أمره الكريم بطبع ألوف كثيرة من نسخه على نفقة الخاصة الملكية
وأمر -وفقه الله- أن يباع الكتاب للجمهور بخمسة قروش مصرية وهي تكاد تكون
نصف النفقة المطبعية، وقد أخرجه مؤلفه الفاضل في هذه المرة بثوب قشيب وحلة
جميلة ازدانت بصورة جلالة مولانا الملك فؤاد الأول مع صور شمسية لأوراق من
القرآن الكريم المعروف (بمصحف الملك) الذي لم يطبع بعد كذلك تحلى جيد هذا
الكتاب بتقريظ من أسمى التقاريظ وأبلغها يكفي أن يعرف أن كاتبه الرئيس الجليل
المرحوم سعد زغلول باشا وأضيف إلى ذلك حكمة للمؤلف كتبها لهذه الطبعة الثالثة
من خيرة ما خطه يراعه البليغ، والناس تتهافت على شرائه فهو في غنًى عن
ترغيبهم فيه.
***
(تاريخ اليمن)
المسمى (فرحة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن) تأليف الأستاذ
العلامة الشيخ عبد الواسع اليماني تناول فيه مؤلفه طرفًا هامًّا من تاريخ اليمن
وجغرافيتها، وقد انتصر على ذكر الحوادث التى اختارها بعد المائة الثانية عشرة
للهجرة، وقد طبع على ورق من القطع المتوسط والعادي وثمن الأول اثنى عشر
قرشًا والثاني عشرة قروش مصرية ويباع في مكتبة المنار.
***
(الوجيز في الأدب وتاريخه)
تأليف الأستاذ عبد السميع أفندي البطل أستاذ الأدب بمدرسة رقي المعارف
يشمل مقرر الكفاءة والبكالوريا مطبوع على ورق صقيل جيد من القطع المتوسط
وثمن النسخة عشرة قروشٍ يباع في مكتبة المنار وغيرها.
__________(29/160)
ذو الحجة - 1346هـ
يونيه - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الرد على الزعيم محمد علي الهندي
في موضوع ملك الحجاز وحكومته وقومه والخلافة
(1)
وردت على مؤتمر الصحافة بمصر برقية من مكة المكرمة تنبئ بأنه
(اكتشف في مكة مؤامرة خطيرة ضد حكومة الحجاز أدت إلى القبض على شخص
يدعى الشيخ عبد الله من العسير بتهمة التجسس، وقد ضبطت في حيازته أوراق
من بينها خطابات إلى الإمام يحيى وولي عهده من (شوكت علي) الهندي يحثهما
فيه على النهوض لغزو ابن السعود كما ضبطت خطابات أخرى في حيازة حسن
عطاس وعبد العزيز اليمني تثبت اتصالهما بهذا الزعيم الهندي) .
وقد اتفق أن ألم بمصر في أثناء ورود هذه البرقية الزعيم محمد علي الهندي
شقيق شوكت علي الشهيرين في طريق سفره إلى أوربة فاطلع على هذه البرقية فرد
عليها (بتصريحات) ألقاها إلى جريدة الأخبار الغراء فنشرتها في اليوم 23 من ذي
الحجة الحرام، فألفينا فيها من المواربة وإخفاء الحقيقة التي نعرفها منه ومن أخيه
أيام عقد المؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة ومن بعض ما خطب به في الهند
ونشره في جرائدها ما دَعَّنَا إلى الرد عليه دعًّا (على إردام الحُمَّى [*] علينا منذ
شهر ونصف ونهي الأطباء إيانا عن الكتابة والقراءة) فكتبنا مقالاً لم يتيسر نشره
في الأخبار حيث نشرت تلك التصريحات بل فُقِدَ فاضطررنا إلى كتابة هذا المقال
الثاني، وكان بعض الكتاب من إخواننا المسلمين نشروا في جرائد أخرى ما
استهجنوا به طعن الزعيم محمد علي في جلالة ملك الحجاز وبث دعايته بمصر في
عداوته له في الوقت التي تظهر الأمة كلها شكر جلالته والثناء عليه لما قام به من
خدمة حجاج بيت الله الحرام بتأمين البلاد المقدسة وتسهيل المواصلات فيها وغير
ذلك، وتحث الحكومة على موالاته وشد أواخي الاتفاق مع حكومته لمصلحة
القطرين؛ ولما يقتضيه دين الحكومتين والأمتين، وإنني أقسم الكلام إلى ثلاثة
فصول:
(1) في دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه.
(2) في حكومة الحجاز وما وعد به ابن السعود فيها.
(3) في قوم ابن السعود وقوته والخلافة، وتصدي الزعيمين لإقامتها أو
الاتجار بها.
***
(1)
دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه
احتج على تبرئة أخيه مما جاء في برقية مكة بأمور:
(أحدها) قوله: (وهل مبادئنا وآراؤنا وأفكارنا في حاجة إلى مؤامرات أو
تدبيرات خفية أو أعمال غير مشروعة) ؟
(ثانيها) قوله: (إننا لم نكن ضد ابن السعود شخصه، ولكن لأنه جعل
نفسه ملكًا على الحجاز، ونكون ضد الإمام يحيى إذا حدثته نفسه بأن يكون ملكًا
على الحجاز؛ لأننا نعتقد أن الملوكية هي أول بدعة في الإسلام بخلاف الخلافة
التي لا تعرف الملوكية بحال) وسماها في آخر تصريحاته وثنًا قال: إنه يجب
هدمه والتخلص منه، ذكر أنهم يحاربون مبدأ الملوكية، ويعتقدون أنهم ينتصرون
بالحق ومقارعة الحجة بالحجة، ويعتقدون: (أن غير ذلك من الوسائل التي يلجأ
إليه ذوو الغايات من التدبيرات والمؤامرات أو استخدام وسائل الضعف (كذا)
والقتل والاغتيال من أضر الوسائل المؤدية إلى الفشل) إلى أن قال: (ولا نعمل
كما يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال في سبيل
تقوية دعائم ملكه، ولو علم أنها لا تنفق إلا على الملذات والشهوات لضن بها
وصرفها فيما هو خير من ذلك) اهـ (رمتني بدائها وانسلت) .
ونقول في تفنيد هذا الدفاع: (أولاً) إن مما لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه
أن عداوته وعداوة أخيه لابن السعود عداوة سياسية، والسياسة هي التي تكون دائمًا
ذات مبادئ ظاهرة ودسائس باطنة، فهما ينازعان الرجل في ملكه ويسعون لإسقاطه،
ولا يظن عاقل أن الغرور قد بلغ منهما أن يعتقد أنهما يقلبان ملكًا عن كرسي ملكه
بالحجج، وقد تألب العالم الإسلامي كله (تقريبًا) على الملك حسين وكان هو
وأخوه من أشد الناقمين عليه، وكان كاتب هذا الرد أشد منهما في ذلك وله في ذلك
المقالات السياسية والفتاوى الشرعية، والحجج الدينية الناهضة التي نشرت في
المنار وفي غيره من الجرائد اليومية السياسية، ومنها مقالات (السيد العلوي) التي
نشرت في جريدة الأخبار، ولم يستطع العالم الإسلامي بسخطه ولا بإنكاره وحججه
أن يثل عرش الملك حسين ثم ولده علي من الحجاز، وإنما ثله سيف ابن السعود
فقط فالمبادئ الظاهرة لا تنافي السعي في الدسائس الباطنة، والأعمال الخفية غير
المشروعة.
(ثانيًا) إنه لا معنى لنفي العدواة الشخصية لملك ممن يعترف أنه يسعى
لإسقاط ملكه؛ لأن عداوة الملك الشخصية لا تكون شرًّا من هذا؛ إذ لا يعقل أن
يعادى الملك لطوله أو قصره أو لونه أو سمنه أو هزاله أو دمامة صورته أو غير
ذلك من صفاته الشخصية.
ولو كانت عداوة الزعيمين لجلالة عبد العزيز آل سعود لأجل تسميته ملكًا
على الحجاز عداوة لصفة حكمه لا لشخصه، وكان سببها ما زعمه الزعيم محمد
علي من كون الملكية أول البدع في الإسلام - وكانا لشدة تمسكهما بالسنة يعاديان
كل صاحب بدعة- لعاديا جلالة ملك مصر وجلالة ملك الأفغان أيضًا، ولواليا الإمام
يحيى؛ لأنه لم يلقب بلقب الملك، ومراده ومراد قومه بلقب الإمامة عين ما يريده
الزعيمان من لقب الخلافة، وإذًا يصح ما يقال من أنهما يغريانه بالزحف على
الحجاز وإنقاذه من الملك عبد العزيز؛ لتعميم إمامته وتقرير خلافته، فإن كان
يصدهما عن هذا ما ينتحلان من مذهب السنة وعلمهما أنه هو وقومه على مذهب
الزيدية وأصول المعتزلة فيما يسمونه العدل والتوحيد بالمعنى الذين ينكره عليهم
أهل السنة، فلم لا يعاديانه لأجل بدعتي التشييع والاعتزال، وهما المدعيان القيام
بإقامة السنة وهدم الابتداع.
على أن الزعيمين يطعنان في شخص عبد العزيز آل سعود بما لا علاقة له
بملكه ولا بشكل حكمه، وما أظن الأخ محمد علي نسي يوم وجدته في الصباح
جالسًا في الحرم الشريف مع جماعة وأنا منصرف من طوافي فسلمت عليهم
وجلست إليهم فألفيته يغتاب ابن السعود حتى في شكل لحيته، وما يقال من كثرة
زواجه، فأنكرت عليه ذلك أمام بيت الله تعالى حيث تتضاعف السيئات كما
تتضاعف الحسنات، وما اعتذر به من إخلاصه وحسن نيته وما رددت عليه
بالمعروف واللطف من كون الإخلاص وحسن النية لا يحيلان المعصية طاعة ولا
يبدلان السيئة حسنة، وكونهما سريرة بين العبد وربه لا نعلمهما فتقوم بهما علينا
الحجة.
حينئذ استدل على إخلاصه وإخلاص أخيه باضطهاد حكومتهما البريطانية لهما
واعتقالها إياهما ورفع شعبهما لهما إلى مقام الزعامة، فقلت له: أنا لا أطعن في
إخلاصكما فيما قاومتما به حكومتكما ولا في غيره، لا لما احتججت به عليه بل لأنه
سريرة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وأما هذه الحجة فهي داحضة عند من يعرف
التاريخ الماضي وأحداث العصر الحاضر، فإننا نعرف في بلادنا أناسًا اعتقلتهم
السلطة الأجنبية بجهل وغباوة منها فصارت العامة تعظمهم وتجلهم وتعدهم من
المجاهدين في سبيل الأمة والوطن، ومنهم من نعرفه معرفة الخبر الطويل بأنه
مادّيّ محض يتجر بالوطن والأمة، ويحتقر الدين والملة، ثم يدعي الزعامة بمثل
هذه الشبهة.
(ثالثًا) إن كانا لا يسعيان إلى غرضهما من تحويل حكومة الحجاز الملكية
إلى الجمهورية كما قالا في الحجاز، أو الخلافة كما قال هو في مصر إلا من
الطرق المشروعة كما ادعى فما بالهما قد بثا الدعوة في الهند إلى ترك إقامة فريضة
الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز، فهل شرع الله لهما أن يهدما الركن
الاجتماعي الديني العام من أركان الإسلام (وهو ركن الحج) لأجل نكاية ابن سعود
وإخضاعه لسياستهما الوهمية؟ ماذا يجيبان الله تعالى يوم القيامة إذا سألهما عمن
أضلا من عوام الهنود فتركوا أداء فريضة الحج مع الاستطاعة حتى ماتوا ثم جاءوا
في ذلك اليوم يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} (الأعراف: 38) .
(رابعًا) أغرب ما جاء في تصريحات الزعيم الهندي قوله: (ولا نعمل كما
يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال) إلخ، ما تقدم،
فأول العبارة صريح في أن الذي يجمع النقود هو الملك ابن السعود، وأن غرضه
منها تقوية دعائم ملكه، وهو غرض شريف وآخرها صريح في كونه لا يعلم أين
تنفق، ولوعلم لضن بها وأنفقها فيما هو خير من ذلك (وهذه شهادة صالحة)
(والفضل ما شهدت به الأعداء) ولكن العبارة تنافي ما قبلها فهي تدل على أن الذي
يجمع النقود المشار إليها غيره، ولعل المراد أنه يجمعها له وباسمه ولكنه لا يوصلها
إليه، ولم يبلغنا أن فردًا من الأفراد ولا جماعة من الجماعات تجمع نقودًا من الهند
ولا من غيرها لملك الحجاز أو باسمه، وإن وجد من يعمل ذلك وصح ما قاله
الزعيم فيهم فإن ذلك لا يعيب جلالة الملك الصالح المصلح الذي علم مئات الألوف
من الحجاج بالمشاهدة وعلم الملايين من الناس بالنقل المتواتر أنه ينفق المال فيما لم
يسبقه إليه أحد من ملوك المسلمين ولا خلفائهم من تسهيل أداء فريضة الحج ومنع
الأذى عن مؤديها، ومنه ما رأوه في الموسم الأخير من تبليط المسعى بين الصفا
والمروة ومنع الرواحل والدواب منه وإراحة الحاج من ذلك الغبار الذي كان يملأ
الأفواه والأنوف حتى يصل إلى الصدور، ومنها المظلات العامة في الحرم الشريف
وفي منى وفي طريق عرفات لوقايتهم من ضربة الشمس التي كان يموت بها في
كل عام عدد كثير، دع الأمن العام الشامل من أول يوم والإسعافات الطبية
والسيارات التى كانت تغدو وتروح بين مكة وعرفات لافتقاد من يعجز عن المشي
أو يصاب بأذًى في الطريق فتحمله إلى مواضع الإسعاف.
ولعل الزعيم لم يجرؤ على التصريح بمن عرَّض به أو بهم في مسألة النقود؛
لئلا يسألوه عن مئات الألوف من الجنيهات التي أخذتها جمعيته من بلاد الهند،
وقيل: إن كذا وكذا منها قد ذهب بإفلاس أمين الصندوق، والباقي علمه عند علام
الغيوب ثم يضربوا له ولهم المثل المشهور (رمتني بدائها وانسلت) .
هذا، وإنه قد ورد النبأ الرسمي من حكومة الحجاز على الوكالة العربية في
مصر بأن خبر المؤامرة على الحكومة الذي بلغته نقابة الصحافة المصرية لم يثبت
وإنما ثبت وجود الخطابات من (شوكت علي) مع الجاسوس عبد الله العسيري،
ويؤخذ من فحوى هذه الخطابات أنها اتخذت ذريعة لابتزاز الأموال.
لو شئت لأحصيت كل دعاوى الزعيم الكبير محمد علي في تصريحه وفندتها
وجنيت على قراء مقالي بتكليفهم قراءتها، وهي لا تعنيهم ولا يعنيهم أمر صاحبها،
وإن كان زعيمًا لبعض الهنود على أنه فَقَدَ جُلَّ زعامته، والباقي منها على شفا جرف
هار، لهذا أكتفي بالمسألتين اللتين تعنيان جماهير المسلمين ومحبي التاريخ الصحيح
من غيرهم، وهما وعد ابن سعود للعالم الإسلامي بعقد مؤتمر يستنير برأيه في أمور
الحجاز، وكتابته لملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم وأشهر جماعاتهم وبعض
علمائهم بذلك، ومسألة رجال قوم ابن السعود وشعبه ومسألة الخلافة وخطل الزعيمين
فيها فأقول:
***
(2)
حكومة الحجاز وما وعد ابن السعود فيها
قد صرَّح الإمام عبد العزيز آل سعود بقصده وغرضه من الزحف على
الحجاز تصريحات أذاعت بعضها الصحف المصرية وغيرها، أولها ما فاه به في
نجد قبل خروجه منها إلى الحجاز، وخلاصتها أنه يريد تطهيره من إلحاد الظلم
والاستبداد ويؤمنه ويقيم فيه الشرع والعدل مسترشدًا بآراء أهل العلم والرأي في
العالم الإسلامي، وبعد أن التقى في مكة المكرمة بفضيلة الأستاذ المراغي مندوب
جلالة ملك مصر وبسعادة سفير إيران في مصر (اللذين ألما بالحجاز على إثر ما
أذاعه الشريف علي وهو محصور في جدة من هدم الوهابيين لقبة الحجرة النبوية
وهدمهم للمساجد والمشاهد) وما كان من تحاوره مع هذين المندوبين الذكيين اقتنع
بأن ينجز وعده المجمل المشار إليه بصفة تفصيلية رسمية هي أن يدعو أشهر
رؤساء الحكومات الإسلامية المستقلة، وشبه المستقلة وأشهر الجماعات الإسلامية
في الهند وسورية إلى إرسال مندوبين من قبلهن لعقد المؤتمر الإسلامي الموعود به
ثم يدعو بعض أفراد العلماء في البلاد التي ليست فيها حكومات إسلامية ولا جمعيات
مشهورة لذلك.
كتب بذلك إلى أصحاب الجلالة ملك مصر، وإمام اليمن وشاه إيران، وملك
الأفغان، ورئيس جمهورية الترك، وسمو باي تونس، وإلى جماعة علماء الحديث،
وجمعية العلماء، وجمعية الخلافة بالهند، والمجلس الإسلامي الأعلى في القدس
الشريف، وإلى الأستاذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسني وإخوانه العلماء في الشام،
كتب لهؤلاء كتابًا بنص واحد نشر في أشهر الجرائد، وكان تاريخه 8 ربيع
الآخر سنة 1344 وأهم ما جاء فيه قوله بعد قصده من جهاده: (إنني والذي نفسي
بيده لم أُرِدْ التسلط على الحجاز ولا تملكه، وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت
الذي يختار الحجازيون واليًا منهم يكون خاضعًا للعالم الإسلامي وتحت إشراف الأمم
الإسلامية والشعوب التي أبدت غِيرة تذكر كالهنود) .
(إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي التي لا نزال نحارب من
أجلها مجملة فيما يلي:
1- إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم، وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق
التي لهم في هذه البلاد.
2- سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم للحجاز تحت إشراف مندوبي العالم
الإسلامي، وسنسلم الوديعة لهذا الحاكم على الأسس الآتية، وذكر خمسة أسس:
(أولها) : كون الحكم بالشريعة المطهرة ومرجع الناس إليها.
(ثانيها) : حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا
يصح أن تعلن الحرب على أحد، إلخ.
(ثالثها) : لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أي دولة كانت.
(رابعها) : لا تعقد اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية.
(خامسها) : تحديد الحدود الحجازية ووضع النظم للحكومة (موكول
للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية وسيحدد عددهم باعتبار المركز الذي تشغله
كل دولة في العالم الإسلامي والعربي، وسيضم لهؤلاء ثلاثة مندوبين من جمعية
الخلافة وجمعية أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند، ثم قال: إن هذا ما نواه
وطلب من كل مخاطَب الإسراع بإرسال مندوبيه وإخباره عن الوقت الذي يناسب
عقد المؤتمر فيه، هذا ملخص المهم من الكتاب ومن شاء أن يطلع على نصه كله
فعليه بالمجلد 26 من المنار ص 54.
فالقارئ يرى أن ابن السعود إنما وعد بأن يمنح الحجاز استقلالاً إداريًّا في
داخليته ويقيم فيه واليًا منتخبًا، وقيد فيه هذا الوالي في التصرف الاقتصادي ولم
يجعل له حقًّا في الأمور السياسية ولا العسكرية بل احتفظ بهما لنفسه بالطبع، ولكن
رؤساء الحكومات الإسلامية التي أراد أن تكون مشرفة على اختيار الوالي الإداري
للحجاز وتحد حدوده وتضع للبلاد النظم الداخلية كلها في حدود الشريعة لم يجب
دعوته العاجلة منهم أحد فسقط ما أعطاهم من الحق في ذلك.
فهذه هي الوثيقة الرسمية التي يدندن حولها الزعيمان شوكت علي ومحمد علي
وكذا سفير إيران بمصر كما نشر عنه في الجرائد من قبل قد بلغ الغرور من
الزعيمين الهنديين مبلغًا لا تتطاول إلى مثله أعناق الملوك أولي الجيوش الجرارة
فتوسعا في تفسير هذا الوعد وأباحا لأنفسهما الإسراف في الطعن والزراية على
الملك المصلح العادل التقي الذي عرضت عليه البيعة بالخلافة العظمى فلم يقبلها
تواضعًا وتنصلاً من أعبائها، وما يترتب عليها من الفتن فوصفه الزعيم محمد علي
في تصريحه الأخير بمصر ببعض ما نبذه في خطبه بالهند من ألقاب الكذب
وإخلاف الوعد والحنث بالأيمان.
قال في تصريحه: (لقد رأينا سوء الإدارة الملكية طول مدة حكم الشريف
حسين فقرَّرْنَا تطهير بيت الله الحرام، وكعبة الإسلام، بل وجزيرة العرب من
رجس الاستبداد الملكي بحيث لا نسمح ولا نرضى بوجود ملك أو سلطان هناك،
وقد كان ابن سعود من رأينا وأقرنا على هذه الفكرة ووافقنا على مبدئنا وأعطانا
عهدًا صريحًا ووثيقة كتابية بذلك لا تحتمل التأويل، وكنا نودّ وهو يقول بأنه من
أشد الناس محافظة على سنة الرسول أن يتذكر أنه عليه الصلاة والسلام هو
(الصادق الوعد الأمين وأن يتذكر بأن من أخلاق الإسلام أن المؤمن إذا قال صدق،
وإذا وعد لا يخلف، وإذ حلف لا يحنث) إلخ، فما قيمة هذين الرجلين، وما قيمة
جمعيتهما التي فشلت فيما أنشئت لأجله حتى يدعيان هذا التصرف في جزيرة
العرب.
إن ابن سعود لم يخص محمد علي وشوكت علي بوعد غير ما وعد به العالم
الإسلامي عامة، ومن ذكرنا من رؤساء حكوماته وأشهر جماعاته وهو ما يفهم من
كلام محمد علي هنا بأن لا يكون في جزيرة العرب ملك ولا سلطان، وإنما وعدهم
كما وعد العالم الإسلامي كله بتطهير الحجاز من الظلم والاستبداد وقد وفى بوعده
هذا خير الوفاء، وأما وعده المتعلق بشكل الحكومة الداخلية في الحجاز الذي ذكرنا
نصه الرسمي فلا يصح أن يقال: إنه أخلفه إخلافًا يستحق عليه أمثال هذه المطاعن
وإنما حال دون إنجازه أمران ليسا من سعيه ولا من عمله:
(أحدهما) : ما أشرنا إليه من عدم إجابة رؤساء الحكومات الإسلامية إياه
إلى إرسال مندوبين من قبلهم للتمهيد لذلك الإنجاز بعقد المؤتمر الإسلامي وغيره،
فاضطر إلى عقده بدون تدبير أحد منهم لتقصيرهم لا لتقصيره، وسنذكر ما كان من
أمر من أرسلوا وفودهم إلى المؤتمر وأهمه تهنئتهم لابن السعود بنصبه ملكًا على
الحجاز.
(ثانيهما) : رأي أهل الحجاز أنفسهم، فهم لم يرضوا أن يكون عليهم
مسيطرون من دول أجنبية عنهم المستقل منها مخالف لهم في المذهب كاليمن وإيران
أو في الجنس كالترك والأفغان، وناهيكم بحال الترك بعد انسلاخ دولتهم من دين
الإسلام، وغير المستقل في أموره تحت سيطرة دول الاستعمار الأوربية ولا سيما
الخارجية، وإذا لم يرضوا بسيطرة ولا تدخل من الدول الإسلامية في شؤونهم فعدم
رضاهم بتدخل الشعوب الإسلامية المستذلة لدول الاستعمار كالهند والجاويين
والمغاربة أحق وأولى، وهم - أي أهل الحجاز - معترف لهم من الدول العظمى
بالاستقلال المطلق لذلك بادروا بعد استيلاء الإمام عبد العزيز بن السعود على جميع
الحجاز وتسليم الشريف علي له رسميًّا على مبايعته بشروط تتضمن: التفصي من
كل سيطرة ونص البيعة يدل على ما بيناه من رأيهم آنفًا فلم يسعه إلا قبول بيعتهم،
وإلا كان مستبدًّا فيهم بتحكيم غيرهم في أمورهم، وإنما غرضه الأول إزالة
الاستبداد من الحجاز، فلو أجاب أولئك الملوك والرؤساء دعوته التي سبق
بيانها ورفض ذلك أهل الحجاز لما ساغ له إجبارهم على قبول تلك السيطرة فكيف
وهم لم يجيبوا الدعوة؟ فهل يقال مع هذا: إن ابن السعود وعد بأن يجعل الحجاز
تحت مراقبة العالم الإسلامي ثم أخلف الوعد مختارًا، وكذب متعمدًا؟ كلا إنما تعذر
ذلك عليه من الجانبين جانب الحجاز وجانب الدول والجماعات الإسلامية، وكان
ذلك هو الخير ولله الحمد.
وهذا نص بيعة علماء الحجاز وشرفائهم وممثلي جماعاتهم لابن السعود بعد
البسملة والحمدلة والتصلية (نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن
الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح والأئمة
الأربعة رحمهم الله تعالى، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين
يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه
تحت رعاية الله ثم رعايتكم) .
كتب هذا النص أهل الحل والعقد في العاصمة ثم بايعوه به وتلاهم أمثلهم من
سائر الأمصار وتلاهم مشايخ الأعراب ورؤساؤهم، وأنت ترى أنهم بايعوه على ما
كان يبايع به الخلفاء الراشدون، واشترطوا عليه إقامة مذهب أهل السنة ومنهم أئمة
الفقه الأربعة، وأن يكون الحجاز لأهله لما ذكرناه من ملاحظتهم آنفًا.
وإنما سموه ملكًا؛ لأن هذا اللقب له شأن عند الدول الأجنبية التي اعترفت
باستقلالهم المطلق، وهو لقب لا يقتضي الاستبداد والظلم، ولا هو ممقوت عند الله
ولا عند رسوله والمؤمنين فقد كان نبي الله داود، ونبيه سليمان عليهما السلام ملكين،
وقد امتن الله عليهما بذلك بل امتن على قومهما بني إسرائيل بقوله: {اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} (المائدة: 20) الآية، وبهذه
احتججت على محمد علي بمكة المكرمة.
ولقب الخليفة لم يكن بأمر من الله تعالى، ولم يطلقه الصحابة إلا على أبي
بكر وحده لأنه خلف الرسول صلى الله عليه وسلم ولقبوا سائر الراشدين بأمير
المؤمنين، ثم صار المؤرخون يطلقونه على الراشدين من بعدهم وعلى خلفاء
الأمويين والعباسيين.
ومن استقرأ أقوال ابن السعود في شكل حكمه، سواء منها ما نشره في
بلاغاته وخطبه الرسمية وغير الرسمية، وما دار بينه وبين الجماعات أو الأفراد
من أهل الحجاز وغيرهم يراها صريحة في التبرؤ من عظمة الملك وحب العلو في
الأرض، أو تفضيل نفسه على أحد من الخلق، بل هو يتنصل كثيرًا من لقب ملك
وقول: أنا رجل بدوي أو من عامة الناس، ويرى أعماله وأحكامه وشمائله مصدقة
بذلك فهو أبعد من الطبقات الوسطى في الثروة والترف والتنعم في مأكله ومشربه،
والتطرس والتطرز في ملبسه، والإفناق والتورُّن في سائر أحوال معيشته، اللهم
إلا الطيب فإنه يتطيب دائمًا ويفضل عطر الورد على غيره، ويحب النساء
ويكرمهن متأسيًا بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله في قوله: (حُبِّبَ
إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه الإمام أحمد
والنسائي من حديث أنس، وهو كثير الصلاة، ولا سيما في الليل.
وجملة القول أنه ليس في عبد العزيز بن السعود شيء مما يشكو منه محمد
علي الهندي وبعده من غطرسة الملك وكبريائه - من قول ولا عمل ولا خلق ولا
تحكم ولا تحجب ولا تكبر- بل هو يتحرى سيرة الخلفاء الراشدين بقدر طاقته،
فهل يعذر هو وأخوه وجمعيتهما على عداوته لأجل لقب يزعمون أنه منبع الضلال
والشرور، وإن تحلى به بعض الصالحين والأنبياء المرسلين؟
كلا إن الرجلين ليسا من البلادة والجهل بحيث يعتقدان أن للألقاب هذا الشأن
والتأثير بل يغالطان ويسفسطان كما هو شأن أمثالهما من أهل النزعات السياسة،
وإنما كانا يسعيان لأمر لهما فيه هوًى شخصي، وهو جعل الحجاز جمهورية يدير
أمرها مجلس إسلامي مؤلف من جميع الشعوب الإسلامية لكل شعب فيه من
الأعضاء بنسبة عدده، فإذا كل لكل مليونيين فما دونهما من كل شعب مندوب أو
عضو في هذا المجلس كما نقل لي عنهما، وليكن مثلا يكون لنجد عضو واحد
وللحجاز عضو واحد، ولمصر سبعة أعضاء؛ لأن أهلها 14 مليونا؛ وأما الهند
فيكون لمسلميها 35 عضوًا؛ لأنهم يبلغون 70 مليونا؛ وعلى هذا يكون لهم الرأي
الغالب في أنفسهم، فكيف إذا أمكنهم استمالة بعض الأعضاء من الشعوب الأخرى
والاتفاق معهم؟
وقد بينا في هذا المقال ضعف هذا الرأي وأفن العقل الذي يتخيله، وما لأهل
الحجاز من العذر في عدم قبوله، وإن ابن السعود لم يَعِدْ بهذا وإنما أشار في خطابه
لرؤساء الحكومات الإسلامية بأن المندوبين في المجلس الإسلامي الذي يحدد الحدود
الحجازية ويضع النظم المالية والإدارية للحجاز (سيحدد عددهم باعتبار المركز
الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي) إلخ، ما تقدم آنفًا، ومنه أنه لم
يعط الهند إلا ثلاثة أعضاء لجمعية الخلافة واحد منهم.
وقلنا فيه أيضًا: إن رؤساء هذه الدول لم يقبلوا الدعوة لإنجاز هذا الوعد
ونزيد عليه أنه لما عقد ملك الحجاز المؤتمر الإسلامي العام حضر مندوبون من قبل
إمام اليمن ورئيس جمهورية الترك وملك الأفغان دون غيرهم، وقد جاءت هذه
الهنود مهنئة لجلالة الملك عبد العزيز وراغبة في شد أواخي المودة والصداقة معه،
ولم يتعرض أحد منهم للاعتراض على ملكيته.
وإنني لما اقترحت في المؤتمر الاحتجاج على إلحاق منطقة عقبة ومعان
بحكومة شرق الأردن التي جعلتها الدولة البريطاني تحت سيطرتها، وهي منطقة
حجازية وتقرير طلب إعادتها إلى الحجاز كان مندوبا الحكومة المصرية قد حضرا
المؤتمر متأخرين فانسلا من الجلسة بحجة أنهما غير مفوضين بالتدخل في أمور
الحجاز السياسية تبعهما مندوب اليمن ومندوب الأفغان لهذه الحجة، ومعلوم أن هذه
المسألة تتعلق بحدود الحجاز التي وعد ابن السعود بجعلها من خصائص مندوبي
الدول الإسلامية.
ثم إن جلالة ملك الحجاز قد أرسل إلى المؤتمر بيانًا بخطته في حكومة الحجاز
ليبدي رأيه فيه فقرأه الرئيس وطلب من الأعضاء إبداء رأيهم فيه فقلت: إنني لا
أرى حاجة للمناقشة فيه، فهذه الخطة صارت معلومة لنا إلخ، فلم ألق معارضة
تذكر في هذا الرأي، بل كان مقبولاً من المؤتمر وتقرر عدم المناقشة فيه.
هذا وإن تفصيل هذه المسائل سيجده محبو الاطلاع عليه في رحلتي الحجازية
الأخيرة إذا يسر الله طبعها، وخلاصة القول: أن الزعيمين الهنديين كانا شاذين في
مكة المكرمة وكان شذوذهما وتهورهما مدعاة الاستغراب من مندوبي جميع الشعوب
وتعجب العقلاء كيف صار هذان الرجلان زعيمين سياسيين في الهند ولا عجب فإن
التهور في الجرأة والشذوذ في القول والعمل أعظم مجلبة للعوام.
ولم نسمع من الزعيمين المكرمين في مكة كلمة في طلب إحياء الخلافة
الإسلامية في الحجاز ولا في غيره، وإنما هذه نبأة جديدة صاح بها محمد علي في
مصر، ويرى القراء في آخر هذا المقال ما يهمهم من أمرها مختصرًا مفيدًا.
***
(3)
رجال ابن السعود وشعبه
لخص الزعيم المذكور ما بسطه من أسباب عداوتهم لابن السعود بقول:
(ومما تقدم تبين أننا نخالف ابن السعود لسببين: (الأول) تمسكه بالملك وعدم وفائه
بالعهد الذي تعهده لنا (الثاني) أن تمسكه بالملك يجعله في حاجة إلى من يعتز به
في ملكه، فهو يعتز برجاله ورجاله جهلاء، ونشهد أنهم مخلصون للدين إخلاصًا
أعمى، وعيبهم جهلهم، أما ابن السعود، فنشهد أنه لم يكن جاهلاً، ويعرف أن
الحق معنا، وأن الدعوة إلى الخير لا تكون إلا بالتي هي أحسن، ولكنه لم يستطع
مقاومة جهل رجاله، وإلا خرجوا من يده ولم يبق له من يستعين به على الاحتفاظ
بالملك غيرهم، فلهذا تراه يغمض العين على القذى) اهـ.
يعني الزعيم برجال ابن السعود شعبه من أهل نجد، وغير نجد من البلاد
التي تدين لسلطانه، وهم الذين اشتهروا بلقب الوهابية، ويعني بجهلهم عدم
وقوفهم على أمر السياسة وآداب الحضارة والعمران، وشدتهم في الدعوة والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، هو يشهد لهم بالإخلاص للدين وسمى إخلاصهم
أعمى؛ لأنهم لا يراعون فيه أساليب الدعاية وآداب الحضارة وعلومها العصرية فيها
ويشهد لسلطانهم ابن السعود بأنه ليس بجاهل مثلهم، ولكنه مضطر إلى الإغضاء
عن جهلهم وعدم التصدي لمقاومة هذه الجهل؛ لئلا يخرجوا عليه فلا يبقى له قوة
يحافظ بها على ملكه، وجناب الزعيم السياسي اللائم المليم يصرح بأن محافظة ابن
السعود على رجاله هؤلاء وإغماض عينه على قذى جهلهم هو السبب الثاني
لعداوتهم له ومقاومتهم إياه، وقد تلطف هنا فسمى ذلك مخالفة ونتيجة هذه المقدمات
أن عداوتهم أو مخالفتهم له لا تزول إلا إذا ترك ملك الحجاز أولا وقاوم قومه حتى
يلجئهم إلى الخروج عليه ترك طاعته وإسقاط حكمه ثانيًا.
فأي عادل أو عاقل بريء من الهوى يوافق جناب الزعيم ويخطئ ابن السعود؛
لأنه لا يوافقه ويوافق أخاه شوكت علي في الأمرين كليهما، والسعي معهما لإقامة
جمهورية في مكة تكون تحت سيطرة جميع الشعوب الإسلامية على فرض أن هذا
صواب في نفسه، وما هو إلا خطأ لا يحتمل الصواب؟ بل أي عاقل يتوقف في
الحكم بالهوس والجنون على رجلين يطالبان ملكًا من الملوك بخلع نفسه من الملك
والانسلاخ من إمامة شعب قوي يطيعه طاعة دينية مكنته من تأسيس سلطنة عظيمة
أقام فيها العدل ونشر الإصلاح والتعليم والتحضير للبدو وحفظ الأمن في بدوها
وحضرها حفظًا لا يوجد له نظير في مملكة من الممالك حتى الأوربية والأمريكانية،
ويتوقع لها جميع العارفين بحالها في الشرق والغرب مستقبلاً عظيمًا إذا أطال الله في
عمره حتى يتمكن من تنفيذ مقاصده، ويعللان طلبهما بأنهما على حق فيما يقترحان
عليه ترك ملكه وقومه لأجله واتباعهما فيه؟ وأي عاقل يصدق هذا الزعيم اللائم المليم
أن ابن السعود يعتقد أنهما على حق فيما ذكر ويوافقه على أن جريمته الموبقة هي
الحرص على ملكه الباطل والمحافظة على شبعه الجاهل: وإيثارهما على خيال محمد
علي العالم الفاضل؛ لأن متخرج في مدرسة إكسفورد البريطانية؛ ولأن له جمعية
سياسية خيالية جعلته هو وأخاه زعيمين لها؟ صدق الله العظيم في قوله: {وَلاَ
تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: 26) وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) .
أما والله لولا اتباع الهوى والغرور بالزعامة لما صدر مثل هذه الكلام عن مثل
(مولاي محمد علي الزعيم الكبير) فالرجل لوذعي الذكاء متخرج من أعلى
المدارس الإنكليزية ولكنه عصبي المزاج حديده إذا غضب وغلب عليه الهوى لا
يدري ما يقول، في طلاقة لسان، وجرأة جنان، وزهو بالزعامة، وتعود على
تصفيق عوام الهنود له في كل ما يقول، ومنه كما نقل إلينا أنه قال في جماعة منهم
(إنه لا تأتي سنة 1927 أو 1928 (الشك مني) إلا وقد خرج الإنكليز من الهند)
فصفقوا له تصفيقا.
لو كان الرجل مخلصًا للإسلام والمسلمين في مساعيه السياسية لعد وجود
الشعب النجدي على الحال التي يعرفها ونعرفها من أعظم نعم الله على هذه الملة في
هذا العصر، وأعظم أسباب الرجاء في تجديد مجد الإسلام، وإقامة شرعه الذي
هدمته حكومات الحضارة الإسلامية الناقصة في كل مكان، كان شرهم في ذلك
الترك الذين لم يشتهر محمد علي وشوكت علي في الهند وغيرها إلا بتصديهما
لتعزيز خلافتهم الوهمية الباطلة، وإن كان لهما عذر سياسي في هذا لأن الدولة
العثمانية كانت سياجًا للمسلمين في الجملة كما كان يقول الأستاذ الإمام.
الشعب النجدي أو الوهابيون هم أصح الشعوب الإسلامية عقيدة وأقواها إيمانًا
فإن آية الإيمان الكبرى هي بذل المال والنفس في سبيل الله وهم كذلك، ويظهر أثر
إيمانهم في أعمالهم فكلهم يؤدون جميع الفرائض من صلاة وزكاة وصيام وحج
وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن منكر، حتى إنه ليقل فيهم من تفوته صلاة
الجماعة حيث تقام بغير عذر شرعي، وهم أصدق الناس حديثًا وأشهم أمانة قد تمر
السنين، ولا يتهم أحد منهم بخيانة أو عدوان على غيره، وأما شدتهم في الدعوة
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي موجهة في الغالب إلى البدو وهي لائقة
بهم لخشونتهم.
وكلهم طائعون لإمامهم وسلطانهم في المنشط والمكره فإذا دعاهم إلى النفير
العالم أو الخاص نفروا خفافًا وثقالاً لا يكلفونه مالاً ولا وسلاحًا إلا من حاجة فهم على
سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم بقدر علمهم
ومعرفتهم، وهم من جراء ذلك يقبلون كل علم وعمل يوافق الشرع ويردون كل ما
خالفه، فإذا تيسر تعليمهم كل ما ترتقي به الأمم في الحضارة من طريق الشرع
قبلوه (ومنه أساليب الدعوة والإرشاد في الأمصار) وإمامهم ابن السعود يعلم هذا
وينوي تنفيذه، وكل ذلك يتوقف على كثرة المال ومساعدة الزمن، والزعيم اللائم
المليم يعلم كل هذا، ولكنه يريد أن يكون ابن السعود تابعًا لهواه؛ لأنه كان ناصرا
له بجمعيته على الشريف حسين.
***
(4)
مسألة الخلافة
إذا أطلق المسلمون كلمة الخلافة فإنما يعنون بها الحكم الإسلامي الصحيح
الذي كان الخلفاء الراشدون أكمل مثال له، وحكم الخلفاء الراشدين قد اشتهر في
العالم الإنساني لا الإسلامي وحده بأنه أكمل حكم أقام العدل المطلق بلا أدنى محاباة
لأحد من البشر لأجل دينه أو نسبه أو قوته أو غناه أو فقره أو قرابته أو عداوته أو
صداقته كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز بالنصر الصريح، وأنه أكمل مثال لما
يسمونه في هذا العصر (بالديمقراطية) أي حكم الشعب، وقد شهد بذلك العارفون
المنصفون من غير المسلمين، وإن تخبط في فهمها ومعرفة قيمتها علي أفندي عبد
الرازق وأمثاله من الهادمين لمجد الإسلام الذين يلقبون أنفسهم بالمجددين.
كل مسلم صادق الإيمان بما جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم
يتمنى لو يعود للمسلمين حكم الخلافة هذا، وكل من وقف حق الوقوف على حكم
عبد العزيز بن السعود في بلاده ثم في الحجاز، وإن لم يتم له فيه ما تم له في نجد
يعلم - وإن منعه الهوى أن يشهد بما يعلم- أنه هو النواة الوحيدة لإعادة حكم
الراشدين ومجد الإسلام الذي أسسوه إذا أتيحت له الأسباب والمساعدة من المسلمين،
ومحمد علي وشوكت علي من أعلم الناس بهذا الأمر ولكنهما يدعيان أنهما
سيقيمان حكم الخلافة بإقناع جميع الشعوب الإسلامية به، وإن من المقدمات لإقامتها
هدم قوة ابن السعود التي هي القوة الإسلامية الوحيدة القائمة على أساس الدين.
لا أستثني من هذا العموم حكومة الإمام يحيى في اليمن فإن قومه الزيدية الذين
هم دعامة حكمه وأصل عصبيته لا يقاتلون إلا في مقابلة جُعْل مالي يتقاضونه منه،
وقد كان كثير منهم يقاتلون جيشه تحت لواء عدوه السيد الإدريسي؛ لأنه يعطيهم
من الدراهم ما لا يعطيهم الإمام يحيى، وأما غير الزيدية وهم الشافعية الذين يؤلفون
السواد الأعظم في اليمن فهم لا يقاتلون معه لإمامته بل كثيرًا ما يقاتلونه، وسبب
خضوع أولي القوة والعصبية منهم له وجود رهائن من أبناء سادتهم وزعمائهم عنده
يهدد من عصاه بالفتك بهم، ولعله لا يوجد في بلاد نجد وملحقاتها رجل واحد لا
يطيع الإمام عبد العزيز بوازع العقيدة الدينية.
أفيعقل مع هذا أحد من البشر أن الوسيلة الوحيدة لإحياء حكم الخلافة هدم
سلطان هذا الإمام بحجة أن أهل الحجاز سموه ملكًا وإن اشترطوا عليه مع هذا
اللقب أن يكون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلخ، ما تقدم في
نص بيعته.
وأما سائر الشعوب الإسلامية فأمر حكوماتها من حيث القرب أو البعد من حكم
الخلافة معلوم: الترك نبذوا الخلافة والشرع الإسلامي برمته من حكومتهم،
وشرعت جمهوريتهم التي يقدس نوع حكمها (أي الجمهورية) محمد علي وشوكت
علي في تغيير دين الشعب نفسه، فبدأت بإباحة الردة عن الإسلام وكثير من
المحرمات التي يعد الإسلام استحلالها كفرًا، ثم ألغوا من قانونهم المادة القائلة: إن
دين الدولة هو الإسلام فتركوا مخادعة الشعب باسمه بعد ما خضع صاغرًا لترك
شرعه، ولبس البرنيطة كارهًا؛ لأنها شعار غير أهله، والآن نسمع نبأة جديدة
عنهم في تغيير الصلاة بجعلها كصلاة البروتستانت وغيرهم من النصارى بأن
يجلس المصلون على كراسي يسمعون المعازف وآلات الطرب في المساجد إلخ [1]
وملك الأفغان قد شرع في الاقتداء بهم في التفرنج والاستعانة برجالهم على إدارة
جيشه وملكه وبالإفرنج أيضًا، ومصر التي هي أجدر بلاد الحضارة الإسلامية
بالحكم الإسلامي وإعادة الخلافة قد اقتبست القوانين الإفرنجية للأمور المدنية
والعقوبات وأحلتها محل الشريعة ثم وضعت أساس حكومتها على قوانين أوربة
النيابية، ولما قام كبار علماء الأزهر ومَنْ وافقهم من سائر طبقات الشعب منذ سنتين
بالدعوة إلى عقد مؤتمر للبحث في شئون الخلافة وإقامة خليفة للمسلمين كانت
الحكومة المصرية ومعظم نوابها المنوط بهم أمر التشريع ضدًّا على جمعية الخلافة،
وكانت أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية تهزأ بهم وتسخر منهم وتصد عنهم، ثم قامت
قيامتها وقيامة مجلس النواب على وزارة الأوقاف؛ لأنها أجابت دعوة الأستاذ الأكبر
شيخ الجامع الأزهر إلى صرف مبلغ حقير من الأوقاف الخيرية باسم المعاهد الدينية
صرفه على السعي لعقد مؤتمر الخلافة، ثم عقد المؤتمر، ولم ينته إلا بالخيبة
والفشل، وأما حكومة إيران فهي أبعد حكومات الشعوب الإسلامية عن إحياء حكومة
الخلافة التي يدّعي الزعيمان الدعوة إليها؛ لأنها حكومة شعب شيعي يدين الله تعالى
ببطلان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ... ويعتقد أن الحكم الإسلامي الحق لن يقوم في
الأرض إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر الذي هو محمد بن الحسن العسكري الذي
دخل السرداب في (سُر من رأى) التي تسمى الآن (سامرا) منذ أحد عشر قرنًا،
وينتظرون خروجه منه كل يوم.
هذا حال الشعوب الإسلامية المستقلة، على ما في استقلال مصر من قيود
وسيطرة احتلال أجنبي، ومن المعلوم أن سائر المسلمين خاضعون لدول أوربة.
فاسمع بعد تذكر هذا ما صرح به الزعيم محمد علي الهندي لجريدة الأخبار
عن خطة جمعيته في إعادة الخلافة:
قال: (واعتقادنا الراسخ أننا سنعمل إن شاء الله إلى اليوم الذي تجتمع فيه
كلمة الأمم الإسلامية ملوكية كانت أو غير ملوكية فتنفرد كل أمة بشئونها الداخلية
حسبما يتفق مع عوائدها وطباعها وما يتفق مع مصالحها وإدارة شئونها.
(وأما الشئون الخارجية فيجب على المسلمين جميعًا أن يكون (أمرهم
شورى بينهم) وبذلك ترى المسلمين جميعًا في المستوى اللائق بهم) يعني وإن هذا
لا يتم إلا بإعادة حكم الخلافة أي الرجوع إلى أحكام كتاب الله كما قال: والمراد إذًا
أن تكون السياسة الخارجية لجميع الأمم الإسلامية وحكوماتها على اختلاف أنواعها
تحت إدارة الخليفة الأعظم القائمة على أساس الشورى في مجلس مؤلف من جميع
تلك الأمم ليتفق سابق كلامه مع لاحقه.
على أنه ذكر بعد هذا أن أهل الهند ساخطون على ابن السعود لتدمير رجاله
الجاهلين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم والعِترة والصحابة رضي الله عنهم، ثم
قال: (وكل مهمتنا أننا نواجه تيار هذا السخط والغضب إلى تحقيق غايتنا السامية
التي نعتقد بحق أنها لخير الإسلام والمسلمين، فما علينا إلا إحياء الهمم وتوجيه
القلوب وتحويل الأنظار إلى وجوب إعادة عهد أبي بكر وعمر) اهـ بنصه.
أما قوله: إن رجال ابن السعود ذمروا آثار النبي صلى الله عليه وسلم وآثار
عِترته وأصحابه فهو كذب وبهتان دليله أن هؤلاء ليس لهم آثار مبنية تدمر وإنما
دمر القوم بعض مشاهد القبور المشيدة المزينة على خلاف ما ثبت في الأحاديث
الصحيحة من النهي عن ذلك ولعن فاعليه، والأمر بهدمه وتسويته بالتراب كما بيناه
مرارًا.
وقوله: إن مسلمي الهند ساخطون على ابن السعود باطل على إطلاقه فخيار
مسلمي الهند من علماء الحديث وأنصار السنة ومن العقلاء والسياسيين راضون
عن ابن السعود ومؤيدون له، وإنما الساخط عليه الشيعة وخرافيو أهل الطرق
المبتدعة.
وهب أن قوله صحيح فهل يتجرأ عاقل على القول بأن سخط الهنود على ابن
السعود هو الوسيلة الوحيدة لإعادة حكم أبي بكر وعمر؟
فخلاصة ما قاله الزعيم محمد علي أنه يعتقد أن سعيه وسعي جمعيته سينتهي
بإقناع جميع الأمم والدول الإسلامية بأن تكون كل دولة من دولها مستقلة في إدارتها
الداخلية، وأن تكون سياستها العامة وعلاقاتها الخارجية مع الدول تابعة لخليفة واحد
يكون في الحجاز، وأن الوسيلة الموصلة إلى هذا الإقناع هي سخط بعض عوام
الهنود أو كلهم على ابن السعود؟ وهل يروج هذا الهوس إلا عند عوام الهنود؟
فالمعقول الذي لا يُعْقَل غيره أن تكون خطة محمد علي جمع أموال عظيمة من
الهند تقبضها جمعية الخلافة؛ لتزيل بها حكم ابن السعود من الحجاز وتضع بدله
حكم خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم يكون مآل هذه الأموال كمآل الأموال
التي جمعت من قبل لإحياء خلافة الترك.
وقد وجدت جمعية في ألمانية لمثل هذه الغاية أحسن نظامًا من جمعية الخلافة
الهندية، وهي تدعو الناس إلى دفع زكاة أموالهم إلى فروعها لأجل هذه الغاية.
ومن المسلمين من يرون في الخلافة آراء أخرى بعيدة عن الشرع والعقل.
ونحن قد سبقنا إلى وضع أصول النظام لإعادة الخلافة في كتابنا الذي أفردناه
لهذه المسألة (كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى) .
والحق المعقول أن العالم الإسلامي غير مستعد الآن إلى تمحيص هذه المسألة
وتنفيذ الواجب، وأن خير الوسائل لها ما اقترحناه كتابة على المؤتمر الذي أقيم
بمصر فلم يعرضه السكرتير العام عليه، وقد نشرناه في المنار، وفي بعض
الصحف المصرية {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) اهـ الرد.
(المنار)
كتبنا هذا المقال في ثلاثة فصول أرسلناها إلى جريدة الأخبار الغراء التي
نشرت تصريحات الزعيم محمد علي الهندي فنشرتها وكنا نرسل المسودة قبل أن
نقرأها لالتياث صحتها، وبعد إتمام نشرها فيها أودعناها في المنار بعد شيء من
التنقيح والتصحيح؛ لأننا قرأناها بعد ذلك مجتمعة وكان كل فصل ينشر قبل كتابة
ما بعده.
__________
(*) إردام الحمى عبارة عن دوامها وطول مكثها.
(1) المنار: هذا الخبر يؤيد ما بلغنا منذ بضع سنين عن مصطفى كمال أنه يمهد السبيل لتنصير الترك لتبقى كأوربة من كل وجه ولكنه ينبغي من إنكلترة أن تكافئه على ذلك بمخالفته وعد الترك شعبًا أوربيًّا.(29/162)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة اجتماع صاحب المنار بالملك فيصل
وسعاية العتل الزنيم ومفاسده فيها
كتب إلينا من أكبر أمصار الحجاز أن رجلاً من مستخدمي الحكومة الحجازية
كان بمصر وعاد إليها قبل موسم الحج الأخير فأذاع في جدة والمدينة المنورة ثم
في مكة أن صاحب المنار لما قابل ملك العراق بمصر أعطاه عهدًا وميثاقًا بأنه لم
يعد يدافع عن هؤلاء الوحوش النجديين، إلخ، وكان يقول في الاستدلال على
صحة هذا الزعم: إنه قد نُشر في بعض الجرائد ورآه صاحب المنار ولم يكذبه ولو
لم يكن صحيحًا لكذَّبه، أما صاحب هذه الفرية الحقيرة الدنيئة فقد عرفناه، وإن لم
يَذكر اسمه أحد ممن كتب إلينا بالخبر: عرفناه مما سبق له من أمثال هذه السعاية: هو
هو ذلك الذي أذاع تلك الإذاعات الباطلة في ضد ما وجهت سعيي له في حادثة
المحمل المصري، هو هو ذلك الذي كان يطعن عليَّ في كل مجلس بمصر حتى
أمام
المرحوم سعد باشا والذي اجتهد في السعي للإيقاع بيني وبين سمو الأمير سعود
عندما كان هنا، هو هو الذي أوعز إلى صنيعته بمصر في الطعن عليَّ في الجرائد
مرارًا أو بذل لها المال أجرة نشرها، هو هو الذي أذاع تلك الأكاذيب في مسألة
طبع كتاب المغني من كتب جلالة الإمام، ولقنها لبعض مراسلي بعض الجرائد
السورية، وأنا لا أعلم سببًا لعداوته لي إلا أن يكون الحسد لما رآه من عناية الملك
وشدة ثقته بي وخوفه أن أذكر لجلالته ما أعلم من مخازيه، ولكن هذا خلقه لا خلقي،
وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاد من أوهامه
وقد زاد في حقده عليَّ أخيرًا أنه دخل مكانًا بالقاهرة فيه كثير من الوجهاء فقاموا
له ولم أقم؛ لأنه مجاهر بعداوته لي وأحمد الله أنني لا أعرف المداهنة ولم أعتد
النفاق.
وقد كان استغرابي لفريته الأخيرة أعظم من كل ما سبقها من أمثالها؛ لأن
ثنائي على الإمام وقومه ودفاعي عنهم لا ينقطع ما دامت مناقب الإمام وأعماله
الإصلاحية متجددة، وما دام يوجد في الناس من يطعن في قومه بالباطل إما اتباعًا
للهوى وإما للجهل، ووالله إنني لا أبغي بهذا الزلفى عنده بل عند الله وحده.
إن هذا العتل الزنيم والحسود الباغي كاذب في قوله الأخير ككذبه في أمثاله،
وإنه كاذب في استدلاله عليه بأنني رأيت الخبر منشورًا في الجرائد ولم أكذبه،
فإنني لم أر ذلك ولم يبلغني أن أحدًا نشر في جريدة، بل الأرجح أنه هو الذي
افتحره على أنني لو رأيته في بعض هذه الجرائد الهُمزة اللُّمزة التي تلقب بالساقطة
لما باليت به، ولما رددت عليه فإننا مأمورون بالإعراض عن الجاهلين، فكيف إذا
كانوا كأصحاب هذه الجرائد الساقطة من الأدنياء المأجورين.
ولكنني علمت أن جريدة لبنانية منها مأجورة لخصمنا في مسألة السياسة
السورية قد كتب إليها أُجراء هذا الخصم بأن صاحب المنار قابل الملك فيصل
واعتذر له عن طعنه فيه من قبل، وتذلل له ليعفو عنه أو ما هذا معناه، ولذلك
صرحتُ فيما نشرت قبلاً من حديثي مع الملك فيصل بأنني قلت له في وجهه: إن
كل ما كتبته فيهم صدر عن عقيدة وقصدت به خدمة أمتي وملتي، فأجابني بأن
والده كان يعتقد أيضًا أن كل ما فعله وخالفناه نحن فيه إنما كان من اعتقاد منه بأنه
عين المصلحة وخدمة الأمة، وبأنه إذا لم يكن والده معصومًا من الخطأ في عمله أو
اعتقاده فلا يمكنني أنا ادعاء العصمة لنفسي في ذلك، وذكرت أنني قلت له: نعم لا
أدعي العصمة من الخطأ، ولكنني إذا ظهر لي خطئي أرجع عنه، ولا يخفى أن
مفهوم هذا الكلام أو فحواه أن والده لا يرجع عن خطئه وإن ظهر له، وأنه لو ظهر
لي أنني كنت مخطئًا فيما كتبته فيهم لرجعت عنه حيث نشرته، وهذا تكذيب
صريح لمن كتبوا إلى تلك الجريدة بأنني اعتذرت له، ولكني أكرم نفسي عن ذكر
تلك الجريدة، وذكر من كتب لها وعن الرد عليهم بأن العفو إنما يطلب ممن يملك
العقوبة، والملك فيصل لا يملك ذلك.
ومن العجب عندي أن صديقًا من أخلص أصدقائي كتب إليَّ بمناسبة السعاية
الأخيرة أن الذي زين لي لقاء الملك فيصل كان خادعًا، وأنه ما كان ينتظر من مثلي
أن أنخدع له وإن قيل: (إن الكريم إذا خادعته انخدعا) وتمنى أن لا أعود إلى
مثل هذا، وقد أجبته بأنني أعتقد أنه غير مخادع وأن نيته صالحة، وأنها تتعلق
بخدمة الأمة العربية والإسلام من الناحية التى ذكرتها في المنار، وأنني قبلت
وساطته لأجلها، على أن لي مقاصد أخرى من ذلك ذكرت بعضها دون بعض،
ويمكنني أن ألخصها كلها هنا ليعلم ذلك الصديق وغيره أنني لم أكن منقادًا لصديقي
إحسان بك الجابري للثقة بحسن قصده فقط وهي:
1- أنه كان مما افتراه عليَّ سفيه الملاحدة هنا أنني كنت أخدم سياسة فيصل
في دمشق للانتفاع بماله، وأنني أخدم ابن السعود الآن لمثل ذلك فكانت فرصة لقاء
فيصل التى سنحت من غير قصد ولا توقع ممكنة لي من تذكيره في وجهه بما كان
من حرصه على إسداء منفعة مادية إليَّ لا ينافي قبولها الإباء وعزة النفس،
واختياره منها أن يفرش لي الدار الواسعة التى استأجرتها، وما كان من سبقي إلى
استحضار الفرش والأثاث لها من طرابلس حتى لا يبقى له مجال لإرسال ما لا بد
لي من رده، ولم يكن يعلم بهذا أحد في الشام غير إحسان بك الجابري رئيس أمنائه؛
لأنه عرض ذلك عليَّ أمامه وعلى مسمعٍ منه، وقد تم لي هذا المقصد وأذعته في
المنار.
