الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
القسم الثاني
الباب الأول
العلاج بالهواء
قد فرغنا الآن من البحث في أساسات الصحة وأصولها وكذلك عن طرق
صيانتها والمحافظة عليها. ولو أن جميع الناس - رجالاً ونساء - يخضعون
لقوانين الصحة ويتمسكون بالتجرد التام، لا تبقى أي حاجة للأبواب الآتية؛ لأنهم
يكونون في مأمن من جميع الأمراض والأوصاب سواء في أجسامهم أو عقولهم.
ولكن أين نجد هؤلاء الناس؟ وأين الذين لا يصابون بالأمراض؟ وعلى كل فإنَّا
كلما نعتني بالتمسك في الأصول التي دونت في هذا الكتاب، فالأغلب أننا نسلم من
الأمراض، ولكن إن أصابنا مرض فيجب أن نعالجه باهتمام، والأبواب الآتية تبين
كيفية العلاج بدون الاستعانة بالطبيب.
إن الهواء النقي كما هو لا بد منه لصيانة الصحة، كذلك لا غنى عنه في
معالجة الأمراض، فالمصاب بالنقرس مثلاً إذا عولج بالبخار الساخن يعرق بكثرة
وتلين أعصابه، وتستريح مفاصله، وهذا القسم من علاج البخار يسمى (الاستحمام
التركي) .
ومن كان يشكو حمى شديدة، فليجرد من ملابسة، ويلقى في الهواء الطلق،
تنزل الحرارة حالاً ويشعر براحة بينِّة، وعندما يحس بالبرد فليلفّ في ثوب فيعرق
حالاً وتزول الحمى سريعًا.
ولكن ما نفعله عادة هو على عكس ذلك تمامًا، حتى إنا نمنع المريض من
البقاء في الهواء الطلق ولو أراد بنفسه، ونغلق عليه جميع أبواب حجرته
ونوافذها ونغطي جميع جسده مع رأسه وأذنيه باللحف والأغطية. فتكون النتيجة أن
المريض يجزع فيزداد ضعفًا عن مقاومة مرضه. ينبغي أن نفهم أنه إن كان سبب
الحمى شدة الحر، فالعلاج بالهواء الذي ذكر آنفًا غير مضر أصلاً، ويشعر
بتأثيره حالاً نعم يجب الاحتراس لئلا تأخذ المريض القشعريرة في الهواء الطلق،
فإن كان لا يستطيع البقاء عاريًا فيجوز تغطيته جيدًا بالدثار.
إن تغيير الهواء علاج مفيد للحمى المزمنة وغيرها من الأمراض، فالعادة
العامة التي جرت بتغيير الهواء ليست إلا عملاً بأصول العلاج الهوائي، وكثيرًا ما
نغير محل إقامتنا متوهمين أن البيت الذي تعاوده الأمراض محل الأرواح
الشريرة هذا وهم محض. إن (الأرواح الشريرة) الحقيقية في مثل هذه الأحوال
إنما هي الهواء الفاسد في داخل البيت، إن تغير البيت يتبعه تغيير للهواء، وهذا هو
الذي يدفع المرض. إن العلاقة بين الصحة والهواء قوية جدًّا حتى إن التغيير
القليل له يؤثر حالاً تأثيرًا رديئًا أو حسنًا، يستطيع الأغنياء أن ينتقلوا إلى أماكن بعيدة
وأما الفقراء فكذلك يستطيعون الانتقال من قرية إلى قرية، أو على الأقل من بيت إلى
بيت، بل إن تغيير حجرة بحجرة في البيت نفسه كثيرًا ما ينفع المريض نفعًا
محسوسًا، ولكن تجب مراعاة الأحوال ليكون للتغيير نفع حقيقي، فالمرض الذي
سببه الهواء الرطب مثلاً لا يمكن علاجه بالانتقال إلى محل رطب، وبما أن الناس
لا يهتمون بمثل هذه الاحتياطات البسيطة الاهتمام الكافي لذلك لا يجدي تغيير
الهواء نفعًا في أكثر الأحيان.
إن هذا الباب قد احتوى على بعض الأمثلة البسيطة لاستعمال الهواء علاجًا
للأمراض، وقد مر في القسم الأول من الكتاب باب يبين قيمة الهواء النقي للصحة،
ولذا أرجو من قرائي أن يقرءوا البابين معًا.
***
الباب الثاني
العلاج بالماء
إن الهواء غير منظوم، فنحن لا ندرك تأثيره العجيب، لكن عمل الماء
وتأثيره الصحي يمكن إدراكه وفهمه بسهولة.
يعرف جميع الناس شيئًا من استعمال البخار وسيلة صحية، فكثيرًا ما
نستعمله في الحميات ونعالج به وحده الصداع الشديد، وكذلك المصاب بالوجع
الروماتيزمي في المفاصل يشعر بالراحة السريعة عند استعمال البخار وإتباعه
استحمام بارد، والدمامل والقروح لا تبرأ بمجرد وضع المرهم أو الدهان عليها،
ولكنه تشفى تمامًا باستعمال البخار.
ثم إن الاستحمام الحار أو الاستحمام بالماء الحار يتبعه مباشرة الاستحمام
البارد مفيد جدًّا في التعب الشديد، وكذلك النوم في الهواء المطلق بعد الاستحمام
البخاري يصحبه استحمام بارد نافع جدًّا في الأرق.
إن الماء الساخن يصح استعماله دائمًا كبدل للبخار، وإذا أصيب الإنسان
بوجع شديد في بطنه، يشفيه حالاً تدفئة البطن بقنينة مملوءة بماء مغلي توضع فوق
قماش غليظ على البطن، وإذا ما أريد التقيؤ فيمكن ذلك بشرب كمية وافرة من الماء
الساخن، إن الذين يشكون الإمساك يستفيدون كثيرًا بشربهم كوبة من الماء الساخن،
إما وقت النوم في الليل أو بعد تنظيف الأسنان صباحًا مباشرة.
إن سير جوردن سبرنج spring gordon sir قد عزى صحته
الجيدة إلى تعوده شرب كوبة من الماء الساخن يوميًّا قبيل النوم في الليل وبعد اليقظة
صباحًا، إن كثيرًا من الناس لا تلين معدتهم إلا إذا شربوا الشاي صباحًا، فيعتقدون
-حمقًا- أن الشاي هو الذي أحدث هذا التأثير، مع أن الشاي وحده مضر في الحقيقة.
وإنما الذي أثر هذا التأثير هو الماء الساخن في الشاي، فهو الذي يلين المعدة
ويزيل الإمساك.
قد اخترعت أرجوحة تستعمل عادة للاستحمام البخاري، ولكنها ليست
ضرورية جدًّا بل يصح أن يوقد (وابور) من الاسبرتو أو الغاز أو كانون من
الوقود أو الفحم تحت كرسي اعتيادي من الخيزران، ويوضع فوق الموقد قِدْر
مملوء بالماء مغطى بغطاء وينشر فوق الكرسي رداء أو دثار بحيث تنزل أطرافه
إلى الإمام لتقي المريض من حر النار، ثم يقعد المريض على الكرسي ويلف في
رداء أو دثار، وعند ذلك يرفع غطاء القدر بحيث يكون المريض معرضًا للبخار
الذي يتصاعد منه، أما ما تعودناه من تغطية رأس المريض فهو احتياطي غير
ضروري؛ إذ حرارة البخار تتصاعد من طريق الجسم إلى الرأس وتسبب عرقًا
كثيرًا في الوجه، وإن كان المريض ضعيفًا جدًّا بحيث لا يستطيع القعود، فحينئذ
يصح أن يضجع على سرير ذي فتحات وفرجات ولكن يحترس أن لا يذهب شيء
من البخار سدى، وكذلك - كما لا يخفى - يجب الاحتياط لئلا تصل النار ملابس
المريض أو دثاره، وكذلك تجب المراعاة التامة لحالة صحة المريض؛ لأن
استعمال البخار بدون مبالاة يخشى منه الخطر أيضًا، إن المريض لا بد من أن
يشعر بضعف بعد هذا الاستحمام البخاري، ولكن ضعفه لا يلبث أن يزول.
إن الإكثار من استعمال البخار يضعف البنية على كل حال؛ ولذلك لا ينبغي
أن يستعمل إلا لضرورة شديدة، والبخار كما يستعمل للجسد كله كذلك يصح
استعماله لجزء خاص منه، فمثلاً إذا استعمل في الصداع فلا احتياج إلى عرض
سائر الجسم له، بل يوضع الرأس وحده فوق قدر صغير الفم مملوء بماء فاتر ويلف
عليه قماش، ثم يستنشق البخار بالأنف ليتصاعد إلى الرأس، وإذا كانت المناخر
مسدودة فهي تنفتح بهذا العمل، وهكذا أن تورم عضو من الجسم فهو وحده يعرض
للبخار.
قليل من الناس يعرفون القيمة الصحية للماء البارد، مع أنه في الحقيقة أنفع
في هذا الباب من الماء الساخن. ويمكن أن يستعمله حتى أضعف الناس بنية،
فالتلفُّف بثوب مبلول بالماء البارد نافع جدًّا في الحمى والجدري والأمراض الجلدية
ويمكن لجميع الناس استعماله بدون أدنى خطر، إن الدوار والهتر (جنون الحمى)
يمكن دفعه حالاً بلف ثوب مبلول في ثلج مذاب على الرأس. والذين يشكون
الإمساك ينفعهم جدًّا لف ثوب مبلول بثلج مذاب على البطن لحين من الزمن،
وكذلك يمكن منع كثرة الاحتلام في أكثر الأحيان بهذه الطريقة نفسها.
إن نزف الدم من أي عضو كان يمكن منعه باستعمال ثوب مبلول بماء بارد
مثلج ' وكذلك الرعاف يمنع بصب الماء البارد فوق الرأس، إن أمراض الأنف
الزكام والصداع يمكن معالجتها باستنشاق الماء البارد من الأنف، ويمكن استنشاقه
بمنخر وإخراجه بمنخر آخر أو يستنشق بمنخرين معًا ويخرج من الفم. ولا ضرر
من وصول الماء إلى المعدة إن كانت المناخر نظيفة. إن هذه أحسن طريقة لجعل
المناخر نظيفة دائمًا. وأما الذين لا يستطيعون استنشاق الماء بالمناخر فيجوز لهم
أن يستعملوا المحقن، ولكنهم يتعلمون بسعي قليل كيفية الاستنشاق بسهولة، بل يجب
على جميع الناس أن يتعلموها؛ لأنها سهلة نافعة جدًّا للصداع والرائحة الخبيثة في
الأنف، وكذلك لإزالة الأوساخ في مجرى الأنف.
يخاف كثير من الناس من استعمال المحقنة، بل يزعم بعضهم أن الجسم
يضعف به، ولكن هذه المخاوف ليست إلا وهمية، ليس هناك طريقة للإسهال
القوي أكثر تأثيرًا من هذه الطريقة، وقد ثبت نفعها العظيم في كثير من الأمراض
حينما لم تجد غيرها من المعالجات. ولا عجب فهي تنظف الأحشاء تمامًا وتمنع
تراكم المواد السامة فيها.
إن الذين يتأذون من الأوجاع الروماتيزمية أو سوء الهضم أو الأوجاع من
سوء حالة الأحشاء الصحية ينبغي لهم أن يحقنوا برطلين من الماء فيرون تأثيره
السريع القوي.
قال أحد الكتاب في هذا الموضوع: إنه كان يشكو مرة سوء هضم مزمن
واستعمل جميع الأدوية سدى وعبثًا فنحل جسمه بذلك. ولكن حقنة الماء ردت إليه
شهية الطعام وشفته من دائه في بضعة أيام، حتى إن بعض الأمراض مثل اليرقان
يمكن معالجتها باستعمال حقنة الماء. إن الذي يستعمل الحقنة أحيانًا كثيرة يجب أن
يستعمل الماء البارد، لأن الماء الحار ربما يضعف البنية بتكراره.
إن الدكتور الألماني لويس كوهن kuhne louis قد حكم أخيرًا بعد
التجارب المتوالية بأن العلاج المائي نافع جدًّا في جميع الأمراض، وقد نالت
كتبه في الموضوع قبولاً عامًّا، حتى إنها ترجمت إلى جميع لغات العالم تقريبًا
ومن جملتها بعض اللغات الهندية.
قال هذا الدكتور: إن البطن هو بيت الأدواء كلها، فإذا كثرت الحرارة في
البطن كثرة زائدة، تجلت على الجسم في صورة الحمى والروماتيزم والقروح
والبثور وغيرها من الأمراض.
إن منافع العلاج المائي قد عرفها قبل كيوهن بكثير أناس عديدون، ولكنه هو
أول من قال بأنه أصل مشترك لجميع الأمراض، لسنا بمجبورين على أن نسلم
بآرائه كلها على علاتها، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن أصوله وطرقه قد
ثبت نجاحها في كثير من الأمراض، وإني أذكر لذلك مثالاً واحدًا من أمثلة كثيرة قد
اختبرتها بنفسي، وذلك في مصاب بروماتيزم شديد جدًّا، فقد حصل له الشفاء التام
بطريقة كيوهن بعد أن خابت جميع المعالجات الأخرى.
قال الدكتور كوهن: إن حرارة البطن تزول باستعمال الماء البارد، وعلى
ذلك أكد غسل البطن وما حوله من الأعضاء بماء بارد جدًّا، ولتسهيل الغسل قد
اخترع نوعًا خاصًّا من المغاسل من الصفيح، ولكنها ليست بلازمة، إذ قصاع
الصفيح الهلالية الشكل في مقادير مختلفة لأناس مختلفي القامات التي تباع في
أسواقنا تقوم مقامها تمامًا، يجب أن يملأ (ثلاثة أرباع) من القصعة بالماء البارد
ويجلس فيها المريض بهيئة تبقى معها رجلاه وجسمه الأعلى خارج الماء، ويبقى
وسطه من الفخذ إلى ما فوق البطن في داخله، والأحسن أن تسند الرجلان على
كرسي قصير، ويجلس المريض في الماء عاريًا بالمرة، وإن كان يحس بالبرد
فيغطي رجليه وجسده الأعلى برادء، وإن لبس القميص فليبق القميص خارج الماء
بالمرة، ويجب أن يكون هذا الغسل في مكان طلق حيث يكثر الهواء النقي والنور،
ثم يفرك بطنه بنفسه أو غيره بخرقة خشنة من خمس إلى ثلاثين دقيقة أو أكثر.
فيرى نفع هذه العملية حالاً في أكثر الأحوال. ففي الروماتيزم مثلاً يأخذ الريح في
الخروج حالاً في صورة الجشاء وغيره، أما في الحمى فتنزل الحرارة درجة أو
درجتين، وتنظف الأحشاء بهذه العملية تمامًا ويزول التعب، وإن كان يشكو الأرق
يحل محله النوم، وإن كان النعاس والارتخاء فيأخذ مكانه اليقظة والنشاط.
لا تعجب من اختلاف النتائج؛ لأنه ليس في الحقيقة أمرًا عجيبًا كما يظهر،
وذلك لأن قله النوم وكثرته علتهما واحدة , وكذلك الدوسنطاريا والإمساك اللذَين هما
نتيجة لسوء الهضم يعالجان بنفس هذه الطريقة. والبواسير المزمنة يمكن معالجتها
أيضًا بهذا الاستحمام مع ترتيب حسن في الغذاء، والذين يشكون كثرة البصاق
الدائم يجب أن يسرعوا حالاً إلى هذا العلاج. وكذلك المصابون بالضعف يتقوون
بهذه الطريقة، وقد عولج بها حتى الروماتيزم المزمن فشفى تمامًا وهو كذلك علاج
مؤثر في النزف الدموي والصداع وتسمم الدم، وقد قال عنه كيوهن: إنه علاج ثمين
حتى للسرطان والحامل التي تستحم هذا الاستحمام بنظام تجد الوضع سهلاً.
والحاصل أنه يمكن لجميع الناس بدون استثناء العمر والجنس الاستفادة منه.
وهنالك نوع آخر من الاستحمام يسمى: (ويت - شيت - باك) (pack ـ
shet - wet) وهو علاج نافع دائمًا للأمراض المختلفة وطريقته كما يلي:
يوضع سرير أو كرسي يمكن نوم المريض فيه براحة تامة في هواء طلق
وينشر فوقه نحو أربع بطانيات كبيرة يتدلى طرفًا من جانبيه أو أكثر أو أقل حسب
حالة الجو، وتنشر فوقها ملاءتان بيضاوان مغموستان في الماء البارد، وتوضع
المخدة تحت الباطانيات في طرق السرير، وعند ذلك يجرد المريض من ثيابه (إلا
إزار صغير في وسطه إن كان يريده) وينام على الملاءتين مع بسط يديه حذاء جنبيه
وعند ذلك تلف الملاءتان ومن فوقها البطانيات على جسمه مع الاعتناء برفع
الأطراف النازلة جهة الرجل حتى تغطيها جيدًا، وإن كان المريض
متعرضًا للشمس يوضع ثوب مبلول فوق رأسه ووجهه مع ترك الأنف مكشوفًا
دائمًا، فيشعر المريض في أول الأمر ببعض القشعريرة، ولكنها لا تلبث أن تزول
ويحل محلها الشعور بحرارة لذيذة فيبقى في هذه الحالة من خمس دقائق إلى ساعة
أو أكثر، وبعد مدة يتصبب العرق من جسمه، ويغرق هو في النوم في أكثر الأحوال
وعقب خروجه من هذه اللفائف يجب أن يغتسل بالماء البارد. وهذا علاج
ناجح للجدري، والحمى والأمراض الجلدية مثل الجرب، والقوباء، والنفاطات،
والدمامل، حتى إن أقبح أنواع الحصبة والجدري يشفى به تمامًا. ويمكن لسائر الناس
أن يتعلموا بسهولة استحمام (ويت - شيت - باك) بأنفسهم، ويصفوه لغيرهم وهكذا
يرون بأنفسهم تأثيره العجيب، وبما أن الدنس كله ينتقل من الجسم إلى الملاءة
السفلى الملاصقة للبشرة يمتنع أن تستعمل ثانيًا بدون غسلها جيدًا في
ماء فاتر.
لا احتياج إلى التذكير بأن الفائدة التامة من هذه الاستحمامات لا يمكن أن
تحصل إلا بعد مراعاة الأصول التي ذكرت في أبواب الغذاء والرياضة، وغيرها
مراعاة تامة. فإن كان المصاب بروماتيزم مثلاً يستحم استحمام كيوهن، أو استحمام
ويت - شيت - باك ولكن يأكل غذاء رديئًا، ويعيش في هواء فاسد ويعرض عنه
رياضته فلا ينال أي فائدة من الاستحمام؟ إن المراعاة التامة لجميع قوانين الصحة
هي التي تجعل العلاج المائي نافعًا ناجحًا بلا ريب وإلا فلا.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/363)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [1]
(3)
باقي محضر الجلسة الرابعة
تقرير
اللجنة التي ألفها المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر بجلسته المنعقدة في 3
ذي القعدة سنة 1344 - 15 مايو سنة 1926 للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة
من برنامج المؤتمر.
انعقدت اللجنة المشكّلة بقرار المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر الصادر
في 3 ذي القعدة سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926) بدار المعاهد الدينية
التابعة للجامع الأزهر الشريف بالحلمية الجديدة في يوم الأحد 4 ذي القعدة سنة
1344هـ (6 مايو سنة 1926) لبحث المواد الرابعة والخامسة والسادسة من
برنامج المؤتمر، وباشرت عملها في جلستين إحداها قبل الظهر والثانية بعد الظهر
من اليوم المذكور، وكان محمد شكري رجب أفندي كاتبًا لها، وقد كانت منعقدة من
جميع حضرات أعضائها ما عدا السيد محمد الصديق مندوب مراكش والسيد
الميرغني الإدريسي لغيابهما، وبعد البحث والمداولة قررت ما يأتي:
أولاً: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة والسماحة السيد عبد الحميد البكري
شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيسًا للجنة.
ثانيًا: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطاء الله الخطيب
أفندي مندوب العراق مقررًا للجنة.
ثم تذاكرت في المسائل الأخيرة من برنامج المؤتمر مسألة مسألة، وقررت ما
يأتي:
أولاً: المسألة الرابعة (هل يمكن الآن إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط
الشرعية؟)
قررت اللجنة فيها ما يأتي:
إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية
(الذي أقره المؤتمر في الجلسة الرابعة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في
جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة
التي عليها المسلمون الآن.
ثانياً: المسألة الخامسة (إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخلافة فما الذي
يجب أن يعمل) .
قررت اللجنة الآتي:
إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
وفي نظر أمم العالم جميعًا (له) من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا
يمكن البت فيها الآن للأسباب المذكورة. لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل
الذي يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل.
من أجل هذا تقرر ما يأتي:
تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة الإسلامية بمصر على أن ينشئ له
شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها
حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها
السامي [2] .
ثالثاً: المسألة السادسة (إذا قرر المؤتمر وجوب نصب خليفة فما الذي يتخذ
لتنفيذ ذلك) قررت اللجنة فيها ما يأتي:
حيث إن المادة المذكورة معلقة على قرار المؤتمر فلم تر اللجنة ضرورة
للبحث فيها للأسباب المذكورة في قرار اللجنة بالمادة السابقة.
ثم ختمت الجلسة حيث كانت الساعة الرابعة والنصف مساء على أن تجتمع
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
إمضاءات الأعضاء ... ... ... ... ... ... رئيس اللجنة
محمد مراد ... عطاء الله الخطيب ... ... عبد الحميد البكري
أبو بكر جميل الدين يعقوب شنكوفتش ... ... ... إمضاء
... ... ... ... ... ... ... محمد الصالحي عبد الله أحمد
... ... ... ... ... محمد إدريس السنوسي عناية الله خان
***
لجنة بحث المسائل الثلاث الأخيرة
من برنامج المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر
انعقدت اللجنة المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر
الإسلامي العام للخلافة بمصر للمرة الثالثة الساعة الحادية عشرة من برنامج صباح
يوم الاثنين 5 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (17 مايو سنة 1926) في دار
المؤتمر برياسة حضرة صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري، وبحضور
حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة أعضائها ما عدا حضرات السيد محمد الصديق
والسيد الميرغني الإدريسي والحاج عبد الله أحمد لغيابهم.
وبحضور محمد شكري رجب أفندي الكاتب المكلف بتدوين قراراتها، فتلى
محضر الجلستين الماضيتين، فوافقت عليه اللجنة كما هو. ثم نظرت فيما يأتي:
أولاً: الاقتراح المرفوع إليها من سكرتارية المؤتمر بناءً على قرار لجنة
الاقتراحات والأبحاث والخطب. وهو مقدم من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ
الشيخ خليل الخالدي (ومرافق لهذا) فقررت اللجنة أن موضوعه داخل في أبحاث
المؤتمرات التي ارتأت اللجنة انعقادها للبحث في تقرير أمر الخلافة.
ثانياً: في وضع تقرير يشمل بيان الأسباب والاعتبارات التي بنت عليها
رأيها في المسائل الثلاث الأخيرة المبينة في برنامج المؤتمر.
وبعد البحث والمداولة قررت اللجنة وضع هذا التقرير بالصورة الآتية:
(تتشرف اللجنة المشكلة للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج
المؤتمر برفع تقريرها ببيان الاعتبارات التي بنت عليها رأيها في المسائل المحولة
إليها ليقرر المؤتمر ما يراه، ورأيه مقرون بالتوفيق إن شاء الله.
إن للخلافة شأنًا عظيمًا بين المسلمين، وكان ذلك الشأن بارزًا بكل ما يتصور
من مجد وعظمة أيام الخلفاء الراشدين، وأيام كانت كلمة المسلمين متحدة، وآمالهم
متجهة نحو جهة واحدة من إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، ورفع شأن الإسلام
والمسلمين إلى أن ظهر الضعف فيهم، وتضاءل نفوذ الخلافة فأصبحت عبئًا ثقيلاً
على من يتحملها حتى إن الأتراك نبذوها بدلاً من أن يروها عمادًا عظيمًا يبنون
عليها مجدهم، ومسندًا هامًّا يسندون إليه ظهورهم، وعلى أثر ذلك اجتمعت هيئة
كبار علماء مصر، وأصدرت قرارها المعروف بشأن الخلافة، فأثارت بذلك مسألة
البحث فيها من جميع نواحيها.
ولقد اشتمل قرار العلماء على أن الإمام يحوط الدين وينفذ أحكامه ويدير
شؤون الخلق على مقتضى النظر الشرعي وعلى أنه صاحب التصرف التام في
شؤون الرعية وأن جميع الولايات تستمد منه، فعلم من ذلك أن أهم الشروط في
الخليفة أن يكون له من النفوذ ما يستطيع معه تنفيذ أحكامه وأوامره، وأن يدافع عن
بيضة الإسلام وحوزة المسلمين طبق أحكام الدين.
وهل من الممكن الآن قيام الخلافة الإسلامية على هذا النحو؟ إن الخلافة
الشرعية بمعناها الحقيقي إنما قامت على ما كان للمسلمين في الصدر الأول من
وحدة الكلمة واجتماع الممالك مما جعل الإسلام كتلة واحدة يأتمر بأمر واحد،
ويخضع لنظام واحد كما ذكرنا آنفًا.
أما وقد تناثر عقد هذا الاجتماع، وأصبحت ممالكه وأممه متفرقة بعضها عن
بعض في حكوماتها وإدارتها وسياستها وكثير من بنيها تملكته نزعة قومية تأبى على
أحدهم أن يكون تابعًا للآخر فضلاً عن أن يرضخ لحكم غيره ويدخله في شؤونه
العامة فمن الصعب تحققها الآن.
هذا إذا فرضنا أن الشعوب الإسلامية كلها كيان مستقل يحكم نفسه بنفسه على
أن الواقع غير ذلك، فإن أكثر هذه الشعوب تابع لحكومات غير أهلية، وهنا يزداد
أمر الخلافة الشرعية تعقيدًا لما يوجد بطبيعة هذه الحال من العلاقات
والروابط الدقيقة من الأمم المستقلة فيها وغير المستقلة.
فإذا فرض أن أقيم خليفة عام للمسلمين فلا يكون له النفوذ المطلوب شرعًا، ولا
تكون الخلافة التي يتصف بها خلافة شرعية بمعناها الحقيقي، بل تصبح وهمية
ليس لها من النفوذ قليل ولا كثير.
إزاء هذه المصاعب التي تحول دون إيجاد الخلافة الشرعية بالنسبة للأحوال
التي عليها الأمم الإسلامية، وإزاء الأهمية القصوى التي لمركز الخلافة وما يترتب
على إقامتها بين المسلمين من المزايا والمنافع الكبرى.
قد قررنا القرار الآتي على المادة الرابعة من المواد التي نيط بنا النظر فيها
على الوجه الآتي:
(إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية
(الذي أقره المؤتمر في هذه الجلسة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في
جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة
التي عليها المسلمون الآن) .
ولما كان إبقاء أمر المسلمين مهملاً على ما هو الآن بدون مدبر غير جائز
فإننا نرى أن الحل الوحيد لهذه المعضلة أن تتضافر الشعوب الإسلامية على تنظيم
عقد مؤتمرات بالتوالي في البلاد الإسلامية المختلفة لتبادل الآراء بين أعضائها من
وقت إلى آخر حتى يتيسر لهم مع الزمن تقرير أمر الخلافة على وجه يتفق مع
مصلحة المسلمين.
أما إذا لم تساعد الأحوال والظروف على استمرار عقد المؤتمرات، وتعذر
انعقادها للنظر في أمر الخلافة فتفاديا من أن يبقى مسندها شاغرًا زمنًا طويلاً وما
يتبع ذلك من بقاء المسلمين دون مركز يرجعون إليه في أمور دينهم العامة، ينبغي
إيجاد هيئة مكونة من زعماء المسلمين وأهل المكانة والرأي تنعقد في كل سنة للنظر
في شؤون المسلمين وتؤلف في كل أمة إسلامية لجنة تنفيذية ذات صبغة قومية
تكون ذات اتصال بالهيئة العامة، وهذه اللجان يقوم كل منها بتنفيذ قرارات الهيئة
العامة في بلادها.
1 - ظهر جليًّا مما تقدم أن إقامة الخلافة في مثل هذه الأحوال والظروف التي
وصفناها أمر متعذر إن لم يكن في حكم المستحيل من الوجهة العملية، وهذا يستتبع
حتمًا استبعاد فكرة النظر في تنصيب إمام أو خليفة للمسلمين الآن؛ لأن إقامة خليفة
في الوقت الحاضر على ما هي عليه الأمم الإسلامية لا يحل مشكلة الخلافة بل من
شأنه أن يزيدها تعقيدًا على تعقيد فضلاً عن أنه لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل
والعقد في أمور المسلمين تملك حق البيعة شرعًا كما أنه لم يشترك في هذا المؤتمر
كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك.
ولهذا قد قررنا أن يكون الجواب على المادة الخامسة الواردة في البرنامج على
الوجه الآتي:
(إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
وفي نظر أمم العالم جميعًا له من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا يمكن
البت فيها الآن للأسباب المذكورة لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل الذي
يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل.
من أجل هذا تقرر ما يأتي: تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة
الإسلامية بمصر على أنه ينشئ له شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على
اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة
الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها السامي) .
ولا غضاضة في ذلك على الأمم الإسلامية إذا كانت لم توفق إلى الآن إلى حل
مسألة الخلافة الشرعية، ونصب الإمام كما أنه لا غضاضة على المؤتمر الحاضر إذا
لم يتيسر له تقرير أمر الخلافة والخليفة نهائيًّا. ويكفيه من ذلك أنه قام بأجل خدمة
المسلمين بأن شخَّص لهم الداء ووصف لهم الدواء فيكون بذلك قد قام بالواجب الديني
نحو الإسلام والمسلمين.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) .
رئيس اللجنة ... ... ... ... ... امضاءات الأعضاء
عبد الحميد البكري ... ... ... محمد مراد ... عطاء الله الخطيب
(إمضاء) ... ... ... ... أبو بكر جمال الدين يعقوب شينكه ويج
... ... ... ... ... محمد الصالحي ... ... عبد الله أحمد
... ... ... ... ... محمد إدريس السنوسي عناية الله خان
***
الاقتراح الملحق بتقرير اللجنة
أرى أنه يجب على المؤتمر أن يبحث عن كيفية الصلة ودرجات الارتباط بين
المسلمين في جميع الممالك والحكومات، وأن يبينوا كيف تكون العلاقات بين
المسلمين بعضهم مع بعض، وأن يبحثوا عن كيفية العلاقات التي تكون بينهم وبين
المسلمين المحكومين من الأجانب مباشرة كالجزائر وملبار وباتاوي ومدراس مثلاً،
وأن يبحثوا أيضًا عن كيفية الصلة ودرجات الارتباط فيما بينهم وبين البلاد التي
تحت الحماية الأجنبية، وفيها أمير مسلم كتونس وفاس ومسقط وزنجبار وبعض
أمراء حضرموت.
ثم في البلاد التي فيها برلمان وملك وهي مستقلة إلا أنها مضغوط عليها
كمصر، ثم أيضاً في البلاد المستقلة التي لا ضغط ولا حماية فيها وليس فيها برلمان
كنجد والأفغان والريف، ثم في البلاد المستقلة استقلالاً تاماً ولها برلمان كتركيا
وفارس.
فيجب أن ينظر في اتحادهم على مدافعة حقوقهم ومصالحهم والذب عنها.
وفي إصلاح ذات البين فيما بينهم بحيث لا يثيرون عليهم ثائرة المستعمرين. وأن
ينظروا في تعاونهم على ما فيه نفع المجموع.
هذا ما أرجو قبوله من حضرات الحاضرين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... خليل الخالدي
عرض هذا الاقتراح على لجنه النظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث
فقررت إحالته إلى اللجنة الثالثة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير اللجنة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... إمضاء
4 ذي القعدة سنة 1344 (16 مايو سنة 1926) أحمد عبد القادر
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) منقول عن (محاضر) مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمر.
(2) لو أن السكرتير العام قدم للجنة اقتراح صاحب المنار على المؤتمر أن يقرر السعي لتكوين جماعة أهل حل وعقد في كل قطر إسلامي لرجونا أن تقرره اللجنة ولكن السكرتير كتم الاقتراح، وقد نشر في المنار وغيره.(27/370)
الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني
__________
مبحث في الجرح والتعديل
بسم الله الرحمن الرحيم
إثبات توثيق
كعب الأحبار ووهب بن منبه
حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإنكم كثيرًا ما تدعون إلى انتقاد المنار. وإن هذه أكبر مزية له؛ لأن تحقيق
المباحث العلمية من أسمى ما يتشوق إليه طلاب الحقائق الذين لا يستريحون إلا
بالوقوف عليها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالانتقاد والمناقشة والأخذ والرد. فإن
الحقيقة بنت البحث، وإن المناقشة في أي مبحث كان تولد فيه من الفوائد العلمية ما
تجعله مقدمًا على غيره من المواضيع الغفل التي لم يطرقها بحث فلم تنضج بعد.
ولم يكن لها في نفس القارئ ذلك الأثر الثابت الذي يشعر به عند تلاوة مواضع
البحث والمناظرة، وشتان بين اطلاعه على ما يحتمل أنه رأي شخصي، وبين ما
يعلم عنه من سميته في الحال.
لذلك أكتب ما يأتي:
أتيتم في خلال تفسير قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من
سورة الأعراف بما يؤخذ منه أنكم تجرحون وتطعنون على كعب الأحبار
ووهب بن منبه بأنهما:
(1) رويا أخبار غرائب بني إسرائيل المكذوبة.
(2) وكانا يدسان في الدين الإسلامي بكذب الرواية.
(3) وأنهما من جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله
عنهما كما هو موضح بصحيفة 169 من الجزء الثالث الصادر في 29 شعبان سنة
1342هـ ولما كان هذا التجريح غير المعروف عنهما عند رجال الحديث من
المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا. ويوجب سوء سمعتهما عند قراء المجلة.
ويترتب عليه الحط من اعتبار أشهر كتب الحديث (البخاري ومسلم وأبي
داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وموطأ الأمام مالك) لذكرهما فيها على سبيل
الرواية عنهما والاحتجاج بهما في عدة مواضع. وكنا في وقت كثر فيه الملحدون
والمارقون الذين يثيرون على الدين الإسلامي أقل شبهة، فخشية أن يقول مارق: إن
صاحب المنار قد أظهر في رجال كتب الحديث التي تدعون صحتها من هو كذاب،
دساس، ويحاول أن يقيم من وراء ذلك دليلاً على تقصير أصحابها في انتقاء
رجالهم، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، وإيفاء للرجلين حقهما بادرت إلى انتقاد
هذا الطعن والتجريح مثبتًا براءة الحبرين مما ذكر بالإشارة إلى محال نصوص
علماء الجرح والتعديل الصريحة في توثيقهما توثيقًا لا يصح معه جرحهما بشيء
مما ذكر.
فلم تنشروا الانتقاد إلا بعد أكثر من عام أي في صحيفة 73 من الجزء الأول
الصادر في 29 رمضان سنة 1343 متبعين له بشيء من الرد على. ثم لم تنشروا
بقية الرد إلا بعد عام آخر بصحيفة 716 من الجزء التاسع الصادر في 15 شعبان
سنة 1344 فلما كمل الرد ولم أجد فيه ما يشفي العلة. بل زاد الطين بلة. فإنكم
وإن سلمتم ببرائتهما من الطعن الثالث فقد بالغتم في نسبتهما إلى الأولين وهما محل
الخطر (فوقفت حائرًا) لأن الأمر أصبح في احتياج لمزيد من بحث ودرس، وأنا
مشتغل بالحرث والدرس. ولم يكن بد من بيان الواقع من توثيق الحبرين وإلا كنت
جانيًا عليهما بتركهما بعد تعريضهما لأسنة البحث والمناظرة. فرجعت إلى ردكم
منقبًا عما حال دون إدراك الحقيقة، فوجدت السبب ينحصر في ثلاثة مواضع مهمة.
فتجدد أملي في أنه مع بيانها يزول ما كنت أحذر. حيث إنها في نفس المنار تنشر
ومن علق بنفسه شيء مما سبق يزول. وننال معكم بذلك من الله تعالى الرضا
والقبول.
***
الموضع الأول
قلب نص قاطع في الموضوع من الإثبات إلى النفي - وذلك فيما نقلتم في
سياق جرحكم كعب الأحبار بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ونصه (وقد
صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره) .
ولما كان هذا غير المعروف راجعت ترجمته في الطبقات، أي تذكرة الحفاظ
بصحيفة 45 من الجزء الأول فوجدت النص هكذا (وله شيء في صحيح البخاري
وغيره) .
هذا وقد قال الحافظ الذهبي في أول هذا الكتاب الجليل ما نصه (هذه تذكرة
بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف
والتصحيح والتزييف) واسما الحبرين ثابتان فيها وقال في ترجمة كعب المذكورة
(إنه من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر فقدم من
اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب
والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين
مرسلاً. وله شيء إلخ وترجمة وهب بن منبه في صحيفة 88 من الجزء نفسه
وقال فيها (إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34هـ وروى عن أبي هريرة وعن عبد
الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل
الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته لذلك وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه
همام) .
وقد نص صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم
التخصص في القضاء الشرعي في رسالته مفتاح السنة المطبوعة والمنشورة بمجلة
المنار على أن تذكرة الحفاظ هذه من كتب الثقات. كما نص العلامة القاسمي في
كتابه الجرح والتعديل المطبوع والمنشور بالمنار أيضًا (على أن من الوجوه التي
تعرف بها ثقة الراوي ذكره في تاريخ الثقات) ، وحيث ثبت ذكر الحبرين في
هذه التذكرة وهي من تواريخ الثقات فيكون هذا حكمًا بتوثيقهما توثيقًا لا يقبل نقضًا
ومن ادَّعى غير ذلك فعليه البيان.
***
الموضع الثاني
حمل أقوال بعض سلف الأمة وعلمائها على غير مرادهم لعدم البحث - وذلك
ثابت في قولكم ضمن الرد بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ما نصه (أما
كعب الأحبار، فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئاً ولكن ذكره فيه بما يعد
جرحًا له لا تعديلاً. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب: وروى
البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث
رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء
المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب (تأمل) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في
البخاري وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له ورقم البخاري
وليست هذه رواية عنه فيوهم أنه أخرج له.. . إلخ، يعني أن ذكر صاحب
التهذيب رقم البخاري وهو حرف (خ) عند اسم كعب غلط، وقد صرح الحافظ
الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره. والمنتقد يبدي
ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من
أصدق المحدثين عن أهل الكتاب، وإنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب طعن صريح
في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات؛ إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم
ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر إذ
لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا، إلى أن قلتم:
وجمله القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم في صحيح
مسلم، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند غيره؛ ولذلك امتنع
البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته. اهـ منار.
فهذه الجملة اشتملت عدا رأيكم على ثلاث عبارات للمتقدمين (الأولى) عبارة
سيدنا معاوية المروية في البخاري (الثانية) عبارة الحافظ ابن حجر المنصوصه
في كتابه تهذيب التهذيب (الثالثة) عبارة الحافظ الذهبي المثبتة في كتابه الطبقات
المذكورة. أما عبارة الذهبي فقد بينا ما فيها قريبًا وآفتها من كلمة (ليس) التي
حشيت فيها فقلبتها من الإثبات إلى النفي، وعبارة ابن حجر مترتبة معنى على
عبارة سيدنا معاوية. فوجب الكلام أولاً على عبارة معاوية رضي الله عنه من جهة
نصها ومعناها مع بيان غرض الإمام البخاري من ذكرها في صحيحه حتى يتبين
بجلاء إن كانت طعنًا على كعب أو توثيقًا له.
أما من جهة نصها في صحيح البخاري فهي في كتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة، وقد أتى بها البخاري عقب ترجمته هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وقال أبو اليمان: أخبرنا
شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من
قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين
يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب. اهـ بخاري
وأثبت صاحب الفتح (إن) في رواية (وحدثنا أبو اليمان) وأنّ إنْ مخففة من
الثقيلة، وضبط شيخ الإسلام (وذكر) بالبناء للمفعول وفي النسخ المضبوطة بالقلم
علامة صحة حذف كلمة (أهل) عن أبي ذر الهروي فتكون روايته هكذا (الذين
يحدثون عن الكتاب) هذا ما يتعلق باللفظ.
وأما من جهة المعنى فأحسن ما يبين معناها هو نفس كلام سيدنا معاوية ذاته
عن كعب الأحبار شخصه.
وقد اطلعتم على عبارة أخرى لسيدنا معاوية صريحة في الثناء على كعب
وهي قوله: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه
لمفرطين كما هو منصوص في تهذيب التهذيب قبل ما نقلتم منه مباشرة.
والعبارتان صدرتا منه رضي الله عنه بعد وفاة كعب لتصريحه بالتفريط في
الأخذ عنه في هذه، ولا ولى، قالها لما حج بالناس في خلافته كما نص عليه في
الفتح وكعب توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه كما سبق، أي فلم يطرأ ما يوجب
تغيير رأيه بين العبارتين.
فلا يصح مع ذلك قولكم إن العبارة - طعن صريح في عدالة كعب - إذ ثبت
كذبه - بل كان متقنًا للكذب - ومغررًا للجمهور بعبادته - كما سبق نقله عن المنار،
لأن هذا تناقض بين عبارتي خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة
هداة الأنام مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة، فلا يتأتى منه أن يأسف على
التفريط في الأخذ عن كذاب، وليس من البلاغة وصف رجل في أول جملة
بأنه من أصدق المحدثين وفي آخرها بأنه من أكذب الكذابين وكيف يكون ذلك من
أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
على أن العبارة من حيث تركيبها العربي لا تصلح دليلاً مطلقًا على أقل ألفاظ
هذا التجريح فإن إسناد الكذب فيها إلى (الكتاب) باعتبار ما فيه من التبديل أقرب
من إسناده إلى (كعب) كما قرره شارح البخاري في توجيه احتمال رجوع الضمير
في (عليه) إلى (الكتاب) ولأنه أقرب مذكور.
وعلى كل حال فقد صارت هذه العبارة لا تصلح حجة على الطعن في كعب
لأن الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
لذلك لم يقل أحد من علماء الحديث الذين شرحوا البخاري وغيرهم: إن هذه
العبارة قصد بها سيدنا معاوية تجريح كعب مطلقًا بل بعكس ذلك فهموا أنها صدرت
منه للدلالة على توثيق كعب بأنه كان من أصدق المحدثين عن الكتاب وأن الخليفة
ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما علمه فيه من التحريف والتبديل بناء على عود
الضمير على أقرب مذكور - وقد رأى ذلك العلامة السيوطي كما يؤخذ من كتابه
(إسعاف المبطأ) المطبوع حديثاً مع الموطأ بمطبعة عيسى الحلبي حيث ترجم لكعب
الأحبار بصفته أحد رجال الموطأ (المعروف بانتقاء الإمام مالك لرجاله من أوثق
رجال الحديث) مقتصرًا على صدر عبارة سيدنا معاوية في الاستدلال على توثيق
كعب لكونه يرى إعادة الضمير على الكتاب وأنه بناءً على ذلك لا ارتباط بين صدر
هذه العبارة وآخرها.
فالسيوطي جعل العبارة توثيقًا وهو متوفى سنة 911هـ (هذا) ومن رأى
عود الضمير على كعب حمل الكذب في العبارة على ما يوجد في بعض أخباره من
الخطأ الذي سرى إليه من أهل الكتاب قبل إسلامه، ولا علاقة له بأمر الدين كالإخبار
بوقوع حوادث في المستقبل فلم يقع بعضها كما أخبر كعب.
يوضح هذا كله عبارة الحافظ ابن حجر في الفتح ونصه (قوله عليه الكذب)
أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، فلفظ يقع يدل على أن المخبر
به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم، ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي، ثم نقل
الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور عبارة ابن التين على طولها وعبارة
ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا المعنى، ثم شرح توجيه إعادة الضمير
على الكتاب ونقل التصريح عن القاضي عياض بأن العبارة ليس فيها تجريح لكعب
بالكذب على كلا الاحتمالين، ثم ترجم لكعب موثقًا له وأتى في ضمن أدلة توثيقه
بقول سيدنا معاوية بلفظ (ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار
وإن كنا فيه لمفرطين) والثمار أو البحار كلاهما كناية عن سعة علمه ونفعه)
أهـ فتح بتصرف فانظره.
أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في مرجع الضمير
مباشرة، ونقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل ما نصه توثيقًا:
(يعني أن الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه، فالأخبار التي يحكيها عن
القوم يكون في بعضها كذب فأما كعب الأحبار فهو من خيار الأحبار) ، وكذا عبارة
العيني والكرماني والسندي، وهو آخر من كتب على البخاري فيما نعلم.
واستدل صاحب كتاب إظهار الحق بعبارة سيدنا معاوية هذه على أن الصحابة
كانوا يعتقدون أن كتابي أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) الموجودين محرفان كما في
الجزء الأول منه في الكلام على إثبات تحريف وتبديل التوراة والإنجيل، فاتضح
من ذلك معنى عبارة سيدنا معاوية، وأنه ليس فيها تجريح لكعب بالكذب وأن غرضه
منها إرشاد القرشيين إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب أهل
الكتاب القديمة؛ لأنه من أصدق المحدثين عنها - وذلك مثل ما أخبر به كعب من أن
النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر
الأول منها (محمد رسول الله عبدي المختار: مولده بمكة، ومُهَاجَرُهُ المدينة، ومُلْكُهُ
بالشام) كما نقله الحافظ ابن حجر على موضعين كلاهما في الفتح في شرح باب
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: 45) من سورة الفتح في
كتاب التفسير من صحيح البخاري، وأشار إليه في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة
كعب، وهذا من ثمار علمه التي صرح الخليفة أنهم فرطوا في الأخذ منها.
أما من جهة بيان غرض البخاري من ذكر عبارة سيدنا معاوية في صحيحة
فيؤخذ من قول الإمام العيني في شرحها ما نصه (مطابقته للترجمة في ذكر كعب
الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم) ومنه يعلم أن
غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي في
الترجمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وبين
الأمر في قول الله تعالى {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94)
بأن كعبًا كان ممن يسألون؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم وشهد له سيدنا معاوية
بأنه من أصدق المحدثين عن الكتاب، والنهي هو عن سؤال من لم يسلم كما نص
عليه في الفتح في آخر شرح هذه الترجمة، وهذا يدل على عظيم ثقة الإمام البخاري
بكعب الأحبار؛ لأن احتجاجه به في أمر الدين كما ذكر أبلغ في الدلالة على ثقته به
من الرواية عنه وعلى أنه لم يمنعه من الرواية عنه إلا عدم وفرة السند الصحيح له
إليه على شرطه المعروف ومثل كعب في ذلك كمثل الإمام أبي حنيفة، وكثير من
أوثق المحدثين الذين لم تذكر لهم رواية في البخاري للسبب المذكور والإمام الشافعي
لم يكن له رواية في البخاري وإنما له شيء يسير في التعليقات فقط فلا يقال: إن
البخاري امتنع عن الرواية عن هؤلاء الأئمة لعدم ثقته بهم وإلى هنا انتهى الكلام
على عبارة سيدنا معاوية من كل أوجهها المذكورة وعلم غرضه فيها وغرض
البخاري من ذكرها في صحيحه بما توضح.
ولم يبق في هذا الموضوع سوى الكلام على عبارة الحافظ ابن حجر المتوفى
سنه258هـ من جهة تعجبه ممن سبقه في عد كعب الأحبار من رجال البخاري بناءً
على عبارة سيدنا معاوية هذه مع أنها لم تكن رواية له عن كعب.
وقبل الكلام عن بيان غرض الحافظ ابن حجر من هذا التعجب أنقل شيئًا من
كلام علماء أصول الحديث يوضح لنا ما به يسمى الرجل من رجال صحيح
البخاري أو غيره. قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته المشهورة في النوع الثالث
والعشرين بصحيفة 41 ما نصه: (ثم من انزاحت عنه الريبة منهم بالبحث عن
حالة أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين
وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن) ، وقال
العلامة ابن السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة الحافظ الذهبي المتقدم ما نصه:
نقلاً عن صاحب الترجمة (وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات
الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في
مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي
الرجل الثقة وفيه مقال من لا يعبأ به. ثم استطرد إلى ذكر أسماء الذين لم يؤثر
عليهم ذلك الجرح لكون البخاري أو أحد أمثاله احتج ببعضهم إلى أن ذكر منهم
وهب بن منبه) ولم يذكر كعبًا؛ لأنه لم يجرح مطلقًا، وأما وهب فذكره؛ لأن ابن
الفلاس كان ضعفه قبل احتجاج البخاري به كما يأتي.
وقال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي في مبحث (أصح كتب الحديث)
في إثبات أن البخاري ومسلم هما أصح الكتب ما نصه: (وما ذكر فيهما من
الضعفاء كمطر الوراق وبقية وابن إسحاق ونعمان بن راشد لم يذكر على سبيل
الاحتجاج بل على سبيل المتابعة والاستشهاد) .
فأنت ترى أن عباراتهم صريحة في أن كل من احتج به البخاري في صحيحه
يصير ثقة ولو كان مجروحًا من قبل وأنه لا يعبأ بكلام الجارح بعد ذلك الاحتجاج
وبناءً عليه صار كل من الراوي والمحتج به في البخاري حكمهما واحدًا في التوثيق
وباعتبار أن البخاري اعتمد في تكوين كتابه على الرواة والمحتج بهم يصح أن
يطلق على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه بلا فرق بينهما في ذلك
أيضًا. (وقد احتج البخاري بكعب الأحبار احتجاجًا مهمًّا نافعًا كما سبق) .
فلا عجب حينئذ ممن عد كعبًا من رجال البخاري؛ لأنه متى علم السبب بطل
العجب واتضح أن صاحب التهذيب مصيب في عد كعب الأحبار من رجال البخاري
وأن ذكر حرف (خ) رقمًا على أخذ البخاري عن كعب صحيح لا (غلط) لأنه
اعتمد عليه في شيء من كتابه - على أنه لا غرض للحافظ ابن حجر من ذلك
التعجب إلا طلب النظر في الموضوع شأن أكابر المحققين إذا اختلفت وجهة نظرهم
مع من سبقهم يطلبون النظر في الأمر ليتبين الحق فيه وجل المنزه عن الخطأ
والنسيان وعلى ذلك أدلة منها أنه صرح بطلب النظر عقب عبارته هذه مباشرة
بقوله: وكذا رقم في الرواة عنه (كعب على معاوية ابن أبي سفيان رقم البخاري
معتمدًا على هذه القصة وفي ذلك نظر) .
يريد أن عبارة سيدنا معاوية قصها على الرهط من قريش ثناء على كعب لا
رواية عنه ولكن قول سيدنا معاوية (عنده علم كالثمار أو البحار) يدل على أخذه
عن كعب وإلا فمن أين علم ثمار علمه. ومنها أن ابن حجر أبقى حرف (خ) في
كتابه تهذيب التهذيب فلو كان جازمًا بغلط صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف
لحذفه هو من كتابه: ومنها أنه لم يجرح كعبًا بشيء ما في مؤلفاته بل ترجم له
ونقل توثيقه عن كثيرين تأييداً لتوثيقه له.
أما السابقون على الحافظ ابن حجر في عد كعب من رجال البخاري وتوثيقه
فهم الحافظ بن سرور المقدسي في كتابه الكمال وهو متوفى سنة 600هـ وتابعه
على ذلك الحافظ المزي في التهذيب، وهو متوفى سنة 742هـ وهو الذي يقصده
ابن حجر بقوله في عبارته: (فالعجب من المؤلف) ولكن الذهبي وافق المُزّي في
كتابه تهذيب التهذيب، وهو متوفى سنة 748هـ ومن المتأخرين عن ابن حجر، وهو
موافق للمتقدمين عليه الحافظ الخزرجي في كتابه (خلاصة تهذيب الكمال) وهو
متوفى سنة 923هـ ولم يوافق أحد ابن حجر من المتقدمين أو المتأخرين عنه في
التعجب من عد كعب من رجال البخاري.
البقية للآتي
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/377)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جمعية تجديد الإلحاد والزندقة
والإباحة المطلقة
مهاجمة اللغة العربية وآدابها
لم تقنع جمعية تجديد الإلحاد والإباحة في مصر بصد الشعب المصري وسائر
الشعوب العربية بل الأمة الإسلامية عن الدين أو تشكيكها فيه تمهيدًا لإباحة
الأعراض وعبادة الشهوات، وتقليد الإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من الفواحش
والمنكرات، بل نراهم يعنون بتحقير آداب اللغة العربية ليجردوا الأمة من هذا
الفصل المنطقي الذي يفصلها من غيرها من الأمم ويثبت لها استقلالها خاصًّا
بمقومات خاصة ومشخصات خاصة.
وأعظم مقومات الأمم الدين الذي هو مصدر الفضائل والآداب النفسية، واللغة
التي هي مظهر العلوم والمعارف والآداب، ويليهما التشريع الذي هو مجلي السيادة
والحكم، وقد بدأ هؤلاء الزنادقة بهدم الدين هدمًا مطلقًا لا هدم تجديد كما يدعون في
غيره، وهدم التشريع الإسلامي لاستبدال التشريع الأوروبي به، ثم شرعوا في
تحقير آداب اللغة بزعم تجديدها بآداب لغات ساداتهم الإفرنج.
ألف الدكتور طه حسين أستاذ تجديد الإلحاد والإباحة في الجامعة المصرية
غير الرسمية كتيبًا كذب فيه نقلة اللغة العربية ورواة آدابها فيما رووه من شعر
العرب في عصر الجاهلية، وزعم أنهم هم الذين وضعوا المعلقات السبع وافتروها
على امرئ القيس وطرفة وعنترة. . . إلخ كما افتروا غيرها من الدواوين وما
دون الدواوين، واستطرد إلى تكذيب كتاب الله وتكذيب خاتم رسله عليه صلواته
وسلامه في إسناد بناء بيته الحرام إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام
وفي غير ذلك، وجعل ذلك من الأساطير لا يثبته العلم، وهذا جهل منه بمعنى كلمة
العلم، فإنه لم يقل أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين أن وقائع التاريخ يتوقف
ثبوتها على عدم نفي العلم لما رواه الرواة منها.
فخبر بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبيت الله تعالى تناقلته الأمة
العربية بالتواتر المؤيد بتقاليد دينية عملية، ثم أثبته الوحي الإلهي الثابت بالآيات
القطعية، ولا يوجد دليل علمي يعارضه، فما معنى قوله: إن العلم لا يثبته؟ - وقد
ألقى هذا الكتاب دروسًا في الجامعة المصرية الرسمية، وربما يصدق الكثيرون من
طلابها هذا الأعمى البصر والبصيرة فيما يكذب به علماء الأمة الإسلامية وكتاب
ربها وحديث نبيها المعصوم فيما يريد به تجريد أمتهم من الدين واللغة والنسب
والأدب والتاريخ ليجددهم بذلك فيجعلهم أمة أوربية! ! بل طعمة للدول الأوربية
كما جدد نفسه وبيته بتزوج امرأة غير مسلمة وبتسميته أولاده منها بأسماء الإفرنج
رغبة عن الأسماء العربية القديمة والجديدة واحتقارًا لها، وقد حدثنا الثقة عن أحد
أصدقائه أو أساتذته أنه قال: لا مانع يحول دون إقناعنا للمصريين بسيادة الإنكليز
وحكمهم إلا الدين، أي فلا بد من إزالة هذا المانع! .
وقد رأيت بعد عودتي من الحجاز مقالاً لأحد مقلدته أو أعضاء جمعيته في
صحيفتهم السياسة ناشرة دعايتهم وحاملة لوائهم عنوانها (العقلية العربية وشعر
رامي) أنشأها لتقريظ ديوان شعر (أحمد رامي) أحد أدباء النابتة المصرية، وكأنه
راعه من شعره ذوقه العربي الصحيح، وأداؤه المصري الفصيح، وقريحته النضاخة
بالمعاني، وخياله المصور لها في أجمل المباني، فعز عليه أن يكون شعره عربيًّا
صحيحًا، وأن يكون في دوحة الآداب العربية غصنًا قويمًا، فأراد دعوته إلى
جمعية التجديد؛ ليكفر بطرافة شعره أدب لغته التليد، ويترك السبح في بحارها،
والاقتباس من أنوارها، وينسلخ من سليقته العربية، ويتبرأ من فطرته الإسلامية،
ويتكلف تقليد الفرنجة في ترك القوافي والأوزان العربية، ويتنحل المعاني اللاتينية
والإغريقية، فيكون من جمعية المجددين، بهدم ما استطاع مما لأمته من لغة وأدب
ودين.
ومن الغريب أن عمدة دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها
وصفها بالقديمة، وشبهتهم عليه أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه، ومن المعلوم
بالبداهة أن حسن الأشياء وقبحها الحقيقيين في ذاتها، وفائدتها، لا في قدمها ولا في
جدتها، وما من قديم إلا وكان جديدًا ولا جديد إلا وسيكون قديماً، ومن لا قديم له لا
جديد له بل لا وجود له، وإنما الأمم بتاريخها، ومثل من يحاول هدم تاريخ الأمة
لأجل تجديدها كمثل من يحاول هدم بنية كل فرد منها ليجدد له بنيه أحسن منها.
نعم، إن كل حي يحتاج آنًا بعد آخر إلى جديد يكون مددًا لقديمه لا هادمًا له
ومصلحًا لما فسد منه، ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون إلى انتحال ما هو
أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي والشعر الإغريقي الذي هو دون
الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي، والحق أن كلمة الجديد والتجديد كلمة
خادمة للنابتة، مستهوية لخيال الشببة؛ لأنهم لا يريدون إلا جعل هذه الأمة لقمة
سائغة لسادتهم المستعمرين، بتقطيع ما يربط بعضها ببعض من لغة وأدب وتشريع
ودين، وأنهم ليدعون دعاوى لا تثبتها بينة، ويؤلفون أقيستهم من قضايا لا تقوم
عليها حجة، بل هي كذب وبهتان، يكذبه الحس والعلم، كوصف مقرظ ديوان
رامي للشعر العربي و (العقلية العربية) وهذا نص تقريظه نقلاً عن (جريدة
السياسة في 22 المحرم سنة1345) قال:
العقلية العربية وشعر رامي
بينما كتاب مصر يحسون تمام الإحساس بخطورة العقلية الشرقية القديمة.
يلمسون في تضاعيف النهضة الحاضرة رغبة صادقة في الخلاص من المصطلحات
والعقائد [1] والنظم الرجعية الآسنة فيحاولون السعي بما أوتوا من مواهب لتحرير
الفكر وتجديده وتلقيحه بخصائص الثقافة الأوربية سواء في المقالات أو في
الأبحاث أم في الروايات القصصية أو التمثيلية - يظل شعراؤنا في المؤخرة جمودًا
ضاربين حول أنفسهم نطاقًا محرمًا كجماعة الفقهاء أو اللاهوتيين، يتعهدون في
أنفسهم ملكة النظم على أهازيج الحداء البدوية باستظهار ما يمكن استظهاره من شعر
العرب موقنين أن الحافظة المشحوذة المتوقدة المحملة بآثار السلف الصالح هي
وحدها مثار العبقرية الشعرية على اختلاف أشكالها وميولها [2] .
إنهم يعودون أنفسهم بمجهود آلي مدهش الانتشاء بتسلسل القوافي المتشابهة
وانصبابها في رنين لفظي واحد، ولا يخطر لهم ببال أبدًا بل لا يخالط وجدانهم لحظة
أن هذه الموسيقى المتشابهة أنصع ما تكون دليلاً على سذاجة فطرية وبغاء غريزي
وهمجية متأصلة كعلالات الأطفال أو ألحان البرابرة [3] .
ثم هم لا يفطنون إلى أن كل فن محدود الرسوم ثابت الأشكال متشابه الأجزاء
ينبئ عن جمود في الفكر وضعف في قوى الابتكار واستمتاع بضرب من الركود
المعنوي منه نشأ هذا الفن [4] لا لشيء سوى مجرد الترفيه والتسلية وقتل الوقت
ومداراة عوامل اليأس الضجر.
وإن من يمعن النظر مليًّا في الينابيع التي يستمد منها معظم شعرائنا وحي
قريضهم لا يكاد يتبين فيها أثر الحياة الحرة، بل هو على النقيض يلمس تكرارًا مملاًّ
مشينًا وتحديًا غريبًا مزريًا لما قاله العرب ورددوه في عصور قضت، بل ويلمس
فوق هذا تدلُّها سخيفًا وعبودية عمياء لما اتصفت به العقلية العربية في إلهاماتها
الشعرية من عيوب جعلت أدب العرب ضد الفن أي ضد الحياة، كالحذلقة اللفظية
الطنانة الجوفاء، والمبالغة المضحكة في الأوصاف، والجرأة على الاستعارة البعيدة
عن الواقع، والجنون بالخيال الذي عوض أن يقرب إليك الحقيقة يقصيها عنك
جهده. والولع الشديد بالكذب، وادعاء العاطفة دون الشعور بها. والفرار من رسم
أفاعيل الوجدان وتقلبات النفس وأطوارها، واعتقادهم المتوارث أن الشعر شيء
والحقيقة شيء آخر، وأن خصائص العقل كالروية وإحكام النظر وصدق الملاحظة
لا تتفق والفن الشعري الذي يجب أن يكون في عرفهم مجرد تخيل غشاش لصور
وعواطف لا وجود لها إلا في مخيلة شاعر دجال [5] .
كل هذه المميزات المشهورة - ويجب أن نفهم ذلك ونسلم به [6] ، هي التي
تستهبط منها غالبية شعرائنا وحيها، وهي التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن
تعد فنًّا سليمًا. إذ الفن الإغريقي الذي عنه أخذت أوربا وتأخذ حتى اليوم لم يتأثر
به العرب ولم يلقحوا به أدبهم. وهو الفن الصحيح لأنه يقوم على رسم الحقيقة
وإبداعها مخيلة وفق مزاج كل فنان وهواه. فيصبح الفن حياة جديدة تحبب المرء في
الحياة الواقعة؛ لأنها تجملها له وتضاعفها وتميط اللثام عن دفائن أسرارها.
ومواطن الجمال فيها. فيلحق الفن بالفلسفة والعلم في تأسيس الحضارات
الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى.
أما الفن العربي - إذا صح أن للعرب فنًّا - فهو الهرب من الحياة، هو
تخيلها جوهرًا غريبًا عن حقيقتها.
وفي رأيي أن قد نشأ ذلك من أن العربي رجل حاد الشهوة بعيد مطلب الحس،
جوالة، رحالة، متفنن في استغلال قواه البدنية لذة، والعقلية مرحًا ونسيانًا، فهو
يود الحصول على اللذتين؛ لذة الاستمتاع بالحياة الواقعة في جو شهوي رحب لا
قيد فيه ولا نظام، ولذة الاستمتاع بالحياة الفنية المخيلة في عالم غير عالمه الأرضي
فيه لذائذ أخرى وشهوات أخرى وغرائب أخرى، فهو رجل لا يتطلب في الفن
رسم الواقع لدرسه والعمل لتجميله وإصلاحه بل هو يعيش الواقع هذا (؟)
ويستوعبه ويستمرئه ويمتص عصارته حتى إذا ما مجَّته نفسه هرع إلى عالم مخيل
كاذب كعالم آكل الأفيون فلا يزال به حتى يدرك قراراته فيعاوده سأمه فينزع إلى
ميله الأول وهكذا [7] .
وإن من يعرف أن العرب قد تأثروا بعلوم الإغريق على ضآلتها دون آدابهم
وفنونهم وهي التي كانت قد ازدهرت أيما ازدهار وبلغت من العمق والصدق
والروعة ما لم تبلغه فنون في أي عصر ذهبي يفهم تمامًا أن عقيدة العرب في أن
القرآن ليس كتاب دين منزل فحسب بل كتاب أدب منزل أيضًا، هو الذي حال بينهم
وبين استغلال أدب الإغريق وجعلهم يرون الكمال المطلق في الخلق الأدبي مجاراة
الأسلوب القرآني والنقل عنه والاقتباس منه إلى حد أنهم كانوا يقيسون مقدرة التأثر
منهم (؟) بقدرته على محاكاة البلاغة القرآنية في صوغ العبارة وصقلها، الأمر
الذي أحال الأدب نوعًا آخر من أنواع العبادة فخنق وظائف الابتداع وابتلى
المصنوعات الأدبية بمرض اللفظ والعناية بالمبنى دون المعنى والعرض دون
الجوهر [8] ؛ فكانت سخرية عجيبة لا مثل لها في تاريخ الإنسانية، هي أن الأدب
العربي منذ الإسلام لم يخرج للناس سوى كتاب عظيم واحد هو كتاب الإسلام نفسه
أي القرآن.
تلك هي العقلية العربية وهي المتسلطة على معظم شعرائنا حتى اليوم لا سيما
أفراد السلالة المنصرمة منهم، وتلك هي التي يحاول التجرد منها بعض شبابنا
كالشاعر أحمد رامي في ديوانه الثالث الذي نحن بصدده الآن.
(رامي شاعر نزَّاع إلى التجديد، توَّاق إلى استئصال جراثيم الثقافة العربية
من نفسه وكبح ما تولده من ولع بالصناعة اللفظية وانصياع لعواطف مفتعلة زائفة،
هو يروض إحساسه بالثقافة الفرنجية جهده كي تستضيء على نور عقله المستنير
أفاعيل وجدانه فيشرف على حالاته النفسانية إشراف الفنان الأوروبي الذي لا يقنع
من عواطفه بالشعور بها؛ بل هو يريد أن يفهم هذا الشعور ويحلله، يريد التمييز
بين عميقه وتافهه، بين جيده ورديئه، بين إنسانية العامة والخاصة، يريد أن ينفد
إلى باطن نفسه ما استطاع مستنبشًا أغوارها السحيقة النائية كيما يؤدي إحساسه
تأدية أمينة صحيحة لا كلفة فيه ولا غش.
رامي شاب يتدفق في شرايينه دم الصبا، وتغلي في فؤاده نزوات الفتوة وتسبق
العاطفة فيه العقل، وتتحكم في قلبه أعراض الشباب من طيش ورعونة ونزق وعدم
احتفال، وهو يدري ذلك جيدًا ولكنه لا يخشاه أو يحاول تشذيبه أو الفرار منه، إذ
هو يحس بسليقته الشعرية أن مستهبط وحيه هو هذا الشباب الأهوج الجموح، وأنه
لولا الشباب لما كان الشعر، وأن نقائصه المزعومة تلك هي في الحقيقة غذاء
الميول الأول والأخير.
لذلك هو يعب في شبابه حتى الشرق، تاركًا نفسه على سجيتها، مطلقًا
لشهواته العنان، مرسلاً أهواءه في يم الحياة حيث يعلم أن قلبه لا بد سيتحطم على
صخرة في النهاية ألمًا وحسرة. وهو عربيد كبير يستسلم كل الاستسلام لغرائزه
الدنيا ويذهب في الخضوع لها أقصى المذاهب كي يلمس عن كثب وجه الحياة كاملاً
من فرح وبؤس، وضحك وبكاء، وجحيم ونعيم، ولذة وألم.
يعيش رامي هذه العيشة غير العادية التي تذكرنا باللورد بيرون أو ألفريد
موسيه. يعيشها ويؤديها كما شاعت في نفسه واضطرمت بين جوانحه. لذلك هو شديد
الحاجة لعقل نير مدقق فاحص يحفظ به توازنه، ولذلك هو شديد الميل للاغتراف من
معين الثقافة الأوربية حتى يتمكن عقله من ملاحقة وجدانه في تدوين ما يجول به من
عواطف وشعور. وإليك مثال ذلك قطعة عنوانها (بين الشك واليقين) .
قد أحاطت بك العيون فما أسـ ... ـطيع ألقى مكان عيني منك
وجرت حولك الأحاديث حتى ... كدت أنسى الذي أحدث عنك
وأطافت بك القلوب وقلبي ... ضاع في غمرها ولما يضعك
خبريني أي القلوب تناجيـ ... ... ـن فقد همت في غيابة شك
أي نفس سبرت غور هواها ... وتحديت سرها بالهتك
فتنعمت كي تنيمي أساها ... نومة الطفل بعد طول التشكي
وتبادلتما الهوى بعيون ... تتلاقى بالغيب خوف التحكي
هي نفسي، قولي أقري شجاها ... وأبيني عن سر نفسك تلك
أم نفوس حسبت فيها وفاء ... وتوهمت حبها دون شرك
قدك وهما، لقد تغلغلت فيها ... وتبينت ميلها للترك
فشجاني أني أحبك حبًّا ... خالص الود في نعيم وضنك
وتيقنت أن ملكك قلبي ... وتأكدت أن قلبك ملكي
هذه الوحدة الأساسية المترابطة بها أجزاء المقطوعة بحيث لا يمكن انتزاع أي
بيت منها دون أن يهوي البناء كله [9] أمر نادر للغاية عند شعرائنا، وهو الدليل
الحي على هجمة العاطفة المباغتة على الشاعر دفعة واحدة.
وإن ما يستهويني في رامي هو أنه شاعر له عروس شعر يستوضح على
نورها مفاتن الحياة، يحبها ويستوحيها فنه ويحب الحب فيها، ويحب نفسه عاشقًا لها
مضني بهذا العشق متشبثًا به في بلد متأخر نساؤه، مقصيات عن رجاله، لا يشعر
فيه الأديب الفنان شعورًا مباشرًا بما تحمل المرأة من سحر الأنوثة وكنوز الرحمة،
ورامي صادق في شعره صدقه في حبه، وهذا الصدق هو الذي يمتاز به عن
شعراء الشباب جميعًا، فمقاطيعه تتراءى فضاحة مخضبة بدم قلبه فيها كل هواه من
ولع وشك وغيرة وحسرة وعذاب كهذه مثلاً:
بين ذل الهوى وعزة نفسي ... ضاع قلبي فما عرفت التأسي
وعزيز على الهوى أن أضيع الـ ... ـقلب في الحب بين ظن وحدس
كلما قلت هين في هواها ... ما ألاقي من وحشة بعد أنس
خفت أني أكون أعطيت قلبي ... للذي باع حبه بيع بخس
وفؤادي أعز ما أقتنيه ... في حياة أعيش منها بحسي
أو بعض هذه:
كان يغنيني إذا عز اللقاء ... أننا ننشق من نفس الهواء
ويعزيني إذا طال المدى ... بالتلاقي أن أظلتنا سماء
ثم وليت فلم ألق الذي ... يبعث السلوى لنفسي والعزاء
يا هنيئًا لك ما تلقينه ... من نعيم ومراح وصفاء
شارفي البحر وناغي موجه ... وابعثي النشوة فيه بالغناء
وانضحي الجو بمنثور الشجى ... واتركي الألحان تسري ما تشاء
ما لقلب فاقد توأمه ... غير أن يبكي ويمضي في البكاء
ثم هو مغرم باقتناص شوارد عواطفه، وحبسها في مقطوعة صغيرة كما
يفعل شعراء الغرب بعد تحليلها حسب التدرج المنطقي في إحساسه بها كهذه [10]
هجرتك علني أسلو فأنسى ... وأطوي صفحة العهد القديم
وعالجت التناسي فيك حتى ... غدا من فرط ذكريه همومي
ذكرتك ناسيًا ونسيت أني ... أريد البرء للقلب الكليم
وكنت أحاول النسيان جهدي ... فصرت أحن للحب المقيم
ولرامي بعد إذ يكون قد أقلقه حبه، وعبث براحته وأمضه رغبة في افتقاد نفسه
والخلو بفكره واستجماع قواه للتحليق بها فوق العالم بعيداً عن الصغائر اليومية حيث
تخلص روحه من أدران الأرض، وتتطهر في سموات الله. وإليك بعض أبيات من
قصيدة رائعة أسماها (الوحدة) فهي أبدع ختام:
أنا إن عشت لا أعيش لنفسي ... فمقامي استرواحة لظعين
إنما العيش روضة أنا فيها ... زهرة لا تظل فوق الغصون
ضاع نشري فضاع في الجو لم ينـ ... ـشقه إلا لوافح تذويني
بح صوتي في ضجة الناس لا أسـ ... ـمع فيهم تناوحي وأنيني
فإذا ما خلوت أسمع في الوحـ ... ـدة نفسي وأستجيش حنيني
وأراني وقد غنيت عن النا ... س بنجوى خواطري وظنوني
خلت أني أعيش في عالم الأر ... واح لا في سلالة من طين
والآن وقد أشرت إلى مكانة رامي عندنا من الشعر الصحيح أقول إن هذه كلمة
كان من واجبي أن أكتبها اعترافًا بمجهوده، غير أني لا أود أن يفهم البعض منها
أن في نيتي إقامة شعر (أحمد رامي) على صريح شاهق والإشادة به كعمل من
أعمال الإنسانية الخالدة، لا، ليس في هذا الشعر لا إبداع خارق ولا عبقرية ولكنه
أجود من أي شعر نسمعه من شباب مصر اليوم، ورامي أصدق من كثير من
شعرائنا المشهورين، وقد يأتي يوم وهو دون شك قريب تكتمل فيه قوى شاعرنا
الشاب فيتحرر تمام التحرر من أوزان الشعر العربي التقليدي وتفاعيله، وعندئذ
يخلق خلقه الخاص في إطار مبتكر طريق غير مقيد لا بالقافية العربية المتشابهة
العتيقة، ولا بالفكر العربي أيضًا.
... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم المصري
***
تعليق المنار
يصف الأدباء الدكتور طه حسين بالغرور ولكن غروره يعد تواضعًا تجاه
غرور مقلده إبراهيم المصري فهو يحكم على رامي وعلى سائر شعراء العصر قد
فضله عليهم ويحكم على أشعار الأمم والشعوب وعلومها حكم القاضي الجاهل الجائر
المغرور الذي يسوّل له غروره أن الأعناق كلها تخضع لحكمه، وأن الطبيعة تنفذه
ممتثلة لأوامره ونهيه، وأعجب أمره أن كل ما هجا به الأدب والشعر العربي
بالباطل يحق عليه في مقاله هذا فهو شعريات خيالية كاذبة فيما مدح وفيما ذم، وهو
مزجي البضاعة في اللغة العربية كما يعلم من أغلاطه ووضعه الكلم في غير
موضعه، وفاقد لذوق الشعر العربي الذي أعجب به كل من عرفه من جميع الأمم.
ما وصف به هذا المقرظ شعر العرب باطل لا يخفى بطلانه على أحد اطلع
على شعرهم قبل الإسلام وبعده، فإن كان له دليل يدل عليه، أو شواهد تشهد له،
ففي نظم بعض المولدين المتكفلين في القرون الوسطى إلى القرن الماضي، وسببه
ضعف اللغة العربية بضعف دولها أو زوالها وهو ما يسميه أهل النقد اليوم وقبل
اليوم نظمًا لا شعرًا.
كان بيني وبين مستر (متشل إنس) الإنكليزي الحر المستقل الفكر مسامرات
ومطارحات علمية وأدبية ودينية أيام كان بمصر يشغل منصب (وكيل وزارة
المالية) ذكرنا في بعض أسمارنا الشعر، فقال: إنه لا يظن أن الشعر العربي يسمو
إلى مكانه الشعر الإنكليزي، قلت: وأنا لا أظن أن الشعر الإنكليزي يرتقي إلى أوج
الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه، ولكن ظني وظنك منتزعان من معرفة أحد
الشعرين فلا يصح أن يبني عليه حكم صحيح، وإنما الحكم الصحيح في هذا لمن أتقن
اللغتين، ومارس الشعرين.
ثم لقيت مستر (بلنت) المستشرق الإنكليزي الشهير وهو الذي نظم
المعلقات السبع بالإنكليزية، ومن أجدر منه بالحكم في هذه القضية؟ فذكرت له ما
دار بيني وبين مستر متشل إنس وطلبت حكمه فيه فقال:
قل لمتشل إنس: إن العرب كانت تنطق بالحكمة في شعرها عندما كان
الإنجليز دايرين عريانين في الغابات أهـ بحروفه.
وأقول الآن: إن الإنكليز هم أصحاب القدح المعلَّى بين الشعوب الأوربية في
الشعر وشاعرهم الأكبر (شكسبير) لا يفاخره مفاخر في شعب منها.
وأما شعر الإغريق الذي يفضله المجدد (إبراهيم المصري) على الشعر
العربي وينعى على العرب نبذهم له وترك الاقتباس من معانيه كما اقتبسوا من فنون
اليونان وفلسفتها. فقد كنا نجهله قبل أن يترجم لنا سليمان أفندي البستاني (الإلياذة)
نظمًا، وكنا لا نبيح لأنفسنا الحكم فيه فلما اطلعنا على (الإلياذة) وهي أعلى شعر
الإغريق ومفخرتهم التاريخية حكمنا بأن أجدادنا لم ينبذوا شعرهم وراء ظهورهم إلا
أنهم وجدوه دون الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه، وأنه على ذلك مشوه
بالخرافات الوثنية التي طهر الله عقولهم ومخيلاتهم منها بالإسلام، وأن هذا كان
عن علم ومعرفة من خواص أدبائهم لا من باب من جهل شيئًا وعاداه.
هذا وإن شعر هوميروس أقدم شعر يذكر في التاريخ، وشكسبير أشعر شعراء
الإنكليز بل الإفرنج كافة قديم أيضًا فقد نظم شعره في القرن السادس عشر ومات
هو في 1616 م وذلك قبل ابتلاء أوربا بالثقافة المادية الشهوانية الجديدة التي
يدعو إليها الكاتب وأساتذته بحجة تفضيل الجديد على القديم.
يزعم المقرظ أن العرب لم يوجد عندهم كتاب إلا كتاب دينهم (القرآن)
ولا ندري أيقول هذا عن جهل بما عند العرب أم تبيح له دعاية الإلحاد وهدم
مقومات الأمة العربية الكذب كما هو شأن جميع دعاة السياسة ودعاة الزندقة.
إنما موضوع كلامه وكلامنا معه الشعر، فهل يدعى أن ديوان الحماسة
ودواوين المعري ولا سيما اللزوميات مصداق لما وصم به الشعر العربي (والعقلية
العربية) ؟ دع ما لا يحصى من كتب الأخلاق والأدب المتداولة كأدب الدنيا
والدين للماوردي والحكم لابن عطاء الله السكندري - وغير المتداولة وهي اكثر
وبعضها محفوظ في خزانات دور الكتب العامة والخاصة وأكثرها قضى عليه جهل
التتار المخربين في الشرق، وجهل الأسبان المتعصبين في الغرب.
أي عيب في الأوزان العربية حملته على جعلها رقا يجب أن يحرر الشاعر
نفسه منه؟ وأما القوافي فإن صح أنها قيد أو مدعاة ملل، فاللغة لا تقيده بشيء منها
وقد كسر المولدون من شعراء العربية في الأندلس وفي الشرق هذا القيد منذ قرون،
وزاد شعراء هذا العصر عليهم.
وأما علوم العرب وفنونهم وأستاذيتهم لأوربا فمبسوطة في كتب علمائها
المنصفين ومؤرخيها الاجتماعيين، كموسيو سيدليو والدكتور غوستاف لوبون
ومستر درابر وأمثالهم.
أعاذ الله الشاعر الفتى (أحمد رامي) بسلامة فطرته، وفضائل ملته،
ومقومات أمته، واستقلال فكره، من إغواء شياطين الزندقة والإلحاد، ودعاة
الإباحة المطلقة، أعداء أمتهم وملتهم، وخدمة المستعمرين المستعبدين لأقوامهم،
والمستبدين في مصالح أوطانهم، وعن تغريرهم لهم بلقب الشباب لحسبانهم أن
الشبان بغرارتهم وحبهم للتنقل والتجدد، وجرأتهم على الأحداث بطبيعة حداثتهم،
هم الذين يتبعون غوايتهم، ويؤلفون جند ضلالتهم، ويكونون في مصر ثقافة مادية
إباحية تذهب بصحة الأمة وثروتها وأعراضها ودينها فتكون طعمة للطاعمين
الطامعين.
وبهذه المناسبة نعيد ونكرر تحذير الأمة العربية في مصر وفي كل قطر من
دعاية جريدة السياسة الإلحادية ودعواها إمكان استغناء هذه الأمة عن
دينها وتشريعها وآدابها وتاريخها بما تسميه الثقافة الأوربية، فإن الأمة
العربية لا تحتاج إلى اقتباس شيء من أوربا إلا الفنون العملية التي ترتقي بها
الزراعة والصناعة والنظام المالي والعسكري. وكل ما عدا هذا من عادات وتقاليد
وتشريع وفلسفة مادية فهي مفسدة للأمة، لا لأن ما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى بل
لأن فساد الآداب والعادات والأفكار المادية هي في أوربا موضوع شكوى
عقلائهم من جميع شعوبهم، ولأن هذه الشعوب أقوى من أمتنا احتمالاً لهذه المفاسد،
وإننا نرى من تأثير دعاية الإلحاد وفوضى الآداب هنا ما يشكو من سوء عاقبته جميع
العقلاء ولا سيما فُشُوّ إباحة الأعراض الذي هو مصيدة الشيطان للشبان؛ فهو هادم
لنظام البيوت (العائلات) وهدمها هدم للأمة فكيف يمكن معه تجديد شباب الأمة،
وملكها؟؟
__________
(1) هذا هو الغرض الأول للجمعية، فالدين هو الخطر الأكبر عندها.
(2) وبماذا يفضل هذا المقرظ هؤلاء الكتاب الإلحاديين الذين أشار إليهم وسماهم كتاب مصر على الشعراء الذين يعيبهم كما يعيب الفقهاء واللاهوتيين الذين يجعل علومهم ويجهل حاجة البشر وانتفاع أممهم بها كل أولئك أعلم منه وأفضل فلا حق له بجعل نفسه مرشداً لهم بمجرد تقليده لمجددي الإلحاد.
(3) هذا وصف ذوقة الفاسد وذوقهم هو الصحيح.
(4) إن جميع الفنون الرياضية والعقلية كالمنطق كذلك فهل عند المجددين ما هو أرقى منها؟ .
(5) كل هذه الأقوال كاذبة وما هي سفاهة عدو للعرب.
(6) إن هذا الإيجاب لأخذ الكذب والسفه قضايا مسلمة لا تحتاج إلى الدليل من أغرب الجهل والغرور.
(7) وهذا كذب أيضاً ناشئ عن جهل وكراهة لما يريدون هدمه من بناء الأمة العربية الكريمة كما سيأتي وياليته يطلع على كتب سادته الإفرنج في تاريخ العرب وعلومهم وفنونهم.
(8) وهذا كذب وجهل أيضاً.
(9) هذا من سوء فهمه للشعر لجهله اللغة فلو انتزع البيت الثاني والثالث يبقى البناء قائمًا لا ينقض ويمكن انتزاع غيرهما أيضًا مع بقاء البناء قائمًا سليمًا.
(10) ليس في هذه الأبيات معنى غريب عن الشعر العربي، ولكن المقرظ لا يعرفه أو يتعمد هجوه بالباطل.(27/387)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البابية البهائية في بلاد العرب
كان بلغنا أن الشيخ محمد الخراشي المصري سافر من مصر إلى العراق، ثم
كتب إلينا في أواخر العام الماضي (عام 1344هـ) أنه قصد الكويت فالبحرين
وأنه يجاهر بدعوة المسلمين إلى الديانة البهائية، فنحذر إخواننا مسلمي العرب
هنالك من هذا الداعية المضل فالواجب أن يفروا منه فرار السليم من الأجرب؛ لئلا
يفتن بعض الضعفاء عن دينهم أو يشككهم فيه، ولا يغرن أحدًا منه ادعاؤه للإسلام،
وما كان من انتسابه إلى الأزهر ومدرسة الدعوة والإرشاد، فهو قد تقلب وتذبذب،
وذهب مع أهوائه كل مذهب، حتى انتهى أمره إلى البهائية، وإن أدري أعقيدة
دينية أم مصلحة دنيوية؟ ثم لا يغرنهم مع ادعائه للإسلام ادعاؤه أن البهائية
إصلاح وتجديد له، وأن البهاء زعيم هذا الدين هو المهدي أو المسيح المبشر به،
فالحقيقة أن البهائية مشركون قد اتخذوا البهاء إلهًا يعبدونه، وهم يحرفون القرآن
والتوراة والإنجيل في مواضع يزعمون بتأويلاتهم الباطنية أنها تدل على هذه الديانة
وزعيمها البهاء. وليعلموا أن رجلاً مصريًّا اغتر بدعاية الخراشي وأمثاله فانتحل
البهائية وادعى أنها لا تنافي الإسلام، فحكمت إحدى المحاكم الشرعية -وقد رفع إليها
أمره- بارتداده وخروجه من الملة المحمدية وفرقت بينه وبين زوجه، ولعل هذا
الحكم هو سبب فرار الخراشي من مصر.
هذا وإن للبهاء كتابًا سماه الكتاب الأقدس زعم أنه عارض فيه القرآن الحكيم
المعجز للبشر إلى يوم الدين، ولكنه أودعه من الأنباء عن المستقبل ما أظهرت
الأيام كذبه وبطلانه، ولأجل هذا وغيره من مخازيهم أخفى زعماء البهائية نسخ هذا
الكتاب فلا يطلعون عليه أحدًا، وبلغنا أنهم مجتهدون في جمع كل ما طبع منه حتى
إذا ما تم لهم ذلك أحرقوا هذه النسخ كلها، وحذفوا منه كل ما ظهر بطلانه، وما
يحتمل ظهور بطلانه في المستقبل، ثم يزيدون فيه بعض المسائل الجديدة المقبولة
في عالم المدنية ويطبعونه وينشرونه، ويدعون أن البهاء هو الذي قال بها كما كان
يفعل ولده عباس أفندي الملقب بعبد البهاء، وكان وهو المنقح المشذب المنظم لهذا
الدين، المتصرف فيه بما تقتضيه شؤون العالم الحديثة.
كنا أول من صرح في مصر بأن البهائية دين جديد بني على أساس نحل
الباطنية، وكان داعيتهم الوحيد أبو الفضل الجوزقاني يأبى التصريح بذلك بل ينكره
أمام جمهور الناس، كما أن خليفة البهاء ولده و (عبده) عباس أفندي كان ينكر
ذلك ويصرح في القطر المصري بأنه مسلم سني، ولكنهم يصرحون بذلك لمن
يضلونه بعد أن يثقوا بأنه ثابت على دينهم، كما كان سلفهم من الباطنية الأولين
يفعلون.
بل قد صرح عباس نفسه بأن دينهم جديد فيما كتبه إلى جمعية لاهاي، ففي أول
ص 16 من ترجمة كتابه هذا بالعربية التي نشرها أحد دعاتهم بمصر وهو الشيخ
فرج الله زكي الكردي ما نصه:
(فالجميع يجدون في تعاليم بهاء الله منتهى آمالهم ورغائبهم، فمثلاً يجد أهل
الأديان في تعاليم بهاء الله تأسيس دين عمومي في غاية الموافقة للحالة
الحاضرة) .. . إلخ
فالبهائية شر من (الأحمدية) القاديانية؛ لأنهم اتخذوا زعيمهم (غلام أحمد
القادياني) نبيًّا ومسيحًا لا إلهًا ولم ينسخوا من الشرعية المحمدية إلا أحكامًا قليلة
كالجهاد وما يتعلق به دهانًا للإنكليز، كلهم أعداء للإسلام كافرون به مضلون لأهله.
__________(27/399)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
عودتنا من الحجاز
قد منَّ الله تعالى علينا وله الفضل والمنة بأداء مناسك الحج والعمرة مرة ثانية في
الموسم الأخير (سنة 1344 هـ) وبحضور المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد بمكة
المكرمة في شهري ذي القعدة، وذي الحجة، وبلقاء زعيم الإسلام والعرب في هذا
العصر عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها ومذاكرته في شؤون
الإصلاح الإسلامي وترقية الأمة العربية بما تقتضيه حال العصر فألفيناه ولله الحمد
فوق ما كنا نظن فيه من الهدى والعقل، وجودة الرأي، وعلو الهمة، ونبشر الأمة
بأنه لم يقع بيننا وبينه خلاف في الرأي البتة، ورأينا معروف لدى قراء المنار وكثير
من غيرهم، وإننا سنكتب رحلة ثانية للحجاز نبين فيه ما نرى ما فيه الفائدة مما
استفدناه من هذه الرحلة.
وقد مَنَّ الله علينا بالعودة إلى مصر فوصلنا إلى القاهرة في ليلة 20 المحرم من
هذا العام الجديد جعله الله تعالى عام إصلاح وتجديد.
__________(27/400)
صفر - 1345هـ
سبتمبر - 1926م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة عن الجمعة والتوسل والذكر
وابن تيمية وكتبه مع أجوبتها
(س 4 - 9) من معمل السكر في الحوامدية
من محمد أحمد عبد السلام إلى فضيلة مولانا الأكبر محيي السنة ومميت البدعة
معدن الأسرار الربانية وخزائن العلوم الاصطفائية، ووارث الحضرة النبوية، شيخ
الإسلام والمسلمين، وإمام أئمة وقته أجمعين [1] الفاضل السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار حرسه الله تعالى وفسح في مدته ونفع به المسلمين آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فالرجا إفادتي عن الآتي ذكره ولك الفضل والشكر والمنة.
***
شروط مكان الجمعة
وعدد جماعتها وتقليد الظاهرية فيه
(س 1، 2) هل صلاة الجمعة تصح داخل المعمل المشهور بفابريقة السكر
عند السادة الشافعية، مع العلم يا سيدي بأن الفابريقة المذكورة في وسط أبنية، فمن
الجانب الأيمن عزبة بناؤها ملصوق ببناء سور الفابريقة، ومن الجانب الأيسر
عزبتان بين الأولى والسور مسيرة دقيقتين وربع، وبين الثانية والسور مسيرة
خمس أو ست دقائق، وبين الجانب الغربي عزبة بينها وبين السور مسيرة دقيقة أو
دقيقة ونصف والعمال مضطرون لأداء الجمعة بالفابريقة من وجهين (الأول) أن
ترك الجمعة كبيرة (الثاني) أنهم لا يمكنهم الخروج لأدائها بالمسجد، وعليه فهل
تصح الجمعة على هذا التفصيل بالفابريقة أم لا؟ وهل يجوز أن يقلدوا قول داود وابن
حزم بأن الجمعة كسائر الصلوات تصح ولو برجل وامرأة لا فرق بين فلاة
وبلد أم لا؟
(ج) شروط مذهب الشافعي في مكان الجمعة أن تكون أبنية فيها جمع تصح
به الجمعة وهو أربعون رجلاً مقيمًا بشروطهم المشهورة في المذهب أو يبلغهم
صوت مؤذن عال في هدو من طرف بلد آخر يليهم، فإذا كانت المباني المتصلة
بمعمل السكر تحوي من أهل الجمعة الذين تنعقد بهم أربعين رجلاً وجبت عليهم
وصحت منهم.
والواجب في الأحكام الاجتهادية أن يعمل كل مكلف بما قام عنده الدليل عليه
منها، فإن عجز عن معرفة الدليل قلد من وثق بعلمه ودينه من أهل الاستدلال
الأحياء أو الأموات. وداود بن علي وعلي بن حزم من أئمة الظاهرية منهم، وما
روي عن الظاهرية من أن صلاة الجمعة كصلاة الجماعة تصح من اثنين فأكثر
رواه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عنهم وعن النخعي عن أئمة التابعين
والحسن بن يحيى. ويقرب منهم قول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة
باشتراط اثنين مع الإمام، وقول أبي حنيفة باشتراط ثلاثة مع الإمام، وقال بهذين
القولين آخرون من المجتهدين، ولكن الحنفية يشترطون إقامة الجمعة في مصر تقام
فيه الأحكام الشرعية. والتحقيق أنه لم يثبت في عدد الجمعة حديث، ولذلك قال
هؤلاء بأن جماعتها كسائر الجماعات.
***
حكم أكل عمال معمل السكر
منه وركوب مركبات الترام
(س 3) هل يجوز لعمال معمل السكر أن يأكلوا من سكره شيئًا أم لا؟ وهل
الركوب في مثل الترام والسكة الحديد جائز أم لا؟ مع العلم بأن أكل الآكل أو
ركوبه لا يضر المصلحة بشيء، وأصحابهم كفار، أفيدوا هل ذلك حرام أم
حلال؟ .
(ج) هذه المسألة يُعمل فيها بالعرف؛ فإذا كان المعهود المعروف عند
أصحاب المعمل أن العمال يأكلون منه ويرضون بذلك فلا هم ينهون العمال ولا
العمال يأكلون في حال غيبتهم دون مشهدهم لاعتقادهم أنهم يسمحون لهم بالأكل -
فأكلهم منه حلال وكذلك ركوب مركباته إذا كان معروفًا بلا نكير، ولم يكن من نظام
إدارة المعمل أخذ أجرة منهم على ذلك فلا يحرم ركوبها. فالعرف هو المحكم في
المسألتين والعمدة فيه اعتقاد العامل أنه غير سارق ولا متصرف في متاع غيره
بدون رضاه، هذا إذا كانت مركبات الترام أو السكة للشركة التي يقوم العمال
بشؤونها؛ وإلا فلا شك في عدم رضا أي شركة بركوب الغريب في مركباتها بدون
رضاها، ولا فرق في هذه الأحكام بين المؤمن والكافر، وإنما الفرق بين دار
الإسلام ودار الحرب فأهل دار الحرب الذين لا يلتزمون من أحكام شريعتنا لا يجب
علينا التزام أحكامها في أكل أموالهم برضاهم وإنما يحرم علينا أكلها
بالخيانة والسرقة.
وليعلم أن قول السائل إن أصحاب الشركة كفار أنهم غير مسلمين كما هو
الاصطلاح الشرعي وليس المراد به الإهانة.
***
التوسل بالأنبياء والصالحين
(س 4) هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء أو
الصحابة أو الأولياء، ولو قيل بالجواز أو عدمه فهل من دليل؟ وما رأي
فضيلتكم في رواية البخاري (اللهم بحق ممشاي وبحق الصالحين عليك) وهذا يفيد
جواز التوسل، وما قولكم في حديث (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)
هل صحيح أو حسن أو ضعيف أو مكذوب وأين أجده في كتب المحدثين؟ أفتونا
وابسطوا لنا القول؛ حيث إن بلدتنا بخصوص ذلك قامت على ساق ولم نرض ولم
يطمئن قلبنا إلا بفصل قضائك بيننا جعلكم اللهم ملجأ للحائرين.
المعروف عند عامة أهل عصرنا من معنى التوسل أن يعتمد المرء في قضاء
حاجاته من جلب نفع أو كشف ضر أو نجاة في الآخرة من عذاب الله أو فوز بنعيم
الجنة على أشخاص الأنبياء والصالحين وسؤالهم ذلك، أو سؤال الله تعالى
بأشخاصهم أن يعطيه إياه، دون العمل بما جاء به الرسل عن الله من علم اعتقادي
وعمل صالح وهو ما كان الصالحون صالحين باتباعهم فيه.
وهذا التوسل مخالف لأصول الإسلام وهداية القرآن، وجار على قواعد
الوثنية، وتعاليم النصرانية الكاثوليكية، فإن قاعدة الإسلام أن النجاة في الآخرة
وسعادتها ينالان باتباع الرسل فيما جاءوا به من الإيمان، وعبادة الله تعالى وحده بما
شرعه، لا بوجود أشخاصهم، ولا بدعائهم وسؤالهم، والتوسل هو التقرب ولا
يتقرب إلى الله تعالى إلا بما شرعه على لسان رسوله لأنه هو الذي تتزكى به النفس
وتصير أهلاً لرضوان الله تعالى.
قال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس:9-10)
وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (الأعلى: 14) وقال بعد ذكر دخول الجنة: {وَذَلِكَ
جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} (طه: 76) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم:
39) وأشخاص الأنبياء والصالحين ليست من سعيه ووجودهم لا يزكيه ولا يهدي
باتباعهم قال الله تعالى في صفة من كتب لهم رحمته: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ} (الأعراف: 157) إلخ ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) وقد ثبت
أن وجود بعض المرسلين لم يكن سببًا لهداية بعض أبنائهم وآبائهم وأزواجهم ولا
لنجاتهم من العذاب الذي عوقب به من كفر بهم كولد نوح ووالد إبراهيم وامرأة لوط
عليهم السلام.
والآيات المصرحة بأن دخول الجنة والنجاة من النار بالإيمان والأعمال كثيرة
جدًّا لا نحتاج إلى التذكير بها.
وأما مقاصد الدنيا فهي منوطة باتخاذ ما سخر الله للناس من أسبابها كأسباب
الرزق من زراعة وصناعة وتجارة وأسباب شفاء الأمراض من أدوية وأعمال
جراحة وأسباب النصر على الأعداء من نظام وإعداد ما يستطاع من قوة، وكل ما
يعجز الإنسان عن تحصيله من طريق الأسباب فلا يجوز له أن يدعو غير الله تعالى
فيه.
وأما الاعتماد في تحصيل ما وراء الأسباب من رغائب أو رفع مضار، وفي
النجاة من النار ودخول الجنة على وجود الصالحين وتوسطهم عند الله تعالى بمجرد
طلب ذلك منهم فهي قاعدة الديانات الوثنية كما تقدم. وقد قال تعالى في صفة يوم
القيامة {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وأمر
خاتم رسله أن يقول لأمته: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21)
أي ضرًّا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غيره - اقرأ ما بعدها أيضًا وفي معناها آيات.
وجملة القول أن التوسل هو التقرب وإنما يتقرب إلى الله تعالى بما شرعه
على ألسنة رسله لا بأشخاصهم، وباتباع الصالحين في ذلك لا بذواتهم وأن غير
ذلك غير مشروع ومنه ما هو شرك بالله كدعاء غيره بما لا يدعى به غيره كما
فصلناه مرارًا ومنه ما هو ذريعة إلى الشرك، ومنه ما هو معصية.
وما ذكره السائل من عزو: (اللهم بحق ممشاي إليك وبحث الصالحين عليك)
إلى صحيح البخاري خطأ فهو ليس من رواية البخاري كما قال، وإنما روى أحمد
عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في
دعائه: (وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا، ولا
بطرًا، ولا رياء، ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك) وهو
من طريق عطية العوفي وقد ضعفه أحمد والجمهور؛ وقالوا: كان مُدلِّسًا وشر تدليسه
ما حكاه ابن حبان في الضعفاء من كونه يأتي محمد بن السائب الكلبي المفسر
الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ويرويها، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ يقول: أبو سعيد،
فيوهم السامع أنه سمعه من أبي سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه إذ كان قد
لقيه وروى عنه، وإنما تأول هذا التدليس واستحله بتلقيبه الكلبي بأبي سعيد على أن
معنى الدعاء المذكور لو صح لا يدل على التوسل بالأشخاص، فإن حق السائلين
على الله تعالى أن يستجيب دعاءهم كما وعد بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ} (غافر: 60) فكأنه يقول: أسألك بوعدك الحق أن تستجيب دعائي، وحق
الصالحين عليه أن يثيبهم على صلاحهم كما وعد في آيات كثيرة ومنه توسله بممشاه
إلى الصلاة بالصفة التي ذكرها فهو توسل بعمل صالح من أعماله لا بشخص عامل
آخر.
***
حديث التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم
هذا الحديث موضوع لا أصل له ولا يمكن أن تجدوه في شيء من دواوين
السنة لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ويذكر بلفظ (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي
فإن جاهي عند الله عظيم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة
وغيره: هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل
الحديث ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه أعظم من جاه جميع
الأنبياء والمرسلين.. إلخ، إلى أن قال: ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه
المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ... إلخ وقد بينَّا هذا من
قبل في المنار مفصلاً.
***
ذكر النبي وأصحابه لله تعالى
وأذكار أهل الطريق
(س 5) ما كيفية الذكر الذي كان يذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
هل كانوا يتمايلون كما عليه أهل الطريق الآن أم لا؟ وهل سير أهل الطريق
موافق لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟
ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنهم -
يرقصون عند الذكر ولا يتمايلون ولا يصيحون، والأذكار المأثورة عنه - صلى الله
عليه وسلم - مدونة في كتب السنة، ومن أجمع الكتب لها كتاب الأذكار للإمام
النووي رحمه الله، وقد فصلنا القول في هذا مرارًا وتجدون في باب التقريظ كلامًا
لبعض كبار علماء الأزهر فيه.
***
شيخ الإسلام ابن تيمية وكتبه
(س 6) ما قول فضيلتكم في شيخ الإسلام ابن تيمية: هل هو ممن يؤخذ
كلامه ويطلع على كتبه أو كما يقوله ويدعيه عليه اللئام؟ وما الموجود من
مؤلفاته؟ أهـ
وأنا أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى في رد هذا
الجواب وإفادتي وأهل بلدي عما في ذلك الخطاب: نفعنا الله بكم والمسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كثير الآثام
... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد عبد السلام
... ... ... ... ... ... ... موظف بفابريقة السكر بالحوامدية
(ج) الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية من أفراد أعلام هذه الملة، وأعظم
أنصار السنة، وقد شهد له المنصفون من علماء عصره ومن بعدهم بالاجتهاد
المطلق ولقبوه شيخ الإسلام، وكتبه من أفضل كتب علماء الإسلام، وقد انتشرت
ولله الحمد في هذا الزمان، فطهّرت عقول خلق كثير من البدع والخرافات والشرك
الجلي والخفي، وقد سبق لنا التنويه به وبكتبه في باب الفتوى وغيره، وقد ألف
بعض كبار العلماء في مناقبه كتابًا سماه (الرد الوافر) فعليكم به وبكتاب التوسل
والوسيلة وغيره من كتبه، والكتاب المذكور قد فصل فيه كل ما يتعلق بمسألة
التوسل، وما ورد فيها مما يشتبه على بعض الناس كتوسل الصحابة بالعباس رضي
الله عنه في الاستسقاء وبيان كونه توسلاً بصلاته ودعائه لا بشخصه وإلا لتوسلوا
بالنبي - صلى الله عليه وسلم- ولم يقولوا ما قالوا - وصفحاته 155 بقطع المنار
وقد طبعناه ثلاث مرات، وله كتب كثيرة من المطبوع منها منهاج السنة وفي
حاشيته العقل والنقل ويدخلان في أربعة أجزاء، ومنها مجموعة الفتاوى في خمسة
مجلدات ومنها مجموعتان من كتبه ورسائله، ومجموعة جديدة من رسائله
وفتاويه ثم طبعها عندنا هذه الأيام، ومنها كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة
أصحاب الجحيم) ... إلخ.
***
حكم فتاة تدعو إلى مخالفة القرآن
وتنكر بعض أحكامه
(س 10) من حضرة صاحب الإمضاء في طنطا (ورد في العام الماضي)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد رشيد رضا صاحب
المنار.
أُحيي فضيلتكم وبعد: دفاعكم عن الدين الإسلامي شجعني على سؤالي هذا
وردكم على منتقديه يبشر بنشر جوابه إما على صفحات الجرائد أو في مجلة المنار
ما رأي فضيلتكم في آنسة مسلمة تحرض النساء المسلمات على خروجهن
عاريات الوجوه يسرن في الطرقات والأسواق أمام غير المحارم وتحثهن على
التبرج والزينة لغير أزواجهن وآبائهن ... إلخ، وما ورد في آية النور التي أولها
] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ ... إلخ [ (النور: 31) وتقول الآنسة المشار إليها: إن الشرع
الإسلامي مُجحف بحقوق المرأة خصوصًا في مسألة الميراث وتبيح لنفسها شرعًا
جديدًا ملائمًا لرأيها تنادي فيه بتسوية المرأة بالرجل في الميراث؟ أفيدونا يا
صاحب الفضيلة على صفحات الجرائد أو في مجلة المنار وإني لا أضن على
فضيلتكم بنشر نفس سؤالي قبل الجواب.
وتفضلوا يا صاحب الفضيلة بقبول عظيم إجلال.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... سيد إبراهيم محجوب
... ... ... ... ... ... ... سكرتير مدرسة المعلمين بطنطا
(ج) رأيي، بل حكم الله في الآنسة المسئول عنها والموصوفة بأنها
مسلمة أنها غير مسلمة، فإن المسلمة هي المؤمنة المذعنة قلبًا وقالبًا لكل ما جاء
به خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه من أمر الدين، وإذا جاز أن يعصي
المسلم ربه بعمل من الأعمال، لا يلبث أن يندم ويتوب منه فلا يجوز عقلاً أن
يصدر من مسلم إسناد الظلم والاجحاف إلى كتاب الله تعالى وتشريع ما يخالف نصًّا
قطعيًّا فيه وهو يعلم أنه فيه كمسألة الإرث المذكورة في السؤال، فإذا كانت هذه
الآنسة ولدت من أبوين مسلمين ونشأت بين المسلمين ثم طرأت عليها هذه الضلالات،
فالحكم فيها أنها قد ارتدت عن الإسلام قطعًا بإجماع المسلمين، وأنه لا يحل لمسلم
أن يتزوج بها ولا ترث أبويها ولا غيرهم من ذوي القربى المسلمين ولا يرثونها.
هذا حكم الإسلام القطعي، وسيقول الملاحدة من أمثالها: إن ما قالته من جور
أحكام القرآن في تفضيل الذكر على الأنثى في الإرث واستحسان إبطالها رأي من
الآراء لا ينافي الإسلام ولا يقتضي الكفر به كما قالوا في كتاب الشيخ علي عبد
الرازق وغيره، وهذا الإسلام الجغرافي الذي يذكرونه هو غير إسلام القرآن والسنة،
وقد وصفهم في هذه الأيام واحد منهم بأنهم يوَدّون وجود اختراع جديد ينسف به
بيت الله تعالى الذي فرض علينا استقباله والحج إليه وهدم مكة كلها من حوله؛ لأنه
وجد في الحجاز من أهان الوثن الذي يسمى بالمحمل المصري، ويدعي صاحب
هذا القول أنه مسلم وأن صاحب المنار لو ناظره في الإسلام لرجع خاسرًا صفقته
ولم يربح شيئًا، فهذه الآنسة تعد عند هؤلاء من خيار المسلمين.
ذلك بأن الدين عند هؤلاء الناس لقب وراثي سياسي وضرب من روابط
الجنسية، وإن دين كل قوم ما هم عليه، فبدعة المحمل وبدعة الموالد وعبادة القبور
وبدع الأكل والشرب والفسق في المقابر تعد عندهم من ديانة المصريين، ومن
يخالفهم فيها كأهل نجد يعد مخالفًا لهم في الدين، ويقترح بعضهم قتاله؛ لأنه مخالف
لدين المصريين.
والأمر العجيب أن الملاحدة الذين يقدحون في الإسلام بزعمهم أنه دين
خرافات كغيره من الأديان الشركية يتعصبون في هذه الأيام للخرافات التي فشت في
عوام المصريين باسم الوطنية، ويطعنون في الوهابية التي تنكر هذه الخرافات
وتزيل منكراتها التي ثبت أنها مخالفة لنصوص الإسلام القطعية.
__________
(1) إننا نشهد الله بأننا لا نرى نفسنا أهلاً لهذه الألقاب وإنما نثبتها للأسباب التي بيناها من قبل، ومنها أمانة النقل، ونرجو أن لا يعود هو ولا غيره إلى ذكرها.(27/419)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(المقام الأول) أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر، وأما إذا
قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر؛ فمن سافر ما يسمى سفرًا
قصر وإلا فلا.
وقد يركب الرجل فرسخًا يخرج به لكشف أمر، وتكون المسافة أميالاً ويرجع
في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة
مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه،
والدليل على ذلك من وجوه:
(أحدها) إنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة
وفي أيام منى، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم
بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا
ثم العصر ركعتين: يا أهل مكة أتموا صلاتكم ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر
ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبي - صلى
الله عليه وسلم - خلاف ما صلى بجمهور المسلمين أو نُقل أن النبي صلى الله عليه
وسلم أو عمر قال بهذا اليوم (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) فقد غلط،
وإنما نُقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب [1] لأهل مكة لما صلى في جوف مكة، ومن المعلوم
أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام
منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة بل لو أخروا
صلاة العصر، ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا لنقل ذلك، فكيف إذا أتموا
الظهر أربعًا دون سائر المسلمين؟ وأيضًا فإنهم إذا أخذوا في إتمام العصر والنبي -
صلى الله عليه وسلم - قد شرع في الظهر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما
أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا
حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه الظهر، وذلك أن
العلماء تنازعوا في أهل مكة، هل يقصرون ويجمعون بعرفة؟ على ثلاثة أقوال فقيل
لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من
أصحاب أحمد، كالقاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول لاعتقادهم أن ذلك معلق
بالسفر الطويل وهذا قصير.
(والثاني) أنهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من
أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب في
غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذي رجحه أبو محمد
المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك.
(والثالث) أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحاق بن راهويه،
وهو قول طاوس وابن عيينة وغيرهما من السلف، وقول طائفة من أصحاب أحمد
والشافعي كأبي الخطاب في العبادات الخمس وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي
وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة.
وأما القصر فقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن
ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه، وهو اختيار
طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو
الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها، فإن من تأمل
الأحاديث في حجة الوداع وسياقها علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا ولم يفعلوا
خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا بعرفة
ولا مزدلفة ولا منى (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وإنما نقل أنه قال
ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه، وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة
ومزدلفة ومِنى دليل على الفرق، وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان
يقول بِمِنى: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وليس له إسناد.
وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال: إنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية
وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم
يمنعه من الجمع، وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده،
وإذا قيل لأجل النسك ففيه قولان: أحدهما لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله
الحنفية، والثاني أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفرًا
وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وقد يقال؛ لأن ذلك سفر قصير وهو يجوز
الجمع في السفر القصير كما قال هذا، وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك
والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع
قبل ذلك في غزوة تبوك. والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر كما قصر
للسفر؛ بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان
جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة؛ لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى
مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت
الثانية، ثم ينزل فيصليهما جميعًا كما فعل بمزدلفة وليس في شريعته ما هو خارج
عن القياس بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون
ولكن أبو حنيفة يقول: هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن
لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا
تناقض؛ بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها.
وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوّغ
لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها، إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره
الذين مسحوا ذلك، وذكره الأزرقي في أخبار مكة، فهذا قصر في سفر قدره
بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم
بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك
من بلادهم والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر؛ فعلم أنهم كانوا
مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعًا كما قال النبي - صلى الله عليه
وسلم - لأهل مكة في مكة (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وهذا مذهب الأئمة
الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع.
(الدليل الثاني) أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج تارة
يقدر، وتارة يطلق، وأقل ما روي في التقدير بريد؛ فدل ذلك على أن البريد يكون
سفرًا، كما أن الثلاثة أيام تكون سفرًا واليومين تكون سفرًا، واليوم يكون سفرًا،
هذه الأحاديث ليس لها مفهوم؛ بل نهى عن هذا وهذا وهذا.
(الدليل الثالث) أن السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة، فرجع
فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه؛ فما كان عندهم سفرًا فهو سفر، والمسافر يريد
أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع
في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة، وكتاب
القاضي إلى القاضي، والعدو على الخصم، والحضانة وغير ذلك مما هو معروف
في موضعه.
وهو أحد القولين في مذهب أحمد فلو كانت المسافة محددة لكان حدها بالبريد
أجود؛ لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرًا في
مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا.
(الدليل الرابع) أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل
الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر في شهر
رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك؛ فإنه قد لا يحتاج فيه إلى
قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال؛ وإذا كان غدوه يومًا
ورواحه يومًا فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له
أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد
مسافرًا.
(الدليل الخامس) أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن
حدها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم، فوجب أن لا يكون لها حد؛ بل كل ما
يسمى سفرًا يشرع، وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد فعلم أن في الأسفار ما
قد يكون بريدًا، وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد.
وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه كان يأتي قباء كل سبت، وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريب أن
أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم.
وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة
على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة
أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة، وإن كان اسم المدينة يتناول جميع
المساكن كما قال الله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101) وقال {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ
الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} (التوبة: 120) .
وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت (أم لا) فإن ثبت فالرواية
عنه مختلفة، وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً
فلا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون
الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة
الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم.
والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر فلا تفعل إلا فيما يسمى سفرًا
ولهذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته في خروجه إلى
مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكبًا وماشيًا، ولا كان المسلمون الداخلون من
العوالي يفعلون ذلك، وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة في المصر، واسم
المدينة يتناول المساكن كلها؛ فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه
القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة، وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء
كأنه في المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة في المصر على الراحلة وإلا فلا
فرق بينهما.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعًا وقصرًا لم يكن
يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين
من غير جمع، ثم صلى بهم - صلى الله عليه وسلم - الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه
يريد أن يصلي العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع
تقديم، وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم
يأمرهم بنية قصر، وفي الصحيح أنه لما صلى إحدى صلاتي العشيّ وسلم من
اثنتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: (لم أنس ولم تقصر) قال:
بلى قد نسيت، قال: (أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم فأتم الصلاة) ولو كان
القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك، والإمام أحمد لم ينقل عنه
-فيما أعلم- أنه اشترط النية في جمع ولا قصر ولكن ذكره طائفة من أصحابه
كالخرقي والقاضي، وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا: إنما يوافق مطلق
نصوصه.
وقالوا: لا يشترط للجمع ولا للقصر نية وهو قول الجمهور من العلماء كمالك
وأبي حنيفة وغيرهما، بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلي العشاء قبل
مغيب الشفق، وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع كما نقله عنه أبو طالب والمروزي
وذكر ذلك القاضي في الجامع الكبير فعلم أنه لا يشترط في الجمع نية.
ولا تشترط أيضًا المقارنة فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق
وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز أن يراد به الشفق الأبيض؛ لأن مذهبه المتواتر
عنه أن المسافر يصلي العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده، وحينئذ
يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصليًا لها في وقت المغرب بل في وقتها الخاص،
وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض، قال: لأن الحمرة قد
تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر قد غاب ولم يغب فإذا غاب البياض تيقن مغيب
الحمرة فالشفق عنده في الموضعين الحمرة؛ لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار
الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض فهذا مذهبه المتواتر عن نصوصه الكثيرة.
وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر،
وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم، وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين
إن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر وأحمد قد علل الفرق؛ فلو حكى
عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه.
وقد حكى بعضهم رواية عنه أن الشفق مطلق البياض، وما أظن هذا إلا غلطًا
عليه؛ وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل
وقت العشاء وهو يجوز للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق، وعلل ذلك
بأنه لا يجوز له الجمع، علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فإنه حينئذ
لا يجوز التعليل بجواز الجمع.
الثاني [2] أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت،
وإن لم يصل أحدهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه
ومذهب غيره، وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت
المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك، وقد نص أيضًا على نظير هذا، فقال:
إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس، وهذا نص
منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشرط فيه المواصلة، وقد تأول ذلك
بعض أصحابه على قرب الفصل، وهو خلاف النص ولأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لما صلى بهم بالمدينة ثمانيًا جميعًا، وسبعًا جميعًا لم ينقل أنه أمرهم ابتداء
بالنية ولا السلف بعده وهذا قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وغيرهما وهو في
القصر مبني على فرض المسافر، فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة:
(أحدهما) أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص
عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر.
(والثاني) أنه يجب الاقتران في وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور
عند أكثر الصحابة المتأخرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي فإن كان الجمع في وقت
الأولى اشترط الجمع، وإن كان في وقت الآخرة، فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية
وأما الثانية فيصليها في وقتها فتصح صلاته لها وإن أخرها ولا يأثم بالتأخير،
وعلى هذا تشترط الموالاة في وقت الأولى دون الثانية.
(والثالث) تشترط الموالاة في الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه
في مذهب الشافعي وأحمد، ومعنى ذلك أنه إذا صلى الأولى وأخر الثانية أثم كان
وقعت صحيحة؛ لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلي الثانية معهما؛ فإذا لم
يفعل ذلك كان بمنزلة من أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها في وقتها مع الإثم.
(للبحث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) لعل صواب العبارة هكذا، أن عمر بن الخطاب قال مثل ذلك لأهل مكة إلخ.
(2) في هامش الأصل: كذا في الأصل ولم يسبق بالعطف عليه أهـ، والظاهر أن الأول الذي جعل هذا ثانيًا له هو ما ذكر من عد اشتراط المقارنة بين الصلاتين في الجمع فتأمل.(27/427)
الكاتب: محمود أحمد الغمراوي
__________
جمعية الإلحاد والزندقة
العلم والدين [*]
(رد على مقال للدكتور طه حسين نشر في العدد 19 من جريدة السياسة
الأسبوعية في 17 يوليو سنة 1926) .
نشر الدكتور هيكل في العدد الرابع عشر من السياسة الأسبوعية مقالاً بحث
فيه في العلم والدين وما بينهما من وفاق أو خلاف، وقد انتهى به بحثه إلى أنه لا
خصومة بين العلم والدين، ولن تكون بينهما خصومة، وأن الخلاف والخصومة
هما بين رجال العلم ورجال الدين، ومنشؤهما سعي كل من الطائفتين سعيًا أنانيًّا
صِرْفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان.
وختم بحثه بما ملخصه أن النصر سيكون دائمًا حليف الفريق الذي يرضي
الإنسانية ويخفف أعباءها، وتجد في يده مفتاح راحتها ومرهم جراحها.
ونصح لرجال الدين بأن ينقطعوا عن العالم ويعتزلوا الدنيا ويبعدوا عن
شئونها ويعكفوا على العبادة والزهد والتقشف، وقد تناولت أقلام الكاتبين بالبحث
والتحليل والنقد عناصر هذا الموضوع الذي أثاره الدكتور هيكل، وكتب كاتب ديني
مقالاً قيمًا ألمَّ فيه كاتبه الفاضل بمعلومات نفيسة قال عنها بحق: إنها مقدمات لا بد
منها للحكم فيما بين الدين والعلم من وفاق أو خلاف.
وفي الحق أن من يجهل الأساس التي قام عليها الدين، والأساس التي قام
عليها العلم، ولا يعرف من مبادئ الدين تلك المقدمات الأولية التي ألمَّ بها ذلك
المقال لا يحق له أن يتصدى للبحث في هذا الموضوع الخطير، وبالأولى لا يسوغ
له أن ينصب نفسه منصبا الحكم الذي لا ينقض حكمه ولا يرد قضاؤه، وهو جاهل
بالقواعد الأساسية التي لا يقوم إلا عليها الحكم.
كنت أظن أن سيجد حضرات الكتَّاب في مقال ديني درسًا ينفعهم ويعصمهم
من الزلل حينما يريدون أن يبحثوا فيما بين الدين والعلم من صلة، وكان أكثر من
نرجو لهم النفع بهذا الدرس أولئك الذين لم تهيئ لهم تربيتهم المدرسية وسائل
الإلمام بقواعد العلم الديني، فأما الذين قضوا شطرًا ليس بالقليل من أعمارهم في
دراسة العلوم الدينية، وقطعوا في الأزهر مرحلة ليست بالقصيرة من مراحل
تربيتهم العقلية، فما كنا نظنهم بحاجة إلى مثل هذا الدرس، وما كنا نحسبهم من
الجهل بأمور الدين بحيث لا يعرفون بسائط القواعد المقررة.
دهشت وايم الحق حين قرأت في العدد التاسع عشر من السياسة الأسبوعية
مقال الدكتور طه حسين في العلم والدين وما ضمنه من تناقض وسخف.
وما كان دهشي لأن الدكتور طه أخطأ الصواب وكان من عادته أن يصيب،
ولا لأنه جانبه التوفيق في هذا البحث وكان قبلاً موفقًا، كلا فقد عرفنا الدكتور
هجامًا كثير العثرات شديد الجرأة على العلم وعلى الدين، بعيدًا عن التوفيق
والإصابة في كثير من أبحاثه لا سيما ماله صله بالدين، ولكن دهشي كان للفرق
العظيم بين عقليتين ممتازتين وذكائين مصدودين، عقلية تكونت بعيدة فيما نعلم عن
مناهل الدين فكانت موفقة في كثير من آرائها في الدين، وأخرى نشأت نشأتها
الأولى في معاهد الدين غير أنها فيما تكتب عن الدين تخبط خبط العشواء في الليلة
الظلماء.
عجبت لما بين عقلية الدكتور هيكل وذكائه، وبين عقلية الدكتور طه وذكائه
من الفوارق العظيمة.
فهذا يتورط في الخطأ تورط من لا يعرف إلى الصواب سبيلاً، وذاك يهتدي
بفطرته وذكائه إلى مواطن الإصابة حيث كان يخشى عليه من التورط في الزلل،
وهذا كله في بحث كان المفروض أن المخطئ أولى بالإصابة فيه من المصيب.
وأن من الحق أن أقول: إنني لم أجد مأخذًا على الدكتور هيكل في مقاله وبحثه إلا
في أمرين اثنين:
أحدهما: أنه أرسل الكلام في الدين إرسالاً فهم منه أنه يقصد من الدين
الجنس الذي يتحقق في أي دين من الأديان، وهذا ما لا يتفق والواقع فإن الوثنية
مثلاً ليست كما لا مقرر القواعد والأركان.
وثانيهما: أنه يريد رجال الدين على أن يكونوا ناسكين بعيدين عن الدنيا
معتزلين شئون العالم، ولعل هذا هو الهدف الذي يرمي إليه من بحثه، ولكن هذا
ليس من الإسلام في شيء، ففي القرآن الكريم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وقد يكون هذا النصح غير
المخلص أثرًا من آثار الأنانية والتنازع على الحكم والسلطان كما هو رأي الدكتور.
هاتان النقطتان هما في رأيي موضوع المؤاخذة في مقال الدكتور هيكل، فأما
مقال الدكتور طه فإنك لن توفق إلى العثور فيه على رأي صائب مهما حسنت نيتك
في طلبه، ولن تجد فيه إلا عثرات تتلوها سقطات، ولن تقف منه إلا على
متناقضات تهيب بك إلى أن تدين بالمتناقضات.
لا يعنيني كثيرًا أن أَلْفِتَ القارئ إلى ما يَفْجؤه في مستهل كلام الدكتور من
الركة والتهافت؛ إذ يقول: (ليس لي ما يحول بيني وبين التفكير في هذا
الموضوع والتعليق على ما كتب فيه، وفي الحق أني فكرت في هذا الموضوع
وكتبت فيه) ، كذلك لا يهمني أن أقف به على ما يعقب هذه الجملة من التناقض
واشتباه الرأي واختلاط الفكر؛ إذ يقول: قد تكون المسألة (يعني مسألة العلم والدين)
جديدة في مصر، ولكنها قديمة في أوربا ثم يقول (هي ليست جديدة في مصر ولا
في العالم الإسلامي فقد عرض لها الغزالي وابن رشد، وعرض لها الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده وتلاميذه غير مرة) .
أقول لا يهمني أن أنبه القارئ إلى شيء كثير من أمثال هذه الهنات المعيبة
ولكني أَلْفِتُ القارئ إلى ما يتخلل الجملتين من غرور وتغرير، فللدكتور طه في
الكتابة سنة قل أن يشاركه فيها غيره من الكاتبين؛ فهو حين يكتب في موضوع
يحاول جهده أن يغرر بالقارئ، يوهمه أنه قبل أن يعالج الكتابة في الموضوع
الذي تناوله قد قرأ فيه كتبًا قيمة وأنه قتله بحثًا وفهمًا، وأنه ألم بجميع أطرافه وخَبُرَ
جميع دُرُوبه ومسالكه؛ وإذًا فليس على القارئ بعد أن قام عنه الدكتور بكل وسائل
التنقيب والبحث والقراءة والفهم إلا أن يتجرد من دينه، وإلا أن يلغي عقله
وفهمه، وكل ما أودع الله فيه من قوة دراكة، ويسلم بعد ذلك قياده للدكتور يصرف
منه العنان، كما يصرف الصبي دواجن الطير والحيوان.
أليس الدكتور طه هو صاحب كتاب الشعر الجاهلي؟ أليس قد طلب إلى
قارئ ذلك الكتاب قبل أن يقرأ كتابه أن يتجرد عن دينه وعقله ووجدانه وعاداته
وقوميته ليسير مع الدكتور فيصرفه كيف يشاء؟ هذه هي روح الدكتور
طه في كتاب الشعر الجاهلي بارزة صريحة لا حجاب دونها، وهي هي بعينها في
مقال العلم والدين، واضحة جلية، وإن كان وضوحها هنا بمقدار يناسب قدر هذا
المقال الصغير.
فترى الدكتور قبل أن يدخل بك في متناقضاته يلقي عليك أمثال قوله: (وفي
الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي، وفي
الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة 23 فصلاً غضب له مولانا
الشيخ بخيت، وفي الحق أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلاً
آخر كنت أريد أن أنشره) ثم يعود فيكرر على سمعك مثل قوله: (لست إذًا حديث
عهد بمسألة العلم والدين، وما يمكن أن يكون بينهما من خلاف، وقد قرأت في هذه
المسألة كتبًا قيمة قبل أن أكتب فيها) إلى غير ذلك من إلحاح ثقيل ممل، فماذا يقصد
الدكتور من هذا كله؟ أليست هذه الروح المقنعة بقناع مهتوك يشف عما وراءه،
هي بعينها تلك الروح البادية العارية في كتاب الشعر الجاهلي، وكلتاهما تريدان
قارئ كلام الدكتور على أن يلغي عقله وفهمه ليستطيع أن يشترك مع حضرته في
أن يكون ذا نفس واحدة تحمل بين جنبيها شخصيتين متباينتين متعاديتين متناقضتين،
وفي الحق أن الدكتور لن يجد معه شخصًا آخر يستطيع أن يهيئ نفسه لاحتمال
أمرين متباينين، ويدين باعتقادين متناقضين - كما يريد في مقاله - إلا شخصًا
ألغى عقله وسفه نفسه وتجرد من كل ما منحه الله من إحساس وإدراك، فهو من
أجل ذلك يطلب إلى قرائه في إلحاح مضجر أن يتجردوا من عقولهم ووجدانهم
وإدراكهم ليستطيعوا أن يشاركوه في آرائه وأفكاره، كأنه يأبى أن يكتب أو يتحدث
إلا إلى المجانين.
هذا شيء ألفت القارئ إليه، وشيء آخر أرجو أن يقف القارئ معي عليه،
وهو - قصة باستور - فقد ساق الدكتور هذه القصة ليقنع القارئ بأنه ليس فذًّا في
نفسيته العجيبة التي تستطيع أن تكون في وقت واحد مشرقة مغربة، مصدقة مكذبة،
مؤمنة مرتابة، وهل في ذلك من غرابة؟ ألم يكن باستور العالم الفرنسي المشهور
من أشد الناس إيمانًا بالمسيحية، ومن أحرصهم على تأدية واجباته الدينية، وهو من
العلم بالمكان الذي لا ينكر ولا يمارى؟
لا أجادل الدكتور في شأن باستور، ولا فيما نعته به من أنه جمع بين الصدق
في الدين والإخلاص للعلم فلست ممن يرون أن من خصائص العلم معاداة الدين،
ولا أرى من خصائص العالم الإلحاد في الدين والجرأة على العلم، وقد يصح أن
يكون باستور كغيره من العلماء الذين اختصهم الله بفهم ثاقب وعلم وافر في فن من
الفنون حتى صار رأيه حجة في فنه، ولكنه إذا اضطر إلى الأخذ بما ليس من
فنه سأل أهل الذكر وأخذ بآراء الأخصائيين من غير نزاع ولا جدال، كما
يأخذون هم أيضًا برأيه في فنه من غيره مماراة ولا خصومة.
وتفسير قصة باستور وغيره من علماء المسيحية في أخذهم بالعلم واطمئنانهم
إلى الدين على هذا الوجه الذي قدمت قريب من الصواب جدًّا.
فباستور وأضرابه يعملون بحكمة الإنجيل (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .
فإما أن يكونوا مثل دكتورنا الفيلسوف الأديب المؤرخ الحقوقي المتشرع
الأصولي الفقيه المحدث الطبيعي الكيماوي الفلكي الجيولوجي الفيسيولوجي
الأمبريولوجي، ثم هم مع كل هذا يحملون بين جنوبهم نفسًا قلقة مضطربة تدين
بالمتناقضين وتطمئن إلى المتباينين المتنافرين - فهذا ما أنزّه هؤلاء العلماء عنه ولا
أسلم لدكتورنا بصحته.
ولعل باستور لم يؤثر عنه أنه وقف مرة في حياته من رجال دينه موقف
دكتورنا من علماء الدين، يقول لهم في جرأة وصلابة وجه: إنني أفهم للدين وأجدر
بمعرفة قضاياه، وإدراك مراميه منكم، فهل لدكتورنا أن يتشبه بباستور وغيره من
علماء المسيحية فلا يتعدى طوره ولا يقفو ما ليس له به علم؟
لا أظن أن الذي حال بين باستور ولم يحل بين دكتورنا وبين هذا الموقف
الجريء هو ما بين طبيعة المسيحية والإسلام من تفاوت في السهولة والسماح
والتوسيع على العقل الإنساني في أن يحلق في سماء الفكر والبحث حيث يشاء، لا
أظن هذا فما كان لباستور أن يعتقد في المسيحية أنها تغل العقل الإنساني وتحول
بينه وبين التفكير الحر؛ إذ لو كان هذا رأيه في المسيحية لما كان كما وصفه لنا
دكتورنا من أشد الناس إيمانًا بها، ولأعلن عليها حربًا عوانًا كما فعل غيره من
ملاحدة المسيحية، وإذاً فليس جمود المسيحية هو الذي جعل باستور يقف من دينه
هذا الموقف المهذب، وليست سماحة الإسلام هي التي جعلت دكتورنا يقف من دينه
هذا الموقف الجريء المغموز، ولكن السبب فيما أظن هو أن باستور قد أوتي حظًّا
من العلم والحياء يحول بينه وبين أن يقف هذا الموقف {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، على أنه مهما يكن في طبيعة دين من سهولة وسماح،
ومهما أرخى للعقل الإنساني من عنان لكي يجول في مسارح التفكير إلى حيث يشاء،
فإنه ليس من المعقول أن يأذن الدين بل ولا أن يأذن العلم نفسه للعقل في أن
يخرج في تفكيره وبحثه عن المناهج التي أقراها، والتي أقر العقل أيضًا أساسها
وقواعدها، فإن معنى هذا الإذن أن يهدم كلاًّ من الدين والعلم والعقل نفسه بنفسه
ونتيجة ذلك الفوضى والجهالة.
إني لأرجو القارئ بعد أن وقف مما سبق من القول على عقلية الدكتور وما
تتسع له من متناقضات ألا يدهش ولا يستولي عليه الضجر حين يرى الدكتور يعلن
قبل كل شيء أنه يعلم أن الإسلام لم يلغ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير
الحر، ثم يراه يعلن أثر ذلك أن العلم شيء، والدين شيء آخر، وأن منفعة العلم
والدين في أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر، وحتى
لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي.
لا يضيقن صدرك بما يقول الدكتور، وسائلْه معي هل يعلم حقًّا إن الإسلام لم
يلغِ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير الحر؟ ، وهل هو يدين حقًّا بهذه
القضية؟ فإذا كان يدين حقًا بهذه القضية فهل هو مع هذا يعتقد أن الإسلام يعطي
العقل هذا الإطلاق، ويمنحه هذه الحرية الواسعة ثم يعده من أعدائه لا من حلفائه
وأعوانه؟ فإذا كان الإسلام لا يعد العقل عدوًّا له بل يعتبره حليفًا وصديقًا وفيًّا
فهل مع قيام هذا الحلف ووجود هذه الصداقة بين الإسلام والعقل يصح أن يعادي
الإسلام العلم وهو وليد العقل وربيبه [1] ؟ وإذا لم يكن بين الإسلام والعلم عداء
فكيف يعدو أحدهما على الآخر؟ وكيف يعتقد الدكتور أن منفعة العلم والدين في
أن يتحقق بينهما الانفصال، وكيف تصور أن يقع بين الإسلام والعلم في الشرق
الإسلامي من المصادمات والحروب العنيفة مثلما وقع بين المسيحية والعلم في
الغرب المسيحي؟
آمنت بالله ورسله وآمنت بأن الدكتور طه له عقلية ممتازة قادرة على الإيمان
بالمتناقضات، وأنه بعيد عن الإلمام بطبائع الإسلام ولا يحسن تطبيق وقائع التاريخ
(يتبع)
... ... ... ... ... ... ... محمود أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لصاحب الإمضاء من خيار علماء الأزهر.
(1) المنار: يعني أن العلم وليد العقل وربيبه فما كان للإسلام أن يعاديه مع صداقته للعقل الذي ولده ورباه، بل لا معنى لصداقة الإسلام للعقل إلا موافقته لما يستنبطه من علم نافع وحكم صحيح في المسائل، ولا يصح أن يريد أن الإسلام وليد العقل كما قد يظن ضعيف الفهم والفاقد لطرق الاستدلال وقواعد العلم.(27/436)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب الثالث
العلاج بالتراب
نشرع الآن في بيان الخواص الصحية للتراب الذي نفعه أكبر من الماء في
بعض الأحوال. لا ينبغي لنا أن نتعجب من خواصه؛ لأن جسمنا نفسه مركب من
عناصر أرضية، وفعلاً نحن نستعمل التراب للتطهير، فنغسل به الأرض لتزيل
الروائح الخبيثة منها، ونغطي به الأشياء المتعفنة لنمنع فساد الهواء وننظف به أيدينا
وكذلك نستعمله لتنظيف أواني المراحيض.
إن رهبان الهندوس يلطخون به أجسامهم، ويعالج به بعض الناس القروح
والبثور وتدفن الأموات فيه لئلا يفسد الجو، كل هذا يثبت جليًّا أن في التراب كثيرًا
من الخواص الثمينة للتطهير والعلاج.
وكما أن الدكتور كيوهن بذل جهده الخاص في موضوع العلاج المائي، كذلك
الدكتور الألماني الآخر (just) قد تفرغ لدرس التراب وخواصه. وقد توسع حتى
قال بأن التراب يمكن استعماله بنجاح في معالجة جميع الأمراض حتى أشدها
وأعقدها.
وقد حكي عنه أنه لسع ثعبان رجلاً فيئس الناس من حياته، ولكني داويته بأن
واريته في التراب مدة من الزمن فزال السم من جسده وشفي تمامًا.
ليس لنا أن نطعن في صدق الدكتور؛ لأننا نعلم أن حرارة شديدة تتولد في
الجسم إذا دفن الإنسان في الأرض، وإنا وإن كنا لا نستطيع بيان تولد التأثير تمامًا
لا يمكن أن ننكر أن في التراب خاصية جذب السم؛ أجل قد لا تنجح هذه الطريقة
في كل حادثة للملسوع ولكن يجب حتمًا تجربتها في كل حادثة.
وأنا أستطيع أن أقول بتجربتي الشخصية: إن استعمال الطين في مثل
حوادث لدغ العقرب نافع جدًّا.
قد جربت بنفسي الأشكال الآتية للعلاج الترابي ونجحت فيها؛ فالإمساك
والدوسنتاريا ووجع المفاصل المتأصل قد عالجته باستعمال لبخة من الطين فوق
البطن يوميًّا مدة يومين أو ثلاثة أيام؛ وقد تحقق النفع العاجل في حوادث الصداع
باستعمال ضمادة طينية تشد على الرأس.