2- إن فيصلاً أظهر وهو في أوربة في الزيارتين الأخيرتين لها ميلاً لمساعدة
السوريين على قضيتهم، ولكن لدى فرنسة وكان بعض السوريين يرجون منه نوعًا
آخر من المساعدة على فرنسة، والأذكياء منهم يعتقدون أنه لا يسعى إلا لنفسه أو
إخوته، وأنه إنما يبغي بإظهار مساعدتهم أن يثقوا به فيقنع فرنسة بجعل أخيه ملكًا
على سورية، وبذلك يأخذ ثأره ويجعل سلطان بيت الحسين الهاشمي ممتدًا من خليج
فارس إلى البحر الأحمر على طول مملكة ابن السعود معتزًا بالدولتين الكبريين
إنكلترة وفرنسة مؤقتًا إلى أن تؤول البلاد كلها إلى إنكلترة كما يتوقعون، فأحببت أن
أسمع من لسانه ما لعلي أعلم به مراده، وقد كان.
3- رغبتي الخاصة في الوقوف على رأيه في ابن السعود وقومه ومستقبل
ملكه كما ذكرت ذلك من قبل، وقد كان.
4و5 - ما كان موضوع الحديث بينى وبين إحسان بك الجابري، وهو
استنباء جلالته عما كان موضوع بحثنا في الشام من أمر الجامعة العربية والجامعة
الإسلامية، وما كان من توسلنا إلى الأولى بمكاتبة والده وابن السعود، إذ كتب هو
إلى والده كتابًا أطلعني عليه بوجوب الاتفاق مع ابن السعود وكتب كل منا لابن
السعود كتابًا أطلع الآخر عليه، وأرسل هو الكتب الثلاثة إلى صاحبيها، إلخ ما سبق
ذكره في المنار.
وأما الجامعة الإسلامية فكان موضوعها إزالة الشقاق والتفرق الذي حدث
بسبب المذاهب وجمع كلمتهم على مصالحهم المشتركة في دنياهم ودينهم، كان
فيصل قد سألني في دمشق هل هذا من الممكن؟ قلت: نعم، قال: وما الوسيلة إليه
؟ فذكرت له ما أراه وما كنت مهدته له في مقالات المصلح والمقلد وبينت له أن
الخلاف والشقاق لا يزال على أشده بين أهل السنة والشيعة وأن من الممكن الاتفاق
بينهما إذا سعى له أهل النفوذ والتأثير سعيه بالإخلاص، فأردت أن أعرف ما
اختبره في العراق من حال الفريقين، وهو ما سألته عنه وعما قبله بالتصريح،
وعلمت رأيه فيهما ولا يجوز في عرف الصحافة نشره بالتفصيل بدون إذنه، وهو
بالإجمال يدل على الآفة المؤسفة ضعف الدين في الفريقين لا التعصب له باسم
المذاهب، وإنما يتعصب كلٌّ لمنافعه المادية، وأما رأيه في الأمرين الثاني والثالث
فإنما استدرجته إلى الحديث فيهما استدراجًا واستنبطت رأيه فيهما استنباطًا.
أفرأيت أيها الصديق أن من له مثل هذه المقاصد المفيدة يكون مخدوعًا بحسن
الظن وسلامة النية في ذلك الاجتماع؟
__________(29/180)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
كتاب الأمير شكيب أرسلان إلى صديقه صاحب المنار
في الجواب عما كتبه في تعزيته عن شقيقه المرحوم الأمير نسيب
نشر كلاً من الكتابين كثير من الجرائد العربية المشهورة في مصر وسورية
وفلسطين ولبنان وعَدُّوهُمَا من الآثار الأدبية في عبارتهما، كما أنهما من آيات
الإخلاص في الأخوة الروحية بين صاحبيهما، وقد كان من سهو الإدارة تأخير نشر
كتاب الأمير إلى الآن، وهذا نصه:
إلى حضرة الأستاذ الأكبر والسراج الأزهر، القدوة الحجة، مذكي المنار
الهادي إلى أقوم محجة، السيد محمد رشيد رضا، أمتع الله الإسلام بطول حياته
آمين.
إذا كنتُ قد فقدت أخي الكبير، فما زال لي منك أخ أكبر، وإذا كان قد انهد
ركني المتين، فلم يبرح لي منك ركن أركن، وعماد أمتن، وليس بمهيض الجناح،
من أنت جناحه، ولا بأعزل في الميدان، من رضي السيد من آل الرضا سلاحه،
ولقد كان ما تفضلتَ به من التعزية على صفحات الصحف السيارة، خير جابر
لخاطري الكسير، ومرقئ لمدمعي الغزير، ولم يكن بأول برهان على خلقك
العظيم، وقلبك الكبير، وعلى أنك تعطف على القليل، فإذا به بإكسير نظرك كثير،
وكأنك علمت بما فتَّ هذا الخطب من عضدي وكوى من كبدي، فبدرت إليَّ بما
يكف سَوْرَة الخطب، ويكفكف صوبة الدمع، ويشفي حرقة الصدر ويهيب بي إلى
ما أُمرنا به من الصبر.
فأسأل واجب الوجود، أن يمتع الإسلام كله بطول بقائك، وأن يهدي القاصي
والداني بأشعة ضيائك، وأن يبقيك للأمة العربية السندَ الأقوى، والجناب الأمنع،
والبرهان الأسنع، والحجة القاطعة التي لا تُدْفَع، وأن يجعل البرَكة في حياة أنجالك،
وأن يُقر عينك بذريتك وكلالتك وآلك، ولعمري إنه بسلامتكم يحسن العزاء،
وبوجودك تهون الأرزاء، وبطلعة محياك عِوض عن كل ما ساء، وما ضر أن
يكابر مكابر، أو يعاند معاند، فالحق شديد المِحال، والنور لا يختفي بحال، وما
يُتعب هؤلاء أنفسهم إلا بالمُحال.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوك
... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________(29/184)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أصل دعوة التجديد الإسلامي في نجد وقاعدتها
لا يزال كثير من الناس يجهلون تفصيل حقيقة هذه الدعوة التي يسمونها
الوهابية؛ لجهلهم بتاريخها أو بحقيقة الإسلام التى كان عليها السلف الصالح، وقد
ورد على الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة
كتاب من العلامة الشيخ عبد الله الصنعاني يسأله فيه عما يدينون به وما يعتقدونه
من الحق، فأجابه بالكتاب الآتي، فاستشكل الصنعاني مسألة المذهب في الجواب،
فرد عليه الشيخ عبد الله بما أزال استشكاله فرأينا أن ننشر الجوابين في المنار؛
لأنهما فصل الخطاب في الموضوع، وهذا نص الجواب الأول.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وصحبه
البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني وفقه الله وهداه، وجنَّبه الإشراك
والبدعة وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله بركاته.
(أما بعد) فوصل الخط، وتضمن السؤال عما نحن عليه من الدين.
(فنقول) وبالله التوفيق الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له والكفر
بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه محمد صلى
الله عليه وسلم فأما عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ
لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) فمن أنواع العبادة الدعاء، وهو
الطلب بياء النداء؛ لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو
بإحدى أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس فأمر الله سبحانه وتعالى
عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) وقال
في النهي: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) و (أحدًا)
كلمة تصدق على كل ما دُعِيَ به غير الله تعالى، وقد روى الترمذي عن أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء مخ العبادة) وعن النعمان بن بشير قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدعاء هو العبادة) ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال
العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث (الدعاء مخ العبادة) قال شيخنا قال في
النهاية: مخ الشىء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: (أحدهما) أنه امتثال لأمر
الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) فهو مخ العبادة
وخالصها.
و (الثاني) أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه
لحاجته وحده؛ ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء،
وقوله: (الدعاء هو العبادة) قال شيخنا: قال الطيبي: أتى بالخبر المعرف
باللام ليدل على الحصر، وإن العبادة ليست غير الدعاء. انتهى كلام العلقمي [1] .
إذا تقرَّر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع
لأمته أن يدعوا أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بل نعلم أنه
نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرَّمه الله تعالى
ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} (الشعراء: 213) وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا
لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} (يونس: 106) الآيات، وهذا من معنى (لا إله إلا الله)
فإن (لا) هذه هي نافية للجنس فتنفي جميع الآلهة و (لا) حرف استثناء يفيد
حصر جميع العبادة على الله عز وجل، والإله اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل
ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق ويدبر الأمور، وهو
الذي يستحق الإلهية وحده، والتأله التعبد، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) ثم ذكر الدليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (البقرة: 164) إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ
اللَّهِ أَندَاداً} (البقرة: 165) الآية.
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في
الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث
في أمرنا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: (من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما
وافق منها قُبِلَ، وما خالف رُدَّ على فاعله كائنًا مَن كان، فإن شهادة أن محمدًا
رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به وقد
روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله ومَن يأبى؟ قال: من أطاعني
دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان وما عليه الأئمة المقتدى بهم من
أهل الحديث والفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى
لكي تتبع آثارهم، وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا
ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة ولا إجماع الأمة
ولا قول جمهورها.
والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها
نخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول وبها نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في
الشرع [2] كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة
على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس ونحو
ذلك، فهذا حسن، والله أعلم، وصلى الله علي محمد وآله وصحبه وسلم.
أجاب الصنعاني الشيخ عبد الله (رحمهما الله) على كتابه بالموافقة على كل
ما فيه إلا قوله: إن مذهبهم مذهب الإمام أحمد فإنه يقتضي تقليده والتقليد محظور،
وإنما المشروع اتباعه في الأخذ من الكتاب والسنة، فأجابه الشيخ عبد الله بهذا
الكتاب وهو الثاني قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي نزَّل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم
وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار.
إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار
على من أشرك وابتدع، والصلاة والسلام على محمد الذي قامت به على الخلق
الحجة، وبيَّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.
(أما بعد) فقد وصل كتابكم وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم
على ما نحن عليه من الدين وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومتابعة الرسول الأمي
سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات،
والأحاديث الباهرات، وإن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة ثم التابعين لهم بإحسان فذلك ما نحن عليه،
وهو ظاهر عندنا من كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل {قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) الآية {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2) .
وكل يدعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنحن أقمنا الفرائض والشرائع والحدود والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا
بالمعروف، ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشرك والعناد فلله
الحمد والمنة.
وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدوا
أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدوا
بقولكم ذلك التقليد له فيما قاله من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة كما سلك
بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين واطَّرَحُوا
الاحتجاج بالكتاب والسنة وسدوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصًا.
فالجواب وبالله التوفيق من أوجه (الوجه الأول) : إن في رسالتنا التى عندكم
ما يرد هذا التوهم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، فتوزن الأقول والأفعال بأقواله
وأفعاله فما وافق منها قُبِلَ وما خالف رُدَّ على قائله كائنًا مَن كان إلى آخره، فتضمن
هذا الكلام أنه لا يُقدم رأي أحد على كتاب الله وسنة رسوله، والعجب كيف نَبَا
فهمكم عنها.
(الوجه الثاني) قد صرَّح العلماء أن النصوص الصريحة الصحيحة التى لا
مُعَارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما
فهمه العلماء من النصوص أو علمه أحد دون أحد أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك.
(الوجه الثالث) قد ذكر العلماء أن لفظة المذهب لها معنيان: معنى في اللغة،
ومعنى في الاصطلاح، فالمذهب في اللغةَ مفْعَل ويصح للمصدر والمكان والزمان
بمعنى الذهاب وهو المرور أو محله أو زمانه، واصطلاحًا ما ترجَّح عند المجتهد
في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقدًا ومذهبًا، وعند بعضهم ما
قاله مجتهد بدليل ومات قائلاً به، وعند بعضهم أنه المشهور في مذهبه كنقض
الوضوء بأكل لحم الجزور ومس الذكر ونحوه عند أحمد، ولا يكاد يطلق إلا على
ما فيه خلاف، وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء ما ذهب إليه إمام من الأئمة من
الاجتهادية [3] ، ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى وهو ما
قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، فقد تَلَخَّصَ من كلامهم أن المذهب في الاصطلاح:
ما اجتهد فيه إمام بدليل أو قول جمهور أو ما ترجَّح عنده ونحو ذلك، وإن
المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف التى ليس فيها نص صريح ولا إجماع،
فأين هذا من توهمكم أن قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى
وقاله، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع. فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان.
(الرابع) قال ابن القيم في إعلام الموقعين لما ذكر المفتين بمدينة السلام،
وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا
وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول:
(أحدهما) النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه
كائنًا من كان، ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى
أن قال:
(الأصل الثاني) من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا
وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُهَا إلى غيرها، ولم يقل:
إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه، ونحو هذا إلى
أن قال:
(الأصل الثالث) من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان
أقربها للكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال
حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول إلى أن قال:
(الأصل الرابع) الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب
شىء يدفعه فهو الذي يرجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا
المنكر ولا ما في روايته متهم بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، فإذا لم
يجد في الباب أثر يدفعه، ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه كان العمل به
عنده أولى من القياس وليس من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث
الجملة، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نص ولا قول للصحابة أو أحد منهم ولا أثر
مرسل أو ضعيف عدل إلى.
(الأصل الخامس) وهو القياس فاستعمله للضرورة، وقال الشافعي: إنما
يُصَار إليه عند الضرورة، وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: ما تصنع
بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه، وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة
عنده أو لاختلاف الصحابة فيها، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثير مما
فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. انتهى كلام ابن القيم ملخصًا. فهذا ما
أشرنا من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.
وأما ما ذكرتم من ذم من قلَّد الإمام أحمد وغيره وأطلقتم الذم فليس الأمر على
إطلاقكم، فإن تريدوا بذم التقليد تقليد من أعرض عما أنزل الله وعن سنة نبيه
صلى الله عليه وسلم أو من قلد بعد ظهور الحجة له أو مَن قلد مَن ليس أهلاً أن يؤخذ
بقوله أو من قلد واحدًا من الناس فيما قاله دون غيره، فنعم المسلك سلكتم، وإن
تريدوا بذلك الإطلاق منع الناس لا ينقل بعضهم عن بعض ولا يفتي أحد لأحد إلا
مجتهد فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ،
قال علي بن عقيل صاحب الفنون ورءوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه
الآية، وقد أمر الله بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء
والأمراء، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم فقال في
حديث صاحب الشجة ( ... ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال)
وأيضًا فأنَّى تُدْرَك هذه في هذه الأزمنة التى قلَّ العلم في أهلها، وقلَّ فيها
المجتهدون وقد صرَّح العلماء أن تقليد الإنسان لنفسه جائز، وربما كان واجبًا.
وكذا في أول الجزء الثاني من (إعلام الموقعين) ذكر القول في التقليد،
وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه وإلى ما
يسوغ من غير إيجاب (فأما النوع الأول) فهو ثلاثة أنواع:
(أحدها) الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.
(الثاني) تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله.
(الثالث) التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، وقد ذَمَّ
الله هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه - ثم ذكر آيات في ذم
التقليد - إلى أن قال: وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على
ذمه وتحريمه.
وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه، وقلد فيه
من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم ومأجور غير مأزور كما سيأتي بيانه عند
ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا في أول الجزء الأول (من إعلام الموقعين) قلت: وهذه المسألة
فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد.
(أحدها) أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام
هذا قول أكثر الأصحاب.
(والثاني) أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء
إذا كانت الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره، فهذا قول ابن بطة
وغيره من أصحابنا.
(والقول الثالث) إنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم المجتهد وهو أصح
الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي: ذكر أبو حفص في تأليفه، قال سمعت أبا
علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعيب
على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس
بها. انتهى كلام ابن القيم ملخصًا.
وقال في الإقناع وشرحه في شروط القاضي: وأن يكون مجتهدًا إجماعًا ذكره
ابن حزم، وإنهم أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا
بقوله لأنه فاقد للاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه إذا لم يوجد غيره
لضرورة، كما قال في الإفصاح: إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب
الأربعة، وإن الحق لا يخرج عنهم [4] ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة أن قول
من قال: إنه لا يجوز إلا تولية مجتهد فإنه ما عنى به ما كانت الحال عليه قبل
استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب، وقال الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن
أحمد المقدسي في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست
بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة قاطعة [5] واختار في الإفصاح
والرعاية أو مقلدًا، قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تقطعت
أحكام الناس، وكذا المفتي، قال ابن بشار: ما عيب من يحفظ لأحمد خمس مسائل
يفتي بها، ونقل عبد الله (يفتي غير مجتهد) ذكره القاضي وحمله أبو العباس ابن
تيمية على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع وشرحه.
وقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية في شروط القاضي:
ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى للعدم
أعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في الفروع: وهو كما قال انتهى كلام
الإنصاف ملخصًا.
وأما ما ذكرتم: عن الأئمة وقول أبي حنيفة: إذا قلتُ قولاً وفي كتاب الله
وسنة رسول الله ما يخالف قولي فاعملوا به واتركوا قولي، وقول الشافعي: إذا
صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط واعملوا بالحديث، وكذا ما
ذكرتم عن الأئمة رضي الله عنهم أنهم صرَّحوا بعرض أقوالهم على الكتاب والسنة
فما خالف منها رُدَّ، وقد تقدم في أصول أحمد أنه إذا صح الحديث لم يقدم عليه قول
أحد، فهذا قد تقرر عندنا ولله الحمد والمنة.
وأما قولكم: إن مرادنا بقولنا لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة ولو أشركوا
وابتدعوا فنعوذ بالله من ذلك، بل ننكر الباطل، ونقبل الحق ممن جاء به، فإن كل
أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
(وأما قولكم) : والمختار أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم
المستقيم فننظر في صحة الحديث، وإذا صح نظرنا في معناه ثانيًا فإذا تبين فهو
الحجة. انتهى كلامكم، فهل أنتم مجتهدون أم تأخذون من أقوال المفسرين وشُرَّاح
الحديث وأتباع الأئمة الأربعة، فإن كان الثاني فأخبرونا عن أكثر من تأخذون عنه
وترضون قوله من علماء أهل السنة وفقنا الله وإياكم إلى ما يرضيه، وجنبنا
وإياكم العمل بمعاصيه، وسامحنا وإياكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا
مقبولة لديه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) لكن هذا الحصر إضافي غير حقيقي، فإن العبادات كثيرة وقال المحققون: إن هذا الحديث كحديث (الحج عرفة) وإن تعريف العبادة في الحديثين بمعنى الفرد الكامل كقول العرب: النجم وإرادة الثريا، والمعنى أن أكمل أفراد العبادة الذي يظهر به إخلاص العبودية هو الدعاء، وفي الحديث الآخر أن أكمل أركان الحج الوقوف بعرفة.
(2) المنار: الاستثناء من البدعة اللغوية وهي التي تنقسم إلى حسنة كالذي ذكره وإلى سيئة هي ما لا أصل له في الشرع، وأما البدعة الشرعية كإحداث عبادة غير ثابتة في الكتاب أو السنة أو التغيير في العبادات المشروعة كزيادة بعض الأذكار أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أو بالنقص منها فلا تكون إلا سيئة؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه: (وكل بدعة ضلالة) .
(3) كذا في الأصل المخطوط ولا بد أن يكون قد سقط من الناسخ كلمة المسائل أو الأمور.
(4) المنار: ادعى هذه الدعوى بعض علماء القرون الوسطى المتبعين لهذه المذاهب وخطأهم فيها آخرون منهم ومن غيرهم واحتجوا عليهم بأن الإجماع اتفاق مجتهدي العصر كلهم، وهم غير
مجتهدين، ولا وجه لإيجاب التقليد مع وجود المجتهدين وبأن المحققين كالإمام أحمد لا يحتجون بإجماع غير الصحابة بل صرح بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به، ومنهم الإمام أحمد، ثم إن الأصوليين قالوا: إن الإجماع لا بد له من مستند من الكتاب والسنة، ولا يمكن وجود مستند منهما بحصر الحق في أقوال أشخاص معينين إلخ، والحق أن مزية فقه الأربعة أنه مُدَوَّن وشامل لأكثر ما يحتاج إليه الناس ففيها غناء من غيرها في الغالب، وإلا فهذا سلطان العلماء العز بن عبد السلام الشافعي الأصل الذي شهد له علماء عصره بالاجتهاد المطلق قد فضَّل كتاب المحلى لابن حزم وكتاب المغني للشيخ الموفق الحنبلي على جميع كتب الفقه فهو إذًا يعتد بمذهب ابن حزم الظاهري ولا يفضل عليه أحد المذاهب الأربعة.
(5) الشيخ الموفق قال هذا في أئمة السلف بجملتهم لا في الأربعة , وحدهم منهم، وعبارته صريحة في ذلك خلافًا لما فهمه صاحب الإقناع وشرحه.(29/185)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجزء الثالث من المنار
ومرض منشئه
ألمَّ بنا مرض كان خفيف الوطأة لكنه صار طويل المدة، واقتضى أشد الحمية،
ونهي الأطباء إيانًا عن القراءة والكتابة والتصحيح، وأمرهم لنا بالاستراحة العقلية
والجسدية مدة المرض والنقاهة، فاقتضى ذلك تأخير هذا الجزء من المنار وجعل
تاريخه سلخ ذي الحجة - وكان موعده سلخ ذي القعدة - وأن نجعل جله من
المقتبسات والمختارات التى هي أولى بالمنار من غيره من الصحف لما فيها من بيان
مزايا الإسلام، ونسأله تعالى أن يُتم لنا الشفاء ويسبغ علينا العافية.
__________(29/196)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
مختارات من الصحف
الديموقراطية الحقيقية في الإسلام
لسعادة الكاتب الجليل الأمير شكيب أرسلان
لما تأخر الإسلام سلبه الناس محاسنه الحقيقية بل سلبوه محاسن ثبتت له ولم
تثبت لغيره، وهكذا شأن الضعيف في كل وقت، وهو أن يُسْلَب كل شيء حتى
الحقيقة وحتى التاريخ.
اطلعت في (الأخبار) في عددها المؤرخ في 29 جمادى الأولى على مقالة
عنوانها ملاحظات وتحقيقات توخى فيها محرِّرها الشيخ محمد السيد الطويل من
القسم العالي بالأزهر إثبات روح الديموقراطية والحكم النيابي والنظام الشورى
للشريعة الإسلامية والرد على من زعم أن الحكم النيابي إنما جاء من الغرب،
وإننا إذا نظرنا إلى الوراء لا نجد شيئًا من روح الديموقراطية عندنا في الشرق.
ولقد أتى صاحب الرد بآيات بينات على ديموقراطية الإسلام ووجوب الشورى
في أحكامها مما لا حاجة معه إلى التكرار لكن أحببت بهذه العجالة أن أزيد
الموضوع بيانًا فأقول لمن ظن أن الديموقراطية هي من وضع الأوربيين:
إن الأمة الفرنسية كانت من القديم تنقسم في طبقاتها الاجتماعية إلى ثلاثة
أقسام: الأشراف والكهنة وسواد الأمة، ولكن لم تكن حقوق هذه الطبقات واحدة،
وكان الأشراف يستبدون بالعامة كما يشاءون وكذلك الإكليروس أي الكهنة كانت لهم
امتيازات عظيمة، والشعب إنما كان آلة يستخدمها في مصالحه الملك وكل من
الأمراء أصحاب الإقطاعات، وما زال الأمر كذلك إلى زمان لويس الثالث عشر إذ
حصلت أزمة اقتصادية احتاجت المملكة بها إلى عقد مجمع من الطبقات الثلاث
للمذاكرة في تسديد الأمور؟
فاجتمعوا في سنة 1912 أو 1913 لا أتذكر الآن جيدًا تاريخ ذلك المجمع
العام، وفي أثناء المذاكرات تلفظ أحد نواب الشعب بجملة معناها أن الأمة الفرنسية
عائلة واحدة، فما كادت تخرج تلك الكلمة من فيه حتى قامت قيامة الأشراف.
التفت إليه أحدهم قائلا: (ويحك أتجرؤ أن تقول: إن الأمة الفرنسوية عائلة
واحدة، وبذلك تجعلنا أقارب لكم، ما أنتم إلا خدم عندنا) ثم إنهم عندما أرادوا
إعطاء الآراء لم يقبل الأشراف أن يكون لنواب الشعب حق التصويت على قاعدة
المساواة في الأصوات أي أن صوت النائب الشعبي يكون مساويًا لصوت النائب
النبيل.
وبقي هذا الحق منكرًا على الشعب إلى زمن لويس السادس عشر أي زمن
الثورة الفرنسوية عندما نالوه بالقوة.
فليذكر لنا التاريخ من أوله لآخره نادرة واحدة للإسلام مثل هذه النادرة، ومتى
تجرأ مسلم خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا من الأمراء أو شريفًا من آل البيت على أن
ينكر على أقل مسلم كونه أخًا له.
وليقس القارئ هذه النكبة بنكبة الملك الغساني جبلة الذي كان نصرانيًّا وأسلم
في زمن عمر وجاء يطوف البيت الحرام فداس أعرابي على ثوبه فالتفت نحوه
ولطمه، فذهب الأعرابي إلى الخليفة عمر وشكا إليه لطم جبلة إياه فأمر الخليفة
بإحضار هذا أمامه، وقال للأعرابي: إن شئت الطمه كما لطمك.
فقال جبلة لعمر: (أيستوي عندكم الملك والسوقة؟) فقال له: (نعم)
فذهب جبلة بعد ذلك إلى الشام ومنها التحق بالقسطنطينية ورجع إلى النصرانية.
وليتأمل القارئ كيف كان عمر يقيم الحد على أولاده حتى الموت، وليتأمل
كيف أن الشريعة لم تجعل لأحد على أحد مزية ولا امتيازًا، وكيف أن الرسول
صلى الله عليه وسلم كان يقول: لو سرقت فاطمة بنت محمد لأمرت بقطع يدها [1] .
وليقايس بين ذلك وبين قوانين الأوربيين الأساسية التى فيها أن الملك مقدس
وغير مسؤول، وإذا قيل: إن الرق قد وجد في الإسلام، فالجواب أنه لم يوجد
فضيلة حث عليها الإسلام بصريح القرآن ومتواتر السنة أكثر من تحرير الرقيق،
على أن النصرانية لم تنكر الرق كما ظهر من كلام بولس الرسول.
وإن كانوا في أوربا قد اتفقوا مؤخرًا على إلغاء الرق فلا يجوز أن ننسى أن
الشعب الروسي إلى زمان الإمبراطور بولس كان رقيقًا لأمرائه، وأن النبيل كان إذا
باع قرية يملكها يبيعها مع الأهالي الذين فيها لا يملكون لأنفسهم أمرًا بل حكمهم كان
حكم الحيوانات التي في القرية، هذا كان شأن الأمة الروسية منذ 150سنة لا زيادة،
ولا يجوز أن ننسى أن الفرنسيس بعد أن تمكنوا من طرد المسلمين من جنوبي
فرنسا استعبدوا البقية التى بقيت من المسلمين، واغتصبوا أملاكهم، واستعملوهم
خولاً وخدمًا مدة طويلة حتى اندمجوا في غمار الأمة الفرنسية، وتُنوسيت أصولهم،
ولا يجوز أن ننسى أن الحرب قامت في أمريكا من سنة 1863 إلى 1866 من
أجل تحرير العبيد، وأن الأميركيين سكان جنوبي الولايات المتحدة حاربوا سكان
شماليها مدة سنوات عديدة من أجل إصرارهم على استعباد السود، وكذلك إلى هذه
الساعة، وقد رأيت ذلك بعيني في سياحتي إلى أميركا في الشتاء الماضي، لا يقدر
السود أن يجالسوا البيض ولا في مكان.
وفي الولايات الجنوبية للسود قُطُر مخصوصة يركبون فيها بالسكة الحديدية
ومقاعد انتظار في المحطات خاصة بهم بحيث لا يختلطون مع البيض، بل أولادهم
لا تقدر أن تتعلم مع أولاد البيض في مدارس واحدة وكنائسهم أيضًا لا يدخل إليها
البيض.
وفي أفريقيا الرسالات التبشيرية منذ قرنين أو ثلاثة تعمل لتنصير السود وقد
تمكنت إلى هذا اليوم من تنصير ثمانية ملايين في غربي أفريقيا وجنوبيها وأواسطها.
وقد نصت كتب أعمال الرسالات الدينية المذكورة على أنه في مدة الثلاثة
القرون التي استمر بها التبشير الديني لم يعهد أن مبشرًا اقترن بامرأة سوداء إلا
اثنين أو ثلاثة؛ ذلك لأن الأبيض يأنف من التنزل إلى خلط دمه بدم الأسود، أقول
الأبيض والأسود كلاهما خلقه الله تعالى، وكلاهما بشر ويمشي بحسب قول نبيه:
(إنما بعثت إلى الأحمر والأسود) ويتذكر كتابه الذي فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فإذا كان المبشر الأوربي الذي يعظ طول النهار في أباطيل
الدنيا، وفي العدل والمساواة هو نفسه لا يتنزل إلى خلط نسبه بنسب أولئك الذين
يعظهم ويرَّغِبهم في قبول دينه، فكيف تكون حالة التاجر الأوربي أو الحاكم أو
الجندي الذي ليست مهنته التبشير؟
لا جرم أن مبدأ المساواة هو أبعد المبادئ عن عقلية الأوربيين، وإن كانوا
قرَّروها في الأعصر الأخيرة، فإنما قرروها فيما بين شعوبهم، ولم يكونوا ليعترفوا
بها للشعوب الأخرى، وإنني لأتعجب ممن يقول: إن آثار الرقي التى شوهدت في
الشرق في الخمسين سنة الأخيرة إنما هي ثمرة إدخال القانون الروماني في إدارة
الشرق.
فأنا أقول لمثل هذا: أين كان القانون الروماني في أوربا، وفي فرنسا بخاصة
عندما كان لا يجرؤ أحد نواب الشعب في هذه المملكة أن يقول: إن الأمة الفرنسية
عائلة واحدة حتى تقوم قيامة الأشراف ويعتدوا تلك الكلمة كفرًا؟ هل كانت فرنسة
غير مملكة رومانية لاتينية روح رومة وثقافتها وقوانينها منبثة في جميع شعاب
إدارتها؟
إن الكاتب الفيلسوف الإنكليزي المستر ولسن عندما جاء منذ أشهر إلى باريس
واحتفل أدباء الفرنسيس بتكريمه في السوربون وخطبوا الخطب الشائقة وجاوبهم
بخطبة عن الديموقراطية الحقيقة نشرتها الجرائد كان من جملة قوله فيها: (إن
الديموقراطية الحقيقة لم تثبت إلا للإسلام والنصرانية) .
وأنا أقول: إن شهادته بها للإسلام هي أغلى جدًّا من شهادته بها للنصرانية
التى هي مذهبه ومذهب أمته ومذهب الأمة التى كانت مختلفة في تكريمه.
فالإسلام يشهد له كثير من فلاسفة الأوربيين بالديموقراطية الصحيحة مع
قصور معلوماتهم عنه وينكرها عليه أناس من أبنائه، لا بل وينسبون إلى غيره
محاسنه ويجردونه من المزايا التى فُطِرَ عليها.
وهكذا أولعنا بتشويه محاسن أنفسنا وبجحد فضائل قومنا وبنحل غيرنا ما هو
في الحقيقة لنا، وصرنا - لمجرد أن نُنعت بالرقي - نقلب حسنات أجدادنا سيئات،
ونقلب سيئات الأوربيين حسنات، أو نتعامى عنها أو نتلمس لها عذرًا، هكذا.
يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
برلين 4 ديسمبر 1927
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(1) المنار ذكر الكاتب الشاهد من الحديث بالمعنى، ونحن نذكر سببه ونصه المرفوع وتخريجه فنقول: روى الجماعة البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أن امرأة مخزومية سرقت فأهم قريشًا أمرُها وعظم عليهم أن يقام الحد على شريفة منهم فقالوا: من يكلمهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) .(29/197)
الكاتب: شكيب أرسلان
__________
أزمة كتاب الصلاة في إنجلترا [*]
لصاحب السعادة أمير البيان الأمير الجليل شكيب أرسلان
إن الموضوع الذي سنخوض فيه لا نقصده لذاته بل لمتعلقه ولا نتعرض إليه
من قليل أو كثير من جهة أساسه بل تَعَرُّضنا له إنما هو من جهة مغزاه، وما يئول
إليه فقد راق لبعض الناس في الشرق حتى لبعض حكوماته والهيئات الرسمية فيه
أن يوهموا عامة الشرقيين أن الدين في أوربة منفصل انفصالاً تامًّا عن السياسة،
وأن أوربة لم تبلغ هذا المبلغ من الرقي إلا بفصل السياسة عن الدين، وأن
الحكومات الأوربية لا تُدْخِل المسائل الدينية في شئونها، بل تَعُدُّها خارجةً عن
اختصاصها.
وقد يبالغون لهم في هذه الترهات حتى يخيلوا لهؤلاء الشرقيين المساكين أن
الدول الأوربية تنظر إلى الدين كأنه غير موجود في الدنيا، وأن هذا قد كان السر
في نجاحها، وكثير من الشرقيين المساكين يصدقون هذه الأقاويل؛ لعدم اطلاعهم
على الحقائق وليس هؤلاء المصدقون بطبقة العوام؛ لأن العوام جهلهم بسيط،
والجهل البسيط أقرب إلى العلم، وأبعد عن الخطر، ولكن أولئك المصدقين بهذه
الأضاليل هم من الفئة التى تدعي أنها راقية، وأنها متعلمة وأنها عصرية
المشرب [1] الحقيقة أن هذه الفئة عندنا في الشرق مؤلفة من أنصاف متعلمين هم
من أشد الناس خطرًا على المجتمع، ومن الملائمين للاستعمار الأوربي في
الشرق؛ لأن العلم الناقص أضر بالمجتمع من الجهل التام فإن الجهل التام يقبل
أصحابه النصح والإرشاد، وأما العلم الناقص فإن أصحابه هم على حد من لا يدري
ولا يدري أنه لا يدري وفي ذلك البلاء الأعظم.
ولندخل الآن في الموضوع فنقول: منذ أشهر تخوض الجرائد الأوربية في
قضية الخلاف الذي نشب في إنكلترا بين الأساقفة والحكومة من أجل كتاب الصلاة
حتى إنه لا يكاد يمر يوم إلا نجد فيه بحثًا عن هذه المسألة.
ولما كان الناس عندنا في الشرق لا يعلمون لد نبات هذا الخلاف ولا سبابه
(كذا) وكانوا يقرءون عنه ولا يفهمون الدواعي التى دعت إلى اختصام الحكومة
الإنكليزية والإكليروس الأنكليكاني في كتاب الصلاة الذي يعتمد عليه الشعب
الإنكليزي رأينا أن نشرح لهم هذه المسألة مُعَوِّلِينَ في ذلك على مقالة نشرها الأستاذ
توماغرينفود أحد أساتذة جامعة لوندرة ورأيناها منشورة في مجلة جنيف في عددها
الأخير، قال: وجد على باب كنيسة ليفربول الكاتدرائية عبارة من قلم لونج بوتون
من رؤساء الكنيسة البروتستنتية يقول فيها: إن البروتستنتية في خطر.
ولم يخطئ القسيس المذكور في هذا الحكم إذا نظرنا أنه من أجل مسألة دينية
قامت في إنجلترا أساقفة على أساقفة ووزراء على وزراء ومحافظون على محافظين،
وعملة على عملة وقد كان معظم ذلك يومي 13و15 ديسمبر سنة 1927؛ إذ
مجلس اللوردة ومجلس العموم تحولا إلى شكل مجمع من المجامع الدينية كالتي
كان يعقدها آباء الكنيسة في القرون الأولى وأخذ الاعضاء يتشاحنون في سر
استحالة الخبز والخمر إلى جسد السيد المسيح وفي تناول القُرْبَان المُقَدَّس وفي
الأسرار الإلهية وفي الطقوس الكنسية بينما الجدال قائم أيضًا في المطبوعات وفي
الرعويات وفي العائلات على أشده من أجل كتاب الصلاة الجديد حتى إن أزمة
الفحم وحركة العمال وقضية استعدادات أمريكا البحرية ومشكلات عصبة الأمم
أصبحت نسيًا منسيًّا في جانب مسألة كتاب الصلاة، فبمجرد ما تلفظ الإنسان
بكلمة (book prayer) تقوم القيامة فأناس معه وأناس ضده فلا تجد إلا
متعصبًا لهذه الجهة أو للأخرى، فلماذا البرلمان يتدخل في مسألة دينية كهذه؟
الجواب هو ما سترى.
من المعلوم أن الكنيسة الإنكليكانية هي كنيسة الدولة في إنكلترا، وفي
الأصل كان الانشقاق ناشئًا عن فضائح زوجية بدت من هنري الثامن الذي كان أول
من انشق عن رومة وحمل البرلمان الإنكليزي سنة 1534 على قرار معناه أن ملك
إنكلترا هو الرئيس الأعلى لكنيسة إنكلترا، ثم جاء بعد هنري الثامن خلفه إدوارد
السادس وأضاف إلى علم سلفه هذا طقسًا كَنَسِيًّا جديدًا أنشأه له (كرافير) سنة
1549 ودستورًا للإيمان يشتمل على 42 مادة صدر سنة 1552 وهو دستور
مشرب بروح عقيدة كلفين، ثم إن هذه العقيدة قد هُذِّبَتْ ونُقِّحَتْ في أيام الملكة
إليزابث ولخصت في 39 مادة سنة 1526 وصارت دستورًا للإيمان الإنكليكاني
فمنها نفي رياسة البابا ونفي ذبيحة القداس , ونفي عقيدة استحالة الخبر والخمر إلى
جسد المسيح، وإنكار القول بالمطهر، وإنكار عبادة القديسين والصور، وإنكار سر
الاعتراف والغفرانات وغير ذلك، وأما الطقس الجديد الذي يشتمل على العقيدة،
وعلى المبادئ التى هي عمدة المذهب الإنكليكاني فقد انحصر في كتاب اسمه كتاب
الصلاة العامة، فهذا الكتاب محرَّر فيه نص الصلوات وترتيبها ونص العظات
والتراتيل والمراسم الدينية وإدارة الأمور المقدسة ونظام الرتب الكهنوتية وهلم جرَّا،
فكتاب الصلاة هو للإنكليز عبارة عن كتاب قداس وكتاب سواعية وكتاب مزامير
وكتاب طقوس وكتاب رتب كهنوتية وحبرية وهو يتماز بأمور كثيرة عن كتب
الكنيسة الرومانية التى انشقت الكنيسة الإنكليزية عنها، فهو أولا محرَّر بالإنكليزية،
وفيه تلخيص للكتب الدينية الضرورية للقداس الإلهي وبموجبه تنزلت الساعات
القانونية السبع إلى خدمتين كل يوم إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وهو
يلغي الأوراد وطلب الشفاعات والاستغاثات بالقديسين وبمريم العذراء ويحذف
الأماثيل المأخوذة من حياة القديسين والآباء ويختصر الفرض الكنسي والكلمات
المكررة فيه، ويطوي الاحتفال بكثير من أعياد القديسين، وعلاوة على ذلك يحدث
تغيرًا في قانون القداس ويحوله إلى معنى آخر يخرجه من معنى الذبيحة وعن
استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح، وكذلك يلغي التذكارات المتنوعة فيما
يتعلق بالموتى والصلوات على أرواحهم مما يؤول إلى الاعتقاد بالمطهر، ويبطل
على الخصوص كل ما له تعلق بسر القربان المقدس.
وفي أيام الملكة ماري التى رجعت إلى الكثلكة ألغي كتاب الصلاة هذا مدة
وجودها لكن لم يطل الأمر حتى أعيد في أيام الملكة إليزابيث سنة 1559 ثم إنه في
أيام جيمس الأول سنة 1604 وفي أيام كارلوس الثاني سنة 1662 وأخيرًا في سنة
1859 أدخلت على الكتاب المذكور تعديلات غير أساسية، فكتاب الصلاة الحاضر
هو الكتاب الذي صدر سنة 1662 على أنه إذا كان هذا الكتاب لم يتغير منذ ثلاثة
قرون، فلا يمكن أن يقال: إن حياة الكنيسة الإنكليزية الداخلية لم يقع فيها تغيير
طيلة هذه القرون، بل هذه منقسمة إلى ثلاث كنائس: الكنيسة الدنيا وهي التي
أصحابها يمليون إلى العقيدة الكلفينية والبرسبيتيرية والكنيسة الواسعة وهي التى
أصحابها يميلون إلى الحرية والأفكار العصرية، والكنيسة العليا وهي التي أبناؤها
يميلون شيئًا إلى الكثلكة.
ففي أواسط القرن التاسع عشر هب نفر من اللاهوتيين المنسوبين إلى الكنيسة
العليا وأرادوا الرجوع إلى الكثلكة، لكن بدون خضوع للبابا ولا اعتقاد بعصمته
ومع التمسك بالرتب الكنسية الإنكليكانية فحصلت لهم مقاومة شديدة وقفتهم عند
حدهم إلا أن هذه الحركة قد تقدمت اليوم ونمت واشتدت الرغبة في استعمال
الطقوس الرومانية وفي الاعتقاد بحضور المسيح في الخبز والخمر، وتسمى هذه
الفئة بالأنجلوكاتوليك، ولقد تجاوزوا في الحقيقة حدود كتاب الصلاة الذي عليه
المُعَوَّل من سنة 1662 وأخذوا بإقامة شعائر مخالفة لروح الكتاب المذكور ولنصه،
مثال ذلك أنهم اتخذوا الملابس الحبرية في كنائسهم كما في الكنائس الرومانية
واستعملوا البخور ورجعوا إلى ممارسة الاعتراف واستعملوا ما يقال له: بيت
الجسد مع مكان خاص لحفظ الخبز والخمر ليتمكن المؤمنون من عبادتهم في أي
وقت أرادوا فلذلك تبقى أبواب كنائسهم مفتوحة دائمًا، وفي بعض الأبرشيات نجد
بعض الأساقفة يقدمون بكل صراحة على مخالفة قواعد المذهب الإنكليكاني وطقوسه
وفي أبرشيات أخرى يغضون النظر عنها فهذه الاختلافات جعلت الصلاة العامة
المشتركة في غاية الصعوبة وأحدثت شقاقًا خطيرًا في وسط الكنيسة الإنكليكانية
يدعو إلى النظر في مسألة توحيد الطقس، ففكر الأساقفة في وجوب النظر إلى
نزعة فرقة الأنكلوكاتوليك، وفي سنة 1956 تألفت لجنة للتدقيق في كتاب الصلاة
والنظر في تعديله فاستمرت هذه اللجنة تعمل نحو عشرين سنة، وفي شهر يناير
سنة 1927 أخرجت مشروع التعديل الذي تقدم في 29 سنة 1927 إلى المجلسين
الروحانيين في كنتربري ويورك فهذان المجلسان لم يكن لهما إلا إبداء الرأي على
المشروع بمجمله فقد صدقاه بالأكثرية العظيمة، وخالف فيه بعض الإنجيليين
وبعض أناس من الأنكلوكاتوليك لأسباب تخالف الأسباب التي خالف من أجلها
الإنجيليون، ولكن كان لا بد من تصديق الجمعية الوطنية الكنسية المسماة
(Assembly church) التى تأسست بموجب قانون سنة 1919 لأجل
مهمة النظر في القوانين العائدة إلى كنيسة إنكلترا قبل تصديقها في البرلمان، وهذه
الجمعية مؤلفة من مندوبين غير أكليريكيين تابعين للأبرشيات ومن مندوبين
أكليريكيين ومن الأساقفة، ففي اجتماع عقدته هذه الجمعية سنة 1927 للمذاكرة في
مشروع تعديل كتاب الصلاة قررت بأكثرية عظيمة المشروع الجديد؛ إذ وافق 34 من
الأساقفة، وخالف أربعة فقط، ووافق 253 من المندوبين الأكليريكيين وخالف 37 لا
غير، وكذلك المندبون غير الأكليريكيين، أو العالمانيون فقد وافق منهم 230 وخالف
92 أما المطارين الأربعة المخالفون فكانوا مطارين فورسستر وإكزيتر ونورفيش،
وبير منغام، ولم يبق إلا طرح المشروع في البرلمان.
فقبل أن نتكلم على ما جرى في البرلمان بشأن كتاب الصلاة نرى من الواجب
أن نبين ماهية التعديلات الجديدة، فكتاب الصلاة الجديد يبقى على ما كان عليه
كتاب الصلاة المحرَّر سنة 1663 بوجه عام، ولم يقع تغيير في النصوص التى
ارتضى بها الشعب حتى اليوم، وإنما أضيف إلى النصوص سنة 1662 نصوص
أخرى يكون بموجبها الخيار لأبناء الأبرشيات في الترك والأخذ بحسب ميلهم، فهذه
الطريقة أرادوا بها اتقاء الانقسام فكانت نتيجتها زيادة الانقسام؛ لأنها مخالفة لروح
عهد الوحدة الذي صدر سنة 1659 ففي هذا العهد مادة خاصة بالخدمات الدينية
تصرح بأن الشعائر التى هي تحت الاستعمال في سالسبري وهيرفورد وبانجور
وبروك ولينكولن قد ألغيت كلها وتوحدت بصورة واحدة عامة لكل المملكة فليس إذن
في جميع الاختصاصات التى يعترف بها البرلمان للكنيسة الأنكليكانية ما يخول هذه
حق الإذن بإقامة شعائر مختلفة عن الأولى، ثم إن ملك إنكلترا عندما يتوج من
رئيس أساقفة كنتربري يجب أن يقسم اليمين بأنه يحفظ كنيسة إنكلترا بتمامية
طقوسها وبعقيدتها وشعائرها ونظامها كما هي مبينة في قوانين المملكة الأساسية،
وعلى هذا يكون متعذرًا أخذ موافقة الملك على كتاب الصلاة الجديد بدون تغيير
العهود السابقة.
فمن التغييرات التى أدخلت على كتاب الصلاة نذكر أنه أضيف إلى جدول
القديسين الذين تعترف بهم الكنيسة الأنكليكانية قديسون آخرون لم يكونوا معروفين
لديها وهم مثل ماريو ليكارب القديس يوحنا فم الذهب والقديس كوتبرت والقديس
لاوون الكبير والقديس أفسلمس والقديسة كاترينة دوسبين والقديسة مونيك والقديس
باسيلوس والقديس أيزينوس والقديس برناردوس والقديس فرنسيس داسيس
والقديس أغناطيوس فهؤلاء صاروا بحسب كتاب الصلاة الجديد من قديسي الكنيسة
الأنكليكانية.
وكذلك قرَّروا الاحتفال بعيد تذكار الموتى 2 نوفمبر بما فيه من جمع الصدقات
التي من شأنها إيجاب الاعتقاد بالمطهر، فهناك عبارة نصها: (أيها الرب الخالق
المنقذ لجميع المؤمنين امنح المؤمنين من موتانا جميع النعم التي لا توصف من آلام
المسيح حتى في يوم رجوعه يتمكنون أن يتقدموا إليه كأبناء حقيقيين) والحال أن
المادة الثانية والعشرين من المواد التسع والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني
تنكر عقيدة المطهر وتجعلها اختراعًا منافيًا لكلمة الرب، وكذلك كتاب الصلاة القديم
يلغي الصلوات التى من شأنها الاعتراف ولو من طرف خفي بعقيدة المطهر، ولا
يلزم من ذلك أن نقول: إن المطهر مذكور في كتاب الصلاة الجديد ليس ثَمَّ أدنى
صراحة به في الجديد كما في القديم، كما أن الصلاة لأجل أرواح الموتى باقية
مبهمة أيضًا في الأول والثاني، ومثل ذلك صلاة الموتى التى يقترحها الكتاب الجديد
فهي متروكة تحت خيار المؤمنين، فيمكننا أن نقول مع مطران نورفيش إن التغيير
الذي جاء به الكتاب الجديد بشأن الصلاة للأموات عبارة عن تغيير في الشعائر
العامة لا في العقيدة نفسها كما أن رئيس أساقفة كنتربري عندما كان في مجلس
اللوردة يدافع عن الصلوات الجديدة للموتى وعن عيد 2 نوفمبر قرر بدون أن يكون
مخطئًا أن تذكار الموتى لم يكن في وقت من الأوقات مخالفًا لعقيدة الكنيسة
الإنكليزية، وأن الحرب العامة جاءت بما يؤيد ضرورة توسيع الشعائر المتعلقة
بالموتى.
ومن جملة ما زيد في كتاب الصلاة الجديد الأدعية الخاصة لأجل الملك
والأسرة الملوكية وللسلطنة البريطانية ولجمعية الأمم وكذك الإذن باستعمال القميص
الخاص والبطرشين والغفارة في أثناء مناولة القربان، نعم إن كتاب الصلاة لم
يسمح حتى الآن بلبس حلة الكهنوت التى كان يطالب بها الأنكلوكاتوليك بحجة أنها
أليق لباس بعقيدة جسد الرب.
وكذلك من جملة التغييرات إعطاء الخيار في أمر المعمودية والتثبيت والزواج
ففي مراسم الزواج بحسب الكتاب الجديد لا يسأل الكاهن المرأة كما في الكتاب القديم
عما إذا كانت تريد أن تطيع وأن تخدم وأن تحب وأن توقر الذي سيكون بعلها،
ولكن يسألها عما إذا كانت تريد أن تحبه وتوقره وتقومه وتحفظه، والسؤال نفسه
يلقى أيضًا على الزوج أي يلحظ الإنسان في ذلك إشارة دينية على المساواة
الاجتماعية بين الذكور والإناث.
وأهم التعديلات في الواقع هو ما تعلق بشعيرة الأفخارستية أي سر القربان
المقدس، وهي المتروكة لاختيار المؤمن، فهذا التخيير هو الذي أثار الثائرة الشديدة
وأوجب رد كتاب الصلاة بحجة أن فيه تسامحًا عظيمًا مع الأنكلوكاتوليك، ونظن أن
الخلاف هو في الشكل أكثر مما هو في الأساس، فالكتاب الجديد مثل القديم فيه
صيغة تقول: إن المسيح مات لأجل فدائنا، وإن هذا الفداء كان واحدًا تامًّا كافيًا كما
في المادة الواحدة والثلاثين من دستور الإيمان الأنكليكاني، فهذه الصيغة لا تنفي
تمام النفي الحاجة إلى القداس الذي هو تكرار غير دموي لقضية موت السيد المسيح
على الصليب؟ ومن المعلوم أن المذهب الأنكليكاني لا يجوز القداس مع تناول
القربان الفردي أي أن يتناوله الكاهن وحده كما عند اللاتين، فالكاهن الإنكليزي لا
يقدر أن يتناول القربان إلا إذ كان محاطًا بعدد كافٍ من المؤمنين الذين يريدون
الاشتراك فيما يسمى بالعشاء السري؛ فلأجل هذا جعلوا في شعيرة القربان
الاختيارية عبارة يلقيها الكاهن على المؤمنين في أثناء المراسم المتعلقة بالقربان
المقدس فيما إذا كان الكاهن وجد أن المؤمنين الحاضرين على المائدة الإلهية لا
يبلغون العدد الكافي لتناول القربان معًا.
ومما يجب أن لا ننساه أن المادة الثامنة والعشرين من دستور الإيمان
الأنكليكاني تنكر بتاتًا عقيدة استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح مما هو حجر
الزاوية في القداس الروماني كما قرَّره مجمع ترنتا، فليس بصحيح أن الكتاب
الجديد يتسامح في هذه القضية من حيث الأساس، ولكن مما لا ينكر أن صورة
الشعائر من جهة التخيير قد تؤدي إلى نتائج تخالف الأصل، وتحمل على الانتقاد،
ففي الكتاب القديم نص صيغة يفهم منها أن تناول القربان قد شرعه المسيح تذكارًا
لموته وآلامه، والحال أن الكتاب الجديد يحذف هذه الصيغة، ويجعل محلها كلامًا
يدل على أن الخبز والخمر هما مقدمان لله كقربان احترام وشكر حتى يمنحنا
باستحقاقات آلامه غفران خطايانا.
ثم إن الكتاب الجديد يحذف تمامًا العبارة التى في الكتاب القديم تنكر حضور
المسيح بجسده ودمه في الخبر والخمر ويَعُدّ ذلك عبارة وثنية، ويصرح بأن الخبز
والخمر لا يتغيران بعد كلمة التقديس، وأن الجسد الحقيقي للرب هو في السماء؛
ولا يعقل أن يكون في أماكن متعددة في وقت واحد، ويوجد ابتهال للروح القدس
لأجل أن يبارك ويقدس الخبز والخمر حتى يكونا فينا جسد المسيح ودمه، فهذا
الابتهال الذي يشبه من بعض الوجوه الصلاة اليونانية يؤدي إلى الاعتقاد بأن كلمات
التقديس لا تكفي لتحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح وأنه يجب لذلك تدخل
الروح القدس، وحينئذ يلزمنا أحد أمرين لا مناص من أحدهما: إما أن يكون هذا
الابتهال ضروريًّا لأجل حصول النتيجة؛ وعليه يكون الأنكليكان قد حرموا تقديس
الخبز والخمر من البداية؛ لأن كتاب الصلاة المعروف بكتاب 1662 لا يحتوي هذا
الابتهال، أو أن يكون الابتهال لا يفيد معنى جديدًا، وعليه يكون وضعه هنا موجبًا
للخلاف بدون ضرورة، وزد على ذلك أن صيغة الابتهال تحتوي مشكلاً جديدًا في
العقيدة وهو أن الروح القدس يُبْتَهَل إليه حتى يجعل الخبز والخمر فينا جسد المسيح
ودمه، فيمكن أن يرد على ذلك بأنه إذا كان الخبز والخمر يصيران فينا جسد
المسيح ودمه، فلماذا لا يصيران هما جسد المسيح ودمه في ذاتيهما؟ فمن هنا لا
يبقى لنا إلا أن نعتقد باستحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح بصورة حقيقية،
ولكن هناك فرق؛ لأنه بحسب الكتاب الجديد عند ما يتناول المؤمن الخبز والخمر
لا يحولها الروح القدس إلى جسد المسيح ودمه إلا في المؤمن، وبعبارة أخرى
الحضور الحقيقي للمسيح في الخبز والخمر لا يتم إلا في الشخص المتناول للقربان،
وبعملية مقارنة من الروح القدس، هذا كما لا يخفي يشابه العقيدة الكلفينية وقد
سلم بها كرانمر وجرى إدخالها في الابتهال المار الذكر خيفة أن يَجُرَّ ذلك إلى عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، ففي المادة الثامنة والعشرين من دستور
الإيمان الأنكليكاني هذه العقيدة ممنوعة وهناك يقول: إن تقديس العشاء السري لم
يكن من المسيح شعيرة مقصودًا بها الحفظ أو النقل أو الرفع أو العبادة، فالحفظ
مقصود به إيداع الجسد محلاًّ خاصًّا، والنقل يراد به الزباح (والطوفان) والرفع
يعني القداس، والعبادة يراد بها الاعتقاد بسر القربان المقدس ما هو معروف بالتعبد
عند الأنكلوكاتوليك، وبهذه المناسبة يجب أن نظهر الفرق الكلي بين الأنكلوكاتوليك
والأنكليكان المحافظين الذين يقال لهم: إنجيليون فإن هؤلاء يرفضون التعبد
المذكور بجميع لوازمه، ولا يقولون: إن روح القدس يحول طبيعة الخبز والخمر،
بل إن الخبز والخمر ينزلان المسيح تنزيلا روحيًّا في قلوبهم لا غير، أما
الأنكلوكاتوليك فمنذ خطبة بوزي على الأفخارستية سنة 1843 قد صارت عقيدة
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر من أركان إيمانهم، وهم يحتفلون بعيد
جسد الرب الذي لم يجرؤ كتاب الصلاة الجديد أن يجعله في روزنامته، وفي
كنائسهم يوجد دائمًا بيت للجسد يتعبد له المؤمنون في كل ساعة، وعلى هذا يجب
تعديل المادة الثامنة والعشرين من قانون الإيمان التى مر ذكرها.
والنتيجة نفسها تكون للاقتراح الجديد المتعلق بحفظ الخبز والخمر لمناولتهما
للمرضى فبحسب كتاب الصلاة القديم وبحسب المادة الثامنة والعشرين من قانون
الإيمان ما يبقى من الخبز والخمر المقدسين بعد إجراء الشعيرة الأفخارستية ينقسم
بين المؤمنين الذين اشتركوا في تناول القربان، وإن وجد مريض يطلب تناول
القربان وجب على الكاهن أن يكرر الشعيرة الأفخارستية بشرط أن يوجد عدد كاف
من متناولي القربان يتناولون مع المريض، فإن لم يوجد هذا العدد الكافي فالكاهن
يكتفي بإيصاء المريض بأن يندم على خطاياه ويقنعه بأن مجرد طلبه تناول القربان
بعد كما لو تناول بالفعل، ولا يجوز أن يتناول الكاهن والمريض القربان بدون ذلك
العدد الكافي من المؤمنين إلا في ظروف مستثناة، وذلك بأن يكون المريض مصابًا
بمرض تخشى منه العدوى، فلا يجوز أن يقربه الناس وفي هذه الحالة يجب على
المريض تقديم طلب خاص للكاهن، فهذه الصعوبات الواقفة في وجه الاستمتاع بسر
الأفخارستية لم تزل موضع اعتراضات الأنكلوكاتوليك، وكانوا كلما اتسعت حركت
أكسفورد تزداد العرائض المقدمة إلى رئيس أساقفة كنتربري بطلب إصلاح شعيرة
الأفخارستية للمرضى بل نقول: إن الأنكلوكاتوليك ذهبوا إلى أبعد من هذا وهو أنهم
جعلوا في كنائسهم كلها بيتًا للجسد، وأنهم يناولون المرضى القربان المقدس عند
طلبهم إياه برغم ما يحصل لكهنتهم من توبيخ أساقفة الكنيسة.
فالذين حرَّروا كتاب الصلاة الجديد إنما أرادوا إعطاء هذه المخالفات شكلاً
قانونيًّا فأذنوا بحفظ الخبز والخمر المقدسين لكن لأجل إعطائها للمرضى فقط، ولا
يجوز أن يكون المقصد من ذلك الحفظ شيئًا آخر، ولا أن يجعل لذلك احتفال خاص،
ولا أن يوضع الخبز والخمر فيما يقال له: بيت الجسد كالذي عند الكاتوليك بل
في صوان مما يقال له أومبري وهو شيء لا يوضع على مذبح بل يكون في أحد
حيطان الهيكل.
وبالاختصار جميع المسائل المتعلقة بحفظ الجسد تكون عائدة إلى الأنظمة التى
ينشرها مجمع الأحبار، ويكون التنفيذ عائدًا إلى مطران الأبرشية، فجعل مسألة
حفظ الجسد من الأمور القانونية، وكذلك التخيير في الاعتقاد بسر الأفخارستية
أوجب سخط الإنجيليين الشديد الذين يذهبون إلى أن حفظ الخبز والخمر له قيمة
رمزية لا غير، وأن الاعتقاد بحضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر مخالف
للعقيدة الإنكليكية، ثم إن الإنجيليين يقولون: إن كتاب الصلاة القديم فيه كل ما يلزم
لأجل استمتاع المرضى بتناول القربان، وقد يمكن أجراء بعض التوسيع في نظام
التناول.
أما مسألة وضع القربان في صوان يكون مندمجًا في الحائط بدلاً من أن يكون
مرفوعًا على مذبح، فلا يمنع الأنكلوكاتوليك من التعبد للجسد، وفي هذا لا نرى
الإنجيليين مخطئين؛ لأن التساهلات التى أجريب للأنجلوكاتوليك لا تمنعهم من أن
يعترضوا على الأساقفة في الضغط على ضمائرهم بما يتعلق بهذه العقيدة، ويتذكر
الناس الرسالة التى نشرتها التيمس في 28 إبريل الماضي من قلم ماكي وروس
وفيها رفض التجديدات التى وضعت لهم في كتاب الصلاة الجديد والتى كان يغض
النظر عنها مطران لندن منذ سنوات عديدة، وقد كانت هذه الخطة التى يسير عليها
بعض رجال الإكليروس الأنجلوكاتوليكي حائزة عضد رجال آخرين مثل اللورد
هاليفاكس والسير هنري سليسر اللذين كتبا إلى التيمس في 20يونيو الماضي قائلين:
إن المؤيدين لهذه الخطة هم عدد كبير من المؤمنين، إذن الأكليروس الأنكليكاني
هو على بينة من أنه برغم التنبيهات والتحديدات الأسقفية يوجه فئة من قبيل ماكي
وروس واللورد هاليفاكس وآخرين من الأنكلوكاتوليك لا يحجمون عن مخالفة أوامر
الكنيسة، ولم يمض زمن طويل على الحادثة التى وقعت بين القس بولوك وبستر
وبين الدكتور بارنس مطران بيرمغنام في كنيسة القديس بولس، وكيف أن القس
المذكور قطع على المطران المشار إليه كلامه عندما كان يريد أن يمتحن قضية
حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر (المطران بارنس أسقف بيرمنغام هو من
ألد خصوم الأنكلوكاتوليك، وممن يعلنون في خطبهم استحالة سر الاستحالة المسمى
بالأفخارستية أي حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، وقد استشهد مرة في
إحدى خطبه في وسط الكنيسة بأقوال محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في شهر
يناير الماضي قام أحد الناس في كنيسة وستمنستر، واحتج احتجاجًا شديدًا في أثناء
قداس الصباح وجرى في الوقت نفسه في كنيسة غوبتر في داروين عربدة شديدة
على الأنكلوكاتوليك اضطر فيها البوليس إلى دخول الكنيسة وإخراج الشعب منها.
والشكوى واقعة على الأنكلوكاتوليك من أنهم يريدون إلغاء الإصلاح
الأنكليكاني بعضه إن لم يكن كله، فالدكتور داغيل ستول مثلا وهو من مقدمي
الأنكلوكاتوليك يعلن إرادة الرجوع إلى القداس الروماني وإلى عبادة القربان المقدس
وإلى استعمال القميص التى يلبسها القسيس عند مناولة القربان وسائر الألبسة
الكهنوتية التى يصطلح عليها رجال الكنيسة الرومانية، نعم إنهم برغم هذا كله لا
يريدون الخضوع للبابا ولا يقولون بعصمته ولا يزالون بعيدين عن رومة نظير
الآخرين، ولقد ظهر من المنشور البابوى الأخير بشأن اتحاد الكنائس أن البابا أيضًا
لا يوافق عليه إلا على شرط الخضوع التام للسلطة الرومانية.
وقصارى ما في الأمر أن الأنكلوكاتوليك بدون أن يرجعوا إلى البابا يقدمون
على بدع غير مؤتلفة مع العقيدة الأنكليكانية وهذا ما يعترف به الإنجيليون
والإنكليكانيون المعتدلون، ولقد صرح الدكتور هدلم مطران إكلوسستر الذي هو من
المعتدلين بأن الأنكلوكاتوليك أصبحوا يتجاوزون مبادئ الكنيسة الإنكليكانية، وأنه
يخشى عليهم من ثورة الشعب الإنجليزي الذي بلغ صبره عليهم أمده الأقصى،
وهذا هو السبب الحقيقي في رفض مجلس العموم تصديق كتاب الصلاة الجديد.
وإن امتيازات الكنيسة الإنكليكانية في إنجلترا يقابلها فرض الخضوع للتاج
الملي الإنكليزي، فكل تجديد أو تعديل في رسوم الصلوات غير ممكن إلا بموافقة
الملك الذي هو رئيس الكنيسة الإنكلكيانية، وذلك بعد تصديق البرلمان، وقد رأينا
أن مجلس اللوردة بعد المناقشة بياض يومين كاملين صدَّق على كتاب الصلاة الجديد
بأكثرية 241 ضد 88 (13 ديسمبر) وبرغم مهاجمات اللورد هاليفاكس من جهة
الأنكلوكاتوليك ومهاجمات اللورد كوشندون من جهة الإنجيليين قرَّر اللوردة بالأغلبية
الثقة في هيئة الأساقفة الذين كان يرأسهم رئيس أساقفة كنتربري، ولم يعهد أن حفلة
في مجلس اللوردة بلغت من الزحام ما بلغته تلك الحفلة فلم يتخلف أحد بل إن
المرضى من اللوردة حملوا إلى تلك الجلسة حتى لا يحرموا الاشتراك في تلك
المناقشة.
وكان المنتظر بعد أن جرى تصديق المشروع في الجمعية الكنسية وفي مجلس
اللوردة أن يقع تصديقه في مجلس العموم إلا أن الأمر جرى بالعكس، فالمستر
بريدجمان ناظر البحرية قدم المشروع الجديد بشيء من التثاقل والفتور والمستر
بلدوين رئيس النظار أعلن أنه يحيل هذه القضية إلى رئيس أساقفة كنتربري ويترك
المجلس حرًّا في التصويت، فالحكومة لم تتظاهر بعضد المشروع ولا رفضه لكن
ناظر الداخلية السير جونسون هيكس وهو من المتشددين في البروتستانتية نهض
وطلب رفض الكتاب الجديد قولاً واحدًا وبيَّن خطر المسامحات الواقعة في العقيدة،
وقال: إن الأساقفة الإنكليكانيين خرجوا عن صلاحيتهم بالتساهل مع الأنكلوكاتوليك
الذين يريدون وضع شعائر جديدة مخالفة لشعائر كنيسة إنجلترا فكان لكلام ناظر
الداخلية تأثير شديد لم يقدر اللورد هوك سيسل على منعه، وبعد مناقشة استمرت
ثماني ساعات (15 ديسمبر) رد مشروع الكتاب الجديد بأكثرية 240 ضد 207.
فرفض مجلس العموم للمشروع أعاد المسألة كما بدأت، وكان في نية رئيس
أساقفة كنتربري الاستقالة من منصبه الأعلى بمجرد تصديق الكتاب إلا أنه اضطر
بعد رفضه إلى متابعة جهاده وتقرر إعادة الكتاب تحت النظر والتدقيق بواسطة
مجمع الأساقفة، ثم رده إلى البرلمان مرة ثانية، والمظنون أنه تدخل عليه شروط
مشددة فيما يتعلق بقداس الخبز والخمر وفي كيفية حفظهما في الكنائس، ولكن ليس
من المؤكد أن هذه التعديلات تكون كافيةً لإرضاء المعارضين.
فالكنيسة الأنكليكانية تجتاز أزمة شديدة وهي واقعة بإزاء أحد أمرين: إما أن
تتخلص من وصاية البرلمان وتنفصل عن الحكومة انفصالاً تامًّا، وعند ذلك يكون
لها الحرية في سن القوانين الكنسية التي يراها الأساقفة مناسبة أو أن تبقى خاضعة
لقرارات البرلمان، وتجري الجزاء القانوني الصارم على المشاقين حتى يتسنى
تطهير الكنيسة الأنكليكانية من عناصر المخالفة وعند ذلك يخرج الأنكلوكاتوليك
على الكنيسة علنًا، وفي مثل هذه الحالة يزداد ضعف الكنيسة الأنكليكانية برغم
صفتها الرسمية وتزداد الشيع والنحل البالغة اليوم مائة وستين في بلاد الإنجليز،
فالكنيسة الأنكليكانية لا تكون قد فقدت في الآخر مميزاتها القومية فقط، بل تكون
زعزعت أركان القانون الأساسي الإنجليزي بصورة لا يعرف منها جيدًا مقدار
التأثير الذي سيحدث بذلك لإنجلترا وسلطنتها اهـ (ما نشر في مجلة جنيف) .
وقرأنا رسالة من جريدة الديبا بتاريخ 30 يناير الماضي تشرح قصة رفض
البرلمان لكتاب الصلاة الجديد، وقد ورد فيها أن مجمع الأساقفة استاء استياءً شديدًا
من ذلك الرفض وتَفَوَّهَ بما يشبه الاعتراض على مجلس العموم، ولكن خطة
الأساقفة هذه ستزيد الأمر إشكالاً، ولقد ظهر أن الأساقفة استخفوا بالرأي العام
الإنجليزي ولم يتوقعوا من أبناء الكنيسة الإنكليكانية مثل هذه الشدة في تمسكهم
بتقاليدهم.
ومما زاد هيجان الخواطر نشر تقريرعن المحادثات التي جرت من سنة
1921 الى سنة 1925 تحت رئاسة الكاردينال مرسييه لأجل النظر في توحيد
الكنيسة الإنكليزية مع الكنيسة الرومانية.
فالإنكليكانيون دهشوا عندما اطلعوا على كون رئيس أساقفة كنتربري هوالذي
جرت تلك المحادثات برأيه، وأنه أنفذ لها ثلاثة ممثلين حضروا منها الجلستين
الأوليين. فالإنجليز ناقمون على أساقفتهم هذا المسلك الجريء والمظنون أن
المناقشات عند ما يعود كتاب الصلاة الى مجلس العموم ستكون أشد من ذي قبل
وربما يرد الكتاب ثانية ويفضي الأمر الى انفصال الكنيسة عن الحكومة وهذا مما لا
يرضاه أكثر الإنكليكانيين.
ثم جاء في جريدة (جورنال دوجنيف) بتاريخ 28 مارس أن رئيس أساقفة
كنتربري أصدر بيانًا صريحًا عن التعديلات المراد إدخالها على كتاب الصلاة، وأن
الأساقفة رجعوا عن كثير مما كانوا أرادوا حمل الناس عليه، وبالإجمال تقرَّر
إعطاء الحرية للعمل بالكتاب القديم أي كتاب سنة 1662.
نعم إن الصلاة لأجل الملك جعلت من الشعائر المفروضة بدون تساهل، وهذا
مما يزيد الوحدة بين الحكومة والكنيسة، وأما حفظ الخبز والخمر فقد كان قرار
الأساقفة فيه حازمًا وذلك بأنه لا يجوز حفظهما إلا لمناولة المرضى لا غير، ولا
يجوز استعمالهما على وجه آخر، وكذلك محل وضعها منصوص عليه بصورة لا
تدع محلا لعبادتهما) اهـ.
نعود إلى القول بأن هذا النقل الذي نقلناه لا نقصد به المسألة المختلف عليها
بين الإنجليز من حيث هي والتي لا تعنينا من هذه الجهة، وإننا لنوقر حرمة عقائد
الناس ولا نقابلها إلا بالاعتبار التام كيفما كانت، فتعرضنا لهذا الموضوع لم يكن
لذاته.
وإنما مقصدنا إقناع الشرقيين الذين يلعب بعض المفسدين بعقولهم بأن أرقى
أمة في أوربة، بل أرقى أمة اليوم في العالم وهي الأمة الإنجليزية لا تقدر أن
تصلي إلا تحت تصديق مجلسي الأعيان والنواب، وتحت أمر الملك، وأن هذه
المباحثات والمناقشات الاعتقادية الصرفة قد جرت في مجالس دنيوية سياسية هي
أكبر المجالس من نوعها في الدنيا.
فالذين يسفسطون بكلمة فصل الدين عن السياسة وبدعوى نبذ دول أوربة
للقضايا الدينية تمامًّا يكفيهم هذا المثال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) .
... ... ... ... ... ... ... لوزان 8 أبريل1928
... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________
(*) المنار: انتهت الأزمة في الشهر (ذي الحجة - يونيو) برفض البرلمان البريطاني للتعديل
المقترح في كتاب الصلاة - مرعاة للتطور الاجتماعي والديني والسياسي في الأمم النصرانية وتقريبًا
للبروتستنتية من الكاثوليكية أمها - وقرَّر إبقاءه كما كان بالرغم من أنوف طلاب التجديد.
(1) المنار: وأنها مجددة وإن كل قديم قبيح وكل جديد حسن.(29/201)
الكاتب: شرومف بييرون
__________
مضار المشروبات الروحية في البلدان الحارة
بقلم الأستاذ الدكتور شرومف بييرون
يظهر أن العادة التي جرى عليها كثيرون من الأوربيين المتوطنين في البلدان
الحارة من شرب المشروبات الروحية آخذة في التناقص لحسن الحظ، وقد نشأت
هذه العادة السيئة التى سأبين مضارها هنا من مبدأ باطل، ولكنه شائع وهو أن
المشروبات الروحية خير ذريعة لمكافحة تأثيرات الحرارة المضعفة للدم والمنهكة
للجسم من جهة؛ ولتوقي أمراض البلدان الحارة من جهة أخرى.
ولقد كان أطباء جيوش المستعمرات أول من انبرى لبيان ما للمشروبات
الروحية من المضار الوبيلة في البلدان الحارة بقوة ما اكتسبوه من الخبرة ثم جاهدوا
حتى وصلوا شيئًا فشيئًا في معظم البلدان إلى إبطال عادة إعطاء الجنود في
المستعمرات جراية يومية من تلك المشروبات كالكونياك والوسكي والروم.
وهنا نقتبس بعض أقوال الخبيرين في هذا الشأن قال هنت وكني في سنة
1882: (لقد اتفق جميع الثقات على أنه كلما قلل الأشخاص الذين يقطنون في
الأقاليم الحارة من شرب المشروبات الروحية سهل عليهم احتمال جوها. وكتب
السير ل. روجرس - وهو أعظم الأطباء الذين يُعَوَّل على رأيهم في الهند في سنة
1915 يقول: كان معظم الأطباء من عشرين سنة يعدون شرب المشروبات الروحية
ضروريًّا للذين يقطنون في البلدان الحارة، وأما اليوم فلا يوجد طبيب ذو مقام يجسر
على إعلان هذا الرأي) .
ومن المعلوم أن حبوط المشروع الأول لقنال بناما يرجع إلى كثرة عدد الذين
كانوا يموتون من العمال سواء من الإصابة بحمى الملاريا أو من المشروبات
الروحية فلما أبيد البعوض وحرم تعاطي المشروبات الروحية في منطقة العمل
تحريمًا قاطعًا تيسر نجاح المشروع الثاني، وفي ذلك الحين كتب الدكتور غورغاس
كبير أطباء منطقة القنال يقول: كان الأوربيون في الماضي يصابون بالأمراض
ويموتون في جهاتنا هذه؛ وأما اليوم فإنهم يعيشون فيها ويشتغلون كما يعيشون
ويشتغلون في جهات العالم الأخرى.
ولنذكر الآن أهم الأمراض التى يصاب بها الأوربيون العائشون في البلدان
الحارة ويرجع سببها إلى المشروبات الروحية.
أولاً: يؤخذ من جميع الإحصاءات الطبية في المستعمرات أن إصابات الرعن
التى حدثت في جيوش الميدان لم تكد تصب [1] إلا الجنود الذين شربوا مشروبات
روحية، ولو بمقادير يسيرة بدعوى أنهم يريدون الحصول على القوة، وقد كتب
السر فكتور هورسلي في هذا الصدد يقول: (إن المرء لترتعد فرائصه حين يذكر
أن ألوفًا من النفوس أزهقت وحل بها الفناء بسبب فكرة باطلة، وهي أنه يجب أن
يتناول الجنود المشروبات الروحية قبل الزحف في البلدان الحارة) .
ثانيًا: من الحقائق المُسَلَّم بها أن حوادث النزيف المخي تحدث بنوع خاص
على أثر تعاطي جرعات ولو صغيرة من المشروبات الروحية؛ وذلك لأن هذه
المشروبات تحدث تمددًا في الشرايين وتصعد الدم إلى الرأس.
ثالثًا: لوحظ دائمًا أن إصابات الأوربيين القاطنين في الأقاليم الحارة بأمراض
الكبد والكلى كثيرة، وكانوا إلى بضع سنوات مضت ينسبون ذلك إلى تأثير الجو،
أما اليوم فقد اقتنعوا بأن الأوربيين الذين يعيشون في أشد الأجواء حرارة ولا
يذوقون المشروبات الروحية لا تظهر فيهم أمراض الكبد والكلى التى كانوا قبلاً
ينسبونها إلى الحرارة، وهي ليست ناشئة على ما يظهر إلا من تأثير المشروبات
الروحية، بل إنهم أثبتوا علاوة على ذلك أن بعض أمراض الكبد الطفيلية
كالخراجات الديسنطارية مثلا تشاهد خصوصًا عند الأشخاص الذين يشربون
المشروبات الروحية، وقد كتب روجرس يقول: (إن 70 في المئة على الأقل من
المصابين بخراجات الكبد في الهند هم من شريبي المشروبات الروحية والجانب
الأكبر من هؤلاء المرضى أوروبيون، أما الوطنيون فإن هذا المرض يكاد يكون
غير معروف عند نسائهم اللائي لا يشربن المشروبات الروحية؛ ولهذا السبب عينه
ترى الإصابات بخراجات الكبد تزداد مع ازدياد تعاطي المشروبات الروحية ومع
ذلك فإنك تجد الأوربيين والوطنيين يصابون على السواء بالديسنطاريا) .
رابعًا: إن المشروبات الروحية ولو تُعُوطِيَتْ بانتظام بمقادير صغيرة تضعف
في الجسم قوة المقاومة لجميع الأمراض المعدية وخصوصًا في البلدان الحارة؛
سواء كانت هذه الأمراض هي ذات الرئة أو حمى التفوئيد أو الديسنطاريا أو
الملاريا أو السل الرئوي أو الزهري أو الكوليرا أو غير ذلك، وفي كل هذه
الأمراض نجد أن الذي يمتنع امتناعًا تامًّا عن شرب المشروبات الروحية هو الذي
يقاوم العدوى أكثر من غيره، ويشفى في أسرع وقت وتقل عنده المضاعفات
والتعرض للموت، وهذه حقيقة أيدتها تمام التأييد جميع الإحصاءات العسكرية
والمدنية.
وموجز القول أن الرأي الذي انعقد عليه إجماع الثقات الطيبين الذين أقاموا في
البلدان الحارة هو أن الأوربي الذي يروم أن يتحمل جو تلك البلدان يتعين عليه أن
يمتنع عن شرب كل نوع من أنواع المشروبات الروحية أو أن لا يشرب منها إلا
مقادير يسيرة جدًّا في أحوال استثنائية.
فلننظر الآن في مبلغ تأثير المشروبات الروحية في الشرقيين عامة وفي
المصريين خاصة: إن جميع الأطباء الذين مارسوا صناعتهم في البلدان الحارة
يدهشهم ما يرونه في العربي المسلم وفي المسلم عامة أيًّا كان الجنس الذي ينتمي
إليه من قوة المقاومة لأكثر الأمراض التي تصيبه ففي مصر تجد عند الفلاح قوة
مقاومة مدهشة إذا قيست بمثلها عند الأوربيين لجميع الأمراض المعدية ولا سيما
للسل الرئوي والسرطان ولما ينشئه الزهري من المضاعفات العصبية والقلبية
وللحميات المختلفة التى تحدث في البلدان الحارة وللالتهابات التى تحصل بسبب
النفاس والعلميات الجراحية إلى غير ذلك.
وقد لبث معظم المؤلفين طويلاً يحاولون تفسير قوة المقاومة هذه فعزَوْهَا إلى
خصائص قالوا: إنها اختصت بها بعض الأجناس أو إلى فعل الجو أو غير ذلك من
الأسباب، ولكن علماء هذا العصر الذين درسوا تحول الأمراض في الشرق بوجه
عام في البلدان التى أكثرية سكانها من المسلمين مجمعون رأيًا على أن سببها
الرئيسي هو نهي الدين الإسلامي للمسلمين عن شرب المشروبات الروحية، وإذا
وجد في البلدان المسيحية من يخامره شك في خطر النتائج التى تنشأ من تعاطي
المشروبات الروحية فما عليه إلا أن يذهب بنفسه إلى البلدان الإسلامية ليقتنع بذلك؛
لأنه حالما يبدأ المسلم الشرقي بشرب المشروبات الروحية تأخذ قوة مقاومته
للأمراض تنقص تدريجيًّا، فلذلك يسهل فهم الضربة التى جاءت مع الحضارة التي
يسمونها (الحضارة الأوربية) .
ولا نزاع في أن الشرق أقل احتمالاً لنتائج المشروبات الروحية من الأوربي،
فإن تاثير هذه المشروبات في البلدان الحارة أبلغ ضررًا منه في البلدان الباردة
للأسباب التى قدمناها، والرياضة البدنية تضعف ولو إلى حد ما تأثير شرب
المشروبات الروحية، وهذا يفسر استطاعة العمال في الأعمال اليدوية والذين
يلعبون الألعاب الرياضية تعاطي المشروبات الروحية وفي أحوال كثيرة لمدة طويلة
من غير أن يظهر عليهم آثار مضارها، وهذا الرياضة قليلة في الشرق ولا سيما
في المدن بسبب أحوال المعيشة والحر، ويجب أن لا يغيب عن البال أيضا أن
الأوربيين يشربون المشروبات الروحية من قرون، والراجح أن ذلك أنشأ فيهم على
مر الأجيال نوعًا من العادة أو من المناعة النسبية بإزائها، وهذه الظاهرة قد توضح
علة ما يرى في بعض بلدان أوربا كنورمنديا وبافاريا واسكتلندا وغيرها من أن
سكانها يمكنهم احتمال جرعات كبيرة من المشروبات الروحية، ومع ذلك فإن سن
قوانين ضد المشروبات الروحية في أسوج وهي بلاد باردة وجبلية، وكان سكانها
المولعون بالألعاب الرياضية يشربون مقادير كبيرة من هذه المشربات قد أدى إلى
تحسن الصحة العمومية فيها تحسنًا كبيرًا مما دل على أن المناعة من مضار
المشروبات الروحية ضعيفة جدًّا، على أن هذه المناعة إذا صح أنها توجد غير
موجودة عند المسلمين الذين لم يكن أسلافهم يتناولون الأشربة الروحية.
ومن أعظم قوى الإسلام نهي الشريعة الإسلامية عن تعاطي المشروبات
الروحية، وفي كل بلد دخله الإسلام كإفريقية الوسطى والهند مثلاً أنقذ الشعوب التى
اعتنقته من شر آفة الخمر التى جلبتها أوربا وحفظها من التدهور التام، ولهذا
السبب نرى فرنسا في إدارة مستعمراتها تشجع ما أمكن على نشر الدين الإسلامي
في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها.
ففي الوقت الذي نرى فيه أوربا وأمريكا تكافحان المشروبات الروحية
وتعانيان في ذلك ما تعانيان حتى فرضت الولايات المتحدة الأميركية على رعاياها
شريعة مدنية تضارع في شدتها شريعة النبي محمد الدينية يحسن بأهل البلدان
الإسلامية أن يدركوا جيدًا ما لشريعة نبيهم هذه من عظم الأهمية من الوجهات
الاجتماعية والأدبية والصحية غير أن كثيرين من المسلمين قد تعلموا شرب
المشروبات الروحية لسوء الحظ فبات متعينًا على أولي الحل والعقد في هذه البلدان
ولا سيما مصر أن يتخذوا التدابير الضرورية لمنع استفحال هذا الشر، فإن
مستقبلها يتوقف على ذلك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المقطم
(المنار)
ليعتبر هؤلاء الفاسقون المتفرنجون من أغنياء المسلمين ومقلدوهم من سائر
الطبقات بكلام هذا الطبيب الحكيم من كبار علماء الإنكليز ونصحه لهم بترك شرب
الخمور اتباعًا لهداية دينهم الذي يحرمها عليهم إلا لمضارها الكثيرة التى بين بعضها
هذا الطبيب الناصح، ولا سيما في البلاد الحارة كمصر، وأما استصراخه لأولي
الحل والعقد باتخاذ التدابير لمنع استفحال هذا الشر فنخشى أن يكون صرخة في واد؛
لأن الكثيرين منهم سكيرون وقدوة سيئة لغيرهم، وقلما يوجد في الآخرين المسلم
الناصح الذي يهتم بأمر أمته في مثل هذه الأمور مهما تكن في نفسها مهمة.
ومن المصائب أن هؤلاء الفجرة صاروا يفتخرون بشرب الخمر وتعويد
نسائهم وأولادهم عليها؛ لأنها عندهم من آيات المدنية العصرية، كما أشار إليه
الطبيب ويحتقرون من لا يشرب بأنه رجعي على الطرز القديم البالي، وقد سبقهم
الترك إلى هذا الصغار في التقليد الفردي فآل بهم إلى ما نرى من الكفر والضلال:
زار رجل من طرابلس منذ خمس وثلاثين سنة رجلاً من كبارهم في الآستانة معروفًا
بالوقار والدين فرأى في حديقة داره ولده يتحاسى مع بعض بنات الأرمن كؤوس
الجعة (البيرا) فذكر له هذا المنكر وسأله كيف يرضى به؟ فأجابه بأن (هذه
مقتضيات تمدن) !
__________
(1) المنار في الأصل: (لم تصب تقريبًا) والمراد به (لم تكد تصب) فهو النص المفيد للمعنى المراد دون ما ذكره.(29/215)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الصحافي النمسوي يحيى بك
كيف صار مسلمًا حنيفيًّا بعد ما كان مسيحيًَّا كاثوليكيًّا
كان يحمل لقب سيد ومزارع في بلاد التيرول وكان له بمقتضى هذا اللقب أن
يقابل جلالة إمبراطور النمسا في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار، وكان يحمل
نيشان القديس غريغريوس المهدى إليه من قداسة بابا روما، وكان يمتلك في بلاد
التيرول [1] قصرًا فخمًا يحتوي على ثمان وثمانين قاعة وكان اسم هذا القصر
(فرودشتاين) وكان صدره يتلألأ بالأوسمة التى أنعم عليه بها؛ إما لحسن بلائه في
سبيل بلاده بصفته ضابطًا في المدفعية النمسوية، أو للخدمات الجليلة التى أسداها
إلى الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ كان في مقدمة العاملين على إعلاء شأنها في بلاد النمسا،
وقد سافر غير مرة إلى المدينة الخالدة (روما) لتسوية بعض المسائل الحزبية
بين الفاتيكان وفريق من الكرادلة الذين في النمسا، فكان ينجح كل مرة في مهمته،
ويثوب إلى وطنه، وقد أضاف مجدًا جديدًا إلى اسمه.
هكذا كان (يحيى بك) نزيل القاهرة اليوم.
أما الآن فإن (يحيى بك) مسلم متزوج من مسلمة وأولاده مسلمون وهو شديد
التمسك بالتعاليم الإسلامية والفروض الدينية، يصوم رمضان ويؤدي يوميًّا
الصلوات الخمس ولا يذوق المشروبات الروحية، وقد أنسنا بالتعارف به من مدة
في المفوضية الألمانية فاجتمعنا به منذ أيام وطلبنا إليه أن يقص علينا كيف اتخذ
الإسلام دينًا له بعد ما كان كاثوليكيًّا شديد الإيمان بمذهبه عظيم الإخلاص لدينه.
***
حكاية القرآن
فقصَّ علينا أنه لما كان في الخامسة عشرة من عمره كان جالسًا يومًا في
إحدى قاعات قصره؛ فإذا بالسماء ترعد وتبرق وإذا بها تمطر الأرض مطرًا غزيرًا
فعدل عن نزهته ودخل مكتبته وأخذ يقلب كتبها فعثر بينها على نسخة ألمانية للقرآن
الكريم منقول عن اللغة العربية فتناولها واستلقى على كرسي كبير وشرع في
تصفحها وقراءة بعض آياتها فتبين له بعد فترة قصيرة أن القرآن يحتوي على
موضوعات كثيرة متعلق بعضها ببعض ولكنها متفرقة في السور غير متصل
بعضها ببعض مع أنه لو تم هذا الاتصال يومئذ لتفهم القارئ معناها ومغزاها على
الوجه الأكمل فنهض في الحال ولبس قبعته وحمل مظلته وخرج إلى السوق فاشترى
نسختين أخريين من الكتاب الكريم وبضعة عشر دفترًا، وعاد إلى قصره على
جناح السرعة، وبدأ يَقُصُّ من القرآن الموضوعات المتعلق بعضها ببعض، ويصل
كل موضوع بالآخر فاستغرق عمله هذا شهرين كاملين؛ لأنه لم يكن يعمل فيه إلا
في أوقات فراغه، ولكنه ما كاد يفرغ منه حتى طرح القرآن جانبًا خوفًا من أن
يؤثر في نفسه تأثيرًا لا يتفق وشدة إيمانه وتعلقه بأهداب دينه.
***
مسألة الاعتراف بالإسلام
وانقضت على تلك الأيام خمسة أعوام، وانتظم صاحب قصر (فرودشتاين)
بجامعة فينا ليواصل علومه العالية فاجتمع فيها بطلبة مسلمين من بلاد البوسنة،
وكانوا قد قدموا العاصمة النمسوية ليتلقوا علومهم العالية فتوثقت بينه وبينهم عرى
الصداقة والألفة.
ولم يكن الدين الإسلامي من الديانات المعترف بها رسميًّا في بلاد النمسا يؤمئذ
فشق على أولئك الطلبة أن يظلوا مشتتين ممتهنين لا تجمعهم رابطة دينية اجتماعية
قوية تبعث السلطات الحكومية على الاعتراف رسميًّا بالديانة الإسلامية فألفوا جالية
إسلامية، وعهدوا برياستها إلى الشيخ حافظ عبد الله كريجوفتش وكان هذا الشيخ
إمامًا للجنود البوسنيين المسلمين المعسكرين في فينا، ولكنه خشي أن تثير رياسته
للجالية غضب الحكومة النمسوية، فأبلغ الطلبة بعد يومين أنه مستقيل من المنصب
الذي أسندوه إليه فحزنوا وأخذوا يبحثون على رجل يحلونه محله، فقال لهم صاحب
القصر (فرودشتاين) أي (يحيى بك) إنه مستعد لمساعدتهم وتأييد مطلبهم فأسندوا
إليه رياستهم مع أنه مسيحيٌّ كاثوليكيٌّ، وما كاد الخبر يذاع حتى دعاه وزير
المعارف إلى مقابلته، وسأله عن مسلكه فأجابه بأنه من العار أن يكون بين أبناء
النمسا رعايا مسلمون ولا تعترف النمسا بدينهم رسميًّا، فقال الوزير: (إننا لا
نستطيع الاعتراف بالإسلام رسميًّا لمبدأ تعدد الزوجات فقال: إن الإسلام لا يحتم
تعدد الزوجات كفرض واجب على كل مسلم متزوج ولكنه يترك له الحرية في
اختيار أكثر من زوجة بشروط معينة وما دام القانون النمسوي لا يسمح بالتزوج
بأكثر من واحدة فالنمسويون المسلمون سيضطرون إلى احترام هذا القانون حتمًا
وخصوصًا أن احترامهم له لن ينقض شيئًا من مبادئ دينهم، فقال له الوزير: إذا كان
الأمر كذلك فإني أرجو منك أن تُعِدَّ لَيَ مشروع قانون بالاعتراف بالدين الإسلامي
رسميًّا كي أتقدم به إلى البرلمان) فأعد له المشروع وحمله إليه فنقَّحه قليلاً وعرضه
على البرلمان فأجازه كما هو، ومنذ ذلك الحين سنة 1908 صار الدين الإسلامي
من الأديان المعترف بها رسميًّا في الإمبراطورية النمسوية، وعلى أثر إحراز هذا
الفوز الباهر تنحى (يحيى بك) عن رياسة الجالية الإسلامية، وعكف على
الاهتمام بشئون الكنيسة الكاثوليكية.
***
اعتناقه الإسلام
وغادر صاحب القصر (فرودشتاين) جامعة فينا بعد ما أتم علومه فيها، وقام
برحلة كبيرة في أفريقية الشمالية ثم عاد إلى النمسا ودخل مدرسة الضباط للمدفعية،
وتعرف في تلك الأثناء بالدوق برجالس الذي كان يطالب يؤمئذ بعرش البرتغال
فدعاه الدوق إلى مرافقته إلى أسبانيا ليعاونه في حركته التي كان يريد التوصل بها
لقلب الحكومة القائمة في البرتغال، ولكنه لم يوفق في مساعيه لقلة ماله فودعه
يحيى بك وعاد إلى النمسا، ولما بلغها استأنف سفره منها إلى ألبانيا تنزيهًا للخاطر،
وهناك بدأ يدرس ديانات العالم، ويقابل بينها ثم استأنف هذا الدرس عند عودته
إلى قصره وبعد المراجعة والتمحيص خرج من درسه الواسع باعتقاد راسخ وهو أن
الدين الصحيح هو الدين الإسلامي، ولكن نشوب الحرب العظمى أكرهه على
الانقطاع عن مواصلة بحثه واستقصائه إذ دعي إلى امتشاق الحسام ومرافقة فرقته
إلى ساحة القتال فجرح أربع مرات وأنعم عليه بأكثر من اثني عشر نشانًا ومدالية،
ثم أرسل إلى تركيا أستاذًا للمدفعية في بعض فرقها العسكرية فأنعم عليه بالبكوية،
وظل في الديار التركية حتى انتهاء الحرب العالمية فعاد إلى بلاده وكلف بالذهاب
إلى روسيا لمفاوضة حكومتها الجديدة في شأن الأسرى النمسويين، والظاهر أن
الثوار الروس اشتبهوا في أمره، وأرادوا أن يدبروا له مكيدة يتخلصون بها منه،
فاتصل به خبر هذه المكيدة بواسطة فتاة تهواه كانت شقيقتها متزوجة أحد أعضاء
(التشيكا) البلشفيا ففر إلى ميناء (ريغا) بعد أهوال تشيب لها الرجال، ولما وصل
إلى ذلك الميناء اعتنق الإسلام رسميًّا واتخذ اسم يحيى اسمًا له، ثم لم يلبث أن
تزوج من سيدة شركسية تقيم معه الآن في مصر وكان يحيى بك أراد أن يقطع كل
صلة بالغرب فتجنس بالجنسية الأفغانية.
ويقيم يحيى بك الآن في القاهرة كما تقدم، وهو يراسل منها طائفة كبيرة من
الصحف النمسوية والهولندية وغيرها، وهو يتكلم على ما عرف الفرنسية والألمانية
والتركية والروسية والبولندية، وقد بدأ يُلِم باللغة العربية، وقد اضطر إلى بيع
قصره وأملاكه في بلاد (اليرول) على أثر احتلال الإيطاليين لها ولكنه باعها
(بالكورون) الورق وما هي إلا عشية وضحاها حتى أصبح هذا النوع من العملة لا
قيمة له.
وهنا ابتسم يحيى بك وكان قد فرغ من سرد حكايته، وقال لنا: (لقد خسرت
كل شيء إلا حرية فكري) اهـ من مجلة كل شيء، بتصحيح لبعض الألفاظ.
__________
(1) كانت تابعة يومئذ للنمسا ثم آلت في الحرب العظمى إلى إيطاليا.(29/220)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
خطب جلالة الملك عبد العزيز بن السعود
في الأمصار الحجازية بعد عودته من سياحته في نجد
زار جلالة الملك ابن السعود في هذا العام بلاده النجدية وأقام في عاصمتها
عدة أشهر، ثم عاد منها على طريق القصيم وحائل إلى المدينة المنورة فاستقبلته
فيها وفود البلاد، فألقى عليها خطبة سياسية إضافية في محطة الغبرية (بالمدينة
المنورة) قال فيها:
***
خطبته في المدينة المنورة
(إننا نبذل النفس والنفيس في سبيل راحة هذه البلاد وحمايتها من عبث
العابثين ولنا الفخر العظيم في ذلك، وإن خطتي التي سرت ولا أزال أسير عليها
هي إقامة الشريعة السمحة، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب والأخذ
بالأسباب التى تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الحنيف.
إنني خادم في هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدين وخادم للرعية، إن الملك لله
وحده، وما نحن إلا خدمٌ لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم
وننصح لهم ونسهر على مصالحهم كنا قد خنا الأمانة المودعة إلينا، إننا لا تهمنا
الأسماء ولا الألقاب [1] وإنما يهمنا القيام بحق واجب كلمة التوحيد والنظر في
الأمور التى توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا، إن من حقكم علينا النصح لكم في
السر والعلانية، ومن حقنا عليكم النصح لنا، فإذا رأيتم خطأ من موظف أو تجاوزًا
من إنسان عليكم رفع ذلك إلينا لننظر فيه، فإذا لم تفعلوا ذلك فقد خنتم أنفسكم
ووطنكم وولايتكم، وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه على ما يشاء قدير.
***
خطبته في جدة
ثم انتقل من المدينة إلى جدة وألقى فيها على الوفود والأهالي المستقبلة له هذه
الخطبة: حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله لما أعطى من فضله وكرمه ثم قال: إن
العرب في هذه المدن تأخروا كثيرًا وليس لهم من المجد شيء، فوسائل القوة كلها
بيد غيرهم، وإذا لم ترجع العرب للأصل الذي نشأ عليه أولهم فما هم ببالغين شيئًا
إلا أن يشاء الله، إن القوة التي يمكن أن نستند عليها هي الاستمساك بما كان عليه
سلفنا من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وليس اتباع الكتاب الكريم بقراءته والتغني
به، ولا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان صحبته باللسان، والأفعال
تخالف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا الأساس أساس الاتباع
الصحيح هو الذي يمكن أن يجعل لنا وحدة قوية يمكننا أن نعتز بها ونرفع من شأننا،
وبغير ذلك لا مزية لنا ولا احترام، انظروا للعرب في كثير من الأمصار فإن
لديهم من الأموال أكثر مما لديكم، وعندهم من وسائل المدنية أكثر مما عندكم،
ولكن كثرة الأموال ووفرة الوسائل المدنية لم تفك رقابهم من الأسر والذل، ولم
ينفعهم ما جمعوا ولا ما صنعوا، إن المدنية الصحيحة والحياة ما نراه في البلاد
المتمسكة بدينها، وذلك ما يسرني أن أراه في نجد والحجاز، فكلما ازداد هذان
البلدان تمسكًا بدينهم وحافظوا على الأصل الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله كان
له من العز والسؤدد بمقدار ما يظهر من قوة تمسكهم ومحافظتهم، فإن تمسكتم بهذا
الأصل تمسكًا صحيحًا ولا أستثني فإن الله ينصركم ويؤيدكم، إن الدين هو مركز
المغناطيس الذي يجذب قلوب الناس إليكم فتقوى بذلك قلوبكم، ويعظم مركزكم في
الوجود، فدينكم وشرفكم العربي هو المغناطيس الحقيقي فتمسكوا بهما تنجحوا
وتروا الحرية الصحيحة.
ليست الحرية أن يُتْرَك الإنسان لهواه في الوقت الذي يكون فيه عنقه تحت
الرق والأسر، ولكن الحرية الصحيحة هي حرية الإسلام الذين جعل الأمير
والوضيع أمام العدل والحق سواء، وإنه لمما يُثْلِج الصدر أن ترى الأمير
والضعيف يسيران معًا ليقفا أمام الشرع ليقضي بينهما، وإني أسأل الله أن يوفقكم
للخير ويجعلكم ممن ينصرون دينه ويعلون كلمته.
***
خطابه بمكة المكرمة
ولما عاد إلى مكة المكرمة ألقى فيها على مستقبليه خطابًا بمعنى ما تقدم صرَّح
فيه جلالته خلال الحديث بأن الغاية الى يتوخاها والمطمح الأسمى الذي يدعو إليه
ويعمل في سبيله هو إعلاء كلمة التوحيد أولاً ورفع شأن العرب ومجدهم ثانيًا، ثم
تطرَّق إلى الحرية والمدنية فأفاض جلالته في هذه الموضوع مبينًا أن الحرية التي
جاء بها الإسلام هي أوسع من تلك الحرية المهيضة الجناح التى يدعيها الغير، وأن
المدنية الإسلامية التى سطع نورها في العالم وكانت أساسًا لنهضات الأمم والشعوب،
لم تكن مدنية مزيفة تقتصر على الماديات، وعلى الزينات فحسب، وإنما كانت
مدنية علم وعمل، وحث المسلمين على التمسك بالشريعة السمحة كعادته في كل
خطبة.
__________(29/223)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد
حكومة الترك اللادينية
قد وقع ما توقعنا وصرَّحنا به مرارًا من عزم ملاحدة الترك الاتحاديين
فالكماليين على نزع ثوب الإسلام الذي كانوا يلبسونه زورًا ورياء للشعب التركي
الذي يدين الله به وجدانًا وتقليدًا، وأنهم كانوا يعملون لهذا متريثين، ويسيرون إليه
متمكثين، مراعاة لسنة التدريج، وحذرًا من خيبة الطفور، ولكن التركي إذا ظفر
بَطَرَ، وظن أنه العزيز المقتدر، فلذا كان ظفرهم الأخير باليونان مجرئًا للكماليين
على الإيجاف والإيضاع في هذه السبيل فأبطلوا التعليم الديني ومدارسه والشريعة
الإسلامية ومحاكمها، واستبدلوا بها ما يجافي طباعهم وتقاليدهم وأخلاقهم من شرائع
بعض الشعوب الأوربية وقوانينها، وأعلنوا إباحة الردة عن الإسلام وجواز التدين
بكل دين، والبراءة من كل دين، وتزوج المسلمة بالكافر، ورقصها مع الفاسق
والفاجر، وأكرهوا شعبهم على لبس البرانيط - كل هذا كان مع وجود مادة في
قانون الجمهورية الأساسي صُرِّحَ فيها بأن دين الدولة هو الإسلام.
ولأجل هذه المادة التي كذَّبتها الأقوال الرسمية والأفعال الرسمية والأحكام
الرسمية والقوانين الرسمية، وتصريحات الجرائد الرسمية وغير الرسمية باحتقارهم
للدين وبراءتهم منه لأجل هذه المادة كان بعض المسلمين الأغبياء الغافلين يظن
بإغواء الملاحدة المارقين، أن الدولة التركية لا تزال دولة إسلامية، وأن كل تلك
الأقوال والأفعال والأحكام الكفرية المعادية للإسلام لا تنافي الإسلام؛ لأنها من
التجديد المدني والتقدم إلى الأمام، وترك القديم البالي الذي أخلقته الأيام وأبلته
الأعوام.
هكذا كان يقول ملاحدة بلادنا المصرية في تأييد الكماليين والترغيب في
كفرهم، وهكذا كانوا يكتبون، ولهذا كانوا يدعون، ولمثله عندهم فليعمل العاملون،
ولكن الحكومة التركية الكمالية لم تعد تطيق الصبر على بقاء كلمة الإسلام في
قانونها، فقررت إزالتها ومحوها، بل قررت إزالة اسم الله تعالى من اليمين
الرسمية المقررة في القانون؛ لأنها لم تكن وضعت اسم الإسلام في القانون خوفًا من
قيام الشعب عليها، فلما ظفرت بإخماد كل ثورة عليها والتنكيل بأهلها تجرأت على
البراءة من الاسم كالمسمى.
وإنه ليسر عقلاء المسلمين الصادقين هذا الجهر لسببين:
(أحدهما) : أن كراهة المسلم الصادق للنفاق أشد من كراهته للكفر الصريح،
ولا سيما النفاق بالقول الذي يصرح العمل بتكذيبه.
(ثانيهما) : أن تلبس الحكومة التركية بظاهر الإسلام أو تحليلها باسمه
زورًا وبهتانًا يخدع العالم الإسلامي الجاهل بها، ويظل على ما تعود معتمدًا في
إعزاز الإسلام عليها، فيظل غافلاً عن قوة الإسلام نفسه وعن قوته هو بالإسلام،
وإني لمعتقد أن ما كان شائعًا من قيام السلطان العثماني التركي بمنصب الخلافة كان
أقوى الأسباب في ضعف المسلمين، وتمكن الأجانب من استعبادهم، والاستئثار
بخيرات بلادهم.
فإذا كان في هذا الكفر البواح من حكومة الترك ومجلس الأمة لها ضرر
بغيرهم من المسلمين فهو سوء القدوة بالترك التابع لما كان من المبالغة في تعظيمهم
بالباطل، وتعلق الآمال بهم بالوهم، لا فوات ما كانوا عليه من إقامة أركان الإسلام
وإحياء كتابه وسنته والدفاع عنه، فإنهم لم يكونوا كذلك ولا سيما الجيل الأخير منهم.
ولما وثق الأوربيون بارتداد الحكومة الكمالية بهيئتيها التشريعية والتنفيذية عن
الإسلام وبعدواتهم له وبدعايتهم للشعوب الإسلامية، ولا سيما الأعجمية إلى اتباع
خطواتهم في ذلك فرحوا، وصرَّح بعضهم بأن الإسلام قد فقد كل قوة وعصبية،
وطمع دعاة النصرانية منهم بتحويل سائر المسلمين عن الإسلام وأرصدوا لذلك
الأموال الكثيرة على تصريحهم بأن العقبة الكؤود في طريقهم هي عصبية جزيرة
العرب ولا سيما الوهابية منهم. وطلب بعض جمعياتهم إرسال مائة مبشر إلى
جزيرة العرب خاصة. ومما زاد في طمعهم في تقصير جميع المسلمين دعاية
الإلحاد في مصر.
***
الإلحاد والزندقة بمصر
ها نحن أولاء نرى ملاحدة بلادنا هذه تُنَوِّه بكفر الترك الكماليين وتثني على
كل خطوة من خطواتهم فيه، وتنافح عنه في جرائدها، وتدعو إلى مثله كلما
سنحت فرصة، ولجريدة السياسة مراسل خاص في الآستانة مصري الأصل اسمه
(عمر رضا) يمدها في كل أسبوع بمقالة ينوِّه فيها بأعمالهم، ويجلي كفرهم
وضلالهم بحلي الخلابة وحللها، وهو الذي كان يراسل جريدة الأخبار الإسلامية من
قبل بقوة دينهم ومتانة إسلامهم، ولكل وقت وكل حال سياسة ودين عند هؤلاء.
ولكن كان من حسن حظنا أن كان أول ماقتٍ لهذه الدعاية الإلحادية وصادّ
عنها هو جلالة ملك البلاد، ولم يكن الزعيم المؤثر سعد زغلول باشا براض عنها،
ولا بمساير لها، بل كان ضدًّا على دعاتها في الجملة، حتى إنه اشتد في أثناء
المناقشة بمجلس النواب في كتاب طه حسين الذي كذَّب فيه القرآن، وكاد يرفس
وزارة عدلي باشا رفسة يسقطها بها إسقاطًا يجعل زعماء الحزب الدستوري في سفل
سافلين، ولكنهم أجلوا البحث في المسألة حتى تمكنوا من إسلاس قياده وإسكاته عن
تأييد المطالبين بعقاب طه حسين في المجلس، حرصًا على ما يسمونه بالسياسة
الائتلافية ولولاه لنجحوا في دعايتهم إلى لبس البرنيطة.
***
التفرنج ومبادئ
الإلحاد في الأفغان
كان المشهور في العالم الإسلامي أن أشد الشعوب الإسلامية عصبية إسلامية
مسلمو نجد ومسلمو أفغانستان، وقد ذكرنا هذا من قبل، ولكن رُزِئَتْ الحكومة
الأفغانية في هذا الزمن الأخير ببعض ملاحدة الترك فأفسدوا عقائد بعض رجالها
الأفغانيين وزيَّنوا لملكها شر أنواع التفرنج وأضرها وهو تفرنج النساء بالتبرج
والزينة وهتك حجاب الحياء والصيانة المقتضي للإسراف في النفقات؛ لأجل
الانغماس في الشهوات واللذات.
واتباع سنن الترك في لبس البرنيطة وانتحال القوانين الأوربية وغير ذلك من
المفاسد التي جنت على الدولتين العثمانية والمصرية، وقد شرعت الدولة الأفغانية
الجديدة تقلد الترك ولا ندري إلى أي شوط تصل في ذلك وإنا لمنتظرون.
كنا كتبنا ما تقدم كله منذ أشهر، ولم يتسع له الجزء الثاني وتأخر إصدار هذا
الجزء لما تقدم من السبب، وفي أثناء هذه المدة أتم ملك الأفغان رحلته الأوربية
الآسيوية، وكان من أخبارها أن زوجته الملكة ثريا كانت في أوربة وفي أنقرة
سافرة متبرجة بزينتها مسرفة فيها حتى إننا رأينا في بعض صورها الشمسية صورة
نصفية برزت فيها عارية من كل ثوب ليس عليها إلا الجواهر التي تتلألأ على
صدرها - ومنها أنها كانت ترقص مع الرجال وخص بالذكر مصطفى كمال باشا -
ومنها أن كبار العلماء في إيران لما علموا بأخبارها هذه أرسلوا إلى بعلها الملك
برقية صرَّحوا له فيها بأنهم لا يقبلون أن يروا في بلادهم الإسلامية ملكة مسلمة
تنتهك حرمة الإسلام بسفورها وتبرجها المحرم شرعًا، فاضطرت عند وصولهما
إلى إيران أن تحتجب احتجابًا تامًّا كنساء إيران، وكانت تبرز في مصر
كالمصريات غير المسرفات في التبرج.
ومن أخبار هذه الرحلة أن الملكة ثريا قد ابتاعت من الحلي والحلل وهي في
باريز ما قيمته مئات الألوف من الجنيهات، وهذا يدل على أن التفرنج الأفغاني قد
بدأ مسرفًا على طريقة إسماعيل باشا الخديو في مصر، كأن ملك الأفغان ورجاله لم
يطلعوا على تاريخ ذلك الإسراف ولا علموا بما كان من نتائجه.
بيد أن ملك الأفغان قد فَضَلَ إسماعيل بعنايته بأمر القوة العسكرية العصرية
التي لا يمكن لدولة حفظ استقلالها بدونها وجعل الشعب كله عسكريًّا مستعدًّا في كل
وقت لبذل النفس في سبيل الدفاع عن بلاده وغير عاجز عن الهجوم على غيره إن
اضطر إلى ذلك. ولكن الاستعداد النظامي والآلي لذلك لا يكفي إلا إذا أمدته القوة
الروحية والوحدة القومية.
والشعب الأفغاني الآن عرضة لفساد العقائد والأخلاق بالتفرنج الجديد وما يتبع
ذلك طبعًا من التفرق أو (انقسامه على نفسه) كما يقال في التعبير العصري.
وسنبين في جزء آخر أسباب ما نخافه على هذا الشعب الإسلامي الباسل من
فساد العقيدة والأخلاق والتفرق، وكون ذلك أضر فيه منه في الشعب التركي وأشد
خطرًا على حكومته، وما حاولنا من نصح من لقينا من رجال الحكومة الأفغانية
بمصر ومكة المكرمة ثم ما كتبناه إلى جلالة الملك أمان الله خان في مصر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/226)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحكومة السورية الجديدة
أجمهورية تكون أم ملكية
وفق موسيو بونسو المندوب السامي الفرنسي الأخير لسورية ولبنان لِمَا لم
يوفق له مَنْ قبله من المندوبين، فألف فيها حكومة مؤقتة عهد إليها بتأليف جميعة
تأسيسية منتخبة تضع قانونًا أساسيًّا لحكومة البلاد على قاعدة الاستقلال والسلطان
القومي، ثم ينتخب بمقتضى هذا القانون مجلس نيابي للبلاد يكون من وظائفه عقد
اتفاق مع الدولة الفرنسية تحدد به علاقتها بسورية موضوعًا وزمنًا، وقد وعد هذا
المندوب بالسماح لمنتخبي أعضاء الجمعية التأسيسية بالحرية التامة التي لا يشوبها
شيء من تدخل السلطة المحتلة في انتخابهم.
عهد بتأليف الحكومة المؤقتة إلى الشيخ تاج الدين الحسيني نجل الأستاذ
المحدث الشيخ بدر الدين الحسيني الشهير فألفها من بعض الوطنيين وبعض
الحكوميين ووقف هو فيها موقف الوسط بين الفريقين، فلما وقع الانتخاب انتخب
هو من قبل كل منهما، فكانت هي البراعة الثانية التي أتقنها ونجح فيها، وأما
البراعة الأولى فهي أنه ما زال يسعى لرياسة الحكومة سعيها منذ سنين حتى أمكنه
استمالة السلطة الفرنسية من ناحية وقوة المعارضة الوطنية من ناحية، ولكن الثقة
به عند الأولى أقوى، وهو يستعين بمكانته عند كل منهما على الأخرى.
إنني قد سررت بوجود سيد شريف وشيخ معمم يملك هذه البراعة، وأتمنى
من صميم قلبي لو يوفق لحفظ مركزه بالإخلاص لقومه وحسن الصلة بينهم وبين
الدولة التي امتحنوا بها - وأحب له الثبات على الزي العلمي العربي في وقت ينفر
فيه الجمهور العصري من زيّ رجال العلم الإسلامي حتى صار بعضهم أميل إلى
البرنيطة منه إلى العمامة ولا سيما المتفرنجين الذين يعدونها كقلانس رجال الكهنوت
الديني عند النصارى وغيرهم الذين حبسوا أنفسهم على خدمة دينهم وإرشاد أهله
إلى الاعتصام به ودعوة غيرهم إليه ودفاعهم عنه، وحملة العمائم عند المسلمين
ليسوا كذلك، وإن سروري بوجود الشيخ تاج الدين على رأس الحكومة السورية
متحليًا بعمامته البيضاء (ولم يبق له من هذا الزي القومي غيرها) لا يشوبه رجاء
في خدمة للدين الإسلامي يقوم بها، وإنما أنا خصم لدعاية التفرنج التي يُقَبِّح أهلُها
- قبَّحَهم الله - كل ما هو من مشخصات أقوامهم وأوطانهم ومن مقوماتها أيضًا
ويدعون إلى استبدال غيره به بشبهة التجديد الذي معناه احتقار تاريخهم وأمتهم
وتفضيل غيرها عليها، فأنا أُلاحظ في هذا قول صديقنا الأمير شكيب أرسلان في
المقابلة بين قومنا العرب وبين الإفرنج:
يملك إذا ما بات فيهم متوّجا ... فيا طالما قد كان فينا معمما
هذا وإن مسيو بونسو وعد بعدم تدخله في انتخاب الجمعية التأسيسية كما قلنا،
ولكن الوزراء الحكوميين وسياستهم الفرنسية تدخلوا وبذلوا جهدهم في ترجيح كفة
رجالهم على الوطنيين، ويقال أيضًا: إن بعض الموظفين الإفرنسيين في الأقضية
قد تدخلوا أيضًا، ومع هذا كان النجاح الأكبر في الانتخاب لجماعة الوطنيين
المشهورين بمعارضتهم لكل ما فعلته السلطة العسكرية في البلاد من المنكرات
وللانتداب الفرنسي نفسه.
بعد أن تم انتخاب الجمعية التأسيسية وانتخب صديقنا هاشم بك الأتاسي رئيسًا
لها، وبدأ الأعضاء يجتمعون كثر خوض الناس والصحف فيما تقره من شكل
حكومة البلاد هل هو الجمهورية أم الملكية، وصار كل من يرجح رأيًا يدلي بحججه
على ترجيحه، وترجح الصحف أن الرأي الغالب في البلاد تفضيل الملكية على
الجمهورية، وإن الجمعية التأسيسية ستقرر هذا الرأي بالأكثرية، وإن لم يسمع أحد
من أعضائها كلمة في هذا الموضوع، ونقلت إلينا أن المرشحين لمنصب الملك هم
الشريف علي حيدر بك، والشريف علي بن الحسين، وأخوه الشريف زيد،
والأمير فيصل آل سعود نجل ملك الحجاز ونجد. ومن الناس من يذكر السيد تاج
الدين الحسيني رئيس الحكومة السورية، وأحمد نامي بك سلفه، وأن رجاء هذين
في رياسة الجمهورية أقوى، فأما الشريف علي حيدر فله رجال في سورية
يرشحونه، وقد سبق نجله الشريف عبد المجيد بك (الداماد) إلى هذا السعي منذ
سنين إذا اتخذ مدينة بيروت مقامًا له، وأما نجلا الملك حسين أخوا الملك فيصل
فيسعى لهما أو لأحدهما أخوهما الملك، ويروى أن مجيء رئيس ديوانه وبعض
كبار الوزراء والرؤساء للدولة العراقية إلى سورية في هذا العهد يراد به السعي
لذلك بصفة غير رسمية، ولذلك كذبوا ما عزي إليهم.
وحجة من بقي في سورية من أنصار هذا البيت أنه أرجى لتحقيق وحدة بلاد
الحضارة العربية العراق وسورية والأردن، وكذا فلسطين ولو بعد حين في دائرة
الأمبراطورية المرنة - بتوحيد التعليم وتوحيد اللغة التى يستمد منها العلم العصري
والفنون وتوحيد المعاملات الاقتصادية وغير ذلك، فإن وجود الشريف علي أو
الشريف زيد ملكًا في سورية بين حكومتي أخويه: فيصل وعبد الله يمهد السبيل
لذلك وهو مرجو عندهم.
وأما خصومهم فلا يسلمون لهم هذا، ويرون أن انفراد إنكلترة بالسلطان من
مصر إلى خليج فارس أعظم خطرًا على الأمة العربية وعلى الملة الإسلامية، على
ما ظهر من سوء نيتها في مسألة الصهيونية والتعدي على أرض الحجاز، ويعدون
من غوائله أيضًا ما يخشى من وقوع الشقاق بين سورية وجارتيها الحجاز ونجد
كما هو واقع على حدود العراق وشرق الأردن.