وكذلك قد عولجت العيون المتهيجة بنفس هذه الطريقة فشفيت، إن الإصابات
سواء كانت متورمة أو غير متورمة تعالج كذلك بها؛ وإني قد كنت في حياتي
الماضية السوداء لا أستريح بدون المواظبة على استعمال ملح الفاكهة (فروت سالت)
وما شاكله من المسهلات؛ ولكني منذ علمت في سنة 1904 قيمة العلاج الترابي
لم استعمل أي مسهل ولا مرة واحدة إلى الآن.
إن لبخة طينية فوق البطن والرأس تنفع كثيرًا في الحمى الشديدة.
وإن الأمراض الجلدية مثل الدمامل والقروح والقوباء والحرق بالنار أو الماء
الحار قد عولجت بالطين أيضًا؛ إلا أن القروح المتقيحة ذات الصديد لا تشفى به
بسهولة. وكذلك البواسير تعالج بنفس هذا العلاج. وإذا احمرت الأيدي والأقدام
وتورمت بسبب البرد فالطين علاج نافع جدًّا لها، وكذلك وجع المفاصل يزول به،
فبهذه وغيرها من التجارب في العلاج الترابي قد علمت أن التراب عنصر مفيد
للعلاج البيتي للأمراض.
نعم، إن جميع أنواع التراب ليست بنافعة على سواء؛ فالتراب الجاف الذي
حفر من مكان نظيف يكون أنفع بكثير من غيره، لا ينبغي أن يكون التراب لزجًا
جدًّا، بل أحسنه ما كان بين الرمل والأملس، ويجب أن يكون خاليًا من الروث
والقذر فيصفي جيِّدًا في غربال نفيس ويعجن بماء بارد عجنًا جيدًا قبل الاستعمال ثم
يربط في قماش نظيف غير مكوي ويستعمل كلبخة غليظة، ويجب رفعها قبل أن
يأخذ الطين في اليبس وهو لا يتجفف في الأحوال العادية من ساعتين إلى ثلاث
ساعات.
إن الطين الذي استعمل مرة لا يستعمل بعد ذلك أبداً، ولكن الثوب المستعمل
يصح استعماله ثانيًا بعد أن يغسل جيدًا ليتنظف من الدم، وغيره من المواد الوسخة
وإذا أريد استعمال اللبخة على البطن يوضع فوقه قماش دافئ، يجب على جميع
الناس أن يبقوا عندهم صفيحة من التراب المجهز للاستعمال لئلا يضطروا إلى
البحث عنه هنا وهناك عند الحاجة إليه، وربما تفوت الفرصة في حوادث مثل لدغ
العقرب التي يؤدي التأخير فيها إلى خطر شديد.
***
الباب الرابع
الحمَّى وعلاجها
لننظر الآن في بعض الأمراض الخاصة، ونبحث في طرق علاجها، وأولها
(الحمى) .
نحن نطلق كلمة (الحمى) على حالة للحرارة في الجسم، غير أن أطباء
الإفرنج قد نوعوا هذا الداء على أنواع كثيرة وخصصوا لكل منها علاجًا، ولكنا
نظرًا للخطة التي سلكناها في هذا الكتاب، والأصول التي دوناها فيه؛ نقول: إن
أنواع الحمى كلها يمكن معالجتها بعلاج واحد وبطريقة واحدة؛ لقد جربت هذا
العلاج الساذج في جميع أنواع الحمى من أخفها إلى أشدها مثل الطاعون الغدي،
وحصلت على نتائج حسنة عامة.
فقد انتشر هذا الطاعون سنة 1904م بين الهنود في أفريقيا الجنوبية، وقد
كان فظيعًا للغاية، حتى إن 23 إصابة حدثت قد مات بها 21 نفسًا خلال 24 ساعة
أما الاثنان اللذان بقيا فقد أرسلا إلى المستشفى ولكن لم يسلم منهما إلا واحد، وقد
كان هذا الناجي هو ذلك الذي استعملت له اللبخة الطينية، نعم ليس لنا أن نستنتج
من ذلك بأن هذه اللبخة هي التي شفته، ولكن مما لا شك فيه أنها لم تضره أي
ضرر، وكلاهما كانا مصابين بحمى شديدة كان سببها الالتهاب الرئوي وكانا قد
أغمي عليهما.
وكان الرجل الذي استعملت عليه اللبخة الطينية في أخطر الأحوال فكان
يبصق الدم، وعلمت بعد ذلك من الدكتور بأنه كان لا يغذى إلا بلبن قليل جدًّا.
وبما أن أكثر أنواع الحمى تكون نتيجة للارتباك في الأحشاء فأول ما ينبغي
عمله هو تجويع المريض، والقول بأن الضعيف يزداد ضعفًا بالتجويع وهم باطل،
إذا علمنا بما تقدم أن الجزء الذي ينفع من الغذاء إنما هو ذلك الذي يتحلل في الدم.
وأما الباقي فيبقى حملاً على المعدة، وبما أن القوى الهاضمة تضعف جدًا في
الحمى لذلك يتوسخ اللسان وتتصلب الشفاه وتجف، فإن أعطي المريض طعامًا في
هذه الحالة فلا ينهضم ويزيد الحمى، ولكن التجويع يعطي القوى الهاضمة وقتًا
لإتمام أعمالها، ولذلك فإن تجويع المريض ليوم أو يومين ضرري، وكذلك يجب
عليه في الوقت نفسه أن يستحم كل يوم على الأقل مرتين على طريقة كيوهن فإن
كان ضعيفًا أو مريضًا إلى درجة لا يستطيع فيها الاستحمام؛ فيجب أن تستعمل
على بطنه اللبخة الطينية وإن يشتكي يوجعه الرأس كثيرًا أو يحس بحرارة شديدة
فتستعمل اللبخة على رأسه أيضًا، ومهما أمكن ينبغي أن ينوم المريض في الهواء
الطلق ويغطى جيدًا، ويعطى وقت الطعام عصير الليمون بعد أن يصفى جيدًا
ويمزج بماء بارد أو مغلي حار ولا يخلط معه السكر ما أمكن.
إن هذا العصير يؤثر تأثيرًا نافعًا جدًّا ويقدم وحده للمريض إن كانت أسنانه
تتحمل حموضته، ويجوز بعد ذلك أن يقدم إليه نصف موزة أو موزة كاملة بعد أن
تمزج جيدًا بملعقة من زيت الزيتون وبملعقة من عصير الليمون، وإن كان
المريض يحس بالعطش فيعطى ماء مغليًّا مبردًا، ولا يسمح له بشرب ماء غير مغلي
يجب أن تكون ملابس المريض خفيفة وتغير كثيرًا.
وقد شُفِي بهذا العلاج السهل محمومون كثيرون، حتى الذين أصيبوا بالحمى
التيفودية وأمثالها من الأمراض الخطرة وهم يتمتعون إلى الآن بصحة تامة.
إن الكينا كذلك تُؤثر وتنفع بادي الرأي ولكنها في النتيجة تجلب أمراضًا
أخرى، حتى إن الحمى الملاريا التي تعتبر فيها الكينا نافعة جدًا قلما رأيتها تعطي
شفاءً دائمًا، ولكني بالعكس رأيت حوادث مختلفة في المصابين بالملاريا قد شفوا
شفاءً دائمًا بالعلاج الذي ذكر آنفًا.
يقتصر كثير من الناس على اللبن وحده أثناء الحمى ولكنه وجدته بتجربتي
مضرًّا في الدرجات الأولية من الحمى؛ لأنه عسر الهضم، فإن كان لا بد من اللبن
فالأحسن أن يكون مخلوطًا (بقهوة القمح [1] ) أو بقليل من دقيق الرز المغلي جيدًا
بالماء، ولكن لا يصح أبدًا أن يعطاه في الحمى الشديدة، بل ينفع في مثل هذه
الحالة عصير الليمون نفعًا كبيرًا، فإذا زالت الحمى وتنظف اللسان يصح أن يزداد
الموز في الغذاء على الطريقة المبينة آنفًا، وإن كان إمساك فحقنة من الماء الساخن
والبورق (لزاق الذهب BORAX) عوضًا عن المسهل يصحبها غذاء زيت
الزيتون لتنظف البطن جيدًا.
***
الباب الخامس
الإمساك والدوسنتاريا والمغص والبواسير
يبدو لأول وهلة ذكر هذه الأمراض الأربعة المختلفة في باب واحد عجيبًا،
ولكن الحقيقة أنها كلها مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا شديدًا ويمكن معالجتها تقريبًا
بطريقة واحدة.
لأنها إذا انضغطت المعدة بغذاء غير مهضوم سببت مرضًا من هذه الأمراض
حسب استعداد الرجل واختلاف بنيته، فيحدث عند بعضهم الإمساك فلا تتحرك
المعدة مطلقًا أو تتحرك بعض التحرك، أو يحدث وجع شديد عند قضاء الحاجة
حتى إنه ينتج نزيف الدم أو المادة المخاطية، أو البواسير، ويحدث لبعضهم
الإسهال الذي كثيرًا ما ينتهي بالدوسنتاريا، ويحدث لبعضهم المغص المعوي الشديد
مصحوبًا بالوجع في البطن والمادة المخاطية في البراز.
وفي جميع هذه الحوادث يقهي المريض أي يفقد شهوة الطعام ويصفر جسمه
وتضعف بنيته ويتوسخ لسانه ويتعفن نَفَسُه، وكذلك يتأذى كثير من الناس بالصداع
وغيره من الأمراض، إن الإمساك عام جدًّا، حتى إن المئات من الحبوب
والمسحوقات قد أوجدت لمعالجته.
إن الوظيفة الأصلية مثل هذه الأدوية المسجلة مثل ملح الفاكهة (فروت سالت)
و (Sirup Siegel,s Mother) لإزالة الإمساك، ولذا ترى ألوفًا من الناس
يجرون وراءها في رجاء باطل لينالوا فيه الشفاء، كل طبيب يخبرك بأن الإمساك
وما شاكله من الأمراض إنما هو نتيجة لسوء الهضم، فأحسن طريقة لعلاجها هي إزالة
سبب سوء الهضم، وقد صرح أصدقهم قولاً بأنهم قد اضطروا إلى اختراع هذه
الحبوب والمسحوقات؛ لأن المرضى لا يتركون عاداتهم القبيحة التي ألفوها، وفي
الوقت نفسه يريدون الشفاء.
إن أرباب الإعلانات عن هذه الأدوية يبالغون مبالغة عظيمة حتى إنهم يعدون
الذين يشترونها بأنهم لا يحتاجون إلى مراعاة أي أصل من أصول الغذاء والوقاية
بل يجوز لهم أن يأكلوا ويشربوا ما يحبون إذا استعملوا أدويتهم، وأظن أن قرائي لا
يحتاجون إلى التذكير بأن هذا كذب محض.
إن جميع أنواع المسهل حتى أكثرها اعتدالاً مضرة بالصحة؛ لأنها - وإن
أزالت الإمساك ونفعت نفعًا بالجملة - تحدث أنواعًا أخرى من الأمراض، فيجب
على المريض أن يغير طرق معيشته تمامًا حتى لا يضطر إلى المسهل مرة أخرى
فيقع في مرض جديد.
إن أول ما يجب عمله في حالة الإمساك وأمثاله من الأمراض هو تقليل الغذاء
لا سيما السمن والسكر والقشدة وما شاكلها، والاحتزاز التام من الخمر والدخان
والحشيش والشاي والقهوة والكاكاو والخبز المصنوع من دقيق المطاحن، وأن
يحتوي الغذاء في أكثر أجزائه على ثمار رطبة مع زيت الزيتون.
يجب أن يجوع المريض قبل البدء في العلاج 37 ساعة، وتستعمل أثناء هذا
وبعده اللبخة الطينية على البطن أثناء النوم، ويستحم المريض كما ذكرنا مرة أو
مرتين يوميًا على طريقة كيوهن. يجب أن يكره المريض على المشي على الأقل
ساعتين كل يوم، ولقد رأيت بنفسي أشد حوادث الإمساك والدوسنتاريا والبواسير
والمغص قد شفيت تمامًا بهذا العلاج السهل، لا شك أن البواسير لا تزول كلية
ولكنه يبطل أذاها حتمًا ثم أنه يجب على المصاب بالمغص أن يحتاط فلا يأكل شيئًا
غير عصير الليمون في ماء حار حتى يبطل نزيف الدم أو المخاطية، وإن كان
وجع المغص شديدًا جدًّا في المعدة فيمكن معالجته بتدفئة البطن بقارورة من ماء
ساخن أو بآخر ساخن جدًّا، ولا احتياج إلى التنبيه بأن المريض يجب أن يعيش في
هواء طلق.
إن الثمار مثل البرقوق والزبيب والبرتقال والعنب نافعة جدًّا خاصة في
الإمساك؛ ولكن ليس معنى ذلك أنها توكل حتى بدون الجوع. ولا يجوز تناولها
أصلاً في حال المغص الذي يصحبه طعم رديء في الفم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) راجع في القسم الأول من الكتاب الباب الخامس.(27/443)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*]
باقي محضر الجلسة الرابعة
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
وبعد الفراغ من تلاوة تقرير اللجنة قام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد الأحمدي الظواهري وألقى الخطبة الآتية:
أبدأ حديثي باسم الله الرحمن الرحيم، وأقول: إني أشكر اللجنة جزيل
الشكر على ما أراه من غيرتها الدينية وحرصها على اتخاذها كل الوسائل التي
توصل إلى إيجاد حالة تسر المسلمين، ولا يرضون عنها بديلاً وهي إعادة مجد
الإسلام كما كان، وأن نعمل لنحفظ ذلك التراث العظيم.
ذلك الدين الذي يجب أن نفديه بأرواحنا، وأموالنا، وأن نعمل كما عمل
آباؤنا، وأن نلاقي على الأقل بعض ما لاقوه، أشكرهم شكرًا جزيلاً؛ لأني أرى ذلك
ظاهرًا في كل سطر من كلامهم، وأوافقهم كل الموافقة على ما قالوه من أن الهيئة
التي تملك البيعة لا بد أن يكون ممثلاً فيها كل الأقطار تمثيلاً يمنع الفتن التي عانى
الإسلام منها كثيرًا.
كفى ما لاقى المسلمون من المصائب والأحزان من جراء الخلاف على
الخلافة في هذه السنين الطوال، من عهد عمر رضي الله عنه إلى الآن، ذلك
الخلاف الذي كان هو المهلكة العظمى، والعامل الذي حفر القبر الذي كاد معاذ الله
يُدفن فيه الإسلام لولا أن الله يحفظ دينه، أقول بملء الارتياح كما قلت سابقًا: إن
هذه المسألة العظمى التي تتوقف عليها حياة الإسلام لا بد أن تجري على الوجه الذي
يمنع الفتن بين المسلمين في جميع الأقطار، ولا يوجد بينهم الحرب الداخلية عملاً
بأوامر الله تعالى، وما تقتضيه نظم العقل ونظم السياسة ونظم الاجتماع، فبكل
قلبي أوافقكم على أنه لا بد من هذا التمثيل. واسمحوا لي أن أقول دون أن أمس أية
عاطفة: إنه لا بد أن يكون هذا التمثيل معبرًا عن الرأي العام في كل قطر حتى
يكون المسلمون راضين وحتى نأمن شر الانقسام.
نحن لا نريد أن نعيد المهازل التي جرت في بعض البلدان كما جرت في
سالف الأزمان، نريد أن نعمل للإسلام عملاً جديًّا يرأب الصدع، فإن لم نعمل فلا
نهدم هذا هو ما ندين الله عليه وما نفديه بأرواحنا وما نشكر اللجنة عليه، وذلك ما
نريده من غير جدل ولا مناقشة بملء الصراحة وبدون أخذ ورد فيه؛ إلا أني أستسمح اللجنة في شيء آخر: أريد أن أًلاحظ على المادة الأولى ملاحظتين:
الأولى: أن اللجنة تعرضت لأمر البيعة، وأن هذا المؤتمر لم يشترك فيه
كثير من الأمم الإسلامية. وقالت: لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل والعقد تملك
حق البيعة، وأنا أقول: إن برنامج المؤتمر ليس فيه أمر البيعة، ولكني أشكرها؛
لأنها ذهبت في البحث إلى الصميم، وأوافقها فيه كل الموافقة.
الثانية: إن البت في أن الخلافة المستجمعة لشروطها المقررة في كتب
الشريعة لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن، نحتاج لأخذ آراء
الكثير من أمراء البلاد والسياسيين فيها وأهل الحل والعقد.
وقد قلنا في التقرير العلمي: إن أهل الحل والعقد هم الذين يطاعون في الناس
من العلماء والأمراء والأعيان، ومهمة اللجنة في هذا كانت صعبة وشاقة جدًّا.
وليعذرني المؤتمر في أن أقول: إنه لا يجوز لنا أن نقول: إن العالم
الإسلامي أصبح شراذم وجماعات، وفي الصف الثاني وأن نفت في عضد المسلمين،
أرى من العسير عليّ وعلى إخواني - والأسف ملء قلبي والحزن يشملني - أن
نعلن أننا اجتمعنا لنقول: إن المسلمين قد فقدوا كل حول وكل قوة. ولنقول: إن
المسلمين أصبحوا متفرقين في الأرض طوائف يستحيل اجتماعها على كلمة واحدة،
يعز عليَّ جدًّا أن نقول هذا ونقرره، وأن يكون هذا نتيجة مؤتمرنا.
وإذا كنا لسنا أهلاً لأن نبتّ في مسألة الخلافة؛ فكيف نكون أهلاً لأن نبت في
أن المسلمين قد فقدوا كل حول وقوة.
إننا كدينيين واجبنا [1] أن نقوي روح الإسلام في الناس، يعز علي جدًّا أن
نقول ذلك؛ لأن هذا شيء لا يجوز للديني أن يقوله، فيثبط عزائم المسلمين في بقاع
الأرض؛ إن الله يبعث من العدم قوة ومن التفرق جمعًا.
(فقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: الإسلام الذي فيه أئمة أمثال
فضيلتكم لا يضعف إن شاء الله) .
وعاد فضيلة الأستاذ الشيخ الأحمدي فقال: كيف نقول هذه الكلمة التي سيكون
لها أثر فعال في المسلمين، وهي قضاء عليهم ثم نحاول أن نحيهم من جديد بلجان
وفي كم قرن يمكن ذلك.
أنتم ترون أن تعاليم الإسلام تؤخذ من كل جانب [2] ، فإلى أن تعمل اللجان
يكون قد ضاع كل شيء، فأناشدكم الله أن تتدبروا فيما قالته اللجنة وليست المسألة
مسألة أخذ وردّ بين عضوين أو أكثر، المسألة أكبر من ذلك وأكبر من مؤتمرنا
وجيلنا، وهي الحد الفاصل بين الحرب المعنوية القائمة بين تعاليم شتى وبين تعاليم
الإسلام.
هذا الجاوي، وهذا الهندي، وهذا البولوني إنما يعيش في شعاع من الأمل فلا
يجوز لنا أن نقطع هذا الشعاع. (وهنا صفق الحاضرون تصفيقًا حادًّا) .
إني لقد أخذتني عبرة، وما كنت [3] ولا كانت حياتي؛ إذا كان من عملنا أن
أقوم كأن أرثي الإسلام، وأن أستنهض رجال الإسلام، وأنتم أكثر غيرة مني.
فرجائي أن يقرر المؤتمر أن الخلافة الشرعية ممكنة، وأن بيعة الخلافة يجب
أن تكون من هيئات ممثلة لشعوب المسلمين على وجه يمنع الفتن، ويظهر [4]
الوحدة كما هو الغرض الأسمى من الخلافة، وألا تكون على الوجوه التي تثير الفتن
بأن تجتمع جماعة هنا، وجماعة هناك لمبايعة زيد وعمرو.
إن الخلافة ممكنة ولكن وسائلها لم تعد للآن، ومن أهم وسائلها أن يدعى
الناس جميعًا (؟) ليمثلوا طبقاتهم ليمكنهم أن يبتوا في هذا الأمر وفي هذا الواجب
المقدس.
نحن ندعو المسلمين جميعًا إلى ألا يهملوا الأخذ بالواجب المقدس، وعلى
الشعوب أن تستحث أممهم [5] لعقد اجتماع جامع يمكنه أن يبت في مسألة الخلافة،
وإلا فلو طال الزمن لماتت الخلافة، وأصبحنا كإبل بلا راعٍ.
نرجو أن نلم شعثنا ونوحد وجهتنا، فعلى المسلمين جميعًا أن يعملوا لإيجاد
هذه الهيئة الجامعة.
لعلي بهذا أكون قد وفقت بين مطالب الإسلام وما قررته اللجنة.
قولوا: إن الأمر ممكن، وحضوا المسلمين على أن يعملوا ليل نهار لتحقيقه
وإلا كنا آثمين، ولتكن مأمورية (؟) هذا المؤتمر توجيه رسالة إلى العالم الإسلامي
بما قلته.
فاللازم أن يكون في صيغة القرار المذكور في المادة الأولى من التقرير إمكان
إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية بدل عدم إمكانها إذ ما المانع من أن يتاح
للأمم الإسلامية الاتفاق والاتحاد فيما بينها وتتعرف ما سببته هذه الفرقة فتتكاتف
جميعًا وتضع يدها في يد من تجعله خليفة لعموم (؟) المسلمين عملاً بأوامر الدين
الحنيف، لا شك أن هذا ممكن ولا استحالة فيه أصلاً متى عالج المسلمون ذلك،
وقاموا متساندين وأوجدوا كل الوسائل التي تؤدي إلى هذه الغاية الشريفة أهـ.
وعلى أثر فراغه من خطبته قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله
الخطيب مقرر اللجنة:
أشكر فضيلتكم شكرًا جزيلاً باسم اللجنة، وأشكركم على ما أبديتموه من
الحماسة، وأعرض على حضرات الحاضرين أن اللجنة في قرارها لم تكن مخالفة
للرأي الحسن الذي أبديتموه، والاختلاف بين رأيكم وما تريده اللجنة اختلاف لفظي
فقط وإلا فالمعنى واحد؛ إذ كيف يمكننا أن نقول: إنه ليس في المسلمين اليوم من
يستحق أن يكون بهذه الصفة، وقد كان هذا مثار بحث في اللجنة، غير أن أفكارنا
لم تتسع لمعرفة الموجودين، ويؤيد قولي هذا انعقاد المؤتمرات في بلاد العالم وهذا
ليس اعترافًا بعدم الوجود.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: الخلاف بينكما
لفظي فقط. ويجب السعي على جميع المسلمين فلا تفتروا ساعة من نهار عن القيام
بهذا الواجب. وإنكم لتعلمون أن الخلافة واجبة في الإسلام وإهمال الواجب إثم
فيجب على المسلمين أن يتخلصوا من هذا الإثم. وأن الخلافة فرض كفاية.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إسماعيل الخطيب: إذا كان الخلاف
لفظيًّا، فأرى وجوب حذف العبارة التي تجعل اليأس في قلوب المسلمين وتوهم أننا
نحفر حفرة في الإسلام.
وهذه العبارة هي من قوله: ظهر جليًّا مما تقدم إلى قوله كما أنه لم يشترك في
هذا المؤتمر كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك (؟) .
فوافق المؤتمر على ما ذكر.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن أبي السعود: أرى أن ينشر تقرير
اللجنة في الصحف محذوفًا منه الجملة المذكورة.
فوافق المؤتمر على ذلك.
ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة: هل
لأحد من حضراتكم بعد ذلك سؤال يتعلق بتقرير اللجنة؟
فلم يسأله أحد شيئًا.
فقال قبل أن أرجع إلى مكاني: أشكر حضرات الأعضاء على حسن ظنهم
باللجنة.
وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أتقدم لحضرات
الأعضاء بالشكر الجزيل على هذه الغيرة الدينية، وأبدي سروري بهذه العاطفة التي
تجلت أخيرًا وكانت كامنة من قبل، وهي أننا مسلمون، اجتمعنا من مشارق
الأرض ومغاربها لإعزاز وطن عام لنا هو الإسلام، اجتمعنا لأجل إحياء هذا
الوطن العام؛ فوسيلتنا واحدة وغايتنا واحدة وكأن غمامة كانت بين نفس هذا وذاك
فزالت، وأشكر الله أن تجلت النفسية للجميع، وأصبحنا كلنا متفاهمين على غاية
واحدة وغرض واحد.
لقد أبان فضيلة الأستاذ الشيخ الأحمدي أجلى بيان، وأبدى من الغيرة الدينية ما
نعهده فيه من قبل، وكأنما كان يحدث بما في النفوس وبما انطوت عليه القلوب مما
دل على أن الغاية واحدة، وأن الكل ينشدون الحق، وناشدوه لا بد أن يتلاقوا، هذه
حالة أُبدي اغتباطي بها.
وعلى ذلك تحددت مهمتنا ووصلنا إلى نتيجة، وكأننا كنا نتألم لتفرق وحدتنا،
وأن كل شعب منعزل عن أخيه لا يشعر بما يشعر به. وأنَّ الواجب أن تتضام تلك
الشعوب وتتساند حتى لا يكون كل شعب بمعزل عن الآخر، بل يكون الجميع كتلة
واحدة في الظاهر، كما هم -ولله الحمد- في الباطن، ويكون ما يرجوه المؤتمر من
تشخيص الداء ووصف الدواء قد تحقق، والأمر من الخطورة (؟) بحيث لا يكفي
فيه مؤتمر واحد، فليكن هذا نواة لما بعده، ولتكن مهمتنا قد انتهت الآن.
نقول: الخلافة واجبة وهي ممكنة في كل وقت ولم نصل بعد لتحقيق طرق
إيجادها، ولا أوصلنا البحث عمن يتصف بها اتصافًا تامًّا ولم يجتمع فيما بيننا من
يأخذون على عهدتهم تحقيقها، ولكن هذا إذا قيل الآن فلا يقبل من المسلمين أن
يسكتوا عليه.
فيا أيها المسلمون في كل إقليم جدّوا في البحث عمن تتحقق فيه وأنقذوا دينكم
وأجمعوا أمركم، ويد الله مع الجماعة.
ثم رفعت الجلسة للاستراحة وصلاة المغرب إذ كانت الساعة السابعة مساءً،
ثم عادت إلى الانعقاد إذ كانت الساعة الثامنة مساءً.
فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وقال:
بناءً على ما تقدم أعرض على هيئة المؤتمر صيغة قراريصدره المؤتمر معدلاً
لتقرير اللجنة، اشتركت في وضعها مع حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ
أحمد هارون والسيد محمد الببلاوي والشيخ حسن أبي السعود والشيخ محمد عبد
اللطيف الفحام والشيخ خليل خالدي والشيخ إبراهيم الجبالي وهي:
(قرر المؤتمر، أن إيجاد الخلافة الإسلامية الشرعية ممكن فيجب على
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تهيئة أسبابها ووسائلها، وإعداد ما يلزمها
من عدة) .
ويرى المؤتمر، أنه يجب أن يراعي في تحقيقها الوجه الذي لا يفرق جماعة
لا المسلمين ولا يثير الخلاف بينهم، ولذلك يقرر أنه لابد لذلك من تمثيل جميع
الشعوب الإسلامية تمثيلاً تامًّا في اجتماع يحضره مندوبو الأقطار الإسلامية في أي
قطر يختاره المسلمون للاجتماع ليتشاوروا فيما يجب عمله لإيجاد الخلافة المستجمعة
للشروط الشرعية. ويرى أن هذا المؤتمر لم تمثل فيه جميع الشعوب الإسلامية
تمثيلاً تامًّا، وهو يوجه نداءه إلى جميع المسلمين في سائر أقطار الأرض، ألا
يهملوا أمر الخلافة التي هي روح الإسلام ومظهره، وأن يعملوا جميعًا لتحقيقها
على الوجه المذكور أداءً لهذا الواجب وخروجًا من الإثم بتركه أهـ.
فقال حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي: نحن جميعًا الممثلين للشعوب الإسلامية
هنا لا نرى قطرًا أولى وأحق بعقد ذلك الاجتماع من القطر المصري فقد رأينا هنا
من الحرية في الرأي وسعة الصدر ونزاهة المقصد، ما لا يمكن أن يكون في قطر
آخر خصوصًا موقع مصر الجغرافي ومنزلتها العلمية والدينية فإن ذلك يجعلها من
العالم الإسلامي بمنزلة القلب.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أقترح أن تحذف جملة
(في أي قطر يختاره المسلمون للاجتماع) وتبقى الصيغة كما هي.
فقال حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي: نحن لا نتركها مبهمة مطلقًا، بل يجب
أن ينص على تعيين المكان الذي يعقد فيه الاجتماع وهو القطر المصري، ولا
تترك ذلك لاختيار آخر بعد أن رأينا هذه النزاهة وهذه الحرية في الرأي.
وعند ذلك قام جميع الوافدين من الشعوب الإسلامية وقالوا: نحن نوافق الأستاذ
الثعالبي أفندي على كل ما قال، ونؤيده في أن مكان الاجتماع يكون في القطر
المصري للأسباب التي ذكرها.
فقال فضيلة الأستاذ الشيخ الظواهري: أرجو أنه إذا كان لا بد من تعيين
مصر مكانًا للاجتماع المقبل فليكن ذلك بعد وصول حضرات مندوبي الشعوب إلى
أقطارهم واستفتائهم فيما يختارونه من ذلك وليتفضلوا بمكانتنا بعد وقوفهم على رغبة
شعوبهم في مكان الاجتماع.
فقال حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي: ليس هناك من حاجة مطلقًا إلى استفتاء
الشعوب بعد أن حضرنا هنا نمثلهم فكلمتنا تعبر عن رأيهم.
فقال حضرة الأستاذ وحيد الأيوبي بك: إن حضرات الوافدين ضيوفكم وهم
يطلبون أن يكون اجتماعهم عندكم فلماذا لا توافقونهم.
فقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أقترح بقاء صيغة
الاقتراح الذي تلاه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وأن يثبت فيها
أن الاجتماع يكون في القطر الذي يختاره مندوبو الشعوب الإسلامية فيها أن
الاجتماع يكون في القطر الذي يختاره مندوبو الشعوب الإسلامية، ويذكر بجوار
ذلك أن حضرات الوافدين من الشعوب الإسلامية طلبوا أن يعين مكان الاجتماع وأن
يكون بمصر القاهرة.
فوافق المؤتمر على ذلك ما عدا حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت،
ثم اقترح حضرة جمال الحسيني بك صيغة الاحتجاج الذي وافق عليه المؤتمر
بمناسبة حوادث دمشق.
فوافق المؤتمر على أن يكون الاحتجاج بالصيغة الآتية:
(تلقى مؤتمر الخلافة الإسلامي العام المنعقد في عاصمة الديار المصرية
برقيات عن الفظائع المريعة التي ارتكبت في مدينة دمشق عاصمة الخلفاء الأمويين
من إحراق وتهديم لمساجد الله وغيرها بالقنابل وجميع آلات التدمير والإهلاك
وتقتيل الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال والعجزة، فقرر الاحتجاج
على ذلك لدى عصبة الأمم وحكومة الجمهورية الفرنسية، والرأي العام، وأن
يطلب باسم الإنسانية عامة إنصاف سوريا المفتجعة التي تستصرخ العالم الإنساني
أجمع) .
ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان: إني أحترم فيكم
أصالة الرأي، وأقدر لكم قوة الإرادة وأشكر أمما أنابتكم لتمثيلها، إنكم مرآة أرتنا
صور شعوب نحترمها، ونعتبر أننا معها أعضاء جسم واحد إذا اشتكى بعضه
تداعى إليه سائره.
نقدر لكم ما تجشمتم من المشاق وما قمتم به من الأعمال الجليلة، ونسأل الله
أن يجزيكم خيرًا.
إن مؤتمرنا هذا ليس كسائر المؤتمرات؛ بل له منزلة فوقها.
ليس كمؤتمر جغرافي ولا كمؤتمر زراعي، بل هو أول مؤتمر ديني عقد في
أكبر عاصمة إسلامية شرقية؛ فله من الاعتبار ما ليس لغيره، وإنه لتستفيد منه
الأمم الإسلامية، وتعتبر أنه ألف من نخبة علماء الأمصار الذين لهم في إصلاح
شؤونها رأي سديد؛ اجتمعنا وقررنا ما قررنا فهل لي أن أقول لحضراتكم: إن
وظيفتنا وإن كانت هي النظر في أمر الخلافة، فهل لنا أن نفكر في شؤون المسلمين
عامة. هل لنا أن نقول لحضراتكم يلزمنا نحن العلماء والمفكرين أن ننظر فيما
يصلح حال المسلمين في سائر أقطار الأرض يقول الله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 27-28) فسن الله تعالى لنا بذلك ثمرة الاجتماعات.
وهذا الاجتماع يصح أن نتعرف منه شؤوننا، يصح أن يبث كل منا لإخوانه
ما عليه أمته حتى نعرف الداء ونصف الدواء، ويكون هذا المؤتمر هو النواة التي
تثمر الخير إن شاء الله تعالى. إن الإسلام دين العزة ودين القوة ودين السعادة تمسك
به آباؤنا فعزوا وسادوا وقوي بأسهم وأهملناه فأُهْمِلنا.
هل ترون حضراتكم أن تكون حالنا متأخرة وقد كان آباؤنا في الدرجة الأولى
من التقدم؟ !
ليس لنا من الشؤون الاقتصادية ما ينهض بنا، ليس لدينا من الأخلاق ما يوجب
تقدمنا.
تأخرنا وتقدمت الأمم، فأقترح على حضراتكم أن تدوم الصلة بيننا وألا يكون
هذا المؤتمر آخر مؤتمر عقد للنظر في أمر إسلامي، انتهينا من أمر إبداء رأينا في
شأن الخلافة فعلينا أن نعقد المؤتمر تلو المؤتمر للنظر في الشؤون الأخرى.
ثم أذن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس في تلاوة اقتراح من
حضرة الأستاذ وحيد الأيوبي بك تضمن طلب حل المؤتمر حيث أن مهمته قد انتهت
فتلاه محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام.
فوافق عليه المؤتمر.
ثم قال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: الآن يجب علينا أن نشكر
حضرات علماء مصر على العمل العظيم الذي قاموا به، ونشكر سكرتارية المؤتمر
على ما بذلته من مجهود وما قامت به من عمل، ونشكر الحكومة المصرية على
سعة صدرها للسماح لنا بهذا الاجتماع، ونشكر جلالة ملك مصر المعظم على هذه
الحرية التي تجلت لنا في أكبر مظاهرها.
ثم نادى بحياة جلالة الملك فردد الحاضرون نداءه.
ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس حل المؤتمر شاكرًا
لحضرات الأعضاء تفضلهم بالحضور إلى القاهرة وما أبدوه من الغيرة الدينية
والاهتمام بشؤون المسلمين وما أتوا به من عمل في المؤتمر وداعيًا الله سبحانه
وتعالى أن يوفق المسلمين لما فيه الخير.
وانقضت الجلسة الساعة التاسعة والثلث مساءً.
نائب السكرتير العام ... ... ... ... ... رئيس المؤتمر
إمضاء (محمد قدري) ... ... ... ختم (محمد أبو الفضل)
***
قرار
المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر
في 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هجرية - (19 مايو 1926 ميلادية)
قرر المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في جلسته المنعقدة في يوم
الأربعاء 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هجرية (19 مايو سنة 1926ميلادية) أن إيجاد الخلافة الإسلامية الشرعية ممكن، فيجب على المسلمين في مشارق
الأرض ومغاربها تهيئة أسبابها ووسائلها وأعداد ما يلزمها من عدة. ويرى المؤتمر
أنه يجب أن يراعى في تحقيقها الوجه الذي لا يفرق جماعة المسلمين، ولا يثير
الخلاف بينهم. ولذلك يقرر أنه لا بد لذلك من تمثيل، جميع الشعوب
الإسلامية تمثيلاً تامًّا في اجتماع يكون بالقاهرة، ويحضره مندوبو الأقطار الإسلامية
ليتشاوروا فيما يجب عمله لإيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية، ويرى أن
هذا المؤتمر لم تمثل فيه جميع الشعوب الإسلامية تمثيلاً تاماً. وهو يوجه نداءه
إلى جميع المسلمين في سائر أقطار الأرض ألا يهملوا أمر الخلافة
التي هي روح الإسلام ومظهره وأن يعملوا جميعًا لتحقيقها على الوجه المذكور أداء
لهذا الواجب وخروجًا من الإثم بتركه.
8 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ ... ... شيخ الجامع الأزهر
20 مايو سنة 1926 م ... ... ... ... ورئيس المؤتمر
... ... ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل
_______________________
(*) منقول عن " محاضرة " مؤتمر الخلافة التي نشرتها سكرتارية المؤتمنر.
(1) المنار: هذا تعبير صحفي مترجم معناه أن الواجب علينا بنسبتنا إلى الدين أو من حيث إننا دينيون كذا وكذا.
(2) المتبادر من أخذ تعاليم الإسلام تلقيها كقوله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ] (الحشر: 7) وقوله: [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّة] (البقرة: 63) وهو غير مراد بل تدل القرينة على أن مراده أنها تختان وتنتقص وتنفصم عراها، وينكث قتلها وما في معنى هذا.
(3) كذا في الأصل وهو غير ظاهر ولعله: فلا كنت إلخ.
(4) الأولى أن يقال: يقرر الوحدة أو يحققها.
(5) لم نفهم مراده من الشعوب والأمم وكان الظاهر أن قول: نستحث أو تحث زعمائها، وأهل الحل والعقد فيها على عقد اجتماع إلخ.(27/449)
الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني
__________
مبحث في الجرح والتعديل
(2)
إثبات توثيق كعب الأحبار ووهب بن منبه
هذا ما يتعلق بكعب الأحبار في هذا الموضع، وأما وهب بن منبه، فهو من
جهة عدِّه من رجال البخاري محل اتفاق؛ لأن البخاري روى عنه في صحيحه حديثًا
صحيحًا نافعًا لأنه يتضمن إثبات كتابة العلم أي (الحديث) في زمن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري كما أن البخاري احتج
(بوهب) في أول كتاب الجنائز من صحيحه حيث قال: وقيل لوهب بن منبه:
(أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ ، قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلاَّ له أسنان، فإن
جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) ، وهذا يدل على أن وهبًا لم يكن
جبريًّا في عقيدته حيث قال في الفتح وروى عن معاذ بن جبل مرفوعًا نحوه بل
كان سنيًّا.
وخلاصة هذا الموضع، ثبوت أن كلاًّ من كعب ووهب من رجال البخاري
الأول احتجاجًا، والثاني احتجاجًا ورواية، وأن ذلك توثيق لكل منهما معتبر عند
رجال الحديث، وأما كونهما من رجال بقية الكتب الستة المبينة في أول كلامنا
فحسبنا دليلاً على ذلك كتاب تهذيب التهذيب نفسه وفي ذلك توثيق أيضاً، مؤكد لما
قبله، وصار تضعيف ابن الفلاس لوهب لا يعبأ به بعد احتجاج ورواية البخاري
عنه، قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري صحيفة 450 في الكلام على وهب بن
منبه ما نصه:
(وثقه الجمهور وشد الفلاس فقال: كان ضعيفاً) فأصبح هذا التضعيف لا
أثر له بعد أخذ البخاري عنه، والتقليل من شأن أو عدد ما أخذه البخاري أو مسلم
عن أحد الحبرين لا يصلح حجة على عدم توثيق كل منهما، فإن المدار في ذلك
على ما يدل على ثقة صاحبي الصحيحين بأحدهما، وحديث أو احتجاج واحد كافٍ
في الدلالة على ذلك بدليل أن علماء مصطلح الحديث لم يشترطوا تعدد الأخذ في
قولهم: (كل من أخذ عنه البخاري أو مسلم فهو ثقة، ولا يقبل قول من جرحه
بعد) .
***
الموضع الثالث
(الاحتجاج بما لا يحتج به لعدم صحة سنده أو لخروجه من موضوع البحث) .
وقبل الكلام في ذلك أنقل يسيرًا مما قرره علماء الحديث في التحذير من جرح
رجال الحديث بغير تثبت.
قال العلامة ابن الصلاح في المقدمة في النوع الحادي والستين ما نصه:
(على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويثبت ويتوقى التساهل كيلا يجرح
سليمًا أو يسلم بريئًا بسمعة سوء يبقى عليه الدهر عارُها) .
ونقل العلامة القاسمي في كتابه الجرح والتعديل صحيفة (4) من علماء
الحديث أنهم قالوا: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها
طائفتان من الناس المحدثون والحكام. أهـ فأمام هذا التحذير الشديد لا يصح
الاحتجاج في تجريح كعب، ووهب بما نسب إليهما من الأخبار المنتقدة في بعض
كتب التفسير أو التواريخ أو القصص لاحتمال أن ذلك موضوع ومنسوب إلى أحدهما
من باب حسن السبك وخصوصًا ما كان من ذلك من أخبار بني إسرائيل
فلشهرة الحبرين بمعرفتهما تلك الأخبار جعلهما الوضاعون هدفًا لأغراضهم، ومن ذلك الخبر الذي هو مثار هذا المبحث من أوله إلى آخره، وهو ما نقلتم عن ابن
كثير في التفسير عند قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من قصة
سيدنا موسى مع فرعون في سورة الأعراف من أن وهبًا قال: (إن العصا لما
صارت ثعبانًا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا قتل
بعضهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا) قال ابن كثير رواه ابن جرير والإمام أحمد
وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم. أهـ منار
أما غرابة السياق فمسلمة؛ لأن اجتماع هذا العدد الذي مات فقط فضلاً عمن
نجا على غير انتظار أمر لا يتصوره عاقل لأن دخول سيدنا موسى وأخيه على
فرعون أول أمره كان على غير انتظار، ولكن من جهة صحة سند هذه الرواية إلى
وهب فإن في سند ابن جرير من هو مجهول كما قدمنا في أصل الانتقاد والرواية
عن المجهول لا يعتد بها لاحتمال أن ذلك المجهول هو الواضع لها. والإمام أحمد
لم يروه في مسنده كما هو ظاهر عبارتكم؛ لأن ابن كثير صرح في عبارته أنه في
الزهد وهو لم يكن من كتب الحديث المعروفة فلا مانع أن يكون في سنده انقطاع
أيضًا.
وابن أبي حاتم تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد
المتناقضات بدليل ما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في تعيين (مجمع
البحرين) في تفسير سورة الكهف، حتى قال ابن حجر: وهذا اختلاف شديد
فانظره، وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من وهب،
وحينئذ فلا تصح مؤاخذته به، ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد
من أصحاب كتب الحديث المعتبرة مثل البخاري أو مسلم، أو غيرهما من الكتب
التي يصح للمطلع عليها أن يقطع أو يظن أن ذلك صدر منه، وما دام أنه لم يوجد
ذلك فلا محل لتوجيه اللوم إليه بناءً على أمر وضعه عليه أقرب جدًّا من صدوره
منه.
ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحَبْرين،
أخيرًا حيث قلتم بصحيفة (718) من الجزء التاسع المذكور في بقية الرد علينا ما
نصه: هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي
نقطع ببطلانها، وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا
فيها (كذا) من الخرافات، وبما أدخلا فيها (كذا) من العقائد الباطلة ومن تأييد
عقائد أهل الكتاب، والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة.
ونكتفي في هذه، وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله
تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ ... إلخ} (آل عمران: 78) قال
وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف،
ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ
هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 78) فأما كتب الله فإنها
محفوظة ولا تحول. رواه ابن أبي حاتم. أهـ (منار)
فهذا رواه ابن أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا
وهبًا بناءً على مثل هذه الرواية الساقطة بقولكم بعد ذلك: (إن وهبًا كان كذابًا غاشًّا
للمسلمين بصلاحه) اهـ.
هذا مما احتجيتم به وهو لم يصح الاحتجاج به لعدم صحة سنده.
وأما ما جعلتموه حجة وهو خارج عن الموضوع فهو ما ذكرتموه بصحيفة
(78) من الجزء الأول المذكور في أول ردكم من الإطناب في ذكر توراة اليهود
وإنجيل النصارى الموجودين وجعلهما حجة على كذب الحبرين لكون كثير من
الأخبار نسبت إليهما عن بني إسرائيل لم توجد فيهما حيث قلتم: فإن توراة اليهود
بين الأيدي، ونحن نرى فيما رواه كعب ووهب عنهما ما لا وجود له فيها ألبتة على
كثرته إلخ. فهذا فضلاً عن خروجه عن الموضوع لما هو مقرَّر عند جميع علماء
المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح الاحتجاج بهما لما
ثبت بالقرآن والأحاديث الصحيحة من تحريفهما وتبديلهما. فقد نقضتموه بقولكم
أخيرًا بصحيفة 719 من الجزء التاسع المذكور في آخر ردكم علينا بما نصه:
أقول إن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة الجرح والتعديل
ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه الكتب كما رآها
ولم يطلعوا على ما بينه المطلعون عليها قبله من تحريفها وأغلاطها ومخالفتها لما
نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم وابن تيمية أستاذه
إلخ. أهـ منار
وعلى أيّ حالة كانت فإن ذلك لا يوجب جرح الحبرين فإن رأي ابن حزم
وابن تيمية معروف لدى جمهور العلماء فيما يختص بتحريف كتابي أهل الكتاب
وغيره، وقد فصل القول في مسألة التحريف الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب
التوحيد عند شرح باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ونقل كلام ابن حزم وابن تيمية وغيرهما، ولم ينقل عن أحد
الطعن على الحبرين مطلقًا.
وابن حزم متوفى سنة 456 وابن تيمية توفي سنة 728 وقد وثق الحبرين
بعد ذلك كثير من العلماء المطلعين على أقوالهما، وقد تقدم ذكرهم واستمر توثيقهما
إلى الأعصر القريبة فصاحب كتاب إظهار (الحق) ممن سبق توثيقه لكعب وهو
فرغ من تأليفه سنة 1280 هو صاحب الفضيلة الشيخ الخضري الموجود وثق وهبًا
في كتابة تاريخ التشريع الإسلامي بصحيفة 158 وابن حزم وابن تيمية لم يصدر
منهما طعن على أحد الرجلين فكل ما يتعلق بكلامهما خارج عن الموضوع.
(والكلمة الختامية) أن مبحث الجرح والتعديل مبحث نقلي محض لا مجال
للعقل فيه مطلقًا إلا من حيث الاطلاع على ما دوّنه علماؤه في سجلات أسفارهم
فالمجروح من جرحوه والموثَّق من وثقوه، وما علينا إلا الاطلاع على أحكامهم في
ذلك فننفذها كما صدرت، والله ولي التوفيق.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني
(المنار)
سنبدي رأينا في هذا النقد في الجزء التالي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/459)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ذات بين مصر والحجاز
حادثة المحمل الشريف وأثرها في الصحافة:
قد ذاع في أرجاء العالم كله نبأ حادثة سميت (حادثة محمل الحج المصري)
في (منى) من أرض الحرم المكي المقدسة فقد طارت به الشركات البرقية،
وخاضت فيه جرائد الشرق والغرب، ولم أر جريدة من الجرائد المصرية ولا
السورية بينت الحادثة كما وقعت على كثرة من كان في موسم الحج من مراسلي هذه
الجرائد، وجريدة (أم القرى) المكية وهي التي تحرت الصدق في الرواية
اختصرت الخبر، وأوجزت فيه، ومن الغريب أن البلاغ الذي أذاعته الوكالة
الحجازية النجدية بمصر لم يخلُ من غلط ولم يبين الحقيقة ومن كل وجه، وسنبينها
في رحلتنا الحجازية.
وكانت وجهة الجرائد المصرية فيه سياسية لا دينية فقد عدته نزاعًا بين
حكومتي القطرين وشعبيهما فطفقت تطعن في النجديين وحكومتهم كدأب الجرائد
السياسية في هذا العصر، ولا يوجد الآن في مصر جريدة إسلامية تراعى أحكام
الشريعة الإسلامية في كتابتها كالجرائد الدينية المعروفة في جميع الشعوب وإن
كانت سياسية (كجريدة البشير الكاثوليكية في بيروت) والجرائد المصرية التي قد
تسمى إسلامية يراد بنسبتها إلى الإسلام أن أصحابها من الشعب الإسلامي، وإن
كان بعضها يطعن في الإسلام ويدعو إلى تركه، ومنها ما لا يقبل أصحابها نشر
شيء فيها يؤيد الإسلام ولا يمتنعون عن نشر ما يخالفه، وإن كانوا لا يدعون إلى
تركه كغيرهم ممن يسمون مسلمين.
وإن أمين بك الرافعي قد اشتهر بين محرري الجرائد المصرية ومديريها
بالتدين ومراعاة أحكام الإسلام، وما اشتهر إلا بحق فهو مسلم فعلاً لا سياسة وجنسية
فقط، وهو مع ذلك من أركان الوطنية وعلماء القوانين وقليل الإلمام بالفقه الإسلامي
وكان في أيام هذه الحادثة في الحجاز كثير الاتصال بأمير الحج ورجاله ومراسلاً
لجريدة (السياسة) اللادينية، وقد رأيت من مقالاته فيها ما أنصف به الوهابية
وتحرى الحق فيما كتبه عنهم كعادته الحميدة، ولكن ما كتبه في حادثة المحمل لم
يكن كذلك؛ لأنه تلقى أخبارها من أمير الحج ورجاله من جهة؛ ولأنه ظن مع هذا
أن ما صوروه له من تعدي الأعراب النجديين على المحمل ورميه بالحجارة وإصابة
هذه الحجارة بعض حرسه يبيح لأمير الحج شرعًا أن يرميهم في أرض الحرم
بقذائف المدافع والرشاشات فتقتل من تقتل بغير حساب. (وسنبين في الرحلة أن هذا خطأ محض لا يحتمل الصواب) .
فكان ما كتبه انتصارًا لأمير الحج وحجة للجرائد الوطنية في خطتهم التي
أشرنا إليها آنفًا، وبابًا مفتوحًا لخصوم الوهابية السياسيين كالإيرانيين وغيرهم
والدينيين كعباد القبور ومرتزقة الخرافات، على أن السياسيين المجاهرين
والدساسين قد ألبسوا سياستهم ثياب الدين اتباعًا لسنة آبائهم الأولين.
حملت الجرائد على الوهابيين حملة واحدة لا يصدها صد، ولا تقف دون حد
وأباحت صفحاتها لأصحاب الأهواء السياسية والخرافية الدينية المخالفين لهم في
عقائدهم وآرائهم وأفكارهم، وانتصر السعديون والدستوريون منهم لمنفذ سياسة
حزب خصومهم (الاتحاديين) في الحجاز وهو أمير الحج وهم غافلون، ولكن
الحكومة الائتلافية الحاضرة لم يخف عليها ما خفي على كل هؤلاء، فهي لم تكد
تحل محل الحكومة الاتحادية حتى بادرت إلى الاعتراف بما لم تعترف به من ملكية
جلالة عبد العزيز آل سعود على الحجاز وبإرسال وفد رسمي إلى المؤتمر الإسلامي
الذي دعا إليه وأقامه بمكة المكرمة، ثم إنها علمت من خطأ أمير الحج ما لم يعلمه
أصحاب الجرائد والجمهور، وإنما علمته من تقريره الرسمي الذي هو أكبر حجة
عليه كما يدل عليه ما نشره في جريدة الأهرام، علمت هذا وثبت عندها أن جلالة
ملك الحجاز وسلطان نجد برهن بمعاملته لأمير الحج وبغير ذلك على شدة حرصه
على موادة مصر والحكومة المصرية، وهي أجدر بأن تعلم ما لا يعلم الجمهور من
مصلحة البلاد في هذه الموادة.
***
إلمام الأمير سعود بمصر وحسن تأثيره:
بينما الجرائد الكثيرة تسرف في خطتها التي بيناها مع الإشارة إلى عذر
أكثرها فيها، حتى إن بعضها حث الحكومة المصرية على التصدي لإخراج
الوهابيين من الحجاز لتنفيذهم أمر الشريعة بهدم ما بني على القبور المعبودة من
المساجد والقباب، كأن إخراجها إياهم من الهنات الهينات، والراجح أن المقترح لا
يدين الله بهذه الخرافات، بل نخشى أن لا يدين الله تعالى بالعقائد اليقينيات، ولا
بالصلاة والزكاة، والجميع يجهلون ما عند الحكومة من المعلومات، الثابتة بالحجج
والبينات.
بينا ما ذكر كما ذكر؛ إذا بأسلاك البرق تنبئ أن الأمير سعودًا أكبر أنجال
ملك الحجاز وسلطان نجد سيؤم مِصر لمعالجة عينيه (لا لغرض آخر) ، وأن
الحكومة المصرية قد دعته إلى نزوله ضيفًا عليها، وتلا ذلك أخبار الجرائد تترى
بإعداد دار خاصة لضيافة سموه، قد وُكِّل تنظيمها وتأثيثها إلى سعادة محافظ مصر
(بالنيابة) وبأن دولة وزير الخارجية قد زار هذه الدار بنفسه وأشرف على ما
يعمل فيها.. .، وبأن الأوامر الرسمية قد صدرت إلى قنصلية مصر في جدة وإلى
محجر الطور وإلى السويس بأن يقوم رجال الحكومة في كل منها بما يجب من
خدمة سمو الأمير في مكانه.. . وبأخبار تنفيذ هذه الأوامر بالعناية التامة.
ثم وصل الأمير إلى القاهرة فاستقبل فيها استقبالاً فخمًا من قبل الحكومة
والأمة وفتح له الباب الملكي في محطة مصر، ثم أقبل على زيارته في دار
الضيافة مندوب جلالة الملك، والوزراء، وكبار العلماء، والشيوخ والنواب،
ومندوبو الصحف، وغيرهم، وزار هو دولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول في
بيت الأمة، ودولة رئيس الوزراء في ديوانه ومجلسي الشيوخ والنواب ومعاهد
العلم والدين كالمساجد الكبرى، ودور الآثار القديمة المصرية والعربية والكتب
المصرية، وحديقة الحيوانات، وبنك مصر، والمطبعة الأميرية.. . إلخ. وكان
يقابل في كل مكان رسمي وغير رسمي بالحفاوة والإجلال، وتحدث معه بعض
مندوبي الصحف فسمعوا منه أحسن الحديث وأحكم الأجوبة عما سألوه عنه، وفي
كل يوم تنشر الصحف أخبار تنقله وزائريه وتنزهه كما تنشر أخبار ملك
البلاد، وكتب بعضها مقالات خاصة في الثناء عليه ووجوب الحفاوة به ومنافع
المودة والاتفاق بين حكومة جلالة الملك والده، والحكومة المصرية ومن أحقها
بالتأمل مقالة لجريدة البلاغ الوفدية السعدية (ولا نتنزه عن الإشارة لشذوذ ثلاث
جرائد أسبوعية سفهت علينا وعلى الوهابية رجاء أن يلقمها الأمير حجارة جنيهات
يقطع ألسنتها البذيئة كدأبها ودأب أمثالها) .
كان كثير من الناس يظنون بما كانوا سمعوه من مطاعن أعداء الوهابية
الغابرين وخصومهم الحاضرين أن أهل نجد المنبوذين بلقبها أعراب شذاذ في دينهم
وأخلاقهم وعاداتهم وآرائهم فرأوا من الأمير سعود وبطانته وحاشيته مثلاً أعلى
وأكمل مما كانوا يظنون ومما يعهدون من غيرهم دينًا وأدبًا وفضيلة، أكبروا تقوى
الأمير واستمساكه بعروة الدين الوثقى، وأعجبوا بآدابه وشمائله، واستحسنوا آراءه
وأفكاره في كل ما حدثوه به.
رأوا أن الأمير كان يصلي كل صلاة في أول وقتها بالجماعة أنى أدركته من
مكان رسمي كمجلس النواب، أو ضاحية عامة كحديقة الحيوانات، أو دار خاصة
كدار محافظ مصر، كانوا سمعوا أن من عناية الحكومة بدار الضيافة أن جعلت فيما
جعلته فيها من خدم وحرس عسكري وموظفين مؤذنًا أوصته بأن يلتزم في أذانه
مذهب الوهابية، فتوهم بعضهم أن أذان الوهابية مخالف لأذان سائر المذاهب
الإسلامية، ثم سمع من زاروا تلك الدار أو مروا بها وسمعوا أذان مؤذنها أن
الحكومة لم تجامل الأمير باتباع مذهبه المخالف للمذاهب المعروفة فيها! بل سمعوا
الأذان الشرعي المتفق عليه في جميع مذاهب السنة المنصوص في كتب السنن
النبوية كلها وكتب فقه المذاهب الأربعة كلها بدون زيادة في كلماته المعدودة المنقولة
بالتواتر كما يزيد بعض مبتدعة المؤذنين في مصر في بعض الأوقات ولا
سيما أذان الفجر صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونداء لبعض المعتقدين
المعبودين بدعائهم مع الله أو من دون الله، كقول بعضهم في آخر الأذان: (يا شيخ
العرب) دعاء ونداء للسيد البدوي المشهور بهذا اللقب، وبدون زيادة في نغم الأذان
وصفة أدائه، وتجاوب اثنين أو أكثر فيه كالأذان الذي يسمونه بالسلطاني، ويخالف
مذهب الشيعة الذين يقولون في الأذان (حي على خير العمل) وهي كلمة
منسوخة.
فهذه المسألة تجلي لمن يحب معرفة الحقائق كنه الفرق بين الوهابية ومخالفيهم.
الوهابية على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو رابع أئمة
الفقه الأربعة، وإنما يذكر رابعًا؛ لأنه متأخر عنهم ولادة ووفاة لا لأن ترتيبهم ترتيب
فضيلة، فكل منهم مجتهد مطلق، وكان هو أعلمهم بالسنة من حيث سعة الرواية
ونقد الرجال ومعرفة الآثار، ومن تلاميذه أكبر مدوني السنة كالشيخين البخاري
ومسلم وأبي داود وأجل من بعدهم تلاميذ تلاميذه رضي الله عنهم أجمعين،
إلا أن الوهابية أشد أهل السنة استمساكًا بها، ورفضًا للبدع المخالفة لها بالزيادة أو
الصفة كما ذكرنا في الأذان أو النقص بالأولى، وقد شنع عليهم بعض أعدائهم بما
جعل اتباعهم للسنة وإجماع مذاهبها ضلالاً، وخروجًا منها أو من الإسلام بتحريف
باطل إذ قالوا: إنهم يمنعون الصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله وأطلقوا القول في ذلك حتى إن بعض حجاج بلدنا في الموسم الأخير قالوا لي
بمكة: إننا كنا سمعنا أن الوهابية منعوا الشهادة بالرسالة من الأذان ويعاقبون من يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعنا الأذان في الحرم كاملاً كما
نعلمه (! !) وذكر أمين بك الرافعي في رسالة من رسائله المكية إلى جريدة
السياسة حديثًا، جرى بينه وبين الملك عبد العزيز آل سعود فنص فيه أن من عادته
تكرار الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره في المجلس
وإن كثر، وهو لم يعهد هذا من أحد غيره.
هذا مثل واضح من مطاعن أعداء الوهابية فيهم بالباطل والتحريف جعلوا
تمسكهم بالسنة مخالفة للسنة، ولو جازت الزيادة في الدين ولا سيما شعائر الإسلام
كالأذان لزاد الناس في الصلاة والحج وغيرها حتى لا يعرف الأصل من الزائد
وذلك مخالف لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ولاقتضى
ذلك أن يكون الآخذون بالزيادة أكمل عبادة من النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه والتابعين لهم وخير القرون الذين شهد صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم
خير الأمة.
صلى الأمير الجمعة في الجامع الأزهر ففرشت له الطريق من الباب
الخارجي إلى المحراب كما يفرش لملك البلاد واجتمع الجماهير من العلماء
والطلاب حفاوة به، وصلى بجانبه بجوار المنبر الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ورئيس
المعاهد الدينية والمفتي الأكبر وغيرهما من كبار العلماء الرسميين، وزار بعد
الصلاة مجلس إدارة الأزهر وقدمت له فيه المرطبات، ونفح خدم الأزهر بطائفة
من الجنيهات، وودعه العلماء بمثل ما استقبلوه به من الإجلال.
وصلى جمعة أخرى في المسجد الحسيني، وزار بعد الصلاة حجرة الآثار
النبوية المشهورة فكان كلما عرض عليه شيء منهما قال: اللهم ارزقنا اتباع آثار
نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأذاعت الجرائد له أنه زار المشهد الحسيني
أي القبر المنسوب إلى الإمام الحسين السبط عليه سلام الله ورضوانه كذبًا وزورًا؛
لأن المحققين من مؤرخي أهل السنة والشيعة قد صرحوا بأن رأسه رضي الله عنه قد
أعيد من الشام إلى كربلاء بعد أن حمل إلى يزيد ودفن مع الجسد هنالك
وصرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة المحدثين ومؤرخيهم، وقد أنكرت هذا
على الأمير كتابة، فمشافهة وقلت له: كيف تزور قبرًا مزورًا يعبد من دون الله أو مع
الله بالدعاء والطواف والنذور وغير ذلك؟ فكذب الخبر وقال: إنه لم
يدخل حجرة المشهد ولا رأى ذلك القبر، واستشهد على ذلك مصطفى بك منير
المدير الرسمي لدار الضيافة (مهمندار) فشهد وكذب لي ذلك قبله الشيخ فوزان وكيل
الحكومتين الحجازية والنجدية، وسألتهما عما نشر في الجرائد من حضوره
لحفلة الموسيقى العسكرية في حديقة الأزبكية وتصفيقه للعازفين فأنكرا ذلك أيضًا،
وقالا: إنه إنما دخل الحديقة لحضور حفلة شرب الشاي التي دعي إليها ولم
يحضر محل عزف الموسيقى، وإنما سمعها من بعد بغير قصد ولم يصفق لها،
وقد وعدا بتكذيب الخبرين في الجرائد ولم يفعلا، بل نقلت جريدة (الكوكب)
بعد ذلك في حديث لأحد محرريها مع الأمير ومهمنداره أنه زار المشهد (؟) ولم
يكذبه أحد والظاهر أن لحاشية الأمير أغراضًا في مثل هذا.
وجملة القول أن وجود الأمير في مصر كان حجة مشاهدة على أن من
يسمونهم الوهابيين هم خيار أهل السنة دينًا وأدبًا وفضيلة حجة أخرست الطاعنين
فيهم من أصحاب الأهواء السياسية والخرافية، كما أن عشرات الألوف من حجاج
الآفاق الذين أموا المسجدين المكي والمدني حجاجًا وزائرين قد شاهدوا من تأمين
البلاد، ومن حرية المذاهب الإسلامية التي تجلت أكمل التجلي في المؤتمر
الإسلامي ما هدم الدعاية الإيرانية التي بثت في العالم قبل الحج (والعاقبة للمتقين) .
__________(27/463)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بدع أهل الطرق المنسوبة إلى الصوفية
نموذج من كتاب
القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، حمدًا لله، والصلاة والسلام على نبيه ومن والاه فقد رفع إلينا سنة
1312هـ، سؤال هذا نصه:
ما قول السادة العلماء في حكم الأذكار الملحونة وقصر لفظ الجلالة واستماع
الأذكار المحرفة، والذكر جهرًا، ومع الجماعة وما حكمه، والهزة والتمايل
والإنشاد في الذكر، واستعمال الخرقة والحزام، وعلم الراية، والذكر بمثل أنا أنت
وأنت أنا، وفي التكلم بين العامة بعبارات الصوفية الغامضة، وفي الطبل والزمر
والتصفيق بالأيدي ورفع الأصوات بالألفاظ الساذجة حال الذكر، وفيما يحصل من
الرطانة المعروفة عند أهل مصر بضرب اللوندي، وفيما يقع من أرباب الطرق
حال ذهابهم إلى بعض الأضرحة أو البيوت لإقامة حفلة الذكر فيه من رفع أصواتهم
في الطرق بالأذكار المحرفة والصلوات المبدلة، والفواتح المتعددة كلما وصلوا لجهة
فيها بعض إخوانهم أو جعلوها موعدًا للقائهم - وحمل واحد يسير أمامهم بفانوس
يسمى بالزي، وفيما يفعلونه في الموالد والليالي الرسمية أثناء ذهابهم إلى مركز
مشيخة الطرق من الاصطفاف ميمنة وميسرة، يحمل لهم الشموع الموقدة والمجامر
الأرجة غلمان مجملون بالملابس الفاخرة والمناطق المطرزة الناعمة، وفيما
يسمى بزفة الرفاعي والبيومي وزفة الفار، وفي التصدي لمشيخة الطرق وأخذ
العهود وإرشاد الخلق ممن ليس أهلاً للإرشاد؟ أفيدوا الجواب ولكم من الله حسن
الثواب. فأجبت مستعينًا بالله تعالى.
تمهيد:
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى
الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل
ضلالة في النار، وأيما قول أو عمل صادم نصًا من كتاب الله أو هدي رسوله فهو
رد على صاحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن
تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) وقال:
(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [1]
وأن غالب هذه الأمور التي اشتمل عليها السؤال المذكور من البدع السيئة
المحدثة في الدين التي يجب على كل قادر من المسلمين إزالتها لقوله عليه الصلاة
والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع
فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [2] وقوله: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون
على أن يغيروا فلم يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب) [3] وقوله: (إذا عملت
الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها
فرضيها كان كمن شهدها) [4] .
وإلى الناس بالمسارعة إلى ذلك سواس الأمة وعلماؤها الذين لهم الزعامة في
الدين، وإليهم المرجع في أمور المسلمين، وعليهم الاحتفاظ بمعالم الشريعة
والإرشاد والذود عن حماها؛ لأنهم رعاة والناس مرعيون، وقادة والناس مقتدون.
فإذا تغاضوا عنها أو تواكلوا في إزالتها، أو بدا منهم ما يشعر باستحسانها
والرضا عنها كانت التبعة عليهم مضاعفة، واندرجوا في وعيد قوله عليه الصلاة
والسلام (إذا ظهرت البدع وسكت العالم فعليه لعنة الله) [5] وليس المراد بالعالم من
تزيا بالزي الخاص، بل كل من يعلم الحكم الشرعي في الحادثة، وقوله: (من مشى
إلى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام) [6] وقوله: (من نظر إلى
صاحب بدعة بغضًا له في الله ملأ قلبه أمنًا وإيمانًا، ومن انتهر صاحب بدعة أمَّنه
الله يوم الفزع الأكبر، ومن استحقر صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة
ومن لقيه بالبشر أو بما يسره فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه
وسلم) [7] .
وكثيرًا ما كان يتمثل الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه بهذين البيتين:
من الدين كشف العيب عن كل كاذب ... وعن كل بدعيٍّ أتى بالمصائب
ولولا رجال مسلمون لهدمت ... صوامع دين الله من كل جانب
وأول من أحدث هذه البدع في الطرق الصوفية جماعة من مرتزقة الأعاجم في
أواخر القرن الرابع استمرءوا مرعى الخوانك [*] التي أحدثها بمصر أهل الخير
والنجدة ليأوي إليها الزهاد والعباد فتدثروا بشعار الصوفية لينسبوا إليهم، وتعطف
القلوب عليهم، وانتهجوا مناهج أهل الإباحة فأتوا من المنكرات ما يبرأ منه الدين
وأهل التصوف.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الحديث الأول رواه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ قريب من هذا، والحديث الثاني متفق عليه.
(2) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان عن جرير بسند حسن.
(4) رواه أبو داود عن العرس بن عميرة وصححوه.
(5) لا أعرفه بهذا اللفظ، وفي الجامع الصغير عن ابن عساكر من حديث معاذ (إذا ظهرت البدع ولعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد) وأشار السيوطي إلى ضعف سنده.
(6) عزاه في الاعتصام إلى ابن وضاح عن عائشة بلفظ (من أتى) إلخ.
(7) هذا الحديث لا أذكر أنني رأيته في شيء من دواوين السنة.
(*) جمع خانكاه وهي كلمة فارسية معناها بيت وقد جعلت لتخلي الصوفية فيها للعبادة راجع الخطط المقريزية أهـ من حاشية المؤلف.(27/469)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
(منطقة العقبة ومعان)
قد علم الخاص والعام أن المؤتمر الإسلامي العام قرر بإجماع الآراء مطالبة
ملك الحجاز بالسعي لإعادة منطقة العقبة ومعان إلى الحجاز، وحث العالم
الإسلامي على تأييده في هذا الطلب، ويظهر أن ملك الحجاز بدأ بما يجب عليه
شرعًا وسياسة من السعي لذلك، فإن لم ينقل هذا بخبر رسمي؛ فقد يدل عليه ما
جاءتنا به البرقيات من (لندن) من تصريح الجرائد الإنكليزية بذلك ودفاعها عنه
بأن جمعية الأمم قبلت أن تقيد إلحاق هذه المنطقة بشرق الأردن وجعلها تحت
الانتداب البريطاني (! !) ، وبأن عظمة شأن هذه المنطقة البرية والبحرية
والحربية والجغرافية والاقتصادية يوجب امتلاخها من الحجاز ومن سلطان
العرب والمسلمين، وجعلها تحت إدارة دولة متمدنة كالدولة البريطانية (!) .
ولم يبلغنا في هذه المرة أن جريدة بريطانية تقول في هذه المسألة كلمة حق
وإنصاف كما تفعل بعض الجرائد البريطانية في بعض المسائل وإن لم تسمع لها
حكومتها، ولكن وُجد إنكليزي واحد قال فيها كلمة حق هي وجوب إرجاع المنطقة
إلى أصلها وهو (مستر فلبي) المشهور، وهذا الرجل هو الذي انفرد بدرس شؤون
نجد، وبلاد العرب، وابن السعود، وإظهار الصداقة له ومطالبة حكومته
بمودته، وصداقته، وإظهار ما في ذلك من المنافع لها، كما أن (الكولونيل جاكوب)
قد اختص بدرس شؤون اليمن وإمامها ومطالبة حكومته بمودته وبيان ما في ذلك من
المنافع لها، ولم يفعل أحد من الرجلين شيئًا.
الحكومة الإنكليزية مجتهدة في جعل هذه المنطقة الحجازية بريطانية محضة،
- وهي لم تبتدع نظام جمعية الأمم إلا لتؤيدها في مثل هذا - فهي قد خصصت
أربعة وخمسين ألف جنيه، لبناء معقل عسكري في معان يسع بضعة عشر ألف
جندي، وستجعل هنالك محجرًا صحيًا للحجاج تحول إليه جميع حجاج سوريا
وفلسطين والعراق وإيران، وغير ذلك من الأقطار التي يرغب حجاجها في الحج
من طرق هذه البلاد، وقررت أيضًا مد خط حديدي من معان إلى العقبة لينقل
الحجاج إليها ويسافرون منها إلى جدة أو ينبع من موانئ الحجاز، ويستغنون عن
الإلمام بالثغور المصرية وقنال السويس.
وأما العالم الإسلامي فلما يبدأ بتنفيذ ما قرره المؤتمر في مكة المكرمة من تأييد
حكومة الحجاز في مطالبتها برد هذه المنطقة إلى الحجاز كما توجبه عليهم وصية
النبي صلوات الله عليه وسلامه في مرض موته وهي التي بنى عليها المؤتمر العام
قراره على أن استقلال الحجاز وتأمينه من اعتداء غير المسلمين عليه من أهم
الفروض الإسلامية ولو لم يكن هنالك وصية من النبي - صلى الله عليه وسلم -
بجعل الحجاز بل جزيرة العرب كلها إسلامية محضة.
ينبغي لأعضاء المؤتمر الذين يبثون الدعوة لهذا السعي في بلادهم تنفيذًا
لقراره أن يتدبروا في هذا الأمر حق التدبر، وأن يسلكوا له أقصد السبل، وأهمه
الاستعانة على الحكومة الإنجليزية بشعبها بعد البحث عن خير الوسائل، لإقناعه
بأن مودة العالم الإسلامي له تتوقف على ذلك لأن أمر الحجاز ليس كأمر سائر البلاد
الإسلامية كما هو معلوم بالبداهة، ولا يخفى على ذكي ولا بليد أن انتقاص هذه
المنطقة من الحجاز خطر على الحرمين قريب بل على الإسلام نفسه وسنعود إلى
التفصيل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
***
(منصب المندوب السامي الفرنسي لسوريا ولبنان)
قد عزل موسيو جوفنيل المندوب السامي السياسي لسوريا ولبنان واستبدل
به فرنسي آخر اسمه موسيو يصح أن يقال فيه وفيمن قبله من المندوبين ما قاله
الرصافي في تولية حقي باشا لمنصب الصدارة بعد حلمي باشا وكامل باشا في عهد
الاتحاديين.
مضى كامل من قبل حلمي وإن جرى ... كما جريا حقي فمثلهما حقي
نحن قدرنا لموسيو جوفنيل الفشل منذ عرفناه بمصر والغرور بالنفس يملأ
دماغه وجوانحه، وتغرير أولي الأهواء يحيط به من جميع جوانبه، ثم فصلنا
القول في خطل سياسته وضربنا له الأمثال، وكان أبعدها عن المصلحة الفرنسية
عندنا ما كان يظنه هو السياسة المثلى، ويتوهم أنه هو الحز في المفصل،
والضرب على الأكحل، وهو بدء عمله في لندن ثم في أنقرة (!) فهو قد اهتم بأن
يبدأ بالاتفاق مع من ربحوا بسوء عمله من فرنسا ولم تربح منهم فرنسا شيئًا.
إننا والله لنعجب من أمر هذه الأمة ذات التاريخ الفياض بنوابغ الرجال كيف
آل أمرها إلى عوز رجل واحد يستطيع أن يكون مستقلاًّ بعمل صالح في سوريا
دون عبث أولئك الأفراد من اللبنانيين المتعصبين، ومستعمري الفرنسيس
المنهومين، الذين سفكوا دماء الألوف من رجالها، وأخسروها ألوف الملايين من
فرنكاتها، وشوهوا محاسن تاريخها، وكسبوها تجاه ذلك عداوة الأمة العربية ومقت
الشعوب الإسلامية كلها. نعم أن كل ما خسرته فرنسا في سوريا من دماء بعدما
نزفته الحرب العظمى من دماء رجالها، ومن ألوف ملايين الفرنكات في الوقت
الذي خوت فيه خزانتها، وسقطت قيمة ماليتها، ومن تشوية تاريخها وسمعتها، كل
ذلك كان بعبث أولئك الأفراد بالمندوبين الساميَيْن، وغرور هؤلاء بما يتوهمون من
إخلاصهم لفرنسا وهم ليسوا بمخلصين، اللهم إلا لجيوبهم، وإرضاء تعصبهم.
إن أكبر عقل في فرنسا كلها في هذا العصر هو عقل الفيلسوف غوستاف
لوبون الذي نصح لأمته بأن تعتبر بتاريخ الإنكليز وبأعمالهم في الاستعمار، إن
الإنكليز هم الذين استفادوا أكبر الفوائد من سوء سيرة رجال فرنسا في سوريا ومن
الثورة السورية، فهم يوطدون أقدامهم في فلسطين وفي شرق الأردن وفيما ضموه
إليها من أرض الحجاز وفي صحراء سوريا العربية الممتدة إلى العراق بأقل النفقات
(على حساب الثورة السورية! !) .
لقد وجد في العقلاء المنصفين من نصارى سوريا ومن المسلمين، المسلمين
أنفسهم - بل من علمائهم أيضًا - من حاولوا النصح لفرنسا بمنتهى الإخلاص،
ومن كلموا من استطاعوا أن يكلموه من رجالها، وأرشدوهم إلى الجمع بين
مصلحتي سوريا وفرنسا فاقتنعوا ولكن لسان حال فرنسا تمثل لهم بقول البوصيري.
محضتني النصح لكن لست أسمعه ... أذن المحب عن العذال في صمم
لو فوض منصب المفوض السامي في سوريا إلى رجل عليم خبير مستقل في
عقله وفكره وشعوره دون منهومي الاستعمار ومتعصبي الكثلكة الإمبراطورية
المسيحية، وعرف أهل البلاد حق المعرفة، وعرف من حولهم من أمتهم،
لاستطاع أن يرفع اسم فرنسا، وأن يكسبها بعمله في سوريا مالاً ونفوذًا وشرفًا،
ولكن هذا الرجل لم يوجد فهل يوجد قبل أن يقضي الله في سوريا ما يذهب بكل
أماني فرنسا وأحلامها، أو قبل أن تستيقظ الأمة الفرنسية فتعلن بسبب سوريا
حكومتها وحكامها؟ الله أعلم.
***
(الشيخ محمد الخراشي والدعاية البهائية)
قد ذكرنا في الجزء الماضي ما كتب إلينا من بلاد العرب وما كتب إلى غيرنا
من بث الشيخ محمد الخراشي لدعوة البهائية، ثم أخبرنا مخبر آخر أن الخراشي قد
تبرأ من دين البهائية، وأنكره جهرًا أمام الناس، فإن صح هذا عنه فعسى أن يكتب
مقاله في براءته ينشرها في الجرائد تكون صريحة في ذلك بحيث لا تحتمل
التأويلات الباطنية، وإلا فإن البهائية يدعون الإسلام مع المسلمين حتى إن أكبر
رجالهم وملفق ديانتهم عباس أفندي ابن معبودهم البهاء، الملقب (بعبد البهاء) كان
يدعي في مصر الإسلام والدعوة إليه حتى انخدع بكلامه مثل عثمان باشا مرتضى
العلامة القانوني المنطقي، وجادلني في الدفاع عنه بما ذكرته في وقته في المنار،
وانخدع به أيضًا صاحب المؤيد الشيخ علي يوسف وأثنى عليه في المؤيد بما رددته
عليه في مقالة نشرها في المؤيد.
ويسرنا جد السرور أن يتبرأ الشيخ محمد الخراشي من هذا الدين الملفق
الوثني؛ لأنه كان من أصدقائنا وما فرق بيننا وبينه إلا ما نقل إلينا هنا قبل سفره إلى
العراق وبلاد العرب وخليج فارس من دعوته إلى البهائية ودفاعه عنهم، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
***
(سماسرة العروش وطلابها)
فتن أبناء الشريف حسين بن علي بحب ألقاب الملك وعظمتها في ظل دول
الاستعمار، ففيصل ملك العراق قد أستأنف في هذا الصيف في فرنسة ما بدأ به في
صيف العام الماضي هنالك من السعي لجعل أحد أخويه (علي وزيد) ملكًا لسورية في
ظل الانتداب الفرنسي جزاء لما يدعيه من قدرته على إخماد الثورة، وإخضاع البلاد
للانتداب الذي كان فيصل أول من قبله وسعى لإقناع سورية به ليبقى ملكًا عليها في
ظله فأحبط الجنرال غورو عمله، وقد آن لمن كانوا مخدوعين بهذه الأسرة أن
يعلموا ما علمه سائر الناس من سوء حالها وكونه لا يصلح لشيء، على أننا لا نظن
أن فرنسة تنخدع لفيصل إن كان لا يزال في السوريين من ينخدع له. هذا وإن
جعْل الشريف علي أو الشريف زيد ملكًا لسورية فيه عداء لمك الحجاز وسلطان نجد لا
تؤمن عاقبته. وقاعدة الملك فيصل في سعيه الآن هي جعل سورية ملكية مرتبطة مع فرنسة بمعاهدة كالمعاهدة البريطانية العراقية، وإن صك انتداب فرنسة لأهون من
تلك المعاهدة، ولولا سوء تنفيذ رجال فرنسة له لكانت خيرًا من العراق
وأدنى إلى الاستقلال، فمن كان في شك من هذا من زعماء البلاد فليخبرنا ننشر له
ذيول تلك المعاهد التي ليس فيها للعراق إلا الألقاب الضخمة.
***
(أفن رأي دعاة الإلحاد والإباحة)
كلمة من كتاب، لأمير الكتاب
ما كتبتم لي بشأنه أنا منتظر الفرصة له. ولا بد أن أبدي رأيي في الشعر
الجاهلي، وما أشبه ذلك من المواضيع التي أثارها ذلك الأعمى.. . ولكني أجد مع
الأسف في مصر نزعة إلحاد وإباحة من قبيل ما في تركيا وعذرهم كعذر الأتراك
أن هذه الأمور لم تمنع ترقي أوربا، لا بل هي سبب رقيها؛ إذ سبب رقي أوربا هو
الحرية، والإلحاد في العقائد والإباحة في الاجتماع هما من باب الحرية. وهؤلاء
المجانين لا يدركون أن مبدأ رقي أوربا وقع حينما لم تكن هذه الحرية التي يذكرونها
لا بل تأثل ونما وصالت أوربة على العالم وهي بعد رجعية على رأيهم، ولما فشت
فيها مبادئ الإلحاد والإباحة لم تزعزع قوتها إذ كانت رسخت وتأسست والجسم
القوي يتحمل الصدمات.
وأما الإسلام فقد انحط بعوامل عديدة من الداخل ومن الخارج، وقد فقد
استقلاله ولم يبق له شيء يقاتل به إلا هذا الإيمان، فهو يقوم عند المسلم مقام المال
والصناعة والوسائل كلها، وهو الهاتف الوحيد بالمسلم أن يهب ويذب عن حوضه
ويأبى عبودية الأجنبي. وهذه الفئة آتية لتقول للمسلمين:
شريعتكم بالية، وعقائدكم سخيفة، ودعونا من كل ما أنتم فيه ولننشئ نشأة
جديدة وبهذا نحيا، وبهذا يهدمون القوة الوحيدة الباقية بيد الإسلام، وهي العقيدة
والرابطة الإسلامية، ومن الآن إلى أن تتكون الهيئة الاجتماعية العلمية الفلسفية
العصرية في الشرق ينبغي الصبر مائة سنة على الأقل فنكون أضعنا ما بيدنا على
أمل بآت بعد مائة سنة أي نكون تمزقنا كل ممزق وفقدنا وجودنا الشخصي ودخلنا في
تركيب الأمم الأخرى، فإن كان هذا مراد أولاد.. . [1] وأضرابهم أن نفقد كيوننا
السياسي، من حيث إننا أمة ونصير مندمجين في الأمم الأخرى الغالبة الآن، وأن
ذلك لا ضرر به، وأنه أية ضرورة ليقال أمة عربية، أو مصرية، أو عالم
إسلامي فكل البشر خلائق فهكذا يكونون سائرين على خطة منطقية.
وأما استقلال أمم شرقية وهي ضعيفة والأمد أمامها إلى إدراك أوربة [2] بعيد
وطرحها رأس المال المعنوي الوحيد الذي بيدها وهو الإسلام، فهذا حمق وما وراءه
حمق، وبرهاننا على قوة الإسلام هذه كون الاستعمار لا يحارب مبدأ في الدنيا
بالشدة التي يحاربه بها، وإذا أردت وزن قوة عدو فانظر إلى مقدارها عند عدوه
{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) . أسفًا على مصر فقد ظهرت
فيها علامات تؤذن بشر مستطير، والله الواقي وحده، والسلام.
__________
(1) ذكر الكاتب هنا أسماء بعض المشهورين من دعاة الإلحاد ومحرري جريدتهم ومدرسي جامعتهم.
(2) صرح أحد أفراد هذه الجمعية بأن من مضار تمسك الشعب المصري بالإسلام أنه هو المانع من الرضاء بكون حكامنا من الإنكليز المصلحين ورضاهم بسلالة من الترك أو الألبان أنهم يسمون مسلمين (!) .(27/471)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(الرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم)
قد علم قراء المنار من مجلد المنار السادس والعشرين نبأ جرأة الشيخ علي
عبد الرازق الذي كان من علماء الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية على نشر كتاب
باسم (الإسلام وأصول الحكم) حاول فيه هدم شريعة الإسلام من أساسها والإباحة
المطلقة للمسلمين بأن يختاروا لأنفسهم من الشرائع ونظم الحكم ما شاءوا من غير
تقيد بنص كتاب إلهي ولا سنة نبوية، ولا هدي سلف، ولا اجتهاد إمام متبع
بالأولى.
وعلموا أننا أول من انتدب لتزييف هذا الكتاب وإبطال كفره وضلاله،
وتحريض علماء الأزهر وغيرهم على الرد عليه ومؤاخذته، وأنهم قد فعلوا فقررت
جمعية كبار العلماء اشتمال هذا الكتاب على ما ينافي الدين، ويرد المعلوم منه
بالضرورة بإجماع المسلمين، وحكمت بمحو اسمه من علماء الأزهر ووجوب طرده
من وظيفة القضاء الشرعي وعدم إسناد وظيفة أخرى في الحكومة إليه، وأن
الحكومة نفذت هذا الحكم فعزلته من منصب القضاء الشرعي، وأنه زاد احترامه
عند الزنادقة والمنافقين ولا سيما جمعية الدعوة إلى الإلحاد والزندقة، والإباحة
المطلقة، وصارت جريدتهم السياسة تلقبه بالعلامة المحقق.
ونذكر الآن أن بعض العلماء ألفوا كتبًا في الرد التفصيلي على ذلك الكتاب
وقد أهدي إلينا منذ العام الماضي كتابان حافلان في ذلك (أولهما) سمي (بنقض
الإسلام وأصول الحكم) من تصنيف الشيخ محمد الخضر حسين أحد مدرسي جامع
الزيتونة وقضاة المحاكم الشرعية في وطنه تونس قبل هجرته منه - وقد نال أخيرًا
شهادة العالمية الرسمية من الجامع الأزهر بعد الامتحان الرسمي فيه - (وثانيهما)
سمي (حقيقة الإسلام أصول الحكم) وهو من تصنيف الشيخ محمد بخيت المطيعي
أحد كبار علماء الأزهر الحاضرة وأشهر المدرسين فيه، وقد كان تقلب في القضاء
الشرعي ورياسة المحاكم حتى كان أشهر أعضاء المحكمة الشريعة العليا في مصر
ثم أسند إليه منصب مفتي الديار المصرية.
فهذان المصنفان في الرد على كتيب الشيخ علي عبد الرزاق يفوقانه فيما نال
من شهادة أزهرية، وقضاء شرعي في محكمة ابتدائية، ولا يلحق غبار واحد منهما
في العلوم الشرعية، إذ انصرف كل همه إلى الكتابة الأدبية، وتقاليد أعداء الإسلام
من الشعوب الإفرنجية، وهذا تعريف وجيز بالكتابين.
***
(نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)
بلغت صفحات هذا الكتاب 245 صفحة كصفحات المنار، وقد رتبه ترتيب
الأصل المردود عليه كتابًا كتابًا، وبابًا بابًا، وقال في مقدمته:
(وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من
أمهات المباحث ثم نعود إلى ما نراه مستحقًّا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي
ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها أو يحل لغزها، أو يجتثها من منبتها.
وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ
تحقيق البحث وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا
الكتاب الموضوع على بساط النقد والمناظرة.
وقد طبع الكتاب في العام الماضي بالمطبعة السلفية طبعًا حسنًا وأهداه مؤلفه
إلى خزانة جلالة ملك مصر المعظم، وثمن النسخة منه 10 قروش ما عدا أجرة
البريد، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(حقيقة الإسلام وأصول الحكم)
بلغت صفحات هذا الكتاب 447 صفحة بقطع المنار، وحروفه فهو مرتب
ترتيب ما سبقه، ولكنه لم يكتف بتفنيد مزاعم الشيخ علي عبد الرازق، وإبطال
دعاويه بكونها دعاوى لا تقوم عليها بينة على كونها كما قال سلبية، بل استطرد
إلى إيراد الشواهد على إثبات ما ادعى نفيه من نظم الحكومة الإسلامية بالنقول من
الكتب المعروفة، وأهمها مبحث بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لنظام القضاء
وما يتوقف عليه، وقد عقد لذلك سبعة أبواب (الأول في الوظائف والأعمال البلدية)
وفيه 23 فصلاً، أدخل فيها الوظائف الدينية كإمامة الصلاة (الثاني في العمالات
المتعلقة بالأحكام) ، وفيه ستة فصول (الثالث في العمالات الجهادية، وما يتشعب
منها) ، وفيها 11 فصلاً (الرابع في العمالات الجبائية) وفيه ثلاثة فصول ... إلخ
وقد طبع الكتاب في المطبعة السلفية أيضًا طبعًا حسنًا، وثمن النسخة منه 15
قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
***
(القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق)
يستدل بعض العوام على مشروعية البدع الفاشية فيهم عامة وفي المنتسبين
إلى طرائق المتصوفة خاصة بسكوت علماء الشرع عن الإنكار عليها وحضور
بعضهم أقبح احتفالاتها كالموالد وزيارتهم معهم للقبور المشرفة التي بنيت عليها
المساجد وتضاء عليها السرج والشموع كل ليلة ولا سيما ليالي الموالد، وهذا
الاستدلال باطل وغير صحيح على إطلاقه.
أما بطلانه فلأن سكوت هؤلاء العلماء ليس بحجة شرعية وكذا أعمالهم ومن
سكت منهم عن المنكر وأقره وهو قادر على إنكاره، أو شارك أهله فيه لمنفعة له
منه كالذين يعطون نصيباً مما ينذر لأصحاب القبور أو من أهله فهؤلاء ممن قال الله
فيهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23)
وأما كونه غير صحيح فلأن كثيرًا من العلماء ينهون عن البدع، والمنكرات
في كل زمان، وكل قطر إسلامي وهذه كتبهم مودعة في الخزائن، وقد طبع بعضها
في هذا العصر ككثير من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكتاب تلبيس
إبليس للحافظ ابن الجوزي، وكتاب الاعتصام للإمام الشاطبي، وكتاب المدخل
للفقيه ابن الحاج، وكتاب الطريقة المحمدية للبركوي، وكتب المجدد الشيخ محمد
عبد الوهاب، وأولاده وأحفاده وتلاميذه من علماء نجد وبعض رسائل القاضي
الشوكاني وغيره من علماء اليمن وكتبهم - وأما علماء هذا العصر فلهم رسائل
ومقالات كثيرة في ذلك منها مقالات الأستاذ الإمام وبعض رسائله، وهذه مجلدات
المنار ولله الفضل والمنة.
وبين يدينا الآن رسالة مطبوعة في إنكار الفاشي من بدع أهل الطرق في
مصر هي جواب سؤال للشيخ محمد حسنين العدوي من كبار علماء الأزهر في هذا
العصر، وكان وكيلاً للأزهر ومديرًا للمعاهد الدينية وسماها (القول الوثيق في الرد
على أدعياء الطريق) ، وقد رأينا أن ننشر نص السؤال وبعض نص الجواب تأييداً
لخطة المنار، ولأن فيه بدعًا لم يسبق لنا الإنكار عليها، وتجد ذلك في باب المقالات
(ص 469) .
***
(جريدة الصراط المستقيم)
وقد أتمت هذه الجريدة الإسلامية الوطنية الفلسطينية السنة الأولى بجد
وثبات من مؤسسها ومحررها الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الله القلقيلي الأزهري فقد
نوهض واعتدي عليه وأحرقت مطبعة جريدته؛ فصبر صبرًا يبشر بنجاحه في
عمله فقد قال بعض حكماء الصوفية: من لم تكن له بداية محرقة، لا تكون له نهاية
مشرقة، وإنا ليسرنا نجاحه لأنه على مشربنا في الإصلاح، لا جامدًا كجمهور
الأزهريين، كما يسوؤنا أن يكون خصماً للمجلس الإسلامي الفلسطيني فإنه شديد
الانتقاد عليه قد لا يخلو عدد من أعداد الجريدة من ذلك، ولا ننكر عليه أنه ينتقد ما
يراه منتقدًا، ولا نتهمه بأنه كالخصوم السياسيين الذين يجعلون حق خصومهم باطلاً،
وباطلهم حقًّا في كل شيء، ولكننا نذكره بأن يحاسب نفسه على النظر بعين
السخط إلى هذا المجلس وبعين الرضا إلى خصومه وكل من العينين خادعة
لصاحبها، ونحب له أن يتحرى إقامة ميزان القسط في الفريقين، ويجعل
جريدته للمصلحة العامة لا لحزب دون حزب، فإن كان عند نفسه على هذا
الرأي، فلا يثقلن عليه أن يذكره أحد شيوخ الصحافة الإصلاحية بالتحري
ومحاسبة النفس والاستعانة على ذلك بمطالعة كتاب النية والصدق والإخلاص
من جزء الإحياء الرابع.
__________(27/477)
ربيع الأول - 1345هـ
أكتوبر - 1926م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فتاوى المنار
أسئلة من جدة - الحجاز
(س 11 - 14) من صاحبي الإمضاء بجدة
1- هل كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ملوك الأرض العظماء
الموجودين في أيامه أو أكبرهم شكيمة كملك الصين وملك الترك وإمبراطور روما
الغربية، وإذا كان لم يكاتب هؤلاء - كما هو المتبادر من التاريخ - فلماذا؟
2 - فيما نرى عرفنا أن أشهر الأنبياء كلهم كانوا آسيويين ولم نسمع بنبي
أرسل في أوربا مع أنها من الدنيا القديمة المعمورة فما هي الحكمة؟
3 - يقول علماء الدين -ولا سيما العصريين منهم- إن الإسلام هو الدين الصالح
لكل الأمم وفي كل الأرض، فما هي تلك الأفكار الخالدة الموافقة لعناصر جميع
الأمم التي أتى بها الإسلام؟
4 - لماذا فرض الإسلام الجزية على اليهود والنصارى فقط ولم يقبل من
العرب سوى الإسلام أو السيف؟
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا دام نفعه.
نؤمل إجابتنا تحريريًّا على هذه الأسئلة وإذا تكرمتم بنشرها في المنار نكون
شاكرين تفضلكم.
... ... ... ... ... حسن أبو الحمايل. محمد حسن عواد
(ج) نجيب عن هذه الأسئلة بالترتيب وإن كان قد سبق لنا فيها تحقيق من
قبل فنقول:
***
(حكمة مكاتبة النبي (ص) لبعض الملوك دون بعض)
كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك العرب في جزيرتهم وإلى
ملوك البلاد المجاورة لها وهي مصر وسوريا والعراق وفارس يدعوهم إلى
الإسلام؛ لأن الدعوة إنما تفيد من عقلها وأهل البلاد التي يمكن نشر الإسلام وتنفيذ
أحكامه فيها بمجرد دخول أهله فيه، أو خضوعهم لسلطانه بالصلح وإعطاء الجزية،
ولو تيسر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنه مكاتبة فغفور الصين وخان
الترك وقيصر رومية بإرسال رسل إليهم يحملون كتبه العربية، وأمكن لهؤلاء
الرسل الوصول إلى بلادهم وأمكن لهؤلاء الملوك فهم هذه الكتب وإجابة الدعوة،
لكان من المتعذر في ذلك الوقت نشر الإسلام وتنفيذ أحكامه في تلك الأقطار النائية،
التي يحول بينها وبين مهده - جزيرة العرب - شعوب معادية، فالدعوة العامة ما
كان يمكن نشرها إلا بالتدريج والانتقال من محلها إلى الأقرب فالقريب، فالبعيد
فالأبعد من البلاد والأقطار.
ومن المعلوم في التاريخ أن بلاد سوريا عربية الأصل، وكذلك العراق وإن لم
تكن اللغة المضرية عامة فيهما في زمن البعثة، وإن مصر استعمرها العرب زمنًا
طويلاً وكانت مدينتها الأولى عربية المنشأ ولغتها الهيروغليفية ممزوجة بالعربية
مزجًا، وهي لمجاورتها لجزيرة العرب قد سهل تعريب أهلها في زمن غير طويل.
كذلك المجاورة بين عرب العراق وعجم إيران كانت مسهلة لنشر الإسلام ولغته
العربية ببلاد فارس في مدة قريبة. وما كان يمكن مثل هذا في الصين لو أمكن
إيصال الدعوة إليهم وقبولهم إياها.
***
بعثة الرسل في جميع الأمم
وبطلان ادعاء أنهم كلهم أسيويون
إن بني إسرائيل لم يكونوا يعرفون غير أنبيائهم فزعموا أن النبوة محصورة
فيهم، وحرفوا آيات التوراة المبشرة برسول يبعثه الله من بني إخوتهم - أي أبناء
إسماعيل عليه السلام - ولما بعث الله خاتم النبيين وأتم على لسانه الدين بين لنا في
الكتاب المنزل عليه أنه أرسل في جميع الأمم رسلاً يدعون إلى مثل ما دعا إليه في
أصوله وجوهره كما قال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) .
وقد قص الله تعالى عليه في كتابه قصص أشهر الرسل والنبيين الذين عرفت
العرب والمجاورون لهم من أهل الكتاب شيئًا من تاريخهم لأجل العبرة بسيرتهم كما
قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ} (غافر: 78) ولو قص عليه خبر نبي أرسل في الصين لا يعرف أحد
من المخاطبين الأولين بالقرآن ولا من يجاورهم من أهل الكتاب عنه شيئًا لكان
قصصه فتنة لا عبرة، ولقالوا: إنه يفتري علينا ما لا سبيل لنا إلى معرفته، والمثل
العامي يقول: (إذا أردت أن تكذب فبعد شهودك) ، والله تعالى يقول في حكمة
أخبار الرسل: من آخر سورة يوسف بعد ذكر الرسل إجمالاً: {لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) الآية وقال {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) فهذه الحكم التي
ذكرها الله تعالى لبيان قصص الرسل لا تحق إلا بمن يعرف عنهم شيئًا في الجملة،
ويفصل الوحي ما لم يعرف منها.
نعم، لو أخبرنا الله تعالى في كتابه أن برهما أو بوذا من دعاة التوحيد
والفضيلة في الهند وكونفشيوس من دعاتهما في الصين وبعض حكماء مصر
واليونان من دعاتهما في أوربا وأفريقيا كانوا من رسل الله تعالى مثلاً وأنه لما
طال الأمد على اتباعهم أشركوا بالله وفسقوا عن أمره، كما قال في أهل الكتاب
المعروفين عند العرب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:
31) وقال في وعظ المؤمنين: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) لو أخبرَنا الله
تعالى بما ذكر لكان آية لأهل القرون الأخيرة على أخبار القرآن بالغيب ولكن بعد
أن يكون فتنة لأهل القرون الأولى - ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
روي عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه أن المجوس كانوا أهل كتاب كما
سيذكر في بحث الجزية من هذه الفتاوى.
وثبت في تاريخ غيرهم من الشعوب التي عرف تاريخها أنه ظهر فيها
حكماء ربانيون دعوا الناس إلى توحيد الخالق وعبادته وحدة والإيمان بالبعث
والجزاء، والأمر بالعمل الصالح، وهذه الأصول الثلاث هي التي دعا إليها جميع
الرسل وعليها مدار سعادة الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) فالظاهر أن أولئك
الدعاة إلى الأصول الثلاثة كانوا رسلاً يوحى إليهم فإن نقل عنهم ما ينافي الرسالة
فلا يعد حجة نفي صحيحة؛ لأننا قد عرفنا ما حل بكتب المتأخرين عنهم الذين حفظت
كتبهم في الجملة فكيف بهؤلاء الذين طمس جل تاريخهم؟ بل نرى المسلمين الذين
كفل الله تعالى حفظ كتابهم في الصدور والسطور فلم يفقد ولم يحرف منه حرف
واحد، وضبطت سنه رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ضبطًا لم يضبط مثله
كتاب في تاريخ البشر - نراهم قد سرت إلى كثير منهم عقائد الوثنية وعباداتها
المخالفة لنصوص القرآن والسنة القطعية ولعمل الصدر الأول المنقول بالتواتر -
ونسمع الآن شيعة إيران ودعاة الفتنة في الهند يصيحون ويولولون نادبين هدم
هياكل الوثنية التي بنيت على القبور المعبودة من دون الله تعالى في الحجاز وهي
التي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناة أمثالها إذ لعن كل من يبني
مسجدًا على قبر ومن يضع عليه سراجًا.. .إلخ.
***
أصول الإسلام الصالحة
المصلحة لكل الأمم في كل زمان
إن الجواب عن هذا السؤال لا يمكن بيانه التفصيلي إلا في سِفْر مستقل
وموضوع هذه الفتاوى الاختصار، فنشير إلى مهمات هذه الأصول بالإيجاز فنقول:
(الأصل الأول) كون الإسلام دين الفطرة فليس فيه شيء غير معقول
كالتثليث ولا غير ممكن طبعًا كحب الأعداء، وأساسه تجريد التوحيد الذي يعتق
البشر من رق الخرافات والأوهام وقد شرحنا هذا الأصل مرارًا كثيرة.
(الأصل الثاني) ختم الرسالة والنبوة المقتضي أن لا يوجد بعد محمد
صلوات الله وسلامه عليه نبي معصوم يبلغ الناس شيئًا عن وحي الله أو يشرع لهم
شيئًا من الدين أو يحرم عليها شيئًا تحريمًا دينيًّا.
وهذا من إتمام عتق البشر من الأدعياء الذين يتحكمون في أفكار الناس
وإرادتهم يدعون أنهم نواب فيهم عن ربهم، أو أنهم آلهة بالفعل كما يدعي البهائيون
في زعيمهم أو أنبياء كما يدعي الأحمدية القاديانيون في مسيحهم الدجال.
(الأصل الثالث) أن حكومة الإسلام مقيدة بالنصوص وبالشورى ورئيسها
مقيد باختيار أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة فلا يكون سلطانًا لها إلا باختيارهم
إياه للخلافة ومبايعتهم له، وهو مساو لسائر المسلمين في الحقوق فيُقتل قصاصًا
يقتل أضعف السوقة وأفقرهم، ولا يطاع في معصية الله تعالى وإنما الطاعة في
المعروف.
(الأصل الرابع) استقلال الفكر في فهم الدين، والعلم، وجميع شؤون
الحياة، فليس في الإسلام سلطة دينية روحانية تلزم المسلمين اتباع مذهب لمجتهد
وآراءه في العقائد، والعبادات الدينية، والحلال والحرام الدينيين، وإنما هنالك
نصوص قطعية وأصول وفروع إجماعية يشترك جميع المسلمين في التزامها ولا
يعد أحد متبعًا لأحد غير الرسول وجماعة الأمة فيها، ويقرب من الإجماع ما جرى
عليه جمهور سلف الأمة الصالح من أمر الدين ولم يشذ عنهم إلا أفراد لا يعتد بهم،
وماعدا ذلك من المسائل فهو اجتهادي ويجب على كل مسلم أن يعمل باجتهاد نفسه،
فإن عجز فله أن يأخذ بعلم من يثق بعلمه ودينه.
والراجح المختار في العبادات أنه لا اجتهاد في التشريع فيها بل في التنفيذ،
والأحكام الدينية منوطة بنصوص الكتاب والسنة، والقضائية يعتبر فيها مراعاة
المصالح وعليها مدارها، وهو مذهب مالك إمام دار الهجرة.
(الأصل الخامس) المساواة بين المسلمين في جميع أحكام الشرع، وهو
أصل مستقل ذكر استطرادًا في بعض الأصول قبله.
وهذه حرية دينية لا توجد في دين آخر، ومقتضاها أن البشر صاروا أحرارًا
أعزة وإخوانًا لا يفضل أحد منهم أحدًا بتفضيل إلهي محتوم، ولا بمنصب موروث
كالقديسين في بعض الملل، وإنما يتفاضلون بكسبهم العلمي والعملي حتى يجوز أن
يكون ابن أفقر الناس وأضعفهم أعلم علماء عصره وأتقاهم فيكون أفضلهم.
(الأصل السادس) تقييد المسلمين بعقائد، وأحكام وآداب وفضائل دينية
بالوازع النفسي لا تتغير، ولا تنقض وهي تؤمنهم من فوضى الحرية المسرفة التي
أوقعت شعوب أوربا في أسر النظام المالي وسلطان أهله من جهة وفي البلشفية من
جهة أخرى، وفي المفاسد الأدبية التي هتكت الأعراض وأضاعت الأنساب وبددت
الأموال من جهة ثالثة ... إلخ إلخ.
(الأصل السابع) بناء الأحكام السياسية والمدنية على أساس درء المفاسد
وحفظ المصالح - والأحكام القضائية على العدل المطلق والمساواة - ووجوب حفظ
الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، ولازمه النسب من الاعتداء عليهن.
(الأصل الثامن) مساواة النساء للرجال في جميع الحقوق بالمعروف إلا
الولاية بقسميها العام، وهو منصب الإمامة العظمى، والخاص كرياسة الأسرة،
لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:
228) وبين هذه الدرجة بقوله {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34) .
(الأصل التاسع) بناء ضرورات الاجتماع السابقة كالحرب والرق
والضرورات الفردية على قاعدة التوقيت فيها وتقديرها بقدرها وتخفيف شرها
والسعي الممكن لإزالتها والاستغناء عنها.
(الأصل العاشر) فرضه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الفريضة
التي تحفظ على الأمة فضائلها وآدابها ما أقامتها.
(الأصل الحادي عشر) تكافل المسلمين وتضامنهم حكومة وأفرادًا فبهذا
وبفريضة الزكاة والترغيب في الصدقات، والواجب من الكفارات يكون جماعة
المسلمين دائمًا في كفاية قلما تنال الضرورة إلا من بعض الأفراد المجهولين منهم،
وبذلك يقل التحاسد والعدوان بينهم، ولا تجد الجماعات منهم دافعًا إلى العدوان ولا
مشكلاً كبيرًا من مشاكل الاجتماع كالبلشفية وما يقرب منها.
هذا ما أمكنت الإشارة إليه بالإيجاز، وسنفصله في أول فرصة تسنح لنا إن شاء
الله تعالى ومن يراجع كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) يجد فيه شيئًا من هذا
التفصيل.
***
فرض الجزية على أهل الكتاب
وإلزام العرب الإسلام
التحقيق أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب وإن كانوا عربًا، وقد أخذها النبي -
صلى الله عليه وسلم - من أكيدر دومة وكان هو وقومه عربًا من غسان وكذا من
نصارى نجران في صلحه لهم وتؤخذ أيضًا من المجوس؛ لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه الشافعي، وعن عليّ كرم الله
وجهه أنهم كانوا أهل كتاب ففقد أو رفع رواه عنه عبد الرزاق والشافعي، ويمكن
الجمع بينه وبين الحديث المرفوع بأن لقب: أهل الكتاب، صار علمًا لليهود
والنصارى وسببه معروف بيناه من قبل.
وأما مشركو العرب فسياسة الإسلام فيهم أن يكونوا مسلمين وأن تبقى جزيرة
العرب خالصة لهم، ولمن ساكنهم فيها من المسلمين، والحكمة في ذلك أن يبقى
للإسلام دولة مستقلة في مهده تقيم شرائعه، وقد فصلنا هذا من قبل مرارًا، ومع
هذا لم يكرههم على الإسلام إكراهًا، وقبل من بعضهم الجزية، وقد ظهر ولا يزال
يظهر من حكمة سياسته ما نراه من إزالة الأعاجم لملك العرب، ثم شرع الإسلام من
جميع بلاد الأعاجم إلا بقية قليلة أقواها في بلاد أفغانستان، وهم يتواطئون
ويتعاونون على التعدي على جزيرة العرب وحدها، وإزالة حكم الإسلام وسيادة
العرب منها، فالإيرانيون الآن يتعاونون مع بعض الهنود من الشيعة وخرافي
أدعياء السنة على سلب الحجاز نفسه من دولة السنة الحاضرة، وإن وقع في أيدي
الأجانب، ولم نر أحدًا منهم احتج ولا أنكر إعطاء الشريف علي بن حسين قسمًا
عظيمًا من أرض الحجاز للإنكليز حتى إن شوكت علي ومحمد علي الزعيمين
السياسيين في الهند يريدان أن تكون حكومة الحجاز جمهورية والحق الأعظم في
إدارتها للأعاجم ولهذا عادَيا ملك الحجاز وإمام السنة العربي ابن السعود؛ لأنه لم يقبل
هذا.
وقد كتب إلي بعض علماء الهنود الأحرار مرة أن ما كتبته في الخلافة وحق
قريش فيها وكون الإسلام عربي اللغة هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه قال: (ولكن هؤلاء الأعاجم من الهنود لا يرونه إلا لهذا الجيل من
الترك) يعني أنهم ينسخون قاعدة الصديق الأكبر والخليفة الأول رضي الله عنه
في قوله: إن العرب لا ترى هذا الحق إلا لهذا الجيل من قريش.
وسيظهر للمسلمين من عصبية الأعاجم من الغرائب ما لم يكن يخطر لهم ببال
ونكتفي الآن بهذا الإجمال، الذي كتبناه بمنتهى الاستعجال، وما زالوا يؤيدون
خلافة الترك الباطلة الصورية على فسادهم التي نبذوها هي والإسلام وراء ظهورهم
واستبدلوا بشرعها شرائع الإفرنج، ومع هذا كله لا يزال الزعيمان شوكت علي
ومحمد علي مستمسكين بها، ويضعون شارتها على صدرهم ورؤوسهم! .
***
بدعة المحمل
وتناصر المسلمين على المستعمرين
(س 15، 16) من أيوب أفندي صبري صاحب جريدة الوطنية بمصر.
مولاي الجليل:
ألتمس من سماحتكم أن تكشفوا النقاب للمسلمين عن النقطتين الآتيتين وهما:
أولاً - ما هي علاقة المحمل بالدين الإسلامي حتى ينظر إليه كبدعة تجب
مقاومتها والقضاء عليها؟
وإذا أثبتم هذه العلاقة وأن المحمل بدعة. فما هي الأسباب التي حملت كبار
علماء المسلمين من شيوخ الأزهر الشريف والمفتيين والقضاة الشرعيين على إقرار
هذه البدعة منذ وجودها إلى الآن - وهذا الإقرار ظاهر من اشتراكهم مع الحكومة
في الاحتفال بالمحمل عند سفره وعند عودته وتقبيلهم مقوده - ثم من عدم تقدمهم
للحكومة بحكم الشرع الشريف حتى تقضي على هذه البدعة ومن عدم إصدارهم
الفتاوى الدينية وإذاعتها بين المسلمين بكل طرق الإذاعة وأهمها الصحف التي
ترحب بتلك الفتاوى وتنشرها بكل سرور؟
ومن المعلوم أنه ليس للحكومة غرض سياسي أو مالي من هذه البدعة يحول
بين العلماء وبين التقدم لها (الحكومة) بحكم الشرع الشريف في أمرها (البدعة)
وعلى فرض أن يكون للحكومة غرض فإن واجب العلماء أن يبينوا حكم الشرع
سواء رضيت عنهم الحكومة أم غضبت وبين العلماء عدد كبير غير مرتبط مع
الحكومة بشيء ما.
النقطة الثانية - تعلمون سماحتكم أن الثورة السورية - والحركة الفلسطينية
ضد الصهيونية - والثورة الريفية - إنما قامت لمقاومة الحرب الصليبية الثانية التي
أرادت أوربا بها استعباد المسلمين، والأمم الإسلامية تحت أسماء شفافة وأغراض
مزوقة لم تخف عنا بل إن المظالم التي نرزح تحت كلكلها تدل على نية أوربا
السيئة - وتعلمون أن دول أوربا - رغم ما بينها من عداوات تتناصر على إذلال
المسلمين، وامتلاك بلادهم أفلا ترون واجبًا على المسلمين أن يتناصروا على دفع
بلاء الاستعباد عنهم وعن بلادهم.
وإذا كان الريفيون لم يجدوا حولهم أمة مسلمة حرة من الاستعباد الأوروبي
تناصرهم بجيشها أو بالمال أو بالسلاح - فإن السوريين والفلسطينيين على الحدود
النجدية الحجازية، ونجد والحجاز تحت حكم ملك واحد حر من قيود الاستعمار،
فلماذا لا يناصر جلالته إخوانه المسلمين المجاورين له بجيشه، أو بسلاحه، أو
بماله، أو بنفوذه كأن يحتج ويستنكر تلك الجرائم بصفة علنية للدول التي ترتكبها
ولجمعية الأمم وللدول الأخرى؟ وأية وسيلة ترونها كفيلة بتناصر المسلمين على
تحرير أنفسهم، وبلادهم من قيود الاستعمار، واشتراك الأحرار مع المجاهدين
لفكها واشتراك المستعبدين بالتطوع بأنفسهم وأموالهم مع المجاهدين أو بإيقاد نار
الثورات في بلادهم إلى أن يهلكوا أو يتحرروا من هذا الاستعباد الجهنمي.
نلتمس الجواب على هاتين النقطتين على أن تأذنوا بنشره وإذاعته أدامكم الله
منارًا للإسلام وأهله، ونفع المسلمين، وبلادهم بمواهبكم وعلومكم على الدوام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أيوب صبري
***
الجواب على بدعة المحمل وإقرار العلماء لها
قد بينا في إحدى مقالاتنا التي ننشرها بجريدة الأهرام الوجه الشرعي في عد
المحمل المصري المعروف بدعة دينية، وإنه لم يكن كذلك منذ أحدثته شجرة الدر
ملكة مصر بل أصله على ما قال بعضهم: إنها اتخذت هودجًا حجت فيه حين حجت
وحملت معها من الأموال للحرمين الشريفين ما حملت، ثم صارت ترسل ذلك الهودج
في كل سنة مع ركب الحج المصري الذي يحمل الأموال إلى الحرمين.
وهذا يعد من العادات المباحة التي لا علاقة لها بالدين فيعد المحدث منها بدعة
دينية محرمة.
ثم حدث من زمن لا نعرف ابتداءه أن هذا الهودج أو الهيكل الخشبي المكسو
بالديباج، المضون بالذهب صار يطاف به في الكعبة كما يطوف الناس، وينقل في
مشاعر النسك كعرفات ومنى كأنه من الحجاج، ويوضع في الحرم فيتبرك به
الجهال، ثم يدخل المسجد النبوي مع الزائرين ويوضع في حجرة هنالك كما يوضع
في المسجد الحرام قبله أيامًا، ثم صار الناس في مصر نفسها يتبركون به تبركًا
دينيًّا يرجون نفعه حتى في ذراريهم، وصار يعد من شعائر الإسلام فتحتفل به
الحكومة احتفالاً دينيًّا، ويقبل ملوكها وأمراؤها وكبار علمائها مقود جمله - فبهذه
الأشياء صار يعد من البدع الدينية؛ لأن كل هذه الأمور منكرات شرعية تشبه
المشروعة - وما هي بمشروعة - وهذا تحقيق معنى البدعة كما حققه الإمام
الشاطبي في الاعتصام الذي طبع في مصر من قبل وزارة المعارف.
وأما إقرار العلماء له فكان مجاراة للحكومة في عملها قبل أن يتحقق فيه معنى
البدعة واستمروا على ذلك بعده، وليس هذا بالمنكر الوحيد الذي أتته الحكومات
المستبدة في بلاد الإسلام وسكت عليه العلماء الضعفاء، بل هنالك بدع ومنكرات
كثيرة ومعاص من الكبائر المعلومة من الدين بالضرورة.
ومن تلك المنكرات التي صارت تعد بعدم مقاومة العلماء للحكومات من
الإسلام أو شعائره بناء المساجد على قبور الصالحين وغيرهم وتشريفها
وتجصيصها ووضع الستور وإضاءة السرج والشموع عليها وتتخذ أعيادًا ومواسم
يسمونها الموالد. وكل هذه من الأمور المحرمة التي كانت ذريعة للشرك أو الفسق
وهم يقرؤون في صحاح الأحاديث لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في
مرض موته من يفعلها.
على أن كثيرًا من كبار العلماء أنكروا أكثر هذه البدع والمعاصي فلم تبال
الحكومات بإنكارهم؛ ولذلك يعذر بعض العلماء المتأخرين أنفسهم بسكوتهم على
منكرات الحكومات بأن الإنكار لا يفيد على كونهم لا يسلمون من ضرر يصيبهم
بسببه، ونحن لا نزال منذ أنشأنا المنار ننعي عليهم مخالفتهم لعلماء السلف بهذا
السكوت على المنكرات، والمعاصي حتى انتدب أستاذنا الشيخ المرحوم حسين
الجسر للرد علينا في جريدة طرابلس منذ تسع وعشرين سنة واضطرنا إلى الرد
عليه في المجلد الثاني من المنار.
هذا وإن سكوت العلماء مهما يكن من سببه لا يعد حجة شرعية على حكم
شرعي باتفاق علماء الأصول والفقهاء. وقد فصل الإمام محمد بن إسماعيل الوزير
هذه المسألة في رسالته (تطهير الاعتقاد) وذكر بعض المنكرات والمعاصي الفاشية
في المساجد المبتدعة على القبور التي منها ما هو شرك بالله تعالى، وكذا في مكة
أم القرى أيضًا ولا ينكرها أحد، وذكر منها المقامات الأربعة للمذاهب الأربعة التي
أحدثها (بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال) (كما قال) في حرم الله تعالى
(ففرقت بها عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين) إلخ وذكر سكوت
علماء الآفاق عليها، ثم قال: (أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له
إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين) .
ثم ذكر في موضع آخر احتجاج بعضهم على جواز بناء المساجد على القبور
بالقبة المبنية على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ولله الحمد لم يتخذ
مسجدًا - وأجاب عنه بأن هذه القبة ليست من بنائه - صلى الله عليه وسلم - ولا
بناء أصحابه ولا التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هي من أبنية قلاوون
الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ، ثم قال: (فهذه أمور دولية
لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول) .
وإننا بعد كتابة ما ذكر وجمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه قد اطلعنا على
كتاب في البدع لبعض علماء الأزهر المدرسين فيه لقسم التخصص العالي صرح
فيه بالإنكار على العلماء للسكوت على المنكرات، والبدع الفاشية بعد أن عد كثيرًا
ًمنها كابن الوزير.
***
الجواب
عن مسألة تعاون المسلمين على دول الاستعمار
لا شك أن هذا التعاون واجب شرعًا، ولكن تفرق المسلمين وسوء حالهم
المانعة من ذلك معلومة للسائل ولغيره كما يعلم اتفاق دول الاستعمار وتعاونهم المنظم
على سلب بلادنا واستعباد شعوبنا فلو أن ابن السعود أراد مساعدة السوريين بالحرب
على كونهم يقولون إنهم يحاربون حربًا مدنية وطنية لا دينية لحاربته إنكلترا
وإيطاليا مع فرنسا، ولساعدهن على ذلك ملك العراق، وأمير شرق الأردن وشاه
إيران قطعًا، وربما شايعهم آخرون من الشعوب الإسلامية، وقد سمعنا الملك عبد
العزيز يقول غير مرة بمكة أمام الناس: (إن عداوة الإفرنج لنا أمر معقول لا
يعقل غيره وإننا والله لا نخاف من عداوتهم كما نخاف من عداوتنا نحن المسلمين
بعضنا لبعض، فنحن على شدتنا في مقاومة الاستعمار قولاً وعملاً لا نشير عليه بما
ذكره السائل؛ لأننا نعلم علمًا قطعيًّا، أنه يقضي بذلك على دولة في أول نشأتها وهو
إلى الآن لم يسلم من شر المسلمين أنفسهم.
وأما ما دون ذلك من مساعدة فلا يصح للسائل ولا لغيره أن يجزم بنفيها ولا
أن يسأل عنها، كما أنه لا يصح له أن يجعل ما يجب أن يعمله المسلمون للدفاع
عن أنفسهم من المباحث التي تنشر في الجرائد، وليس من المصلحة أن نقول أكثر
من هذا في هذه المسألة الكبرى.
ــــــــــــــــ(27/494)
الكاتب: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
__________
الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق
من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ
عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
رحمهم الله تعالى
ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها
أكثر من سائر علماء المذاهب الأخرى
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب، سلام
على عباد الله الصالحين. وبعد فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها وما قصدته من
الاعتذار، ولكن أسأت في قولك، إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق
واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك من أهل البقيع يجادلونك
وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت
تعرف أنهم يذكرون هذا غالبًا على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة،
وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدي،
ومن الغَي عن سبيل الرشد والعمى، وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من
أشباهكم المارقين بالإحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرَّا من في تلك البلاد
من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الإحساء يجالسون ابن
فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده
الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها، قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو
كافر بالله لم يكفر بالطاغوت [1] ومن جالسه فهو مثله، ورتبوا على هاتين
المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى
تركوا رد السلام، فرفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وهددتهم، وأغلظت لهم القول،
فزعموا أولاً أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم،
فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة
الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير
فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسوله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة
وبلوغها المعتبر، كتفكير مَنْ عَبَدَ الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادًا يستحقه
على خلقه من العبادات والألهية، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل
طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها
وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك الأكبر، وقد أفرد ابن حجر [2]
هذه المسألة بكتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) .
وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم وزعما أن الحق ظهر لهما ثم لحقا
بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك
المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، ونعوذ بالله من
الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور [3] .
وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في
الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من
مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم
من الجفاة، ولا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله
وأوتي الحكمة وفصل الخطاب، والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه،
ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها،
وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع
الخطاب وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد
الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم القرآن.
قال ابن القيم في كافيته رحمه الله تعالى:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان
وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب
الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من
الصحابة، فإنهم أنكروا عليهم تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في
الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك وهم
في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا حكمت الرجال في دين الله،
وواليت معاوية وعمرًا وتوليتهما وقد قال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام:
57) وضربت المدة بينكم وبينهم وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت
براءة، وطال بينهما النزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين وقتلوا من
ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون
النهروان بعد الإعذار والإنذار، والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي
رواه مسلم وغيره من أهل السنن فوجده علي فسر بذلك وسجد لله شكرًا على توفيقه،
وقال: لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم-
لنكلوا عن العمل، هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصومًا.
***
فصل
ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون،
والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق
وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين،
والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان
النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) الآية وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43- 44) ، وكذلك اسم
المؤمن والبر والتقي يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر
والنهي، ألا ترى أن الزاني والسارق والشارب يدخلون في عموم قوله تعالى {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} (المائدة: 6) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} (الأحزاب: 69) الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) وقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد: 19) الآية وهذا هو
الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر.
وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر
حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو
مؤمن) وقوله: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) [4] لكن تقي الإيمان هذا لا يدل
على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا
هو الذي فهمه السلف وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من
أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام.
وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع في
حق المعين كحب الله ورسوله والجهاد في سبيله ورجحان الحسنات ومغفرة الله
ورحمته وشفاعة المؤمنين والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة، وكذلك لا يشهدون
لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة فهم
يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد، وكان عبد الله (حمار) [5] يشرب
الخمر فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلعنه رجل وقال: ما أكثر
ما يؤتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم - (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) [6] مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها
وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه [7] .
وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله
ورسوله وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدًا عندهم يحمي بها أهله وماله بمكة فنزل
الوحي يخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها فأرسل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عليًّا والزبير في طلب الظعينة، وأخبر أنهما يجدانها في
روضة خاخ فكان ذلك، فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها فأتي به رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: ما هذا؟ فقال: يا
رسول الله إني لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت
أن تكون لي عند القوم يد أحمى بها أهلي ومالي، فقال - صلى الله عليه وسلم -
(صدقكم خلوا سبيله) واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا
المنافق، فقال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1) الآيات فدخل حاطب في
المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص
السبب الدال على إراداته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع
موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن
قوله: (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله
غير شاك ولا مرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل (خلوا سبيله)
لا يقال قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر (وما يدريك لعل الله اطلع على
أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول لو
كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله
تعالى {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) وقوله تعالى:
{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) والكفر محبط لحسنات
والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا.
وأما قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) وقوله: {لاَ تَجِدُ
قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المجادلة: 22)
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 57)
فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة
ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من
الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره، وإنما أشكل الأمر، وخفيت
المعاني والتبست الأحكام على خلوف من العجم والمولدين الذين لا دراية لهم بهذا
الشأن، ولا ممارسة لهم بمعاني السنة والقرآن، ولهذا قال الحسن رضي الله عنه:
من العجمة أتوا. وقال عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد لما ناظره في مسألة خلود
أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هذا وعد، والله لا يخلف وعده -
يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود -
فقال له ابن العلاء: من العجمة أتيت، هذا عيد لا عد، وأنشد قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقال بعض الأئمة فيما نقل البخاري أو غيره: إن من سعادة الأعجمي
والأعرابي إذا أسلما أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا وييسرا
لصاحب هوى وبدعة.
ونضرب لك مثلاً هو أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله أحدهما
خارجي والآخر مرجئ، وقال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} (المائدة: 27) دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها إذ لا قائل إنهم من
عباد الله المتقين، قال المرجئ: هي في الشرك فكل من اتقى الشرك يقبل عمله
لقوله تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) قال الخارجي:
قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (الجن:
23) يرد ما ذهبت إليه، قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله واتخاذ الأنداد
معه لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:
48) قال الخارجي: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} (السجدة: 18) دليل
على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها، قال له المرجئ في آخر الآية:
{وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} (السجدة: 20) دليل على أن
المراد من كذب الله ورسوله والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان.
ومن وقف على هذه المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية
المقصودة وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضى، ولا يحكم
بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله؛
لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما أنزل إليهم، وأما أهل البدع والأهواء
فيستغنون عنها بآرائهم وأهوائهم وأذواقهم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) قوله: لم يكفر بالطاغوت، إما تعليل لكفره بالله على طريقة الاستئناف البياني، فالكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان بالله وإما خبر بعد خبر.
(2) هو العلامة أحمد بن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي.
(3) الحور بعد الكور ومعناه النقصان بعد الزيادة كالعصيان بعد الطاعة والجهل بعد الحلم.
(4) الحديث الأول رواه الشيخان وغيرهما والثاني رواه البخاري بلفظ (والله لا يؤمن والله لا يؤمن - قيل من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه) ورواه أحمد أيضًا ولا أذكر لفظه.
(5) صحابي معروف وحمار لقب له.
(6) الحديث من أفراد البخاري ولفظه عند جمهور رواته (تلعنوه) فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله) أي أن الذي علمته أنه يحب الله ورسوله وفي إعراب الجملة أقوال وفي رواية (ما علمت إلا أنه يحب) إلخ وما ذكره المصنف، رواية الواقدي.
(7) رواه أبو داود وكذا الترمذي وابن ماجه بزيادة فيه.(27/505)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
حكم المولاة بين صلاتي الجمع:
والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت
الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة،
وهو شبيه بقول من حمل الجمع بالفعل؛ وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها،
ويحرم بالثانية في أول وقتها، كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب
أبي حنيفة وغيرهم، ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ
فيها إذا بقى من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك أن
لا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في
الصلاة ثم بدا له أن يطيلها، أو أن ينتظر أحدًا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع
ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب
الأشياء علمًا وعملاً وهو يشغل قلب المصلي بغير مقصود الصلاة، والجمع شُرع
رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد، ومع ما
ينقض مقصود الصلاة؟
فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر عجل العصر وأخر المغرب
وعجل العشاء، يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له
ولأمته، ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص، وكيف يعلم
ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل
التحديد بالظل، والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك
بالآلآت الحسابية؛ والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق، فيحتاج أن ينظر
إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض؟ والمصلي في الصلاة
منهي عن مثل ذلك.
وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط ونحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر
عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في
آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل
خروج الوقت، ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت
وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات
لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل، وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران
الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك
قالوا: لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل، وكلا القولين
ضعيف.
والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا، ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا،
والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة،
وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما
بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في
أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأن أصل
هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة
والمصلحة، ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة.
وكذلك جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف
مذهب أحمد، هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين.
وقيل: إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير في الجمع
أفضل مطلقًا؛ لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا
يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال، وقبل الفجر أعادها،
وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء
بالسنة المتواترة، واتفاق المسلمين وما علمت أحدًا من العلماء سوغ له هناك أن
يصلي العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب، هل له أن يصليها في
طريقه على قولين.
وأما التأخير فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم، ومن نام عن صلاة أو
نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها، وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها
إلا ذلك فلم يصلها إلا في وقتها.
وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمدًا؛
فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزًا عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا
يمكنه معرفة الوقت؛ فهذا في أجزائه قولان للعلماء، وكذلك في صيامه إذا صام،
حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري، ثم تبين له أنه قبل
الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء، وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطًا فهذا
لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب
أحمد وغيره.
والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له
أن يفعلها قبل وقتها بحال فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك
بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب
جمهور العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، ومن أطلق من
أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقًا فقد أخطأ على مذهبه.
***
الأحاديث في الجمع تقديمًا وتأخيرًا:
وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأثورة من حديث
ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومعاذ وأبي هريرة، وجابر، وقد تأول هذه
الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول
وقتها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كأن يكون في وقت الثانية، وفي
وقت الأولى وجاء الجمع مطلقًا، والمفسر يبين المطلق، ففي الصحيحين من حديث
سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء.
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء، رواه مسلم، وروى مسلم من
حديث يحيى بن سعيد، حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جدَّ به
السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويذكر أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء.
***
حديث ابن عمر في جمع التأخير:
قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله،
وذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين الصلاتين، ولم يذكر كيف
كان جمعه؛ هذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر لا فيما رواه عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - فذكر المثبتون ما رواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا حماد بن
مسعدة عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع
بين المغرب والعشاء فسألت نافعًا فقال: بعدما غاب الشفق بساعة، وقال: إني
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك إذا جدّ به السير، ورواه
سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع، أن ابن عمر
استصرخ على صفية بنت أبي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة، فأقبل فسار حتى
غربت الشمس وبدت النجوم، فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار
ابن عمر، فقال له سالم: الصلاة فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى إذا غاب
الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثًا.
وروى البيهقي هذين باسناد صحيح مشهور، قال وراه معمر عن أيوب
وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث فأخر المغرب والعشاء، قال:
وكان سول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جدّ به السير أو جزبه أمر (قال)
ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع فذكر أنه سار قريبًا
من ربع الليل ثم نزل فصلى، ورواه من طريق الدارقطني، حدثنا ابن صاعد
والنيسابوري حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني عمر بن محمد بن يزيد،
حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر، أنه أقبل من مكة وجاءه خبر
صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير، فلما غابت الشمس، قال له إنسان من
أصحابه: الصلاة. فسكت، ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال الذي
قال له الصلاة: إنه ليعلم من هذا علمًا لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعدما غاب الشفق
بساعة نزل، فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشىء من الصلاة في السفر فأقام فصلى
المغرب والعشاء جميعًا جمع بينهما ثم قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان
يصلي على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة [1] في السفر) ويخبر أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع ذلك.
قال البيهقي: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة،
وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، وعمر بن محمد بن زيد، على أن جمع
عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيوبة الشفق، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ
أحاديث نافع، وذكر أن جابر رواه عن نافع ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق
نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل عليها فقال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به الأمر صنع هكذا، وقال:
وبمعناه رواه فضل بن غزوان وعطاف بن خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من
أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله، وأسلم مولى عمر وعبد
الله بن دينار، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب، عن ابن عمر نحو روايتهم،
أما حديث سالم فرواه عاصم بن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم، وأما
حديث أسلم فأسنده من حديث ابن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن
أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع السير
حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما، وقال: إني
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جدّ به السير أخَّر المغرب وجمع
بينهما، رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم.
وأسند أيضًا من كتاب يعقوب بن سفيان أنا أبو صالح وابن بكير قالا: حدثنا
الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من
صالحي المسلمين صدقًا ودينًا، قال: غابت الشمس ونحن مع عبد الله ابن عمر
فسرنا، فلما رأيناه قد أمسى قلنا له: الصلاة فسكت حتى غاب الشفق، وتصوبت
النجوم، فنزل فصلى الصلاتين جميعًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إذا جدّ به السير صلى صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل.
وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن، فأسند عن طريق الشافعي وأبي نعيم
عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن إسماعيل بن الرحمن بن ذؤيب، قال: صحبت
ابن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له: قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض
الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا، فقال: هكذا
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل.
***
حديث أنس في جمع التقديم
وأما حديث أنس ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى
وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى
الظهر ثم ركب.
هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه، ورواه مسلم من حديث ابن وهب، حدثني
جابر بن إسماعيل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أنه كان إذا عجل به السير [2] يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع
بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق.
ورواه مسلم من حديث شبابة حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين
الظهر والعصر في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع
بينهما، وروراه من حديث الإسماعيلي [3] أنا الفريابي، أنا إسحاق بن راهويه،
أنا شبابة بن سوار عن ليث عن عقيل عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إذا كان في السفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل
قلت: هكذا في هذه الرواية، وهي مخالفة للمشهور من حديث أنس.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المراد بالسبحة النافلة.
(2) في نسخ مسلم عجل عليه السفر.
(3) ظاهر هذا أن مسلمًا روى حديث أنس هذا باللفظ الآتي عن الإسماعيلي، وليس كذلك، والصواب أن الإسماعيلي رواه عن جعفر الفريابي عن إسحاق إلخ.(27/513)
الكاتب: محمد أحمد الغمراوي
__________
العلم والدين
(2)
وبعد: فما هي عناصر الخلاف وعوامل الخصومة التي توجب أن يكون
الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى. وأن ليس إلى التقائهما من سبيل؟
ساق الدكتور في الجواب على هذا السؤال ثلاثة أمور:
(الأمر الأول) أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس
بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما، فالعلم لم يصل بعد
إلى إثبات وجود الله، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، ولا سبيل إلى أن
يتفقا إلا يوم يعترف العلم بوجود الله ونبوة الأنبياء، أو يوم ينزل الدين عن وجود
الله ونبوة الأنبياء، هذا أمر.
(الأمر الثاني) أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة
الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده ولا يستطيع
أن ينصرف عنها، وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص الكتب السماوية، وما
وصل إليه العلم من النظريات والقوانين.
(الأمر الثالث) وهو في رأي الدكتور ثالثة الأثافي أن العلم طمع في أن
يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا
تناقضه؛ وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث، وقد فعل،
وأن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة واللباس من حيث إنها كلها ظواهر
اجتماعية تتبع الجماعة في تصورها وتتأثر بالبيئة والإقليم والوضع الجغرافي، فهو
لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض.
هذه هي ثلاثة الأدلة التي أرسلها الدكتور في سياق التدليل على متناقضاته.
وإني أسأل الدكتور ما حد الخصومة التي يزعمها قائمة بين العلم والدين، أليست
الخصومة هي الجدل والغلب حيث يدفع أحد الخصمين ما يثبته الآخر ويثبت ثانيهما
ما ينفيه صاحبه؟
فإذا كان هذا معنى الخصومة، فهل نفى العلم ما أثبته الدين من وجود الله
ونبوة الأنبياء؟ إن في كلام الدكتور جواب هذا السؤال الأخير، فهو يصرح بأن
العلم لا ينفي وجود الله ونبوة الأنبياء، ويقرر في وضوح أن العلم ينصرف عنهما
انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص.. . فهو إذن مسلم بأن
العلم لا يستطيع أن يتناول بالبحث والتمحيص هذين الأمرين لعجز آلاته عن بحثهما
وتمحيصهما. وهو إذًا مسلِّم بأن العلم منصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن
يتناوله بالبحث والتمحيص. وإذًا فلا خصومة بين العلم والدين في وجود الله ونبوة
الأنبياء، إذ كيف تقع الخصومة بين طرفين في أمر يعترف أحدهما بأنه عاجز عن
مباشرة أسباب الخصومة فيه، وكيف تتصور الخصومة ممن هو منصرف انصرافًا
تامًّا عن تناول ما هو مثار الخصومة؟
فالحق أنه لا خصومة بين الدين والعلم على وجود الله ونبوة الأنبياء، وأن
ميدان الدين أوسع دائرة من ميدان العلم الحسي، وأنه إذا كان العلم الحسي لم
يستطع أن يجري مع الدين في ميدانه الفسيح فإن العقل لم ينقطع عن الجري مع
الدين في هذا الميدان ولم تنضب موارده الخصبة [1] ولم يضن على الدين بالمساعدة
والتأييد فالأدلة العقلية على وجود الله وعلى نبوة الأنبياء متظاهرة متضافرة،
وليست الصحف اليومية بميدان صالح لنشرها وبسطها [2] ، وهي في كتب العقائد
مبسوطة مدعمة ومن أحسن تلك الكتب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده، فليرجع القارئ إليها إذا شاء.