وعندي أن أقوى الموانع من اختيار أحد أفراد هذا البيت أنه قد ثبت بالتجربة
أنهم مفتونون بحب الملك والإمارة وأنهم يبذلون في هذه السبيل استقلال البلاد
ومنافعها ورقبتها أيضًا للأجنبي الذي يكفل لهم لقب ملك أو أمير، فهذا الشريف عبد
الله أظهر قد جاء منطقة شرق الأردن، التي كانت تابعة لحكومة سورية باتفاق
فرنسة وإنكلترة وليس فيها احتلال أجنبي؛ لأن الجنرال غورو لم يعتد عليها بعد
احتلاله لدمشق وإسقاطه لحكومة فيصل فولاه أهلها والنازحون إليها من رجال
حكومة سورية العسكريين والمدنيين أمرها، فلم يلبث أن جلب لها الاحتلال
البريطاني وجعلها تابعة لفلسطين في الانتداب عليها، ثم ترك للحكومة البريطانية
ما كان بيده من أمر سكة الحديد الحجازية بكتابة رسمية، ثم عقد معها محالفة فيها
من مخازي الذل والاستعباد ما ضج منه بدو أهلها والحضر، ولو لم يكن منه إلا أن
الأمر والنهي والتصرف المطلق فيها لجلالة ملك الإنكليز حتى إن له أن يحشد فيها
من الجنود البريطانية ما شاء، وأنه ليس للأمير المُوَلَّى من قبله أن يحشد جنديًّا
واحدًا بدون إذن بريطاني، لكفى خزيًا وذلاًّ ومهانة واستعبادًا وخطرًا على الحجاز.
وقد أرسلت البلاد وفودًا إلى الأمير يحتجون على المعاهدة ويطلبون منه رفضها
فحبس بعضهم وأهان بعضًا وهدَّد آخرين، وكان من جوابه لبعضهم أنه لو لم يكن
في المعاهدة من الفائدة إلا تصريحها بأن للبلاد أميرًا لكفى، قال: ولا يخفى ما في
هذا اللقب من الإشارة إلى الاستقلال! فليتعز إذًا عن استعبادهم بهذه الإشارة.
وأما الشريف علي فقد كان الذين رغبوا إليَّ السعي للصلح بينه وبين ابن
السعود يقولون: إنه خير من أبيه وإخوته، وإنه إذا صالحه على شيء وفَّى له....
ثم علمنا من الثقات أنه عرض على الدولة الإنكليزية أن يعترف لها بالحماية
الرسمية والانتداب على الحجاز [1] في مقابلة مساعدته على صرف ابن السعود
عنه.. . فأجابته بأنه لا يسعها في مسألة الحجاز إلا الحياد التام؛ لأنه المركز
الديني الذي يسوء العالم الإسلامي كله تدخل أي دولة غير مسلمة فيه.
لم يمكنه جعل الحجاز كله تحت السيادة البريطانية ليتمتع بلقب (ملك) في
ظل هذا السلطان ولكن أمكنه أن يبيع الدولة البريطانية أهم بقعة حربية بحرية
اقتصادية من بلاد الحجاز، وهي البقعة الممتدة من خليج العقبة المنيع على شاطئ
البحر الأحمر إلى معان ذات الموقع البري العظيم وأهم محطات سكة الحديد
الحجازية قلب البلاد، ولكن كيف باعه وبأي ثمن باعه؟
كنا نجهل كيف سمح الشريف علي بن الحسين بسلخ هذه المنطقة العظيمة
الشأن من أرض الحجاز وجعلها تابعة لشرق الأردن الواقع تحت السلطان البريطاني
حتى كشفه لنا الريحاني في كتابه (تاريخ نجد) فإنه قال بعد ذكر ما خسره الملك
علي من نقل الإنكليز لوالده من العقبة إلى قبرص، وهو ما كان يمده به من المال
ما نصه:
(وهناك خسارة أكبر للحجاز كانت تتعلق بسفر الحسين، وكان الأمير عبد
الله يسعى لها، فهو الذي أقنع أخاه وحكومة أخيه بأن يسلموا بضم العقبة ومعان
إلى شرق الأردن، وقد ضرب الأمير يومئذ على الوتر الحساس؛ إذ قال في إحدى
مذكراته لجلالة أخيه ما معناه: سلموا بضم العقبة ومعان وأنا أضمن لكم من
الإنكليز ما يأتي: أي ثلاثمائة ألف ليرة تعويض الضم ومئتا ألف ليرة ثمن الأملاك
غير المنقولة، وقرض قيمته خمسمائة ألف جنية يعقد حالاً، ثم إبعاد ابن السعود
عن الحجاز حتى تربة والخرمة، وجعل الخط الحجازي رهن إشارتكم في كل
وقت.
(أية حكومة في موقف تلك الحكومة الهاشمية لا تقبل بيع قطعة من أملاكها
بهذا الثمن؟ وأي ملك في مركز الملك علي لا تغره تلك الأرقام؟ ولكنها أرقام في
كتاب الأحلام) اهـ الريحاني.
ونحن نقول: إن كل حكومة أمينة غير خائنة لا تبيع شيئًا من بلاد أمتها لدولة
أجنبية مهما يكن الثمن الذي يبذل عظيمًا، على أن الثمن الذي خدع به الأخ أخاه
حقير بالنسبة إلى خليج العقبة وحده الذي يقول العارفون: إن زقاق البوسفور دونه
مناعة، ثم نقول: إن كل ملك غير خائن ينزه نفسه رذيلة بيع وطنه لدولة أجنبية
بثمن بخس، وكل ثمن تباع به الأوطان فهو بخس.
فكيف إذا كان هذا الملك مسلمًا وشريعة الإسلام لا تبيح للملوك والسلاطين بيع
بلاد الإسلام لغير المسلمين وتجعل لهم السلطان عليها.
فكيف إذا كانت هذا البلاد من أرض الحجاز المقدسة التى أوصى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى فيها ولا في سياجها من جزيرة
العرب دينان، وأخبر بأن الإسلام سيأرز أي ينكمش وينضوي إلى الحجاز إلخ،
هل يعقل - والحال هذه - أن يَنْقُض رجل مسلم وصية رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويعرض مهد دينه لخطر استيلاء الأجنبي عليه طمعًا في المال، أو في لقب
لا قيمة له في مثل هذا الحال؟ وإذا عقل وقوع هذا من رجل دنيء الأصل خسيس
المنبت يريد أن يعلو بين الناس بالمال واللقب، ولو بخسران الدين والشرف، فهل
يتصور من شريف صحيح النسب، عالي الأدب والحسب؟
نعم قد وقع بالفعل ما هو بعيد عن المعقول والمنقول والدين والشرف. وإن
الافتتان بزهو الملك وتنفجه وشهواته لا يكفيان في الإسفاف والتسفل إلى هذا الدرك
الأسفل إلا إذا صحبه جهل فاضح وخذلان من الله تعالى، نعم قد خدع الشريف
الأمير عبد الله ابن الشريف الملك الحسين أخاه الشريف الملك عليًّا بأن يبيع
للإنكليز أعظم مواقع الحجاز وحصونه البرية والبحرية بثمن ذكره له، فأجابه إلى
ذلك من غير عقد ولا قبض ثمن، فكانت هبة مجانية للإنكليز، وقد أعلن الشريف
عبد الله هذا الظفر بانقطاع هذه المنطقة من الحجاز وإلحاقها بشرق الأردن في
عاصمة إمارته وأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع إيذانًا وسرورًا بهذا الفتح المبين؟
فهل يأمن السوريون إذا ولوا عليهم من هذه حالهم أن يبيعوا ما يمكن بيعه من
سورية لمن يشتريه من الأجانب وليست سورية بأعظم عندهم من الحجاز الذي هو
مهد دينهم وموطن إمارتهم وفخرهم؟ وأولاد حسين بن علي كلهم صنائع الإنكليز،
وأولاهم بذلك الشريف زيد الذي يربونه في بلادهم.
وأما الأمير فيصل السعودي فهو الذي يشهد العقل والمصلحة لمرشحيه بجودة
الرأي والإخلاص للبلاد؛ إذ هو الذي يرجى أن تكون بولايته عليها مستقلة غير
مهددة بعبث النفوذ الأجنبي باستقلالها، ولغير ذلك من الفوائد الإيجابية والسلبية الى
نشير إليها بعد أن نصرح بأننا لا نريد بهذا الدعاية والترغيب، ولماذا؟ لأمرين:
(أحدهما) : أننا نشك في قبول فرنسة أن يكون هو الملك لسورية ووراءه
أعظم قوة عربية تشد أزره وهي قوة والده في مملكتي الحجاز ونجد، فإن رضيت
فرنسة بذلك كان برهانًا على إخلاصها لسورية وصدقها الباطن والظاهر في جعلها
حرة مستقلة بل برهانًا على انتهاج خطة جديدة في صداقة الأمة العربية والإسلام
ونحن نستبعد هذا منها على اعتقادنا بل يقيننا بأنه أفضل سياسة تُحْيِي نفوذ
فرنسة السياسي والاقتصادي والأدبي في الشرق؛ لأننا دعوناها إلى هذه الصداقة
مرارًا فلم تجب.
(ثانيهما) : أننا نشك في قبول الأمير فيصل ووالده الإمام عبد العزيز لذلك
إلا باحتفاظ في قانون البلاد الأساسي فإن حكومة سورية النيابية لا بد أن تصدر من
القوانين والأحكام باسم ملكها ما هو مخالف للمجمع عليه من الشرع الإسلامي كما هو
المنتظر من مجلس تشريعي مثل المؤتمر السوري العام الذي وضع القانون الأساسي
الأول لها عقب إعلان استقلالها وتولية فيصل عليها فإنني قد اجتهدت في إقناعه -
وأنا رئيسه- بأن يقيد حرية القوانين بما لا يخالف الآداب العامة للأمة؛ لأجل منع
المجاهرة بالفواحش فرفض هذا بأكثرية الآراء التى كان من أصحابها بعض
المتدينين، وقد صرَّح بعض الأعضاء في تعليل رد هذا القيد بأن تقريره يبيح
للشرطة أن يمنعوا من يجلس مع امرأة في ملهى أو مقهى (محل شرب القهوة) في
الطريق يعاقرها الخمر.
لهذا رأينا ملاحدة السوريين واللادينيين منهم أول من أنكر فكرة ترشيحه،
ومنهم من صرَّح بأن تعصبه الديني يحمله على أن يراعي الشريعة الإسلامية في
سياسته، وأول من كتب في ذلك من السوريين الذين في مصر الآن أحد أعضاء
حزب الدكتور شهبندر والأمير ميشيل لطف الله: كتب مقالة في المقطم نال فيها من
إخلاص أشهر الوطنيين من رجال الجمعية التأسيسية لذلك وعرَّض بخيانتهم
وتصديهم لبيع وطنهم؛ لأنه فهم أنهم من القائلين بترشيح الأمير فيصل السعودي
لعرش سورية، وذكرهم بأن من أهل البلاد من لا يرضيهم هذا الترشيح ويجب
الاعتداد برأيهم قبل إبرام أمر كهذا، وهم النصارى في البلاد واللاجئون إلى مصر
من الوطنيين، ويعني الكاتب حزبه المشار إليه.
ونحن نقول: إن الملاحدة اللادينيين يكرهون من وجود ملك مسلم متدين في
سورية ما لا يكره النصارى، فالملك المسلم المتدين بالفعل قد يكون خيرًا للنصارى
واليهود من المسلم المنافق لأن ظاهره وباطنه سواء؛ ولأنه لا يستحل إيذاءهم
ويراعي حريتهم في دينهم بإخلاص وجداني، وأما المنافقون في الدين لا يلبسون
لباس الإسلام إلا بقدر ما يعطيهم من الحقوق والمنافع الدنيوية، فهؤلاء لا يرجون
الحظوة والانتفاع عند الملك المتدين الصادق.
هؤلاء يفضلون حرمان وطنهم من الاستقلال واستذلال الأجانب له على
استقلاله تحت راية ملك أو أمير مسلم صادق لا يعرف الدهان والنفاق، وقد قال من
عبر عن عقيدتهم من إخوانهم المصريين: إننا لولا تغلب الشعور الديني على
السواد الأعظم من أهل بلادنا لاسترحنا من هذا النزاع والكفاح مع الإنكليز برضانا
بسيادتهم علينا، وكنا نكون حينئذ من أسعد الناس وأَهْنَئِهِمْ معيشة.
بعد هذا أقول: إن كل ذكي منصف عارف بتربية الأمير فيصل السعودي
يعلم أنه لا يُخْشَى منه أن يخون البلاد أو يفرط بحق من حقوقها أو يكون آلة بيد
الأجنبي ليضمن له منصبه فيها - فدينه يمنعه وتربيته تمنعه، وشرف أبيه ومنبته
يمنعه من مثل هذه الخيانة، فهو لم يترب على الإسراف فى حب الاستعلاء والتحكم،
ولا في الشهوات ليفضلها على مصلحة البلاد، على أنه مع هذا يعلم أنه إذا
اضطره مقاومة الأجانب إلى ترك هذا الملك المقيد باتباع أهوائهم فإنه يعيش في
مملكة أبيه عيشة أفضل وآثر عنده من هذه العيشة الدنيئة الذليلة.
قرأنا في بعض الجرائد ما يراه المرشحون له من الفوائد فلا حاجة إلى ذكرها،
ولكننا نذكرهم بفائدة منها قد غفلوا عنها وكان ينبغي أن تكون أول ما يخطر بالبال،
وهي أنه لا يرجى أن يتولى أمر البلاد السورية أحد غيره يقدر على حفظ الأمن
في بادية البلاد الواسعة ويزيل منها غوائل الغزو بين الأعراب بمنعه وإقامة العدل
بينهم ثم ينقلهم من البداوة إلى الحضارة بالتدريج، وقد رأى ما فعل والده في هذه
السبيل، وفي ذلك من الفوائد الاقتصادية وغيرها ما لا يخفى.
ولو كان نصبه مرجوًّا عندنا لشرحنا فوائده بالتفصيل خدمة للبلاد لا له كما
يتوهم من لا شعور لهم بلذة خدمة الأمة والملة وشعور الإخلاص لله تعالى فيها وفي
غيرها، فإن هاتين اللذتين الروحيتين العقليتين أعظم عند أهلهما من جميع اللذات
البدنية والنفسية كالوظائف وجمع الأموال (ومن ذاق عرف) .
إن أتيح للبلاد ملك كفيصل السعودي كانت الملكية خيرًا لها من الجمهورية،
وإن كان لا يتاح لها إلا بعض المفتونين بعظمة السلطة وشهواتها، فالجمهورية أقل
شرًّا؛ لأنه يصدق عليها المثل (نحس متغير خير من نحس مستمر) .
وقد اقترح الكاتب الحر اللوذعي أمين الريحاني على الجمعية التأسيسية أن
تكون حكومتها جمهورية لا دينية، وأن تختار لرياستها فارس بك الخوري من كبار
الوطنيين المسيحيين لتثبت الأكثرية الإسلامية فيها لمن يتهمهم بالتعصب وهضم
حقوق الأقليات براءتها من هذه التهمة، وقد كان هذا الاقتراح غريبًا عند كل
الطوائف مع اتفاق الجميع على أهلية فارس بك لمثل هذه الرياسة؛ ولكن انتخابه
لمثل هذا الغرض يتضمن الاعتراف الرسمي من الجمعية بأن الذين يتهمون
المسلمين هذه التهمة يعتقدون صحتها، وأن المسلمين في حاجة إلى إقامة (شهود
نفي) يدفعونها بها، وإن الشاهد العدل على هذا هو ترك الأمة ما عليه جميع الأمم
من حق الأكثرية الساحقة وإعطاؤه لأقلية إن كانت ضعيفة في عددها وثروتها فهي
قوية بعطف أوربة كلها عليها، فإن النصارى في سورية الحاضرة التى ألفت
الجمعية التأسيسية لوضع حكومتها لا يبلغون 10 في المائة بل قيل: إنهم 5 أو 6
في المائة، وعقلاء المسلمين من أعضاء الجمعية التأسيسية وغيرهم يعلمون أن
الذين يتهمونهم بالتعصب وهضم حقوق غيرهم لا يعتقدون صحة هذه التهمة،
وإنما يحاربونهم بها حتى يضطروهم إلى ترك جميع حقوقهم الملية، ومن أهمها هذا
الحق الثابت في قوانين جميع الأمم، وقد ثبتت براءتهم من هذه التهمة في عهد
استقلالهم القصير فلم يشك أحد من النصارى منهم ما كان يشكو المسلمون ولا
يزالون يشكون من حكومة لبنان.
وقد رد على الريحاني كاتب مسيحي من وجوه أقواها قوله: إذا كان الغرض
ما ذكرت فلماذا قيدته بالأقلية المسيحية وبفارس بك الخوري ولم تتركه على إطلاقه؟
وتقول: أو يذكر فارس بك الخوري من قبيل المثل للاستحقاق؟
وقد نسينا في أول المقال أن نذكر ما نقلته الصحف من ترشيح فرنسة لرجل
من أسرة سلطان المغرب الأقصى لما رأته من طاعتهم لها وكونهم لا علم لهم ولا
إرادة غير ما تريد منهم فذكرناه هنا تتمة للفائدة، ولا يرضى بذلك من أهل البلاد
أحد من الوطنيين المستقلي الفكر كما هو ظاهر بالبداهة.
نعم إن الجمعية التأسيسية لم تقل شيئًا، وإن ما ظهر في جميع أعمالها من
الروية والأناة مبشر بالخير، ونسأل الله تعالى أن يؤيد اجتهادها بالتوفيق والنجاح.
__________(29/229)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لجنة يوبيل الرافعي
الأعضاء بحسب حروف الهجاء
الشيخ محمد أفندي الجسر رئيس ... ... الشيخ كاظم أفندي الميقاتي
موسى أفندي نحاس أمين الصندوق ... لطف الله أفندي خلاط
سابا زريق سكرتير ... ... ... ... مصطفى عادل أفندي الهندي
الشيخ إسماعيل أفندي حافظ ... ... الدكتور ميشال أفندي رحمه
جورجي أفندي يني ... ... ... ... نديم أفندي جسر
الدكتور حسن أفندي رعد ... ... ... هاشم أفندي ذوق
الدكتور رشاد أفندي حجه ... ... ... يعقوب أفندي صراف
الشيخ سامي أفندي صادق ... ... ... يوسف أفندي إسكندر نصر
عبد الحميد أفندي كرامي
اليوبيل الذهبي للشاعر الكبير
عبد الحميد بك الرافعي
درجت الأمم الراقية على تكريم أعلامها النوابغ مظهرة بتكريمها هذا شعورها
بالمجهودات الصادقة التى بذلوها في سبيل نشر أريج نبوغهم والخدم الجلى التى
قدموها لأوطانهم، ومستنهضة للهمم في الوقت نفسه لاقتفاء آثارهم والسير على
مناهجهم، ولما كان حضرة الشاعر الكبير عبد الحميد بك الرافعي ممن رفعوا لواء
الشعر عاليًا في هذه البلاد، وقد مر عليه خمسون عامًا، وهو يبعث للعالم العربي
من شعره الدرر الغوالي فقد رأت طرابلس أن تقدم طاقة من زهر تقديرها لحضرته
اعترافًا بعبقريته الشعرية الممتازة فتألفت لجنة مركزية لتحقيق هذا الغاية، وضرب
الثامن عشر من شهر تشرين الثاني المقبل عام 1928 موعدًا لإقامة يوبيل ذهبي
لحضرته.
فاللجنة تدعو أهل الأدب والفضل في كل قطر ناطق بالضاد إلى مشاركتها في
مشروعها إنهاضًا لكرامة الأدب العربي وتشجيعًا لرجاله على متابعة العمل في سبيل
رفع لوائه، وذلك بتأسيس لجنة في حاضرتكم ومؤازرة المشروع من الوجهتين
المادية والأدبية، أما المؤازرة المادية فمهما قلت فاللجنة تسجل لمرسليها فضلاً،
فالعبرة للعاطفة في مثل هذا التبرع لا للمال، وهذه التقدمات المالية ترسل باسم
أمين صندوق اللجنة لتحوَّل يومًا ما إلى تقدمة واحدة تذكارية تليق بعواطف
المتبرعين.
وأما التقدمة الأدبية نثرًا كانت أم شعرًا فترسل باسم سكرتير اللجنة فتقبلها
اللجنة بملء الارتياح فاتحة لها صدر كتاب اليوبيل الذي سيصدر مع ذكر التقدمات
المادية والأدبية وما أنشد في الحفلة.
وسيظل باب المراسلات مفتوحًا حتى الخامس عشر من تشرين الأول سنة
1928 لا برحتم أنصارًا للأدب العربي الصحيح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير اللجنة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سابا زريق
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/238)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(الكويت)
مجلة دينية تاريخية أدبية شهرية صدر الجزء الأول من هذه المجلة في مدينة
الكويت لمحررها الأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز الرشيد المعروف من خيرة أدباء
تلك البلاد العربية العزيزة، فألفيناه وقد تناول المواضيع الإصلاحية الدينية بعناية
تنم عن مشربه الحسن في الإصلاح الديني كما أنه ألم برد الشبهات وبحث بحثًا
طريفًا في الآداب والأخلاق وعني بما يسمونه القديم والجديد، وكذلك أفرد بابًا
خاصًّا في الكويت للبحث التاريخي فبدأ الكلام فيه عن نجد وما جاورها لأهمية
الدور الذي لعبته تلك الأقطار في هذا الأيام، وهناك قِطَع مختارة من الشعر العربي
والحِكَم العربية، والمجلة مطبوعة على ورق جيد ومطبوعة طبعًا حسنًا وقيمة
اشتراكها في الكويت تسعة روبيات وفي خارجها 12روبية فنرجو (للكويت) تقدمًا
مضطردًا ورواجًا يليق بهمة وإخلاص منشئها الفاضل.
***
(كتاب الإبهاج في شرح المنهاج)
للشيخ تقي الدين السبكي ومعه نهاية السول في شرح منهاج الأصول، تأليف
الشيخ الإمام جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي على متن منهاج الأصول
تأليف القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، والكتاب ثلاثة أجزاء قام
بطبعه محمود أفندي صبيح صاحب المكتبة المحمودية بميدان الأزهر على ورق
جيد في أكثر من 700 صفحة، وهو من الكتب العظيمة المُعَوَّل عليها في علم
أصول الفقه، وهو مقرر على طلبة العلم بالجامع الأزهر الشريف والمعاهد الدينية
وثمنه خمسون قرش صاغ خلاف أجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار وجميع
المكاتب الشهيرة في كل الجهات.
***
(بلوغ المرام من أحكام ذوي الأرحام)
ويليه القول الصائب في تقديم ولد الغاصب تأليف الأستاذ العلامة الشيخ محمد
رحيم من علماء طرابلس الشام وهو كتاب ألم بموضوعه من جميع الوجوه فجاء
وافيًا بالغرض المطلوب منه، وقد قرَّظه رهط من كبار علماء مصر والشام، ثمنه
أربعة قروش مصرية ويباع في مكتبة المنار.
***
(مهاتما غاندي)
وضع العالم الإفرنسي الشهير روس روللان كتابه هذا باللغة الفرنسية فأقبل
عليه الجمهور إقبالاً فائقًا ونقل الكتاب إلى عدة لغات، وقد رأى الأستاذ السيد عمر
فاخوري الأديب البيروتي أن يقدم للأمة العربية هذا المؤلف الجميل فترجمه إلى لغة
الضاد، وقدمته مجلة الكشاف التى تصدر في بيروت هدية لقرائها، وقد وصف
المؤلف غاندي ومبادئه وصفًا شائقًا يستحق الإعجاب، والكتاب يطلب من مؤلفه
الفاضل في بيروت ومن مكاتبها الشهيرة.
***
(سرح الأعين)
كتاب في الأخلاق والعادات لمؤلفه الفاضل الأستاذ علي فؤاد المنوفي مفتش
التعليم الأولي بمجلس مديرية الدقهلية، وهو بحث أخلاقي انتقادي طبع مشكولاً
على ورق جيد ويطلب من المكاتب الشهيرة.
***
(الوهابيون والحجاز أو نجد وحجاز)
نقل الأستاذ العلامة مولانا عبد الرحيم ناظم مكتبة العلوم المشرقية بلاهور
رسالتنا (الوهابيون والحجاز) إلى اللغة الأوردية الهندية، ونشرته مكتبة الهلال
الشهيرة بلاهور، وهو يطلب من مديرها السيد عبد العزيز المحترم.
__________(29/239)
المحرم - 1347هـ
يوليو - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
ترجمة محمد علي الهندي للقرآن
س16من صاحب الإمضاء في سمبس برنيو (جاوه)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة مولاي الأستاذ العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الأغر نفعني الله والمسلمين بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فالمرجو من فضلكم وشفقتكم
على الأمة الإسلامية الجواب عن هذا السؤال وهو: هل يجوز العمل بتفسير مولاي
محمد علي الهندي الذي فسَّر به القرآن باللغة الإنكليزية أم لا؟ وقد ترجمه باللغة
الملاوية الحاج عثمان جوكرو أمينوتو (IJokroaminoto) وقد صار النزاع
بين الجاويين في أمر هذا التفسير فأكثرهم اعترضوا عليه، ولكن قال المترجم: إنه
لم ير أحدًا بيَّن خطأ هذا التفسير، ولهذا أرجو أن تبدوا رأيكم فيه، نعم قد علمت
أن مفتي مصر وبيروت لم يأذنا بإدخال هذا التفسير الإنكليزي فيهما، ولكن عدم
إذن المفتيين في ذلك لم يكن كافيًا لإقناع الناس بعدم جواز العمل به، هذا وتفضلوا
بقبول شكري وشكر الأمة سلفًا على جوابكم الشافي المنتظر، ودمتم سالمين وملجأ
للمسترشدين.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) الظاهر أنكم تريدون من العمل بهذا التفسير الاعتماد على ما بيَّن به
معاني التنزيل من أحكام العبادات والمعاملات أو ما هو أعم من ذلك كالاعتماد عليه
في العقائد الدينية، ولا يمكن أن يفتي بهذا إلا من قرأ هذا التفسير أو الترجمة
التفسيرية كلها ورأى أن صاحبها لم يخرج فيها عن شيء من القطعيات التى أجمع
عليها المسلمون أو جرى عليها جمهور السلف الصالح ولم يشذ عن مدلول الألفاظ
العربية فيما ليس بقطعي، والمشهور أن صاحبه محمد علي هذا من القاديانية وأنه
حرَّف بعض الآيات المتعلقة بالمسيح لأجل الاستدلال بها على كون ميرزا غلام
أحمد القادياني هو المسيح المنتظر، هذا هو سبب منع شيخ الأزهر ومفتي بيروت
لإدخال المصحف الشريف المطبوعة معه هذه الترجمة الإنكليزية إلى مصر
وسورية لئلا يضل المسلمون بهذا التحريف، وقد ذكرت هذا في الجزء التاسع
من تفسير المنار، والطائفة القاديانية مارقة من الإسلام تدعي الوحي لمسيحها
الدجال وخلفائه، ولهم في تحريف القرآن مفاسد لم يسبقهم إليها دعاة الباطنية من
زنادقة الفرس وغيرهم، ومنها أنهم يزعمون أن سورة الفاتحة تدل على استمرار
الوحي الإلهي إلى آخر الزمان، وقد رددنا على دجالهم في حياته وبيَّنا ضلالهم بعد
موته مرارًا في مجلدات المنار المتعددة.
وعندي أنه لا ينبغي للمسلمين أن يعتمدوا على هذا الترجمة ولا غيرها في
فهم القرآن والعمل به، وإنما ينتفع بهذه التراجم في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام
ممن لا يعرفون العربية ويعرفون لغة الترجمة، وراجعوا كتابنا (ترجمة القرآن)
في هذا الموضوع فهو يغني عن الإطالة هنا في هذه المسألة.
***
من استباح التزوج بأكثر من أربع
(س17 -20) ومنه أيضًا:
مولاي الأستاذ السيد الأجل فخر الأنام، نفع الله تعالى بوجوده الإسلام.
أرجو من فضلكم الجواب عن هذه الأسئلة وهي:
هل قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) نص على عدم جواز الزيادة على أربع زوجات أم لا؟
وهل يجوز لأحد أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة تقليدًا لمن قال بتسع أو
ثماني عشرة امرأة أم لا؟ وما حكم الأولاد الذين هم من النساء الزوائد مع حديث
غيلان، الذي صحَّحه الحاكم وابن حبان، وهو (أمسك أربعًا وفارق سائرهن)
وإذا فعل ذلك أحد من الكبراء (الأمراء والسلاطين) أو غيرهم فهل يجب على
العلماء إنكار فعله عليه بالنصيحة له أم لا؟
هذا والمرجو منكم الجواب، ولكم مني الشكر ومن الله الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) الآية الكريمة نص على جواز نكاح الأربع بشرطه وعدم الزيادة عليها،
ومن قال: إنها تدل على جواز 18 فهو محرف للنص بجهله باللغة أو بسوء
القصد، وتقليده ممنوع بإجماع أهل الحق من المسلمين؛ ومن فعل ذلك عن جهل
يُعْذَر به فأولاده مما زاد على الرابعة أولاد شبهة، ولا شك في أنه يجب على علماء
المسلمين الإنكار على مَن يخالف هذا الإجماع المستَمَد من نص القرآن المؤيد بالسنة
العملية والأحاديث الصحيحة أميرًا كان أو مأمورًا ملكًا كان أو سوقة فحكم الله واحد
لا يختلف باختلاف المظاهر وغيرها، وإنما يختلف أسلوب إنكار المنكر والأمر
بالمعروف، فيراعى فيه من الحكمة والموعظة الحسنة ما يُرْجَي به القبول.
***
إمامة الجمعة وما يشترط فيها الشافعية
(س20-22) وله أيضًا
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة العلامة الحجة، مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الإسلامي أدامه الله تعالى للأمة إمامًا مصلحًا آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرجو من فضلكم أن تتفضلوا
بالجواب عن الأسئلة التى تتعلق بصلاة الجمعة فلم تزل أفهام الناس تختلف فيها
باختلاف أقوال الفقهاء فيها ألا وهي:
(1) قال بعض العلماء: يُشْتَرط أن يكون إمام الجمعة ممن سمع الخطبة،
وإن زاد على الأربعين، فهل هذا القول صحيح أم لا؟
(2) قال في الجمل على شرح المنهج: (فرع) لو خطب شخص وأراد
أن يقدم شخصًا غيره ليصلي بالقوم فشرطه أن يكون ممن سمع الخطبة وينوي
الجمعة إن كان من الأربعين وإلا فلا؛ إذ تجوز صلاة الجمعة خلف مصلي الظهر
اهـ شوبري، فما معنى قوله: (وإلا فلا) فسِّروه لنا، وهل يشترط على الصبي
أو العبد أو المسافر أو مصلي الظهر أن يسمع الخطبة إذا كان إمامًا للجمعة أو لا؟
إذ هم قد قالوا: إن أحد الأربعة يصح أن يكون إمامًا للجمعة، فإني لم أفهم
اشتراطهم على الإمام أن يكون ممن سمع الخطبة، وإن زاد على الأربعين، فإنهم
ليسوا من أهل الجمعة، وإن سمعوا الخطبة فسماعهم لها لم يجعلهم معدودين من
العدد الذي تصح به الجمعة، ومع ذلك تصح إمامتهم، هذا والمرجو منكم الجواب
عن هذه الأسئلة، ولو كانت عند أهل العلم من البديهات، ولكن الجواب عن أمثالها
لا يخلو من حسن الإفادات.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(ج) الحق أن تشديد فقهاء الشافعية في أحكام صلاة الجمعة لا يطاق وهم
يستنبطون من كل استباط أحكامًا، وإن كان الأصل الأول لا يقوم عليه دليل
كاشتراط الأربعين الموصوفين بالصفات المعلومة في انعقاد الجمعة، وإذا كان هذا
غير صحيح؛ لأن الأدلة قامت على خلافه سقط كل ما بُنِيَ عليه مما سألتم عنه هنا
وغيره، والمتبادر من أحكام الإمامة عند جماهير العلماء أن من صحت إمامته لغير
الجمعة صحت إمامته لها، وكل من صلى الجمعة وجب عليه أن ينويها،
والشوبري ليس شارعًا لهذه الأمة ولا إمامًا مجتهدًا فيها، فمن كلَّف نفسه ما لم
يكلفه الله من التعبد بآرائه وآراء أمثاله فحسبه ما يرهق به نفسه في الدنيا، والذي
يجب على كل مسلم حضر الجمعة حيث تقام أن يصلي مع المسلمين كما يصلون،
فإن كان ممن لا تجب عليه كالمسافر ذهبت رخصة السفر بدخوله فيها، وكانت
صلاته كصلاة سائر المسلمين، ولا يجب عليهم أن يعدوا المصلين ويجعلوا لكل نوع
منهم صلاة غير صلاة الآخرين.
***
الماسونية
س 23 من صاحب الإمضاء بتونس:
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة الأستاذ رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، أقدم لجنابكم فائق
احتراماتي وأحييكم تحية مخلص بار مستنهلاً من مواردكم العذبة غيث التحقيق فيما
أرجو أن يخضل به روض تاموري وينعم عندي مرج التحقيق بإسفاركم لي عن
مُحَيَّا الطائفة الماسونية، ومهيع سلوكها، والغاية التى ترمي إليها ومركزيتها في
الكون ومحور دائرة أعمالها وكيفية ارتباط أعضائها وسلم تدرجهم في السعي،
والسبيل الذي يمكن الاطلاع به على كل حقائق هيئتها، وهل في ذلك ضيرعلى
الدين المحمدي، أو مساس بالعقائد حتى أكون ممن نهل ورد التحقيق، ولكم جزيل
الشكر ووافر الامتنان من المخلوقين، وعظيم الأجر من رب العالمين، حرَّره
راجي الإفادة.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد الصالح رمضان
(ج) ليس عندي من العلم ما أجيبكم به عن كل هذه الأسئلة وإنما أعلم
بالإجمال أن الجمعية الماسونية قد أسست لأجل هدم الحكومة الدينية البابوية أولاً
وبالذات، ثم هدم كل حكومة دينية وإقامة حكومة لا دينية مقامها، وحيثما تم لهم
ذلك فإن الجمعية تكون رابطة أدبية وصلة تعارف وتعاون بين أهلها المؤلفين من
أهل الملل المختلفة وأكثرهم لا يعرف منها الآن أكثر من ذلك.
والواضعون لأساسها الأول هم اليهود وغرضهم الأساسي منها إعادة ملك
سليمان الديني إلى شعبهم في القدس وإعادة هيكله إلى ما وضع له وهو المسجد
الأقصى، فأعظم كيد لهم وجد في الأرض أنهم هدموا الحكومات المسيحية الدينية
من أوربة غربيها فشرقيها والحكومة الإسلامية التركية والنطرنية الروسية، وبعد
هذا كله ظهرت جمعيتهم الصهيونية تستغل خدمتهم للإنكليز في الحرب بالتوسل بها
إلى إقامة حكومة دينية يهودية في فلسطين وإذا أردتم الاطلاع الواسع على شئون
هذه الجمعية فعليكم بما كتبه فيها أشد خصومها في العالم وهم الجزويت، وليسوا
لديكم بقليل.
***
قراءة العامي للكتب الدينية
(س 24-26) من صاحب الإمضاء ببيروت:
حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد
رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) الغراء، دام محفوظًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي راجيًا
التكرم بالإجابة عليه.
(1) هل يجوز للعامي الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا مطلقًا أن يقرأ كتب
تفسير القرآن الكريم والأحاديث القدسية والنبوية وشرحها وتفسيرها والتوحيد والفقه
وغير ذلك، وهو يلحن فيها أم لا؟
(2) هل يجوز للعامي أن يفتي غيره في المسائل الدينية الإسلامية التي
يعرفها أم لا؟
(3) أرجوكم أن تبينوا لنا أسماء وأصحاب الكتب الدينية الإسلامية
الصحيحة المعتمدة في العبادات والمعاملات وغير ذلك، فتفضلوا بالجواب، ولكم
الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر البعلبكي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت
أما الجواب عن السؤال الأول فهو أنه يجوز لمن يجهل النحو والصرف قراءة
الكتب الدينية ومطالعتها ولا يضره اللحن فيها، وإنما يشترط عدم اللحن في تلاوة
القرآن، ولكن ليس له أن يلقن الناس شيئًا من الأحاديث إلا إذا ضبطها على أحد
العلماء.
وأما الجواب عن الثاني فهو أنه لا يجوز للعامي أن يفتي غيره بما يفهمه من
المسائل الدينية باجتهاد منه، وأما إذا حفظ مسألة من العلماء وكان على ثقة من
حفظها وفهمها فله أن يذكرها لغيره، وليس لغيره أن يأخذ بما نقله له ويعتمد عليه
في العمل.
وأما الجواب عن الثالث فلا سبيل إليه؛ لأن الكتب الدينية وأصحابها كثيرون
منهم المشهورون المستغنون عن الذكر كمالك والشافعي والبخاري ومسلم، ولكل
أهل مذهب كتب مشهورة يسألون عن المعتمد منها.
وقد ذكرنا في مباحث تفسير قوله تعالى من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) أشهر الكتب التى يُعْتَمَدُ
عليها في الأمور الدينية من كتب السنة وشروحها وكتب الأحكام المؤيدة بدلائلها
فتطلب من جزء التفسير الثامن ومن كتاب (يسر الإسلام) الذي صدر حديثًا.
__________(29/268)
الكاتب: محمد بهجت البيطار
__________
تفسير المنار
تقريظه بمناسبة طبع الجزء الأول منه
للأستاذ العالم العامل، الأديب الخطيب الفاضل
الشيخ محمد بهجة البيطار الدمشقي
سليل بيت البيطار الشهير بالعلم، وهو الآن مدير المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) .
طلع علينا الجزء الأول من تفسير عالم الإسلام الشهير، الأستاذ السيد محمد
رشيد رضا منشىء المنار المنير، وفي النفس شوق إلى رؤيته يعجز اللسان عن
بيانه، وفي عصرنا الحاضر حاجة إلى ظهوره يقصر القلم عن وصفها، يعرف
قيمة المنار وتفسير المنار من عرف مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين
الكثيرة، التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب العظيم، وسلكت بهم في سبيل
النجاة منه طرائق قددًا.
نهض السيد الجليل بذلك العبء الثقيل، وأخذ يحل عقد المنازع الدينية
الدنيوية المتجددة المعقدة، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها،
مستهديًا بهدي السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشدًا بسنن الوجود التى
لا تبديل فيها ولا تحويل، وإليك أهم ما انفرد به المنار وتفسيره عن غيره، وجعله
وحيدًا في نوعه:
(1) تصديه لملاحدة العصر الداعين إلى استباحة الأبضاع، الساعين في
تقويض دعائم العمران، وقلب سنن الاجتماع، ونظام الاشتراع، وفي صحفهم
المنشرة المشتهرة، فهذا التفسير يكشف عن مخازيهم وإفكهم، ويرد سهامهم
الخاسرة في نحورهم.
(2) مقاومته لمهاجمة دعاة التثليث في كتبهم التي لا تنضب مادتها، ولا
يحصى عددها، وما أشد مزاعمهم في الإسلام ومفترياتهم عليه، وحسبك أنه لا تمر
به شبهة منهم إلا ويأتي عليها نقضًا وإبطالاً.
(3) فتاويه التى تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل
الدينية الاجتماعية حلاًّ يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة،
والمصلحة العامة الراجحة، وعالم الإسلام -أيده الله تعالى بروح منه- يذكرنا بما
يلقى إليه من الأسئلة المشكلة من أطراف المعمور، وبما يجيب به عنها بأسلوبه
الحكيم، الصادر عن علمه الراسخ بشيخ الإسلام ومفتي الأنام الإمام ابن تيمية
رضي الله عنه في ذلك كله، على أن مشاكل عصرنا أكثر، وطرق حلها أصعب.
(4) دعوته إلى التوحيد الخالص، ومذهب السلف الصالح، وتحذيره من
شوائب الشرك والبدع والشكوك، والافتتان بدعاء المخلوق، ومقارعته القبوريين
الذين يغرون الناس بالتهافت على أضرحة الصالحين، وإنزال حوائجهم وطلباتهم
بهم، وتذكيره علماء الأمة ونصحه لهم بأن يرشدوا العامة إلى كل ما هو أهدى
سبيلاً، وأقوى دليلاً، وأجمع لمصالحهم في الآخرة والأولى.
(5) أنه يثبت أن جميع ما استحدث في هذا العصر من السيارات
والطيارات والغواصات والكهرباء وسائر المخترعات التي تحفظ بها مصالح الأمة
وتحمي حوزتها وتدفع عوادي الشر عنها، وتجعلها قوية البأس، موفورة الكرامة،
هو مقتضى دين الإسلام، ومن تعاليم السنة والقرآن، وأن المسلمين الذين هداهم
الله تعالى في كتابه إلى علوم الأكوان، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض
تسخير تمكين هم أولى بالمسابقة بل السبق في هذا المضمار، (وها هي ذي
الحكومات الإسلامية لا سيما الحكومة السعودية الحجازية النجدية التى تعد أرسخها
تدينًا ومحافظة على هدي السلف قد أخذ جلالة ملكها المعظم يستعمل في مملكته من
وسائل النقل الحديثة ما قرب البعيد، وأدخل البلاد في طور جديد) ألا وإن عمل
خير أمة أخرجت للناس في خير القرون وأفضلها بشهادة الله ورسوله هو حجة
عملية مبطلة لمزاعم الفريق الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصرح غلاتهم
بمروقهم من الإسلام فرارًا من ضعف المسلمين واستكانتهم! كأن الإسلام هو الذي
أورثهم هذا الحرمان! {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) نعوذ بالله من الخذلان.
وهو أيضًا حجة على بعض المستذلين المستضعفين من المسلمين الذين مزقهم
الغرب بآلاته الفاتكة المدمرة التي يعادون تعلم صنعتها كل ممزق، ويقولون هي
كلها من علوم الإفرنج، وما هي كلها من علوم الإفرنج، ولكنها من علوم المسلمين
الأولين الذين عملوا بما هداهم إليه كتابهم، فأخذها الأفرنج عنهم، وزادوا فيها
وأضافوا إليها عجائب أخرى، كما عمل سلفنا فيما نقلوه من حضارة من تقدمهم،
وكما هو شأن المتأخر مع من تقدمه، فمن حاجَّنا في ذلك حاججناه بالكتاب والسنة،
وما كان عليه سلف هذه الأمة.
إذًا أليس من الخزي والعار أن يصرح بعض غلاة التفرنج بمفارقة الإسلام
افتتانًا بزخارف مدنية قد أوجب الله عليهم الأخذ بمنافعها من قبل، وعدَّ الإسلام
بعض أعمالها من الفروض، وبعضها من المندوب إلخ، وعمل بها السلف الصالح؟
كلا إنهم جمعوا بين محاسنها ورذائلها معللين ذلك بأن المدنية الغربية لا تتجزأ!
وأنهم من أجل ذلك تركوا دينهم وفضائله! فهل سمعت في الدنيا بعذر أبشع من هذا؟
أوليس من المؤسف المخجل أن يحرم آخرون ممن غزاهم الأجنبي في عقر دارهم
على أنفسهم، وعلى أمتهم ما أوجب الله عليهم وعلى أمتهم تعلمه والعمل به صونًا
لهم عن الوقوع فيما وقعوا فيه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ومنهم من
ينتظر ظهور المهدي ليقيم الإسلام وينجيهم مما هم فيه، وقد فاتهم أنه إذا ظهر كان
جهاده فيمن يعطل أحكام الشريعة.
(6) أنه يضيف إلى وجوه إعجاز القرآن، ومعجزات النبي صلى الله عليه
وسلم التى ذكرها سلفنا وجوهًا أخرى لم تكن معروفة من قبل، وانكشفت الآن لدى
المحققين الباحثين في خواص الكون، وتاريخ البشر وسنة الله في الخلق، وقد
حققها القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قبلهم بثلاثة عشر
قرنًا، ككون الرياح تلقح الأشجار والثمار، وكون السموات والأرض كانتا مادة
واحدة، وكجعل كل شىء حي من الماء، وجعل النبات مؤلفًا من زوجين اثنين،
والريح هي التى تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى (راجع تفصيلها من ص
210 ج 1) .
قال السيد المفسر: وفي هذا المعنى عدة آيات أعمها وأغربها وأعجبها قوله
تعالى: {سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ
يَعْلَمُونَ} (يس: 36) .
ومنه (أي مما حققه القرآن من المسائل العلمية) قوله تعالى: {وَالأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: 19) إن
هذه الآية هي أكبر مثار للعجب بهذا التعبير (موزون) فإن علماء الكون
الأخصائيين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أن العناصر التي يتكون منها النبات
مؤلفة من مقادير معينة في كل نوع من أنواعه بدقة غريبة لا يمكن ضبطها إلا بأدق
الموازين المقدرة من أعشار الغرام والملليغرام، وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في
كل نبات، أعني أن التعبير بلفظ (كل) المضاف إلى لفظ (شىء) الذي هو أعم
الألفاظ العربية الموصوف بالموزون هو تحقيق لمسائل علمية فنية لم يكن شيء
منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر، ولا يمكن بيان معناها بالتفصيل إلا
بتصنيف مستقل) (ج1 ص211 تفسير) .
(7) قال الأستاذ: ومما امتاز به هذا التفسير على جميع كتب التفسير:
بيان سنن الله في الكائنات، وسنته في سير الاجتماع البشري، كقوة الأمم وضعفها،
وسعادتها وشقائها، وعزها وذلها، وسيادتها لنفسها ولغيرها، وسيادة غيرها
عليها واستعبادها إياها، مع تطبيق ذلك على المسلمين في ماضيهم وحاضرهم،
المخرج لهم من ضعفهم الحاضر.
(8) بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته لمصالح البشر في كل زمان ومكان
وأن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة، وما فيها من فوضى الآداب
والاجتماع لا يزول إلا باتباع هدايته.
أقول: ما أشار إليه الأستاذ من الشقاء الحاضر وفوضى الآداب والاجتماع في
أمم الغرب المتمدينة، تقابله الطمأنينة على الأنفس والأعراض والأموال في جزيرة
العرب المتدينة، وأين هذا من ذاك؟ أين تأثير قوة الإسلام على الوجدان من تأثير
قوة السلاح على الأبدان؟
الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام، والقرآن هو الذي هدى من دانوا
به من الأمم إلى كل ما تمتعوا به من صنوف النعم، ولقد كثَّر الله به أهله بعد قلة،
وأعزهم بعد ذلة، وقوَّاهم بعد ضعف، وأظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة،
التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم
المعاصرة.
(9) بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مطالب
الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب
الأخلاق والعبادات، عنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدها الإسلام من
الفروض كفنون الرياضيات وسنن الكائنات، وإن شئت قلت علم الأرض
والسموات، عملا بقوله جل اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله عز قائلاً: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) وقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) فهذه الآيات الكريمة وأمثالها هي التي أرشدت سلفنا
الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر،
فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الإلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به
الأرض، وساسوا به العالم، سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة
والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة.
(10) تطبيق ما في القرآن من المواعظ والعبر على حال أهل هذا العصر،
والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين
وحاضرهم، وحجة القرآن عليهم، ووصف المَخْرَج لهم من جحر الضب الذي
سلكوه باتباع سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم.
وبعدُ فإن تفسير المنار للقرآن، الذي جرى فيه على طريقة شيخه الأستاذ
الإمام غني بشهرته عن الوصف والبيان، فهو كسائر ما يخطه قلم السيد في مجلته
وغيرها منذ أكثر من ثلاثين عامًا تحقيقًا وإبداعًا، ألا وإن خصائص هذا التفسير
لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها، وإذا كان شرف العلم تابعًا لشرف الموضوع وتفسيره
العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه بغيره، فنسأل الله تعالى أن
يبارك للمسلمين في وقته وعمره، وييسر له التفرغ إلى إتمامه برحمته وفضله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجة البيطار
__________(29/274)
الكاتب: سليمان أباظه الأزهري
__________
الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم
تقريظه واقتراح اختصاره أو تلخيصه مع تمني إتمامه
للكاتب البليغ، والعالم الأديب
الأستاذ الشيخ سليمان أباظة الأزهري السلفي
المدرس في بيت الله الحرام
قال من كتاب:
أحمد الله على ظهور هذه النعمة وآمل أن أرى في القريب العاجل تمام هذا
التفسير الجليل، على هذا النسق البديع، الذي يشبع عقل الباحث تغذية وريًّا،
ويجعله عن غيره غنيًّا، كما آمل أن أرى في الأقرب الأعجل خلاصة لهذا التفسير
تكون صالحة لقراءتها درسًا عامًّا تستفيد منه العامة قبل الخاصة، ليسهل على
المعلم تأدية مهمته في تعليم ذلك السواد الأعظم المنتسب إلى الإسلام - وما هو منه
في شيء - دين الله علمًا صحيحًا سهلاً، خلاصة على ذلك الطراز الجميل البديع
الذي كنا معشر تلاميذ السيد نسمعه منه في الدرس الذي تكرم علينا به في داره
بدرب الجماميز، ذلك الطراز السهل على السيد فقط، الممتنع على غيره.
ذلك الطراز البديع الذي كانت المعاني منه تسابق لفظ السيد إلى أذهاننا، فلم
نلبث أن رأينا أنفسنا ورآنا الناس علماء بين عشية وضحاها من الزمان، فكنا
نأسف على إخواننا أولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الكنز الثمين، وأضاعوا
عمرهم في القال والقيل.
ذلك الطراز البديع الذي صدر عن فطرة السيد العالية، واستعداده الشريف فقد
كنا نفاجئه مفاجأة، ولا نترك له فرصة يراجع فيها كلام غيره، أعني لا نمكنه مما
يسمى (الاستعداد للدرس) أو إعداد الدرس حتى لا يتسرب لتلك الفطرة المحمدية
الرشيدية العالية الشريفة شيء يؤثر فيها، فتضيع علينا الفائدة التي نبتغيها منها،
والضالة التي ننشدها، وهي الوصول إلى العلوم الصحيحة، والحقائق العالية من
مواردها الصافية، بذلك النوع الجديد من المدارسة، أو المحاضرة أو المحادثة.
ومن يقدر على تلك الخلاصة غير السيد؟ أليس رب البيت أدرَى بما فيه من
جهة؟ ومن جهة أخرى هل يخفى على السيد أن الله تعالى قد حباه دون غيره بنعمة
عَزَّ إن لم أقل عدم نظيرها، ولا سيما عند علماء هذا الزمان؟
تلك النعمة هي إيداع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، مع حكمة التشريع
التي تحبب النفس في العمل، وتقشع عنها ثياب العجز والكسل، عدا عن الإبداع
في الإتيان بالمعاني العالية، بألفاظ وأساليب ممتعة سهلة.
هل يتكرم السيد بهذه الخلاصة لتكون للتفسير بمثابة المجمل، ويكون هو لها
بمثابة المفصل؟ هل يتكرم السيد بهذا في القريب العاجل في حجم لا يزيد عن
مجلدين، كحجم حزأين من التفسير الكبير؟ حبذا لو عجل السيد بها، فإن (خير
البر عاجله) .
وحبذا لو كانت هذه الخلاصة مرتبة متمشية مع المعاني لا مع السور، أعني
ذلك الترتيب الذي قال لي عنه السيد منذ سنين، وهو أن تجمع الآيات في المعنى
الواحد مع ما يناسبها، ومن يستطيع أن يعمل هذا غير السيد؟ أعني: فرز آيات
القرآن الحكيم على هذا النظام الجميل؛ لئلا يحصل الخلل في الجمع لو تولاه غيره.
إني أرى ذلك سهلاً عليه جدًّا لو مسك المصحف في أوقات رياضته، ولا
سيما إذا كانت في الخلوات، حتى إذا تم كرَّ عليه شرحًا وتفسيرًا، أسأل الله أن
يمنع السيد من الشواغل الخاصة والعامة ليقوم بهذا العمل الخطير، الذي ليس له
نظير، إنه سميع مجيب.
__________(29/279)
الكاتب: محمد زهران
__________
الانتقاد على تفسير المنار
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الجليل:
السلام عليكم ورحمة الله (وبعد) فقد أدهشني جدًّا وأضاق صدري كثيرًا
جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد بكلمة حق في
الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق النفي كان قيد
(بغير حق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى لقتله القبطي، فإنه
بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ يكون قتلهم له بحق فلا يعاقبون عليه،
وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ.
وهذا مما يقتضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن
مصلح عظيم، وأستاذ محقق كبير مثل السيد، الحق واحد وهو ما طابق الواقع،
فالحق العرفي أي ما يعد في عرف بعض الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق،
وإلا فهو باطل، فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره
حقًّا يقضي بقتله؟ هذا مما لا يستجيزه أحد يؤمن بالأنبياء، ثم بعد فرض أن شريعة
الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته، كيف يتردد في كونها
عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) .
العبارة لا مساغ لها في نظرنا بل هي نص في أن قتل النبي قد يكون بحق
وجائزًا، واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا
بشرحه وافيًا في أول عدد يصدر من المنار؛ إزاحة لهذه الغمة من القراء، ولا
تؤخروا هذا البيان إلى عدد ثان؛ لأنه أهم من كل مهم، وقد رأيت من القراء من
أبرق وأرعد لهذه العبارة الغريبة، ولم أجد ما أهون به عليه أمرها مع شدة حرصي
على مقاومة أعداء المنار، وعكوفي على بث الدعوة إليه في كل فرصة، وإني
أنتهز هذه الفرصة لتقديم أوفى عبارات الاحترام والإجلال لشخصكم الكريم.
(استدراك) : الظاهر أن موسى عليه السلام لم يكن نبيًّا حين قتل القبطي فلو
قتل إذًا لم يصدق على قاتله أنه قتل نبيًّا أصلاً فالتمثيل به لمرادكم لا يصح.
كتب على عجل شديد وفي حال تكاد لا تسمح خط سطر واحد فمعذرة.
... ... ... ... ... ... ... ... 16 المحرم سنة 1347
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد زهران
... ... ... ... ... ... ... ... بالمحمودية بحيرة
(الجواب) : ما قلناه: ليس نصًّا ولا ظاهرًا في أن قتل النبي قد يكون حقًّا،
بل هو نص في أنه لا يكون حقًّا، ولو على سبيل العرف والاصطلاح، وإنما
أوتيتم من ضعف اللغة العربية، والعبرة في كل قول بمقصده الذي يقرره السياق،
فلا يصح أخذ مفرد أو جملة منه، واستنباط معنى منها ينافيه ما سيق الكلام لأجله
وإلا لأمكن أن يقال: إن تقييد القرآن ذم اليهود بكون قتلهم الأنبياء بغير حق يدل
بمفهومه على أن قتلهم قد يكون بحق في نفس الأمر، ولكن الذي وقع منهم وذموا
عليه كان قتلاً بغير حق، وهل يقول هذا أحد يفهم هذه اللغة بناء على أن مقدم القيد
كثيرًا ما يكون مقصودًا، وإلا كان القيد لغوًا.
وهذا نص عبارتنا: وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الحَقِّ} (الأعراف: 33) بيان
للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه، وإلا فإن قتل النبيين لا يكون
بحق مطلقًا كما يقول المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم
الشىء ومدحه تدور مع الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف، وإذا قلنا:
إن كلمة (حق) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي
تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري، وإن لم يكن
متعمدًا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه يكون قتله حقًّا
في عرفهم لا يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة، واليهود لم
يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقةً ولا عرفًا اهـ.
هذه الجملة الأخيرة هي النتيجة المقصودة من السياق كله وهو أن مقتضى
بلاغة القرآن في التعريف والتنكير أن تنكير كلمة حق هنا تدل على أن أولئك
اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين لم يكن لهم أدنى شبهة من الحق على قتلهم حتى ما
قد يسميه بعض الناس حقًّا في عرف يصطلحون عليه، وإن لم يكن حقًّا في الواقع
ونفس الأمر، هذا وقد صرَّحنا قبل ذلك بما قاله المفسرون كافة من أن قتل النبيين
لا يكون بحق مطلقًا.
فإذا كان هذا هو المقصود من السياق كله، فكيف فهمتم من تصوير ما يُعَدَّ
حقًّا عرفيًّا أنه نص في أن قتل الأنبياء قد يكون حقًّا؟ وهل هذا إلا قلب للموضوع
وإبطال للنص الصريح المقصود بالذات من العبارة مع التصريح به قبلها؟
على أن تمثيلنا لمسألة القتل والعقاب عليه بمقتضى شريعة عرفية بقتل
(موسى) للمصري لو عاقبوه عليه بالقتل بحسب شريعتهم لا يدل أيضًا على ما
فهمتم من تجويز كون قتل الأنبياء يكون بحق، فإن التمثيل ليس فيه ذكر الأنبياء
وموسى عليه السلام لم يكن نبيًّا عندما قتل المصري، وهو عَلَم شخص مفهومه
جزئي، والنبي اسم جنس ومفهومه كلي، فأي منطق أباح لكم أن تجعلوا القضية
الجزئية الشخصية قضية كلية؟
ومن العجيب قولكم في ذيل الانتقاد وقد تذكرتم أن موسى لم يكن نبيًّا: إن
التمثيل به لمرادنا لا يصح! إنه ليس لنا مراد من التمثيل إلا تصوير ما يسمى حقًّا
عرفيًّا، وأنه لم يكن مما يمكن أن يستند إليه قتلة الأنبياء من اليهود فصح أنه لم
يكن لهم أدنى عذر أو شبهة، هذا مرادنا لا مراد لنا غيره، ولكن حكمتم علينا
بسوء الفهم لا القصد، إن مرادنا التمثيل لقتل الأنبياء وهو ما ينافيه سابق الكلام
ولاحقه.
هذا وإن الواقع أن موسى عليه السلام قتل رجلاً مصريًّا بغير حق، ولكن
كان ذلك قبل نبوته ورسالته، وقد سمى هو ذلك ذنبًا بقوله في خطاب ربه: {وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (الشعراء: 14) واعترف لفرعون بأنه فعل ذلك
وهو من الضالين، وأن الله مَنَّ عليه بعد ذلك وجعله من المرسلين، كما ترى في
أول سورة الشعراء، وكان أول ما أوحى الله تعالى إليه أن ذكَّره فيما ذكره به من
ماضيه أنه قتل نفسًا وأنه تعالى نجَّاه من الغم وفَتَنَه بعد ذلك فُتُونًا، أي محَّصَه
وطهَّره ثم جعله رسولاً كما ترى في أوائل سورة طه.
والظاهر من خوفه أن يقتلوه أنه كان من شريعتهم قتل القاتل وإن كان قتله
بوكز اليد كما فعل عليه السلام، وفي التوراة يقتل المرء بذنوب دون ذلك منها أنَّ
مَن سبَّ أباه أو أمه يقتل، فلو ظفرت حكومة فرعون به قبل أن يفر وقتلته ألا يعد
قتلها إياه حقًّا في شريعتها؟ وهل تسميته حقًّا في عرفها يدل على أن قتل الأنبياء
عليهم السلام يكون حقًّا مطلقًا أو مقيدًا؟
سبحان الله! إن القاتل المقتول في واقعة الحال غير نبي، وهب أنه نبي،
ولم يقتل لأجل نبوته، فهل يصح الاستدلال بقتله على أن الشريعة التى حكم بها
عليه تبيح قتل الأنبياء - والتعبير بقتل الأنبياء يفيد أن نبوتهم هي السبب المبيح
للقتل؛ لأن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بالعلة كما قالوه في قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (النور: 2) الآية، وإذا كان الاستدلال على كون
الشريعة تبيح ذلك غير صحيح أفلا يكون من حكى الواقعة أحق بأن لا يعد مبيحًا
لذلك؟
وجملة القول أننا قد صرحنا في تفسير الآية أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير
حق كما يقول المفسرون كافة، وكما قلنا نحن أيضا في تفسير آية البقرة {وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) وفي غيرها، وأننا قد زدنا على هذا بأن
استنبطنا من تنكير (حق) في سياق النفي بأنه ليس لقاتليهم حق ما ولا شبهة حق
بأن يكون حقًّا عرفيًّا لا حقيقيًّا مطابقًا للواقع، فكيف تقول بعد هذا: إن ما ذكرناه
في تصوير الحق العرفي يدل على أننا نجوز أن يكون قتل الأنبياء حقًّا وأنه نص
في ذلك؟
إن من مدهشات العجائب أن يخطر هذا في بال أحد يفهم اللغة العربية، ولو
كانت العبارة توهم هذا وهمًا يخطر في البال مع وجود ما ينافيه فيها لما عدمنا،
وقد مضى على نشر تفسير الآية في المنار وفي التفسير ربع قرن من ينتقد علينا
هذا الإيهام ويوجب علينا رفعه بنص صريح، وفي الناس من ينظرون إلى هفواتنا
بالمناظير المكبرة، ولكن وجد في أصدقائنا من فهم ما فهم، وهو من أهل العلم
واللغة، فنستغفر الله لنا وله.
كتبت هذا وأنا مصاب بالحمى ومنهي عن الكتابة وأسأل الله العافية.
__________(29/280)
الكاتب: مصطفى نور الدين
__________
قُرْب الله تعالى من عباده
من مصطفى نور الدين، إلى إمام المصلحين، وملجأ المسترشدين، السيد
محمد رشيد رضا متعه الله بالصحة والعافية ونفعنا بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد قرأت في الجزء الثاني من تفسير المنار
لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) هذه العبارة،
وهي في آخر سطر من الصفحة 178: وقال الأستاذ الإمام: يصح أن يكون من
قرب الوجود، فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة
فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء؛ إذ منه كل شيء إيجادًا وإمدادًا وإليه المصير،
وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية، فقد قال أحد العلماء في
قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) أي إذا بلغت روحه
الحلقوم: إن القرب بالعلم وكان أحد كبار الصوفية حاضرًا فقال: لو كان هذا هو
المراد لقال تعالى في تتمة الآية: (ولكن لا تعلمون) ولكنه لم ينف العلم عنهم،
وإنما قال: {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) وليس شأن العلم أن يبصر
فينفي عنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات اهـ بالمعنى.
لما قرأت هذه العبارة ووجدتها مصرحة بأن الله قريب بذاته من كل شيء من
مخلوقاته ومخالفة لما ذهب إليه السلف من أن الله مستو بذاته على عرشه بائن من
خلقه مع قربه منهم بعلمه عجبت لإقراركم بل استحسانكم لمضمونها، وإنما عجبت
لأني أعلم أنكم من أحرص الناس على اتباع السلف في هذه المسألة وهي كثيرة
ومستفيضة شهيرة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا
ما جاء من ذلك في كتب ابن تيمية وابن القيم، وكتاب العلو للذهبي. ومن تأمل
الآية التي في سورة الحديد تجلى له بأجلى بيان أن مذهب السلف في هذه المسألة
هو الصواب (وههنا ذكر المنتقد الآية وتكلم في تفسيرها وحديث: (اللهم أنت
الأول فليس قبلك شيء) وتفسيره ثم قال:
وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) على أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته فهو استدلال باطل؛ لأنه
مبني على معنًى مخالف لما عليه جمهور المفسرين، فإن بعضهم فسَّر القرب بقرب
الله من المحتضر بالعلم، وفسَّر تبصرون بمعنى الإبصار بالبصيرة وهذه عبارة
الجلال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) بالعلم {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) من البصيرة أي لا تعلمون ذلك اهـ.
وبعض المفسرين وهم الأكثر فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر،
وفسَّر تبصرون من الإبصار بالبصيرة، ومن ذلك تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على
أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته استدلال فاسد؛ لأنه لم يسلك قائل هذا القول أحد
التفسيرين بل لفق بينهما ففسد المعنى، ثم لا غرابة ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني
من حيث إسناد قرب الملائكة إلى الله فقد عهد له نظير في القرآن فقد قال تعالى:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) مع إسناد التوفي إلى الملائكة
في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) وفي
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: 11) وأمثال ذلك في القرآن
كثيرة لمن تأمل.
والخلاصة أن المقصود من كتابتي بهذا لفضيلتكم هو أني أرجو إفادتي بما
يزيل عجبي، ولكم مني الشكر، ومن الله جزيل الأجر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نور الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بدمياط
(المنار)
أقول: (أولاً) إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسره به الأستاذ الإمام رحمه
الله تعالى أقرب إلى مذهب السلف في علوه على خلقه مع مباينته لهم، وهو قوله:
إن نسبة الأمكنة وجميع ما فيها إليه واحدة، ففيها رد لقول من يقول: إن الله تعالى
في كل مكان من أهل الحلول الذين عني علماء السلف كل العناية بالرد عليهم بقوله:
إنه تعالى فوق عباده بائن من خلقه، وأما عبارة ذلك الصوفي فليست كعبارة
الأستاذ، فما ذكرناه من التقريب بينهما هنالك احتمال رجَّحه عندنا تحسين الظن
بقائله ولا يمنع منه إلا العلم بأنه حلولي، فإن منهم الحلوليين كما أن منهم المحدثين
الأثريين كشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري على ما في كتابه منازل
السائرين من عبارات منتقدة وكالشيخ عبد القادر الجيلاني رحمهما الله تعالى وهما
من مثبتي صفة العلو ومنكري تأويل الصفات، وستأتي تتمة لمعنى قرب الوجود
في آخر هذا الرد.
(وثانيًا) إن قول المنتقد بذهاب السلف إلى أن الله تعالى (مستو بذاته على
عرشه) خطأ وإن نقل ذلك عن بعض الأثريين من أهل القرن الثالث والرابع، وما
كل ما قاله عالم معدود من جماعة يُعَدُّ مذهبًا لهم، وإسناد الاستواء إلى الذات لم يرد
في كتاب الله ولا في حديث متواتر ولا آحادي صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولا نقل عن جماعة الصحابة ولا عن واحد منهم، ولا علماء
التابعين على أن العمدة على العقائد نصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة
القطعية الدلالة أو إجماع أهل الصدر الأول، ومن الخطأ الذي فتن به جميع
المنتمين إلى المذاهب حتى مذهب السلف الذي ليس مذهب شخص معين أن يأخذ
المقلدون له قول كل عالم منسوب إليه ويعدونه من أصول المذهب المسلمة أو
أحكامه المتبعة، ويعدون مخالفه مخالفًا للمذهب.
نقل الحافظ الذهبي في كتاب العلو عن ابن أبي زيد شيخ المالكية في عصره
أنه قال في رسالته المشهورة في مذهب مالك: وإنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته،
وأنه في كل مكان بعلمه اهـ , وقفَّى الحافظ على هذا بذكر من نقل عنهم مثل
هذا القول قبله وبعده باللفظ أو المعنى كقول بعض العلماء: (والله تعالى خالق كل
شيء بذاته ومدبر الخلائق بذاته بلا معين ولا مؤازر) مع أن هذا على ما فيه ليس
بمعنى ذاك، ثم قال الحافظ متأولاً له ولهم؛ لأنهم من طائفته الأثرية ومنتقدًا ما
نصه:
وإنما أراد ابن زيد وغيره التفرقة بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق
العرش فهو كما قال: ومعنا بالعلم وإنه على العرش كما أعلمنا حيث يقول:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقد تلفظ بالكلمة المذكورة (أي فوق
عرشه بذاته) جماعة من العلماء كما قدَّمناه، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من
حسن الإسلام.
إلى أن قال بعد ذكر تاريخ وفاته سنة 386: وقد نقموا عليه قوله بذاته فليته
تركها اهـ , وهذا وما قبله من الانتقاد الأدبي الصريح لهذه الكلمة غير المأثورة
أي المبتدعة التى جعلها أخونا المنتقد أصلاً من أصول مذهب السلف من الصحابة
فمن دونهم.
وأزيد على هذا أن قول ابن أبي زيد رحمه الله تعالى: (وإنه في كل مكان
بعلمه) منتقد أيضًا، وإن أراد به التعبير عن تأويل بعض أئمة الحديث كأحمد بن
حنبل لآيات المعية بحملها كلها على معية العلم، والرد على الحلوليين بما هو أشبه
بتأويل قولهم بما يصححه منه بإبطاله -ذلك بأن جملة (وهو في كل مكان) هي
عين ما يقولون والضمير فيها لذات الله عز وجل. فقوله بعده (بعلمه) لا ينافي
دلالة الجملة على كونه في كل مكان بذاته؛ لأن المتبادر أن الظرف فيها متعلق
بمحذوف تقديره متلبسًا أو متصفًا بعلمه- وهذا الوصف الواقع فضلة في الكلام لا
ينقض معنى ما هو العمدة فيه ولا يقيده بجعله بمعنى قول آخرين من علماء السلف:
وعلمه في كل مكان، فإن صفة الذات كالعلم لا توجد إلا حيث توجد الذات أي لا
توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنه، وإنما الذي يصح أن يقال: إنه تعالى
فوق عباده مُسْتَوٍ على العرش، ويعلم كل شيء من أمور خلقه كما قال تعالى: {ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} (الحديد: 4) إلخ.
(وثالثًا) قال المنتقد: إن الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ
وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) على قرب الذات باطل (لأنه مبني على
معنى مخالف لما عليه جمهور المفسرين) ونحن نقول بصرف النظر عن أصل
المسألة: إن هذا تعليل للبطلان لا يقبله أحد من أهل العلم؛ لأنه نص في أن كل ما
خالف ما عليه جمهور المفسرين باطل، وهذا باطل بالبداهة ولم يوجد عالم من
المفسرين ولا من غيرهم قال: إن قول الجمهور منهم أو من غيرهم قطعي
كنصوص الكتاب والسنة فيكون كل ما خالفه باطلاً.
ثم بيَّن أن للجمهور قولين أحدهما تفسير (تبصرون) بأنه من البصيرة أي
العلم، وذكر عبارة الجلال فيه، وثانيهما فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر،
وبأن تبصرون من الإبصار بالبصيرة، وعزا هذا القول للأكثر فيكون هو قول
الجمهور عنده، ونحن لا نعرف عن مفسري السلف رواية في ذلك، وإنما هو قول
مصنفي التفسير، وقد يقال: إن قوله تعالى قبل الآية: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل
عمران: 143) دليل على أن الإبصار المنفي هو إدراك البصر لا البصيرة وأن
البصيرة ليست مرادفة للعلم، وإنما تدل على العلم المؤيد بالدليل أو اليقين في
المعرفة أو ما فيه عظة واعتبار، وتفسير ضمير الذات من الله عز وجل وهو
(نحن) بالملائكة تأويل بعيد من اللفظ جدًّا، وهو عين التأويل الذي ينكره السلف
على المبتدعة.
ولكن المنتقد قرب هذا التأويل بقوله: إنه عهد له نظير في القرآن، وهو
قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) مع إسناد التوفي
إلى الملائكة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) وفي قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) قال: وأمثال ذلك في القرآن كثيرة لمن تأمل.
وهذا التأويل الذي ذكره لآية توفي الله للأنفس لا يجري على طريقة السلف
ولا الخلف فتوفي الله للأنفس غير محال عقلاً ولا شرعًا، فتأوله بجعل لفظ الجلالة
فيه بمعنى الملائكة! فالله تعالى هو الفاعل للتوفي، ولكل شىء من تدبير الكون،
وقد أسند التوفي إليه في آيات كثيرة لم يقل أحد من السلف ولا من الخلف فيما نعلم:
إنه أراد بها إسنادها إلى الملائكة، نعم إنه أسند التوفي أيضًا إلى ملائكته وإلى
رسله، أي من الملائكة في آيات أقل من الآيات التى أسنده فيها إلى ذاته خبرًا
ودعاء، وأسنده في آية أخرى إلى ملك واحد {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ} (السجدة: 11) والجامع بين هذه الآيات كلها أن المتوفي الحقيقي للأنفس
والأرواح هو الله تعالى، وأنه وكل بذلك ملكًا له أعوان من الملائكة يتولون تنفيذ
أمره تعالى، وذلك الملك هو الرئيس لهم كما ورد في التفسير المأثور، وذكرناه في
محله من تفسيرنا.
ولو تفكر أخونا قليلاً في هذا المسألة التى توهم أن ما قاله فيها ضروري لا
خلاف فيه، وتأمل بقية آية الزمر، ثم تذكر ما في معناها من الآيات لما تعجل
بكتابة ما كتبه ليخطئ به غيره في فهم كلمة من آية.
قال تعالى: {فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ
مُّسْمًّى} (الزمر: 42) فهل يتجرأ على القول بأن الملائكة هي التي تفعل ذلك؟
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) فهل يقول بجواز إسناد هذا إلى الملائكة، وإن كان بصفة
الحصر، ومع ما عطف عليه من العلم أم يفرق بين ضميري الفعلين فيجعل الأول
للملائكة والثاني لله؟
وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} (النحل: 70) فهل يفرق بين ضميري
الفعلين، فيجعل الأول لله والثاني المعطوف عليه للملائكة؟
وقد علمنا تعالى أن ندعوه بقولنا: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران:
193) وقوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126) فهل يجوز أن يكون
الخطاب في هذا الدعاء للملائكة؟
إنني أطلت في هذا وفيما قبله لأذكر أخي في الله المنتقد لأجل الاستزادة من
العلم بأن لا يتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح في تفسير
كلام الله بغير تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة.
إنه خطَّأ ذلك الصوفي وشيخنا في تفسير آية واحدة سلكا في تفسيرها مسلك
السلف من حيث الأخذ بالظاهر وعدم التأويل فإن الله تعالى أسند (أقرب) إلى
ضمير الذات (نحن) فمعناه أنه قريب بذاته، ووجهه على مذهب السلف أن يقال:
إنه قريب بذاته كما يليق به لا كقرب الأجسام بعضها من بعض، وهو قرب المسافة
التى تحدد بالذراع والباع معا كما يقولون: إنه استوى على العرش، وينزل إلى
سماء الدنيا، ويضحك، ويسمع، ويرى كما يليق به، لا كما هو المعهود من
المخلوقين، والمتأولون للآية إنما تأولوها كما تأولوا الاستواء على العرش والنزول
إلى سماء الدنيا، وغير ذلك من الصفات والأفعال؛ لزعمهم أن إسنادها إلى الذات
يوهم الحلول والتحيز كما قالوا في سائر الصفات.
وهذا سبب تأويل علماء السلف لآيات المعية كلها حتى قالوا: إن الإمام أحمد
لم يتأول غيرها، وانتقد عليه ذلك بعض العلماء السلفيين، وإنه لم يكن في حاجة
إلى ذلك كما تراه في رسالة العلامة الشوكاني، وإنما كان سبب هذا التأويل منه
ومن غيره وجود طائفة من المبتدعة تقول: إن الله تعالى حالٌّ في العالم كحلول
السمن في اللبن، والروح في البدن، وطائفة تقول: إنه هو عين العالم، وهذا
نقضٌ لما كان عليه السلف من الإيمان بأنه تعالى فوق جميع خلقه بائن منهم، ولكنه
على كل حال تأويل يحمل اللفظ على غير ظاهره ليوافق العقيدة، وهذا ما جرى
عليه المتكلمون كافة في تأويلهم، ولا سيما الأشعرية الذين يخطئهم السلفيون أهل
الأثر.
وأنا حملت كلام الأستاذ الإمام على مذهب السلف؛ لأنني أعلم أنه كان سلفي
العقيدة كما صرَّح به قولا وكتابة، على أنني ذكرت في التفسير أنه كان يسبق إلى
فهمه في بعض الصفات ما جرى عليه مفسرو الأشعرية من التأويل لما كان من
توغله في علم الكلام , وليس حملي هذا بتكلف بل هو مراده قطعًا، وحملت عليه
كلام ذلك الصوفي في تفسير آية (الواقعة) أيضًا؛ لأنه مع احتمال عبارته له لا
يصح أن يحمل على مذهب الحلول إلا إذا علم أن قائله كان حلوليًّا، وأنَّى لنا بذلك؟
وإذا أنت رجعت إلى ما ورد في سبب نزول الآية التى نحن بصدد الكلام
عليه رأيت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أين
ربنا، وفي رواية أن بعضهم سأله: (أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه) ؟
فنزلت الآية في ذلك.
ومن المعلوم بالضرورة أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يجهلون أن الله
تعالى يسمع كل دعاء ويعلم مراد كل داع، وإنما سألوا أيسمع عن قُرْب أم عن بُعْد؟
فأجابهم تعالى بأنه قريب وبيَّن لهم رسوله ذلك بأنه أقرب إلى أحدهم من عنق
راحلته، وأبلغ منه قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وأصح من تلك الروايات ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه
وسلم للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون
أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا) فقوله: (قريبًا) ليس من اللغو
ولا هو بمعنى عليم، وما أول الآية به الزمخشري مفسر المعتزلة أقرب إلى اللغة من
تأويل القرب بالعلم، وهو أنها تمثيل لحاله في سهولة إجابة من دعاه وسرعة إنجاحه
لحالة من سأله بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته، والغرض من التأويلين
نفي قرب المكان، فكيف نرده؛ لأنه تأويل أخرج به اللفظ عن حقيقته وجعله استعارة
تمثيلية؟ والاستعارات التمثيلية كثيرة في القرآن، وهي من أكبر آيات بلاغته، وقد
صرَّح الكرخي في تفسير القرب على مذهب السلف فقال: الحق أن القرب من
الصفات نُؤْمِن به ونُمِرُّهُ على ما جاء ولا نُأَوِّل ولا نُعَطِّل اهـ.
ومما ورد في القرب ولا يصح جعله بمعنى العلم قوله تعالى لخاتم رسله:
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ} (سبأ: 50) وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61) .
وخلاصة ما تقدم أن الأصل في مذهب السلف فيما وصف الله به نفسه ما
أسنده إلى ذاته من الأفعال أن نؤمن بها كما وردت ونفسرها بما تدل عليه عبارتها
العربية من غير تأويل ولا تعطيل مع مراعاة تنزيهه تعالى عما قد يوهمه اللفظ في
نفسه من تشبيه بخلقه، ومن فهم مع التمسك بهذه القاعدة من كلام الله تعالى في
بعض الآيات فهما يزداد به هو وغيره إيمانًا بالله وعلمًا كان ممن قال فيهم أمير
المؤمنين علي كرم الله وجهه لما سأله أبو جحيفة هل خصكم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بشيء من العلم فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يؤتيه الله
عبدًا في القرآن إلخ، فيراجع نصه في صحيح البخاري.
بعد هذا أختم هذا البحث بأن قرب الله من عباده لا يفهمه حق فهمه كمعيته إلا
بتذكر آيات آخرى كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا} (فاطر: 41) وقوله: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (البروج: 20) وقوله:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (الأنفال: 17) وقوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (المؤمنون: 88) إلخ وتذكر العقيدة الإسلامية المتفق عليها بدلالة أمثال هذه
الآيات، وما في معناها من الأحاديث، وهي أن الإيجاد والإمداد للعالم كله كليهما
بيد الله تعالى لا تستغني ذرة من الكون عنه تعالى طرفة عين، فمن كان هذا شأنه
كان قريبًا من كل شيء علمًا وقدرة وتدبيرًا وتصرفًا، ومنه إجابة الدعاء، والنصر
على الأعداء، وتقليب القلوب والأبصار إلخ، وتصرفه في كل ذلك كما قال:
{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 50) فكل هذا المعاني تدخل في باب
قربه من خلقه، وهي تتعلق بعدة من صفاته، فإذا هو أسند القرب إلى ذاته أمررناه
كما هو مع التنزيه من تأويل ينافي الإسناد إلى الذات، ولا تعطيل يجعله كاللغو بل
نعطي كل مقام من المعنى ما يليق به من علم وتصرف وغير ذلك، والله أعلم.
__________(29/284)
الكاتب: جميل الرافعي
__________
الأكثرية والأقلية
أو المسلمون والقبط
تعود اليوم هذه المسألة الخطيرة الشأن إلى الظهور مرة أخرى على صفحات
الجرائد اليومية وغير اليومية، بعد أن اتفق عقلاء الأمة في إبان الحركة القومية
عام 1919على دفنها في روايات النسيان واعتبار الخوض فيها لا يتفق مع مصلحة
الوطن في شيء، وناهيك بأن الدولة المحتلة ترى في إثارة هذه المسألة وأمثالها
ذرائع تتذرع بها للوصول إلى مآربها الاستعمارية في المسألة المصرية حتى إنها
وضعتها في القسم الثاني من التحفظات التى حملها تصريح 28 فبراير المشهور.
لكن رغبة العقلاء من أبناء الأمة لا تستطيع أن توقف الطغيان الاجتماعي
الذي برزت آثاره ماثلة في كل مرافق الحياة، وليس في مقدور أحد أن يقاوم
الطبيعة ولو إلى حين، من أجل ذلك عادت هذه المسألة فأصبحت حديث الناس
وموضع شكوى المتذمرين والمستائين.
نحن في مقدمة المعجبين بنشاط إخواننا الأقباط وتضامنهم بل تفانيهم في
الحرص على مصلحتهم الطائفية التى أصبحت خدمتها مدعاة الفخار لكثير منهم.
لكن هذا الإعجاب الذي نضمره لإخواننا القبط لا يصادف على الدوام ارتياح
جمهور إخواننا المسلمين الذين يشاهدون أن إخوانهم بفضل وسائل السعي والتكافل
قد قبضوا على نواحي الأعمال المهمة في دوائر الحكومة والشركات، وهي تكاد
تكون أهم مصادر العيش للمتعلمين والأميين.
ماذا نقول للشاب المسلم الذي يحمل أعلى الشهادات إذا قرع باب مجلس
النواب مثلا فرفض طلبه وهو يرى أن رؤساء فروع الأعمال سواء كانت كتابية أو
فنية أو غير ذلك جميعها في أيدي الأقباط ومعظمهم لا يتمتع بالشهادة التي يتمتع بها
هذا المسلم؟ لا جدال في أن هذا الذي رفض طلبه يقول: إن هذا التضامن لم يكن
لتحسين أحوال الطائفة القطبية فقط، بل لغمط حقوق المسلمين، وإذا عرفت أن
63 في المائة من عمال الترامواي الوطنيين أقباط، والباقي من المسلمين وبعض
الغرباء لقلت مع ذلك العامل الذي زاحمه قبطي بتوصية من فخري بك عبد النور
مثلا: إن هذا التضامن متجه كله لغمط حقوق الأكثرية.
نعم إن الحياة تزاحم ولا يفوز فيها إلا الجسور المزاحم وإلا حقت عليه سنة
تنازع البقاء، ولكن ما العمل إذا كانت الأكثرية في غفلة عن التضامن والأقلية
تتضامن للحياة فتنتزع حقوق الأكثرية؟ عند ذلك لا بد من التذمر والشكوى الذين
تراهما اليوم قد أوشك أن يرتفع الصوت الصاخب فيها، وتشق الوحدة التي جاهدنا
كثيرًا للحصول عليها فتكون النتيجة في مصلحة المحتل.
كان إخواننا الترك في عهد الدولة العثمانية المرحومة لا يسمحون لأبناء
العرب سواء كانوا سوريين أو عراقيين أو غيرهم أن يطالبوا بأدنى حق من حقوقهم
في الدولة بحجة أن هذه المطالبة باسم العرب معناها التفرقة بين الترك والعرب،
وفي هذا ما فيه من الدمار لقضية الوطن، فكان الترك يستغلون سكوت العرب،
ويعلمون أولادهم وأولاد العنصرين الأرمني واليهودي والأناضوليين أو الروملي
على حساب ميزانية المعارف العامة التي يدخل فيها إيراد البلاد العربية ويحرم أبناء
هذه البلاد من التعليم، ومن بث الشكوى من ذلك، وإلا نعتوا بأنهم رجعيون.
والظاهر أن الحالة في مصر آلت في هذا الأيام إلى ما آلت إليه حالة الترك
والعرب قديمًا، فالمسلمون يعلمون أن الغبن يحف بهم من الجهات الست، ولا
يستطيعون أن يتكلموا في أمر هذا الإشكال الاجتماعي الخطير الذي تناول العيش
مخافة أن يقال: إنهم يعملون على شق عصا الوحدة، ولكن التاريخ العثماني لا يزال
ماثلاً أمام الجميع، فإن صبر العرب فرغ في يوم من أيام سنة 1916 وقام العرب
في وجه الترك لا يطالبون بحقوقهم في الدولة، بل يطلبون الاستقلال عن العنصر
التركي وإجلاءه عن بلادهم؛ لأن ثورة البطن كما يقول الألمان أهم ثورة.
وإذا قسنا الأمور بأشباهها جاز لنا أن نقول: إن هذا التذمر الذي منشؤه
تضامن الأقلية على هضم حقوق الأكثرية التي استنامت بشكل لم يعهد له نظير في
التاريخ الحديث في الوقت الذي تسكت الأقلية كل من يتحدث في هذا الأمر،
وتصيح في وجهه إنها هي المظلومة المضطهدة لا بد وأن ينتهي بما لا يتفق مع
مصلحة الوطن عمومًا والأقلية خصوصًا، وقد شرع بعض الأفاضل يتكلمون في
هذا الموضوع بما توجبه المصلحة الوطنية، ثم انتقل كما قدمنا إلى الصحف
فتناولته بعضها بما يجب، وأخيرًا قرأنا في السياسة الأسبوعية منذ أسابيع مقالاً
رئيسيًّا لحضرة رئيس تحريرها الدكتور حسين هيكل بك تناول فيه هذا المسألة
الخطيرة من نواحيها المتعددة فوصف ألوانًا كثيرة من ألوانها، ولكنه لم يوفق إلى
وصف العلاج ولا أشار إلى طريقة المعالجة إلا إشارة سطحية لا تغني فتيلاً.
وقد بنى مقاله هذا على أمور كثيرة كان أظهرها نتيجة الامتحان النهائي
لمدرسة الطب الملكية في هذا العام، فقد تبين أن عدد الناجحين 83 طالبًا بينهم 30
مسلمًا، والباقي من الأقلية.
ولقد كانت هذا النسبة الهائلة كافية لأن تثير في الكاتب مواضع البحث الدقيق
فينبه أمته إلى الحالة الخطيرة التى سارت إليها الأكثرية بإهمال المسئولين من قادتها.
كذلك فعل الدكتور هيكل بعد أن بيَّن خطورة هذه النسبة في شهادات مدرسة
الطب، فذكر أن الأقليات تتضامن في جميع بلاد العالم ببواعث كثيرة أهمها
المحافظة على جامعتها كما هي الحالة في يهود الروسيا وبعض الأقليات الأخرى في
أوربا وأمريكا وأن هذا التضامن له في التاريخ أسوأ النتائج وأفعل الثورات؛ لأنه
ينتهي بالأقلية إلى احتكار الأموال والمراكز الرئيسية في الحكومات وضرب لذلك
أمثالاً عديدة، ولا سيما في أوربا وأمريكا، وأن الأكثرية تثور عندما تتنبه في وجه
الأقلية , ثم أبان أن الحالة هنا بدأت بالتذمر همسًا وارتفع هذا الهمس قليلاً وربما
صار صوتًا صاخبًا، وأن الوطنية تقتضي أن يتنبه الإنسان إلى الخطر قبل وقوعه،
وانتهى من مقاله بأن أهاب بالمسلمين أن يحذروا خطر هذا الحالة الهائلة، وأن
ينصرفوا بكل قواهم إلى العلم.
ولما قرأنا مقال الأستاذ هيكل بك أحببنا أن نقفي عليه ببيان العلاج الناجع لكنا
تريثنا قليلاً لنرى آراء الأقلية فيه، فلم يمض على نشر هذا المقال ثلاثة أيام حتى
رأينا الأقلية امتعضت منه وشرعت تحاربه ناسبة إلى ذات الكاتب الرغبة في إظهار
غيرته على الإسلام؛ ليكون مقبولاً في الانتخابات القادمة عند الأكثرية المسلمة،
وذهب آخرون منهم إلى أن الرجل يحاول التفريق بين العنصرين المسلمين والقبط،
وتناوله بعضهم بتهم كثيرة لا شأن لنا بها، وإنما الذي يعنينا أننا فهمنا أن الأقلية
لا تحب البحث في هذا الموضوع؛ لأن فيه تنبيهًا للأكثرية ليس من مصلحة الأقلية
البحث فيه.
ثم طلعت علينا جريدة المقطم الغراء بمقال مهم لرجل من رجالات الأقلية
قدمت المقطم لنشره مقدمة قالت فيها: إنها ترددت عدة أيام في نشره ثم نشرته.
وقد رأيناه لا يخرج عن المقالات التي نشرتها الأقلية بشيء يستحق الذكر
اللهم إلا إعادة النغمة القديمة التى عقد المؤتمر القبطي المعهود في أسيوط من أجلها
وهي أن الأقلية التى لم تتمتع إلى الآن بوظيفة مدير هي المضطهدة حقًّا، وأن القبط
هم أهل البلاد الحقيقيون فلا يقاسون باليهود في أوربا وأمريكا فجمع الأستاذ هيكل
هذه الآراء كلها ورد عليها ردًّا وجه أكثره إلى تبرئة نفسه مما نسب إليه من
الأغراض، وأنه لا يقصد إلا التنبيه إلى مسألة ليس الاستمرار فيها من مصلحة
الوطن، ثم كرَّر ما قاله أولاً من ضرورة أخذ الأكثرية بأسباب العلم وأن لا واسطة
تعصم الأكثرية من الخطر إلا العلم وحده.
تلك خلاصة ما كتبته السياسة الأسبوعية ومخالفوها في هذا الموضوع الخطير
والذي نعجب له أننا لم نقرأ كلمة من كتاب الأكثرية في أمر كهذا يهمها في الصميم
من شئونها الحيوية كأن الله تعالى كتب لهذه الأكثرية المسلمة أن تظل في غفلة عن
كل أمر يتعلق بجوهر حياتها.
لم تتقدم الأقلية في مصر وغير مصر بالتذمر، وإن انقلب همسًا ولا بالهمس
وإن تحول إلى صخب، ولا بالانتقاد مهما يكن مرًّا، وما كانت مقالات الكتاب
وحدها بعاملة عملاً جديدًا في المسائل الخطيرة، فالأقلية بلغت في مصر ما بلغته
بأسباب جليلة الشأن لا يمكن للأكثرية أن تنهض من مستواها الذي وصلت إليه إلا إذا
توسلت بما توسلت به الأقلية حذو النعل بالنعل.
انظر إلى شابين من عمر واحد وذكاء واحد وثروة واحدة وحي واحد دخلا
مدرسة واحدة، تجد أن القبطي منهما يتقدم على المسلم في العمل والجد والمثابرة
والصبر وما إلى ذلك من وسائل النجاح، والمسلم يتأخر عنه ثم تكون النتيجة كما
رأيت من نجاح 53 قبطيًّا و30 مسلمًا في مدرسة الطب، وعدد الأقباط لا يبلغ
المليون والمسلمون 14 مليونا أو يزيدون فما السر في هذا الأمر العجيب مع أن
الأقباط ليسوا أسمى ذكاء من المسلمين، بل الثابت أن المسلمين بالنسبة لاختلاطهم
بالعناصر الإسلامية التى جددت فيهم الدم المصري أكثر ذكاء، والبرهان على ذلك
ظهور كثير من النوابغ بين المسلمين وندرة النبوغ في الأقلية مع المحافظة على
النسبة؟ السر في جميع ذلك لم يكن من طينة الشاب المسلم ولا من فطرته السليمة
فقد يكون أذكى وأنبل من القبطي، ولكن السر كل السر في أن المسلم ليس وراءه
هيئة من الهيئات التى تتولى شئون الجماعات والأفراد ترشده وتوجه قواه إلى الحياة
القومية والملية كما هي الحال عند إخواننا الأقباط وغيرهم من الأقليات الشرقية غير
المسلمة في مصر.
في القطر المصري ألوف من الكنائس القبطية بجيشها الجرار من القساوسة،
وإلى جانب هؤلاء الجمعيات الملية الكثيرة وفوقها المجلس الملي في القاهرة يضم
بين أعضائه خيرة رجال الأقلية علمًا وهمة وإخلاصًا ويحيط بهؤلاء مئات المجلات
الدينية القبطية شهرية أو نصف شهرية.
كل هذا الهيئات الوطنية لا وظيفة لها إلا إرشاد العائلات والأفراد القبطية في
مصر إلى مصالحها الدينية والدنيوية، فإنك إذا وزعت هذه المجلات القبطية
والقساوسة على عدد أفراد الأقلية القبطية تجد أن الواحد منهم يتصل بإرشاد الكنيسة
مرة في الأسبوع ويزوره القسيس مرة أخرى، ويقرأ ثمرة أفكار الغيورين من كتاب
القبط وواعظيهم مرارًا، وكل هذا مرتبط بالمجلس الملي القبطي وإرشاداته وأعماله
المتواصلة لمصلحة الطائفة القبطية دون سواها.
ثم لا تظن أن ذلك على أهميته هو الذي خطا بالأقلية القبطية إلى هذه الغاية
التى وصلت إليها فأدهشت الجميع، بل إن هناك جيشًا عظيمًا من الجمعيات
التبشيرية الأمريكية والإنكليزية واللاتينية للبنين والبنات وهناك جمعيات شبان
المسيحيين وجمعيات إخوان الكتاب المقدس وجمعيات كثيرة أجنبية كلها تعمل فوق
عمل الجمعيات القبطية بجد ونشاط لترقية حال الأقلية المسيحية، وهي لا تتأخر أن
تمد أفراد هذه الأقليات بنفوذها السياسي عند السلطات العليا، فإن جمعيات
البروتستانت كانت توظف حتى الخاملين من إخواننا الأقباط في المراكز المهمة
بشرط تغيير المذهب من كاثوليك أو أرثوذكس إلى بروتستانت.
وهناك عوامل أخرى يضيق نطاق البحث عن استيعابها اجتمعت كلها في
مصلحة الناشئة القبطية وغيرها من الأقليات حتى حملت أفراد الأقلية على الشعور
القومي وبلذة الاستفادة من هذا التضامن، فلا عجب إذا رأيت بعضهم يسعى أن
يعين بالوظيفة قريبه أو صديقه من الأقلية قبل أن تخلو؛ لأنه نشأ على هذا، وأعد
له عدته، وأصبح من متممات حياته ومقومات ملته، ولو كنت مكانه لما فعلت غير
فعلته.
لكن مَن للناشئة الإسلامية في مصر وغير مصر؟ وأنَّى لها بقوة واحدة من
هذه القوى التي ألممنا ببعضها؟
ليس للفتى والفتاة المسلمة شيء من ذلك لا جمعيات ملية، ولا إرشادات دينية،
ولا مجلات إسلامية تقدر قدرها، فكيف يستطيعان مجاراة إخوانهم أفراد الأقلية
المسلحة بأحدث الأسلحة وهما أعزلان من كل سلاح، دع ما يحيط بهما من وسائل
الفساد والدمار؟
يقولون: إن جماعة الأقلية القبطية في الوفد استغلت جميع الحركات التى قام
بها حتى سيطرت على معظم شؤونه فبات لا يتحرك حركة جدية إلا متأثرة بنفوذ
الأقلية، وإن استغلالها هذا بدأ في عهد المرحوم سعد باشا نفسه على ما به من قوة
إرادة، ونحن لا يهمنا مبلغ ما في هذه الأقوال من الصحة، فإن سنة الطبيعة قضت
أن يستغل القوي الضعيف.
فليس العيب عيب القوي؛ لأنه استبد بل عيب الضعيف الذي ضعف حتى
استنام، فإذا لم تستغل الأقلية القبطية ضعف الأكثرية المسلمة استغلتها أية أقلية
أخرى، سنة الله في خلقه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
وإذا أردنا أن نحلل المسألة تحليلاً بسيطًا ونجاهر بالحقائق وندلل عليها وجب
أن نصرح بأن الأقلية مهما تقدمت وارتقت فلا يُعَد رقيها رقيًّا لمصر، بل لو أصبح
كل فرد من إخواننا القبط مثلاً عاليًا في العلم والثروة والجاه والرقي، وكانت
الأكثرية كما نشاهد اليوم لظلت مصر متأخرة؛ لأن الأقلية التي لا تتجاوز الواحد
بنسبة 14 لا يمكن أن يؤثر رقيها على رقي المجموع التأثير المطلوب، وهذه
النظرية نفسها كان أبناء العرب في السلطنة العثمانية يجبهون بها الترك في حين أن
الفرق بين الترك والعرب لا يعتبر شيئًا مذكورًا بالنسبة إلى الفرق بين نسبة
المسلمين والقبط، لذلك فإن عمل القبط لمصلحة الطائفة وحدها ليس من مصلحة
الوطن في شيء مهما تعددت مظاهره، وهذه الحقيقة التي يجب أن نجاهر بها
لإخواننا القبط؛ لأن السكوت عنها إما خيانة وطنية أو جبنًا تأباه مصلحة البلاد.
لكنك لا تستطيع أن تقول للأقلية: قفي مكانك حتى يسير بنا الزمن وتطورات
الأقدار إلى ما وصلت، ومن ثم نسير معًا، فإن العالم والأقدار نفسها تهزأ بك
وبكسلك وتواكلك وبرؤيتك العبر الماثلة وعدم اعتبارك بها، كما أنه ليس في طبيعة
الأقلية أن تستعد لتعطيل سيرها إلى الإمام لأجلك، فالواجب عليك أن تعمل مثلما
عملوا وإلا حقت عليك سنة الفناء وورثتك الأقلية ليس بالوظائف والأموال كما يقول
الدكتور هيكل بل بكل شيء تعتز به الأمم، إذن ليست الصيحة في وجه الطلاب أن
يتعلموا، بل الصيحة في وجه المسئولين من الأكثرية كي يعملوا لأبنائهم ومستقبل
الوطن كما عمل المسئولون من الأقلية لأبنائهم ومستقبل طائفتهم، ووسائل العمل
وإن كنا لا نملك منها كل ما تملك الأقلية كالجمعيات التبشيرية الأجنبية.
فلنعمل على الأقل عمل الهيئات المسيحية الوطنية، وإلى هذا وأكثر منه ننبه
إخواننا رئيس وأعضاء جمعية الشبان المسلمين، وبهذا تستطيع الأكثرية الحياة
الصحيحة ومجاراة غيرها بل بهذا وحده يرتقي الوطن.
... ... ... ... ... ... ... ... جميل الرافعي
__________(29/292)
الكاتب: حامد محمود محيسن
__________
العقوبة في الإسلام ليست تقريرًا لنظرية الانتقام [1]
المجتمع لا بد لنظامه من تشريع العقوبات
للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء:
قد اتفق لي أن لم أقرأ كلمة الأستاذ كامل البهنساوي بجريدة السياسة الغراء تحت
عنوان (الإجرام) في عددها الصادر يوم 14 من جمادى الأولى سنة 1346 ولكن
لفت نظري بعض الذين يغارون على الإسلام ويعلمون أن مبادئه من أسمى المبادئ
لنظام المجتمع.
قرأتها فإذا الأستاذ فيها يبين أن نظر المجتمع إلى العقوبة على الإجرام قد أخذ
في تاريخ البشر تطورات أربعة، فكان نظر المجتمع في عهد الإنسان الأول إلى
المجرم نظر انتقام ثم تطور إلى (نظر قمع) ثم تطور إلى (نظر إصلاح المجرم)
ثم تطور إلى (منع المجرم من الإجرام) وهذه النظرية الأخيرة هي أحدث النظريات
وأعجبها للكاتب.
بدأ الكاتب الكلام في نظرية الانتقام بهذه العبارة (كانت نظرية الانتقام التي
أقرتها الديانة الإسلامية والتي أساسها (السن بالسن والعين بالعين) هو صورة
واضحة من نظرية الانتقام التي كان يعامل المجرم بناء عليها، والتي أصبحت لا
تصلح مطلقًا لهذا الزمن) إن الناظر في هذه العبارة يُخَيَّل إليه أن الكاتب كان قرمًا
إلى أن يطعن تعاليم الإسلام السامية إذ لم يذكر في عبارته سوى الديانة الإسلامية
مع أنها كغيرها من الديانات في تقرير العقوبات فقد نص القرآن على أن عقوبة
السن بالسن والعين بالعين كانت من تعاليم التوراة، وكأنما كان أول ما يهتم له
الكاتب أن يبين كون تشريع الإسلام غير صالح لهذا الزمن الذي لطفت فيه العواطف
ورقت فيه البشرة فأصبح المجرم بحكم العصر لا يحتمل أن يؤلم ولا يحتمل أن تمس
كرامته: ولو أتيح للكاتب وقلمه بين أنامله وقد جلس جلسة المتعقب للشارع الحكيم أن
ينظر فيما شرعه الإسلام من عقوبة نظرة الباحث عن الحقيقة لما وقع في ذلك الخطأ،
خطأ الحكم بأن ما شرعه الإسلام لتأديب المجرمين قد جارى فيه نظرية الانتقام
وأصبح غير صالح لهذا الزمن.
وقبل أن أبين للكاتب أن نظرية الإصلاح ونظرية المنع اللتين قد افتتن بهما
الكاتب قد وضعهما الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف على أحسن وضع وأكفله
لنظام البشر قبل أن يقررها (جورنج) و (المدرسة الفرنسية الحديثة) قبل أن أبين
للكاتب هذا فإني مُنَاقِشُهُ في أن تشريع الإسلام في العقوبات قد جاء على (وفق
نظرية الانتقام) التي أصبحت غير صالحة لهذا الزمن.
إن الكاتب نفسه في الكلام على نظرية الانتقام قد ذكر أنه كان من أنواع
العقوبات في طور الانتقام أن يصير الجاني رقيقًا للمجني عليه، وكان منها الغلي
في الزيت وقتله جوعًا وحرقه بالنار وقتله وإلقاؤه فيها، وفصل الأعضاء وقطعها،
ثم ذكر الكاتب أنه لما تطورت نظرية الانتقام إلى (نظرية القمع) وخفت وحشية
الإنسان شيئًا أصبح الموت عقوبة على كل جريمة حتى كانت إنكلترا في القرون
الوسطى تعاقب على أكثر الجرائم بالموت، فكانت تعاقب بالموت على السرقة
والتزييف، وذكر الكاتب زيادة على ذلك أن ذكاء الإنسان في طور الانتقام كان
منصرفًا إلى اختراع وسائل التعذيب التي كانت يطول معها خروج الروح.
ذكر الكاتب كل ذلك، ثم هو مع هذا يزعم أن الإسلام جاء مقررًا (نظرية
الانتقام) وإن الإسلام لبريء مما يرميه الكاتب وإليه أسوق تشريع الإسلام وما أقره
وما لم يقرره حتى يتبين الضلال من الهدى.
ما جعل الإسلام الاسترقاق عقوبة على جريمة ولا جعل كذلك الغلي في الزيت
عقوبة على جريمة، ولا جعل الإسلام الحرق بالنار أو الإلقاء فيها، أو القتل جوعًا
عقوبة على جريمة، بل حظر كل ذلك حظرًا شديدًا، نعم القتل من العقوبات التي
شرعها الإسلام، لكن يجب أن يلتفت القارئ إلى أنه لم يكن عقوبة على كل جريمة
كما ذكر الكاتب أنه كان كذلك في طور القمع، بل إنما كان عقوبة على جريمتين
فقط جريمة القتل وجريمة الزنا من المتزوج.
وقد كان يصح أن يغمز الإسلام في تشريعه لعقوبة القتل على جريمة القتل
أن لو لم يرسم خطة الإصلاح والمنع المفتون بهما الكاتب، ولكن سأبين لحضرته
كيف أحكم الإسلام وضع هاتين الخطتين بحيث لو ترسمهما المجتمع ما كنت تسمع
بالإجرام إلا كما تسمع بحوادث الزلزال أو انفجار البراكين، وما شرع الإسلام عقوبة
القتل على القتل، وأرسلها إرسالاً كما كان الشأن في طور الانتقام، بل حاطها
باعتبارات تبعد بها المراحل عن دائرة الانتقام، وتتنحى بالمجرم عن مخالب ولي الدم
حتى لا تتمكن من إيقاع ما يشفي به نفسه من المجرم.
فترى الإسلام أولاً: حرم التمثيل بالمجرم وأوجب الإحسان في القتل بأن
يسلك أسرع الوسائل إزهاقًا للروح، لا كما كان الشأن في عهد الانتقام الذي (كان
يتفنن الذكاء الإنساني في تهيئة وسائل التعذيب والانتقام التي يعذب بها الجسد
ويطول معها إخراج الروح) اسمع إن شئت قول الرسول الكريم: (إن الله كتب
الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة) .
وترى الإسلام ثانيًا: حرَّم على ولي الدم وهو يكاد يتميز من الغيظ أن يتولى
عقوبة القاتل بنفسه ابتعادًا بالمجرم عما عساه أن يندفع إليه ولي الدم من إسراف في
القتل، بل أوجب على ولي الدم أن يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يتولى بنفسه إثبات
الجريمة وإيقاع عقوبتها فأضعف بذلك سلطان ولي الدم على المجرم، ثم جاء من
جهة ثانية وأضعف سلطان الحاكم عليه بما جعله لولي الدم من حق العفو عن
المجرم إلى العقوبة المالية (الدية) وأوجب على الحاكم قبول ذلك العفو وإعفاء
المجرم من القتل، فهل ينتظر حضرة الكاتب تخفيفًا عن المجرم ولطفًا به وراء ذلك؟
وترى الإسلام ثالثًا: قد ندب الحكام إلى المبالغة في التحقق من ارتكاب
الجريمة بحيث تنزاح أمامهم جميع الشُّبَه حتى لو حام حوالي الإجرام أضعف شبهة،
وجب أن يدرأ الحد عن المجرم، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:
(ادرءوا الحدود بالشبهات) فهل ترى بعد هذه الاعتبارات أن هذه العقوبة
انتقامٌ؟
المجرم قد فعل بالمقتول ما أمكنته منه الفرصة تعذيبًا وتمثيلاً ولكن الشارع قد
حاطه بكل ما أمكن من مظاهر الإحسان والتخفيف.
وبعد فليدع الكاتب كل هذه الاعتبارات وليُحَكِّم هو عواطفه في شأن النفس
التي لم تؤثر فيها وسائل الإصلاح ولم تُعِقْهَا وسائل المنع، بل أقدمت بعد هذه وتلك
على إزهاق نفس بشرية عمدًا بغير ذنب ولا جريمة، أفيستحق هذا المجرم في نظر
الكاتب أن يعطف عليه ويوصف بأنه بائس ومسكين، وهلا كان من عسى أن يتركه
المقتول من أطفال وزوجة وشيوخ من آباء وأمهات أحناهم الدهر وقوستهم الأيام،
هلا كان هؤلاء هم البؤساء والمساكين، وهلا استحق ذلك المجرم الذي كسر
عصاهم التي كانوا يتكئون عليها وأطفأ مصباحهم الذي كانوا يستضيئون به وسد
عليهم سبل الحياة هلا استحق هذا المجرم أن ننزل به عقوبة القتل حتى لا تتكرر
منه أمثال تلك الجناية، وماذا عسى أن تمنعه من الإجرام والمفروض أنه لم تُجْدِهِ
نظرية الإصلاح ولم تعقه نظرية المنع، أفلا تبقي على المجني عليه وعلى الجاني
كذلك بإقامة تمثال العقوبة أمام عينيه، صدق الله العظيم {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ألا فليقتصد حضرة الكاتب في ترقيق عواطفه فلا تأخذه بمثل هذا
المجرم رأفة فليس أوسع رحمة من رب العالمين.
وأما الجريمة الثانية التي جعل الإسلام عقوبتها القتل وهي جريمة الزنا من
المتزوج فأي جريمة هي وما كنهها؟ هي أن يتعدى الجاني على عفاف المرأة
فيمزقه، وعلى عرضه فيخدشه وهو بذلك قد تصدى على كل رجل يمت إلى تلك
المرأة بسبب قرابة فنزع عنه ثوب شرفه وتركهم سبة في الوسط الذي هم فيه فما
هم برافعين بعد ذلك لهم رأسًا، وفي ذلك قتلهم الأدبي الذي هو أهون منه قتلهم
الجسماني، ثم هو قد تعدى كذلك على قريباتها فنزع عنهم أردية الشرف والعفاف
فحال بينهم وبين أن يتزوجن؛ إذ الناس يتخذون من تلك الحادثة مقياسًا لعفتهن
فيتحرَّجون من زواجهن، وفي ذلك أي ضرر بهن، ذلك هو كنه الجريمة، فهل بعد
ذلك يستحق ذلك المجرم أن يعطف عليه ويوصف بأنه البائس المسكين؟ ألم يكن
أقرباؤها من الرجال والنساء هم البؤساء والمساكين.
على أن الإسلام لم يجعل القتل عقوبة الزاني إلا إذا كان متزوجًا (حكمة بالغة)
رأَى الشارع أنه إذا كانت قد توفرت أسباب منعه من ارتكاب تلك الجريمة، ثم
هو لم يمتنع عنها فليس للمجتمع راحة وطمأنينة بغير تطهيره منه حتى لا يثلم
شرف أسر أخرى، وواضح أن ليس في عقوبة الزاني بالقتل -مظهر للانتقام- إذ
الجريمة خدش عرض وتسجيل عار والعقوبة قتل وإزهاق روح.
بقى أن الإسلام قد جعل عقوبة المتعدي على جارحة من جوارح الإنسان أن
يعاقب بإزالة مثل تلك الجارحة منه، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} (المائدة: 45) ، قد يقال: إن مظهر الانتقام واضح في تلك العقوبة؛ إذ
جعل مثلا العين بالعين والأنف بالأنف إلخ، ولكن إذا أتممت الآية قراءة وجدتها قد
بعدت بتلك العقوبة عن دائرة الانتقام بعدًا شاسعًا؛ إذ ندبت المجني عليه إلى العفو
عن أخيه حيث تقول: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} (المائدة: 45) فتراها
للمبالغة في ترغيب المجني عليه في العفو عبَّرت عنه بالتصدق ووعدت عليه
بالغفران، ولا يفوتك أن الإسلام مع هذا حرَّم على المجني عليه أن يتولى القصاص
بنفسه من الجاني فلم يجعل له عليه سلطانًا وأوجب على الحاكم أن يعفيه من القصاص
متَى عفى عنه صاحب الحق، فلا هو أسلمه للمجني عليه ولا هو أسلمه للحاكم، فأين
بربك في هذا (مظاهر الانتقام) ؟
هذا من جهة نفي كونه (انتقامًا) بقي أن ننظر إلى التشريع في حد ذاته،
وهل بغيره يرتدع المجرم أو يصلح المجتمع؟ إن الذي يدرس نزعات النفس
البشرية من جهة ويدرس حالة المجتمع من جهة أخرى يرى في هذا التشريع أحكم
وسيلة لنظام المجتمع، فإن الغضب والسَّوْرَة غريزة من غرائز النفوس البشرية وما
أكثر دواعيه التي تقتضيها طبيعة الحياة البشرية، تلك الحياة التي لا بد فيها من
تناقض في الأغراض وتضارب في الشهوات والميول، فلو لم يشعر الجاني حين
تثار نفسه بداع من الدواعي أنه نازل به مثل ما ينزله بأخيه، فماذا عساه أن يحول
بينه وبين فقء عين أخيه أو قطع أذنه، وإن في كثرة هذا النوع من الإجرام إذا
أُهْمِلَ العمل بهذا التشريع لأكبر شاهد على أن هذه المبادئ من أسمى نظم البشر،
ولو أننا عملنا بهذا التشريع لقل وقوع مثل هذه الجريمة.
وقد كنت شغوفًا أن أبين للكاتب مبلغ أحكام التشريع الجنائي في الإسلام وما
له من الأثر الحسن في نظام المجتمع وطمأنينته، وإن موعدنا المقال الآتي فسأتتبع
فيه جزئيات العقوبة التي شرعها الإسلام حتي يتبين للناس حقيقة الأمر.
والذي أعني به الآن بعد ما بان أن الإسلام لم يقرر (نظرية الانتقام) أن أبين
للكاتب كيف أحكم الإسلام وضع (نظرية الإصلاح) و (نظرية المنع) من ألف
وثلاثمائة وستة وأربعين عامًا، وأنهما ليستا حديثتين أحدثهما (جورنج) و (المدرسة
الفرنسية الحديثة) .
ولو أن الكاتب قد نظر في دين الإسلام نظرة العالم الباحث قبل أن يقرأ الكتب
الإفرنجية لما ارتطم في ذلك الخطأ المبين.
يقول الكاتب في الكلام على (نظرية الإصلاح) وبدأنا نصل إلى رأي جديد
كانت خلاصته مباحث العلماء المختلفين وأهمهم (جورنج والمدرسة الفرنسية
الحديثة) كما سبق أن تكلمنا عنه وهو أن المجرم شخص كبقية النوع الإنساني،
وأنه لا يرتكب ما يرتكب من الجرائم لأميال وغرائز طبيعية، وإنما كان لأن تعليمه
والوسط الذي هو فيه كان قليلاً أو ناقصًا مملوءًا بالسيئات ويؤكد هذه النظرية
الجديدة ما أثبته علماء الإجرام والمذهب الإجتماعي من أن الجرائم تابعة لحال
الوسط الاجتماعي ومداها من الفساد والإصلاح) وإنما سقت للقارىء عبارة الكاتب
ليعلم أن كل ما وصل إليه جورنج والمدرسة الفرنسية الحديثة وعلماء الإجرام
وعلماء الإجتماع هو أن وسيلة الإصلاح إنما تكون بالتعليم وارتقاء البيئة والوسط
الذي يحيا فيه الشخص، وإن هذا القليل من كثير مما وضعه الإسلام من وسائل
الإصلاح.
فالإسلام أولاً قد حتَّم على كل مسلم ومسلمة طلب العلم مهما صعب الوصول
إليه ومهما بَعُدَ منالاً، قال الرسول الكريم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة) ، (اطلبوا العلم ولو في الصين) وإن من أول ما يجب من أنواع العلم الذي
هو عام في عبارة الشارع، أن يعلم الإنسان ما لله من قدرة لا حدود لها وعلم بالسر
وأخفى ووحدانية في الكون لا راد لما قضى ولا مانع لما أراد، يعلم ذلك بناء على
البراهين العقلية الماثلة في النفس والآفاق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) وإن امتلاء
النفس بتلك العقيدة لوازع يصحب النفوس في خلوتها واجتماعها وليلها ونهارها فليس
كوازع الجنود والخفراء (والبوليس السري) الذي إن أفاد نهارًا فليس يفيد ليلاً،
وإن عاق عن الإجرام في الاجتماع فليس بعائق عنه في الانفراد، ولو أننا نزلنا على
حكم الإسلام فتعلمنا ما أوجب تعليمه لما أثقلت خزانة الحكومة المصرية بما هي مثقلة
به اليوم من الأموال التي تنفقها على إدارة الأمن العام.
وثانيًا: فرض الإسلام على كل شخص خمس صلوات أي فرض عليه أن يقدم
مراسم العبودية والتقديس لذي العظمة والجلال في اليوم خمس مرات تبتدئ من
الصباح حيث يبدأ الناس أعمالهم وتنتهي بوقت نومه حتي يكون كل زمن اليقظة في
مراقبة ربه، وإن هذا لمن أمتن الحواجز بين الإنسان والإجرام: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى
عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) .
وثالثًا: فرض الإسلام على كل شخص صيام شهر من السنة وفي ذلك إشعار
النفس بأنها لا تزال مغلوبة ومقهورة للعقل فينكبح جماحها عن الإسراف في الشهوات
التي كثيرًا ما تدفع الإنسان إلى الإجرام حين لا يرى سبيلاً إلى الحصول على شهوته
إلا بالإجرام.
ورابعًا: قد أوجب الإسلام علينا جميعًا إسداء النصيحة لبعضنا والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وبالغ في إيجاب ذلك حتى فرض على الإنسان أن يمنع
الشخص عن الإجرام بالقوة متى استطاع، فإن عجز عن ذلك منعه بالقول، فإن عجز
تنكر له من سكوت، قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) أصل عظيم
ومبدأ اجتماعي من أسمى المبادئ لو أننا عملنا به لقل الإجرام إلى أدنى حد ممكن في
الاجتماع البشري، فهل يُبْتَغَى لإصلاح المجرمين بوسائل وراء تلك الوسائل التي
شرعها الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف.
وأما (نظرية المنع) التي سماها الكاتب حديثة جدًّا، وفي الحق هي ليست
بالحديثة جدًّا، ولكنها قديمة جدًّا؛ إذ قد وضعها الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف،
ولأجل أن نتبين كيف وضع الإسلام (نظرية المنع) نبحث عن أسباب الجرائم،
وإننا لو بحثنا عن هذا لوجدنا غالب أسباب الإجرام ترجع:
أولاً: إلى الحاجة والفقر.