بعد هذا نعرض للأمر الثاني الذي ساقه الدكتور للتدليل على رأيه في وجود
الخصومة بين العلم والدين، وهو أن الكتب السماوية عرضت لمسائل أخرى
يعرض لها العلم بحكم وجوده، ولا يستطيع أن ينصرف عنها، قال الدكتور: وهنا
ظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من
النظريات والقوانين.
على أن الدكتور في هذا الموقف الخطير لم يذكر لنا ولو قانونًا واحدًا من تلك
القوانين العلمية التي تناقض نصوص القرآن تناقضاً صريحاً في زعمه، واكتفى
بالإشارة إلى أن في القرآن ذكراً للخلق وصورته ومدته، وفي علم الجيولوجيا
تعرض لهذا، وبين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلاف قوي عنيف، هذا
خلاف، وخلاف آخر بين الدين والعلم في نشأة الإنسان.
زعم الدكتور أنه ليس بأقل من الخلاف في خلق السموات والأرض، وأن
مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، ولن
يتفق علم الأمبريولوجيا مع ما جاء في القرآن من تكوّن الجنين، ومثل ذلك ما بين
نصوص القرآن وعلم الفلك من خلاف، هذه هي جملة الأمور التي بني الدكتور
عليها حكمه بأن الدين والعلم ليسا متفقين، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل
أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها.
ولن نرى موقفًا أدنى إلى السخف، وأدعى إلى السخرية، والاستهزاء
بصاحبه من هذا الموقف بفقه الدكتور من كتاب الله، ومن علوم لا يحسن القول
فيها، ولا يدري الفرق بين نظرياتها وقوانينها، فيريك كيف يذري الجهل بصاحبه
وكيف تجني الحماقة على جانيها، ويعطيك صورة مضحكة لأولئك الثرثارين
المتفيهقين الذين يقع نظرك عليهم كثيراً في النوادي ومجالس السمر حتى يتشدقون
بالحديث في مختلف الشئون العلمية والسياسية والاقتصادية وهم لا يدرون شيئًا عما
يتحدثون فيه، ولا يعرفون إنْ كانت السياسة طعامًا يؤكل، أو ثيابًا تلبس أو ألعوبة
يتسلى بها الصبية؛ فلو أن الدكتور كان من علم ما عرض للكلام فيه بالمكان الذي
يدعيه لنفسه وبالمنزلة التي يوهم البسطاء والمخدوعين أنه لا يشق له فيها غبار؛
لما جهل الفرق بين النظريات والقوانين في العلوم ولا سمح لنفسه أن يتحدث عن
ظهور تناقض صريح بين نصوص القرآن وما وصل إليه العلم من النظريات، إذ
ما الذي يضير القرآن إذا كان مخالفًا لنظريات لم يبرهن عليها في العلم، ولم تصر
بعد من اليقينيات المسلمات فيه؟ ولو أن الدكتور كان يحسن من هذه العلوم شيئًا
كما يوهم لما اكتفى بأن يرسل الكلام إرسالاً يقف فيه عند حد القول بأن بين
نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلافًا قويًّا عنيفًا، وأن مذهب النشوء
والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، إلى غير ذلك من
أقوال مرسلة ودعاوى عريضة، ولذكر لنا ولو بحثًا من أبحاثه الفلكية المخالفة
لنصوص القرآن.
بيد أننا في هذا الموقف نطمئن الدكتور إشفاقًا عليه، ونقول له: هون عليك
فإن الأمر أهون مما تظن فلن ينزل الدين عن شخصيته للعلم، ولن ينازع العلم الدين
في شيء من الأصول الأساسية التي أقرها، وسيظل العلم والدين صديقين وفيين
وخليلين متناصرين على ترقية الإنسانية وتوفير الخير لها حتى تقوم الساعة.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
53) .
ولأجل أن ننزع عن الدكتور ما أحاط به من اللبس ونكشف له عما اشتبه
عليه من هذه المسائل التي ذكرها نقول له: إن القرآن نزل لهداية البشر لما فيه
سعادتهم في الدنيا والآخرة. وهذه الغاية تتحقق بثلاثة أمور:
أولها: تصحيح عقائد الناس فيما يختص بذات الإله وما يجب لها من صفات
الكمال.
وثانيها: تهذيب الأخلاق بالمواعظ الحسنة، وتكميل النفوس وترغيبها في
العبادات والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة التي أجمعت العقول على حسنها.
وثالثها: إصلاح حال الجماعة بتجديد علائق بعضهم ببعض ووصف العلاج
الناجح الذي يشفي الجماعة من أمراضها المستعصية، وهو في كل ذلك لم يعرض إلا
قليلاً لجزيئات الأمور؛ لأن الجزيئات كثيرة التغير سريعة التحول، فقرر القواعد
العامة التي تتمارى العقول فيها والتي ترمي إلى إصلاح الأرواح والنفوس من
غير إخلال بمصالح الجسد، واكتفى من الجزيئات بذكر ما فيه نفع ظاهر أو ما
فيه ضرر بَيِّن.
فالقرآن لم ينزل لتقرير قواعد العلوم وتفصيل مسائل الفنون إذ لو كان كذلك
لكان كسائر الكتب العلمية التي لا ينتفع بها إلا قليل من الناس، وإذًا يفوت الغرض
المقصود منه - أعني هداية البشر - ولو نزل بتفصيل قواعد العلوم وتفصيل
مسائلها لاستنفد عمر الإنسانية في إدراك قواعده والتصديق بمسائله.
فهو إذاً عرض لذكر شيء من الآيات الكونية في سياق التدليل بها على ما
يقرره من القضايا فإنما يتناوله بالقدر الذي يشترك في التسليم به كافة الناس عامتهم
وعلماؤهم ويلفت الأذهان إلى ما في تلك الآيات من أسرار تدق على عقول الدهماء،
ولا تجل عن أفهام العلماء، في أسلوب يحفز العقول إلى المعرفة ويستثير ما كَمُن
في النفوس من الغرائز والقوى إلى التبسط في العلم، واستجلاء آيات الله في
الكائنات، مجزلاً للعلماء حظهم من الثناء والتكريم.
فتراه حين يدلل على وحدانية الله بما في خلق السموات والأرض واختلاف
الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من الآيات
الكونية تراه حين يدلل على الوحدانية بما في هذه الكائنات وغيرها من سنن ثابتة
محكمة مطردة تدل على وحدانية صانعها وعلمه وقدرته يعقب ذكرها ببيان أن في
ذلك آيات لقَوْمٍ يَعْقِلُون، وأن في ذلك آيات لقوم يعلمون، وأن في ذلك آيات لقوم
يتفكرون، ليوجه العقول إلى معرفة ما فيها من آيات، ويسوق النفوس والهمم إلى
استجلاء ما في الكائنات من أسرار.
وأما إذا عرض لذكر السموات وما فيها من النجوم والكواكب، وللأرض وما
فيها من المخلوقات والعجائب؟ فلا يعرض لبيان حقائق الكواكب وأشكالها، ولا
لتفصيل مقادير أبعادها ونظام سيرها في أفلاكها، ورجوعها واستقامتها وميلها،
واختلاف مناظرها، إلى غير ذلك من الأبحاث الفلكية، كذلك لا يعرض عند ذكر
الأرض لوصف شكلها وإثبات حركتها أو سكونها [3] ، وما يترتب على ذلك من
اختلاف الليل والنهار، والفصول الأربعة، ولا يذكر أسباب وجود الجبال واختلاف
طبقاتها وألوانها، ولا أسباب وجود الوديان والزلازل وغير ذلك من الظواهر
الطبيعية، وإنما يكتفي بذكر تلك الظواهر وما للناس فيها من نفع أو غيره لافتًا
الأذهان إلى ما فيها من سنن وعبر - فهو كما قدمنا يتناولها بالمقدار الذي يشترك سائر
الناس في العلم به لينال كل حظه من الهداية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 27-28) ومن ذا يماري أن الماء منه
حياة كل شيء نامٍ، وأن الله يخرج به من الأرض ثمرات مختلفًا ألوانها؟ وأن في
اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام آيات وأسرارًا عظيمة؟ وإن كان لا
يقف على كنه هذه الآيات والأسرار إلا العلماء.
وكذلك إذا لفت الناس إلى ما في خلق الإنسان من إبداع الصنع وإحسان الخلق
وذكر الأطوار التي تكون للجنين في الرحم وأنه يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم
يصير مضغة فتخلق المضغة عظامًا، فتكتسي العظام باللحم؛ فإنما يذكر الظواهر
التي يشترك سائر الناس في إدراكها فإذا أثبت علم الأمبريولوجيا أن النطفة تشتمل
على حيوان إنساني، وأنه يتصل ببويضات في الرحم يلقحها فيتكون من مجموعها
إنسان يتطور في الرحم في أطوار شتى، وإذا أثبت هذا العلم بواسطة
الميكروسكوب أن تلك النطفة التي يراها الناس علقة ومضغة هي في الواقع إنسان
تام الأجزاء، ولكنه غير تام التكوين، فهل ينفي ذلك أن النطفة صارت علقة وأن
العلقة صارت مضغة؟ وهل يطعن ذلك في القرآن أو ينقضه؟ كلا، وكيف
يكون العلم ناقضًا للقرآن أو مكذبًا له، وكيف يعادي القرآن العلم والقرآن يحيل
الناظر على العلم ويزكيه ويصدقه وينبئ بأن في الكائنات أسرارًا وآيات قد فصلها
لقوم يعلمون؟ وهل يزكي القرآن العلم والعلماء هذه التزكية ويأمرنا بسؤال أهل
الذكر في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ثم هو
مع هذا يعادي العلم ويرد حكمه؟ لا أظن عاقلاً يسلم بهذا.
بقي من الأمثلة التي ساقها الدكتور مسألة خلق السموات والأرض وتحديد مدة
الخلق وما بين مذهب النشوء والارتقاء وبين القرآن من خلاف؛ فأما مذهب النشوء
والارتقاء، فلا يزال العلماء الباحثون فيه يرونه نظريًّا غير مدلل ولا مبرهن،
فليس من بأس منه على القرآن على فرض أن في نظرياته ما يخالف القرآن.
وكذلك مسألة خلق السموات والأرض لم يأت القرآن فيها بتفصيل ينفيه العلم.
فجملة ما يفهم من ظاهر الآيات أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقتا [4]
وأن السماء كانت كالدخان [5] ، وأن الأرض تم تكوينها قبل أن تخلع السماء
صورتها الدخانية المعتمة، وتلبس هذه الصورة ذات اللون البهيج، وظاهر القرآن
أيضًا أن السموات سبع طباق، وأنها ذلك الشيء البديع الصنع، المنسق الأجزاء
المحكم البناء، المحيط بالأفق الذي يسحر العقول {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً
مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك:
3) .
هذه هي السموات، لم يعرض القرآن لبيان حقيقتها ولم يكشف عن ماهيتها
ولا عن حقيقة ذلك الشيء ذي اللون الأزرق البديع؛ فإذا أثبت العلم أن الأرض
جزء من الشمس فليس في القرآن ما ينفي ذلك، وقد يكون فيه ما يثبته؛ وإذا أثبت
العلم أن هذا الشيء الأزرق الذي يعلو رؤوسنا ويسمى سماء هو فضاء تسبح فيه
الكواكب، وأن من الكواكب والنجوم ما لا يصل إلينا نوره إلا بعد ألوف أو ملايين
من السنين؛ فليس هذا بالذي يضير القرآن في شيء، أليس هذا الفضاء في رأي
العين متسق الأجزاء كالبناء متناسق التركيب ما ترى فيه من تفاوت؟ وكونه سبع
طبقات لا يختلف في شيء مع العلم، أليس العلم قرر أن هذا الفضاء مَسْبَح للكواكب
وأن هذه الكواكب متفاوتة البعد في طبقات متمايزة؟ وماذا يمنع من أن هذا
الفضاء سبع طبقات متمايزة لكل طبقة منها خصائص ليست للطبقة الأخرى؟
وأما تحديد مدة الخلق بستة أيام وما فيه من زعم منافاته للعلم فقد أجاب القرآن
الكريم عنه فدل على أنه {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) فلئن كان
العلم يثبت أن الدنيا قديمة العمر، وأنها مرت في أطوار مختلفة كل طور منها
استنفذ آلافًا من السنين؛ فإن القرآن يصرح بأن من الأيام ما يقدر عند الله بألف
سنة، بل منها ما يقدر بخمسين ألف سنة قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: 4) ثم إذا لاحظنا أن لغة العرب تستعمل السبعين والألف أمثالاً
لإفادة الكثرة من غير قصد إلى التحديد بالعدد المعين، لم يكن ثمَّ مانع من أن يراد
بهذا العدد الكثرة التي تتناول ملايين السنين [6] .
هذا تأويل بعض ما أشكل على الدكتور من آي القرآن الكريم لم نخرج فيه
عما يفهم من ظاهر اللغة وظاهر القرآن، ولم تحتج في بيانه إلى ارتكاب تجوّز
نلتمس له القرائن العقلية وإن كان هذا مما أذنت به اللغة ونطق به القرآن في كثير
من الآيات.
ولئن فرض أن السلف أو غيرهم لم يفهموا من بعض آي القرآن ما يفهمه من
بعدهم، ولئن أَوّل العلماء آية كريمة، فكان في بعض تأويله غير موفق؛ فليس
ذلك بالذي يضر القرآن في شيء، فإن القرآن لم ينزل للسلف وحدهم، ولقد كان
القرآن ولا يزال حجة قائمة على المدارك والإفهام.
وبعد فماذا بقي في مقال الدكتور من شبهة يحتاج القارئ إلى أن نتحدث معه
في شأنها؟ أستغفر الله لقد أُنسيت.
بقي الأمر الثالث الذي حدث عنه الدكتور بأنه أعظم من الأمرين الأولين
خطرًا، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا، بقيت ثالثة الأثافي، بقي أن العلم
يطمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وأنه يعده ظاهرة اجتماعية وأنه لم
ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض.
وليس بعجيب أن يطمع العلم في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ما دام
هذا العلم من نوع ما يدعيه دكتورنا لنفسه، ولكن العجيب أن نطمع من دكتورنا في
أن لا يختم بحثه بضرب من التناقض والسخف أفظع وأشنع مما بدأ به بحثه فيترك
القارئ يستمتع ببقية من عقله بعد أن يفرغ من قراءة هذيانه؛ فلقد رأيت مما
قدمناه من المقال أن الدكتور يقول بملء فِيهِ: (إن العلم ينصرف انصرافًا تامًّا عن
البحث في وجود الله ونبوة الأنبياء - وهما أساس الدين - إلى ما يمكن أن يتناوله
بالبحث والتمحيص ويقرر أن العلم لا يستطيع أن يتناولهما بالبحث
والتمحيص وأنت لا تراه الآن ينقض ما قرره أولاً ويعود فلا يكتفي بأن
يطمع العلم في إخضاع الدين لبحثه، بل يزعم أن له الحق في أن يضع الدين
نفسه موضع البحث، وقد فعل فهل رأيت كهذا التناقض والتخبط؟
على أننا نصرف النظر عن هذا التناقض أيضًا، ونسأله ماذا يقصد بالدين
الذي يعده ظاهرة اجتماعية؟ ويزعم أنه لم ينزل من السماء وإنما خرج من
الأرض؛ فإذا كان يريد من الدين مجموع العادات والأحوال التي يكون عليها الناس
في وقت من الأوقات، فله أن يسمى هذا ظاهرة اجتماعية لا ننازعه ولا ندفعه عن
ذلك؛ وإذا أراد به التعاليم المعينة التي أرسل بها نبي من الأنبياء إلى أمة من الأمم
فإننا لا نسلم له بذلك فإن المعروف من تاريخ الديانات أن الآتين بها لاقوا من
عنت أممهم وعدائهم ما لاقوا، وكم ذاق الأنبياء من أممهم صنوف العذاب والتنكيل،
وليس حديث موسى وهارون وما لقيا من عنت بني إسرائيل، وليس حديث محمد
- صلى الله عليه وسلم - وما لقي من أذى قومه بالذي يؤيد زعم الدكتور، ولو كان
الدين المنزل ظاهرة اجتماعية اقتضتها روح الأمم والجماعات، كالثورة الفرنسية
وغيرها من الثورات، لثارت الأمم له ولم تثر عليه، ولجأت به الجماعة لا الفرد،
ولكن إذا جاء به الفرد تلقته أمته بالتكريم والتبجيل لا بالتعذيب والتنكيل، وهذا غير
ما عرف من تاريخ الديانات.
أرجو أن يكون في هذا البيان شفاء لما عسى أن يكون قد علق بنفس القارئ
من شبه الدكتور طه ووساوسه وأن يكون هذا البحث قد انتهى بنا إلى النتائج
الصحيحة الآتية:
وهي أن الدين المنزل من عند الله لا سيما دين الإسلام ليس بينه وبين العلم
من خلاف ولا خصومة، وأن الإسلام والعلم سيبقيان صديقين وفيين وحميمين
متآلفين يتعاونان على خير الإنسانية حتى يصلا بها إلى منازل السعادة والكرامة
ويكون الناس بهما إخوانًا على سرر متقابلين.
كم أحب أن يفكر الدكتور طه في عاقبة طيشه وتهوره، وكم أود أن يتروى
في بحثه وفيما يكتب، وألا يطير وراء الشهوات، ولا ينخدع بما يقرأ له في كتب
الفرنجة من الأباطيل والترهات، وأن يتجنب الكلام في شئون الدين ويحتفظ لنفس
إن أراد أن يفتتن بآراء الملحدين، إنه إن فعل ذلك يعصم مصر من شر مستيطير،
ويرح نفسه من عناء كثير، فليس الإسلام كالمسيحية وليست مصر كفرنسا؛
فللشرق كرمه ووداعته، وللغرب تهوره وحدته.
ومصر وإن كانت كغيرها من بلاد الله جادة في حياتها العقلية فإنها بالغة
بفضل دينها وإيمانها وعزائم رجالها فوق ما بلغته الأمم الأخرى التي تقدمتها، فلئن
كانت الأمم الأخرى قد وجدت من دينها عقبة تمنعها من النهوض فاضطرت للثورة
عليه، فإن مصر ستجد من دينها وتأييده لها على ما تحاوله من الآمال الشريفة خير
عون، وأقوى ظهير تركن إليه، إن شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
***
ملحوظة
هذا البحث قدم إلى جريدة السياسة الأسبوعية في يوم الخميس 29 يوليو
رجاء نشره كما نشرت مقال الدكتور طه حسين فوعدت وسوفت ثم أخلفت.
(المنار)
هذا يدل على أن السياسة لا تنشر أمثال تلك المقالات الإلحادية من باب حرية النشر الواسعة بل هي لسان حال هؤلاء الملاحدة الإباحيين في هذا الباب، كما أنها لسان حال حزب الأحرار الدستوريين في السياسة، بل ظاهر إطلاقها أنها لسان حال هؤلاء يشمل هذا ولكننا نعرف منهم أفرادًا أولي دين وعسى أن يحملوها على ترك الدعاية الإلحادية أو ينفصلوا من حزبها محتجين.
__________
(1) المنار: المراد بالموارد الخصبة أنها سبب الخصب وإلا فالظاهر أن توصف بالمذبة.
(2) سبب هذا أن صاحب المقالة أرسلها أولاً إلى جريدة السياسة اليومية لأنها رد على ما نشر فيها كما سيأتي.
(3) المنار: لعل الكاتب يريد أنه لا يقرر ذلك تقريرًا فنيًّا، صريحًا قطعيًّا، وهذا لا ينفي أن فيه آيات بينة في ذلك على ما اتفق عليه علماء هذا العصر كقوله تعالى: [يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ] (الزمر: 5) ، وقوله: [يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً] (الأعراف: 54) ، وغير ذلك مما بيناه في المنار بالتفصيل.
(4) سورة الأنبياء.
(5) سورة فصلت.
(6) المنار: التحقيق أن اليوم في اللغة هو زمن مبهم، يفسره ما يقع فيه من حدث كأيام العرب في حروبها وغيرها ومنه [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس] (آل عمران: 140) ، قد فصلنا ذلك في التفسير.(27/521)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمةالأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب السادس
الجدري وهل هو من الأمراض المعدية
نبحث الآن في معالجة الأمراض المعدية، إن هذه الأمراض كلها ترجع إلى
أصل واحد مشترك، ولكن بما أن الجدري له أهمية خاصة بينها نخصص له بابًا
مستقلاً وفي أخواته في باب آخر.
لقد اعتدنا أن نخاف كثيرًا من الجدري لأوهام واهية نتوهمها فيه؛ فقد أخذنا
في الهند نعبده كإله، والحقيقة أنه يتسبب من فساد الدم لارتباك في المعدة، كبعض
الأمراض الأخرى؛ فالسم الذي يجتمع في البنية يخرج بصورة الجدري، وما دام
هذا الرأي صحيحًا فليس هنالك أدنى محل للخوف منه، لو كان الجدري مرضًا
معديًا بالحقيقة لتعدي بمجرد لمس المريض. ولكن الواقع ليس كذلك دائمًا، والحقيقة
أن لمس المريض لا يضر إذا اتخذت بعض الاحتياطات الضرورية، نعم نحن لا
نستطيع أن نقول: إن الجدري لا يتعدى باللمس مطلقًا، فالذين هم في حالة جسدية
ملائمة لانتقاله ينتقل إليهم، وهذا هو السبب في انتقال الجدري إلى الآخرين إذا
ظهر في جهة من الجهات، وهذا الذي وسع المجال للوهم بأنه مرض معد؛ ومن
هذا أتى تضليل الناس بإقناعهم بأن اللقاح طريقة مؤثرة لمنعه، إن اللقاح عبارة عن
حقن سائل الجدري الذي يستحصل من ثدي البقر [1] بعد أن يدخل في ثديها مادة
الجدري، لقد كانت الفكرة القديمة هي: بأن اللقاح مرة واحدة يحفظ الإنسان من هذا
المرض طول العمر؛ ولكن لما وجدوا أن الملقحين أيضًا يصابون به عدلوا عن تلك
الفكرة وأخذوا يقولون: بأن التلقيح يجب أن يعاد بعد كل زمن معين؛ وعلى هذا قد
جرى عامة الناس الآن سواء كانوا ملقحين؛ فإنهم يلقحون أنفسهم كلما انتشر هذا
المرض في إحدى الجهات. ولذلك ليس بعجيب أن نرى الآن أناسًا قد لقحوا بضع
مرات.
إن التلقيح عمل همجي ومكيدة من أكبر المكائد التي انتشرت في أيامنا
والتي لا توجد حتى في الأمم التي نسميها متوحشة [2] إن المدافعين عن التلقيح
لم يكتفوا بأولئك الذين لا يرون أي اعتراض إزاءه، بل قد اجتهدوا ولا يزالون
يجتهدون في إجرائه على جميع الناس بالقوانين التعزيزية والعقوبات الإجبارية
الصارمة، إن عملية اللقاح ليست بقديمة العهد بل قد ابتدأت من سنة 1798م ولكن
في خلال هذه المدة الوجيزة من الزمن قد سقط الملايين من الناس فريسة للوهم
القائل بأن الذين يلقحون أنفسهم يسلمون من الجدري، لا يستطيع أحد أن يدعي أن
اللذين لا يلقحون لا بد من أن يهاجمهم الجدري؛ لأنه قد وجدت أمثلة كثيرة لغير
الملقحين لم يصابوا به فقط، وكذلك لا يصح أن يستنتج من إصابة غير الملقحين
بالمرض أنهم لو لقحوا لسلموا منه.
على أن التلقيح عمل (وسخ) للغاية لأن المصل الذي يدخل في الجسم
الإنساني لا يحتوي على ما يخرج من البقر فقط بل كذلك يكون قيحًا حقيقيًّا للجدري
إن الرجل العادي ليتقيأ بمجرد النظر إلى هذا الشيء، وإذا تلوثت يده بهذه المادة
يغسلها حالاً بالصابون، ولو طلب منه أن يأكله لنفر وغضب غضبًا شديدًا، ولكن
الذين يرضون بالتلقيح لا يفهمون بأنهم في الحقيقة يأكلون هذا الشيء الوسخ بعينه!
[3] ، يعرف كثير من الناس بأن الأدوية والأطعمة الرقيقة تحقن في كثير من
الأمراض في الدم فتتحلل في البدن بسرعة أكثر مما لو أكلت بالفم، وكل ما هنالك
من الفرق بين الحقن والأكل العادي بالفم بأن الأول يمتزج حالاً بينما الثاني يمتزج
ببطء، ولكن مع هذا نحن لا نتردد في تلقيح أنفسنا، قد قيل حقًّا (إن الجبان يموت
مرات كثيرة قبل موته) كذلك تهافتنا على التلقيح بسبب خوفنا من الموت أو من
تشويه الجدري لوجوهنا.
وأنا لا أملك دفع الشعور بأن التلقيح هتك لأحكام الدين والأخلاق معًا.
إن شرب الدم وإن كان من البهائم المذبوحة يمقته أشد المقت حتى أولئك الذين
يأكلون اللحم عادة! ، وليس التلقيح دم حيوان حي معصوم بعد تضميمه؟ ، فما
أجدر الذين يخشون الله بأن يقعوا فريسة للجدري ويموتوا موتًا سريعًا من أن
يرتكبوا جناية خسيسة مثل هذه الجناية!
لقد اكتشف بعض المفكرين في إنكلترا بعد تحقيق دقيق المضار
المتنوعة للتلقيح، وقد أسست جمعية هنالك ضد هذا العمل تسمى بـ
Soiety Vaccination ـ Anti وأعلن أعضاء هذه الجمعية حربًا علنية
على التلقيح ورضوا بأن يدخلوا السجون عوضًا من أن يخضعوا له أو يسكتوا
عليه، إن اعتراضاتهم على اللقاح تتلخص فيما يأتي:
1 - إن تجهيز المادة من ثدي البقر والعجل يوجب عذابًا أليمًا على ألوف من
المخلوقات المعصومة، وهذا لا يمكن أن يجوز مهما كانت فوائد التلقيح كبيرة.
2 - إن التلقيح عوضًا من أن ينفع يجلب ضررًا كبيرًا؛ لأنه يسبب أمراضًا
كثيرة جديدة، حتى إن المدافعين عنه أيضًا لا يستطيعون أن ينكروا أن أمراضًا
كثيرة جديدة قد ظهرت بعد شيوعه.
3 - إن المادة التي تستحصل من دم المصاب بالجدري قد تحتوي على
ميكروبات لأمراض مختلفة كامنة في المريض فينقلها إلى السليم الذي يلقح به.
4 - ليس هناك أي ضمان يضمن أن لا يصاب الملقح بالمرض فالدكتور
جينر Jenner مخترع اللقاح زعم في أول الأمر أن الصيانة التامة تحصل بلقاح
واحد في ذراع واحد؛ ولما ثبت بطلان هذا قالوا: إن اللقاح على الذراعين يحصل
به المقصود، ولما ثبت خيبة هذا الرأي أيضًا أخذوا يزعمون أن الذراعين كليهما
يلقحان في أماكن متعددة، ويجدد التلقيح في كل سبع سنين، وقد نقصوا أخيرًا مدة
هذه الصيانة إلى ثلاث سنين! فكل هذا يثبت أن الأطباء أنفسهم ليسوا بمتفقين في
المسألة، والحق ما بيناه آنفًا، وهو أنه ليس هناك قول بأن الملقح لا يصاب
بالجدري، أو أن جميع أحوال الصيانة إنما هي نتيجة للتلقيح.
5 - إن المادة جوهر وسخ ومن الحمق الاقتناع بأن وساخة تزيل وساخة
أخرى؛ فبهذه وغيرها من الدلائل قد حولت هذه الجمعية رأي جم غفير من الناس
ضد اللقاح، يوجد في إنكلترا بلد يرفض أكثر أهاليها التلقيح، ولكن مع ذلك قد
أثبتت الإحصاءات بأنهم سالمون من المرض بطريقة عجيبة [4] .
إن الحق الصراح هو أن المنافع الشخصية للأطباء هي التي تحول دون نسخ
هذا العمل الوحشي، فإنهم لخوفهم من ضياع إيراد كبير يحصلونه الآن من هذه
الطريقة قد عموا عن الشرور الكثيرة التي تنجم من هذا العمل الشنيع! ولكن هنالك
من الأطباء من اعترفوا بهذه الشرور وهم ألد الخصوم للتلقيح.
لا ريب أن الذين يمقتون التلقيح مسوقين من قِبَل وجدانهم هم الذين يملكون
الجرأة على أن يقابلوا جميع العقوبات التي يصبها عليهم القانون بقلب ثابت، وإنْ
دعت الضرورة يقفون وحدهم أمام جميع الدنيا للمدافعة عن معتقدهم، إن الذين
يتحرزون من التلقيح لأسباب صحية فقط يجب أن يحققوا تحقيقًا تامًا في المسألة
حتى يتأهلوا لإقناع الآخرين بصحة أفكارهم ويسوقوهم إلى العمل بها، ولكن الذين
ليست لهم أفكار معينة في المسألة أو ليست فيهم الجرأة الكافية للمدافعة عن عقائدهم
فلا ريب أنه يجب عليهم الخضوع لقانون الحكومة، والأَوْلى لهم مجاراة الوسط
الذي يعيشون فيه.
إن الذين يتحرزون من التلقيح يجب أن يراعوا بكل قوة أصول الصحة التي
قد بينت في هذا الكتاب؛ لأن المراعاة التامة لهذه الأصول هي التي تحفظ في
الجسم تلك القوى الحيوية التي تزاحم ميكروبات جميع الأمراض، وتكون أحسن
وقاية من الجدري وغيره من الأمراض، ولكنهم إن كانوا أثناء مخالفتهم لإدخال
المادة السامة - التي هي اللقاح - في أجسامهم يسلمون أنفسهم للسم الذي هو أكبر
من هذا السم - أي سم الشهوة والفسوق - فإنهم بلا ريب يحرمون أنفسهم من قبول
الناس لأفكارهم.
***
علاج الجدري:
إذا ظهر الجدري على الجسد ظهورًا تامًّا فأحسن علاج له هو (ويت - شيت -
باك) الذي يجب أن يستعمل كل يوم على الأقل ثلاث مرات، فإنه يزيل الحمى
ويشفى الجروح بسرعة، وليس هناك حاجة لاستعمال الزيوت أو الدهان فوق
الجروح.
نعم؛ إذا أخذت البثور تنشف فزيت الزيتون يستعمل دائمًا ويستحم المريض
كل يوم، هكذا تسقط القشور بسرعة وتزول البثور سريعًا، ويستعيد الجلد لونه
الطبيعي ورونقه.
يجب أن يكون غذاء المجدور من الرز والثمار الطرية الخفيفة مع عصير
الليمون، ويجتنب جميع الثمار الثقيلة مثل التمر واللوز، إن الجروح عامة تأخذ
في الاندمال تحت تأثير (ويت - شيت - باك) في أقل من أسبوع، وإن لم يحصل
ذلك فمعناه أن السم لا يزال في الجسم ولم ينفجر تمامًا، فعوضًا من أن نعد الجدري
مرضًا فظيعًا يجب أن نعده كأحسن علاج من الطبيعة لإخراج السم من الجسم
لتبقى الصحة كأحسن ما ينبغي.
إذا شفي الجدري فالمجدور يبقى ضعيفًا لمدة من الزمن وفي بعض الأحوال
يصاب بأمراض أخرى. ولكن هذه الأمراض لا تكون نتيجة للجدري نفسه، بل
للمعالجات الخاطئة التي تستعمل له، وكذلك استعمال الكينا في الحمى قد يوجب
الصمم وقد يقود إلى أشد أشكاله، وهو يعرف (Quininism) بالكينينسم، وكذلك
الزئبق في الأمراض التناسلية يسوق إلى أمراض كثيرة جديدة، وهكذا الإكثار من
شرب المسهلات في الإمساك يحدث أمراضًا كالبواسير.
إن الطريقة الوحيدة المؤثرة في المعالجة هي تلك التي تزيل الأسباب الأساسية
للأدواء بمراعاة قوية للقواعد الأساسية الصحية حتى إن الجواهر المحرقة التي تعد
علاجًا ناجحًا حتميًّا لمثل هذه الأدواء مضرة جدًّا في الحقيقة؛ لأنها وإن كانت تعد
نافعة بادئ الرأي فإنها تحرك دواعي الشر وتقضي في الأخير على الصحة.
إذا عولج الجدري بالطريقة الساذجة الطبيعية التي ذكرناها آنفًا فهي لا تزيل
المرض فحسب، بل تجعل المجدور في مأمن منه إلى آخر العمر [5] .
***
الباب السابع
الأمراض المعدية الأخرى
نحن لا نخاف من الحماق كما نخاف من أخيه الجدري، لأنه أقل خطرًا على
النفس وأقل تشويهًا للوجه منه، مع أنه الجدري بعينه في شكل آخر، ولذلك تجب
معالجته بنفس تلك الطريقة التي يعالج بها الجدري.
***
الطاعون وعلاجه الغدّي:
إن الطاعون الغدي مرض خطر، وقد سبب موت الملايين من إخواننا منذ
دهم بلادنا سنة 1896م، ولم يهتد الأطباء إلى الآن مع عظيم جهدهم إلى علاج
ناجع لهم، وقد راجت في هذه الأيام عملية التلقيح له أيضًا رواجًا عظيمًا، وتأصل
في النفوس الاعتقاد بأن حملة الطاعون يمكن الأمن منها به، ولكن التلقيح للطاعون
رديء وإثم مثل تلقيح الجدري، إنا وإن كنا نعلم أنه لم يعرف لهذا الداء علاج ناجع
إلى الآن، نتجرأ على اقتراح العلاج الآتي لأولئك الذين يثقون ثقة مطلقة بالخالق
سبحانه [6] والذين لا يخافون من الموت. وهو:
1 - استحمام (ويت - شيت - باك) بمجرد ظهور علائم الحمى.
2 - وضع اللبخة الطينية الغليظة على الغدة.
3 - تجويع المريض تمامًا.
4 - إن أحس المريض بالعطش يسقى عصير الليمون في ماء بارد.
5 - ينوم المريض في هواء طلق.
6 - يجب أن لا يكون بجنبه أكثر من ممرض واحد.
يمكننا أن نقول بكل ثقة: إنه إن كان هذا الداء الوبيل يتأتى الشفاء منه بعلاج
ما فهو هذا العلاج.
إنه وإن كان المصدر الحقيقي لهذا المرض غير معلوم إلى الآن، لا يمكن أن
ننكر أن للفيران أثرًا مهمًّا في انتشاره، فعلى هذا يجب أن نتخذ جميع الاحتياطات
في الجهة التي دخل فيها الطاعون لمنع دخول الفيران فيها، وإن عجزنا عن
التخلص منها فلنهجر البيوت.
إن أمثل طريقة لصد هجوم الطاعون هي المراعاة التامة لأصول الصحة:
المعيشة في هواء طلق، وأكل غذاء جيد خفيف بالاعتدال، والتريض
برياضة جيدة، وجعل البيت نظيفًا، وترك جميع العادات القبيحة، وبالاختصار
جعل الحياة ساذجة طاهرة من كل الوجوه، يجب أن تكون حياتنا دائمًا هكذا، ولكن
في أيام الطاعون وغيره من الأوبئة يجب أن نضاعف الاحتياط.
***
الطاعون الرئوي والهيضة:
إن الطاعون الرئوي لأشد أنواع هذا المرض خطرًا فيكون هجومه بغته
وخطرًا على الدوام، يصاب المريض بحمى شديدة ويجد صعوبة كبيرة في التنفس
وفي أكثر الحوادث يغمى عليه، وقد انتشر هذا القسم من الطاعون في أفريقيا
الجنوبية سنة 1904م وقد قلنا فيما سبق [7] : إنه لم يسلم من 23 إصابة به إلا
رجل واحد.
وأما علاج هذا الطاعون الرئوي فمثل علاج الطاعون الغدي تمامًا، إلا أن
اللبخة تستعمل في الأول في الجانبين من الصدر، إن كان ليس هنالك فرصة
لاستحمام (ويت - شيت - باك) فيجب أن تربط اللبخة الطينية على الرأس، ولا
حاجة إلى التنبيه - في شأن هذا المرض وغيره - أن الوقاية خير من المداواة
على كل حال.
نحن نخاف من الهيضة (الكوليرا) مثلما نخاف من الطاعون، ولكنها في
الحقيقة أقل خطرًا من الطاعون بكثير، إن استحمام (ويت - شيت - باك) ليس
بنافع في هذا المرض ولكن اللبخة الطينية تستعمل على البطن؛ وأما الأعضاء التي
تتشنج ويحس فيها بوخزات أليمة فتدفأ بقنينة مملوءة بماء ساخن، وتفرك الأرجل
بزيت الخردل ويجوع المريض؛ والحذر كل الحذر من أن يجزع المريض إن كان
الإسهال كثيرًا جدًّا ولا ينبغي أن يقوم المريض كل مرة من فراشه بل يضع تحت
السرير وعاء للبراز.
إن اتخذت هذه الاحتياطات في الوقت اللازم تمامًا فالخطر هناك قليل.
ينتشر هذا المرض في أيام الحر عندما نأكل عامة الثمار الفجة أو مقادير
كبيرة زيادة على أكلنا الاعتيادي من الناضجة؛ والماء الذي نشرب في هذا الفصل
يكون أحيانًا وسخًا؛ لأنها تقل كميته في الآبار والأحواض والمناقع في هذه الأيام.
ونحن لا نحب أن نكلف أنفسنا غَليه أو تقطيره، ثم إن الذي يزيد المرض
انتشارًا هو ترك براز المريض مكشوفًا فتنتشر جراثيمه في الهواء، لا شك أننا
عندما نتفكر في قلة اهتمامنا بهذه الحقائق والأصول الأولية يجدر بنا أن نستغرب
كون مهاجمة هذه الأمراض والأوبئة الخطرة لنا دون تعرضنا لأسبابها.
يجب أن نأكل قليلاً ونقتصر على المأكولات الخفيفة؛ إذا انتشر هذا الوباء
وأن نملك شهوتنا تمامًا، ونستنشق كمية كبيرة من الهواء النقي، ونغلي الماء الذي
نشربه إلى درجة الفوران، ونصفيه في قماش غليظ نظيف، ويجب أن نغطي براز
المريض بتراب أو رماد كثير جاف مثلما ينبغي ذلك في الأحوال العادية، إن
فعلنا كل هذا فيكون هناك خطر قليل جدًّا لانتشار الهيضة (الكولرا) إن الحيوانات
الدنيئة مثل القطط تعمل هذا الاحتياط دائمًا، ولكننا نحن معشر البشر أصبحنا
أحط منها في هذا الشأن.
وإني أؤكد بكل قوتي للمصابين بالأمراض المعدية والذين يعيشون حولهم بأنه
لا ينبغي لهم أن يوسعوا المجال للخوف، والجزع على أنفسهم في حال من الأحوال؛
لأن الخوف يشل الأعصاب ويزيد خطر الهلاك.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المعروف أنه يستخرج من مادة الجدري نفسها لا من لبن البقر فقط، ولعل الذي بغّضه إليه استخراجه من البقر المقدس؛ وقد يوجد من قومه من يعتقد أن ما يؤخذ من البقر ينفع لقداستها، وعند الهندوس شجر مقدس يعتقدون أنه يشفي من الجدري، رأيته في بنارس؟ .
(2) من غرائب شذوذ المؤلف استشهاده بالأمم المتوحشة، وأغرب منه جعلها غاية بقوله: حتى ... والموضوع عمل مدني فني! ! .
(3) هذا الكلام من المنفرات الشعرية لا من القضايا العلمية.
(4) الإنكليز شعب محافظ متدين ولما كشف لقاح الجدري، وسنت الحكومة قانونًا للعمل به قاومها الذين حرموه تحريمًا دينيًّا، كما يحرمه غندي اليوم؛ فاضطرت إلى وضع مادة في القانون تستثنى من يعتقدون حرمته من إكراههم عليه وبقي هذا التقليد إلى اليوم.
(5) المنار: لا شك في أن غلو غندي في تقبيح تلقيح الجدري سببه الشعور الديني كبعض متقدمي الإنكليز ومتأخريهم، وفقهاؤنا ناطوا الحكم بالأطباء الثقات، والحق أن المسألة لا علاقة لها بالدين وإنما هي كغيرها من أمور الطب والعلاج منوطة بالأطباء؛ فإن اختلفوا في أمر فالعاقل يعمل بما هو الأحوط، والأطباء عندنا متفقون على نفع التلقيح، وقلما نرى أو نسمع أن أحدًا تضرر منه فهو إذا لم ينفع لا يضر - هذا هو المعروف المجرب والنادر لا حكم له.
(6) هذه معالجة فنية كالمعالجة بالتلقيح، فلماذا جعلها خاصة بالمتوكلين على الله دون الأخرى التي يعدها من ضعف الإيمان أو فقده، لعل دين الهندوس يفرق بينها.
(7) راجع الباب الرابع من القسم الثاني.(27/531)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كعب الأحبار ووهب بن منبه
في انتقاد الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمجوني علينا في جرحنا
لكعب الأحبار ووهب بن منبه أغلاط وآراء غير صحيحة، لو أردنا أن نبينها كلها
بالتفصيل لأخذنا من صحائف المنار ما لا يسمح لنا به جمهور القراء؛ فإنه أطال
الكلام فذكر انتقاده الأول وردنا عليه وتاريخ نشره، وأعاد بعض عباراتنا وعباراته
كما أعاد ذكر شبهته على ضرر جرح الحبرين بأنه يثير شبهات الملاحدة على
الإسلام وهو لاشتغاله بالزراعة كما قال لم يختبر في هذا الموضوع بعض اختبارنا
في ثلث قرن قضيناه في معالجة هذه الشبهات ومناظرة هؤلاء الملاحدة وأمثالهم من
خصوم الإسلام والرد عليهم قولاً وكتابة، وقد ثبت عندنا أن روايات كعب
ووهب في كتب التفسير والقصص والتاريخ كانت مثار شبهات كثيرة للمؤمنين لا
للملاحدة والمارقين وحدهم، وأن المستقلين في الرأي لا يقبلون قوله: (إن كل من
قال جمهور رجال الجرح والتعديل المتقدمون بعدالته فهو عدل وإن ظهر لمن بعدهم
فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم) .
وأنا لا أتكلم فيما أطال به من المباحث الخارجة عن الموضوع ولا في الأقوال
والنقول في توثيق جمهور رجال الجرح والتعديل للحبرين كعب ووهب حتى النقل
عن المعاصرين الذين ليسوا منهم كالقاسمي والخولي والخضري وما يتعلق بذلك
من مدح بعض الأفراد أو الكتب الذي لا أنازعه فيه وإن لم يكن كله مقبولاً عندي
وإنما أتكلم في أهم ما جاء به المنتقد في مقاله الأخير من تخطئتي في الموضوع
والاستدلال عليه فأقول:
الانتقاد الأول
عبارة الحافظ الذهبي في كعب (وله شيء في صحيح البخاري وغيره) ووقع
في قولنا وليس له شيء.... ولا ندري الآن كيف وقع ذلك هل نقلناه من كتاب
آخر أو سبق به القلم لما هو معلوم عندنا من أن البخاري لم يرو عنه شيئًا في
صحيحه؟ ومهما يكن من السبب فإننا نعترف بأن الذي في تذكرة الحفَّاظ هو
الإثبات كما ذكره.
***
الانتقاد الثاني
رمي معاوية لكعب بالكذب
اعترف المنتقد بأن ما رواه البخاري عن معاوية من قوله: إنهم كانوا يبلون
(أي يختبرون) الكذب على كعب الأحبار هو طعن شديد في عدالته، إذا أخذ على
ظاهره، وقد رده بما يأتي:
1- ادعى أن الصواب في العبارة أنها ثناء عليه بدليل ما نقل عنه في تهذيب
التهذيب (أي معاوية) من قوله فيه: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده
لعلم كالثمار وإن كنا فيه لمفرطين.
ووجه الاستدلال بهذا عند المنتقد أن بين هذا القول وذلك القول تناقضًا بين
عبارتي (خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة هداه الأنام، مشهور
بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة) .. إلخ ما قاله في تعظيم معاوية مما يكاد
يجعله به معصومًا من الخطأ مع إجماع أئمة السنة والشيعة على أنه كان باغيًا على
أمير المؤمنين عليّ المرتضى، وترتب على بغيه عليه سفك دماء غزيرة وفتن
ومعاص لم يخلص المسلمون من شرها إلى هذا اليوم، والظاهر أنها ستبقى إلى يوم
القيامة.
نعم، يقول المتكلمون: إنه كان في بغيه متأولاً لا متعمدًا، وقد نقلوا من تأوله:
أنه لما احتج عليه بالحديث الصحيح في عمار بن ياسر (تقتله الفئة الباغية) ، قال:
إنما قتله من أخرجه! ! فرد عليه أمير المؤمنين علي لما بلغه ذلك أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - هو الذي قتل عميه حمزة وجعفرًا وغيرهما من شهداء بدر
وسائر الغزوات فهذا استطراد نقابل به استطراده في مدح معاوية بغير مناسبة
لغرضه.
والجواب عن هذا الفهم الغريب الذي قوّاه بالإطراء والثناء هو أن العبارتين لا
تناقض بينهما كما فهم، ففي كل منهما اعتراف بأن كعبًا كان ذا علم كثير وثبوت
العلم الكثير لا يقتضي نفي الكذب؛ فكم من عالم كان أعلم من كعب الأحبار وكان
يكذب، إن علم كعب كان جله عندهم ما يرويه عن التوراة وغيرها من كتب قومه
وينسبه إليها ليقبل ولا شك في أنه كان من أذكى علماء اليهود قبل إسلامه، وأقدرهم
على غش المسلمين بروايته بعده، ومن كبار علماء التفسير الذين رماهم المحدثون
بالكذب السدي الصغير - وكذا الكبير - والكلبي وأمثالهم كثيرون. والأستاذ المنتقد
نسي ما قاله العلماء في تعريف التناقض، وشروط تحققه، أو لم يقرأ المنطق، فإن
كان معاوية معصومًا منه فهذه العصمة لا تخدش ما فهمه هو من عبارتيه، وهما لا
تدلان عليه.
2 - قوله: إن العبارة المذكورة لا تصلح من حيث تركيبها العربي دليلاً على
أقل ألفاظ هذا التجريح قال: (فإن إسناد الكذب فيها إلى الكتاب باعتبار ما فيه من
التبديل أقرب من إسناده إلى (كعب) كما قرره شراح البخاري (ولأنه أقرب مذكور)
ثم ادَّعى أن جميع شراح البخاري فهموا من هذه العبارة توثيق معاوية لكعب (! !)
(وأن الخليفة ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما فيه من التحريف والتبديل بناءً
على عود الضمير إلى أقرب مذكور) وليس الأمر كذلك.
أسدل المنتقد على هذه الدعوى بعبارة نقلها عن فتح الباري في شرحه لكلمة
معاوية فتصرف فيها كما يشاء، وهي لا تدل على دعواه ولا توضحه كما ادعى
وإنما هي عبارة عن تفسير لفظ الكذب بقول الحافظ: (أي يقع بعض ما يخبرنا
عنه بخلاف ما يخبرنا به) ، ولكن زاد عليها المنتقد (فلفظ يقع يدل على أن المخبر
به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي) .
أقول: هذا فهم غريب جدًّا جدًّا؛ فإننا لا نعلم أن أحدًا من علماء اللغة فسر كلمة
يقع بما فسرها به، فمن أين جاءته هذه الدلالة؟ أما والله إن من يفهم مثل هذا
الفهم ويكتبه في انتقاد علمي ليس جديرًا بأن يُرد عليه في شيء.
قال المنتقد بعد هذا: ثم نقل الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور
عبارة ابن التين على طولها، وعبارة ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا
المعنى. اهـ
وأقول الحق عبارة ابن التين قصيرة لا طويلة وهذا نصها: وهذا نحو قول
ابن عباس في حق كعب المذكور: بدل من قبله فوقع في الكذب، قال: والمراد
بالمحدثين أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم فكان يحدث عنهم، وكذا من
نظر في كتبهم فحدث عما فيها، إلا أن كعبًا كان أشد منهم بصيرة وأعرف بما
يتوقاه، وقال ابن حبان في كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحيانًا فيما يخبر
به ولم يرد أنه كان كذابًا. اهـ
وأقول: إن عبارة الحافظ وعبارتي ابن التين وابن حبان لا يدل شيء منها على
ما ادعاه المنتقد وأورد العبارات لتأييده وتوضيحه وهو أن نص عبارة معاوية
العربي لا يدل على وصفه بالكذب بل يدل على الثناء وتوثيقه؛ لأنه يتعين أن
يكون قوله: (نبلو عليه الكذب) للكتاب لا لكعب، وإنما هي إيراد احتمال في
سبب الكذب وتسميته خطأ، ولكن الحافظ نقل احتمال عود الضمير إلى الكتاب عن
مجهول وعن القاضي عياض صحة الوجهين وسيأتي ما فيهما.
ثم قال المنتقد: (أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في
مرجع الضمير مباشرة ثم نقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل
ما نصه توثيقًا: (يعني أن الكذب فيما يخبر عن أهل الكتاب لا منه؛ فالأخبار التي
يحكيها عن القوم يكون في بعضها كذب، فأما كعب الأحبار؛ فمن خيار الأحبار) .
(وكذا عبارة العيني والكرماني والسندي وهو آخر من كتب على البخاري
فيما نعلم) . اهـ
أقول: هذا الذي عزاه إلى القسطلاني أيضًا تلبيس وإيهام، وأجله عن تسميته
كذبًا ككذب كعب الأحبار، فالمقام مقام إيراد شواهد على ما ادعاه من كون عبارة
معاوية لا تدل بنصها العربي على إسناد الكذب إليه بل تدل على إسناد الكذب إلى
الكتاب؛ لأنه أقرب مذكور (!) والقسطلاني لم يوجه الاحتمالين في مرجع
الضمير مباشرة كما فهم خطأ أو أدعى، وإنما جزم برجوع الضمير إلى كعب وذكر
رجوعه إلى الكتاب بصيغة التمريض (قيل) لأنه ضعيف بل غلط وهذا نص
عبارته:
(الضمير المخفوض بعلى يعود على كعب الأحبار يعني أنه يخطئ فيما
يقوله في بعض الأحيان، ولم يرد أنه كان كذابًا، كذا ذكره ابن حبان في كتاب
الثقات) .
وقيل: إن الهاء في (عليه) راجعه إلى الكتاب من قوله: إن كان من أصدق
هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب. قال القاضي عياض وعندي أنه
يصح عوده على كعب أو على حديثه، وإن لم يقصد الكذب أو يتعمده كعب؛ إذ لا
يشترط في الكذب عند أهل السنة التعمد بل هو إخبار بالشيء على خلاف ما هو
عليه، وليس في هذا تجريح لكعب بالكذب، ثم ذكر بعدها عبارة ابن الجوزي
المارة.
فظهر بهذا أن القسطلاني جزم بأن الضمير يعود على كعب خلافًا لما قال
المنتقد، وأنه تبرأ من قول ابن حبان: بأن معاوية لم يرد بقوله: إنه كان كذابًا
لقوله: كذا قال ابن حبان، وإن نص القاضي عياض ليس فيه احتمال عود
الضمير إلى الكتاب بل هو راجع إلى كعب نفسه أو إلى حديثه المفهوم من فعل
يحدثون؛ إذًا لم يقل باحتمال عوده إلى الكتاب إلا ذلك المجهول الذي عبر عنه الحافظ
بقوله (وقال غيره) بعد عبارة ابن حبان، وقال القسطلاني في حكايته:
(وقيل) .
والقول الفصل في هذه المسألة أن المتبادر من عبارة معاوية الذي يفهمه كل
من يعرف اللغة العربية من إطلاقها، أن الضمير راجع إلى كعب الأحبار نفسه كما
فسرها ابن حجر والقسطلاني والجمهور، وذلك أن الكتاب لم يذكر في العبارة عمدة
مستقلاً فيعود عليه الضمير، وإنما ذكر مضافًا إليه كلمة أهل، فأهل الكتاب هم
العمدة في العبارة، وإنما قاله مجهول لا قيمة لقوله لمخالفته للمتبادر الذي جرى
عليه الجمهور، وهذا يدحض دعوى المنتقد أن عبارة معاوية لا تدل بنصها
العربي إلا على عود الضمير على الكتاب، ودعواه أن الجمهور جروا على هذا،
والسياق يقتضي أن تكون كلمة معاوية في ابتلاء الكذب عليه استدراكًا على ما قبلها،
إذ قال: إلا أننا كنا نبلو عليه الكذب - ولا معنى لهذا الاستثناء على القول
باحتمال عود الضمير إلى الكتاب.
غاية الأمر أن هؤلاء الشراح لما كانوا مقلدين لمن عدل كعبًا من رجال الجرح
والتعديل أولوا عبارة معاوية بما علمت من كونه غير متعمد للكذب إذ كان ناقلاً له
عن غيره؛ وأنه كان مخطئًا لا كذابًا ... إلخ، وهذه غفلة منهم عن الواقع وهو أنه
كان يزعم أنه ينقل عن الكتاب نفسه لأنه قرأ الكتب وما كان حبرًا عند اليهود إلا
بذلك ولم يكن راويًا لها عن غيره، على أن التأول له بتسمية الكذب خطأ جرح له
ينافي صحة روايته ولكن لا يقتضي أنه وضاع كما أثبتنا بالدليل.
3 - ادعاؤه أن غرض معاوية مما ذكره للقرشيين في سياق الكلام عن رواة
الإسرائيليات (إرشادهم إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب
أهل الكتاب القديمة) إلخ.
وضرب المنتقد مثلاً لذلك ما نقله عنه الحافظ في الفتح أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر الأول منها:
(محمد رسول الله عبدي المختار مولده بمكة ومهاجره المدينة وملكه بالشام) .
أقول ذكر المنتقد في دعواه هذه المسألة الثقة بما صح سنده عن كعب مبنية
على ما سيأتي التنبيه عليه من ادعائه، إن كل ما ينتقد من المرويات عنه فآفته
الرواة عنه، وهذه القاعدة لم تكن مما يخطر ببال في معاوية إذ كان معاصرًا لكعب
وسمع منه هو وأهل عصره، ومن لم يسمع مروياته من أولئك القرشيين منه فقد
سمعها ممن سمعها منه، ولم يكن هذا يسمى سندًا، ولا كان في زمن معاوية شيء
من هذا الاصطلاح ولا من هذا البحث، وسياق الكلام يأبى هذه الدعوى كما يأبى ما
قبلها؛ وهو أن معاوية ذكر عبارته عند ذكر كعب، فالكلام فيه لا في الكتاب وقد
فضله على غيره من المحدثين عن أهل الكتاب، وجعل قوله: (وإن كنا مع ذلك
لنبلو عليه الكذب) ، غاية واستدراكًا على تفضيله على غيره منهم كما أشرنا إليه
في المسألة الثانية من هذا الانتقاد.
هذا وإن ما اعترف المنتقد بصحته من رواية كعب عن التوراة من وصف
النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب على التوراة أيضًا وبمثلها كان يخدع المسلمين،
ولو كانت هذه العبارة في التوراة لرواها من أسلم على يدي النبي - صلى الله
عليه وسلم - من أحبار اليهود كعبد الله بن سلام وجماعته رضي الله عنه ولنقلت
بالتواتر ولكان لها شأن عظيم، إذ لا يمكن للمعاندين تأويلها كما أولوا البشارات
غير الصريحة بهذا المقدار.
4- قد افتات المنتقد على البخاري كما افتات على معاوية في بيانه لغرض كل
منهما: غرض هذا من عبارته وغرض ذاك من ذكرها في ترجمة الباب الذي عقده
للنهي عن سؤال أهل الكتاب عن شيء. قال: إن غرض البخاري يؤخذ من قول
العيني في مطابقة عبارة معاوية لترجمة الباب وهو (مطابقته للترجمة في ذكر كعب
الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم) قال المنتقد ومنه
يعلم أن غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي
في الترجمة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)
وبين الأمر في قول الله تعالى {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس:
94) بأن كعبًا كان ممن يسألون؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم.. والنهي كان
عن سؤال من لم يسلم، وقد جعل المنتقد هذا الاستنباط الباطل أدل على توثيق
البخاري لكعب من روايته عنه التي اعتذر عنها بعدم توفر السند الصحيح إليه كما
تقدم في مقاله.
أقول: عبارة العيني لا تدل على ما استنبطه منها فإن الباب كله في النهي
عن أخذ شيء عن أهل الكتاب؛ لأن شرع الإسلام ناسخ لشرعهم؛ ولأن نبي الإسلام
خاتم النبيين، ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعه كما صح مرفوعًا، ولأنهم لا
يهدون المسلمين وقد ضلوا، كما في أحاديث الباب وما ذكروه في شرحها،
والظاهر أن غرض البخاري من إيراد عبارة معاوية تأكيد عدم الثقة بما ينقل عنهم
حتى إن كعبًا الذي كان يعد من أصدق المحدثين عنهم كانوا قد اختبروا عليه الكذب
أي فكيف يوثق بما ينقله غيره عنهم؟ ولا ينافي هذا ما ذكره بعضهم من الاعتذار
عن كذب روايته بأن سببها كذب من أخذ عنهم لا كذبه هو.
هذا وإن البخاري لم يذكر في هذا الباب قوله تعالى: {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94) فيصح قوله: إنه أراد الجمع بينه وبين حديث
الترجمة وإنما ذكره الحافظ في آخر الكلام عليها من الفتح استطرادًا لمناسبته
للموضوع فلا يدل إيراده له على شيء مما استنبطه المنتقد بفهمه الغريب للكلام.
والتحقيق أنه لا تعارض بين الآية والأحاديث فيحتاج إلى الجمع بينهما وأن
هذا الجمع على تقدير التعارض غير صحيح.
أما الأول؛ فإن الأمر بسؤال أهل الكتاب في آية يونس ليس أمرًا تكليفيًّا لا
يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عهدته إلا بسؤالهم فيقال: إنه أمره بسؤال
من آمن منهم، بل هو أمر في معنى الخبر مبني على فرض المحال وهو شك النبي
- صلى الله عليه وسلم - في الوحي الذي أنزل إليه مطلقًا أو في قصة موسى من
سورة يونس الذي أنزل في آخرها {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (يونس: 94) فهذا التعبير يراد به أن ما في هذه السورة من قصة موسى معروف
عند أهل الكتاب في كتابهم بحيث لو سئلوا عنه لما استطاعوا إنكاره، قد ورد في
التفسير المأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه صلوات الله وسلامه عليه لم
يشك ولم يسأل، وروي هذا مرفوعًا أيضًا، وبعض المفسرين أورد فيها وجوهًا
أخرى للتفصي من جعل هذا الأمر بسؤالهم على ظاهره، وليس هذا بمحل لاستيفاء
تفسيرها.
وأما الثاني فلأن هذه الآية كالسورة التي أنزلت فيها مكية ولم يكن في ذلك
الوقت أحد من اليهود قد أسلم فيصح الجمع الذي قيل والأمر حقيقيته للحال.
***
الانتقاد الثالث
جعله كعبًا من رجال البخاري
نقلنا عن تهذيب التهذيب قول الحافظ ابن حجر: إن صاحب التهذيب أخطأ
في وضعه علامة البخاري وهي حرف (خ) عند ذكره؛ لأنها تدل على رواية
البخاري عنه في صحيحه، وهو لم يرو عنه شيئًا وإنما ذَكَرَ ما قاله فيه معاوية -
فزعم المنتقد أن هذه التخطئة من الحافظ في غير محلها، واستدل على ذلك بما
استنبطه هو من كون عبارة معاوية توثيقًا لكعب وكون البخاري أراد بذكرها بيان
هذه الثقة به كما تقدم آنفًا، وعد هذا الفهم منه احتجاجًا من البخاري بكعب وقال:
وباعتبار أن البخاري اعتمد في كتابه على الرواة، والمحتج بهم يصح أن يطلق
على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه (كذا كذا) بلا فرق بينهما.
(كذا كذا بحروفه) .
وبنى على هذا تصويب صاحب تهذيب الكمال في وضع علامة البخاري
بجانب اسم كعب، وتخطئة الحافظ ابن حجر في انتقاده له وقال (وجل المنزه عن
الخطأ) .
ثم استدل على عدم جزم الحافظ ابن حجر بغلط صاحب تهذيب الكمال بإبقائه
حرف الخاء بجانب اسم كعب في تهذيب التهذيب، قال: فلو كان جازمًا بغلط
صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف لحذفه هو من كتابه (كذا! !)
أقول: لا شك أن أهل العلم بالحديث وباللغة قد تعجبوا من نشري لانتقاد هذا
الأستاذ، وأن سائر قراء المنار سيتعجبون عند قراءة هذا الرد من صبري في كتابته
وسماحه بصفحات المنار وبما هو أثمن منها وهو الوقت النفيس الذي صرف
فيه. وأعتذر لهم بأن سبب هذا حسن ظني بإخلاص المنتقد وإعلامه بقيمة مبلغ
فهمه ليكون عونًا له على الفهم والاستدلال كما أراد هو إفادتي وإفادة قراء المنار
بنقده.
إذًا لا بد لي من التصريح له بأن جميع المحدثين الذين وضعوا في كتبهم
رموزًا من الحروف لمخرجي السنن والآثار، قد وضعوا حرف (خ) لرجال
البخاري الذين روى عنهم في الجامع الصحيح خاصة، بل لما روي عنهم الأخبار
والآثار المسندة بشروطها عنده دون التعاليق فقد وضع لها صاحب تهذيب التهذيب
فيه (خت) وقد وضعوا لسائر كتبه كالأدب المفرد وكتاب رفع اليدين وكتاب
أخلاق العباد رموزًا أخرى معروفة، فلا يصح عندهم بحال من الأحوال أن يسمى
كل من عدله ووثقه من رجال الجامع الصحيح وأن يوضع حرف (خ) رمزًا له.
فإن فرضنا أن ما استنبطه المنتقد من تعديله لكعب صحيح في نفسه لم يكن
مجوزًا أن يعد من رواته في الجامع الصحيح الذين وضعوا لهم حرف الخاء.
والبخاري قد عدل في تاريخه كثيرًا من الرجال وروى عن بعضهم في تعاليق
جامعة بصيغة الجزم وعن بعضهم في غير جامعة ولم يعدهم أحد من رجاله أي
رجال الجامع الصحيح.
وأما استدلاله بإبقاء الحافظ ابن حجر لحرف (خ) في مختصره على ما ذكر
مع تصريحه بتخطئة صاحب التهذيب فيه فهو من السقطات التي نذكرها آسفين
لصدورها عنه، كما نأسف لقوله: إنه لم يوافق الحافظ أحد المتقدمين والمتأخرين
على التعجب من عد كعب من رجال البخاري، مع عدم مماراته هو في عدم روايته
عنه شيئًا مسندًا في صحيحه! ! ! وكيف يوافقه من قبله؟ ومن ذا الذي خطأه ممن
بعده؟ فإن فرضنا أن أحدًا مثل المنتقد خطأه فماذا يضره والدليل معه.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/539)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الزعيمان
شوكت علي ومحمد علي
هذان الزعيمان المشهوران في الهند ممن ولدت الحرب العظمى من الزعماء
في البلاد المختلفة، وعندما زرنا الهند سنة 1330هـ (الموافقة لسنة 1912م) لم
يكن لهما ذكر فيها، وسبب زعامتهما اضطهاد الحكومة الإنكليزية لهما بشدة
انتقادهما إياها على قتال الدولة العثمانية الممثلة للخلافة الإسلامية.
ملأ ذكر شوكت علي ومحمد علي الآفاق بعد الحرب العظمى وقد كان من
فوائد رحلتنا إلى الحجاز في موسم الحج الأخير لقاء الزعيمين الكبيرين في مكة
المكرمة ومعرفة كنه حالهما، ولما دعاني جلالة ملك الحجاز إلى الانتظام في سلك
المؤتمر الإسلامي العام الذي دعا إليه، كنت أعدّ من ثمراته الدانية
الجنى الاشتغال في خدمة الإسلام والحرمين الشريفين مع الوفود الإسلامية
عامة والوفود الهندية خاصة، ووفد الخلافة الذي يعد الزعيمان أشهر أركانه على الوجه الأخص. وقد كاشفت رئيس هذا الوفد صديقي الأستاذ السيد سليمان الندوي
بذلك وبأنه يحسن أن نتذاكر في المسائل المختلف فيها أو التي هي مظنة الاختلاف
عندما تعرض على المؤتمر وتمحصها ليسهل علينا التعاون على إقناع غيرنا
بتقريرها فيه وأن نراعي في هذه المباحث ما يمكن، وما لا يمكن، وما يسمى في
عرف هذا العصر (بالأمر الواقع) وما يترتب عليه، وقد استحسن الأستاذ الندوي
هذا الرأي وقال: إنه سيعرضه على رفاقه، ثم رأيت رفيقيه غير مباليين بمذاكرة
أحد ولا بالتعاون مع أحد، كأنهما يظنان أنهما بنفوذهما الشخصي يفعلان في
المؤتمر ما يفعلان في جمعية الخلافة، حتى بدا لهما أفن هذا الرأي وبطلان هذا الظن
في أثناء المؤتمر، وسنفصل ذلك في رحلتنا الحجازية بما فيه العبرة والعظة للعالم
الإسلامي ونكتفي هنا بتعليق وجيز على أول خطبة لأخينا محمد علي ألقاها في ميناء
كراجي أول ثغر ألما به من موانئ الهند، وقد بلغنا أن ما بثاه بعد ذلك في خطبهما
ومكتوباتهما شر منه وأنهما أحدثا شقاقًا في الهند بأقوالهما الجديدة في ابن
السعود المخالفة لأقوالهما السابقة.
***
خطبة مولانا محمد علي في كراجي:
خطب مولانا محمد علي في أهالي كراجي خطبة حماسية طويلة بكى فيها
واستبكى - وما أسهل هذا عليه! فرأيت من واجب التناصح أن أعلق على بعض
عباراته فيها تعليقات مؤيدة بالبرهانين الديني والعقلي فأقول:
تزكية نفسه وشهادته لها بالمغفرة:
1 - بدأ خطبته بالتودد إلى أهل تلك الناحية بذكر حبه الشديد لهم وحبهم له
وتذكيرهم بجلب القضاء البريطاني له إلى بلدهم لمحاكمته محاكمة المجرمين، وهذا
أعظم ما يتقرب به إليهم لعدهم محاكمة الدولة له أكبر مناقبه، وقال في أثناء ذلك
(وقد تم من إرادة الله وكرمه أن أعود إليكم بعد أن طهرني الله من جميع الذنوب
والأوزار) وقد كرر هذا المعنى مرتين لتأكيده.
فنذكر أخانا في الإسلام الذي تأكدت أُخوته لنا باشتراكنا في غسل بيت الله
الحرام، وتطييب جدرانه من الداخل بعطر الورد، بأن لا يعود إلى مثل هذا فإن
الجزم القطعي بغفران الله تعالى وتطهيره لشخص معين من الذنوب والأوزار لا
يُعلم إلا بوحي من الله علام الغيوب، والأعمال المكفرة للذنوب كالحج لا تكون
كذلك إلا إذا كانت صحيحة باستيفاء شروطها وواجباتها الظاهرة والباطنة كالإخلاص
وكانت مقبولة عند الله تعالى، والعلم باستيفاء الشروط والواجبات عسر، وأما العلم
بالمقبول عند الله تعالى فمتعذر، وقد قال بعضهم في واجب واحد من شروط الحج
الظاهرة.
إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور
ولا محل هنا لذكر ما استدل به العلماء على عدم القطع لأحد بالمغفرة والجنة
إلا من بشرهم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فسروا الحج المبرور
المكفر للذنوب الذي ورد الحديث فيه بأنه الذي لا يقع فيه معصية، أو لا رياء فيه.
أخذوا هذا من حديث الصحيحين واللفظ للبخاري (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه) ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - بأن يجعل حجه لا رياء
فيه ولا سمعة، وقالوا: مع هذا إن الحج المبرور إنما يكفر حقوق الله تعالى لا
حقوق العباد.
وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32)
ويدخل في هذا النهي مدح المرء لنفسه وتزكيتها ولو بالحق ولا سيما إذا كان في
سياق الفخر والتبجح، ويمكن لأخينا أن يراجع في هذه المسألة وما حولها كتب
التفسير وكتب السنة ولا سيما رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن أبي
وقاص فيمن قال فيه إني لأراه مؤمنًا - فقال له - صلى الله عليه وسلم - (بل
مسلمًا) وهو في الصحيحين - ويراجع أيضًا كتاب الحج وكتابي (العجب والغرور
من إحياء علوم الدين) ، ويتذكر كيف كان يستغيب ملك الحجاز حتى في بيت الله
تعالى وفيما لا مصلحة فيه له وللمسلمين كالكلام في لحيته وزواجه ... إلخ.
***
دعواه إخلاف ابن سعود وكذبه:
2 - قال: إن ابن السعود كان كتب إليه أن الحجاز أمانة في يده للمسلمين
وإنه يخضع لما يراه المؤتمر الإسلامي ومستعد لتخلية الحجاز لمن يختاره هذا
المؤتمر.
(وقال) فلما قصدت الحجاز وجدت أن الأفعال غير الأقوال - ثم أطال
الكلام في الوعود والعهود والمواثيق، والكذب والخداع؛ وذكر من الأفعال
المخالفة هدم القباب العالية، والمنارات الشامخة، والمقابر، والمآثر - وبالغ في
تعظيم أمر هذا الهدم لهذه المبتدعات كأنما هدم بها أركان الإسلام، وبكى في أثناء
هذا التهويل، وبالغ في الندب والعويل، حتى استبكى الجم الغفير، من عباد القبور
ومخبولي القباب الشامخة الباذخة الضخمة الفخمة، التي لعن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - الذين يبنونها مساجد على المقابر في مرض موته ليحذر أمته من
فتنتها ومن بناء مثلها.
ونذكر هذا الزعيم بأنه ليس من الذنوب المغفور له عند الله أن يدافع عن هذه
القباب والمساجد المبنية على القبور التي هي شر من مسجد الضرار الذي قال الله
تعالى فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} (التوبة:
107) الآية. ثم نذكره بقوله وقول أخيه: إنهما لا يقولان بأن هذه القبور والقباب
والمساجد عليها مطلوبة شرعًا ولا أنها كما يزعم العوام الجاهلون تنفع وتضر -
وإنما يدافعان عنها مراعاة للشيعة والعوام في الهند لأجل الانتفاع بعصبيتهم أو ما
هذا معناه.
ولكن ابن السعود لا يحابي الشيعة ولا العوام في الدين، وقد قال لهما
ولغيرهما من أعضاء المؤتمر وغيرهم ولا سيما ليلة دعوته الكبرى لرجال المؤتمر
قال: إن مسألة المقابر والمآثر قد عمل فيها بفتوى العلماء؛ فإذا اجتمعت جمعية من
علماء السنة وفقهاء المذاهب الأربعة وأعادوا المذاكرة وأثبتوا بالدليل خطأه في شيء
فعله، ووجوب تلافي هذا الخطأ؛ فإنه يأخذ بقولهم، هذا ما صرح به مرارًا.
وأما الأخذ بقول الزعيمين السياسيين شوكت علي ومحمد علي، وليسا من
علماء الدين، أو بأهواء الشيعة والعامة لأجل السياسة فلا سبيل إليه.
وأما قول الزعيم الهندي بأن الملك السلطان العربي وعده ووعد جمعية الخلافة
بأن يخضع لقرار المؤتمر الإسلامي في حكم الحجاز ويخليه لمن يختاره هذا
المؤتمر - وأن أفعاله خالفت أقواله - فنسأله: هل يُعد رأيه ورأي أخيه الشاذ في
جعل حكومة الحجاز جمهورية، وجعل حق انتخاب رئيسها للمؤتمر - قراراً من
المؤتمر بذلك؟ إن المؤتمر لم يقرر شيئًا في هذه المسألة، ولا جعلها من موضوع
مذكراته، والسواد الأعظم من مندوبي المؤتمر، ومنهم مندوبو الحكومات المستقلة
معترفون بأن جلالة عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز، فما معنى هذه المخالفة
بين الأقوال والأفعال في هذه المسألة؟ أيليق بزعيم كبير أن يقول هذا في خطاب
عام؟
***
افتخار محمد علي بالشجاعة في سبيل الله:
3 - افتخر الزعيم أمام أهل كراجي وتبجح بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة
بالموت في سبيل الله إذ صارح ابن السعود بالانتقاد على أعماله وباختصاصه
بالسلطة الشخصية في الحجاز (ورفع صوته عاليًا غير هياب في الحق ولا وجل)
وذكرهم بأنه (لم يَرهب الحكومة البريطانية التي هي أقوى دول الأرض في هذا
العهد) وأطال في ذلك وكرره، حتى خُيل لسامع كلامه أنه كان موطنًا نفسه على
سفك هذا الملك الجبار لدمه (أمام كعبة الله) كما قال! ! !
ونحن لا نرى لهذا الفخر أدنى مجال ولا مسوغ فابن سعود ليس جبارًا ولا
بطاشًا بمن ينتقده، ولا بمن يذمه، ولم ينقل عنه أنه عاقب رجلاً أساء إليه، بل
نقل عنه أنه عفا عن رجل كان يريد قتله بعد أن قبض عليه رجاله، واعترف بأنه
كان يريد قتله، وقد وقفت إدارة الأمن العام في الحجاز على جمعية سرية في مكة
تأتيها الأموال والأسلحة والديناميت من الخارج.. . ولم يأمر الملك بقتل أحد من
أعضائها، ولما أعلنت حكومة الحجاز المنع من بيع هذا السلاح في الحجاز انتدب
الزعيمان (محمد علي وشكوت علي) للإنكار عليها كأنهما راضيان بعمل هذه
الجمعية واستعدادها لسفك الدماء في حرم الله الذي يحرم فيه قتل القاتل قصاصًا
شرعيًّا (! !)
ثم إننا لا نرى معنى لاستدلاله على عدم الخوف من ابن سعود بقوله: إنه
كذلك لم يخف من الدولة البريطانية، وهي أقوى دول الأرض فإن عقاب الحكومات
للأفراد لا تفاوت فيها بين حكومة قوية وضعيفة، ولكنه يتبجح بأن الحكومة
البريطانية تحميه من ملك الحجاز إذا أراد الانتقام منه؟ وهذا التبجح لا يليق به
على أنه في غير محله أيضًا؛ لأن ملك الحجاز إذا أراد معاقبة مثل محمد علي على
قدحه فيه وذمه إياه - ولن يريد - فلا يكون عقابه له بالقتل ولا بالجلد، ولا
بالحبس أيضًا - حتى يحتاج إلى هذه الشجاعة كلها، أو إلى حماية الإنكليز أقوى
دول الأرض له، وإنما يكون بمثل ما عاقب به المشاغبين من أعضاء جمعية خدام
الكعبة، وهو إخراجهم من الحجاز، أو بالحرمان من حضور جلسات المؤتمر،
وكلاهما أمر يسير غير عسير، ولكن الملك عبد العزيز الحليم العادل المتواضع قد
قابل ما كان يستفرغه الزعيم الشجاع بسعة الصدر التامة، وما كان يزيده ذلك إلا
إكرامًا لضيفه العزيز في قومه.
***
طعن الزعيم على رجال المؤتمر:
4 - طعن الزعيم الكبير في رجال من أعضاء المؤتمر بأنهم أصحاب
أغراض شخصية ومآرب ذاتية، وأنه لا ضمير لهم ولا مبدأ، ولماذا؟ قال: إن
أحدهم قال له: يجب أن لا تقول شيئًا ضد ابن السعود.
سبحان الله! لماذا يجوز له أن يطعن هو في ابن السعود أشد الطعن؛ لأنه
يخالفه في سياسته التي يستميل بها الشيعة وعوام الهنود الخرافيين في بلاده -
ويخالفه هو وأهل الحجاز فيما لا يعنيه من شكل حكومته، ولا يجوز لغيره أن يعد
ابن السعود مصلحًا بإزالته للبدع وذرائع الشرك والمعاصي - ويدافع عنه لأجل هذا
أو لأن الطعن فيه غير مفيد في نفسه، ولا لائق بآداب رجال المؤتمر ومقاماتهم في
أقوامهم، ولا لائق بآداب الشرع، ولا لائق بالحرم الشريف، ولا سيما للحجاج لأن
أقل ما فيها إثارة الجدال والمراء المذمومين شرعًا، ولا سيما في الحرم أو لغير
ذلك من الأسباب، وإنما حلمنا نهي من نهي الزعيم الكبير عن الكلام فيما سماه
(ضد ابن سعود) على الطعن فيه، وإن كان في سياق شكل حكومته أو أعماله في
إزالة البدع؛ لأن هذا هو الذي كان معروفًا واشتهر عنه، لإسرافه فيه وإكثاره منه.
***
دعواه أنه منع من حريته في المؤتمر:
5 - قال: (لقد منعت من إعلان اقتراحي في المؤتمر وظلمت من جانب ابن
سعود، ولكني رفعت صوتي عاليًا غير هيَّاب في الحق ولا وجل) ... إلخ ما
تنفج به وتبجح، فكيف من إعلان اقتراحه وكيف رفع صوته بلا مبالاة؟ وبم ظلمه
ابن السعود في هذا المقام وهو قد أعطى المؤتمر حرية تامة ما كان أحد ينتظرها؟
أطال في الافتخار بعدم خوفه من ابن السعود، وفي كونه أنكر عليه في وجهه
الانفراد بحكم بلاد الحجاز وصارحه بأن القبب والأضرحة ليست أشد خطرًا على
الإسلام والمسلمين من تفرده بالحكم في حرم الله، قال: إنه أنكر عليه ما ذكر بما
ذكر من الغلظة أربع مرات ولم يكن يجيبه إلا بقوله: إننا متمسكون بكتاب الله
وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم أشار إلى أن طبيعة الملك تغري صاحبها بسفك الدماء، وقال: (وهكذا
أخذ على طريق الرأي والاقتراح، وأغلق في وجهي طريق العمل والإصلاح) .
نقول: إذا كان الملك ابن السعود لم يزد في جوابه على أغلاط هذا الرجل في
القدح فيه على كونه متبعًا للكتاب والسنة في عمله، أي لا لآراء محمد علي وآراء
أمثاله السياسيين الذين يستبيحون أو يوجبون في سبيل سياستهم كل شيء - وإذا
كان هذا الملك حليمًا رفيقًا يقبل من الإنكار عليه في وجهه كل تلك الغلظة اتباعًا
للخلفاء الراشدين وأئمة السلف ' فما معنى الافتخار بالشجاعة أمامه ولا دعاء توطين
النفس على القتل بسيفه؟
ثم ما معنى كونه هو الذي ظلمه بمنعه من إبداء رأيه كله في المؤتمر، إن
الملك لم يكن عضوًا في المؤتمر فيعارض فيه أحدًا أو يمنعه من إبداء رأيه،
فإن كان أنصاره والراضون عنه في المؤتمر هم الذين منعوا محمد علي مما ذكر
فأي ذنب لابن السعود إذا كانت الأكثرية الساحقة في المؤتمر تؤيده وتخالف خصمه؟
إن هذا الكلام شهادة من أخينا محمد علي بأنه هو الذي كان مخالفًا للمؤتمر لا
ابن السعود، وكل أعضاء المؤتمر كانوا يتبرمون من أكثر خطبه وخطب أخيه
الطويلة الخارجة عن موضوع المؤتمر والتي يكثر فيها الفخر بالإخلاص ورمي
المخالفين بعدم الإخلاص، وإنما كانوا يجاملونهما حذرًا من وقوع الشقاق والفشل
في المؤتمر، وسنبين هذا بالتفصيل في رسالتنا إن شاء الله تعالى.
إننا وأيم الحق كنا نتمنى لو يكون هذا الزعيم بل هذان الزعيمان الكبيران
أحكم وأقوم سبيلاً مما وجدناهما عليه ومما نقل إلينا عنهما بعد عودتهما إلى الهند.
ونحن لم نقل إلا بعض ما نراه في شأنهما هو الحق، مع مراعاة الرأفة في الحكم،
ومن أثبت لنا خطأنا في شيء مما قلناه رجعنا عنه معتذرين، واستغفرنا الله تعالى
تائبين.
***
علاقتنا بابن السعود دينية إصلاحية:
نعم، قد يقول قائل: إنك نصير لابن السعود وما عهدناك إلا مؤيدًا له ومدافعًا
عنه، ولم نرك تنتقده في شيء.
وأقول في جوابه: لا أنكر أنني أيدت الرجل ودافعت عنه ولا أزال كذلك،
ولكن فيما اعتقد أنه الحق، والمصلحة لملتنا وأمتنا، وأنا في ذلك على خطتي التي
أعلنها في المنار كل عام مرة أو مرارًا، وهي أن كل من بين لنا خطأنا في شيء
كتبناه أنا أو إخواني فإن من إنصافنا أن ننشره له مع بيان رأينا فيه ونترك للقراء
الحكم في الخلاف إذا نحن اختلفنا.
وأما مسألة الانتقاد عليه والنصح له فإن ما أمر الله تعالى به من الدعوة إلى
سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة يقتضي أن يكون الانتقاد والنصح بيننا وبينه ما دام
ذلك ممكنًا، وإنما يلجأ المرء إلى النشر في حالة امتناع الموعظة في السر، أو في
حالة التمرد وعدم قبول النصح، ونحن نصرح بأننا نصحنا للرجل بالكتابة مرارًا
ببيان ما يجب عليه لملته الإسلامية ولأمته العربية، وانتقدنا عليه بعض الأمور
التي رويناها أو رأيناها من قومه كتابة في حالة البعد، ومشافهة في حالة
القرب، فلم يقابل نصحنا وانتقادنا إلا بالقبول والشكر، مع بيان ما عنده
من الاعتقاد والرأي.
وإننا نرجو أن يكون ما كتبناه وما سنكتبه لوجه الله تعالى؛ لأن مودتنا هي في
سبيل الله تعالى لا لأجل غرض دنيوي، وهو أعلم الناس بهذا، وقد اعترف لنا به
كتابةً، ولا سيما بعد عودتنا من الحجاز، وإذا اقتضت المصلحة العامة نشر شيء
مما كتبه إلينا في ذلك فإننا ننشره.
إنه قد ثبت عندنا بالاختبار الطويل أن أهل نجد أشد مسلمي هذا العصر
اعتصامًا بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأبعدهم
عن الخرافات والبدع التي أفسدت على أكثر المسلمين دينهم وديناهم، وأن آل سعود
هم الذين أيدوا هذا الإصلاح من نشأته إلى الآن ولولاهم لما انتشر وثبت، وأن ما
ينتقد على أهل نجد من التشدد في الدين خير مما ينتقد على من غيرهم من نبذه
وراء الظهور، وفي نجد عوام وجاهلون كما يوجد في سائر الدنيا ولكنهم أقرب إلى
قبول الحق إذا ثبت عندهم بدليل شرعي، ولا نعرف شعبًا غيرهم يبذل نفسه وماله
في سبيل الله بالوازع النفسي، فلهذا دون غيره نؤيدهم ونسعى لترقيتهم وإكمال ما
ينقصهم لخدمة الإسلام والعرب في هذا العصر.
ومن الشواهد على ما تقدم أننا لما رأينا في الجرائد المصرية أن الأمير سعود
قد زار المشهد الحسيني كتبنا إليه كتابًا شددنا فيه الإنكار عليه، وأنكرنا فيه عليه
أيضًا ما قيل من أنه حضر حفلة الموسيقى في حديقة الأزبكية وصفق لها - فلما
قرأه امتعض وتألم ألمًا شديدًا، وأرسل إلينا معتمد حكومتهم الشيخ فوزان فكذب لنا
الخبرين، ولو لم يفعل ذلك لأنكرنا عليه في الجرائد، ولامتنعت عن زيارته هجرًا
له في الله -عز وجل -، ولما زرته بعد ذلك كرر لي تكذيب الخبرين ونشرت ذلك
في المنار، وهذا برهان على كوننا نؤيدهم فيما يؤيدون به السنة وننكر عليهم إذا
خالفوها.
هذا وإن إنكاري عليه ما قيل من حضوره حفلة الموسيقى مبني على ما أعلم
من اعتقاده واعتقاد قومه تحريم جميع المعازف لا ما استثني من دف العرس وطبل
الحرب مثلاً.
وهذا ما عليه جمهور فقهاء المذاهب المشهورة من أهل السنة وغيرهم، خلافًا
لبعض علماء السلف ولا سيما الحجازيين في ذلك، وأنا أعتقد حل الموسيقى
العسكرية؛ لأنه لا يصح دليل على تحريمها، ولأنها من قبيل ما استثناه بعض فقهائنا
من طبل الحرب والله أعلم.
__________(27/548)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب
القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق
(تابع لما سبق في الجزء الماضي)
أما السادة الصوفية فهم صفوة أهل الله وخلاصة هذه الأمة كما قال أبو القاسم
القشيري: الصوفية خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله، الحافظون قلوبهم
عن طوارق الغفلة وقال شهاب الدين السهروردي: الصوفي يضع الأشياء في
مواضعها ويدير الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم ويقيم
أمر الحق مقامه، ويَستر ما ينبغي أن يُستر، ويُظهر ما ينبغي أن يُظهر،
ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية
صدق وإخلاص.
إلا أن هذه المنكرات كانت خفية جدًّا لا تكاد تظهر إلا بين أفراد من الناس
منعزلين عن عامة المسلمين بسبب سطوة العلماء وأولي الأمر وشدة تمسكهم بالدين،
واعتصامهم بحبله المتين، ووجود الغيرة في قلوب العامة، إلى أن تقادم عهد
هؤلاء الأكابر وأهمل في الأمر أولياؤه، وفقدت الغيرة الدينية من قلوب المسلمين
وأسندت الأمور إلى غير أهلها، فكثرت هذه البدع والمنكرات واتسع نطاقها واشتهر
أمرها بين الخاصة والعامة وأصبحت من الأمور التي تلتزم التزام الفرائض والسنن،
وصار الإنكار عليها ممن أحيا الله في قلبه غيرة الدين وفضيلة الإسلام من الشذوذ
بمكان يستحق عليه اللوم والتعنيف فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولنبين لك أيها السائل أرشدك الله إلى الحق حكم فعل ما سألت عنه بإيجاز
فنقول:
1- الأذكار الملحونة:
أجمع المسلمون على حرمة الإلحاد في أسمائه تعالى والتحريف في آياته
وعلى حرمة ذكره على وجه ينافي الإعظام والإجلال قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقال تعالى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) .
ولا ريب أن اللحن في الكلمة المشرفة إلحاد وتحريف في الاسم الشريف،
وذكر له تعالى على وجه لا تسبيح فيه ولا تقديس، ولم يسمع عن أحد من الصحابة
والتابعين ومن يعول عليه من أئمة الدين وأهل الطريق أنه ذكر الله تعالى، أو قال
بجواز الذكر على غير الوجه المشروع الوارد كتابًا أو سنة المتلقى من أفواه الرواة
والشيوخ بالكيفية المعروفة بين أهل الأداء المضبوطة في الكتب، وقد نصوا على
أن أسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت وضعًا وكيفية إلا بكتاب أو سنة صحيحة، وأن
الكلمة المشرفة من القرآن والزيادة فيه كالنقص حرام، وممن نص على حرمة ذلك
العلامة (الأمير في رسالته) (نتائج الفكر في آداب الذكر) عند ضبطه للكلمة
المشرفة والولي الشهير سيدي عبد الرحمن الأخضري بقوله في منظومته:
ومن شروط الذكر أن لا يسقطا ... بعض حروف الاسم أو يفرطا
في البعض من مناسك الشريعة ... عمدًا فتلك بدعة شنيعة
فواجب تنزيه ذكر الله ... على اللبيب الذاكر الأوّاه
عن كل ما يفعله أهل البدع ... ويقتدي بفعل أرباب الورع
لقد رأينا فرقة إن ذكروا ... تبدعوا وربما قد كفروا
وصنعوا في الذكر صنعًا منكرًا ... صعبا فجاهدهم جهادًا أكبرا
خلوا من اسم الله حرف الهاء ... فألحدوا في أعظم الأسماء
لقد أتوا والله شيئًا إدّا ... تخر منه الشامخات هدّا
(وفي الجوهر الخاص في أجوبة مسائل الإخلاص) للعارف بالله تعالى سيدي
محمد الغمري ما يوافقه ومثله في شرح الخريدة لأبي البركات سيدي أحمد الدردير
وفي تحفة السالكين لسيدي محمد المنير خليفة الشمس الحفني وفي النفحات القدسية
لأبي المواهب الشعراني، وفي شرح العلم الشهير سيدي محمد السنوسي على
صغراه.
وجملة القول أن هذا الحكم مما تضافرت عليه أكابر الصوفية وأهل السنة
والجماعة ولم يستثنوا منه إلا مفقود الإحساس غائب الحواس الذي يغيب في القرب
عن القرب لعظيم القرب، ولا يبقى يعرف ما يقول ولا ما يقال له فنسلم قياده إلى
وارده يتصرف فيه كما شاء؛ لأنه ليس محلاً للتكليف وأمره بيد الله تعالى يفعل فيه
ما يشاء.
أما هؤلاء الجهلة الذين يتغيبون من غير غيبة ويتواجدون من غير وجدان فما
أسوأ حالهم وأخسر أعمالهم (راجع شمس التحقيق لأبي المعارف سيدي أحمد
شرقاوي رضي الله عنه) .
***
2- قصر لفظ الجلالة:
وكما لا يجوز اللحن في أسمائه تعالى لا يجوز قصر لفظ الجلالة وهو نقصه
عن المدّ الطبيعي الذي لا وجود للحرف إلا به؛ لأنه من جملة اللحن وقد نص
الفقهاء على أن الإتيان به مقصورًا لا يعد ذِكرًا ولا تنعقد به يمين وتفسد به الصلاة
في تكبيرة الإحرام وذكره الفخر الرازي وأبو السعود في تفسيرهما والمحقق الأمير
في نتائج الفكر، وأما قصره في قول الشاعر:
ألا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال
فضرورة كما صرح به ابن منظور في لسان العرب وأئمة التفسير وسيدي
مصطفى البكري وسيدي محمد الغمري واللقاني في وسطه والزرقاني والخرشي
في كبيرة والعدوي والأمير في مجموعه.
على أن صاحب المصباح نقل عن أبي حاتم أن حذف ألف الله خطأ لا أصل
له في اللغة ولا يعرفه أئمة اللسان والبيت موضوع، ولئن سلمنا جوازه لغة، فلا
يلزم منه جوازه شرعًا، ولذلك نظائر كثيرة ليس هذا موضوع إيرادها وأسماء الله
تعالى توقيفية ولم يرد في الكتاب أو السنة قصر هذا الاسم الشريف.
وما تعلل به بعض القاصرين لتجويز الذكر بالاسم الشريف مقصورًا وبغيره
على أي كيفية وقع من قوله عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات) ومما ينقله
مشايخهم من أن هذا الذكر بهذه الهيئة كان في عصر فلان وفلان من آبائهم
وأسلافهم الغابرين فمردود بهذه النصوص الواضحة، وبأن النية لا تقترن بالعمل
على الوجه المشار إليه في الحديث إلا إذا أتمت صورة العمل وهيئته المبنية في الشرع
وأن تشبثهم بما أقره أسلافهم وتركهم أوامر الدين في ذلك كتشبث اليهود
والنصارى بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) [1] .
وما أحسن قول الأستاذ أبي المعارف في نصيحة الذاكرين: وماذا علينا إذا
وافقنا الله والرسول، وتركنا ما عليه الأسلاف والأصول، فإن الشرع حجة عليهم
كما هو حجة علينا، وليسوا هم حجة على الشرع، فإنه يحتج به لا عليه فالاحتجاج
بالأسلاف، لا فائدة فيه ولا إسعاف، وإنما هو ذكر لمساويهم، وإظهار لمعاصيهم،
وقد نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن
مساويهم) اهـ
وجملة القول أن هذا منكر من القول وزور يجب على الأمة الإسلامية وخاصة
علماءها وقادتها إزالته بما لهم من الحول والسلطان، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: الآية نزلت في مشركي العرب، وهي تصدق في أهل الكتاب المقلدين لآبائهم
فيما خالفه كهؤلاء المسلمين وخص أهل الكتاب بالذكر؛لأن هؤلاء أشبه بهم منهم بمشركي العرب، وأمثالهم من حيث أن كتاب الله حجة عليهم.(27/556)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات الحديثة
(المواكب)
نظرات شاعر ومصور في الأيام والليالي
جبران خليل جبران أديب سوري عربي هاجر إلى أمريكا لأجل التجارة
كغيره وأقام فيها، لكن روح جبران شعرية فلسفية، تغوص في بحر لجي من
الفلسفة النظرية، وتطير في جو واسع من الخيال الشعري، وقد ينظم أحيانًا ما
يجنيه بغوصه من درر الفلسفة في أسلاك من الشعر، تحكي خيوط أشعة القمر أو
أسلاك أشعة الشمس، يراها [1] الرائي في الصحائف بعينيه، ويسمعها المصغي
بأذنيه، ويقرؤها القارئ بلسانه ويشعر بها الشاعر بوجدانه، ولا يملك أحد أن
يقبض على شيء منها، كشأن اليد مع الأشعة، إذا غابت عن الحس، غابت عن
النفس، إلا صورة مبهمة في الخيال، وذكرى تخطر بالبال، ذلك شعر الفلسفة
النظرية وفلسفة الخيال الشعري، وذلك جبران خليل جبران في مواكبه الجديدة،
وله شعر آخر يدخل في أبواب الأعمال ونظم الاجتماع، ليس أمامنا منه الآن شيء.
تصفحنا صفحاتها الثلاثين التي أهديت إلينا مطبوعة منذ ثلاث سنين، فإذا
هي مقاطيع من الشعر أشبه بالمواصيل، تصور للناظر فلسفة حياة البشر الفطرية
والمدنية، في بضعة عشر شأنًا من شؤونهم الأدبية والاجتماعية، وهي: الخير
والشر الحياة وما فيها من رغد وبؤس وكدر، السُّكر والنشوة، الدين، العدل
والعقاب، العزم، العلم، الحرية، اللطف، الظرف، الحب، جنون الحب، القوة
والفتح والظلم، السعادة، الروح مع الجسد، الجسم للروح والعقم، الموت والخلود.
تلك موضوعات المواكب، وكل منها مركب من مقاطيع كمجاميع الكواكب:
مقطوعة من بحر البسيط وقافية الراء المضمومة في وصف حال أهل الحضارة في
موضوعها يليها أربع أبيات لا يلتزم فيها قافية في وصف عيشة الغاب أي سذاجة
الفطرة وعيشة البادية، يليها بيتان في غناء الناي:
وهاك المثال وهو الموكب الأول:
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا ... والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا
وأكثر الناس آلات تحركها ... أصابع الدهر يوما ثم تنكسر
فلا تقولن هذا عالم علَم ... ولا تقولن ذاك السيد الوقُر
فأفضل الناس قطعان يسير بها ... صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر
***
ليس في الغابات راع ... لا ولا فيها القطيع
فالشتا يمشي ولكن ... لا يجاريه الربيع
خلق الناس عبيدًا ... للذي يأبى الخضوع
فإذا ما هب يومًا ... سائرًا سار الجميع
***
أعطني الناي وغني ... فالغنا يرعى العقول
وأنين الناي أبقى ... من مجيد وذليل
قوله: السيد الوقر بضم القاف أصله الوقور فخفف لضرورة الشعر وهذا جائز
وقد يجيز هذا الشاعر وأمثاله من العصريين في مثل هذا ما لم يجزه علماء العربية
من قبل وينظر ما معنى قوله: فالغنا يرعى العقول - فهو من مبهماته التي يقف
فيها الذهن مفكرًا.
__________
(1) أي هذه الفلسفة.(27/559)
ربيع الآخر - 1345هـ
نوفمبر - 1926م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
ما يباح للرجل من محارمه
وشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجَل
س11: من صاحب الإمضاء في بيروت
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي
الأنام ومرجع العلماء الأعلام الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
تحية وسلامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه وهو:
هل يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن محارمه من النساء ومعانقتهن
وضمهن وتقبيلهن ولمسهن بلا حائل أم لا؟
وهل يجوز مشتري شوال أرز أو ثوب من القماش وغير ذلك بزيادة عن سعر
يومه لأجل الأجل أم لا؟
تفضلوا بالجواب ولسيادتكم عظيم الأجر والثواب.. .
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت
***
تحريم نظر الرجل إلى محارمه أو تقبيلهن أو لمسهن ومعانقتهن بشهوة
ج - لا يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل من أقاربه ولا غيرهم
فضلاً عن المرأة بل ينظر إلى غير العورة، ولكن قال بعض العلماء: إن عورة
المرأة من المحارم على ابنها أو أخيها أو عمها أو خالها مثلاً ما بين السرة والركبة
فهو الذي لا يجوز النظر إليه، وقال آخرون: بل عورتها بالنسبة إلى المحارم هو ما
يستر عادة في البيوت عند خدمتها، وهذا أقرب. فيجوز أن ينظر المحرم من
محارمه ما يبدو في البيت من البدن عند لبس ثياب المهنة كالذراعين والساقين،
ويشترط في هذا النظر أن يكون بدون شهوة فالنظر بالشهوة محرم مطلقًا، ومثله
معانقتهن وتقبيلهن ... إلخ؛ فهو مع الشهوة محرم قطعًا، بل هو أشد تحريمًا من مثله
مع الأجنبية، كما أن الزنا بالمحارم، وبحليلة الجار أفظع وأشد إثمًا؛ لأنه أشد
ضررًا وفسادًا في الفطرة، وإفسادًا للأسرة وإضاعة لحق الجوار. والسؤال ينم عن
وقوع ذلك وكون السؤال عنه، وإن كان وقوعه مما يتعجب منه لولا ضياع الدين
واستحواذ الشهوات الحيوانية على الناس، وقد وقع في مصر في هذه الأيام أن
حيوانًا من هذه الحيوانات السافلة المخلوقة بشكل البشر افترع بنتين له فعلقت منهما
واحدة، والعياذ بالله تعالى.
والأصل في هذا الجواب دليلان:
(أحدهما) ما أمر الله تعالى به في سورة النور من وجوب استئذان المملوك
من ذكر وأنثى والأولاد الذين لم يبلغوا الحلم في الدخول على أهل البيت من
رجل وامرأة في الأوقات التي هي مظنة ظهور العورات: قبل صلاة الفجر وعند
تخفيف الثياب للاستراحة أو القيلولة في وقت الظهيرة ومن بعد العشاء عند النوم.
(ثانيهما) سد ذرائع الفساد واتقاء الفتنة، كلاهما ظاهر لا مراء فيه.
***
شراء السلعة
بأكثر من ثمن المثل إلى أجل
إن هذا الشراء جائز وليس من الربا المحرم، والله أعلم.
__________(27/561)
الكاتب: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
__________
الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق
(2)
من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد
الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى.
ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير
المخالفين واحتياطهم فيها أكثر من سائر علماء
المذاهب الأخرى
تابع ما نشر في الجزء الماضي
وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (محمد: 26) على بعض ما
يجري من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين،
والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} (محمد: 25) ولم تفقهوا المراد من هذه
الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله تعالى في هذه الآية
الكريمة، وفي قصة صلح الحديبية وما طلبه المشركون واشترطوه وأجابهم إليه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم.
***
فصل
وهنا أصول (أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام
القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل
الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي،
وما يراد بالموالاة والتولي ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من
الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها، وكذلك
الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة ومعرفة النصاب والأجناس التي
تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت الوجوب واشتراط الحلول في بعضها،
ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم
والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف
بيانه على السنة، وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطها
ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه
ونوعه وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا
البيان أخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواية الثقات العدول عن مثلهم
إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أهمل هذا
وإضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنزيل والقرآن.
(الأصل الثاني) أن الإيمان أصل له شُعب متعددة كل شعبة منها تسمى
إيمانًا فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها ما
يزول الإيمان بزواله إجماعًا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعًا
كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوته منها ما يلحق
بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها
أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه
سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكفر أيضًا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان
إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها
من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء، والأحكام، وفرق بين من ترك
الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو
زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة [1] كما جرى لحاطب،
فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في
ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم
أهل البدع والأهواء.
(الأصل الثالث) أن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول
القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل
القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه وعمل الجوارح كالصلاة
والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة، فإذا زال تصديق القلب
ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال
كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف هل يزول
الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا
يكفر؟
وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه
لابد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده، والمرجئة تقول: يكفي
التصديق فقط ويكون به مؤمنًا، والخلاف - في أعمال الجوارح - هل يكفر أو لا
يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني
الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، والقول الثاني أنه لا يكفر إلا من
جحدها، والثالث الفرق بين الصلاة وغيرها.
وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات
فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع
كفرًا وما لم يسمه، هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.
(الأصل الرابع) أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد وهو أن
يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا من أسماء الرب،
وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وهذا
مضاد للإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود
للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد، وكذلك
قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) [2] وقوله: (من أتى
كاهنًا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله
عليه وسلم -[3] فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف
وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد
سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به،
وكافرًا بما ترك العمل به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ
تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} (البقرة: 84) إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) الآية، فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي
أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل
فريق منهم فريقًا آخر وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أُخذ عليهم، ثم أخبر
أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب.
وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه.
فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر
الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فرق بين
سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به والآخر كفر ومعلوم أنه إنما أراد الكفر
العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية،
كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام
والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم
فانقسموا فريقين فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في
النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى
الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في
الملل.
فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم،
فعن ابن عباس في قول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه. رواه عنه سفيان وعبد
الرزاق وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء: كفر دون كفر،
وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بَيّن في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه
سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله
كافرًا، وسمى الكافر ظالمًا في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254)
وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا، وقال: {وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23)
وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (القصص: 16) وليس هذا الظلم مثل
ذلك الظلم.
وسمى الكافر فاسقًا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26)
وقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: 99)
وسمى العاصي فاسقًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُونَ} (النور: 4) وقال: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} (البقرة: 197) وليس الفسوق كالفسوق [4] .
وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل
عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة:
72) وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج:
31) الآية وقال في شرك الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً
وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) وفي الحديث (من حلف بغير الله
فقد أشرك) [5] ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم
الكفار، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الشرك في هذه الأمة أخفى من
دبيب النمل) [6] .
فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن
الملة وإلى ما لا ينقل عنها.
وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في
القرآن في غير موضع أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل
جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن
كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا
عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا اؤتمن خان) وكقوله - صلى الله عليه وسلم -
(آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد خلف) [7] قال بعض
الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ
صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم [8] فإن الإيمان ينهي
عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا
منافقًا خالصًا.
(الأصل الخامس) أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن
يسمى مؤمنًا، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرًا، وإن كان ما
قام به كفر، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أو من أجزاء الطب أو
من أجزاء الفقه أن يسمى عالمًا أو طبيبًا أو فقيهًا، وأما الشعبة نفسها فيطلق عليها
اسم الكفر كما في الحديث (ثنتان في أمتي هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة
على الميت) [9] وحديث (من حلف بغير الله فقد كفر) [10] ولكنه لا يستحق اسم
الكافر على الإطلاق، فمن عرف هذا عرف فقه السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم،
قال ابن مسعود من كان متأسيًا فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فإنهم أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها وأقلها تكلفًا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه
فاعرفوا لهم حقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر:
إحداهما: الغلو ومجاوزة الحد والإفراط، والثانية: هي الإعراض والترك والتفريط،
قال ابن القيم لما ذكر شيئًا من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر
إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا
يبالي بأيهما ظفر، وقد اقتطع أكثر الناس إلا القليل في هذين الواديين وادي
التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط الذي كان
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وعد رحمة الله كثيرًا من هذا
النوع إلى أن قال: وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان
جبريل وميكائيل فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من
الإسلام بالكبيرة الواحدة.
هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين،
والدلائل القواطع، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) ولعل الأصل موالاة المشركين أو الكفار.
(2) رواه أحمد والشيخان وغيرهما.
(3) في الجامع الصغير (من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة (وحسنه) وفيه من حديثه عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضًا أو أتى امرأة في دبرها فقد برئ مما أنزل على
محمد) .
(4) كذا ولعل أصله: وليس الفسوق هنا كالفسوق هناك، كما قال في الظلم قبله.
(5) رواه أحمد والترمذي والحاكم وهو حسن.
(6) رواه الحكيم والترمذي.
(7) الحديث الأول رواه الجماعة عن ابن عمر وقيل: إلا ابن ماجه وفي روايات الخصال تقديم وتأخير، والثاني رواه منهم الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(8) هذا القيد روي في بعض ألفاظ الحديث.
(9) رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة ولفظ مسلم (اثنتان في الناس) ولا تحفظه إلا هكذا.
(10) رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر وتقدم بلفظ فقد أشرك.(27/585)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة
فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
وأما حديث معاذ فمن إفراد مسلم رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقرة
بن خالد وهذا لفظ مالك عن أبي الزبير والمكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة
أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى
الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء.
(قلت) الجمع على ثلاث درجات أما إذا كان سائرًا في وقت الأولى فإنما
ينزل في وقت الثانية، فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن
عمر وهو نظير جمع مزدلفة، وأما إذا كان وقت الثانية سائرًا أو راكبًا فجمع
في وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روي ذلك في السنن كما سنذكره إن
شاء الله، وأما إذا كان نازلاً في وقتهما جميعًا نزولاً مستمرًّا فهذا ما علمت روي ما
يستدل به عليه إلا حديث معاذ هذا فإن ظاهرة أنه كان نازلاً في خيمة في السفر
وأنه أخر الظهر، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل إلى بيته ثم خرج
فصلى المغرب والعشاء جميعًا فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل وأما
السائر فلا يقال دخل وخرج، بل نزل وركب وتبوك هي أخر غزوات النبي -
صلى الله عليه وسلم - ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع، وما نقل أنه جمع فيها إلا
بعرفة ومزدلفة، وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر
الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ولا يقدم الثانية إلى
أول وقتها، وهذا دليل على أنه كان يجمع أحيانًا في السفر وأحيانًا لا يجمع وهو
الأغلب على أسفاره أنه لم يكن يجمع بينهما وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة
السفر كالقصر بل يفعل للحاجة سواء كان في السفر أو في الحضر فإنه قد جمع
أيضًا في الحضر لئلا يحرج أمته، فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع سواء كان
ذلك لسيره وقت الثانية أو وقت الأولى وشق النزول عليه أو كان مع نزوله لحاجة
أخرى مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر ووقت العشاء فينزل وقت
الظهر وهو تعبان سهران جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم فيؤخر الظهر إلى وقت
العصر، ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب، وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل
لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع.
وأما النازل أيامًا في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر، فهذا وإن كان
يقصر؛ لأنه مسافر فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم ولا
يأكل الميتة، فهذه الأمور أبيحت للحاجة ولا حاجة به إلى ذلك بخلاف القصر فإنه
سنة صلاة السفر.
والجمع في وقت الأولى كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة
فمأثور في السنن مثل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث
المفضل ابن فضالة عن الليث بن سعد عن هاشم بن سعد عن أبي الزبير عن أبي
الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة
تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل
أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت
الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس
أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم نزل فجمع بينهما، قال الترمذي: حديث معاذ
حديث حسن غريب (قلت) وقد رواه قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن
أبي الطفيل لكن أنكروه على قتيبة. قال البيهقي: تفرد به قتيبة عن الليث وذكر عن
البخاري قال قلت لقتيبة: مع من كتبت عن الليث ابن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب
عن أبي الطفيل فقال: كتبته مع خالد المدائني قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل
الأحاديث على الشيوخ قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب
عن أبي الطفيل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة
(قلت) وهذا الجمع الذي فسره هشام بن سعد عن أبي الزبير، والذي ذكره مالك
يدخل في الجمع الذي أطلقه الثوري وغيره فمن روى عن أبي الزبير عن أبي الطفيل
عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء عام تبوك وهذا الجمع الأول ليس في المشهور من حديث أنس؛
لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج
إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها وقد يتصل يسره إلى الغروب فهذا يحتاج
إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلاً إلى الغروب صلى
العصر مع الظهر؛ إذ كان الجمع بحسب الحاجة.
وبهذا تتفق أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا فالنبي صلى الله عليه
وسلم لا يفرق بين متماثلين، ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى ولا بمكة عام الفتح
ولا في حجة الوداع مع أنه أقام بها بضعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل أحد
إنه جمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره، وقد روي
الجمع في وقت الأولى في المصر من حديث ابن عباس أيضاً موافقة لحديث معاذ
ذكره أبو داود فقال: وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن
ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث الفضل (قلت) هذا
الحديث معروف عن حسين وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به ولا يعتمد
عليه وحده فقد تكلم فيه على ابن المديني والنسائي ورواه البيهقي من حديث عثمان
بن عمر عن ابن جريج عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا زالت الشمس
وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا
دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر وإذا غابت الشمس وهو في منزله
جمع بين المغرب والعشاء وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى أتت العتمة نزل
فجمع بين المغرب والعشاء. قال البيهقي: ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج
أخبرني حسين عن كريب، وكان حسين سمعه منهما جميعًا، واستشهد على ذلك
برواية عبد الرزاق عن ابن جريج وهي معروفة، وقد رواها الدارقطني وغيره وهي
من كتب عبد الرزاق. قال عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني حسين بن عبد
الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وعن كريب عن ابن عباس أن ابن عباس
قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر؟ قلنا: بلى
قال: كان إذا زاغت له الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب،
وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر
والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن في
منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما قال الدارقطني: ورواه عبد المجيد
بن عبد العزيز عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن حسين عن كريب،
فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولاً من هشام بن عروة عن حسين كقول عبد المجيد
عنه، ثم لقي ابن جريج حسينًا فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج عن ابن
جريج قال البيهقي: وروي عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادي وأبي رويس
المدني عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، وهو بما تقدم من
شواهده يقوى، وذكر ما ذكره البخاري تعليقًا: حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين
عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره،
وجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البخاري في صحيحه، فقال: وقال إبراهيم
بن طهمان فذكره.
(قلت) قوله: على ظهر سيره قد يراد به على ظهر سيره في وقت الأولى،
وهذا مما لا ريب ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره في وقت الثانية كما جاء
صريحًا عن ابن عباس، قال البيهقي: وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن ابن
عباس لا نعلمه إلا مرفوعاً بمعنى رواية الحسين وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق
ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ولا
أعلمه إلا مرفوعًا، وإلا فهو عن ابن عباس أنه كان إذا نزل منزلاً في السفر
فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، قال إسماعيل: حدثنا عارم
حدثنا حماد فذكره، قال عارم: هكذا حدّث به حماد قال: كان إذا سافر فنزل منزلاً
فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ورواه حماد بن سلمة عن
أيوب من قول ابن عباس قال إسماعيل: ثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن أيوب عن
أبي قلابة عن ابن عباس قال: إذا كنتم سائرين فَنَبَا بكم المنزل فسيروا حتى تصيبوا نزولاً فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا.
(قلت) فحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح
كما سيأتي إن شاء الله.
وأما حديث جابر ففي سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز بن محمد
عن مالك عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غابت
له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف. قال البيهقي ورواه من حديث الحماني عن
عبد العزيز، ورواه الأجلح عن أبي الزبير كذلك قال أبو داود: حدثنا محمد بن هشام
جار أحمد بن حنبل حدثنا جعفر بن عون عن هشام بن سعد قال: بينهما عشرة أميال
يعني بين مكة وسرف (قلت) عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث، والبريد أربعة
فراسخ، وهذه المسافة لا تقطع في السير الحثيث حتى يغيب الشفق، فإن الناس
يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق، ومن
عرفة إلى مكة بريد، فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون إليها إلا بعد غروب
الشفق فكيف بسرف، وهذا يوافق حديث ابن عمر وأنس وابن عباس أنه إذا كان
سائرًا أخَّر المغرب إلى أن يغرب الشفق ثم يصليهما جميعًا.
قال البيهقي: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة
فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن
أصحابه، ثم ما أجمع المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة وذكر ما رواه
البخاري من حديث سعيد عن الزهري أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة
المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء.
قال سالم: وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير في السفر يقيم
صلاة المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم، ثم قلَّما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها
ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم
من جوف الليل.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر ما أشد ما
رأيت أباك عبد الله بن عمر أخر المغرب في السفر؟ قال: غربت له الشمس بذات
الجيش فصلاها بالعقيق قال البيهقي: رواه الثوري عن يحيى بن سعيد وزاد فيه:
ثمانية أميال.
ورواه بن جريج عن يحيى بن سعيد وزاد فيه قال (قلت) أي ساعة تلك؟ قال:
قد ذهبت ثلث الليل أو ربعه قال: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن
نافع قال: فسار أميالاً ثم نزل فصلى. قال يحيى: وذكر لي نافع هذا الحديث مرة
أخرى فقال: سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى.
وروي من مصنف سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن
عباس أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر ويقول: هي سنة ومن حديث علي بن
عاصم أخبرني الجريري وسلمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: كان سعيد
بن زيد وأسامة بن زيد إذا عجل بهما السير جمعا بين الظهر والعصر وبين
المغرب والعشاء.
وروينا في ذلك عن سعيد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وروي عن عمر
وعثمان وذكر ما ذكره مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبد
الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم لا بأس بذلك ألا ترى إلى
صلاة الناس بعرفة؟ وذكر في كتاب يعقوب بن سفيان ثنا عبد الملك بن أبي سلمة
ثنا الداروردي عن زيد بن أسلم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر
وأبي الزناد في أمثال لهم خرجوا إلى الوليد وكان أرسل إليهم يستفتيهم في شيء
فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس (قلت) فهذا استدلال من السلف
بجمع عرفة على نظيره وأن الحكم ليس مختصا وهو جمع تقديم للحاجة في
السفر.
(للحديث بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/593)
الكاتب: عبد المتعال الصعيدي
__________
القرآن والعلم الحديث
لقمان الحكيم، وبلعام بن باعورا
جاء في القرآن الكريم عن لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن
يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 12-13) الآيات
من سورة لقمان فلقمان الحكيم في نظر القرآن كان رجلاً حكيمًا مؤمنًا ولكن من هو
لقمان الذي اشتهر عند العرب بالحكمة مع أنه لم يكن منهم ولم يرد له ذكر عند
غيرهم ومن البعيد أن يحفظ العرب ذكره ولا يكون له ذكر عند قومه. وهم أولى
بحفظ ذكره من العرب.
على أن علماءنا الأقدمين ليسوا علي بينة من أمر لقمان فمن قائل أنه لقمان
بن باعورا بن أخت أيوب أو ابن خالته ومن قائل: إنه من أولاد آزر عاش ألف
سنة وأدرك داود عليه السلام ومن قائل: إنه كان قاضيًا في بني إسرائيل، ومن قائل
أنه أسود من سودان مصر، وقد اختلفوا بعد هذا في أنه كان خياطًا أو نجارًا أو
راعيًا وهذا الاضطراب يدل علي أنهم لا يعرفون يقينًا ما لقمان ولا من أي قوم كان
وقد شك الألوسي المفسر في صحة هذه الروايات كلها ولكنه لم يبين لنا أصل هذا
الاسم الأعجمي الذي حفظه العرب بدون أن يعرفوا أصله ولم يرد فيه عند غيرهم
ما يوضح أمره.
وقد حاول العلم الحديث أن يحل هذه المسألة فهداه البحث إلى أن لقمان بن
باعورا الحكيم المؤمن هو بلعام بن بعور المذكور في التوراة والمشهور عند اليهود
بأنه فيلسوف الشعب الكافر، وقد قالوا عنه: إنه لا توجد في الدنيا فلاسفة مثله
وممن ذهب إلى هذا الدكتور ج درانبورج أحد أعضاء الجمعية الشرقية بمدينة
باريس ودليله عليه أن الأسماء المشهورة الواردة في التوراة والتي ذكر معظمها في
القرآن بالشكل الذي هي عليه في التوراة ينقصها اسم بلعام بن بعور فليس هو إلا
لقمان بن باعورا ويؤيد هذا اتفاق اسم الأب فيهما وأن الفعل العربي (لقم) معناه
باللسان العبري بلع على أنه يوجد في كتاب صغير لمؤلف يسمى أنوخ ما يؤخذ منه أن
دلالة هذين الاسمين على شخص واحد كان معروفا قديما فقد جاء فيه أن بلعام هو
الفيلسوف المسمى في العربية (لقنين) يعني لقمان وإنما أوقعه في هذا التحريف
بعده عن العربية وأنه ليس من أهلها.
وهذا الأمر إن صح لا يحل المسألة إلا من وجهتها التاريخية ولكنها من الوجهة
الدينية تبقى معقدة؛ لأن لقمان في نظر القرآن حكيم مؤمن وفي نظر التوراة إذا كان
هو بلعام فيلسوف كافر فقد ورد فيها أن بني إسرائيل لما ارتحلوا إلى موآب ليحاربوا
أهلها، أجمع شيوخها وأرسلوا إلى بلعام ليلعن هذا الشعب الذي يغير علي بلاده،
فقال له الرب: لا تلعن هذا الشعب لأنه مبارك ولما ألحوا عليه أذن له الرب أن
يذهب معه بشرط أن لا يتكلم إلا بما يأمره به فركب حماره، وغضب الرب لذهابه
تأمل؛ فأرسل له ملكًا في الطريق وفي يده سيف مسلول فلما أبصره حماره وقف
وكشف الله عن عينه؛ فرأى الملك متعرضًا في طريقه فأراد أن يرجع ولكن الملك
سمح له أن يذهب معهم بشرط أن لا يفعل إلا ما أمر به، ولما وصل إلى مكان يرى
منه شعب إسرائيل ظهر له الرب وأمره أن لا يلعنه فذهبوا به إلى مكان آخر لعل
الرب يظهر له ويغير أمره؛ فلم يأذن له في لعنهم فتركهم ورجع إلى مكانه الذي
كان فيه ولما استولى موسى وقومه علي بلاد موآب قتلوه مع كل ذكر فيها، وسبوا
النساء والأطفال فغضب موسى لعدم قتلهم النساء والأطفال، وقتل كل طفل فيها
وكل امرأة ثيب فهذا ما ذكرته التوراة الموجودة بأيدي اليهود عن بلعام.
وقد نقلت هذه الرواية إلى المسلمين مع من أسلم من أهل الكتاب ولكن بتغيير
قليل فإن التوراة لا تنص علي أنه دعا على موسى وقومه، وأما رواية مسلمي أهل
الكتاب فتنص علي أنه دعا عليهم فوقعوا بسبب دعوته في التيه؛ فقال موسى: يا
رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال بدعاء بلعام فقال: كما سمعت دعاءه فاسمع
دعائي عليه فدعا أن ينزع منه الإيمان فسلخه مما كان عليه.
ولم يشأ علماؤنا إلا أن يصدقوا هذه الرواية التي لم ينزل بها إليهم كتاب ولم
يأت بها إليهم رسول فكان بلعام عندهم غير لقمان، وقد ذهبت الظنون بهم فيه أيضًا
؛ حتى قال بعضهم: إنه كان نبيًا، وقال آخرون: إنه كان من أهل اليمن وحمل
عليه ابن عباس قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} (الأعراف: 175) وقالوا: إنه كان يعرف اسم الله
الأعظم الذي ما دعا به داع إلا استجيب له، ولا يخفى أن كل هذا من الإسرائيليات
التي رواها لنا كعب الأحبار وغيره من مسلمي أهل الكتاب، ولا يوثق بها عند
كثير من محققي المؤرخين عندنا، فإن مسلمي أهل الكتاب الذين نقلت عنهم هذه
الروايات كانوا في نشأتهم بين البدو من العرب بعيدين عن معرفة الأخبار الصحيحة
عن أهل الكتاب ولم يكن عندهم من العلم ما يميزون به غثها من سمينها.
وأما قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 175) الآية [1] فليس فيه ما
يدل على أن المراد به بلعام أو غيره، وقد قال ابن عمر: إنها نزلت في أمية بن أبي
الصلت كان على علم بكتب الله وآياتها وكان يعلم أن الله سيبعث رسولاً من العرب
ويرجو أن يكون هو فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده ومات كافرًا،
وقيل: إنها نزلت في أبي عامر الراهب وقيل: إنها مثل لكل من يعرف الهدى
ويعرض عنه؛ فليس في القرآن إذًا ما يمنع أن يكون بلعام هو لقمان الحكيم.
وأما رواية التوراة عن بلعام فلا يلزمنا أن نصدقها وقد نسبت إلى غير بلعام
من الأنبياء الذين لا نشك في عصمتهم كداود، وسليمان، وغيرهما أمورًا لا نشك
في أنهم منزهون عنها فما ورد فيها عن بلعام لا يمنعنا من أن نجاري العلم الحديث
في أنه هو لقمان الحكيم، علي أن بعض علماء المسيحيين يشك في صحة قصة
بلعام الواردة في التوراة للتناقض الذي فيها، فكيف يأذن له الله على ما سبق في
الذهاب مع قومه، ثم يغضب عليه لذهابه معهم، وكيف يقتله موسى -عليه السلام -
مع من قتل من قومه مع أن التوراة لم تنص علي أنه لعن بني إسرائيل كما كان
يريد قومه بل نصت علي أنه لما لم يأذن له الرب في لعنهم قال لبالاق بن صفور
ملك موآب قم يا بالاق واسمع؛ فليس الله إنسانًا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم، وهل
يعد ولا يفي؟ وأخبره بأن بني إسرائيل سيملكون بلاده فبأي ذنب يقتل من هذا حاله
وبأي وجه يكون هذا الرجل عند اليهود فيلسوف الشعب الكافر؟ وإذًا ليس هناك من
جهة الدين ما يمنع أن يكون لقمان هو بلعام، وأنه لخير لنا أن نجاري العلم الحديث
في هذا، وأن لا نتأثر بما رواه اليهود من كفر بلعام كما تأثر به آباؤنا من قبلنا
فحال بينهم وبين الاهتداء إلى الحقيقة في أمر لقمان وجعلهم حيارى لا يدرون من
أي قوم كان؛ وإذا لم نذهب إلي ذلك فسنظل مطالبين أمام العلم بالأدلة التي نقنعه
بأن لقمان غير بلعام وبالآثار القديمة التي تكشف عن أمر هذا الحكيم الذي ورد به
القرآن الكريم.
ولماذا نكلف أنفسنا عناء هذا البحث والتفتيش ولا نقنع بما قنع به العلم
الحديث، ونحمده على هذه الخدمة التي خدم بها القرآن وقطعه الطريق على من
تحدثه نفسه من زنادقة هذا العصر بأن روايات القرآن عن لقمان حديث خرافة إذ لا
يجد له حديثًا في التاريخ القديم ولا ذكرًا عند الأقوام الذين نسبه إليهم علماء
المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... ... أحد علماء الجامع الأحمدي
__________
(1) المنار: بينا في تفسيرها ما يؤيد رأي الكاتب في بلعام ولا ينافيه قتله.(27/600)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمةالأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب الثامن
الأمومة والولادة
كان غرضنا في الأبواب الماضية بيان وحدة الأصل والعلاج لبعض الأمراض
الكثيرة الشيوع وإننا لنعلم أن الذين أصبحوا لسوء عاداتهم عرضة للأمراض أو
الذين يخافون من الموت دائمًا لا يزالون يضعون أنفسهم تحت رحمة الأطباء مهما
حاججناهم ومنعناهم من ذلك، ولكنا على كل حال نظن بأن هنالك على الأقل أفرادًا
يريدون أن يزيلوا أمراضهم بطرق طبيعية محضة ويحفظوا أنفسهم من هجوم
الأمراض الجديدة فهم بلا شك يحبون أن يتبعوا النصائح الساذجة التي بسطناها في
هذا الكتاب وقبل أن نغلقه نريد أن نشير بعض الإشارات إلى الأمومة وتربية الطفل،
وكذلك إلى بعض الحوادث الفجائية التي يكثر وقوعها. إن أوجاع الولادة غير معروفة
لدى الحيوانات الدنيا وكذلك النساء الصحيحات صحة تامة وإن أكثر القرويات
ليعددن الولادة شيئًا عاديًّا صرفًا فلا يزلن في أشغالهن العادية المتعبة إلى آخر لمحة
من الحمل تقريبًا وقلما يتألمن من الوضع.
لماذا إذن تتعذب نساء المدن هذا العذاب الأليم عند الوضع؟ ولماذا يضطررن
إلى التداوي الخاص قبل الولادة وبعدها؟
الجواب ظاهر وهو أن هاتة النسوة تعيش عيشة غير طبيعية فطعامها وعوائدها
وطرق معيشتها كل مخالفة للقوانين الطبيعية للحياة الصحية، ثم إنها فوق هذا ومع
حملها قبل أن يكمل استعدادها للحمل استعدادا تامًّا تكون ضحية مأسوفًا عليها لشهوة
الرجال أثناء الحمل، وبعد الوضع مباشرة وهكذا تحمل مرة قبل أن يمضي على
خلو الرحم مدة يعتد بها هذا هو سبب العذاب والتعاسة التي نجد فيها مئات الألوف
من بناتنا وأخواتنا الآن.
إن مثل هذه الحياة في رأيي قلما تختلف عن حياة المجرمين في جهنم، وما دام
الرجال يعاملون النساء بهذه المعاملة الفظيعة فلا يمكن أن يكون هناك أي رجاء
للمسرة لنسائنا؛ يحمل كثير من الناس اللوم على كواهن النساء نحن لا نناقشهم في
ذلك لأنه ليست وظيفتنا هنا الموازنة في الإثم المشترك بين الرجل والمرأة في هذه
المسألة، وإنما الذي يهمنا هو معرفة الشر الواقع والإشارة إلى علاجه ليعلم
المتزوجون والمتزوجات جيدًا أنه ما دام التمتع الزوجي موجودًا قبل أوانه وأثناء
الحمل وبعد الوضع مباشرة فلا يمكن أن تنجو النساء من أوجاع الولادة أو ترى
الولادة السهلة بل يبقى هذا الأمر حلمًا غير محقق.
تتحمل النساء بسكوت جميع أوجاع الولادة؛ لأنها تعترف باطلا بأنه لابد لها
منها، ولكنها لا تعلم أن جهلها وضعف إرادتها هو الذي يجعل ولادتها تتعسر
وأولادها يكبرون ضعفاء غير نشطين، إن من وظائف كل رجل وامرأة السعي في
إزالة هذه المصيبة بأي طريقة تتيسر. ولو أدى رجل واحد أو امرأة واحدة هذه
الوظيفة تكون الدنيا قد تقدمت إلى الأمام إلى ذلك الحد ومن البديهي أن هذا ما لا
يحتاج الإنسان في القيام به ولا ينبغي أن يحتاج إلى القدوة بإنسان آخر.
فعلى هذا أول وظيفة تجب على الزوج أن يقطع كل علاقة زوجية مع زوجته
من ساعة الحمل. إن المسئولية التي تقع على الزوجة خلال مدة الحمل لعظيمة جدًّا
يجب عليها أن تعلم جيدًا أن أخلاق الطفل الذي ستلده تتوقف كلها على حياتها
وسيرتها أثناء هذه المدة المقدسة، فإن هي ملأت مخيلتها بالحب لجميع الأشياء
الطيبة العالية والتفكر فيها، فالطفل كذلك ينطبع على هذه الطبيعة نفسها وبالعكس
إن وسعت المجال للغضب وغيره من الميول الفاسدة فطفلها كذلك يرث هذه الميول
حتمًا.
فإذن يجب عليها خلال هذه الأشهر التسعة أن تشغل نفسها تمامًا بأعمال طيبة
فتطهر مخها من كل خوف، وقلق، وانزعاج، ولا توسع المجال على نفسها لفكرة
خبيثة أو ميل فاسد ولا تضيع دقيقة واحدة في لغو الكلام أو الفعل عبث؛ فالطفل
الذي يولد لمثل هذه الأم لابد من أن يكون شريفًا نبيهًا قويًّا.
يجب أن تبقى الحامل نظيفة الجسم مثلما تبقى نظيفة المخ، وأن تستنشق كمية
كبيرة من الهواء النقي، وتقتصر على الغذاء الخفيف الجيد بقدر ما تستطيع هضمه
بسهولة، فإن هي قامت بجميع النصائح التي قد بينت في مسألة الغذاء وغيره فلن
تضطر إلى الاستعانة بالأطباء، وإن هي أصيبت بالإمساك فلتزد كمية زيت
الزيتون في الطعام، وفي حالة الغثيان والقيء يجب أن تشرب عصير الليمون في
الماء بدون سكر، ثم عليها أن تهجر جميع البهارات والتوابل على اختلاف أنواعها.
والميل الذي يتولد في الحامل إلى أكل أشياء مختلفة جديدة يمكن إزالته
باستحمام (كيوهن) الذي يزيد فوق ذلك قوتها الجسدية والحيوية ويسهل أوجاع
الولادة، وعليها أن تقوي إرادتها، فتقتل مثل هذه الرغبات في أول نشأتها، ويجب
على الوالدين أن يهتما غاية الاهتمام بخير الجنين في الرحم.
وكذلك يجب على الزوج أن يجتنب المشاجرة والخصام مع زوجته أثناء هذه
المدة؛ فيسير معها سيرًا يسرها ويرضيها وعلى الزوجة أن تقلل من واجبات البيت
الثقيلة وأن تمشي في هواء طلق مدة كل يوم وأن لا تستعمل أي دواء أثناء الحمل.
***
الباب التاسع
تربية الطفل
ليس غرضنا في هذا الباب ذكر وظائف القابلة أو المرضع بل نريد أن نبين
الاحتياطات الواجب اتخاذها إذا ولد الولد. إن الذين قرءوا الأبواب المتقدمة
لا يحتاجون إلى التنبيه على عظم الضرر الذي يلحق الأم بحبسها في حجرة مظلمة
فاسدة الهواء وتنويمها على فراش وسخ مع نار تحت سريرها أثناء مدة النفاس. إن
هذه العادة مهما تكن قديمة فهي محاطة بمخاطر كثيرة على كل حال، نعم، إن
التدفئة في أيام الشتاء واجبة ولكن ذلك يتم على أحسن صورة باستعمال الأغطية
الدافئة، وإن كانت الحجرة باردة جدًّا ولا بد من وضع النار فيها فلتوقد خارجها فإذا
ذهب دخانها تدخل فيها، وفي هذه الحالة أيضًا لا ينبغي وضعها تحت
السرير وكذلك تحصل التدفئة بوضع قوارير الماء الساخن على الفراش يجب
أن تنظف جميع الملابس والأقمشة تماماً بعد الولادة وقبل استعمالها ثانية.
وبما أن صحة الطفل تتوقف على صحة الأم فلذلك يجب الاهتمام العظيم
بغذائها وطرق معيشتها فيقدم إليها الطعام من القمح مع كمية كبيرة من الثمار الجيدة
كالموز وزيت الزيتون حتى تسري فيها الحرارة والقوة وتدر لبنًا كثيرًا.
إن زيت الزيتون يوجد الخواص المسهلة في لبن الأم وهكذا يساعد في حفظ
الطفل من الإمساك وإن انحرفت صحة الطفل وجب الاهتمام بحالة صحة الأم. إن
معالجة الطفل بالأدوية تساوي قتله؛ لأن الطفل بسب ضعف بنيته يمرض سريعاً من
تأثيراتها السامة؛ ولذلك يجب أن تعطى الأدوية للأم لا للطفل لكي تنتقل فوائدها إليه
مع لبنها، وإن أصيب الطفل بالسعال أو الإمساك كما يحصل كثيراً فلا ينبغي الخوف
من ذلك بل يجب الانتظار يوماً أو يومين لنعرف أساس المرض فنداويه، إن الجزع
والخوف لا يزيد الأمر إلا سوءًا وشدة.
يجب أن يغسل الطفل في الماء الفاتر دائمًا وتقلل ملابسه ما أمكن بل الأحسن
أن لا يلبس بضعة أشهر ثوبًا ما وينوم علي قماش أبيض لين ويغطى بقماش دافئ
ويترك حرًّا في حركاته ليتقوى ويتصلب يجب أن توضع قطعة من القماش الجيد
مطوية أربعة طيات على السرة وتربط فوقها عصابة.
إن عملية ربط السرة بخيط وتعليقه في العنق مضرة جدًّا بل يجب أن تكون
عصابة السرة غير مشدودة شدًّا محكماً وإن كان المكان حول السرة رطباً فينبغي أن
يذر عليه ذرور (بودرة) دقيق الرز الجيد الناعم جيدًا.
وما دام اللبن عند الأم كافيًا فيجب أن يقتصر عليه الطفل وحده، فإن قل يجوز
استعمال دقيق القمح المشوي المطحون جيدًا في الماء الساخن مع قليل من السكر
فإنه يأتي بنتائج حسنة، وكذلك نصف علبة من دقيق الموز معجوناً بنصف ملعقة من
زيت الزيتون نافع جدًّا، وإن كان لا بد من إعطائه لبن البقرة فيجب أن يمزج أولاً
بالماء بمقدار الثلث ثم يوضع على النار حتى يغلي ثم يزاد فيه قليل من سكر
القصب كذلك.
إن استعمال السكر عوضًا من سكر القصب مضر يجب أن يعود الطفل
تدريجًا على أكل الغذاء من الثمار ليبقى دمه طاهرًا من أول الأمر ويكبر قوي
الاستعداد للرجولية، وعظائم الأمور، إن الأمهات اللاتي يبادرن إلى إطعام
أطفالهن الأشياء الثقيلة كالرز والنباتات والعدس بمجرد ظهور الأسنان بل قبل ذلك
أيضًا فإنهن يضررنهم ضررًا بليغًا ولا احتياج إلى القول بأن القهوة والشاي يجب
منعها عنهم بتاتًا.
إذا كبر الطفل وأخذ في المشي فيلبس القميص وما شاكله من الملابس، ولكن
يجب أن تبقى أقدامه حافية لتكون حرة للمشي والتنقل على إرادتها.
إن لبس الحذاء يمنع دورة الدم ونماء القدم والرجل، إن كسو الطفل الملابس
الحريرية أو الأقمشة المزركشة مع الطربوش والحلل والحلي عمل همجي، وإن
سعينا لزيادة الجمال الذي وهبته الطبيعة بمثل هذه الطريقة المضحكة إنما يدل على
غرورنا وجهلنا يجب علينا دائما أن نعرف أن تعليم الطفل يبتدئ بمجرد ولادته
فيتلقى هو هذا التعليم من والديه أكثر من كل أحد.
إن تهديد الأطفال وتخويفهم وشحن بطونهم بالأغذية كل ذلك إغارة على
أصول التعليم الحق، وكما يقول المثل القديم (إن الطفل يكون مثل والديه) فقدوة
الوالدين وعملهما لا بد من أن يفرغ في قالبه سير الطفل وأخلاقه؛ فإن كانوا ضعافًا
فيكون أطفالهم كذلك ضعافًا نحافًا، وإن كانوا يتكلمون بفصاحة وبيان فكذلك يكون
أطفالهم، وإن كانوا يتلعثمون ويجمجون، فأطفالهم يقلدونهم في ذلك، وإن كانوا
يسبون ويشتمون أو كانوا متعودين العادات القبيحة فأطفالهم أيضًا تقلدهم وتكبر في
أخلاق سيئة، والحقيقة أنه ليس هناك عمل لا يقلد فيه الطفل والديه.