ثانيًا: عدم العمل خصوصًا من ذوي النفوس الشريرة، فإن عطلة هؤلاء من
العمل كثيرًا ما تستدعي الاسترسال في فكرة إحداث الشرور والجرائم.
ثالثًا: الطيش وسَوْرَة النفس التي يحدثها تعاطي المسكرات.
ورابعها: الخصومات والمشاكل والأحقاد والضغائن التي كثيرًا ما ينبتها
التنافس في وسائل الحياة والتزاحم على أسبابها وإن هذا التنافس وذلك التزاحم
لطبيعي للاجتماع البشري.
فأما السبب الأول للإجرام، وهو الحاجة والفقر فقد وضع الإسلام لاقتلاع
جذوره نظامًا ماليًّا من أحكم النظم الاجتماعية في توزيع الثروة بين أفراد البشر ذلك
النظام هو ما شرعه الإسلام من فريضة الزكاة: أوجب فيه جزءًا مخصوصًا، وكان
من أحكام التشريع أنه لم يرفع الحد الذي تجب به الزكاة، بل تراه قد أوجب الزكاة
على مَن يملك اثني عشر جنيها تقريبًا فما فوق، وبذلك يكثر عدد من نأخذ جزءًا من
ماله.
وتراه من جهة ثانية لم يرفع قدر المأخوذ من ذي المال بل تراه قد جعل
واحدًا من أربعين في بعض أنواع الثروة حتى لا يلحق أرباب الأموال ضرر مالي،
وبذلك نستطيع أن يتوفر لدينا مقدار من المال لا يبقى معه فقير ولا ذو حاجة وبذلك
نكون قد استأصلنا أغلظ أسباب الجرائم جذورًا.
وأما العطلة من العمل فقد حرمها الشارع تحريمًا شديدًا حتى أوجب على
الإنسان أن يباشر أدنى الأعمال حين لا يمكنه مباشرة سواه فترى الرسول يقول:
(لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب فيبيعها خير له من أن يتكفف الناس) فلو أن
الحكومة علمت بهذا المبدأ لشغل العمل نفوسًا كثيرة عن أن تفكر في إحداث الجرائم
والجنايات.
وأما تعاطي المسكرات فقد جعل له الإسلام عقوبة مادية هي عقوبة الجلد، فلو
أنفذناها على متعاطي المسكرات لأغلقنا سببًا آخر من أسباب الإجرام.
وأما المشاكل والخصومات والأحقاد والضغائن التي هي ضرورية للحياة التي
لا بد فيها من التنافس وتناقض الأغراض فمن المحال استئصالها وتطهير المجتمع
منها بوسائل الإصلاح أو وسائل المنع مهما كانت تأثيراتها - لذلك ترى الشارع
الحكيم وضع من المبادئ والتعاليم ما أراد به تخفيف أثر ذلك الأصل من الشرور
والجرائم فتراه مثلاً أوجب على الجار الإحسان إلى جاره، وبالإحسان -كما قررته
الشرائع وقرره الأخلاقيون- تستل الأحقاد والضغائن، وتراه حرم التجسس وتتَبُّع
العورات لما في علم الشخص بأن آخر قد أدرك من عوراته ما يحاول إخفاءَه على
الناس من ألم النفوس المثير للضغائن والأحقاد.
وحرَّم أن يعيب الإنسان إنسانًا آخر في غيبته لما في ذلك أيضًا من إيلام
النفوس وإثارتها قال تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} (الحجرات:
12) وكذلك حرَّم الغش في المعاملات؛ إذ الغش ليس إلا صورة من صور سلب
أحد المتعاملين مال الآخر بدون مقابل، ولا شيء أثقل على النفس من أن تشعر
بأنها قد سلبت شيئًا من حقوقها.
وكذلك حرَّم الربا؛ إذ مآله أخذ أحد المتعاملين جزءًا من مال الآخر بلا مقابل
ولمثل ذلك في النفوس أسوأ الآثار.
وترى الإسلام قد وضع قواعد لجميع أنواع المعاملات لا يكاد يبقى معها سبيل
للمشاحنات والمنازعات ثم تراه مع هذا كله أوجب على أهل كل بيئة أن يقوموا
بالإصلاح بين كل متنازعين لما في ذلك من وقف تيار المنازعات المؤدي كثيرًا إلى
أفظع الجرائم.
كل هذه المبادىء التي ذكرناها وغيرها مما لم أذكره إنما قصد بها الشارع
مجرد تخفيف أثر ذلك الأصل: أصل الخصومات والمنازعات، وأما وقف تياره
بتابًا أو تقليل أثره إلى أدنى حد ممكن مع ردع النفوس التي بلغت في الشر والفساد
مدى لا تؤثر معه ما شرعه الإسلام من وسائل الإصلاح ولا تعوقها وسائل المنع من
الإجرام فليس له من سبيل إلا إقامة هياكل العقوبات أمام أعين هؤلاء المجرمين.
لذلك ترى الإسلام مع إحكامه لوضع وسائل الإصلاح ووسائل المنع على ما
رأيت، لم يهمل أمر العقوبات الصارمة؛ إذ يرى أن من الضروري لنظام المجتمع
وتطهيره من الجرائم أو تقليلها إلى أدنى حد ممكن إقامة عقوبات كالتي شرعها،
وإن من يرى من علماء الإجرام أو علماء الاجتماع اكتفاء المجتمع بوسائل الإصلاح
أو المنع من غير حاجة إلى إقامة عقوبات تردع النفوس البعيدة المدى في الشر
لَمقصرٌ في بحثه أو مخطئ خطأ واضحًا، وإن في كثرة الجرائم في أمريكا التي
يتحدث عنها الكاتب كدولة وصلت إلى أحدث النظريات في علاج الجرائم لأكبر
شاهد على أن المجتمع لا غنى له عن إقامة هياكل العقوبات التي تردع بعض
المجرمين ممن لا يجديهم إصلاح ولا يعوقهم منعٌ، فصدق الله وكذب الجاهلون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حامد محمود محيسن
... ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بمعهد
... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية
__________
(1) نقلا عن جريدة السياسة اليومية الصادرة في يوم الإثنين 29 يناير سنة 1928.(29/299)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إحصائية عن الطلاق في أمريكا
إن الولايات المتحدة هي بلاد الإحصائيات، وكل شؤونها يعبر عنه بالملايين
وإذا كان الأمريكيون قد أحصوا مظاهر الجو وعدد السيارات التي يملكها الأفراد،
وكل ما يختص بالأشغال التجارية والألعاب الرياضية إلخ، فقد حُقَّ لهم أن يحصوا
أيضًا أحوال الزواج والطلاق وهي تفوق غيرها شأنًا.
ولم تعبأ حكومة الولايات المتحدة بأية نفقة وأي جهد في سبيل الإحصاء، قد
أجرت إحصاء خاصًّا بالزواج خمس مرات في المدة الواقعة بين سنة 1876 وسنة
1923 وظهر اهتمام الناس بهذا الإحصاء، ولا سيما أنه صدر بجانب الأرقام
الجافة مذكرة تفسيرية شائقة، ويمكن شراء كليهما بمبلغ زهيد قدره عشر سنتات
(أي نحو عشرين مليما) فيلقي الأمريكي بذلك نظرة عامة على الحالة الاجتماعية في
بلاده، وقد ذكر الإحصاء أسباب الطلاق، ولكنه للأسف لم يبين أسباب الزواج
أيضًا، ولو فعل لكان أمرًا شائقًا يدعو إلى دراسة عميقة.
وقد عقدت في سنة 1923: 373 , 224 ,1 زواجًا، فإذا اعتبرنا من
تخطى الخامسة عشرة من عمره كفئًا للزواج كان المتزوجون في الولايات المتحدة
4.41 في الألف من الأكفاء للزواج.
وفي نفس السنة حصل 226.165 طلاقًا، وقد فاق هذا العدد مثله في كافة
السنوات السابقة، وكانت نسبة الطلاق في سنة 1870: 81 طلاقًا لكل مائة ألف
من السكان المتزوجين، أما في سنة 1923 فقد بلغت هذه النسبة 160 في المائة
ألف ومن ال 226. 165 طلاقًا الذي حدث في سنة 1293 - - 582. 111حادثة
كان فيها الرجل هو المذنب و53. 27 حادثة كانت المرأة هي المذنبة، فالرجل
إذن يسبب الطلاق في 67. 8 في المائة من حوادثه.
ولكن أسباب الطلاق هي أهم جزء من إحصاء الحكومة الأمريكية، وقد
قسمتها إلى سبعة أنواع، وقد يقسم أيضًا بعضها، هذه الأسباب هي الخيانة الزوجية
والقسوة (وتحت هذه ستة عشر نوعًا) والهجران بسوء القصد، والإدمان على
السكر (ومنه تعود المخدرات) ، وإهمال القيام بالنفقة البيتية، والنوع الثالث هو
اختلاط بعض الأنواع السابقة والسابع يضم جميع الأسباب الأخرى (ومنها الأسباب
غير المعروفة) .
وكان أكثر حوادث الطلاق مسببة عن القسوة، وقد بلغت حوادثها 58178
في سنة 1923 وكانت أقلها حوادث الطلاق بسبب الإدمان على الخمر ومثلها،
وكان عددها 2139.
وقد بيَّن الإحصاء أيضًا مدد الزوجيات التي انتهت بالطلاق ويظهر منه أن
وقت الخطر الذي يبتدئ فيه هو عقب السنة الثالثة من الزواج، ولكن قد تكثر
حوادث الطلاق أيضًا بعد السنة الرابعة أو التاسعة من الحياة الزوجية ثم تقل كثيرًا
بعد ذلك وتكون الحياة الزوجية قد تأسست وقويت، ويقل الحصول الطلاق بعد أن
تمضي عشرون سنة على الزواج، ولكن لا أمان أيضًا في هذه السن، فإن
الإحصاء دل على حوادث طلاق وقعت بعد أن مضى على الزواج إحدى وعشرون
سنة أو أكثر.
وأكثر حوادث الطلاق وقعت في السنوات العشر التالية للزواج، هي ثلثا
مجموع الإحصاء ويبين الإحصاء أن معظم حوادث الطلاق تسببها القسوة في
السنوات الثلاث الأولى للزواج، وفي الأحوال التي تكون المرأة هي المذنبة يكون
سبب الطلاق في أكثرها هو خيانتها لرابطة الزوجية، وأكثر ما يحصل ذلك منها
في السنوات الأولى للزواج، وأما الرجل فيندر أن يخون زوجته كما يظهر من
الإحصاء في العهد الأول للحياة الزوجية وإنما تكثر خيانته من السنة الخامسة لعقد
الزواج إلى السنة التاسعة عشرة، ولكن القسوة من جانب الزوج تكثر في السنوات
الثلاث الأولى ثم تقل بعد ذلك، وأما الهجر والإدمان فعلى العكس.
والآن لننظر ماذا نال الأطفال من جراء حوادث الطلاق ومن الزوجيات
التي انتهت بالطلاق في سنة 1923 وعددها 164609 كان 92140 دون أطفال أي
56 في المائة وفي 57576 حالة منها كان للزوجين المطلقين أطفال، ولم
يدرك الإحصاء حالة ال14893 الباقية، ومما تجدر ملاحظته أن المرأة كانت توافق
على الطلاق إذا كانت لها أطفال أكثر مما لو لم يكونوا لها، وفي الـ 57576
من الأحوال التي كان فيها للمطلقات 106034 طفلاً حكم في 43249 حالة منها
بأن تحضن الأم أطفالها.
ولكن ليست هذه الأرقام والنسب هي كل ما حواه الإحصاء الأمريكي الدقيق
بل لقد ذكر أيضًا إحصاءات بالنسبة لكل ولاية أمريكية مما لا يهم القراء.
__________(29/308)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الشروع في عمارة الحرم القدسي الشريف
تسلم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين زمام إدارة الأوقاف
والمحاكم الشرعية الإسلامية عام 1340 هجرية ووضع نصب عينيه منذ ذلك العام
أمر الشروع في تعمير بنيان الحرم القدسي الشريف المشتمل على المسجد الأقصى
أول القبلتين وثالث الحرمين وقبة الصخرة الشريفة، الدرة اليتيمة بين المباني
الشرقية النفيسة والآثار الإسلامية الخالدة، وما يتبعها من الأبنية الأثرية المختلفة
التي أحاطها المكان المقدس ببركاته، ومسح عليها الفن من نتائج القرائح المتوقدة
ببدائعه؛ وذلك لأن هذا الآثار القيمة قد أحاطها البلى من كل جانب، فتصدع بعض
أقسامها، وتآكل بعض آخر من عوالم الجو المستمرة، حتى كاد معظمها يشرف
على الاندثار لا سمح الله؛ لأن هذه الأبنية النفيسة لم تتناولها يد الإصلاح الجدي
منذ أجيال عديدة، وجُلُّ ما كان يجري فيها من العمارة ينحصر في ترميم سطحي
بسيط لا أثر للمتانة ولا للفن فيه.
فلما أخذ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى على عاتقه شرف القيام بهذا
المشروع فكَّر في تسليم إدارته الفنية إلى المهندس القدير المرحوم كمال الدين بك
وهو أشهر المهندسين المتخصصين في المباني الإسلامية ففاوضه في هذا الأمر
كتابة ثم استدعاه من مقره في الآستانة ففحص هذه الأبنية فحصًا فنيًّا دقيقًا وقرَّر أن
مشروع التعمير يحتاج إلى ما لا يقل عن (150000) على أن يقوم بالعمل هيئة
فنية مؤلفة من عدد من المهندسين برياسته، ثم رجع إلى الآستانة وعاد منها
مستصحبًا ثلاثة ممن يعتمد عليهم من المهندسين القديرين، وأضاف إليهم مهندسًا
آخر من القدس الشريف وأخذ يضع الخطط الفنية للقيام بهذا العمل الكبير، فلما تم
ذلك، عقد المجلس الإسلامي الأعلى، وثلاثة مهندسين من حكومة فلسطين
ومهندسي الهيئة الفنية المذكورة فبحثوا هذه الخطط الموضوعة وختموا اجتماعهم
باتخاذهم القرار الآتي:
بعد الفحص والتدقيق في حالة قبة المسجد الأقصى، والجزء السفلي منه،
والمشاريع الثلاثة التي قدمها كمال الدين بك، والتقرير الذي قدمه المندوبان
المصريان مصطفى حمدي بك القطان ومحمود أفندي أحمد، وبعد البحث الوافي،
تقرر بالإجماع قبول المشروع الثاني، وأساسه تقوية البناء مع المحافظة عليه جهد
المستطاع.
أما تفاصيل هذا المشروع فهي كما يلي:
صلب المجموع، تقوية الأسس، تقويم الأعمدة، تجديد الأوتار الخشبية
(الشدادات) حفظ العقود والمقرنصات ورقبة القبة (الكرسي) وبقدر المستطاع حفظ
القبة نفسها وبالإجمال كل ترميم أو تجديد يجده كمال بك ضروريًّا ومستطاعًا فيما
عدا ما ذكر.
(وتزيد الهيئة على ذلك أنه وإن كان المشروع الأول المتعلق بالتجديد،
والذي اختاره المعمار كمال الدين بك هو ذا نتيجة أقوى وأجمل إلا أنها تؤثر
بالإجماع المشروع الثاني المذكور أعلاه، والموافق لتقرير المندوبين المصريين،
لاعتبارات أثرية ودينية واجتماعية) .
وبهذه المناسبة ترى الهيئة أنه يستحسن أن يعطى كمال الدين بك الحرية
التامة في اختيار الوسائل التي ستُتَّبَعُ، وتقرير الإجراءات التي ستُتَّخَذُ لتنفيذ
الأعمال المقرَّرَة في المشروع المذكور أعلاه وإنهائها على أحسن وجه.
(وترى الهيئة أن هذا العمل ضروري ودقيق وأنه لا بد من إعطاء كمال
الدين بك الذي سينفذه الحرية في أن يختار كل ما يحتاج إليه من العمال الفنيين،
وأن يتخذ كل التدابير الاحتياطية الخاصة التي يقتضي اتخاذها في مشروع دقيق
كهذا) .
(ثم تود الهيئة أن تبدي عظيم ارتياحها لما رأته من الدقة والمهارة اللتين
أظهرهما الأستاذ المعمار كمال الدين بك وهيئته الفنية في درس المسألة والمشاريع
التي هيأها، وأن تظهر أيضًا ثقتها مجمعة بذلك التحضير الدقيق المحكم، ومنه
تبدو بجلاء تام الأهمية الكبيرة التي تشتمل عليها هذه القضية الدقيقة وتفاصيلها
وفروعها، وعلى هذا وضعت هيئة المؤتمر هذا القرار النهائي بكل ثقة (في 23
شباط سنة 1924) .
***
جمع نفقات العمارة
أيقن المجلس الإسلامي الأعلى أنه لا يتأتى القيام بمشروع هذه العمارة إلا إذا
قام المسلمون عامة ملوكهم وأمراؤهم وشعوبهم بمساعدته مساعدة جدية لما يتطلبه
من النفقات الكبيرة، فقام بإذاعة دعوة عامة وجهها إلى مسلمي العالم كافة
يستصرخهم باسم الإسلام والحضارة الإسلامية والفن الإسلامي أن يقبلوا على
مؤازرة هذا المشروع، وقد نشرت الدعوة باللغات الإسلامية في أنحاء العالم
الإسلامي، ثم أوفد الوفود إلى مصر والحجاز أولاً وثانيًا، والآستانة والهند
والعراق، وجمع الأموال من هذه البلاد بمقادير مختلفة، ووردت إليه الإعانات من
بلاد أخرى تتضح مبالغها جميعًا من مطالعة البيان المالي الآتي:
***
بيان الواردات باعتبار الأقاليم
مليم جنيه مصري ... ... الجهة المتبرعة
248 6478 ... من صندوق المجلس الإسلامي بفلسطين والواردات المحلية
375 4231 ... من أهالي فلسطين.
733 38761 ... من الحجاز
608 23788 ... من الهند
322 6206 ... من العراق
520 1362 ... من الكويت
780 2681 ... من البحرين
635 612 ... من المحمرة
700 338 ... من سورية
440 19 ... من تركيا
860 306 ... من مصر
920 48 ... المهاجرين في أمريكا
ــــــــ
141 94837
***
طريق الإنفاق
اقتضى المشروع أن يكون له في القدس لجنة مركزية تشرف على سيره
وتتولى إدارة شئونه المالية إدارة منظمة حسب الأصول الفنية والمالية فعيَّن المجلس
الإسلامي لجنة مؤلفة من نخبة من أعيان البلاد الخبيرين الموثوق بهم لهذا الغاية
سميت لجنة عمارة الحرم الشريف، وطلب المجلس الإسلامي الأعلى إلى جميع
الأقطار الإسلامية التي اشتركت في نفقة العمارة أن ترسل كل منها عضوًا من قِبَلها
يمثلها في هذه اللجنة.
وقامت هذه اللجنة بواجباتها وأعمالها حق القيام، فوضعت السجلات والدفاتر
المنظمة لجميع المعاملات الحسابية وضبطت قيود أعمالها حق القيام، فوضعت
السجلات والدفاتر المنظمة لجميع المعاملات الحسابية وضبطت قيود أعمالها ضبطًا
محكمًا وراقبت شراء المواد المقتضاة وأشرفت على أهم الأمور الإدارية في هذا
المشروع.
ويتضح للقارئ من البيان التالي مجمل الواردات والنفقات لغاية 13 ذي
الحجة سنة 1346 الموافق غاية مارس سنة 1928 التي كان المجلس الإسلامي
الأعلى يرسل بيانات بتفاصيلها إلى كبار المتبرعين والصحف المختلفة في كل شهر:
***
الورادات السنوية
مليم ... جنيه
43 20386 عن 14 جمادى أول سنة 41 لغاية23 جمادى أول سنة 42
... ... الموافق سنة 23
396 56604 عن 24 جمادى أول سنة 42 لغاية 5 جمادى ثاني سنة 43
... ... الموافق سنة 24.
21 11160 عن 6 جمادى ثاني سنة 43 لغاية 16 جمادى ثاني سنة 44
... ... الموافق سنة 25.
445 3021 عن 17 جمادى ثاني سنة 44 لغاية 26 جمادى الثاني سنة 45
... ... الموافق سنة 26.
952 3317 عن 27جمادى ثاني سنة 45 لغاية 8 رجب سنة 46 الموافق
... ... سنة 27.
311 357 ... عن 9 رجب 46 لغاية 13 ذي الحجة الموافق سنة 28
ــــــــــ
41 94837 المجموع
نفقات عمارة المسجد الأقصى
367 7168 المصروف من صندوق الأوقاف لغاية 19 محرم سنة 342
... الموافق غاية آب سنة 23 قبل تشكيل لجنة عمارة المسجد الأقصى
724 3242 نفقات عن 20 محرم لغاية 23 جماد أول الموافق عن أيلول لغاية
... كانون أول سنة 1923.
615 17403 نفقات عن 24 جماد أول سنة 1342 لغاية 5 جماد ثاني 1343
... الموافق سنة 1924.
828 11380 نفقات عن 6 جماد ثاني سنة 1343 لغاية 16 جماد ثاني سنة
... 1344 الموافق سنة 1925.
193 6412 نفقات عن 17 جماد ثاني سنة 1344 لغاية 26 جماد ثاني سنة
... 1345 الموافق سنة 1926.
62 15926 نفقات عن 27 جماد الثانية سنة 1345 لغاية 8 رجب سنة 1346
... الموافق سنة 1927.
764 6196 نفقات عن 9 رجب سنة 346 لغاية 13 ذي الحجة سنة 346
... الموافق غاية مارس سنة 1928.
ــــــــــــ
443 67730 المجموع
***
إتمام عمارة قبة المسجد الأقصى
وقد تمت بتوفيقه تعالى عمارة المسجد الأقصى وما يحيط بها من المباني
المتداعية على أكمل وجه حتى إن زلازل فلسطين الأخيرة على شدتها لم تُحْدِث في
الأمكنة التي عمرت تأثيرًا ما على حين أن جملة من الأبنية الكبرى في القدس
تصدعت مما دل دلالة صريحة على أن العمارة الجديدة قد جرت على الأصول
الفنية بحيث أصبح البناء يتحمل صدمات العوامل الطبيعية وقد شهد بذلك
المهندسون الذين زاروا المكان فشاهدوا متانة عمارته واتفقوا على أنه لو لم يبادر
المجلس إلى عمارة قبة المسجد لدمرها الزلزال تدميرًا.
***
حفلة افتتاح عمارة المسجد الأقصى
ومما نحمد الله تعالى عليه أن يتم هذا المشروع على يد المجلس الإسلامي
الأعلى الذي رأى من الحق عليه أن يفتتح هذا القسم من العمارة بحفلة حافلة يدعو
إليها عظماء العالم الإسلامي ومن آزره في إتمام هذا المشروع مؤازرة مادية أو أدبية،
وقد اختار لذلك يوم مولد سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم من هذا العام
الموافق 12 ربيع الأنور سنة 1347.
وتعد الهيئة لهذه العمارة تقريرًا فنيًّا وافيًا عن هذا المشروع إجمالاً وتفصيلاً،
وستوزعه على المحتفلين، وتنشره بعدئذ في العالم الإسلامي بمختلف اللغات، والله
ولي التوفيق.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/310)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
اختيار الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخًا للأزهر والمعاهد الدينية
مرت بضعة أشهر على وفاة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي والحكومة
في حيرة في اختيار خلف له وقد جعل القانون أمره إلى الوزارة حتى وفق صاحب
الدولة مصطفى النحاس باشا إلى اختيار هذا الرجل ولعمري إنه لم يكن في البلد من
يصلح لهذا المنصب في هذا الوقت غيره حتى احتيج إلى هذا الوقت الطويل
لمعرفته - وهو رئيس المحكمة الشرعية العليا أي أكبر رجال القضاء الشرعي
ولكن اختياره على أولئك النفر من المرشحين للمنصب على المعهود في التقليد بين
كبار الشيوخ هو الذي اقتضى طول الروية والبحث من قبل، وللوزراء أهواء
مختلفة ولكل من أولئك المرشحين انتماء إلى وزير كبير أو ضلع مع حزب من
الأحزاب السياسية التي يُعَدّ أولئك الوزراء من زعمائها، فكانت آية إخلاص
مصطفى النحاس باشا في اختياره للشيخ محمد مصطفى المراغي أنه فضَّله على
بعض الشيوخ الموالين للوفد المصري المعدودين من حزب السعديين، وذلك بعد أن
أخبره بمزاياه من ثقات الأزهريين المستنيرين من لا يمتري في معرفتهم وحسن
نيتهم، وهو يعلم مع هذا أنه أعطَى منصبه الشرعي حقه فلم ينتم إلى حزب من
الأحزاب ولم يتزلف إلى وزير من الوزراء كما أنه لا يعادي حزبًا ولا وزيرًا من
الوزراء وأنه مرضي لدى جلالة الملك.
إن بيان ما أجملته من الحكم بأن هذا المنصب لا يصلح له في هذا الوقت إلا
هذا الرجل يتوقف تفصيله على بيان حالة الأزهر من نواحيها المتعددة، وبيان
مزايا الشيخ العقلية والإدارية ومعرفته لحالة العصر من نواحيها المختلفة، وما
يحتاج إليه الإسلام من التجديد والإصلاح، وفوق هذا كله استقلاله في فهم الدين
والعلم فهو في الذروة العليا من نجباء تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله، فعسى أن
يجعله الله هو المتمم لما بدأ به أستاذه وأستاذنا من إصلاح الأزهر.
كنت أود أن مكنتني صحتي من التفصيل الذي أشرت إليه ولكنني لا أزال
مريضًا، وقد كتبت هذه الكلمة، وأنا مستلق في سريري، وإلى الله المشتكى،
وهوالمسئول بتعجيل الشفاء.
***
اعتذارنا للقراء بمرضنا ومصائبنا
قد علم القراء ما كان من أمر مرضنا، وما كان لنا أن نكتمه عنهم، وقد
كانت وطئة الحمى خفت حتى قلما تتجاوز الدرجة 38 فكتبنا تفسير هذا الجزء
وباب الفتاوى وباب الانتقاد على التفسير، وعرض لنا بعد ذلك التهاب شديد في
اللوزتين فارتفعت الحمى زهاء أسبوع ثم خفت بزواله ثم عادت إلى الارتفاع حتى
منعنا الأطباء من الخروج إلى المكتب ومن مقابلة الناس.
وكنا جعلنا تاريخ هذا الجزء سلخ المحرم من السنة الجديدة 1347 ولكن كاد
شهر صفر أن ينتهي ولم نستطع كتابة شيء آخر مما كان في النفس فأذنا الإدارة
بإتمام الجزء ببعض المختارات المفيدة من الصحف والرجوع في هذه الفرصة إلى
تقريظ الكتب التي تأخر تقريظها وإصدار الجزء، وسنجعل تاريخ الجزء الذي بعده
سلخ ربيع الأول، وما ندري هل يقدرنا الله تعالى على كتابة شيء منه أم لا،
والرجاء بفضله عظيم.
***
وفاة فاضلة
ابتلينا في 30 ذي الحجة سنة 1346 بوفاة شقيقتنا البارة الفاضلة العاقلة
السيدة الحاجة حفصة رحمها الله تعالى، ولله ما أخذ ولله ما أعطى وما أبقى، وإنا
لله وإنا إليه راجعون.
***
كلمة إلى حضرات المشتركين
إن دَخْلَنَا في هذه البضعة الأشهر التي تضاعفت فيها نفقاتنا بسبب المرض
وغيرها كان أقل مما كان في مثلها من كل عام فنستنجد الوفاء والمروءة من
المدينين لنا باشتراك المنار أو أثمان الكتب أن يعجلوا بإرسال جميع المتأخر لنا
عندهم، ونحن نعده لهم في هذا الوقت كأنه إعانة منهم، ومن لم يؤثر فيه هذا القول
في أداء الحق الذي عليه فهو أعرف بقيمة نفسه وعليه ما يستحق من جزاء الدنيا
والآخرة.
__________(29/315)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(روح الاشتراكية)
تأليف الدكتور غوستاف لوبون وترجمة الأستاذ عادل زعيتر خريج جامعة
باريس، عني بنشره إلياس أفندي أنطون إلياس صاحب المطبعة العصرية ثمنه 20
قرشًا مصريًّا.
الدكتور غوستاف لوبون عالم أوربا الاجتماعي الشهير وصاحب المؤلفات
الاجتماعية الفذة لا يحتاج عند جمهور القراء إلى تعريف، خصوصًا وقد اشتهر هذا
العالم الجليل بدرس الشئون الشرقية عامة والعربية خاصة وله عطف على الشعب
العربي وعناية كبيرة بمدنيته التي ظهرت آثارها بكتابه الشهير (حضارة العرب)
حتى إن جماعة من أدباء مدينة بيروت كانوا أقاموا له حفلة شكر في مدينتهم اعترافًا
بفضله وشكرًا لإنصافه لأمتهم العربية كما اشتهر هذا الفيلسوف بالابتعاد عن التعصب
والتصريح بالحقائق التي يحاول معظم علماء الغرب ورجاله سترها كتعصب أوربا
ولا سيما فرنسا موطنه ضد الحكومات الإسلامية والإسلام.
كان آخر ما ألف الدكتور غوستاف هذا الكتاب (روح الاشتراكية) بعد (سر
تطور الأمم) ، و (روح الاجتماع) ، و (الآراء والمعتقدات) ، و (الثورة
الفرنسية) . فجاء كتابًا قيمًا في أبحاثه جليلاً في مراميه، عز على صديقنا الأستاذ
عادل زعيتر أحد أركان النهضة العربية أن تحرم الأمة العربية من ثمراته، فعني
بترجمته ترجمة سلسة فجاءت حلة قشيبة من حلل العربية التي تكتسي بها مؤلفات
الغرب، فنثني على همة المترجم ونرجو أن يوفق إلى انتخاب أمثال هذه الأسفار
القيمة، ونحث القراء على اقتناء هذا الكتاب النفيس.
لكن هذا الكتاب كأمثاله في علمه لا يخلو من نظريات مخالفة للأديان، لا
يعسر على علماء الدين المحققين تأييد جانب الدين فيها.
***
(علم الاجتماع)
علم حياة الهيئة الاجتماعية وتطورها تأليف الأستاذ الفاضل نقولا أفندي حداد
صاحب مجلة السيدات والرجال بمصر.
لزميلنا الأستاذ حداد عناية ثابتة بالعلم والشئون الاجتماعية ورغبة جليلة في
التأليف والابتكار، وقد ألف منذ 20عامًا أو أكثر رواية حواء الجديدة وعرضها
على كبار الكتاب في مصر وغيرها فحازت استحسان جمهور المفكرين، وبالرغم
من اشتغاله بالصيدلة لا يدخر وسعًا في مواصلة الأبحاث العلمية والاجتماعية، وقد
أخرج لنا هذا الكتاب (علم الاجتماع) يبحث في كيفية تكون المجتمع وأطواره وفي
عقلية الجماعات والرأي العام، وفي العوامل المختلفة التي كونت المجتمع وطوَّرته
وفي اعتراك هذه العوامل وتوازنها، بأسلوب سهل وعبارة مستفيضة بالأمثال التي
تقرب الموضوع إلى الأذهان، وقد جاء الكتاب في جزأين كل جزء زهاء 350
صحيفة من القطع الكبير وثمنها 50 قرشًا، وقد أخرجته بهذا الثوب الجميل
المطبعة العصرية لصاحبها الفاضل إلياس أفندي أنطون إلياس فنثني على همة
المؤلف، ونرجو للكتاب كل رواج يستحقه كما نستزيد صديقنا الأستاذَ حدادًا من هذه
المؤلفات الحديثة لدى قراء العربية.
***
(أمراض الأطفال الكثيرة الانتشار)
للدكتور العالم الفاضل الأستاذ عبد العزيز بك نظمي الاختصاصي بأمراض
الأطفال خدمة للعلم تُذْكَر فتُشْكَر، فلا يمضي عام أو بعض عام حتى يُتْحِف القراء
بمؤلف جديد، وقد كان من أهم ما نفع به جمهور القارئين والقارئات كتابه هذا فقد
توسع في موضوع أمراض الأطفال الذي يهم العالم أجمع وخاصة سكان القطر
المصري؛ لكثرة وفياته، وجاء ببيان مهم عن طرق الوقاية والمعالجة والإسعافات
المفيدة النافعة، طبع على ورق جيد تبلغ صفحاته 333 صفحة وثمنه 25 قرشًا،
فنشكر لمؤلفه خدمته هذه للعلم، ونحث القراء على مطالعته والاستفادة منه.
***
(تهذيب الكامل)
تأليف الأستاذ الفاضل السباعي بيومي يقع في جزأين كل جزء منهما يتجاوز
ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط طبع على ورق مصقول ثمنه 40 قرشًا جعل
الجزء الأول في المنثور، والثاني في المنظوم.
وقد ذكر مؤلفه أن كتاب الكامل للمبرد على شهرته الواسعة، وكونه من أنفع
كتب الأدب وأغزرها مادة قد صدر عن مؤلفه خاليًا من فهرس يرشد القارئ إلى
مراميه ومختلطًا بعضه ببعض اختلاطًا يبعد الاستفادة منه، وأنه هو قد وفق إلى
رده إلى أبواب مرتبة يحتوي كل منها على طائفة متناسبة من أنواع الكلام
وضروب القول غير تارك منه شيئًا دون إلمام به، ثم أخرج ما به من تعليقات
لأبي الحسن عن الصلب إلى الهامش مع بعض زيادات له، وقد جعل في الجزء
الأول المنثور في أربعة أبواب: باب الخطب والوصايات والمواعظ، وباب الكتب
والعهود والرسائل وباب الحِكَم والأمثال والجوامع، ثم باب النوادر والأخبار
والحوادث، والقسم الثاني المنظوم يشتمل على ستة أبواب وذيل أما كون كتاب
الكامل من أركان كتب الأدب فهو مما اتفق عليه المتقدمون الذين كانوا يتدارسونه
كما قال ابن خلدون والمتأخرون الذين كلَّت هممهم دونه، وأما الحاجة إلى تهذيبه
هذا فقد جعلته قريب المتناول من جميع طلاب الآداب، وكان لا ينظر فيه إلا
الأفراد من أساتذتهم فنرجو للكتاب الإقبال والرواج، كما نود أن يوفق مؤلفه إلى
ترتيب كتب أخرى من الكتب الثمينة التي خلت من الفهرس مع شدة حاجتها إليه.
***
(الفتاوى الطرسوسية أو أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل)
تأليف العلامة قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن
عبد الواحد بن عبد الصمد الطرسوسي المتوفى سنة 758 هجرية صحَّحه وراجع
نقوله الأستاذان الشيخ مصطفى محمد خفاجي المدرس بقسم التخصص في القضاء
الشرعي والشيخ محمود إبراهيم من خريج قسم التخصص المذكور، وقد جمع هذا
الكتاب ما لم يشمله قبله كتاب خصوصًا ما يتعلق بالوقف والقضاء حتى كان عمدة
لأفاضل العلماء السابقين ومرجعًا ثقة للمتأخرين، وقد عانا المصححان كثيرًا في
ضبط الكتاب لاختلاف في النسخ الخطية الموجودة فنثني على همتهما ونرجو أن
ينتفع أهل العلم بمزايا هذا السِّفْر الجليل، وقد عني بطبعه في مطبعة الشرق فجاء
نظيفًا على ورق مصقول من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 352 صفحة.
***
(التهذيب في أصول التعريب)
تصنيف الدكتور العالم الفاضل الأستاذ أحمد عيسى بك لا يجهل قُرَّاء الصحف
والمجلات الأبحاث القيمة التي يعالجها صديقنا الأستاذ الدكتور أحمد عيسى بك
والمنقبون لسير العلم يقرأون باهتمام مصنفاته الأدبية وما وفق إلى ترجمته من
الكتب المفيدة، وقد بَدَا له أن يضع هذا السفر في أصول التعريب، فذكر فيه
خلاصة ما رآه من العقبات في مزاولة الترجمة والتعريب، وأهمها في نظره قلة
المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الأعجمية، والثانية تعريب ما يمكن
تعريبه من المصطلحات التي يعسر إيجاد لفظ يقابلها ويحل محلها، ثم عزَّز رأيه:
بأن العرب في إبان نهضتهم لما احتاجوا إلى اقتباس شيء من علوم الأمم المتحضرة
التي تقدمتهم اضطروا بحكم الضرورة إلى تعريب الكثير من الألفاظ في مختلف
العلوم سواء كانت أعلامًا على بلدان أو على أشخاص أو أسماء معانٍ لا مدلول لها
في لغتهم، أو أنهم خافوا على تلك الألفاظ من الالتباس إن هم ترجموها ولم يوجدوا
اللفظ الأعجمي بجانبها يوضحها، فقضت ضرورة الحال بتعريبها وإدماجها في
لغتهم.
__________(29/317)
ربيع الأول - 1347هـ
سبتمبر - 1928م(29/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده
أوردنا في رسالة خلاصة السيرة المحمدية جملة من خصائص قريش التي
فضلوا بها القبائل والشعوب، وكانوا أهلاً لظهور الإصلاح الإسلامي فيهم وبعثة
خاتم النبيين منهم، ثم رأينا في هذه الأيام جملة في ذلك فيها تفصيل لبعض ما
أجملناه هنالك وزيادة عليه في كتاب ثمار القلوب للثعالبي فأحببنا نشره في المنار،
ليكون كالتكملة لما أوردناه عند كتابة تلك الرسالة من غير مراجعة كتاب ما، وفيه
زيادة على ما هنا، على توخينا الإيجاز هنالك قال الثعالبي رحمه الله:
أهل الله
كان يقال لقريش في الجاهلية: أهل الله؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من
المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تُحْصَى.
(فمنها) مجاورتهم بيت الله تعالى وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله،
وصبرهم على لأواء مكة وشدتها وخشونة العيش بها.
(ومنها) ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة (الرفادة شيء تترافد به
قريش في الجاهلية تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا)
والسقاية والرياسة واللواء والندوة.
(ومنها) كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليه السلام
من قَرْيِ الضيف ورفد الحاج والمعتمرين والقيام بما يصلحهم وتعظيم الحَرَم
وصيانته عن البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم.
(ومنها) كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ويؤتون من كل أَوْب بعيد
وفج عميق، فترد عليهم الأخلاق والعقول والآداب والألسنة واللغات والعادات
والصور والشمائل، عفوًا بلا كلفة، ولا غرم ولا عزم ولا حيلة، فيشاهدون ما لم
تشاهده قبيلة، وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض، ولا المجرب كالغمر،
ولا الأديب كالفضل، فكثرت الخواطر واتسع السماع وانفسحت الصدور، ورأوا
الغرائب التي تُشْحَذ، والأعاجيب التي تُحْفَظ، فثبتت الأمور في صدورهم،
واختمرت وتزاوجت، فتناتجت وتوالدت، وصادفت قريحة جيدة وطينة كريمة،
والقوم في الأصل مرشحون للأمر الجسيم؛ فلذلك صاروا أدهى العرب وأعقل
البرية، وأحسن الناس بيانًا، وصار أحدهم يوزن بأمة من الأمم، وكذلك ينبغي أن
يكون الإمام، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم.
(ومنها) ثابت جودهم وجزالة عطاياهم واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم
المكتسبة من التجارة، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي
هي صناعتهم، والتجار هم أصحاب التربيح، والتكسب والتدنيق، وكان في
اتصال جودهم العالي على الأجواد من قوم لا كسب لهم من التجارة عجب من
العجب، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في
الدين فتركوا الغزو؛ كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم
يبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والنجاشي بالحبشة
والمقوقس بمصر وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا
غزوا كالأسود على براثنها [1] مع الرأي الأصيل والبصيرة الناقدة فهذا يسير من
كثير من خصائصهم في الجاهلية [2] .
فلما جاء الله تعالى بالإسلام وبعث منهم خير خلقه وأفضل رسله محمدًا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، تظاهر شرفهم، وتضاعف كرمهم،
وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة،
وعلى أهل القرآن هذا الاسم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن
هم أهل الله تعالى وخاصته) وقال لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى مكة: (هل تدري
على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعي حين قدم عليه من مكة من اسخلفتَ على مكة؟
قال: ابن أبزى. قال: استخلفتَ على أهل الله مولى؟ قال: إنه أَقْرَؤُهم لكتاب
الله تعالى، قال: (إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقوامًا) .
قال بعض السلف: حسبك من قريش أنهم أهل الله وأقرب الناس بيوتًا من
بيت الله، وأقربهم قرابة من رسول الله، ولم يسم الله تعالى قبيلة باسمها غير
قريش وصارت فيهم ولهم الخصال الأربع التي هي أشرف خصال الإسلام - النبوة،
والخلافة والشورى والفتوح - فليس اليوم على ظهر الأرض وممالك العرب
والعجم في جميع الأقاليم السبعة ملك في نصاب نبوة، وإمامة في مغرس رسالة إلا
من قريش، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وقال عليه
السلام: (قَدِّمُوا قريشًا ولا تَتَقَدَّمُوهَا وتعلموا منها ولا تعلموها) وأنشد:
إن قريشًا وهي من خير الأمم ... لا يضعون قدمًا على قدم
أي يُتَّبَعُونَ ولا يَتَّبِعُونَ، وقال الأعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه
لم يبلغ مبلغ قريش:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب في ماء زمزم
وسيمر بك في هذا الكتاب من نكت فضائلهم، وغرر غرائبهم، ما تكثر
فائدته وتطيب ثمرته، وإن كان لا مزيد على وصف الجاحظ لهم ومدحه إياهم
وتخصيصه بني هاشم منهم فإنه رحمه الله ألقى جمة فصاحته واستنزف بحر بلاغته
في فصل له وهو قوله: العرب كالبدن وقريش روحها، وهاشم سرها ولُبُّها،
وموضع غاية الدين والدنيا منها، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا، وحلي العالم،
والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر
شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم،
وينبوع العلم، ومناهل الظامي إلى الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة
والحزم، والصفح عن الجرم، والإغضاء عن العثرة، والعفو عند القدرة، وهم
الأنف المقدم، والسنام الأكوم، والعزم المشمخر، والصبابة والسر، وكالماء الذي
لا ينجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالنجم للحيران، والماء البارد
للظمآن.
ومنهم العمران والأطيبان والشيخان والشهيدان، وأسد الله وذو الجناحين وسيد
الوادي وساقي الحجيج، وحليم البطحان، والبحر والحبر، والأنصار أنصارهم،
والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين
الحق والباطل منهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير
إلا هم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم، وكيف لا يكونون كذلك وفيهم رسول رب
العالمين، وإمام الأولين والآخرين، وسيد المرسلين وخاتم النبيين، الذي لم تتم
لنبي نبوة إلا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عم برسالته ما بين الخافقين،
وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، فقال: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} (المدثر:
36) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158)
وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة) وقال:
(نُصِرْتُ بالرعب من مسيرة شهر، وأعطيت جوامع الكلم، وعُرِضَتْ عليَّ مفاتيح
خزائن الأرض) وقال: (أنا أول شافع ومُشَفَّع وأول من تنشق عنه الأرض) .
وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بحياته في القرآن فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72) وقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) فأكد القسم وفسَّر المعنى ثم قصد نبيه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ولا عظيم أعظم ممن عظَّمه الله كما أنه لا صغير أصغر ممن صغَّره الله
فأيُّ ممدوح أعظم وأفخر وأسنى وأكبر من ممدوح مادحه الله، وناقل مديحه،
وراوية كلامه جبريل، والممدوح محمد صلى الله عليه وسلم اهـ.
__________
(1) براثن الأسد أظافره، ولا يظهر هنا، فلعل الأصل فرائسها.
(2) وصف البصيرة بالنقد صحيح؛ إذ بها يتميز ويعرف الجيد والرديء ويحتمل أن تكون الكلمة (النافذة) .(29/322)
الكاتب: محمد مصطفى المراغي
__________
إصلاح الأزهر الشريف
مذكرة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي شيخ الأزهر
أوجب الدين الإسلامي على أهله أن تختص طائفة منهم بحمله وتبليغه إلى
الناس {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122)
وأوجب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى السبيل الموصلة إليه
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وقواعد العلماء كلها متفقة على وجوب السعي إلى نشر الدين وإقناع
العباد بصحته، وعلى وجوب حمايته من نزعات الإلحاد وشبه المضلين.
وفي الكتاب الكريم آيات كثيرة تحث على النظر في الكون وعلى فهم ما فيه
من جمال ودقة صنع، وقد لفت النظر إلى ما في العالم الشمسي من جمال باهر
وصنع محكم، ولفت النظر إلى ما في الحيوان من غرائز تدفعها إلى الصنع الدقيق
والأعمال التي لها غايات محدودة، وأشار إلى سير الأولين، وحث القرآن على
العلم، وفاضل بين العلماء والجهال، وأعمال السلف الصالح، وسير العلماء لا تدع
شبهة في أن الدين الإسلامي يطلب من أهله السعي إلى معرفة كل شيء في الحياة.
وقد تولى سلف علماء الأمة القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وأكمله،
فخلفوا تلك الثروة العظيمة من المؤلفات في جميع فروع العلم، ودرسوا أصول
المذاهب في العالم ودرسوا الديانات ودرسوا الفلسفة على ما كان معروفًا في زمنهم،
وكتبوا المقالات في الرد على جميع الفرق، وكانت للعقل عندهم حرمته، وله
حريته التامة في البحث، وكان الاجتهاد غاية يسعى إليها كل مشتغل بالعلم متفرغ
له.
ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة وظنوا أنه لا مطمع لهم
في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها من
مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم، ونقموا هم على الناس فلم يؤدوا الواجب
الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة ولا دعاة بالمعنَى الذي
يتطلبه الدين.
في الدين الإسلامي عبادات وعقائد وأخلاق، وفقه في نظام الأسرة، وفقه في
المعاملات مثل البيع والرهن وفقه في الجنايات.
وقد عرض الدين الإسلامي لغيره من الأديان وعرض لعقائد لم تكن لأهل
الأديان، وأشار إلى بعض الأمور الكونية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة من
جماد ونبات وحيوان.
وقد هوجم الإسلام أكثر من غيره من الديانات السابقة، هوجم من أتباع
الأديان السابقة، وهوجم من ناحية العلم، وهوجم من أهل القانون.
لهذا كانت مهمة العلماء شاقة جدًّا تتطلب معلومات كثيرة: تتطلب معرفة
المذاهب قديمها وحديثها، ومعرفة ما في الأديان السابقة ومعرفة ما يَجِدُّ في الحياة
من معارف وآراء، ومعرفة البحث النظري وطرق الإقناع، وتتطلب فهم الإسلام
نفسه من ينابيعه الأولى فهمًا صحيحًا، وتتطلب معرفة اللغة وفقهها وآدابها وتتطلب
معرفة التاريخ العام وتاريخ الأديان والمذاهب وتاريخ التشريع وأطوراه، وتتطلب
العلم بقواعد الاجتماع.
والأمة المصرية أمة دينها الإسلام، فيجب عليها - وهي تجاهر بذلك - أن
ترقي تعليمه؛ ليرقى حملته، ويكونوا حفاظًا ومرشدين يدعون الناس إليه.
ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير فإن العامة تتلقى
أحكام الدين والأخلاق الدينية بسهولة لا تحتاج إلى أكثر من واعظ هاد حسن
الأسلوب جذاب إلى الفضيلة بعمله وبحسن بصره في تصريف القول في مواضعه.
ولذلك كان الدعاة إلى الفضيلة قديمًا وحديثًا يلجئون إلى الأديان يتخذونها
وسائل للإصلاح بل كل داعاة المذاهب السياسية وحملة السيوف لم يجدوا بُدًّا من
الرجوع إلى الأديان وصبغ دعواتهم بها، كل ذلك لأن حياة المجتمعات لا تدين
لنوع الإصلاح إلا إذا صبغ بصبغة دينية يكون قوامها الإيمان.
والأمة المصرية، بل والأمم الشرقية جمعاء، تدهورت أخلاقها فضعفت لديها
ملكات الصدق والوفاء بالوعد والشجاعة والصبر والإقدام والحزم وضبط النفس عن
الشهوات، وضعفت الروابط بين الجماعات فلم يعد الفرد يشعر بآلام الآخرين
ومصائبهم، وقد أثرت الحياة الفردية في حياة الجماعة أثرها الضار فانحطت منزلة
الأمم، ورضيت من المكانة بأصغر المنازل.
وقد أرى أن الأمة المصرية، وهي تريد النهوض والمجد وتتطلع إلى حياة
سياسية راقية يجب عليها أن تتذكر دينها، وتلتفت إلى حملة ذلك الدين فتصلح شأنهم
وترقي تعليمهم، وتضعهم في المكانة اللائقة بالمرشدين، والتي يجب أن يكون عليها
حملة الدين. أما إهمال هذه الناحية والسعي إلى ترقية النواحي الأخرى من حياة
الأمة، فلا أرى أنه يوصل إلى الغرض المقصود، فالخلق هو العمود الفقري للأمم لا
يمكنها أن تنهض بغيره، وأسهل طريق لتكوينه هو طريق الدين إذا أصلح تعليمه
وهذِّب دعاته.
وقد كان الأزهر مصدر أشعة نور العلوم الدينية والعربية وغيرها إلى البلاد
الإسلامية، وقد أصابه ما أصاب غيره في الشرق من خمول وضعة، فيجب على
الأمة المصرية وهي تحمل راية الأمم الإسلامية أن تنقي هذا المصباح (الأزهر)
من الأكدار، وأن تُوجِد له جهازًا قويًّا يستمد نوره منه على طريقة تتناسب مع ما
جَدَّ في العالم من أطوار في العلم وفي التفكير وفي الحوار والتخاطب، وفي طرق
الاستدلال والبحث، والدولة تنفق على الأزهر قدرًا عظيمًا من المال لا تستطيع أن
تمنعه عنه ولا تستطيع أيضًا أن تلغي الأزهر، وما يتبعه من معاهد لتوجد بدلها
معاهد أخرى، فالحاجة إلى إصلاح الأزهر واضحة لا تحتمل نزاعًا وجدالاً.
وإني أقرِّر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين
سنة لم تَعُدْ بفائدة تُذْكَر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تُؤْلِم
كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر
أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله
تعالى فلا يبالي بما تُحْدِثه من ضجة وصريخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في
العالم بمثل هذه الضجة.
يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن
يفهما على وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني، وعلى وفق قواعد
العلم الصحيحة، وأن يبتعد في تفسيرهما عن كل ما أظهر العلم بطلانه، وعن كل
ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية.
يجب أن تُهَذَّب العقائد والعبادات وتنقى مما جَدَّ فيها وابْتُدِعَ، وتهذب العادات
الإسلامية بحيث تتفق والعقل وقواعد الإسلام الصحيحة.
يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن
تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم
المساس بالأحكام المنصوص عنها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها والنظر
في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم
المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء.
يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام بما هو
موجود في الدين الإسلامي ليظهر للناس يسره وقدسه وامتيازه عن غيره في مواطن
الاختلاف، ويجب أن يدرس تاريخ الأديان وفرقها وأسباب التفرق، وتاريخ الفِرَق
الإسلامية على الخصوص وأسباب حدوثها.
يجب أن تدرس أصول المذاهب في العالم قديمها وحديثها، وكل المسائل
العلمية في النظام الشمسي، والمواليد الثلاثة مما يتوقف عليه فهم القرآن في الآيات
التي أشارت إلى ذلك.
يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة كما درسها الأسلاف، وأن يضاف
إلى هذه الدراسة دراسة أخرى على النحو الحديث في بحث اللغات وآدابها.
يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية واللغوية على طريقة
التأليف الحديثة، وأن تكون الدراسة جامعة بين الطرق القديمة (في عصور
الإسلام الزاهرة) والطرق الحديثة المعروفة الآن عند علماء التربية، وعلى الجملة
يجب أن يحافظ على جوهر الدين، وكل ما هو قطعي فيه محافظة تامة، وأن
تهذب الأساليب ويهذب كل ما حدث بالاجتهاد بحيث لا يبقى منه إلا ما هو صحيح
من جهة الدليل، وكل ما هو موافق لمصلحة العباد.
يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين؛ لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
عامة ودينه عام، ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة والأمكنة المختلفة،
وإن لم يفعل هذا فإنه يكون عُرْضَة للنفور منه والابتعاد عنه كما فعلت بعض
الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها؛ إذ تركت الفقه الإسلامي؛
لأنها وجدته بحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم، ولو أن الأمة المصرية
وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان وتبدل العرف والعادة وراعى
الضرورات والحرج لما تركته إلى غيره؛ لأنه يرتكن إلى الدين الذي هو عزيز
عليها.
ولست أنسى أن هذه الدراسة التي أسلفت بيانها دراسة شاقة تحتاج إلى مجهود
عظيم وتحتاج إلى رجال قد لا تجدهم في طائفة العلماء، وتحتاج إلى مال يكافأ به
العاملون، ولكن سمو المطلب يحملنا على تذليل كل عقبة تقف في طريقه وتوجب
علينا السخاء والبذل؛ لأننا نريد إصلاح أعز شيء على نفوس الجماهير، ونريد بهذا
الإصلاح تقويم هذه الأمة ونهوضها.
وليس من السهل أن يُكَلَّف شخص واحد بهذه الدراسة على اختلاف أنواعها،
بل من الواجب أن يفكر في طريقة التقسيم وجعل الدراسة أقسامًا وأنواعًا متميزة.
وبعد هذا أستطيع أن أضع أسسًا إجمالية للنظام الذي أبغي أن يكون عليه
الأزهر والمعاهد الدينية.
1- يجب أن يقسم التعليم الديني إلى قسمين: قسم يحدد عدد تلاميذه وترتب
درجات التعليم فيه وتبين لهم حقوقهم والغايات التي تراد منهم والأعمال التي تسند
إليهم من أعمال الدولة، وهذا هو القسم الذي سيكون موضع العناية ومكان الرجاء
والأمل، وقسم لا يحدد عدده ولا ترتب درجات التعليم فيه، ولا يكون له شيء من
الحقوق في أعمال الدولة، وإنما الغاية من وجوده هي سد حاجة من يريد التفقه في
دينه ومعرفة اللغة العربية؛ ليخرج من الجهالة إلى نور العلم ويقنع بالعلم نفسه،
وتوضع لهذا القسم نظم لا يُقْصَد منها أكثر من مراقبة الأخلاق، ومن تعليم أفراده
تعليمًا صحيحًا بعيدًا عن العقائد الفاسدة موصلاً إلى روح الدين موصلاً إلى خلق
قويم، والقسم الأول تجعل درجات التعليم فيه ثلاثا فيكون ثلاثة أقسام:
1- القسم الأولي مدته خمس سنوات.
2- القسم الثانوي مدته خمس سنوات.
3- القسم العالي مدته خمس سنوات.
والتعليم في القسمين الأولي والثانوي يكون عامًّا على مثال التعليم في
المدارس الأميرية، ويُعَلَّم فيهما كل ما يُتَعَلَّم في المدارس الأميرية ما عدا اللغات،
وتعلم فيهما علوم الأزهر الأصلية بالقدر المؤهل لدخول الأقسام العالية تعليمًا لا
يكون قوامه حفظ الدروس، وإنما يكون قوامه فهم العلم والمران على البحث
والتدليل وتربية الملكات، وقد يُلاحظ أن المدة لا تحتمل تعليم علوم الأزهر، وتعليم
ما يدرس في المدارس الأميرية، ولكن هذه الملاحظة تزول إذا لُوحِظَ أن الطالب
في المعاهد يؤخذ في سن عالية عن سن التلميذ في المدارس الأميرية، ويغلب أن
يكون أَلَمَّ بكثير من المعلومات في المدارس الأولية، وأن يكون حافظًا للقرآن
فاستعدادُهُ وسنُّه يسمحان بأن يحتمل هذا المقدار الذي يُرَاد أن يعلمه على أن الشروط
التي توضع لقبول التلاميذ في القسم الأولي كفيلة بإبعاد مَن لا يقوى على احتمال
هذه الدراسة، ويقسم التعليم العالي إلى ثلاثة أقسام:
1-قسم اللغة العربية.
2- قسم الفقه.
3-قسم الإرشاد والدعوة.
ويجب أن يلاحظ أني حيث أعرض لهذا الأقسام وحيث أبين ما يُدْرَس فيها
فإني أضع رسمًا إجماليًّا قابلاً للتهذيب وأترك تفصيله إلى أن يحين وقت التفصيل
فتؤلف له لجان فنية.
أما القسم الأول فتدرس فيه علوم اللغة من نحو وصرف ووضع وعلوم
البلاغة وأدب اللغة العربية وتاريخ الآداب وعلم النفس والتربية، ويُعَلَّمُ التلاميذ فيه
بعض اللغات التي لها اتصال وثيق باللغة العربية، ويدرس فيه الكتاب والسنة من
حيث اتصال اللغة العربية بهما، ومن حيث اتصالهما بآدابها.
وأما القسم الثاني فيُدَرَّسُ فيه الكتاب والسنة دراسة مفصلة، وبخاصة من
ناحية الأحكام الفقهية، ويدرس أصول الفقه وتقارن المذاهب الإسلامية بالقواعد
العامة في أصول القوانين ويدرس تاريخ التشريع الإسلامي، وما يلزم للقاضي
والمحامي من نظم القضاء والإدارة وقوانين المُرَافعات.
وأما القسم الثالث فيُدَرَّسُ فيه المنطق والتوحيد الإسلامي والأخلاق والفلسفة
قديمها وحديثها، وتاريخ الأديان والمذاهب مع مقارنتها بالدين الإسلامي، ويدرس
أدب اللغة والقرآن والسنة وبخاصة من ناحية طرق الهداية والإرشاد.
بعد ذلك أنتقلُ إلى الغاية من هذا التعليم النظامي وسأجدُ نفسي مضطرًا إلى
شيء من الإطالة في القول:
عندما فكرت الحكومة المصرية في إنشاء مدرسة دار العلوم لتخريج أساتذة
اللغة العربية في المدارس الأميرية كان العلماء في الأزهر لا يعنون إلا بدراسة
القواعد وفلسفتها دراسة نظرية بعيدة عن التطبيق، وبدراسة الألفاظ وخدمة عبارة
المؤلفين ولا يعنون بالغاية من اللغة ولا بخدمة اللغة نفسها، يشهد بذلك أن أسلوب
الكتب المؤلفة في تلك الأيام بعيدة كل البعد عن اللغة، يشهد بذلك أن بعض كبار
العلماء ممن شاهدناهم لم يكونوا يحسنون التعبير عن أغراضهم، ولا تزال منهم
بقية إلى اليوم، وكان العلماء أيضًا لا يدرسون شيئًا من العلوم العامة كالتاريخ
والحساب والهندسة وتقويم البلدان، وكانوا يحافظون على ما هم عليه أشد المحافظة
ولا يرون الخير إلا فيما هم فيه، فلم تكن معلوماتهم العامة ولا طرائق تعليمهم
مؤهلة لتوليهم تعليم النشء في المدارس الأميرية على النحو الحديث.
وعندما فكرت الحكومة في إنشاء مدرسة القضاء الشرعي كان الأزهر على
النحو الذي وصفته، وكان فيهم علماء يحرمون تقويم البلدان والتاريخ والحساب،
ويكتبون مقالات في الجرائد ضد هذه العلوم، وكان ولاة الأمور يشكون من أن
القضاة لا يعرفون الأرقام، ولا يعرفون طرق التوثيق ولا يعرفون من العلوم العامة
ما يجب أن يعرفه شخص يتولى الحكم بين الناس، وقد بدَّل الله هذه الأحوال
وأصبح قانون الأزهر مشتملاً على ضعفي العلوم التي كانت تُدَرَّس من قبل، وأصبح
يُدَرَّسُ فيه التاريخ الطبيعي وتُدَرَّسُ فيه الطبيعة والكيمياء ويُدَرَّس فيه الجبر
والهندسة، وَقَبِلَ الأزهرُ في قسم تخصص القضاء الشرعي دروسًا في وظائف
الأعضاء ودروسًا في التشريح، قَبِلَ الأزهريون كل جديد وأعدوا أنفسهم له وزالت
كل العقبات التي كانت من قبل ولم يبق إلا إصلاح طرق التعليم وإيجاد المعلمين
الأكفاء وتوزيع العلوم على الأقسام توزيعًا صحيحًا، وإذا كانت هناك بقية تعترض
الجديد فلم يبق لها من الشأن ما تستطيع معه أن تكون عقبة في طريق الإصلاح.
في الدولة الآن مدارس متعددة بنوع واحد من التعليم: فيها دار العلوم لتعليم
اللغة، وفيها الأزهر وكل المعاهد لعلوم اللغة، فيها مدرسة الشرعي للفقه ونظم
القضاء، وفيها تجهيزية دار العلوم، وفي الأزهر أقسام تماثلها.
تنفق الدولة على هذه المدارس جميعها، ومن الممكن أن تقتصد في هذه
النفقات، ومن الممكن أن تضم هذه النفقات بعضها إلى بعض، وتوحد جهودها؛
لتخرج أمثلة أحسن من هذه الأمثلة.
في الدولة أشكال مختلفة من العلماء تخرَّجوا في مدارس مختلفة يحسد بعضهم
بعضًا وينقم بعضهم على بعض، ولهذا أثره في إفساد الأخلاق.
لم لا يحملنا هذا كله على التفكير في توحيد الجهود وتوحيد النفقات، ونجعل
قسم اللغة منبع علماء اللغة العربية لجميع مدارس الدولة والأزهر، وتخصص فرقة
من قسم الفقهاء لتحل محل مدرسة القضاء فتكون ينبوعًا للقضاة والمحامين والمفتين
وتُلْغَى تجهيزية دار العلوم والقضاء.
أول ما يعترضنا في هذا أن مدرسة دار العلوم أنشئت للحاجة إليها، وقد
حققت الآمال فيها فأخرجت للدولة علماء أحيوا اللغة العربية وآدابها بعد أن كادت
تدرس، وكانوا من أهم الأسباب لنشر تلك اللغة وتحبيبها إلى الناس بينما الأزهر
ضعف التعليم فيه، وأصبح محلاًّ لشكوى الأمة وشكوى أهله أنفسهم، وليس من
الحكمة بناء على الآمال في الأزهر أن تميت مدرسة محققة الفائدة، وكذلك في
مدرسة القضاء.
ولكنا على الرغم من قوة هذه الحجة يمكننا التغلب عليها بمراعاة ما يأتي:
قد كان الأزهر منفصلاً عن الحكومة في الماضي انفصالاً تامًّا فلم تكن له بها
علاقة إلا بمبلغ يسير من الرزنامه كان حقًّا له عليها، ولم يكن للحكومة إشراف
عليه، وقد تبدَّل الحال فصارت ميزانية الأزهر الضخمة أكثرها من وزارة المالية
وبعضها من وزارة الأوقاف، وصار لرئيس الدولة حق الإشراف عليه وصار
مسئولاً عنه أمام البرلمان، وأصبح من اليسير على الأمة والحكومة أن تعرف فيم
تنفق الأموال وبأي شيء تشتغل المعاهد وعلى أي نحو تسير.
ثم إن اندماج دار العلوم والقضاء سيفضي حتمًا إلى إدخال أساتذة المدرستين
في الأزهر، وإلى وجود الصلة التامة بينهم وبين العلماء، فهذه الصلة التي من
شأنها أن توجد تماس الأفكار ستنتج نتائجها الحسنة في إحسان الدراسة، وستكون
هناك عناصر قوية من رجال التعليم في مجالس الإدارة والمجلس الأعلى، وفي
التفتيش على المعاهد، وعلى الجملة ستوجد كل الضمانات التي تطمئن النفوس إلى
أن المعاهد لا ترجع القهقرى.
هذا الذي قلته مضافًا إلى توحيد التعليم وتوحيد النفقات وتجانس العلماء في
الدولة من شأنه أن يحملنا على المضي في هذا الطريق.
وتختص مدرسة القضاء على نظامها الجديد بكلمة لا بد لي من التصريح بها:
لست أرجو للقضاء الشرعي خيرًا من هذه المدرسة على نظامها الجديد، وقد
كان نظامها منذ أنشئت إلى سنة 1923 خيرًا من هذا النظام الجديد.
ذلك أننا حتى اليوم ليس لنا مراجع في القضاء إلا تلك الكتب المؤلفة في
القرون الماضية، وهي كتب مُعَقَّدَة لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من
يعرف اللغة العربية، وإنما يفهمها من مارسها، ومرن على فهمها، وعرف
اصطلاح مؤلفيها، وأيضًا فإن العلوم الشرعية التي يحتاج إليها القاضي مشتبكة
يستمد بعضها من بعض، ولا غنى للفقيه عن تعرف علوم كثيرة ترتبط بالفقه،
ونظام المدرسة الجديد قطع الصلة أو أضعفها بين تلاميذ مدرسة القضاء وبين الكتب
القديمة، فالتلاميذ الذين يتخرجون من التجهيزية ويُنْقَلون إلى مدرسة القضاء ليس
لهم من المؤهلات ما يعدهم لتفهم تلك الكتب وإلى هضم تلك المعلومات التي
وضعت لهم في البرنامج.
ولست أدافع الآن عن الكتب القديمة (بل وأرجو من الله أن يمكننا من
الاستغناء عنها بأحسن منها) وإنما أدافع عن الموجود الذي قضت الضرورة
بوجوده، فنحن في حاجة إلى رسل بين القديم والحديث، وأولئك الرسل يجب أن
نعلمهم القديم والحديث ليخرجوا للناس حديثًا جيدًا فلا بد لنا من علماء فيهم من القوة
ما يستطيعون معه تصوير ذلك في أسلوب حديث، ولذلك فإنه يجب أن يراعى في
النظام الجديد للأزهر عدم إهمال طرقه الأصلية في البحث وفهم الكتب.
أما المدرسة على نظامها منذ أنشئت إلى سنة 1923 فإنها تستحق الثناء ولا
أجد ما أعيبها به، ولكن أستطيع القول بأن تعهد الأزهر والمعاهد بالرقابة وحسن
الإدارة يُخْرِج للأمة مثل علماء تلك المدرسة أو أحسن منهم.
وقد أشير في تقرير لجنة إصلاح الأزهر سنة 1924 إلى شيء من المقارنة
بين القضاة خريجي الأزهر والقضاة خريجي المدرسة، ويحسن الرجوع إليه؛ لأنه
يفيد فيما نحن بصدده.
وخلاصة ما أسلفته أن تندمج تجهيزية دار العلوم والقضاء ومدرسة القضاء
ومدرسة دار العلوم في المعاهد، على أن توضع قواعد وقتية لهذه المدارس بالنسبة
لتلاميذها الموجودة فيها الآن.
أما امتيازاتهم فهي كما يأتي:
علماء اللغة العربية يكونون أساتذة في الأزهر والمعاهد الدينية وفي جميع
مدارس الحكومة ومجالس المديريات.
علماء الفقه يكونون أساتذة العلوم الشرعية في الأزهر والمعاهد الدينية وجميع
مدارس الحكومة.
وعلماء فرقة القضاة يكونون قضاة ومحامين ومفتين وأساتذة أيضًا.
وعلماء الإرشاد والدعوة يكونون أساتذة في الأزهر والمعاهد ويكونون خطباء
وأئمة ووعاظًا ومرشدين.
أما شهادة القسم الأعلى فليس لها شيء من الحقوق إلا تأهيل صاحبها لدخول
القسم الثانوي، وأما شهادة القسم الثانوي فتؤهل صاحبها للأقسام العالية وتؤهله
لوظائف الكتابة في المحاكم الشرعية والمعاهد الدينية.
وقد ينظر بعدُ في علاقة هذا القسم وبعض الأقسام العالية بالجامعة المصرية
إذا أراد واحد من حاملي شهاداتها دخول الجامعة المصرية في بعض أقسامها.
وقد يصح أن يقال: لندع دار العلوم ومدرسة القضاء تمضيان في طريقهما
ولنصلح الأزهر على هذا النحو الذي أشير إليه وليس هناك ضرر في وجود
مدارس متعددة صالحة غير أن ما أشرت إليه بالنسبة لمدرسة القضاء يحملنا على
عدم السكوت على نظامها الحاضر، وما أشرت إليه بالنسبة للغاية العظيمة التي
ننشدها من توحيد التعليم وتجانس العلماء، ومن الفائدة التي تعود على المعاهد
نفسها من إدخال العناصر القوية في اللغة العربية وهم علماء دار العلوم إلى الأزهر
يجعلنا نفضل طريق التوحيد على طريق التعدد.
وهناك أمر لا يصح الإغضاء عنه، ذلك أن وجود مدارس دار العلوم
والقضاء وتجهيزية دار العلوم مؤثر في الأزهر والمعاهد من حيث الرغبة فيهما؛
لأن نتيجة الأزهر (إذا لم يخرج قضاة ومحامين وعلماء للغة العربية في الحكومة)
تقتصر على إخراج علماء للمعاهد وخطباء للمساجد وهي نتيجة غير مرغبة، ومن
شأنها أن تجعل التعليم الديني في المعاهد مقصورًا على بعض الطبقات التي ليس لها
في الحياة آمال سامية، وهذه الطبقات وحدها قد لا تؤمن على هذه الوديعة وديعة
الخلق الديني والثقافة الإسلامية، ومن الواجب أن لا يغيب عنا ونحن نتقدم لتهذيب
التعليم الديني وتقويم أخلاق الأمة أن نشجع الطبقات الراقية على الدخول في هذه
المعاهد لتقوم بما يُطْلَب منها من العناية بالأخلاق.
وأمر آخر: وهو أن سلب الامتيازات القديمة التي كانت للأزهر من تخريج
القضاة والمحامين وعلماء اللغة العربية يؤثر أمام الرأي العام داخل الدولة المصرية
وخارجها في الأقطار الأخرى في سمعة الأزهر والمعاهد، ومن واجب الدولة
المصرية أن تحافظ على كرامة هذا المعهد القديم، وأن ترد إليه مجده فإنه واسطة
اتصال وثيق بين الأمة المصرية وغيرها من الأمم، وإذا أحسن استخدام هذه
الوساطة عادت بفائدة أدبية ذات قيمة على الشعب المصري.
ومتى تم تنظيم الأزهر وأخذ مكانته فستعود إليه ثقة الأمم الإسلامية، وتطلب
منه علماء ومرشدين خصوصًا إذا علمت فيه اللغات التي يحتاج إليها المرشد إذا
ذهب إلى بلد من البلاد الإسلامية.
هذا هو مُجْمَل رأيي في إصلاح المعاهد والتعليم الديني أقدمه خاليًا من
التفاصيل حتى إذا ما صادف قبولاً، واتفق على النقط الأساسية فيه أمكن أن نشرع
في تأليف اللجان الفنية التي تبحث أجزاء المشروع، وأمكن بعد ذلك أن نرجع إلى
القوانين لإصلاحها.
وقبل أن أختم كلمتي هذه أشير إلى أن من الممكن إيجاد كل الضمانات لحسن
سير التعليم، وذلك بتأليف مجال الإدارة ومجلس الأزهر الأعلى على وجه تمثل فيه
وزارة المعارف تمثيلاً قويًّا، وأن يكون قسم التفتيش على اللغة العربية والعلوم
الحديثة مشتملاً على رجال يكون لوزارة المعارف رأي في اختيارهم، بل ويمكن
أيضًا أن يكون لوزارة المعارف مندوبون لحضور الامتحانات.
ولا بد لي أيضًا من أن أصرِّح بأن الأزهر لا ينبغي أن يعنى بإخراج معلمين
للمدارس الأولية، وسننظر في إنهاء الدراسة الخاصة بالتعليم الأولي.
كما أنه لا بد لي أيضًا من الإشارة إلى وجوب إلغاء قانون التخصص فقد دلت
التجارب على عقم نتائجه، ولذلك أسباب كثيرة قد يحسن عدم الإفضاء بها، وأيضًا
فإن النظام الذي أشرت إليه، وهو نظام تقسيم الدراسة العالية سيضمن تخريج
علماء لهم تفوق في علوم الأقسام التي يدخلونها.
وأسأل الله أن يهيئ للأزهر والمعاهد طريق الفلاح والنجاح في ظل مولانا
حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، وأن يوفق رجال دولته إلى عمل الخير لهذه
الطائفة وللأمة المصرية جمعاء.
(المنار)
لقد أوتي الأستاذ الأكبر في هذه المذكرة الحكمة وفصل الخطاب وجاءت شاهدًا
على ما أشرنا إليه في الجزء الماضي من سعة علمه بطرق الإصلاح، وعلى
شجاعته وإقدامه، وقد ذكرت الصحف أن صاحب الدولة رئيس الوزراء تلقى
المذكرة بالقبول، ووعد ببذل المستطاع من المساعدة للأستاذ على تنفيذها.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(29/325)
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
__________
كيف يتكون المرشدون [1]
للأستاذ العلامة صاحب الإمضاء
(4)
في مصر ثلاثة آلاف عالم أو يزيدون، وعشرات الألوف من طلبة العلم، قل
أن تجد فيهم من يُحسن الإرشاد، ويستطيع أن يأخذ بزمام القلوب فيقودها إلى حيث
سعادتها في حياتها العاجلة والحياة القابلة.
وما كان ذلك لنقص في عقول أصحابها أو فساد في فِطَرهم ولكن لم يسلك بهم
السبيل السوي الذي سلكه رب العالمين، في تكوين سيد المرسلين وخير المرشدين،
محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وإن يكن استعدادنا دون استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من
أن نلم أو نقارب فإن الله لا يكلفنا ما لا طاقة لنا به {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (الأعراف: 42) .
لذلك فكرت طويل التفكير في الطريق الذي نستطيع به تكوين المرشدين
الصالحين غير مُبَال برسوم أو تقاليد فهداني طول البحث وصادق البلاء إلى
الطريقة الآتية:
إذا أردنا تربية مرشد فعلينا أن نُحَفِّظَه القرآن على قارئ تقي حسن السيرة
والخلق، وذلك بعد أن يلم بالقراءة والكتابة والعلوم الأولية التي تفتق الأذهان وتنمي
العقول، فإذا ما أتم حفظه علمناه القواعد النحوية مع التطبيق الكثير من آي القرآن
ثم ألقينا زمامه إلى عاقل أديب دَيِّن يقرأ عليه كثيرًا من كتب الأدب الشعرية والنثرية
ويدربه في أثناء ذلك على الكتابة والخطابة، فإذا ما أجاد الكتابة وانطلق لسانه
بالخطابة رجعنا به إلى القرآن وقد حفظه وطالبناه بالإكثار من تلاوته مع تفهم
معانيه وتدبر آياته دون أن يستعين بكتاب تفسير أو معلم، اللهم إلا عقله الناضج
وفطرته السليمة وأدبه الذي تعلمه فإن لم يكن له في كل أولئك الكفاية فوقف في فهم
كلمة غريبة أو معنى آية غامضة فلا عليه إن استعان بكتب التفسير أو معلم أمين،
ولكن بمقدار ما يعرف المجهول ويستبين المستور، ثم يعود سيرته الأولى في
الاستقلال بالفهم، واستنباط المعاني والحكم والأحكام التي تضمنتها الآيات.
وإنما اخترنا تلك الطريق من بين سائر الطرق في تعلم القرآن للأسباب الآتية:
أولاً: هذه هي الطريقة التي تعلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه
كتاب الله المبين، فكانوا يعتمدون على عقولهم ولغتهم الفطرية في تفهم الآيات،
وكانوا إذا وقفوا في كلمة أو آية سأل غافلهم ذاكرهم، وعالمهم من هو أعلم منه
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43-44) ولذلك لما وقف عمر
بن الخطاب في كلمة الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَباًّ} (عبس: 31) سأل
عنها فأخبر أنها المَرْعَى.
ثانيًا: كتب التفسير محشوة بالخرافات الإسرائيلية والأباطيل المذهبية، ثم
هي لم تفسر كتاب الله من حيث هو كتاب هداية يقضي بين الناس فيما فيه يختلفون،
بل عمدوا إلى النكات البلاغية والمسائل النحوية فأطالوا الكلام فيها مما حال بين
القلوب ومعاني القرآن وهدايته، ثم تراهم يفسرون اللفظ أو الجملة بكل محتملاتها،
وإن أبى ذلك الأسلوب أو ناقضه آية أخرى، ثم نجدهم يؤولون القرآن حسب
مذاهبهم الفقهية أو نِحَلهم العقيدية، فترى (الكشاف) على جلالته في التفسير،
وسبقه الجم الغفير، يرجِّح دائمًا آراء المعتزلة، وينهج في التفسير إلى ما يوافقها،
ونرى الفخر الرازي يعزز آراء الشافعية (الأشعرية) ويُزَيِّف آراء الرازي من
الحنفية، ونرى النسفي متعصبا لمذهبه، يقضي له في كل شِجَار، وإن كان غيره
واضح الحجة قائم البرهان ليس عليه غبار، وإذا نظرت في تفسير النيسابوري
وجدته سلك مسلك الباطنية في بيان القرآن، وإن هم إلا فرقة أرادت القضاء على
الدين من حيث لا يشعر المسلمون فيفسرون كتاب الله بما لا يتفق واللغة ولا ترشد
إليه السنة بل بما يناقضه ويأتي على صرح بنائه من القواعد.
من أجل ذلك لا نرى للمرشد بل لكل متفهم للقرآن أن يتعرفه من طريق
العكوف على كتب التفسير، بل عليه أن يعتمد على نفسه بعد أن يتحصل على ما
رسمنا مضيفًا إليه معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه العملية معتمدًا
على الكتب الصحيحة التي كتبت بعين النقد والبصيرة ككتاب (زاد المعاد من هدي
خير العباد) لابن قيم الجوزية، وإن يكن لا بد من كتاب في التفسير فخيرها في
نظرنا (جامع البيان في تفسير القرآن) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري
المتوفى سنة 310هـ فإنه تفسير سلفي فسَّر به القرآن من حيث هو كتاب هداية،
وكتب قبل أن ترفع الفرق الزائغة رءوسها، وقبل أن تتمكن في النفوس بدعة
التعصب للمذاهب التي أضرت بالكتاب والسنة ضررًا بليغًا، على أن كتب التفسير
على كثرتها أخذت أحسن ما فيها من تفسير ابن جرير وتفسير الكشاف مضيفة إلى
ما أخذته غثاء من القول، وتعصبًا للمذاهب، وتقعرًا في الإعراب، وفي استخراج
النكت البلاغية فالعناية بالأصل أولى من العناية بهذه الكتب المحرَّفَة في ألفاظها
ومعانيها، والتي كتبت بلسان التعصب والصناعة، لا بلسان الحق والهداية [2] .
ثالثًا: ما فهمه الإنسان من تلقاء نفسه وكان نتيجة بحثه وكده يتمكن من قلبه،
وقلَّما تذهب به يد النسيان، ثم إن الإنسان بذلك يتعود الاستقلال في الفهم،
والاعتماد على النفس، والترفع عن حضيض التقليد، وربما عنَّ له من المعاني ما
لم يعن للسابقين، وربما كان في عصره حوادث كشفت عن معاني كثير من الآيات،
فإذا كان مستقلاًّ في فهمه، مسترشدًا بأحوال عصره في تفهم القرآن، سهل عليه
إدراك هذه المعاني الجديدة، على أني لا أعتبر مفسرًا من يحفظ أقوال غيره دون
أن تكون له ملكة فهم في القرآن، فإن هذا إن حول عما يحفظه قليلاً لم يستطع
متابعة السير معك؛ لأنه ما تعود الاستقلال في البحث.
ذلك ما يتعلق بأصل الدين في تكوين المرشدين، ولكن لن يصلوا إلى حبات
القلوب بوعظهم إلا إذا عرفوا الدنيا وسير أهلها وأخلاقهم، لذلك كان من الواجب
أن يتعرفوا أحوال المسلمين العامة، وصلتهم بغيرهم من الأمم الأخرى، وأن
يختلطوا بالناس ليعرفوا عللهم وأمراضهم، حتى إذا ما وصفوا لهم الدواء أتى على
الداء فبرأ بإذن الله، وكأيٍّ من واعظ لعدم تبصره بشئون الناس أضل أكثر مما
هدى، وهدم فوق ما بنى، ونفَّر بدل أن قرَّب، فأمثال أولئك دعاة الغواية، لا
رسل الهداية، أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وكما يلزم الواعظ الخبرة بأحوال الناس ينبغي أن يقف على طرف من علوم
الحياة التي تبصره بالكون ونظامه، والسنن التي قام عليها بناؤه، حتى يكون لهم
من ذلك معين على معرفة أسرار الله في صنعه، وحكمته في تدبير خلقه، وبذلك
يستطيع فهم آي القرآن الكونية وتقريبها من أفهام العامة، فيبصر ويبصرون،
وبآيات الله يوقنون، وعلى الله قصد السبيل.
***
صناعة خطب الجمعة وإلقاؤها
بينا لك أن خير الخطب ما كان مصدره نفس الخطيب وشعوره وإحساسه لا
نفس غيره ممن مضت بهم القرون، وكانوا في عالم غير عالمنا، ولهم أحوال
تخالف حالنا، فمن أراد العظة البالغة، والقولة النافذة، فليرم ببصره إلى المنكرات
الشائعة، والحوادث الحاضرة، خصوصًا ما كان منها قريب العهد لا تزال ذكراه
قائمة في صدور الناس وحديثه دائرًا على ألسنتهم، أو ذائعًا في صحفهم، وأثره
مشاهدًا بينهم، ثم يتخير من هذا الحوادث ما يجعله محور خطابته ومدار عظته ثم
ينظر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي تخيره ويجيد
فهمها ويفكر في الأضرار المالية والصحية والخلقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن
هذه الجريمة التي جعلها موضع عظته، ويحصي هذه الأضرار في نفسه أو بقلمه
ثم يبدأ في كتابة الخطبة إن أراد كتابتها مُضَمِّنَها آثار تلك الجريمة وما ورد عن
الشارع فيها صائغًا ذلك في قالب خطابي جذاب أخاذ يناسب أفهام السامعين ولغة
الحاضرين.
هذا إذا أراد التنفير من رذيلة أو الإقلاع عن جريمة ذاع بين الناس أمرها أو
طفح عليهم شرُّها، فإن أراد الترغيب في فضيلة أو الحث على عمل خيري أو
مشروع حيوي فليفكر في مزاياه تفكيرًا واسعًا مراعيًا الصالح العام دون المآرب
الخاصة، ويستحضر ما يناسبه من الآيات والأحاديث وفي الكتاب كل شيء وفي
السنة البيان والتفصيل، ثم ينحو في الكتابة النحو الذي بينا، وإياه والسجع المتكلف
والمحسنات المرذولة التي كثيرًا ما تخفي الأغراض وتعمي المعاني وتأخذ بصاحبها
عن سداد القول وقصده.
وليكن كلامه جامعًا محكمًا صادرًا عن قلبه مملوءًا بالعبر والعظات وينبغي أن
يكون تفكيره في جو هادئ بحيث لا يحول بينه وبين حديث النفس وحكمة العقل
ومراقبة الرب أي حائل، كما يُعْنَى بتصفية نفسه وتهذيبها قبل الشروع في العمل،
فيقدم بين يديه قراءة ما تيسر من القرآن الذي هو آيات بينات في صدور الذين
أوتوا العلم مع خشوع وخضوع وتدبر للآيات ويقلل من الطعام والشراب حتى لا
تذهب بطنته بفطنته، فيريد القول فيستعصي عليه أو بصدور غثاء أو يكون معين
كلامه اللسان فلا يتجاوز الآذان.
ثم إذا خط الخطبة فإن شاء حفظها وألقاها، وإن شاء ارتجل ما تضمنته،
وهو أحب الأمرين إليَّ حتى لا يكون مقيدًا بعبارة، فإذا ما عَنَّ له حادث جديد أثناء
الخطابة كان له من الحرية ما يمكنه من الخوض في الحدث الحادث، وكثير من
الحفاظ إذا نسوا جملة وقفوا في الخطبة فلا ينبسون بكلمة فيفقدون الهيبة في نفوس
العامة، وما ألزمها للواعظ الناصح، فكان من المصلحة ألا يتقيد بعبارة، بل يتخير
من العبارات ما يؤدي المعاني التي وصل إليها بحثه. وإن شاء الخطيب ألا يقيد
بالكتابة ما جادت به فكرته بل يرسمه في مخليته ويسطره في ذاكرته، ثم إذا حانت
الخطبة استملى الذاكرة فأملته ولم تخنه إن شاء ذلك كان خيرًا وأولى؛ لأنه لا
يحتاج إلى قلم يخط به، ولا قرطاس يقيد فيه، بل هو غني بنفسه وذاكرته عن
الآلات والأدوات، وخير الغنى غنى النفس، ذلك ما يرعاه في صناعة الخطابة.
أما الإلقاء فصوت مُسْمِع، وعبارة بَيِّنَة، ومقاطع واضحة، وتمثيل للحوادث،
وسير مع الطبيعة، دون تكلف ممقوت وصوت مكذوب، أو تمطيط في الفاصلة
أو غُنَّات غير متقبلة.
وإياه أن يأخذه الغرور بعلو المكانة وارتفاع الدرجة، أو يغلب عليه الرياء،
والتطلع إلى الثناء، فإن ذلك مرض الواعظ القاضي على سلطانها، المانع من
تأثيرها، بل عليه أن يراقب الله وحده ويذكر أنه عليم بخَطَرات نفسه وجولات
ذهنه ثم مُحَاسِبه على ما تخفي الصدور، وإذا علم أن ثناء الناس لا قيمة له عند الله
ما لم يكن بحق - وأنه لا يحول دون ضر أراده الله بمن يقول ولا يفعل، أو ينطق
بغير ما يُضْمِر ويظهر غير ما يبطن إذا علم ذلك سهل عليه أن يدع الناس وثناءهم
جانبًا ويولي وجهه نحو الذي فطر السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو
يجير ولا يجار عليه، فإن ذلكم الجدير بالرعاية والأولى بالرقابة، والحقيق بالرغبة
في ثوابه، والرهبة من عقابه، لا من لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وربما كان ثناؤه
بلسانه وبين جنبيه عدو لدود وحسود حقود فالواعظُ العاقل مَنْ مقالُ حالِهِ ساعةَ
يتصدى للإرشاد {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً
قَمْطَرِيراً} (الإِنسان: 9-10) , {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم: 32) .
وحذار للواعظ أن يلتزم خطبة واحدة في خطبة الجمعة الثانية فإن ذلك سبيل
موبوء، ودَأْب مَرْذُول، وكيف تستحل ساعة من وقت الناس كافة لا تفيدهم فيها
فائدة، ولا تعود عليهم منها عائدة، بل يسمعون عبارات قد حفظوها وملوها حتى
تركوا التفكير فيها، فأصبحت في نظرهم لغوًا من القول {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ} (القصص: 55) وهل تظن فرقًا بين من يسرق أموال الناس
ومن يسرق أوقاتهم؟ اللهم إنه لا فرق إلا أن الأول يجني على المال، والثاني على
رأس المال، فإن الوقت مصدر كل خير في الحياة الراهنة والحياة القابلة، وإن
الدنيا مزرعة الآخرة، لماذا نُعْنَى بالخطبة الأولى فنضع لها كل جمعة نصًّا جديدًا،
ولا نُعْنَى بالثانية، فنلتزم نصًّا مَجَّتْه الأسماع ونبذته الطباع، إنه لا داعي لذلك إلا
الجهل والكسل، والجهل بصناعة الخطابة أقعدنا عن صنع الخطبتين، وإن أجهدنا
الذهن واعتصرنا الفكر فقصارى الجهد وغاية الوسع خطبة واحدة نؤلفها في أسبوع،
والكسل قعد بالذين يلتمسون دواوين الخطباء عن أن يحفظوا خطبتين فاكتفوا
بواحدة لكل جمعة، واتخذوا للثانية نصًّا لزامًا مدى حياتهم بل ربما ورثوا أبناءهم
تراث أجدادهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) .
فليقلع الخطباء عن هذه العادة الممقوتة ويسلكوا في الثانية ما سلكوه في الأولى
حتى يكون آخر ما يقرع الأسماع من وعظهم كلم حديث وبدع طريف مما عملته،
أيديهم فيحمد لهم الناس ما صنعوا ويشكرون لهم ما قدموا، والله الموفق للسداد.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد العزيز الخولي
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في المجلد 27 (ج4 ص 251) من المنار.
(2) نسأل الأستاذ الكاتب أن يبين للناس في تعليمهم طرق الإرشاد رأيه في تفسير المنار أليس قد تجنب العيوب التي نعاها على المفسرين وسبقه إلى هذا النعي وسلك في التفسير طريق الهداية، ونسأله أن يبين ذلك بغير أدنى محاباة.(29/336)
الكاتب: سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي)
__________
يفترون على الله كذبًا
مطاعن المبشرين في صاحب الرسالة الإسلامية
لصاحب الفخامة سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي)
رئيس الجمعية البريطانية الإسلامية [*]
نشرت المجلة الإسلامية (إسلامك رفيو) التي يصدرها الخواجة كمال الدين
مقالاً مطولاً بقلم اللورد هدلي الذي ذاع في الناس خبر اعتناقه لدين الإسلام منذ
عشر سنين، ردًّا على مفتريات المبشرين الذين لم يكتفوا بعقد مؤتمراتهم ضد
العالم الإسلامي، بل هم يوجهون المطاعن البذيئة إلى النبي الكريم، فليشهد التاريخ
وليسطر في صفحاته هذه الأعمال التي تدل على عقلية سقيمة وتربية لا تليق أن
يتصف بها أتباع السيد المسيح عليه السلام، وهذا هو:
(كنت أطلع من وقت إلى آخر على كتابات الإرساليات المسيحية التي
يطبعونها بشكل كراسات صغيرة، ويدَّعون فيها أنهم يُدْلُون للقراء بمعلومات قيمة
عن الدين الإسلامي وواضع أسسه، وإنني لأعترف وأنا عظيم الأسف بأنني أشعر
بذلة عظيمة وخجل شديد عندما أجد أن أحد رجال وطني يضطر إلى الأخذ بالرياء
والتمويه والتحريف لكي يعزز آراءه نحو الدين، فإن الدين الحق يعلم الناس العدل
والآداب وعدم الافتراء والكذب؛ وإنه ليُذهِل أن يرى القارئ إلى أي مدى تسير
التعصبات الدينية المسيحية.
وانظر إلى وجه الصورة الآخر: ألا تدهشك رؤية مظاهر روح التسامح
والحسنى التي يقررها القرآن، وذلك الهدوء الذي يلاقي به المجتمع الإسلامي
الحملات القوية العديمة القيمة التي تحمل عليه وعلى ديانته باسم عيسى الكريم أحد
أنبيائه؟
إنني لا أجد أي جور أو تحريف في أعمال هذه النبي الكريم، وإنه وإن كانت
هناك كلمات شديدة يدفع بها المسلمون عن كرامتهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى مثل هذه
التهم الملفقة كي يكون منها أهم أسلحتهم التي يهاجمون بها خصومهم.
وها أنا ذا ذاكر الآن بعض قطع من كراسات وضعت خصيصًا لتشويه أخلاق
المصلح العربي العظيم، وسيرى كل شخص ذي عقل سليم مسيحيًّا كان أم مسلمًا
أن طلب الانتقام هو السلاح الوحيد الذي يهاجمون به الإسلام، يريدون بذلك أن
يطفئوا تلك الشمس النيرة، وأن يحجبوا أشعتها الوضاءة وليس في تلك الكراسات
حجج ولا إشارات إلى الحقائق التاريخية وإنما هي تقارير مثيرة متوالية تدل على
عقلية كاتبيها السخيفة وذوقهم السقيم.
ويرى القارئ هنا بعض أمثلة مقيئة وإنني أعتذر إليه لذكر هذيان كهذا يَمُجُّهُ
الذوقُ السليم ويحمرُّ منه وجه الفضيلة، وعذري في ذلك أنه يجب على كل مسلم أن
يعلم مقدار تعصب هذه الشرذمة الضالة، وأن يرى هذه الهجمات المتتالية التي
توجه منذ زمن بعيد ضد المسلمين الذين لا تسمح لهم حسناتهم وصبرهم وطول
أناتهم وحسن ذوقهم بأن يقابلوهم بمثل هذه السفالة المنكرة المبتذلة التي نهى عنها
المسيح الذي يعتقد هؤلاء المتدينون الأسافل أنه ربهم ومولاهم.
من ذلك ما نشرته جريدة (نور آفشو) وهي جريدة تبشيرية أسبوعية تطبع
في لوديانا قالت:
(الوحي الذي نزل على.. . أتي من لدن الشيطان) .
(المسلمون في الواقع حُمُر وأعمالهم كأعمال الجحوش) .
(المسلمون مربوطون بحبال الشيطان من رقابهم) .
(كل نساء بلاد العرب المتزوجات زانيات) .
(خلاص المسلمين مبني على ارتكاب الخطايا وجعلت الأعمال الطيبة عندهم
كوسيلة للحرمان، أما الخطيئة فقد نظمت كفرض وحيد لحياتهم الطبيعية) .
(أسس محمد أمة جعلت ارتكاب الخطايا، وجعلت الأعمال الطيبة [1]
يتعمدون الكذب ويسفكون الدماء ويرتكبون السرقة وقطع الطريق ومصيرهم إلى
جهنم جميعا) .
وكتب الدكتور ت. هويل راعي الكنيسة الإنجليزية بلاهور:
(مِن محض رغبته أو غوايته الشيطانية شكر محمد الأصنام وسجد لها) .
(إنه ظل خاضعًا للشيطان والسحر) .
(وقال مخاطبًا المسلمين بتعيير وتوبيخ؛ ذلك لأن قوادكم مجرمون شريرون
وعقولهم ضعيفة) .
وكتب القس ج. هراوءوس الأستاذ في اللاهوت (هناك أشياء كثيرة تدل
على أن.. . مجرم أثيم) .
(الطمع والغضب كانا من الشرور القوية الغريزية في ... ) .
(إن.. . مفتقر إلى الإخلاص) .
(إن.. . لا يستطيع أن يتخلص من جهنم بأية واسطة وسيلقى في جهنم
كباقي المخطئين) .
وكتب القس روكلين:
(أصحاب محمد يوصفون بأنهم سفاكون دماء وظلمة متوحشون ولصوص
غشاشون وفاعلو كل أصناف الآثام) .
وكتب القسم السير وليم مبور:
(قد سجن.. . في داخل بخار جهنم إلا أن كل ذلك حصل من جراء ارتكابه
الجرائم التي ظل يمارسها إلى أن مات) .
(القرآن مجموعة من الحكايات اليهودية والمسيحية المسروقة من التوراة
وغير الموثوق بها) .
قال اللورد بعد نقل ما ذكر:
أنا أفهم أن للقلم حرمة وأفهم أنه مرآة حامله، فإذا أثم القلم فيما يسود من
بياض القرطاس دل على أن لصاحبه نفسًا لا تسمو كثيرًا عن نفوس المجرمين،
وكل ما في الأمر أنه طليق وأنهم سجناء ... فالذي يحاول أن ينال من غيره ببذيء
القول لا ينال إلا من نفسه، والذي يريد أن يطعن غيره بفُحْش الكلام لا يطعن إلا
صدره.
فإذن يفهم من أقوال المبشرين أنهم ضالون مضللون وإذا كان هذا هو الأدب
لديهم فماذا تركوا لأوباش الأحواش (المواخير) وأبناء الأزقة؟
إن تعاليم القرآن الكريم، قد نفذت ومُورِسَتْ في حياة محمد صلى الله عليه
وسلم الذي أظهر من أشرف الصفات الخلقية ما لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها فكل
صفات الصبر والثبات والحلم والصدق كانت ترى في خلال الثلاثة عشرة سنة أثناء
جهاده في مكة هذا، ولم تتزعزع ثقته بالله تعالى وأتم كل واجباته بشمم وشهامة.
كان صلى الله عليه وسلم مثابرًا في عمله لا يخشى لومة لائم؛ لأنه كان
يدرس المسئولية التي ألقاها الله تعالى على كاهله، وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا
تعرف الجفول - تلك الشجاعة التي كانت حقًّا إحدى مميزاته وأوصافه العظيمة -
إعجاب واحترام الكافرين، وأولئك الذين كانوا يحاولون قتله، ومع ذلك فقد انتبهت
مشاعرنا وزاد إعجابنا له في حياته الأخيرة أيام انتصاره بالمدينة عندما كانت له
القوة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل من ذلك شيئًا بل عفا
عن كل أعدائه.
إن العفو والإحسان والشجاعة والحلم كل ذلك كان يرى منه في خلال تلك
المدة، وإن عددًا عديدًا من الكافرين اهتدوا إلى الإسلام عند رؤيتهم ذلك.
عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذَّبوه.
آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة وأغنى فقراءهم وعفا عن ألد أعدائه
عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته.
تلك الأخلاق اللاهوتية التي أظهرها النبي الكريم أقنعت العرب الكافرين بأن
حائزها لا يمكن إلا أن يكون مرسلاً من عند الله وأن يكون رجلاًَ هاديًا إلى الصراط
المستقيم، وإن تلك الأخلاق المُضَرِيَّة الشريفة حولت كراهيتهم المتأصلة في نفوسهم
إلى محبة وصداقة متينة.
فكل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المبشرون لتحقير
شريعة النبي العظيم بالبذاءة آنًا، وبالسفاسف المتضمنة كثيرًا من طمس الحقائق آنًا
آخر لا تمسه بأذًى ولا تغير عقيدة تابعيه قيد أصبع.
وليعلم هؤلاء الذين اتخذوا مثل هذه الأكاذيب ذريعة وأحبولة ليقتنصوا
المسلمين أن الكلام البذيء والكذب كانا أكره شيء في نظر أعظم معلمي الناصرة.
لا أظن أبدًا أن المسلمين اجتهدوا في حين من الأحيان أن يحشروا أفكارهم
ومعتقداتهم الدينية في حلوق الناس وصدورهم بالقوة والفظاعة والتعذيب، وإذا كان
هناك مثل هذه الحالات فحينئذ يمكننا أن نقول: إن مرتكبي هذه الآثام ليسوا
بمسلمين مطلقًا؛ لأننا لا نستطيع أن نقر بأن القرآن الشريف يصادق على أفعالهم.
إن محمدًا كان قانونيًّا ومحاربًا وعندما امتشق الحسام هو وتابعوه لم يكن ذلك
إلا للدفاع عن أنفسهم فقط، ولم يعتدوا قط على أحد، والسيرة النبوية تثبت لنا ذلك.
نحن نعتبر أن نبي بلاد العرب الكريم هو ذو أخلاق متينة وشخصية بارزة
حقيقية وزنت واختبرت في كل خطوة من خطى حياته، ولم ير فيها أقل نقص أبدًا.
وبما أننا باحتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في معترك هذه الحياة فحياة
النبي المقدس تسد تلك الحاجة.
إنما حياة محمد صلى الله عليه وسلم كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل والسخاء
والشجاعة والإقدام والصبر والحلم، والوداعة والعفو وجميع الأخلاق الجوهرية
التي تتكون منها الإنسانية وترى ذلك فيها بألوان وضاءة وجلاء شديد.
خذ أي وجه من وجوه الآداب تجده موضحًا في إحدى حوادث حياته وقد
وصل محمد إلى أعظم قوة وأتى إليه مُقَاوموه ووجدوا منه رحمة لا تُجَارَى.
وكان ذلك سببًا في هدايتهم ونقائهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
إن الهمة العظيمة التي لا تَعْرِف الكلل أو الوهن التي كان يبذلها النبي الكريم
لمنع عبادة الأصنام قد أثارت معارضة مريعة ضده، فلم تكن هناك قبيلة من قبائل
العرب بدون معبود صنمي، وقد أشعلت كل قبيلة لظى الحرب كي تؤيد أصنامها
وتحميها حصل ذلك كله حينما كان النبي بالمدينة، وفي الواقع فقد قضى هنالك أيامًا
أشد من تلك التي قضاها في مكة، ولما كان أعداؤه يشنون الغارة عليه في كل آن،
ومن جميع الجهات أخذ في مقاتلتهم أو إرسال رجاله لصدهم عن سبيلهم فكانوا
طورًا ينتصرون وتارةً ينهزمون، وكانت كل حادثة تخلق فرصة مناسبة للنبي
الكريم؛ ليظهر مكنونات أخلاقه العظيمة التي لو جمعها الإنسان ونسقها لوجد العالم
منها لنفسه قوانين وشرائع تتفق مع كل زمان ومكان.
لم يشهر محمد صلى الله عليه وسلم السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية
الحياة البشرية، ولربما يدعي بعض المبشرين أن الإسلام استعمل السيف في نشر
الدين، ولكن لحسن الحظ عجز ألد أعداء الإسلام القادحين عن أن يأتوا بأقل دليل
أو مثل من الأمثلة التي أثرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخص واحد.
إن هذه الوقائع كانت سببًا لإظهار كرم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم الذي
امتلك كل قلوب مواطنيه، والذي كان أشد تأثيرًا في الهيئة من أي شكل من أشكال
الإكراه، وقد أظهرت تلك المعاملة النبيلة السامية التي كان يعامل بها النبي
المنهزمين عجائب وغرائب أدهشت العالم أجمع.
فهل آن لهؤلاء المبشرين أن يسكتوا بعد أن ظهر الحق وزهق الباطل، وهل
آن لهم أن يكفوا عن هذه المفتريات التي تسقط من قيمتهم في المجتمع الإنساني؟
ولا عجب أن كذب المبشرون أو افتروا على الله كذبًا فكم تظاهر اللص
بالأمانة، والداعر بالاستقامة، والزنديق بالتدين.
ولكن لا عجب فقد غاض من وجههم ماء الحياة، وقد قال النبي العربي:
(إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .
ولو كانوا يستحيون من أنفسهم، أو على الأقل من الناس، لما أقدموا على
هذا الادعاء الباطل والافتراء الواضح، ولما باتوا مضرب المثل في الدس والتدجيل،
وعلمًا في التفريق والتضليل؟
ولكنك ترى أشد الناس إلحادًا أكثرهم تظاهرًا بالورع، وهم في الحقيقة أمهر
في النصب والاحتيال من الضاربين بالرمل واللاعبين (بالوَدَع) .
(المنار)
بينا مرارًا ما علمناه بالاختبار الطويل من أن طغمة المبشرين بالنصرانية
مؤلفة في الأغلب من أفراد من المرتزقين بدينهم الذين لا يؤمنون به ولا بغيره من
الأديان لذلك يستحلون افتراء الكذب المحرم في جميع الأديان، وهم في كل قطر
يظهرون من كذبهم وبهتانهم وسفاهتهم بقدر ما تسمح به حال حكومتها، وحسب
المسلم أن يرى أن هؤلاء الأرذلين هم مثال النصرانية ودعاتها وأئمتها ولكنهم
يلبسون على العوام بضروب من الرياء ما هو شر من الرياء الفريسي الذي ينبز به
المسيح عليه السلام أمثالهم من يهود عصره كما ترويه هذه الأناجيل بل هم والله شر
منهم، ولولا أنهم من أسفل البشر لأضلوا كثيرًا من عوام المسلمين الجاهلين، ولكن
الله لطيف بعباده.
__________
(*) منقولة من جريدة الفطرة الغراء.
(1) كذا في جريدة الفطرة، والكلام غير مفهوم؛ لأنه محرف أو فيه نقص ولا يهمنا تصحيحه.(29/344)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
وفاة سيد أمير علي
أحد قادة التفكير الإسلامي وحامل دعوة الإسلام في الغرب
القاضي أمير علي الهندي عالم من أكبر أعلام الإسلام في الشرق والغرب لا
يحتاج فيهما إلى تعريف أو وصف، اختاره الله إلى جواره والإسلام في أشد الحاجة
إلى أمثاله العظماء في علمهم وأخلاقهم وخدمتهم إليهم، وقد كنا ننتظر أن نرى
ترجمة لحياته الحافلة من علماء الهند، ولكنا لم نظفر إلا بهذه الترجمة التي دبجها
يراع الأستاذ محمد عبد الله أفندي عنان المصري ونشرت بجريدة السياسة،
وهذه هي:
نعت إلينا الأنباء الأخيرة المرحوم (مولانا) سيد أمير علي المشترع
والفيلسوف الهندي الأشهر فطويت بوفاته صفحة حافلة من أنفس صفحات التفكير
الإسلامي في عصرنا، وفقد الإسلام إمامًا من أحدث أئمته، وأرسخهم قدمًا في
دراسته، ومجاهدًا باسلاً قضى زهاء نصف القرن في الذَّوْد عن مبادئه وأحكامه،
ولعل مفكرًا مسلمًا لم يعمل في عصرنا لِبَثِّ دعوة الإسلام العلمية والاجتماعية قدر
ما عمل أمير علي برائع بيانه وناهض حجته وطريف نقده وتحليله فقد خاطب أمير
علي الغرب بلغة غربية وعمد إلى شرح مبادئ الإسلام الروحية والشرعية
والاجتماعية بأساليب الغرب العلمية، فكان أول مسلم استطاع أن يخرج للغرب
صورة صادقة من هذه المبادئ تضطرم بإيمان مسلم شربت نفسه روح الإسلام
الحقة ولا تشوبها مع ذلك ذرة من التشيع أو التحامل، وأن يعرضها في ثوب علمي
محدث يتذوقه الذهن الغربي ولا ينكره الذهن الإسلامي، وكان أول مسلم استطاع
أن يخرج للغرب أجمل وأدق صورة من المجتمع الإسلامي القديم ومدنيته وتفكيره.
ويرجع ذلك بالأخص إلى نشأة أمير علي وتكوينه الفكري، فهو سليل أسرة
عربية تنتمي إلى آل البيت هاجرت في أواسط القرن الثامن عشر من فارس إلى
الهند واستقرت في موهان من إقليم أود (أيودهيا) في شمال الهند، وفي موهان
ولد سيد أمير علي في 6 إبريل سنة 1849 من أب مسلم (هو سعادت علي) وأم
إنجليزية (هي إيزابيل أدا) ودرس أولا في كلية هوجلي في كلكوتا ونال أعلى
درجات في التاريخ والأدب، ونال شهادة العالمية من كلية عليكرة الإسلامية، ثم
ذهب إلى لندن ودرس القانون، ونال إجازته سنة 1873 واشتغل بالمحاماة بادئ
بدء، ثم عين أستاذًا للشريعة الإسلامية في كلية الرياسة في كلكوتا، فمديرًا لمدرسة
الحقوق بها، فكبيرًا لقضاة كلكوتا، وكان قد ظهر بكفايته وبيانه في كل هذه
المناصب فعين في سنة 1890 مستشارًا بمحكمة بنغالة العليا، فكان أول هندي
جلس في هذا الكرسي، وفي سنة 1904 اعتزل القضاء، وعاد إلى إنجلترا وأقام
في لندن وكان اسمه قد ذاع يومئذ ولفت أنظار ولاة الأمر في الهند وفي إنجلترا
بخدماته القضائية، وكفايته الفقهية، ومقدرته النادرة في الكتابة بالإنجليزية، فعين
في سنة 1909 مستشارا ملكيًّا في المجلس المخصوص، وانتدب للعمل في لجنته
القضائية فكان أيضًا أول هندي ظفر بهذا المنصب السامي.
بيد أن التدرج في مناصب الدولة ومراتبها الرفيعة ليس أعظم ما في حياة سيد
أمير علي، فإن جانبها الباهر هو الإنتاج الفكري والنشاط السياسي اللذين سلخ أمير
علي فيهما زهاء نصف قرن، وقد اختص فتوته وكهولته بالإنتاج الفكري ولم يأخذ
قسطه من النفوذ السياسي إلا في شيخوخته بعد أن تبوأ بظفره في عالم التفكير
والكتابة مكانًا أسمى، ولم يعن أمير علي بالتفكير والكتابة إلا في ناحية واحدة هي
الإسلام مبادئه وأحكامه وتعاليمه وتاريخه: ففي هذا الميدان برز أمير علي وكان
الفقيه البارع والفيلسوف المحدث والكاتب المبدع، وكان أول ما أخرج في هذا
الباب رسالة نقدية في حياة النبي وتعاليمه [1] كتبها سنة 1872 وهو فتى لا يجاوز
الثالثة والعشرين فألفتت إليه الأنظار في الهند، والظاهر أنه آنس منذ البداية في
نفسه كفاية خاصة لتحقيق تلك الأمنية التي جاشت بها نفسه، وخصها بتفكيره وبيانه،
وهي عرض الإسلام على الغرب في ثوبه الحقيقي والذود عنه مما يُرْمَى به ظلمًا
في المجتمعات الغربية، وقد وفق أمير علي في تحقيق هذا الغاية أعظم توفيق
وأبدع فيما وفق إليه، فأخرج للغرب بالإنجليزية سلسلة كتبه النفيسة في شرح
مبادئ الإسلام وأحكامه ولم يقتصر فضله في ذلك على تدوين الأحكام الشرعية
وتنظيمها وشرحها كما فعل في مؤلفه الضخم (الأحوال الشخصية في الأحكام
الشرعية) [2] اللذين أَمْلَى وضعهما عليه ما شاهده أثناء حياته القضائية في معاهد
بنغالة الفقهية ومحاكمها الشرعية من غموض وتعقد في درس الشرعية الإسلامية
وتطبيقها على يد قضاة من الإنجليز قَلَّمَا يدركون روح التشريع الإسلامي.
لم يقتصر فضله على ذلك، ولكنه عمد إلى غاية وَعِرَة شاقة هي شرح مبادئ
الإسلام الروحية من الوجهة العلمية وتحليلها من الوجهة الاجتماعية والمقارنة بينها
وبين مبادئ الأديان الأخرى وإلى حياة النبي العربي وتصوير خلاله ومناقبه وشرح
تعاليمه السياسية، فأخرج أقوى كتبه وأعظمها (روح الإسلام أو حياة محمد
وتعاليمه) [3] وهو مؤلف ضخم يعرض فيه بالنقد والتحليل لترجمة النبي وأصول
الإسلام وفرائضه وفكرته في الألوهية وأحكامه في الأحوال الشخصية والاجتماعية
وفكرته في البعث وروحه في القومية والسياسة والعلم والأدب والفرق الإسلامية
وفلاسفة الإسلام وفيه يبلغ ذروة الافتنان والإجادة في دقة التصوير، وسلامة التدليل
والتعليل، وروعة البيان والعرض، ولا سيما في مقدمته التي هي قطعة من أقوى
وأبدع فصول التوحيد والكلام، أما ناحية الإسلام الأخلاقية فقد تناولها أمير علي في
كتاب آخر هو: (خلال الإسلام) [4] الذي يعتبر تتمة لكتاب (روح الإسلام) .
ولم يقف أمير علي عند هذا العرض الباهر لمبادئ الإسلام وتعاليمه، وهذا
الوصل الجريء الراجح بين العلم والدين بل شاء أن يقدم إلى الغرب صورة صادقة
من المجتمع الإسلامي ذاته خلال العصور المتعاقبة، وأن يقرن الصور المعنوية
التي قدمها من الإسلام وروحه وأصوله بصورة مادية من سير الدول الإسلامية
فوضع كتابه (مختصر تاريخ المسلمين) [5] وفيه يتناول تاريخ الدول الإسلامية
دولة فدولة، وإذا ذكرنا تشعب الموضوع واتساعه كان وصف المؤلف كتابه
(بالمختصر) حقًّا من حيث الإيجاز في سرد الحوادث، ولكن كتاب أمير علي يقدم
للقارئ صورة من أبدع الصور التي وضعت في تاريخ الإسلام ويَبُذُّ الكتب
الموسوعة بالطرافة والحداثة وحسن الترتيب ودقة التحليل، وفيه يبدو أمير علي
المؤرخ المستنير والناقد المتمكن، فيسرد تاريخ الإسلام ودوله في ضوء النظريات
الحديثة، سواء من حيث الدولة أو السياسة، ويُعْنَى بالناحية الاجتماعية والفكرية
فيقدم عنهما في نهاية كل دولة لمحة قوية ممتعة، وتراه فيما يسرد وينقد يضطرم
بروح إسلامي حق لا تشوبه شائبة تعصب أو تحامل يحمد في مواضع الحمد،
ويحمل في مواضع الذم، وأسلوبه في كل ذلك عذب قوي، وليس من المبالغة أن
نقول: إنه كثيرًا ما يسمو إلى منافسة جيبون وماكولي خصوصًا في وصف
الحوادث العظمى كالحروب الصليبية، وغزو التتار لبغداد، وسقوط غرناطة،
والخلاصة أن مختصر أمير علي في تاريخ الدول الإسلامية من أنفس ما كتب في
هذا الموضوع، وفي اعتقادنا أنه وُفِّق أعظم توفيق في إدراك الغاية التي قصدها
بوضعه وهي (التعريف بأحدث الشعوب التي تركت في العالم آثارًا لا تُمْحَى والتي
ما زالت أوربا الحديثة تتغذى من تراثه) .
هذه هي الخدمات الجليلة التي أداها أمير علي في سبيل نشر الدعوة الإسلامية
والذَّوْد عنها بسلاح الحقائق والأدلة والمنطق السليم، وقد سبق أمير علي وعاصره
مستشرقون تجردوا لبحث الإسلام وتاريخه وبذلوا في هذا السبيل جهودًا نبيلة مثمرة
بلا ريب، ولكن أمير علي يفوقهم جميعًا بكونه قد تحرَّر من أسباب التحامل التي
تُرَى ماثلة في كثير من مباحثهم وأدرك روح الإسلام ونفذ إلى أعماق العواطف
والخلال الإسلامية فكان بذلك خير أهل للمهمة التي كرس لها تفكيره وبيانه.
وكان للسيد أمير علي مقامه في الزعامة السياسية في الهند، وكان يعمل أثناء
الأعوام الطويلة التي سلخها في قضاء الهند وإدارتها على تحقيق أمنية عزيزة له
هي تقدم مواطنيه مسلمي الهند، سواء من الوجهة المادية أو المعنوية، وقد بذل في
ذلك السبيل جهودًا شتى، وكان لهذه الجهود نصيب كبير من الفوز أثناء أن كان
عضوًا بمجلس التشريع الأمبراطوري ما بين سنتي 83 و 85 على أنها لم تحمل
ثمرتها العامة إلا في عهد اللورد مورلي في سنة 1906 حيث رأت الحكومة
البريطانية أن تُدْخِل طائفة كبيرة من الإصلاحات الدستورية والتشريعية في حكومة
الهند تحقيقًا لأماني المعتدلين وتهدئة للاضطرابات الوطنية التي وقعت يومئذ.
على أن أمير علي كان في جهوده السياسية بالنسبة للإسلام دوليًّا أيضًا، ففي
جميع الخطوب التي كانت تدهم الإسلام أو الأمم الإسلامية كان صوت أمير علي
يرتفع في بريطانيا وفي أوربا، وكان آخر صيحة أرسلها في هذا السبيل نداءه
المشهور الذي وجهه أيام الحرب الريفية إلى فرنسا، وناشدها فيه أن تسالم شعبًا
صغيرًا مجاهدًا، فالعالم كله يعرف أنها تستطيع سحقه بأيسر أمر، ولكن التسامح
في احترام الأماني القومية لهذا الشعب الصغير الباسل، يسجل لفرنسا في صحف
الفروسية والشهامة، فكان هذا النداء قطعة مؤثرة من البيان والحكمة التي عرف
بهما أمير علي كل حياته.
هذه هي صفحة وجزء من حياة هذا المفكر المسلم الكبير وآثاره الجليلة، ففقده
رُزْء للعالم الإسلامي كله، ولكن للعالم الإسلامي أن يتعزى عن خطبه الفادح بما
أودعه أمير عَلِيّ صفحات آثاره الخالدة من عميق حكمته وصائب منطقه وسحر
بيانه تغمده الله برحمته وأفسح له رحب جنانه.
__________
(1) Critcal Examination of life and Teachigs of mahomet.
(2) personal law of the Mohammedans.
(3) Studentds hand book of Moh.
(4) Spirit of Islam.
(5) Ethios of Islam.
(6) A short History of the saracens.(29/352)
الكاتب: أحمد جميل الرافعي
__________
المرأة المسلمة ونهضتها الحاضرة
لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء
لا أكذب القارئ أني قليل التفاؤل بهذه النهضة النسائية التي نجم قرنها في
خلال المظاهرات السياسية عام 1919 ضعيف الثقة بنتاج هذه الحركة التي لا أجد
فيها أثرًا للبركة المزعومة، اللهم إلا إذا بقينا نتمسك بالقشور ونهمل اللباب أو تظل
حياتنا مليئة بالأوهام لا تطل عليها الحقائق.
لا أتعرض للحجاب؛ إذ لم يبق من حجاب، ولا أبحث في السفور فقد
تخطينا السفور من جميع نواحيه، ولكني أريد أن أنفذ إلى صميم النهضة فأحلل ما
فيها من خير وشر وغَثّ وسمين.