فترى من ذلك كيف أن المسئولية ثقيلة عظيمة إلى أكتاف الوالدين فأول ما
يجب على الإنسان هو أن يعلم أولاده تعليمًا يجعلهم مستقيمين صادقين وحلية
للمجتمع الذي يعيشون فيه.
نحن نرى في عالم الحيوان والنبات أن كل شيء ينزع إلى شبه والديه وأسلافه
ولكن الإنسان وحده قد خرق هذا الناموس الطبيعي فنرى فيه وحده أن الأشرار
يولدون من والدين فاضلين، والضعاف من الأصحاء، وليس هذا ذنب الأولاد بل هو
ذنبنا نحن الآباء والأمهات الذين ندخل في حياة الأبوة والأمومة ونحن غير مستعدين
تمام الاستعداد لحمل مسئولياتها العظيمة الثقيلة. إن من الواجبات المقدسة على
جميع الآباء الأفاضل أن يربوا أولادهم تربية عالية وهذا يتطلب أن يكون الوالدان
قد تعلما تعليمًا صحيحًا، فإن كانا يريان أنهما لم يتلقيا مثل هذا التعليم ويشعران
بنقصهما فعليهما تسليم الأولاد إلى تربية مربين صالحين، وإن من الحمق وقبح
التصور أن نظن بأن الأولاد يحصلون على العلم بمجرد إرسالهم إلى المدرسة وما دام
التعليم والتربية في المدارس يخالف ما في البيت فلا يمكن أن يكون هناك رجاء
لإصلاح النشء الجديد.
وحيث إن التعليم الصحيح للطفل يبتدئ بمجرد ولادته مباشرة فينبغي أن يلقن
مبادئ العلم أثناء اللعب. وعلى هذه الطريقة كان يمشي القدماء في تعليم أولادهم،
وأما عادة إرسال الأطفال إلى المدرسة فمن بنات الأمس، وإذا قام الوالدان بما يجب
عليهما لأولادهما فلا يكون هناك حد لرقيهم ولكنا - ويا للأسف - لا نقوم بواجبنا بل
الواقع أننا نتخذ أطفالنا ألعوبة لنا نحن نزين أجسامهم بالملابس الجميلة ونحليهم
بالذهب والمجوهرات ونملأ بطونهم بالحلوى ونفسد عاداتهم بحنيننا المتناهي وعطفنا
الكاذب من منشئهم ونتركهم يسرحون ويمرحون على أهوائهم متأثرين بعوامل
الحب الكاذب، وما دمنا نحن نعبد بكل شقاء شهواتنا ونسير سيرًا معوجا ونعيش
في الكسل والوساخة؛ فهل من العجب أن اتبع أولادنا خطواتنا وأصبحوا ضعفاء
أشرارًا أنانيين كسالى عُبَّاد الشهوة سيئ الأخلاق مثلنا؟ فليتدبر جميع
الآباء والأمهات جيدًا هذه المسائل؛ لأن عليهم وحدهم يتوقف مستقبل البلاد.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/604)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
بطلان الدفاع عن
جرح كعب الأحبار ووهب بن منبه
تتمة ما نشر في الجزء الماضي
الانتقاد الرابع
الاحتجاج بما لا يحتج به
ادعى المنتقد الفاضل أننا احتججنا في جرح الحبرين بما لا يصح الاحتجاج
لعدم صحته أو لخروجه عن موضوع البحث، قال: ومنه تفسير وهب بن منبه لقوله
تعالى في قصة موسى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) .
سلم المنتقد أن ما نقلناه عن ابن كثير في ذلك أمر لا يتصوره عاقل وطعن في
صحة إسناده إلى وهب عند ابن جرير والإمام أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في
تفسيره، قال: في سند ابن جرير من هو مجهول، وكتاب الزهد للإمام أحمد لم
يكن من كتب الحديث المعروفة، فلا يبعد أن يكون في سنده انقطاع، وابن أبى حاتم
تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد متناقضات.
(قال) (وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من
وهب ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث
المعتبرة مثل البخاري أو مسلم أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن
يقطع أو يظن أنه صدر منه) .
أقول (أولاً) : إذا سلمنا أن في سند ابن جرير مجهولاً، فلا نسلم أن الراوي
المجهول حاله عند المؤلفين في الجرح والتعديل يقتضي أن تكون روايته
موضوعة فهذا لم يقل به أحد منهم ولا من غيرهم وإنما غايته التوقف عن الاحتجاج
بما ينفرد به وليس هذا منه إذ رواه غيره.
و (ثانيًا) إن طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد جرأة عظيمة لا ينبغي أن
يقدم عليها الحريص على توثيق كعب الأحبار، ووهب بن منبه؛ لئلا يعد جرحهما
طعنًا في رواة الحديث فنحن لو طرحنا كل ما روي عنهما لم نخسر من الدين ولا
من العلم شيئًا مهمًّا، وأما الإمام أحمد فهو إمام الأئمة شيخ البخاري ومسلم،
وغيرهما من أساطين السنة أحد الأربعة الذين عرض عليهم البخاري صحيحه
قبل أن يظهره للناس؛ ليرى رأيهم فيه عمدة المحدثين في الجرح والتعديل صاحب
المسند الذي كتبه ليكون إماماً يرجع إليه العلماء فيما اختلفوا فيه من السنة، أفقه
المحدثين، وأزهد الزهاد، وأورعهم، فهل يصح أن نطعن في كتاب ألفه لهداية
الناس لأجل توثيق وهب بن منبه، ويدعي الطاعن أنه يوثق وهبًا وكعبًا لئلا يعد
الطعن فيهما طعناً في السنة؟
سبحان الله! أيقول الشيخ عبد الرحمن الجمجوني المشتغل في جل أوقاته
بالزراعة الذي يرجع عنده إرادة الكتابة في مثل هذا المقام إلى الكتب فيقرأ منها ما
يريد أن يؤيد به رأيه الذي سنح له، وقد تقدم ما يدل على مبلغ فهمه لعباراتها الجلية؟
أيقول: إن كتاب الزهد للإمام أحمد غير معروف عنده، ويرتب على هذا أن يعد
بعض ما روي فيه موضوعًا أي كاذبًا، وهو لم يطلع على سنده؟ ! أيروي الإمام
أحمد الموضوعات في كتاب ألفه لهداية الناس في الدين، ولا يعد ذلك شبهة على
السنة وهو إمامها الأعظم ثم يعد من الشبهة عليها الطعن في مرويات كعب الأحبار
ووهب بن منبه الخرافية؟
و (ثالثاً) إن طعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تشبيهه بتفسير الإمام
محمد بن جرير الطبري أغرب من طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد رحمهم الله
تعالى، إننا نحن نخبره بأن هذين التفسيرين هما أعظم ما كتبه أئمة الحفاظ رواة الأثر
على الإطلاق وإذا كانوا قد اتفقوا على أن تفسير ابن جرير أجل التفاسير على
الإطلاق وأن الذي يليه هو تفسير ابن أبي حاتم كما نقله السيوطي، فما ذلك إلا لما في
الأول من علوم اللغة والنحو الترجيح بين الروايات واستنباط الأحكام، وأما من جهة
الرواية عن الصحابة والتابعين فابن أبي حاتم أشد من ابن جرير وسائر رواة التفسير
تحريًا للصحيح.
قال السيوطي في سياق كلامه عن الروايات المأثورة في التفسير ورواتها بعد
نقله عن الإرشاد تفضيل تفسير السدي ما نصه: وتفسير السُّدِّي الذي أشار إليه يورد
منه ابن جرير كثيرًا من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة هكذا، ولم يورد ابن أبي حاتم
منه شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد والحاكم يخرِّج منه في مستدركه
أشياء ويصححه لكن من طريق مرة عن ابن مسعود إلخ (راجع الإتقان) .
فكيف أباح لك دينك وحرصك على الصحيح من السنة أيها المسلم أن تطعن
في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تصريح أهل الحديث بأنه التزم فيه أصح ما ورد
وتحامى ما تساهل في روايته الإمام ابن جرير، والحاكم في مستدركه على
الصحيحين وغيرهما من رواة التفسير المأثور أتجعل روايات هذا الحافظ مع هذه
الشهادة في حكم الموضوع لتبريء وهب بن منبه صاحب الخرافات من رواية من
رواياته غير المعقولة، وترى مع هذا أنك تنصر السنة وتدفع الشبه عنها؟ ؟
ومن غرائب منطق هذا المنتقد أنه يجعل كلامه المفتجر قواعد وأصولاً علمية
دينية يبني عليها أحكامًا كما فعل بطعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم الذي قال
الحافظ السيوطي: إنه التزم فيه إيراد أصح الروايات فقد قال بعد ما تقدم:
(ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحبرين
أخيرًا وذكر ما نقلناه عن الحافظ ابن أبي حاتم من زعم وهب بن منبه أن التوراة
والإنجيل لا يزالان كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ثم قال: فهذا رواه ابن
أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل
هذه الرواية الساقطة) .
أقول: جعل هذه الرواية أقل ثبوتًا مما قبلها وهي التي حكم بوضعها أي كذبها
ولا نعلم أن عند المحدثين شيئًا أقل ثبوتًا من الموضوع ولكن عند الأستاذ الجمجوني
من فنون الحديث ما ليس عند المحدثين ومن قواعد العلم ما ليس عند أحد من
العلماء ووجه هذه الأقلية أنه افتجر أي: اختلق ما لم يقل به أحد ولا يوافقه عليه
أحد من الطعن بكل ما رواه ابن أبي حاتم ولما كانت كذبة وهب في مسألة عصا موسى
قد رواها عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، والإمام أحمد، وحكم هو بأنها موضوعة،
كان لا بد أن تكون هذه الكذبة التي رواها ابن أبي حاتم وحده فيما يظهر أقلّ
ثبوتًا منها عنده.
***
الانتقاد الخامس
ما احتججنا به وهو خارج عن الموضوع عنده
هذا آخر انتقاد له علينا وخلاصته أننا احتججنا بالتوراة والإنجيل على كذب
ما رواه عنهما كعب الأحبار ووهب بن منبه من حيث إن ما يعزوانه إليهما لا يوجد
فيهما شيء منه على كثرته، قال: فهذا فضلا عن خروجه عن الموضوع لما هو
مقرر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح
الاحتجاج بهما ... إلخ.
أقول: ليتأمل العلماء والعوام المُلمُّون بالقراءة والكتابة وغير السلمين أيضًا هذا
الفهم العجيب والمنطق الغريب:
يقول الأستاذ الجمجوني النقادة: إن قولنا فيما رواه الحبران الإسرائيلي
والفارسي النسب عن التوراة والإنجيل: إنه لم يوجد فيهما شيء منه، وعدم وجوده
فيهما دليل على كذبهما فيما روياه عنهما خارج عن الموضوع؛ فما موضوع طعننا
فيهما؛ إذًا إنه قد اعترف أولاً بأن هذا الدليل هو عمدتنا في تكذيبهما في رواياتهما عن
الكتب السابقة ثم يقول: إنه خارج عن الموضوع وما هو إلا عين الموضوع وإن لم
يكن عين الموضوع فما الموضوع إذاً؟ سبحان الخلاق العظيم ماذا في خلقه من
عجائب!
ثم زعم بعد هذا أنني نقضت هذا القول بقولي: إن ابن كثير كان يعلم من
كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلمه رجال الجرح والتعديل الأولون الذين جعلوا كعبًا
ووهبًا من الثقات في الرواية؛ ولذلك انتقد بعض ما روي عنهما ولم يأخذه بالتسليم
فأي نقض هذا؟ ؟
وقد ذكرت أيضًا أن ابن حزم وابن تيمية من علماء القرون الوسطى قد
اطلعوا على كتب أهل الكتاب التي لم يطلع عليها المتقدمون الذين وثقوا الرجلين كابن
حبان وغيره قال المنتقد: ولكن لم يرد عن أحد من هؤلاء ولا من غيرهم أنهم
طعنوا فيهما وهذا قول يقال ليس خارجاً عن العقل والفهم كالأقوال السابقة.
ويقال في الرد عليه أولاً: إن هذا النفي العام يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه
فعدم علمه لا يدل على عدمه كما أنه لا يدل على وجوده.
(ثانيًا) إن من ذكرناهم لا يبحثون في جرح راوٍ إلا إذا عرض لهم بحث في
تمحيص رواياته غير الثابتة عندهم، فمن سكت عن جرح الرجلين يمكن أن يقال:
إنه لم يتفق له ذلك فإن ابن حزم وابن تيمية لما تصديا للرد على أهل الكتاب ونظرا
في كتبهم لأجل ذلك لم يخطر في بالهما مراجعة ما روي عن هذه الكتب والرد عليه؛
لأنه ليس من موضوعهما بل ربما يعد حجة عليهما من حيث إن بعض كبار الرواة
الموثقين قد شهدوا لهذه الكتب.
(ثالثًا) إننا نرى الحافظ ابن كثير يستنكر بعض الروايات عن كعب ووهب
من غير طعن في سندها لعلمه بصحته وهذا يتضمن تكذيبها وإن لم يصرح به إذ
موضوعه نقد المروي؛ لأنه باطل لا الطعن في الرواة.
***
خلاصة الرد على الانتقاد:
إننا لم ننكر ولن ننكر أن جمهور رجال الجرح والتعديل عدوا كعبًا ووهبًا من
الثقات في الرواية ولم يقبلوا طعن ابن الفلاس منهم في وهب؛ لأنهم نقلوا عنه ما يدل
على رجوعه عما رماه به من البدعة، وإن منهم من تأول تكذيب معاوية لكعب بأنه
يعني به وقوع الكذب في رواياته لكذب من أخذ عنهم لا لكذبه هو أو بغير ذلك حتى
قال بعضهم ما ترده العبارة العربية ولا تحتمله ولو تكلفًا.
وإننا مع هذا نقول: إنه ظهر لنا ما لم يظهر لأولئك الموثقين لهما وهو أننا
رأينا الشيء الكثير من رواياتهما مما نقطع بكذبه، كمخالفة ما رواه عنهما الثقات مما
كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء لما عند أهل الكتاب فجزمنا بكذبهما
وهذا مما لم يكن يعلمه المتقدمون؛ لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، وإننا بهذا
الطعن في روايتهما ندفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام سيما تفسير كتاب الله تعالى
بالمأثور عن السلف، وقد حشي خرافات كثيرة يأخذها القارئون للتفسير وقصص
الأنبياء بالتسليم.
وإننا إذا سلمنا للمنتقد أن كل من وثقه جمهور المتقدمين فهو ثقة، وإن ظهر
خلاف ذلك بالدليل نفتح بابًا آخر للطعن في أنفسنا بنبذ الدليل، والأخذ في مقدماته
بالتقليد ومخالفة هداية القرآن المجيد، نعم، إننا نعترف بأن نقض رواة السنة
والآثار من حيث جودة الحفظ والضبط وعدم الشذوذ ونحوه من العلل قد محصه
رجال الجرح والتعديل ووفوه حقه إلى درجة تقرب من الكمال ولم يبقوا لمن بعدهم
فيه إلا اجتهادًا قليلاً جُلّه فيما اختلفوا فيه.
وأما تمحيص متون الروايات وموافقتها أو مخالفتها للحق الواقع وللأصول أو
الفروع الدينية القطعية أو الراجحة وغيرها فليس من صناعتهم ويقل الباحثون فيه
منهم ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يوفه حقه كما نراه فيما يورده
الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره ومنه ما كان
يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع، كظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين
وغيرهما أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس
تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل؛ إذ تكون تحت العرش تنتظر
الإذن لها بالطلوع ثانية، وقد صار من المعلوم القطعي لمئات الملايين من البشر أن
الشمس لا تغيب عن الأرض في أثناء الليل وإنما تغيب عن بعض الأقطار وتطلع
على غيرها، فنهارنا ليل عند غيرنا وليلنا نهار عندهم كما هو المتبادر من قوله
تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) وقوله
جلت قدرته: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) فنحن بعد
العلم القطعي الثابت بالحس في مثل هذه المسألة وما في حكمها لا مندوحة لنا عن أحد
أمرين، أما الطعن في سند الحديث وإن صححوه؛ لأن رواية ما يخالف القطعي من
علامات الوضع عند المحدثين أنفسهم وأقرب تصوير للطعن فيما اشتهر
رواته بالصدق والضبط أن يكون الصحابي أو التابعي منهم سمعه من مثل كعب
الأحبار ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه ونرى الكثير من
أحاديثه عنعنة لم يصرح -رضي الله عنه- بسماعها من النبي -صلى الله عليه
وسلم- ومن القطعي أنه لم يسمع الكثير منها من لسانه - صلى الله عليه وسلم -
لتأخر إسلامه فمن القريب أن يكون سمع بعضها من كعب الأحبار، ومرسل
الصحابي إنما يكون حجة إذا سمعه من صحابي مثله، ومثل هذا يقال في ابن عباس
وغيره ممن روى من كعب وكان يصدقه، وأما تأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى،
وأن بعض رواية لم يفهم المراد منه فعبر عما فهمه كعدم فهم راوي هذا الحديث الذي
ذكرنا على سبيل التمثيل المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - إن الشمس
تكون ساجدة تحت العرش ... إلخ فعبر عنه بما يدل على أنها تغيب عن الأرض
كلها وقد يكون المراد من معنى سجودها أنه من قبيل قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) كما أن توقف طلوعها على إذن الله تعالى
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (الأعراف: 58) ، وهو إذن التكوين لا
التكليف وذلك أننا نؤمن بحق أن العالم كله بيد الله تعالى وتصرفه، وقد أول
الحديث بعض شراح الصحيحين ليوافق رأي المتقدمين من علماء الفلك فكان تأويلهم
متكلفًا يرده ظاهر الحديث ولا سيما رواية مسلم المطولة.
ومن هذا القبيل حكاية بعض الرواة ككعب ووهب عن كتب بني إسرائيل لم
يكن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يصح من ذلك وما لا
يصح لعدم اطلاعهم على تلك الكتب وعدم ظهور دليل على كذب الرواة المتقنين
للكذب فيما يعزونه إليها، فإذا ظهر لمن بعدهم في العصر أو فيما قبله أو فيما بعده ما
لم يظهر لهم من كذب اثنين أو أكثر من هؤلاء الرواة فهل يكابر حسه ويكذب نفسه
ويصدقهم بلسانه كذبًا ونفاقًا، أو يكتم الحق عن المسلمين لئلا يكون مخالفًا لمن قبله
فيما ظهر له ولم يظهر لهم، أفلم ير المنتقد الغيور على السنة أن الملاحدة الذين
يتقي طعنهم في السنة بتعديل كعب ووهب يشككون المسلمين في الأصول والمسائل
القطعية حتى في نصوص القرآن؟
ثم إننا نعيد القول ونؤكده بأن ظهور كذب كعب ووهب لنا لا يترتب عليه
خسراننا لشيء من أصول ديننا، ولا من فروعه فالعمدة في الدين هو القرآن وسنن
الرسول المتواترة وهي السنن العملية كصفة الصلاة والمناسك مثلا وبعض الأحاديث
القولية التي أخذ بها جمهور السلف، وما عدا هذا من أحاديث الآحاد التي هي غير
قطعية الرواية أو غير قطعية الدلالة فهي محل اجتهاد وإننا نرى بعض الأئمة
المجتهدين قد تركوا الأخذ بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة حتى ما رواه
الشيخان منها ولا يزال يتبعهم الملايين من الناس في تركها ولا يعدهم سائر المسلمين
ضالين عن دينهم وقد أورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد من هذه الأحاديث
الصحيحة التي خالفها الحنفية وغيرهم وهم أكثر مسلمي هذا العصر.
فماذا تكون قيمة روايات هذا الإسرائيلي (كعب الأحبار) وهذا الفارسي
(وهب بن منبه) وأكثرها خرافات إسرائيلية شوهت كتب تفسير كتاب الله وغيرها
من الكتب وكانت شبهًا على الإسلام يحتج بها أعداؤه الملاحدة بأنه كغيره، دين
خرافات وأوهام وما كان منها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر كالذي ذكره
كعب من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة واعترف المنتقد بصحته
عنه وقد أعدنا ذكره في هذا الرد.
نوه المنتقد برواية البخاري لقول أبي هريرة: إن عبد الله بن عمرو بن
العاص كان أكثر حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، لأنه كان يكتب،
قال: وأنا لا أكتب إذ رواه من طريق وهب عن أخيه همام، ونقول أولاً: إن
البخاري قال عقب روايته له عنه: تبعه معمر عن همام يعني أن وهبًا لم ينفرد بهذه
الرواية عن همام بل رواها عنه معمر أيضًا، فلو أن وهبًا لم يروها ما كنا جهلناها،
ولو جهلناها لم يكن جهلها خسارة لشيء من أصول ديننا ولا فروعه، فقول أبي
هريرة ليس حجة شرعية وهو لا يدل علي أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي -
صلى الله عليه وسلم - ولا بإقراره فيصلح معارضًا لحديث نهيه - صلى الله عليه
وسلم - عن كتابه شيء عنه غير القرآن، وإن سماه المنتقد (حديثًا صحيحًا نافعًا)
ثم قال: (كما أن البخاري احتج بوهب في أول كتاب الجنائز، من صحيحه حيث
قال، وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلي، ولكن ليس
مفتاح إلا له أسنان؛ فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) اهـ
أقول:
(أولاً) إن هذا تعليق لا رواية مسندة وإنما رجال الصحيح من روى عنهم
المسند.
(وثانيًا) إنه أورده بصيغة التمريض، (قيل) قال الحافظ ابن حجر بعد
الكلام على صيغة الجزم في الروايات المعلقة في صحيح البخاري ما نصه:
والصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن
فيه ما هو صحيح، وفيه ما ليس بصحيح ... إلخ، وثالثًا، إن هذا القول لوهب
قد انتقد المنار عليه وخطئ به؛ ولذلك قالوا لما رووا هذه العبارة مرفوعة من
حديث معاذ يحتمل أن تكون مدرجة فيه ولم يقولوا: إن وهبًا هو الذي سمعها وليس
هذا المقام محلاً لبسط هذا وأمثاله حتى إنني لم أجعله من الانتقادات علينا، وإن كان
المنتقد قد حاول به أن يجعل وهبًا من رواة أحاديث صحيح البخاري، كما حاول
أن يجعل كعبًا من رجاله، والحق أن البخاري - قدس الله سره - لم يرو عن كعب
شيئًا ولم يرو عن وهب حديثًا مسندًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وإنما روى عنه عبارة وعلق عنه أخرى كما علمت آنفا.
كلمة بيني وبين المنتقد:
قد أطال صديقنا الأستاذ الجمجموني في انتقاده هذا فاضطرنا إلى الإطالة في
بيان أخطائه مع تحري الاختصار حتى لا يعود إلى مثل هذا الكلام الطويل المتهافت
على أنه إذا عاد لا ننشر له مثله، ولا سيما في هذا الموضوع [1] وإنما نشرنا هذا
تكريمًا له وتحسينًا للظن به على اعتقادنا أنه حسب أن ما جاء به حجج قيمة وبراهين
لا ترد وأنه أراد بإعادة كلامنا المنتقد عنده بنصوصه على كونه منشورًا في المنار
وأكثر النقول في الجرح والتعديل من جهة عامة وفي توثيق الحبرين مما نعرفه ولا
ننكره ولا أنكرناه من قبل أراد بهذا كله إظهار جهلنا، وإننا لو لم ننشره لظن أننا
لإصرارنا على خطئنا قد امتنعنا عن إظهار هذه الحقائق لقراء مجلتنا.
لقد كان يكفي في هذا الانتقاد ورقة أو ورقتان يذكر فيهما المنتقد أن جمهور
رجال الجرح والتعديل قد وثقوا الحبرين، وأن بعض شراح الحديث أولوا عبارة
معاوية في اختبار الكذب على كعب، وأن الروايات الخرافية عنهما يحتمل أن تكون
أسانيدها إليهما غير صحيحة وما في معنى هذا.
ولو اختصر لاختصرنا في الرد بأن جرحنا لهما إنما كان في شيء لم يكن
يعرفه رجال الجرح والتعديل المتقدمون، وهو وجيه يتعين قبوله لا يشكك أحدًا في
جمهور رواة الصحاح ولا من دونهم، وأن الروايات المعروفة صحتها عنهما كافية
في إثبات كذبهما وعدم صحة تأويل من أول لكعب بأن الكذب من غيره لما هو
معلوم بالبداهة من أن كعبًا من كبار أحبارهم، ولن يكون كذلك من لم يطلع على
التوراة وكتب الأنبياء بنفسه، وأن عدم الثقة بها سترد عن كتبنا شبهات كثيرة ولا
نخسر به شيئًا من علومها لغنانا بغيرها عنها.
بعد هذا كله أقول: إذا ثبت بما حررته كذب الرجلين بما ذكر فلا يبقى مجال
للشك في إنهما كانا يغشان المسلمين ويدخلان في كتبهم الدينية ورواياتهم ما يقتضي
الطعن في دينهم، وحينئذ لا يبقى محل لاستغراب اشتراكهما في تلك الجمعيات
اليهودية، والمجوسية التي كانت تكيد للإسلام والعرب.
هذا وإنني أستغفر الله تعالى لي ولأخي المنتقد، وقد وضح للقراء ما عندي
وما عنده في المسألة ولهم الحكم في ذلك، والله يحكم بين عباده فيما هم فيه يختلفون.
__________
(1) قد جاءنا انتقاد آخر مفيد سننشره في الجزء التالي إن شاء الله.(27/610)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الدعوة إلى الإلحادبالتشكيك في الدين
كتاب
(في الشعر الجاهلي)
ظهر بمصر في أواخر السنة الماضية كتاب بهذا الاسم من وضع الدكتور طه
حسين مدرس الآداب في (الجامعة المصرية) وأحد أركان جمعية دعاية الإلحاد
بمصر، بنى بحثه فيه على منهج البحث في الآداب وغيرها، غريب هو أن يبنى
على الشك في كل ما روي عن المتقدمين، أو تكذيبه، وإن أجمعوا عليه وعلى
التجرد من الدين والجنسية والوطنية وجميع الروابط القومية والملية، وهو بناء
على هذه القاعدة يطعن فيما ثبت بنص القرآن المجيد وفي جميع ما صح عند علماء
الملة الإسلامية من الروايات الدينية والتاريخية والأدبية دع ما ليس له أسانيد تصل
إلى درجة الصحة كتواريخ سائر الأمم ومروياتها حتى إنه تجرأ على التصريح
بتكذيب القرآن المجيد فيما أثبته من بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام بمكة
المكرمة، وشكك في آيات أخرى وفي أحاديث وروايات كثيرة من صدقه فيها من
تلاميذ الجامعة أو غيرها من الدهماء ينبذ الدين وراء ظهره ويمشي عاريًا مجردًا من
الوازع النفسي الذي ينهى عن الفواحش والمنكرات؛ فيستحل جميع ما قدر عليه من
أموال الناس وأعراضهم إذا عنت له وأمن العقاب عليها في الدنيا وحينئذ يكون
كالدكتور طه حسين في فلسفة وأحكامه التي كان منها عد أفسق الفساق في التاريخ
كأبي نواس، من كبار المصلحين ونشر أخبار فسقه في صحيفة السياسة وفيه ما
فيه من ترغيب الناس فيها. إن قاعدة الدكتور طه حسين التي جرى عليها في كتابة
هذا، وفي غيره هي أن الفلسفة العليا التي يتوقف عليها وصول الإنسان إلى العلم
الصحيح في الآداب والتاريخ وغير ذلك هي أن يكذب الله ورسله وأفضل البشر بعد
الرسل كالخلفاء الراشدين وأئمة العلم والدين أو يشكك في أقوالهم على الأقل، ويأخذ
بالقبول والتسليم ما فيه طعن في الإسلام وفي سلفه الصالح وكبار أئمته، وإن لم
يقله إلا بعض فساق المسلمين ومن لا ثقة بصدقه منهم ومن غيرهم، ثم ماذا؟
ثم يستبدل بها نظريات بل ضلالات اخترعتها مخيلات ملاحدة الإفرنج وكذا
دعاة النصرانية الذين تعلموا وربوا على الطعن في الإسلام، وجعل مدار معيشتهم
من جمعياتهم الدينية على تشكيك المسلمين بدينهم إن لم يقدروا على تحويلهم عنه
وجعلهم أعداء له، ويزين ذلك بخلابة اللفظ وشقشقة اللسان والقلم، وسفسطة الجدل
ولماذا؟ لأجل أن تنحل روابطهم الملية وتزول عقيدتهم الدينية وتفسد ملكاتهم الأدبية
فيقبلوا بارتياح أن يكونوا تابعين لدول الاستعمار الأجنبية فإن لم تكن هذه اللام لام
العلة والغاية، فلابد أن تكون لام الصيرورة والعاقبة.
إن موضوعات هذا الكتاب هي من دروس للدكتور طه الأدبية التي
يلقيها على تلاميذ الجامعة المصرية؛ لأجل أن ينسلخوا من الإسلام الذي صار قديمًا
رثًّا باليًا في نظره، ويصيروا أمة جديدة لا يدينون بدين ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله، ولا يأبون الخنوع لكل حاكم وإن كان أجنبيًّا.
وكذلك فعل صديقه وأحد أركان جمعيته الشيخ علي عبد الرازق في كتابه
(الإسلام وأصول الحكم) فأرضيا بذلك دول الاستعمار ودعاة النصرانية فأثنيا على
هذا أجل الثناء كما أثنيا على ذاك وكانا عندهم محل الرجاء.
ظهر هذا الكتاب وأنا في مكة المكرمة فرأيت في الجرائد خبره وقيام رجال
العلم والدين بالرد عليه والطعن فيه ومطالبة الحكومة بمصادرته ومنع قراءته
ورأيت فيه أن الحكومة (عاقبته) بشراء نسخ جميع الكتاب منه دفعة واحدة بدلاً من أن يبيعها هو في عدة سنين وحفظها لدى وزارة المعارف ولا ندري لماذا؟
ولما رجعت إلى مصر لم يتح لي الحصول على نسخة منه وإنما اطلعت أمس
علي نسخة منه استعرتها ساعة واحدة أو أقل من ساعة فتصفحت فيها أهم صحائفه
ورأيت قبل هذا في الجرائد اضطربًا في مجلس النواب؛ إذ طلب بعض أعضائه
عقاب هذا المعتدي على دين الحكومة الرسمي وهو من عمالها، وإخراجه من
المدرسة الجامعة حرصًا على عقائد طلبتها وآدابهم وكاد هذا الاضطراب يؤول إلى
استقالة الوزارة العدليه؛ لأن صاحب الدولة رئيسها ووزير الداخلية فيها رأى أنه لا
حق لمجلس النواب في مطالبتها بما طالبها فطفق يرد على بعض النواب، وانبرى
صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول رئيس المجلس لمناقشته والدفاع عن
حقوق المجلس حتى اعتقد الحاضرون أن الجلسة لا تنتهي إلا باستقالة الوزارة،
ولما كان اتفاق هذه الوزارة مع المجلس هو قطب الرحى لاتحاد الأمة المصرية
بعد طول الشقاق اقترح بعض الأعضاء تأجيل الفصل في هذه المسألة إلى الجلسة
التالية لتلك الجلسة وذهب في تلك الليلة كل من صاحبي الدولة رئيس الوزارة
ورئيس مجلس الشيوخ حسين رشدي باشا إلى بيت الأمة، فسمرا مع دولة سعد
سمراً طويلاً انتهى بالاتفاق على قبول ما صرحت به الحكومة في مسألة الدكتور طه
حسين وهو: أنها تعمل ما يحب عليها، وأن يطلب بعض النواب من النيابة العامة
إقامة الدعوى على الدكتور طه حسين وهكذا كان.
طلب بعض النواب محاكمة الدكتور طه حسين فطلبته النيابة العامة للتحقيق
معه، وعين جماعة من كبار العلماء الجامع الأزهر لمناقشته ومناقشة وكلائه في
القضية، وقد ظهر من ضعف هؤلاء العلماء في المناقشة ما كان مدعاة الامتعاض
والأسى من أهل الدين والتقوى وقال بعض الملاحدة: إن علماء الأزهر أرادوا أن
يثبتوا كفر الدكتور طه حسين فأثبت هو كفرهم! !
ليست هذه القضية قضية فرد اسمه طه حسين يشك ويشكك في الدين فقط -بل
هي أعظم من ذلك - ولا هي قضية أستاذ في مدرسة الجامعة المصرية أعطي حقًّا
رسميًّا في إفساد عقائد الطلبة في المدرسة الجامعة الرسمية وتجريدهم من دينهم وإن
هذا لعظيم جدًّا جدًّا جدًّا، ولكن وراءه ما هو أعظم منه وهو الذي يفقهه أهل الفقه في
مصر، وفي أوربة، وسائر العالم، وبه كانت القضية أعظم وأكبر شأنًا من قضية
فرد اشتهر بعدم التدين، وبالصد عن الدين وأعظم وأكبر شأنًا من كونها قضية
أستاذ في الجامعة المصرية أعطى حقًّا رسميًّا من الحكومة يبث رأيه على
زيغه أي بإفساد عقائد الطلبة.
بماذا كانت هذه القضية أعظم من هذا الأمر الذي اعترفنا بأنه عظيم جدًا جدًا
جدًّا.
يذكر قراء المنار أننا كتبنا في إحدى المقالات التي استنكرنا فيها جريمة كتاب
الشيخ علي عبد الرازق أن أحد أذكياء الإسرائيليين في مصر صرح في محفل أدبي
بأن قضيته هي قضية التنازع بين مدرسة الجامعة الأزهرية الدينية ومدرسة الجامعة
المصرية اللادينية، أو لتنازع بين الدين والإلحاد في البلاد المصرية ولعلهم يذكرون
أيضاً أن الشيخ علي عبد الرازق هدد خصومه في بعض المقالات التي نشرها في
جريدة السياسة وأنذرهم الخيبة والفشل في مقاومته ومحاكمة الأزهر له، ثم ظهر أن
وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري يعارض في محاكمة هيئة كبار علماء
الأزهر له بحسب قانون الأزهر، ولما أصر رئيس الوزارة في ذلك الوقت (يحيى
إبراهيم باشا) على وجوب محاكمته وعضده أكثر أعضائها استقال وزير الحقانية هو
وسائر الوزراء الذين من حزبه الحر الدستوري كما هو مشهور ولم ينسه الجمهور.
وهذا الدكتور طه حسين قد جعل كتابه الجديد هدية إلى صاحب الدولة عبد
الخالق باشا ثروت وزير الخارجية في الوزارة الحاضرة وأحد الأركان المؤسسين
للحزب الحر الدستوري وصدره باسمه وفهم الكثيرون أن رئيس الوزارة صاحب
الدولة عدلي باشا قد ناضل مجلس النواب واشتدت الملاحة بينه وبين صاحب الدولة
سعد باشا رئيس المجلس لأجله حتى كاد يسمح بترك الوزارة في هذه السبيل.
ومما يعلمه الجمهور مع هذا أن جريدة السياسة التي هي لسان الحزب الرسمي
هي اللسان غير الرسمي لهؤلاء الذين يطعنون في الإسلام ويحاولون هدم دعائمه
الدينية واللغوية والأدبية كالشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين وغيرهما
وهنالك جريدة أخرى أسبوعية تمُتّ إلى هذا الحزب بسبب وهي تهزأ بالدين ورجاله
في كل عدد ولو بغير سبب.
ومما يعلمون مع هذا أن الملاحدة والزنادقة قد كثروا في مصر وأنهم صاروا
يجاهرون بالدعوة إلى الإلحاد وإلى تقليد زعماء الترك في المروق منه والتفصي من
جميع مقوماته والانسلاخ من جميع مشخصاته وتقليد ملاحدة الفرنج وإباحيهم دون
أهل الدين منهم الذين يبذلون الملايين في تأييد دينهم ونشر دعوته في العالم ومن
هؤلاء الملاحدة أصحاب المناصب العالية والدانية.
فمن فكر في هذه المقدمات كلها يعلم أن قضية الدكتور طه حسين هي قضية
التنازع بين دين الإسلام والجهر بالإلحاد الصريح كما كانت قضية الشيخ علي عبد
الرازق كذلك، وقد صرح بهذا فيهما بعض كتاب الجرائد الأوربية في مصر وفي
أوربة نفسها فإذا برئ الدكتور طه حسين منها تعد تبرئته في عرف الشرق والغرب
انتصارًا للكفر على الإيمان وللإلحاد على الإسلام وثأرًا للملاحدة من المسلمين
وشبهة في حزب الأحرار الدستوريين تجرئ سائر الملاحدة على الطعن في الدين
وأنه لم يبق بين أتباع الحكومة المصرية خطوات الحكومة التركية الحاضرة إلا قليل
ولا أقول أكثر من هذا ولا حاجة إلى قول يعرفه جماهير المفكرين من شرقيين
وغربيين لا من المصريين وحدهم.
ولكن يمكنني مع هذا أن أقول: إن الحزب الحر الدستوري في جملته مغبون
ومظلوم في جعل جريدة السياسة لسان حاله في كل ما تنشره خارجًا عن الخطة
السياسية الوطنية للحزب كالحملة على الدين ورجاله ودعوتها إلى تجديد الأمة
المصرية بثقافة جديدة تحل روابط الثقافة الإسلامية وتحل محلها فإننا
نعرف من أعضائه المسلمين الصادقين المصلين الصائمين بل ربما كان في
أعضائه من يكره كثيرًا مما نشرته في سبيل سياسة الحزب أيضًا، وأقول أيضًا:
إن ما أشرت إليه من سبب نضال صاحب الدولة عدلي باشا لمجلس النواب هو
المعقول دون ما قيل وما انتشر من كون المراد به الدفاع عن طه حسين وكتابه
وأقول ثالثًا: إن صاحب الدولة ثروت باشا لا يعقل أن يكون قد استشير في
تصدير كتاب (في الشعر الجاهلي) باسمه أو أنه رضي بذلك على علم بما
في الكتاب.
ثم أقول رابعًا: إن النيابة العامة إذا قررت عدم محاكمة طه حسين، وإن
القضاء إذا برأه بعد محاكمته من عقاب الطعن في الدين وتكذيب القرآن وكذا التوراة
فلا يكون هذا ولا ذاك برهاناً منطقيًّا ولا قانونيًّا على تعمد نصر القضاء الكفر علي
الإيمان والإلحاد على الإسلام؛ لأن كلاًّ من رجال النيابة والقضاء المشتركين في هذه
القضية قد ينظرون ويحكمون بمقتضى الألفاظ التي يقولها الخصوم في مجالس
التحقيق والمحاكمة وقد يغفلون عن كون كلام طه حسين ووكلائه مخالفًا لكل ما فهمه
رجال الدين وجماهير المسلمين والغربيين في كتاب الدكتور طه حسين، وعن كون
فهم هؤلاء الجماهير يجب أن يكون له قيمة، بل أكبر قيمة في إدانته، فإن العبرة أو
العمدة في إثبات طعنه في الدين وإهانته له بما يفهمه جماهير الناس منه لا بما يمكن
أن يقال في تأويل الكلام والجدال فيه، وقد فهم العرب والإفرنج جميعًا أن الكتاب
طعن صريح في القرآن والنبي وسلف المسلمين الصالحين وأئمتهم، ونكتفي بنشر
برقية واحدة مما جاء من أوربة في ذلك.
***
رأي أوربة
في قضية الدكتور طه حسين
لندن في أول نوفمبر لمراسل الأهرام الخاص نشرت جريدة (الدايلي تلغراف)
اليوم مقالاً رئيسيًّا جاء فيه ما يأتي:
(ليس في العالم دين لا يوجد بين معتنقيه عدد من الهراطقة، فالدكتور طه
حسين رجل جسور فلا بد أن ينال جزاءه بالاضطهاد؛ فمن ينتقد القرآن فهو كافر؛
لأن القرآن منزل بحروفه، وهذا يعني أن الوحي لا يقتصر على ما يقوله القرآن،
بل يشمل أيضًا معنى ذلك القول كما فسره المفسرون القدماء، ثم إن المسلم المتمسك
بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي القرآن ويريد من الكتاب أن يكون
الحجة الفاصلة في الأدب العربي وينكر على كل إنسان أنه يستطيع الإتيان بمثل
لغته العالية؛ فمن الصعب على العقل الغربي أن يقبل هذا على أن المؤمنين أنفسهم
قد يجدون مثل هذه الصعوبة؛ فقد سأل اثنان من الصحابة النبي مرة كيف يقرأ آية
قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى فأجاب: إن القرآن أنزل عليه بسبع قراءات
ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن بل أنزل عليه بواسطة جبريل ثم
توقفت هذه البلاغات المكتوبة المرسلة من السماء وجعل النبي يتكلم بصوت الوحي
والصحابة يكتبون ما يقول، وقد نبه مرة إلى إحدى الآيات قائلاً: إنها وحي من
الشيطان فنسخت.
ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها إذا شاء الناقدون البارعون تفنيدها
أمام جمهور يميل إلى النقد ومع ذلك فإذا لم يكن الوحي هو القوة التي جعلت
للقرآن ذلك السلطان، فما هي تلك القوة؟ لقد أوجد القرآن أحد الأديان العظمى التي
يعتنقها الجنس البشري وهو منذ ألف سنة من أعظم القوى الموجودة في العالم) اهـ.
***
(المنار)
اقتصرنا على هذه البرقية؛ لأن صاحب الجريدة الإنكليزية زاد على وصف
طه حسين بالهرطقة (يعني محاربة الدين) إن أيده في هرطقتة بأمور نشيرإلى
تخطئتها بالإيجاز، وشهدَ للقرآن شهادة معقولة نصفع بها وجوه الملاحدة
ودعاتها الذين يحاولون سلب هذه القوة من المسلمين والذين لا يفقهون
سر إعجاز القرآن فنقول:
1 - إن الكاتب الإنكليزي علل كفر من ينتقد القرآن بأنه منزل بحروفه
وأستنبط من هذا أن تفسير القدماء للقرآن يدخل في معنى الوحي ومراده، أن من
ينتقد تفسير المتقدمين كان كافرًا كالذي ينتقد عبارة القرآن المنزلة يشير إلى أن طه
حسين قد يضطهد بمخالفته لتفسير قدماء العلماء وكأنه يلقنه بذلك نوعًا من أساليب
الدفاع.
وجوابه أن هذا خطأ كبير، فإنه لم يقل أحد من علماء المسلمين وأئمتهم إن
تفسير أحد من القدماء له حكم نص القرآن نفسه وكثيرًا ما نرى متأخري المفسرين
يخالفون بعض المتقدمين في تفاسيرهم حتى مفسري الصحابة منهم. نعم، إن
إجماع أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين على تفسير آية معتبر من أدلة
الشرع الواجب اتباعها، ولكن مخالفه لا يعد كافرًا إلا إذا كان أمرًا معلومًا من الدين
بالضرورة، وكان المخالف غير حديث عهد بالإسلام أو كان قد علم به وكذبه أو جحده
فالمدار في التكفير على اعتقاد المخالف أن هذا من قطعيات الدين المنصوصة في
القرآن ومخالفته أو جحوده مع ذلك.
2 - قال: إن المتمسك بدينه يود أن يذهب إلى أبعد من الإيمان بوحي
القرآن ... إلخ، وجوابه أن كل من قرأ القرآن أو سمعه من أهل المعرفة الصحيحة
باللغة العربية والذوق السليم في آدابها من المسلمين وغير المسلمين كانوا وما زالوا
يؤمنون بما ذكر الكاتب الإنكليزي من خصائص المسلم المتمسك بدينه وهو أن القرآن
هو الحجة الفاصلة في الأدب العربي، وأنه لم يستطع ولن يستطيع أحد
الإتيان بمثل لغته العالية ولا نسلم للكاتب قوله: (إن العقل الغربي يصعب عليه أن يقبل هذا فضلاًعن قوله: إن المؤمنين أنفسهم قد يجدون هذه الصعوبة. وذلك
أن العقل الغربي السليم لا يمكن أن يحكم في أمر لا يعرفه وهو ليس محالاً
لذاته) .
من المنصوص في القرآن والمعروف بالتواتر الإجماعي من تاريخ الإسلام أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تحدى عرب قريش وهم أفصح العرب لغة، ثم
تحدى سائر الخلق بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة من مثله، وجعل هذا
آيته الكبرى على كونه وحيًا من الله، وصرح بأنهم لن يستطيعوا ذلك فقال حاكيًا
عن الله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فلو قدر أحد من الكافرين به وكان
أكثرهم كافرين أن يأتوا بسورة من مثله لأتوا بها لإبطال دعوته والاستراحة من
تعادي القبائل بمقابلته، ولكن ظهر عجزهم وعجز جميع الخلق عن الإتيان بسورة
من مثله في بلاغته وهم عن الإتيان بمثله في هدايته أعجز، فهذا النوع من
إعجازه قد اعترف به الكاتب الإنكليزي وغيره من الغربيين ولكنه امترى في
إعجازه ببلاغته؛ لأنه لا يعرف لغته فهذا العجز حجة للمسلمين الذين يعرفون البلاغة
العربية والذين يجهلونها من الأعاجم وعوام العرب على إعجاز القرآن وصدق وعد
الله عز وجل وهي حجة واقعية قطعية لا يمكن المراء والجدل فيها ولا مجال هنا
للزيادة على هذا وقد بسطناه في مواضع من التفسير وغير التفسير.
3 - زعمه أن اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم سألا النبي - صلى الله
عليه وسلم - مرة كيف يقرأ آية قرأها كل منهما قراءة مناقضة للأخرى؟ فأجاب: إن
القرآن نزل عليه بسبع قراءات.
هذا النقل أو الزعم باطل وله أصل حرفه، أو لم يفهمه الناقل كدأب خصوم
الإسلام فيما ينقلون عنه، ونحن نذكر أصله الصحيح؛ ليعلم من يريد العلم الحق كيف
يكون الاختلاف والتحريف.
أقول:
أولاً: إن القرآن بالسبعة الأحرف وردت في حديث مستقل غير حديث
اختلاف بعض الصحابة في القراءة فقد روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن
عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرأني
جبريل على حرف فلم أزل أستزيده ويزيد لي حتى انتهى إلى سبعة أحرف، وفي
بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له هون على أمتي وإن
أمتي لا تطيق ذلك كما في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، وهذه علة
منصوصة في سبب تعدُّد القراءات تنافي أن تكون لتصحيح ما اختلف فيه بعض
الصحابة.
ثم أقول عنهما: إن الاختلاف وقع بين عمر بن الخطاب وحكيم بن هشام رضي
الله عنهما في بعض آيات سورة الفرقان كما في الصحيحين وكل منهما ادَّعى أن
النبي - صلى الله عليه وسلم- أقرأه كما قرأ، فلببه عمر بردائه وأخذه إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - وقص عليه ما سمعه منه مخالفًا لما أقرأه - صلى الله عليه
وسلم - فصدق كلا منهما بأنه هو الذي أقرأه كما قرأ، وقال: إن هذا القرآن
أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ووقع مثل ذلك لغيرهما، ولم يذكر
أحد من الرواة ما اختلف فيه عمر وهشام فمن أين أخذ هذا الإنكليزي قوله: إن
قراءة كل منهما كانت مناقضة للأخرى؟ هذا إذا كان قد عبر بما يدل على المناقضة
المعروفة في اللغة العربية أو اصطلاح علماء المناظرة عندنا. فأما إذا كان تعبيره
بمعنى المخالفة التي تصدق باللفظية بحيث لا ينقض معنى كل قراءة معنى
الأخرى؛ فيكون كلامه صحيحًا، وفي الفرقان ألفاظ كثيرة اختلف القراء في
قراءتها منها المتواتر الذي يعد قرآنا ومنها غيره وهو لا يعد قرآنا فالأول
كقراءة: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} (الفرقان: 10) بضم لام (يجعل) وبجزمها
وقراءة (ضيقًا) من قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} (الفرقان: 13)
بتخفيف الياء وبتشديدها وأمثال ذلك مما لا يتناقض معناه.
4ـ قوله: ويظهر أن النبي لم يكن هو نفسه يكتب القرآن ... إلخ وهذا لا
يحتاج إلى استنباط منه أو استظهار فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أميًّا وأميته
من دلائل نبوته لا يكتب شيئًا وإنما كان يكتب له أصحابه كل ما يوحى إليه به
ويحفظونه ويقرءونه كما يقرأه - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخمس وفي
خارجها كل يوم والذين اختلفوا من الصحابة في بعض الألفاظ من سورتي الفرقان
والنحل سمعه بعضهم من بعض في الصلاة.
5 - قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه نبه مرة إلى إحدى الآيات
قائلا: إنها وحي من الشيطان فنسخت غير صحيح، وهذه هي المسألة المعروفة
بمسألة الغرانيق، وقد كتب شيخنا الأستاذ الإمام مقالاً مسهبًا في تحقيق الحق فيها
يراجعه من شاء في المجلد الرابع من المنار، أو في ملحقات تفسير الفاتحة
المطبوع مرارًا.
6 - قوله: (ليس في العالم عقيدة يسهل الدفاع عنها) ... إلخ، هذا نفي مطلق
لا يجزم به عقل منطقي، فالدفاع عن وجود الله، ووحدانيته وحكمته من أسهل الأمور
وقد جزم بها أكثر البشر من جميع الملل والنحل والمنكرون لها على قلتهم لم يسمعوا
براهينها من أهل العلم الصحيح ومن سمع ذلك ومارى فيه فشأنه كشأن
السوفسطائية الذين أنكروا الحسيات وماروا فيها فلا يعتد بإنكارهم إذ مقتضاه أنه لا
يثبت في العالم شيء وهذا جهل ما وراءه جهل.
وأما شهادة الكاتب الإنكليزي التي حمله استقلال عقله على التصريح بها فهي
أن سلطان القرآن الروحي الذي حدث به ذلك الانقلاب العظيم في البشر وأوجد أحد
الأديان العظمى فيهم، وهو منذ ألف سنة ونيف من أعظم القوى الموجودة في العالم
إذا لم يكن هذا السلطان، وهذه القوة قوة الوحي الإلهي وسلطانه فأي شيء هما؟ وهذا
بمعنى ما قلناه وكتبناه مرارًا، وهو أن إعجاز القرآن بهدايته أعظم من إعجازه
ببلاغته وقد صرح بمعناه غير هذا الكاتب من حكماء الغرب.
إننا نكتفي في هذه المقالة بل العجالة بتنبيه الأذهان لخطر هذا الكتاب وأمثاله
من مكتوبات الدكتور طه حسين وإخوانه دعاة الإلحاد وأوليائهم وندع الرد علي
قضايا كتابه في الشعر الجاهلي أو الأدب الجهلي إلي الذين وجدوا من فراغ الوقت
ما شغلوه بالرد على قضاياه الباطلة وشبهاته العاطلة ووجه الخطر أنه دعوة إلي
الكفر والإلحاد وتحقير الدين والصد عنه ولا سيما في نابتة المدارس العليا وغيرهم
ونحن ما زلنا نذكر الأمة بخطر هؤلاء، وضررهم منذ بلغنا أنهم ألفوا جمعية
للتعاون على إفساد الدين في مصر، وكان أول من بلغنا هذا الخبر بعد وقوفه عليه
المرحوم الشيخ محمد مهدي أحد أساتذة البلاغة والدين في دار العلوم ثم في مدرسة
القضاء الشرعي التي صار وكيلاً لها ثم بلغنا في العام الماضي أن لهم أو لبعضهم
صلة خفية بجمعية يهودية في مصر الجديدة تساعدهم على سعيهم هذا والله أعلم.
ولا شك عندنا في أن هذا الإفساد هو أفعل أسباب ما يتفاقم خَطْبه في بلادنا هذه
من تهتُّك النساء والشبان واستباحة الأعراض وانحلال روابط البيوت وذهاب
الصحة والثروة، وكذا الاستعداد لقبول تعاليم البلشفية وغيرها من بدع الإفرنج التي
لا تقوي بنية دولتنا، ولا بنية أمتنا الاجتماعية والعلمية بدون الدين على ما تقوي
عليه من أحمالها بنى دول أوربة، وشعوبها بعلومها ونظمها وقومها العسكرية، فإن
قيل: إن الدكتور طه حسين قد صرح حين أتهم بهذه التهمة بأنه يؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله، قلنا: إن مثل هذا التصريح المجمل المبهم في مقام دفع التهمة لا
يسلب منا لغتنا ولا عقولنا فتغير فهمنا لكتابه هذا وغيره من مكتوباته ومقالاته.
أهكذا يكتب المؤمنون؟ يضعون كلام الله المنزل موضع الشك، بل ينظمونه في
سلك الأساطير الخرافية، ثم ينقضونه بنظريات مخترعة لبعض أعداء الإسلام الإيمان
بكتب الله هو التصديق اليقيني بكل ما أنزله الله تعالى فيها مع الإذعان النفسي
والعملي له، فكيف يصدر عن صاحب هذا الإيمان ما ذكرناه وما لم نذكر من
تشكيك في القرآن، فتكذيب مقرون بالهزؤ؟ فترجيح لمطاعن أعدائه فيه على
نصوصه.
الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تصديقه اليقيني القطعي في كل
ما جاء به عن الله تعالى، مع الإذعان النفسي والعملي لذلك، وهو يقتضي تعظيمه،
وتوقيره، وتعزيزه أي نصره، وتفخيمه، وتقديم حكمه على كل حكم وإننا نرى
له في هذا الكتاب ما نرى من التكذيب والهزؤ، ونراه إذا ذكر النبي الذي يدعي
ملته، فإنما يذكره كما يذكره الكافرون به بلا تعظيم، ولا صلاة، ولا سلام عليه،
قد كان يمكن لطه حسين أن يذكر شبهات أعداء الإسلام على بناء إبراهيم وإسماعيل
لبيت الله تعالى مثلاً بطريق الحكاية عنهم، وكان من مقتضى الإيمان أن يقفي عليها
بالرد، أو يجري فيها على قاعدته التشكيك على الأقل أو يقول: هذه نظريات مردودة
عندنا معشر المسلمين، أو عند المسلمين إذا لم يشأ أن يعد نفسه منهم بنص القرآن
الصريح الذي وصف في بعض سوره بأنه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ
خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ولكنني لم أر فيما قرأت من
الكتاب جملة تدل على أن كاتبه مسلم أو يدين بدين، وسأعود إن شاء الله تعالى إلى
النظر فيه؛ فإن وجدت شيئًا من ذلك أثبته له.
وصفوة القول فيه أنه لو لم يكن قاصدًا متعمدًا متوخيًا تجريد تلاميذه من دينهم
ووطنيتهم لادخر هذه الفلسفة لنفسه دونهم، وإن شاء ربي عليها أولاده الذين سماهم
بأسماء الإفرنج دون أسماء المسلمين عداوة لهذه اللغة وهذا الدين.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/619)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
جهل زعماء المسلمين
ومفاسد أهل الطرق والشرفاء
وكونهما سببًا لفشل زعيم الريف المغربي
إن أهل الطرق المنتسبين إلي الصوفية قد أفسدوا على عامة المسلمين في
الشرق والغرب دينهم ودنياهم وكان إفسادهم في أفريقية أشد منه في أسية ولم يكفهم
تشويه الإسلام بالبدع الذي يعد كثير منها ارتدادًا، عن الإسلام بل صاروا أعوانا
للفاتحين السالبين لملك المسلمين وأولياء لهم على المسلمين وقد بلغنا من رواية الثقة
من أهل المغرب الأقصى أن بعض مشايخ الطريقة التيجانية الزائغة وغيرها
كانوا أكبر أعوان الأجانب على الزعيم محمد عبد الكريم في قتاله لدولتي أسبانية
وفرنسة في الريف، ثم قرأنا في جريدة الشورى الأسبوعية حديثًا له في معتقله نشر
في بعض الجرائد الغربية، وهو كما يدل على فساد مشايخ الطرق وإفسادهم يدل
على جهل في الزعيم كان سبب فشله وانتصار المشايخ فالأجانب عليه؛ فبعض
الحديث حجة له وبعضه عليه قال:
حديث محمد عبد الكريم
أردت أن أجعل الريف بلادًا مستقلة كفرنسة، وأسبانية، وأن أنشئ فيها دولة
حرة ذات سيادة، لا إمارة خاضعة لأحكام الحماية، أو الوصاية فحاولت في بدء
الأمر أن أفهم موطني أنهم لا يستطيعون البقاء إلا إذا كانوا متضامنين كالبنيان
المرصوص وعملوا بصدق وإخلاص على تأليف وحدة قومية من القبائل المختلفة
الأهواء والنزعات؛ أي إني أردت أن يشعر مواطني بأن لهم وطنًا كما لهم دين.
انتقدني المنتقدون كثيرًا لأني في مفاوضات (وجدة) طلبت بإلحاح تحديد معنى
الاستقلال؛ فإن هذا التحديد كان ضروريًّا جدًّا؛ لأن غرضنا كان الاستقلال الحقيقي
الذي لا تشوبه شائبة الاستقلال الذي يكفل لنا الحرية التامة في تعيين مصيرنا،
وإدارة شؤوننا الاستقلالية، وعقد الاتفاقات والمحالفات التي نراها موافقة لنا.
وكنا أنا وأخي أطلقنا على بلادنا اسم (جمهورية الريف) منذ سنة 1923م
وطبعنا في فاس أوراقًا للحكومة عليها هذا الاسم لدلالة على أننا دولة مؤلفة من
قبائل مستقلة متحالفة لا دولة نيابية ذات برلمان منتخب، أما اسم الجمهورية فلم
يكن ليتخذ معناه الحقيقي في نظرنا إلا بعد مدة من الزمن؛ لأن جميع الشعوب
تحتاج حين تأليفها إلى حكومة حازمة وسلطة قوية ونظام قومي متين.
ولكن لسوء الحظ لم يفهمني غير أفراد قلائل يعدون على أصابع اليدين بل
كان أخلص أنصاري وأكثرهم علمًا، وذكاء يعتقدون أني بعد إحراز النصر سأترك
لكل قبيلة حريتها التامة مع علمهم بأن ذلك يعيد البلاد إلى أشد حالات الفوضى
والهمجية.
وكان التعصب الديني أعظم أسباب فشلي، إن لم أقل: إنه سببه الوحيد؛ لأن
مشايخ الطرق أعظم نفوذًا في الريف منهم في المغرب الأقصى وفي سائر بلدان
الإسلام وكنت عاجزًا عن العمل من دونهم ومضطرًّا إلى التماس مساعدتهم كل حين،
وقد حاولت في أول الأمر أن أستميل الجماهير إلى رأيي بالحجج والبراهين،
ولكني صادفت مقاومة عظيمة من الأسر الكبيرة ذات النفوذ إلا أسرة (خملاشة)
التي كان رئيسها صديقًا قديمًا لوالدي وأما الباقون فقل كانوا أعداء لي، ولا سيما بعد
ما أنفقت من أموال الأوقاف لشراء معدات الحرب؛ فإنهم لم يفهموا أن الأموال لا
يمكن أن تصرف على مشروع أشرف من مشروع استقلال البلاد.
ولا أنكر أني اضطررت في بعض الأحوال إلى استخدام الشعور الديني لتأييد
سياستي , مثال ذلك أن الأسبانيين بعدما احتلوا أجدير أكرهوا على الجلاء عن قسم
منها كان فيه مسجد لم يحترموه بل جعلوه إصطبلاً فلما بلغني ذلك أمرت ثلاثة من
القواد المشهورين بالورع والتقوى أن يحققوا الأمر بأنفسهم وقد ضاعف عملي هذا
حماسة المحاربين وزاد تعلقهم بي وبقضيتي.
والحقيقة أن الإسلام عدو التعصب والخرافات، وأنا أعرف من قواعده ما
يجعلني أؤكد للملأ أن الإسلام الذي أعرفه في المغرب والجزائر بعيدًا جدًّا عن
الإسلام الذي جاء به النبي العظيم فإن الذين ادعوا خطأ أو صوابًا أنهم من تلك
السلالة الطاهرة وجهوا كل اهتمامهم إلى اكتساب عطف الشعب على أشخاصهم
الفانية، وأقاموا أنفسهم أصنامًا يعبدها الجهلاء وأنشئوا طرقًا دينية حولوها إلى جيش
منظم لخدمة أغراضهم الشخصية مع أن الإسلام أبعد ما يكون عن تقديس الأشخاص
؛ لأنه يأمر بالإخاء، والاتحاد في وجه العدو ويحض على الموت في سبيل الحرية
والاستقلال؛ ولكن مشايخ الطرق ورؤساء الدين عبثوا بكتاب الله وسنة رسوله
إرضاء لشهواتهم وسدًّا لأطماعهم ولم يشتركوا في الثورة بحجة أن
القتال في سبيل الوطن لا يعنيهم وأنهم لا يقاتلون إلا في سبيل الدين.
وقد أفرغت قصارى جهدي لتحرير بلادي من نير مشايخ الطرق هؤلاء الذين
هم عقبة في سبيل كل حرية واستقلال، وكانت خطة تركيا قد أعجبتني كثيرًا لعلمي
بأن البلدان الإسلامية لا يمكن أن تستقل ما لم تتحرر من التعصب الديني وتقتدي
بالشعوب الأوربية، ولكن الريفيين لم يفهموني لسوء حظي وحظهم حتى إن قيامة
المشايخ قامت عليّ؛ لأني خرجت في إحدى الأيام بلباس ضابط على أني لم أعد
إلى مثل هذا العمل فيما بعد.
وكان مشايخ الطرق ألد أعدائي وأعداء بلادي كما تقدم فلم يحجموا عن شيء
في سبيل إحباط مسعاي حتى أذاعوا في طول البلاد وعرضها أني أريد الاقتداء
بتركيا وأن ذلك يقضي حتمًا بتغيير عادات البلاد وتقاليدها وإطلاق حرية المرأة
فتخرج سافرة بالبرنيطة وتلبس كنساء الإفرنج، وتقلدهن في عاداتهن إلى غير ذلك
مما عزوه إليّ وقد أقنعتني دسائس هؤلاء المتعصبين الجهلاء بأن التطور في كل
بلاد لهم فيها نفوذ قوي لا يمكن أن يتم إلا ببطء وبالالتجاء إلى القوة والعنف.
ويجب أن أعلن هنا أني لم أجد في الريف أقل عضد في مساعي الإصلاحية
وأن فريقًا قليلاً من سكان فاس والجزائر فهموني وأيدوني ووافقوا على خطتي لأنهم
على احتكاك بالأجانب ولأنهم يعرفون أين هي مصلحة بلادنا الحقيقية.
وخلاصة القول: أني جئت قبل الأوان للقيام بمثل هذا العمل ولكني موقن بأن
آمالي ستحقق كلها عاجلاً أو آجلاً بحكم الحوادث وتقلبات الأحوال. اهـ كلامه
(المنار)
قد شهد الزعيم المغربي على نفسه بأنه لم يدر كيف يسوس قومه فهو كما
استفاد من خدمة الدولة الأسبانية ما علم به كيف يدير حركة الدفاع عن بلاده إدارة
فنية عصرية زادت قيمة شجاعة قومه أضعافًا قد فتن بظواهر الحضارة الأوربية
حتى إنه أراد أن يقلدها فيما يضعف قوة قومه الروحية ويحل روابطهم الملية
ويستبدل بهما ما يسمى بالرابطة، أو الحمية الوطنية، أي أراد أن يقتدي بالأتراك
الكماليين اللادينيين فيما لا يدركه ولا يستحسنه غيره هو في وطنه جاهلاً، وإن
الترك ما أقدموا على هذا الخطب العظيم بعد الاستعداد له زهاء قرن كامل، ولولا
أن أكثر رؤساء الجند الكبير المنظم الحاملين للسلاح على رأي مصطفي كمال لما
استطاع أن ينفذ هذه الخطة في هذا الشعب الإسلامي مع تمهيد جمعية الاتحاد
والترقي السبيل له ومع هذه يرى البلاد قد ثارت عليه وحاولت اغتياله مرارًا.
إن ما سماه محمد عبد الكريم تعصبًا دينيًّا، وذمه ولم يجد وسيلة لقمعه إلا
تقليد الترك الكماليين ليس تعصبًا للدين بل هو جهل لا يداوى بقمع القوة بل بنشر
العلم وكان يجب عليه تأجيل ذلك إلى ما بعد نيل الاستقلال وكان يمكن للزعيم أن
يعبر عن قتاله بأنه قال: في سبيل الله لأن الشرع يأمر به والنصوص على ذلك
في جميع كتب الفقه صريحة ولكنه قصر لقلة اطلاعه على كتب الشرع وانخداعه
بإمكان جعل الوطنية مكان الدين وجهله بإمكان الجمع بينهما، وقد كان هذا أهم ما
ينقصه من صفات الزعيم الحاكم لبلاد إسلامية، والدليل على جهله هذا إعجابه
بخطة الترك الذين أضاعوا أعظم سلطنة في الأرض بجهلهم ما يحتاج إليه من
يسوس الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وافتتانهم بما رباهم عليه وأقنعهم به
الإفرنج، وصاروا إمارة صغيرة تحيط بها الأخطار من كل جانب وسنرى ما يكون
من أمرهم في أنفسهم، ومع الأجانب فإن أول خطأ ظهر لهم في نبذ الشرع
الإسلامي وانتحال التشريع الأوربي وليس البرنيطة أنهم كانوا يظنون أن أوربة
تعاملهم بهذا معاملة الأقران والأمثال وأنها لم تكن تناولهم إلا لتمسكهم بالإسلام فبدأ
منهم ما لم يكونوا يحتسبون.
__________(27/630)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الحجاز والمؤتمرات الإسلامية
في الهند وجاوة
ألفت في الهند منذ بضع عشرة سنة جمعية إسلامية سميت جمعية خدام الكعبة
كان من مقاصدها الأساسية الدعاية للسياسة التركية وجعلت اسم خدمة الكعبة حجابًا
لها دون حكومة الهند وقد هتك جورج فيلبيدس الذي كان رئيس البوليس السري
بمصر حجابها للدولة البريطانية في أثناء الحرب فطاردتها فانحل عقدها وخلف
من بعدها جمعيتان جهريتان إحداهما سياسة تركية وهي جمعية الخلافة المناوئة
للسياسة البريطانية وجمعية خدام الحرمين الموالية لحكومة الهند والدولة البريطانية
كجمعية الديانة المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية.
أما جمعية الخلافة ففيها أساطين رجال الهند وهي أقوى جمعيات المسلمين فيها
وسنتكلم عنها في مقال خاص عند سنوح الفرصة وأما جمعية خدام الحرمين فأكثر
أعضائها من الحشوية وطلاب المنافع المادية وأنصار البدع والخرافات، ولما
تصدت جمعية الخلافة للانتصار للسلطان ابن السعود كجمعية أهل الحديث على
الملك حسين بن علي لإلحاده في الحرم، وخدمته مع أولاده للسياسة الأجنبية
وموالاتهم لها قامت جمعية خدام الحرمين بمشايعة الملك حسين ثم ولده الشريف علي
وكان المحرك لها من وراء الدسائس السياسية حزب الشيعة المناوئين للنجديين
لاعتصامهم بالسنة اعتقادًا وعملاً؛ ولأنهم من العرب الخلص وقد أرسلت هذه
الجمعية وفدًا إلى الحجاز لبث الدسائس والفتن فيه وذلك قبل موسم الحج الماضي؛
فعاملهم ابن السعود أولاً بالحلم وسعة الصدر ولما علم بدسائسهم وفتنهم وسوء نيتهم
طردهم من الحجاز فجاءوا مصر ونشروا في المقطم وغيره طعنًا شديدًا فيه،
وكراسة ذكروا فيها من قصصهم أنهم سألوه أسئلة كثيرة كلفوه أن يجيبهم عنها كتابة
وهي متضمنة لاتهامه واتهام قومه بالجرائم كأنهم قضاة يحققون قضايا جنائية من
رعية دولتهم، يطلبون من الملك أن يعترف بها؛ أو يبرئ نفسه منها ومتضمنة
أيضًا للبحث عما عنده من الأسلحة وعن أمكنتها كأنهم مجلس أركان حرب يحاكم
قائدًا من القواد التابعين له على تهم وخيانات عسكرية فأي صعلوك من صعاليك
الناس يرضى لنفسه أن يقف أمام هؤلاء الأجانب الفضوليين هذا الموقف الذي
أرادوا أن يقفه ملك الحجاز وسلطان نجد بين أيديهم، ثم رجع هذا الوفد إلى الهند
وقوي اتحادهم بشيعة لكهنو، وقد ألفوا فيه ربيع الأول الماضي مؤتمرًا في بلدهم
لكهنو بإرشاد حزب الشيعة افتروا فيه الكذب واختلقوا الإفك على ملك الحجاز
وسلطان نجد والنجدين كعادتهم وأرسل رئيس الجمعية برقية بقراراته إلى نقابة
الصحافة بمصر وإلى سائر الأقطار ننقلها عن جريدة كوكب الشرق تعليقها عليها من
العدد الذي صدر في 27 ربيع الأول الماضي وهذا نصهما:
قرار غريب حول الحجاز
تلقت نقابة الصحافة المصرية التلغراف الآتي ليل أمس من لوكنو (الهند) .
(اجتمع مؤتمر الحجاز الذي يمثل جميع طبقات مسلمي الهند في لوكنو
تحت رئاسة (سالبهوي باروداوال) شريف بومباي ووضع قرارات خطيرة سجل
فيها استياءه العظيم من أعمال النجديين كتدمير المقامات والآثار القديمة والاعتداء
على المسلمين الأبرياء من رجال ونساء وصرح أن المسلمين عازمون على اتخاذ
جميع التدابير الممكنة لإخراج ابن السعود من الحجاز الذي لا يحق له أن يحكمه،
ولا سيما بعد هذه الأعمال.
ومن جملة القرارات التي وضعها المؤتمر قراران ينص أحدهما على وضع
نظام للحجاز يقبله الحجازيون ويرضي روح العالم الإسلامي وينص الثاني على
تنفيذ الشرع ومبدأ حق تقرير المصير.
واحتج المؤتمر في قرارات أخرى على تجريد حكومة نجد للحجازيين من
السلاح، وأعرب عن عدم استطاعة مسلمي الهند أن يساعدوا في أي مشروع كتمديد
الخطوط الحديدية وما أشبه ذلك في ظل النظام الحالي.
وقرر المؤتمر وقف الحج (!) ؛ لأن النجديين يعدون جميع المسلمين من
غير الوهابيين كفارًا أبيحت لهم أموالهم وأرواحهم ونصح المؤتمر لجميع البلدان
الإسلامية أن تفعل مثل ذلك وتساعد الحجازيين المتألمين، وقرر أن يؤلف وفدًا من
كبراء المسلمين يطوف المراكز الإسلامية الكبرى لهذه الغاية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... قطب الدين
... ... ... ... ... ... ... رئيس جمعية خدام الحرمين
(الكوكب) ونحن نقول: إن هذا القرار لم يكن له محل ولا مكان بعد البيان
الرسمي الذي أذاعه جلالة ملك الحجاز بشأن المقامات الدينية في مكة المكرمة
وإنصافًا للحقيقة نعيد اليوم نشر هذا البيان بنصه وهو نشر بعض المرجفين أن في
النية هدم القبة النبوية؛ لذلك انشروا باسمنا أن كل ما يقال من العزم على هدم القبة
النبوية كذب لا أصل له، والقبة الخضراء وقبر الرسول في حفظ وأمان بحول الله
وإنا لنفديها بأموالنا وأولادنا وأنفسنا ولا يمكن أن يصيبها أذى وفينا عرق ينبض
كذلك جميع قبور الصالحين نحافظ عليها ونحترمها ونصونها من كل أذى ونرى ذلك
دينًا نعاهد الله عليه.
... ... ... ... ... ... ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز
وإنما ردت عليهم صحيفة كوكب الشرق بالبرقية الرسمية التي نشرها ملك
الحجاز لظنها أنهم يعتقدون صحة ما رموه بها، وأنهم سيرجعون عنه بعد علمهم
ببرقية الملك؛ لذلك كتبنا مقالاً نشرناه في جريدة البلاغ بينا فيه حقيقة هذه الجمعية
وما جاء في جرائد الهند من كون مؤتمرها قد ألف بأمر وسعي ومال زعيم الشيعة
الأكبر (راجا محمود آباد) ، وأن هذا المثري الكبير قد جمع من ماله وأموال
أغنياء الشيعة في الهند مبلغًا كبيرًا من المال لأجل بث الدعوة في الهند
وأفغانستان وغيرها من البلاد لإقناع عوام أهل السنة بترك فريضة الحج ما دام ابن
السعود ملكا على الحجاز والسعي لإقناع أمراء المسلمين وملوكهم بالاتحاد مع دولة
إيران الشيعية لإخراجه من الحجاز واستأجر (الراجا) هذه الجمعية لبث
الدعوة وكان هذا أول عملها، ولكن لم يحضر مؤتمرها أحد من كبار أهل السنة ولا
من جمعياتهم ولولا الغرور بالمال لما تجرأت جمعية حقيرة في وطنها على التصريح
بعزم (المسلمين) على اتخاذ جميع التدابير الممكنة لإخراج ابن السعود
من الحجاز.
ولما رأى المهراجا عظيم الشيعة أن هذا المؤتمر كان هزؤًا وسخرية
للمسلمين سعى إلى عقد مؤتمر آخر في بمبي كانت عاقبته شرًا من عاقبة المؤتمر
الأول وهاك نص البرقية التي جاءتنا وجاءت نقابة الصحافة في أمره وهذه ترجمتها:
***
مؤتمر الحجاز الهندي
(ختم المؤتمر المسمى مؤتمر الحجاز الهندي أعماله في 26 سبتمبر الماضي
ولم تشترك فيه قط أية هيئة إسلامية مهمة كلجنة الخلافة المركزية وجمعية علماء
الهند وجمعية أهل الحديث ولجنة حماية الإسلام ومؤتمر التعليم الهندي العام في
البنجاب ومعاهد عليكره الإسلامية المهمة وإنما حضره الزعيمان محمد علي وشوكت
علي بصفتهما الشخصية وقد تمت جميع إجراءات المؤتمر طبقًا لتعليمات ورغائب
عميد الشيعيين في لكنو (مهراجا محمود آباد جهانكير باد) وبعض العلماء
الإيرانيين وعرضت رياسة المؤتمر على كثيرين من مشاهير زعماء المسلمين فلم
يقبلها أحد منهم وقبلها (صالح بهائي بارودا ولا) وهو شيعي من بهرة غير
معروف لا في عالم الدين ولا في عالم السياسة.
(وقد احتج المؤتمر على وجود السلطان ابن السعود في الحجاز ومن الخطط
المحزنة التي اقترحت نشر الدعوة لمقاطعة الحج فأسف لهذا العمل البعيد عن روح
الإسلام جميع كبراء الساسة ورجال التعليم والمعرفة وعدوه غير قابل للتطبيق
ومناقضًا للحكمة السياسية وضربة في صميم الوحدة الإسلامية) .
... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الغزنوي
... ... ... ... ... ... ... ... من أعضاء لجنة الخلافة
مؤتمر جمعية الخلافة المنتظر:
وستعقد جمعية الخلافة مؤتمرًا في لكهنو أيضًا يبحث في مسألة الحجاز
ومؤتمره وسيكون الزعيمان محمد علي وشوكت علي فيه خصومًا لملك الحجاز فيما
يظهر لنا ونحن نعتقد أن جميع رجال الإصلاح الديني في الجمعية والعقلاء
المعتدلين من رجال السياسة يعتقدون أن الزعيمين مخطئان في معاداة ملك الحجاز
وسلطان نجد؛ لأنه أكبر قوة إسلامية في الأرض بعد سقوط الدولة العثمانية
وصيرورة حكومة الترك لا دينية، وأن هذه القوة هي الوحيدة التي تنصر السنة
وترفض البدع والدجل الذي هو سبب ارتداد كثير من المسلمين عن دينهم آنًا بعد آن
وأنهما إنما يناوئانه بالباطل اتباعًا لهواهما واستمالة لشيعة الهند وعوامها الخرافيين
وهؤلاء الزعماء أعلم من محمد علي وشوكت علي بحقيقة الإسلام وبالسياسة المثلى
له وبمصلحة المسلمين وأبعد منهما عن اتباع الهوى ولكن الزعيمين الأخوين أقوى
إرادة وأمضى عزيمة وأقدر على استمالة العوام بغلوهما في الكلام وبدموعهما
السجام.
فإذا أتيح لهما الرجحان على أصحاب العقول الراجحة كحكيم الزمان أجمل
خان والدكتور أحمد أنصاري وعلى أصحاب اللسن والعلم الديني كالشيخ أحمد أبي
الكلام فستكون جمعية الخلافة آلة بيد غلاة الشيعة لمحاربة السنة، بل لمحاربة
الفرض والسنة كالدعوة إلى ترك فريضة الحج ولتفريق كلمة المسلمين التي يحاول
ابن السعود جمعها في المؤتمر الإسلامي.
***
مؤتمر الجمعيات الإسلامية بجاوة
سمعنا من بعض دعاة التشيع ومناوأة ابن السعود في مصر أن مؤتمر
الجمعيات الإسلامية في جاوه قد انعقد في سوراباية، واشترك فيه زهاء أربعين
جمعية تمثل الرأي العام الإسلامي في جزائر الهند الشرقية وقرر مقاومة ابن السعود
والدعوة إلى ترك أداء فريضة الحج ما دام مستوليًا على الحجاز فقيل له قد بقي
عليكم شيء آخر أشد نكاية فيه وهو ترك الصلاة إلى قبلة الإسلام بيت الله الحرام،
فإن من يستحل ترك فريضة الحج لما ذكر يستحل ترك صلاة الإسلام أيضًا؛ ثم
علمنا من جرائد سوراباية العربية حتى المعادية لابن السعود أن المؤتمر المذكور أيد
ابن السعود، وقد زارنا في هذه الأيام الشاب الذكي النبيه السيد عبد الله بن سالم
العطاس قادمًا من سوراباية وبلغنا سلام زعماء المسلمين وطلاب الإصلاح في جاوه
وكان ممن حضر المؤتمر وسافرا بعده إلى جدة بطريق مصر ليكون عضواً في فرع
البنك الهولندي الذي سيفتح فيها لتسهيل المعاملات مع الحجاج الجاويين وغيرهم،
فسألناه عن دعوة التشيع الذي بثها بعض العلويين في جاوه فكانت سبب الشقاق بين
المسلمين ومشاقة الكثيرين للعلويين بعد ما كان من الإجماع على إجلالهم فأخبرنا أن
تأثيرها ضعيف، وأن الكثيرين من العلويين أنفسهم مخالفون لها ودعاة سنة واتفاق
بين المسلمين ثم سألناه عن خبر المؤتمر فقال ما ملخصه:
(عقد المؤتمر جلسته الأولى في 12 ربيع الأول الأنور تيمنًا بذكر المولد
النبوي الشريف وهو مؤلف من مندوبي جميع الجمعيات الإسلامية في البلاد الجاوية
أو جزائر الهند الشرقية بمدينة سورابايه ماعدا جمعية واحدة وحضر المؤتمر أيضًا
مندوبون عن الجرائد المعتبرة في جميع البلاد وكثير من وجهاء البلاد وأهل الرأي
والمكانة فيها ومئات من دهماء الشعب ولولا أن فرضوا على كل من يدخله دفع
روبية هولندية لدخله ألوف كثيرة ويظهر أنهم أرادوا تقليل ازدحام العوام فيه قال
وكان أول الخطباء فيه أعضاء المؤتمر المكي الحاج عمر سعيد شكر وأمينوتو
والحاج منصور فذكرا لممثلي الأمة ما شاهداه من الأمن في الحجاز وأثنيا على
الملك ابن السعود أجل الثناء ولخّصَا لهم المهم من قرارات المؤتمر الإسلامي العام
فنال كلامهما الاستحسان العام ثم قرر المؤتمر قرارات مهمة.
(منها) تأليف لجنة خاصة لتسهيل الحج على الجاويين يكون لها فروع في
جميع البلاد.
(منها) إلغاء جمعية الخلافة بل تحويلها إلى ما يعبر عنه باسم (جمعية
المؤتمر الإسلامي للهند الشرقية) وهذه الجمعية لها حق الإشراف والمراقبة على
جميع لجان تسهيل الحج.
(منها) تأليف لجنة تنفيذية لجمعية المؤتمر تكون في سوراباية
و (منها) جمع تسعمائة جنيه لنفقات المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة في
الموسم القابل
قال: وامتنعت جمعية نهضة العلماء (الجامدين المحافظين على التقاليد والبدع
وعلى مكانتهم عند العامة) فألفوا مؤتمرًا خاصًّا بهم لم يحضره أحد من جمعيات
المسلمين ولا من وجهائهم فكان جل ما لغطوا به حكاية ما أذاعه دعاة الرفض فيهم
من زعمهم أن ملك الحجاز منع حرية المذاهب إلا مذهبه، وأنه إذا كان المسلم لا
يستطيع أن يؤدي مناسك الحج كما يعتقد فلا ينبغي له الحج حتى ينجلي الآمر
ويظهر أنه يستطيع العمل بمذهبه.
هذا ما لخصناه من حديث الشاب الكريم السيد عبد الله بن سالم العطاس وهو
خلاصة ما علق بذهنه من جلسات المؤتمر.
وقد علم به أن هذه الجمعية الخرافية رضيت لنفسها أن تصد المسلمين عن
أداء فريضة الحج وتجرئهم على هدم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ولعلمها
بأن استباحة هذا كفر وردة عن الإسلام اخترعت له بتلقين دعاة الرفض علة ظنت
أنها يصح أن تكون عذرًا مبيحًا للدعوة إلى ترك هذه الفريضة والعلة باطلة بشهادة
عشرات الألوف الذين أدوا فريضة الحج من أهل جاوه وغيرهم فإنه لم يسأل أحد
منهم عن مذهبه، ولم يوجد أحد يلقن الحجاج مذهب الملك ابن السعود ولا غيره، بل
هذا متعذر لا يمكن لأحد أن يقوم به على أنه لو صح لما كان عذرًا يبيح ترك
فريضة الحج فمذهب ابن السعود وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأهل جاوه
شافعية من أهل السنة لا يعتقدون أن مذهب الإمام أحمد باطل ولا أن فيه ما يبطل
الحج في مذهب الشافعي (رضي الله عنهما) ولو أن ابن السعود هو الذي دعا إلى
ترك الحج بأي عذر كان لأجمعوا على كفره ووجوب قتاله فأعداء ابن السعود هم
الذين يهدمون أركان الإسلام نكاية فيه وما يتهمونه به من حمل الناس على مذهبه لو
صح لم يكن كمنع الحج بل لم يكن محرماً شرعًا لكنه غير صحيح.
هذا وإن جريدة الأحقاب التي تصدر في سوراباية نشرت في مقالها الأول عن
المؤتمر الإسلامي فيها أنه قد حضره في اليوم الأول من عقده وكلاء 81 جمعية
ومندوبو 22 صحيفة ورئيس البوليس ومستشار المسائل الأهلية والعربية للحكومة
الهولندية وأنه عند افتتاح الجلسة بتلاوة آيات من القرآن المجيد قام جميع من
حضر من الإفرنج وقوفًا مع المسلمين ماعدا اثنين من المتعصبين.
ولعلنا نعود إلى هذه المسألة في جزء آخر بعد قراءة كل ما تنشره الجرائد
الجاوية عنه.
__________(27/634)
جمادى الأولى - 1345هـ
ديسمبر - 1926م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البدعة اللغوية والبدعة الشرعية
وحديث (كل بدعة ضلالة)
ومن زعم أنه مخصوص
(س 13) من صاحب الإمضاء في بلده طنبدي - البتانون (المنوفية -
مصر) طبنده في 10-11-1926
حضرة صاحب الفضيلة الأعظم محيي السُّنة ومميت البدعة السيد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فإن القرية عندنا فريقان فريق ينفون البدعة بتاتًا في الدين ويتمسكون
بأحاديث وآيات كثيرة وعلى رأسها حديث (كل بدعة ضلالة) وفريق يقولون: إن
حديث (كل بدعة ضلالة) ... إلخ، عام مخصوص كما قال عنه الزرقاني على
الموطأ، ويقولون: إن للبدعة أحكامًا خمسة منها الواجب كتعلم النحو وما يتعلق
عليه فهم الشريعة، والمحرم كمذهب القدرية والمندوب كإحداث الربط والمدارس
وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول والمكروهة كزخرفة المساجد والمباحة كالسلام
خلف الأذان والقرآن خلف الجنائز كما قال ابن عبد السلام: ويحتجون بقوله تعالى:
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (الحديد: 27) وقوله عليه السلام: (ما استحسنه المسلمون
فهو حسن ومن سن سنة حسنة ... إلخ) وقول عمر رضي الله عنه في الموطأ بشأن جماعة التراويح: (نعمت البدعة) .
هذا وإنا قد ارتضيناك بيننا حَكَمًا، ونأمل أن ترشدونا بما جبلتم عليه من
نصر الحق ودفع الباطل والسلام. ... عن أهل القرية
... ... ... ... ... ... متولي أحمد
... ... ... ... ... ... ناظر طنبدي مركز شبين الكوم
نرجو توضيح أسماء الكتب التي يرجع إليها في هذا الأمر
(ج) قد شرحنا هذه المسألة في المنار مرارًا، فنختصر الآن ما نقول فيها
اختصارًا: إن لكلمة بدعة إطلاقين إطلاقًا لغويًّا بمعنى الشيء الجديد الذي لم يسبق
له مثل وبهذا المعنى يصح قولهم: إنها تعتريها الأحكام الخمسة ومنه قول عمر -
رضي الله عنه - في جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح نعمت البدعة،
وإطلاقًا شرعيًّا دينيًّا بمعنى ما لم يكن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم
يجئ به من أمر الدين كالعقائد والعبادات والتحريم الديني وهو الذي ورد فيه حديث
(فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وهو لا يكون إلا ضلالة؛ لأن الله تعالى
قد أكمل دينه وأتم به النعمة على خلقه فليس لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم-
أن يزيد في الدين عقيدة، ولا عبادة، ولا شعارًا دينيًّا ولا أن ينقص منه ولا أن
يغير صفته كجعل الصلاة الجهرية سرية وعكسه، ولا جعل المطلق مقيدًا بزمان أو
مكان أو اجتماع أو انفراد لم يرد الشارع ولا أن يحرم على أحد شيئًا تحريمًا دينيًا
تعبديًا بخلاف التحريم غير التعبدي كالمتعلق بمصالح الحرب أو المعاش
كالزراعة.. إلخ وفي هذا النوع ورد حديث (من سن سنة حسنة) ... إلخ وهو
حديث صحيح معروف، وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه ما رآه المسلمون حسنًا
فهو عند الله حسن فلا حجة فيه لا لكونه غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقط بل؛ لأنه في معنى الإجماع وهو لا يكون إلا عن دليل وليس
معناه أن الابتداع في الدين مشروع لكل أحد أو كل جماعة.
فما ذكر في السؤال عن الزرقاني من أمثلة البدعة اللغوية صحيح إلا جعله
السلام خلف الأذان والقرآن خلف الجنائز من المباحات نقلاً عن ابن عبد السلام
فالأذان عبادة من شعائر الإسلام ورد بألفاظ معدودة، جرى عليها العمل في عصر
النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين فلو جاز أن يزاد فيه سلام لجاز
أن يزاد فيه غيره من الأذكار كسبحان الله، والحمد لله، وبعض آيات القرآن،
ومقتضى هذا أنه يجوز لكل أحد أن يغير شعائر الإسلام بما استحسن من زيادة أو
نقصان ولم يقل بجواز هذا أحد من أئمة المسلمين المجتهدين ولو جرى المسلمون على
هذه البدعة فعلاً لما بقي شيء من شعائر الإسلام على ما جاءنا به الرسول - صلى
الله عليه وسلم - عن الله تعالى ولصرنا في أديان جديدة كل طائفة أو جماعة
أو فرد يخالف فيها سائر المسلمين.
ولو جاز أن يزاد في عبادة الآذان لجاز أن يزاد في غيرها كجعل الصلاة
الثلاثية رباعية والرباعية خماسية وجعل الركوع في ركعة مرتين أو أكثر والسجود
ثلاثًا أو أكثر وهلم جرا، وهل يوجد أحد شم رائحة العلم الديني والعقل يجيز هذه
الفوضى والتصرف في دين الله؟
وليعلم السائل أن الفقيه ابن حجر الهيتمي ذكر مسألة البدعة في موضعين من
فتاواه الحديثة أولهما جواب سؤال عن الموالد والأذكار التي تفعل في مصر هل هي
سنة أو فضيلة أو بدعة؟ فأجاب بأن أكثرها مشتمل على خير وعلى شر، بل شرور
وإن ما كان هكذا يجب منعه عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ثم
ذكر أن الاجتماع للبدع المباحة جائز وذكر الأحكام الخمسة للبدعة ومثَّل لها بما نقلتم
عن الزرقاني إلا المباحة فإنه مثَّل لها بالمصافحة بعد الصلاة وهذا أهون من التمثيل
بالسلام خلف الآذان؛ إذا كان المراد به الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه
وسلم - كما هو الظاهر وإباحة المصافحة بعد الصلاة مقيدة بالأمن من اعتقاد الناس
أنها مشروعة بعدها ومن جعلها شعارًا دينيًّا، وقد شرح الإمام الشاطبي اشتراط مثل
هذا في كتاب الاعتصام ثم ذكر ابن حجر المسألة في جواب من سأله عن أصحاب
البدع الذين ورد في الحديث الترغيب في الإعراض عنهم وفي انتهارهم وصرح
بمثل ما قلناه من أن قول عمر في التراويح نعمت البدعة هي أراد به البدعة اللغوية
وهو ما فعل على غير مثال كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) وليست بدعة شرعًا فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال - صلى الله
عليه وسلم - فمعناه البدعة الشرعية. اهـ وذلك النبي - صلى الله عليه
وسلم - صلى بعض ليالي رمضان صلاة القيام واقتدى به الصحابة ولم يستمر على
ذلك لئلا تفرض أو تعد فرضًا ثم صار الناس بعده يعقدون لها عدة جماعات
حتى جمعهم عمر- رضي الله عنه- على إمام واحد كراهة التفرق المذموم شرعًا
فجماعتها مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بدعة شرعية،
وأما استدلال محبي البدع وأنصارها بآية رهبانية النصارى فلا دليل لهم فيه؛ لأن
شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا ولأن الآية ليست نصًّا في موضع النزاع إذ قيل
إن الاستثناء فيها متصل وقيل منقطع وقد فصل الشاطبي الكلام فيها بما يدحض شبه
المبتدعة فيراجع في كتابه الاعتصام وهو أوسع الكتب في هذا الشأن.
__________(27/659)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
طلاق الغضبان
والتزوج بالنصرانية
(س 14و15) من صاحب الإمضاء بمصر
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد رشيد رضا حفظه الله
آمين السلام عليكم وبعد:
1- هل يقع يمين طلاق الحالف به وهو في حالة الغضب وهو يعي ما نطق
به؟ وإذا لم يقع فما معنى الحديث الآتي:
معنى الحديث أربعة يلزم هزلها: طلاق، رجعة، عتق، نكاح.
2- هل يجوز التزوج من النصرانية مع اعتقادها بألوهية المسيح.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد مندور الجواب عن السؤال الأول
طلاق الغضبان الذي يعي ويدرك ما يقول يقع، وقلما يطلق أحد امرأته وهو
غير غضبان؛ وإنما الخلاف فيمن أغلق عليه الغضب إدراكه ورشده، هذا وإن
الحلف بالطلاق غير إنشاء الطلاق وعزمه، فقد اختلف العلماء في الحلف به على
ثلاثة أقوال:
1- أنه يقع به الطلاق.
2- أنه لا يقع ولا يجب به شيء.
3- أنه تجب به كفارة يمين.
ولا حاجة مع هذا إلى الكلام في الحديث الذي أشرتم إليه فأخطأتم وهو ما
رواه أصحاب السنن ما عدا النسائي عن أبي هريرة مرفوعًا ثلاث جدهن جد
وهزلهن جد (النكاح والطلاق والرجعة) وفيه مقال عند العلماء لا حاجة إليه هنا.
***
الجواب عن السؤال الثاني
نعم: فإن الله تعالى لما أحل لنا نكاح الكتابيات في سورة المائدة يعلم أن
النصرانيات منهن يقلن بألوهية المسيح، وقد حكى لنا هذا عن النصارى في هذه
السورة نفسها.
__________(27/662)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق
بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
وأما الجمع بالمدينة لأجل المطر، أو غيره فقد روى مسلم وغيره من حديث
أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: (صلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا
سفر) وممن رواه عن أبي الزبير مالك في موطئه، وقال: أظن ذلك كان في
مطر. قال البيهقي: وكذلك رواه زهير بن معاوية وحماد بن سلمة عن أبي الزبير
في غير خوف ولا سفر، إلا أنهما لم يذكرا المغرب والعشاء وقالا: (بالمدينة)
ورواه أيضًا ابن عيينة وهشام بن سعد عن أبي الزبير، بمعنى رواية مالك وساق
البيهقي طرقها وحديث زهير رواه مسلم في صحيحه، ثنا أبو الزبير عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر
والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر.
قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا لِم فعل ذلك؟ قال: سألت ابن عباس كما
سألتني، فقال: أراد أن لا يَحْرِج أحدًا من أمته، قال: وقد خالفهم قرة في الحديث
فقال: في سفرة سافرها إلى تبوك، وقد رواه مسلم من حديث قرة عن أبي الزبير عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،
فقلت: لابن عباس ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
قال البيهقي: وكان قرة أراد حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ،
فهذا لفظ حديثه، وروى سعيد بن جبير الحديثين جميعًا فسمع قرة أحدهما ومن تقدم
ذكره، والآخر، قال: وهذا أشبه، فقد روى قرة حديث أبي الطفيل أيضًا، قلت:
وكذا رواه مسلم فروى هذا المتن من حديث معاذ ومن حديث ابن عباس، فإن قرة
ثقة حافظ، وقد روى الطحاوي حديث قرة عن أبي الزبير؛ فجعله مثل حديث مالك
عن أبي الزبير، حديث أبي الطفيل، وحديثه هذا عن سعيد، فدل ذلك على أن أبا
الزبير حدث بهذا وبهذا، قال البيهقي ورواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن
جبير، فخالف أبا الزبير في متنه، وذكره من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي
ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر،
قيل له: فما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته، وفي رواية وكيع قال سعيد:
قلت لابن عباس: لم فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كيلا يحرج
أمته، ورواه مسلم في صحيحه.
قال البيهقي: ولم يخرجه البخاري مع كونه حبيب بن أبي ثابت من شرطه،
ولعله إنما أعرض عنه والله أعلم لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير، قال:
ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن تكون محفوظة، فقد رواه عمر وابن
دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبي الزبير
قلت: تقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب بن أبي ثابت لا وجه له، فإن
حبيب ابن أبي ثابت من رجال الصحيحين، فهو أحق بالتقديم من أبي الزبير، وأبو
الزبير من أفراد مسلم، وأيضًا فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن
تارة يجعل ذلك في السفر كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي
الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد.
فهذا أبو الزبير قد روى عنه ثلاثة أحاديث: حديث أبي الطفيل عن معاذ في
جمع السفر، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وحديث سعيد بن جبير
عن ابن عباس الذي فيه جمع المدينة، ثم قد جعلوا هذا كله صحيحًا؛ لأن أبا
الزبير حافظ فلم لا يكون حديث حبيب بن أبي ثابت أيضًا ثابتًا عن سعيد بن جبير
وحبيب أوثق من أبي الزبير؟ وسائر أحاديث ابن عباس الصحيحة تدل على ما رواه
حبيب فإن الجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن لأجل المطر، وأيضًا فقوله بالمدينة
يدل على أنه لم يكن في السفر، فقوله: جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر،
أولى بأن يقال من غير خوف ولا سفر، ومن قال أظنه في المطر؟ فظن ظنه ليس
هو في الحديث، بل مع حفظ الرواة، فالجمع صحيح، قال: من غير خوف ولا
مطر، وقال: ولا سفر، والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا.
وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا الكلام
يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جمع
ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى
أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها.
ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر، وإن كان الجمع للمطر أولى
بالجواز بما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله ابن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت
النجوم، فجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة. قال: فجاء رجل من بني تيم لا
يفتر: الصلاة الصلاة. فقال: أتعلمني بالسنة (لا أم لك؟) ، ثم قال: رأيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء،
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته
فصدَّق مقالته.
ورواه مسلم أيضًا من حديث عمران بن حدير عن ابن شفيق، قال: قال رجل
لابن عباس: الصلاة؛ فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: (لا أم لك) أتعلمنا
بالصلاة؟ كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله فعلم
أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مهم من أمور
المسلمين يخاطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت
مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له
كما قال: أراد أن لا يحرج أمته، ومعلوم أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضًا، فإنه لو كان جمعه للسفر،
لجمع في الطريق ولجمع بمكة، كما كان يقصر بها، ولجمع لما خرج من مكة
إلى مِنى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولم يجمع بمِنى قبل
التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام مِنى، بل يصلي كل صلاة ركعتين غير
المغرب، ويصليها في وقتها، ولا جمعة أيضًا كان للنسك، فإنه لو كان كذلك لجمع
من حين أحرم فإنه من حينئذ صار محرمًا، فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة
لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه
بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا
احتاجوا إلى الجمع جمعوا.
قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق عن ابن عباس من هذين الوجهين
الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما، أو على ما
أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل، فيقال يا سبحان الله!
ابن عباس كان يخطب بهم بالبصرة، فلم يكن مسافرًا ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر
جمعًا يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أو مطر، كان ابن عباس أجل
قدرًا من أن يحتج على جمعه بجمع المطر أو السفر، وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين
عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال لم ينف السفر وحبيب بن أبي ثابت من
أوثق الناس، وقد روى عن سعيد أنه قال: من غير خوف ولا مطر.
وأما قوله: إن البخاري لم يخرجه، فيقال هذا من أضعف الحجج فهو لم
يخرج أحاديث أبي الزبير وليس كل من كان من شرطه يخرجه.
وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، قريب من رواية أبي
الزبير، فإنه ذكر ما أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن
دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
بالمدينة سبعًا وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي رواية البخاري عن
حماد بن زيد، فقال لأيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسى، فيقال: هذا
الظن من أيوب وعمرو فالظن ليس من مالك، وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا
ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت
الثقة الثبت لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق، لم يذكر
فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده بيان جواز
الجمع بالمدينة في الجملة، ليس مقصوده تعيين سبب واحد، فمن قال: إنما أراد
جمع المطر وحده فقد غلط عليه، ثم عمرو بن دينار تارة يجوز أن يكون للمطر
موافقة لأيوب، وتارة يقول هو وأبو الشعثاء: إنه كان جمعًا في الوقتين، كما في
الصحيحين عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: سمعت جابر بن زيد يقول: سمعت
ابن عباس يقول: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيا جميعًا وسبعًا
جميعًا قال: قلت: يا أبا الشعثاء أراه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب
وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك، فيقال: ليس الأمر كذلك؛ لأن ابن عباس كان
أفقه وأعلم من أن يحتاج إذا كان قد صلى كل صلاة في وقتها الذي تعرف العامة
والخاصة جوازه أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلا على ذلك، وأن يقول: أراد بذلك
أن لا يحرج أمته.
وقد علم أن الصلاة في الوقتين قد شرعت بأحاديث المواقيت، وابن عباس هو
ممن روى أحاديث المواقيت، وإمامة جبريل له عند البيت، وقد صلى الظهر في
اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء
مثليه، فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جمع على هذا الوجه، فأي
غرابة في هذا المعنى؟ ومعلوم أنه كان قد صلى في اليوم الثاني كلا الصلاتين في
آخر الوقت، وقال: الوقت ما بين هذين فصلاته للأولى وحدها في آخر الوقت أولى
بالجواز، وكيف يليق بابن عباس أن يقول: فعل ذلك كيلا يحرج أمته، والوقت
المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه؟ وكيف يحتج على من
أنكر عليه التأخير لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى في الوقت
المختص بهذا الفعل، وكان له في تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق
وحدها، وتأخير العشاء إلى ثلت الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا؟ وإنما قصد ابن
عباس بيان جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء ليبين أن الأمر في حال الجمع أوسع
منه في غيره، وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة، ثم ابن عباس قد ثبت عنه في
الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر
والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره، وقد تقدم ذلك مفصلا ً، فعلم أن لفظ
الجمع في عرفه وعادته إنما هو الجمع في وقت إحداهما.
وأما الجمع في الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به، فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم
بها إلى ما ليس كذلك؟ وأيضًا فابن شقيق يقول: حال في صدري من ذلك شيء،
فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته.
أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت؟ ، وأن
العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علما
حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره
حتى يسأله عنه؟ إذن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه، وإنما وقعت شبهة
لبعضهم في المغرب خاصة، وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها،فالحديث
حجة عليهم كيفما كان، وجواز تأخيرها ليس معلقا بالجمع، بل يجوز تأخيرها مطلقا
إلى آخرالوقت حين يؤخر العشاء أيضًا، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه
وسلم حين بين أحاديث المواقيت، وهكذا في الحديث الصحيح: (وقت المغرب ما
لم يغب نور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل) ، كما قال: (وقت الظهر، ما لم
يصر ظل كل شيء مثله، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) فهذا الوقت
المختص الذي بينه بقوله وفعله، وقال (الوقت ما بين هذين) ليس له اختصاص
بالجمع ولا تعلق به. ولو قال قائل: قوله: جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا
سفر، المراد به الجمع في الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الكوفيين، لم يكن بينه
وبينهم فرق. فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه؟
ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟
وأيضًا فقد ثبت هذا من غير حديث ابن عباس ورواه الطحاوي حدثنا ابن خزيمة
وإبراهيم بن أبي داود وعمران بن موسى قال: أنا الربيع بن يحيى الأشناني، حدثنا
سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جمع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرخصة من غير
خوف ولا علة، لكن ينظر حال هذا الأشناني.
وجمع المطر عن الصحابة، فما ذكره مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر
كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر،
قال البيهقي: ورواه العمري عن نافع، فقال: قبل الشفق. وروى الشافعي في
القديم: أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن حبيب أن
ابن عباس جمع بينهما في المطر قبل الشفق، وذكر ما رواه أبو الشيخ
الأصبهاني بالإسناد الثابت عن هشام بن عروة وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن
عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة
المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكر ذلك، وبإسناده عن موسى بن عقبة أن
عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر،
وأن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن ومشيخة ذلك
الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك.
فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة
زمن الصحابة والتابعين مع أنه لم ينقل أن أحدًا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك فعلم
أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضًا
للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في السفر وجمع في
المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر، فقول ابن عباس جمع من
غير كذا ولا كذا، ليس نفيًا منه للجمع لتلك الأسباب بل إثبات منه؛ لأنه جمع
بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضًا.
ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق
الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر، وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير
خوف ولا مطر.
فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته فيباح
الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض
الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأخرى، ويجمع من لا يمكنه
إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور [1] .
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر
من الكبائر، وروى الثوري في جامعه عن سعيد بن قتادة عن أبي العالية عن
عمر، ورواه يحيى بن سعد عن يحيى بن صبح، حدثني حميد بن هلال عن أبي
قتادة يعني: العدوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر:
الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار يوم الزحف، والنهب. قال البيهقي:
أبو قتادة أدرك عمر؛ فإن كان شهده كتب فهو موصول وإلا فهو إذا انضم إلى
الأول صار قويًّا، وهذا اللفظ يدل على إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذرًا من
عذر، قال البيهقي: وقد روى فيه حديث موصول عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - في إسناده من لا يحتج به وهو من رواية سليمان التيمي عن حنش
الصنعاني عن عكرمة عن ابن عباس. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: ذكر النووي في شرح مسلم خلاصة ما قاله المتأولون لروايات الجمع بالمدينة من غير مطر ولا خوف، وردها كلها بما دل قطعًا على أن هذا الجمع في الإقامة رخصة للأمة وقال في آخر البحث، وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر قول ابن عباس أراد أن لا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم اهـ.(27/663)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إعجاز القرآن
كان صديقنا خزانة الأدب، ولسان العرب مصطفى صادق الرافعي خص
الجزء الثاني من كتابه آداب اللغة العربية ببيان إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ثم
رأى أن يفصله منه ويصدره بالعنوان الدال على موضوعه واقترح عليَّ أن أكتب له
مقالا وجيزًا يُصدر به الكتاب ويعرضه به على أولي الألباب فكتبت له ما يأتي
فصدَّره وعرضه به وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) .
القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه وفي علومه وحكمه وفي
تأثير هدايته وفي كشف الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة وفي كل باب من
هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول وقد
تحدى محمد رسول الله النبي العربي الأمي العرب بإعجازه وحكى لهم عن
ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله فظهر عجزهم على شدة حرص
بلغائهم إلى إبطال دعوته واجتثاث نبتته، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى
جميع الأمم فظهر عجزها أيضًا وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض
الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدوا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في
فصاحته دون هدايته ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به
أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم.
ثم ابتدع بعض الأذكياء في القرن الماضي دينًا جديدًا وضعوا له كتابًا [1]
توخوا وتكلفوا فيه تقليد القرآن في فواصله وادعوا محاكاته في إعجازه بهدايته
ومساهمته بإنبائه عن الأمور الغائبة المستقبلة فكان من خزيهم وخذلان الله لهم أن
اضطروا إلى كتمان هذا الكتاب المختلق والإفك الملفق لكيلا يفتضحوا بظهوره
وهم مازالوا يجمعون ما كانوا طبعوه من نسخه قبل أن يظهر فيهم الداهية [2] الواقف
على مخازي تزويره وهم يحرقون ما جمعوه منها، ولعلهم ينقحونه ثم يبرزونه
لجيل لم يطلع عليها.
وقد نبتت في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله الصادين عن دين
الله قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابًا جددًا وللتشكيك في الدين طرائق
قددًا منها الطعن في اللغة العربية وآدابها والتماري في بلاغتها وفصاحتها وجحود ما
روي عن بلغاء الجاهلية من منظور ومنثور وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور
ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين واتباع أساليب
المعاصرين ومنهم الذين يدعون إلى استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن
الخاصية المضرية، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام وعن
الإيمان بإعجاز القرآن؛ فإن من أوتي حظًّا من بيان هذه اللغة وفاز بسهم رابح من
آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز
القرآن ببلاغته وفصاحته وبأسلوبه في نظم عبارته، وقد صرح بها من أدباء
النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأميركانية
في كتابة الخواطر الحسان [3] .
وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام مرة يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة لحكيم من
حكمائها فكان مما قرأه علي منه بالترجمة العربية رد المؤلف على من قال من دعاة
النصرانية: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يأتِ بمثل آيات موسى وعيسى
المسيح (ع. م) ، قال: إن محمدًا كان يقرأ القرآن مولهًا مدلها [4] ، صادعًا
متصدعًا فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كانت تفعل جميع آيات
الأنبياء من قبله اهـ.
لقد حار العلماء في حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن بعد أن ثبتت
عندهم بالوجدان والبرهان حتى قال بعضهم: إن الله - تعالى - قد صرف عنه قدر
القادرين على المعارضة بخلق العجز في أنفسهم وألسنتهم وذلك أن إدراك كنه
العجز والإحاطة بأسبابه وأسراره ضرب من ضروب القدرة، والمقام مقام عجز
مطلق فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد والأثير في المادة والكهرباء في
الكون تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها
وحقيقتها وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يُستغنى عنها كذلك ما
عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في
الهداية أو الأسلوب أو حسن البيان فيه لذات عقلية وروحية وطمأنينة ذوقية وجدانية
تتضاءل دونها شبهات الملحدين وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين.
فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعًا وهو من فروض الكفاية وقد تكلم
فيه المفسرون والمتكلمون وبلغاء الأدباء المتأنقون ووضع الإمام عبد القاهر
الجرجاني مؤسس علوم البلاغة كتابيه (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) لإثبات
ذلك بطريقة فنية وقواعد علمية وصنف بعض العلماء كتبًا خاصة فيه اشتهر منها
كتاب (إعجاز القرآن) للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار والمتكلمين في عصره؛
لأنه طبع مرتين أو أكثر فإن كان ذلك قد وفى بحاجة الأزمنة التي صنفت فيها
تلك الكتب فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان إذ هي داعية إلى قوم أجمع وبيان أوسع
وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب وأخلب للب وأصغى للأسماع وأدنى إلى
الإقناع.
استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع والشاعر الناثر المبدع صاحب
الذوق الرقيق والفهم الدقيق الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها
والمثاني صديقنا الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) فصنف في إعجاز القرآن
سفراً لا كالأسفار، أتى فيه -وهو الأخير زمانه- بما لم تأت الأوائل، فكان مصدقًا
للمثل السائر (كم ترك الأول للآخر) ناهيك بمنثور للآلئه في نظم القرآن العجيب
وأسلوبه المباين لجميع الأساليب فلا هو مرسل طلق العنان كالنوق المراسيل،
يتعاصى على ترسل التجويد ونغمات الترتيل ولا هو مسجوع كسجع الكهان ولا
شعر تلتزم فيه القوافي والأوزان، ومن آياته القصار ذات الكلمة المفردة والكلمتين
والكلمات والوسطى المؤلفة من جمل مثنى وثلاث ورباع والطولى منها لا تتجاوز
سطورها جمع القلة وأطولها آية الدين فقد تجاوزت مئة كلمة وكل نوع منها يؤدي
بالترتيل اللائق به المعين على تدبره.
وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين
الإعجاز ومواضحه وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه وددت لو مد هذا البحث مد
الأديم بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات
في طولها وقصرها، وقوافيها، وفواصلها، ومناسبة كل منها لموضوع الكلام
واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام [5] .
كلفني المصنف -أيد الله به اللغة والدين- أن أكتب ثلاث صفحات أو أربعًا
أعرض بها كتابه هذا على القارئين، وأنى لي بإيجاز الكتاب المنزل ولا سيما
قصار سور المفصل فأعد في هذه الصفحات عناوين أبوابه وفصوله، دع ما فيها
من غرر مباحثه وحجوله إذاً لست أملك من الاستجابة له فوق ما تقدم إلا أن أنصح
لقراء العربية عامة وللمسلمين خاصة ولطلاب العلم منهم على الأخص بأن يقرؤوا
هذا الكتاب بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم والتفقه في كتاب الله تعالى
وتعرف الشيء الكثير من أسرار إعجازه مما لا يجدونه في غيره قال شيخنا الأستاذ
الإمام -رحمه الله تعالى-: (إن لكلام الله تعالى أسلوبًا خاصًّا يعرفه أهله ومن امتزج
القرآن بلحمه ودمه، وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل
فأولئك عنه مبعدون) .
وقال أيضاً: (فهم كتاب الله تعالى يأتي بمعرفة ذوق اللغة وذلك بممارسة الكلام
البليغ منها) .
وقال في وصف من امتزج القرآن بلحمه ودمه حاكيًا عن نفسه: إني عندما
أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي، وأن الرسول - صلى الله تعالى
عليه وسلم - ينطق به كما أنزله عليه أو نزل به عليه جبريل عليه السلام. اهـ
وبهذا امتاز الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى- على الأقران إن كان له أقران.
إن الله تعالى قد أوجد بالقرآن أعظم انقلاب في البشر بتأثيره في أنفس العرب إذ
جعلهم بعد أميتهم أساتيذ الأمم وسادت العجم وما فقد المسلمون هدايتهم إلا لجهلهم
بأسرار لغته لذلك يهاجمه أعداؤه الملاحدة والمستعمرون من طريق لغته فليعلم
المسلمون هذا وليحرصوا على حفظ دينهم بحفظ لغتهم وممارسة آدابها وأسرار
بلاغتها، ولتكن غاية هذا كله فهم القرآن كما كان يفهمه سلفنا الصالح
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة
... ... ... ... ... ... ... ... ربيع الأول سنة 1345
تنبيه
كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية جزء ضخم تبلغ صفحاته 369 صفحة
وثمن النسخة منه غير مجلدة عشرون قرشًا ما عدا أجرة البريد.
وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.
__________
(1) هم البهائية وهيهات أن يأتوا بقرآن إلا إذا خلقوا سبع سماوات ولم نشر إلى معارضتهم في كتابنا هذا إذ لا تسمى معارضتهم ولا تذكر (الرافعي) .
(2) هو عباس أفندي ابن معبودهم البهاء.
(3) نقول: وصرح لنا بذلك أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه (نجمة الرائد وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران ولا نعرف في شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا بمثل ما أقر به أستاذه اليازجي والأمر بعد إلى العقل والعقل ليس له دين إلا الحق والحق واحد لا يتغير (الرافعي) .
(4) قال لي الأستاذ الإمام: إن المؤلف استعمل هنا كلمة إفرنسية لا أعرف لها مرادفاً في لغتنا العربية معناها أنه كان يقرأ في حال مؤثرة في نفسه وفي نفس من يسمع قراءته فعبر عنها بالتدله.
(5) قلنا: سيكون هذا إن شاء الله غرض كتاب برأسه والنية معقودة عليه من قديم كما أشرنا إليه في هذا الكتاب فاللهم عونك وتيسيرك (الرافعي) .(27/673)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
كتاب في الشعر الجاهلي
دعاية إلى الإلحاد والزندقة
وطعن في الإسلام
(تمهيد)
أتيح لي النظر ثانية في هذا الكتاب وقرأت الكثير من كتبه وفصوله في فرص
متفرقة فحكمت بقراءتها حكمًا تفصيليًّا لا شك فيه بمثل ما أجملته في مقالتي الأولى
بعد تلك النظرة العجلى حكمت بأن الدكتور طه حسين ما ألف هذا الكتاب لتحقيق ما
يمكن الوصول إليه من الشعر الجاهلي يقينًا أو ظنًّا أو شكًّا، بل ألفه لأجل الطعن
في الإسلام والصد عن سبيل الإيمان والدعوة إلى الزندقة والإلحاد، هذا هو المقصد
والشعر الجاهلي والأدب العربي وسيلة إليه.
وقد كنت أردت أن أقرأه كله، وأحصي ما فيه من المطاعن، وأبين بطلانها ثم
رأيت أن خلس الفراغ من أيام الجمع لا تمكنني من ذلك إلا في عدة أشهر فرجعت
إلى رأيي الأول وهو ترك الرد التفصيلي للذين صنفوا، والذين لا يزالون يصنفون
كتبًا خاصة في ذلك يُعْنَى كل منهم برد نوع من أباطيل الكتاب وصاحبه أو برد عدة
أنواع منها كما فعل (مصطفى صادق أفندي الرافعي) و (محمد فريد أفندي وجدي)
فإن هذا قد بين أغلاطه وجهله من الوجهة العلمية والتاريخية دون ضلالاته الدينية
وكأنه رآه مفيدًا من هذه الوجهة بهدمه للإسلام المعروف عند أكثر المسلمين لعله
يكون وسيلة وتمهيدًا للإسلام الصحيح إسلام القرآن الحكيم؛ إذ كان كتب مقالات
في جريدة الأخبار ارتأى فيها أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا مسلمين كما يجب إلا
إذا تركوا الإسلام المعروف عندهم وارتدوا عنه معتقدين بطلانه، ثم دعوا إلى
الإسلام الآخر، وقد حفظت هذه المقالات عندي لأبين ما فيها من خطأ وصواب عند
سنوح الفرصة.
وإنني أبدأ الآن ببيان خطة الدكتور طه في دعايته الإلحادية وما مهد لها به
في كتابه الجديد (في الشعر الجاهلي) من الدعاوى والقواعد الخادعة مع تفنيدها
وبيان ما فيها من التعارض والتناقض، ثم أقفي على ذلك ببيان أهم مطاعنه في
الدين الإلهي وفيما ختمه الله وأكمله به ببعثة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه
وسلم -.
***
الفصل الأول
(المقاصد والأصول والمقدمات التي جرى عليها الدكتور طه حسين)
(في طعنه في الإسلام ودعوته إلى الإلحاد)
1- إن الدكتور طه حسين قد أخذ على عاتقه أن يحارب دين الإسلام والأمة
الإسلامية بالطعن فيهما وصرف الناس عنهما إلى الزندقة والإباحة. ذلك شأنه في
مصنفاته من (ذكرى أبي العلاء) إلى (في الشعر الجاهلي) وفي مقالاته التي
نشرها في جريدة السياسة تحت عنوان (حديث الأربعاء) إلى مقاله الأخير (العلم
والدين) وهي خطة قد ابتدعها بعض اليهود في أوربة لإفساد دين النصرانية على
أهله، ويقال: إن لبعض أعضاء جمعية الإلحاد والزندقة هنا صلة ببعض الجمعيات
اليهودية.
2- إن من أساليب الدكتور طه حسين المعروفة في كل ما كتبه أنه يخترع
مسائل يجعلها من قبيل القضايا المسلمة بما يزينها من خلابة القول ثم يستدل بها أو
يورد عليها بعض الشبهات ويرد عليها دفاعًا عنها وهذا كثير في كتابه هذا وسنذكر
أمثلته عند بيان بطلانه.
3- إن من أساليبه أنه يشكك في المسائل الثابتة بضروب من خلابة المغالطة
أو السفسطة، ويزين هذا التشكيك لقارئ كلامه ويحاول حمله على قبوله بدعوى أن
الشك في كل شئ هو الطريق اللاحب الموصل للعلم الحق والفلسفة الصحيحة
والتجديد فيجب على طالب الحقيقة أن يقبله، ولو على سبيل الفرض بأن يفرض
أن ما يؤمن به إيمانًا يقينيًّا هو باطل لا حقيقة له؛ لأجل أن يكون سالكًا للمنهج الذي
زعم أن الذي نهجه وأشرعه للناس هو الفيلسوف (ديكارت) للبحث عن حقائق
الأشياء وهو تجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل (ص11) أو ليلذذ عقله
بالشك والقلق والاضطراب (ص 5) أو ليتمتع بلذة قبول كل جديد ونبذ كل قديم ولا
سيما إذا كان إسلاميًّا. فيكون من المجددين الذين يكونون أشد شكًّا في القديم أو
أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا (ص5) يعني جل لذتهم
وغبطتهم في هدم ما بناه المتقدمون.
4- إنه قد بيَّن في التمهيد من كتابه هذا المذهب الذي يجرى عليه هو
وإخوانه المجددون للإلحاد والإباحة وزيَّنه بقوله (ص 2) (أريد أن لا نقبل شيئًا
مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد
ينتهيان إلى الرجحان) .
5- إنه ذكر الفرق بين هذه المذهب ومذهب القدماء بزعمه فقال والفرق بين
المذهبين في البحث عظيم فهو الفرق بين الإيمان الذي يبحث علي الاطمئنان
والرضا والشك الذي يبعث علي القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان
إلى الإنكار والجحود.
ثم وصف هؤلاء المجددين وثمرة مذهبهم بقوله: والنتائج اللازمة لهذا
المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلى الثورة الأدبية أقرب
منها إلى شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينيًّا وقد يجحدون
ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه اهـ.
ثم وصفهم بما هو أبعد في الصراحة مدى من ذلك وهو قوله: وهم قد ينتهون
إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها.
6 - إنه فصل إجمال هذا المذهب بما أوجبه على هذه الطائفة، بقوله: نعم،
يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل
مشخصاتها وأن ننسى ديننا، وكل من يتصل به وأن ننسى كل ما يضاد هذه
القومية وما يضاد هذا الدين يجب أن لا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج
البحث العلمي الصحيح ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر
إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنغلّ عقولنا بما يخالف هذه القومية وهذا الدين
وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء غير هذا بحروفه؟ اهـ
بحروفه.
7 - من مناهج الدكتور طه حسين في مباحثه العلمية والأدبية ومقاصده
الإلحادية الإباحية أنه يعمد إلى شيء من الباطل كالخرافات أو الروايات التي لا
تصح؛ فيقرن به شيئًا من الحق المشابه له ليوهم المطلع على كلامه أن حكمهما
واحد، ثم إنه يجعل الباطل هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا مراء إذا كان مشككًا
في الإسلام أو مزريًا به وصادًّا عنه كما جمع بين خرافات الجاهلية في الجن
وتلقينهم الشعر للشعراء، وبين ما ثبت في الكتاب والسنة من وجود الجن وإيمان
بعضهم وكفر بعض ليوهم المسلمين، أن هذا من ذاك كل منهما خرافات.
8 - من منطق الدكتور طه حسين في البحث والاستدلال أنه يجعل بعض
جزئيات الأخبار التي توافق هواه قواعد كلية وحججًا علمية لا يتسرب إليها شيء
من الشك الذي فرضه في كل كلام قديم حتى الكلام القديم الأزلي وهو كلام الله تعالى،
وإن لم ترو بسند صحيح، ولم تمحص بنقد ولم تثبت بدليل، كزعمه أن سعد بن
عبادة قد قتله المسلمون قتلاً، لما زعم من ذنوبه وادعوا أن الجن قتلته، وسيأتي بيان
ما فيه من الكذب المتعمد؛ فكيف إذا كانت تلك الجزيئات مأخوذة بالتسليم ومن هذا
أنه جعل وقائع الأحوال في العصبية القومية بين العرب أصلا يحمل عليه ما ليس
منه حتى أدخل في عمومه المهاجرين والأنصار الذين ألف الله بين قلوبهم بالإسلام
فأصبحوا بنعمته إخوانًا كما يشهد لهم القرآن والتاريخ الصحيح الثابت بالتواتر.
9 - من منهج الدكتور طه أنه يأخذ كلام بعض أعداء الإسلام في الطعن فيه
بالقبول ولا يجري فيه علي قاعدته في رد كلام المتهم بعداوة، أو عصبية، ولا
بقاعدة (باكون) التي ادعى أنه لا يحيد عنها في مباحثه فقد رأيناه ينتحل بعض
كلام دعاة النصرانية التي جعلت جمعياتهم الدينية رزقهم ومادة معيشتهم وتكريمهم
الطعن في الإسلام ودعوة أهله إلى تركه من حيث يطعن في روايات أئمة المحدثين
الذين يتقربون إلى الله تعالى بتمحيص الروايات مهما يكن موضوعها حتى إن بعضهم
صحح بعض ما يعد طعنًا في الإسلام، أو يغري بالطعن فيه وحكموا بالضعف تارة
وبالوضع أخرى على أحاديث لا يختلف عاقلان في صحة معناها وتأييدها للإسلام.
10 - من سنن الدكتور طه ودأبه أنه يخترع للقضايا والمسائل الصحيحة
والمخترعة المفتراة منه عللا باطلة يفتجرها افتجاراً للطعن في الإسلام كما علل ما
زعمه من اختراعهم للشعر الجاهلي بأنهم كانوا محتاجين إلى ذلك لتأييد لغة القرآن
وكما علل به انتساب العرب العدنانيين إلى إسماعيل بن إبراهيم وما علل به تسمية
الإسلام بملة إبراهيم إلخ إلخ.
***
الفصل الثاني
(1) تفنيد زعمه أنه هو وأعوانه طلاب علم يقيني في الشعر الجاهلي:
زعم الدكتور طه حسين أو يوهم تلاميذه وقراء كتابه أن الغاية الثمينة النفيسة
الغالية التي ينسى هو وإخوانه المجددون للإلحاد والزندقة قوميتهم ودينهم وما
يتصل به من كتاب ربهم وسنة رسوله لأجل الوصول إليها هي تحقيق الحق في
الشعر الجاهلي ونحوه من الأدب العربي وتاريخه فإن لم ينتهوا بعد تكذيب كل قديم
فيه والبحث الجديد إلى اليقين فحسبهم الانتهاء إلى الرجحان (ص 2 و 3) .
ثم قال إن أول شيء يفاجأ به القارئ أنه بإلحاحه في الشك وإلحاح الشك عليه
أخذ يبحث ويفكر ويتدبر حتى انتهى به ذلك كله إلى شيء إلا يكن يقينًا فهو قريب
من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في
شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام ثم صرح بأن المسلمين هم الذين
اختلقوا هذا الشعر واخترعوه وقد أشرك المفسرين والمحدثين والمتكلمين في هذا
الاختلاق والاختراع؛ لأنه يريد أن يعتقد تلاميذه أن جميع علماء المسلمين كانوا
كذابين أفاكين حتى أئمة الدين منهم.
لكنه نقض كل ما كان بناه في هذا الفصل وهو الأول التمهيدي وهدمه في
آخره بعد أن أطال فيما أراد أن يجعله قاعدة مسلمة في سبب ما قذف به علماء
المسلمين من الاختلاق فقال (ص10) :
(فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلى غاية واحدة هي هذه النظرية التي
قدمتها فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرًا جاهليًّا حقًّا وأنا أعترف منذ
الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر وبأني أشك شكًّا شديدًا في أنه قد ينتهي بنا إلى
نتيجة مرضية ومع ذلك فسنحاوله) اهـ.
فقصارى فلسفة الدكتور وإخوانه دعاة الإلحاد أنهم يدعون تلاميذ الجامعة
المصرية وغيرهم من قراء العربية إلى أن يتجردوا من دينهم وهدايته التي هي
مناط سعادة الدنيا والآخرة حسب أصول الإيمان وأن يتجردوا من جنسيتهم ووطنيتهم
التي بها يعتزون ويتناصرون ويحافظون على شرف الاستقلال والحرية القومية
وإباء ذل العبودية، وأن يلقوا أنفسهم بعد هذا التجرد في تيار من بحر الحيرة
والاضطراب في إثبات الشعر الجاهلي يدفعهم شك ويتلقاهم ريب ولا ينتهون إلى
نتيجة مرضية {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} (البقرة: 16) والشك
باليقين والحيرة والاضطراب بالسكينة والطمأنينة {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) .
أما والله إن هذا مذهب باطل لا يرضاه لنفسه فاضل، وتجارة لا يختار
بضاعتها المزجاة عاقل، وإن هؤلاء المجددين للإلحاد والإباحة لا يقصدون هذا
الشك المظلم ولا يتلذذون به وإنما يتوخون التشكيك لغيرهم لينتظموا في سلك ملاحدة
أوربة الذين نسب اليهم صد أهلها عن النصرانية، إن لم يكونوا كلهم مستأجرين
لذلك من المستعمرين الطامعين أو من البلشفيين وأمثال البلشفيين.
***
(2) تصريحه بأنهم دعاة كفر وجحود للدين:
وصف الدكتور طه حسين هذا الشك في آخر الصفحة الثانية بأنه ينتهي في
كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود، وقال في وصف أهله مجددي الإلحاد (في
ص 6) (وقد يجحدون ما أجمع الناس علي أنه حق لا شك فيه) اهـ.
وهذا تصريح منه بأنهم يتعمدون الكفر والإلحاد والدعوة إليه حتى فيما يعلمون
أنه حق وهذا معني الجحود قال المحقق الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما
في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنفُسُهُمْ} (النمل: 14) أقول ومنه أيضًا قوله تعالى خطابًا للنبي -صلى الله عليه
وسلم -: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33)
والدكتور طه يعرف هذا المعني ويقصد به جحد القرآن وتكذيبه حتى فيما يعلم هو
وأولياؤه أنه حق وليس عند المسلمين إجماع على حق لا شك فيه إلا كتاب الله -
تعالي- الذي قال سبحانه في وصفه: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2)
ورسالة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وما تواتر من سنته فهو يقصد جحود
القرآن وما فيه والرسالة والسنن حتى المتواترة وقد أكد إرادته لهذا المعنى بقوله -
صلى الله عليه وسلم - (وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك
فيها) وأما الشعر الجاهلي وغير الجاهلي فأقواه رواية مظنون، وما عداه فمشكوك فيه
أو مردود، فليس فيه شيء أجمعوا علي أنه لا شك فيه ولا أنه لا يباح الشك
فيه.
***
(3) بطلان ما علل به ترك الدين والقومية وما يتصل بهما:
جعل الدكتور طه الأصل والقاعدة للبحث عن الأدب العربي وتاريخه وجوب
نسيان الدين وكل ما يتصل به، أي من علم وهو الكتاب والسنة ومن عمل وهو
العبادات والفضائل والآداب الإسلامية وكذلك القومية ومشخصاتها وعلل ذلك بأن
عدم تركهما يضطر الباحث إلى المحاباة وإرضاء العواطف وغل العقل بما يلائم
القومية والدين وأن هذا هو الذي أفسد على المتقدمين علمهم دون غيره (ص12) .
***
نقول في تفنيد هذا الزعم الذي أراد أن يجعله من القضايا المسلمة:
(أولاً) إن مسألة الشعر الجاهلي من المسائل النقلية التي لا يمكن اليقين فيها
إلا بالنقل المتواتر فإذا كان هذا لم يحصل فيما مضى فلن يحصل الآن ولا في
المستقبل لأن موضوعه الزمن الماضي، وإذ كان اليقين فيها متعذرًا بقي الظن وما
دونه من شك ووهم وطريقة علماء الإسلام المتقدمين في ترجيح بعض الروايات
علي بعض فيه وفي كل منقول أن ينظر في حال الرواة من حيث الصدق والأمانة
وجودة الحفظ وأضدادها وعدم معارضة الراوي غير الثقة للثقات والثقة لمن فوقه
في العدالة ومما يشترطونه في عدالة الراوي إلا أن يكون متعصبًا لرأي أو مذهب أو
داعية له، وأن لا يروي عمن علم أنه لم يلقه وأن يكون السند الصحيح متصلاً
بالعدول خاليًا من العلل والشذوذ.
هذا ما يرونه من جهة التثبت من الرواة، وأما مروياتهم فيشترط فيها أن
تكون ممكنة في نفسها فإذا كانت مشتملة على ما يقوم الدليل على امتناعه لم يعتدوا
بها إلخ وبهذه الشروط ردوا كثيرًا من روايات الأحاديث وأخبار التواريخ،
ورموا كثيرًا من الرواة بالضعف والوهم والكذب وتعمد الوضع.
وأجدر الناس بالتثبت والصدق في ذلك ودقة النقد علماء الدين من المحدثين
وغيرهم لأنهم يدينون الله بتحري الصدق ويؤمنون إيمانًا قطعيًّا، بأن الله
يعاقبهم في الآخرة على الكذب واتباع الهوى فالإيمان هو الذي جعل علمهم أصح
العلم ورواياتهم أجدر روايات الأمم وأحقها بالتمحيص وقبول الصحيح منها ورد
الضعيف وقد اعترف لهم بهذه المزية المنصفون من علماء أوربة.
فإذا كان هؤلاء قد قصروا في نقد ما روي من الشعر الجاهلي بمثل دقتهم في
نقد رواية الحديث، فما علي الدكتور طه إن صدق في زعمه، أنه يقصد الوصول
في رواية الشعر الجاهلي إلى شيء قريب من اليقين إلا أن يتبع خطتهم ويسير علي
منهاجهم ومنه أن يدين الله بالتزام الصدق والأمانة واجتناب الكذب والخيانة اهتداء
بقوله تعالى {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 105) الآية وبقول
رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين وغيرهما (آية المنافق
ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) فهذا النهج الإسلامي
أصح وأسلم وأقرب إلى الإمكان من قاعدة باكون كما فهمها الدكتور طه وهي: (أن
ينسى الإنسان جنسه ودينه وما يتصل بذلك لأجل البحث عن أمر لا مطمح في
الوصول إلى الحق اليقين فيه) ولا يعقل أن يقول ذلك العالم الرياضي مثل هذا
في تحقيق مسائل نقلية عن الأمم الخالية.
(ثانيًا) أن نسيان الجنس ومشخصاته إن كان ممكنًا؛ فإن نسيان الدين ليس
بممكن فكيف يأمر به ويوجبه على الناس ورب الناس لم يكلفهم ما ليس في طاقتهم
كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) نعم، إنه يعني
بنسيانه تركه وهو لازمه وقد استعمل فيه حتى في القرآن فهو يدعو إلى ترك الدين
قطعًا، وإنما السبيل إلى تركه الارتياب فيه فهو لذلك يشكك فيه.
(ثالثًا) أن الدكتور طه يعلم أن الدين مبني على الإيمان والإيمان هو
التصديق اليقيني المقترن بالإذعان، ويعلم أنه ليس من الممكن تركه بمجرد أمر آمر
لأنه هو الحاكم على العقل والوجدان، وإنما غرضه بهذا إقناع تلاميذه المقلدين الذين
لم يصلوا في الدين إلى علم اليقين أن الإيمان والعلم بالحقائق ضدان لا يجتمعان
ليصدهم بهذا عن الإيمان والإسلام ويوهمهم أنهم بهذا دون سواه يمكن أن يكونوا
فلاسفة مجددين وأحرارًا إباحيين.
(رابعًا) نقلت الصحف أن الدكتور لما شعر بإمكان مؤاخذته على إفساد
عقائد طلبة الجامعة المصرية والطعن في دين الأمة والدولة كتب كتابًا إلى رئيسه
مدير الجامعة المصرية قال فيه إنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر
ورغب إليه أن ينشر هذا الكتاب فنشره دفاعًا عنه؛ فإن كان مؤمنًا كما كتب فكل ما
في القرآن وكل ما أجمع عليه المسلمون من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
المتواترة قطعي عنده لا يحتمل الشك؛ لأن الشك ينافي الإيمان بالضرورة العقلية
وبنص قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) وأمثاله من كتاب الله تعالى فكيف يتفق هذا مع قاعدته (وجوب
الشك في الدين وكل ما يتصل به) ألا إن دعواه الإيمان وتصريحه بالشك في
القرآن ضدان لا يجتمعان بل نقيضان لا يدخلان في حكم الإمكان.
(خامسًا) هب أن المؤمن الموقن يمكنه أن يشك ولكن كيف يعقل من طالب
اليقين في الشعر الجاهلي وهو لا سبيل إليه كما صرح به أن يوجب على نفسه ترك
اليقين في إيمانه وما يتصل به لطالب ما اعترف به بأنه يشك شكًا شديدًا في أنه قد
ينتهي به إلى نتيجة مرضية منه. إن الصادق في طلب اليقين يطلبه في كل شيء
يمكن الوصول إليه فيه؛ فما له يرغب عن اليقين في الدين بعد حصوله ثم يرغب
في طلبه في الشعر الجاهلي مع عدم إمكانه، أو مع الشك في الوصول إلى ما يقرب
منه فيه؟
(سادسًا) هب أنه في الإمكان الانتهاء في معرفة الشعر الجاهلي إلى اليقين
وهو ما لا يرجوه الدكتور وحق له ألا يرجوه؛ لأنه محال وإنما يرجى الممكن فهل من
المعقول أن نتوسل لهذا اليقين القليل الجدوى بترك يقين الإيمان الذي يثمر السعادة
في الدنيا والعقبى أليس هذا من الخرق، وأفن الرأي، واستبدال الذي هو أدنى
بالذي هو خير؟
(سابعًا) هب أن اليقينين متساويان في أنفسهما وفي ثمرتهما وفائدتهما
فكيف يتصور تعارضهما في الحصول والثبوت وتوقف تحصيل المفقود منهما علي
بذل الموجود والمعقول والمعروف في المنطق أن اليقيني لا ينافي اليقيني فلا بد إذا
أن يكونا أو يكون أحدهما غير يقيني ومن المعروف من طباع البشر أن النقد خير
من النسيئة المساوية له؛ فكيف إذا كان النقد هو الأفضل والأنفع؟
(ثامنًا) نذكر الدكتور طه وأعضاء حزبه وجمعيته الذين يدعون الإسلام
والإيمان ومنهم من لا يدعي ذلك بعرض قاعدتهم وجوب نسيان الدين وما يتصل به
على قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 124-126) والمراد بالعمى هنا عمى
البصيرة لا البصر، فهل يقول الدكتور طه: إن هذه الذكرى لا تتناوله لأنه أعمى
البصيرة والبصر معًا؛ فإذا حشر لا يمكنه أن يقول وقد كنت بصيرًا كل هذه حجج
ناهضة ودلائل بينة على أن الغرض من هذا الكتاب إفساد دين طلبة الجامعة وكل
مستعد للكفر والإلحاد من العامة لا تحصيل ما يقرب من اليقين في الشعر الجاهلي
والأدب العربي؛ فإنه قد صرح بأنه يشك شكًّا شديدًا في الوصول إلي نتيجة مرضية
منه وكلها تثبت سوء نيته في الطعن في الإسلام وإضلاله فيما زعمه من طلب
تحقيق مسألة الشعر الجاهلي.
***
كتاب الشهاب الراصد
بعد كتابة ما تقدم وجمعه وقبل طبعه أهدى إلينا الأستاذ محمد لطفي جمعة
المحامي الشهير كتابه (الشهاب الراصد) وهو بحث تحليلي انتقادي ورد علمي
تاريخي علي كتاب (في الشعر الجاهلي) وهو كتاب حافل ممتع أبطل به ما ادعاه
الدكتور طه حسين من اتباع الفيلسوف ديكارت، وهدم به ما بناه من قواعد الجهل
لإثبات الحق في الشعر الجاهلي كما زعم، وسنعود إلى تقريظه بعد أن نطالع جل
فصوله وصفحاته تزيد علي الثلاثمائة بقطع المنار وثمن النسخة منه 15 قرشًا
مصريًّا تضاف إليها أجرة البريد، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/678)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
الباب العاشر
بعض الحوادث الفجائية
(الغرق)
نتوجه الآن إلى بعض الحوادث الفجائية الكثيرة الوقوع وطرق معالجتها
إن المعرفة بهذه الأمور ضرورية جدًّا لكل إنسان ليتمكن من المساعدة في
الوقت اللازم ويمنع ضياع كثير من النفوس الثمينة، حتى إن الأطفال يجب أن
يعلموا ما ينبغي أن يفعل إزاء هذه الحوادث ليشبوا على عواطف الرحمة والكرم
والتفكر والتأمل.
**
لنبحث أولاً في الغرق:
بما أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون الهواء أكثر من خمس دقائق لذلك
يموت الغريق سريعًا فإذا أخرج من الماء يجب الاهتمام به حالا قبل أن تذهب حياته
بالكلية؛ ولهذا الغرض يجب السعي لشيئين خاصة وهما تدفئة الغريق وإيجاد التنفس
الصناعي فيه لا ينبغي أن ننسى أن هذه المساعدة الأولية تعمل على حافات البرك
وشواطئ الأنهار حيث لا تتيسر جميع الأشياء الضرورية لذلك. وإن هذه المساعدة
تكون مفيدة كثيرًا إذا كان هنالك على الأقل رجلان أو ثلاثة يجب أن يكون المساعد
الأول فطنًا نشطًا قوي الجأش؛ لأنه إن ضيع ثبات نفسه فكيف ينفع غيره وكذلك
إن أخذ الحاضرون يتجادلون في طرق المعالجة فيضيعون الوقت ويقضى على
الغريق؛ ولذلك يجب أن يقود الجماعة في العمل أحزم رجالها ويتبعه الآخرون بكل
دقة.
إذا أخرج الغريق من الماء يجب المبادرة إلى نزع ملابسه المبلولة وتنشيف
جسده ثم ينوم مبطوحًا على بطنه وتجعل يداه تحت جبهته ثم يضع الممرض يديه
تحت صدره فيضمه ويعصر ما في داخل بطنه من الماء والتراب وعند ذلك يخرج
الغريق لسانه بنفسه خارج فمه فيقبض عليه بمنديل ولا يترك ليعود إلى مكانه حتى
ترجع إليه حواسه وعند ذلك يقلب على ظهره حالا بحيث يكون رأسه وصدره أعلا
قليلاً من رجليه ثم يجثو عند رأسه أحد الحاضرين ويشد ذراعيه ويمدهما ويرفعهما
بسهولة من الجهتين فتعلو بهذه الطريقة أضلاعه ويتمكن الهواء الخارجي من
الدخول في الصدر وعند ذلك تعاد يداه بسرعة وتوضع فوق صدره لتضغط عليه
وتساعد على خروج الهواء وكذلك يرش بالماء الساخن والبارد على صدره ويجب
تدفئة الغريق بالنار إن أمكن إيقادها حوله، وإلا فيغطى جسده بجميع الملابس
المتيسرة ويدلك دلكًا جيدًا لتعود إليه الحرارة كل هذا يجب عمله مدة طويلة بدون
استسلام لليأس. فقد عملت في بعض الحوادث هذه الأشياء إلى بضع ساعات قبل
أن يعود إلى الغريق التنفس فإذا ظهرت بوادر الإحساس فينبغي أن يسقى حالاً
شرابًا ساخنًا، وإن عصير الليمون في الماء الساخن أو مغلية القرنفل أو الفلفل
الأسود أو قشر شجرة الفار tobacco Bay يكون نافعًا في هذه الحالة وكذلك قد
تنفع رائحة التبغ، ويجب منع الناس من الازدحام حول الغريق لئلا ينحبس الهواء.
إن علائم الموت في الغريق كما يلي: الوقوف التام للتنفس وضربات القلب
والنبض، ويعرف ذلك بوضع ريشة قرب أنفه فلا تتحرك وتبقى واقفة على حال أو
مرآة أمام فمه فلا ترطب بنفسه وتبقى العينان شاخصتين ونصف مفتوحة ويتصلب
الفكان وتتقلص الأصابع، ويقف اللسان بين الأسنان، ويميل الفم إلى الأمام ويحمر
الأنف، ويصفر الجسم، إن ظهرت جميع هذه العلائم في وقت واحد فيمكننا أن
نحكم بموته ولكن قد شوهد في بعض الحوادث النادرة أن الحياة باقية بعد وجود
جميع هذه العلائم فعلم أن الجزم بالموت إنما يكون إذا أخذ الجسم في الفساد
والانحلال فعلى هذا لا يصح ترك الغريق إلا بعد استعمال جميع الطرق المفيدة مدة
طويلة.
***
الحرق
إذا اشتعلت ملابس رجل ففي أكثر الأحيان نحن نجزع ونفزع، فعوضًا من
أن نساعد المسكين نزيد الطين بلة بجهلنا؛ ولذلك يجب علينا أن نعرف تمامًا ما
ينبغي عمله في مثل هذه الحوادث.
إن الذي تشتعل النار في ملابسه لا ينبغي له أن يدهش ويفقد ثباته فإن كانت
النار في طرف واحد من الثوب يجب الضغط عليه باليد وفركه حالاً، ولكن إن
كانت قد امتدت إلى أكثر الثوب أو كله فعليه أن يلقي نفسه حالاً على الأرض
ويتمرغ عليها تمرغًا؛ وإذا وُجد ثوب سميك فليلفه على جسمه حالاً، ويرش عليه
الماء إذا كان حاضرًا فإذا انطفأت النار تجب المبادرة إلى البحث في الجسد عن آثار
الحروق لمداواتها، إن الثوب يلتصق عادة في الأماكن المحروقة من الجسم ولكن لا
ينبغي نزعه بالقوة بل يقرض بلطف بالمقص ويترك المكان المحروق على حاله مع
غاية الاحتياط حتى لا ينسلخ الجلد ثم تستعمل بعد هذا مباشرة اللبخة الطينية
الطاهرة في جميع هذه الأماكن وتربط على كل منها بعصابة. إن اللبخة تخفف
الحرق كثيرًا وتسهل على المريض آلامه وهي تستعمل كذلك على الأماكن التي
التصق بها الثوب فإذا أخذت تجف تغير حالاً وليس هناك سبب للتخوف من مس
الماء البارد.
ولكن إن لم يتيسر هذا الإسعاف الأولي فالنصائح الآتية تفيد كثيرًا. يبلل ورق
الموز الأخضر بزيت الزيتون جيدًا أو الزيت الحلو ويوضع فوق الحرق وإن لم
يتيسر ورق الموز فتستعمل قطعة من الثوب النظيف الجيد، وكذلك مزيج من زيت
الكتان وماء الجص في مقدار واحد يأتي بنفع عظيم. إن قطعات الثوب التي
لصقت بالحروق يمكن إزالتها بسهولة ببلها بمزيج من اللبن الفاتر والماء، إن
العصابة الزيتية الأولى يجب أن ترفع بعد يومين ثم تستعمل العصابات الجديدة كل
يوم إن تكونت الغراغر على الجلد المحروق يجب فقؤها ولكن سلخ جلدها ليس
بضروري، وإن احمرّ الجلد فقط بسبب الحروق فليس هنالك علاج أنفع من
استعمال اللبخة الطينية. إن احترقت الأصابع فيجب الاحتياط عند استعمال اللبخة
الطينية بأن لا يلمس بعضها بعضًا وهذا العلاج نفسه يستعمل كذلك في حوادث
الحرق من الحوامض [1] (Acids) وينفع نفعًا عظيمًا جدًّا.
***
نهش الحية
شاعت بيننا أوهام لا تحصى في شأن الحيات فقد زرعنا من الدهور السالفة
الخوف الشديد في نفوسنا منها حتى إننا نخاف من مجرد ذكر اسمها، والهندوس
يعبدونها فقد خصصوا من كل سنة يومًا لهذا الغرض وسموه بـ (ناغ بنجمي) وقد
بلغ بهم الوهم إلى أن أخذوا يزعمون أن الأرض إنما قامت بإعانة الحية الكبرى
المسماة (سيشا) ويسمونه الإله (وشنو) بـ (سيشا شائي) لأنهم يعتقدون أنه ينام
فوق ظهر إله الحية، وأن الإله (سيوا) يعلق في عنقه عقدًا من الحيات حتى إنه
ضرب المثل بذكاء الحية وعقلها؛ فإدا عسر فهم شيء قالوا: هذا ما لا يمكن أن
يفسره حتى صاحبة الألوف من الألسنة كناية عن الحية (أذي سيشا) اعتقادًا بقوة
شعورها ودقة عقلها وقد زعموا أن الثعبان (كركولاكا) قد نهش الملك نالا وشوه
وجهه لئلا يتعذب أثناء سياحته في الغابات بسحر السحرة ومثل هذه الأوهام توجد
في الأمم المسيحية الغربية أيضًا فيصفون بالإنكليزية عقل الرجل ودهاءه بأنه
كالحية، وقد قيل في التوراة: (إن الشيطان قد اتخذ صورة الثعبان ليغوي حواء) .
والسبب الحقيقي في هذه العبادة هو الخوف من الثعبان لما نراه من سرعة
موت الذين يسري السم في أجسادهم سريعًا من الملدوغين وفكرة الموت تريعنا
ولذلك نخاف من اسم الثعبان، ولو كان خلقًا حقيرًا لما عبدناه بسهولة.
أما علماء العرب اليوم فيقولون: إن الحية ليست إلا خلقًا شريرًا ويجب قتلها
أينما وجدت وقد أثبتت الإحصاءات الرسمية بأنه لا أقل من عشرين ألف نفس
يموتون سنويًّا في الهند من نهش الثعابين والحيات والحكومة تجازي على قتل كل
ثعبان سام بجوائز، ولكن لم يثبت حتى الآن أن البلاد استفادت من ذلك شيئًا لقد
علمنا بالتجربة أن الحية لا تلدغ أبدا تعديًا وبطرًا، بل إنما تفعل ذلك منتقمة إذا
أوذيت وأقلقت أليس هذا وحده يثبت عقلها أو على الأقل عصمتها؟ [2] إن السعي
لتطهير الهند أو أي قسم منها من الثعابين سعي مضحك عبث يشبه السعي لمحاربة
الهواء قد يمكن منع الثعابين من الدخول في مكان خاص بطريقة علمية للقتل
والهلاك ولكن هذا العمل لا يمكن القيام به في بلاد واسعة، إن مهمة منع حوادث
النهش في قطر عظيم مثل الهند بقتل عام للحيات حماقة بحتة من أصلها.
لا ينبغي لنا أن ننسى أبدًا أن الثعابين أيضًا من خلق الله خالقنا وخالق جميع
المخلوقات، إن حكمة الله لا يمكن معرفتها ولكن لا يجوز أن نثق بأنه تعالى لم
يخلق الحيوانات المفترسة كالأسد والنمر أو السامة كالحيات والعقارب إلا لأجل أن
يتيسر له هلاك النوع الإنساني لو تجتمع الحيات في مؤتمر لها وتحكم بأن الإنسان
ما خلقه الله إلا ليبدها ناظرة إلي أنه يقتلها حيث يجدها فهل نحن نوافقها في قرارها؟
كلا ثم كلا؛ فهكذا نحن أيضًا مخطئون في عدنا للثعبان عدوًّا طبيعيًّا للإنسان.
إن [3] Francis. ST الكبير الذي كان تعود السياحة في الغابات لم يتأذ قط
بالثعابين ولا الحيوانات المفترسة بل إنها كلها قد عاشت معه بكل محبة وألفة وهكذا
الألوف من رهبان الهندوس يعيشون في غابات الهند بين الأسود والنمور والثعابين
ولم نسمع قط أن هذه الحيوانات قتلتهم، قد يعارضنا معارض بأنهم يقتلون في
الغابات ونحن لبعدنا الكثير عنهم لا نسمع ذلك سلمنا ولكن مما لا يمكن المماراة فيه
هو أن عدد هؤلاء الرهبان الذين يعيشون في الغابات لا يكاد يذكر أمام عدد الثعابين
والحيوانات المتوحشة فلو كانت هي عدوة طبيعية للإنسان لفتكت بهذا النوع من
الناس فتكًا ذريعًا ولأهلكتهم بسرعة عظيمة لأنهم لا يحملون معهم أسلحة يمكن أن
يدافعوا بها عن أنفسهم حملاتها ولكنا نرى أنهم لم يفنوا مطلقًا؛ فيمكننا أن نستنتج
من هذا أن الثعابين والحيوانات المتوحشة تتركهم يعيشون في الغابات بدون أن
تؤذيهم، وإني قد تشبعت بعقيدة في هذا الشأن وهي مادام الإنسان لا يعادي خلقاً فإنه
كذلك لا يعاديه أحد، إن الحب هو أكبر صفات الإنسان ومميزاته حتى إنه إذا خلت
منه عبادة الله تعالى فلا تكون إلا شيئًا فارغًا وهو بالاختصار أصل الأصول لجميع
الأديان بلا استثناء.
ثم لماذا نحن لا نعد شراسة الثعابين والحيوانات المتوحشة مجرد نتيجة
وانعكاس لطبيعة الإنسان نفسه؟ وهل نحن أقل فتكًا منها؟ أليست ألسنتنا سامة
كأسنان الثعابين؟ ألسنا نحن أيضًا نهاجم إخواننا المعصومين كما تفعل الأسود
والنمور مثلا بمثل؟ تنادي جميع الكتب المقدسة بأن الإنسان إذا خلي من الشر تأخذ
سائر الحيوانات الأخرى في المعيشة معه بسلام، ومادامت نار الحرب والعداوة
والبغضاء تتأجج في صدورنا ونحن نفترس بني جلدتنا كما تفترس الذئاب الغنم فهل
ينبغي لنا أن نتعجب إن رأينا مثل ذلك يجري فيما حولنا من الدنيا وهل هذه الدنيا
الخارجية إلا انعكاسًا للدنيا الداخلية في أدمغتنا؛ فإذا نحن غيرنا طبعنا فلا بد أن
تتغير الدنيا في سلوكها معنا ألا نري نحن هذه الوحوش تسالم أولئك الناس الذين
أصلحوا نفوسهم وقبضوا على أزمة شهواتهم بيد حديدية؟ أو تعاملهم بضد ما تعامل
غيرهم به، إن هذا لسر كبير لخلق الله [4] وكذلك للمسرة الحقيقية أن مساراتنا وأحزاننا
تتوقف تمامًا على أنفسنا نحن لا نحتاج أن نتكل في هذا الأمر على أناس آخرين.
إن عذرنا في إطالة الكتابة في مسألة النهش هو أننا أحببنا عوضًا من أن
نصف مجرد العلاج له أن نتروى قليلاً في المسألة ونتبين أحسن طريقة للخلاص
من مخاوفنا الوهمية وإني لو لم يسلم بصحة ما كتبته إلا واحدًا من القراء ويعمل بها
أرى أني قد جوزيت جزاء حسنًا على تعبي ثم إن غرضنا من كتابة هذه الصفحات
ليس مجرد عرض الأصول الصحية المسلم بها عامة بل الغوص إلى قعر المسألة
والبحث في الأصول الأساسية الأصلية للصحة.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كلمة أعجمية بالأصل.
(2) المنار: لا لا، إن بعض الحيات في الهند وفي غيرها تهجم على الإنسان وغيره من الحيوان لتقتله وتتغذى به، فبعضها يعتدي اعتداء لأجل الغذاء، وبعضها لا يؤذي الإنسان إلا دفاعاً عن نفسه ولعل المؤلف يدافع عن الحيات؛ لأنهن من معبودات قومه، وكذلك النصارى واليهود يعدون الحية عدوًّا طبيعيًّا للإنسان بنص في سفر التكوين والأمر الذي لا شك فيه هو ما ذكرناه فالحيات العظيمة الخلقة كالوحوش المفترسة تتعدى على الحيوان الذي تقتات به، والصغرى تقتات بالحشرات والحيوانات الصغيرة كالعصافير فلا تعتدي على الإنسان لأجل أكله ولا لدغه إلا دفاعًا فالحية عاقلة ولا معصومة ولا عدوة للإنسان وحده بالفطره.
(3) كلمة أعجمية.
(4) المنار: لا نسلم أن للمسألة سراً بل الأمر ما ذكرنا. وثَمّ مسألة أخرى وهي أن طول اعتداء بعض الحيوان ومنها الإنسان على بعض قد جعل الخوف من المعتدي غريزيًّا في المعتدى عليه فلو ترك الاعتداء عدة قرون فإنه يؤثر في الغريزة.(27/688)
الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني
__________
مذكرة مرفوعة
لحضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ السيد محمد رشيد رضا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد وصلني ج 5 م 26 من المنار
النافع وتصفحته فبدت لي عليه الملاحظات الآتية:
(الأولى) قلتم في تفسير فتون سليمان عليه السلام ص 41 س 6 ما نصه:
(ووضعت غلامًا مشوهًا هو نصف غلام، فألقي على كرسيه ليعتبر) . ثم نسبتم
ذلك لنص حديث الصحيحين في ص 343 س 14 وحيث إن جملة فألقي على
كرسيه ليعتبر لم ترد في الحديث لا بلفظها ولا بمعناها كما يعلم لفضيلتكم بمراجعة
نص الحديث في البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ضمن باب واذكر عبدنا داود
مع ملاحظة ما ذكره صاحب الفتح في شرح قوله إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه، حيث
قال ما نصه: (حكى النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على
كرسيه وقد تقدم في البخاري قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور
شيطان وهو المعتمد والنقاش صاحب مناكير كما هو منصوص في هذا الباب قبل
هذا الحديث في البخاري أيضًا.
وحيث إنكم صرحتم في آخر هذا الموضع بأنكم كتبتموه بغير مراجعة لكثرة
الأشغال فلكم العذر فطبعًا إنكم تستدركونه في الجزء الآتي صيانة للفظ الحديث
الصحيح، وقد سبق مثل ذلك في ص 91م5 فلعلكم تنوهون إلى ذلك أيضًا.
(الثانية) قلتم في ص 322س 4 من الجزء الحاضر ما نصه (ولو ذكر في
القرآن أن الرجل الذي آتاه الله آياته هو (بلعام) هذا أو لو صح هذا في خبر مسند
متصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان صحيحًا)
وقد نقل العلامة الجزائري في كتابه توجيه النظر عن الحاكم النيسابوري في
الكلام على الموقوفات من الروايات ص 165 من توجيه النظر ما نصه (فأما
ما نقول في تفسير الصحابي: إنه مسند فإنما نقوله في غير هذا النوع الموقوف وذلك
فيما أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا
وكذا فإنه حديث مسند) لذلك قال العلامة الزرقاني في شرحه على البيقونية في
المصطلح في الكلام على الموقوف أيضًا ما نصه: (ومحل كون ما أضيف
للصحابي موقوفًا حيث كان للرأي فيه مجال فإن لم يكن للاجتهاد فيه مجال ظاهر
فهو مرفوع وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينًا للظن به) . اهـ
وإن أكثر الأحاديث التي لم ترضونها في هذا الموضوع مروي عن أجلاء
الصحابة الذين شهدوا الوحي والتنزيل كما يتضح بالمراجعة.
وقلتم أيضًا في هذا الموضوع ص323س20 (ولقد رأينا شيخ المفسرين ابن
جرير لم يعتد بها) وبناء على القاعدة التي ذكرها الحاكم راجعنا تفسير ابن جرير
فلم نهتد إلى عبارة يؤخذ منها عدم اعتداده بهذه الأحاديث.
لذلك أرجو إمعان النظر في الموضوع أيضًا والاستدراك عليه وعلى عبارتكم
عن ابن جرير بما تروه أو أن تتكرموا علينا بإبداء رأيكم الثاقب في عبارتي الحاكم
والزرقاني مع إرشادنا إلى الجملة التي صدرت من ابن جرير الدالة على عدم
اعتداده بهذه الأحاديث ولكم من المولى الثواب الجزيل.
(الثالثة) قلتم في آخر ص 342 (وقد قال الإمام أحمد) ثم لم تذكروا
عبارته إلا في آخر الصفحة الثانية مصدرة بإعادة هذه الجملة أيضًا فالأولى زائدة
طبعًا فأرجو التنويه بحذفها من آخر ص 342 رفعًا للإبهام وتحقيقًا لنسبة النصوص
ولكم الشكر.
هذا ما عنَّ لي الآن من الملاحظات على هذا الجزء كتبته على عجل كي
تدركون ما يلزم تحريره في الجزء التالي خدمة لسنة رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً واقبلوا فائق الاحترام من المخلص.
... ... ... ... ... ... ... ... 7 ربيع أول سنة 1345
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني
***
تعليق المنار
على هذا الانتقاد
(وفيه القول الفصل بين المقلدين الجامدين وبين طلاب الإصلاح المستقلين)
(في الإسرائيليات وإفهام المؤلفين الميتين)
في هذه المذكرة عدة مسائل منتقدة نجيب عنها واحدة بعد واحدة الأولى تفسير الجسد الذي فتن به سليمان:
وزعم المنتقد أنني أسندت إلى حديث الصحيحين ما ليس فيه
صرحت في جواب هذه المسألة من الجزء الخامس بأنني كتبت ما كتبته من
غير مراجعة شيء من الكتب في تفسير الآية والروايات الواردة فيها وذلك أنني كتبت
ما هو مخزون في نفسي من مطالعاتي السابقة لكتب التفسير فيها وكان سبق لي مثل
ذلك بإيجاز منذ 26 سنة في (م5 منار) كما صرحت بأنني لم أراجع شيئًًا من
ألفاظ الأحاديث الواردة فيها فلا يمكن إذًا أن أريد مما كتبت عزوه إلى نصوصها وقد
راجعت عند كتابة هذا التعليق بعض تلك الكتب فظهر لي أن تلك العبارة التي كتبتها
على عجل هي خلاصة أقوال المحققين من المفسرين وأنا لم أعز العبارة التي نقلها
المنتقد من (ص 341 س6) إلى نص حديث الصحيحين كما ادعى بل قلت: (وأقول
بالإجمال: إن الذي ورد في تفسير فتون سليمان في الكتب الصحيحة كذا) وإنما
أشرت إلى حديث الصحيحين إشارة بذكر معناه فلا يصح مع هذا أن يقال إنني
عزوت إلى هذا الحديث شيئًا ليس فيه ولو بغير تعمد كما قال وإنما غرضي من
عزو ما أجملته إلى كتب التفسير أن جملة ما قاله أصحابها المحققون أن المراد
بالجسد هو الولد المشوه الذي ورد ذكره في حديث الصحيحين وإنني أنقل الآن عنها
ما يؤيد مما كتبته من غير مراجعة شيء منها ولا من غيرها كما صرحت به في تلك
الفتوى في الموضوع.
وأقول: قبل ذلك إن الذي جعل الشيخ عبد الرحمن الجمجموني يُعنى بهذا
الانتقاد هو أن ما نرفضه من تفسيرها، وهو أن الذي ألقاه الله على كرسي سليمان
فتنة له شيطان تمثل بصورته وصار يحكم بين الناس باسمه مروي عن بركان
الخرافات كعب الأحبار الذي شغل الجمجموني إثبات تعديله والدفاع عنه حتى ألهاه
عن زراعته وحمله على وضع نفسه حيث وضعها من مقام نقد التفسير والحديث
وهو لا يمكن إتقانه له مع الاشتغال بالزراعة.
أما ما ذكره الحافظ في الفتح من حكاية النقاش (المفسر) لما اخترناه من
أقوال المفسرين في الجسد وقوله فيه إنه صاحب مناكير فلا يضرنا لأننا لم نختر
هذا القول لحكاية النقاش له، ولا اعتمادًا على روايته التي لم نطلع عليها وإنما
اخترناه تبعًا لبعض المحققين كما ستعلمه مما ننقله عنهم وقد سبقنا القسطلاني في
شرحه للبخاري في نقل اعتماد القاضي البيضاوي لما ذكره النقاش وأشار إلي
تصويبه وترجيحه على ما ذكره البخاري عن بعضهم كمجاهد ولم يذكر القسطلاني
في شرحه للحديث ما قاله ابن حجر في تضعيف قول النقاش لأنه لم يعتد به.
وأما اعتماده لقول من نقل البخاري عنهم أن الجسد المذكور شيطان فهو ليس
حجة علينا أعني ليس حجة علي وعلى من اخترت قولهم لأن الروايات الأخرى
إسرائيلية ومروية عن كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه بل لا أثق بإيمانه ولأن فيها
طعنًا على نبي الله سليمان عليه السلام كما قالوه وصاحب الفتح لا مانع عنده من
ترجيح رواية سندها إلى كعب الأحبار قوي على رواية النقاش المجروح في روايته
عند أهل هذا الفن وأما البخاري فلم يرو تفسير الجسد بالشيطان بسند من أسانيد
الصحيح وإنما ذكره في تفسير بعض المفردات فهو تعليق له في تفسير كلمة مفردة.
***
خلاصة من أقوال محققي المفسرين
في المسألة من المعقول والمنقول
(1) قال الفخر الرازي إمام مفسري المعقول في تفسير الآية:
اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام اختلفوا في المراد من
قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) ولأهل الحشو والرواية فيه قول ولأهل
العلم والتحقيق قول آخر أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات.
(وذكر أربع روايات مختصرة مما سيأتي مطولاً ثم قال)
(واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه:
(الأول) أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء
فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع فلعل هؤلاء الذين رأوهم الناس في
صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين
تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ومعلوم أن ذلك يبطل الدين
بالكلية.
(الثاني) أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه
المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ وجب أن يقتلهم
وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن
يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى.
(الثالث) كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج
سليمان ولا شك أنه قبيح.
(الرابع) لو قلنا: إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر
منه، وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ سليمان بفعل لم
يصدر عنه فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب أشياء:
(الأول) أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار
مسلطًا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب
فبينما هو مشتغل بمهماته إذ أُلقي ذلك الولد ميتًا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه
لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب.
(الثاني) روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه قال: قال
سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله
ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء
على كرسيه فوضع في حجره [1] فوالذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا كلهم
في سبيل الله فرساناً أجمعون فذلك قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34)
(الثالث) قوله: (ولقد فتنا سليمان) بسب مرض شديد ألقاه الله عليه
{وألقينا على كرسيه جسدًا} (ص: 34) منه وذلك لشدة المرض والعرب تقول
في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ثم أناب أي رجع إلى حال الصحة
فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة.
(الرابع) أقول لا يبعد أيضًا أن يقال: إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو
توقع بلاء من بعض الجهات عليه وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف
الملقى على ذلك الكرسي ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه
من القوة وطيب القلب. اهـ المراد من كلام الرازي.
(2) وبمثل القول الثاني من تفسير الجسد عند الرازي قال البيضاوي
الشافعي والطوفي الحنبلي وأبو السعود الحنفي.
وجعل القسطلاني في شرحه للبخاري اعتماد البيضاوي لقول النقاش إشارة
إلى تصويبه واكتفى بذلك ولم يذكر اعتماد ابن حجر لغيره كما تقدم.
(3) قال الألوسي الجامع في تفسيره روح المعاني بين المعقول والمنقول
والفروع والأصول ما نصه:
(أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال: لأطوفن الليلة على سبعين
امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله - ولم يقل إن شاء الله - فطاف
عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل. وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما
عن أبي هريرة مرفوعًا وفيه (فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا
فرسانًا) لكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين [2] وأن الملك قال له:
قل إن شاء الله فلم يقل، وغايته ترك الأولى فليس بذنب، وإن عده هو عليه السلام
ذنبًا، فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة
له عليه ليراه) .
ثم ذكر أشهر الروايات التي وردت في تفسير الجسد بالشيطان، وأن منها ما
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقال الحافظ ابن حجر وتلميذه
السيوطي: إن سنده قوي. وفيها أن الشيطان الذي تولى ملك سليمان وتشبه به كان
يأتي نساءه وهن حيض. ونستغني عن سرد هذه الروايات بما يأتي عن الحافظ ابن
كثير، ثم قال: الألوسي - بعد ذكر هذه الروايات - ما نصه:
وقال أبو حيان وغيره: إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية
ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي
حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي؟ ولو أمكن وجود
هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط
الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض!
(الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخبر إلي ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها وكذا لا تسلم قوة سنده إليه وإن قال بها من سمعت
(يعني ابن حجر والسيوطي فليعتبر الجمجموني) وجاء عن ابن عباس برواية
عبد الرزاق وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعبًا
يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها [3] على أن إشعار ما يأتي بأن تسخير
الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى [4] .
ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام
ويستبعد جدًّا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك
الخاتم، وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لَذَكَرَه الله عز وجل في
كتابه والله أعلم بحقيقة الحال اهـ.
(4) قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية ما نصه:
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة
وغيرهم يعني شيطانًا (ثم أناب) أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته، قال
ابن جرير: وكان اسم ذلك الشيطان صخرًا، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
وقتادة: وقيل آصف، قاله مجاهد وقيل صرد قاله مجاهد أيضًا، وقيل حقيق قاله
السدي. وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة، وبدأ منها بذكر رواية سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة وهي طويلة وفيها خرافات غير معقولة ثم قال:
وقال السدي {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) أي ابتلينا سليمان {وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: 34) قال شيطانًا جلس على كرسيه أربعين يومًا.
قال: كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها
جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم
يأمن عليه أحدًا من الناس غيرها فأعطاها يومًا خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان
في صورته فقال: هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه
الصلاة والسلام، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه؛ فقالت: ألم تأخذه
قبل؟ قال لا. وخرج تائهًا ومكث الشيطان يحطم بين الناس أربعين يومًا، قال:
فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على
نسائه فقالوا لهن: إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا
أحكامه. قال: فبكى النساء عند ذلك، قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم
نشروا يقرءون التوراة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه،
ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر
قال وأقبل سليمان عليه السلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من
صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال: إني أنا
سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ
البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته
قال: إنه زعم أنه سليمان قال: فأعطوه سمكتين مما قد كان عندهم ولم يشغله ما كان
به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما فجعل يغسل
فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير
حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان - عليه الصلاة والسلام - فقام القوم
يعتذرون مما صنعوا فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم
كان هذا الأمر لا بد منه.
قال: فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل
في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به
فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حقيقًا قال: وسخر الله له الريح
ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (ص: 35)
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: 34) قال: شيطانًا يقال له آصف، فقال له سليمان عليه
السلام: كيف تفتنون الناس قال أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف
في البحر فساح سليمان عليه السلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله
تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهن ولم يقربنه وأنكرنه. قال فكان سليمان
عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول: أتعرفوني أطعموني أنا سليمان فيكذبونه،
حتى أعطته امرأته يومًا حوتًا ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر
آصف فدخل البحر.
فأرى هذه كلها من الإسرائيليات، ومِن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم حدثنا
علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا
حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) قال: أراد سليمان - عليه الصلاة والسلام- أن يدخل الخلاء فأعطى
الجرادة خاتمه، وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في
صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن
والشياطين.
فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي. قالت قد
أعطيته سليمان. قال أنا سليمان. قالت كذبت ما أنت بسليمان. فجعل لا يأتي أحدًا
يقول له أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة. فلما رأى
ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل، قال: وقام الشيطان يحكم بين الناس
فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار
ذلك الشيطان. قال: فأرسلوا إلى نساء سليمان؛ فقالوا لهن تنكرن من سليمان شيئًا؟
قلن نعم: إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك؛ فلما رأى الشيطان أنه قد
فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبًا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي
سليمان ثم أثاروها وقرأوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس
فأكفر الناس سليمان -عليه الصلاة والسلام - فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك
الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة؛ فأخذته وكان سليمان - عليه السلام
- يحمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكًا فيه تلك السمكة التي في
بطنها الخاتم فدعا سليمان - عليه الصلاة والسلام - فقال: تحمل لي هذا السمك؟
فقال: نعم، قال: بكم؟ قال: بسمكة من هذا السمك، قال: فحمل سليمان -
عليه الصلاة والسلام - السمك، ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه
أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام
فشق بطنها؛ فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه فلبسه، قال: فلما لبسه دانت له الجن
والإنس والشياطين، وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر
البحر فأرسل سليمان عليه السلام في طلبه وكان شيطانًا مريدًا فجعلوا يطلبونه ولا
يقدرون عليه حتى وجدوه يومًا نائمًا فجاءوا فبنوا عليه بنيانًا من رصاص؛ فاستيقظ؛
فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه من الرصاص. قال فأخذوه
وأوثقوه، وجاءوا به إلى سليمان -عليه الصلاة والسلام -فأمر به فنقر له تخت من
رخام، ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله
تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص:
34) قال: يعني الشيطان الذي كان سلط عليه. إسناده إلى ابن عباس رضي الله
عنهما قوي.
ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - رضي الله عنهما- إن صح
عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان - عليه الصلاة والسلام -؛
فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر
النساء، فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف، أن ذلك الجني لم
يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله - عز وجل - منه تشريفًا وتكريمًا لنبيه
عليه السلام) .
قال المفسر:
(وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف - رضي الله عنهم -
كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل
الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال يحيى بن عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في جرته
إلى بيت المقدس تواضعًا لله عز وجل رواه ابن أبي حاتم.
وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة سليمان عليه الصلاة
والسلام جزءًا عجيبًا، فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو
إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث (إرم ذات العماد) قال
له معاوية: يا أبا اسحق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود -عليهما الصلاة
والسلام- وما كان عليه؟ ومن أي شيء هو؟ فقال: كان كرسي سليمان من أنياب
الفيلة مرصعًا بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ وقد جعل له درجة منها مفصصًا
بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل
نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ وجعل على رءوس النخل
التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب، ثم جعل على رءوس النخل التي على
يسار الكرسي نسورًا من ذهب مقابلة الطواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى
شجرتي صنوبر من ذهب عن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس
الأسدين عمودين من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتي كرم من ذهب قد أظلتا
الكرسي، وجعل عناقيدهما درًّا وياقوتًا أحمر ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان
عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكًا وعنبرًا، فإذا أراد سليمان - عليه السلام -
أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقفان فينضحان ما في أجوافهما من
المسك والعنبر حول كرسي سليمان - عليه الصلاة والسلام- ثم يوضع
منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان، ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرًا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيًا من بني
إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول، ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة
وثلاثون منبرًا من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه
على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده
اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام
على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا
استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي
أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على
رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحا المسرعة.
(فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحق؟ قال: تنين من
ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه
تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي درن إلى أعلاه، فإذا
وقف وقفن كلهن منكسات رءوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو
جالس ثم ينضحن جميعًا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن
داود - عليهما الصلاة والسلام - ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من
جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرأها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس وذكر
تمام الخبر وهو غريب جدًّا) اهـ. المراد من تفسير ابن كثير. فهذه
أقوال أشهر كتب التفسير المعتمدة المعروفة في المسألة مع وصف كعب لكرسيه المذكور فيها وهو من الأكاذيب التي عجز عن مثلها مصنف (ألف ليلة وليلة)
وانتظر تعليقنا في الجزء التالي عليها…
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1) قوله: فوضع في حجره ليس من روايه الصحيحين للحديث وهل رواه غيرهما بهذه الزيادة؟ لم نعلم ذلك والرازي واسع الاطلاع ولكنه ليس من حفاظ الحديث ولا من نقاد روايته، ويجوز أن يكون أخذه من تفسير النقاش واعتمده كغيره تبرئة لسليمان عليه السلام.
(2) هذا غلط والذي في صحيح البخاري لفظ سبعين، وفي رواية له تسعين وقال البخاري: إنها أصح.
(3) لينظر كيف تسلسل انخداع الناس بروايات كعب الكذاب وجعلوا ذنبها على كتب اليهود لا عليه وأكثرها، لا ذكر لها في كتبهم وإنما هو الذي افتراها تشويهًا للإسلام.
(4) يعني أن آية تسخير الشياطين له كان استجابة لدعائه بعد الفتنة ولم يكن له قبلها سلطان عليهم.(27/694)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
نموذج من كتاب
القول الوثيق
في الرد على أدعياء الطريق
(تابع لما قبله)
(3) (استماع الأذكار المحرفة)
لا يختلف حكم الاستماع والفعل في هذه الأذكار المحرفة لأن للسماع حكم
المسموع كما أن للنظر حكم المنظور حسبما تقرر في كتب الفروع وأشارت إليه
الأحاديث المتقدمة وحديث (من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله) [1]
قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله
وأخرج نور الإسلام من قلبه اهـ. وقال الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113) فيحرم استماع هذه الأذكار المحرفة ويجب على
السامع إنكارها والنهي عنها وبذل المجهود في نصح الذاكرين بها وإرشادهم إلى
تصحيحها جهد المستطاع.
***
(4) (الذكر جهرًا ومع الجماعة)
اعلم أن ذكر الله تعالى على الطريقة الشرعية من أفضل الأعمال وأعظم
القربات التي حث عليها الشرع لما له من جميل الأثر في تهذيب النفوس واطمئنان
القلوب واستنزال الرحمات وقمع الشهوات سواء كان سرًّا أو جهرًا قيامًا أو قعودًا
كان الذاكر منفردًا أو في جماعة لعموم قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} (الرعد: 28) وقوله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152) وقوله -عليه
الصلاة والسلام - (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل
الحي والميت) وقوله: (من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرَة
(تبعة) ومن اضطجع مضطجعًا لا يذكر الله فيه كانت عليه ترة وما مشى أحد ممشى
لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) . وروي عن ابن عباس - رضي الله
عنهما- أنه قال في تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) لم يعذر الله أحدًا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله،
وعنه أنه قال في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ
أَشَدَّ ذِكْراً} (البقرة: 200) إن هذه الآية نزلت في أهل الجاهلية كانوا يجتمعون
بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم فنهوا عن ذلك وأمروا
بالاجتماع للذكر على هذا الوجه.
وقد أكد الصوفية أمر الذكر جهرًا ومع الجماعة نظرًا إلى أن النفوس لما كانت
كثيرة الخواطر والخطرات، شديدة التقاعد عن العبادات تعتريها الغفلة عن الحق
وتطبيها [2] رؤية الأغيار كانت محتاجة في سيرها إلى هذا المقصد الأسمى
وبلوغها تلك الغاية القصوى إلى استنهاض همتها وتنشيط قواها وتقوية عزيمتها وذلك
يكون بالجهر والرفقة الصالحة في هذا السبيل أخذ في الأول (الجهر) بما ورد في
باب الدعاء من الأحاديث الصريحة في سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء
الداعين جهرًا وإقرارهم على ذلك وما ورد في كيفية قراءته عليه السلام للقرآن من
الأحاديث الدالة على أنه كان يقرؤه بعض الأحيان جهرًا والذكر إن لم يكن باسم من
أسمائه تعالى الواردة في القرآن فهو من باب الدعاء كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ
الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) .
وأما ما ورد عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا في سفر فجعل الناس
يجهرون بالتكبير، فقال النبي: - صلى الله عليه وسلم - (أربعوا على أنفسكم
(ارفقوا) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا بصيرًا وهو معكم والذي
تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فمحمول على إرهاق النفس وإجهاد
القوى في الدعاء، وأما الجهر مع الرفق واللين فسائغ في الحالين.
واستنادًا في الثاني (الرفقة والجماعة) إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (لأن
أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن
أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة
العصر حتى تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) أخرجه أبو داود، وقوله
عليه الصلاة والسلام: (لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم
الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله في من عنده) أخرجه مسلم والترمذي
وقوله عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا
ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير
منه، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه
باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) أخرجه الشيخان، والترمذي، وقوله عليه
الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا
قومًا يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا،
فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم- ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك، ويكبرونك،
ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: كيف لو
رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك
تسبيحًا، قال: فيقول: فما يسألون؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل
رأوها؟ فيقولون: لا يا رب فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد
عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبةً، قال: فمِمَّ يتعوذون؟ فيقولون:
يتعوذون من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول:
كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافةً، قال:
فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: فيقول ملك منهم: فيهم فلان خطاء ليس
منهم إنما مر لحاجة فجلس، فيقول: قد غفرت له، وهم القوم لا يشقى بهم
جليسهم) أخرجه الشيخان والترمذي، والمراد أنهم يلتمسون أهل الذكر في الأمكنة
التي يليق أن يذكر الله فيها لا في الطرق كما يرشد إليه آخر الحديث قوله: فجلس
إذ لم يعهد الجلوس للذكر في الطرق بل قد نهي عن الجلوس فيها إلا بحقها
ولم يعد منها الذكر كما ورد في حديث (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا
رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها فقال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا
الطريق حقه قالوا: وما حقه يا رسول الله قال: غض البصر وكف الأذى
ورد السلام والأمر المعروف والنهي عن المنكر) وفي بعض الروايات
(وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال) .
وهذه الأحاديث الصحيحة مع إثباتها مشروعية الجماعة وفضلها في الذكر تثبت
مشروعية الجهر وفضله فيه؛ لأنه هو الذي صيرهم جماعة كما هو المعهود لغة
وعرفًا إذ مع الأسرار في الذكر يكونون فرادى وإن جمعهم مكان واحد.
هذا وللعلماء في مسألة الجهر بالدعاء ومثله الذكر خلاف فمنهم من ذهب إلى
كراهته أخذًا من قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) وحديث (أربعوا على أنفسكم) وقال (إن دعاءً لا تضرع فيه ولا
خشوع لَقليل الجدوى) فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه وروى ابن جرير أن
رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) اهـ.
ومنهم من ذهب إلى أنه مما لا بأس به ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى
هو طلب ما لا يليق بالداعي فقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي
وقاص قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سيكون قوم يعتدون في
الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل
وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل) ثم قرأ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) .
وفصّل بعضهم فقال: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند
عدم خوفه وأولى من هذا التفصيل ما قيل إن القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما
إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصلٍّ أو نائم أو قارئ أو
مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد
تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة من مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن
الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعته أو نحو
ذلك وقد سن الشافعية الجهر بآمين [3] بعد الفاتحة وهي دعاء ويجهر بها الإمام
والمأموم عندهم.
وفرّق بعضهم بين رفع الصوت جدًّا كما يفعله المؤذنون في الدعاء على
المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده (راجع تفسير الألوسي لآية الدعاء
المذكورة) .
وبالتأمل في عموم الآيات والأحاديث السابقة وفيما نقله الألوسي في آية
الدعاء تعلم أنه لا وجه للقول بكراهة الجهر بالذكر إذا خلا عن الموانع الشرعية ولم
يكن فيه إخلال بشيء من آدابه المعروفة كما أنه لا داعي إلى صرف أحاديث
الاجتماع على الذكر والجهر به عن ظاهرها وحملها على خصوص الاجتماع للتفهم
والمدارسة احتجاجاً بأن سلف الأمة لا يعهدون خلاف ذلك فإنه لم يثبت أن عمل
السلف كان قاصرًا على الإسرار في الدعاء والذكر وعدم الاجتماع لهما بل قد ورد
ما يؤخذ منه مشروعية الجهر والاجتماع للذكر خصوصًا إذا توفرت الدواعي على
ذلك كما أشرنا إليه.
على أن الحق أنه ليس كل ما خالف عمل السلف في مثل النوافل وفضائل
الأعمال بدعة مذمومة فقد يتوفر في الإسرار بالذكر بالنسبة إلى السلف وما كانوا
عليه من الصفاء والبعد عن الشواغل وخطرات النفوس ما لا يتوفر لغيرهم مما يدعو
إلى الإتيان بالذكر على غير هذا الوجه ولو عد كل ما خالف عمل السلف في كيفية
من كيفيات الأعمال الشرعية بدعة سيئة مذمومة لأسرع ذلك في كثير من العبادات
خصوصًا ما يتعلق بأحوال القلوب.
نعم لا بد من رعاية الحدود والآداب الشرعية وعدم الإخلال بشيء منها
فتبصر هديت إلى الحق ولا تعول على كل ما ذكر هنا وإن نسب إلى بعض الأجلَّة
فإنه تشدد دعاه إليه إما طرد سد الذريعة أو رد طرد إباحة وكلاهما طرف وخير
الأمور الوسط.
***
(5) (الهزة والتمايل والإنشاد في الذكر) .
لا خلاف في أنه يجب مراعاة الحدود والآداب الشرعية التي ذكرها الفقهاء
والسادة الصوفية في الذكر فلا يجوز تخطيها والإتيان بما ينافيها كما تقتضيه العقول
الصحيحة والنصوص الصريحة.
فالهزة والتمايل أثناء الذكر إن كانا بحالة لا تنافي الآداب وجلال المشهد ووقار
الذكر فلا بأس بهما بل فيهما من استنهاض الهمم وتنشيط القُوى وتقوية العزائم إلى
هذا المقصد الأسمى ما يجعلهما في مرتبة الطلب؛ لأن للمبادئ والوسائل حكم المقاصد
والغايات وإن كانا بحالة تنافي الآداب وتخرج بالذاكر عن السمت اللائق والوقار
الواجب كما يفعله الجهلة الآن من التولي بالوجوه إلى الظهور والنزول بالرؤوس
إلى الأقدام والتثني والتكسر والرقص والاضطراب فلا شك في حرمتها على غير
مغلوب الحال حقيقة لا تصنعًا وروى الفضيل أن أصحاب رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كانوا إذا ذكروا الله تعالى تمايلوا يمينًا وشمالاً كما تتمايل الشجرة في
الريح العاصف إلى قدام ثم ترجع إلى وراء وقال أبو البركات: ولا يعيبهم ذكر الله
قيامًا وقعودًا أو هزهم في الذكر والإنشاد الذي وقع منهم وليس هذا بخفة كما يزعمه
المنكرون فإن للذكر حلاوة ومخامرة باطنية يعلمها أربابها.
وقال سلطان العاشقين رضي الله عنه:
وإذا ذكرتكمو أميل كأنني ... من طيب ذكركمو سقيت الراحا
ومحمل عباراتهم في ذلك وفي الرقص أثناء الذكر على هزة وتمايل لا يخرج
بهما الذاكر عن الحدود والآداب الشرعية.
وأما الإنشاد في الذكر لتنشيط النفوس وتأجيج نار الشوك في القلوب بكلام لا
يشوبه هذر ولا هراء بل بالمواعظ الحسنة والحكم البالغة فلا بأس به لأنه ذريعة
إلى الجد والاهتمام في التقرب إليه تعالى ما لم يَتَلَهَّ به الذاكرون عن حضور القلب
والتأمل في أسرار الذكر ويجعلوه مقصدًا وغاية وما لم ينشأ عنه طرب واضطراب
ينافي الخشوع والخضوع المعبر عنهما في لسان الصوفية بالرقة والتواجد فإنه حينئذ
لا يسوغ وقد وضع الصوفية حدودًا للإنشاء لا تخرج في إجمالها عن هذا الأصل
فإذا تجاوزها الذاكرون أثموا عند أهل العلم قاطبة كما عليه الآن أكثر المنتسبين
للطرق الصوفية فإنهم يتخذون الإنشاد للطرب بالنغمات وحسن الأصوات ولا
يدركون من معاني المواعظ والحكم ما ترق به قلوبهم وتنفعل منه نفوسهم ويدعوهم
إلى الإقبال على الله عز وجل.
(المنار)
قد مزج الأستاذ هذا البحث الشرعي بشبهات الصوفية وجعل كلام شاعرهم
ابن الفارض حجة فيما يشرع وما لا يشرع من عبادة الله تعالى وفي كلام هذا الشاعر
ما هو مخالف لعقائد الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة مما لا يمكن التفصي منه
إلا بتأويل بعيد عن مدلولات الألفاظ وقواعد اللغة.
والحق أن الله تعالى قد أكمل الدين وأن العبادات فيه موقوفة على نص الشارع
من الكتاب والسنة كما هو أصل الإمام مالك الذي ينتمي إليه الأستاذ المؤلف وقد
رووا عنه أنه قال: من زعم أنه يأتي في الدين بأفضل مما أتى به النبي - صلى الله
عليه وسلم - فقد زعم أنه قد خان الرسالة أو ما هذا معناه وقال: لا يصلح آخر هذه
الأمة إلا بما صلح به أولها.
نعم، إن العبادات قسمان مطلق كذكر الله تعالى وصلاة التطوع وصومه ومقيد
بالجماعة أو الزمان أو المكان مثلاً فالأول على إطلاقه لا يتوقف على النص في
جزئياته، والثاني يتوقف على النص لا يزاد عليه ولا ينقص منه وقد قسم العلامة
الشاطبي المالكي البدعة إلى حقيقية وهي ما لا أصل له في الكتاب والسنة , وإضافية
وهي ما له أصل ولكن يخالف ذلك الأصل كالاجتماع فيما لم يرد فيه اجتماع ورفع
الصوت فيما لم ينقل فيه إلا الإسرار والميقات الزماني والمكاني فالرقص في الذكر
وإنشاد الأشعار فيه والاجتماع له في أوقات معينة كالفرائض كل ذلك من البدع
المذمومة لم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا التابعين لهم
في هديهم ولم يقل به أحد من الأئمة المجتهدين ولا فضل لأحد من الصوفية إلا في
اتباع هؤلاء السلف الصالحين وبقدر اتباعهم.
كتبت هذا التعليق مضطجعًا من وعكة. ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب
الاعتصام للإمام الشاطبي رحمه الله تعالى.
__________
(1) المنار: أصله (من أحدث فيها حدثًا) إلخ وهو وارد في حديث تحريم المدينة المنورة كمكة كما في الصحيحين.
(2) تستميلها.
(3) المنار: ليس للشافعية أن يسنوا الصلاة ولا في غيرها من العبادات فإنه تشريع وهو حق الله تعالى ولكنهم أخذوا هم وغيرهم كالحنابلة في الجهر بالتأمين بما ورد من جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بآمين حتى سمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد وهو صحيح.(27/706)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
(قرارات الجمعية الإسلامية الكبرى في بومباي في شأن الحجاز والإسلام)
(جاءتنا برقية من ببمبي باللغة الإنكليزية في هذا الموضوع أوسع مما
نشر في بعض الجرائد فيه فترجمها لنا بالعربية مترجم ضعيف العربية فصححناها
بإيضاح لا يخرج عن المعنى وهذا نص الترجمة) .
التأمت الجمعية الإسلامية الكبرى في بومباي في يوم السبت الموافق 23
أكتوبر في الساعة التاسعة الزوالية بشارع ريبون تحت رئاسة الحاج عبد الغني وقد
حضرها مولانا مولوي إسماعيل الغزنوي فبين للجميع حقيقة الأحوال الحاضرة في
أراضي الحجاز المقدسة بصورة واضحة جلية للغاية وقد ألم الشعب بالأعمال الشائنة
التي اقترفها (إخوان علي) [*] المشهورون في الحجاز خلال حجهم الأخير (التي
أثارت الهنود عليهم عند عودتهم إلى الهند) وقد فند الخطيب انتقادات كثيرة
باطلة أذاعوها ونصح للمسلمين عامة بأن يفكروا في ذلك النزاع المشترك وسوء
عاقبتهم لئلا يقعوا في مخالفة أصول الإسلام القطعية ويهدموا بعض أركانه
الاجتماعية ويحلوا رابطة وحدته ويقطعوا رحم إخوته ثم وافق المجتمعون على
القرارات الآتية بالإجماع:
1- تعلن جمعية الإسلام في بومباي استنكارها لأعمال مؤتمر (لكهنو) الذي
تكلم في مسألة الحجاز باسم مسلمي الهند وهو لا يمثل الهند كلها ولا جمهور مسلميها.
2- هذا الاجتماع العام لجمعية مسلمي بومباي الذي يبحث في شأن المصالح
الإسلامية في الهند يقرر أنه بنعمة ربهم وبالمساعي المشكورة الخاصة التي بذلها
ابن السعود في تأمين جميع الطرق في الحجاز قد صار أداء الحج والزيارة سهلاً
ميسورًا لكل مسلم فيجب على المسلمين أن يذهبوا إلى الحجاز فرقًا فرقاً ليؤدوا
الفريضة ويجعلوا بيت الله وحرمه مثابة لهم ويتعاونوا على عمرانه وفلاح أهله
ويغلقوا أبواب الفساد وطرقه التي يدعو إليها المفرقون الداعون إلي هدم هذا الركن
الإسلامي العظيم بترك الحج والسعي إلى خراب المسجد الحرام بيت الله عز وجل.
3- تقدر جمعية إسلام بومباي مساعي لجنة الخلافة قدرها بما كان من
دعوتها إلى الوحدة الإسلامية التي بها كسبت الشهرة الواسعة في زمن قصير
وتذكرهم بأن عليهم أن يستمسكوا بعروة سياسة الوحدة ولا يجعلوا للتفرقة سبيلاً
وعلى لجنة الخلافة أن تحاسب (إخوان علي) على ما جنوا به على نفوذ لجنتهم وما
افتاتوا عليها به بتصريحاتهم في كراشي ودهلي وبومباي قبل نشر تقرير وفدهم
الرسمي وهي تصريحات ذات تبعة عظيمة وتود هذه اللجنة أيضًا، إن ترجع لجنة
الخلافة عن التقريرات المعارضة وغير الصحيحة التي نشرت باسم بعض المندوبين
فإذا لم تفعل فإنها تقضي على نفوذها الذي لم يبق منه إلا القليل.
4- توجه هذه اللجنة النظر إلى الثقة المعطاة للمستر محمد علي والمستر
شوكت علي وتسجل معارضتها لها في أعمالهما إثارتهما الاختلاف بين أهل الإسلام
وإلحاق الأذى بأراضي الحجاز المقدسة وترفع صوتها بعذلهما وتؤكد لهما أن هذه
الأعمال خطر على الزعامة يودي بها.
5- تقدم هذه اللجنة شكرها الخالص لصاحب العظمة الملك عبد العزيز بن
سعود لجعله بلاد الحجاز آمنة مطمئنة لأهلها وللحجاج، كذلك تشكر له حكمته
وسيرته في حادثة (مِنى) التي دلت على شجاعته وحلمه وطول أناته وتقديره
لتكافل العالم الإسلامي وذلك دليل على شدة عنايته بالشؤون الإسلامية فتؤكد هذه
اللجنة لصاحب العظمة إخلاص كل مسلم صادق له في الهند.
6- تدعو الجمعية العامة الإسلامية ببومباي بإجماع الآراء جميع المسلمين أن
يكونوا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا في المحافظة على نفوذ الإسلام وتعلم الأشخاص أولي
الهوس أنهم انقادوا لأهوائهم ببث الخلاف بين المسلمين بالرغم مما بذلناه من
مجهودات كبيرة وفي النهاية ترجو اللجنة من ناصح الملك الحكيم أجمل خان ومولانا
أبو الكلام أن يفرجوا الأزمة وينقذوا المسلمين من شقاقهم المهلك.
وقد فُضَّت اللجنة في ساعة متأخرة من الليل شاكرة للرئيس بما قام به.
... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير اللجنة
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود حصري
***
(معاهدة إيطالية يمنية)
خرج الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن من عزلته السياسية السلبية التي
ورثها عن سلفه الأئمة السابقين، وعقد مع الدولة الإيطالية معاهدة سياسية اقتصادية
وهو الآن يجلب الأسلحة والذخائر الحربية والطيارات من إيطالية بل يجلب رجال
الطليان أيضًا يستخدمهم في تعليم الطيران وغيره مما يرى حكومته محتاجة إليه.
قد مهد رجال إيطالية في مستعمرتهم (الإريترة) السبيل لهذه المعاهدة في مدة
طويلة وقدموا لجلالة الإمام هدايا كثيرة قبل إقناعه بها ولما وقع عليها ظهرت
أمارات السرور والابتهاج في بلادهم ورددتها جرائدهم من حيث إن إنكلترا أطلقت
يدا إيطالية في بلاد اليمن، والله أعلم.
قد تكون عبارات مواد المحالفة غير منذرة بالخطر القريب على اليمن وقد
يكون الذين انتقدوا اشتمالها على تقديم إيطالية على جميع الدول فيما تحتاج إليه
اليمن من أوربة مبالغين في انتقادهم وفي عدهم هذا منافيًا للاستقلال.
ولكن في مثل هذه المسألة قواعد عامة أثبتها التاريخ (منها) أن التدخل
التجاري مقدمة للتدخل السياسي فالتدخل العسكري، (ومنها) أن القوي يأخذ
بالمعاهدة ما له وما ليس له مضاعفًا والضعيف لا يستطيع أن يأخذ إلا ما يعطيه
القوي لمصلحة القوي لا لمصلحتة (ومنها) قول البرنس بسمارك قطب سياسة
أوربة في عصره المعاهدات حجة القوي على الضعيف، ومنها قولهم: إن التجارة
تتبعها الراية، وهل كان سبب استيلاء الدولة البريطانية على الهند واستيلاء الدولة
الهولندية على جاوه وما حولها إلا عاقبة تأليف شركتين تجاريتين في القطرين
الغنيين فنسأل الله وقاية هذا القطر العربي وحفظه وحسن العاقبة له فإنه لم يبق لنا
بعد فوات زمن النصح والإنذار إلا الدعاء والابتهال.
***
(الموسيو علي عبد الرازق ينزع العمامة
ويودعها ويفتري على الأستاذ الإمام وعلينا)
موسيو علي عبد الرازق صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) المعروف
الذي طرد بسببه من حظيرة علماء الأزهر ومن منصب القضاء الشرعي بقرار من
هيئة كبار علماء الأزهر الذين كان أهون ما قالوه في كتابه: إنه لا يصدر مثله عن
مسلم - فضلاً - عن عالم , ونفذت ذلك الحكومة - نزع عمامته في فرنسة واستبدل
بها البرنيطة في أوربة كالمعتاد وعزم ألا يعود إلى العمامة ولم يتركها ساكتًا بل كتب
مقالة ودعها بها، واحتقرها فيها، هي وأهلها علماء الدين الذين كان قد قال في دينهم
وشرعهم شرًّا مما قال في عمامتهم الآن. كتب هذه المقالة من باريس وأرسلها إلى
جريدة السياسة لسان حاله وحال جمعيته المعلومة فنشرتها له مغتبطة بها.
لم يكتف موسيو علي عبد الرازق بفعلته وجنايته على الإسلام من قبل وسوء
قيله في مشخصات علمائه اليوم لعلمه بأن كلامه لا قيمة له عند غير الملاحدة
والزنادقة فأراد أن يجعل له قيمة عند غيرهم فافترى على حكيم الإسلام شيخنا
الأستاذ وعلينا كانت إحدى الفريتين ناقضة للأخرى.
أراد أن يحتج لإلقائه العمامة إذ لم تعد لائقة به بعد طرد علماء الأزهر إياه من
جماعة علماء الإسلام فزعم أن الأستاذ الإمام كان يحتقر العمائم ويكرهها ولما لم يكن
له دليل ولا شبهة على زعمه إلا محاولة استنباطه ذلك من أحد الأبيات التي نظمها
الإمام رحمه الله تعالى في مرض موته فلم يجد بدًّا من إيراده وهو:
ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم
ثم لما كانت هاته الأبيات متضمنة لأمل الأستاذ الإمام - قدس الله سره - في
تلميذه ومريده محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي بقوله فيها:
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم
وكان صاحب المنار أول من أثار علماء الأزهر والعالم الإسلامي على كتاب
موسيو علي عبد الرازق الذي هاجم به الإسلام وحاول فيه هدم شريعته وتشويه
محاسن تاريخه افترض ذكر بيت العمائم للانتقام منه بزعمه أنه هو الذي نظم تلك
الأبيات المشهورة التي نشرتها الجرائد المصرية يوم وفاته ونسبها إلى أستاذه وعزا
ذلك إلى الثقات، ومَن هؤلاء الثقات؟ ولماذا لم يسمع لأحد منهم صوت إنكار من
سنة 1323 التي توفي فيها الأستاذ الإمام إلى هذه السنة 1345؟
كذب موسيو علي عبد الرازق في زعمه أن الأستاذ الإمام كان يحتقر العمامة
فلو كان يحتقرها لتركها ولكنه لم يتركها في سفر ولا حضر وقد رغب إليه بعض
كبراء حكومته في تركها ليزول باستبداله الزي الإفرنجي بها المانع من ارتقائه إلى
منصب الوزارة فلم يقبل وإذا كان الجامدون من حملة العمائم قد جنوا على الإسلام
بتقصيرهم فيما يجب عليهم من النهوض به ومقاومتهم للمصلحين فيه فليس الذنب
في ذلك لعمائمهم كما لا يخفي بل من المجرب أن أكثر المعممين ولو من غير علماء
الدين أبعد من غيرهم عن ارتكاب الفواحش والمجاهرة بالمنكرات والمعاصي.
نحن قد سررنا بما فعله الموسيو علي عبد الرازق وبما كتبه سررنا بنزعه
للعمامة؛ لأن من العار على المسلمين أن يطعن في دينهم من يتزيا بزي علمائهم
وسررنا بما ظهر من عدم تنزهه عن الكذب الصريح الذي هو شر الرذائل على
الإطلاق لا لذاته فإننا نستاء من كل رذيلة، بل لأن خصمنا في ديننا لا قيمة لآدابه
ولا ثقة بروايته، بل أقول والحق ما أقول: إن هذا السرور ليس إلا تعزية لنا
عن خسارة شخص كنا نرجو أن يكون صديقًا لنا وعونًا على مقاومة رذائل الإلحاد
ومفاسد التفرنج في أمتنا فظهر لنا أننا لم نخسر بضياع أملنا فيه شيئًا ومن حسن
الحظ أن أكثر هؤلاء الملاحدة فساق فجار مجان سكيرون مقامرون وليس فيهم من له
قيمة أخلاقية إلا نفر معدودون على أنهم مراءون مذبذبون.
ذلك وإننا لا ندري ماذا يضع علي عبد الرازق على رأسه بعد عودته من
أوربة إلى مصر فإذا أصر على لبس البرنيطة فإن لقبه سيكون موسيو أو مستر وإذا
لبس الطربوش فسيكون لقبه أفندي، وكل من اللقبين أهون علينا من تحليه بلقب
الشيخ ولكن هذا يسوء أصدقاءه خصوم الإسلام من الإفرنج ومن ملاحدة الترك
المتفرنجين أو (المتغربين) كما يقولون عن أنفسهم لأن مزيته عندهما أن يطعن
في الإسلام ويصد عنه وهو شيخ معمم.
***
(تناصر ملاحدة الترك وملاحدة مصر)
(وتنويه الصحف التركية بعلي عبد الرازق وطه حسين)
لما ظهر كتاب موسيو علي عبد الرازق فرح به ملاحدة الترك وقرظوه وأثنوا
على مؤلفه بل ترجموه بلغتهم التركية ونشروه في جرائدهم الإلحادية؛ لأنه جاء
معززًا لرفضهم الشريعة الإسلامية والخلافة الصورية وتأسيسهم حكومة لا دينية
ولهؤلاء الملاحدة عناية بنشر الإلحاد في جميع البلاد الإسلامية ويرجون أن يكون
السبق في اتباعهم للبلاد المصرية (خيب الله رجاءهم) .
ولما ظهر كتاب الدكتور طه حسين في هذا العام أكبروه وقرظوه وأنكروا على
الذين ردوا عليه وجهلوه وكانت حجتهم حجة جمعية الإلحاد والزندقة هنا وهي
(حرية الرأي) ، فإذا كان أولئك الملاحدة يحترمون حرية الرأي حقيقة لذاتها فلماذا
يخصون هذا الاحترام برأي الكفر دون رأي الإيمان وبدعاة الإلحاد دون المدافعين
عن الإسلام؟
قد احترموا رأي علي عبد الرازق وطه حسين في الطعن في الإسلام وخلفائه
وعلمائه وفي تكذيب كتاب الله ورسوله أيضًا فهلا احترموا رأي علماء الإسلام
ونصراء الإيمان الذين كتبوا ما يعتقدون وأما ذانك فقد طعنا في الإسلام مطاعن لا
يعتقدانها كلها فما قالاه ليس رأيًا لهما بل افتراء يريدون به تقليد ملاحدة أوربة
وإرضاء أمثالهم.
ثم لماذا لا يحترم ملاحدة الترك رأي المؤمنين الثابتين على الإسلام من قومهم
ولا يسمحون لهم بإظهار رأيهم في هذا الكفر والإباحة للفواحش والإعراض في
قوانين حكومتهم والاستقباح للبس البرنيطة ولو في خاصة أنفسهم؟ بل تجبرهم
حكومتهم على ما تريد من ذلك ومن عارض تسوقه إلى محكمة الاستقلال فتحكم
عليه إما بالصلب والنكال وإما بالسجن في السلاسل والأغلال.
***
(مسجد الضرار في لندن للمسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية)
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ
حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: 107) .
أراد الدجال غلام أحمد القادياني الهندي أن يكون في الأمة الإسلامية والملة
المحمدية كالمسيح عيسى ابن مريم في الأمة الإسرائيلية والملة الموسوية فادعى أنه
هو المسيح الذي ينتظر ظهوره اليهود والنصارى والمسلمون فأظهر هذه الدعوى
ونشر الدعاية لها وتوسل إلى ذلك بإرضاء حكومة الهند البريطانية وحملها على
مساعدته بموالاته لها وزعمه أنه هو الذي يقنع المسلمين بسقوط فرض الجهاد وما
يتعلق به وبالرضاء بسلطانهم في الهند وقد رددنا عليه في حياته بما أظهر بهتانه
حتى بنفس مماته فإنه كان رد علينا في كتابة (الهدى والتبصرة لمن يرى) فزعم
أنه قد جاءه الوحي بأن صاحب المنار (سيهزم فلا يرى نبأ من الله الذي يعلم السر
وأخفى) [1] يعني أن الله تعالى وعده بأن ينتقم له منه ولكنه مات ولم تقر عينه
بموتنا ولا بمصيبة يفسر بها وحيه الشيطاني.
وقد وجد له دعاة في الهند بما جمعوا من الثروة بهذا الدين الجديد، ثم بثوا
دعوتهم في بلاد الإنكليز وقد أسسوا لهم مسجدًا لإقامة دينهم وهدم دين الإسلام في
لندن عاصمة الدولة البريطانية واحتفلوا في خريف هذا العام بفتحه، وقد دعوا الأمير
فيصلاً السعودي لحضور هذا الاحتفال ليكون اعترافًا منه بإسلامهم فرفض الدعوة
بأمر برقي جاءه، وهو في لندن من والده الإمام عبد العزيز ملك الحجاز وسلطان نجد
وقد نشر في الجرائد الإنكليزية وغيرها عن هذه الطائفة ما يحثو التراب في أفواه
من يدعون أنهم مسلمون ولعلنا ننشر بعضه بعد.
__________
(*) كذا في الأصل والمراد محمد علي وشوكت علي الزعيمان السياسيان المعروفان.
(1) ص 9 من الكتاب المطبوع في قاديان سنة 1902.(27/713)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مطبوعات المكتبة الأهلية
لصاحب المكتبة الأهلية الأديب (محمد جمال أفندي) حسن اختيار للكتب
التي يطبعها سواء كانت للمدارس الإسلامية أو للمطالعة الشخصية وكنا قرظنا في
المنار بعض مطبوعاته وروجناها في مكتبة المنار منذ كانت مكتبته في بيروت وقد
أهدانا الآن مجموعة منها مطبوع أكثرها في المطبعة الرحمانية بمصر فنذكرها
بالاختصار تنويهًا بها وترغيبًا فيها.
***
(دروس التاريخ الإسلامي)
هي خمسة أجزاء مختصرة مفيدة من تأليف أديب بيروت المرحوم الأستاذ
الشيخ محي الدين الخياط
1- في مجمل السيرة النبوية.
2- في مجمل تاريخ الخلفاء الراشدين.
3- في مجمل تاريخ دولة بني أمية في الشرق.
4- في مجمل تاريخ الدولة العباسية.
5- في مجمل تاريخ الدولة الإسلامية العربية في الأندلس، وثمن هذه المجموعة كلها
عشرون قرشًا.
***
(دروس الفقه)
في العقائد والعبادات على الطريقة النقلية والعقلية للمرحوم الشيخ محيي الدين
الخياط طبع الطبعة الرابعة وصفحاته 66 وثمن النسخة 3 قروش.
***
(لباب الخيار في سيرة المختار)
مختصر في السيرة المحمدية المقدسة متضمن لأسباب انتشار الدعوة
الإسلامية للأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني من أدباء بيروت العصريين طبع الطبعة
الثالثة بالشكل الكامل سنة 1342 وصفحاته 142 وثمنه خمسة قروش.
***
(رجال المعلقات العشر)
كتاب أدب ولغة وتاريخ مصدر بمقدمتين:
1- خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام.
2- خلاصة تاريخ آداب اللغة العربية من العصر الجاهلي إلى عصرنا تصنيف
الشيخ مصطفى الغلاييني أيام كان أستاذ اللغة العربية في المدرسة السلطانية وطبع
مرتين في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1331 و 1332 وأشعاره مشكولة
وصفحاته 306 وثمنه 15 قرش.
***
(عظة الناشئين)
كتاب آداب وأخلاق واجتماع للشيخ مصطفى الغلاييني أيضًا وهو مجموع
مقالات نشرت في جريدة المفيد البيروتية ثم طبعت مرتين المرة الثانية سنة 1344 وهي مشكولة شكلاً تامًا وثمن النسخة منها سبعة قروش.
***
(بلوغ الأرب في أحوال العرب)
تاريخ حافل للأمة العربية قبل الإسلام لعالم العراق ورحلة أهل الآفاق صديقنا
المرحوم السيد محمود شكري الألوسي وهو الذي استحق به الجائزة الأولى في
مؤتمر (استوكهلم) التي كان قد تبرع بها الملك أوسكار لمن يؤلف أمثل كتاب في
ذلك وكان قد طبع في ثلاث مجلدات ثم أعاد طبعه في العام الماضي صاحب المكتبة
الأهلية مصححًا ومعلقًا عليه بعض الفوائد بقلم العالم الأديب الشيخ محمد بهجت
الأثري أفضل تلاميذ المؤلف ومريديه وثمن النسخة منه ستون قرشًا صحيحًا يضاف
إليها أجرة البريد ونفقة التجليد لمن أراده.
__________(27/719)
جمادى الآخرة - 1345هـ
يناير - 1927م(27/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أسئلة عن الأبدال والأوتاد
والقطب الغوث
(س16-21) من صاحب الإمضاء.
1- الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلاً قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن
كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجل (حم عن عبادة بن الصامت) بإسناد صحيح.
2- الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض وبهم تمطرون وبهم تنصرون
(طب عنه) أي عن عبادة بإسناد صحيح.
3- الأبدال في أهل الشام بهم ينصرون وبهم يرزقون (طب عن عوف بن
مالك وإسناده حسن) .
4- الأبدال بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً
يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب
(حم عن علي) بإسناد حسن.
5- الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً
وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة (الخلال) في كتابه كرامات الأولياء (فر)
عن أنس بن مالك وهو حديث ضعيف.
6- الأبدال من الموالي (الحاكم في الكنى والألقاب عن عطاء بن رباح
مرسلاً وهو حديث منكر) .
إلى حضرة صاحب الفضيلة صاحب المنار
هذه الأحاديث الستة وجدت بالجامع الصغير بصحيفة 115 و116 من الجزء
الثاني [1] وفي كتب الوهابيين ما يفيد الجزم بعدم وجود شيء من ذلك مع زيادة
الإنكار على من قال الأبدال والأقطاب والأوتاد وقطب الغوث فنرجو الإفادة عن هذه
الأحاديث هل هي صحيحة يعتمد عليها؟ وإن لم تكن في كتب الأحاديث المعول
عليها ويكون كلام الوهابيين في غير محله ونرده عليهم أو أن هذه الأحاديث لم
يعرف لها سند ولا ذكرها المحدثون فتكون في حيز الإهمال لا تصح دليلاً وكلام
الوهابيين في محله وإذا كانت هذه الأحاديث صحيحة فنؤمل شرح معنى الأبدال وما
وظيفتهم وما معنى اختصاص الشام بهم؟ وما معنى رفع العذاب عن أهل الشام
ونصرهم ورزقهم بالأبدال؟ وهل أهل الشام يرزقون وينصرون ويرفع عنهم
العذاب دون غيرهم من أهل الأرض؟ نرجو الإفادة عن ذلك بالقول الصحيح مع
الدليل من الكتاب والسنة والسلف الصالح، ونؤمل سرعة الإفادة حيث النزاع بالغ
النهاية جعلكم الله ملجأً للقاصدين.
... ... ... ... ... ... ... أحمد أبو زينة بالقطوري
***
(ج- المنار) اعلم أن هذه الأحاديث باطلة رواية ودراية سندًا ومتنًا وإنما
راجت في الأمة بعناية المتصوفة وقد ذكرها الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات
وطعن فيها واحداً بعد واحد وتعقبه السيوطي الذي جعلها في الجامع الصغير على
أقسام صحيح وحسن وضعيف ومنكر بل جوَّز أن تكون متواترة والحق أنه لا يصح
منها شيء وأما الحسن فإنما جاء على قاعدتهم فيما تعددت طرقه وهو مقيد بما كان
التعدد فيه من طرق متفرقة ليس لها جهة واحدة تصدر عنها، وأما ما كان له مصدر
واحد فكثرة الطرق لا تزيده إلا ضعفًا؛ لأنها دليل على كونه مصنوعًا من دعاة هذا
المصدر كدعاة الشيع السياسية والدينية ومنها الصوفية حتى إن فقهاء المذاهب
وضعوا أحاديث في تفضيل أئمتهم والطعن في غيرهم وقد بينا في تفسير آية الساعة
التي فسرناها في هذا الجزء أن أحاديث المهدي كلها لها مصدر سياسي واحد من
الشيعة وله ينبوعان: أحدهما علوي، والآخر عباسي ولكننا أخرنا هذا البحث إلى
الجزء التالي من المنار (وهو ج 1م28) لأن التفسير قد طال حتى كاد يكون
نصف هذا الجزء.
وأحاديث الأبدال اشترك فيها المتصوفة، والشيعة، والباطنية ورواة
الإسرائيليات ككعب الأحبار وغيره من أصحاب الترهات الصحاصح دون أهل
الأحاديث الصحائح فنحن نبين هذا الأصل ثم نرجع إلى كلام المحدثين في أسانيد
أخبار الأبدال والمعقول في متونها فنقول:
قال حكيمنا المحقق ابن خلدون في سياق كلامه في علم التصوف من مقدمة
تاريخه بعد أن بين منشأ التصوف وحال أهله في علمهم وعملهم ما نصه:
(ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء
الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملؤا
الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن
سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان
سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية
الأئمة مذهبًا لم يعرف لأولهم فأُشرِب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط
كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس
العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله
ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب
الإشارات في فصول التصوف منها فقال جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد
أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد اهـ. وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا
دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به (ثم
قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما
أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلاً لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى علي -
رضي الله عنه - وهو من هذا المعنى أيضًا وإلا فعلي - رضي الله عنه - لم
يختص من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في لباس ولا حال بل كان أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم عبادة
ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان
الصحابة كلهم أسوة في الدين والمجاهدة.
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في
ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام
الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق، ثم إن كثيرًا من الفقهاء
وأهل الفُتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا
بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل اهـ.
المراد منه.
وأما أهل الحديث المحققون فقد تكلموا في أسانيد هذه الأحاديث فالحافظ ابن
الجوزي حكم بوضعها كما علمت آنفاً وتابعه شيخ الإسلام ابن تيمية بما تقدم تفصيله
في المنار وسنجمله قريبًا، وكذلك السخاوي وهو والسيوطي من تلاميذ الحافظ ابن
حجر إلا أن الأول أدق وأدنى إلى التحقيق وقد قال خبر الأبدال له طرق بألفاظ
مختلفة كلها ضعيفة، وهذا القول أصح من كلام ابن حجر نفسه منها ما يصح ومنها
ما لا يصح كما تعلم من التفصيل الذي نورده هنا باختصار من الكلام في أسانيدها
وهو:
(الأول) حديث عبادة بن الصامت وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى
صحته وقال هو نفسه في الدرر المنتثرة وهو حسن له شواهد اهـ.
وقال الهيثمي في منبع الفوائد في مجمع الزوائد: رواه أحمد، ورجاله رجال
الصحيح غير عبد الواحد بن قيس وقد وثقه العجلي وأبو زرعة وضعفه غيرهما
وأقول: قال ابن حبان في عبد الواحد هذا: يتفرد بالمناكير عن المشاهير وقال في
كتاب الضعفاء لا يحتج به وقال في كتاب الثقات: لا يعتبر بمقاطيعه ولا بمراسيله
ولا برواية الضعفاء عنه وهو الذي يروي عن أبي هريرة ولم يره وقال أبو أحمد
الحاكم: منكر الحديث وزد على هذا أنه كان معلم بني يزيد بن عبد الملك وهذه شبهة
قوية في جرحه فإن أنصار كل دولة وصنائعها كانوا يروون لها ما يقوي ثقة الأمة بها
وهذا الحديث يرجع إلى مدح أهل الشام أنصار بني أمية وستعلم ما فيه وقال الحافظ
ابن عساكر: رواه عبد الله في زوائد مسنده وفيه الحسن ابن ذكوان وهو منكر الحديث
أقول وقال عبد الله ابن أحمد عن أبيه: أحاديثه أباطيل وقال الأثرم مثل ذلك عن
أحمد.
(الثاني) هو لفظ آخر من الحديث الأول.
(الثالث) حديث عوف وفي إسناده عمر بن واقد ضعفه جمهور رجال
الجرح والتعديل وفيه شهر بن حوشب التابعي الشامي وهو لا يحتج بحديثه كان
يروي المعضلات والمنكرات عن الثقات والمقلوبات عن الأثبات فالحديث ضعيف
على أقل تقدير وإنما حسنه السيوطي بتعدد طرقه وهو الذي يسمى حسنًا لغيره على
اصطلاحهم.
(الرابع) حديث علي - كرم الله وجهه - وإسناده منقطع كما قال ابن عساكر
وفيه شريح بن عبيد وثقه النسائي وابن حبان وغيرهما ولكن انتقد عليه أنه روى
عن بعض الصحابة والتابعين الذين لم يدركهم حتمًا ومنهم كعب الأحبار وإنما
أعجبهم منه في ذلك أنه لم يكن يصرح بأنه سمع منهم.
(الخامس) حديث أنس وقد أعترف السيوطي بضعفه على حرصه بتقوية
هذه الروايات وقال ابن الجوزي موضوع.
(السادس) مرسل عطاء بن أبي رباح وتمامه عند الحاكم: (ولا يبغض
الموالي إلا منافق وقد اعترف السيوطي بكونه منكرًا على كونه مرسلاً وزاد بعضهم
على ذلك أن فيه مجهولاً وهو الرجال بن سالم قال الحافظان صاحبا الميزان واللسان:
لا يدرى من هو والخبر منكر)
وذكر ملاَّ علي القارئ في الموضوعات عن ابن الصلاح أنه قال أقوى ما
روينا في الأبدال قول علي إنه بالشام يكون الأبدال.
هذا يوافق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في أهل الصفة والصوفية
من جهة الرواية وأما ما حققه شيخ الإسلام في المسألة من جهة الدراية فهو غاية
الغايات وقد نشر ذلك في المنار برمته فلا نعيده وإنما نذكر القراء ببعض الجمل منه
قال - رحمه الله تعالى -:
(فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل
الغوث الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين،
والنجباء الثلاثمائة؛ فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، ولا ضعيف محتمل إلا لفظ
الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعًا
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال
أربعين رجلاً كلما مات رجل أَبدل الله مكانه رجلاً) ولا توجد هذه الأسماء في
كلام السلف كما هي على هذا الترتيب ... إلخ. ثم ذكر أن لفظ الغوث والغياث لا
يستحقه إلا الله تعالى، وأن القول بالقطب من جنس دعوى الرافضة بالإمام
المعصوم، بل ذلك الترتيب لطبقات كبار الأولياء يشبه ترتيب الإسماعيلية
والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من
الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان.
ثم تكلم في مسألة الأوتاد والقطب بكلام معقول موافق للغة وعاد إلى الأبدال
فقال: ولذلك جاء لفظ البدل في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع
فالأشبه أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الإيمان كان
بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام وكانت الشام والعراق دار كفر. ثم في خلافة
علي، قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (تمرق مارقة على خير
فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق) فكان علي وأصحابه أولى بالحق
ممن قاتلهم من أهل الشام.
ثم تكلم في لفظ الأبدال وجميع ما قيل في معناه وما يصح منه وما لا يصح في
اللغة وفي الوجود وكلامه فيهم يؤيد كلام ابن خلدون. فمن أراد أن يعرف تحقيق
هذه المسائل وأمثالها فعليه بهذه الرسالة للشيخ في الجزء الأول من (مجموعة الرسائل
والمسائل) له وهي الرسالة الثالثة من المجموعة من صفحة 25-60 فإنه لا يحتاج
معها إلى مراجعة كتاب آخر.
ولكنني أزيد عليه أن سبب ما ورد من الأثر المروي عن علي - رضي الله
عنه - هي أن بعض جماعته كانوا يسبون أهل الشام فنهاهم عن ذلك الإطلاق وقال
إن فيهم الأبدال، أي إن الله تعالى يبدل من أنصار معاوية غيرهم أو ما هذا معناه -
فزاد فيه الرواة المنزلفون لبني أمية ثم الصوفية ما زادوا وجعلوه حديثًا مرفوعًا كما
وضعوا أحاديث أخرى للأمصار المشهورة من مدح وذم. روى ابن عساكر أن
كعب الأحبار قال الأبدال ثلاثون، وقال أيضًا الأبدال بالشام والنجباء بالكوفة، ثم
ذكر كثيرًا من هذه الأقوال عن أهل ذلك العصر في الأبدال والنجباء والنقباء
والأخيار، ولفظ الأبدال أشهر هذه الألفاظ ولم يكن الناس يفهمون في القرن الثاني
والثالث من هذا اللفظ ما ادعاه الصوفية بعد، بل قال الإمام أحمد: إن الأبدال هم أهل
الحديث.
وأما ما في هذه الروايات من أن الله تعالى ينصر أهل الشام ويرزقهم بالأبدال
فهو من علل متونها، ودلائل وضعها، فالله تعالى قد جعل للنصر أسبابًا تعرف من
كتابه ومن سننه في خلقه، وقد أخل أفضل الأمم بقيادة أفضل الرسل -عليهم السلام-
ببعض أسبابه في غزوة أحد فانكسروا بعد انتصار، وظهر المشركون عليهم،
ولما استعربوا ذلك أنزل استغربوا الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -
ما بين له ذلك فقال: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُم} (آل عمران: 165) ، ومن هذه الأسباب الاجتماعية ما بينه
تعالى بقوله: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) وقوله: {وَلاَ تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ومن أسبابه الحسية ما أمر به بقوله:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ومن أسبابه الروحية
المعنوية قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الأنفال: 45) الآية، وفي معناها حديث (يا سعد وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) أي
بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم وذلك أنه يزيد ثقة القلوب بالله تعالى ويقوي تكافل
الأمة.
وإننا نرى أهل الشام الآن في غاية البؤس وضيق الرزق. والجيوش
الفرنسية تدمر بلادهم وكثيرون منهم يهلكون جوعًا وعريًا فأين الأبدال وأسرارهم؟
وهل يعد منهم سلطان باشا الأطرش ورجاله من أبطال الدروز وفوزي بك
القاوقجي ورجاله من أبطال الغوطة أم هم أهل الخرافات والثياب القذرة؟ إن هذه
الروايات قد أفسدت بأس الأمة الإسلامية وصار المتصوفة وأهل الطريق المتمسكون
بها فتنة لنابتة المسلمين ينفرون أولي الاستقلال العقلي والعلوم العصرية من الإسلام
فيعدونه كغيره دين خرافات وأوهام كما أنهم عار على المسلمين أمام شعوب البشر
الراقيين وقد بلغ من جهلهم وفساد دينهم وأخلاقهم أنهم صاروا أعوان فرنسة في
أفريقية من حدود تونس إلى ريف مراكش وقد آن لنا أن نعقل ونفهم ديننا من القرآن
لا من هذه الروايات المنكرة التي صرفتنا عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - التي لا تحتمل التأويل ولا ينال منها التضليل، وآن لنا أن ندوس
هؤلاء المضلين وكل من ينصرهم ويتأول لهم من سدنة القبور المعبودة لاعتقاد
العامة أن الرزق وسعادة الدنيا تطلب من المدفونين فيها فقد صارت أمتنا بهذه
الخرافات تحت أرجل جميع الأمم ولا تزال عامتها تعتقد أن الميتين ورجال الغيب
هم سبب رزقها ودفع البلاء عنها؟
__________
(1) لا يمكن أن تكون في الجزء الثاني إلا أن يكون من أحد الشروح وهي في 102 من الجزء الأول من طبعة المطبعة الخيرية للمتن.(27/748)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق
بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
(فصل) في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمِنى وقد
تقدم فيها بعض أقوال الناس والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما
أحمد. روى عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان بمِنى
أربعًا لأنه قد عزم على المقام بعد الحج ورجح الطحاوي هذا الوجه مع أنه ذكر
الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال: إنما
صلى عثمان بمنى أربعًا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يخبرهم
أن الصلاة أربع قال الطحاوي: فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن
الصلاة أربع فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيمًا
فرضه أربع فصلى بهم أربعًا فالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري [1] ويحتمل أن
يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال: والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب
كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجهل منهم
بها وبحكمها في زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدًا إذ كانوا في زمن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك
في زمن عثمان فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتم الصلاة لتلك
العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على
حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة قال الطحاوي: وقد قال
آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل
واحتجوا بما رواه عن حماد بن سلمة عن قتادة قال: قال عثمان بن عفان إنما يقصر
الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل، وروي بإسناده المعروف عن سعيد
بن أبي عروبة، وقد رواه غيره بإسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد لله بن أبي ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى
عماله ألا لا يصلين الركعتين جابٍ ولا (تأن) ولا تاجر إنما يصلي الركعتين من
كان معه الزاد والمزاد وروي أيضًا من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختياني
أخبرهم عن أبي قلابة الجرفي عن عمه أبي المهلب قال: كتب عثمان أنه قال: بلغني
أن قومًا يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة، وإنما
يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو: قال ابن حزم: وهذان
الإسنادان في غاية الصحة، قال الطحاوي: قالوا: وكان مذهب عثمان أن لا يقصر
الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصًا، فأما من كان في
مصر يستغني به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة، قالوا: ولهذا أتم عثمان
بمِنى؛ لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصرًا يستغني من حل به عن
حمل الزاد والمزاد. قال الطحاوي: وهذا المذهب عندنا فاسد؛ لأن منى لم تصر
في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي
بها ركعتين ثم يصلي بها أبو بكر بعده كذلك ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر
كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها
الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال: فقد انتفت هذه المذاهب
كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول
الذي حكاه معمر عن الزهري فإنه يحتمل أن يكون من أجلها أتمها وفي
الحديث أن إتمامه كان لنيته الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه.
(قلت)
الطحاوي مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقًا لأصله وهذا غير ممكن
فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبي
-صلى الله عليه وسلم- لهم إذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد
قضاء العمرة كما قال في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي: إن النبي -
صلى الله عليه وسلم - رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثًا، ولهذا لما توفي
ابن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها، وفي الصحيحين أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - لما عاد سعد بن أبي وقاص وقد كان مرض في حجة الوداع خاف
سعد أن يموت بمكة فقال: يا رسول الله أخلف عن هجرتي فبشره النبي -
صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يموت بها، وقال: إنك لن تموت حتى ينتفع بك
أقوام، ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أن مات بمكة.
ومن المعروف عن عثمان أنه كان إذا اعتمر ينيخ راحلته فيعتمر ثم يركب عليها
راجعًا فكيف يقال: إنه نوى المقام بمكة؟ ثم هذا من الكذب الظاهر فإن عثمان ما
أقام بمكة قط بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة.
وقد حمل الشافعي وأصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أحمد كالقاضي
وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم فقالوا: لما كان المسافر
مخيرًا بين الإتمام والقصر كان كل منهما جائزًا، وفعل عثمان هذا؛ لأن القصر جائز
والإتمام جائز وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها وذكر البيهقي
قول من قال أتمها لأجل الأعراب ورواه من سنن أبي داود ثنا موسى بن إسماعيل
ثنا حماد عن أيوب عن الزهري أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل
الأعراب؛ لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع.
وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا
سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه
عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال: أيها الناس إن السنة
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة صاحبيه ولكنه حدث العام من
الناس فخفت أن تعيبوا قال البيهقي: وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه
رخصة فرأى الإتمام جائزًا كما رأته عائشة (قلت) : وهذا بعيد فإن عدول عثمان
عما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفتاه بعده مع أنه أهون عليه
وعلى المسلمين، ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته أسهل الأمور وبعده
عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر إلا ثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفتاه بعده لمجرد كون هذا المفضول
جائزًا، إن لم ير أن في فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله، وهبْ أن له
أن يصلي أربعًا فكيف يلزم بذلك من يصلي خلفه؟ فإنهم إذا ائتموا به صلوا
بصلاته فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزًا
وكذلك عائشة وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف أمراؤهم وغير أمرائهم
وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك كما روى مالك عن الزهري أن رجلاً
أخبره عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا
جميعًا في سفر وكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة
ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد: نحن
أعلم وروى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا
مع سعد بن أبي وقاص في قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلي نحن
أربعًا فنسأله عن ذلك فيقول سعد نحن أعلم وروى مالك عن ابن شهاب عن صفوان
بن عبد الله بن صفوان قال جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى
بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا (قلت) عبد الله بن صفوان كان مقيماً بمكة
فلهذا أتموا خلف ابن عمر وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء
الإمام بمنى أربعًا وإذا صلى لنفسه صلى ركعتين قال البيهقي: والأشبه أن يكون
عثمان رأى القصر رخصة فرأى الإتمام جائزًا كما رأته عائشة قال: وقد روي ذلك
عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم روى الحديث المعروف من
رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى قال: أقبل
سلمان في اثني عشر راكبًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحضرت الصلاة فقالوا: تقدم يا أبا عبد الله فقال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم
قال: فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعًا قال فقال سلمان ما لنا ولا لمربعة إنما كان
يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال فبين سلمان بمشهد
هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة (قلت) هذه القضية كانت في خلافة [2] .
وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم
تكن الأئمة يربعون في السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج يبين أنها رخصة
وهي رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة في المخمصة رخصة وهي
مأمور بها وفِطْر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها
والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن
يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما
سنة، والذي صلى سلمان أربعًا يحتمل أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو
غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع في جنس سفر القصر وفي قدره فهذه
القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام لمثله إما لأن سفره كان قصرًا عنده، وإما
لأن سفره لم يكن عنده مما يُقصر فيه الصلاة فإن من الصحابة من لا يرى
القصر ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئًا متأولاً اتُّبع عليه كما إذا
قنت متأولا أو كبر خمسًا أو سبعًا متأولا والنبي - صلى الله عليه وسلم- صلى خمسًا
واتَّبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زِيدَ فيها، فلما سلم ذكروا ذلك له فقال (إنما أنا بشر
أنسى كما تنسون فإن نسيت فذكروني) ، وقد تنازع العلماء في الإمام إذا قام
إلى خامسة هل بتابعة المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين
هذا وهذا على أقوال معروفة وهي روايات عن أحمد أو رأى أن التربيع مكروه وتابع
الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن
تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعًا، فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه
أربعًا لأجل متابعة إمامه، فهذه الصلاة تفعل في حال ركعتين، وفي حال أربعًا
بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الإمام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم؛ لأن كلاهما
اتَّبع إمامه وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذي
نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وقد سأله هل للمسافر أن يصلي أربعًا؟
فقال: لا يعجبني ولكن السفر ركعتان وقد نقل عنه المروذي أنه قال: إن شاء صلى
أربعًا وإن شاء صلى ركعتين ولا يختلف قول أحمد: إن الأفضل هو القصر بل نقل
عنه إذا صلى أربعًا أنه توقف في الإجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه
يعيد في في الوقت ولهذا يذكر في مذهبه هل تصح الصلاة أربعًا؟ على قولين.
ومذهب الشافعي جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه قولان أصحهما أن القصر
أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن
القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قوله في مذهبه وذلك أن غايته أنه زاد زيادة
مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فإنه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهوًا لا
تبطل الصلاة باتفاق المسلمين وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا
يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الأدلة
دالة على كون ذلك مخالفًا للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين ومع
الالتفات ونحو ذلك من المكروهات وسنتكلم إن شاء الله على تمام ذلك.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) الذي خبر المبتدأ والمعنى فالسبب الصحيح هو الذي حكاه معمر إلخ.
(2) بياض بالأصل.(27/755)
الكاتب: محمد عرفة
__________
منهج الدكتور طه حسين العلمي في البحث
للأستاذ الشهير صاحب الإمضاء
أظن أن الصحف لا تأبى على نشر هذا النقد للشعر الجاهلي للدكتور طه حسين
وأن ليس لأحد سبيل عليها إذا نشرته لأنه لا يتعلق بدينه ولا بإثبات كفره بما كتبه
في الشعر الجاهلي ولا بإثبات أنه طعن في الدين الإسلامي الذي تقام شعائره في
مصر فيكون مستحقًّا للعقوبة المنصوص عليها في القانون المصري، وإنما هو
مناقشة هادئة علمية محضة في المنهج الذي اصطنعه الدكتور في البحث في الشعر
الجاهلي يتبين منها: أهذا النهج الذي سلكه في البحث علمي منطقي يرضى عنه
العلم؟ أم هو منهج خاطئ لا يحترمه العلم، يحتقره المنطق؟ ويرى أنه من
المغالطات.
إننا سنحاول ذلك وستكون النتيجة كما سيراها القارئ أن منهج الدكتور في
البحث من ضلالات العقول ومغالطات الوهم، وأنه ليس يسلك هذا المنهج إلا الذين
لم يمارسوا صناعة المنطق ولم يمرنوا على صناعة البرهان، وكانوا سطحيين في
بحوثهم لم يتعمقوا إلى الغور ولم يبعدوا المرمى، وغرضنا من ذلك أمور ثلاثة:
(أولها) أن تسقط دعوى الدكتور طه حسين بأن ما سلكه في البحث منهج
علمي حديث، وأنه بذلك يحشر نفسه في زمرة العلماء حشرًا في عداد المخترعين
والمبتكرين والمستكشفين، وليس يعلم إلا الله ما ينال هؤلاء العلماء من الأذى في
مضاجعهم بانتساب الدكتور إليهم وحشره نفسه قسرًا في زمرتهم.
(ثانيًا) أن أحمي شباب مصر من عدوى ذلك المنهج ومن أن يتأثروا
الدكتور في طرائقه الفكرية؛ فإن مستوى البحث في مصر لما ينضج بعد وذيوع
أمثال طرائق الدكتور مما يكون ضغثًا على إبالة.
(ثالثها) أن يعلم الذين يدينون بالإسلام في مصر أن دينهم لم يصادمه علم
ولا عقل كما يدعي الدكتور ويفتري، وحاشا الإسلام أن يصادمه علم أو عقل، وأنه
إذا كان ثم ما يصادمه فليس العلم والعقل؛ وإنما هو الجهل المخزي والباطل الشائن
والعقل الفجّ الذي لم يستكمل بعض شرائط الإنتاج سيسوء ذلك الدكتور طه حسين،
ولا ترضيه ولكنني لست أتوخى رضاه ولا أتحرز من مساءته وإنما أتوخى رضى
الحق وأتجنب مساءة الصواب، فأما من عداهما فلا علي أن يكونوا غاضبين وليس
يدخل في غرضي أن يقتنع الدكتور طه حسين، فإنه ليس ممن يرجى منهم اقتناع
فإنه ليس طالب حق وإنما هو طالب رواج وليس ممن يعنيهم الصواب وإنما ممن
يعنيهم الربح فهو كالتاجر همه أن تروج بضاعته لا أن تنقد فيعلم جيَّدها من رديئها
وكما أن التاجر إذا بصرته عيب بضاعته ناكرك وجاحدك كذلك الدكتور إذا ألمسته
عيب ما يقول بيده جحد واستكبر؛ لأن ذلك يقف دون رواجه وربحه وإياهما
يريد.
إن الذي أفسد على الدكتور أمره اعتقاده أن أمته أمية فهو يلقي إليها مباحثه
على عواهنها لا يعنى بتمحيصها ونفي الزائف عنها عالماً بأنه ليس عندها من ملكة
النقد ما يبن عيبه ويظهر شينه وقد مد له في هذا الاعتقاد أنه يرى المعجبين برأية
والمقرظين لعلمه مهما كان فيه من الباطل والخطأ.
ألا فليعلم الدكتور بعد أنه ليس ينشر بحوثه في أمة وحشية متبدية كقبائل الزنوج
وإنما هو ينشرها في أمة متحضرة متمدينة ضربت في العالم بسهم وأخذت منه حظًّا
وأن بني قومه فيهم من ينقدون الآراء ويعلمون حقها من باطلها ويعلمون المغالطات
مهما بولغ في تزيينها وأنهم لم تستعص عليهم نحل الفلاسفة ومعتقداتهم في الإلهيات
والأخلاق والسياسة والاجتماع فنقدوها وعلموا زائفها من خالصها فكيف تستعصي
عليهم آراء سطحية تتعلق بتاريخ أو شعر؟ وأنهم إن كانوا إن كانوا قليلاً ففي
استطاعة هؤلاء القليل أن يبينوا لجمهرة الأمة عثرات الرأي وكبوات الأفهام.
جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
نفى الدكتور طه حسين في الفصل الذي عنوانه (الشعر الجاهلي واللغة)
وجود إبراهيم وإسماعيل وبناءهما الكعبة وهجرتهما إلى مكة وتعلم إسماعيل العربية
من العرب العاربة الذين هم من قحطان وإن كان قد ورد ذكرهما في التوراة والقرآن،
نفى ذلك الدكتور وليس له اختيار في هذا النفي؛ لأنه مضطر أمام الدليل القطعي
والدليل الذي اضطره إلى ذلك هو أنه قد ثبت أن لغة قحطان أي لغة جنوب جزيرة
العرب تخالف اللغة العربية التي يتكلم بها أهل الحجاز فنسبتها إلى اللغة العربية
كالنسبة بين اللغة العربية وبين أي لغة سامية فإذا كانت هذه القصة صحيحة وكان
إسماعيل وبنوه قد تعلموا العربية من القحطانية فكيف بعد ما بين اللغة العربية
العدنانية واللغة القحطانية؟
نحن إذًا بين أمرين إما أن نقبل هذه القصة ونرفض ذلك الدليل القطعي أو
العكس، ولا مندوحة تجوز رفض الدليل القطعي فلا بد من رفض هذه القصة
وإنكارها والإذعان للدليل القطعي ننكرها بجملتها فلم يوجد إبراهيم وإسماعيل
فضلاً عن بنائهما الكعبة وهجرتهما إلى مكة وتعلم إسماعيل العربية من القحطانية
نحن مضطرون إلى ذلك وإن حدثنا القرآن والتوراة عنها فإن ورود هذين الاسمين
فيهما لا يكفي لوجودهما التاريخي.
هذا دليل الدكتور وسنبدأ في مناقشته قبل الدخول في تفصيلات المناقشة نذكر
مقدمة ينبغي أن نتعلم وهي أن القرآن لم يعرض لحديث تعلم إسماعيل العربية من
قحطان وإنما الذي عرض له وجودهما وهجرتهما وبناؤهما الكعبة وإنما الذي عرض
لتعلم إسماعيل العربية من القحطانية هم مؤرخو اللغة وبعد فسنسلم للدكتور جدلاً كل
ما قاله من البعد بين القحطانية والعدنانية بعداً يجعلهما لغتين مستقلتين ومن أنه لو
تعلم إسماعيل من القحطانية لكانت اللغتان متفقتين أو متقاربتين.
ولكننا نقول له: إن دليلك لا ينفي إلا أن إسماعيل تعلم اللغة العربية من
القحطانين فأما وجودهما وهجرتهما إلى مكة وبناؤهما الكعبة وهي الأمور التي
عرض لها القرآن فلا ينفيها ولا يتعرض لها، فمما يتفق مع دليلك أن يكون إبراهيم
وإسماعيل قد وجدا وهاجرا إلى مكة وبنيا الكعبة وتعلم إسماعيل وأبناؤه العربية من
غير القحطانيين من العرب الذين خلقهم الله يتكلمون العربية الحجازية التي بقيت
إلى مجيء الإسلام فالدليل قطعي لا ينفي إلا شيئًا واحدًا وهو تعلم إسماعيل وبنيه
العربية من القحطانية فمن الواجب أن يقتصر به على ذلك ولا يعدي إلى القصة
جميعها فينفيها إذ لا منافاة بينه وبين بقيتها ومثل الدكتور في ذلك مثل من يسمع
مؤرخين أحدهما يقول: إن اللورد كتشنر كان عميد الدولة البريطانية في مصر
والآخر يقول: إنه كان عميدها في مصر ستة 1920 فيقول: إن التاريخ يفيد أن
اللورد كتشنر غرق زمن الحرب العظمى التي انتهت قبل هذا التاريخ فيما قاله
المؤرخان كذب ولم يكن اللورد كتشنر عميدًا لإنكلترا في مصر وقتًا ما، كذب
المؤرخين وكذب القصة جميعها ولو اتبع المنطق لنفي كونه عميدًا في زمن سنة
1920 ولم يعد النفي إلى كونه عميدًا ولم يكذب المؤرخ الأول إذ لم يتعرض
لتعيين الزمن وكذلك الأمر عندنا الدليل ينفي ما قاله المؤرخون من أن إسماعيل تعلم
العربية من القحطانية فينفي به الدكتور القصة حتى ما ذكره القرآن من وجودهما
وهجرتهما وبنائهما الكعبة مما لم ينفيه الدليل ولم يتعرض له ويكذب القرآن فيما
قاله وهو لم يعرض لما نفاه الدليل وإنما عرض لغيره.
فيا دكتور دليلك أقصر من دعواك أنت تدعي نفي وجود إبراهيم وإسماعيل
وهجرتهما إلى مكة وبناءهما الكعبة وتعلم إسماعيل العربية من القحطانية، ودليلك
إنما ينفي الأخير، وهو تعلم إسماعيل العربية من القحطلنية، فأما ماعدا ذلك فلا،
ويسمي علماء المناظرة ذلك بمنع التقريب، والتقريب سوق الدليل على وجه
يستلزم المطلوب ويقولون في مثل ذلك: إن التقريب غير مسلم، أي إنك سقت
الدليل على وجه لا يستلزم المطلوب فمثلك مثل من ادعى أن هذا الشبح إنسان
ويستدل على هذه الدعوى بأنه متحرك بالإرادة وكل متحرك بالإرادة حيوان، نعم،
الدليل مسلم ولكنه لا يستلزم المطلوب وهو أنه إنسان.
فالمنطق يأمرنا إذا نفى الدليل شيئًا أن نقصره على ذلك الشيء ولا نعد به إلى
ما عداه وقد رأيت في مثال اللورد كتشنر كيف نخطئ إذا عدينا النفي إلى غير ما مقام
عليه الدليل، ولو أردنا أن نصوغ دليلك في قالب منطقي لكان هكذا: لو كانت
الحجازية أصلها القحطانية لما بعد ما بينهما هذا البعد لكنهما متباعدتان إذن فليست
الحجازية أصلها القحطانية هذه النتيجة فقط، ولكنك تزيد فيها ما يأتي: لم يوجد
إبراهيم وإسماعيل ولم يبنيا الكعبة ولم يهاجرا إلى مكة وهذا هوس ليس منطقًا.
ويظهر أن الدكتور طه علم أن دليله لا ينتج تكذيب القرآن فيما ذكر فلم يرتب
التكذيب على الدليل ولم يقل: وإذن. التي يستعملها دائمًا في كلامه، وقال فواضح
جدًّا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة
أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو
اقتصادية أو سياسية وهو بين شرَّين لا مفر منهما، إما أن يكون اجترأ على تكذيب
القرآن في وجود إبراهيم وإسماعيل بدون دليل وليس بيده إلا قوله: فواضح جدًّا،
وحينئذ تكون دعوى لا دليل عليها الدعاوى إن لم تقم عليها بينة لم يعبأ بها وإما أن
يكون قد كذب القرآن بذلك الدليل قد علمنا أنه أقصر من دعواه ولا ينتج تكذيب
القرآن.
هذا وقد رأى القراء أننا لم نناقش الدكتور على قاعدة أن القرآن نص يقيني
وهو حجة على كل ما خالفه، وإنما ناقشناه على قاعدة أنه نص تاريخي كنص أي
مؤرخ من البشر تنزلاً منا، وبينا له أن دعواه لم تتم؛ لأن الدليل العقلي الذي استعمله
لا ينهض فلم نلزمه بنصوص الدين لئلا يقال: إن ذلك لا يلزمه إلا المتدين وإنما
ألزمناه بالأدلة العقلية المشتركة للإنسانية كلها من تدين منهم ومن لم يتدين.
ولا يظن ظان أن أدلة الدكتور الحديثة تقف عند هذا الحد من العبث والبطلان
بل إن لها لونًا أخر من ألوان العبث والبطلان وهو ما سنبينه.
يزعم الدكتور طه أن قصة إبراهيم وإسماعيل موضوعة وضعها اليهود لغرض
وهو أنهم كانوا يريدون أن يثبتوا القرابة بينهم وبين العرب ليعيشوا معهم عيشة
راضية وقبلتها مكة لغرض سياسي وديني؛ لأنهم كانوا يريدون أن يتصل نسبهم
بأصل من تلك الأصول الماجدة وقبلها الإسلام لغرض ديني وهو أنه يريد أن يثبت
صلة بينه وبين اليهودية.
هكذا زعم الدكتور وليس معه نص تاريخي يفيد ذلك وليس بيده إلا أن ذلك
يمكن أن يكون قد كان وإذا تصور على هذا الحال كان منسجمًا ونحن نقول له: يا
دكتور أن التاريخ لا يثبت بمثل ذلك وليس كل ما يمكن أن يكون قد كان يجب أن
يكون قد كان ولا يثبت الأمر بأن هذه العلة يجوز أن تكون له وأن مثلك في ذلك
مثل مؤرخ يأتي بعد مائتي سنة يقول يزعم المؤرخون أن أمريكا اشتركت مع فرنسا
في حرب ألمانيا في الميدان الغربي وهذا باطل فأين أمريكا من فرنسا إن بينهما
المحيط الأطلانطيقي على سعته القصة مكذوبة وقد اخترعها بعض الأمريكان ليقرب
الشعبين الأمريكي والفرنسي بعضهم من بعض إن هذه القصة تفيد أنهما حاربا معًا
جنبًا لجنب عدوًّا مشتركًا فهي تدعوا إلى تآلف الشعبين فقد وضعت لذلك وإن الذي
يدعوا إلى أن توضع علوم الأوائل كلها موضع الشك ولا يثبت إلا ما قام العلم على
إثباته لا يسوغ له أن يطلب منا الاقتناع بمثل هذه الظنون والأوهام وليس عنده من
الحجة إلا أن ذلك يمكن أن يكون قد كان فيجب أن يكون قد كان اللهم إلا إذا كان
يدعو إلى رفض تقليد الماضين إلى تقليده هو وإن قارئي كتابه يحتاجون إلى مقدار
عظيم من البلاهة والغمارة حتى يقتنعوا بأمثال تلك الحجج التي هي كما قال الأول:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقًّا وكل كاسر مكسور
إذا أراد الدكتور أن يقنع الأمة بكتابه فعليه أولاً أن يبدأ بإلغاء عقولها وعكس
منطقها السليم وإحالة تلك العقول عن فطرتها حتى تكون على غرار عقله ثم يلقى
إليها بعد أمثال تلك الأوهام وحينئذ تقنع بها وتصدق ويتم له ما يريد ولكن دون ذلك
وينفق [1] .
ألا لا يقولن الدكتور بعد اليوم: المنهج العلمي الحديث ولا البرهان العلمي ولا
يتمسحن بأعتاب العلماء فقد أطلعنا القرأء على قيمة نهجه العلمي الحديث ومنطقه
الجديد فعلموا أن ذلك ليس منطق العقلاء إنما هو منطق البله والأغمار والممرورين.
وبعد فكتاب الشعر الجاهلي إنْ كان ألفه مؤلفه كتابًا في المغالطات وأمثلة على
القياس الذي لم يستكمل شروط الإنتاج والأضرب العقيمة والحجة الخداج فهو كتاب
جيد في بابه واف بالغرض الذي قصد إليه، وإنْ كان ألفه مؤلفه كتابًا في تاريخ
الشعر والأدب فليسر من ذلك في قليل ولا كثير.
ولو أن في بلدنا مجمعاً علميًّا منظمًا لحكمته بيني وبين الدكتور ولرضيت
حكمه فيما رميت به دعاوي الدكتور من أنها دعاوي يقيم عليها أدلة أقصر منها تارة
ويدعيها بدون برهان تارة ويثبت الشيء بأنه ممكن تارة أخرى ولكان من وراء ذلك
التحكيم الخير العظيم، فإنه إذا حكم على تواريت خجلا وأرحت الناس من هذا النقد
وأمثله وإذا حكم عليَّ الدكتور حمى شباب الأمة من التورط في آرائه وحماها أيضًَا
من عدوى ذلك المنهج الخاطئ في البحث أما والبلد ليس فيها مثل المجمع فادعوا
المشتغلين بالمنطق أن يبدوا آراءهم فيما بيني وبين الدكتور من خلاف، إنهم إن
فعلوا ذلك خدموا العلم والحقيقة ومن أولى من هؤلاء بخدمة العلم المظلوم
والحقيقة المهيضة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عرفة
... ... ... ... ... ... ... ... أستاذ بمعهد الإسكندرية
(المنار)
قد بينت في مقالي الذي نشرته في الجزء الماضي طريقة الدكتور طه حسين
في البحث والاستدلال في قواعد كلية بسط الأستاذ الشيخ محمد عرفة غراب الكلام
على اثنين منها وهما الدعوة بدون دليل والاستدلال بما لا يدل على المطلوب وهو
ضرب من المغالطة الواضحة، وقد كبر من شأنها بتمنيه عرضها على مجمع
علمي لو وجد أو بعرضها على المشتغلين بعلم المنطق ليعلم أيهما الخاطئ في
البحث وحسبنا من علم الجمهور - أهل المنطق الفني ومن دونهم من أهل المنطق
الفطري - بسفسطة الدكتور ومغالطاته أنه لم يدافع عنه أحد من الملاحدة ولا
أعضاء جمعيته وحزبهم ولا قرضوه ولا أثنوا عليه كما فعل بعضهم بالدفاع عن
علي عبد الرازق إذ كان أحذق منه في المغالطات والسفسطة.
نعم، إن بعض التلاميذ والعوام قد يغترون بخلابته؛ فالواجب بيان ضلاله
وإضلاله في مسائل الكتاب لا في الاستدلال عليها فقط.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تتمة المثل وينفق لحمار - والأمثال لا تغير وما كل قارىء يعرف المثل فتغنيه النقط عن ذكر الحمار المراد بنفاقه: نفاق كتاب الدكتور.(27/762)
الكاتب: مهاتما غاندي
__________
الصحة
تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي
ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي
إن المنكشفات الحديثة قد أثبتت بأن الإنسان الصحيح التام الصحة - وهو
الذي لم يفسد دمه بكثرة الحرارة والذي غذاؤه جيد صحي- لا يتأثر حالا بِسُم الثعبان
وأن تأثيره يكون سريعًا وخطرًا في جسم من أفسد دمه بالخمر أو الغذاء الرديء،
وقد توسع في هذا المعنى أحد الأطباء حتى قال (إن دم الرجل الذي لا يأكل الملح
وما شاكله بل يقتصر على تناول الثمار وحدها يبقى دمه نظيفًا نظيفًا، حتى إنه لا
يؤثر فيه أي نوع من السم تأثيرًا ما) إني ما جربت هذا الأمر تجربة كافية حتى
أجزم بصحته؛ لأن الرجل الذي يترك الملح وأمثاله من الأشياء سنة أو سنتين فقط
لا يمكن أن يقال: إنه وصل إلى ذلك الحد من الصيانة والمناعة؛ لأن الدم الذي قد
فسد وتسمم بعمل رديء دام سنين كثيرة لا يتأتى رده إلى حالته المعتدلة من الطهارة
في مدة وجيزة.
لقد ثبت بالتجارب أن الإنسان يتأثر بالسم إذا كان في حالة الغضب، أو
الخوف أسرع بكثير من تأثره إذا كان في حالته الاعتيادية كل منا يعرف كيف
يزيد الخوف والغضب دقات القلب في الحالة الاعتيادية وكلما كثرت دورة الدم في
الشرايين يزداد تولد الحرارة كثرة، ولكن الحرارة التي تتولد من الانفعالات الخبيثة
ليست صحية بل مضرة للغاية وليس الغضب إلا نوعًا من الحمَّى فأحسن ترياق
لنهش الثعبان هو استعمال الغذاء الصحي المعتدل، وتطهير المخ من نوازع الشر
كالغضب والخوف واجتناب توسيع المجال للذعر والرعب والثبات والثقة التامة
بالقوة الواقية وضبط النفس والقوى مع الاعتماد على الله والإيمان التام بأن أنفسنا
في يده سبحانه وبأن المدة الوجيزة من الحياة التي قدرها لنا لا يمكن بحال من
الأحوال أن ينقصها أحد، أو يزيدها هذه هي صفات الحياة الطاهرة المقدسة.
إن الدكتور (فيتزسومان) seaman - fitz مدير متحف
Elizabeth port (ثغر أو مرفأ أليصابات) قد أنفق قسطًا كبيرًا من حياته في
تعرف أحوال الحيات ودرس طبيعتها وخواصّها وهو يعد حجة كبيرة في النهش
وعلاجه وهو يقول لنا في بيان نتيجة تجاربه العديدة التي لا تحصى (إن أكثر
ميتات النهش المزعومة هي في الحقيقة نتيجة للخوف والمعالجات الخاطئة التي
يستعملها المتطببون) .
يجب أن نتذكر دائمًا أن بعض الثعابين ليست سامة، وأن نهش السام منها
ليس فيه خطر مباشر على أن هذه الثعابين لا تجد دائمًا فرصة لإفراغ سمها في
جسم الملدوغ وقت النهش، ولذلك ينبغي ألا نجزع إذا نهشنا ثعبان سام مادام العلاج
السهل جدًّا متيسرًا ويمكن أن نستعمله بأنفسنا بدون استعانة بأحد وهو:
يجب أن يربط ما فوق محل النهش مباشرة ربطًا جيدًا بعصابة تشد شدًّا تامًّا
بإدخال قلم الرصاص أو عود آخر وتُزوى به لئلا يصعد السم من طريق العروق ثم
يجب أن يشق الجرح شقًّا قدر نصف قيراط في العمق برأس سكين مرهف ليتمكن
الدم من الخروج بكثرة ثم يملأ بمسحوق أصهب اللون أسود أحمر يباع في الأسواق
يسمى permanganate potassium، وإن لم يتيسر ذلك فيمص محل اللدغ
مصًّا جيدًا ويبصق الدم، وسواء كان الماص هو المصاب أو غيره فكله جائز؛ إلا
أنه لا يجوز أن يكون الماص في فمه جرح لئلا يسري إليه السم إن هذا العلاج
يستعمل خلال سبع دقائق من وقوع الحادثة أي قبل أن يجد السم وقتًا للصعود
والانتشار في الجسم، وإن الدكتور الألماني السابق الذكر الذي أخصي في العلاج
الترابي يدعي كما مر أنه عالج النهش بدفن المنهوش في حفرة جديدة بالتراب وإني
وإن كنت ما جربت التراب في النهش ولكني أعتقد بدون شك نفعه بتجربتي إياه في
حوادث أخرى. وبعد استعمال permanganate potassium أو مص الدم
يجب أن تستعمل لبخة طينية سميكة بقدر نصف قيراط وكبيرة تكفي لتغطية المحل
المنهوش وما حوله تماما يجب أن تبقى في كل بيت كمية من التراب المطحون
المصفى جيداً في صفيحة معدة لاستعمال اللبخة ويعرض التراب دائمًا للشمس
والهواء ويحافظ عليه من الرطوبة كذلك يجب أن تبقى العصابات الصالحة لذلك من
القماش مهيأة لتستعمل عند الحاجة حالاً إن هذه الأشياء تكون نافعة لا في النهش فقط
بل في حوادث كثيرة أخرى.
إذا فَقَدَ المنهوش شعوره أو ظهر أن التنفس قد انقطع فعملية التنفس الصناعي
التي قد ذكرت في شأن الغريق تستعمل هنا أيضًا وكذلك الماء الساخن أو بالأولى
المغلي فيه القرنفل وقشر شجرة الغار؛ فإنه نافع جدًّا لاستعادة الشعور ويجب أن
يبقى المنهوش في الهواء الطلق، ولكن إن ظهر أن الجسم أخذ يبرد فتستعمل
لتدفئته قنينات الماء الساخن، أو يدلك الجسم بقطعة من الفلالين المبلولة بالماء
الساخن المعصورة لتوليد الحرارة.
***
لسع العقرب
يقول المثل السائر عندنا (لا يبتلي الله أحدًا بوجع لدغ العقرب) فهذا يظهر
شدة الوجع والحقيقة أن هذا الوجع أشد من نهش الحية، ولكنا لا نخاف منه كثيرًا
لأنه أقل خطرًا منه بكثير لا شك، كما قال الدكتور (مور) moor: إن الرجل
الطاهر الدم تمامًا ينبغي أن يكون خوفه قليلا من إبرة العقرب؛ لأنه لا يتأذى بها إلا
قليلاً.
إن علاج اللسع سهل يجب أن يشق الموضع الملدوغ برأس سكين حاد
ويمتص الدم مصًّا. إن عصابة صغيرة تشد بقوة فوق المكان الملدوغ لتمنع السم من
الصعود واللبخة الطينية تخفف الوجع حالاً.
نصح بعض الكتاب بربط خرقة سميكة مبلولة بمزيج من الخل والماء في
نسبة واحدة فوق الموضع الملدوغ، أو يبقى هذا المكان وما حوله مغموسًا في ماء
الملح ولكن اللبخة الطينية أحسن علاج، ويمكن أن يجربها بنفسه كل من قدر عليه
أن تلدغه العقرب يجب أن تكون اللبخة سميكة جدًّا، حتى إن الرطلين من التراب
أيضًا لا يعدان كثيرًا. إذا كان اللدغ في الإصبع مثلا فاللبخة تستعمل إلى المرفق
وإن إبقاء اليد مغموسة لمدة في طين رخو في إناء كبير نظيف يخفف الوجع أيضًا.
إن لدغ أم أربعة وأربعين وغيرها من الحشرات يجب أن يعالج بعلاج العقرب نفسه
***
الباب الحادي عشر
الخاتمة
لقد فرغت من كل ما أردت أن أقوله في موضوع الصحة. والآن أريد أن
أقول لقرائي قبل أن أودعهم كلمة في زيادة البيان لغرضي من كتابة هذه الصحائف
لقد كررت نفسي أثناء كتابتي هذا السؤال: وهو لماذا أكتب أنا هذا الكتاب دون
سائر الناس؟ ، هل هناك مبرر لرجل مثلي لم يتعلم الطب ولم يتقن - كما لا يخفى
-المسائل التي جاءت في المباحث أن يحاول تأليف هذا الكتاب؟ إن عذري في ذلك
هو أن علم الطب نفسه مبني على تجارب وعلم ناقص وأكثره تخرص محض.
وهذا الكتاب على كل حال ساقني إليه أطهر الأسباب وأقدسها.
إني لم أبذل جهدي في بيان المعالجات للأمراض مثل ما بذلت لبيان طرق
الوقاية منها، وإن قليلا من التأمل يثبت أن الاحتياط وتوقي المرض أمر سهل
بالنسبة (إلى تشخيص الأمراض ومعالجتها) ، وهو لا يتطلب علمًا خاصًّا، وإن
كان العمل بهذه الأصول ليس بهين بلا ريب. كان غرضنا أن نبين اتحاد الأصول
والعلاج لجميع الأمراض ليعرف الناس معالجة أنفسهم بأنفسهم إذا داهمتهم الأمراض
كما يحصل كثيرًا مع تنبه كبير لمراعاة أصول الصحة.
وهنا يرد سؤال: هل الصحة الجيدة ضرورية إلى هذا الحد حتى يهتم لها هذا
الاهتمام الكبير؟ إن سيرتنا المعاشية تثبت أننا لا نقيم للصحة وزنًا كبيرًا، ولكنا إن
كنا نرى الصحة التمتع والتلذذ بالشهوات أو لنفتخر بحسن جسمنا ونعده غاية من
حيث هو هو، فأحسن بكثير في هذه الحالة أن نشوه أجسامنا بلحم رديء بالسمن
المفرط وما شاكله من المشوهات والمفسدات له.
إن الأديان كلها متفقة على عد الهيكل الإنساني مسكنًا لله سبحانه وتعالى. إن
الرب قد وهبنا الجسم لنستعمله في طاعته ونعبده به عز وجل عبادة خالصة لوجهه
ولذلك وجب أن نحافظ على طهارته؛ وأن لا نتركه عرضة للرجس ظاهرًا ولا
باطنًا لنرجع به إذا جاءت ساعة الرجوع إلى موهبه سبحانه في نفس الحالة التي
أخذناه فيها إذا نحن وفينا بشروط المعاهدة لرضاء الرب؛ فهو بلا ريب يجازينا
ويجعلنا الوارثين لدار البقاء.
إن أجسام سائر المخلوقات الحية قد وهبت القدرة، وأعطيت آلات الإحساس
كالبصر والسمع والشم وغيرها من الحواس، ولكن الجسم الإنساني قد فضل عليها
جميعًا ولذلك نسميه نحن الهنود (بالمعطي لسائر الخيرات) إن الإنسان وحده
يستطيع عبادة الله بالعلم والفهم، وإذا خلت العبادة من الفهم فهي ليست بعبادة حقًّا
ومعلوم أن العبادة إذا بطلت يستحيل أن نجد المسرة الحقيقية لا يمكن أن نستخدم
الجسم في الخدمة حق الخدمة إلا إذا حسبناه معبدًا لله، وسخرناه لعبادته تعالى وإلا
فهو ليس بأشرف من ظرف وسخ من العظام واللحم والدم بل الهواء الذي يخرج منه
شر من السم. إن الأشياء التي تخرج من مسام الجسم وغيرها من السبل الدنسة
التي لا نستطيع أن نمسها بل لا نتصورها بدون اشمئزاز ولا بد للمحافظة عليها
نظيفة من جهد وعناء أفليس من العار الكبير أن نتعمد على الكذب والغش وأعمال
الفسق بل ما هو شر منها لأجل شهوات هذا الجسم الضعيف، أو ليس من الخزي
المخجل أن نهتم هذا الاهتمام الكبير للمحافظة على هذا الجسم المهين لنتمكن من
الدناءات والفسوق؟
إن هذه هي الحقيقة العارية لجسمنا، وإن أحسن الأشياء وأنفعها أيضًا قد
أودعت فيها قابلية لإظهار الشر والمصائب. ولولا ذلك لما سهل علينا أن نقدرها
حق قدرها في قابليتها للصلاح والخير، فنور الشمس الذي هو منبع للحياة والذي لا
نستطيع أن نعيش بدونه ساعة واحدة من الزمن يصلح لأن يحرق جميع الكائنات
ويجعلها رمادًا. ويقدر الملك أن ينفع رعاياه نفعًا عظيمًا كما يمكن أن يكون سببًا
للعذاب الأليم كذلك يمكن أن يكون الجسم خادمًا جيدًا ولكن إذا أصبح هو الحاكم
فقوته إلى الشر فوق كل حد.
إن بين العقل والشيطان حربًا عوانًا في أنفسنا للاستيلاء على جسمنا، فإن
غلب العقل يصبح الجسم آلة نافعة للخير. وإذا غلب الشيطان يصير مثارًا للشرور
والفسوق. وإن جهنم نفسها تكون خيرًا من الجسم المسخر للفسوق المملوء بالأوساخ
المثير للروائح الكريهة الذي تستعمل أرجله وأيديه في الأعمال القبيحة الذي يستعمل
فمه في أكل الأشياء التي يجب أن لا تؤكل ولسانه في التكلم بأمور يجب لأن لا
يتكلم بها، وعينيه في النظر إلى الأشياء التي يحرم النظر إليها، وأذنيه في سمع
الأشياء التي يحظر سماعها، وأنفه في شم الأشياء التي لا ينبغي شمها، وإذا كان لا
يوجد أحد يختار النار على الجنة، فالعجب كل العجب أن حسبنا الجسم الذي جعلناه
بأنفسنا أشر من جهنم حسنا كالجسم المطهر يستحق الجنة ما أقبح كبرنا وزهونا وما
أحط إدراكنا في هذا الأمر، إن الذين جعلوا مثواهم كالكفيف لا بد من أن يجنوا ثمر
حماقتهم وهكذا شأننا إذا كان جسمنا بالحقيقة في يد الشيطان ونحن نحسب أننا
نتمتع فيه بالسعادة الحقيقية، فيجب أن لا نلوم إلا أنفسنا إذا فاجأتنا العواقب المريعة
التي لا بد من وقوعها، والحاصل أن قصدنا في هذه الصحائف أن نعلم هذا الحق
الأكبر وهو أن الصحة التامة إنما يمكن نيلها بالعيشة الخاضعة للسنن الإلهية
والمضادة لنزغات الشيطان. إن المسرة الحقيقية مستحيلة بدون الصحة الحقيقية،
والصحة الحقيقية مستحيلة بدون أن يملك الإنسان نفسه ويتغلب على هواه، إن
الحواس كلها تخضع لنا بنفسها إذا تغلبنا على اللذة، إن من غلب على حواسه فقد
غلب على الدنيا كلها، وأصبح جزءًا من الله تعالى لا يمكننا أن نعرف (راما)
بقراءة (رمائن) ، أو (كرشنا) بقراءة (غيتا) ، أو (الله) بقراءة القرآن، أو
(المسيح) بقراءة الإنجيل، بل الطريقة الوحيدة لمعرفة هؤلاء المقدسين هي إيجاد أخلاق طاهرة عالية، وإن الأخلاق ملكات يطبعها في النفس العمل الصالح، والعمل
الصالح مبني على الإخلاص؛ فالإخلاص إذن هو المنبع والأساس الحقيقي لجميع
الأشياء الكبيرة الحسنة فإذن البحث بدون خوف وتردد عن المثل الأعلى (الإخلاص)
و (الصدق) هو مفتاح الباب الموصل للصحة الحقة كما هو مفتاح لكل شيء غيرها،
وإني إن نجحت مهما كان مقدار نجاحي قليلاً. في بيان هذه الحقيقة الكبرى لقرائي
فأكون قد فزت بغيتي من تحرير هذه الصفحات. كان الفراغ من الترجمة في 18
سبتمبر سنة 1924م.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(27/769)
الكاتب: عبد المتعال الصعيدي
__________
الطحال والكبد.. هل هما دمان؟
ذكر الفقهاء أن الدم حرام إلا الطحال والكبد، فإنهما يحل أكلهما وإن كانا من
الدم. فهل هما من الدم حقيقة حتى يحتاج الفقهاء إلى استثنائهما من حكمه؟ نظن أن
ذلك بعيد لغة وتشريحًا وقبل إثبات ذلك نرى أنه لا بد من الكلام على الحديث الذي
ورد في سنن ابن ماجه وأوقع الفقهاء في هذا الخطأ اللغوي التشريحي لنبين قيمته
كحديث.
حديث ابن ماجه
قال ابن ماجه في باب الكبد والطحال: حدثنا أبو مصعب حدثنا عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد
والطحال) وقال في باب صيد الحيتان والجراد: حدثنا أبو مصعب عن عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: (أُحلت لنا ميتتان الحوت والجراد) .
درجة الحديث
قال البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن سند هذا الحديث ضعيف
وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر، وقال: حكمه حكم المرفوع. ولذلك قال في
المجموع الصحيح: إن ابن عمر هو القائل: (أحلت لنا ميتتان ... إلخ) . وإنه
يكون بهذه الصيغة مرفوعًا.
وسبب ضعف سند هذا الحديث أن فيه عبد الرحمن بن زيد الذي ضعفه رجال
الحديث وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم حدثك أبوك عن أبيه، أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين
قال نعم وذكر رجل لمالك حديثًا، فقال: من حدثك به؟ فذكر إسنادًا منقطعًا. فقال:
اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح عليه السلام
فمثل هذا الرجل (عبد الرحمن بن زيد) الذي زعم أن سفينة نوح طافت بالبيت ما
كان للفقهاء أن يجروا وراء حديثه السابق الذي جعل فيه الكبد والطحال من الدم
مخالفًا بذلك لغة العرب وعلم تشريح الأعضاء كما خالف بحديثه عن سفينة نوح
حكم التاريخ وبديهة العقل.
الدم في اللغة
جاء في كتاب قطر المحيط للبستاني أن الدم سائل أحمر يسري في عروق
الحيوان.
(الكبد والطحال في اللغة)
جاء في لسان العرب أن الكبد لحمة سوداء في البطن. وأن الطحال لحمة
سوداء عريضة في البطن لازقة بالجنب الأيسر. فالدم في اللغة من الأخلاط والكبد
والطحال من اللحم ولا يوجد عاقل يتوهم أنهما من الدم حتى نحتاج إلى استثنائهما
من حرمة أكله.
(الدم في علم التشريح)
جاء في دائرة معارف البستاني أن الدم سائل لزج قليلاً محتوٍ على كريات
جامدة لا تحصى ولا تُرى إلا بالنظارات المكبرة. وأنه ليس في الجسم سائل مركب
من مواد مختلفة مثله.
(الكبد والطحال في علم التشريح)
جاء في قانون ابن سينا أن الكبد لحم أحمر كأنه دم لكنه جامد، وهي خالية
عن ليف العصب ... إلخ، وأن الطحال عضو مستطيل لساني متصل بالمعدة من
يسارها إلى خلف يجذب السوداء بعنق متصل بتعقيد الكبد ... إلخ.
فقد اتفق علم التشريح مع اللغة أن الكبد والطحال ليسا من الدم وليس للفقهاء
دليل علي أنهما دمان إلا رواية ذلك الشيخ الضعيف عبد الرحمن بن زيد ومثله لا
يحتج بروايته المخالفة لما ثبت في اللغة، وعلم التشريح ولبداهة العقل التي لا
يسوغ فيها مثل ذلك.
وقد يقال: إن جعل الكبد والطحال من الدم في هذا الحديث المزعوم ليس علي
سبيل الحقيقة، وإنما الكلام فيه جار على التشبيه فنقول: إن القلب وأعضاء كثيرة
من الجسم تشبه الدم أيضًا، فلو كان الكلام جاريًا على التشبيه لَذَكَرَ مع الكبد
والطحال سائر ما يشبه الدم من الأعضاء على أن أسلوب الكلام بعيد عن التشبيه
والمحرم في القرآن هو الدم الحقيقي لا ما يشبهه فلا وجه لاستثناء ذلك منه؛ ولذا لم
يفهم الفقهاء الحديث إلا على وجه الحقيقة، وحكموا بأن الكبد دم متجمد ولم يذكروا
شيئًا في الطحال؛ لأن المخالفة فيه أصرح فما أحرانا أن نزيل مثل هذا من كتب
الفقه إنصافا للحقيقة والعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي
... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع الأحمدي
(المنار)
حديث الميتتين والدمين رواه الشافعي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني من
طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعًا، وعبد الرحمن
ضعيف متروك، وقال أحمد: حديثه هذا منكر، ورفعه أيضًا أخواه عبد الله وأسامة
وقد ضعف الثلاثة ابن معين، وعليه الجمهور. قال الحافظ ابن حجر: تابعهم
شخص ثالث أضعف منهم وهو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، ورواه المسور بن
الصلت من حديث أبي سعيد، والمسور كذاب، ورواه الدارقطني من طريق
سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم موقوفًا وقال وهو أصح، أو قال صوب.
وصحح الموقوف أبو زرعة وأبو حاتم لأن سليمان ثقة عند الجمهور ورواه
عن زيد دون أولاده الضعفاء. وسليمان لم يسلم من مقال فقد قال عثمان بن أبي
شيبة: لا بأس به وليسممن يثعتمد حديثه. وقد قال الحافظ في التلخيص: إن لمثل
هذا الموقوقوف حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا وحرم علينا، كقوله:
أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، أي ولهذا أخذ الفقهاء به وإن لم يصح رفعه، أقول فإذا
سلمنا لهم هذا ولم نعتد بما ذكرنا من الطعن في سليمان فإنما نأخذ بمعناه من حل
الأربعة ولا يمكننا أن نجزم بأن التعبير بالدمين من قول ابن عمر أو من قول زيد،
وحل الكبد والطحال لا يتوقف على هذه الرواية، فإنهما من جنس اللحم كغيرهما
من أجزاء الحيوان وكانوا يأكلونها وقد حصر نص القرآن المحرمات في الميتة والدم
المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به. والمسفوح السائل المهراق وليسا
منه لغة ولا عرفًا ففي كتب اللغة التعبير عن كل منهما بأنه لحمة صفتها كذا
وكذا، وعندي أن التعبير عنهما بالدمين لما يتخللهما من الدم الكثير، وقد نص
الفقهاء عن العفو عما يتخلل اللحم من دم قليل، فلعل مراد ابن عمر أنه أحل لنا ما
يتخلل الكبد والطحال من الدم وإن كان كثيرًا لتعذر إزالته أو لأنه لا يبلغ أن يكون دمًا
مسفوحًا. فلا حاجة إلى القول بأنهما دم متجمد فمن المعلوم بالقطع أنهما لم يكونا دمًا
عبيطًا سائلاً ثم جمد، بل تكونا في الحيوان بقدرة الله تعالى كتكون غيرهما من
الأعضاء لوظائف اقتضتها الحكمة الإلهية، وإن كانت وظيفة الطحال أخفى من
وظيفة الكبد عند الأطباء، والله أعلم.