يزعم المتكلمون في شئون النهضة النسائية في مصرنا سواء كانوا من الرجال
أو النساء أن المرأة المصرية نهضت، فقد كثر المتعلمات وشرعن يظهرن بمظهر
المتمدنات، حتى صارت فيهن العالمة الفاضلة والخطيبة المُفَوَّهَة والكاتبة الجريئة،
والمدارس الرسمية وغير الرسمية تُخَرِّج في كل عام خريجات حصلن على نصيب
من العلم غير قليل، فهذه النهضة، وإن تكن كالطبل يدوي من بعيد إلا أن لها شأنها
في حركة التقدم الإنساني المستمر أليس الرمد خيرًا من العمى؟
هذه كل صفات النهضة النسائية التي صار بعض أعضائها يطالبن بالانتخابات
السياسية وبعضهن يحضرن المؤتمرات النسائية العالمية والبعض الآخر يطلبن
مساواة المرأة بالرجل مساواة تجعل العاقل يضحك حتى يستلقي على قفاه.
وإذا ألقيت نظرة صادقة على جميع هذه المدعيات العريضة تجدها جوفاء أو
قل بتواضع: إنها مجموعة قشور خالية من اللباب.
إن نهوض المرأة كنهوض الرجل يجب أن يكون مبنيًّا على أساس ثابت
وضعت أحجاره المتينة وضعًا محكمًا بمصلحة الوطن الحقيقية وإلا كان هذا
النهوض ككل بناء لا أساس له.
ولأجل أن نختصر لك الطريق فلا ندعك تتوغل في أعماق البحث نذكر لك
أن أساس هذه النهضة النسائية المكذوبة المدارس، وأنت تعلم أن برامج المدارس
وخصوصًا للبنات المسلمات ليس فيها من العلم الصحيح علم واحد، فكل العلوم
سطحية خصوصًا ما كانت علاقته بالحياة العملية علاقة مباشرة، ولسنا في حاجة
إلى أن نضرب لك الأمثال فوزارة المعارف المصرية لا يوجد فيها رجل واحد
يدعي بحق أن هذه الوزارة وفقت حتى الساعة إلى برنامج يستطيع منفذوه أن
يرفعوا به مستوى الفتاة المسلمة وكل ما وضعوه هو مجموعة برامج تخرج فتيات لا
يعرفن العلم ويحتقرن الجهل، يقدرن العمل ولا يعرفن كيف العمل في أبسط
وظائف المرأة في الحياة، وأما المظاهر الفارغة وهي عبارة عن بعض الرطانة
باللغات الإفرنجية والعزف على آلة البيانو أو معرفة شيء من الجغرافية الناقصة
والتاريخ المُشَوَّه والأدب المقلوب، فهذا كله من أسباب خروج الفتيات من حظيرة
الجد والعمل إلى فضاء الفوضى والانصراف إلى المظاهر الفارغة التي يستغلها
الأوربي بملابسه وأزيائه وأصباغه التي رمانا بها من عهد بعيد، وأغرقنا فيها من
عهد قريب.
ليس في مصر نهضة نسائية ولا شبه نسائية؛ لأن الفتاة التي تحمل اليوم
أعلى الشهادات المصرية لا تعرف شيئًا عن فن تربية الأولاد، وهو أسمى وظائف
المرأة قديمًا وحديثًا، وخصوصًا بعد أن نفذ العلم في كل شئون الحياة، فالفتاة التي
لا تستطيع إدارة منزلها على قواعد الاقتصاد الصحيح والنظافة الصحيحة الحديثة،
والعمل بيدها في مطبخها عملاً أسمى في مجموعه من عمل الطاهي أو الطاهية
الأميين لم تستفد من علمها ولم تنهض حقًّا، والفتاة التي لم تتعلم في المدرسة حقيقة
دينها والفضائل التي تعصمها من الرذيلة على اختلاف أنواعها لا تستطيع أن تهيئ
للأمة أبناء صالحين لأمتهم ودينهم بل لم تنهض، بل لم تشرف بعدُ على قمة
النهوض ولا على قاعدته، ثم المرأة التي لا تحسن معاشرة الزوج بل تنفره من
الحياة الزوجية، وقد خلقت لتساعده عليها لم تنهض.
ثم أختصر لك الطريق فأسألك أيها القارئ الحكيم هل تمشي في شوارعنا
شوارع القاهرة؟ أجل إنك تمشي كل يوم تستعرض هذه الجماهير النسائية، ولا
سيما اللواتي ينم مظهرهن على أنهن حملن شهادات المدارس، ولا سيما العالية،
أتُراك تجد في مظاهرهن شيئًا من مظاهر الحياة الصحيحة اللهم ما خلا الصحة في
البعض التي جاءتهن عفوًا وبلا عناء؟ ألم تر التبرج الذي لا تسيغه حتى الهمجية؟
ألا ترى الآداب التي سفلت حتى ذكَّرتنا عهدًا من أسوأ عهود التاريخ؟
ثم ما هذا الإسراف الذي يقصم ظهور الرجال ولا يدل إلا على الجهل حتى
في طبيعة الإسراف؟
أتظن يا سيدى القارئ أن كل هذا الإسراف في الملبس والمركب هو من
مظاهر الثروة الصحيحة؟
كلا إن أكثر ذلك يستدينه الرجل المغلوب على أمره، وقد يستدينه بالربا
الفاحش.
فأين النهضة المزعومة إذا كانت المرأة اكتفت منها بالإسراف والتبرج
وخلع احترام الرجل وإهمال الدار والانصباب على العرض الزائل والتمسك بالأوهام
الكاذبة؟ أما المرأة الأمية التي كنا نعرفها منذ 25عامًا، والتي شكونا إلى الله من
جهلها المطبق، فقد كانت تدبر البيت إدارة تلتئم في كثير من الأحوال مع مستوى
الأمة، وتربي الأبناء تربية فيها أثر كبير للأخلاق الفاضلة والرجولية الصادقة،
والإيمان القوي، وكانت تقتصد كل الاقتصاد فكان معظم مصروفها في بلدها ولا تنفق
إلا بحساب.
فإذا قسنا نتاج المتعلمات بنتاج الجاهلات فهل نرى أثرًا لغير النهضة
المقلوبة؟ أنا لا أنكر أن للرجال المسلمين دخلاً عظيمًا في هذا التأخر المسمى
نهضة، ولكني لا أود البحث في الأسباب الآن، وإنما أحاول أن أقرر أن نهضة
المرأة مكذوبة وأن الإسراف في تسميتها نهضة فيه من الضرر على المرأة والوطن
ما لا يخفى على البصير.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جميل الرافعي
__________(29/358)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السبرتزم أو استحضار الأرواح
هل يُثبت العلم وجود الأرواح وإمكان مخاطبتها؟
أحدث الآراء في هذا الشأن
أشرنا في الصفحة العلمية الماضية إلى مسألة مخاطبة الأرواح، وأظهرنا
العلاقة التي بينها وبين التنويم المغناطيسي، والحقيقة أن اعتقاد وجود الأرواح قديم
جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه العقائد الدينية، وفي الكتب المنزلة إشارات
متعددة إليه، إلا أنه لم يتخذ شكله الحاضر إلا في أواسط القرن الفائت كما سيجيء
ذلك.
ولا حاجة إلى القول بأن أصحاب مذهب (السبرتزم) يعتقدون أن روح
الإنسان تفارق الجسد عند الموت، وتمضي إلى مكان مجهول، ولكنها لا تقطع
علاقاتها بهذا العالم، بل تعود إليه من وقت إلى آخر في حالات معينة، وتتجلى
لأفراد معينين من الناس يُعرفون (بالوسطاء) وليس من السهل تجليها للوسطاء
دون غيرهم ولكن سببه (على ما يدعي أصحاب هذا المذهب) هو استعداد أولئك
الوسطاء استعدادًا خاصًّا يمكنهم من الاتصال بالأرواح ويسهل وقوعهم في غيبوبة
استهوائية إذا قضت الضرورة بذلك.
والقائلون بوجود الأرواح وبإمكان استحضارها ومخاطبتها لا يسلمون من
بعض الخلط والوقوع في المتناقضات، فبينما هم يقولون بأن الأرواح غير مادية
تراهم يقولون: إنها مؤلفة من شبه مادة هي الأكتوبلازم أو أن مادة الأكتوبلازم
تنبعث منها فتتخذ شكل الإنسان الذي كانت تسكن جسده، ومن البديهي أن هذه
الدعوى لا تخرج عن حَيِّزِ النظريات التي لا تنطبق على مبدأ علمي.
ولسنا نريد الآن أن نفند مذهب (السبرتزم) أو ننفيه، وإنما نحن نعتقد أن
جميع ما كتبه أصحاب هذا المذهب والعلماء الذين يؤيدونه لا يكفي لإثبات نظريتهم
من وجه علمي، وأن انتصار فريق من مشاهير العلماء (للسبرتزم) لا يعتبر
برهانًا على صحته، نعم إن وليم ستيد وهولوكاين والسر أوليفرلودج والدكتور
تليارد وغيرهم هم من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، وقد حاولوا إثبات نظرية
(السبرتزم) بكل ما فيهم من قوة، ولكن مساعيهم لا تقنع جمهور العلماء، والرأي
السائد بين هؤلاء هو أن العلم لم ينجح حتى الآن في إثبات دعوى (السبرتزم)
وهذا لا يمنع من تمكنه من إثباتها في المستقبل.
ومما يدعو إلى الأسف ظهور الكثيرين من الدجالين والمشعوذين الذين حاولوا
إيهام الناس أن في وسعهم استحضار الأرواح ومخاطبتها وكثيرًا ما أقاموا الحفلات
الخاصة لذلك فتمادوا في الشعوذة وخداع الناس، وكان لانكشاف خداعهم أسوأ أثر
في النفوس من جهة مذهب (السبرتزم) مع أننا لا ننكر أن بين العلماء فريقًا سعى
لإثبات هذه المذهب بكل جد وإخلاص.
نبذة تاريخية
أميركا مهد مذهب السبرتزم
قلنا: إن اعتقاد وجود الأرواح قديم جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه
العقائد الدينية، وقد كان هذا الاعتقاد شائعًا بين أقدم الأمم، ولا سيما بين المصريين
الذين كانوا يدفنون موتاهم ويطمرون معهم ما قد تحتاج إليه روح الميت من سلاح
وطعام في أثناء تجوالها في عالم الأرواح، وكان القوم يعتقدون أن روح الإنسان
تعود إلى هذا العالم من وقت إلى وقت لتتزود بما تحتاج إليها في رحلاتها النائية.
وكان الاعتقاد بإمكان الاتصال بالأرواح شائعًا بين اليهود أيضا كما يؤخذ من
رواية ساحرة (عين دور) في التوراة وخلاصتها أن الملك (شاول) لجأ إلى تلك
الساحرة لتستحضر له روح النبي صموئيل لعلها تشفع به عند الله؛ لينصره على
أعدائه فاستحضرت له الساحرة روح صموئيل وأنذرته بسوء مصيره.
على أن مذهب (السبرتزم) أو استحضار الأرواح لم يتخذ شكله الحالي إلا
في أواسط القرن التاسع عشر، وكان بدء ذلك في أميركا إذ ادَّعت أسرة رجل
يدعى فوكس (والأسرة مؤلفة من الرجل وزوجه وابنتيهما) بأن أصواتًا وحركات
غريبة كانت تزعجهم في بعض الليالي، ثم ادعت إحدى الابنتين، وهي كاترين
فوكس بأنها كانت تسمع في الليل فرقعة معينة من غير أن ترى أثرًا لمنشىء تلك
الفرقعة، وفي ذات ليلة خاطبها صوت مجهول، وقال: إنه روح أحد الذين سكنوا
ذلك المنزل، وبعد أيام ذهبت كاترين للإقامة مع أختها المتزوجة، وفي أثناء إقامتها
هنالك بدئ بوضع (السبرتزم) على أساسه الحديث، ولعل كاترين وأختها هي
أول (الوسطاء) الذين ظهروا في الصور الحديثة و (الوسيط) هو الصلة بين
العالم الروحي والعالم المادي، ووجوده شرط لازم لمخاطبة الأرواح على ما يقول
أصحاب هذا المبدأ؛ لأن للوسطاء كما سبق القول استعدادًا خاصًّا للاتصال
بالأرواح نظرًا إلى سهولة وقوعهم في غيبوبة استهوائية.
ومنذ اتخذت أيام أسرة فوكس نظرية (السبرتزم) شكلاً خاصًّا من مقتضياته
تجلي الروح للوسطاء في أحوال معينة يصحبها دائما أصوات (نقرات) على
الأبواب أو الموائد وتحريك موائد مستديرة على وجه معين لا نعلم ما هي الحكمة
في اختياره دون غيره كما أننا لا نعلم ما هي الحكمة في أن الأرواح تختار
للتخاطب أحرفًا هجائية تركب منها كلمات معينة بدلاً من أن تنطق بما تريده
بصراحة وإيجاز.
وليس ذلك فقط بل إن (الوسطاء) اصطلحوا على وضع (قاموس)
للأصوات والحركات التي يدعون أنها تصدر من الأرواح، فاصطلحوا على تفسير
صوت النقرة الواحدة على الباب أو النافذة أو المائدة بمعنى نعم، والنقرتين بمعنى
(لا) والثلاث النقرات بمعنى آخر، وهلمَّ جرًّا.
انتشار مذهب السبرتزم
والأحوال التي ساعدت على نشره
وما كاد مذهب السبرتزم يظهر وينتشر في أميركا حتى وصل إلى أوربا أيضا
فأخذ (الوسطاء) الأميركيون يقصدون إلى إنجلترا لنشر مذهبهم ولإقامة حفلات
استحضار الأرواح، وساعد على إذاعة شهرتهم ونشر تعاليمهم ما في الناس كافة
من الميل إلى غوامض الطبيعة وإلى معرفة كل ما وراء العالم المنظور، كما أن
المحزونين والمصابين بفقد أحبابهم يحنون أبدًا إلى مخاطبة أرواح أولئك الأحباب
والاطمئنان عليهم في عالمهم غير المنظور.
ثم إن العقائد الدينية كلها تؤيد وجود الأرواح وتقول: إنها تخلد في عالم غير
عالم المادة، وقد ساعدت تلك العقائد على نشر مذهب (السبرتزم) وعليه فليس
عجيبًا أن ترى اليوم هذا المذهب منتشرًا في أنحاء كثيرة، وله أنصار كثيرون حتى
من أقطاب العلماء مع أن العلم لم يستطع إثبات هذا المذهب بوجه قاطع حتى الآن،
ولا نزال نذكر أن إحدى الصحف الإنجليزية عرضت في السنة الماضية جائزة
مالية كبيرة لمن يستطيع إثبات (السبرتزم) إثباتًا علميًّا لا شك فيه.
وعهدت إلى لجنة من كبار علماء إنجلترا في فحص دعوى كل (وسيط)
يتقدم لنيل تلك الجائزة وبعد مباحث شاقة قام بها العلماء وبعد فحص جميع
(الوسطاء) الذين تقدموا إليهم حكموا بأن مذهب (السبرتزم) لا يزال بعيدًا عن كل
ما يثبته إثباتًا علميًّا قاطعًا، وذلك مع اعترافهم بعجزهم عن تعليل بعض الأمور
والمشاهد التي تتم على يد (الوسطاء) والتي يصعب وصفها بأنها من قبيل الخداع،
نعم إن هذه الوصف ينطبق على أعمال بعض (الوسطاء) ولكن من الظلم تعميمه
على جميعهم.
الأرواح والبيوت المسكونة
رأي السير أوليفر لودج في تلك البيوت
ولا يخفى أن بين الأرواح والبيوت المسكونة علاقة شديدة، وعامة الناس
يؤمنون بوجود الأرواح، وترى معظمهم ينفرون من سكنى تلك البيوت نفورًا شديدًا
سببه الخوف من الأعمال المزعجة التي تعملها الأرواح في تلك البيوت.
ومن الغريب أن فريقًا من العلماء، وعلى رأسهم السير أوليفر لودج من كبار
فلاسفة الإنجليز يصدقون وجود البيوت المسكونة، ويعللون ذلك تعليلاً قائمًا في
الظاهر على مبدأ علمي إلا أنه نظري ينقصه التطبيق العملي، وخلاصة هذا
التعليل هو أن الأرواح وهي غير مادية قد تتغلغل في المادة وتقيم بها مع الاحتفاظ
بحريتها في الانفصال عنها متى شاءت، فإذا فرضنا أن إنسانًا مقيمًا بمنزل معين
قتل غيلة فقد تتغلغل روحه (على ما يقول السير أوليفرلودج) في المواد المصنوع
منها المنزل في الحجر والخشب والحديد إلخ ثم تنفصل عنها في حالات معينة.
وقد شرحنا هذه النظرية في صفحة علمية ماضية فلا حاجة للعودة إليها الآن،
وإنما نقول: إن إثبات هذه النظرية من وجه علمي ليس من الهنات الهينات.
لماذا ينكر الماديون
نظرية استحضار الأرواح ومخاطبتها
على أن جميع الجهود التي بذلها أنصار مذهب (السبرتزم) لإقناع العلماء
بصحة مذهبهم قد ذهبت أدراج الرياح وذلك للأسباب الآتية:
(1) أن العلم لم يثبت وجود الروح وجودًا حقيقيًّا حتى الآن ولا خلودها بعد
الموت.
(2) أن الاختبار أثبت أن كثيرًا من الذين يدعون القدرة على استحضار
الأرواح كانوا كاذبين محتالين.
(3) أن الحفلات التي يقيمها مستحضرو الأرواح لا تقنع العلماء من وجه
علمي لا سيما أن معظمها متماثل متشابه كتحريك الموائد المستديرة والنقر على
الأبواب نقرًا اصطلحوا على تفسيره بأحرف هجائية معينة.
(4) عدم معرفة الحكمة في أن الأرواح لا تظهر إلا في الحالات التي
يختارها مستحضروها من وجود الظلام الحالك والوسيط والموائد المستديرة إلخ.
وهناك أسباب أخرى تحول دون تصديق العلماء الماديين لإمكان استحضار
الأرواح، وهم يعتقدون أن مستحضريها هما فريقان لا ثالث لهما، فإما أن يكونوا
مشعوذين مخادعين أو أن يكونوا سليمي النية مخدوعين فيما يعتقدونه من إمكان
حضور الأرواح أو استحضارها، والفريق الأخير هم (الوسطاء) الذين يسهل
إيقاعهم في غيبوبة مغنطيسية والإيحاء إليهم - وهم على تلك الحال - بأن يجيبوا عن
بعض المسائل التي تجول بأفكار الحاضرين، ومستحضرو الأرواح لا ينكرون أن
وسطاءهم يسقطون أحيانًا في غيبوبة استهوائية أي في سبات مغناطيسي، ويدعون
بأن ذلك لازم لحضور الأرواح.
وقد اعتاد سواد الناس أن يتصوروا الروح شبحًا غريبًا يبدو هنيهة ثم يتوارى
عن الأبصار، وعلى هذه الفكرة بنى الشعراء والخياليون القصص الخاصة
بالأرواح (راجع رواية شكسبير التي ورد فيها ذكر الأرواح) فاستحضار الروح
إلى الذهن بصورة تختلف عن تلك الصورة ليس مما تأنس إليه النفس، نعم إن هذا
الاختلاف ليس دليلاً على بطلان مذهب (السبرتزم) ولكن لا تنس أن (الروح)
التي يمثلها لنا شكسبير وأمثاله هي أقرب إلى العقل من (الروح) التي يستحضرها
أنصار (السبرتزم) بصورة حركات مزعجة ونقرات على الأبواب وعلى الموائد
المتحركة.
ولسنا ننكر أن كثيرًا من المشاهد التي يعرضها أنصار مذهب (السبرتزم)
لاستحضار الأرواح هي في ظاهرها خارقة للطبيعة يصعب تعليلها أو اكتشاف أثر
الخداع أو الشعوذة فيها، ومع ذلك فهي غير كافية لإقناع العلماء بصحة مذهب
(السبرتزم) .
مَثَل من استحضار الأرواح
هل يمكن تعليل أو اكتشاف أثر الشعوذة فيها؟
ومما يجدر بالذكر أن الدكتور تليارد هو من أشهر علماء الإنجليز، وهو
عضو بالجمعية العلمية الملكية التي يعتبر أعضاؤها صفوة العلماء الإنجليز، وقد
نشر هذا العالم مقالته في مجلة (نايتشير) الإنجليزية (انظر العدد الصادر في 18
أغسطس الماضي) وصف فيها حادثًا يعتقد أنه يثبت نظرية استحضار الأرواح
إثباتًا قاطعًا، وقد رأينا أن نورد هنا خلاصة مقالته المشار إليها، قال:
حاولت في خلال الست السنوات الماضية أن أدرس الظواهر الخارقة المتعلقة
بمسألة استحضار الأرواح لأرى هل من الممكن إثباتها علميًّا؛ لأن في إثباتها دليلاً
قاطعًا على حقيقة الخلود التي طال عليها الجدل، وكنت في أول الأمر شديد
الارتياب في مسألة الخلود أكاد أنكرها إنكارًا باتًّا، وأعتقد أنها خرافة لا طائل تحتها،
وأن الموت هو نهاية كل شيء، وفي الوقت عينه كنت أعترف بأن في الظواهر
الخارقة المتعلقة (بالسبرتزم) أو استحضار الأرواح ما ليس من قبيل الخداع،
ومع ذلك لا يمكن تعليله تعليلا ينطبق على العالم، وإنما يمكن تعليله إذا سلمنا جدلاً
بدعوى الخلود، وبعد بحث واستقراء عظيمين سمعت بوجود السيدة كراندون
الأميركية وعلمت بأنها أشهر (وسيطات) هذه العصر وأصدقهن في استحضار
الأرواح، وقد قابلتها وشهدت بعض أعمالها فلم يبق عندي شك في حقيقة (السبرتزم)
لأن التجارب التي أجرتها مسز كراندون أمامي وأمام أحد أصدقائي تثبت وجود
الأرواح وإمكان الاتصال بها بطريقة علمية.
وقبل الإتيان على تفاصيل تلك التجارب لا بد من ذكر الأمور الآتية وهي:
(1) اتخذت جميع الاحتياطات الممكنة لمنع الغش.
(2) أن التجارب التي قامت بها مسز كراندون أمامي وأمام صديقي كانت
مقنعة تمام الإقناع، وفي الإمكان إعادتها مثنى وثلاث ورباع؛ ليتأكد كل من
يخالجه أدنى شك أنه ليس ثمة أقل خداع، وهذا يبطل حجة الذي يتهمون الوسطاء
بأنهم يرفضون عادة تكرار التجارب التي يقومون بها.
(3) أن التجارب التي قامت بها مسز كراندون، والتي تقوم بها أمام جميع
الناس ليست مما في طوق البشر، وكل ما فيها دليل على صحة ما يدعيه أنصار
مذهب (السبرتزم) .
وإليك نبذة مختصرة عن (الوسيطة) مسز كراندون، وكيف وصلت إلى ما
وصلت إليه من (الوساطة) في استحضار الأرواح.
من هي مسز كراندون؟
وكيف أصبحت (وسيطة) لاستحضار الأرواح؟
أما مسز كراندون فهي زوجة طبيب جراح مشهور من أهالي بوستن بأميركا
واسمها الأصلي مرجريت ستنسون وهي من أهالي كندا، وكان لها أخ يدعى
(والتر) قتل في سنة 1912 في اصطدام إحدى السكك الحديدية وكانت مرجريت
تحبه حبًّا يقرب من العبادة، وهو يقابل حبها بالمثل، وفي سنة 1923 بدأت
مرجريت تسمع في الليل من وقت إلى آخر أصواتًا غريبة هي أشبه بالنقر على
الموائد وغيرها كما أنها كانت تشعر شعورًا غريبًا لا تستطيع وصفه، ثم أخذت تقع
بعد ذلك في غيبوبة وتسمع صوت أخيها والتر، ثم صار غيرها أيضًا يسمع ذلك
الصوت وعرفه جميعهم، وظل الصوت يزداد وضوحًا وجلاءً، وقد سمعت بأذني
في جلستين متواليتين في أواخر إبريل سنة 1926 فإذا هو صوت أجش يلقي
الرهبة في نفوس السامعين ويسترعي كل انتباههم كأنه متسلط عليهم.
ولما ذهبت إلى بوستن في هذه السنة بعد غياب عامين أتيح لي أن أحضر
أربع جلسات جديدة استحضرت فيها مسز كراندون روح أخيها والتر، وأظهرت
في ذلك مقدرة مدهشة، وقد أردت أن أمنع كل غش وخداع فالتمست من مسز
كراندون وزوجها أن يأذن لي في مراقبة التجربة بنفسي وأخذ جميع الاحتياطات
التي أعتقد أنها لازمة لمنع الغش، وقد كان لي ما أردت، وفي الحقيقة أن
الجلستين الأوليين من الأربع الجلسات المذكورة كانتا كافيتين لإقناع أعظم المنكرين
بأن روح والتر هي التي تجلت لمرجريت وكانت تخاطبها، ومع ذلك فإن الجلستين
الأخيرتين كانتا أدعى إلى الدهشة والاستغراب من سابقتيهما وكان بودي أن آتي
على تفاصيل الجلسات الأربع كلها، ولكن بما أن الجلستين الأخيرتين هما بدء
سلسلة من التجارب التي قد عزمت على إجرائها، ولم أفرغ منها حتى الآن فإني
أرى الأفضل أن أقصر الكلام على الجلستين الأوليين.
برهانان على خلود الروح
أحدهما نفسي والآخر حسي
وقد حاولت في هاتين الجلستين أن أتحقق وجود الروح بطريقتين إحداهما
عقلية نفسية، والأخرى مادية حسية، وإليك ما تم في هذا الشأن:
الجلسة الأولى عقدت في منزل الدكتور كراندون ببوستن في 31 مايو سنة
1928 من الساعة التاسعة إلى الساعة العاشرة مساء.
ذهبت أنا والأستاذ إيفانس الأخصائي بعلم الحشرات من جامعة كمبردج
لحضور هذه الجلسة، ولم يكن صديقي إيفانس قد حضر جلسة كهذه من قبل ولا
كان يصدق دعوى (السبرتزم) التي كان يسميها خرافة، فلما وصلنا إلى بيت
الدكتور كراندون شرعنا في الاستعداد لتلك الجلسة على الوجه الآتي:
اقتطعت أنا وصديقي إيفانس عدة أوراق من تقويم (نتيجة) معلق على
الحائط وخبأناها بعد أن أبدلنا ترتيبها بحيث لم يكن أحد منا يعرف ذلك الترتيب،
ثم كتب صديقي إيفانس أرقامًا وملاحظات على قطع أوراق وضعها في جيبه،
وكان معه أيضًا عدد من مجلة قد صدرت في ذلك اليوم، وفي أثناء الجلسة بينما
كانت جميع الأنوار مطفأة والظلمة حالكة تجلت روح والتر حسب العادة وأخذت
تقرأ الأرقام والملاحظات التي كتبها إيفانس مع ذكر ترتيب أوراق التقويم (وكنا
نحن أنفسنا نجهل ذلك الترتيب) ولما حدثت وشوشة في الغرفة سمعنا الروح تدعو
إلى السكون التام، ورأينا شررًا أحمر ينبعث في الهواء ثم سمعنا صوتًا يقول: إن
إيفانس تعرف بخطيبته في إحدى البواخر، وكان هذا الأمر مدهشًا إذ لم يكن أحد
يعرف بخطبة إيفانس -ولا أنا- ولكن ظهر أنها كانت صحيحة، وفضلاً عن ذلك
علمت الروح بالمجلة التي كانت مع إيفانس، وبأنه طالع فيها صفحة كذا وكذا.
وذكرت الروح أشياء أخرى غريبة لا يتسع المجال لشرحها وقد اقتنع صديقي
إيفانس بصحتها، ولكن لا يتطرق إلى ذهنه شيء من الريب في أني أنا والدكتور
متفقان مع (الوسيطة) مرجريت على طرق الغش طلبنا إعادة التجربة، وأنا
والدكتور كراندون غائبان من الغرفة، فكانت النتيجة مدهشة أيضًا.
البرهان الحسي
استخراج بصمة الأصابع
أما الجلسة الثانية فقد عقدناها في منزل الدكتور رتشاردس بمدينة بوش أيضًا
وذلك في أول يونية سنة 1928 من الساعة التاسعة والنصف مساء.
اتخذنا جميع الاحتياطات التي تخطر بالبال لمنع الغش، وطلبنا من الدكتور
كراندون، وجميع الذين اعتادوا حضور الجلسات أن لا يحضروا جلسة تلك الليلة
بل يتركونا وشأننا فأجابوا مُلْتَمَسَنَا، وحضر معنا في هذه المرة الكابتن فايف الخبير
ببصمة الأصابع، وكنت أنا وهو قد أحضرنا معنا علبة من الشمع الذي يستعمل
لبصمة الأصابع والمشهور في أمريكا باسم (شمع كر) وفي العلبة عدة قطع مكعبة.
أما سبب إحضارنا العلبة فهو أننا أردنا أن نأخذ بصمة أصابع (الروح)
لنرى هل تطابق بصمة أصابع والتر التي كانت لا تزال ظاهرة على آخر شفرة
حلاقة استعملها والتر في اليوم الذي قتل فيه، ومما يجدر بالذكر أن أم والتر قد
حفظت -على سبيل التذكار- جميع الآثار الخاصة بابنها لا تفرط بشيء مما كان له
أو كان يستعمله.
وكان الاتفاق أن تطبع لنا روح والتر بصمة أصابعها على قطع شمع (كر)
التي أحضرناها لذلك الغرض لنقابلها ببصمة أصابع والتر الكائنة على الشفرة التي
أشرنا إليها، ولكي نمنع وقوع الغش وخوفًا من أن تكون بصمة الأصابع قد أعدت
من قبل على قطع شمع (كر) من عندهم اتفقت أنا وصديقي إيفانس على أن نضع
علامة سرية على كل قطعة شمع في العلبة التي معنا، وزيادة في الاحتياط كسرنا
قطعة صغيرة من كل من تلك القطع وخبأناها عندنا حتى متى أعيدت إلينا القطع
مبصومة بطابع أصبع الروح نتحقق أنها من القطع التي كانت معنا بعينها وفي
وسعنا أن نكملها بإعادة ما كسرناه منها.
وبعد أخذ هذه الاحتياطات وغيرها بدأت الجلسة فشعرنا في وسط الظلام
الدامس بحركة غريبة وسمعنا حفيف الروح بكل وضوح، ثم علمنا أن كل شيء قد
تم، وأن البصمة قد طبعت على قطع الشمع.
وهكذا كان، فلما انتهت الجلسة وتوارت الروح؛ إذ قطع الشمع التي كنا قد
أحضرناها قد طبعت جميعها بطابع أصبع والتر، ولما ضاهى صديقي الكبتن فايف
تلك البصمة ببصمة إصبع والتر على الشفرة التي سبقت الإشارة إليها ثبت له أن
البصمتين هما واحدة، فلم يبق عندنا شك في أن الروح كانت روح والتر.
هذه خلاصة مختصرة لما نشره الدكتور تليادر في مجلة (نايتشر) عن
جلستين من جلسات السبرتزم التي حضرها ومع كل احترامنا لشهرة هذا العالم
الفاضل وغزارة علمه لا يسعنا إلا القول بأن التجارب التي حضرها لم تكن تخلو
من الخداع ولا سيما تجربة بصمة الأصابع؛ إذ ما أدرانا أن البصمة التي كانت
على شفرة الحلاقة والتي هي محفوظة عند أم والتر هي بصمة أصبعه الحقيقية؟
أما كيفية طبعها على قطع الشمع فقد لا تخلو من شعوذة.
أما الجلسات الأولى فالأرجح أن ما تم فيها كان بمساعدة الاستهواء (التنويم
المغناطيسي) والتليباثي (نقل الأفكار) ولا نعتقد أن له علاقة باستحضار الأرواح.
__________(29/362)
الكاتب: محمد سعيد السيوطي
__________
رسالتان طريفتان
في توجيه حديثي الذباب وخطفة الجن
بمباحث الطب والعلم والحديث
بسم الله، الحمد لله وحده، وصلى الله على مَن لا نبي بعده، وعلى آله
وصحبه.
عن جدة في 21 المحرم سنة 1347
جناب العلامة المحقق والفهامة المدقق منشئ مجلة المنار السيد محمد رشيد
رضا المحترم بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أبدي أنني اطلعت على الجزء
الأول للمجلد التاسع والعشرين من مجلة المنار الغراء الصادر سنة 1346 ورأيت
الأبحاث المحررة في الصحيفة (48، 49، 50، 51) بخصوص حديث الذباب
وحديث جابر وما وقع من الارتياب في صحتهما للظن بأنهما مخالفان لما عليه العلم
والفن، ولما كان الواقع والحقيقة بخلاف ما ذُكر جئت بهذه المقالة مثبتًا فيها صحة
الحديثين الشريفين المذكورين، ومبينًا أهميتهما من الوجهة العلمية والفنية الصحية
وتطبيقاتها العملية توخيًا لإظهار الحقائق، فأرجو درجها في أول جزء يصدر من
مجلتكم الغراء، واقبلوا مزيد الاحترام سيدي.
... ... ... ... رئيس الصحة البحرية والكورنتينات الحجازية
... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد سعيد السيوطي
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
(تصحيح حديث الذباب)
نص الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في
أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) إن ظاهر معنى هذا الحديث كان معارضًا لما
كان عليه الفن إلى بضع سنين ذلك الذي دفع الطبيب المرحوم محمد توفيق صدقي
لتضعيفه والوقوع في الخطأ؛ لأن العلوم والفنون الطبية عقلية وتجريبية غير
مستندة إلى قواعد ثابتة، بل عُرْضَة للتبدل والتغير في كل آن وزمان، ولذا ندم من
حكَّم العقل في الشرع وسلك طريقة المعتزلة في التفسير والتأويل وانحرف عن
طريقة السلف الصالح المثلى؛ لأن الشرع فوق العقل.
لقد أثبتت التجارب الفنية الحيوية الحديثة في هذا الحديث الشريف معجزة
جديدة أماطت اللثام عن أسرار غامضة، ونكات لطيفة وفوائد جمة أشار إليها النبي
صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وذلك أنه كشفت منذ بضع سنوات وظيفة
الذباب الطبيعية وفوائده العظمى للإنسانية خصوصًا في إطفاء جائحات الهيضة أي
(الكولرا) فإنه تبين غب البحث والتنقيب الدقيق في مختبرات الجراثيم
(لابوراتوار) أن وبريون الكولرا الداخل في القناة الهضمية في المصابين
بالهيضة الذين دخلوا في دور النقه يفرز جسيمات صغيرة من نوع (الآتريم)
تسمى (باقتربوفاج) أي مفترسة الجراثيم أو آكلة الباكتريات، فهذه الجسيمات
عضويات مستقلة حيوية متصفة بالتكاثر، وبتمثيل المواد الغذائية المختلفة عنها
في تركيبها وتحويلها لعناصرها (آدابتاسيون) فهي حائزة ثلاثة أوصاف
حيوية التكاثر والتمثيل والاعتياد على الأوساط، وهذا لا يترك شبهة في أنها
متصفة بالحياة، وأنها ليست من أنواع المختمرات المنحلة.
وهذه المفترسة للجراثيم صغيرة الحجم جدًّا يقدر طولها بـ 20 25 ملي
ميقرون تمُر من المراشحات الجراثيمية لشامبرلان وغيره حال كون الباكتريا
المعروفة لا تقدر على النفوذ منها، وقد أمكن تلوينها بطريقة ترسيب ذرات الفضة
عليها ورؤيتها وتحقق بالتجارب التي أجراها مندوب رياسة الصحة البحرية
والكرنتينات المصرية في الهند لإجراء التدقيقات الفنية والتنقيب من أسباب ظهور
جائحات الكولرا العديدة في الهند وطرز انطفائها وانتهائها وطريقة التداوي والتحفظ
منها ومنع انتشارها واستيلائها، والمندوب المشار إليه من خيرة الأساتذة يدعى
دريل قدم تقريره في 12 ديسمبر سنة 1927 ذلك التقرير المسهب الذي أوضح فيه
ما وُفِّقَ لكشفه من خصائص وخواص الباقتريوفاج، وذلك نتيجة تتبعات دقيقة مع
زملائه الجراثيمين والأطباء في الهند فأماط اللثام عن الحقائق الفنية الخفية، وأثبت
أن الباقتريوفاج هو العامل الوحيد في إنماء جائحات الكولرا، وأنه يوجد في براز
الناقهين من المرض المذكور، وأن الذباب ينقله من البراز إلى آبار ماء الشرب
فيشربه الأهلون، ومن حين ظهور الباقتربوفاج القوي في ذباب البلاد ومائها تنطفي
جذوة الكولرا وينقطع دابر الوباء بسرعة، وأنه حصل على الباقتريوفاج القوي من
جسم الذباب والحصانة الحقيقية تتسرب إلى الأهلين بسبب دخوله في أمعائهم بشرب
الماء أو بتناول الأغذية التي ينقله إليها الذباب.
وقد تمكن الأستاذ دريل من استنبات الباقتريوفاج وتنميته وكان يأمر المريض
بتناول جرعة ماء من 10 سانتيمترات مكعبة فيها سنتيمتران مكعبان من زراعة
الباقتريوفاج القوي وجرعها دفعة واحدة ثم يأمر بتناول جرعة ثانية من 4 سم من
زراعة الباقتريوفاج ممزوجة ب 40 س م ماء يتناول منه كل ساعتين ملعقة كبيرة،
فلا يلبث أن يشفى في مدة لا تتجاوز يومين، وكان يضع في بئر القرية 40
سنتيمترًا مكعبًا من زراعة الباقتريوفاج القوي فإذا شرب منه أهلها زالت جائحة
الكولرا في يومين أو ثلاثة أيام من القرية.
ومن جملة تجاربه التي أجراها أنه كان يضع قطرة واحدة من محلول فيها
سنتيمتر مكعب من براز نَاقِهٍ من الكولرا يحتوي على الباقتريوفاج بعد ترشيحه في
مائة سنتيمتر مكعب من زراعة وبريون الكلولرا القوي فيقتلها ويذيبها تمامًا في
برهة قصيرة وتصبح الأنبوبة العكرة التي كان فيها زرع الكولرا شفافة تمامًا، ثم
يأخذ من الأنبوبة التي أميتت جراثيمها ما يقدر في المليون واحد من السنتيمترات
مكعب فيضعها في أنبوبة ثانية فيها مائة سهم من زرع وربون الكولرا فتذيبها أيضًا
في بضع ساعات وتصبح الأنبوبة شفافة، وأثبت أنه لو وضع جزء من بيليون
جزء من السنتيمتر المكعب منه على زرع الكولرا الذي مقداره (100) س مكعب
فإنه ينمو فيه ويتلفه ويذيبه ويجعله براقًا، وقد أجرى تجاربه العديدة العملية في
الهند فأتت باهرة كما أن هذه التجارب ذاتها قد نجحت في البرازيل على باسيل
الدينتاريا الحادة، وهي معمول بها إلى اليوم في مداواة الدوسنطاريا الحادة، وكان
يشفي المصاب في ظرف 6 ساعات و2 و24ساعة، والأطباء الإيطاليون استعملوه
في مداواة حمى التيفوئيد والبارانيفوئيد فحصلوا على نتائج حسنة سنة 1924،
وهذا أثبت أن عامل الشفاء الحقيقي العضوي في شفاء الكولرا والدوسنطاريا الحادة
الباقتريوفاج، وقد حصل الأستاذ دريل على باقتريوفاج وحيد وكثير المعادل (بولي
والان) ضد أنواع جراثيم الأستافيلوكوكس الأبيض والذهبي والليموني فكان
الباقتريوفاج عامل الوقاية الحقيقي.
وقد ورد في مجلة فارما سوتيكال جورنال التي تصدر بلندن عدد 3359 في
17 مارس سنة 928 نقلاً عن مجلة التجارب الطبية عدد 1037 54 عام 1927
تحت عنوان الباقتريوفاج من ذباب البيوت ما نصه: لقد أطعم الذباب الذي يألف
البيوت من زرع الجراثيم المولدة للأمراض كولتور [1] وبعد حين من الزمن اختفى
أثر الجراثيم التي في الذباب وماتت كلها؛ وحصل في الذباب مادة قاتلة للجراثيم
تسمى باقتريوفاج، والمؤلف يرى أنه إذا هيأ خلاصة من الذباب في محلول ملحي
فيسيولوجي فإن الخلاصة المذكورة تحتوي على مادة الباقتريوفاج القوية ضد أربعة
أنواع من الجراثيم المولدة للأمر، وأنها أيضًا تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست
من نوع الباقتريوفاج، ولكنها نافعة للدفاع العضوي ضد أربعة أنواع من الجراثيم
المرضية غير المذكورة انتهى.
ولعل العالم الطبي كلما زاد التنقيب وامتد البحث عن خواص الذباب يأتينا
بمكتشفات جديدة وخصائص عديدة نافعة أيضًا ومما تقدم يتبين بجلاء أن الذباب
عامل من العوامل الخادمة لظهور الباقتريوفاج ببلعه الجراثيم وإتلافها وبحصول
الباقتريوفاج في جسمه كما أنه عامل بالواسطة ينقلها من براز الناقهين إلى المياه،
والأطعمة فتعم الحصانة، ويحصل الشفاء بذلك، وينقطع دابر الجائحات المرضية
الوبائية المخيفة والمهددة للنوع البشري بالدمار.
إن ذباب البيوت معروف عنه أنه يقع على البراز والمواد القذرة والمحلات
الوسخة العفنة، وكل هذه مملوءة بالجراثيم المولدة للأمراض فاختيار الذباب لها يدل
على أنه موظف بالانتخاب الطبيعي لأكل هذه الجراثيم التي ينتج عنها حصول
الباقتريوفاج في جسمه وموظف لنقل الباقتريوفاج رأسًا، وقد ينقل الجراثيم
والباقتريوفاج معًا فبأكله الجراثيم اجتمع فيه الداء وبحصول الباقتريوفاج في جسمه
اجتمع فيه الشفاء، وكذلك بنقله الجراثيم والباقتريوفاج المهيأ في براز الناقهين اجتمع
في الذباب الداء والشفاء، فهذا معنى ما ورد في عَجُزِ الحديث الشريف (فإن في أحد
جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف (إذا وقع
الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) فالغمس هو لأجل أن يدخل الباقتريوفاج
للشراب وقد بيَّنا أن أثرًا زهيدًا منه يكفي لقتل جميع الجراثيم المماثلة أي التي نشأ
عنها الباقتريوفاج والقريبة منها , وحيث ورد في نص الحديث (فليغمسه) أي
فليغمس الذبابة كلها أي جسم الذبابة ومنه جناحاها ولم يرد فليغمس جناحيها مما دل
على كون الداء والشفاء بالجناحين إنما هو أمر اعتباري ولفظي لا يفيد التخصيص.
والأمر بغمس جسمها يؤيد ذلك، وهو لأجل تطهير الشراب من الجراثيم،
وذلك بإدخال الباقتريوفاج للشراب من جسم الذبابة فالفن قد أثبت وجود الباقتريوفاج
في جسم الذبابة، وهذا يطابق تمام المطابقة للأمر الوراد في الحديث، ولو كان
للأجنحة فقط خصوصية الداء والشفاء لكان ورد الأمر بغمسها وحدها، ولهذا لم يبق
ثمة ضرورة للتنقيب عن الجناحين، والمعروف أن الجناحين كغيرهما من أعضاء
الذبابة يحملان ما يلامسهما من جراثيم أو باقتريوفاج، سواء كانا مجتمعين أو
منفردين وعليه فالفن لا ينفي وجود الداء والشفاء فيهما، وبهذا حصلت المطابقة
التامة بين الحديث الشريف والفن الراهن وتحققت صحة الحديث ويستنتج مما تقدم:
(1) أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم منذ ألف وثلاثمائة سنة ونيف عن
الداء محمولاً على الذباب، وكذا عن الشفاء مع أن العين لا ترى شيئًا من ذلك،
ولم يكن لعلم الجراثيم أثر ولا للآلات المكبرة وجود هو معجزة كشفت عن سر الداء
والشفاء في آن واحد، وأشارت إلى الجراثيم وإلى الباقتريوفاج مع أن فن الجراثيم
مضى عليه نصف عصر، ولم يصل إلى معرفة الباقتريوفاج إلا في هذه السنين
الأخيرة.
(2) اعتماد المداواة بالباقتريوفاج، وقد بيَّنا أن الباقتريوفاج يطفئ جائحات
الكولرا بأسرها والناقل له هو الذباب.
(3) إثبات منفعة الذباب ووظائفه الطبيعية، ولذا لم يرد إبادة الشراب إذا
وقع فيه الذباب أو تعقيمه أو طرح الجزء الذي يقع فيه من الغذاء كما في حديث
الفأرة، وسر تخصيص تطهير الغذاء الذي يقع فيه جاء لكونه عاريًا عن هذه
الخواص، وكذا الفن فإنه لم يثبت للفأر سوء المضرة إلى يومنا هذا، ولو أن علماء
الإفرنج الجراثميين اطلعوا على نص هذا الحديث الشريف لكان تذلل لهم اكتشاف
الباقتريوفاج منذ أكثر من ثلاثين سنة كما وقع لمن أمَّ البلاد الشرقية منهم ورأى
طريقة المحافظة على الجبن بغمسه في الزيت فأخذ عن الشرقيين هذه الطريقة
واستعملها في تنمية وزرع الجراثيم المتعيشة بلا هواء؛ إذ قد جاء هذا الحديث
الشريف ببلاغ مهم في علم تدبير الصحة ومداواة الأسقام وكبح جماح الأمراض
الوبائية وإطفاء جذوتها ومداواتها والتوقي منها كما أقره أقطاب الفن اليوم، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
(المنار)
قد سبق لنا القول بأنه لم يبعد أن يكتشف لنا العلم والطب الحديث سرًّا من
أعلام النبوة في معنى حديث الذباب ولا يتم لنا هذا بما شرحه الكاتب إلا إذا كان
الحديث مرويًّا بالمعنى وأما لفظه الصريح في أن الداء في أحد الجناحين والدواء في
الآخر فلا يؤيده هذه البحث.
***
الرسالة الثانية
تعليق على حديث جابر
في خطفة الجن وغير ذلك من الوصايا النافعة
الحديث الذي نصه (خمِّرُوا الآنية وأوكئوا الأسقية وأجيفوا الأبواب وأكفتوا
صبيانكم عند المساء فإن للجن انتشارًا وخطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن
الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت) فهذا الحديث الشريف رواه كثير
بن شنظير بهذا الصيغة وراوه ابن جريج وحبيب المعلم عن عطاء بلفظ (فإن
للشياطين انتشارًا وخطفة) .
وقد اطلعت في مجلة المنار الغراء صحيفة 42 من الجزء الأول للمجلد التاسع
والعشرين على الإشكال الذي وقع في متن الحديث المذكور خصوصًا على ما ورد
فيه من خبر انتشار الجن بما نصه بالحرف الواحد (ففي هذا من الإشكال أن أكثر
أهل الأرض لا يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت وتمر الأعصار ولا
يعرف أحد أن الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا، هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم
من الأمصار التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم
على طريقتهم في القرى والمزارع فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع
الصغار في الخروج في المساء أي في أول الليل) .
أقول: إن هذا الحديث أقره الفن على لفظ كثير بن شنظير والمراد بالجن هي
الجراثيم (الميكروبات) التي هي عوامل الأوبئة والأمراض ويدل على ذلك ما ورد
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غطوا الإناء وأوكئوا السقاء
فإن من السنة ليلة فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء
إلا نزل فيه من ذلك الوباء) .
ويؤيد ذلك أيضًا ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فناء أمتي بالطعن والطاعون) قيل يا
رسول الله هذه الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: (وخز أعدائكم من الجن وفي
كُلٍّ شهادةٌ) وقال ابن الأثير في النهاية: الطعن: القتل بالرمح والوخز طعن بلا
نفاذ.
وأخرج البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله هذا
الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: (يشبه الدمل يخرج في الآباط والمراق،
وفيه تزكية أعمالهم وهو لكل مسلم شهادة) .
وأخرج الطبراني عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لتنزلن منزلاً يقال له: الجابية يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل يستشهد به أنفسكم
وذراريكم ويزكي به أعمالكم) قال: ابن الأثير في النهاية: الغدة طاعون الإبل،
وقلما تسلم منه يقال: أَغَدَّ البعيرُ فهو مُغِدٌّ.
ففي حديث: (غطوا الإناء وأوكئوا السقاء) قاعدة جليلة من علم تدبير
الصحة (هجين) للتحفظ من الأوبئة والأمراض التي قد تدخل الإناء والسقاء إذا
كانا مكشوفين بسبب نزول الغبار الحامل لجراثيمها إليهما التي قد يثيرها الهواء
الشديد في ليلة من ليالي السنة أو بسبب سقوط الحشرات والهوام التي لا تخلو من
الجراثيم في الإناء والسقاء، وهذا لا تختلف فيه أصحاب العقول الراجحة والأبصار
الناقدة، وإن لفظة الوباء الواردة في هذا الحديث تشير لمعنى (فإن للجن انتشارًا
وخطفة) الورادة في حديث جابر؛ لأن عامل الوباء هي الجراثيم كما قرَّره الفن
الحديث بأن عامل جميع الأمراض الوبائية هي الجراثيم، فهذا متفق عليه) والجن
هي الجراثيم؛ لأن معناها اللغوي ينصرف لكل ما لا يُرَى من العوالم، وكما حققته
يرجع إلى أصلين أصل روحاني مكلف، وهذا النوع هو الوارد ذكره في القرآن
الكريم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) ونوع مادي من
المخلوقات العضوية الصغيرة الحية، وهي الجراثيم (ميكروأورغانزم) وهي كما
عرف الفن خواصها وخصائصها تدب دبًّا بحركاتها المعروفة، ووردت الإشارة
إليها بالآية الكريمة: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم} (الأنعام: 38) فالجراثيم داخلة في عموم {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 38) لأن مقرها الأرض لا الهواء، وفي هذه الآية فلسفة دقيقة، وهي
أن هذه المخلوقات العضوية الصغيرة الحية مهما صغر حجمها فإنها بمجموعاتها
مشابهة للمجموعة البشرية المتصفة بالحياة، ولها وظائف مماثلة؛ لأن الجسم
البشري مركب من مجموعة خلايا (سيلول) ترجع لخلية واحدة متصفة بالحياة
والتكاثر والتمثيل والائتلاف على الأوساط، وكذا الجراثيم فإنها مكونة من خلية
واحدة متصفة بالأوصاف المذكورة.
ويستدل على أن المراد بالجن هي الجراثيم من حديث أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فما الطاعون؟ قال: (وخز
أعدائكم من الجن) وقد ثبت بالفن الراهن أن عامل الطاعون هو الجرثوم المسمى
باسيلوس بيستس، وبهذا ثبت بصورة جازمة أن المراد بهذا الحديث من لفظة الجن
هي العضويات الحية الصغيرة المسماة بالجراثيم على اختلاف أنواعها، وعليه
يشمل هذا المعنى عموم ما ورد من الأحاديث الشريفة المتعلقة بالأوبئة والأمراض
الجائحة وعلم تدبير الصحة كما في الحديث (إن من القرف التلف) .
قال ابن الأثير الجزري في كتاب النهاية عند شرح قوله عليه السلام (إن من
القرف التلف) القرف ملابسة الداء، ومداناة المريض، والتلف الهلاك , انتهى.
والمعلوم أن الأمراض الوبائية الجائحة هي المهلكة بخلاف الأمراض العادية
وعوامل الأمراض الوبائية هي الجراثيم، وفي هذا إشارة لأصل كبير الفائدة من
علم تدبير الصحة وهو التوقي من ملامسة المرضى المصابين بأمراض وبائية كما
يؤيد ذلك حديث (فر من المجذوم فرارك من الأسد) والحديث المخرَّج في
الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه (لا يُورَدَنَّ مُمَرَّض على مُصِح) وما
روي في الموطأ (وليحلل المصح حيث شاء، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ فقال:
(إنه أذى) .
ولنستطرد لبيان ما نحن بصدده بعد ما ثبت بالأدلة القاطعة أن المراد بالجن
هي الجراثيم فقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزار عن عائشة رضي الله
عنها لما سألته فما الطاعون؟ قال: (يشبه الدمامل يخرج من الآباط والمراق) وما
ورد في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن معاذ رضي الله عنه (لتنزلن منزلاً
يقال له الجابية يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل يستشهد به أنفسكم وذراريكم ويزكي
به أعمالكم) وصف كامل لنوع الطاعون الدملي من حيث تخيره الغدد اللنفائية التي
يدخلها ويستقر فيها، وهي الغدد الإبطية والغدد الكائنة في المراق أي أسفل البطن
في المغابن، وهذا النوع شبهه صلى الله عليه وسلم بالدمل، ويسميه الأطباء
بالطاعون الرئوي، وهو فعل مشتق من الأول، ويوجد نوع ثالث يسمى بالطاعون
الصفتي وهو أيضًا مشتق من الأول بسبب دخول جراثيم الطاعون بالعروق التي في
الغدد اللنفائية إلى الدورة الدموية، وهذا النوع خطر جدًّا، فالنبي صلى الله عليه
وسلم ذكر الأصل وعرَّفه تعريفًا فنيًّا دقيقًا بيَّن فيه عامل المرض وأوصاف المرض
ومقر المرض وإنذار المرض أي خطره وبين طريقة التوقي منه بحديث الطاعون
الذي رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو (إذا سمعتم به بأرض فلا
تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه) فالنبي صلى الله
عليه وسلم أول من وضع أساس الكرنتينا (الحَجْر الصحي) بهذا الحديث ولم
يتعرض صلى الله عليه وسلم لمداوة الطاعون هذا، وما جاء عنه صلى الله عليه
وسلم من الحقائق الفنية في الطاعون هو غاية ما وصل إليه الطب والفن اليوم فهو
لم يتعده ولم يوفق لاكتشاف دواء شاف ولا لقاح واق حقيقة، فإن لقاح هافكن لم
يعتمده المحققون من الأخصائيين نهائيًّا، فما أتينا على ذكره بعد من معجزاته
الباهرة صلى الله عليه وسلم.
ومضى قوله صلى الله عليه وسلم (واكفتوا صبيانكم عند المساء، فإن للجن
انتشارًا وخطفة) يشير لقاعدة جليلة من علم تدبير الصحة لها فوائد عظمى، وهو
أنه من مقررات العلم المذكور أن مرض الملاريا الجائح (حمى الورد، الحمى
الاجامية، الحمى الردغية تزداد صولتها مساء بسبب انتشار البعوض الناقل
لطفيلاتها المسماة (هماتوزوثر) قبيل الغروب، ولذا أوصت الحكماء بالتوقي من
الخروج مساء في المحلات والمناطق التي تحتوي على مستنقعات، ووصيتهم هذه
للكبير والصغير على حد سواء، ولا يخفى أن هذا المرض أكثر خطرًا على
الأطفال منه على الشبان والكهول، والبلاد الحجازية تكثر فيها الملاريا هذه بسبب
وجود الصهاريج والآبار الكثيرة التي تتألف منها المستنقعات بسبب ركود مياهها؛
ولأن أكثرها متجمع من ماء الأمطار وتظل راكدة شهورًا عديدة وقد شاهدت بأم
عيني انتشار المرض المذكور في بلدة جدة وفي مكة المشرفة، وضحاياه كثيرة،
فكثيرا ما يتحول المرض إلى نوبة حمى خبيثة تقتل الأطفال والكبار بظرف يوم أو
يومين، وجائحة الملاريا هذه موجودة في أكثر بلاد الشرق الأدنى ولها أنواع كثيرة
مختلفة الأذى والخطر، وقد اهتمت السلطات الحكومية جمعاء لمكافحتها وإعداد
وسائل التوقي من الوقوع في مخالبها، ولذا أوصى سيد الحكماء صلى الله عليه
وسلم بحديثه المتقدم بعدم إخراج الأطفال مساء للتوقي منها، وهذا ما أوجبه الفن
وقد فهم معنى فإن للجن انتشارًا وخطفة بأنه مراد به الجراثيم والطفيلات المحمولة
في بطن البعوض التي تنتشر بسبب انتشار البعوض الذي يعقص الإنسان ويدخل في
جسمه تلك الطفيلات فتنتشر في دمائه وتتغذى بها وبذلك تخطف صحته في
أحوالها المزمنة، فترى المريض مخطوف اللون فقير الدم، وقد تخطف حياته
بسرعة في أحوالها الخبيثة المسماة بالحمى الخبيثة الناشئة عن طفيل التروبيقا (وإلا
فإنه لم يشاهد أنه اختطف طفل وتوراى عن الأبصار لخروجه مساء من داره) فهذا
معنى الانتشار والخطفة الوارد في نص الحديث الشريف، سدَّد الله خطواتنا لفهم
معاني أحاديث رسوله المعظم، ووفقنا للعمل بها وأرشدنا لإحلالها محلها اللائق بها
من الإجلال والتعظيم حتى تعمنا الرحمة المشار إليها بقوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والحمد لله أولا وآخرًا، حرِّر في 17
محرم سنة 1347.
... ... ... ... رئيس الصحة البحرية والكرنتينات الحجازية
... ... ... ... ... محمد سعيد السيوطي
(المنار)
إننا لا نعلم أن أحدًا سبقنا إلى إدخال ميكروبات الأمراض وغيرها في عموم
كلمة الجن والجنة (بالكسر) ومع هذا نقول: إن في حمل خطفة الجن والشياطين
عليه في حديث جابر تكلفًا ظاهرًا لا تقبله أفهام جمهور المستقلين بالفهم ويحتمل أن
يكون الحديث منقولاً بالمعنى، وإنه لو نقل بلفظه لكان ما أراده الطبيب الفاضل
ظاهرًا فيه بغير تكلف وكل مسلم يجزم بأنه إن صح لا بد أن يكون معناه صحيحًا.
__________
(1) معنى زرع الجراثيم: أن تدخل في أنابيب زجاجية فيها مرق اللحم وغيره من الأغذية الخاصة بالجراثيم والمساعدة على تكاثرها ونموها فتنمو وتنتشر فيها الجراثيم حتى تصبح الأنابيب مملوءة
كلها بالجراثيم التي لا يمكن تعيين عددها بالمليارات والبليونات.(29/372)