__________(27/775)
الكاتب: محمد بسيوني عمران
__________
وجوب الحج
جاءتنا هذه الرسالة من الأستاذ صاحب الإمضاء (مهاراج) إمام سمبس
جزيرة من برنيو (جاوه) يحذر فيها المسلمين في جاوه وغيرها مما يسعى إليه
بعض زعماء الشيعة و (شوكت علي) و (محمد علي) زعيمي السياسة الهندية من
إقناع المسلمين بترك الحج وهدم هذا الركن الإسلامي العظيم ويبين لهم أن استحلال
الدعوة وإجابتها كفر وردة عن الإسلام قال أثابه الله تعالى.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة أستاذنا العلامة المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
الإسلامي نفعني الله والمسلمين بعلومه وبمناره.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد كتبت مقالة باللغة الملاوية
أنشرها في جرائد جاوية (ملاوية) وهى كما يأتي:
(قد علم كل مسلم أن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة؛ فيجب مرة
واحدة في العمر على كل مسلم عاقل، بالغ، حر استطاع إليه سبيلاً، لقوله تعالى
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) قال
الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: يعني بذلك جل ثناؤه وفرض واجب على من
استطاع من أهل التكليف السبيل إلي حج بيته الحرام الحج إليه. واختلف أهل
التأويل في تأويل قوله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97)
وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج. فقال بعضهم هي الزاد والراحلة.
ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا محمد بن بكر قال أخبرنا ابن
جريج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من استطاع إليه سبيلا) الزاد
والراحلة، عن الحارث عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من
ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)
وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) الآية [1] . وفي رواية عن الحارث عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من ملك زادًا
وراحلة فلم يحج مات يهوديًّا أو نصرانيًّا) وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب
قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة؛ لأن السبيل في
كلام العرب: الطريق فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه من زمانه أو عجز أو عدو أو قلة ماء في طريقه أو زاد أو ضعف عن المشي فعليه فرض
الحج لا يجزيه إلا أداؤه فان لم يكن واجدًا سبيلاً أعني بذلك فإن لم يكن مطيقًا الحج
بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه فهو ممن لا يجد إليه طريقاً ولا يستطيعه
لأن الاستطاعة إلى ذلك هو القدرة عليه ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب
التي ذكرناها، أو بغير ذلك فهو غير مطيق ولا يستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا: هذه
المقالة أولى بالصحة مما خالفها؛ لأن الله عز وجل لم يخصص إذ ألزم الناس فرض
الحج بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل
مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية؛ فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - في ذلك بأنه الزاد والراحلة فإنها أخبار في أسانيدها نظر لا يجوز
الاحتجاج بمثلها في الدين اهـ باختصار.
لو قال قائل: هل توجد الآن طريق إلى الحج أم لا؟ وهل فيها أمان أم لا؟
لقلنا: نعم بناء على أخبار من سافروا في العام الماضي عام 1344 من الحجاج
الجاويين وغيرهم إلى الحجاز (مكة والمدينة) لأداء فريضة الحج إلي بيت الله
الحرام وزيارة قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة فإنهم
وجدوا طريقًا إلي الحج وزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروا فيها إلا ما
يسر خاطرهم، ويقر أعينهم فقد أدوا ما عليهم من فريضة الحج بالتمام كما أمر الله
تعالى به رسوله وزاروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فعلوا ما شاءوا من
العبادات فلم يحصل لهم من أذى لا في أبدانهم، ولا أموالهم ولا، ولا …، كما أن
أمثال هذه الأخبار سمعنا بها من الجرائد والمجلات الجاوية والملاوية والعربية.
ولذلك تعجبت مما ذكره الأستاذ صاحب المنار في كتابه إلى من قوله وهذا
نصه: وسمعت أمس من داعية التشيع في جاوه أنه جاءه مكتوبات منها أو من
سنغافورة تخبره بأنه تألف مؤتمر من أربعين جمعية من الجمعيات الإسلامية وقرروا
الدعوة إلى ترك الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز - إنني لم أصدقه في قوله
كما أنني لا أجزم بأن الخبر ليس له أصل ألبتة اهـ إلخ. وقد أخبرت الأستاذ
المصلح الغيور بأن هذا الخبر غير صحيح فإننا لم نسمع بهذا المؤتمر أصلاً [2] ، بل
إننا سمعنا من جزائر جاوه وسومطرا وبورنيو من كل بلد أن من أرادوا
السفر إلى الحجاز هذا العام لأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة
وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة كثيرون جدًّا
أكثر من العام الماضي.
ومع ذلك أقول لو وجد أحد مسلم أو غير مسلم أو مؤتمر مهما كانت صفته
يدعو إلى ترك الحج لكون ابن مسعود ملكًا في الحجاز فإني أنصح لكل مسلم أن لا
يسمع قوله ولا يلتفت إليه فإنه شيطان أو دجال فليس هو مؤمنًا حقًّا، وهل يجوز
في دين الإسلام أن يترك الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام الاجتماعي العام؛ لأن
ابن السعود ملك في الحجاز؟ ومن تجرأ على استحلال أو تجويز ترك فريضة الحج
لأن ابن السعود ملك في الحجاز فهو مرتد عن الإسلام بل قال الأستاذ السيد صاحب
المنار: بل قال بعض أهل السنة: إن ترك الحج كفر مطلقًا لظاهر آية آل
عمران اهـ. ذلك بأن ابن السعود ليس مانعًا لمن أراد أن يؤدي هذه الفريضة ويقوم
بما عليه من المناسك وغيرها من أنواع العبادات.
ولكنه ليس قاصرًا على ذلك فقط، بل آمن طرق الحجاز حتى يسهل على
الحجاج أداء فريضة الحج والسفر إلى زيارة قبر النبي وقبور أصحابه عليه وعليهم
الصلاة والسلام. وكانت هذه الطرق قبل أن صار ابن السعود فيها ملكًا في الحجاز
قلما سمعنا فيها إلا النهب والاعتداء على الحجاج وغيرهم من سالكيها. كيف لا وإن
جلالة الملك المعظم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك الحجاز وسلطان نجد
هو مسلم مؤمن شديد التمسك بالدين الإسلامي، وكذا أهل بلده الذين لقبوا بالوهابيين
فإنهم مسلمون من أهل السنة والجماعة وإنهم في فروع الأحكام الشرعية على مذهب
الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - فلا يجوز لأحد أن يطعن في دينهم وإن
كانوا مخالفين لمألوفات الناس من بناء القبور وتجصيصها واتخاذ السرج عليها
وطلب الحاجات من أهلها. فهؤلاء الوهابيون يهدمون القباب على القبور لما رواه
مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: (ألا أبعثك على ما
بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا
قبراً مشرفا إلا سويته) وقال الإمام الشافعي في كتابه (الأم) إن ولاة مكة كانوا
يهدمون ما بني في مقبرتها من القبور ولا يعترض عليهم الفقهاء. ونقله عنه
النووي في شرح مسلم عند شرح ما ورد في هذا المعنى من الأحاديث.
أيها الإخوان المسلمون اتفقوا ولا تتفرقوا ولا يعاد بعضكم بعضًا، وإن كنا
مختلفين في المذاهب كشافعي وحنفي ومالكي وحنبلي وذلك لاختلاف الأفهام في
مسألة من المسائل الدينية أو غير الدينية. وربما يكون ذلك الاختلاف في شيء من
تلك المسائل مما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة بل هو مما هو مجال لاجتهاد
المجتهدين. وليتذكر المسلمون ضرر التنازع كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) .
هذا وإنه يجب على المسلمين أن يشكروا جلالة الملك عبد العزيز ملك الحجاز
وسلطان نجد على ما فعله من الخيرات للحجاز والحجازيين ونشر الأمن في جميع
بقاعه وقد جاء في الخبر النبوي (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) رواه أحمد وأبو
داود والترمذي وحسنه.
... ... ... ... ... سمبس في 16 جمادى الأولى سنة 1345
... ... ... ... ... ... ... ... 22 نوفمبر 1926
... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
_______________________
(1) ومحل الشاهد قوله تعالى بعدما ذُكر: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (آل عمران: 97) .
(2) المنار: تبين أن المؤتمر الذي تألف من ممثلي الجمعيات الإسلامية الاصلاحية كلها وعددها 40 أو أكثر قد قرر تأليف لجان في جميع بلاد جاوه وسائر جزائر الهند الشرقية لبث الدعوة إلى الحج وإحباط مساعي الروافض لهدم ركن الإسلام الاجتماعي الأعظم، وقرر جمع تسعة آلاف جنية لأجل مؤتمر الحجاز وأثنى على ملك الحجاز مقيم السنة أجل الثناء كما بينا ذلك في الجزء الثامن من المنار.(27/778)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تتمة القول في مسألة الجسد
الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام
ذكرنا في الجزء الماضي خلاصة في المسألة من أقوال أشهر مفسري القرآن
المجيد الذين طبعت كتبهم واستنار بها العالم في فهمه وهي صريحة فيما كتبناه في
بعض فتاوينا المختصرة من غير بحث ولا مراجعة.
وما ذكروه من مفاسد الروايات المأثورة في تدخل الشيطان في أمر ملك
سليمان ظاهر وفيها ما لم يذكروه أيضًا من مخالفة القرآن والعقل والتاريخ ولا محل
لبسطه هنا وإنما محله تفسير الآيات الواردة في ملك سليمان وهو ما وعدنا بتحقيقه
فيه إذا شاء الله تعالى وأنسأ لنا في الأجل وإنما أذكر القارئ فيه بما ورد من الآيات
الناطقة بأن الله تعالى لم يجعل للشيطان أدنى سلطان على عباده المخلصين وإنما
سلطانه على من اتبعه من الغاوين والكافرين وهذا السلطان عليهم هو سلطان
الإغواء والوسوسة لا التصرف في الملك والملك (بضم الميم وكسرها) والتمثل
بصور الملوك والحكام وإدارة أمور الأمم. وقد وردت هذه الآيات في سياق خلق
آدم وإبليس واستعداد جنس كل منهما فهي بيان لسنة الله التكوينية في خلق الجنسين
قال تعالى في سورة الحجر بعد ذكر خلقهم بالتفصيل: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر: 39-42) وفي سورة النحل والتي بعدها {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 99-100) فهل يقول أخونا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني: إن نبي
الله سليمان عليه السلام من عباد الله المخلصين الذين ليس للشيطان عليهم أدنى
سلطان من أي نوع كان من أنواع السلطان كما يقتضيه نص الكتاب المنزل بصيغة
النكرة في سياق النفي وبصيغة الإثبات بعد النفي بالاستثناء الذي هو معيار العموم
وهي أقوى صيغ الحصر ثم بالحصر بينما التي هي لما صار معلوما أو شأنه أن
يكون معلومًا مقررًا كما أفاده الإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز. أم
يقول أخونا وناصحنا المذكور: إن نبي الله سليمان من أتباع الشيطان الغاوين الذين
يتولونه والذين هم به مشركون؟ أي يجعلونه شريكًا لله تبارك وتعالى في التصرف
في عباده؟ ، لا شك في أن أخانا المذكور يقول بالأول، وإذًا يجب عليه، أن يرد
جميع هذه الروايات الإسرائيلية المضلة كما ردها محققو المفسرين كالرازي
والبيضاوي والطوفي وأبو حيان التوحيدي وابن كثير وأبو السعود العمادي والألوسي
وأن يجزم بما جزم به أبو حيان من أن قصة الشيطان في استيلائه علي
ملك سليمان من أوضاع اليهود والزنادقة وما صرح به الحافظ ابن كثير من أنها
(كلها من الإسرائيليات) وإن رواها بعض مفسري السلف فإن ابن كثير صرح
بروايتها عنهم وقال مع ذلك: (وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب) .
ثم ليعلم أن شر رواية هذه الإسرائيليات، أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين
هذان الرجلان اللذان ترك زراعته للإطالة في الدفاع عنهما لتلك العلة الواهية التي
ذكرها من قبل: كعب الأحبار ووهب بن منبه فلا تجد خرافة دخلت في كتب
التفسير والتاريخ الإسلامي من أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوامهم والفتن
والساعة والآخرة إلا وهي منهما مضرب المثل (في كل واد أثر من ثعلبة) .
ولا يهولنه انخداع بعض الصحابة والتابعين بما بثاه هما وغيرهما من هذه
الأخبار فإن تصديق الكاذب لا يسلم منه أحد من البشر ولا المعصومين من الرسل
فإن العصمة إنما تتعلق بتبليغ الرسالة والعمل بها، فالرسل معصومون من الكذب
ومن الخطأ في التبليغ ومن العمل بما ينافي ما جاءوا به من التشريع؛ لأن هذا ينافي
القدوة ويخل بإقامة الحجة، ولكن الرسول إذا صدق الكاذب في أمر يتعلق به وبعمله
أو بمصلحة الأمة فإن الله تعالى يُبين له ذلك ومنه ما كان من بعض أزواجه الذي
نزل فيه أول سورة التحريم وعلم من قوله تعالى فيها: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ
نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) أنه لم يعلم المكيدة بملكة العصمة بل بوحي
الله تعالى بعد وقوعها. ومنه قوله تعالى فيما كان كذب عليه بعض المنافقين الذين
اعتذروا عن الخروج معه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ
لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) وأما ما نقله عن
الزرقاني من رأيه أن ما روي عن الصحابي مما لا مجال للرأي فيه موقوفًا عليه؛
فإن له حكم المرفوع (وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينًا للظن به)
فهو رأي باطل مردود عليه لا نتخذه قاعدة وأصلاً في ديننا، وما علله به ظاهر
البطلان إذ لا محل هنا لتحسين الظن ولا لمقابله فمن المعتاد المعهود من طباع
البشر أن يصدقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا على بطلانه
في نفسه فإذا صدق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان
يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من
أحبارهم أو في غير ذلك فلا يستلزم هذا إساءة الظن فيهم وإذا كانت هذه الخرافات
الإسرائيلية مما يصدر عن الإسلام ويجري الألسنة والأقلام بالطعن فيه مع العلم
بأنها مروية عمن لا تعد أقوالهم ولا آراؤهم نصوصًا دينية ولا أدلة شرعية وإن
كانوا من أفراد علماء السلف كما هو واقع بالفعل فكيف يكون موقفنا مع هؤلاء
الطاعنين فيه من الملاحدة ودعاة الأديان المعادين للإسلام والمسلمين من زنادقة
المسلمين أيضًا؛ إذا قلنا: إن كل تلك الترّهات والخرافات الإسرائيلية إذا كان بعض
رواتها من الصحابة فإنها تنظم في سلك الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - ويجب الإيمان بها؟ إلا أن هذا باب واسع في الطعن في الإسلام
والصد عنه لو فتحه علينا من هو أكبر من الزرقاني من مقلدة القرون الوسطي
المظلمة لأغلقناه في وجهه، وقلنا له: إن علماء الأصول قد اتفقوا على أن طروء
الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال
وهذا الاحتمال أولى من ذاك أن يمنع عند الموقوف مرفوعًا وجعله دليلا شرعيًّا.
والصواب في هذا المقام قلب الموضوع وهو أن الأثر الموقوف وكذا بعض
المرفوع الذي لم يصرح الصحابي فيه بالسماع وهو ممن كان يروي عن كعب
الأحبار وأمثاله هذه الإسرائيليات معلولين باحتمال كونهما من الإسرائيليات إذا كانا
من موضوعها ومتنهما مخالفًا لبعض النصوص الثابتة كآيات القرآن في نفي سلطان
الشيطان على عباد الله تعالى أو معارضًا لغير ذلك من أصول الشرع أو فروعه
الثابتة أو لسنن الله في خلقه أو لغير ذلك من الأدلة القطعية، ويرى الجمجموني
وغيره شيئًا من تفصيل هذا البحث في تفسير آية الساعة من هذا الجزء وما بعده.
***
الملاحظة الثانية
مسألة بلعام بن باعورا
أنكر المنتقد علينا رفض ما روي عن بعض رواة التفاسير المأثورة في تعيين
الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بأنه (بلعام بن باعورا) بأنه مروي عن
بعض أجلاء الصحابة (الذين شهدوا الوحي والتنزيل) وأيده بما نقله عن الزرقاني
وأجبنا عنه آنفًا ثم أنكر علينا قولنا: إن (ابن جرير) شيخ المفسرين لم يعتد بهذه
الروايات، وقال: إنه راجع ابن جرير فلم يهتد فيه إلى (عبارة يؤخذ منها عدم
اعتداده بهذه الأحاديث) ، وإنما عبرنا عنها بالأحاديث بناء على ما ذكره من عد
موقوفات الصحابة في حكم الأحاديث المرفوعة، وإن احتمل أنها من الإسرائيليات.
ونقول في جوابه: إننا لم نتقول عليه ولكنه هو لم يفهم عبارته على صراحتها
في عدم الاعتداد بكون الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو بلعام وهو هو نفسه قد
روي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعن بعض
كمجاهد وعكرمة أنه بلعام، وكان أعلم منه ومن الحاكم النيسابوري ومن الزرقاني
بقيمة الصحابة من شهود الوحي، وبما قال العلماء في الحديث الموقوف وهو من
أئمتهم.. ونحن ندله على هذه العبارة لاشتغال فكره بالزراعة وهي في الصفحة 84
من الجزء التاسع من تفسيره المطبوع بالمطبعة الأميرية. قال بعد سوق الروايات
في أن الرجل المبهم هو بلعام والخلاف في كونه من بني إسرائيل أو من اليمن
والروايات في كونه أمية بن أبى الصلت ما نصه:
(قال أبو جعفر) : والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره
آمرًا نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه
حججه وأدلته وهي الآيات وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والأعلام فيما مضى
بما أغنى عن إعادته وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بلعام وجائز أن يكون
أمية. كذل الآيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على
بعض أنبيائه فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان
أتيها بلعام وجائز أن يكون أمية؛ لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب
وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبي الله - صلى الله عليه وسلم -
أن نتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوة فغير جائز أن
يكون معنيًّا به أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئًا من ذلك، ولا خبر
بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أن
ذلك المعني به من أي، فالصواب أن يقال فيه ما قال الله ويقر بظاهر التنزيل على
ماجاء به الوحي من الله) ، انتهى بحروفه.
فهذا الكلام صريح في أن ابن جرير قال: (إنه لا خبر بأي ذلك المراد وأي
الرجلين المعني يوجب الحجة) أي لا يوجد حديث نبوي يحتج به في تعيين الرجل
الذي آتاه الله آياته، ثم قال: ولا في العقل دلالة على ذلك أي: وإذا انتفى الدليلان
النقلي والعقلي (فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ويقر بظاهر التنزيل على ما
جاء به الوحي من الله) ، وهذا عين ما اخترناه واعتمدناه في تفسيرنا للآية، وإن
كنا كتبناه في زمان ومكان لا نملك فيهما شيئًا من كتب التفسير، وبهذا يعلم أخونا
الجمجوني مكانه من النقد الذي تكلفه وترك زراعته لأجله، ويعلم أننا كرمناه بنشر
نقده على تفاهته وتهوكه فيه أولا وآخرا، وقد لامنا بعض أهل العلم والفهم على
نشر انتقاده الأول وسيشتدون في لومنا على نشر هذا أيضًا وهو آخر ما ننشر له من
هذا القبيل، على أننا توسلنا به لكشف الشبهة عنه وعن أمثاله في مسألة الأحاديث
الموقوفة والإسرائيليات السخيفة وقد سنحت لنا بعد البدء بنشر نقده التعليق عليه
مناسبة أخرى لبيان الحق في هذه المسألة وهي الروايات في أشراط الساعة فاكتفينا
بما كتبنا عما كنا ننوي أن نطيل به ونسأله تعالى أن يرينا الحق حقًّا ويوفقنا لاتباعه
ويرينا الباطل باطلاً ويحفظنا منه قولاً وعملاً واعتقادًا.
__________(27/782)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أثر المقتطف في نهضة
اللغة العربية بالعلم
الخطبة التي ألقاها صاحب هذه المجلة في حفلة عيد المقتطف الذهبي التي
أقيمت بدار الأوبرا الملكية في 30 إبريل سنه 1926.
سادتي الأفاضل.. كان لي الحظ أن كنت أول من اقترح الاحتفاء بالمقتطف
عندما يتم الخمسين من عمره، إذ كان هذا منذ عشر سنين، وأحمد لله تعالى أن
اقتراحي قد تحقق، ورغبتي قد استجيبت، وأنني كنت عضوًا في اللجنة التي
نشرت الدعوة إلى هذا الاحتفال ووضعت النظام له.. على أني صرت أكره
الاحتفالات بعد أن أصبحت (مودة) تقليدية تقام لكل إنسان له بعض الأنصار
والمحبين سواء عمل ما يستحق الاحتفاء به أو لم يعمل وهو أمر تضيع به فائدة
الاحتفاء ويصير تمتعًا بلذة أدبية لجماعات من الناس وكان ينبغي أن لا يحتفل إلا
بأصحاب الأعمال النافعة للأمة.
صار الناس يتنافسون في إقامة احتفالات عظيمة للحفاوة ببعض الوجهاء أو
الأدباء لا ينقصها إلا اشتراك الملوك فيها، وحفلتنا هذه تمتاز باشتراك جلالة مليكنا
المعظم فيها بجعلها تحت رعايته وندب دولة رئيس ديوانه العالي ليمثله فيها وتمتاز
أيضًا باشتراك بعض الجماعات والجاليات العربية في الأقطار البعيدة وبعض
المدارس العالية فيها.. إن الاحتفال والتحاشد على الحفاوة بالعامل المفيد للأمة بعمله
ضرب من ضروب الشكر العام، والشكر للمحسن مدعاة للمزيد من الإحسان،
وحافز للهمم وباعث لها على إتقان الأعمال، كما أن شكر أهل المظاهر وإن أساءوا
مثبط للهمم، وصاد للدهماء عن خدمة الأمة وسبب للغرور بالباطل وفي الحديث
الشريف (المشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور) [1] قد أحيا ملك مصر باشتراكه
في عيد المقتطف سنة من سنن خيار ملوك الإسلام المتقدمين جرى عليها من
بعدهم ملوك أوربة المتأخرون في تكريم العلماء لإعلاء منار العلم والحث على
النبوغ فيه، فقد حكى عن بعضهم (ملك شاه أو غيره) أنه كان إذا نبغ عالم في
عهده يقيم له احتفالاً فخمًا يمشي فيه ذلك العالم ومن حوله من عظماء الدولة والأمة
من الوزراء والعلماء وأمامهم بعض الجياد من خيل الملك وعليها شارته الملكية
(الأرمة أو الإمرة الرسمية) للإشعار باشتراكه في الاحتفال وأمره بالحفاوة بذلك
العالم. وقد نبغ بتأثير هذه العادة في تكريم العلماء عالم فاق الأقران فكان من شأن
الملك في المبالغة والعناية بتكريمه أن مشى هو في الحشد المحتفل ووضع تلك
الشارة الملكية على عاتقه بدلا من وضعها على بعض جياده للإيذان باشتراكه، فقيل له
في ذلك؛ فقال: إن هذا العمل سيكثر في الأمة أمثال هذا العلامة الكبير، وقد كان
ذلك.. إننا قد اجتمعنا اليوم لإقامة هذه السنة الاجتماعية، اجتمعنا لنثني على إثارة
علمية نافعة لأمتنا العربية، ثبت العامل عليها نصف قرن كامل، هذا العمل هو
مجلة المقتطف العلمية الصناعية الزراعية التي أنشأها العالمان العصريان
الكبيران: الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر منذ خمسين سنة وقد أحسنا
فيها خدمة هذه الأمة من وجوه.. عهد إلي زملائي أعضاء لجنة الاحتفال أن أقول كلمة وجيزة في أحد تلك الوجوه وهو (أثر المقتطف في نهضة اللغة العربية بالعلم)
وهو موضوع واسع لا يوفى حقه وتبلغ غايته إلا بتأليف سفر كبير، وإنني مهما أوجز
في القول لا أستطيع بيان المسائل التي يصح أن تكون فهرسًا لهذا السفر. وحسبي أن
أشير إلى ما خطر في بالي منها اليوم عندما فكرت في موضوع خطابي، وهو يدخل
في خمسة أبواب لا يبيح لي الوقت المقدر لكل منا (خطباء الحفلة وشعرائها) تجاوز
عتبة باب منها، فأكتفي بذكرها..
الباب الأول: حاجة أمتنا العربية في حياتها الاجتماعية والاقتصادية أو حياتها
العصرية إلى العلوم والفنون الكثيرة، إذ لا يعرف قيمة خدمة المقتطف للعلم إلا
الذين يشعرون بهذه الحاجة.
الباب الثاني: كون هذه العلوم والفنون لا تفيدنا الفائدة التامة إلا إذا أخذناها
باستقلال الفكر والاجتهاد في الحكم، بحيث تصير ملكات راسخة في الأمة، وأما
حشو الأذهان بالألفاظ والمصطلحات وشغل العقول بحفظ بعض المسائل تقليدا لمن
نقلت عنهم قد يكون ضرره أكبر من نفعه.
الباب الثالث: توقف هذا الاستقلال في العلم واجتناب التقليد الصوري فيه
على تلقيه بلغة الأمة حتى يكون ملكة من ملكاتها التي تصدر عنها أعمالها.
الباب الرابع: إشراع الطريق الموصل لجعل لغة الأمة تتسع لهذه العلوم
والفنون وما يتجدد منها في كل آن.
الباب الخامس: ضرب الأمثال للفروق بين تعلم العلوم بلغة الأمة وتعلمها
بلغة أجنبية، وبين الاستقلال الذي تكون به العلوم والفنون ملكات في أنفس الأمة
وصناعات في أيديها، والتقليد الذي حظ صاحبه حفظ بعض الاصطلاحات والمسائل
التي قد يذهب بها النسيان، ولا تؤتي كل ما يراد بها من الأعمال وإنني أشير إلى
مثل واحد يغني عن أمثال كثيرة.
أيها السادة:
إنني لم أتعود الإطراء والمدح الشعري ولا المبالغات الخطابية
التي تثير الإعجاب، وتبعث على التصفيق والهتاف، وإنما أنا كلف بحب الحقيقة
مشغوف بالتصريح بها وإن لم يرض به إلا القليل من الناس.. فأستأذنكم بأن أقول
ما أعتقد في اشتغال أمتنا المصرية العربية بالعلم، أقول: إن تلقيه بلغة أجنبية جعله
تقليديا لا غناء فيه، ولا ترتقي البلاد به إلى ما تبتغيه، وهو أن يكون العلم ملكة
في أنفس الأمة وصناعات في أيديها، إنه قلما يوجد فينا من يسمى عالمًا بكل ما
يفهم أهل الغرب من معنى هذا اللقب، ويوجد في الأمة اليابانية ما لا يحصى من
العلماء المماثلين لعلماء أوربة في كشف الحقائق والاختراعات، وذلك أنهم نقلوا
العلوم والفنون إلى لغتهم، وتلقوها تلقيًا استقلاليًّا فكانت ملكات في أنفس الأمة
وصناعات في أيديها، مع محافظتهم على جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية،
وأزيائها وعادتها الوطنية، فهذا سبب فوزهم بما لم نفز به من ثمرات العلوم الفنون
مع أننا سبقناهم إلى اقتباسها بعشرات السنين، ولهذا نرى رجال التربية والتعليم
عندنا قد شرعوا بتلافي هذا الخطأ في عهد الاستقلال لو أننا نقلنا العلوم والفنون إلى
لغتنا العربية لكان انتشار المقتطف والاستفادة منه أضعاف ما نعلم الآن. ويمكنني
أن أقول: إن المقتطف لم يقدر قدره، ولم ينتشر الانتشار الذي يستحقه بعنايته في
نقل العلم إلى لغة الأمة.
إن صاحبي المقتطف قد هيأهما القدر ليكونا ركنًا من أركان النهضة العلمية
العربية فبلغا منها الغاية المعروفة لأهلها، ولم يكن لهما ولا لأمتهما ولا لدولتهما
سعي فيما أسندناه إلى القدر الإلهي، وهذا بيانه بالإجمال:
زين لبعض أغنياء الأميركان أن يؤسسوا في بيروت مدرسة كلية يتوسلون
بها إلى الدعوة إلى مذهبهم الديني بنشر العلم والتربية الأميركانية الاستقلالية، وأن
يجعلوا التعليم فيها بلغة الأمة السورية وهي العربية، ففعلوا خلافًا لعادة أمثاله من
مؤسسي المدارس في الشرق الذين يتوخون فيها إحياء لغاتهم وإماتة لغة البلاد،
وجعل العلم الجديد فيها تقليديًّا ضعيفًا لا يرجى بلوغ الكمال فيه، ولا يثمر جميع
الثمار المقصودة منه.. وكان من حسن التوفيق أن وجد في أساتذة هذه المدرسة من
أحب العرب والعربية وسورية والسوريين حبًّا خالصًا غير مشوب بالهوى، وفي
مقدمتهم الدكتور كارنيليوس فانديك الشهير، ذي الذكر الحميد، وكان هذان
الشيخان الكبيران يعقوب صروف وفارس نمر من تلاميذه في الرعيل الأول من حلبة
العهد الأول لهذه المدرسة، فتخرجا فيها عاشقين للعلم يتجلى في معارض
اللغة العربية وحللها، وللغة العربية تكون مجلى للعلوم العصرية وفنونها، فاشتغلا
زمنًا بالتعليم على هذه الطريقة في المدرسة، ثم بدا لمؤسسي المدرسة فتحولوا عن
النهج الأول وجعلوا تعليم العلوم والفنون فيها باللغة الإنكليزية فخرج الأستاذان
البارعان منها وعولا على خدمة العلم باللغة العربية وخدمة للغة العربية بالعلم
بإنشاء مجلة لذلك فأنشئا مجلة المقتطف في بيروت وبعد بضع سنين انتقلا بها إلى
مصر حيث مجال العلم أوسع، وبضاعة الفنون أروج، وقيمة العاملين أرفع
ولو عارض أولو العلم بهذه اللغة عبارة المقتطف من المجلات والكتب
الإنكليزية في كل علم وفن بعبارة غيره من المترجمين الذين تلقوا تلك العلوم
والفنون باللغات الأجنبية لحكموا للمقتطف بأن أثره في نهضة اللغة العربية بالعلم
أفضل الآثار وأمثلها، فإن العربي الذي يقرأ المقتطف يفهم كل ما يقرأه إلا ما يجهله
من الاصطلاحات وبعض الأسماء الأعجمية، ولا يشعر بأنه يقرأ كلامًا مترجمًا. وإذا
كان القارئ من علماء هذه اللغة يعرف قدر الجهد الذي بذل في كل باب من أبواب
المقتطف لإبراز ما يتجدد من مسائل العلوم الكونية والاجتماعية والطبية
والاقتصادية وفي الصناعة والزراعة والتجارة بعبارة عربية في الزمن الذي هجرت
فيه أكثر مفردات اللغة، ونسيت المصطلحات التي وضعها سلفنا في نهضتهم العربية
السابقة، على قصورها عن أداء معشار ما تجدد في هذا العصر كان محرر المقتطف
يقف عند الكلمة الأعجمية المفردة وقفة قصيرة أو طويلة يبحث فيها عن كلمة
عربية ترادفها وكان مما يراجعه فقه اللغة - ولا سيما قبل طبع المخصص -
ومفردات ابن البيطار وقانون ابن سينا وكتاب الحيوان للجاحظ أو للدميري وغيرها
ولو أن الدكتور صروف جمع ما سبق إلى استعماله من الألفاظ التي كانت
مهجورة فوصل شملها بما يناسبها، ومن المصطلحات الجديدة لبلغت سفرًا كبيرًا.
على أن الاصطلحات الجديدة التي تعلمها منشئا المقتطف بالعربية في المدرسة كانت
يسيرة لا غناء فيها ينتقد بعض علمائنا الغيورين على اللغة تساهل المقتطف في
التعريب وكثرة استعماله للمفردات الأعجمية التي يسهل وجود ما يحل محلها من
اللغة بالترادف أو التجوز أو الترجمة أو وضع جديد يشهر بالاستعمال، وهذا مذهب لا
يمكن لفرد من العلماء أن ينهض به بل يتوقف على مجمع لغوي علمي دائم ينهض به
وهذا عمل كبير لا ينهض به فرد ولا أفراد وقد ذكر في الحفلة التي أقامها صديقنا
المرحوم إسماعيل بك عاصم لصاحبي المقتطف احتفاء بمضي أربعين سنة من حياته
وحضرها بعض كبار الوزراء والعلماء وأصحاب المجلات سعينا مع
بعض من حضر تلك الحفلة إلى إنشاء المجمع وأنشئ بالفعل وكان صاحبا
المقتطف من أعضائه العاملين ثم كانت أحداث سنة 1919 سببًا لتوقيفه ثم تجدد
السعي لإعادته والظاهر أنه لن يتم ذلك إلا بمساعدة الحكومة لرجال العلم على إحيائه
فنسأل الله تعالى أن يوفقها لذلك، وحسب المقتطف حسن أثر في نهضة اللغة العربية
بالعلم بضع وستون مجلدًا كتبت بهذه اللغة تخلد لكاتبها الفخر وتنطق ألسنة المنصفين
بالشكر وما من حسن من أعمال البشر إلا وفي الإمكان أحسن منه؛ لأن استعداد هذا
النوع لا غاية له ولا حد، وقد قال معلم الخير - عليه الصلاة والسلام - (من لم
يشكر الناس لم يشكر الله) .
__________
(1) الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر، ومسلم من حديث أختها عائشة أم المؤمنين، ورفعتاه كلتاهما إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) .(27/786)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
العرب وجزيرتهم بين الإمامين
يحيى بن حميد الدين وعبد العزيز آل سعود
وخطر الاستعمار الأوربي
لا يزال العرب أوسع أمم الأرض أوطانًا، ومن أكثرها حصى وتعدادًا، فهم
زهاء مائه مليون نسمة منبثون في الشطر الشمالي من أفريقية، والشطر الغربي من
آسية، ولكن لم يبق لهم من الاستقلال المطلق شيء لا سيادة للأوربيين فيه، ولا
سيطرة لهم عليه، إلا مهدهم الأول من جزيرتهم وهو اليمن وتهامة والحجاز ونجد،
وقد حل زمن تصدي المستعمرين للقضاء عليه بيديه فالاستيلاء عليه، وهذا مثار
الخوف دون غيره، فلولا الخوف من الأجانب على هذه البقية لما كنا نثط من أثقال
الهم لتعادي أمرائنا وأئمتنا فيها، ولا نعد تقاتلهم خطرًا عليها، فإنه إما أن تبقى به
البلاد على حالها، وإما أن يفوز الأقوى بالانفراد بالسيادة عليها، وما أحوج هذه
الأمة النبيلة إلى توحيد حكومتها وسياستها؛ لتجديد قوتها وحضارتها، وليس الجيل
العربي هو الجيل الذي انفرد بالتفرق والتمزق بالتعادي على الحكم والرياسة فيصدق
من يزعم أنه لا يتحد أو لا تجتمع حكمته مطلقًا أو إلا بدعوة دينية، بل ذلك من
طبائع البشر من جميع الأجيال، فإن تعذر اليوم اتحاد العرب عامة أو عرب
الجزيرة خاصة بحكومة مركزية فلا يتعذر اتحادهم بنظام كنظام الوحدة الألمانية،
فمصلحتهم تقتضيه، ودينهم يقضي به.
عرب الجزيرة كلهم مسلمون، والسواد الأعظم منهم عريق في العربية
العدنانية، والقليل منهم يرجعون إلى عروق معروفة أو غير معروفة من غير العرب
الخُلَّص، ولكنهم مستعربون، وإنما يختلفون في المذاهب الدينية، فالسواد الأعظم
منهم سنيون ينتسبون إلى مذاهب الفقهاء الأربعة في الفروع إلى السلف الصالح
أو الأشاعرة في الأصول، وفي اليمن كثير من الزيدية وأصولهم الكلامية أصول
المعتزلة، وفي الأحساء بعض الشيعة الإمامية، ويوجد في بعض بلاد
اليمن والحجاز جماعات من طوائف أخرى من الشيعة، وفي بلاد عمان كثير
من الأباضية ولهم إمام في داخل البلاد ليس عليه من سيطرة الأجنبي ما على سلطان
مسقط منهم، وإنما كلامنا في مستقر القوة ومستودع السلطان والسطوة،
ومنبت الأرومة وهو اليمن وتهامة والحجاز ونجد.
القوة الحربية التي هي سياج الاستقلال منبثة في الجزيرة، موزعة في القبائل،
ولكن ليس لها قيادة عامة إلا في اليمن ونجد، والقوة الغالبة في اليمن للزيدية
الذين يعتصم أكثرهم في الجبال، ويدين لهم بالطاعة السواد الأعظم، وهم من
الشافعية طوعًا أو كرهًا، ويدين كثير منهم للزعيم الإدريسي فهو الذي نازع إمام
الزيدية السيادة في إقليم عسير جباله وخيوفه، وما انحدر عنها من سهوب تهامة
وثغورها وجزائرها، والقوة الغالبة في نجد لأعرق أهل السنَّة وأثبتهم في السنة،
وكان لأئمتها من آل سعود شركاء فيها ومنازعون فيما حولها، ثم دانت كلها في هذا
العصر لعبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل فزالت إمارة آل الرشيد وكانوا أقوى
المشاركين لآل سعود في عقر تلك الديار، وزال سلطان الترك من السواحل قبل
زوالها، ودانت له هذه البلاد وملحقاتها، ثم زالت إمارة آل عايض من عسير ثم
إمارة الشرفاء آل قتادة من الحرمين بعد أن صارت ملكًا مستقلاًّ، ودانت لابن
السعود بلاد الحجاز كلها، وقسم من بلاد عسير ثم انتهى الأمر بدخول إمارة السيد
الإدريسي في حمايته، ودانت لسلطانه، فقربت بذلك المسافة الشاسعة المانعة من
الوحدة العربية الحلفية، ولم يبق إلا وضع نظام يراعى فيه اختلاف مذهبي السنة
والزيدية، وتُتقى به الدسائس الأجنبية، ولكن لم يكد يتم التمهيد لهذا حتى كانت
حكومة إيطالية الفاشستية الموسولونية المهطعة إلى الاستعمار المتوخية إحياء مجد
الرومان قد عقدت مع الإمام يحيى معاهدة صورتها تجارية، وروحها سياسية يقصد
بها استعمار الجزيرة العربية.
انحصر استقلال جزيرة العرب في مملكتي الإمام يحيى بن حميد الدين
صاحب اليمن العليا والسفلى والإمام عبد العزيز بن السعود سلطان نجد وملك
الحجاز وعسير، وبتنا نرجو قرب تأويل ما نسعى إليه منذ بضع عشرة سنة من
التأليف بينهما ومن عقد حلف عربي يحفظ به استقلال الجزيرة، ويعود للأمة
مجدها، ولكن كثر خوض برقيات السياسة العامة وصحف الشرق والغرب في هذه
الأيام بإمكان تصادمهما، بل بقرب زحف قوات اليمن على عسير فالحجاز- كثر
هذا بعد عقد الإمام يحيى الاتفاق مع الدولة الإيطالية وما تلاه (على ما قيل) من
تولي الضباط الإيطاليين لبعض الأعمال العسكرية في جيشه، وتدفق أسلحتهم
وذخائرهم، وكذا دراهمهم ودنانيرهم على بلاده ورجاله وقبائله - وإنشائهم لمحطات
التلغراف اللاسلكي في الحديدة وصنعاء لا له وحده، بل للدولة الإيطالية نفسها
تخاطب بها مستعمرتها (الإرتيرة) المصاقبة لليمن وعاصمتها (رومية) أيضًا.
فإن صحت هذه الأنباء، وأوقد الإمام يحيى في شيخوخته نار الحرب العظمى
في جزيرة العرب (حماه الله وأعاذه من ذلك) فسيكون هو وقومه أول من يحترق
بنارها؛ بإدخاله لأجرأ دول أوربة الاستعمارية فيها، ولا يشك أحد من البشر يومئذ
في أن هذه الدولة هي التي استخدمته في فتح بلاده لها، وتعريضه بقية الجزيرة
للاستعمار الأوربي حتى البلاد الحجازية المقدسة وحرم الله تعالى وحرم رسوله -
صلى الله عليه وسلم - وإنما يكون الخطر على الحجاز قريبًا إذا اتفقت الدولة
الإيطالية مع صديقتها الدولة البريطانية على القضاء الأخير على الإسلام، لا على
العرب وحدهم، ولا خطر على الحجاز ونجد إلا من الدولة البريطانية.
قد كان أكبر مناقب الإمام يحيى في نظر الأمة العربية والعالم الإسلامي كله
تلك السياسة السلبية مع الأجانب التي تجلت المرة بعد المرة بفشل الدولة البريطانية
وعجزها عن عقد أي اتفاق معه يفتح أدنى منفذ لتدخل نفوذها السياسي أو
الاقتصادي في بلاده، وقد كان أكبر ذنوب السيد محمد علي الإدريسي الكبير في
نظره ما كان من موادة هذا للدولة الإيطالية واستفادته من سلاحها في أثناء قتال
الترك له.
ولما بدأ صاحب هذه المجلة بدعوة أمراء الجزيرة العربية وأئمتها للتآلف
والتحالف على حفظ بلادهم من التدخل الأجنبي وتقويتها وترقيتها سنة 1330
(الموافق 1911م) كان الإمام يحيى حميد الدين أول من أجابه منهم باستعداده
للاتفاق والتعاون مع إخوانه أمراء الجزيرة، إلا أنه استثنى جاره بالجنب السيد
الإدريسي، واحتج على عدم إمكان الاتفاق معه، وإطفاء ما كان بينهما من نار
الحرب بأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا الضبط - وكان يرى أن هذا العمل
لا يبيحه الشرع ولا يتفق مع مصلحة العرب. هذا وإن السيد الإدريسي رحمه الله
تعالى لم يعقد معهم محالفة سياسية ولا أعطاهم في بلاده شيئًا من الحقوق الاقتصادية
لولا مطامع إيطالية في اليمن المعروفة لجميع المشتغلين بالسياسة ولولا ما يتحدث
به كبار رجال السياسة في أوربة من قرب نيل مطامعها، ولولا اهتمام صحف
الشرق والغرب فيها، ولولا مذاكرة الدولة البريطانية للدولة الإيطالية ومفاوضتها
إياها للاتفاق على مصالحهما الاقتصادية وكذا السياسة والحربية في اليمن والبحر
الأحمر، ولولا ما بذلت إيطالية وما تبذل في هذه السبيل، لولا هذه وغيره مما لا
نقوله الآن لأمكن أن يقال: إن ما عقده الإمام الجليل مع إيطالية لا خوف منه، وإن
هذه المعاهدة الإيطالية اليمنية كظاهر موادها التي نشرت بعيدة عن المطامع السياسة،
وإغراء الشقاق، وإيقاد نار الحرب في الجزيرة العربية لأجل تمهيد بل تعبيد
الطريق للمقاصد الاستعمارية، على ما في المادة الثالثة من تقييده الحكومة اليمنية
نفسها بجلب الرحال الفنيين من الحكومة الإيطالية.
فإن وقع القتال فعلاً وكانت زحوف اليمن المتوكلية هي البادئة به علمنا علم
اليقين أن أمر الإمام وجيشه قد صار آله بيد المستعمرين الطامعين للقضاء على
الأمة العربية، وعلى جزيرتها المقدسة ومهد دينها - حاشاه الله - وبرأه من ذلك.
إن الذي عرفناه من أخلاق الإمام الجليل أنه على ما أوتي من شجاعة النفس
وشدة البأس، رؤوف سلمي يكره الحرب، وينظر إليها بعين الشرع، لا بعين الطمع
الجشع، فيعدها من الضرورات، لا من الضروريات والضرورات تقدر في الشرع
بقدرها وهو مع ذلك رجل اقتصاد يقدر نفقاتها عندما يوازن بين خيرها وشرها،
وما يرجى لبلاده من خيرها ويخشى عليها من ضررها، ولولا هذا لما صبر على
البيت الادريسي إلى هذا اليوم، ولا سيما بعد وفاة السيد محمد علي مؤسس هذه
الإمارة لهم. ولولا أن هذا كان يعلم أن قوة الإمام يحيى تفوق قوته لما التجأ إلى ابن
السعود ونزل له عن منطقة أبها من عسير العليا ثم لما رضي خلفه السيد حسن في
هذا العام بأن تكون إمارتهم كلها تحت سيادته، وفي ظل حمايته، فكيف يعقل أن
يتصدى هذا الإمام السلمي الإسلامي الاقتصادي لقتال ابن السعود بعد أن آتاه الله
تعالى هذا الملك العظيم الممتد من حدود اليمن إلى حدود الشام ومن البحر الأحمر
إلى خليج فارس، وله فيه السلطان الذي لا ينازع، والأمر الذي لا يرد.
لقد استولى هذا السلطان على منطقة أبها المجاورة لليمن ولم ينازعه الإمام
يحيى فيها بالسيف والسنان ولا بالقلم أو اللسان، ولقد قتل الجند النجدي هنالك -
مع الأسف - جمًّا غفيرًا من اليمانيين - خطأ - ولم يتخذ الإمام الحكيم الرشيد ذلك
ذريعة لقتال النجديين، ولا حجة على وجوب إخراجهم من تلك المنطقة من عسير،
ولقد استغاثة الشريف علي بن حسين أيام كان محصورًا في جدة على السلطان عبد
العزيز بن السعود وعرض عليه جعل الحجاز تحت سيادته، وتابعًا لمملكته وأن
يكون هو فيه عاملاً من عماله؛ فأبى الإمام الحكيم أن يغيثه بالرجال أو المال،
وإنما نصح له بما اقتضته الحال من المقال، وقد كان ابن السعود يومئذ في بؤس
وضنك يجلب إليه المال والقوت من الإحساء ونجد، فهل يعقل بعد هذا أن يهاجمه
الآن؟ وماذا في هذا العدوان وما يستلزمه من إنفاق بدر الأموال، وقتل الألوف
الكثيرة من الرجال؟ وإن فرض أنه انتصر في ميادين القتال. ما من شيء يمكن
أن يتأله بهذا النصر غير المضمون إلا وقد كان أيسر منالاً من قبل، وقد رجح
الإمام بعقله وحكمته الزهد فيه، وعدم سفك دماء المسلمين لأجله بل كان عرض
عليه التصدي لإنقاذ الحجاز من إلحاد الملك حسين وإفساده فيه بالاستقلال أو
الاشتراك مع سلطان نجد؛ فأبى بل وضع له مشروع لدعوة الخلافة الإسلامية
العامة فلم تستشرف نفسه له، قناعة بما أعطاه الله من ملك اليمن إلا أنه يطمع في
شيء واحد وهو الاستيلاء على اليمن وتهامته كلها، ولكن بما يمكن من الاقتصاد
في الدماء والمال، ويقال: إنه يدعي أن عسير منها وقد علمنا سيرته المعتدلة فيها.
لهذا كله قلنا: إنه صدق ما يقال من عزمه على القتال ووقع ذلك بالفعل فلن يجد
له أحد تعليلاً إلا استيلاء الأجانب على لبه، وتسخيرهم له بشر مما سخروا أمثاله
من قبله، وإنا لنجله ونربأ بدينه وعقله أن يكون كذلك.
نعم إننا نعلم أن هنالك سعاية ودعاية من طريق آخر لإغراء العداوة بين
الإمامين وإضرام نار القتال بين الفريقين وهي طريق عصبية التشيع والرفض،
وقد بثت هذه الدعاية أولاً في جزائر الهند الشرقية الهولندية والبريطانية ثم في
العراق وإيران ثم في مصر والهند، أما بين الشيعة فلجعل الحجاز تحت سيادة
إمام شيعي من آل البيت - وما ثم إلا الإمام يحيى - وأما بين أهل السنة فلإخراج
الوهابية من الحجاز، وهؤلاء الدعاة هم الذين أكثروا اللهج في هذا العام بقوة الإمام
يحيى وكثرة جيوشه، وبذم الوهابيين والطعن فيهم، وكانت خطتهم تحويل الإمام
يحيى عما يعهدون فيه من حب السلم والاقتصاد بحمل مسلمي مصر والهند وجاوه
مع أهل العراق وإيران على مطالبته بقتال ابن السعود وإخراجه من الحجاز وإعانته
على ذلك بالمال، وقد سمعت بأذني رجلاً من أشهر هؤلاء الدعاة الذين يراسلهم
الإمام ويراسلونه، يصرح في مجلس فيه بعض الوجهاء هنا بأن الإمام قد استكمل
أهبته الحربية لذلك، وإنما ينتظر مطالبة العالم الإسلامي له بإخراج ابن السعود
وقومه من الحجاز، وأن ذلك لينتظر في أقرب وقت! ! وأما الذي أعلمه فهو أن
المراسلات الودية بين الإمامين متصلة، وقد لقيت وفد اليمن للمؤتمر الإسلامي في
مكة وغيرها من أماكن الحجاز، وتعاونا على توثيق عُرى الصداقة بين الإمامين،
وصرح لي الملك عبد العزيز بأنه بَلَّغ السيد حسين عبد القادر رئيس هذا الوفد بأنه
مستعد للاتفاق مع الإمام يحيى على كل ما يصون بلادهما ويرفع شأنها حتى إذا
أحب عقد معاهدة عسكرية هجومية دفاعية فإنه لا يأبى ذلك، ولكن السيد لم يكن
مفوضًا إليه مثل هذا وقد كاشفني بأن أهم ما يهم الإمام مسألة الإدريسي، لا طمعًا
في إمارته بل لئلا يعقد مع الأجانب ما يفضي إلى تدخلهم في شؤون البلاد - والحق
معه في هذا كما صرحت بهذا للملك عبد العزيز. وهذه المعاهدة الأخيرة سلبت من
السيد الإدريسي هذا الحق وحق التعدي على حدود اليمن، ولكن بعد أن أمضى
لشركة بريطانية امتيازًا عظيمًا في استخراج زيت البترول من جزائر فرساي التي
تعد بالعشرات، وهي جناية يجب السعي لإبطالها إذا أمكن هذا، وأرى أنه يحسن
السعي الآن لعقد محالفة بين الإمامين ينص فيها على حفظ الحال الحاضرة وبقاء
منطقة الادريسي شقة حياد لا يعتدي عليها أحد منهما بشروط مرضية لهما. ومن
يأبى ذلك منهما أو يبدأ الآخر بالعدوان، فهو الجاني على العرب والإسلام.
***
نص المعاهدة الإيطالية
مادة (1) تعترف حكومة جلالة ملك إيطاليا باستقلال حكومة اليمن وملكها
جلالة الإمام يحيى الاستقلال المطلق الكامل، ومع هذا فلا تتداخل حكومة إيطاليا
المشار إليها في مملكة جلالة ملك اليمن الإمام، بأي أمر من الأمور التي تناقض ما
في الفقرة الأولى من هذه المادة.
مادة (2) تتعهد الدولتان بتسهيل التبادل في التجارة بين بلاديهما.
مادة (3) حكومة جلالة ملك اليمن تصرح بأنها ترغب أن تجلب طلباتها من
إيطاليا، وذلك في الأشياء والآلات الفنية التي تساعد بجلب الفائدة في نمو اقتصاد
اليمن ونفعه وكذلك في الأشخاص الفنيين والحكومة الإيطالية تصرح بأنها تبذل
جهدها حتى يصير إرسال الأشخاص والآلات الفنية بأنسب وجه في الأنواع والأثمان
والرواتب.
مادة (4) ما ذكر في المادة الثانية والثالثة لا يمنع حرية الطرفين في التجارة
والمطلوبات.
مادة (5) ليس لأحد من تجار المملكتين أن يجلب ويتجر فيما تمنعه إحدى
الدولتين في بلادها، ولكل من الدولتين أن تصادر ما جلب إلى بلادها مما تمنع
جلبه والتجارة فيه بعد الإشعار.
مادة (6) هذه المعاهدة لا تكون معمولاً بها إلا من حين تصل إلى جلالة ملك
اليمن الإمام يحيى مصدقة من جلالة ملك إيطاليا.
مادة (7) تكون هذه المعاهدة جارية ومعمولاً بها لمدة عشر سنوات من بعد
تصديقها كما في المادة السادسة وقبل انقضاء مدة هذه المعاهدة بستة أشهر إذا أراد
الطرفان تبديلها بغيرها أو تمديدها كانت المذاكرة في ذلك.
مادة (8) ولما حرر في هذه المواد فجلالة ملك اليمن الإمام يحيى وسعادة
كفاليري غاسباريني بالوكالة عن ملك إيطاليا قد أمضيا هذه المعاهدة المحررة في
نسختين متطابقتين باللغة العربية والإيطالية، ولعدم وجود من يعرف الترجمة عن
اللغة الإيطالية معرفة تامة لدن جلالة ملك اليمن، ولأن المفاوضة التي تمت بين
الطرفين بعقد المعاهدة الودية التجارية كان التفاهم فيها باللغة العربية، ولأن سعادة
كفاليري غاسباريني قد تأكد أن النص العربي هو مطابق للنص الإيطالي تمامًا؛
لذلك اتفقا بأنه إذا نشأت شكوك أو اختلاف في تفسير النصين العربي والإيطالي،
فالطرفان يعتمدان النص العربي وتفسيره بأصول اللغة العربية، واعتبار هذا
شرطًا.
اتفاقية مكة المكرمة
(بين ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها وبين السيد الحسن بن علي الإدريسي)
رغبة في توحيد الكلمة؛ وحفظًا لكيان البلاد العربية، وتقوية للروابط بين
أمراء جزيرة العرب، قد اتفق صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، وصاحب السيادة إمام عسير السيد
الحسن بن علي الإدريسي على عقد الاتفاقية الآتية.
(المادة الأولى) يعترف سيادة الإمام السيد الحسن بن علي الإدريسي بأن
الحدود القديمة الموضحة في اتفاقية 10صفر سنة 1339المنعقدة بين سلطان نجد
وبين الإمام السيد محمد بن علي الإدريسي والتي كانت خاضعة للأدارسة في ذلك
التاريخ تحت سيادة جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بموجب هذه الاتفاقية.
(المادة الثانية) لا يجوز لإمام عسير أن يدخل في مفاوضات سياسية مع أي
حكومة، وكذلك لا يجوز أن يمنح أي امتياز اقتصادي إلا بعد الموافقة على ذلك من
صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها.
(المادة الثالثة) لا يجوز لإمام عسير إشهار الحرب أو إبرام الصلح إلا
بموافقة صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها.
(المادة الرابعة) لا يجوز لإمام عسير التنازل عن جزء من أراضي عسير
المبينة في المادة الأولى.
(المادة الخامسة) يعترف ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بحاكمية إمام
عسير الحالي على الأراضي المبينة في المادة الأولى مدة حياته ومن بعده لمن يتفق
عليه الأدارسة وأهل العقد والحل التابعين لإمامته.
(المادة السادسة) يعترف ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بأن إدارة بلاد
عسير الداخلية والنظر في شؤون عشائرها من نصب وعزل وغير ذلك من الشؤون
الداخلية من حقوق إمام عسير على أن تكون الأحكام وفق الشرع والعدل كما هي في
الحكومتين.
(المادة السابعة) يتعهد ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها بدفع كل تعد
داخلي أو خارجي يقع على أراضي عسير المبينة في المادة الأولى، وذلك بالاتفاق
بين الطرفين حسب مقتضيات الأحوال ودواعي المصلحة.
(المادة 8) يتعهد الطرفان بالمحافظة على هذه المعاهدة والقيام بواجبها.
(المادة 9) تكون هذه المعاهدة معمولاً بها بعد التصديق عليها من الطرفين
الساميين.
(المادة 10) دونت هذه الاتفاقية باللغة العربية من صورتين تحفظ كل
صورة لدى فريق من الحكومتين المتعاقدتين.
(المادة 11) تعرف هذه المعاهدة بمعاهدة مكة المكرمة وقعت هذه المعاهدة
في تاريخ 14ربيع الآخر سنة 1345الموافق 21 أكتوبر سنة 1926.
(الختم الملكي) ... ... ... ... ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها
... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود
(الختم الرسمي) ... ... ... ... إمام عسير: الحسن بن علي الإدريسي
تم ذلك بحضور راقم هذه الأحرف خادم الإسلام أحمد الشريف السنوسي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم)
__________(27/791)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
خاتمة المجلد السابع والعشرين
باسم الله وبحمده نختتم المجلد السابع والعشرين من المنار كما افتتحناه بهما
ونقفي عليهما هنا بما قفينا به هناك من الصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد ولد
آدم أجمعين محمد النبي الأمي الذي أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه والهادين
والمهديين وقد تم لنا في أثناء نشر هذا المجلد ما وعدنا به القراء من تجديد المطبعة،
وإدارتها بقوة الكهرباء وإصدار أجزاء المنار في كل شهر على ما عرض لنا من
السفر إلى الحجاز وانحراف الصحة فيه والاشتغال بالمؤتمر الإسلامي العام بمكة
المكرمة، واقتضاء ذلك غيبة زهاء أربعة أشهر عن مصر وقد وفينا ولله الحمد بما
وعدنا به من خدمة الملة والأمة ومجاهدة الملاحدة، والزنادقة، والمبتدعة، والقيام
بدعاية الإصلاح والتجديد الإسلامي على قواعد الكتاب والسنة.
وأما مسألة الاعتماد في عزة الأمة على فنون العصر العملية فقد مهدنا السبيل لها
بالسعي المرجو فيها، والتأليف والتعاون بين شعوبها وما نحن من الذين يعملون
لأجل الفخر والمباهاة فيعلنون ما لا حاجة إلى إعلانه، وبيان ما لا تتوقف المصلحة
على بيانه، وقد بينا ما انتقد به على المنار في هذه المدة وما قبلها حتى انتقد علينا
بعض القراء ما لا فائدة في نشره منه وإننا على ثباتنا على دعوة أهل العلم والرأي إلى
انتقاد ما يرونه منتقدًا في المنار نذكرهم بما يجب فيه من الإيجاز والاختصار،
وأن يتحروا فيه الفائدة لا الافتخار والاشتهار الذي قد يؤدي إلى ضد ما يتمنون إذا كان
كلامهم على غير ما يهوون، ولعل من الصواب أن نكتم أسماء المنتقدين أو نحذف من
كلامهم ما لا يتعلق بجوهر النقد من القيل والقال أو إعادة نشر ما ينتقدونه من كلامنا
بحروفه اكتفاء بالإشارة إلى مراجعته في موضوعه وفي هذه الحالة تكون
حريتنا أوسع في بيان ما يظهر لنا من خطأ المنتقد؛ فنسمي الكذب كذبًا، والجهل
جهلاً إن اقتضت الحال ذلك وسيكون من مواد المجلد الثامن والعشرين رحلة الحجاز،
والكلام فيها على المؤتمر الإسلامي العام والإدارة السعودية في الحجاز ومسلك
أمير الحج المصري معها، وفي ذلك من الحقائق ما يهم العالم الإسلامي كله مما لم
ينشر في الجرائد العربية، ولا غيرها.
وسيكون منها تأثير دعوة الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى، ومسألة
ترجل النساء وتهتكهن واشتغالهن بالسياسة والأمور العامة، ومسألة الأزهر
والبرلمان في مصر وإنشاء باب لمختارات الصحف النافعة من اجتماعية وسياسية
وأدبية وعلمية وغير ذلك من المباحث الإصلاحية المقصودة بالذات، وعسى أن
يساعدنا القراء على ذلك بدفع قيمة الاشتراك سنة بسنة، والله الموفق وله الحمد
في البدء والختام.
__________(27/799)
المجلد رقم (28)(28/)
شعبان - 1345هـ
مارس - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
فاتحة المجلد الثامن والعشرين
وفيها بيان علاقتنا بالإمام عبد العزيز
ملك الحجاز وسلطان نجد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم
خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الصالحين المصلحين، والتابعين لهم في ذلك إلى
يوم الدين.
أما بعد: فقد تم للمنار سبعة وعشرون مُجلَّدًا صدرت في مدى 30 سنة
هجرية (توافق 29 سنة شمسية) إذ عجزنا عن إصداره في كل شهر من سني
الحرب العظمى، وما تلاها من سِنِي الغلاء والعسرة، التي تضاعفت فيها النفقات،
وكثرت أفراد الفصيلة العامة، وتكونت الأسرة الخاصة، ونضبت الموارد التي
كانت تسِحُّ من الخارج، وشحَّت الموارد التي كانت تنبجس في الداخل، ولم يتم لنا
لمُّ الشعث إلا منذ عامين ونصف عام، وتلاه بفضل الله تنظيم العمل بأحسن مما كان
منذ كان، وما أضعنا على المشتركين شيئًا بهذا الإدغام؛ لأننا نتقاضى قيمة
الاشتراك بحساب الأجزاء لا بحساب الأعوام؛ ولكن من لا وفاء لهم قد اتخذوا
عجزنا عن إصدار المنار في كل شهر من سني العسرة حجةً على هضم حقنا،
ونحن ما زلنا نكلهم إلى وجدانهم، واستفتاء قلوبهم، وهداية إيمانهم، وحسابهم على
الله تعالى، فهو يقضى بالحق بيننا وبينهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
على أننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في القابل لاستدراك ما نقص من المجلدات
عن عدد السنين إلى أن يتفقا في العدد، وأن يعيننا على إكمال النظام في العمل،
والزيادة من الفوائد في العلم، وأن يوفق قراء المنار لمساعدتنا على ذلك بحسن
الوفاء، ولا يحقق معنى الاشتراك إلا تعجيل الأداء، وقد اقترح علينا بعضهم أن
نزيد في أبوابه مباحث في الآداب، والتاريخ، وبعض الفنون الحديثة، ومنهم من
يريد بذلك ترويجه، وكثرة سواد المشركين فيه، ورأيهم هذا صحيح، وإننا على
علمنا بصحته كنا نختار أن تملأ صفحات المنار بما لا تكاد الأمة تجده في غيره من
الصحف إلا قليلاً، ونحن نستفتي جمهور القراء في ذلك، ونعمل بما يراه الأكثرون
أقوى حجةً، وأقوم قيلاً، وإن كانت فائدته المالية أقل، وقد بينا في فاتحة السنة
الأولى أننا فيما اخترناه من الخطة الإصلاحية لا نرضي إلا القليل من الناس {وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) لو أنشأنا
المنار لأجل الكسب؛ لما اخترنا هذه الخطة، أو لما اقتصرنا عليها.
لو كنا نعمل للمال؛ لاتبعنا أهواء الجماهير في اختيار الهزل على الجد،
وإيثار الإفساد على الإصلاح، وترجيح أهواء الناس على هداية كتاب الله، ولهو
الحديث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصور القِيَانِ والراقصات،
والبغايا، والممثلات، ومن وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كوشف به
من أنباء الغيب بالكاسيات العاريات، المائلات المميلات، وما دون ذلك من
المسليات، وصور الحيوانات والحشرات، وغرائب الآلات والمخترعات التي
يصورها أهلها لأغراض عليمة صناعية، وتجارية، ونصورها للَّهو، والتسلية.
أو لو كنا نعمل للمال؛ لصانعنا رجال المال من الأفراد والجماعات،
كالأحزاب والحكومات، ولوجد من الحجج علينا في ذلك ما لا نستطيع رده، ولا
كتمانه، ونحمد الله تعالى أننا لم نسلك طريقًا في الإصلاح الخاص بالحكام الباذلين،
والأمراء والملوك والسلاطين، وجماعات الدينيين والسياسيين، إلا كان نقصًا في
دنيانا، وكمالاً في شرفنا وديننا، وانتهى الجماهير فيه إلى رأينا، وفي مقدمتهم
الذين كانوا ينكرونه علينا، تلك سيرتنا في نقد الحكومة الحميدية، ثم في التشنيع
على الجمعية الاتحادية، وخليفتها الحكومة الكمالية، وفي جهاد الملك حسين بن
على , وأولاده، وفي إنكارنا على متعصبي المذاهب من الشيوخ الجامدين، ورجال
الطرق الخرافيين.
نعم إنه قد عرضت في هذه الأيام شبهة علينا في تأييدنا للحكومة السعودية،
والطريقة الوهابية، فتحدث بعض الذين لا يعقلون أنه يوجد في البشر أحد ينصر
عقيدة دينية، أو يؤيد طريقة إصلاحية إلا لأجل منفعة شخصية، بأننا نأخذ من ابن
السعود أجرًا على تأييدنا لحكومته، والدفع عن قومه، وشيعته، ثم تجلى هذا
التصور في صورة الواقع، وظهر هذا الرأي في مظهر الرواية، فصدقه من رآه
من الناس معقولاً، حتى إن بعض كبار علماء الأزهر قال لي في مجلس من مجالس
الخواص في هذه الأيام: يقال: إنك أخذت من ابن السعود خمسة آلاف جنيه - فقال
أحد كبار الوجهاء الحاضرين: بل أنا سمعت في أوربة أنه أخذ منه عشرة آلاف
جنيه، وليس هذا بكثير، فإن فلاناً خدم ابن سعود وقومه منذ سنين خدمة لا تكثر
هذه المكافأة عليها، فما كان أحد يسمع في هذا الرجل، ولا في هؤلاء القوم كلمة
خير قبل مقالاته الرنانة في مناره، وفي بعض الجرائد اليومية.
***
الوهابية ودعوة المنار إلى مذهب السلف:
أقول: لو صح ما تخيله هؤلاء معقولاً؛ فخالوه أمرًا مفعولاً، فأحدثوا فيه قالاً
وقيلاً - وما هو بصحيح -؛ لما صح أن يجعل حجة على أن المنار أنشئ لجمع
المال، لا يبالي أجمعه من حرام أو حلال، وإنما كان يعد مساعدة على خطة دينية
قديمة في خدمة الإسلام وهدايته، كما يدعو إلى فنون العصر، وسنن الخلق في
سياسته، وقوته، ولم يكن في ذلك الوقت ملك، ولا سلطان نتهم بالطمع في
مساعدته، بل لم نكن يومئذ نعلم أن الوهابية يعتصمون بمذهب السلف، بل كنا
نصدق الدعاية التركية التي أذيعت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث عشر
للهجرة النبوية، وجددها السلطان عبد الحميد منذ أوائل القرن الرابع عشر لأسباب
سياسية من أن الوهابية فرقة مبتدعة معادية للسنة وأهلها.
وأول رجل سمعت منه أن هؤلاء الوهابية قوم مصلحون أرادوا إعادة هداية
الإسلام إلى عهدها الأول، وأنه كان يرجى أن يجددوا مجد الإسلام والعرب، هو
محمد مسعود (بك) المصري الكاتب المؤلف المشهور، ثم قرأت ما كتبه في
نشأتهم مؤرخ عصر ظهورهم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري، ثم ما كتبه
محمود فهمي المهندس المصري في تاريخه (البحر الزاخر) ، وصاحب
(الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى) ، ثم ما كتبه الشيخ عبد الباسط
الفاخوري مفتي بيروت في (تاريخ الإسلام) له، كما أنه أتيح لي الاطلاع في
أثناء ذلك على كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات للشيخ الإمام المجدد الشيخ
محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم على غيره من كتبهم بالتدريج، وأطلعت
شيخنا الأستاذ الإمام على كتاب التوحيد وكشف الشبهات، فأثنى عليهما، ورأيته
موافقًا لرأي محمد مسعود، وأنه لم تظلم طائفة من المسلمين في التاريخ بمثل ما
ظلم به هؤلاء القوم، على كثرة طعن أعوان الدول، والمذاهب بعضهم في بعض.
وكنت أسمع من والدي قبل هجرتي إلى مصر شيئًا مما افتراه على الوهابية
أحمد زيني دحلان، وأمثاله من صنائع شرفاء مكة، والترك، وثناءً على محمد
علي باشا الذي أخرجهم من الحجاز بالدين والتقوى، وأنه كنس الكعبة المعظمة،
ومرغ لحيته بها، أو بكناستها.
وفي شهر صفر سنة 1320 احتفل ديوان الأوقاف العامة بمرور مائة عام
على تأسيس محمد على باشا للإمارة المصرية، واحتفلت به مشيخة الأزهر في
الجامع الأزهر؛ فانتقدت ذلك في المنار من حيث صرف أموال الأوقاف الإسلامية،
وتزيين المساجد بذكر أمراء الدنيا، وسلاطينها، والأوقاف إنما وقفت؛ للتقرب
إلى الله تعالى، والمساجد إنما أُنشِأَت؛ لذكره تعالى، وعبادته.
وذكرت يومئذ حرب محمد علي للوهابية، واعتقاد عموم المسلمين الجاهلين
بالتاريخ أنها كانت خدمة للإسلام، واعتقاد الخواص العارفين أنها جناية عليه،
وبينت فيما كتبته ما كنت وقفت عليه من حقيقة أمر الوهابيين في اتباعهم للسلف،
واعتصامهم بالسنة، وسبب الطعن فيهم - وكل ما كتبته في هذه السنين الأخيرة
يدور حوله لا يزيد في بيان حقيقتهم عليه، فأنا أدافع عن الوهابية، وأثني عليهم
منذ ربع قرن.
كتبت ذلك يومئذ لوجه الله، وخدمة للإسلام، وأنا لا آمن إيذاء أمير البلاد لي
على ذلك - وقد فعل بقدر الإمكان في ذلك الزمان - وما كنت أرجو أن يكون لي
تجاه هذا الإيذاء أدنى نفع من أحد من الوهابيين، ولا أدري أن لهم أميرًا يحسن أن
أرسل إليه ما كتبت عنهم، وقد صار للوهابيين حزب كبير في القطر المصري من
نجباء علماء الأزهر، وغيره من المعاهد الدينية، وغيرها بإرشاد المنار لا تشوبه
أدني شائبة دنيوية.
***
علاقتنا بصاحب نجد وسببها:
بعد هذا التاريخ ببضع سنين بدأت المكاتبة بيني، وبين الأمير عبد العزيز بن
السعود في مسألة العرب، وجزيرة العرب , ووجوب الولاء والتحالف بين أمرائها؛
لأجل حفظها من تدخل الأجانب، وإعلاء شأنها بالعمران، والثروة، والقوة - كما
كاتبت في ذلك نفسه الإمام يحيى بن حميد الدين، والسيد محمد علي الإدريسي
(رحمه الله تعالى) ، وأرسلت رسلاً إلى كل منهم، وأنفقت في هذه السبيل مالاً
يعد كثيرًا عليَّ، وأذكر أن في أول كتبي إلى ابن السعود إنكارًا شديدًا على شيء
بلغني عنه عاتبني عليه بأنه لا يقبل مثله من غيري، وإنما قبله مني لِمَا بلغه من
خدمي للسُنَّةِ، واعتقاده أنه صدر عن إخلاص الله تعالى، وتَحَرٍّ لخدمة الإسلام
والعرب.
أجابني كل واحد من هؤلاء الأئمة باستحسان ما دعوتهم إليه، إلا أن الإمام
يحيى استثنى الاتفاق مع جاره الإدريسي مُعَلِّلاً ذلك بأنه كان قد عقد معه اتفاقًا؛
فغدر، (وحالف أعداء الله الطليان) ، وأما الإمام عبد العزيز السعود، فرغب إليَّ
أن أرسل إليه رسولاً بصيرًا عارفًا؛ ليشرح له هذا المشروع من الوجهة الشرعية
والسياسية؛ لإقناع أهل الحل، والعقد من قومه به - وقد أرسلت إليه رسولاً،
وحمَّلتُهُ صندوقًا من الكتب الدينية، وغيرها هدية للإمام، وفي أثناء ذلك استَعَرَت
نار الحرب العامة الكبرى، فتعذَّر وصول الرسول إلى نجد، وأخذ منه صندوق
الكتب في (بمبي) من ثغور الهند، أُخِذَ لأجل تفتيشه، ثم لم يعرف عنه شيء،
ولعلهم أحرقوه.
ثم قضت الحرب الكبرى بانقطاع المراسلة بيني، وبين أمراء العرب
المذكورين، وكان من أحداثها دخول أمير مكة الشريف الحسين بن علي في حلف
البريطانيين، وكنت قد بلغته مشروع الاتفاق الحلفي بين أئمة الجزيرة بمشافهة ولده
الشريف عبد الله في مصر أطلع طِلعَه فيه، وقد استحسنه، ووعد بإقناع والده به،
وكان من عواقبها أن صار حسين ملكًا سماه الإنكليز، وأحلافهم ملك الحجاز،
وسمى نفسه ملك العرب، وقد أظهرنا له الولاء؛ لأجل إقناعه بإتمام مشروع
الاتفاق الحلفي مع سائر الأمراء، فلما تعذر ذلك، وسار في الحجاز تلك السيرة
السوءى اضطررت إلى مقاومته بما علمه القراء، وغير القراء، وكان قد جدد
الدعوى إلى الطعن في دين الوهابية، وتنحل لنفسه دعوى الإمامة الرافضية
الباطنية، وأقامها في مقام التشريع الذي يراه إرثًا للهاشمية العلوية، فأريناه أن بني
عمه من أنصار السنة فيهم رماح، وكلنا له الصاع عدة أصواع.
ثم إنني عدت بعد الحرب إلى دعوة إمامي اليمن , ونجد إلى الولاء، وأفتيت
في أواخر سنة 1341 بوجوب إنقاذ الحجاز من إلحاد حسين بالظلم فيه، وجعله
قطرًا حرًّا حياديًّا بضمان العالم الإسلامي كله، وكتبت في ذلك مقالاً طويلاً نشر في
بعض الجرائد اليومية، وفي المنار (ج 8 م24) بينت فيه أن المخاطب بالقيام
بهذا الواجب أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية، وأن أولاها بذلك أقربها إلى الحجاز،
ومن جُمَلِهِ: (إن كلاًّ من إمام اليمن وسلطان نجد قادر على إنقاذ الحجاز من هذا
الرجل، فكيف إذا اجتمعا) ، ثم بينت سبب امتناع كل منهما، وأنه إن لم تفعل
الحكومات ذلك؛ فالواجب على العالم الإسلامي أن يسعى له بتأليف جمعية إسلامية
وضعنا لها نظامًا بمساعدة بعض الأصدقاء، ونشرناه في المنار.
ولم أكتف بالنشر بل سعيت سعيًا سريًّا لحمل الإمامين يحيى، وعبد العزيز
على الاشتراك والتعاون على ذلك، وإلا فليقم به أحدهما على انفراد.
ثم تصدى الثاني لأداء هذه الفريضة للأسباب الإسلامية العامة، والأسباب
الخاصة بنجد التي نشرها في العالم، ونقلناها في المنار، فوجب علينا تأييده فيها،
وهل يعقل أن نفتيه بافتراض هذا العمل عليه حتى إذا ما اصْطَلَى بناره، وشرع
يجاهد في سبيله بماله ورجاله، وانبرى المبتدعون، والمفسدون للطعن فيه وفي
قومه، نترك لهم الحبال على الغوارب، ولا نقوم بقسطنا من الجهاد الواجب، جهاد
القلم واللسان، وإقامة الحجة والبرهان؟ !
إنني لم أفضل ابن السعود على غيره من أمراء العرب في شيء من ذلك
السعي العام للعرب ولجزيرة العرب، ولا من هذا السعي الخاص بالحجاز
والإسلام، وقد كان رجائي في غيره أولاً أقوى من رجائي فيه، ثم كان ثنائي على
الإمام يحيى حميد الدين أكبر من ثنائي عليه، حتى قالت بعض الجرائد المصرية في
أثناء الخوض في مسألة الخلافة: إن صاحب المنار يدعو إلى الإمام يحيى، ويسعى
لتوسيد منصب الخلافة إليه. على أنني كنت أعتقد أن الإمام عبد العزيز ابن السعود
أرجى لخدمة الإسلام، وإعلاء شأن العرب إذا هو خرج من عزلته، وترك القبوع
في ربوع إمارته، وإنما كنت أشك في خروجه منها، كما كنت أشك في ميل الإمام
يحيى إلى تجاوز حدود اليمن إلا إلى عسير التي يعدها هو منها.
كان من عناية الله تعالى في ابن السعود أن استعمله وحده في إنقاذ حرمه،
وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ممن سمى نفسه المنقذ , وقضى الله أمرًا كان
مفعولاً، فلم يستجب لنا غيره من أمراء المسلمين وملوكهم، ولا من جماعاتهم،
ودهمائهم إلا أننا أسسنا الجمعية بمصر من رجال مختارين من أولي الكفاءة،
والكفاية علمًا، وعملاً، وهمةً، فنقَّحُوا نظامها في مجالسَ كثيرةٍ عقدوها لذلك،
وبتنا ننتظر سنوح الفرصة للعمل، فكفانا الله تعالى ذلك بهذا الرجل العظيم الذي
أنقذ الحجاز، وأمنه تأمينًا لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام، ثم ألف فيه
المؤتمر الإسلامي العام، وقد كان هذا المؤتمر أهم مقاصد جمعيتنا هذه، فلم نحتج
إلى استيكاف الأكف لجمع المال له، ولا لدعوة رجال الخافقين إليه، فقد أنفق هو
بسخائه، وجوده الواسع على إنشاء المؤتمر، وضيافة رجاله هم ومن كان مع
بعضهم من أهل وخدم منذ وصلوا إلى الحجاز إلى أن خرجوا منه ما لم يكن يتيسر
لنا جمع بعضه من العالم الإسلامي إلا في عدة سنين.
كيف لا أنصر ابن السعود، وأناضل خصومه من المبتدعين والخرافيين، وقد
فعل كل هذا، ويُرجَى أن يفعل ما هو أتم منه وأكمل؟ ! وهو ما أفنيت شبابي،
وكهولتي في الدعوة إليه، فإنني أدعو إلى مؤتمر إسلامي يعقد في مكة من زهاء
ثلاثين سنة، وهو من وسائل الإصلاح الذي أدعو إليه من التوحيد، وإقامة السنن،
وتقويض هياكل الوثنية والبدع، وتجديد إصلاح الإسلام، ومجد العرب، وقد أيقنا
بطول الاختبار، وبما ورد في دلائل النبوة من الأخبار، أن هذا الإصلاح والتجديد
لا يأتي إلا من الحجاز، وأن كل ما قمنا به من الدعوة إليهما لم يكن إلا تمهيدًا لتأييد
العالم الإسلامي لهما، فقد صح في الحديث: إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا
كما بدأ، وإنه يَأْرِزُ إلى الحجاز - وفي رواية في الصحيحين - إلى المدينة كما
تَأْرِزُ الحية إلى جحرها، وإنه يعقل بين المسجدين معقل الوعول من رؤوس الجبال.
إنني أشهد الله تعالى، وكل من يطلع على قولي هذا أنني أشعر في سريرتي،
وما يكن قلبي بتقصيرٍ في الثناء على هذا الرجل بالجهر بكل ما أعتقده، وما أرى
فيه من المصلحة، والنصيحة للمسلمين، وكم طالبتني نفسي في مجالسه العامة
الحافلة، التي حضرتها بعد صلوات الجمع بمكة المكرمة بإلقاء خطاب في شكره،
والثناء عليه كما فعل أمامي بعض علماء الهند، وفصحاء المصريين وغيرهم،
ولكنني كنت أستحي أن أقف مواقفهم، وإن كنت أجدر بها منهم، فقد أقمت بمكة
زهاء ثلاثة أشهر، ولم يسمع خطابتي، وربما كنت أقدر على البيان، وأعلم بما
يحسن بيانه بالحق من كل من سمعت، إذا كان من الدعوى والغرور المذمومين أن
أقول أكثر من ذلك، وما أبرئ نفسي من كراهة الاتهام بالتملق والتزلف أن يَعْلَقَ
ببعض النفوس الصغيرة، وأنا آمن أن يلوح في جانب من جوانب نفسه الكبيرة.
وجملة القول: إن مجلدات المنار السبعة والعشرين برهان على أنه لا يعقل أن
يكون ما كتبته في تأييد ابن السعود، والدفاع عنه لغرض منفعة دنيوية؛ لأنه عين
ما كنت أكتبه قبل قيامه بما نصرته فيه، وقبل علمي بوجوده أيضًا، وقد لقيت فيه
من الأذى ما يجهل أقرب الناس مني كل ظاهره، وباطنه عند الله تعالى وحده.
اضطررت إلى بيان هذا كله في فاتحة هذا المجلد تذكيرًا لقرائه بفصل من
فصول تاريخ المنار في الإصلاح على السنن الذي نتناوبه منذ أعوام، وتقوية
لعزيمة إخواني أنصار الكتاب والسنة، على أنني لا أريد بهذا التنصل، والتبرؤ
مما قيل بغير حق من أن مساعدة هذا الإمام، أو غيره من ملوك المسلمين،
وأمرائهم إيانا على علمنا في خدمة الملة، والأمة مما يقبح منهم فعله، أو يحرم
علينا قبوله، بل نحن من أحق الناس به، ولكن الإخلاص لله تعالى، ونزاهة
النفس، وتحليها بأدب الشرع، تحول دون استشرافنا له، بله السعي له، أو
التعريض به، وقد قال شيخ الصوفية الأكبر في مال السلاطين الذي يعدون من
شروط طريقتهم التنزه عنه:
هو عنده للمسلمين أمانة ... فإذا حباك فخذه إنك صاحبه
لا أقول هذا تعريضًا بطلب المساعدة من أحد، وإنما افترصت هذه المناسبة
للرد على جريدة من جرائد القاهرة التي جعلت هجيراها الطعن في علماء الدين،
واستكثار كل ما يأخذونه من ريع الأوقاف الخيرية مع العلم بأن ألوف الجنيهات من
أموال هذه الأوقاف ينفق في أعمال غير شرعية، فقد ذكرت هذه الجريدة أن شيخ
الأزهر قد أنفق زهاء ثلاثة آلاف جنيه في أعمال مؤتمر الخلافة كان منها لفلان من
العلماء كذا، ولفلان كذا من أول هذه الحركة (كما كان لفضيلة الأستاذ الورع الشيخ
رشيد رضا صاحب المنار ثلاثون جنيهًا حتى في الوقت الذي كان فيه بالمدنية
المنورة عند ابن السعود) .
أقول فيما يعننيي: إنني لم أكن في أول هذه الحركة كما قال، ولم أكن آخذ
شيئًا أيام وجودي في (مكة المكرمة) كما توهم، وإنما بعض المؤسسين لمؤتمر
الخلافة من العلماء كانوا قد دعوني إلى مشاركتهم فيه، فأبيت، ثم أقنعني بعضهم
بأنه يمكنني فيه خدمة الإسلام؛ فقبلت.
وقد دعيت بعد الدخول في مجلس المؤتمر إلى المساعدة على إنشاء مجلة له
تحريرًا، أو تصحيحًا، ونشرًا.
وهو ما تعد هذه المكافأة عليه نزرًا، ولولا أن قيل لي: إن هذه خدمة إسلامية
نعدها تبرعًا منك؛ لما رضيت بها، وقد كنت أعطى منذ بضع عشرة سنة ثلاثة
جنيهات من إدارة (الجريدة) مكافأة على كل مقالة من مقالات كلفني إياها مديرها،
وكنت أكتب المقالة منها في ساعة واحدة، ولم يكن لدى من الأعمال في ذلك الوقت
ربع ما لدي الآن منها، فهل يستكثر علي الآن زميلي صاحب البلاغ الأغر 30
جنيهًا في الشهر في مثل ما ذكرت؟
هذا، وإننا ندعو أهل العلم المخلصين إلى الكتابة إلينا بما يرون أننا أخطأنا فيه
من أمور الدين، أو مصلحة الأمة كما هو دأبنا في كل عام - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
__________(28/1)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تعدد الزوجات
وجدت بين أوراق شيخنا الأستاذ الإمام الفتاوى الآتية , فأحببت نشرها؛
لتصدي الحكومة المصرية لتقييد إباحة التعدد , وكثرة الكلام فيه وهي:
(السؤال الأول)
ما منشأ تعدد الزوجات في بلاد العرب (أو في الشرق على الجملة) قبل
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟
(ج) ليس تعدد الزوجات من خواص المشرق، ولا وحدة الزوجة من
خواص المغرب، بل في المشرق شعوب لا تعرف تعدد الزوجات كالتبت , والمغول،
وفي الغرب شعوب كان عندها تعدد الزوجات كالغولوا , والجرمانيين، ففي زمن
سيزار كان تعدد الزوجات شائعًا عند الغولوا، وكان معروفًا عند الجرمانيين في
زمن ناسيت، بل أباحه بعض البابوات لبعض الملوك بعد دخول الدين المسيحي إلى
أوربة كشرلمان ملك فرانسا، وكان ذلك بعد الإسلام [1] .
كان الرؤساء , وأهل الثروة يميلون إلى تعدد الزوجات في بلاد يزيد فيها عدد
النساء على عدد الرجال توسعًا في التمتع، وكانت البلاد العربية مما تجري فيها
هذه العادة لا إلى حد محدود، فكان الرجل يتزوج من النساء ما تسمح له , أو تحمله
عليه قوة الرجولية، وسعة الثروة للإنفاق عليهن , وعلى ما يأتي له من الولد.
وقد جاء الإسلام , وبعض العرب تحته عشر نسوة، وأسلم غيلان رضي
الله عنه، وعنده نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساك أربعة منهن ,
ومفارقة الباقيات، وأسلم قيس بن الحارث الأسدي وتحته ثمان نسوة؛ فأمره
بأن يختار منهن أربعًا، وأن يخلي ما بقي، فسبب الإكثار من الزوجات إنما هو
الميل إلى التمتع بتلك اللذة المعروفة , وبكثرة النساء، وقد كان العرب قبل البعثة
في شقاق , وقتال دائمين، والقتال إنما كان بين الرجال، فكان عدد الرجال ينقص
بالقتل , فيبقى كثير من النساء بلا أزواج، فمن كانت عنده قوة بدنية , وسعة في
المال كانت تذهب نفسه وراء التمتع بالنساء، فيجد منهن ما يرضي شهوته، ولا
يزال يتنقل من زوجة إلى أخرى ما دام في بدنه قوة، وفي ماله سعة، وكان العرب
ينكحون النساء بالاسترقاق، ولكن لا يستكثرون من ذلك، بل كان الرجل يأخذ
السبايا , فيختار منهن واحدة، ثم يوزع على رجاله ما بقي واحدة واحدة , ولم
يعرف أن أحدًا منهم اختار لنفسه عدة منهن، أو وهب لأحد رجاله كذلك دفعة واحدة.
***
(السؤال الثاني)
على أي صورة كان الناس يعملون بهذه العادة في بلاد العرب خاصة؟
(ج) كان عملهم على النحو الذي ذكرته: إما بالتزوج واحدة بعد واحدة،
أو بالتسري , وأخذ سرية بعد أخرى، أو جمع سرية إلى زوجة، أو زوجة إلى
سرية، ولم يكن النساء إلا متاعًا للشهوة لا يرعى فيهن حق، ولا يؤخذ فيهن بعدل،
حتى جاء الإسلام؛ فشرع لهن الحقوق , وفرض فيهن العدل.
***
(السؤال الثالث)
كيف أصلح نبينا صلى الله عليه وسلم هذه العادة , وكيف كان يفهمها؟
(ج) جاء صلى الله عليه وسلم , وحال الرجال مع النساء كما ذكرنا لا فرق
بين متزوجة وسرية في المعاملة، ولا حد لما يبتغي الرجل من الزوجات، فأراد
الله أن يجعل في شرعه صلى الله عليه وسلم رحمةً بالنساء , وتقريرًا لحقوقهن،
وحكمًا عدلاً يرتفع به شأنهن، وليس الأمر كما يقول كتبة الأوربيين: (إن ما
كان عند العرب عادة جعله الإسلام دينًا) ، وإنما أخذ الإفرنج ما ذهبوا إليه من سوء
استعمال المسلمين لدينهم , وليس له مأخذ صحيح منه.
حكم تعدد الزوجات جاء في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ
تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) .
كان الرجل من العرب يكفل اليتيمة , فيعجبه جمالها ومالها , فإن كانت تحل
له؛ تزوجها , وأعطاها من المهر دون ما تستحق , وأساء صحبتها , وقتَّر في
الإنفاق عليها , وأكل مالها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك , وشدد عليهم في الامتناع
عنه، وأمرهم أن يؤتوا اليتامى أموالهم، وحذرهم من أن يأكلوا أموالهم، ثم قال
لهم: إن كان ضعف اليتيمات يجركم إلى ظلمهن , وخفتم ألا تقسطوا فيهن إذا
تزوجتموهن , وأن يطغى فيكم سلطان الزوجية , فتأكلوا أموالهن , وتستذلوهن،
فدونكم النساء سواهن , فانكحوا ما يطيب لكم منهن من ذوات جمال ومال من واحدة
إلى أربع، ولكن ذلك على شرط أن تعدلوا بينهن، فلا يباح لأحد من المسلمين أن
يزيد في الزوجات على واحدة إلا إذا وثق بأن يراعي حق كل واحدة منهن , ويقوم
بينهن بالقسط , ولا يفضل إحداهن على الأخرى في أي أمر حسن يتعلق بحقوق
الزوجية التي تجب مراعاتها، فإذا ظن أنه إذا تزوج فوق الواحدة لا يستطيع العدل؛
وجب عليه أن يكتفي بواحدة فقط، فتراه قد جاء في أمر تعدد الزوجات بعبارة
تدل على مجرد الإباحة على شرط العدل، فإن ظن الجور؛ منعت الزيادة على
الواحدة، وليس في ذلك ترغيب في التعدد , بل فيه تبغيض له، وقد قال في الآية
الأخرى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء:
129) فإذا كان العدل غير مستطاع , والخوف من العدل يوجب الاقتصار على
الواحدة؛ فما أعظم الحرج في الزيادة عليها! فالإسلام قد خفف الإكثار من
الزوجات , ووقف عند الأربعة، ثم إنه شدد الأمر على المكثرين إلى حد لو عقلوه
لما زاد واحد منهم على الواحدة.
وأما المملوكات من النساء؛ فقد جاء حكمهن في قوله تعالى: {أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) ، وهو إباحة الجمع بينهن، وإن لم يكن من الرجل
عدل فيهن؛ لأن المملوكة لا حق لها، ولمالكها أن يتركها للخدمة، ولا يضاجعها
ألبتة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز للرجل أن يأخذ من الجواري ما يشاء
بدون حصر، ولكن يمكن لفاهم أن يفهم من الآية غير ذلك، فإن الكلام جاء
مرتبطًا بإباحة العدد إلى الأربعة فقط، وإن الشرط في الإباحة التحقق من العدل،
فيكون المعنى أنه إذا خيف الجور؛ وجب الاقتصار على الواحدة من الزوجات، أو
أخذ العدد المذكور مما ملكت الإيمان، فلا يباح من النساء ما فوق الأربع على
حال، ويباح الأربع بدون مراعاة للعدل في المملوكات دون الزوجات؛ لأن
المملوكات ليس لهن حقوق في العشرة على ساداتهن، إلا ما كان من حقوق العبد
على سيده.
وحق العبد على سيده أن يطعمه، ويكسوه، وأن لا يكلفه من العمل في
الخدمة ما لا يطيق، أما أن يمتعه بما تتمتع به الزوجات فلا. [2]
وقد ساء استعمال المسلمين لما جاء في دينهم من هذه الأحكام الجليلة ,
فأفرطوا في الاستزادة من عدد الجواري، وأفسدوا بذلك عقولهم , وعقول ذراريهم
بمقدار ما اتسعت لذلك ثروتهم.
أما الأسرى اللاتي يصح نكاحهن , فهن أسرى الحرب الشرعية التي قصد بها
المدافعة عن الدين القويم , أو الدعوة إليه بشروطها , ولا يكن عند الأسر إلا غير
مسلمات، ثم يجوز بيعهن بعد ذلك , وإن كن مسلمات، وأما ما مضى المسلمون
على اعتياده من الرق , وجرى عليه عملهم في الأزمان الأخيرة , فليس من الدين
في شيء , فما يشترونه من بنات الجراكسة المسلمين اللاتي يبيعهن آباؤهن ,
وأقاربهن طلبًا للرزق، أو من السودانيات اللاتي يتخطفهن الأشقياء السلبة المعرفون
(بالأسيرجية) ؛ فهو ليس بمشروع , ولا معروف في دين الإسلام , وإنما هو من
عادات الجاهلية، لكن لا جاهلية العرب، بل جاهلية السودان , والجركس.
وأما جواز إبطال هذه العادة - أي: عادة تعدد الزوجات - فلا ريب فيه.
***
(السؤال الرابع)
هل يجوز تعدد الزوجات إذا غلبت مفسدته؟ [3]
(ج) أما (أولاً) ؛ فلأن شرط التعدد هو التحقق من العدل , وهذا الشرط
مفقود حتمًا , فإن وجد في واحد من الميليون , فلا يصح أن يتخذ قاعدة؛ ومتى
غلب الفساد على النفوس , وصار من المرجح أن لا يعدل الرجال في زوجاتهم؛
جاز للحاكم , أو للعالم [4] أن يمنع التعدد مطلقًا مراعاةً للأغلب.
(وثانيًا) قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد , وحرمانهن من
حقوقهن في النفقة , والراحة , ولهذا يجوز للحاكم , وللقائم على الشرع أن يمنع
التعدد دفعًا للفساد الغالب.
(وثالثًا) قد ظهر أن منشأ الفساد , والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم ,
فإن كل واحد منهم يتربى على بغض الآخر , وكراهته , فلا يبلغ الأولاد أشدهم
إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر , ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا
بيوتهم بأيديهم , وأيدي الظالمين، ولهذا يجوز للحاكم , أو لصاحب الدين أن يمنع
تعدد الزوجات والجواري معًا؛ صيانةً للبيوت عن الفساد.
نعم، ليس من العدل أن يمنع رجل لم تأت زوجته منه بأولاد أن يتزوج
أخرى؛ ليأتي منها بذرية، فإن الغرض من الزواج التناسل , فإذا كانت الزوجة
عاقرًا , فليس من الحق أن يمنع زوجها من أن يضم إليها أخرى.
وبالجملة فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلا
لضرورة تثبت لدى القاضي , ولا مانع من ذلك في الدين ألبتة , وإنما الذي يمنع
ذلك هو العادة فقط اهـ.
(المنار)
هذا نص الفتوى , وهي مبنية على قاعدة جواز منع كل مباح ثبت
ضرر استعماله لدى أولي الأمر، ومنه منع حكومة مصر لصيد بعض الطيور التي
تأكل حشرات الزرع؛ فيسلم من الهلاك، ومنع ذبح عجول البقر أحيانًا للحاجة إليها
في الزراعة مع قاعدة إعطاء الفساد الغالب حكم العام , ثم استثنى من منع تعدد
الزوجات ما كان لغرض شرعي صحيح , وهو طلب النسل.
أقول: ومثله ما كان لضرورة أخرى تثبت لدى الحاكم الشرعي، وهذه
الضرورات لا يسهل حصرها في عدد معين.
ومن أظهرها: أن تصاب الزوجة الأولى بمرض يحول دون الاستمتاع الذي
يحصل به الإحصان، ومنها وصولها إلى سن اليأس مع إمكان النسل منه،
فالإحصان المانع من العنت - أي: اندفاع الطبع إلى الزنا - من أغراض الزواج
الشرعية. ومفاسد الزنا ومضاره أكبر من مفاسد تعدد الزوجات ومضاره؛ فإنه
يولد الأمراض , ويقلل النسل , ويوقع العداوة بين الأزواج، ويفسد نظام البيوت ,
ويضيع الثروات، وإنما أباح الإسلام التعدد المعين بشرط إرادة العدل، والقدرة
على النفقة لدفع مفاسد، وتقرير مصالح متعددة جعلته من الضرورات الاجتماعية
في أمة ذات دولة وسلطان فرض عليها تنفيذ شريعتها، وحماية بيضتها، وتدين
الله بالفضيلة، فهي تحرم الزنا، وهي عرضة لأن يقل فيها الرجال , ويكثر النساء
بالحروب وغيرها حتى يكون من مصلحتهن أن يكفل الرجل اثنتين , أو أكثر
منهن.
وما ذكره رحمه الله من مفاسد التعدد ليس سببه التعدد وحده لذاته، بل يضم
إليه فساد الأخلاق، وضعف الدين، وقد كان يعرف من ذلك ما يقل أن يعرفه غيره
من أهل البصيرة والخبرة لشدة غيرته , وعنايته بالإصلاح، وهو الذي كان يؤلم
قلبه , ويذهله عما لهذه الضرورة الاجتماعية من الفوائد التي أشرنا إلي أهمها.
ولعمري إن ما عرفناه نحن هنا من قلة احترام ميثاق الزوجية، ومن كثرة
تعدد الزوجات، وكثرة مفاسده لا نعرف له نظيرًا في غير هذه البلاد المصرية من
بلاد الإسلام، وقد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير آية النساء بعد أن أوردنا
ما قاله شيخنا في تفسيرها في درسه , فليراجعه في الجزء الرابع من التفسير من
شاء أن يزداد بيانًا في المسألة.
***
حكمة تعدد أزوج النبي صلى الله عليه وسلم:
جاءنا السؤال الآتي من الباحثة الفاضلة صاحبة الإمضاء من طنطا مع كتاب
قالت فيه: إنها عرضته على الأستاذ الشيخ محمود الغراب المحامي؛ فأجابها
بجواب ارتاحت له بعض الارتياح , وتود أن تزداد علمًا , وبصيرةً في موضوعه ,
فأرسلته إلينا مع الجواب؛ لننشره في المنار , ونعلق عليه بما عندنا في موضوعه ,
وهذا نص السؤال , ويليه الجواب:
سيدي الأستاذ:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: لما كان أساس ديننا القويم اليقين؛ فقد أباح
لنا البحث والسؤال، بل وحثنا عليهما، ولما أعرفه عنكم من وافر العلم , وسعة
الاطلاع؛ أتقدم إلى فضيلتكم بسؤال أرجو التكرم بالإجابة عليه؛ ليرتاح ضميري ,
ولكم مني وافر الشكر , ومن الله عظيم الأجر، أما السؤال فهو:
ما هي الحكمة في أن الله تعالى أباح للنبي عليه السلام التزوج بأكثر من
أربع؟
إن عللنا ذلك بكثرة النسل؛ فإنه لم يرزق من بعضهن بولد، وإن عللناه بأن
الله أراد أن يمتعه (ولا مؤاخذة) ؛ قلنا: إن مقام النبوة أرفع من ذلك , وإني
أعرف سبب زواجه بواحدة كانت زوج شخص تبناه؛ إذ جاء ذكر زواجها في القرآن
الكريم {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37) إلخ.
وأما غيرها فلا أعرف سبب زواجه بهن وحكمته، وأنى لمثلي أن تدركه؟
وهذا النوع من البحث لا يدركه إلا العلماء والباحثون , فلعلكم مجيبون ببيان وافٍ ,
ولفضيلتكم عظيم احترامي.
بهيجة ضيا
(جواب الأستاذ الشيخ محمود الغراب)
سيدتي المحترمة
سألت عن مسألة كثر فيها الكلام , وزلَّت فيها أقدام، وهي بين قائل بأنه
عليه الصلاة والسلام خُصَّ من الله بإباحة الزيادة على أربع في الزوجات، وأن ذلك
ثبت له إلى وفاته، وبين مستنكر لذلك قائلاً: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم شرع
للناس ما لم يعمل به في خاصة نفسه.
ولكني يا سيدتي مؤمن على كل حال بأن هذا الرسول الذي قال فيه الكبير
المتعال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) , والذي قال فيه: {مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:
2-4) كل عمل يصدر منه لا يكون إلا عن حكمة علمناها , أو عجزنا عن إدراكها،
إلا أن طبيعة الإنسان تأبى إلا أن تعرف سر الكائنات، فمنهم من يصل , ومنهم
من يعجز، وهذا الفريق منه المسَلِّمُ بعجزه، ومنه من يلقي تبعة جهله على غيره،
وليس في البحث لقصد العلم ما يعد غَضَاضةً على النفس.
ولكن نفوسًا دأبها الشك حتى في أسمى المقامات، وأعلى طبقات المخلوقات،
فتلك لا يريحها بيان، ولا يقنعها إنسان، فمن العبث الاسترسال معها في جدل.
وأنت بحمد الله ذات نفس مطمئنة , فما وصلت إلى تعرف أسراره؛ كان لك
أجر اجتهاده، وما لم تصلي إليه , وسلمت فيه بالعجز؛ كان لك حسن الاعتقاد أكبر
شفيع.
هذه المسألة يا سيدتي كل ما أعلمه فيها عمن تعرض لهذا البحث أنها من
خصوصياته عليه السلام، بمعنى أنه عليه السلام بعد أن شرع قصر الرجال على
أربع من النساء، كان يحل له التزوج من غير أن يتقيد بهذا العدد، ولكن يا سيدتي
من تتبع أصل التشريع في ذلك؛ يرى أن النبي عليه السلام كان مضيقًا عليه في
هذا أكثر من أمته، ولم يكن له تشريع خاص؛ لقصد التوسعة عليه في هذا الأمر.
إذ من المعلوم أنه قبل أن يشرع تحديد عدد الزوجات بأربع؛ كان يحل لكل
رجل أن يجمع في عصمته من النساء ما شاء من العدد، لا فرق بين نبي , وغيره،
بل الكل كان في ذلك سواء، فلما جاء التشريع الخاص بالعدد؛ أمر النبي صلى
الله عليه وسلم مَن عنده زيادة على أربع أن يمسك أربعًا , ويفارق الباقي، وشرع
الطلاق، وحل استبدال المرأة بغيرها، أما بالنسبة للنبي عليه السلام؛ فجاء
التخيير من الله تعالى لزوجاته: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:
28-29) فاخترن الطرف الثاني؛ فأكرمن بأن اعتبرن أمهات المؤمنين، وقصر
عليه السلام عليهن فقط من بين نساء المؤمنين كزوجات، وحرم عليه طلاقهن،
ومنع من استبدالهن بغيرهن، وفي ذلك تضييق شديد بالنسبة لما أجيز لأمته، وفي
ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ
وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ
خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (الأحزاب:
50) {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (الأحزاب: 52) .
وكان في عصمته إذ ذاك تسع من النساء بقين في عصمته إلى أن لحق
بالرفيق الأعلى، ولم يمسك النبي عليه السلام أربعًا , ويفارق من عداهن، كما أمر
غيره بذلك لحكمة ظاهرة , وهي أن الله اعتبرهن أمهات المؤمنين؛ فحرمن على
الغير. فلو جاز طلاقهن , وصرن لا إلى أزواج؛ لكان في ذلك حرج شديد يأباه
الشرع، ولأنهن لما خيرن , واخترن الله ورسوله؛ حرم طلاقهن، ولو أن إحداهن ,
أو كلهن اخترن فراقه عليه السلام؛ لوجب عليه فراقها قبل أن يشرع في حقهن
هذا التشريع الخاص بهن، فالخصوصية في الحقيقة إنما كانت لأزواجه عليه السلام
لا له، لما قدمنا من الحكمة.
فالحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يتزوج بأكثر من أربع
بعد التشريع الخاص بذلك، ولم يكن عليه السلام ممن يرغبون في الإكثار من
الزوجات لغرض الرجل من المرأة، يدلك على ذلك أنه اقترن بالسيدة خديجة أولى
زوجاته، وكانت ممن يولد مثله عليه السلام لمثلها، وقضى معها زهرة شبابه حتى
شغل بأمر الوحي , والتبليغ، وكان زواجه بها عن رغبة منها هي , ولو أراد
غيرها؛ لكان.
ولكن ظروف الدعوة إلى الدين قضت بأن يصاهر كثيرًا، وبالأخص كان
أصحابه يعرضون عليه بناتهم كأبي بكر لغرض أن ينال بمصاهرته أكبر شرف،
وكان النسب والمصاهرة عند العرب من دواعي النصرة والحماية، ولم يكن ذلك
محظورًا؛ فلم ير مانعًا من أن يحقق هذه الرغبات، حتى جاء التشريع الخاص بذلك،
فكان هو في حالة لا تعتبر تيسيرًا بالنسبة لمن عداه.
هذا هو رأيي يا سيدتي أقدمه بكل احترام , وأرجو الله تعالى أن أكون قد
وفقت فيما بحثت، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود الغراب
(المنار)
سبق لنا بيانٌ لحكمة تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم بالإجمال والتفصيل،
وسنعود إلى تلخيصه مع زيادة بعض الفوائد في جزءٍ تالٍ إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: كان شرلمان معاصراً للخليفة المهدي وابنه الرشيد , وحارب العرب؛ فانكسر.
(2) هذا هو المنصوص في فقه المذاهب المشهورة ولكن قالوا: بأن ما يجب للزوجة يستحب للسرية، وفي كتب الحنابلة قول بأنه يجب على السيد أن يحصن مملوكه ومملوكته بالزواج بشرطه.
(3) ذكر السؤال الرابع ليس من الأصل الذي عندنا , بل زدناه للإيضاح , وكونه مقصودًا لذاته.
(4) المنار: أي جاز للحاكم حكمًا , وللعالم إفتاءً.(28/29)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استقلال مملكة ابن السعود
(س1) من صاحب الإمضاء في (بونس أيرس) عاصمة الأرجنتين:
جناب حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا الأفخم، من بعد التحية والسلام:
أرجو الإفادة على سؤالي الآتي , ولكم منا مزيد الثناء بذلك: هل مملكة ابن سعود
مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا في كل شؤونها الداخلية والخارجية , أم لا؟ وإذ لم كانت ,
من هي الدولة الوصية عليها؟ والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... الداعي سعيد يوسف مراد
... ... ... ... ... ... ... ... من شركة مراد إخوان
(ج) إن مملكة ابن السعود مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا، لا وصاية عليها
لدولة من الدول، وليس فيها موظف أجنبي إلا بعض قناصل للدول التي لها رعايا
من المسلمين في جدة من عهد حكم الترك، وقد سئلت مجلة المقتطف هذا السؤال ,
فأجابت بمثل هذا الجواب، ومن الأدلة على فسخ الاتفاق القديم مع الإنكليز الخاص
بنجد أنه أخذ بلاد الحجاز بالسيف , وعقد معاهدة سابقة مع السيد الإدريسي , ثم
معاهدة أخرى جعلت بلاد الإدريسى كلها تحت حمايته.
__________(28/39)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البناء على القبور
ومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين
(س2) لصاحب الإمضاء في (أوغاندة) .
إلى حضرة جلالة (؟) الأستاذ الكامل الشيخ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى , وسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛
أما بعد: فهذا سؤال موجه لحضرتكم الشريفة عن البناء على القبور من
كتاب تنوير القلوب لصاحبه محمد أمين الكردي نسبًا النقشبندي مذهبًا بصحيفة
213 ما نصه: (ويحرم البناء على المقبرة الموقوفة إلا لنبي , أو شهيد , أو عالم ,
أو صالح) ، هل المراد من فحوى كلامه هنا الحوش المستدير على قبر النبي، أو
الشهيد، أو العالم، أو الصالح كما يفيده استثناؤه، أو نفس البناء عليه بالجصِّ ,
والآجر؟ وعلى كلا الحالين لأي شيء يحل له ويحرم لما عداه؟ وهل يحل أيضًا لما
عدا قبر غير النبي , أو العالم فيما إذا كانت المقبرة غير موقوفة؟ أليس منع البناء
على المقابر مطلقًا كما علم بالضرورة؟ ومع هذا إنكم صرحتم بعدم الجواز في عدة
مواضع بمجلتكم الغراء، أفيدونا بالجواب , ولكم الأجر والثواب , والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مقبل فاضل
... ... ... ... ... ... ... ... ... أوغاندة، مبالي
(ج) إن كلام هذا الكردي شرع لم يأذن به الله، ولا أصل له في كتاب
الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لنا أن نبحث عن مراده منه،
بل هو مردود عليه، وأنتم في غنى عنه بما نشرناه في المنار مرارًا من الأحاديث
الصحيحة في تحريم البناء على قبور الأنبياء والصالحين، ويؤخذ منها أن قبورهم
هي المقصودة بالحظر أولاً وبالذات؛ لافتتان الأولين والآخرين بها، وعبادتها
بالتعظيم والطواف والدعاء، وغير ذلك كالحديث المتفق عليه في أهل الكتاب:
(أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا , أولئك شرار الخلق
عند الله) , وعند ابن سعد: (إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم
مساجد , فلا تتخذوا القبور مساجد , فإني أنهاكم عن ذلك) , وسواء فيما بني على قبر
النبي , أو الصالح , أكان مسجدًا , أم غير مسجد؟ فإن مقصد الشارع سد ذريعة
تعظيم قبورهم , أو تعظيمهم بما لا يبيحه الشرع من الدعاء والنذر , وأمثال ذلك مما
هو خاص بالله تعالى كالحلف , أو خاص ببيته كالطواف.
وما ذكره الفقهاء من تحريم البناء في المقبرة المسبلة، فله مدرك آخر
يشمل الصالح والطالح، وهو تصرف الإنسان في الوقف بغير ما وقف عليه،
ومثله التصرف في ملك غيره كما هو ظاهر.
__________(28/39)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما قبله)
مذهب عثمان (رضي الله عنه) في قصر الصلاة:
وأما إتمام عثمان , فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول، لا على ما لم
يثبت عنه , فقوله: (إنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة، وإما لجباية، وإما
لجَرِيمٍ يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو) ،
وقوله بين فيه مذهبه، وهو: أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية، أو
مَصْرٍ إلا إذا كان خائفًا بحضرة عدو، وإنما يقصر من كان شاخصًا؛ أي: مسافرًا،
وهو الحامل للزاد , والمزاد؛ أي: للطعام والشراب، والمزاد: وعاء الماء،
يقول: إذا كان نازلاً مكانًا فيه الطعام والشراب؛ كان مترفهًّا بمنزلة المقيم، فلا
يقصر؛ لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان، وهذا لا تلحقه مشقة،
فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد، وللخائف.
ولما عمرت مِنَى , وصار بها زاد ومزاد؛ لم ير القصر بها لا لنفسه، ولا
لمن معه من الحاج، وقوله في تلك الرواية: (ولكن حدث العام) لم يذكر فيها ما
حدث , فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب ,
وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع، فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه
الزاد والمزاد أربعًا، وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة؛ فيكون هذا
أيضًا موافقًا، فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد، وهو لا يرى القصر لمن
كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا؛ فجميع ما ثبت في هذا
الباب من عذره يصدق بعضه بعضًا.
وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم أعمر من منى في زمن عثمان , فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه
وسلم في عمرة القضية، ثم في غزوة الفتح، ثم في عمرة الجعرانة كان خائفًا من
العدو، وعثمان يجوِّز القصر لمن كان خائفًا , وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد
والمزاد , فإنه يجوِّزه للمسافر , ولمن كان بحضرة العدو، وأما في حجة الوداع ,
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنًا لكنه لم يكن نازلاً بمكة , إنما كان نازلاً
بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه، فلم يكونوا نازلين بدار إقامة، ولا بمكان فيه
الزاد والمزاد.
وقد قال أسامة: أين ننزل غدًا؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك
لنا عقيل من دار؟ ! ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر. وهذا المنزل
بالأبطح بين المقابر ومنى.
وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها: أنها إنما تتم؛ لأن القصر
لأجل المشقة , وأن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في
جنسه وفي قدره , فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها.
وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر، مع أن عثمان قد خالفه علي ,
وابن مسعود , وعمران بن الحصين , وسعد بن أبي وقاص , وابن عمر , وابن
عباس , وغيرهم من علماء الصحابة، فروى سفيان بن عيينة , عن جعفر بن
محمد , عن أبيه قال: اعتل عثمان - وهو بمنى - فأتى علي، فقيل له: صل
بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله ركعتين. قالوا: لا إلا صلاة
أمير المؤمنين - يعنون أربعًا - فأبى , وفي الصحيحين عن ابن مسعود ... [1]
***
(الخلاف في جواز تمام الرباعية في السفر)
وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: (أحدهما) : إن ذلك
بمنزلة صلاة الصبح أربعًا، وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف , وهو مذهب
أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة: إذا جلس مقدار
التشهد؛ تمت صلاته، والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد
مقدار التشهد؛ بطلت صلاته ومذهب ابن حزم , وغيره: إن صلاته باطلة، كما لو
صلى عندهم الفجر أربعًا.
وقد روى سعيد في سننه , عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس:
(من صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين) ، قال ابن حزم: وروينا
عن عمر بن عبد العزيز , وقد ذكر له الإتمام في السفر لمن شاء , فقال: كلا،
الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما. وحجة هؤلاء أنه: قد ثبت أن
الله إنما فرض في السفر ركعتين، والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب , ولا سنة،
وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى أربعًا , أو أقر من صلى
أربعًا , فإنه كذب.
وأما فعل عثمان , وعائشة , فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض
الأسفار دون بعض، كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد، ثم
قد خالفهما أئمة الصحابة , وأنكروا ذلك.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة تصدق الله بها عليكم ,
فاقبلوا صدقته) , فأمر بقبولها , والأمر يقتضي الوجوب.
ومن قال: يجوز الأمران؛ فعمدتهم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:
101) قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: {وَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (النساء: 102) , وقوله: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة: 236) , ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم
من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها، وبما روي من أنه فعل ذلك ,
واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة , فأتموا خلفه , وهذه كلها
حجج ضعيفة.
أما الآية , فنقول: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان
يصلي في السفر ركعتين , وكذلك أبو بكر , وعمر بعده، وهذا يدل على أن
الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله ,
وهو أفضل من غيره، لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه،
ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبًّا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورًا به أمر إيجاب،
وقد قال تعالى في السعي: {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} (البقرة: 158) , والطواف بين الصفا والمروة هو: السعي المشروع
باتفاق المسلمين، وذلك إما ركن , وإما واجب , وإما سنة، وأيضًا فالقصر - وإن
كان رخصة استباحة المحظور - فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر، والتيمم
لمن عدم الماء، ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في
الآية ثلاثة أقوال: قيل: المراد به قصر العدد فقط، وعلى هذا فيكون التخصيص
بالخوف غير مفيد، (والثاني) : أن المراد به قصر الأعمال , فإن صلاة الخوف
تقصر عن صلاة الأمن , والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف
جائزة حضرًا وسفرًا , والآية أفادت القصر في السفر، (والقول الثالث) - وهو
الأصح -: أن الآية أفادت قصر العدد , وقصر العمل جميعًا، ولهذا علق ذلك
بالسفر والخوف , فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف؛ أبيح القصر الجامع لهذا
ولهذا، وإذا انفرد السفر؛ فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف؛ فإنما يفيد قصر
العمل.
ومن قال: إن الفرض في الخوف والسفر ركعة. كأحد القولين في مذهب
أحمد , وهو مذهب ابن حزم، فمراده: إذا كان خوف وسفر، فيكون السفر والخوف
قد أفاد القصر إلى ركعة، كما روى أبو داود الطيالسي، ثنا المسعودي هو عبد الرحمن
ابن عبد الرحمن بن عبد الله، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله
عن الركعتين في السفر: أقصرهما؟ قال جابر: (لا، فإن الركعتين في السفر ليستا
بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال) .
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان
نبيكم في الحضر أربعًا , وفي السفر ركعتين , وفي الخوف ركعة) قال ابن حزم:
ورويناه أيضًا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة.
قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة ,
وإن شاء ركعتين؛ لأنه جاء في القرآن بلفظ: {لاَ جُنَاحَ} (النساء: 102) ، لا
بلفظ الأمر والإيجاب، وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط ,
ومرة ركعتين , فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر.
وأما صلاة عثمان , فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه , ومع هذا فكانوا
يصلون خلفه؛ بل كان ابن مسعود يصلي أربعًا وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر.
وكان ابن عمر إذا انفرد صلى ركعتين.
وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعًا مكروهة عندهم , ومخالفة للسنة، ومع
ذلك فلا إعادة على من فعلها، وإذا فعلها الإمام؛ اتبع فيها؛ وهذا لأن صلاة المسافر
ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن
الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع , فقال: (صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة
الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر
على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى) . رواه أحمد والنسائي من حديث
عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن كعب بن عجزة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد
ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي [2] عن عبد الرحمن، فهذه الأربعة ليست من جنس
الفجر.
ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلي ركعتين تارة , ويصلي أربعًا أخرى، ومن
فاتته الجمعة؛ إنما يصلي ركعتين، وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة ,
وجمهور العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(من أدرك ركعة من الصلاة , فقد أدركها) وإذا حصلت شروط الجمعة؛ خطب
خطبتين , وصلى ركعتين، فلو أنه خطب , وصلى الظهر أربعًا؛ لكان تاركًا للسنة،
ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعًا، ولهذا يجوز للمريض والمسافر , والمرأة ,
وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعًا أن يأتم به في الجمعة؛
فيصلي ركعتين، فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين , وله أن يأتم بمقيم , فيصلي
خلفه أربعًا , فإن قيل: الجمعة يشترط لها الجماعة , فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف
حكم المؤتم وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي , وطائفة من أصحاب أحمد، قيل لهم:
اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، والأقوى أنه
شرط مع القدرة، وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة , فلزمه
اتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل: فللمسافرين أن يصلوا جماعة، قيل: ولهم أن
يصلوا يوم الجمعة جماعة , ويصلوا أربعًا، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه
استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعًا: ركعتين للسنة، وركعتين لكونهم لم
يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة، وصلاة العيدين تفعل تارة اثنتين،
وتارة أربعًا، كصلاة المسافر، بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة،
فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعًا , ويصلون خلفه، كما في حديث
سلمان , وحديث ابن مسعود , وغيره مع عثمان، ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي
الفجر أربعًا؛ لما استجازوا أن يصلوا أربعًا، كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر
أربعًا.
ومن قال: إنهم لما قعدوا قدر التشهد؛ أدوا الفرض , والباقي تطوع. قيل له:
من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضًا فإن
ذلك ليس بمشروع، فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين، بل قد أنكر النبي
صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة، وقال: الصبح أربعًا. وقد
صلى قبل الإمام، فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة؟ ! وقد ثبت في الصحيح أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام ,
أو قيام.
وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة , وغيرها بصلاة تطوع،
فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر , إن كان لا يجوز إلا ركعتان بصلاة
تطوع؟ ! وأيضا فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلى أربعًا؟ كما ثبت
ذلك عن الصحابة , وقد وافق عليه أبو حنيفة , وأيضًا فيجوز أن يصلي المقيم أربعًا
خلف المسافر ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم , وخلفاؤه يفعلون ذلك ,
ويقولون: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سفر) .
وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم , فإنه قد سلم جماهير
العلماء أن يصلي هذا خلف هذا، كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة , وليس
هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر.
وأما من قال: إن المسافر فرضه أربع , وله أن يسقط ركعتين بالقصر.
فقوله مخالف للنصوص , وإجماع السلف والأصول، وهو قول متناقض , فإن
هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل , ولا إلى نظيره، وهذا يناقض
الوجوب، فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجبًا على العبد , ومع هذا لا يلزمه فعله، ولا
فعل بدله , ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط، وهذا
الذي يدل عليه كلام أحمد , وقدماء الصحابة , فإنه لم يشترط في القصر نية , وقال:
لا يعجبني الأربع، وتوقف في إجزاء الأربع.
ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية. وإنما هذا من قول
الخرقي , ومن اتبعه، ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك، قاله جماهير
العلماء، وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره , بل والأثرم ,
وأبي داود , وإبراهيم الحربي , وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر، ولا
في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين , فإذا أتى بهما؛ أجزأه ذلك، سواء نوى القصر،
أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك , وأبي حنيفة , وعامة السلف , وما علمت
أحدًا من الصحابة , والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر , ولا في جمع، ولو
نوى المسافر الإتمام؛ كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعًا؛ كان ذلك
مكروهًا كما لم ينوه.
ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ,
ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه , وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن
المأمومين , أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة
ركعتين , وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا معه يحجون معه , وكثير
منهم لا يعرفون صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد،
لا سيما النساء الذين صلوا معه، ولم يأمرهم بنية القصر , وكذلك جمع بهم بعرفة ,
ولم يقل لهم: إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: ههنا بياض بالأصل , والمروي فيهما عنه بهذه المسالة أنه قيل له في منى: إن عثمان صلى بالناس أربعاً , فاسترجع , وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين , وصليت مع أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بمنى ركعتين , وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين , فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
(2) كذا والصواب اليامي، قال في تقريب التهذيب: زبيد بموحدة مصغر ابن الحارث أبو عبد الله الكريم بن عمرو بن كعب اليامي بالتحتانية، أبو عبد الرحمن الكوفي ثقة ثبت عابد من السادسة مات سنة ثنتين وعشرين , أو بعدها.(28/41)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
يتشابه مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فيما فشا فيهما من الجهل والبدع
والخرافات التي أضعفت جميع شعوب الأمة، ويتشابهان أيضا فيما يشعر به العقلاء
السليمو الفطرة من الحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يتوقف عليه الإصلاح
الاجتماعي والسياسي، مع بقاء هداية الإسلام جامعة لهذه الشعوب مميزة، كالفصل
المنطقي المميز للنوع دون أنواع جنسه القريب.
ولدينا من مواد المجلد الثامن والعشرين من المنار رسالتان طويلتان في
موضوع الإصلاح في المغرب الأقصى: إحداهما لأستاذ من شيوخه، والأخرى
لسائح تغلغل في تلك البلاد، وهما ممن يرجع بهداية الدين إلى مذهب السلف
الصالح في العصر الأول، ويُعَوِّل في المدنية وعزة الأمة على أحدث فنون العصر،
ونظمه الملائمة لتلك الهداية، وإننا ننشرهما بالتدريج للتعاون بين الملوين،
وتبادل الشعور الذي تخفق له قلوب الأمة في الخافقين. ونبدأ بالأولى وهي:
نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سابقًا
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنِيَ المسلمون في جميع بقاع الأرض بفئة ضالة تقمصت الإسلام على
ظهرها، وأما قلوبها فقد ملئت عليه حقدًا وحسدًا حملاها على النكاية به، والعمل على
نقضه من أساسه، ولولا أن الإسلام قوي بنفسه وبتعاليمه، ولولا أنه نور من نور الله
لا ينطفئ أبدًا ولو كره الملحدون الحاقدون، لكانت المصيبة أدهى وأمر، ولكن العاقبة
للمسلمين، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) وقال:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل
عمران: 85) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى
يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة في
كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين على الحق يقاتلون) ؛ (وهم أهل العلم) .
وقد اختارت هذه الفئة الضالة في كل عصر من أول الإسلام إلى يومنا هذا
أقوامًا لنشر دعوتها من أعظم الأبالسة، وأبلغ الخطباء المصاقيع، وأجرئهم على
ذلك، فلبسوا لبوس الإسلام، ولابسوا قادة المسلمين من ملوك وعلماء، وتظاهروا
بالزهد ومحبة الإٍسلام والغيرة عليه وعلى أهله، وصاروا يزيدون فيه ما ليس منه،
ويستظهرون على ذلك برواية أحاديث بعضها صحيح؛ ليستدرجوا الناس إلى قبول
الموضوع، ويتظاهرون بأن ذلك من تعظيم الإسلام، فاستحوذوا بذلك على قلوب
العامة لأنهم تبع للخاصة، حتى كاد زمام العامة يصير في يدهم، فصارت لهم بذلك
مكانة ومنزلة عند الملوك وكبار الدولة، وصاروا يتداخلون في كل شيء حتى في
نصب الوزراء والقضاة، وما أدراك ما هذه المكيدة! وصاروا يحلون ويحرمون
للملوك، ويفتونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام، كل ذلك تحت ستار الزهد
والتقشف، ومكيدة ما يشيعه أتباعهم من الكرامات الكاذبة الباردة إلخ.
وطوائف منهم خالطت عامة الناس، ودونت لهم أقاويل، وأوراقًا كلها
مشعوذة، وتقوُّل على الدين، ومحاربة له، وهدم لبنيانه، وما قصة الحلاَّج
بمجهولة.
وبعد خراب البصرة، استفاق العلماء من الغفلة وتجردوا للرد عليهم، كابن
حزم والغزالي وأبي بكر بن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم والإمام محمد
بن عبد الوهاب في نجد وغيرهم، إلى أن قذف الله بنور من عنده بنابغة الدهر
(السيد) جمال الدين الأفغاني فنبه الأمة الإسلامية من رقادها الطويل، وصدع
فيهم بأمر القرآن، كأنه المعني بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر:
94) وجاهد في الله حق جهاده، ونشر علومه وهديه في الهند والفرس والأفغان
ومصر والآستانة، وخلف رحمه الله تلاميذ نبغاء في هذه الأقطار:
أعظمهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والعلامة السيد رشيد رضا صاحب
المنار، وسعد زغلول باشا، وغيرهم كثير.
فقامت هذه الفئة القليلة بنشر محاسن الإسلام، وببيان أصوله وسهولته،
وموافقته لكل زمان ومكان، وبالرد على المبتدعة والملحدة والجاحدة؛ فغلبت فئات
كثيرة بإذن الله؛ لأنها صبرت والله مع الصابرين، قال جل علاه: {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وما مناظرة جمال الدين الأفغاني
لرينان ببعيدة، وأقرب منها رد الشيخ محمد عبده على هانوتو، وردود صاحب
المنار على الجامدين والملحدين في كل عدد من أعداد المنار معروفة، وفي مقالات
سعد باشا وخطبه وردوده القاهرة على دهاقين السياسة أكبر شاهد على ما قلنا.
في تلك الأيام المحلولكة كان علماء الدين في الأزهر، وأيا صوفيا والجامع
الأموي، والزيتونة ملازمين لظلهم، يخافون من خياله رغمًا عما نفخ فيهم الشيخ
محمد عبده من كهرباء روحه الطاهرة، وعما قرعهم به ووعظهم بالحجج الساطعة،
والآيات القاطعة، إلى أن قام صاحب كتاب الإسلام وأصول والحكم فضرب على
وجهه صفيحة من نحاس.
ولم يشهد التاريخ لها شيئًا في العالمين، فغضب لذلك أسد الإسلام ومؤسس
مناره السيد رشيد رضا، وصفعه صفعة قضت على أمثاله، ونبه مشيخة الأزهر
لعمل الواجب ضد ضلاله، وإذا غضب رشيد رضا رأيت العلماء العاملين كلهم
غضابًا، فقام حينئذ علماء الأزهر بالأمر خير قيام، وأسقطوه من زمرة علماء
المسلمين.
حينئذٍ تنبه الأزهريون فرأوا أنفسهم مسوقين بحبال الملحدين إلى حيث ألقت
رحلها أم قشعم، فتحفزوا للوثوب إلى الميدان وبرزوا للمعركة أسودًا شم العرانين
منشدين:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
وأول من برز للميدان وبز، وحاز قصب السبق وأحرز، الأستاذ الشيخ محمد
بخيت دام بقاؤه، فقد شحذ سيفه البتار (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) ، وضرب
الملحدين ضربة قاضية أسقطتهم من صياصيهم التي كانت موضوعة على شفا
جرف هار من آراء الضالين الإباحيين الذين يستدرجون الأمة الإسلامية؛ ليزيغوها
عن دينها الذي هو أعظم حصن واقف للضالين بالمرصاد، فإذا أزاحوها عنه،
وتقمصت عقائد الإباحيين، وفرطت في أثمن سلوة لها، وابتليت بالإباحة المطلقة،
واستحلت الربا والخمر والزنا، ورفعت الحجاب عن فتياتها، واختلط الحابل
بالنابل، هنالك يجد الماليون مفاتيح الاستيلاء على المسلمين واستهواء قلوبهم،
زيادة على ملك رقابهم وأموالهم، وهناك يصبح المسلمون لا مفر لهم من الاستخذاء
للماليين، واستخدامهم في المعامل الجهنمية، وجر الأثقال، ومزاولة الأشغال الشاقة
ليلاً ونهارًا بأجور زهيدة لا يستطيعون معها أن يأكلوا الخبز والزيت، ولا يستطعيون
أن يلبسوا إلا ما يفضل عن الأورباويين من صدار وقميص وسراويل وسخة متلاشية،
ونعال بالية متعفنة، تكسو أكثر لابسيها أمراض متنوعة تذهب بأكثرهم إلى القبور،
دع عنك الحفاة والعراة والجائعين الذين هم أزيد من خمسين في المائة.
هنالك تغلق المدارس والمعاهد الدينية، وتملأ السجون والمارستانات، هناك
هناك.. إلخ، هذه نتيجة ما يدعو إليه الملحدون في مصر وغيرها.
فكان الواجب على قادة الملحدين أن يختبروا مقاصد سادتهم ومسخريهم وإلى
أي هوة يسوقونهم، وفي أي مجزرة يذبحونهم.
كان عليهم أن يتبينوا أحوال المسلمين في المستعمرات، ويبحثوا عن معايشهم
ومكاسبهم ومدارسهم ومصانعهم وصنائعهم ومتاجرهم، ثم بعد الدرس العميق
والبحث المتوالي يحكمون، فإذا وجدوا الماليين يعاملونهم معاملة جميلة، ويعلمونهم،
ويسهرون على مصالحهم كما يدعون؛ فلا بأس حينئذ بالميل إليهم كما يريد بعض
المتهاونين بالوطن.
أما والحالة على النقيض، وليس هناك إلا الفقر والجهل والإهانة والحرمان
والبؤس والشقاء، فيظهر بادئ بدء أن دعوة الملحدين لمواطنيهم إلى ما ذكر غش
وتدليس وخيانة، فتجب مقاومتهم بكل ما يمكن، ويجب الاستعداد لمحاربتهم
استعدادًا هائلاً تستحضر عدده من معامل الأزهر والمعاهد الدينية.
لذلك جاء كتاب (حقيقة الإسلام) في أشد أوقات الحاجة إليه، فأشبه النجدة
إلى المحارب الذي كاد ينهزم في المعركة النهائية الفاصلة؛ فانتصر به إلى غاية
الانتصار، وهزم جيوش الملحدين هزيمة شنعاء لا تقوم لهم بعدها قائمة.
وقد حوى حقائق الإسلام وبين أهم ما يحتاج إليه منها، بعبارة واضحة ليس
فيها تكلف ولا غموض، جلب المؤلف فيها الآيات، والأحاديث النبوية، ونصوص
الأصوليين المعتمدة، مذَيِّلاً ذلك بنقول المؤرخين، وأهل السير، وآراء فلاسفة
المسلمين المعتمدة، ولكون ذلك معروفًا عند المسلمين ومؤلفات الإسلام فيه كثيرة
جاءت عبارة الكتاب منسجمة غاية الانسجام، كأنما المؤلف يغرف من بحر فطلع
منه بِدُرَر نفيسة ينبغي - بل يتحتم - على كل مفكر أن يزين مكتبته به، ويتعين
على كل كاتب أو عالم أو فيلسوف أن ينير أفكاره بآرائه وآياته اللامعة.
... ... ... ... ... ... ... من مراكش (مسلم غيور)
للرسالة بقية وفيها تعقب لكتاب حقيقة الإسلام.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/50)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سياسة الإنكليز في الشرق
وزعماء العرب
مذهبان في سياسة بريطانية في الشرق الأوسط - قرارات لجنة لويد جورج
- إنجلترة وابن السعود - تصرفات الملك حسين - الإدريسي وبريطانية -
شكاوى الحجاج إلى الدول الأوربية - الجزيرة العربية تهم العالم الإسلامي أجمع.
إن العلائق الودية بين الحكومة البريطانية والسلطان ابن السعود التي أنتجتها
مفاوضات السير جلبرت كلايتن في بحرا، والمعاهدات السلمية التي ارتبط بها إمام
اليمن يحيى مع نفس الحكومة لا بد أن يكون لها أثر حميد في تحسين سياسة
بريطانية العظمى في الشرق الأوسط؛ إذ إن هذه السياسة كانت ولا تزال حتى
يومنا هذا متقلبة، لا يعرف لها قرار نهائي، واتفاقات بحرا هذه ليست في عالم
السياسة بأمور غير معتادة، اتفق عليها لتحسين العلائق بين إنكلترة والبلاد
العربية.
إلا أن أنصار العرب في (دوننغ ستريت) جعلوها نصب أعينهم؛ لما رأوا
لها من الأهمية، وكانت مدار حديثهم في المدة الأخيرة مع السير جلبرت كلايتن
السكرتير المدني السابق لحكومة فلسطين الذي لم يكن مسئولاً إلا عن إيصال
المفاوضات الأخيرة على علاتها إلى حكومته، وغير خافٍ أن معاهدات ذات تأثير في
حركة الاستقلال العربي، وفي توحيد السياسة الإنكليزية في الشرق الأوسط - هي
ولا شك من الوجهة التاريخية ذات بال، وأي ذات بال! ولذا يجدر بنا أن نبحث في
شأنها بعض البحث:
لما حملت إنكلترا على عاتقها مسئولية إدارة شئون إمبراطورية الشرق
الأوسط؛ تضاربت الآراء العامة، وآراء الساسة الحذاق، خاصة فيما ستؤول إليه
نتيجة هذا الأمر، ووقف في المضمار فريقان: فأما الفريق الأول، فكان من
المحافظين أرباب الفلسفة السياسية، وكان الكولونيل (لورنس) و (المس
جزتروديل) ألسنتهم الناطقة، فهؤلاء احتجوا بأن سياسة الإلحاق السرية أو
الجهرية لا توافق ولا بوجه من الوجوه روح الحماية، أو ما تمليه سياسة الإنكليز
الحق، وأخذوا يبثون آراءهم بكل الوسائل، ويطلبون استقلالاً تامًّا للممالك
والإمارات العربية التي أسست حديثًا.
وكانوا يعدون أنفسهم مسئولين بذواتهم عما كان يحدث في البلاد العربية على
يد بريطانية العظمى، ويؤنبون أولي الأيدي التي كانت عاملة آنئذ على سحب
العهود التي قطعوها للأمة العربية، وأما الفريق الثاني - وكان جله من الأحرار -
فاعتبروا ضمانة أية حماية من غير ضم البلاد المحمية رأسًا، أو بالواسطة إلى
الإمبراطورية البريطانية إنما هو تفريط في غير محله، وما هو إلا زيادة عبء
ثقيل إلى العبء البريطاني في آونة كان العالم فيها يئن من نتائج الحرب العظمى.
وظني أن كثيراً من المسائل الجوهرية البريطانية المدفونة في السجلات
السرية في وزارة الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات لم يطلع عليها الشعب،
ولن يطلع عليها إلا بعد أجيال عديدة إذ يظهرها المؤرخون.
وهذه المعجزة الإنكليزية التي تتعلق بالشئون العربية لا يسأل عنها إلا أنصار
العرب من الإنكليز ذوي الضمائر الحرة. واستدعي المفاوضون من العرب المرة
تلو الأخرى، ولكن لم يكن هنالك مفاوضات حقيقية، ولا تزال قصة استدعاء
الدكتور ناجي الأصيل السياسي السوري الذي مثل الملك حسينًا في بلاط سنت
جيمس تخدش مخيلة من يهمهم هذا الأمر.
فالعرب البسطاء هم الذين أوقعوا أنفسهم في أيدي من لا يعرفون للعهود معني،
ولما اعترف بسلالة الشريف حسين كالعائلة الوحيدة المالكة في عموم الأقطار
العربية؛ قامت الضجات والصرخات، وأصبح بعض الإنكليز يقولون: إن دولتهم
جازفت بأن راهنت على الحصان الذي لا يكسب الرهان، ولما انتخب فيصل -
أنجب أفراد هذه السلالة - للاستواء على عرش العراق رميت وزارة الخارجية
البريطانية بقصر النظر والتحزب، ولما أشار السير أوستين تشمبرلن على الملك
حسين الشيخ أن يغادر البلاد العربية إلى قبرص أيضًا هطلت الشكاوى التي يناقض
بعضها البعض مدرارًا.
دعنا الآن نعير التفاتة نحو الحقائق العارية من كل شائبة لنرى - إن أمكننا -
نتيجة الخطط التي رسمها رجال السياسة الذين يسمون أنفسهم أحرارًا:
في سنة 1921 قررت وزارة لويد جورج تشكيل لجنة وزارية (لتتعهد
بتأسيس الأقطار التي للإنكليز علاقة بها في الشرق الأدنى) ، وهذه اللجنة التي كان
يساعدها قواد القوات البحرية والحربية أتيح لها درس الحالة الإدارية والسياسية في
هذه البقاع، وكانت تستعين بنصائح من كان يحكم البلاد من العمال الإنكليز،
وأعني بهم: مندوبي فلسطين والعراق - السير هربوت صموئيل والسير برسي
كوكس - ومعتمدي عدن والبحرين.
واستطاعت هذه اللجنة بعد البحث الطويل، أن تصل إلى نتائج قدمتها
بصورة تقرير لوزارة الخارجية، ولكن مع الأسف لم تر الشمس هذا التقرير حتى
وقتنا هذا، بل خبئ في ظلمات صناديق الوزارة، مع أنه بلا شك أهم الأوراق
السياسية التي تبين مجرى الأمور في الشرق في الوقت الحاضر.
وهذه اللجنة عينت لجانًا ثانوية، وليس غرضنا هنا تعديد هذه اللجان، وعلى
كل؛ فكان غرض أحدها - وهي التي كان يرأسها سكرتير وزارة الخارجية وكان
يتألف أعضاؤها من ونستون تشرتشل والسير برسي كوكس والكولونل لورنس
والجنرال سكوت - أن تضع على بساط البحث أمورًا تتعلق بالسياسة البريطانية
الشرقية، وخصوصًا بما يتعلق بأمراء العرب، وملوكهم المسيطرين في شبه
الجزيرة العربية، وأول ما نظرت فيه هذه اللجنة هو: مسألة التقدمات المالية،
التي كانت تدفع لهؤلاء الزعماء استنادًا على أسس واهية، هذه اللجنة قررت بعد
البحث والتدقيق ما يأتي:
1- أن تدفع الإمبراطورية البريطانية لابن السعود مائة ألف ليرا سنويًّا.
2- أن يدفع لفهد بك الهذال مائتان وأربعون ألف روبية.
3- أن يدفع الملك حسين مائة ألف ليرا إنكليزية سنويًّا.
4- أن يدفع للإدريسي اثنتا عشرة ألف ليرا سنويًّا.
وبنت اللجنة حكمها على الأمور الآتية:
ابن السعود أعظم يد عاملة في السياسة العربية، وذو الشخصية البارزة،
والذكاء المفرط عقد معاهدة مع الدولة البريطانية، ولم يخطر له يومًا ما أن يحل
عقد العلائق الودية بينه وبينها، مع أنه قادر على ذلك، وفي استطاعته أن يعرقل
مساعي الدولة البريطانية، ولا يكلفه ذلك أكثر من أن يأمر أتباعه بشن الغارة على
الجنوب الغربي من بلاد ما بين النهربن، كما أنه يمكنه أن يهاجم بخيله ورجله
الكويت وجبل شمر إن أوحت إليه إرادته بذلك، والإخوان - الفريق المجاهد من
أتباعه - دومًا يحثونه على مهاجمة جيرانه المسلمين، وقد حدثت مؤخرًا أربع
غزوات من هذا القبيل.
ولابن السعود تأثير في نفوس أتباعه الإخوان، وقد تمكن من أن يردهم عن
مهاجمة جيرانهم مرارًا، وذلك بفضل تصرفه بحكمة في التقدمة المالية التي تساوي
ما تجمعه حكومته من الضرائب، وقبيل أن تضمن هذه التقدمة المالية لابن السعود
يجب عليه أن يوافق على الشروط الآتية:
1- أن لا يهاجم العراق ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده.
2- أن لا يهاجم الكويت ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده أيضًا.
3- أن لا يهاجم الحجاز ولا يرسل حملات من أتباعه لمهاجمته.
وكانت التقدمة الأساسية لابن السعود ستين ألف ليرا إنكليزية، وأما الآن [1]
فازدادت حتى بلغت مائة ألف ليرا إنكليزية في السنة، ظنًّا من اللجنة أن هذه
الزيادة المالية تقوى نفوذ ابن السعود وتمكنه من أعناق أتباعه، وبذلك يتسنى له أن
يعمل على موافقة الإدارة البريطانية، وحثت اللجنة ابن السعود على إبقاء حبل
المودة متصلاً بينه وبين فيصل من جهة، وبينه وبين الملك حسين من جهة أخرى،
زد على ذلك أن اللجنة اعترفت بابن السعود سلطانًا على نجد، وأوصت من لهم
علاقة بالأمر أن يعترفوا به.
وفهد بك الهذال زعيم عشائر عنزة - التي على حدود ما بين النهرين إلى
الجهة الغربية من بغداد وكربلاء، وعلى ضفة الفرات الغربية - اعتادت حكومة
الهند أن تدفع له مقابل خدماته لها مائتي وأربعين ألف روبية، وغير خافٍ أن
الطريق الجوية الحاضرة التي تؤدي إلى فلسطين تمر بمنطقة مسافة مائتي ميل،
ولذا فلا مشاحة في أن مساعدته أمر لا بد منه، إن أرادت الحكومة البريطانية أن
تحافظ على سلامة سفنها البرية التي تمر بهذه المنطقة؛ لهذا قررت اللجنة إبقاء ما
كان على ما كان؛ أي: الاستمرار بدفع التقدمة المالية البالغة مائتين وأربعين ألف
روبية للزعيم المذكور.
أما الملك حسين فمع أنه أضعف من ابن السعود من الوجهة العسكرية، فهو
ولا شك حامي البلاد المقدسة، فمن مصلحة بريطانية أن تحافظ على ولائه،
وخصوصًا للعقيدة التي أظهرها للملأ تجاه ما قرر الحلفاء بشأن المقاطعات العربية
إن هو لم يذعن لقرار الحلفاء الجديد.
والآن فلا جدال أنه سيكون ثورة فتن وقلاقل في الحجاز ينتشر منها شرر
يشعل نيران ثورات في المناطق العربية التي تحت الحماية، ويعتقد العالم الإسلامي
أن لندن هي التي خلقته من العدم، فلذا تكون بريطانية العظمى هي الملومة، بل
المسؤولة إن أصبحت حالة الحجاج أسوأ مما كانت يوم كان بيد الأتراك عصا
السيادة في البلاد العربية.
وأما الشروط التي عرضت على الملك حسين مقابل ضمان هذه التقدمة
فتتخلص فيما يلي:
1- أن يصادق على معاهدة فرسايل ويصادق على المعاهدة التركية، ويوقعها.
2- أن يعترف بالمعاهدات البريطانية مع ابن السعود والإدريسي، ويحترمها،
ويمتنع من عمل كل ما يمس حقوق المذكورين، كما أنه يتعهد بأن لا يعتدي
عليهما.
3- أن يحسن حالة الحج، وخصوصًا أن يحافظ على الأمن العام، ويحترم
حقوق الحجاج، ويعتني اعتناءً خاصًّا بالأمور الصحية، ويعيد تأسيس المستشفيات
في جدة، كما أنه يتعهد بتحسين موارد المياه.
4- أن يعترف بحقوق الرعايا الإنكليز في الحجاز، ويحافظ على مصالحهم.
5- أن يرحب بقنصل إنكليزي ووكيل في جدة، وإن أبى ذلك فيرحب على
الأقل بوكيل بريطاني مسلم.
6- أن يطهر البلاد المقدسة من الذين يسعون ضد المصالح الإنكليزية،
وينشرون الدعوة للجامعة الإسلامية (Infrique Pan-lslamic) .
7- أن يمنع عائلة الشرفاء من الإتيان بأية حركة تهدد مصالح الفرنسيين، أو
بكلمة أخرى: أن يكبح جماح أتباعه من القبائل التى تقطن سورية عن القيام بأية
مظاهرة تمس مصالح البريطانيين ومصالح حلفائهم.
وكان المتوقع أن إنشاء حكومتي العراق وشرقي الأردن سوف ينال استحسان
الملك حسين، ويغريه بقبول نصائح البريطانيين كما فعل سابقًا.
ولكن الواقع ونفس الأمر كان خلاف ذلك، فلذا أنقصت التقدمة المالية حين
رجعت المياه إلى مجاريها، وتوافد الحجاج إلى البلاد المقدسة من كل فج عميق،
غير أن هذا لم يحجز الحجاز عن أن يقع في هاوية الإفلاس مرة أخرى.
وأما الإدريسي فكان أول حاكم عربي انضم إلى بريطانية العظمى أثناء
الحرب العالمية الكبرى، وبمعاهدة سنة 1917 تعهدت له بريطانية بمده بكل ما
يلزمه من عدد حربية، وأسلحة نارية أثناء الحرب وبعدها، وكذلك تعهدت له بأن
تؤويه إلى بلادها، وتحميه إن حدث له أمر يضطره إلى الجلاء عن وطنه، بل
تعهدت له أيضا أن تبذل جهدها لإرجاعه إلى مركزه الأول دون أن تدخل في أحكام
بلاده.
ومقابل هذه الضمانات ضمن الإدريسي للدولة حليفته امتيازات في بلاده،
وهكذا استطاعت بريطانية أن تمنع تدخل غيرها من الدول في بلاد عسير.
وكان الإدريسي على وفاق تام مع ابن السعود، مع أنه كانت هناك أمور
كادت تقطع حبل المودة بينهما، لولا أن تداركاها بحكمة عجيبة.
وفي ذلك الوقت كان الإدريسي عدو إمام صنعاء وخصمه الألد، وإمام صنعاء
هذا هو أمير يماني كان خاضعًا للواء التركي، ولكنه في هذه الآونة أعلن انفصاله عن
الباب العالي، واستقلاله عن كل يد أجنبية، فأخذت الأيدي البريطانية تسعى لتكسب
وده، ولكن غناه وقف عثرة في سبيل إغرائه بالمال.
غير أن الدسائس الإنكليزية لم تقف عند حدها، بل أخذت تقدم له مبلغ ألفي
ليرا إنكليزية في الشهر، إلا أن هذه الأموال لم تؤثر إلا بعض التأثير، ولم تأخذ من
نفس الإمام ما أخذت من نفس ابن السعود.
ولما تيقنت الأيدي البريطانية من ثبات الإمام على عقيدته نحو الأمم الأجنبية
رأت أن محافظتها على ولاء الإدريسي هي أقوى العوامل التي يمكنها الحصول
عليها لنشر سياستها في أنحاء الجزيرة؛ ولهذا قررت دفع ألف ليرا إنكليزية شهرية
للإدريسي لتعزز مركزه المالي على شرط محافظته على الولاء لإنكلترا، وعلى
شرط أن لا يضمن امتيازات في بلاده لغيرها من الدول.
نعم إن حسينًا نجح في تمثيل دوره لمدة ليست بالقليلة، وكان للنصائح
الإنكليزية، والأموال البريطانية اليد الطولى في رفع مستوى شهرته، ولكن مع
الأسف أقول: إن تلك الشهرة لم تك إلا طائفية، فهو لم يكتف بأن حسب نفسه
رأس الأمة العربية، وخليفة المسلمين فقط، بل تعدى ذلك إلى أن زعم أنه أكبر يد
عاملة في العالم الإسلامي أجمع، وقد جرب أن يجعل الناس يعتقدون بأنه يحكم
بحق إلهي لا يستطيع غير العزيز الحكيم أن يسلبه إياه، ولم يكن بُعْدُ نظر اللجنة
في شأن الحجاج المسلمين إلا ليزيد التعاسة شقاء، فهم وكلوا أمرهم إلى الحسين،
وتركوا إليه أمر الاهتمام بإصلاح شؤونهم، ويحزنني أن أقول: إنه هو وحكومته
تصرفوا في حجاج بيت الله الحرام من المسلمين كما يتصرف المرء بأملاكه، بل
إن الملك حسينًا نفسه عد الأماكن الإسلامية المقدسة ملكه الموروث عن آبائه وأجداده،
فهو مطلق التصرف فيه، وليس على وجه الأرض من ينازعه.
ولما تواردت التقارير التي تنذر بسوء طالع الحجاج المسلمين على رؤساء
الوزارات الأوربية من وكلائهم في جدة؛ اهتم هؤلاء الوكلاء بهذا الأمر، وأخذوا
يسعون لتسحين الأحوال متحدين.
ورسائل المستر بولارد المعتمد السياسي البريطاني في جدة مثلت شعور كل
الدول الأوربية تجاه معاملة الملك للحجاج - إذا استثنينا حكومة السوفيت الروسية
التي كان لها معتمد بخاري مسلم في مكة، وهذا كان يتخابر مع دولته رأسًا - ولم
تكن معاملة الملك حسين للبلاد الإسلامية التي تجاوره أحسن من معاملته للحجاج،
فكان يتغطرس عليهم، ويحتقرهم معتمدًا على مركزه، مُدِلاًّ بلقب: حامي بيت الله
الحرام، متكلاً على أمواله الوافرة، ويقال: إن الملك حسينًا جمع من الضرائب ما
ينيف على مليون ليرا ذهبية، هذا عدا الأراضي التي على الساحل الأفريقي بالبحر
الأحمر.
ولذا أخذ بغضه لفرنسا ولنجد يزداد شيئًا فشيئًا، وكان من حين إلى آخر
يسرد على أعوانه قصة إخراج ابنه فيصل من الشام، وينهي القصة بقوله: إن
هذه عداوة تاريخية لا أنساها، ولن أنسى اليوم الذي احتل فيه جنود الجنرال غورو
عاصمة ولدي.
وأما موقفه تجاه ابن السعود فكان موقف امرئ يغار على مصالح العراق
وشرقي الأردن لمآرب في نفسه؛ ولأن ولديه كانا ولا يزالان في هذين القطرين،
ولقد أبدى الملك حسين عاطفة شريفة نحو فلسطين.
بينا نرى الملك حسينًا على هذه الحالة نرى أن قدم ابن السعود أصبحت تزداد
رسوخًا يومًا بعد يوم، فأسس في البلاد أنظمة لجباية الضرائب، وساعده في توطيد
أحواله المالية مستشارون بعضهم إنكليز، والبعض الآخر فرنسيون [2] وكان جراب
دراهم السلطان هو خزينة الأمة النجدية - بخلاف الملك الهاشمي - وكان ابن السعود
يسير بخطى واسعة نحو إدخال الإصلاحات، متحاشيًا في ذلك كل ما من شأنه أن
يمس المذهب الوهابي خيفة أن يثور عليه الرأي العام، فهذه الإصلاحات، وسوء
سمعة الملك حسين اشتغلت جنبًا إلى جنب في بث الدعوة لابن السعود في البلاد
الإسلامية، ولم يبق له من المعارضين إلا النزر القليل من سكان البلاد الإسلامية
البعيدة.
ولما أخذ عدد الوهابيين يزداد؛ شعر حماة البلاد المجاورة من الأوربيين
بالخطر المحدق، وخافوا انتشار سطوة ابن السعود، وخوفًا من أن تسري الدعوة
الوهابية إلى جوف سورية وفلسطين؛ اتخذت التدابير التي من شأنها منع انتشار
الدعوة الوهابية، وحظر على الوهابيين دخول هذه الأقطار [3] .
ولا شك أن أحد العوامل التي قضت على آمال الهاشميين في البلاد العربية
كان احتلال الوهابيين للبلدين الإسلاميين المقدسين، وهما: مكة المكرمة والمدينة
المنورة، وعدا هذا، فإن سقوط هذين البلدين في أيدي القوات الوهابية فتح المجال
لابن السعود ليسعى في تحسين أحوال الحجاج، والبت في أمر الخلافة - فدعا إلى
مؤتمر إسلامي عام - ولفت نظر ابن السعود أمور داخلية كثيرة لم يكن ملك الحجاز
السابق ليأبه لها، ولم يبق لدى ابن السعود وقت يصرفه للاهتمام بتوسيع منطقته
إلى ما وراء الصحراء العربية.
زد على هذا أن السعي في ترميم ما خربته الحرب النجدية الحجازية منع
الوهابيين من الانشغال بإشعال نار أية حرب مع جيرانهم.
إن هذا التاريخ هو ما سجله مؤرخو العرب أنفسهم عن أنفسهم، ولم يك أي
مجال للأيدي الأوروبية للتلاعب فيه، وما هو إلا تاريخ عداوة بين أشد القبائل
العربية تأثيرًا.
وقصارى القول: إن تأثير إحدى هذه القبائل انتشر انتشارًا كبيرًا، ولكن لم
تمض مدة زهيدة إلا وقد انعكست القضية، وأخذت ثقة الملايين من المسلمين
تضعف، وهذا لا يستلزم أن لا علاقة لإنكلترا في وضع هذه القبيلة، وإعلاء شأن
الأخرى، فهي التي تظاهرت بإعلان حيادها احترامًا لمعاهدتها مع الطرفين،
وكانت تختلس النظر من وراء حجاب متغاضيةً عما لا يمس حقوقها، وتاركة
الأمور تأخذ مجراها الطبيعي في البلاد العربية، وسرعان ما أوحت إلى الملك
حسين أن يغادر البلاد العربية حينما تيقنت أن لا تأثير بإقباله في العالم العربي
والإسلامي على السواء.
واستنادًا على ما تقدم، ليست المعاهدات الحديثة بين إنكلترا وابن السعود إلا
صدى صوت لم يكن بد من سماعه، ونتيجة درس تعلمه من له علاقة بالأمر في
المدرسة الإنكليزية الحجازية خلال تسع سنوات مررن.
فإن إنكلترا عاضدت الفئة الغالبة، وهي غير غافلة عن مصالحها، ولا شك
أننا سنرى من نتائجها: إما صلاح الخطط التي يتبعها الآن ابن السعود، أو فسادها.
وعما قريب سوف نرى الحد الذي تنتهي إليه إصلاحاته، ولكن ليس هنالك
مجال للشك في شرف مقصد ابن السعود، وحسن نيته نحو العرب.
هذا إن تذكرنا أننا إنما نبحث في شأن بلاد - بل عالم - لم يحلم أحد بأنه رأى
في صفحات تاريخه روح اللاحزبية يظهرها للملأ حكامه.
ولم تعد بعد الآن مسألة الجزيرة العربية، والأماكن المقدسة مسألة تهم الدول
الأوروبية فقط، بل إنها أصبحت مسألة هي مدار البحث الإسلامي أجمع، ولا شك
أن إنكلترا التي ترفرف رايتها فوق رءوس القسم الأكبر من الذين يعتنقون الديانة
الإسلامية هي أول من يهمه هذا الأمر، كما تظهر لرعاياها من المسلمين اهتمامها
بشؤونهم، فهي لا تتخلى بعد اليوم عن الجزيرة العربية أيًّا كان حكامها.
وأما الدول الأوربية الأخرى بما فيها إيطاليا التي لها مصالح كثيرة على
الساحل الأفريقي المجاور للبلاد العربية - فلديها من القلاقل في مستعمراتها ما
يردعها عن أن تجازف بالخوض في البحث في شئون غير بلادها، أو بطلب
الاستيلاء على مستعمرات جديدة.
فأمل إنكلترا وطيد بأن نفوذها سينتشر يومًا ما في كل أنحاء البلاد العربية؛
وذلك لأن الدول الأوربية الأخرى لا تنازعها هذا، ولأنها تخلق مشاغل لأتباعها من
المسلمين؛ فتجعلهم بذلك يغفلون عما تنويه للبلاد العربية التي فيها قبلتهم.
... ... ... ... ... ... ... جامعة بيروت الأمريكية
... ... ... ... ... ... ... تعريب محمد يونس الحسيني
... ... ... ... ... ... عن مجلة (affairs Foreign)
(المنار)
هذه المقالة من أهم ما كتب أحرار الإنكليز في المسألة العربية،
والشؤون الإسلامية تحقيقاً وتمحيضًا للتاريخ، وإنما كتبت لإنارة الرأي العام
الإنكليزي، لا الرأي العام العربي أو الإسلامي، وإنما العرب والمسلمون في شغل
عن الاستفادة بهذه الحقائق بالنظريات الوهمية كنظرية شوكت علي، ومحمد علي
من ساسة الهند بإنشاء جمهورية إسلامية في الحجاز يدير نظامها أفراد ينتخبون من
جميع الأقطار الإسلامية.
ألا فليعتبر المسلمون الصادقون بما قرر صاحب هذه المقالة من قوة ابن
السعود وقومه، ووجل المستعمرين والطامعين منها، فمن عقل هذا علم أنه يجب
على العالم الإسلامي تأييد هذا الرجل بالمال والرجال، والألسنة والأقلام، فإن عقد
ألف مؤتمر، وتأليف ألف جمعية لا تعطي المسلمين من القوة والإصلاح ما سخره
الله تعالى لهذا الرجل، واستعمله فيه {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة:
269) .
__________
(1) يعني عند وضع هذا التقرير بدليل أن من شروطها عدم الاعتداء على العراق والحجاز.
(2) هذا لم نقرأه في صحيفة، ولا سمعنا به قبل هذه المقالة، ولا يمكن أن يراد به أنه كان عنده بنجد مستشارون موظفون، بل المراد إن صح الخبر أنه استشار بنفسه أو بواسطة بعض رجاله أناسًا من هؤلاء ومن غيرهم وسنبحث عن حقيقة ذلك.
(3) ليتأمل القراء هذا وليعلموا سبب استعمال الإنكليز عبد الله بن حسين على شرق الأردن.(28/54)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
إثبات شهر رمضان
وبحث العمل فيه وفي غيره بالحساب
ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين
يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان؛
لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال؛ لأجل الفطر الواجب في يوم العيد،
وكذا هلال ذي الحجة؛ لأجل وقوف عرفة، وقد سبق لنا الكتابة في هذه المسألة في
بعض المجلدات السابقة، وقد عرض لنا في هذا اليوم (الجمعة 30 شعبان) أن
سمعنا قبيل ذرور قرن الشمس دوي المدافع تنفجر من قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات
شهر رمضان، وكان الحاسبون من الفلكيين قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما
دون في جميع التقاويم (النتائج) لهذه السنة الهجرية من أن أول رمضان فيها ليلة
السبت 5 مارس (آذار) ؛ لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات
ونصف ساعة ودقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة
الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت، وما كان من الممكن إثبات
رمضان بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، كدأبهم في حال عدم الرؤية؛ لأن يوم
الجمعة هو اليوم الثلاثون من شعبان بحسب التقاويم، ولم يثبت خلافه بحكم شرعي،
فكان الناس موقنين بأن أول رمضان يوم السبت، وإن أعلنت الحكومة أن رجال
القضاء يجتمعون ليلة الجمعة في المحكمة الشرعية لأجل سماع شهادة من عساه
يشهد أنه رأى الهلال كعادتهم.
وقد تساءلنا كيف كان إثبات الشهر؟ فعلمنا أن برقية جاءت من العريش بأن
قاضيه الشرعي قد حكم بأن يوم الخميس (أمس) الموافق لليوم الثالث من شهر
مارس هو الثلاثون من شهر شعبان، وهذا مبني على أنه قد ثبت عنده أن أول
شعبان كان يوم الأربعاء الموافق 2 فبراير (شباط) ، وأنه صدر بذلك حكم شرعي،
وهم لا يعتدون برؤية الهلال وإثبات الشهور إلا بصدور حكم شرعي به، ولأجل ذلك
يلفقون دعوى صورية يتوسلون بها إلى هذا الحكم.
وهي طريقة مبتدعة منتقدة غرضهم منها إزالة الخلاف في إثبات الشهر،
وصيام بعض الناس، وإفطار بعض في القطر الواحد، وفي البلد الواحد أيضًا،
ولكن هذا لم يرفع الخلاف بين الأقطار البعيدة، ولا القريبة التي لا تختلف مطالع
الهلال فيها.
فما زال هذا الإثبات بهذه الطريقة يتخذ في كل محكمة شرعية من المحاكم،
فتختلف أحكامها فيه، ويتعذر إبلاغ أسبقها حكمًا، وأحقها بالتقديم إلى سائر البلاد،
فلهذا نقرأ في الجرائد كل عام أن أهل الشام صاموا يوم كذا، وأهل مصر يوم كذا،
وأهل مكة يوم كذا إلخ يتفقون تارة، ويختلفون أخرى، ولا يرجعون إلى إمام واحد
يتبعون حكمه.
وأهل القطر المصري وملحقاته هم الذين يصومون ويفطرون في يوم واحد؛
لأن محاكمهم تعمل بخبر البرق كما حدث لنا اليوم، وقد تبرم الناس بهذا الإثبات
اليوم؛ لأن جميع أهل المعرفة منهم يعتقدون أن هذا اليوم من شعبان، فإن ما أثبته
الحاسبون من اليقينيات القطعية، وهو أصح وأثبت من تحديدهم لوقت طلوع الفجر
من كل يوم الذي نعمل به في صيام كل يوم وصلاة فجره، والشهادة برؤية الهلال
إذا انحصرت في واحد أو اثنين أو ثلاثة لا تفيد إلا الظن لكثرة مايقع فيها من
الاشتباه.
وقد وقع لي في بعض السنين، وأنا في سورية أن رأيت الشمس غربت
كاسفة في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ثم شهد شاهدان ذوا عدل بعد غروبها
بساعة زمانية أنهما رأيا الهلال، فحكم القاضي الشرعي بإثبات الشهر بالرؤية،
ومن المعلوم باليقين أن رؤية الهلال كانت من المحال؛ لأنه غرب مع الشمس، فلا
يمكن أن يكون عاد ورأياه، وأنا أعتقد أن ذينك الشاهدين لم يتعمدا الكذب فهما من
أهل التقوى والعلم، ولكنهما تخيلا الهلال تخيلاً، ولأجل مثل هذا الاشتباه قال
المحققون من الفقهاء في هذه المسألة: إن الشهادة برؤية الهلال في أيام الصحو لا
تثبت إلا برؤية جمع كثير، وينبغي تقييد هذا بما إذا تراءى الهلال كثيرون كما هي
العادة، وذلك أن العبرة في الرؤية رؤية معتدل البصر، لا أمثال زرقاء اليمامة في
حدة البصر.
وأما إكمال عدة الشهر ثلاثين فهو أضعف من شهادة الآحاد برؤية الهلال؛
لأن الأشهر القمرية وإن كان بعضها 29 وبعضها 30 كما هو معروف في الحساب
ويشير إليه حديث: (الشهر هكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بالعقد إلى
عددي 30 و 29) وهو في الصحيحين.
قد يتتابع شهران منها تامين، وشهران ناقصين، والعمل بإكمال العدة في حال
عدم رؤية الهلال، مقيدة في الحديث بما إذا غم علينا الهلال.
والأصل في المسألة حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: (صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم - وللبخاري غبي - عليكم فأكملوا عدة شعبان
ثلاثين) هذا لفظ البخاري، ولم يذكر مسلم والجمهور لفظ: شعبان، وقال بعضهم:
إنه تفسير من شيخ البخاري لا مرفوع. وفي رواية لأحمد والنسائي زيادة (وانسكوا
لها) وزيادة (فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا) وفي حديث ابن عباس
عند أحمد والنسائي وغيرهما: (فان حال بينكم وبينه سحاب؛ فأكملوا عدة شعبان،
ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ولا تَصِلُوا رمضان بيوم من شعبان) وهو حديث صحيح،
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر
رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم
عليكم فاقدروا له) ، وروي بلفظ آخر بمعناه.
فهذه الأحاديث، وما في معناها تقيد العلم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا بما
إذا غم الهلال، وغبي على الناس بأن حال دونه سحاب، ولم يكن أمس في السماء
قزعة من سحاب، دع علم أهل العلم بأن الهلال لا يمكن أن يرى.
وقد اختلف علماء السلف والخلف بما يجب عمله إذا لم ير الهلال، فقد روى
الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر راوي الحديث الأخير أنه كان إذا مضى من
شعبان 29 يومًا يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون
منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرًا، وإن حال؛ أصبح صائمًا. وروى عنه
الثوري في جامعه أنه قال: (لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه) .
وقال عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) ، ذكره البخاري
تعليقًا، ورواه أصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وغيرهم موصولاً، وهو صريح
في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو مرفوع في المعنى.
وجمهور السلف من علماء الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار على عدم
صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال، مع عدم المانع من رؤيته كالغيم والقتر،
وقد صرحت به الأحاديث الصحيحة، وكان بعضهم يصومه احتياطًا، وهو منهي
عنه في الأحاديث المتفق عليها، بل المروي بعضها عند الجماعة كلهم كما سيأتي،
فعدم رؤية الهلال في حال الصحو دليل على عدم وجوده، وفي هذه الحالة لا نؤمر
بإكمال شعبان 30 يومًا، وإنما نؤمر بذلك إذا وجد المانع من الرؤية كالغيم
والضباب.
وقال الحافظ - في شرح حديث: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) إلخ -:
وهو ظاهر في النهي عن صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم
وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى بذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ
الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة، وهو قوله: (فإن غم عليكم فاقدروا له)
فاحتمل أن يكون المراد: التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على
الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل عدم التفرقة، ويكون
الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور
اهـ.
وقد ذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي جملة الأحاديث الواردة في رؤية
الهلال، أو إكمال شعبان إذا حال دون رؤيته سحاب أو قتر، والأحاديث في النهي
عن صيام يوم الشك، أو آخر يوم من شعبان في غير الحالتين المنصوصتين آنفًا،
ثم ذكر اختلاف عمل السلف في هذه الأحوال، ومداركهم التي ظاهرها اختلاف
النصوص؛ إذ كان بعضهم يصوم آخر يوم من شعبان مع عدم تحقق إحدى الحالتين؛
لأجل الاحتياط، ولكن النهي يشمل الاحتياط كما سيأتي، ثم قال في آخر البحث:
فهذه الآثار (أي: في ترك الصوم) إن قدر أنها معارضة لتلك الآثار التي رويت
عنهم في الصوم فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظًا ومعنى، وإن قدر
أنها لا تعارض بينها، فههنا طريقان من الجمع: (أحدهما) : حملها على غير
صورة الإغمام، أو على الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم،
(والثاني) : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابًا لا وجوبًا.
وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة
النصوص وقواعد الشرع. اهـ.
وقال الحافظ في الكلام على حديث ابن عمر: (لا تصوموا حتى تروا الهلال)
إلخ من الفتح ما نصه: قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة -
وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال:
(أحدها) يجب صومه على أنه من رمضان. (ثانيها) لا يجوز فرضًا ولا نفلاً
مطلقًا، بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك
وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز عما سوى ذلك. (ثالثها) المرجع إلى
رأي الإمام في الصوم والفطر. اهـ
وذكر بعد ذلك أن عمل راوي الحديث يؤيد الأول، وقد تقدم ما ذكره عنه
وهو لا يؤيد القول الأول مطلقًا بل في حال الإغمام، والراجح في هذه الأقوال
الثاني، وأضعفها الأول.
وأما الأحاديث في النهي عن صيام آخر يوم من شعبان فأشهرها قوله صلى
الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل
كان يصوم صومًا فليصم ذلك الصوم) رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وفي
بعض ألفاظه عند بعضهم: (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم - ولا تقدموا صوم
رمضان بصوم - ولا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله) ، قال الحافظ في شرحه
للحديث من الفتح: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على
نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: (العمل على هذا عند أهل العلم،
كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ.
واعتمد الحافظ مما قيل في حكمة هذا النهي قول من قال: إن الحكم علق
بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم.
أقول: فعلم مما ذكرنا أن الحكم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا مقيد بما إذا غم
الهلال، وحال دون رؤيته مانع، وفي هذه الحال يقبل في إثبات الرؤية إخبار رجل
عدل واحد؛ لاحتمال أنه لم يظهر من خلال السحاب إلا لحظة رآه فيها دون غيره،
وخلاصة القول: إن إثبات أول رمضان هذا ليس عملاً بنص حديث الرؤية، وإنما
هو عمل بقول تقليدي، يقابله قول من قال من الفقهاء بالعمل بالحساب واعتبار
اختلاف المطالع، ولنا كلمة فيه.
إن حكمة نوط الشارع أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج بالرؤية معروفة لا
تنكر، وحسنها لا يجحد، وذلك أن الإسلام دين عام للبشر، من بدو وحضر، ليس
فيه رياسة دينية تقيد العبادات برجالها، وتخضع الدهماء لإرادتهم (أو هو دين
ديمقراطي كما يقال في عرف هذا العصر) وناهيك بأنه ظهر أولاً في أمة أمية -
كما ورد في الحديث الصحيح - فمن اليسر والاستقلال الشخصي فيه، وعدم
الاختلاف أن تكون أوقات العبادات فيه مما يسهل على كل فرد من أهله أن يعرف
طرفيها بنفسه، بدون توقف على شيء من العلوم والفنون التي لا يعرفها إلا بعض
الناس في المدائن وأمصار الحضارة، أو على رياسة رجال يتحكمون في العبادة
بأهوائهم.
فأول وقت الفجر يعرف برؤية النور المستطير المنتشر من موضع طلوع
الشمس من المشرق، وبه يدخل الصائم في صيامه ويصلي الفجر، وينتهي بغروب
الشمس الذي تجب به صلاة المغرب، وينتهي وقتها بغيبة الشفق الأحمر، وكذلك
أول وقت وقتي الظهر والعصر، كل ذلك يعرف برؤية البصر، وبذلك تكون الأمة
متفقة متحدة لا تختلف مواقيت عباداتها لله تعالى، لا في حال الانفراد، ولا في
حال الاجتماع، إلا ما يكون من اختلاف الأقطار باختلاف الرؤية فيها، فليل أناس
نهار عند آخرين، وكذلك تختلف مطالع الأهلة.
***
(مباحث العمل بالحساب في مواقيت العبادة)
قال الحافظ في شرح الحديث المتفق عليه: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب،
الشهر هكذا وهكذا: يعني مرة 29 ومرة 30) من فتح الباري ما نصه: والمراد
هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا (أي: كالكتابة) إلا
النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية؛ لرفع الحرج عنهم في معاناة
حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل
ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً.
ويوضحه قوله في الحديث الماضي: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)
ولم يقل: فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه: كون العدد عند الإغماء يستوي فيه
المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع عنهم ا. هـ.
ثم ذكر أن الروافض وبعض الفقهاء قالوا بالرجوع إلى أهل التسيير في ذلك،
ورده بما ورد من النهي عن علم النجوم (قال) : (لأنها حدث وتخمين ليس فيها
قطع، ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق؛ إذ لا يعرفها إلا قليل) .
وأقول: إن ما ذكره من حكمة التشريع صحيح الأصل، فالاتفاق مطلوب
شرعًا، وكون أوقات العباة منوطة بما يعرفه كل الناس، والحساب الفلكي لا يعرفه
إلا قليل منهم صحيح أيضًا، ولكن المسلمين على زعمهم أنهم يعملون بنصوص هذه
الأحاديث مختلفون غير متفقين، فهم في حال الصحو التام الذي يمكن أن يرى
الهلال فيه السواد الأعم من الناس إن كان موجودًا يستهلون - أي: يتراءون -
الهلال فرادى وجماعات في مواضع كثيرة من كل بلد فلا يراه أحد، وبعد انصرافهم
يشهد واحد أو اثنان برؤيته؛ فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الظاهر خطؤها بعدم رؤية
الجماهير، أو يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا بعد العلم بعدم وجود الهلال؛ إذ لو
كان موجودًا لرآه الجمهور، والعبرة برؤية معتدلي البصر؛ لأنه هو الذي يشترك
فيه الناس، ويرتفع به الخلاف، ولا عبرة برؤية حديد البصر وحده؛ لأنه أندر من
العالم بالحساب، فلا يكون مناطًا عامًّا، ولا يمكن معه اتفاق، وليس فيه قطع، ولا
ظن غالب إلا في حالة الإغمام مع عدالة الشهود، وعدم مخالفة شهاداتهم للعلم
القطعي.
وقوله: (إن ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً) إلخ،
غلط ظاهر، وما ذكر من توضيحه بالأمر بإكمال العدة دون الأمر بسؤال أهل
الحساب غير واضح، بل خلاف المتبادر من منطوق الحديث، وهو أن الأمة أمية
لا تعرف الحساب، وهذا بيان لما كانت عليه، وهو قد بعث لإخراجها منه بنص
القرآن) ، فكيف تؤمر بما لا تعرف؟ ! ومفهومه الظاهر أنه لو وجد الحاسبون
لصح الرجوع إليهم، وما احتج به من النهي عن الخوض في علم النجوم - لأنها
حدث وتخمين ليس فيها قطع، ولا ظن غالب - لا يرد على الحساب الذي نعنيه،
فإن علم النجوم الذي ذكره هو استنباط أخبار الغيب من حركاته وتنقلاتها، ومقارنة
بعضها لبعض، وليس منه حساب البروج والمنازل للشمس والقمر الثابتة باليقين
القطعي، والمشروع العمل بها في قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) ، مع قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5) ، فهو صريح في إثبات هذا النوع من
الحساب، وإفادته للعلم بضبط السنين والشهور، ولهذا قال بعض العلماء - في حديث
(فإن غم عليكم فاقدروا له) -: فاقدروه بحساب المنازل. قال الحافظ: قاله العباس
بن سريج من الشافعية، ومطرف بن عبد الله من التابعين، وقتيبة من المحدثين. نقله
الحافظ عنهم، وذكر أن ابن عبد البر لم يعبأ بقولهم، ثم قال: ونقل ابن العربي عن
ابن سريج أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) خطاب لمن خصه الله بهذا
العلم، وأن قوله: (فأكملوا العدة) خطاب للعامة، فصار وجوب رمضان عنده
مختلف الحال، يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد،
قال: وهذا بعيد عن النبلاء اهـ.
وأقول: إنه يمكن حمل اختلاف الحالين على اختلاف الأوقات، فإذا وجد
الحاسبون عمل بقولهم؛ لأنه علم يقيني قطعي، وإن لم يوجدوا أكملت عدة الشهر
ثلاثين بشرطه؛ إذ لا يمكن الاتفاق على غيره.
ومثل ما ذكر - من الاستدلال على منع العمل بالحساب بأنه لا يفيد علمًا ولا
ظنًّا غالبًا - ما ذكره الحافظ عن ابن بطال، قال في شرحه للحديث المذكور: في
الحديث رفع لمراعاة النجوم بقانون التعديل، وإنما المعول عليه رؤية الأهلة، وقد
نهينا عن التكلف، ولا ريب أن ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.
اهـ. من الفتح.
وهو رد لا يرد على الحساب الذي نقول به؛ لأن هذا لا تكلف فيه ولا
غموض، وهو يدرك باليقين لا بالظنون، بل أقول: إن حساب التعديل الذي أشار
إليه صحيح في نفسه، وإنما التكلف في حفظ قواعده، والنظر في الزيج
والإصطرلاب، وقد استغني عن ذلك في هذا الزمان.
وقد اختلف فقهاء الشافعية في العمل بالحساب على أقوال:
(1) يجوز ولا يجزئ عن الفرض.
(2) يجوز ويجزئ.
(3) يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم.
(4) يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم.
(5) يجوز لهما ولغيرهما مطلقاً.
ذكر هذه الأقوال الحافظ في الفتح، وقال بعدها: وقال الصباغ: (أما
بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا) .
(قلت) : ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك، فقال في (الأشراف) :
(صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة،
وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته) .
هكذا أطلق، ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجًا
بالإجماع قبله اهـ.
وظاهر هذا القول الذي اعتمد عليه الحافظ في الإجماع، بل نص منطوقه أنه
لا يجوز إكمال عدة شعبان ثلاثين في حال الصحو مطلقًا، ولا يعتد بقول أحد يجيزه
كائنًا من كان؛ لأنه محجوج بالإجماع قبله، فإثبات رمضان هذا العام في هذا اليوم
(الجمعة) مخالف للإجماع، فهو باطل، ويجب إبطال هذا النوع من إثباته.
وأما الحساب فيظهر أنه لم يكن في عهد السلف الذين أجمعوا على ما ذكر قد
وصل إلى الدرجة المعهودة عندنا في هذا العصر من العلم اليقيني، والصورة التي
أجمعوا عليها لا يمكن أن تخالف الحساب، أعني أنه لا يمكن أن لا يرى الهلال في
مساء اليوم الذي يثبت الفلكيون الحاسبون إمكان رؤيته فيه عند انتفاء المانع، فهم
يبينون وقت ولادة الهلال - أي: مفارقته للشمس - في آخر الشهر بالساعات
والدقائق، ومنه يعلم إمكان رؤيته لمعتدلي البصر وعدم إمكانها، فإذا كان من الدقة
بحيث لا يرى لا يثبتون الشهر الشرعي بولادته، وإذا كان بحيث يرى قطعًا عند
انتفاء المانع من غيم أو قر يثبتون الشهر، فهنا يقال: إن الشهر قد ثبت برؤية
الهلال حقيقة أو حكمًا، وذلك أنهم إذا تراءوه رأوه قطعًا، فلا يكون إثبات وجوب
الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما هم يبينون للناس متى يرى،
وقد ظهر باختبار السنين صدقهم لكل من يرى تقاويمهم، ونحن في أشد الحاجة
إلى علمهم في حال وجود المانع من رؤية الهلال؛ لأنه علم يقيني كرؤية الهلال،
وإكمال عدة الشهر كثيرًا ما تكون خطأ كما تقدم بيانه، وهي تبنى في كل شهر على
رؤية هلاله، وإلا كانت مسألة حسابية، وقد تمر في بعض الأقطار التي تكثر فيها
الأمطار عدة أشهر لا يرى فيها هلال، فكيف يمكن العمل فيها بإكمال عدة الشهر
ثلاثين؟ ! ومن المعلوم حسابًا وشرعًا أن الشهر يكون تارة 30 وتارة 29.
إذا تمهد هذا فنحن نلخص الكلام في هذا الموضوع في مسائل:
(1) إن إثبات أول شهر رمضان وأول شهر شوال هو كإثبات أوقات
الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل العلم به على البدو والحضر؛ لما
تقدم من بيان حكمة ذلك، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات، لا التعبد
برؤية الهلال، ولا بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أي: انفصال
كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المستطير من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل
الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، لا برؤية غروب
الشمس وغيبة الشفق لوقتي العشاءين، فغرض الشارع من مواقيت العبادة معرفتها،
وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال، أو إكمال العدة
بشرطه قد علله بكون الأمة في عهده كانت أمية، ومن مقاصد بعثته إخراجها من
الأمية لا إبقاؤها فيها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) ، وفي معناها ما ذكره من دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك
في سورة البقرة، ويؤخذ منه أن لعلم الكتابة والحكمة حكمًا غير حكم الأمية.
(2) إن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها ما أمكن الاتفاق وسيلة
ومقصدًا، فإما أن تتفق كلها، أو أهل كل قطر منها على العمل بظواهر نصوص
الشرع، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأول في مواقيت
الصلاة والصيام والحج من رؤية الفجر والظل والغروب والشفق والهلال عند
الإمكان، وبالتقدير، أو رؤية العلامات عند عدم الإمكان، وفي هذه الحالة لا يجوز
لمؤذن الفجر أن يؤذن إلا إذا رأى ضوءه معترضًا في جهة المشرق، وهو يختلف
باختلاف الليالي، ففي النصف الثاني من الشهر - ولاسيما أواخره - يرى متأخرًا
عن الوقت الذي يرى فيه ليالي النصف الأول المظلمة بقدر تأثير نور القمر في جهة
المشرق، وقد قال صلى الله عليه وسلم في رمضان: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا
واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) ، قال بعض رواته: وكان رجلاً أعمى
لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. رواه الشيخان وغيرهما. وإما أن تعمل
بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت التي جرى عليها
العمل في جميع بلاد الحضارة الإسلامية في الصلاة مع المحافظة على الاستهلال
ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته؛ للجمع بين ظاهر النص والمراد منه،
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن الصلاة عماد الدين، فهي أفضل من الصوم
وأعم، وفي غير حالة الصحو وعدم المانع من رؤية الهلال يكون إثبات الشهر
بإكمال العدة ثلاثين ظنيًّا، أو دون الظني، ومن قواعد الشريعة المتفق عليها: إن
العلم مقدم على الظن، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا
يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد.
(3) إذا قيل: إن إفادة الحساب للعمل القطعي بوجود الهلال، وإمكان
رؤيته خاص بالفلكي الحاسب، وقد اختلف العلماء في العلم به كما ذكرتم، ولا
يكون علمهم حجة على غيرهم. قلنا: إن الذين لم يبيحوا العمل بالحساب قد عللوه
بأنه ظن وتخمين لا يفيد علمًا ولا ظنًّا، كما نقلناه عن شرح البخاري للحافظ ابن
حجر آنفًا، والحساب المعروف في عصرنا هذا يفيد العلم القطعي كما تقدم، ويمكن
لأئمة المسلمين وأمرائهم الذين ثبت ذلك عندهم أن يصدروا حكمًا بالعمل به فيصير
حجة على الجمهور، وهذا أصح من الحكم بإثبات الشهر بإكمال عدة شعبان ثلاثين
يومًا، مع عدم رؤية الهلال ليلة الثلاثين، والسماء صحو ليس فيها قتر ولا سحاب
يمنع الرؤية، فإن هذا مخالف لنصوص الأحاديث الصحيحة كما تقدم في هذا المقال،
فهو حكم باطل.
(4) يؤيد هذا الوجه الأخير القول الثالث للإمام أحمد فيما يجب العمل به
إذا غم على الناس رؤية الهلال وهو: أن يرجعوا إلى رأي الإمام (أي: السلطان
ولي الأمر الشرعي) في الصوم والفطر، وقد تقدم مع القولين الآخرين.
(5) إذا تقرر لدى أولي الأمر بالعمل بالتقاويم الفلكية في مواقيت شهري
الصيام والحج كمواقيت الصلاة وصيام كل يوم من الفجر إلى الليل امتنع التفرق
والاختلاف بين المسلمين في كل قطر، أو في البلاد التي تتفق مطالعها، وهذه لا
ضرر في الاختلاف في صيامها، كما أنه لا ضرر في الاختلاف في صلواتها.
وجملة القول أننا بين أمرين: إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادات
أخذًا بظواهر النصوص وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن
حتى يرى نور الفجر الصادق مستطيرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال
والغروب إلخ، وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به؛ لأنه أقرب إلى مقصد الشارع،
وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام
تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر عند عدم المانع من
الرؤية وتوزع في العالم، فإذا زادوا عليها استهلال جماعة في كل مكان، فإن رأوه
كان ذلك نورًا على نور، وأما هذا الاختلاف وترك النصوص في جميع المواقيت
عملاً بالحساب ما عدا مسألة الهلال فلا وجه ولا دليل عليه، ولم يقل به إمام مجتهد،
بل هو من قبيل {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85)
والله أعلم وأحكم.
__________(28/63)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
(الحجاز ونجد)
هما خير الأقطار الإسلامية في هذا العصر أمانًا في الأنفس والآفاق، وعدلاً في
الأحكام، وطاعةً للإمام، وقد شرعت حكومة الحجاز السعودية في رصف الحجارة في
المسعى بين الصفا والمروة لمنع الغبار، وتسهيل فريضة السعي على الحجاج، وهو
عمل قد فضلت به هذه الحكومة جميع ما قبلها من حكومات الإسلام، وشرعت أيضًا
في نشر التعليم، فناطت إدارة المعارف العامة بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد كامل
قصاب الشهير، فأنشأ المعهد السعودي العلمي الجامع للتعليم الديني والدنيوي
وبعض اللغات الأجنبية، وناط إدارته بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد بهجت البيطار
فأحسن الاختيار، وأنشأ مدارس جديدة، وسنبين تفصيل ذلك في باب التربية
والتعليم من جزء آخر، وإدارة الصحة هنالك مجدة في عملها.
وقد انتشر صيت الإمام السعودي في بلاد الغرب، وزار ثغر جدة بعض
الأوربيين والأميركانيين، فأثنوا عليه وعلى إدارته وأحكامه الإسلامية ثناءً لم يكن
يتصوره أحد، حتى شبهه كاتب ألماني يراسل كثيرًا من صحف بلاده بالبرنس
بسمارك أعظم ساسة أوربة في عصره، مع الشهادة بالنقل عن جميع قناصل الدول
بصراحته وصدقه، وأثنى عليه وعلى حكمه الإسلامي المستر كراين سفير الولايات
المتحدة في الصين من قبل، فقال: (لو رجع النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى
الدنيا لما رأى دينه الذي جاء به من النور والهدى إلا في بلاده نجد) . وقد نشر
ثناؤهما في أشهر الجرائد المصرية.
***
(اليمن)
يسوءنا من أخبارها رسوخ أقدام الدولة الإيطالية فيها يومًا بعد يوم، بإقدام رجلها
الطماع الطماح الضاري باستعمار البلاد العربية السنيور موسوليني
الجريء، وما تلا تدخل هذه الدولة من استعداد الإمام يحيى للحرب والكفاح، ولا
مجال للحرب هنالك إلا قتال جيرانه من العرب والمسلمين، ويقال: إن موعد
زحف جيوشه على جاره السيد الإدريسي شهر شوال الآتي. أعاذ الله العرب
والمسلمين من هذه الفتنة التي أجمعوا على كراهتها، والخوف من سوء عاقبتها،
ولا نزال نستبعد على حكمة الإمام يحيى إيقاد نارها؛ لما نعهد من بصيرته وأخلاقه،
وقد شرحنا ذلك في الجزء الماضي من المنار.
***
(مصر)
يعمل برلمانها عمله بهدوء واتفاق، وتسير حكومتها سيرها في إدارة البلاد،
مؤيدة بتضامن الأحزاب، وهي تتمتع فيها باستقلال إداري تام، ولكنه مقيد
بالامتيازات الأجنبية، والمراقبة البريطانية، وقد رزئت البلاد بعسرة مالية، كانت
عثرة في سبيل الغلو الفاحش في الإسراف والزينة، وانتشر وباء الإلحاد، وفساد
الأخلاق، وتهتك النساء، وفشو المسكرات والمخدرات، فهو يفتك بالأرواح
والأجساد، ويجرف ثروة البلاد، وقد أبت النيابة محاكمة داعية هذا الإلحاد
ولوازمه القاتلة الدكتور طه حسين، وأبت وزارة المعارف إخراجه من مدرسة
الجامعة، فنابتة الجامعة المصرية الجديدة خطر عظيم على مصر.
***
(العراق)
تسير حكومته كما تحب الدولة البريطانية وترضى في الظاهر، والشعب
مضطرب الباطن، وأداء فريضة الحج ممنوع إرضاءً للملك فيصل وأخيه، وتغليبًا
لأهواء متعصبي الشيعة، وقد حدثت في بغداد ثورة مدرسية فصحفية أيدها أحرار
البلاد بسبب اضطهاد وزير المعارف الشيعي لأستاذ سوري ألف كتابًا في التاريخ
يفضل به خلافة معاوية على خلافة أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه،
وذكر رأيه هذا في المدرسة للطلبة، فهاجت التلاميذ من الشيعة؛ فعزله الوزير،
وعزل سائر المدرسين السوريين، وأخرجتهم الحكومة من البلاد العراقية، وعزلت
بعض المدرسين البغداديين أيضًا، وطردت بعض الطلبة المتظاهرين لحرية العلم
على الوزارة طردًا، هكذا بلغتنا الحادثة ولم نر الكتاب المذكور.
***
(سورية)
تنتظر البلاد السورية ما عسى أن يكون من دراسة المندوب السامي الأخير
(موسيو بونسو) لأحوالها، وسماعه لآراء كبرائها وأحزابها، وزعماء الثورة
ينتظرون مع الأمة آخر أمل لهم في وحدة البلاد وحريتها واستقلالها؛ فلذلك هدأت
الثورة , ولكن لم تنطفئ جذوتها.
***
(فلسطين)
أسوأ ما يسوء من حوادثها تخاذل المسلمين بعد اتحاد كان مثار الإعجاب،
ومضيّ المستعمرين في عملهم بمنتهى النجاح، ودخول الصهيونيين لمأربهم الأسمى
من كل باب، وقيام الأمير عبد الله (الحسين علي) بخدمته لمستعمليه على شرق
الأردن بمنتهى الاجتهاد، فقد قضى على استقلالها، وجعلها ملحقة بفلسطين في
انتدابها، واقتطع بالتواطؤ مع أخيه (علي) الذي كان مملَّكًا في جدة قطعة من أثمن
أرض الحجاز المقدسة، فألصقها بها، ومكن بها الأجانب مقاتلها، بل مقاتل الحجاز
أيضًا، وألقى الشقاق بين أعرابها وبين جيرانهم من أهل نجد والحجاز إلخ " وكل
الصيد في جوف الفرا ".
***
(جاوه)
مسلمو جاوه يسيرون في نشر العلم والإصلاح في بلادهم سيرًا حسنًا , ولم
تؤثر في بلادهم دعاية الرفض والشقاق شيئًا، ولكن حدث في بلادهم ثورة بلشفية لم
تكن منتظرة منهم؛ لأن هداية الإسلام أقوى من نزعات التفرنج فيهم، وقد نكلت
حكومتهم الهولندية بكثير من رجال الثورة والمتهمين بها، فنحن ننصح لرجال الدين
أن يبينوا للشعب ما بين البلشفية والإسلام من الخلاف والتباين، وننصح للحكومة
الهولندية أن تكف من غلواء دعاة النصرانية في هذه البلاد , فإنه لا شيء يبغضها إلى
المسلمين ويعدهم لقبول الثورات البلشفية , وغيرها من الفتن إلا الطعن في دينهم ,
واضطهادهم فيه.
وليعلم أحرار هذه الأمة أن نقل شعب مسلم من أفق التوحيد إلى حظيرة
التثليث غاية لا تدرك، وأكبر ما فعله دعاة النصرانية في البلاد الإسلامية تشكيك
بعض المسلمين في دينهم , وفي كل دين بالأولى، ومتى ضاع دين المسلم صار
قابلاً لجميع الآراء والأفكار العصرية، التي هي أشد خطرًا على الدول الاستعمارية
بما حدث في الشرق من اليقظة العامة والجرأة التامة.
***
(الهند)
كان مسلمو الهند في السنين التي تلت الحرب أحسن حالاً مما كانوا قبلها في
اتفاقهم مع الوثنيين من أهل وطنهم على الحكومة الإنكليزية، كما كانوا أحسن حالاً
في شؤونهم الإسلامية الخاصة بهم، فساء الحالان كلاهما في هذا العام، واشتد الشقاق
والخصام، ومما ينتقد على أهل الهند في مسألتهم الوطنية أن أكبر مثار للشقاق بين
المسلمين والهندوس هو إصرار المسلمين على ذبح البقر على مرأى من الهندوس
وأكلها، ومرور هؤلاء بمعازفهم على مساجد أولئك للتهويش عليهم في أثناء
صلواتهم، ولو ترك كل من الفريقين ما يسوء الآخر من هذين الأمرين لم يكن آثمًا
في حكم دينه، والأولى بالإثم من يعمل عملاً مباحًا في الدين وهو يعلم أنه يفضي إلى
شقاق وقتال تسفك فيه الدماء , إن الله تعالى أحل للمسلمين أكل البقر , ولم يفرضه
عليهم، وإن أكثر المسلمين الذين عرفنا بلادهم لا يأكلون لحم البقر , ولا يحرمونه.
وأما الشقاق بين المسلمين أنفسهم , فقد بدأ بإثارته غلاة التعصب من الشيعة ,
واستخدموا جمعية خدام الحرمين في (لكهنو) ، ولكن تأثير هؤلاء بدعاية ملكي
مكة الشريف حسين وولده الشريف علي كان ككيد الشيطان ضعيفًا، فنفخ في ناره
الزعيمان السياسيان شوكت علي ومحمد علي بتحولهما عن سياستهما السابقة في
تأييد ابن السعود إلى سياسة الإسراف والإفراط في عداوته؛ لأنه لم ينفذ لهما رأيهما
في جعل حكومة الحجاز جمهورية بالشكل الذي يقترحانه، وهو ما لا يوافقهما عليه
العالم الإسلامي , وإنما يوافقهم عليه الشيعة وبعض المقلدين لهما من عوام الهنود،
وسنبين ذلك بالتفصيل في رحلتنا الحجازية إن شاء الله تعالى.
ونقول هنا: إنه لا يوجد شيء أضر على الأمم والشعوب من الخلاف
والشقاق، فإن فرضنا أن رأي الزعيمين الكبيرين حسن في نفسه، فإن مساوي
الوسيلة التي يتوسلان بها إليه تزيد على حسنه أضعافًا كثيرة، وهذه المساوي دينية
وسياسية، من أقبحها تجديد النزاع والتباغض بين أهل السنة والشيعة بعد أن خبت
نارهما بسعي العقلاء المصلحين، بدعوة حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني
ومريديه من الفريقين - ولعلنا أشدهم اجتهادًا في ذلك - ومنها الدعوة إلى ترك أداء
فريضة الحج ما دام ابن سعود مستوليًا على الحجاز، ومن استحل هذا يرتد عن
الإسلام بإجماع أهل السنة والشيعة , وقد كان من مفاسد هذا الشقاق سعي بعض
الهنود لدى الدولة البريطانية بقتال ابن السعود في حرم الله ورسوله , وإخراجها إياه
منه.
وزعيم هذه الجناية على الإسلام والمسلمين زعيم الشيعة محمد علي راجا
محمود آباد - فهل يجهل أجهل مسلم في الدنيا أن خصوم ابن السعود أعدى أعداء
الإسلام؟ ؟
__________(28/74)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تقريظ المطبوعات
مجلات جديدة
(لغة العرب)
(مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية - بيد الآباء الكرمليين المرسلين. صاحب
امتيازها الأب أنستانس ماري الكرملي) .
أنشئت هذه المجلة ببغداد سنة 1329 الموافقة سنة 1911، وصدر الجزء
الأول في منتصف هذه السنة الميلادية , وقرظناها في الجزء الثامن من المجلد
الرابع عشر , واستمرت ثلاث سنين , ثم حجبت في سنة 1914 ميلادية بسبب
الحرب العظمى ونكباتها , وقد استؤنف إصدارها في منتصف السنة الماضية
(1926) , وهي تصدر في بغداد كل شهر (وبدل اشتراكها في بغداد 12 ربية
(هندية) , وفي الديار العربية اللسان 13 ربية، وفي الديار الأجنبية 15 ربية
تدفع كلها سلفًا) , فعسى أن تلقى في جميع البلاد العربية , وعند أهل العلم والأدب
العربي في كل قطر ما تستحقه من الرواج، ويكافئ عناية صاحب امتيازها المدقق
بهذه اللغة الجليلة.
***
(الجامعة)
مجلة علمية تاريخية فلسفية أدبية تصدر في بغداد من قبل المدرسة العالية
التي أنشئت في ضواحي بغداد باسم (جامعة آل البيت) , وفي طرتها أنها
مختصة بمحاضرات الأساتذة , ومقالات المنتمين إلى الجامعة، وأنه يقوم بطبعها
طلبة الجامعة، وأنها تصدر في الشهر مرة أو مرتين، وأن بدل الاشتراك فيها
عن اثني عشر عددًا 15 ربية (هندية) , وقد صدر العدد الأول منها في 30 شعبان
سنة 1344 الموافق 15 آذار (مارس) سنة 1926 , وصفحاته 96 من القطع
الكامل , وصدر العدد الثاني في 5 صفر سنة 1345 الموافق 15 آب (أغسطس) ,
ولم نطلع على غير هذين العددين.
جامعة آل البيت هذه أثر للملك فيصل يحفظه له التاريخ , فهو الذي اقترحها ,
وينفذ اقتراحه بالتدريج , وسنتكلم عنها في فرصة أخرى بعد الوقوف على ما يجب
من شؤونها , وفي المجلة جل المباحث العلمية منه , وإن لنا لعودة إليه إن شاء الله
تعالى.
***
(الوحي)
مجلة شهرية تبحث في الأدب والدين لمنشئيها: محمود عثمان، وزاكي
عثمان تصدر في مدينة (حماه) ، وقيمة اشتراكها في حماه وسورية 40 قرشًا
ذهبًا , وفي بقية الأقطار 30 قرشًا مصريًّا , ويحسم ربع القيمة لمعلمي المدارس
وتلاميذها , والجزء منها مؤلف أربع كراريس (ملازم) من القطع الوسط (أي: 32
صفحة) .
***
(مرآة المحمدية)
مجلة اجتماعية أخلاقية تصدر مرة في كل شهر أصدرها مؤلفات الكتب
للجمعية المحمدية في (جكجاكرتا - جاوه) باللغة العربية في هذا العام , فصدر
العدد الأول منها في عاشر ربيع الأول منه , ومحررها السيد (محمد علي قدس)
ومديرها المالي السي (محمد أسلم بن زين الدين) , وهي ترسل لكل من يطلبها
مجانًا؛ لأن اشتراكها على أريحية المحسنين , فبارك الله بمحسني الجاويين.
وأما الجمعية المحمدية نفسها فقد أُلِّفت منذ بضع عشرة سنة بإرشاد داعية
الإصلاح الحاج أحمد دحلان - رحمه الله تعالى - ونجحت نجاحًا عظيمًا، ولها في
مركزها العام مكتبة مفتوحة للمطالعين فيها المختارات النافعة من المطبوعات
العربية والجاوية , وقد أنشأت جماعة النساء المنتسبات إلى الجمعية مسجدًا خاصًّا
بهن يصلين فيه الصلوات , وللجمعية أيضًا فرقة كشافة تتولى تربيتها على الأساليب
الحديثة زادها الله نجاحًا وتوفيقًا.
***
(التمدن الإسلامي)
مجلة تبحث في الدين والأدب وشؤون الاجتماع، شعارها: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) , أنشأها في طرابلس الشام
كل من عبد الحليم بك مراد صاحب الامتياز بها والمدير المسؤول عنها , وعبد الله
أفندي الشامي رئيس تحريرها , وهي تصدر في كل شهر قمري مرتين , كل جزء
منها عشرون صفحة كبيرة , وقيمة الاشتراك فيها مدة سنة كاملة ثلاثون قرشًا سوريًّا
ذهبًا في سورية، وخمسون قرشًا في خارجها , وقد رأينا فيما صدر منها مقالات في
أهم المسائل الإسلامية التي تهم مسلمي هذا العصر لعلماء طرابلس وأدبائها، تبشر
بإمدادهم إياها , وعنايتهم بها، فنتمنى لها سعة الانتشار والتوفيق.
***
(الكشاف)
مجلة علمية أدبية مصورة غايتها: الاجتماعي عن طريق التربية والتهذيب ,
يصدرها في بيروت مقر الكشاف العام. مديرها المسئول محمود أفندي أحمد عيتاني،
ومدير شؤونها بهاء الدين أفندي الطباع، واشتراكها السنوي في البلاد السورية 75
قرشًا ذهبيًّا , وفي الخارج عشرون شلنًا (جنيه إنكليزي) , وللكشافة في سورية 60
قرشًا , وفي الخارج 17 شلنًا , وقد صدر الجزء الأول منها في رجب الماضي في 64
صفحة حافلة بالفوائد. والرجاء في ثباتها , والانتفاع بها قوي بهمة الكشافة ,
واستعداد الشعب.
***
(اللطائف العصرية)
مجلة علمية أدبية روائية فكاهية تصدر في بيروت مرتين في الشهر-
لصاحبها عبد الرحمن أفندي عكاوي مديرها المسؤول , وعزت أفندي الطيان ,
واشتراكها السنوي 40 قرشًا ذهبًا في سورية ولبنان , وفي الخارج 75 قرشًا , أو
ما يعادلها قروشًا سورية , مع خصم 15 بالمائة لطلبة المدارس ومعلميها.
كان صدر منها بضعة أجزاء , ثم حجبت عن قرائها , ثم عادت إلى الظهور ,
وبين يدينا الآن الجزآن 8 و 9 , وينتهيان بالصفحة 2889 , وقد صدرا في جمادى
الآخرة من هذا العام.
***
(غابر الأندلس وحاضرها)
تاريخ وجيز للأستاذ محمد كرد علي أفندي رئيس المجمع العلمي في دمشق،
أودعه خلاصة تاريخية جامعة مفيدة مما طالعه في الكتب العربية , والإفرنجية في
ذلك التاريخ العربي الذهبي في بدايته , الناري في نهايته , ومما أُطلِعَ عليه واستفاده
في سياحته , وقد طبع سنة 1341 بالمطبعة الرحمانية بمصر , وثمن النسخة منه
خمسة قروش.
***
(مجلة كلية الحقوق)
للمباحث القانونية والاقتصادية , يصدرها في مصر جماعة من كبار رجال
القوانين , وطلبة كلية الحقوق , ورئيس تحريرها الأستاذ حسني عبده الشنتناوي ,
وقد صدر الجزآن الأولان منها , وفي صدورهما مقالان لصديقنا الأستاذ الشيخ
أحمد إبراهيم مدرس الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق , أفقه فقهاء مصر في هذا
العصر , فهو من محرري هذه المجلة , وهي تطبع على ورق جيد من القطع
الكامل, ومن الغريب الشاذ أن الأرقام العددية لصحائفها غير متسلسلة في أجزائها ,
بل جعل للجزء الثاني أرقامًا مستأنفة كأنه كتاب مستقل.
***
(البلاغ الجزائري)
جريدة علمية إرشادية دفاعية , يصدرها في مدينة الجزائر مديرها وصاحب
امتيازها السيد حدوني محمد بن محيي الدين في ورقة ذات صفحتين، وهي تُنَوِّهُ
بالصوفية , وتدافع عن مشايخ الطرق الذين قامت عليهم قيامة أهل هذا العصر من
المسلمين , وقيمة اشتراكها في الجزائر 30 فرنكًا , وفي بقية الأقطار 35 فرنكًا.
__________(28/78)
رمضان - 1345هـ
أبريل - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكمة تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وهي الفتوى الثالثة الخاصة بنا في هذا المجلد
نشرنا في الجزء الماضي سؤالاً عن حكمة تعدد أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم، بإمضاء الباحثة الفاضلة (بهيجة ضيا) من طنطا , كان أجابها عنه الأستاذ
الشيخ محمود غراب وأرسلت إلينا جوابه؛ لنبين رأينا فيه، فنشرناه ووعدنا بالعود
إلى إبداء رأينا فيه بعد ما سبق لنا من بيان ذلك في المنار والتفسير فنقول:
إن ما أجاب به الأستاذ المذكور حسن , ولكن يتوقف تحقيقه من كل وجه على
العلم بتاريخ نزول آية حصر تعدد الأزواج في أربع , وآية تخيير الرسول صلى الله
عليه وسلم لأزواجه.
ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن التخيير كان سنة تسع من الهجرة، ولم نقف
على تاريخ نزول آية سورة النساء في التعدد، إلا أن المذكور في كتب المصاحف أن
سورة الأحزاب المشتملة على آية التخيير قد نزلت قبل سورة النساء، فإن كانت
سورة الأحزاب نزلت دفعة واحدة لكان التخيير وقع قبل تقييد التعدد بالأربع , وقد ورد
أن غيلان بن سلمة الثقفي لما أسلم كان عنده عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه
وسلم أن يختار منهن أربعًا، وكان إسلامه عند فتح الطائف بلده سنة ثمان من
الهجرة، وروي أن قيس بن الحارث أسلم وله ثمان نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه
وسلم أن يمسك أربعًا منهن أيضًا، ولكننا لا نعرف سنة إسلامه، وكان آخر زواج له
صلى الله عليه وسلم هو زواج ميمونة في أواخر سنة سبع , وذلك بعد نزول سورة
النساء فيما يظهر.
وقد اتفق العلماء على خصائصه صلى الله عليه وسلم , وأن منها عدم التقييد
بالأربع , وذهب بعضهم إلى نسخ تحريم النساء عليه بعد اختيار أزواجه التسع له،
ولكن هذا ضعيف بالرغم من ترجيح بعض المتأخرين له، والتحقيق المختار أنها
محكمة , وأن الله تعالى حرم عليه أن يتزوج على نسائه التسع اللاتي خيرهن فاخترن
الله ورسوله , أو أن يستبدل بهن غيرهن بالطلاق كما يباح لغيره , وهذا قول ابن
عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن البصري وابن سيرين وأبي بكر بن
عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير. قاله في فتح البيان ورجح
غيره.
ومن أدلة الأول ما رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي
حاتم , عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ
أَزْوَاجٍ} (الأحزاب: 52) قال: (ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل، وقد كان
ينكح بعدما نزلت هذه الآية ما شاء) قال: (ونزلت وتحته تسع نسوة , ثم تزوج بعد
أم حبيبة - رضي الله عنها - بنت أبي سفيان , وجويرية بنت الحارث. اهـ.
وأقول: إن هذا غلط , والرواية معلقة فيما يظهر؛ لأن التخيير كان سنة تسع
من الهجرة كما تقدم آنفًا، وكان تزوجه بجويرية بنت الحارث سنة خمس وبأم حبيبة
سنة ست , وقيل سبع , وهما من التسع اللاتي خيرهن كما رواه ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن قالا: (وكان تحته تسع نسوة: خمس من
قريش عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة
بنت أبي أمية , وأما الأربع الباقيات فهي: صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت
الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجورية بنت الحارث من بني
المصطلق (قالا أو قال قتادة) : وبدأ بعائشة , فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة
رؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتابعن كلهن على ذلك، فلما
خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة شكرهن الله على ذلك أن قال: {لاَ يَحِلُّ
لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب:
52) فقصره الله عليهن وهن القسم اللاتي اخترن الله ورسوله. اهـ.
وخبر التخيير والبدء بعائشة في الصحاح، وذكره البخاري في عدة مواضع.
وأما الشق الثاني من سؤال الباحثة الفاضلة (بهيجة ضيا) وهو السبب , أو
الحكمة في تزوجه صلى الله عليه وسلم بغير السيدة زينب بنت جحش المعروف سبب
زواجها بالنص , وهو ما لم يقل فيه الشيخ محمود الغراب شيئًا , فقد سبق لنا بيانه في
المجلد الخامس من المنار في تفسير آية النساء، من جزء التفسير الرابع , فنعيده مع
زيادة في الفائدة , فنقول: إن أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة هي
سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية، وأمها الشموس بنت قيس
بن زيد الأنصارية من بني عدي ابن النجار، وهي من المؤمنات السابقات إلى الإيمان
المهاجرات الهاجرات لأهاليهم خوف الفتنة في دينها، توفي زوجها، وهو ابن عمها
بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، ولو رجعت إلى أهلها لعذبوها ليفتنوها عن
الإسلام كغيرها , فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها , وتزوج بها في مكة عام
الهجرة، وفي هذا الاختيار تأليف لبني عبد شمس أعدائه , وأعداء بني هاشم كلهم من
قبله، وتشريف لبني النجار أخوال عترته الهاشمية وأكرم أنصاره، وقد هاجر على
أثر بنائه بها إلى المدينة. روى عنها ابن عباس وغيره. وفي السنة الثانية من
الهجرة تزوج بعائشة بنت أبي بكر الصديق الأكبر , وأول من آمن به من الرجال،
وفداه بالنفس والمال، وصاحبه في الغار، ورفيقه الوحيد في الهجرة من الدار، ولم
يتزوج بِكْرًا غيرها، وكانت من أذكى البشر عقلاً، وأزكاهم نفسًا، وهي أكثر أمهات
المؤمنين وغيرهن روايةً وفقهًا في الدين.
وفي السنة الثالثة , وقيل الثانية: تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب وزيره
الثاني بعد أبي بكر، وأعز صحبه، ومظهر دينه، وكان عمر عرضها بعد وفاة
زوجها الأول على أبي بكر (رضي الله عنهما) , فعلم بذلك النبي صلى الله عليه
وسلم , فاختارها لنفسه؛ ليساوي بين وزيريه في تشريفهما بمصاهرته، ولم يكن من
الممكن أن يكافئهما في هذه الحياة الدنيا بأكبر من هذا الشرف , ويقابل ذلك إكرامه
لعثمان وعلي (رضي الله تعالى عنهما) بتزويجهما ببناته، وهؤلاء الأربعة أعظم
أصحابه في حياته، وخلفاؤه في إقامة دينه ونشر دعوته بعد وفاته , روى عن حفصة
أخوها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية وكثيرون.
وفي السنة الثالثة , وقيل الخامسة: تزوج زينب بنت جحش الأسدية , وهي
ابنة عمته أميمة , بعد أن زوجها بمولاه (عتيقه) زيد بن حارثة الذي كان تبناه في
الجاهلية , فلما حرم الله التبني في الإسلام، وأبطل كل ما كان يتعلق به من أحكام،
ومن أهمها: تحريم زوجة الدعي على متبنيه كحرمتها على والده , وكان العمل بإلغاء
هذه الأحكام شاقًّا على الأنفس , لا يسهل على الجمهور إلا إذا بدأ به من يشرف كل
كبير وصغير بالاقتداء به , فلا يعيره أحد , أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن
يزوج زيدًا بزينب هذه؛ لعلمه تعالى بأنهما لا يثبتان على هذه الزوجية؛ لأنها بطبعها
ونسبها تترفع عليه , وتسيء عشرته , ففعل , فاشتد الشقاق بينهما , فطلقها , فأنزل
الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37) الآية.
ولشيخنا مقال طويل في هذه المسألة , ولنا مقال وضحناه فيه , وهما منشوران
في المجلد الرابع من المنار , ومع تفسير سورة الفاتحة الذي طبع مرارًا.
وفي سنة أربع تزوج بهند أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية، وكان أبوها من
أجواد العرب المشهورين، وتزوجت ابن عمها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي وكان
من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم بعد عشرة أنفس، وهو ابن عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وكان أول من هاجر إلى الحبشة،
وكانت معه، وولدت له سلمة في أثناء ذلك , ثم عاد إلى مكة، ولما أراد الهجرة بها
إلى المدينة صدها قومها، وانتزعوها منه هي وابنها سلمة، ثم انتزع بنو عبد الأسد
آل زوجها ابنها سلمة من آلها بالقوة حتى خلعوا يده، فكانت كل يوم تخرج إلى الأبطح
تبكي، حتى شفع فيها شافع من قومها، فأعطوها ولدها، فرحَّلت بعيرًا، ووضعت
ابنها في حجرها، وهاجرت عليه؛ فكانت أول امرأة هاجرت إلى الحبشة، ثم كانت
أول ظعينة هاجرت إلى المدينة , وكانت تجل زوجها أيما إجلال، حتى إن أبا بكر
وعمر خطباها بعد وفاته من جرح أصابه في غزوة أحد، فلم تقبل، وعزاها النبي
صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (سلي الله بأن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا)
فقالت: ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟ فلم ير لها - صلوات الله تعالى عليه وعلى
آله - عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها ترضاه غيره، ولما خطبها لنفسه اعتذرت بأنها
مسنة، وأم أيتام، وذات غيرة، فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سنًّا،
وبأن الغيرة يذهبها الله تعالى، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله , فالنسب الشريف،
والسبق إلى الإسلام، والمتانة فيه، وعلو الأخلاق، وكفالة الأيتام لمثل هذا البيت كل
منها سبب صحيح لاختيار صاحب الخلق العظيم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق لهذه
المرأة الفضلى، على أن لها فوق ذلك فضيلة أخرى هي جودة الفكر وصحة الرأي،
وحسبك من الشواهد على هذا استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في أهم ما
أحزنه، وأهمه من أمر المسلمين في مدة البعثة، وما أشارت به عليه، ذاك أن
الصحابة رضي الله عنهم كان قد ساءهم صلح الحديبية الذي عقده صلى الله عليه وسلم
مع المشركين، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط المعلومة التي تدل في ظاهرها
على أن المسلمين مغلوبون، ولم يكونوا بمغلوبين، وإنما حبه صلى الله عليه وسلم
للسلم، ولاختلاط المسلمين بالمشركين، وكان دونه خرط القتاد , كان من أثر هذا
الاستياء أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير،
والعود إلى المدينة، فلم يمتثل أمره أحد، فلما استشارها رضي الله عنها في ذلك
وقال: (هلك الناس) هونت عليه الأمر وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق
رأسه، وجزمت بأنهم لا يلبثون أن يقتدوا به، وكذلك كان.
وروى عنها كثيرون من الرجال والنساء، فهي تلي عائشة في كثرة الرواية.
وفي سنة خمس تزوج برة بنت الحارث سيد بني المصطلق وسماها جويرية،
وكان أبوها هو وقومه قد ساعدوا المشركين على المؤمنين في غزوة أحد سنة أربع ,
ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع الجموع لقتاله؛ فخرج له , فالتقى الجمعان
في المريسيع وهو ماء لخزاعة , فأحاط بهم المسلمون , وأخذوهم أسرى بعد قتل
عشرة منهم , وكانت برة بنت سيدهم في الأسرى , فكاتب عليها من وقعت في سهمه ,
فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم , فتعرفت إليه بأنها بنت سيد قومها , وذكرت
بلاياها , واستعانته على كتابتها لتحرير نفسها فقال: (أو خير من ذلك؟ أؤدي عنك
كتابتك , وأتزوجك) ، قالت: نعم. ففعل، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فأعتقوا جميع الأسرى والسبايا، فأسلموا كلهم، فكانت أعظم امرأة
بركة على قومها، وكان لهذا العمل أحسن التأثير في العرب كلها. وروي أن أباها
جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنتي لا يسبى مثلها، فخل سبيلها. فأمره
صلى الله عليه وسلم أن يخيرها، فسر بذلك، فخيرها؛ فاختارت الله ورسوله،
وكانت من أعبد أمهات المؤمنين، وروى عنها ابن عباس وجابر وابن عمر وعبيد بن
السباق وابن أختها الطفيل وغيرهم.
وفي سنة ست، تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية ذرية نبي الله
هارون أخي موسى عليهما السلام، كانت من بني النضير، وأسرت بعد قتل زوجها
في غزوة خيبر، فأخذها دحية في سهمه، فقال أهل الرأي من الصحابة: يا رسول
الله، إنها سيدة بني قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك. فاستحسن رأيهم , وأبى أن
تذل هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها , فاصطفاها , وأعتقها , وتزوجها، كراهة
لرق مثلها في نسبها وقومها، ووصل سببه ببني إسرائيل لعله يخفف مما كان من
عدواتهم له , وكان بلال قد مر بها وبابنة عم لها على قتلى اليهود , فصكت ابنة عمها
وجهها , وحثت عليه التراب , وهي تصيح وتبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(أنزعت الرحمة من قبلك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟) رواه ابن إسحاق.
وفي حديث الترمذي: أن صفية بلغها أن عائشة وحفصة قالتا: نحن أكرم على رسول
الله منها. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا قلت: وكيف تكونان
خيرًا مني وزوجي محمد، وأبي هارون , وعمي موسى؟) ، روى عنها ابن أخيها ,
وموليان لها , وعلي بن الحسين بن علي وغيرهم.
وفي سنة ست , أو سبع , تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموي أشد
أعدائه تأليبًا عليه وحربًا له صلى الله عليه وسلم , وكانت أسلمت بمكة , وهاجرت مع
زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة , فتنصر زوجها هنالك , وفارقها , فأرسل
النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي , فخطبها له , وأصدقها عنه أربعمائة دينار
مع هدايا نفيسة , ولما عادت إلى المدينة بنى بها , ولما بلغ أبا سفيان الخبر قال: هو
الفحل لا يقدح أنفه. فهو لم ينكر كفاءته صلى الله عليه وسلم , بل افتخر به , ولكنه
ما زال يقاتله حتى يئس بفتح مكة , وكان من تأليفه صلى الله عليه وسلم له، أن قال
يوم الفتح: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)
روى عنها ابنتها , وأخواها، وابن أخيها , وابن أختها , ومولياها , وآخرون.
وفي أواخر سنة سبع , تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية وكان
اسمها برة , فسماها ميمونة , وكان ذلك في إبان عمرة القضاء , وهي آخر أزواجه
أمهات المؤمنين زواجًا وموتًا , كما في بعض الروايات , وقد قالت فيها عائشة: (أما
إنها كانت من أتقانا لله , وأوصلنا للرحم) .
ولم أقف على سبب، ولا حكمة لتزوجه بها، ولكن ورد أن عمه العباس رغبه
فيها، وهي أخت زوجه لبابة الكبرى أم الفضل، وهو الذي عقد له عليها بإذنها.
روى عنها أبناء أخواتها، ومواليهم، وآخرون، أجلهم: ابن عباس، هذا،
وإنني قلت في أواخر الفتوى الأولى (سنة 1320) ما نصه: وجملة الحكمة في
الجواب أنه صلى الله عليه وسلم راعى المصلحة في اختيار كل زوج من أزواجه -
عليهن الرضوان - في التشريع والتأديب، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم،
وعلم اتباعه احترام النساء، وإكرام كرائمهن والعدل بينهن، وقرر الأحكام بذلك،
وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم من الأحكام ما يليق بهن مما ينبغي
أن يتعلمنه من النساء دون الرجال، ولو ترك واحدة فقط لما كانت تغني في الأمة غناء
التسع، ولو كان عليه السلام أراد بتعدد الزواج ما يريده الملوك والأمراء من التمتع
بالحلال فقط، لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات المكتهلات (منهن) كما قال
لمن اختار ثيبًا: (هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك) وفي رواية زيادة (وتضاحكها
وتضاحكك) وهو من حديث جابر في الصحيحين. اهـ.
وأذكر القارئ بأن تعدد الزوجات في ذلك العصر كان من الضروريات؛ لكثرة
القتلى من الرجال، وحاجة نسائهم إلى من يكفلهن؛ لأن أكثر أهلهن من المشركين.
__________(28/113)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مال الزكاة لإعانة المدارس الخيرية الإسلامية
(س4) من صاحب الإمضاء في بلدة الشيخ سعيد (عدن)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، المقتدى بهم - رضي الله عنهم - فيمن
دفع شيئًا من زكاة ماله المفروضة لإعانة مدرسة خيرية , تعلم أولاد الفقراء العاجزين
عن أجرة تعليم القرآن والكتابة والنحو والصرف والحساب والفقه , وغيره من
العلوم الشرعية , هل تجزئ الدافع , وتسقط عنه الفرضية لمشروعنا المذكور , أم
لا؟ أفيدونا زادكم الله علمًا وهدًى.
... ... ... ... ... ... ... السائل عبد الله بن عمر مدحج
ناظر الإدارة والمدرسة الإسلامية في بلدة الشيخ عثمان من ملحقات عدن.
(ج) الجمهور على أن الإنفاق على المدارس ليس مصارف الزكاة الثمانية،
وهنالك قول بأن قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 195) عام يشمل ما
يرضي الله تعالى من أعمال البر , ويدخل فيه التعليم المشروع , واختاره شيخنا
الأستاذ الإمام , ومن يقلد الجمهور يمكنه أن يعطي ما يريد إنفاقه على تعليم أولاد
فقراء المسلمين لأوليائهم إن كانوا قاصرين لينفقوه على تعليمهم , ولهم أنفسهم إن
كانوا راشدين , والله أعلم وأحكم.
__________(28/119)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
سماع الغناء والتلاوة من آلة الفونغراف
(س5) من صاحب الإمضاء في دنقلا (السودان)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة، الأستاذ الجليل، العلامة السيد محمد رشيد
رضا , حفظه سرمدًا، وجعله منارًا للأنام ومرشدًا، وبعد: أريد أن أوجه لفضيلتكم
سؤالاً لإرشادنا بالإجابة عنه للوقوف على الحقيقة، وها هو السؤال، ونرجو نشره
في مجلتكم المنار الغراء:
ما قولكم - دام فضلكم - في الغناء بالآلة المسماة بالفونوغراف، هل هو
محرم أو مكروه؟ وإن كان، فما نوع الكراهة؟ وما حكم قراءة القرآن به؟ هل
يترتب عليها ما يترتب على القارئ من نحو سجود التلاوة، أو الموانع التي تترتب
على منع القارئ من القراءة؟ وهل يجوز استعماله إن كان لا يمنع صاحبه من
أداء الفرائض في أوقاتها كالصلاة، ونحوها مع حفظ مجلسه من استعمال المحرمات
فيه كالخمر وما شاكله، وإنما يقصد مسمعه منه ترويح النفس من عناء الأعمال،
وإدخال السرور على المستمعين له من الأصدقاء والأحباب والأهل والعشيرة؟
أفيدونا الجواب، ولكم الأجر والثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ودمتم
في حفظه تعالى.
... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... محمود حسين الحكم طالب علم بدنقلا
(ج) سبق لنا فتوى في سماع القرآن من الفونغراف، وما يتعلق من الأحكام،
نشرت في (ج6: م 10 من المنار سنة 1325) ، ذكرت فيها أن بعض
أصحاب العمائم تجرأ على القول بإباحته مطلقًا، وأن شيخنا الأستاذ الإمام كان يتأثم
من ذلك مطلقًا، وأن الأقرب أن يكون ذلك تابعًا لقصد المستعمل للآلة، فإذا قصد
بذلك الاتعاظ والاعتبار بسماع القرآن؛ فلا وجه لحظره، وإذا قصد به التلهي،
وهو ما عليه الجماهير في كل ما يسمعونه من الفونغراف؛ فلا وجه لاستباحته،
وأخشى أن يدخل صاحبه في عداد الذين اتخذوا دينهم هزوًا ولعبًا، وذكرت بعض
الآيات في هذا المعنى، وأنه يترتب على ما ذكر كل ما يتعلق به من وجوب احترام
الألواح التي تنقش فيها آيات القرآن، وسجود التلاوة، وغير ذلك.
هذا، وإنني لا تطيب نفسي لاستعمال الفونغراف في تلاوة القرآن، ولكن
تحريمه على من يمكن أن يتعظ به ويستفيد ليس بالأمر السهل.
وأما سماع الغناء والشعر من هذه الآلة، فحكمه حكم السماع من مُغَنٍّ ليس في
غنائه فتنة، ولا تحريض على معصية، ولا شغل عن واجب، وهو في هذه الحال
التي تسألون عنها مباح، ومن العلماء من شدد في السماع، ولا سيما للمعازف
تشديدًا عظيمًا، وقد محصنا المسألة في المجلد التاسع من المنار بذكر أدلة الحظر
والإباحة كلها وترجيح الحق فيها، وهو الإباحة.
__________(28/120)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما قبله)
(2)
فصل
الخلاف في السفر الشرعي، وحكمه:
السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق , ثم قد تنازع
الناس في جنس السفر وقدره , أما جنسه فاختلفوا في نوعين: (أحدهما) حكمه ,
فمنهم من قال: (لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو) , وهذا قول داود
وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم: وهو قول جماعة من السلف , كما روينا
من طريق ابن أبي عدي، حدثنا جرير , عن الأعمش , عن عمارة بن عمير ,
عن الأسود , عن ابن مسعود , قال: (لا يقصر الصلاة إلا حاج , أو مجاهد) ,
وعن طاوس أنه كان يُسأَلُ عن قصر الصلاة , فيقول: (إذا خرجنا حجاجًا , أو
عُمَّارًا؛ صلينا ركعتين) , وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في
حج , أو عمرة , أو جهاد. وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر
للمسافر , فإن القرآن ليس فيه إلا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا ,
وهذا سفر الجهاد , وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه
وعُمَرِه وغزواته , فثبت جواز هذا , والأصل في الصلاة الإتمام , فلا تسقط إلا
حيث أسقطتها السنة.
ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة , فلا يقصر في مباح كسفر
التجارة. وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي
يجوز فيه الفطر، وهو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله
وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، رواه عنه أنس بن مالك الكعبي،
وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد، وأيضًا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره , عن
يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) فقد أمن الناس. فقال:
عجبت مما عجبت منه , فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , فقال:
(صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) , وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه
قصر العدد، وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها.
وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها , وإن شئنا لم
نقبلها , فإن قبول الصدقة لا يجب؛ ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين , وهذا غلط , فإن
النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا , والأمر للإيجاب , وكل
إحسانه إلينا صدقة علينا , فإن لم نقبل ذلك؛ هلكنا , وأيضًا فقد ثبت عن عمر بن
الخطاب أنه قال: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم , وقد
خاب من افترى) ، كما قال: (صلاة الجمعة ركعتان , وصلاة الأضحى ركعتان ,
وصلاة الفطر ركعتان) ، وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن
للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين , كما سن الجمعة والعيدين , ولم يخص
ذلك بسفر نسك , أو جهاد , وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت:
(فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر) , وهذا
يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط , وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي
أربعًا , وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه
أربع، وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعًا , فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله.
فإن قيل: قوله: وضع، يقتضي أنه كان واجبًا قبل هذا , كما قال: إنه
وضع عنه الصوم , ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط , لكن لما
انعقد سبب الوجوب , فأخرج المسافر من ذلك؛ سمي وضعًا لأنه كان واجبًا في
المقام , فلما سافر وضع بالسفر , كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية , مع أنها
لا تجب على مسلم بحال، وأيضا فقد قال صفوان بن محرز: قلت لابن عمر:
(حدثني عن صلاة السفر) ، قال: (أتخشى أن يكذب علي؟) قلت: (لا) ،
قال: (ركعتان , من خالف السنة كفر) ، وهذا معروف , رواه أبو التياح , عن
مورق العجلي، عنه , وهو مشهور في كتب الآثار , وفي لفظ: (صلاة السفر
ركعتان، ومن خالف السنة كفر) , وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ,
فبين أن صلاة السفر ركعتان , وأن ذلك من السنة التي من خالفها , فاعتقد خلافها؛
فقد كفر، وهذه الأدلة دليل على أن من قال: إنه لا يقصر إلا في سفر واجب , فقوله
ضعيف.
ومنهم من قال: لا يقصر في السفر المكروه , ولا المحرم , ويقصر في
المباح. وهذا أيضا رواية عن أحمد , وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد
روايتان , وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: لا يقصر فيه ,
وأما أبو حنيفة , وطوائف من السلف والخلف , فقالوا: يقصر في جنس الأسفار.
وهو قول ابن حزم وغيره، وأبو حنيفة , وابن حزم , وغيرهما يوجبون القصر
في كل سفر وإن كان محرمًا , كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر
المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم.
والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعًا في جنس السفر , ولم يخص
سفرًا من سفر , وهذا القول هو الصحيح , فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر , قال
تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185) ,
كما قال في آية التيمم: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: 43) الآية ,
وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفرًا من سفر , مع علمه بأن السفر يكون
حرامًا ومباحًا , ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من
الواجبات , ولو بين ذلك لنقلتها الأمة , وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا.
وقد علق الله ورسوله أحكامًا بالسفر , كقوله تعالى في التيمم: {وَإِن
كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: 43) , وقوله في الصوم: {وَمَن كَانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (البقرة: 185) , وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء:
101) , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ,
وقوله: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج , أو ذي محرم ,
وقوله: (إن الله وضع عن المسافر الصوم , وشطر الصلاة) ، ولم يذكر قط في
شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن
يكون الحكم معلقًا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟ بل يكون بيان
الله ورسوله متناولاً للنوعين، وهكذا في تقسيم السفر إلى: طويل وقصير، وتقسيم
الطلاق بعد الدخول إلي: بائن ورجعي، وتقسيم الأيمان إلى: يمين مكفرة،
وغير مكفرة , وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام ,
فجعله بعض الناس نوعين: نوعًا يتعلق به ذلك الحكم , ونوعًا لا يتعلق من غير
دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة , لا نصًّا ولا استنباطًا.
والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم , عمدتهم قوله تعالى في الميتة:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) , وقد ذهب طائفة
من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله , والعادي هو
العادي على المسلمين , وهم المحاربون قطاع الطريق، قالوا: فإذا ثبت أن الميتة
لا تحل لهم , فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره؛ أمرناه أن
يتوب ويأكل , ولا نبيح له إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي
وأحمد , وأما أحمد ومالك , فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا:
ولأن السفر المحرم معصية , والرخص للمسافر إعانة على ذلك , فلا تجوز الإعانة
على المعصية.
وهذه حجج ضعيفة , أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي: الذي
يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال , والعادي: الذي يتعدى القدر الذي
يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام والنحل , وفي المدنية، ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل ,
والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر , فليس السفر المحرم مختص
بقطع الطريق، والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم إمام يخرج عليه , ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرًا , والبغاة الذين أمر
الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية
فيهم أولاً مسافرين , بل كانوا من أهل العوالي المقيمين , واقتتلوا بالنعال والجريد ,
فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص السفر؟ وليس فيها كل سفر محرم ,
فالمذكور في الآية لو كان كما قيل , لم يكن مطابقًا للسفر المحرم , فإنه قد يكون بلا
سفر , وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضًا فقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} (البقرة:
173) حال من {اضْطُرَّ} (البقرة: 173) , فيجب أن يكون حال اضطراره
وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد , فإنه قال: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:
173) , ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل , لا عن نفس الحاجة
إليه , فمعنى الآية: فمن اضطر؛ فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود
أنه لا يبغي في أكله , ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان , فالبغي ما
جنسه ظلم , والعدوان مجاوزة القدر المباح , كما قرن بين الإثم في قوله: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) , فالإثم جنس
الشر , والعدوان مجاوزة القدر المباح، فالبغي من جنس الإثم، قال تعالى: {وَمَا
تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) , وقال تعالى:
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 182) ,
فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد ,
وبغير عمد , لكن قال كثير من المفسرين: الجنف: الخطأ , والإثم: العمد؛ لأنه لما
خص الإثم بالذكر - وهو العمد - بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من
باب التعدي للحدود , كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) , ونحو ذلك، ومما يشبه هذا قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (آل عمران: 147) , والإسراف: مجاوزة الحد في
المباح , وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.
وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية , فغلط , لأن المسافر مأمور بأن
يصلي ركعتين , كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم , وإذا عدم الماء في السفر المحرم
كان عليه أن يتيمم ويصلي , وما زاد على الركعتين ليست طاعة , ولا مأمورًا بها أحد
من المسافرين , وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيًّا عنه , فصار صلاة الركعتين مثل
أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن , فهل يصليها إلا ركعتين , وإن كان
عاصيًا بسفره , وان كان إذا صلى وحده صلى أربعًا؟ وكذلك صومه في السفر ليس
برًّا , ولا مأمورًا به , فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (ليس من
البر الصيام في السفر) , وصومه إذا كان مقيمًا أحب إلى الله من صيامه في سفر
محرم , ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا
اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي؟ ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عريانًا؟
فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين , والمشروع في
حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام , هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على
أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون:
من صلى أربعًا , أو صام رمضان في السفر المحرم لم يجزئه ذلك , كما لو فعل ذلك
في السفر المباح عندهم.
وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع , وصوم رمضان، وكذلك أكل
الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر , وسواء كانت
ضرورية بسبب مباح أو محرم , فلو ألقى ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة
كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفرًا محرمًا , فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى
قاعدًا، ولو قاتل قتالاً محرمًا حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعدًا، فإن قيل:
فلو قاتل قتالاً محرمًا هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل: يجب عليه أن يصلي , ولا
يقاتل , فإن كان لا يدع القتال المحرم , فلا يبيح له ترك الصلاة , بل إذا صلى صلاة
خائف كان خيرًا من ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن
فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه؛ لأنه مأمور بها، وأما إن
خرج الوقت , ولم يفعل ذلك، ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/121)
الكاتب: مسلم غيور من مراكش
__________
الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
(2)
نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سابقًا [*]
ولكن هذا العمل من الجهة التي اشتمل عليها لا تمنع من ملاحظتنا على بعض
جمل , من ملاحظة لا تمس جوهر الموضوع الذي خرج لمَّاعًا لمعان الشمس برزت
تختال بعد احتجابها أيامًا فوق سحب كثيفة , انهملت أمطارًا وسيولاً أنطقت شاعر
البداوة أن يقول:
وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا
فأصاخ يرجو أن يكون حيًّا ... ويقول من فرح هيا ربا
جاء في صفحة 13 نقلاً عن ابن خلدون: (وإذا نظرت بعين الإنصاف
عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان , واختلاف الصحابة من بعده ,
وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة) إلخ، نقول: ونحن لا نشك , ولا
نرتاب أبدًا في نزاهة الصحابة وحسن نيتهم , وسلامة طويتهم , كما هو معلوم من
ضروريات الدين , كما نعلم وجوب محبتهم على المسلمين لقوله صلى الله عليه
وسلم: (فمن أحبهم فبحبي أحبهم , ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) .
ولكن لا بأس أن يلاحظ المسلم الباحث الغيور أنهم رضي الله عنهم كانوا
مخطئين في السكوت , كما أخطأ عثمان في استسلامه للثوار , وكف جماعة من
الصحابة عن نصرته والدفاع عنه؛ لأن حق الخلافة وفائدتها غير مقصورة على
الخليفة وحده، بل الدفاع عن نصرته , وحفظه حفظ للإسلام والمسلمين , {وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) .
وقد فسدت أمور المسلمين فعلاً باستسلامه , وعدم الدفاع عنه , ونشأت عن
ذلك فتن لا تزال آثارها ماثلة للعيان , فكان مقتضى الشريعة أن يقوم رضي الله عنه
لحماية الخلافة , التي هي حماية للإسلام والمسلمين , ويقابل الثوار , ويستنصر
عليهم بكل ما يمكن إن كانوا محاربين , كما هو الواقع الذي أيدته الأخبار الصحيحة ,
أو يعتزل الخلافة إن كانت معهم شبهة حق , أو عجز عن حماية بيضة الإسلام , فهو
راع للأمة , يجب أن ينظر لها بما فيه صلاحها، فقد أخرج البخاري في كتاب الأحكام
من صحيحه , عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا
كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع , وهو مسؤول
عن رعيته) الحديث.
فأنت ترى استسلامه رضي الله عنه كيف جر على المسلمين رزايا متسلسلة
إلى الآن لا زلنا نرزح من شدة ثقلها.
وقد دافع الإمام أبو بكر بن العربي المعافري في كتابه: (العواصم والقواصم)
عن استسلام سيدنا عثمان دفاعًا مجيدًا بقلمه السيال , وبلاغته النادرة مستندًا في
دفاعه هو وغيره على ما جاء في الحديث الصحيح في البخاري , وغيره بأن النبي
صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهي الشهادة , إلخ , ونقول:
إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالاستسلام , بل غاية الأمر أنه بشره بالشهادة ,
ولو دافع عن نفسه , وقاتل الثوار المحاربين , واستشهد في قتالهم لحصلت النتيجة؛
لأنها غير متوقفة على الاستسلام , فهو رضي الله عنه مجتهد (مخطئ) في
استسلامه.
وأما سكوت الصحابة رضي الله عنهم , فهم مخطئون فيه أيضًا؛ لأن الله
جلت عظمته بين لنا ما نفعل في مثل هذه الأزمة في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ
مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) , ثم أكد ذلك بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) , وفي
صحيح مسلم , عن عرفجة , عنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أتاكم , وأمركم
جميع على رجل واحد , يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم , فاقتلوه) .
فكان الواجب كما هو صريح الآية والحديث أن يدافعوا عنه بقوة السيف , أو
بحكمة السياسة والموعظة الحسنة، ولا يساعدوه في الاستسلام؛ لأن الدفاع عنه كما
قلنا دفاع عن الإسلام والمسلمين، فظهر بذلك أنهم مخطئون في سكوتهم , والله أعلم
بغيبه.
وإننا نحمد الله على أن المسلمين ابتدأوا يفهمون سر هذه الآية , ويعملون
بها، فمن ذلك ما حصل من اجتماع قادة الأحزاب المؤتلفة في مصر السعديون ,
والوطنيون والدستوريون , فلو لم يوفقوا لذلك الاتفاق المحبوب ويسقطوا الاتحاديين
أو الاحتلاليين؛ لكانت حركة مصر الناهضة ذاهبة إلى الشلل والانحلال ,
أدام الله وفاقهم وتوفيقهم.
ومن ذلك ما قيل - ولا نظنه إلا صادقًا - من اتفاق السلطان عبد العزيز بن
السعود والإمام يحيى صاحب اليمن , فقد انشرحت الصدور لهذا الاتفاق المتين الذي
سيكون بمثابة سياج لجزيرة العرب , حقق الله الآمال.
ومن ذلك ما شاع من تأسيس عصبة أسيوية في بلاد آسيا تضاهي عصبة
الأمم الغربية في جنيف لربط أواصر الشرقيين , وإحياء الحضارة الآسيوية من
الوجهتين العقلية والمادية إلخ.
وفي صفحة 15 نقلاً عن ابن خلدون أيضًا: (وهكذا كان شأن الصحابة في
رفض الملك , ونسيان عوائده حذرًا من التباسها بالباطل، فلما استحضر رسول الله
صلى الله عليه وسلم , استخلف أبا بكر على الصلاة؛ إذ هي أهم أمور الدين،
وارتضاه الناس للخلافة , وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة، ولم يجر للملك
ذكر.. إلخ) .
(نقول) : إن قوله: (ولم يجر للملك ذكر) إلخ، إن كان المراد به الملك
الطبيعي الذي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة , فقد كان يذكره دائمًا
بالذم والتنفير منه , ومحاربته للملك الطبيعي المبني على القسوة معروفة في غير ما
حديث، ومنذ مكاتبته لقيصر , وكسرى , وغيرهما يدعوهم {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64) إلخ، وإن كان المراد به الملك السياسي المندرج في الخلافة ,
فقد جرى ذكره في أحاديث كثيرة لو امتثل المسلمون ما جاء فيها؛ لما أصيبوا
بشيء مما أصيبوا به، فقد أخرج البخاري في باب: الأمراء من قريش، عن
معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الأمر - أمر
الخلافة - في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين) ،
وأخرج في باب: الاستخلاف، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
من حديث قد جاء في آخره: (لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، فأعهد، أن
يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون) , قال
القسطلاني: قوله: (فأعهد , أو أوصي بالخلافة لأبي بكر) كراهة أن يقول
القائلون: الخلافة لفلان أو لفلان، أو يتمنى المتمنون الخلافة، فأعينه قطعًا للنزاع ,
وقد أراد الله أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد.
وجاءت أحاديث كثيرة في هذا الباب , فأنت تراه كما اعتنى بالخلافة جدًّا ,
واهتم بها في حال صحته وفي مرضه , وأوصى بالخليفة ممن يكون، وأوجب
طاعته , وشرط فيها وفي ولايته إقامة الدين , وهو قوله: (ما أقاموا الدين) أوصى
بذلك , وكرر الوصاية بالخلافة في مناسبات كثيرة، وفي أحاديث شهيرة، بلغت
بمجموعها حد التواتر.
... ... ... ... ... ... ... ... من مراكش
... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور
(المنار)
الظاهر أن عثمان رضي الله عنه كان يحسن الظن بالذين ثاروا عليه , كما
أحسن الظن بعترته من بني معيط المفتونين بحب الرياسة والملك، ولذلك كان
يرى أن إقناع الثائرين بما يجب اتباعه ممكن، وكان جمهور الصحابة مخالفين له
في ظنه ورأيه , فوقعوا في الحيرة: لا يمكنهم القتال بدون أمره؛ لما فيه من سنن
الخروج والافتيات على ولي الأمر , وهي أم المفاسد، ولا يسهل عليهم خلعه إجابة
لمطالب الثوار؛ لأنهم مفسدون، ولأن بني أمية يقاتلون دونه، كما فعلوا في
القتال بعده لمن هو دونه , وما فعله المصريون ألجأتهم إليه الضرورة، وليس من
العمل بالآية , وأما الإمامان يحيى وعبد العزيز فيحبان الاتفاق دينًا وسياسة،
ولكن المفسدين من الأجانب , والروافض , ومفسدي الهنود يغرون الأول بقتال
الثاني, وعسى الله أن يسلمه من وسواسهم وخناسهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لصاحب الإمضاء الرمزي.(28/128)
الكاتب: مستر كراين
__________
محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن
في جمعية الرابطة الشرقية [*]
لأسباب عديدة قمت في هذا الشتاء برحلة في البحر الأحمر , وقد سبق لي أن
زرت قبل هذه المرة (جدة) , وأعجبت كثيرًا بمناظر البحر، وإني طفت معظم
بحار العالم , فلم أر له مثيلاً بينها، فبينما ترى فيه الزرقة القاتمة تراها تخضرّ , ثم
تحمرّ وتميل إلى لون الذهب، وترى شاطئًا رمليًّا أصفر , ومن ورائه سلاسل
طويلة من الجبال الوردية القفراء.
إن طراز الحياة في مواني البحر الأحمر الصغيرة لا يزال كما كان عليه منذ
قرون عديدة، ففي عرض هذا البحر تمخر السفن العظيمة بين السويس وعدن دون
أن تحدث أثرًا في هذه المواني القديمة التي ما زالت تحتفظ بعاداتها الأولى لعلاقاتها
بالحج والحجاج.
إني مولع برؤية الحياة الإسلامية القديمة التي شاهدتها في مصر والشام،
والقسطنطينية عندما أتيت هذه البلاد منذ خمسين عامًا، ولكن هذه البلاد الآن
أضاعت رونقها القديم، وتغير فيها طراز الحياة تغيرًا محسوسًا، ويقال: إن
(بخارى) أيضًا أضاعت سابق أسواقها الجميلة القديمة، ولذلك سررت كثيرًا منذ
أربعة أعوام لما رأيت أن جدة لا تزال محتفظة ببهائها الإسلامي القديم، وبحجاجها
المحرمين، وبوسائط نقليتها القديمة , ألا وهي: الجمل والفرس والأتان، وأن
أسواقها المعوجة الصغيرة لا تزال ملأى بالتجار الشرقيين يروحون ويغدون فيها،
وتنحصر تجارتهم في بعض الأشياء الضرورية , وبعض المصنوعات اليدوية.
إن شبه جزيرة العرب هي مهد الأنبياء , ومهبط الوحي، ولما كنت أهتم
كثيرًا بهذه الشؤون؛ شئت أن أتقرب بقدر الإمكان إلى حياة هذه الجزيرة التي كانت
تنجب الأنبياء آونة بعد أخرى، ومن البديهي أن البلاد المتمدنة لا تنجب أنبياء.
ومن أهم الأشياء في الجزيرة الآن الحركة الوهابية التي ترمي إلى الرجوع
لحياة التقشف كما كانت عليه الحال أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
نحن في الغرب نقول: إن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن لهذه القاعدة شواذ في
الصحراء، فالحياة فيها دائمًا تعيد نفسها.
يقال: إن الدين في العالم منشؤه بعض الشخصيات البارزة التي تضيء
كالأنوار مثل بوذا [1] , والمسيح ومحمد، وهذه الشخصيات لها حياة خاصة ,
وتعاليم خاصة , وأتباع خاصة، ولكنها عندما تختفي؛ يقوم بعدها بعض الأتباع
الذين كانوا مقربين إليها كثيرًا , ويفسرون أعمالها , وينشرون أخبارها، وهم
المعروفون بالتلاميذ أو الصحابة، ولكن النور الأصلي يضعف عندما ينتقل إليهم،
ومن بعدهم تقوم الهيئات الدينية , وتنشر أعمال تلك الشخصيات حسب ما يتراءى
لها؛ وبذلك يزداد ضعف النور، ولا شك أن بوذا لو بعث حيًّا الآن لا يوافق على
أن الصينيين واليابانيين يتبعون حياته وتعاليمه , وخصوصًا متى شاهد البون
الشاسع بين تعاليمه الصحيحة , وبين تعاليم كهنوت اللاميين [2] , وإنه لا يمكن
للمسيح أن يعترف بأن أوربا الحديثة المعروفة بمسيحيتها , والتي يقال: إنها تتبع
حياته وتعاليمه هي حقيقة مسيحية [3] .
لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمر هذا التحريف الذي لعب
دورًا مهمًّا في تاريخ الديانات القديمة على ممر الأيام؛ ولذلك حدد أقواله بحديثه ,
وأظهر بصورة واضحة علاقة المسلم مع خالقه، ولم يترك ميدانًا واسعًا لتدخل
الهيئات الدينية من بعده , ومع هذا كله رأينا أن الدين الإسلامي عندما ابتعد عن
مركزه الأصلي في الصحراء , وأخذ يتزاحم مع غيره من الديانات والمدنيات في
العجم والصين مثلاً؛ خرج عن الصراط المستقيم، وأضاع شيئًا كثيرًا من بساطته
وبهائه.
ولما كانت الحياة في نجد بعيدة عن مثل هذا الضغط , وبعيدة عن المدنية
الحاضرة , فلا شك أن هذه البلاد هي المكان الوحيد المعد لحفظ علاقة المسلم
الحقيقية بخالقه بصفة لا تشوبها شائبة، وقد ظهر الآن أشياء عديدة تثبت جميعها أن
القاعدة الأساسية في الدين الإسلامي , والمسيحي , واليهودي هي علاقة الإنسان
بخالقه , وأصبح الاعتراف بهذه الحقيقة أمرًا لازبًا؛ لأن البولشفيك ينظمون دعاية
ضد جميع الديانات , وقد وجهوا سهامهم إلى قلب هذه الحقيقة الظاهرة , ألا وهي:
وجود الخالق , وتدبيره لهذا الكون، وقد أدرك العالم المسيحي هذا الخطر , وأصبح
ميَّالاً إلى ترك الجزئيات , والتمسك بالكليات، ويوجد في الغرب أناس كثيرون
يعتقدون أن في الإمكان التأليف بين العالم المسيحي , وغيره من البشر ممن يعتقدون
بوجود الخالق , ويسعون لطاعته.
ولاشك أن العالم ليشهد منذ أول التاريخ إلى عهدنا هذا ثورة شديدة على الدين ,
كالثورة التي يديرها البولشفيك.
يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد , وتشابه عقائد هذه الطائفة
من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة، وقد ظهر بين أفرادها كثير من العظماء
الذين أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، ففي النمسا مثلاًُ ظهر بعض أفراد منها للعالم،
وشغلوا وظائف سامية، وكانوا موضع إعجاب جميع من عرفهم، وفي أمريكا ظهر
أيضًا بعض أتباع هذا المذهب المحترم , وكان في مقدمتهم الرئيس (إيليوت) الذي
بقي مدة أربعين سنة رئيسًا لأعظم جامعة أميريكية ألا وهي: جامعة (هارفرد)
وقد توفي في السنة الماضية عن عمر جاوز اثنين وتسعين عامًا , ولا شك أنه كان
أحد رجال أمريكا العظام [4] , وقد كان يهتم كثيرًا برحلاتي إلى البلاد الإسلامية،
وشعر أنه من الواجب أن يحصل تعارف بين الموحدين المسيحيين , وبين المسلمين،
وكنت دائمًا عند عودتي أزوره , وأطلعه على جميع اختباراتي الحديثة.
إنه بقي محافظًا على قواه العقلية إلى آخر دقيقة من حياته، وكان لصوته
أعظم وقع على الأميركيين , كما أنه كان الخادم الأمين لحفظ الضمير الأميركي
الحي، وعندما كان يتكلم في موضوع سياسي , أو تهذيبي , أو اجتماعي كان يتكلم
دون خجل , أو وجل.
وقبلما أنشبت المنون أظفارها فيه شعر بدنو أجله , فقلت له: اسمع هذه
الصلاة الإسلامية الجميلة , وقرأت له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) , وقد
أعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا , وكانت هي آخر العهد بيننا، وكان صديقي هذا
دائمًا يتمنى الحج إلى شواطئ البحر الأحمر , والتقرب من الحركة الوهابية؛ لأنه
هو نفسه كان يعيش عيشة بسيطة , ويعتقد بعظم فائدة الصلاة , وتأثيرها في
العالم , ولكنه كان بعيدًا عن الظواهر الدينية الميكانيكية [5] , وسأرسل إليكم عندما
أعود إلى أمريكا جميع ما قاله عظماء الأميركيين بشأن هذا الرجل الجليل عند
وفاته.
إن بوذا , والمسيح عاشا عيشة روحية , ولم يكونا يومًا من الأيام إداريين ,
ولا فكرا أن ينظما الحياة الدينية، وأما محمد صلى الله عليه وسلم , فكان نبيًّا
وإداريًّا عظيمًا، وقد مد الله في أجله إلى أن تمكن من تنظيم الحياة الاجتماعية على
أسس دينية، وها هو ذا ابن سعود ينسج اليوم على منواله، ويتبع سننه في كل
خطوة بحزم وعزم، وهو يسعى لأن يوفق بين الحياة الاجتماعية , وبين الشريعة
الغراء , ولست مغاليًا إذا قلت لكم: إنه لا جنايات في مملكة ابن سعود، وإن البدو
الذين مازالوا منذ الأزل يضربون في بلاد الله الواسعة , ويغزو بعضهم بعضًا أخذوا
في عهده يبنون البيوت الثابتة، ويشتغلون بالأشغال النافعة.
ولاشك أن الأمن في الطرقات أصبح مستتبًّا، والتجارة في البلاد محمية،
ومال الحاج مضمونًا، وأسعار الحاجيات محددة.
***
فليحيا ابن سعود
إن الحماسة التي تدعم حركة كحركة ابن سعود الوهابية , والتي ترمي إلى
إرجاع الدين الحنيف , كما كان عليه قديمًا , تتعارض في بعض الأحيان مع العادات
الإسلامية الحاضرة، وليس بالعجيب أن نرى (الإخوان) في حماستهم قد هدموا
أشياء كثيرة ذات قيمة تاريخية ومعنى ديني للحجاج الذين يحجون إلى هذه البلاد
المقدسة , وقد قتلوا أثناء حماستهم بضعة آلاف حاج من حجاج اليمن , بينما كانوا
قادمين إلى مكة بقصد الحج، واعتذروا عن عملهم بأن نيتهم كانت سيئة نحو
الإخوان [6] , ومع ذلك , لا شك أن الأحوال الآن أحسن من ذي قبل، وإذا مد الله
في عمر ابن سعود؛ فالحالة تزداد تقدمًا، والروح الاجتماعية تنتشر أكثر فأكثر بين
العرب مستمدة نشاطها من بعد ابن سعود من روحه.
نزلت بجدة في دار السيد محمد نصيف , وهي كأنها مجمع علمي يحتوي على
مكتبة عامرة , يؤمه جميع أقطاب جدة وأشرافها.
والسيد محمد نصيف عالم محقق , ورجل شريف يزوره جميع من يمر بجدة
من العلماء والنبلاء قبل ذهابهم إلى مكة، وقد اجتمعت عنده بأناس كثيرين ,
وتكلمت معهم بصراحة زائدة، وكانوا جميعهم عنوان اللطف بي , والعطف علي،
وأفهموني حقيقة سير الحياة بالحجاز في هذه الأيام، وبعد وصولي إلى جدة جاء
سمو الأمير فيصل من مكة , ورحب بي , وتأكد بنفسه أن راحتي مضمونة , وقال
لي: إن كل شيء في جدة تحت أمري.
في الليل كنت أدعو الكثيرين؛ ليسمعوني الأناشيد الوطنية والغناء العربي
القديم والحديث , وكان بين هؤلاء المنشدين شيخان ضريران يترددان دائمًا على
دار السيد محمد نصيف، وقد أسمعاني مرارًا ترتيل القرآن، والحق يقال: إن
ترتيلهما كان في غاية الإبداع.
لا يسمح الوهابيون لأحد أن يغني غناءً عاديًّا , ولا أن يستعمل معازف
موسيقية، وقد منعوا الحجاج المصريين من جلب المحمل التي كانت العادة أن
يجلبوه مع موسيقى الحج [7] , ولكنهم لا يتعرضون لترتيل القرآن , وقد تسامحوا
معي في بعض الشؤون , ولم يمنعوني من دعوة بعض البدو إلى داري , وسماع
أناشيدهم، وقد أسمعني أحد أصحاب القوافل بعض الأناشيد التي ينشدها الحداة من
رجال القافلة أثناء سيرهم في البادية.
كان ابن سعود يوم زرت جدة في طرف البادية [8] , ولم أتمكن من مقابلته،
ولكنه تلطف , وأرسل لي عدة برقيات تنم جميعها عن عطفه علي، وقبل سفري
ببضعة ساعات أخذت وأنا على ظهر الباخرة برقية منه أعرب لي فيها كثرة أشغاله،
وأفصح عن أسفه الشديد؛ لعدم تمكنه من مقابلتي، وتمنى لي سفرًا سعيدًا [9] .
والحق يقال: إن ابن السعود كالإمام يحيى لا يوجد حوله رجال عاملون
يساعدونه في إدارة دفة الحكم , فهو يعتمد على نفسه في كل شيء.
وقد مضى عليه ثلاث سنوات , ولم يزر في خلالها أرض نجد؛ ولذلك ذهب
هذه السنة؛ ليزورها، ولينظر في شؤون الإخوان , وتنظيم أعمالهم.
***
السيد أحمد السنوسي
كان من جملة الأسباب التي حملتني على القيام برحلتي هذه؛ رغبتي في
مقابلة صديقي القديم السيد أحمد السنوسي , الطائر الصيت الذي تعرفت إليه في
بورصة في صيف سنة 1919 , وكانت تلك الرحلة التي تعرفت إليه في خلالها من
أهم الرحلات التي قمت بها في هذا العالم.
قلت: إني قمت برحلات عديدة في هذه الأرض , وكنت دائمًا أدرس نفسية
البشر في أطرافها، وقد أعجبت مرارًا ببعض العقول التي لم تبلغها أيدي التهذيب ,
وقابلت كثيرًا من أصحاب هذه العقول , ولا غرو أن مقابلتهم ساعة عملهم كانت
نهاية الإبداع , وهذه العقول لا تنمو إلا بين أصحاب الفيافي والقفار , وكل ذرة , لا
بل كل خلية من خلايا دماغ هؤلاء الأشخاص هي حية في ذاتها، وحساسة لكل
عارض يعرض لها، وسريعة في تنفيذ أحكامها , وحكيمة في استنتاجاتها.
وأحمد السنوسي هو أحد أصحاب هذه العقول النيرة، ودليلي على ذلك أنه
تمكن في برهة وجيزة من إيجاد مملكة تحيط بها القفار من كل الأطراف.
منع الحلفاء عامة , والتليان خاصة هذا الزعيم الكبير من العودة إلى بلاده
وأهله بعد الحرب العظمى؛ فاضطر أن يذهب من تركية إلى سورية , فالصحراء.
ولا يزال إلى يومنا هذا هائمًا على وجهه من بلاد إلى بلاد بعيدًا عن أهله
وعائلته [10] , ومع الأسف الشديد لم يهتم به أحد , وهو اليوم في العسير , وقد
أرسل أحد عماله إلى جدة؛ ليفاوض ابن سعود , فرأيت أن أراه لأطلع منه على
أخبار السنوسي؛ لأني قلت سابقًا: إن من جملة الأسباب التي حملتني على هذه
الرحلة هي مقابلة هذا الرجل العظيم , ولكن لم يؤذن لي أن أقابل ذلك الرسول , ويا
حبذا لو اهتمت بعض الحكومات الإسلامية بشأن هذا الرجل العظيم ما دام شعبه قد
حرم من زعامته , وحرم هو من بلاده.
للمحاضرة بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) مستر تشارلس كراين من أكارم رجال الأمة الأميركية , وتولى مناصب عالية في دولتها نعرف منها أنه كان سفيرًا للولايات المتحدة في الصين، وعهدت إليه رياسة اللجنة الأميركية التي أرسلت لاستفتاء أهل سورية وغيرهم في مصير بلادهم بعد الحرب بناء على مبادئ صديقه مستر ولسن الذي كان رئيس جمهورية حكومته , وكان صاحب الكلمة العليا لدى دول الحلف البريطاني اللاتيني؛ لأنه هو الذي أنقذ هذه الدول من بطشة ألمانية الكبرى، ومستر كراين قد طاف أقطار الشرق , واختبر المسلمين؛ فأحبهم , وعرف فضل دينهم , وعرف به كما يعلم من محاضرته هذه , وقد آلمت بعض من سمعها من متعصبي أبناء جلدته وإخوان ملتهم , وقد حضرها في نادي جمعية الرابطة الشرقية جمهور منهم ومن المصريين والسوريين وغيرهم , وكان يترجم كلامه بالعربية جعفر ولي باشا المشهور جملة جملة. وما ننشره هنا هو ترجمة ما كان كتبه لإلقائه، ولكنه زاد في أثناء الإلقاء مسائل وإيضاحات أخرى , فنشير إلى بعضها في الحواشي.
(1) هو زعيم الدين الذي ينتمي إليه مئات الملايين في الهند والشرق الأقصى، والظاهر أنه كان من الأنبياء الذين ضاعت كتبهم؛ فتمكنت الوثنية من أتباعهم.
(2) هم أهل التبت نسبة إلى اللام , وهو لقب رئيسهم الديني.
(3) قد خص بالذكر سوء حال أوربة بعد الحرب الكبرى؛ إذ صار البعد بينها وبين تعاليم المسيح أشد مما كان قبلها , كما أنه صرح بأنه رأى في هذا العهد أن الإسلام قد ضعف وصول نوره في مصر والشام والآستانة عما كان عهده من عشرات السنين في هذه الأمصار , وقوله هذا يؤيده قوله تعالى في المسلمين: [ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون] .
(4) زاد في الإلقاء هنا: ورؤساء المدارس عندنا أجل من رؤساء الجمهورية؛ لأنهم الذين يربون رؤساء الجمهوريات وسائر الرجال العظام.
(5) يعني بهذا تقاليد الكنيسة النصرانية، وكل من عرف دين الفطرة بعد عن دين الصنعة.
(6) السبب الصحيح لهذه الحادثة أن الملك حسينًا كان قد أثار فتنة في العسير لانتزاعها من ابن السعود والإدريسي , وفي أثناء القتال بين ثواره , وبين الإخوان وصل حجاج اليمن , فظن الإخوان أنهم مدد من الملك حسين لابن عايض الذي أثاره لحربهم , فأصلوهم نارًا حامية، ثم حزنوا لما علموا أنهم من اليمن , واعتذر ابن السعود للإمام يحيى , ورد إليه جميع ما كان قد أخذه الإخوان من جماعته.
(7) الصواب إنهم منعوا حرس المحمل من استصحاب معازف الموسيقى العسكرية فتركوها في جدة وأعادوها معهم إلى مصر عند عودة المحمل.
(8) الصواب أنه كان في المدينة المنورة.
(9) جاء في البلاغ 310 من بلاغات مكتب الاستعلامات السوري الذي صدر في 20 يناير سنة 1927 نص البرقيتين اللتين تبودلتا بين مستر كراين , وملك الحجاز ابن السعود في رسالته للمكتب من جدة مؤرخة في 10 يناير وهذا نصها: برقية المستر كراين: اسمح لي يا صاحب الجلالة قبل أن أبرح بلادكم أن أقدم لجلالتكم عظيم الامتنان لما لاقيته من الحفاوة من قبل نجلكم الكريم , ومن قبل رجال حكومتكم الموقرة , ولا سيما السيد محمد نصيف , وإنني أضرع إليه تعالى أن يوفقكم لتوحيد صفوف شعبكم خاصة , والمسلمين عامة، وعساكم تعطفون على جميع الذين يعملون على إطاعة الله , ويراقبون أعمالكم المجيدة باهتمام زائد , والذين يعرفون أن لشعبكم الكريم المعتصم من مفاسد العالم بصحرائه الشاسعة خدمات جليلة مقدسة في هذه الدنيا ألا وهي: حفظ كيان الدين الصحيح , ونشره بين العالم خاليًا من كل شائبة وتفضلوا في الختام بقبول فائق الاحترام (جواب جلالة الملك على برقية المستر كراين) أشكركم على حسن ظنكم بنا , وأحيي فيكم هذه العاطفة الشريفة نحو أمتنا , ورغبتكم في نجاحها , وهذا أكبر دليل على طيب سريرتكم , وسمو مبادئكم , فالله أسأل أن يعلي الحق ويؤيده، وإني آسف أن الظروف لم تمكننا من مقابلتكم , فأتمنى لكم سفرًا سعيدًا.
(10) (المنار) كان قد ألقى رحله بمكة المكرمة؛ فأكرم الملك عبد العزيز مثواه , ثم سافر إلى عسير حيث آل الإدريسي من ذوي القربى , وهو الذي وضع أساس معاهدة مكة المكرمة التي جعلت بلاد عسير , وأمرائها تحت حماية ابن السعود.(28/132)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مشروع بريطاني جديد لتنصير جزيرة العرب
(هذه ترجمة المنشور الذي أذاعته جمعية لندن كما نشروها في فلسطين
وغيرها) .
يسوع المسيح لبلاد العرب الآن
(ها أنا ذا صانع أمرًا جديدًا، الآن ينبت. ألا تعرفونه، أجعل في البرية طريقًا في القفر أنهارًا) (أشعيا 43 - 19) .
صلوا من أجل العرب
بلاد العرب تبلغ مساحتها مليون ميل مربع، لم يدخلها التنصير بعد، وفيها
من السكان من أربعة ملايين إلى اثني عشر مليونًا [1] ، يموتون ميتة وثنية , لم
تبلغهم دعوة الإنجيل بعد، بلاد العرب هي مهد الإسلام ومنبعهم، وفيها مكة التي
هي القبلة زهاء [2] مائتين وعشرين مليونًا من المسلمين يتوجهون نحوها (بإغراء
الشيطان؛ ليصلوا صلاة كاذبة كل يوم) . صلوا من أجل العرب كي ينجيهم الله (هم
مخدوعون من الشيطان الذي اخترع لهم كتابًا مزيفًا هو القرآن الذي) حل محل (كلمة
الله الحية) ، الكلمة القادرة على تخليص نفوسهم، فمن يحمل كلمة الدعوة إلى
العرب؟ فمن يخرج، ويبكي، ويزرع زرعا جيدًا؛ يعود فرحًا، ويقطف ثمار زرعه
جنيًّا. ويسوع المسيح يأمر بما يلي:
1- وها أنا أرسل إليكم موعد أبي، فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا
قوة من الأعالي. (لوقا 24 - 49) .
2- وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة
كلها (مرقص 16 - 15) .
3- فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب، والابن، والروح القدس (متى 28 - 19 - 20) ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها
أنا ذا معكم كل الأيام لانقضاء الدهر.
(قدرتنا على طاعة أمره) : فتقدم يسوع، وكلمهم قائلاً: دفع إلي كل سلطان
في السماء وعلى الأرض، وأنا معكم لانقضاء الدهر (متى 28 - 18) . (استعدادنا
لذلك) : وها أنا معكم كل الأيام لانقضاء الدهر (متى 28 - 20) . إن كلمة (و) ،
وكلمات (إلى انقضاء الدهر) تبين أن كلمات المسيح موجهة إلى كل تلاميذه خلال كل
العصور، وهي تعنينا إيانا، المسيح مات فدية عن الجميع، ثم قام من الموت، هو
مات عنكم وعني وعن العرب، فمن يطيع أمر المسيح، فيذهب إلى العرب بهذه
الرسالة؟
إن حجاجًا لا يحصيهم عد يقطعون فلوات الجزيرة؛ ليحجوا إلى مكة، (وفيها
ولد النبي) … [3] ، وليزوروا المدينة، وفيها قبره، فمن يذهب إلى هناك أيضًا
من حجاج المسيح، ويهدي أولئك الحجاج الذين لا يحصيهم عد هداية بنعمة الله
حتى يصيروا حجاج المسيح وحده [4] ؟ فإذا نحن شاركنا المسيح في تحمل
العذاب، فإننا سنشاركه أيضا في الملكوت، وقال الله للابن: عرشك باق إلى
الأبد، يا حجاج المسيح هبوا. فلنذهب، ولنأت بالملك.
هؤلاء سيحاربون الخاروف (؟) ، والخاروف يغلبهم؛ لأنه رب الأرباب [5] ،
وملك الملوك، والذين معه مدعوون، ومختارون، ومؤمنون (رؤيا 17 - 14) .
وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم، نعمة ربنا يسوع المسيح معكم
(روميا 16 - 20) .
قل إلى أبناء إسرائيل [6] أن يتقدموا إلى الأمام - إلى بلاد العرب - إلى كل
العالم، لأن… لأن أمر الملك كان معجلاً (صموئيل الأول 21 - 8) .
مع المسيح صليت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في، فما أحياه الآن في
الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي،
وأحرقوا المدينة بالنار. (يشوع 6 - 4) .
إن الحاجة شديدة الآن إلى مائة مبشر: يذهبون إلى قبائل بلاد العرب المهملة
التي لم تبلغها الدعوة بعد، هناك نحو مائة قبيلة في بلاد العرب يمكن تبليغهم
الدعوة، وهم يسكنون بلادًا غير إنجيلية، مساحتها ثلثا مساحة الهند، وهم يعيشون
في الخيام كما كان يعيش إبراهيم من قبل [7] . إحدى هذه القبائل هي (الصليبية)
المنتمية إلى أهل الصليب حصل لها زيارة مرتين، وهي تريد أن تزار أكثر من
ذلك.
إن رجال هذه القبيلة هم من نسل الصليبيين القدماء الذين أسرهم العرب،
وهم لا يزالون إلى اليوم يستعملون بضع كلمات إنكليزية مثل: (غو) أي:
اذهب. إن العاملين قلال العدد، أيجوز ترك هذه القبائل؛ فتفنى؟ ألا يليق
بكنيسة الله التي اشتراها بدمه أن تلبي نداء الله؟ فمن أرسل (أشعيا - 6 - 8) ،
فماذا يكون جوابك أيها القارئ، أتريد أن تسقط في الخجل، وتحتقر احتقارًا
مؤبدًا؟ أو تبادر إلى أن تعمل عملاً مجيدًا يرضي الذي أحبنا، وفدى نفسه عنا،
وهو غسلنا بدمه من خطايانا.
أتريد أن يقال عنك، وعن الآخرين: من الآن إلى الأبد، إنك أنت
وإخوانك قد غسلتم من خطاياكم بأثمن دماء المسيح، وقد اطلعتم على أوامره،
وقد عرفتم الحاجة، وقد سمعتم نداء الله، وقد اتخذتم من المسيح قوة وكفاية، وبعد
كل هذا لا تذهبون. أرجو منك أن تصلي من أجل العرب.
اذهب أنت نفسك إلى بلاد العرب، أرسل غيرك أيضا إلى بلاد العرب، احمل
الكتاب المقدس إلى العرب، لا تقطع صلاتك لأجل بلاد العرب، والعرب إلى
المسيح، ادع ال220 مليونًا من المسلمين ليتدينوا بديانة المسيح، صل من أجل
مائة مبشر، الحاجة شديدة إليهم ليذهبوا إلى بلاد العرب، وليسدوا ما العرب بحاجة
إليه، صل؛ لكي يصل الكتاب المقدس إلى بلاد العرب، وصل أن يبارك الله
المائة مبشر، يقول المسيح: سآتي بسرعة، آمين.
***
عنوان الجمعية ناشرة هذه الدعاية
الجمعية العالمية الصليبية للتنصير في العالم، وبلاد العرب:
19- هيلندرود أبر نورود لندن 19.
... ... ... ... الرئيس: ... ... ... ... المراقب:
... ... ... ... مستر أستد ... ... ... القس باركلين
(المنار)
قد بذلت هذه الجمعية، وأمثالها مئات الملايين من الدنانير الذهبية؛
لتنصير المسلمين، فما استطاعوا أن ينصروا شعبًا من شعوبهم، ولا مدينة من
مدنهم، ولا قرية من قراهم، وإنما لجأ إليهم في بعض البلاد أفراد من تحوت الفقراء
الجياع الذين لا يعرفون من الإسلام إلا بعض ما يسمعونه، ويرونه في الطرقات
من التقاليد التي مزج فيها بعض تعاليم الإسلام بنزغات الخرافات النصرانية التي
يتبرأ منها المسيح، ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد دخل في الإسلام من كرام
الشعب الإنكليزي أضعاف من تنصر من هؤلاء التحوت الجائعين، وأرى أن من
حماقة هذه الجمعية أنها تريد أن تبدأ عملها بالدعوة إلى النصرانية في الحرمين
الشريفين المحميين بجند الله النجديين الموحدين، أليس من الحكمة والأناة الإنكليزية
أن يصبروا ليروا ما يفعل دعاتهم في عرب العراق، وفلسطين بحماية صنيعتي
دولتهم: الملك فيصل، والأمير عبد الله نجلي الملك حسين بن علي؟ إن المعاهدة
البريطانية العراقية قد ضمنت لدعاة النصرانية الحرية المطلقة، ولن يمضي لهم
الإمام عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز ونجد معاهدة مثلها، كما أمضى الملك
فيصل بن حسين، بل لا يأذن لمبشر واحد أن يدخل بلاده، فكان من العقل أن لا
يعجلوا بتنبيهه، وتنبيه أهل القطرين الخاضعين إلى سوء نيتهم. هذا، وإننا نعلم أن
هذا العمل عمل سياسي وتجاري، لا ديني، ونعلم أن تعاليم الإسلام تنشر في بلاد
الإنكليز، وأبناء عمهم الأميركان نفسها بطبيعة البحث الحر الذي ينتهي بأصحابه إما
إلى عقيدة القرآن، وكما ترى في محاضرة مستر كراين في هذا الجزء، وإما إلى
الكفر، وإنكار الوحي كما يعلم من المقال الآتي.
__________
(1) المنار نبشر هؤلاء المبشرين بأنهم يزيدون على ضعف هذا العدد، فليضاعفوا مبشريهم ونفقاتهم.
(2) في الأصل حوالي، وأصل هذه الشهادة انفراد.
(3) ههنا كلمة أثيمة وصفت بها هذه الجمعية البذيئة خاتم الأنبياء، وإمام المرسلين بضد أظهر صفاته، ولا عجب، فهم الذين يكذبون على الله بقولهم: إنه اتخذا ولدًا (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) كذبتم أيها السفهاء بل هو أصدق الخلق الذي برأ الله على لسانه مريم أم المسيح من تهمة الزنا، وبرأ المسيح نفسه من الكذب على الله، فمن كذبه، فقد صدق اليهود في الطعن فيهما.
(4) المسلمون يحجون لله وحده لا لمحمد، ولا للمسيح، فهم الموحدون، وهذا المسيحي الكذاب يريد أن يجعلهم وثنيين يحجون للمخلوق ابن الإنسان.
(5) لا يؤمن بربوبية الخاروف إلا الخرافيون، ولله در المعري حيث يقول:
... ... أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا.
(6) إن أبناء إسرائيل هم أعدى أعداء المسيح عليه السلام، ومكذبيه، والطاعنين في عرضه، ورسالته وأنتم أيها الإنجليز عبيد لهم استخدموكم، بل اشتروكم بأموالهم، فبعتم دينكم؛ لإعادة ملكهم، والعرب، وسائر المسلمين عبيد الله، وأصدقاء المسيح عليه السلام، وأصدق المؤمنين به.
(7) نعم، وهم الذين حفظوا من دونكم ما كان عليه إبراهيم من توحيد الله تعالى، وعبادته وحده.(28/140)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية
جاء في جريدة الديلي إكسبريس التي صدرت في لندن بتاريخ 21 نوفمبر
سنة 1925 تحت هذا العنوان ما ترجمته:
القسيس أنج ينكر المعجزات
قنبلة مصوبة إلى قلب الكنيسة
اتركوا التضليل
اعتقاد التلاميذ (الحواريين) : أن المسيح نزل في جوف الأرض , ثم قام من
قبره في اليوم الثالث , وصعد إلى السماء بجسده.
قال القسيس أنج:
أليس من اللائق بالكنيسة أن تفكر في هذه المشكلة التي ظلت نحوًا من 400
سنة وهي ترغم الناس على الاعتقاد بها؟
من الراجح أن ما أحدثه أكبر مناقشة دينية منذ أيام (بوسي) و (ينومان) هو
كتاب جديد اسمه: (العلم والدين والحقيقة) يصوب به صاحبه القس (أنج) قنبلة
تصيب شظاياها جميع الكنائس المسيحية.
ويطالب هذا القس الكنيسة بأن تدع التضليل جانبًا، وأن تنبذ كثيرًا من تعاليمها
التقليدية القديمة , كما يطالب بترك فكرة وجود سماوات بالمعنى الذي اصطلح عليه
الجغرافيون , ويبني على ذلك عدم الاعتقاد بصعود جسم المسيح كما يرى أن هذه
المسألة مرتبطة ارتباطًا تامًّا بمسألة البعث نفسها , وهو يوافق العلماء (نسبة إلى قسم
علمي) في رفضهم للمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه، ومع أنه
يتجنب البحث في مسألة مولد المسيح , فإن قراء كتابه قد يصلون إلى أن القس يرفض
الاعتراف بهذا الأمر كما ينكر الصعود أيضًا، وهو فوق ذلك يقترح الابتعاد التام عن
نسبة صفات البشر إلى الله.
وكتابه هذا (الذي تقوم بنشره مطبعة شلدون) يتكون من ثماني مقالات بقلم
أساتذة مشهورين في موضوعات وأبحاث علمية ودينية، وله مقدمة بقلم اللورد بلفور،
ويتلو ذلك ملخص مؤلف من 40 صفحة شائقة بقلمه هو.
ويقول اللورد بلفور بأنه: ليس بين القراء من يعتقد أن الكتاب المقدس ليس إلا
كتابًا تاريخيًّا ومرجعًا للعلوم الكونية لا يمتاز عن غيره إلا بأنه موحى به، وبذلك
يكون منزهًا عن الخطأ، ويضيف إلى ذلك أن القس أنج يسلم بأنه موحى به، وأما
مسألة تنزيهه عن الخطأ فينكرها ألبتة.
ويعلن القس أنج في صراحة تامة وبلا أدنى خوف أن هناك معركة اشتد وطيسها
بين العلم والدين، وأن أصل هذه المعركة يرجع في الحقيقة إلى اكتشاف أن الأرض
تدور حول الشمس، وفي الأربعة القرون التالية لذلك الاكتشاف وصفت الكنيسة
البحث في المشاكل الدينية التي أثارها هذا الاكتشاف جانبًا، فلم يبذل أي مجهود
لتخفيف العبء عن كاهل العالم المسيحي الذي أثقل عقله وضميره.
وحقيقة ما يقصده (أنج) أن بعض العقائد المسيحية أصبحت لا يمكن التصديق
بها علميًّا؛ فلا يمكن التصديق بها دينيًّا، وهو يقول:
(إن هؤلاء القساوسة الذين يصرون على أنه ليس ثمة تناقض بين العلم والدين
إما أن يكونوا ذوي عقول ضيقة، أو متعامين عن الحقيقة، والحق الواقع أن هناك
صراعًا عنيفًا بين العلم والدين لا يرجع تاريخه إلى أيام داروين، ولكنه يرجع إلى
عهد كوبرنيكوس وغاليليو) .
***
الخريطة المسيحية
ويقول: (إن التوصل إلى معرفة أن الأرض ما هي إلا كوكب يدور حول
الشمس التي هي نفسها واحدة من ملايين الأجرام السماوية، ذلك الاكتشاف قد مزق
النظرية المسيحية التي تقول بأن الأرض هي مركز العالم، وأنها كطبق يحدده غطاؤه.
وإلى ذلك الوقت كان الناس سواء منهم العالم والجاهل يصورون العالم كبناء
ذي ثلاث طبقات أعلاها السماء مسكن الإله والملائكة والأرواح الطاهرة، ويتلو هذه
الطبقة الأرض التي نسكنها، والطبقة السفلى مسكن الشيطان وأتباعه، وحيث تعذب
الأرواح الشريرة في سجنها، وكان للجنة والنار في عرفهم حقيقة جغرافية.
وتؤكد العقائد الدينية مسألة نزول المسيح إلى الجحيم، ثم صعوده إلى السماء
ومن الواضح الجلي أن مسألة بعث المسيح بجسده مرتبطة تمامًا بمسألة صعوده
بجسده أيضًا، وعلى ذلك فقد مست العلوم الكونية بالعقائد الدينية مساسًا عظيمًا.
ويزيد على ذلك أن الكنيسة إنما بشرت بهذه التعاليم؛ لأنها نقلتها حرفيًّا عن
نصوص الإنجيل، ويستدل على ذلك بالنص الإنجيلي القائل: (إن المسيح قد صعد
إلى السماء حيث هو الآن بلحمه وعظامه، وكافة الأشياء المتعلقة بالكيان الإنساني
البشري الطبيعي.
ونظرية أن المسيح ناسوتًا ولاهوتًا، والتي تقول بأن جسد المسيح في السماء
ينكرها تناقضها مع القانون القائل: باستحالة وجود الجسم الطبيعي في أكثر من مكان
واحد في وقت واحد.
كما أن نظرية كوبرنيك الفلكية، وكافة معلوماتنا عن السماء التي بنيت على هذه
النظرية لا تدع مجالا للقول بوجود سماء جغرافية.
وهو يقول: يخيل إلي أن الفراغ السماوي لا نهائي، ولا يمكنني أن أتصور أنه
قد وقع الاختيار على أحد هذه النجوم والسدم والكواكب المنتثرة بلا نظام في رقعة
السماء؛ لتكون مقرًّا للخالق، ومكانًا لأورشليم السماوية.
ويضيق إلى ذلك قوله: (أما القول بوجود مكان سفلي مخصص للتعذيب فقد
اندثر وانمحى بدون أن يكلف العلم مشقة الإجهاز عليه) .
وهناك مشكلات أخرى في مسألة الزمن، ولكن الذين يقولون بحيوية هذه
المسألة قليلون، وإن المسيحي الذي رفض بنظرية الوحي اللفظي لا يجد صعوبة في
تصديق نظرية النشوء والارتقاء.
على أن النظرية القديمة لا تزال مضطربة فقد قرأت منذ زمن يسير كتابًا يعتبر
من أهم كتابنا اللاهوتيين فوجدت فيه هذه الجملة: (إن المسيحيين لم يعودوا يعتقدون
بوجود سماء محلية فوق رءوسنا) , وقد رحبت بهذا الاعتراض على وجود سماء
جغرافية؛ لصدوره من رجل يعتبر من أئمة الأرثوذكسية ودعائمها.
ولشد ما عجبت عندما علمت أن الكاتب قد ادعى أني ألحقت به وبسمعته ضررًا
عظيمًا لحذفي بعض كلماته، ولكني لا أنكر أنه قال: بأنه يعتقد بوجود سماء محلية
(ولكنها ليست فوق رءوسنا) (ولكن غاب عنه أن الأرض تدور) .
وقد قال إمام آخر في الأمور اللاهوتية في معرض حديثه عن صعود المسيح:
(إن كلمة: إلى السماء قد يمكن أن تحمل على المجاز، ولكن يلزم أن نعتقد أن جسد
المسيح الطبيعي قد رفع إلى مسافة شاسعة البعد عنا) .
وإني لأتساءل بكل جد وإخلاص: هل من الممكن احتمال مثل هذا التحكك
بالألفاظ بعد؟
أَوَليس من الضروري أن تواجه الكنسية هذه المسألة التي ظلت حوالي 400
سنة وهي تجبر الناس على التسليم بها، وتقهرهم على التصديق بها؟
هل للمسيحي أن يعتقد بتلك النظريات والتعديلات التي أدخلها رجال الكنيسة
على الأساطير الدينية , وفرضوا عليه الإيمان بها؟ أم عليه أن يصدق تلك النظريات
الفلكية المبنية على أسس مدعمة ثانية؟ ألا إن التحكك بالألفاظ لم يعد يرضي أحدًا.
واستطرد القس أنج فقال: إنه ليس أمام المسيحيين إلا إحدى ثلاث طرق:
(1) أن يحكموا على العلوم الفلكية بالتحريف والزيغ والكفر.
(2) أن نعتبر أن هذه الأساطير الدينية لا تتمشى مع روح العلم , ولكنها
تحمل على أنها رموز عن حقائق أزلية.
(3) أن نعترف أن كل التعاليم اللاهوتية المؤسسة على النظرية التي تقول:
بأن الأرض هي مركز العالم يجب أن تنبذ ما دامت لا تتفق مع النتائج العلمية
الصحيحة.
وأضاف إلى ذلك قوله: ولا إخالني جاهلاً ما في هذه الخطوة , ولا غافلاً عما
يعترض الأخذ بها من المصاعب، ولكني أعتقد أن القيام بأي عمل كائنة ما كانت
العقبات التي تقف في سبيل تنفيذه خير من محاولة ستر قرحة تنغص علينا حلاوة
الاعتقاد والإيمان.
على أننا إذا أخذنا بالوجه الثالث؛ فإننا نكون مساقين إلى عدم تشبيه الإله
بالإنسان، وإسناد خصائص الإنسان له، كما نفكر في السماء بأنها أقرب إلى الروحية
منها إلى المادية؛ أي: أنها حالة لا مكان.
حالة أعمق في معنى الخلود من أن تحدد بتعاقب الأيام وكر السنين.
ويظهر أنه ليس للمعجزات نصيب في فلسفة أنج؛ لأنه يقول:
إذا كان كل شيء في العالم قد وضع لغرض، فإنني لا أستطيع أن أفهم، أو أن
أنتظر نشوء نتائج خاصة من حالات معينة.
إن قوانين الطبيعة الموافقة لهذه النظرية هي كغيرها قوانين صحيحة ذات
غرض معين، وهي قائمة بوظيفتها تمامًا، وإذا كانت من صنع إله قدير عالم، فإنا لا
ننتظر منها إلا أن تؤدي وظيفتها بنجاح , وانتظام على وتيرة واحدة.
إن الآله التي تحتاج إلى إصلاحها لهي آلة فاسدة , وأما تلك التي لم تصنعها يد
حكيمة , فمن الصعب أن نطلق عليها اسم آلة على الإطلاق، على أن كل ما عمله
العلم ليثبت أن للعالم نظامًا مطردًا واحدًا يدل أصدق دلالة على أن هنالك قوة خالقة
واحدة.
وأما فيما يتعلق بنظرية الآلهة، أو وجود قوتين قوة للخير وقوة للشر تتنازعان
الغلبة بأسلحة متساوية، فإنه يقول:
(إن الرجال العلميين , وأولئك الذين لا يستطيعون أن يلقبوا أنفسهم بهذا اللقب؛
إنما يحتجون على ذلك الصراع بين إله الخير وإله الشر , وعلى نظرية تعدد الآلهة
عندما يرفضون الاعتراف بالمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه؛
لأنهم لا يجدون دليلاً صحيحًا على هذا الإيقاف , ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن
تقسيم الأشياء والحوادث إلى طبيعية وغير طبيعية يبعد النظام الطبيعي عن دائرة
النفوذ الإلهية المباشرة) . اهـ.
(المنار)
لا مخرج للقسيس أنج وغيره من الذين تطالبهم فطرتهم وعقولهم بدين يتآخى
فيه العقل والقلب، ويؤيده المنطق والعلم، إلا باتباع دين القرآن، المبني على
أساس الحجة والبرهان، ويا ليته يطلع على ما كتبناه من وجوه إعجازه، وإذًا لا يرى
بدًّا من أن يكون من دعاته.
__________(28/144)
الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي
__________
آثار المساجد في إصلاح الأمة
الخطبة المنبرية
(خطبة منبرية ألقاها صديقنا الأستاذ: محمد عبد العزيز الخولي المدرس
بمدرسة القضاء الشرعي في افتتاح معالي وزير الأوقاف لجامع الخازنداره بشبرا،
بمصر، في يوم الجمعة 8 شعبان سنة 1345هـ، الموافق 11 فبراير سنة
1927م، ويعد ذلك الجامع من أهم جوامع القاهرة نظامًا واتساعًا) .
الحمد لله يجزي كل امرئ مما عمل، فمن عمل صالحًا؛ فله جزاء الحسنى،
ومن عمل سيئا فله سوء العقبى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) .
أشهد أن لا إله إلا الله، يعلم نفوسًا طيبة طاهرة مخلصة صادقة أنفقت مالها
في سبيل دينه، وإظهار شعائره، وإعلاء كلمته {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22) ، ويعلم نفوسًا أخرى غرتها زخارف الدنيا حتى
ألهتها عن الأخرى، فأنفقت مالها في سبيل المظاهر الكاذبة، والدعاية الباطلة
{أَوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) ،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسوتنا في مكارم الأخلاق، قدوتنا في صالح
الأعمال، سباقنا إلى الخيرات، فصلوات الله وسلامه عليه , وعلى آله وصحبه
الذين رووا من علمه، واستنوا به في عمله (جزاهم الله أحسن ما كانوا يعملون) .
(أما بعد) : فإن من أبر الأعمال، وأعظمها منزلة عند الله بناء المساجد،
وتعمير بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً
تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ
يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36-38) ? كيف لا تكون المساجد خير
ما يبنى، وفيها تقام الصلاة التي هي عماد الدين؟ ومن أقامها أقامه، ومن هدمها
هدمه، الصلاة التي حسب الجاهلون أنها حركات رياضية لا صلة لها بالأخلاق،
وسياسة الكون، وما دروا أن بالصلاة توثيق العلاقات بين أهل السماء وأهل
الأرض، وتوثيق العلاقات بين المخلوقين وأحكم الحاكمين، إن مصر لتسعى
جهدها في توثيق العلاقات بينها وبين الدول الأجنبية؛ لتأمن شرها، وتستجلب
خيرها، فهل تلكم الدول أعظم خطرًا وأعز جندًا من دولة السماء التي على رأسها
رب العالمين، وأعدل الحاكمين، الذي له جنود السموات والأرض، الذي بيده
ملكوت كل شيء، الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن؛ فيكون؟ فإذا كنا ننفق
الكثير من أموالنا في سبيل توثيق العلاقات، وإقامة المؤتمرات، فهلا ننفق القليل
من وقتنا في القيام بصلوات نوثق بها الروابط بيننا وبين ربنا وخالقنا؛ فيمدنا بجنده
الذي لا يغلب، وجيشه الذي لا يقهر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما آذاه قومه في سبيل الدعوة، ولم ير في
مكة جوًّا صالحًا لتتم له الكلمة؛ هاجر منها إلى المدينة حيث الأنصار الذين
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، فلما أن وصل إلى قباء أول
ضاحية من ضواحي المدينة مكانتها من المدينة مكانة شبرا من القاهرة، كان أول
عمل قام به بناء مسجد قباء الذي يقول الله فيه: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ
أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة: 108) ، وكان صلى الله عليه وسلم يعمل فيه بنفسه، ولما أتمه، تحول
إلى المدينة، فتلقاه أهلها فرحين مستبشرين، وخرجت ذوات الخدر يقلن:
أشرق البدر علينا ... واختفت منه البدور
مثل حسنك ما رأينا ... قط يا وجه السرور
وكان أول ما عمله أن شرع في إقامة مسجده المعروف، وكان مكانه لغلامين
يتيمين، فاشتراه منهما بخمسة جنيهات، ثم أخذ يبني فيه مع أصحابه، وكان صلى
الله عليه وسلم ينقل الطوب والحجارة، ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة *
فاغفر للأنصار والمهاجرة) ، فأنتم ترون أن أول أعمال الرسول صلى الله عليه
وسلم في المدينة إقامة مسجدين، فلم يبدأ بفتح المدارس، أو إقامة المستشفيات،
أستغفر الله، بل فتح المساجد، وأقام المدارس، وبنى المستشفيات.
هل المساجد إلا مدارس تكون فيها الأخلاق، وتهذب الأرواح، وتلقى فيها
الدروس العلمية والعملية؟ ألست في المساجد تسمع آيات لله تتلى؟ وتسمع الحكم
العالية، والنصائح الغالية من كلام خاتم النبيين وسيد المرسلين، وإن ذلك شفاء لما
في الصدور، وهل مداواة الأجسام خير، أم مداواة الأرواح؟
إن المساجد بحق بيوت للعبادة، مدارس للتعليم الصحيح، مستشفيات لأمراض
النفوس.
إن المدارس الأولية التي تسعى الحكومة في نشرها جهد الطاقة، إنما تعم
الصبيان، وإن المساجد يعلم فيها الصبيان والشباب والشيوخ، بل يعلم فيها النساء
والرجال، وإن أنواع المدارس الأخرى، إنما تعلم بالأجر، والمساجد فتحت أبوابها
لكم لا تتقاضى منكم على التعليم أجرًا ولا ثمنًا.
فالمساجد في الأمة تؤدي خدمة عظيمة، لا تماثلها خدمة أخرى لو أن القائمين
فيها ممن عرفوا الدين حق معرفته، ودرسوا أصلية كتاب الله والسنة، لو أنهم ممن
خبروا الحياة، وعرفوا شؤونها، وكان لهم بجانب ذلك أرواح طاهرة، وعقول نيرة،
وحكمة بالغة، وعسى أن يكون ذلك قريبًا {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا
مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف: 10) .
روى البخاري ومسلم، عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له مثله في الجنة) .
__________(28/150)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قانون الأحوال الشخصية في مصر
والتنازع بين جمود الفقهاء
وإلحاد زنادقة المتفرنجين
(1)
لقد بيَّنَّا في مقالات كثيرة من مجلدات المنار منذ سنته الأولى إلى الآن ما كان
من تقصير علماء المسلمين فيما يجب عليهم للإسلام وأهله، واشتراكهم مع الحكام
والمتصوفة في أسباب إضعافه , وإضاعة ملكه.
وبيَّنَّا في مقالات أخرى مفاسد ملاحدة المتفرنجين من المسلمين، وإضاعتهم
بقايا تراث الإسلام في شعوبهم من أدب وفضيلة ودين، وكنا نبين في أثناء بعض
هذه المقالات , وفي مقالات مستقلة شدة حاجة المسلمين إلى حزب إصلاحي معتدل
يعرف أهله حقيقة الإسلام الصحيح الخالي من الخرافات والبدع، الداعي إلى
الصلاح والإصلاح والسعادة والسيادة والملك، ويعرفون ما يتوقف عليه الجمع بين
هذين الأمرين في هذا العصر من علوم وفنون ونظام , وليكونوا هم أهل الحل
والعقد في شعوب الإسلام، ثم فصلنا القول في هذه الأحزاب الثلاثة في كتاب
(الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي كتبناه , ونشرناه عند شروع الترك في هدم خلافة
آل عثمان الصورية؛ لبيان ما يجب على المسلمين في هذه الحال.
كان الفقهاء المقلدون أعوان الملوك، والسلاطين المستبدين، والحكام
المفسدين، وكان هؤلاء أنصارهم ورافعي شأنهم، وكان الغبن في ذلك على الشعوب
الإسلامية التي ابتليت برياسة الفريقين , ثم اشترك مع الفقهاء في هذه المكانة من
الأمراء والملوك، وأعوانهم شيوخ طرق الصوفية بعد أن صارت رياسة للعوام في
الاحتفالات البدعية ومآدب الطعام، ليس فيها شيء من التصوف ولا من هداية
الإسلام، فلولا الملوك الجاهلون وأوقافهم؛ لما تفرق المسلمون شيعًا وأحزابًا باسم
المذاهب، بل كانوا يستقيمون على هدي السلف الصالح، أمة واحدة متحدة في دينها
ودنياها، تستفيد من علم كل نابغ مجتهد فيها من غير تعصب، ولا تحزب لأفراد من
العلماء يرجح كل حزب منهم ظن إمامه على نصوص الشارع، بل جعلوا أقوال
شيوخهم المتأخرين من مقلدي مقلدي المقلدين، كنصوص القرآن فيما يشبه التعبد
بألفاظها، وعدم الخروج عن معانيها، وإن خالفت نصوص الكتاب والسنة، ونافت
جميع مصالح الأمة، حتى ضاق من الحكام بهم كل ذرع، واضطروا إلى مخالفة ما
تعارفوا على أنه هو الشرع، إلى أن انقلب ذلك الوضع، وصار الحكام على هؤلاء
الجامدين ضدًّا، بعد أن كانوا ردءًا لهم ورفدًا. فأما الترك فقد تركوا الشرع كله،
ونبذوا فرعه وأصله، وألغوا محاكمه ومدارسه الشرعية، واستبدلوا به تشريع
الغرب , وقوانينه الوضعية.
وأما مصر فقد سبقت الترك إلى أخذ القوانين المدنية والجزائية عن الإفرنج،
ثم جهر ملاحدتها في أثناء وضع القانون الأساسي للحكومة الدستورية , وفي أثناء
وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الأول بأنهم يطلبون حكومة لا دينية ,
وقانونا مدنيًّا للأحوال الشخصية يكون عامًّا نافذًا على جميع المصريين، من ملاحدة
ودينيين، مسلمين وغير مسلمين، ثم نشرت جريدتهم (السياسة) مقلات كثيرة
إلحادية بقلم تحريرها , وبأقلام أنصارها من غيرهم، ونصروا كتاب الشيخ علي
عبد الرزاق وهو من أركان حزبهم، نصرًا مؤزرًا؛ لجحده التشريع الإسلامي ,
وزعمه أن الإسلام ليس له دولة ولا حكومة ولا تشريع؛ لأنه دين روحاني محض،
ومن ذلك الحين طفق كُتَّابُ جريدة السياسة يطعنون في جميع علماء الدين
ويحقرونهم، وكان الدكتور طه حسين أول طاعن في الإسلام والمسلمين من أركان
محرري السياسة، ومنهم: محمود أفندي عزمي أول من كتب في الجرائد مقترحًا
أن تكون الحكومة المصرية لا دينية , والأحكام الشخصية فيها مدنية، وهو الآن
إمام هذه الدعاية من محرري السياسة.
ثم نجم قرن الإلحاد في مجلس البرلمان في دورته السابقة , ثم في دورته
الحاضرة من أفراد من الأعضاء لم يجدوا لهم مفندًا، بل وجدوا مؤيدًا , طلب بعض
المسلمين منهم في الدورة الماضية فرصة لصلاة المغرب , وتخصيص مكان
يصلون فيه كما كانت تفعل الدولة العثمانية، فقال بعض الأعضاء: إننا لا نريد
صلاة , أو ما هذا معناه فنفذ قوله.
وفي الدورة الحاضرة طرحت مسألة تكذيب الدكتور طه حسين للقرآن ,
وطعنه في الإسلام في مجلس النواب الحاضر , فأنحى بعض الأعضاء باللائمة على
الحكومة؛ لتركها إياه معلمًا لأولاد الأمة في أعلى مدارسها (الجامعة المصرية) ،
وعدم عقابه على الطعن في دينها الرسمي؛ فتصدى للرد عليهم صاحب الدولة
رئيس الوزارة عدلي باشا يكن , ولكن شايعهم في إدارة نظام المفاوضات صاحب
الدولة سعد زغلول باشا رئيس المجلس حتى كاد يلجئ رئيس الوزارة إلى الاستقالة ,
فتلافى ذلك بعض النواب , وأجلوا البحث إلى أن اجتمع الرئيسان , واتفقا على
ترك هذه المسألة للقضاء , ثم لم يفعل القضاء شيئا.
وبقي الدكتور طه حسين يلقن نابتة الأمة التشكيك في الدين , ويجرئهم على
الإلحاد فيه.
وصاح عضو من أعضاء مجلس النواب في إحدى جلساته: بأنه يجب
القضاء على الدين الذي يبيح تعدد الزوجات - يعني دين الإسلام - وقال آخر:
(إن مصطفى كمال باشا لم يفعل إلا إزالة تكايا أهل الطريق الخرافيين) , فلم ينكر
عليهما المسلمون منهم , ومعناهما واحد , ولكن قال قائل في هذا المجلس: (إنني
بصفتي مسلمًا) أقول كذا , في مسألة إسلامية خاصة بالمسلمين، فصاح بعضهم في
وجهه: لا تقل: إنني مسلم , ليس ههنا إلا مصري يمثل جميع المصريين , أو ما
هذا معناه؛ فلم ينكر هذا أحد على قائله بأن تمثيل النائب لجميع المصريين يحرم
على المسلم أن يصرح بدينه، فههنا مسألة غفل عنها هؤلاء المتفرنجون , وهي أن
هذا المجلس يضع قوانين شرعية إسلامية خاصة بالمسلمين , وهي موضوع مقالنا
هذا , فيجب أن يعلم المسلمون بأي صفة , أو بأي حق يشرعونها.
ثم إن المعاهد الأزهرية كانت قد نالت من الحكومة المصرية مطالب كانت
تعدها ثمرة؛ لاشتراكها في الأعمال الوطنية التي قامت بها الأمة منذ ثورة سنة
1919 , فسلبتها إياها الحكومة الائتلافية الدستورية الحاضرة؛ فثار طلاب الأزهر ,
وملحقاته بإغراء بعض المدرسين ثورة شؤمى سددوا فيها سهامهم إلى الدستور،
على ما يعتقد الجمهور، فنصح لهم العقلاء من أساتذتهم بترك هذا التهور ,
والإعراض عمن أغراهم به، فغرتهم كثرتهم , وشقشقة ألسنتهم , فلم تغنيا عنهم
شيئًا، كبحت الحكومة كل ما كان لهم من جماح، وقصصت كل ما كان لهم من
جناح؛ فأصبحوا في معاهدهم جاثمين، وانطلقت ألسنة الجرائد في أعراضهم،
وطفقت النيابة العامة تبحث عن موجبات العقاب القانوني من أقوالهم، وتدعو إلى
دور القضاء المتهمين من طلابهم وأساتذتهم، ثم حكمت على بعضهم؛ فغلبوا هنالك ,
وانقلبوا صاغرين، ولم يكونوا في ثورتهم , ولا في سكونهم بمهتدين.
ثُم نقب بعض النواب عما أخذ الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر من وزارة
الأوقاف من المال الذي أنفق في سبيل مؤتمر الخلافة الذي تولى مع هيئة كبار
العلماء الدعوة إليه، فجاءهم وزير الأوقاف ببيانه، وقدره 2500 جنيه؛ فهاجت
الأحزاب الائتلافية الساخطة على شيخ الأزهر، وعلى العلماء العاملين في مؤتمر
الخلافة، وأنشأت جرائدها تشايع من بالغ من النواب في إنكار هذا العمل، وكان
لذلك سببان سياسي , وإلحادي؛
(السبب الأول) أن الأحزاب البرلمانية المؤتلفة التي تمثلها الحكومة
الحاضرة تعد شيخ الجامع الأزهر، وكبار علمائه من أنصار حزب الاتحاد الذي
كان يؤيد الوزارة التي تولت أمر الحكومة في عهد تعطيل الدستور بقوة الاحتلال
القاهرة؛ إذ كان يعد نفسه ويعدونه هم حزب السراي) العامرة، وكان حسن نشأت
باشا وكيل وزارة الأوقاف، ورئيس الديوان الملكي بالنيابة، هو المرجع لشيخ
الأزهر، والسكرتير العام للمعاهد الدينية في أمر الدعوة إلى تأليف مؤتمر الخلافة،
ولذلك كان حزب الاتحاد وحده هو المؤيد لهذا المؤتمر , وهو الذي لا يزال يدافع
عنه وعن أهله في جريدته إلى اليوم كما بلغنا , وكانت الجرائد الوفدية ,
والدستورية تطعن فيه، وهي التي أثارت مسألة نفقاته من بعد، وألبسوها ثوبًا من
التدليس , أو التزوير، تولى كبره بزعمهم الأستاذ الأكبر، وشاركه في وزره كل
من أصابه شيء من المال للمساعدة على هذا العمل، ذلك بأنه وجد في الوثائق
الرسمية أن الشيخ طلب من وزير الأوقاف مبلغًا من أموال الأوقاف الخيرية؛ لينفق
على بعض (الأعمال السائرة) في المعاهد الدينية , وهو (لا يدخل في ميزانيتها) ,
فأعطاه وزير الأوقاف خمسمائة جنيه من فضل وقف يسمى وقف أم حسين عملاً
برأي لجنة الأوقاف الاستشارية، ثم طلب مبلغًا بعد مبلغ , فكان جملة ما أخذه
2500 جنيهًا أنفقها في هذه السبيل، وهو زهاء.
(السبب الثاني) أن حزب الملاحدة افترض هذه الحملة وما ألبسته من ثوبي
زور؛ للانتقام من رجال الدين وتحقيرهم، وإبطال ثقة العامة بدينهم وعلمهم،
فطفق كتابه يحبرون المقالات في إثر المقالات، ويوالون الصيحات الهيعات: أيها
المسلمون، انظروا ما فعل علماؤكم الدينيون، أكلوا أموال الفقراء والمساكين،
واستحلوا ما حرم رب العالمين، فأثبتوا لكم أنه لا ذمة لهم ولا دين، وإننا نحن
الذين ينبذوننا بألقاب الإلحاد والزندقة، والإباحة المطلقة، نغار على دينكم وأوقافكم،
ونضرب على أصابعهم أن تسدر أخلافكم , الأوقاف الأوقاف، ذهبت الأوقاف،
هلك مستحقو الأوقاف , فعاقبوا شيخ الأزهر، على ما دلس وزوّر ….
هل يصدق أحد من علماء الدين، أو رجل مستقل الفكر، ولو من غير
المسلمين، أن أحدًا من هؤلاء الصائحين النائحين، يغار على الأوقاف، أو يدافع
عن الفقراء والمساكين، وهم يعلمون أن عشرات الألوف من الجنيهات تصرف
منتها كل عام في غير مصارفها الشرعية، ولا يرون جريدة تقول كلمة في ذلك؟
أم يعتقد عاقل أن شيخ الأزهر خدع وزير الأوقاف العالم القانوني، وغشه بإيهامه
إياه أن ما طلبه من المال لبعض الأعمال السائرة في المعاهد الدينية كان يريد إنفاقه
على العلم والتعليم بشرط أن لا يدخل ميزانية المعاهد؟ أيجهل أحد من رجال
الحكومة وأصحاب الصحف ومحرريها , أو من الواقفين على الشؤون العامة من
أعضاء البرلمان وغيرهم أن وزير الأوقاف , ووكيل وزارته , ولجنة الشورى فيه
كانوا يعلمون أن شيخ الأزهر قد طلب المال؛ لأجل النفقة على مؤتمر الخلافة الذي
شرع في دعوة العالم الإسلامي إليه؟
كلا , إنهم يعلمون ذلك , ولكنهم يغشون من لا يعلم من النواب والعوام، فإن
كان في الطلب تزوير , فالمسئول الأول عنه وزير الأوقاف , لا شيخ الجامع الأزهر.
والحق أن شيخ الأزهر طلب ما يعتقد أنه حق مشروع , وأنفقه في سبيله،
وإن أساءت السكرتارية في تفصيله، فإن مسألة الخلافة من أهم المسائل الإسلامية
التي يجوز الإنفاق في سبيلها من أموال الأوقاف الخيرية العامة , وأما الشكل الذي
أبرز الطلب فيه , وبنى الدفع عليه , فالظاهر أنه أمر شكلي وضعته لجنة الاستشارة
في الأوقاف.
كان مجموع ما أجملناه من حوادث مصادمة الدين، وتحقير رجاله موسعًا
لمسافة الخلف، وسوء الظن بين رجال الدين، وبين دعاة الإلحاد الذين صرحوا في
مقالات عديدة نشرت في جريدة السياسة بأن ثقافة التفرنج الجديدة التي ترفع أركانها
مدرسة الجامعة المصرية ستقضي على الثقافة الإسلامية التي كان ينبوعها الجامع
الأزهر.
في أثناء هذا التنازع، والتصارع بين الإسلام والإلحاد قامت الحكومة
بمشروع قانون الأحكام الشخصية الذي نص فيه على: منع عقد المسلم التزوج على
زوج ثانية إلا بشروط فوض الأمر فيها إلى القاضي , وعلى أحكام أخرى مخالفة
للمذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر , وأمثاله من مدارس أهل السنة، فأوجس
جمهور علماء الأزهر وغيرهم خيفة منه، وعدوه خطوة أو خطوات في الطريق
التي سبقت إليها الحكومة التركية من تحديد سن الزواج في كل من الزوجين الذي
تبعتها فيه الحكومة المصرية , ومن وضع (قانون العائلة) الذي هي بصدد اتباعها
فيه، وأخوف ما يخيفهم منه هو جعل الأحكام قانونًا، وجعل الشارع له البرلمان
المصري المؤلف من المسلمين، وغير المسلمين، وبناء تنفيذه على هذا لا على
كون الشارع له هو الله ورسوله.
ومن سوء حظ الأزهر أن الجامدين على التعصب لكتب معينة في فقه
المذاهب الأربعة ليسوا أصحاب حجة ولا برهان، ولا يقدرون على الدفاع عن
الدين بالسلاح العلمي القاطع في هذا الزمان، بل يريدون أن يكونوا على ما عهدوا
في الزمن الماضي من التسليم لهم بما يقولون أنه حكم الله، وهم يفتون في مسائل
حادثة لم تكن في عصر التنزيل , ولا في عصور الاجتهاد المطلق أو المقيد , أو
التخريج , أو التصحيح , واجتهاد المجتهد ظن له لا حكم لله، والتخريج عليه أبعد
منه عن ذلك، والتصحيح لأحد قولين مخرجين على نصوص المجتهد , أو قواعده،
لا يرتقي صاحبه إلى درجة المخرج له، ودون هذه الطبقة طبقة ناقلي التصحيح،
ومنهم أفقه فقهاء هذا العصر على حسب عرف هؤلاء المقلدين، فهم في الدرجة
الخامسة عند طائفة , والسادسة عند أخرى، وبينهم وبين معرفة حكم الله تعالى
خمسة حجب , أو ستة باعترافهم.
ألا إن العالم يحتاج إلى إصلاح، ولن يستطيع شعب إسلامي أن يتحمل أثقال
تقليد هؤلاء المقلدين لمذهب واحد، ولا أن يجعلوا مصالحهم الزوجية والمنزلية
والمالية منوطة بفهمهم لكتب مذهب واحد في عسره ويسره، وقد آن للمستقلين في
فهم الدين أن يبينوا يسر الشرع الإلهي للمسلمين، فقد زالت دولة هؤلاء الجامدين
المشددين، ويخشى أن يدال منها لملاحدة المتفرنجين، وفي الأزهر وغيره من
المعاهد الدينية أنصار لهذا الإصلاح سيجدون أعوانًا من جميع الطبقات.
(للموضوع تتمة)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/153)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
أنباء العالم الإسلامي
(دعاة الشقاق للحرب بين الإمامين يحيى وعبد العزيز)
لا تزال إشاعات الشر عن استعداد الإمام يحيى لإيقاد نار الحرب تطوف
الأقطار؛ فتشغل الصحف وقراءها، ويتردد في بعض المجالس الخاصة ما هو
شر مما تنشر الصحف منها.
ومن هذا النوع ما ورد في مكتوبات خاصة من عدن , وغيرها من أن محاضيء
الفتنة من روافض الأعاجم، وأنصارهم من الهنود السياسيين قد أرسلوا إلى الإمام
يحيى وفدًا يعرض عليه إمداده بألف ألف جنيه مساعدة له على قتال الملك ابن السعود
لإخراجه من الحجاز، ويقال: إن مع العضو الإيراني من هذا الوفد عضوًا أفغانيًّا.
فيا ليت شعري! هل هو عضو ملفق في الهند أم استطاع شاه إيران استمالة أمير
الأفغان السني المصلح المدني؛ ليساعده على هدم السنة، ومعاداة أنصارها؟ الراجح
عندنا أن الوفد كله ملفق بإغواء أعداء الإسلام والعرب راجا محمود آباد , وأعوانه
الساعين في منع الحج، ولهؤلاء حزب في بعض بلاد الشرق.
وفي سورابايا (جاوه) جريدة عربية لهذا الحزب، تجهر بالدعوة إلى
هذه الحرب، وهي التي كان قد أسسها بعض غلاة الرفض من علوية
الحضارم؛ لدعايته في تلك البلاد التي ينتمي جميع أهلها إلى مذهب الإمام
الشافعي من أئمة السنة، فأحدثوا بينهم من الشقاق ما اشتهر أمره، وكان سببًا
لتأليف عدة جمعيات تطعن في العلويين أقبح الطعن بعدما كان الإجماع على
تعظيمهم وتكريمهم، وفاء لأسلافهم الذين نشروا الإسلام، ومذهب الشافعي هنالك.
تعظم هذه الجريدة أمر الإمام يحيى حميد الدين، وتكبر قوته، وتغلو في
استعداده الحربي، وتحبذ ما عقده من الاتفاق مع الدولة الإيطالية، وتطعن في
الإمام عبد العزيز ابن السعود، وتهون أمره، وتحقر قوته، ولا عجب فقد
سمع بعض علماء مصر , وفضلائها من زعيم من أشهر رجال هذا الحزب أنه
يفضل استيلاء دولة أوربية على الحجاز , ويراه أضعف ضررًا من استيلاء
ابن سعود عليه، ولكن الإمام يحيى أعلم من هؤلاء المتهورين بحقيقة قوته،
وقوة ملك الحجاز ونجد، وأعلم منهم بمصلحته، ومصلحة بلاده، وسيرى العالم
منتهى شوطهم في إغرائه، وتوريطه.
وأما نحن، فإننا نرى أن السياسة المثلى التي يجب أن يتبعها الإمامان
في الجزيرة العربية هي سياسة التآلف، والتحالف، والتعاون على حفظ
استقلال مهد الإسلام أن تمتد إليه يد الاستعمار، ونفوذ الأجانب، ونرى أن
من يوقد نار الحرب منهما على الآخر هو أكبر المجرمين، ولا يقبل له عذر
من الأعذار، ونرى مع هذا أن الخطر على اليمن أقوى وأقرب من الخطر
على الحجاز ونجد، ولعل الإمام يحيى قد شعر بزلته في الاتفاق مع إيطالية،
وإذًا لا يختار لنفسه الدخول في مأزق يضطره إلى تمكينها من قياده، ورسوخ
قدمها في بلاده.
***
(الحج في هذا العام)
نحمد الله تعالى أن أرى حزب الجريدة (الحضرموتية) بوادر خذلانه في
الدعوة إلى هدم ركن الإسلام الركين (الحج) في البلاد التي ينفث سمومه
الرفضية فيها، وهي جزائر جاوه , وما جاورها، فإن المسلمين قد لبوا دعوة الله
تعالى على لسان رسوله وخليله إبراهيم، ولسان رسوله وحبيبه محمد صلوات الله
وسلامه عليهما وعلى آلهما إلى حج بيته الحرام ألوفًا وراء ألوف , وداسوا
بأرجلهم دعوة هذا الحزب الذي كان يرفض السنة؛ فانتهى إلى رفض الفرض،
كما خذل أمثالهم في الهند الإنكليزية أيضًا بالرغم من أنف المتجرين بالدين في سوق
السياسة شوكت علي , ومحمد علي، والمرجو أن لا يقل حجاج هذا العام من البحر
عن مائة وخمسين ألفًا، وقد بلغنا أن حكومة العراق لم تمنع الحج رسميًّا، ولكن
بعض الزعماء من أعداء السنة، ومن أصدقاء الملك هم الذين يصدون عنه صدودًا،
فانحصر المنع الرسمي لأداء هذه الفريضة في الدولة الإيرانية، فأين علماء الشيعة
في بلادها في الهند، والعراق، وجبل عامل؟ كيف يسكتون عنها في هذا العام،
بعد أن ثبت بالتواتر بطلان ما بنت عليه المنع في العام الماضي من عدم الثقة
بالأمن، ودعوى إلزام الناس أن يؤدوا المناسك على مذهب الحاكم دون مذاهبهم؟
ونحن نطلب من علماء النجف، وكربلاء، وجبل عامل إصدار بيان ينشر في
الصحف بأركان الحج، وشروط وجوبه؛ لنعلم هل لحكومة إيران عذر في المذهب
الجعفري , أو الاثني عشري في منع المسلمين من إقامة هذا الركن من أركان الدين
بنص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) .
__________(28/159)
شوال - 1345هـ
مايو - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حكم بناء فنادق المسافرين
وإجارتها لغير المسلمين
(س5) جاءنا من عمر بك الداعوق أحد أعضاء جمعية المقاصد الخيرية
الإسلامية العاملين في بيروت كتابًا يتضمن: الاستفتاء في بناء فندق للجمعية كفنادق
مصر الكبرى , وتأجيره … , فأجبناه بالجواب الآتي المتضمن للسؤال:
من محمد رشيد رضا إلى حضرة الوطني العمراني العامل عمر بك الداعوق،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد كتبت إلي بأن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت قد
طلب منها إنشاء فندق على الطراز الحديث كفنادق القطر المصري الكبرى؛
لاستثماره بالإجارة، وصرف أجرته السنوية في تعليم أولاد فقراء المسلمين،
وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة.
وسألتني: هل في تأجير الفندق محذور شرعي يحرمه؟ ولم تذكر لي ما
عرض لك من الشبهة على تحريمه؛ فكانت سبب السؤال، وما تأجير الفندق إلا
كتأجير دور السكنى للأفراد , وأهل بيوتهم , وحوانيت التجارة ومخازنها، وأنا
أعلم أن للجمعية شيئًا من ذلك تؤجره، كما أن لبعض أعضائها مثل ذلك، فما بالكم
تؤجرون هذه المباني , ولا تستفتون في تأجيرها؛ لأن الإجارة من العقود المعلوم
حلها من الدين بالضرورة، وخصصتم إجارة الفندق بالاستفتاء.
والحال أن المراد صرف أجرته في أشرف الأعمال وأفضلها , ويتسامح في
المصالح العامة ما لا يتسامح في المنافع الخاصة.
فإذا كانت الشبهة على هذا أن بعض المسافرين الذين ينزلون في هذه الفنادق
قد يشربون الخمر فيها، والمستأجر يعدها لهم , ويبيعهم إياها، فسكان البيوت
والدور وغيرها , وتجار الحوانيت منهم من يشربون الخمر , ويفعلون غير ذلك
من المعاصي كالبيوع الباطلة , أو الفاسدة , والغش، ولا نعلم أن أحدًا من أئمة الفقه
اشترط في صحة إجارة الدار أن يكون المستأجر مسلمًا من الصالحين المتقين؛ لئلا
يرتكب فيها محرمًا.
فالتأجير لغير المسلم , وللمسلم الفاسق جائز بالإجماع، وإننا نرى وزارة
الأوقاف بمصر , ونظار الأوقاف الخاصة في هذه البلاد , وغيرها من بلاد الإسلام
يؤجرون الدور الموقوفة للمسلمين وغير المسلمين , ولا يبحثون عن عقائدهم ,
ولا عن أعمالهم، وأوقاف المساجد , والأعمال الخيرية في ذلك سواء , والفنادق
الكبرى في مصر يستأجرها , ويدير نظامها أناس ليسوا من المسلمين , ولا من دار
الإسلام.
وقد نص الفقهاء على أن غير المسلم لا يكلف مراعاة الأحكام الشرعية
الإسلامية المدنية في غير دار الإسلام، كشروط البيع , والإجارة , والشركات،
وكذلك يكون فندق جمعيتكم في بيروت غالبًا , وإن كان فيها فنادق أخرى صغيرة
محلية يتولى إدارتها بعض المسلمين.
وأنتم تعلمون أن بيروت , وسائر سورية الآن ليست دار إسلام , أي: الأحكام
المدنية فيها ليست على الشرعية الإسلامية، والسلطة فيها ليست في أيدي المسلمين،
هذا , وإن أكثر أحكام المعاملات المدنية في الشريعة الإسلامية اجتهادية مبنية
على ضبط المعاملات التي تدور على حفظ المصالح , ودرء المفاسد، وقد أفتى
الفقهاء بحل جميع أموال أهل الحرب , فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها، فما كان
برضاهم , أو عقودهم؛ فهو حلال لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح، ويجري
على هذا مسلمو بعض الأقطار كالصين , وكذا بعض بلاد الهند فيما بلغنا. ومن أفظع
الجهل بأحكام شريعتنا , وحكمها أن نجعلها - وهي الحنيفية السمحة التي غايتها
سعادة الدارين - سببًا لشقاء المسلمين , وفقرهم , واستيلاء غيرهم على ثروتهم في
دارهم وغير دارهم، وهم يعلمون أن جميع الأحكام المالية حتى الدينية منها كالزكاة لم
تشرع إلا بعد أن صار للمسلمين دار تنفذ فيها أحكامها بعد الهجرة النبوية.
فإن قلت: هل يحل للمسلم أن يبني معبدًا؛ ليؤجره لأهل ملة يعبدون فيه غير
الله تعالى؟ أو حانة للخمر , أو ماخورًا للفسق يؤجرهما لغير المسلمين؛ لينتفع
بمالهم؟ قلت: لا يحل له ذلك؛ لأنه يبني لأجل الشرك بالله , ونشر الفسق الذي
حرمه الله؛ ابتداءً وقصدًا لذلك.
والفندق ليس كذلك؛ إذ لا يبنى لأجل الشرك , ولا لأجل الفسق , ولا يؤجر
لأجلهما مباشرة وقصدًا، بل القصد منه إيواء المسافرين , فهو كالدور التي يسكنها
الأفراد والأسر، والمستشفيات التي تعد لمداواة المرضى، وفي كل من الدور
والمستشفيات قد يقع بعض المحرمات من شرب الخمر، وغيره من المكلفين بفروع
الشريعة , وغيرهم، ولكن الدار لم تبن، ولم تؤجر لأجل هذه المحرمات التي قلما
يخلو منها مكان في هذا العصر، وكذلك المستشفى.
وههنا مدرك آخر للنازلة المسؤول عنها , وهي مراعاة حال العصر التي يعبر
عنها الفقهاء بعموم البلوى , فمن المعلوم أن مدينة بيروت أكثر أهلها من غير
المسلمين , وأن المسلمين فيها قد فشت فيهم ضروب من الفسق كشرب الخمر ,
والزنا من الكبائر، والظهور على عورات النساء المحارم , وغير المحارم من
الصغائر التي هي ذرائع الكبائر، والكثير من دورها , وحوانيتها , أو أكثرها
للمسلمين، فإذا لم يبح لهم إجارة دورهم , وحوانيتهم إلا لمسلم صالح تقي يرجح
المستأجر أنه لا يرتكب فيها محرمًا , فإن أكثرها يصير معطلا ًخاليًا لا ينتفع به ,
بل يسرع إليه الخراب، كما يسرع إلى أهله الفقر والفناء؛ لأن المسلم الصالح
التقي المأمون فسقه قليل , وربما يكون مالكًا لبيت يسكنه.
وهذا حجة الإسلام الغزالي من أكبر فقهاء الشافعية , وصوفية المسلمين
الورعين قد أفتى بأن المال إذا حرم كله في بلد , أو قطر حل كله , وقال هو وغيره:
(إن البلاد التي يغلب , أو يعم المال الحرام بالمعاملات الباطلة , والفاسدة لا يؤخذ
فيه بقول من قال: إنه يتعدى , بل يكفي المسلم الورع فيه أن يأخذ المال من طريق
حلال , وإن كان أصله حرامًا) .
فإذا راعينا مع هذا قاعدة إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -
في كون العبادات يؤخذ فيها بظواهر النصوص من الكتاب والسنة , وكون مدار
أحكام المعاملات على المصلحة , وأن النصوص ترد إليها، وتذكرنا مع هذا أنه
ليس لدينا نص من الكتاب , ولا من السنة في تحريم بناء الفنادق , ولا تحريم
إجارتها يعارض أصل الإباحة , أو يعارض المصلحة المعلومة بالقطع؛ لم يبق
لديك احتياج إلى دليل آخر على الحل الذي لا تشوبه شبهة.
وفوق هذا كله خطر تحريم ما لم يحرمه الله تعالى في كتابه , ولا على لسان
رسوله بنص قطعي لا شبهة فيه.
هذا الخطر أكبر , وأشد , وأعظم من خطر اتقاء شبهة في عمل حلال في الأصل
كالشبهة التي فرضناها في نازلتنا.
يقول علماء الأصول: إن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا،
فأين هذا الخطاب في مسألتنا؟ قد أنزل الله تعالى في أم الخبائث , وأضر الرذائل
قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) , وما كان ضرره
أكبر من نفعه , والمفسدة فيه أكبر من المصلحة بتجارب الناس , فهو محرم عند
جميع فقهائنا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الخمر والقمار على
جميع المسلمين بهذه الآية التي أخبر فيها رب العالمين المحيط بكل شيء علمًا بأن
إثمهما أكبر من نفعهما، فعلم منه أن هذا لا يقتضي ترك جميع الناس لهما اقتضاء
قطعيًّا جازمًا؛ إذ بقي فيه مجال لاجتهاد الأفراد في الموازنة بين النفع والضرر؛
ولذك ترك الخمر والميسر بعض الصحابة؛ لأنهم فهموا منها التحريم , وظل
بعضهم يشرب الخمر , ويأكل مال الميسر، وظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بيانًا) حتى إذا ما نزلت آيات سورة المائدة آمرة
باجتنابها أمرًا صريحًا لا يحتمل التأويل مؤكدة له ببيان علته , وبقوله تعالى:
{فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) قال جميع المسلمين: قد انتهينا يا ربنا.
وصار كل من عنده خمر يهرقها حتى سالت بها شوارع المدينة كأودية السيل.
إن التحريم الديني على العباد حق الله وحده , وقد قال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116) , وقال في بيان أصول الكفر والمعاصي الكلية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) قال بعض المحققين: إن هذه المحرمات قد ذكرت على طريقة الترقي في الغلظة ,
والشدة كل نوع أغلظ مما قبله، وذلك أن كلاًّ من المعاصي , والشرك , والكفر
قسمان: قاصر على فاعله، ومتعد إلى غيره , فمعصية البغي على الناس أشد من
الفاحشة والإثم القاصر على فاعله، والشرك بالقول على الله تعالى بغير علم
أغلظ من الشرك القاصر على فاعله، وقد صرح الكتاب العزيز بأن القول في
الشرع بغير وحي من الله تعالى شرك به في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) , وقد فسرها النبي صلى الله
عليه وسلم نفسه في حديث عدي بن حاتم بأنهم كانوا يحلون لهم , ويحرمون
عليهم , فيتبعونهم، فهذا معنى اتخاذهم أربابًا، ويراجع النص في التفسير المأثور
من شاء.
أكتفي بهذا في بيان دحض شبهة تحريم بناء الفندق , وتحريم إجارته {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
__________(28/161)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما قبله)
(النوع الثاني) من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافرًا إلا من حمل
الزاد والمزاد دون من كان نازلاً , فكان لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر , والتاني [1] ,
والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك , ولم يُقَدِّر عثمان للسفر
قدرًا , بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر , وكذلك قيل: إنه لم ير نفسه والذين معه
مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة.
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: (السفر الذي
تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد) , ومأخذ هذا القول - والله أعلم -
أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام , والرجل إذا كان مقيمًا في مكان يجد فيه
الطعام والشراب، لم يكن مسافرًا , بل مقيمًا بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل
الطعام والشراب , فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر ,
وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة , والمشقة إنما تكون لمن
يحتاج إلى حمل الطعام والشراب، وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس
وجنس , روى ابن شيبة عن علي بن مسهر , عن أبي إسحاق الشيباني , عن
قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن عبد الله بن مسعود قال: (لا يغرنكم
سوادكم هذا من صلاتكم , فإنه من مصركم) .
فقوله: (من مصركم) يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان
تابعًا له , وروى عبد الرزاق , عن معمر , عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي ,
عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن , فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي ,
وشرط علي أن لا أفطر , ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه , وبينهما نيف وستون
ميلاً , وعن حذيفة: (أن لا يقصر إلى السواد) , وبين الكوفة والسواد تسعون
ميلاً , وعن معاذ بن جبل , وعقبة بن عامر: (لا يطأ أحدكم بماشية أحداب
الجبال , أو بطون الأودية , وتزعمون أنكم سفر , لا ولا كرامة , إنما التقصير في
السفر من الباءآت [2] من الأفق إلى الأفق) .
(قلت) : هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان , ولا بالمكان
لكن جعلوا هذا الجنس من السير سفرًا كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد
ومزاد , فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل
فيه الزاد والمزاد , فهو كالمقيم , فقد وافقوا عثمان , لكن ابن مسعود خالف عثمان
في إتمامه بمنى، وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة , وإنما
المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق , فهذا هو
الظاهر؛ ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: (فإنه من مصركم) , وهذا كما أن ما
حول المصر من البساتين , والمزارع تابعة له , فهم يجعلون ذلك كذلك , وإن طال ,
ولا يجدون فيه مسافة , وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من
هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير.
وفي حديث معاذ: (من خرج من مخلاف إلى مخلاف) يدل على ذلك ما
رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، سمعت قيس بن
عمير يحدث عن أبيه , عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على
بغلة له مسيرة أربعة فراسخ , فصلى الظهر ركعتين، قال شعبة: أخبرني بهذا
قيس بن عمران , وأبوه عمران بن عمير شاهد , وعمير مولى ابن مسعود. فهذا
يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة , ولكن اعتبر أمرًا آخر
كالأعمال , وهذا أمر لا يحد بمسافة , ولا زمان لكن بعموم الولايات،
وخصوصها، مثل من كان بدمشق , فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها؛
كان مسافرًا.
وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر؛ إنما رخص فيه
للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتياجه إلى الرخصة، وعلموا أن المنتقل في
المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر , وكذلك الخارج إلى ما حول المصر ,
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، ولم
يكن يقصر , وكذلك المسلمون كانوا ينتابون الجمعة من العوالي , ولم يكونوا
يقصرون , فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم.
وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة،
ومزدلفة، ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة , ومضافة إليها , وهي أكثر تبعًا لها من
السواد للكوفة , وأقرب إليها منها , فإن بين باب بني شيبة , وموقف الإمام بعرفة
عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة , وهذا السير وهم
مسافرون , وإذا قيل: المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام؛ قيل: بل كان
هناك قرية نمرة , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بها , وكان بها أسواق ,
وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة , ولأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام
فيه , وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة , فإن النبي صلى الله عليه وسلم ,
والمسلمين سافروا إلى مكة , وهي بلد يمكن الإقامة فيه , وما زالوا مسافرين في
غزوهم وحجهم وعمرتهم , وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف
مكة عام الفتح وقال: (يا أهل مكة , أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) , وكذلك عمر
بعده فعل ذلك , رواه مالك بإسناد صحيح , ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم , ولا أبو بكر , ولا عمر بمنى [3] , ومن نقل ذلك عنهم؛ فقد غلط , وهذا
بخلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا ,
وخروجه إلى الصلاة على الشهداء , فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم ,
وبخلاف ذهابه إلى البقيع , وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة؛ ليجمعوا [4] بها ,
فإن هذا كله ليس بسفر , فإن اسم المدينة متناول هذا كله , وإنما الناس قسمان:
الأعراب , وأهل المدينة , ولأن الواحد منهم يذهب , ويرجع إلى أهله في يومه من
غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر , فلا يحمل زادًا , ولا مزادًا لا في طريقه , ولا في
المنزل الذي يصل إليه؛ ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافرًا؛ ولهذا
تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء , وهو يقدر بسماع النداء
وبفرسخ , ولو كان ذلك سفرًا لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرًا , فإن الجمعة
لا تجب على مسافر , فكيف يجب أن يسافر لها.
وعلى هذا , فالمسافر لم يكن مسافرًا لقطعه مسافة محدودة , ولا لقطعه أياما
محدودة؛ بل كان مسافرًا لجنس العمل الذي هو سفر , وقد يكون مسافرًا من مسافة
قريبة , ولا يكون مسافرًا من أبعد منها , مثل أن يركب فرسًا سابقًا , ويسير مسافة
بريد , ثم يرجع من ساعة إلى بلده , فهذا ليس مسافرًا , وإن قطع هذه المسافة في
يوم وليلة , ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد؛ فكان مسافرًا كما كان سفر أهل
مكة إلى عرفة , ولو ركب رجل فرسًا سابقًا إلى عرفة , ثم رجع من يومه إلى مكة؛
لم يكن مسافرًا , يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (يمسح
المسافر ثلاثة أيام ولياليهن , والمقيم يومًا وليلة) , فلو قطع بريدًا في ثلاثة أيام؛
كان مسافرًا ثلاثة أيام ولياليهن؛ فيجب أن يمسح مسح سفر , ولو قطع البريد في
نصف يوم؛ لم يكن مسافرًا , فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة
أيام سواء كان سفره حثيثًا , أو بطيئًا , سواء كانت الأيام طوالاً , أو قصارًا.
ومن قدره ثلاثة أيام , أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والأقدام , وجعلوا
المسافة الواحدة حدًّا يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم؛ جعلوه مسافرًا
ولو قطع ما دونها في عشرة أيام؛ لم يجعلوه مسافرًا , وهذا مخالف لكلام النبي
صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى قباء , والعوالي وأُحُد ,
ومجيء أصحابه، من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين
الأبنية، والحوائط التي هي النخيل، وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر،
والمسافر لا بد أن يسفر؛ أي: يخرج إلى الصحراء، فإن لفظ السفر يدل على ذلك،
يقال: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته , فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف
فيها من بين المساكن؛ لا يكون مسافرًا , قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101) , وقال تعالى:
{مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ
يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} (التوبة: 120) , فجعل الناس قسمين: أهل المدينة
والأعراب.
والأعراب: هم أهل العمود , وأهل المدينة: هم أهل المدر، فجميع من كان
ساكنًا في مدر، كان من أهل المدينة , ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من
خارجها , بل كانت محال، محال، وتسمى المحلة دارًا، والمحلة: القرية الصغيرة
فيها المساكن , وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة، فبنو مالك بن النجار في
قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك، وبنو
مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك , وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن
الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك , وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون
الأنصار كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار دار بني
النجار , ثم دار بني الحارث , ثم دار بني ساعدة , وفي كل دور الأنصار
خير) , وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار , وهناك
بنى مسجده , وكان حائطًا لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور , فأمر بالنخل
فقطعت , وبالقبور فنبشت , وبالخرب فسويت , وبنى مسجده هناك , وكانت سائر
دور الأنصار حول ذلك , قال ابن حزم: ولم يكن هناك مصر. قال: وهذا أمر لا
يجهله أحد , بل هو نقل الكوافي عن الكوافي , وذلك كله مدينة واحدة , كما جعل
الله الناس نوعين: أهل المدينة , ومن حولهم من الأعراب، فمن ليس من الأعراب ,
فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجًا وسورًا وربضًا كما يقال
مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة
بريدًا في بريد , والمدينة بين لابتين، واللابة: الأرض التي ترابها حجارة سود ,
وقال: (ما بين لابتيها حرم) , فما بين لابتيها كله من المدينة , وهو حرم , فهذا
بريد لا يكون الضارب فيه مسافرًا.
وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافرًا فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري
خارجة عن مكة , ليست كالعوالي من المدينة , وهذا أيضًا مما يبين أنه لا اعتبار
بمسافة محدودة , فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة؛ لم يكن
مسافرًا , والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا , فعلم أنه لا
بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان , فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا
سكان فيها يحمل فيها الزاد والمزاد؛ فهو مسافر , وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان
الذي يقصده.
وكان عثمان جعل حكم المكان يقصده حكم طريقه , فلا بد أن يعدم فيه الزاد
والمزاد , وخالفه أكثر علماء الصحابة , وقولهم أرجح , فإن النبي صلى الله عليه
وسلم قصر بمكة عام فتح مكة , وفيها الزاد والمزاد , وإذا كانت منى قرية فيها زاد
ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرًا من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها ,
ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفًا؛ لأنه
لما فتح مكة والكفار كثيرون , وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له , وعثمان يُجَوِّزُ
القصر لمن كان بحضرة عدو , وهذا كما يحكى عن عثمان أنه - يعني النبي صلى الله
عليه وسلم - إنما أمرهم بالمتعة؛ لأنهم كانوا خائفين , وخالفه علي , وعمران بن
حصين , وابن عمر , وابن عباس , وغيرهم من الصحابة , وقولهم هو الراجح , فإن
النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان آمنًا لا يخاف إلا الله , وقد أمر
أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة , والقصر. وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر , ولكن
إذا اجتمع الخوف والسفر؛ أبيح قصر العدد , وقصر الركعات , وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم هو وعمر بعده لما صليا بمكة: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم , فإنا قوم
سفر) , بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفرًا؛ فلهذا الحكم تعلق
بالسفر , ولم يعلقه بالخوف.
فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال , وكلام الصحابة , أو أكثرهم
من هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة , أو زمان محدود
يشترط فيه جميع الناس , بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل , فمن رأوه مسافرًا
أثبتوا له حكم السفر , وإلا فلا.
ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان , فروى وكيع , عن الثوري , عن
منصور بن المعتمر , عن مجاهد , عن ابن عباس قال: (إذا سافرت يومًا إلى
العشاء , فإن زدت؛ فقصر) , ورواه الحجاج بن منهال، ثنا أبو عوانة , عن
منصور بن المعتمر , عن مجاهد , عن ابن عباس قال: (لا يقصر المسافر في
مسيرة يوم إلى العتمة إلا في أكثر من ذلك) , وروى وكيع , عن شعبة , عن شبيل ,
عن أبي جمرة الضبعي قال: قلت لابن عباس: أقصر إلى الأيلة؟ قال: تذهب
وتجيء في يوم؟ قلت: نعم. قال: لا إلا يوم متاح، فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع
إلى أهله في يوم , هذه مسيرة بريد , وأذن في يوم , وفي الأول نهاه أن يقصر إلا
في أكثر من يوم , وقد روي نحو الأول عن عكرمة مولاه قال: (إذا خرجت من عند
أهلك؛ فاقصر , فإذا أتيت أهلك؛ فأتمم) , وعن الأوزاعي: (لا قصر إلا في يوم
تام) , وروى وكيع , عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي , عن عطاء بن أبي
رباح قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: (لا , ولكن إلى الطائف وعسفان ,
فذلك ثمانية وأربعون ميلاً) ، وروى ابن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن عطاء
قلت لابن عباس: أقصر إلى منى أوعرفة؟ قال: لا , ولكن إلى الطائف , أو جدة ,
أو عسفان , فإذا وردت على ماشية لك , أو أهل؛ فأتم الصلاة. وهذا الأثر قد اعتمده
أحمد والشافعي. قال ابن حزم: من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان
وثلاثون ميلاً.. قال: وأخبرنا الثقاة أن من جدة إلى مكة أربعين ميلاً. (قلت) :
نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة , ويرجع من يومه
إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه , ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى
عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعمر
في الحج إذا خرجوا إلى عرفة , ومزدلفة.
وابن عباس من أعلم الناس بالسنة , فلا يخفى عليه مثل ذلك , وأصحابه
المكيون كانوا يقصرون في الحج إلى عرفة , ومزدلفة , كطاوس , وغيره , وابن
عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج , وكان
أصحاب ابن عباس كطاوس يقول أحدهم: أترى الناس - يعني أهل مكة - صلوا في
الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه حجة قاطعة , فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقًا
كثيرًا , وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه , وإنما صلى بمنى أيام منى قصرًا ,
والناس كلهم يصلون خلفه، أهل مكة , وسائر المسلمين , لم يأمر أحدًا منهم أن يتم
صلاته , ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح , ولا ضعيف , ثم أبو بكر , وعمر
بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة , وغيرهم كذلك , ولا يأمران أحدًا بإتمام،
مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال: (يا أهل مكة , أتموا
صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) , وهذا أيضًا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
أهل مكة عام الفتح لا في حجة الوداع , فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلي بمكة ,
بل كان يصلي بمنزله , وقد رواه أبو داود وغيره , وفي إسناده مقال.
والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة , ومزدلفة ,
ومنى بأهل مكة , وغيرهم , وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام؛ علم قطعًا
أنهم كانوا يقصرون خلفه , وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس , ولا
غيره , ولهذا لم يعلم أحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى
ركعتين , فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى , أو
عرفة سفرًا لا ينزل فيه بمنى وعرفة , بل يرجع من يومه , فهذا لا يقصر عنده؛
لأنه قد بين أن من ذهب , ورجع من يومه لا يقصر , وإنما يقصر من سافر يومًا ,
ولم يقل: مسيرة يوم. بل اعتبر أن يكون السفر يومًا , وقد استفاض عنه جواز
القصر إلى عسفان , وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلاً , وغيره يقول: أربعة
برد ثمانية وأربعون ميلاً , والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلاً عمدتهم قول ابن
عباس , وابن عمر.
وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك , فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يأخذ
ببعض أقوالهما دون بعض , بل إما أن يجمع بينهما , وإما أن يطلب دليلاً آخر ,
فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر , ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخًا
من أصحاب مالك , والشافعي , وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول: لم أجد أحدًا قال
بأقل من القصر فيما دون هذا , فيكون هذا إجماعًا. وهذه طريقة الشافعي , وهذا
أيضًا منقول عن الليث بن سعد , فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال
بأقل من ذلك , وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) كذا بالأصل.
(2) كذا بالأصل.
(3) أي لم يأمروا أهل مكة بالإتمام؛ لأنهم يعدون في منى مسافرين.
(4) أي: ليصلوا الجمعة.(28/186)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
(3)
نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سابقًا [*]
وفي صفحة 16: (وكان أبو موسى الأشعري يتجافى عن أكل الدجاج؛ لأنه
لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ) إلخ، نقول: وكذلك كان صلى الله عليه وسلم
يتجافى عن أكل المباح الذي لم يتعوده كما في قصة الضب إلخ. ففي الموطأ عن
خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم، فأتي بضب محنوذ , فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه. فقيل هو ضب يا رسول الله. فرفع يده , فقلت:
أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: لا ولكنه لم يكن بأرض قومي , فأجدني أعافه.
قال خالد: فاجتررته , فأكلته , ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.. اهـ.
فانظر إلى هذه الوطنية [1] الصادقة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لم
يكن بأرض قومي) , وإلى امتناع أبي موسى الأشعري عن أكل الدجاج؛ لأنه لم
يعهدها للعرب.. إلخ.
ومن الغريب أن يتجافى الرسول وأصحابه عن أكل طعام مباح؛ لعدم اعتياد
فقط , بينما ترى كثيرًا من المسلمين وبعض فقهائهم وزعمائهم يتساقطون على
قصاع الخنزير ومأكولات الإفرنج، ويتغالون في شراء علب المربيات والسمك
والضفادع والحشرات رغمًا عما يرد يوميًّا في الكتب والمجلات الطبية من النهي
عن أكلها , والتحذير من قربانها؛ لتعفنها من جهة , ولغشها بخلطها بمواد أخرى
الله أعلم من أين يؤتى بها.
وفي صفحة 16 فانظر تجد أن النكبة إنما جاءت على المسلمين من مخالفتها
ما تقتضيه الخلافة إلخ، نقول: وعليه , فيجب على جميع العلماء في العالم
الإسلامي السعي العظيم لإرجاع الخلافة , وبذل أعظم المجهودات؛ لجمع مؤتمر
الخلافة ثانيًا , وتنظيمه لانتخاب الخليفة ومحاربة الملك الطبيعي أين وجد.
وفي صفحة 48: (وحكم مثل هذا الإجماع أن يكون المجمع عليه عقيدة ,
ويكون منكره كافرًا [2] ) إلخ، نقول: إن ذلك صار عقيدةً راسخةً عند المسلمين
اهتم العلماء بها , وبحثوها في مؤلفاتهم الدينية في الحديث والأصول والكلام ,
وأودعوها حتى في التآليف التعليمية والأراجيز الابتدائية التي تؤلف للمبتدئين قديمًا
وحديثًًا؛ لتنشئتهم على العلم بأنها من المعتقدات الدينية , قال في الجوهرة:
وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل
فإلى متى يعتذر عن هذا الأصم المتخرج من الأزهر الذي يحارب الدين
بالبهتان والسفسطة , {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ} (الأنفال: 22) .
وفي صفحة 65: (وإن لم يكن إلا ما كان في القرآن من سياسة , وإلا ما
في كتب الفقه من سياسة , وتقسيمه الأحكام إلى مغلظة وغير مغلظة إلخ) , نزيد
على ذلك أن كتب الحديث الستة , والموطأ قد استقصت أكثر الأحكام السياسية
الشرعية المدنية والجنائية، ففي صحيح البخاري ما يناهز 4000 ترجمة بعضها
في العبادات: الإيمان والتوحيد والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج،
وأكثرها في الأحكام السياسية الشرعية المدنية والجنائية.
ففي كتاب العلم نحو 55 ترجمة، وفي كتاب الزكاة نحو 80 ترجمة، وفي
كتاب البيوع وما شاكلها كالصرف والمرابحة والسلم والشفعة والإجارة وأجور
العملة، والسماسرة، وأهل الحرف اليدوية وشبهها، والكراء، والجعل الحوالات
نحو 170 ترجمة.
وفي المعاملات وما ألحق بها كالوكالة , والشركة , والمزارعة , والمساقاة،
والقرض , والقراض، وأداء الديون، والحجر , والتفليس، والخصومات،
والصلح، والإصلاح، والرهن، والضمان، والإقرار، والاستحقاق، والوديعة،
والعارية , والغصب، والاستحقاق، والمظالم , والكتابة، والعتق , والهبة،
والشهادات، والشروط؛ أي: التوثيق نحو 390 ترجمة، وفي كتاب الوصايا
والأوقاف نحو 40 ترجمة، وفي كتاب النكاح والطلاق والنفقات نحو 195 ترجمة،
وفي كتاب الأطعمة والأشربة والذبائح والصيد نحو 130 ترجمة، وفي كتاب
المرضى والطب نحو 80 ترجمة، وفي كتاب اللباس نحو 100 ترجمة، وفي
كتاب الآداب العامة كصلة الرحم , والاستئذان، وآداب الزيارة , والضيافة،
والصحبة , والمعاشرة، وحفظ السر , وإفشاء السلام، والتواد , والإيثار على
النفس، والتواصي بالصبر والمرحمة نحو 180 ترجمة، وفي كتاب الجهاد
وأحكامه نحو 240 ترجمة، وفي كتاب النكاح.. إلخ , وفي كتاب الحدود والديات
والعفو عنها نحو 95 ترجمة، وفي كتاب الحيل والخداع في البيوع والمعاملات
نحو 15 ترجمة، وفي كتاب الأحكام والخلافة والاستخلاف نحو 55 ترجمة.
***
هذه نبذة مما اشتمل عليه صحيح البخاري رحمه الله
وقد اشتمل كتاب الموطأ على أزيد من 600 ترجمة.
وصحيح مسلم على أزيد من 1000 ترجمة.
وسنن الترمذي على ما يناهز 2000 ترجمة.
وسنن أبي داود علي ما يناهز 200 ترجمة.
وسنن النسائي على ما يناهز 1000 ترجمة.
وسنن ابن ماجه على زهاء 200 ترجمة.
هذه أمهات كتب الحديث الصحيحة المعترف بها المسلمة عند جميع أهل
السنة، أما غيرها من كتب الحديث , فلا تحصى، وكذلك كتب الأصول , ومدونات
الفقه لا حصر لها، فهل مع هذا يتمادى الملحدون , وأذنابهم على إصرارهم وقولهم:
إن حظ العلوم السياسية عند المسلمين كان سيئًا، وإن وجودها بينهم كان أضعف
وجودًا، وإنهم لم يجدوا للمسلمين مؤلفًا في السياسة، ولا يعرفون لهم بحثًا في شيء
من أنظمة الحكم. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
وإذا لم يتفق للمأجور علي عبد الرازق هو وأربابه الملحدون أن يطالعوا
مؤلفات الإسلام وأمهات الدين، أفلم يقف على كتاب كشف الظنون , وفهارس دار
الكتب السلطانية , وخزائن الأزهر وغيره، والخزانتين التيمورية والزكية، وإذا
كان لم ير شيئًا من ذلك، فكيف ساغ له أن يهاجم حصون الإسلام المنيعة , وهو
خاوي الوفاض من كل شيء إلا سلاح الإلحاد والقحة {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 59) .
وفي صفحة 100: (والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد؛ إنما هو
مراعاة المصلحة إلخ) , نقول: هذا الرأي هو الرأي السديد الذي أنتجته قرائح
المفكرين من جهابذة العلماء؛ فيتحتم قبوله , واعتقاده [3] ، وأما ما في بعض كتب
التاريخ والأدب من أن معاوية أغرى بعض قادة الأمة , ورؤساءها بأن يسألوه في
المجلس العمومي أن يوصي بولاية العهد إلى ابنه يزيد كما يقع اليوم بين رؤساء
الوزارات , وبين أقطاب الأحزاب في أوربا وأميركا في المسائل الهامة كالانتخابات
وإبرام المعاهدات , أو نقضها , فذلك كله من الروايات المدخولة، وآتٍ فقط من
خصوم معاوية غير النزيهين , ومن أعداء الأمويين كذلك , فلا يوثق بها أصلاً.
فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وكان من الفراسة بمكان لا يلحق،
وكان يعلم من حال معاوية أكثر مما يعرفه غيره، فلو كان يظن به الهوادة في أدنى
شيء لما ولاه أعظم قطر وهو الشام بعد موت أخيه يزيد , وقد تركه في منصبه
بقية حياته - أي: حياة عمر - التي تزيد على أربع سنين.
وناهيك بشدة عمر على عماله , وما كان يعاملهم به من المراقبة الشديدة ,
ومحاسبتهم على النقير , والقطمير , وكثرة عزلهم من وظائفهم لأقل سبب، وقد
ولَّى معاوية مع وجود أساطين الصحابة السابقين للإسلام , والمهاجرين من أجله ,
أفلا يكون ذلك منه أعظم تزكية لمعاوية؟ وأعظم شهادة له على حسن سيرته [4] .
وفي الاستيعاب عن عبد الله بن عمر قال: (ما رأيت أحدًا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية) , فقيل له: فأبو بكر , وعمر , وعثمان ,
وعلي؟ فقال: (كانوا والله خيرًا من معاوية , وكان أسود منهم) .
وفي صفحة 114: (وإن عصر النبي لم يخل أصلاً من مخايل الملك إلخ) ,
نقول: إن المخايل التي عناها الشيخ بخيت , وسطرها لم يخل منها عصر النبوة ,
نعم إنه خلا من المخايل التي يريدها أهل الغطرسة من بناء القصور الشامخة ,
واشتمالها على الفرش الوثيرة، والرياش الثمين، والأواني الفضية المزخرفة التي
يظنها صغار الأحلام هي عنوان الملك.
وقد خلا عصر النبوة أيضًا من كثرة الخدم , والحجاب، والأعوان الظلمة
بالباب , وحيلولتهم بين الراعي , والرعية، ومنعهم للمتظلمين من رفع ظلاماتهم
للملك , وخلا أيضًا من اشتغالهم بسفاسف الأمور , ومصاريف دار الملك التي تأخذ
أكبر قسط من الميزانية على عاتق الرعية، ومن اشتغالهم بغصب أرزاق الناس من
اللحوم , والفواكه , وأطيب الأطعمة بلا ود , ولا حساب.
خلا أيضًا من الشرطة حملة الرماح , والسيوف , والبنادق أمام الملك؛
لإرهاب الرعية , وتعوديها على الذلة , والمسكنة أمام الولاة الجائرين مما لم يعهد
في عصره صلى الله عليه وسلم , وعصر الخلفاء الراشدين , فذلك وما أشبهه من
المخايل الكسروية التي جاء عليه السلام لمحاربتها , والقضاء عليها قد خلا منه
عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وطهره الله من أرجاسه , وهناته , وقد صدق
الشيخ علي عبد الرازق في هذه فقط , وقد يصدق الكذوب.
***
(الملاحدة بين أمرين)
فظهر مما تقدم أن الملاحدة واقعون بين أمرين:
(أحدهما) أن يكونوا عارفين حقيقة الإسلام , وما أتى به من المنافع
الدنيوية والأخروية , وأنه صالح لكل زمان ومكان , وأنه دين الفطرة الذي تنشده
الإنسانية , وتصبو إليه.
إلا أن ما جاء به من بعض التكاليف الخفيفة التي تربي الناس على الثبات
والشجاعة , وما أوجبه من ترك المنكرات التي تخدش وجه الهيئة الاجتماعية قد
ثقل حمله على عاتقهم , وجبنوا عن معاناته؛ فحملهم ذلك على الانسلاخ منه ,
والانحلال، والفرار من أداء الواجبات القليلة في مقابلة ما منحهم من الحقوق العامة،
والحرية الطاهرة النظيفة.
فالتكاليف الخفيفة مثل الطهارة التي لا يغيب عن أحد ما لها من المزايا
العظيمة , وأهمها المحافظة على الصحة التي هي رأس مال الحياة.
(2) ومثل الصلاة التي أخبر سبحانه أنها شاقة على الملاحدة المبعدين ,
فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) الآية، ولو لم يكن فيها
إلا تعويد الناس على الثبات , وضبط الوقت , واطّراح الكسل الذي هو علة الفشل
لكفى.
(3) ومثل الصوم الذي فيه تعويد الناس على الصبر , وتذكيرهم بما يكابده
الفقراء من آلام الجوع عند اشتداد الأزمات , خصوصًا عند انحباس الأمطار , وفي
أوقات البرد الشديد التي يحتاج الناس فيها للأكل أكثر من أيام الحر , فجوع الصائم
يحمله على رحمة الضعفاء , وإعانتهم على مكاره الحياة , ويفتح قلبه لولوج نسمات
الرحمة , والرأفة بالمحتاجين.
(4) أما الزكاة , فقد حسدنا عليها عقلاء الأورباويين , وفلاسفتهم حتى قال
لي أحدهم: لو كانت مشروعة عندهم؛ لما سمعت بالاشتراكية , والشيوعية أبدًا ,
ولما وقعوا في مصائب الاعتصابات المتوالية.
(5) وأما الحج , ففوائده بارزة تكاد تلمس باليد , فالأسفار عند الإفرنجيين
لا تنقطع صيفًا وشتاءً , وهي التي أكسبتهم ما هم فيه من الرخاء , وبسطة العيش
زيادة على ما يكتسبه المسافر من الأرباح إن كان تاجرًا , والعلوم إن كان مفكرًا
وباحثًا , وزيادة على ما ينعم به من الصحة التامة , والنزهة البهجة.
هذه بعض فوائد التكاليف الإسلامية التي عمي الملحدون عن إدراكها ,
وعجزوا عن احتمالها؛ لضعفهم وجبنهم , وقد عد الغزالي كثيرًا من أسرارها في
كتابه: الإحياء.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) لصاحب الإمضاء الرمزي.
(1) عيافة النفس طبيعية لا وطنية.
(2) هذا الإطلاق ممنوع وفي المسألة تفصيل.
(3) لا يتحتم على أحد اعتقاد ما أنتجت قريحة غيره.
(4) حقق الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري أن عمر كان يختار للولاية القادرين عليها , ويقدمهم على من هم أفضل منهم علمًا ودينًا , وضرب المثل لذلك بتقديم معاوية , وعمرو بن العاص , والمغيرة على علماء المهاجرين , وصلحائهم.(28/196)
الكاتب: مستر كراين
__________
محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن
في جمعية الرابطة الشرقية
(2)
(مدينة سواكن)
زرت بعض المواني الواقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر , وكان
القصد من هذه الزيارة مشاهدة مدينة (سواكن) القديمة التي اعتاد الحجاج أن يأتوا
إليها من قبل إفريقية؛ ليبحروا منها إلى مكة وكانت قديمًا بلدة تجارية عظيمة ,
ولكنها اليوم خالية خاوية. ولا تمر بعض السنين عليها حتى تنعق فيها البوم
والغربان، وذلك بسبب مزاحمة بور سودان ومصوع لها، ويوجد في ضاحيتها
قريتان من القش , وأصل سكانهما من الحجاج الذين انقطعوا في الطريق , ولم
يصلوا لا إلى مكة ولا إلى بلادهم، وكانت علامات الفقر الشديد بادية عليهم , فلا
زراعة , ولا صناعة لهم , ولا هم يتقنون كأهل الساحل صيد الأسماك.
***
(الكلام على اليمن)
(من الحديدة إلى صنعاء)
ذهبت من مصوع إلى الحديدة ميناء صنعاء , وقد أعد لي الإمام جميع أسباب
الراحة , واستقبلني حاكم الحديدة أحسن استقبال.
وهذه البلاد اليمانية الإسلامية العجيبة منزوية عن العالم أكثر من القطب
الشمالي , ولا يزال طراز الحياة فيها كما كان عليه قبل مئات السنين , ولكنه
يختلف كثيرًا عنه في نجد لوجود جبال عالية بين صنعاء والحديدة.
ركبنا في رحلتنا البغال؛ لأن البغال تسلك حيث لا تسلك الخيل ولا الجمال ,
وبعد ما انقضى على سفرنا من الحديدة يومان ابتدأنا نشاهد هندسة البناء في اليمن
تختلف اختلافًا كليًّا عن هندسة البناء في الحجاز , وقد شاهدنا في طريقنا حقول
شجر البن في بطون الجبال والوديان.
إن هندسة البناء في جدة , ومكة متقنة , وجميلة، وتدل نوافذها الكثيرة
الواسعة , وأبوابها الكبيرة التي تفتح , وتغلق بسهولة على حب القوم للضيافة،
وعلى عراقتهم في المدنية , وميلهم إلى ضبط الأمن، بعكس اليمن التي تدل عزلة
قراها , وانفرادها في الأماكن العالية الوعرة التي لا يصل الإنسان إليها إلا بصعوبة
على خوف اليمانيين من غزو بعضهم بعضًا , وعلى عدم استتباب الأمن [1] وتشبه
أبنية هذه القرى القلاع الحصينة , والدور الأول منها يخصص للحيوانات , والدور
الثاني للحبوب والذخيرة , ولا يوجد في هذين الدورين منافذ للنور ولا الهواء , وأما
الأدوار الباقية , وهي عادة اثنان فما فوق؛ فتخصص للسكن , ونوافذها صغيرة جدًّا
لا يكاد يدخل منها الهواء , ولا النور , وجميع هذه الأعمال تدل أن تلك الأبنية على
هذا الشكل؛ قصد الدفاع عن النفس.
ومن المعلوم أن القطرين اليمن والحجاز يختلف بعضهما عن بعض اختلافًا
عظيمًا , ففي الحجاز سهول واسعة , وصحار مقفرة , وأما اليمن , ففيه الجبال
المرتفعة , والوديان المنخفضة [2] , وتختلف الحياة الاجتماعية فيهما اختلافًا عظيمًا ,
فالحجاز المقدس بنظر المسلمين تأتيه الحجاج من جميع أطراف المعمورة سنويًّا؛
لقضاء مناسك الحج , ولذلك ترى أهل الحجاز مضطرين بحكم الضرورة إلى ضمان
راحة سكان الأرض , وقلما يأتيها الزوار , أو السياح , وأهلها يخشى بعضهم من
بعض , ويخشون الدسائس التي يدسها لهم جيرانهم؛ فلذلك تراهم معتادين شظف
العيش , ومعتصمين بالقلاع في رؤوس الجبال.
على أن الإمام أعد لي جميع وسائل السفر , وكنت أينما حللت بالمساء؛ أجد
غرفة معدة لنزولي بها , ولكنني اضطررت أحيانًا إلى النزول في بعض الخانات
القديمة الواقعة على طريق القوافل بين عدن والقدس.
ولهذه الخانات أبواب , ولكن لا نوافذ لها , وفيها ممر طويل , وغرفة واسعة
خصص قسم منها بالحيوانات , والقسم الآخر بالعائلة صاحبة الخان , وبديهي أن
كثيرًا من الأولاد يولدن في هذه الخانات , وقد خطر لي عند ما رأيتها أن المسيح
ولد في مزود خان كهذه الخانات.
إن المناظر الطبيعية بين الحديدة وصنعاء جميلة للغاية , وقد مررنا بطرقات
تعلو تسعة آلاف قدم عن سطح البحر , ونزلنا في وديان عميقة حارة , وقد وصلنا
إلى صنعاء في الليل على حين غرة , ولما كانت الشوارع لا تضاء بالأنوار؛
وصلنا إلى الدار المعدة لسكنانا بصعوبة شديدة على ما كان من معونة أنوار الجند لنا.
وأما الدار التي نزلنا بها , فهي مؤلفة من دورين مبنيين بناءً حديثًا جيدًا ,
وفيها حديقة تبلغ مساحتها أكثر من فدان أرض , وقيل لنا: إن هذه الدار بيعت منذ
بضعة أشهر بمبلغ (150) ريال أميركي أي: ثلاثين جنيهًا مصريًّا. وقد أخبرنا
بعض الجنود الذين رافقونا في الطريق أن الجندي منهم يتناول راتبًا يبلغ ريالين
ونصف أميركيين في الشهر , ويتناول ثلاثة أرغفة من الخبز لا يبلغ وزنها تسعمائة
غرام , ولا يأكل الجند تقريبًا غير الخبز , ولكن بعضهم يشتركون مع بعض أحيانًا ,
ويبتاعون شيئًا من اللحم , ويطبخونه لأنفسهم مرة أو مرتين في الأسبوع , ومن
العجب العجاب أن يرى الإنسان هذه الجنود رغم تناولها المقادير القليلة من الغذاء
تحمل البنادق الثقيلة , وتتمنطق بالعتاد الكثير , وتركض على أرجلها مسافات
شاسعة غير مبالية بالتعب , أو شاعرة بالجوع.
زارنا ذات يوم أحد أمناء سر الإمام المدعو محمد راغب بك , وهو تركي
الأصل , ولد في القسطنطينية , وترعرع في ضواحي البوسفور قرب المدارس
الأميركية التي لي بها علاقات منذ زمن بعيد , وقد حدثني عنها حديثًا طويلاً , ومما
قاله: إن بعض أقربائه درسوا فيها , وهذا كان لحسن حظي؛ إذ أدخلني إلى حالة
الوئام مع حضرة الإمام , وكان باستطاعته أن يتوسط بيننا بطريق حكيمة.
وفي اليوم الثاني قابلنا الإمام على انفراد في غاية الحفاوة والإكرام , فقال لي
أنه يأذن لي أن أذهب حيث شئت بتمام الحرية , وأن آخذ رسم ما أريد أيًّا كان ما
عدا رسم شخصه , وأنه لم يسمح لأحد غيري قدر ما سمح لي من الحرية في
صنعاء.
إن الإمام في أوائل العقد الخامس من عمره قوي البنية نشيط الحركة , ولما
كانت ولاية حكمه ضيقة الرقعة؛ كان شديد الرغبة في أن يتولى إدارة شؤونها كلها
بيده من جليلها إلى حقيرها.
فهو يجلس كل صباح في مجلس يقصده فيه من يشاء؛ ليسأل ما يشاء ,
ويعرض ما لديه من أنواع الشكاوى والدعاوى , وعلاوة على ذلك , فإنه يذهب
يوميًّا إلى أحد الأماكن العامة دون حارس , ولا تابع من الجند , فيصرف فيه نحو
ساعة , وقد يكون منفردًا تحت أشعة الشمس , ولا يرافقه إلا رجل بمظلة الشمسية
حيث يستمع الدعاوى , وينظر في المعروضات المرفوعة إليه , فهو بذلك جامع في
شخصه بين مقامي السلطان , والخليفة معًا مستمدًّا قوة نفوذه من أنه سلالة الإمام
علي الصحيح الخلافة.
وأما ساعة ذهابه إلى المسجد يوم الجمعة , فتلك ساعة خطيرة الشأن جلالاً
وبهاءً يشترك في إقامة معالمها الناس أجمعون؛ لأنه يوم المهرجان كل أسبوع ,
وعندما يمر راكبًا في العربة عائدًا من الصلاة , فلأقل إشارة يبديها أحد الشعب يقف
المركبة؛ ليتقبل أي معروض , أو يعنى بأي أمر يرى الناس فيه على أتم استعداد
لقبوله , والخضوع له.
وفي المملكة اليمانية جيش نظامي , وجند من المتطوعة , وكثيرًا ما يشتركان
بالإنشاد العسكري يضجان فيه بأصوات خشنة , وهو يتضمن أبياتًا يرنمون بها بما
أعطوا من قوة وحماسة , ويقال: إنها أنشودة قديمة العهد.
ثم إن الإمام - وإن أبدى لي حين مقابلته مزيد المجاملة , وأباح لي الحديث
على غاية الإخلاص - لم ير من الحكمة أن يظهر فرط العناية بي أمام الجمهور؛ إذ
كان من الضروري له أن يحتفظ بمقام الاستقلال العظيم , بل بشيء من الاستخفاف
بالأجانب مراعاة القبائل الحربية المتعصبين في الحدود الشرقية من البلاد.
فإن سلطانه , وأحكامه نافذة في مملكته نظير ابن السعود؛ لمجيئها عن طريق
الدين , وعليها مسحة من الشدة فيه كأنه يتخذ في السلطة نوع الحكم المتحد المزدوج؛
لأنه مع كونه زيدي المذهب شخصيًّا , ومدار أحكامه على هذه القاعدة، فإن ثلث
شعبه [3] على جانب البحر الأحمر من أهل السنة , ومنهم عدد معين يشغل بعض
المقامات الصغرى في حكومته.
***
(الضرائب)
أهل اليمن من ذوي الفقر والبؤس الشديد، ولكنهم لانزوائهم في بقعتهم ,
وانحباسهم عن العالم الخارجي لا يشعرون بهذه الحال.
وإن المرء ليأخذه العجب: كيف يستطاع في هذه الفاقة أن تفرض الضرائب
على اليمنيين , وتجبى إلى الحد المؤذن بإقامة حكومة , ولا سيما في تجهيز جيش
في تلك المملكة كبير؟
ذلك لا ريب عائد إلى حذق من الإمام فريد , والظاهر أن معظم واردات
الحكومة هو من ضريبة العشر المفروضة على الحاصلات في عامة أنواعها، على
أن الناس باحوا لي أن العشر قد يترقى - بعسرهم والتضييق عليهم - إلى الربع!
وإنهم لذلك متألمون ناقمون.
***
(المباني)
قل أن ترى في مباني اليمن ما يقل عن ست من الطباق (أو الأدوار) , وأما
البناء فعلى درجة عظيمة من مخالفات الجمال , ولم أر إلا القليل مما يدل على حسن
الذوق سواء أكان في هيئة البناء , أو مواده , أم في ملابس الناس وغنائهم , وإنما
يستثنى من ذلك بناء الجوامع , فإن منها عددًا يبدو فيه شيء من الجمال النسبي
على ما فيه من بساطة الهندسة , والرسم خلافًا لبناء المنازل.
وبعض تلك الجوامع يرجع تاريخ تشييدها إلى عدة قرون , وقد ظننت لأول
الأمر أن البنائين أتوا من القسطنطينية لهندستها , وبنائها، ولكنهم أكدوا لي أن كلا
الأمرين من صنع أهل البلاد أنفسهم.
***
(تعرفي إلى الناس)
لم يكد يستقر بي المقام في صنعاء حتى بادر إلى زيارتي الجم الغفير من أهلها،
وكلما أردت أن أدرس وجهًا من وجوه حياة اليمن كان أمري ينتشر بين الطبقات ,
فكان يوافيني واحد , أو جماعة من أهل ذلك الشأن , فقابلت الرؤساء , والبنائين ,
والتجار , ورجال العسكرية , ولا سيما العلماء , وفيهم القاضي الكبير الذي يحمل
سمة المسلم التاريخي القديم , وبلغ بيننا التعرف مبلغه حتى أقبل لزيارتي المرار
العديدة.
ولقب (القاضي) في اليمن له معنى خاص؛ فإنه يطلق عادة على طائفة
ممتازة من جميع طلاب العلم , كما أن كلمة (شيخ) تستعمل كذلك في الشمال.
***
(سبأ وسد مأرب)
كنت شديد الرغبة في الرحلة إلى سبأ , وعلى الخصوص لمشاهدة السد القديم
الذي كان مصدر خصبها , وزهوها.
إن مؤسس هذه المدينة هو (عبد شمس) الذي ابتدع عبادة البعل , أو
الشمس , ثم أضاف إليها القمر , وخمسة كواكب سيارة أخرى , فتم بذلك عددها؛
أي: السيارات السبع , فكان هذا العدد أصل تلك المدينة (سبأ) , وقد بنى أيضًا سدًّا
عظيمًا بين جبلين بحيث ينشأ به خزان من الماء يحيي المدينة , وما حولها من
الأرجاء , ويهب لها الخصب والنماء.
ثم بعد 1500 عام تصدعت جوانب السد؛ فطغى الماء على المدينة , وما
جاورها من البلاد , ودمر كثيرًا من القرى , ولعل هذه الكارثة كانت أصل الحديث
(الطوفان) .
وأما الإمام , فمع أنه شديد الحرص على إعطائي كل ما أطلب إلا أنه قال لي
في شأن هذه الأمنية: إن هذه الرحلة من المستحيلات , ومع أن سبأ لا تبعد عن
صنعاء أكثر من 75 ميلاً , فهو لم يتمكن من الذهاب إليها إلا بعد أن اتخذ أشد
الاحتياط لما أن قبائل تلك الناحية على أعظم جانب من التعصب (الذميم) يعدون
ذواتهم حراس الكنز العظيم المقدس الباقي من آثار تلك العاصمة القديمة , فلا
يأذنون لأجنبي أن تطأها قدمه , أو يقترب منها , ومما قال لي الإمام: إن بعثة
ألمانية ذهبت للبحث في تلك الناحية قبل الحرب العالمية , فلم يبق البدو على أحد
من رجالها.
***
(حفلة استقبال لرجوع ابن الإمام من سفره)
لم ينقض على نزولي صنعاء عدة أيام حتى ورد نبأ بمجيء ابن الإمام ولي
عهد إمامته بعد يوم واحد , وكان غائبًا عنها ثلاث سنين على رأس فرقة من الجند
في القسم الشمالي من البلاد - أي (صعدة) - حيث يتشعب الطريق شعبتين:
إحداهما تتجه إلى مكة , والأخرى إلى نجد، فكانت عودته بالطبع حادثة ذات شأن ,
فخرجت إلى بعد خمسة أميال من المدينة مع أكثر الأهالي , ولا سيما الجيش ,
وقفتا لاستقبال القادم الكريم على أحسن ما يقال في الإجلال , والاحتفال مما يدل
على سمو مكانة ذلك الشاب عند عامة الشعب , ذلك أن الإمام إنما يرتقي سدة
الإمامة والحكم بانتخاب العظماء من شيوخ البلاد في اجتماع خاص.
ولما كان ولي عهده في الحكم أحد بنيه الأحياء حق له هذا الاحتفاء والإكرام.
وبعد قدوم ذلك الأمير الخطير بأيام زرته , فتوسمت فيه مخايل الحزم ,
والعزم , ودلائل الجد في الأعمال على شخصية جذابة , ولكنها على صورة أضعف
من شخصية والده العظيم.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار: إنما كان أكثر خوف أهل اليمن من الترك الذين ظلوا يغزونهم أربع قرون.
(2) في الحجاز من الجبال والوديان مثل ما في اليمن , وإنما الفرق بين القطرين أن اليمن قطر كثير النبات والشجر خلاف الحجاز.
(3) المنار: كذا في نسخة الترجمة التي أخذناها من الرابطة الشرقية , والصواب: الأكثرية الساحقة من سكان تلك السواحل شافعيون , ويندر وجود الزيدية فيها.(28/202)
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
__________
نساء العرب السياسيات
مقتبس من كتاب سيرة السيدة (خديجة أم المؤمنين) [*]
للشهيد الشهير السيد عبد الحميد الزهراوي
رحمه الله تعالى
ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة , والأمور العمومية ,
وناهيك أن الحرب التي ظلت مستمرة نحوًا من أربعين سنة بين بني ذبيان , وبني
عبس لم يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأة , ولم تتمكن من إطفائها إلا بما لها من
المكانة , وحسن الرأي , وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما
زوجها أبوها من الحارث بن عوف المري , وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ
للنساء , والعرب يقتل بعضها بعضًا؟ - تعني بني عبس وبني ذبيان - فقال لها:
ماذا تقولين؟ قالت: (اخرج إلى هؤلاء القوم , فأصلح بينهم , ثم ارجع إلي) ,
فخرج وعرض الأمر لخارجة بن سنان , فاستحسن ذلك , وقاما كلاهما بهذا الأمر ,
فمشيا بالصلح , ودفعا الديات من أموالهم.
وحسبك من اشتهرن من العربيات في السياسة، منهن اللاتي كن من شيعة
الإمام علي أيام مناصبة معاوية له كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية، وبكارة
الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن خرشة
المذحجية، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير
بنت الحريش بنت سراقة البارقي , وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية.
وفدت سودة على معاوية بعد موت علي , فاستأذنت عليه؛ فأذن لها , فلما
دخلت عليه؛ سلمت سودة , فقال لها: (كيف أنت يا ابنة الأشتر؟) , قالت:
(بخير يا أمير المؤمنين) ، قال لها: آنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليًّا , والحسين , ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخا النبي محمد [1] ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فقد الجيوش , وسر أمام لوائه ... قِدَمًا بأبيضَ صارمٍ وسنان
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد
نسي) , فقال: (هيهات , ليس مثل مقام أخيك ينسى) , قالت: (صدقت والله يا
أمير المؤمنين، ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: (قد فعلت ,
فقولي حاجتك) , فقالت: (يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلد، والله
سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط
بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة،
ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا
الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته؛ فشكرناك، وإما لا؛ فعرفناك) , فقال
معاوية: (إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس ,
فينفذ حكمه فيك) , فسكتت , ثم قالت:
صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: (ومن ذلك؟) , قالت: (علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى) , قال:
(ما أرى عليك منه أثرًا) , قالت: (بلى أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا , فكان
بيننا وبينه ما بين الغث والسمين , فوجدته قائمًا , فانفتل من الصلاة , ثم قال برأفة
وتعطف: (ألك حاجة؟) , فأخبرته خبر الرجل , فبكى , ثم رفع يديه إلى السماء
فقال: (اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك) , ثم أخرج من جيبه قطعة
من جراب , فكتب فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) , {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود: 85-86) , إذا أتاك كتابي هذا ,
فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك , والسلام) .
قال معاوية: (اكتبوا لها بالإنصاف لها , والعدل عليها) , فقالت: (أَلِي
خاصة , أم لقومي عامة؟) فقال: (ما أنت وغيرك؟) قالت: (هي والله الفحشاء
واللؤم؛ إن كان عدلاً شاملاً , وإلا يسعني ما يسع قومي) , قال: (اكتبوا لها
بحاجتها) .
ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي , فدخلت عليه , وكان
بحضرته عمرو بن العاص , ومروان , وسعيد بن العاص , فجعلوا يذكرونه
بأقوالها التي قالتها في مشايعة علي , ومعاداة معاوية , فقالت: (أنا والله قائلة ما
قالوا , وما خفي عنك مني أكثر) , فضحك , وقال: (ليس يمنعنا ذلك من برك) .
وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس
الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها , وعدة من فرسان قومها , وأن يوسع لها في
النفقة , فلما وفدت على معاوية؛ قال: (مرحبًا قدمت خير مقدم قدمه وافد , كيف
حالك؟) فقالت: (بخير يا أمير المؤمنين) , ثم قال لها: (ألست الراكبة الجمل
الأحمر , والواقفة بين الصفين تحضين على القتال , وتوقدين الحرب , فما حملك
على ذلك؟ قالت: (يا أمير المؤمنين، مات الرأس , وبتر الذنب، ولا يعود ما
ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر؛ أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر) . قال لها:
(أتحفظين كلامك يومئذ؟) قالت: (لا - والله - لا أحفظه) , قال: (لكني
أحفظه) , وتلا عليها خطبة من خطبها التي هي في منتهى البلاغة , ثم قال لها:
(والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه) , قالت: (أحسن الله بشارتك ,
وأدام سلامتك؟ فمثلك يبشر بخير , ويسر جليسه) ، قال: (أو يسرك ذلك؟) ,
قالت: (نعم والله) فقال: (والله لوفاؤكم له بعد موته، أعجب من حبكم له في
حياته، اذكري حاجتك) , فقالت: (يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل
أميرًا أعنت عليه أبدًا , ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد عن غير طلبة) ,
قال: (صدقت) وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز.
ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة , وعكرشة بنت الأطرش، ولما حج
سأل عن دارمية الحجونية , فجيء بها إليه , فقال لها: بعثت إليك؛ لأسألك:
علام أحببت عليًّا وأبغضتني , وواليته وعاديتني؟ فاستعفته؛ فلم يفعل , فقالت
له: (أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من
هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت عليًّا على حبه المساكين،
وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك
بالهوى. ثم قال لها: يا هذه هل رأيت عليًّا؟ قالت: (إي والله) قال: (فكيف
رأيته؟) قالت: (رأيته - والله - ولم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي
شغلتك) , قال: (فهل سمعت كلامه؟) قالت: (نعم - والله - فكان يجلو القلوب
من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست) قال: (صدقت , فهل لك من حاجة؟)
قالت: (نعم تعطيني مائة ناقة حمراء) قال: (ماذا تصنعين بها؟) فقالت: (أغذو
بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين
العشائر) قال: (فإن أعطيتك ذلك , فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟)
قالت: (سبحان الله , أو دونه؟) ، فقال: (أما والله لو كان علي حيًّا ما أعطاك منها
شيئًا) , قالت: (لا والله , ولا وبرة واحدة من مال المسلمين) .
وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة , ووفدت عليه أروى بنت
الحارث , وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم.
فهكذا كان مقام المرأة العربية، من أخوات سيدتنا القرشية، وهكذا كان
حظهن من الفصاحة , والحصافة، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية ,
والأخذ بالأسباب، والمشايعة لبعض الأحزاب، وما أتينا إلا باليسير؛ توطئة
لمعرفة مقام السيدة خديجة في قومها.
__________
(*) هذه السيرة خير ما كتب فقيدنا الشهيد إنشاءً , وابتكارًا , وبيانًا لفضائل العرب بالتبع لفضائل فضلى نسائهم , بل نساء العالمين مع ابنتها سليلة الرسول , ومريم البتول - وهي تطبع للمرة الثانية.
(1) أخوة الدين.(28/208)
الكاتب: إسعاف النشاشيبي
__________
خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي
مفتش معارف فلسطين، وعضو المجمع العلمي العربي في الشام
ألقيت في دار الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة العربية
وشاعرها الأكبر أحمد شوقي بك
ليست دار العربية رمال الدهناء , أو هضبات نجد , أو الحجاز , أو إقليم
الشام , أو أرض العراق , بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب
محمد - صلوات الله عليه - قراؤه.
وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية , فأهل مصر إذًا
هم القبيل المقدم في العربية , وهم سادات العرب.
وليست اللغة العربية يا أيها الراجع من لندن , أو من برلين , أو من باريس ,
وقد لبث في تلك المدائن حينًا؛ ففتنته مدنية المغاربة السحرة ليست اللغة العربية
بلغة بدوية، بلغة صحراوية، حتى تعرض عنها إعراضك هذا , وحتى تؤثر عليها
غيرها حين جهلتها، ولكنها لغة سَامِيَةٌ سَامِيَّةٌ - إن كان ثمة سامٍ - قد نشأت من
قبل في جنات النعيم عند دجلة , ولم تنبت في القفر فتظمأ وتضحى، وقد جاورت كل
ذات مدنية (* إن العلا تعدي *) كما قال أبو تمام، وقد سطر أيوب الصابر بها في
ذلك الزمان سفره , أو قصيدته (كما قال فولتير في المعجم الفلسفي) وسفر أيوب
أجمل سفر في التوراة، وأيوب العربي كهومير هو من أكبر شعراء العالم.
ثم جاءت هذه اللغة مواطن الحجاز (وكم في الهجرات من خيرات) , فنشأها
الدهر هنا أفضل تنشئة , وهذبها خير تذهيب.
وإن البيئة التي أخرجت في الدنيا عظيمها هي التي جلت لغته , ولن تكون
لغة ذلك العظيم لغة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عظيمة. على أن قد تخبث البيئة
بعد طيبها وصلاحها , فلا تقذف إلا خبيثًا {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: 58) كما قال الله.
ليست العربية بلغة بدوية صحراوية (كما قالوا لك) , بل هي اللغة الحضرية
كل الحضرية , بل هي (إن استكثرت هذا النعت) لغة الأناسية الكملة الألى سوف
يخلفون هذا الإنسان بعد أزمان كما خلف هو قدمًا الذين هم أدنى منه من جماعة
الربابيح المحاكية.
ولقد دعا العربية من قبل قرآنها (وهو القرآن هو القرآن) ؛ لتكتب معجزاته ,
فما وهنت , ولا عجزت , ولا ضاقت , بل اتسعت , وهذا الكتاب , وهذه آياته ,
وهذه ألفاظ في المصاحف تتكلم , وهذه معاني الكتاب , الكتاب العبقري , كتاب
الدهر، قد تجسدت , وتجسمت , وعهدنا بالمعاني معنوية لا تتجسم , فلن تعجز لغة
كتب بها الله [1] كتابه عن أن يكتب بها البشر.
ولقد دعا العربية في الزمان الأول كل علم وكل فن - ولا كتاب علم واحدًا عند
القوم في ذاك الوقت - فلباهما منها خير ندب وخير ظهير، وشهد الأقوام في برهة
من الدهر أكداسًا من الكتب مكدسة بل أجيالاً.
قال غستاف لوبون في فاتحة كتابه مدنية العرب: (إذا بحث الباحث عن آثار
العرب في العلم , وعما ابتدعوه؛ علم أن ليس هناك أمة ضارعتهم , فجاءت في
الزمن القصير بمثل صنعهم الكبير) .
فلو لم يك عند العربية عساكر من الثروة في اللفظ والأسلوب؛ ما أنفقت هذا
الإنفاق على علوم أصحابها , وعلوم سواهم , والفقير المسكين في الدنيا (يا
صاحب) لا يقدر أن يعول نفسه , بله أن يمون الناس.
وقد أغرق التتر طوائف من تلكم الكتب في النهر , وحرق الأسبان نفائس منها
بالنار , لكن الباقي (والحمد لله) كثير , وجلت العرب عن أن تجرم إجرام ذينك
الجيلين.
وكذاب أي كذاب من قال: إنا حرقنا دار كتب في الإسكندرية. وكيف يقرفنا
القارفون بهذا ظلمًا , وما ندب الناس إلى العلم كمثل كتابكم كتاب، ولا دعا إلى
التفكير , وحب الدنيا كزعيمكم محمد زعيم.
وآوى إلى هذه العربية في آونة كثيرات كل أديب , وكل عالم , وكل شاعر ,
وكل كاتب , فبوأت معانيهم في أكرم مبوأ , وألبستها أفتن ثوب , وقرتها (وهي
المضيافة , وهي الكريمة بنت الكرام) خير قرى , فاجتلى الناس من تلكم المعاني
السماويات، في هذى الحلل العدنيات، حورًا عينًا رضوانيات.
فإذا لاقيتم في عصور المولدين , أو في عصور المتأخرين قبحًا في القول
يمض الأذن أن تسمعه , وتقتحمه العين إما أبصرته.
وإذا ألفيتم كلامًا بهرجًا قد وهت أعضاده , وتشوه تركيبه , وفقد ذاك الرونق.
وإذا وجدتم شعرًا سخيفًا قد عميت معانيه، وقد استعجم على تاليه، وإذا
سمعتم سجعًا غير طبيعي مرتجًا زحافًا متدحرجًا قد لعنته العربية - إذا وجدتم ذلك؛
فلا تلومن العربية , ولا تتنقصنها، ولوموا أمة ضعفت؛ فضعف قولها، وذلت؛
فذل شعرها، وحارت في دنياها؛ فاستجار كلامها.
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة ركضت إلى الدعة - قبح الله الدعة - ثم قعدت.
ليس المروءة أن تبيت منعمًا ... وتظل معتكفًا على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنما ... خلقوا ليوم عظيمة وكفاح
(والحركة - كما قالوا -: ولود , والسكون عاقر) , وقد قال أبيقور: أي
معنى للكون بالسلم لفقدان الحركة؟ ولام هذا الحكيم (المظلوم والله بتلك التهمة)
هومير حين سأل الآلهة أن تصطلح كي تزول الحروب.
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا
وفريدريك ننشه، يرى أن عمل الرجال إنما هو القتال , وعمل النساء هو
تمريض الجرحى , ولا عمل لهما غير هذا.
وليس القصد يا بني أن تغلب , أو أن تغلب , بل القصد أن تكون حرب، أن
تكون حركة.
ألا أيها الباغي البراز تقربن ... أُساقِكَ بالموت الذُّعَافَ المُقَشَّبَا
فما في تساقي الموت في الحرب سبة ... على شاربيه فاسقني منه واشربا
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة تعبدها حاكمها , وتفرعن عليها , و (استجار
كيدها وعدا مصالحها) كما قال ذاك الشيخ , فلم تغضب , ولم تمش إليه بالسيف ,
وقد علم أوائلها التلميذ الثاني لشائد الوحدة العربية طريقة تقويم الملوك.
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة صغرت هممها , وتضاءلت عزائمها وتهزعت
(تكسرت) أخلاقها (يا أسفى على صوادق الأخلاق , يا أسفى على الأخلاق
الجيدة) , وكان ابن الخطاب يقول لها: (ولا تصغرن هممكم , فإني لم أر أقعد عن
المكرمات من صغر الهمم) , وكان معاوية كاتب وحي النبي يقول: (يا قوم، إن الله
قد اختاركم من الناس , وصفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها ,
فصونوا أخلاقكم , ولا تدنسوا أعراضكم , فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه،
والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه) .
لا تلوموا العربية , ولوموا أمة اجتزأت بالقليل , وقنعت من دهرها بالدون ,
وأنامها (قتلها) هذا القول الخبيث الأفيوني الكوكيني: (القناعة كنز لا يفنى) ,
وكانت ما ترضى قبل من شيء الكثير، وكانت ما تقبل حالاً وسطًا، لا شيء أو
كل شيء كما يريد نتشه.
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقالوا: عليك وسيط الأمور ... فقلت لهم أكره الأوسطا
وكان دستورها في دنياها: (القناعة من طباع البهائم) , و (عليك بكل أمر
فيه مزلقة ومهلكة) ؛ أي: بجسام الأمور.
وصاحب هذا القول الكريم هو ابن مصر صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم سيدنا عمرو بن العاص (سلام الله عليه ورضوانه) .
وقد راع تقهقر هذه الأمة , وتدهورها حين تقهقرت وتدهورت شاعريها
الأكبرين في عهد انحطاطها؛ فأنكرا الحال , واستفظعاها , وراح ابن الحسين يقول:
أحق عاف بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهدًا بها القدم
وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب ... ولا عهود لهم ولا ذمم
في كل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم
وقعد رهين المحبسين في كسر بيته:
يكفيك حزنًا ذهاب الصالحين معاً ... وأننا بعدهم في الأرض قطان
إن العراق وإن الشام مذ زمن ... صفران ما بهما (للعدل) سلطان
ساس الأنام شياطين مسلطة ... في كل قطر من الوالين شيطان
من ليس يحفل خمص الناس كلهم ... إن بات يشرب خمرًا وهو مبطان
متى يقوم (زعيم) يستقيد لنا ... فتعرف العدل أجيال وغيطان
صلوا بحيث أردتم فالبلاد أذى ... كأنما كلها للإبل أعطان.
فليست اللغة العربية (والحالة في تلكم العصور كما سمعتم عنها) بمستأهلة
أن تلام , أو أن تعاب , فإنها لابست ضعفاء؛ فلبست كساء ضعف، وعاشرت
وضعاء؛ فارتدت شعار ضعة، وما الضعف وما الضعة (والله) من خلائقها.
ولو استمرت تلك القوة , ولو استمرت تلك المدنية , ولو لم يكن ما كتب في
اللوح أن يكون لملأت بدائع العربية الدنيا، فإنها معدن البدائع، ومنجم كل عبقري
رائع.
على أن لغة العلم في العربية (وللعلم لغة وللأدب لغة) لم تضم ضيم أختها ,
وما المقاصد والمواقف , وشرحاهما , وأقوال ابن الخطيب , ومقدمة ابن خلدون
(على مغربيتها) , وكلها في العصور المتأخرة بالتي تذم (في أسلوب اللغة العلمي)
جملتها.
ويخيل إلي أن نفوس الحكماء العلماء تكون في أحايين الضعف أقوى من
نفوس الأدباء، فلا تهن وهنها، ولا تهون هوانها، أو كأن العلماء في الدنيا وليسوا
في الدنيا , ومن الناس وليسوا من الناس , وقد يلاقي هؤلاء القوم المساكين ربهم , ولا
أثر لحوادث دهرهم فيهم، وقد يقتحمون ميادين الحياة؛ فيتأخرون ولا يتقدمون , وكل
منهم ينشد متحسرًا:
وأخرني دهري وقدم معشرًا ... على أنهم لا يعلمون وأعلم
يئست من اكتساب الخير لما ... رأيت الخير وُفِّرَ للشرار
وربما لبسوا التبان للمصارعة؛ فيصرعون، وقد نازل أمس صاحبنا ولسن
ذينك العفريتين لويد جورج , وكلمنصو , فعقلاه عقلة في السياسة شغزبية [2] ,
فصرعاه سريعًا {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} (طه: 86) كما قال الله،
وأضحى جميع الناس ضحكة , ثم قضى كمدًا.
***
أين الأمم المحررة يا ولسن؟
ليست العربية يا سادة بالمقصرة , ولا العاجزة , وليس الضعف , وليس
العجز , وليس القبح من طبائعها.
وقد كانت تنشد في هذا الدهر الأطول في أرجاء الأرض كافة هممًا بعيدات،
ونفوسًا سرياتٍ أبِيَّاتٍ، وارتقاء في أمة عربية وعلاء، كيما تتجلى في الدنيا تجليها،
وكي تضيء كعادتها إضاءتها، فلما ألفت في أرض مصر مرغبها، لما وجدت
(محمدًا ومحمودًا) ظهرت , بل ائتلقت , بل قد تحاقر عند ضياها نور الشمس ,
فكان (يوم التجلي) كما يقول إخواننا النصارى , وكان عيده , وأصبحت الدنيا ,
وقد علت كلمة العربية , وأعلن الدهر سلطانها.
وغدا محمود سامي يحمل الشعر , ويبشر الحال برسول في القريض يأتي من
بعد محمود اسمه (أحمد) , ولا تسأل يا هذا قوة سامي الشعرية أن تعطيك أكثر
أكثر مما أعطتك , فبحسبك ما أخذت , وحسب الرجل ما جاء منه، ولا تجود يد إلا
بما تجد.
وغدا الشيخ محمد عبده يحمل علم النثر , ويد جمال الدين عند محمد , وعند
مصر , وعند المشرق لا تكفر.
* فاذكر في الكتاب جمال الدين *
وأثن عليه بالذي هو أهله ... ولا تكفرنه لا فلاح لكافر
إن جمال الدين لم يكن شخصًا فذًّا، إن جمال الدين كان أمة، وإنه لم يتنبه
من أمم الشرق في ذاك الوقت إلا أمتنان لا ثالثة معهما , الأولى: هي الأمة اليابانية
والأمة الثانية: هي جمال الدين , فجمال الدين أمة وحده.
وقد أراد ابن الحريري في البدء، أن يقتل الإمام , فنجاه كتاب الله , وحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
فارجع يا فتى إلى أسلوب القرون الثلاثة الأولى , إلى الأسلوب الطبيعي
العربي , إلى الأسلوب الباريسي , إلى أسلوب القرن العشرين , بل الثلاثين , بل
الأربعين، وانبذ انبذ مقامات الحريري , ومقامات الهمذاني , وما شاكلها، ولا
تتصفحنها إما ابتغيت تعرفها، إلا خائفًا، وحذار بك أن يستعبدك متقدم في الزمان ,
أو متأخر، وإياك وأن تقلد في القول أحدًا، فالمقلد عبد , ولا يرضى بالعبودية
حر، والعاقل لا يهب كينونته لسواه، وإن ساواه أو علاه، وبعضهم لا يهبها لله
(عز وجل) , والتقليد عدم، والاستقلال كون، فلا يؤثر على الثاني الأول إلا
أحمق.
وقد دارت حول الأستاذ الإمام (العبارات الفقهية , والقوانين العلمية الخارجة
عن أسلوب البلاغة , والنازلة عن الطبقة كما يقول ابن خلدون , فما استطاعت
لبلاغته إضرارًا , ولا خدشت لملكته وجهًا) .
ولا يضر الفقهاء , وأهل العلوم تقصيرهم في هذا النمط من البلاغة , فللعلم
(كما ذكرت آنفًا) لغة , وللأدب لغة.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: (وقد استعملت في كثير من فصوله فيما
يتعلق بكلام المتكلمين , والحكماء خاصة ألفاظ القوم , مع علمي بأن العربية لا
تجيزها) , وقال أيضا: (استهجنا تبديل ألفاظهم , وتغيير عبارتهم , فمن كلم قومًا
كلمهم باصطلاحهم , ومن دخل ظفار حمَّر) [3] .
وقد كتب الأستاذ في العلم بلغة الأدب (كدأب هنري بركسن فيلسوف فرنسة
وكفلامريون العالم في الفلك) , فراحت رسالته في التوحيد في هذا العصر معجزة.
ظهر محمد , وظهر محمود , فتقوت العربية بعد أن تضعفها الخصوم ,
وتعززت بعد إذلال , فغدا الدهر عند ذلك يعبد لنابغة يطلع على الدنيا طريقه.
ومن سنن الله , ومن دساتير الطبيعة ألا يفاجئ نابغة , أو عظيم فيما قدر له
أن ينبغ أو يعظم فيه قومه مفاجأةً دون أن يستعدوا له؛ إذ النابغة في شيء ما إنما
هو جوهر أمته , ولا يلخص خير إلا من خير , وما حدث كون من عدم.
وقد أشار إلى مثل هذا واضع علم الاجتماع ابن خلدون حين ذكر أمر البعثة
المقدسة.
غدا الدهر يعبد لنابغة في القريض يطلع على الدنيا طريقة، وغدا أهل الدهر
يرتقبون شعرًا يسمى شعر النبوغ قد عدموه منذ عصور , ولم يجئ من بعد القرون
الثلاثة الأولى , ومن بعد الذي يقول:
وما تسع الأيام علمي بأمرها ... وما تحسن الأيام تكتب ما أملي
إلا مقصدات معدودات , وإلا مقطعات قليلات , وأبيات نوادر.
غدا أهل الدهر يرتقبون شعرًا يشع مثل الماس إشعاعًا , ويزهر كالدراري
المتوهجة زهورًا , بل يضيء كما تضيء الشمس , وقد جمل , بل قد تجسم من
الجمال , وقد نوره القرآن , فبان بيانًا.
غدا أهل الدهر يرتقبون شعرًا هو فوق الشعر , وكلامًا هو فوق الكلام , كان
ابن نباتة السعدي , وقد سمع مثله من شعر أحمد بن الحسين , فقال: (نحسن أن
نقول , ولكن مثل هذا لا نقول) شعرًا متنبيًّا غوتيًّا شكسبيريًّا يعلق به الخلود إذا
قيل , وينشده الدهر الناقد إذ سمعه.
انتظرت الأمم العربية برهة هذا الشعر النابغ , وخروج هذا الشاعر والأقوام
كلهم أجمعون متطاولون , والأعناق مشرئبة , والوجوه الناضرة كما قال الله:
{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (عبس: 38-39) , والعيون ناظرة
شاخصة , والقلوب في الصدر راقصة , والدهر الذي قد ضن أمس , وجاد اليوم
يبتسم؛ فتبلج (وقد تفتحت أبواب السماء بالدعاء) نور
***
أحمد
يملأ الدنيا وطلع على أهلها (شوقي) :
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت ... تلكِ الدجى وانجاب ذاك العثير
فافتن فيك الناظرون فأصبع ... يُوما إليك بها وعين تنظر
يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر
وظهرت معه أمه اللغة العربية آخذة بيمينه , وقد انحدرت من مقلتيها دمعتان ,
(ومن السرور بكاء) كما قال المتنبي.
جاء (أحمد شوقي) , وقد أضاء عصر الكهرباء , وخرج هؤلاء العفاريت
من الإفرنج يسحرون الناس بالذي يأتونه.
وإن أعمالهم - والله - لساحرة، وإن مبتدعاتهم (كظلمهم العبقري) عبقرية
باهرة، وأقبلت هذه المدنية الغربية ناسخة المدنيات، وصاحبة المعجزات المجننات.
وما هو إلا أن تراها (بدارها) ... فتبهت لا عرف لديك ولا نكر
مدنية عجيبة مدهشة قد حار في أمرها القائلون , فما يقولون، وقد أعجزت
شعراءها , فما عادوا يبدعون , وقل , أو اضمحل فيهم في الشعر النابغون، فلم
يعزز شكسبير , وغوتي في الغرب بثالث.
جاء ذلك , وجاء أحمد شوقي , فما فر من أمام ما شهد فرار الجبان , ولا أفحم
إفحام العاجز، بل مشى مشية الليث (كمشي ذلك الحماسي) , ونادى لغته العربية؛
فأجابته، وأهاب بقوته الشعرية؛ فلبته.
هما عتادي الكافياني فقد ما ... أعددته فلينأ عني من نأى
فجاء في الشعر بهذا السحر الذي رأيتموه، وقال ذلك القول الذي سمعتموه،
وقذف بالشطر بنصف البيت قد اجتافه تاريخ أمة [4] .
وسير البيت يعرض فيه للناظرين السامعين دولة
وابتدأ القصيدة في شأن فهاج قبيلاً، أو أهدأ قبيلاً , أو نشط لما يعلي , أو ثبط
عما يدني , فذهبت تلك القصيدة في الناس دستورًا.
وغاص , وحلق , فأتى (كما قال ابن الأثير في حق حبيب) بكل معنى
مبتكر، لم يمش فيه على أثر.
وعرف الشرق , وعرف الغرب , وعرف العصر (وقد جهل غيره عصره) ,
واكتنه سر التأخر والتقدم , فأعطي الحقيقة في الشعر، وهدى بالكلم الطيب ذي
الحكمة إلى الطريق الأقوم.
فكن كشوقي يا شاعرًا في هذا العصر , فشيع المجاز بالحقيقة (على أن ليست
حقيقة هذا الكون والله إلا مجازًا) واعلم أن علم الأقدمين دينهم، ودين المعاصرين
خاصتهم علمهم، و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) كما قال الله، وإن الدهر
دهر حقائق , بل لا تثبت الحقيقة فيه إلا في دار الاختبار بالشهود العدول، وإن
الحال كما قال، وإن الحال كما قال ذاك الشيخ ذاك الشاك:
فقلنا للهزبر: أأنت ليث؟ ... فشك وقال: علي أو كأني.
فحلق حين التحليق في طيارة، وغص عند الغوص في غواصة، وناج
حبيبك بالمسرة اللاسلكية [5] , أو (بالرادي) , فإنهما أسرع من خاطرك.
ورب معان يهمهم بها الزمان همهمة , ولا يفصح، وتختلج في الصدور , ولا
تبدو , ويجهلها العالم , وهي منه مقتربة، وتغيب عن الألمعي , وهي لم تبعد عنه،
قد اجتذبتها قوة شوقي الشعرية , وبينتها أي التبيين للعالمين، فعجب الناس بل ما
كادوا يقضون العجب.
وقد حالف قصيد أبى علي [6] الفن محالفة صدق , فاتضح اتضاحًا وتآخت
أبياته تآخيًا، فهي بنو أعيان , لا بنو علات , ولا أخياف , ولا أبناء عم، وتعانقت
معانيه عناق العاشقين , وتجلت مقاصده , وصرحت صراحة الوطني ذي الإخلاص.
وقد جمله , وقواه , وخلده عربيته، متانته، لغته ديباجته، وإن لهذا كما للمعنى
لقدرًا، وإن له لبهجة , وإن له في النفوس لأثرًا، وإنما المعنى واللفظ شيء واحد ,
فهما كالجسم والنفس، والنفس والجسم، كائن فرد لا كائنان متباينان.
واللفظ والمعنى كمادة الكون , وقوته , فليس هناك مادة قد انفرقت عن القوة،
وليس هناك قوة قد زايلت المادة، كما يقول (كنت) وغير (كنت) من المثنويين ,
أو الإثنيين (dualistes les) .
عمدتم لرأي المثنوية بعد ما ... جرت لذة التوحيد في اللهوات
ليس ثمة مفترقان، إن هناك إلا اتصال، إن هناك إلا الوحدة، كما يقول
محيي الدين , وسبنوزة , وأرنست هيكل:
إذا تبدى حبيبي ... بأي عين أراه
بعينه أم بعيني [7] ... فما يراه سواه
بل ليس هذان المعدودان اثنين (أي: اللفظ والمعنى) إلا صاحبهما يتجلى
فيهما , ومن أجل ذلك يضعف قول , أو يقوى، ويقبح , أو يجمل، ويصغر , أو
يكبر، ويلتبس , أو يتضح.
واتل أقوال الأمم العربية في كل عصر؛ تنبئك بأحوالها , فأحوالها المتغيرة
ذات الضعف , وذات القوة هي في أقوالها , فاعرف أقوالها تعرف أحوالها.
وإذا لم يتجل ذو القول في قوله , فليس بذي كينونة , وإنه لسواء والعدم ,
وما قوله قولاً , وإذا تشاكس ذات مرة لفظ قول ومعناه , فما هو إلا مخلوق شائن
نعوذ بالله من مرآه.
وإني أقسم بالقرآن وبلاغته وإعجازه وعبقريته وعجائبه التي لن تحصى أن لو
لم يكرم لفظ شوقي في الشعر كما كرم معناه , ولو لم تشرق هذه الديباجة الشوقية
المليحة ذات الحفلة ذلك الإشراق؛ ما كان أحمد شوقي شاعر العربية الأكبر , وما كان
ملك الشعر , وما كنتم أظفرتموه بهذا اليوم , ولكنه عاقل حكيم عرف كيف يقول ,
وكيف يبني قصيده , ويشيد أهرامه؛ ليخلد فيها، وقد قلت قدمًا: (ما يقي المعاني من
الدثور إلا متانة ألفاظها، وما يخدمها الدهور إلا تحقيق كلامها) , والدهر أثبت ما
كنت قد قلته.
وما التجدد يا قوم بصاد صاحبه عن الاحتفال في اللغة الأدبية بديباجة القول ,
وإحكامه , وصيانته من كل خلل، وتجليه أنيقًا ذا نضارة طبيعيًّا عربيًّا، بل التجدد
يحدو على ذلك؛ لأن التجدد أخو التقدم , وخصيم التأخر.
ومن التجدد أن تهيم بالفن , وهذا فن , ومن التجدد أن تقول القول الجيد
المضبوط؛ ليفهم الناس ما تقول , ومن التجدد أن تختار خير طريق في الإنشاء
والقريض , فتسير فيهما مستقلاًّ؛ لتبلغ , وتبلغ قومك من الارتقاء ما يجب بلوغه ,
ومن التجدد أن تشيد الأمة المتنبهة بنيانها على الأساس القوي؛ لئلا ينهار , ومن
التجدد أن تتقن يا هذا ما تعمل , وترصن ما تعلم , وأن تعد لكل أمر عدته ,
وللكتابة والشعر عدد، فقل لي: هل أعددتها؟ ومن التجدد أن يعلم أنه لا يجيء من
الضعف والانحطاط إلا الضعف والانحطاط , ولا يجيء من القوة والتقدم إلا القوة
والتقدم، والمتجدد الأريب إنما يريد أن يزداد قوةً وتقدمًا , ومن التجدد أن يعرف من
يروم تغييرًا كيف يغير , فلا يدع الحسن المجمع على حسنه إلى قبيح لا ريب في
قبحه.
ولقد أبهج كل أديب عربي أن عرف المجددون في مصر كيف يجددون , وأي
دين في التجدد يتبعون.
إن لم تكن القاهرة حاضرة الأمم العربية السياسية , و {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) , فإن القاهرة حاضرة الأمم اللغوية، ملك
الشعر فيها (شوقي) , والأقاليم العربية في المشرق والمغرب قاطبة من أعمالها،
وأدباؤها عماله، وأهلها رعية إحسانه.
وإن لهذا الملك علينا السمع، وإن لنا عليه الإجادة في القول، وقد (والله)
أجاد، وقد سمعنا وأطعنا، وجئت أحتفي به (يوم تكريمه) في المحتفين ,
وأعترف بقدرته المتعالية في القريض مع المعترفين.
جاء محمد [8] , وجاء خليفته [9] , وجاء محمود [10] , وخرج نابغة الشعر
العربي (أحمد شوقي) , وكان المقتطف [11] , وجاءت هذه الدولة الأدبية العربية
المصرية , ومن رجالها الكاتب الأكبر، والشاعر الأكبر، والمفكر الأكبر، والأديب
الأكبر، والخطيب الأكبر , والنقاد الأكبر، والباحث الأكبر، والفقيه الأكبر،
والمتفنن الأكبر، والعالم الأكبر، وكل كبير في علمه وفنه , فصات في أرجاء
الكون هذا الصوت:
ألا إن محمدًا [12]
وذكر محمد
وقرآن محمد
ولغة محمد
وعربية محمد
وأدب محمد
كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد , وفي الدنيا - مصر
... ... ... ... ... ... ... ... (إسعاف النشاشيبي)
__________
(1) في الأصل: إله.
(2) الشغربية , وبالزاي: اعتقال المصارع رجله برجل خصمه , وصرعه إياه بذلك.
(3) حمَّر بتشديد الميم: تكلم بالحميرية , وظفار: بلد باليمن.
(4) اجتافه: دخل في جوفه.
(5) الِمسرَّة - بكسر الميم وتشديد الراء -: آلة المسارة , والمراد بها التلفون , وقد قلت في آخر قصيدتي الشرقية التي نظمتها , وأنا تلميذ بطرابلس الشام منذ ثلث قرن:
تتلى فيطرب من بالضاد ينطق من ... أرجاء فاس إلى القطر العماني
كأنما أنا أشدو بالمسرة أو ... ... أملي على رب سلك كهربائي
(6) المنار: هو أحمد شوقي نفسه.
(7) الرواية التي نحفظها (: لا بعيني) وهي التي تطابق * فما يراه سواه * وإن كانت العين واحدة على مذهب الوحدة.
(8) يعني الأستاذ الإمام.
(9) عندما قال الخطيب هذا أشار بيده إلى صاحب المنار , وكان في الصف الأول جهة موقفه اليمنى.
(10) يعني محمود سامي البارودي.
(11) أي: ووجد المقتطف كل هؤلاء مصريون بيئة واستيطانًا قديمًا أو حديثًا وليس فيهم أحد قبطي النسب قطعًا، فالنهضة المصرية الحاضرة ليست قبطية، ولا فرعونية، بل عربية، وللقبط أنفسهم حظ عربي منها لا ينكر.
(12) لعل المراد من كلمة (محمدًا) الأولى هذه الاسم لأن خبرها مع ما عطفت عليه قوله بعدها: (كل ذلك لن يزول) وهذا يمنع إرادة المسمى وقوله بعدها وذكر محمد يراد به ذكر مناقبه وشمائله وسنته.(28/213)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
البيت الحرام وسدنته
بنو شيبة وحقوقهم , والهدايا له ولهم
(س7 10) جاءتنا الأسئلة الآتية من صاحب الفضيلة الشيخ عبد القادر
الشيبي رئيس سدنة البيت الحرام بمكة المكرمة، فرأينا وقد تم باب الفتوى من هذا
الجزء أن ننشرها هنا مع الأجوبة عنها هنا؛ ليطلع عليها حجاج هذا العام.
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السماحة مولانا العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
(1) إن ما نتناوله من الصلة والإكرام من زوار بيت الله الحرام بطلب ,
وبغير طلب بدون جبر , هل يجوز لنا نحن سدنة بيت الله أخذه أم لا؟ أفتونا
مأجورين ولكم الثواب من رب العباد.
(ج) يحل ما يعطى عن طيب نفس بغير طلب إجماعًا، وأما الطلب
وسؤال ما ليس بحق للسائل , فهو مذموم لغير المضطر، وسنفصل القول في ذلك
فيما نجيب به عن السؤال الرابع , وهو فتاوى بعض مفتي مكة المكرمة في المسألة.
(2) هل من يتناولنا بالتشنيع والتنقيد في وظيفتنا؛ لتقديم ناس وتأخير ناس
آخرين في دخول البيت المشرف كما تقتضيه الحالة، وفيما يصلنا من الزوار، هل
على ولاة الأمر منع المتعرضين والمنتقدين؛ لما رواه يونس عن الزهري، عن
بلال، وعثمان بن طلحة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا؛
فاحترموه، واحترموا سدنته) ؟ ، أفتونا مأجورين ولكم الثواب.
(ج) التشنيع والانتقاد على سبيل الإهانة من الغيبة المحرمة بالإجماع، فلا
حاجة إلى الاستدلال عليها بمثل هذا الحديث الذي ليس من الأحاديث التي تقوم بها
الحجة في الرواية، وإن كان معناه صحيحًا، بل لم أره في شيء من كتب السنة،
وصيغة الاحترام لم ترد فيها، ولا في القرآن، وقد استعملها الفقهاء، وأراها مولدة،
ويجب على ولاة الأمور منع من يعتدي عليهم، ويؤذيهم عند الإمكان.
(3) ما قولكم دام فضلكم فيمن يصل إلى بيوت السدنة لبيت الله الحرام،
ويطلب منهم ورقة تتضمن الفسح (الإذن) لدخول البيت المعظم، وتبين الوقت
الذي يفتح فيه، وعند دخوله تؤخذ منه الورقة التي أعطيت له، هل يجوز ذلك أم
لا؟ أفتونا لا زلتم مأجورين.
(ج) إن هذا العمل يقصد به النظام، وعدم الازدحام المخل به فيما يظهر،
فهو بهذا القصد حسن لا بأس به في كل حال، وقد يكون ضروريًّا في حال
الازدحام.
(4) مولانا، أقدم إلى مقامكم طي هذه صورة فتاوى من أسلافكم مفاتي مكة
المكرمة وعلمائها الأعلام، وهي من قديم الأعوام، ونحن متمسكون بما احتوت
عليه من الأحكام , والنصوص الشرعية في سدانتنا , وفي أعمالنا , وإجراء وظيفتنا ,
نسترحم اطلاعكم عليها , والتصديق على ما احتوت عليه من الحق والصواب
الذي نرجوكم أن ترشدونا إليه ليكون عملنا عليه. ولكم الثواب.
وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
صورة سؤال قدم لمفاتي مكة المكرمة
ما قول العلماء الأعلام في ولاية الكعبة المعظمة , وخدمتها , وما يوجد فيها،
وما يهدى لها , وما تكسى به خارجها وداخلها، وفتحها وإغلاقها، وما يأخذونه من
النذور , وزوارها , والهدايا , ونحو ذلك؟ , هل يجوز لبني شيبة أخذه، ولا
يشاركهم أحد في خدمتها أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب حضرة العلامة السيد عبد الله المرغني مفتي مكة المكرمة بقوله:
الحمد لله رب العالمين، رب زدني علمًا، اللهم يا من لا هادي لنا سواك،
أنطقنا بما فيه رضاك، فليعلم السائل أرشدنا الله وإياه للصواب، ووفقنا لما جاءت
به السنة ونطق به الكتاب، أنه يختص بما ذكر بنو شيبة الموجودون الآن وإلى يوم
القيامة؛ لما أرشد إليه الكتاب من الخطاب , وأورده من السنة أجلاء الأصحاب ,
والفقهاء الأعلام، ومفاتي بلد الله الحرام، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر
المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه، فمن فعل شيئًا من
ذلك؛ استحق الطرد والإبعاد، والخزي والنكال من رب العباد؛ لدخوله في سلك
من ظلم، بصريح قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويجب على ولاة الأمر
تأييدهم وردع من يتصدى لذلك؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ لينالوا بركة
اتباعه , ويكونوا ممن أحبهم الله لقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) , وقد ذكر العلامة أبو السعود في تفسيره كغيره
من المفسرين عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) بعد أن ذكر أنه خطاب يعم المكلفين قاطبة ما نصه: ورد في شأن
عثمان بن أبي طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة , وذكر القصة إلى آخرها ,
والله سبحانه وتعالى أعلم.
... ... ... ... ... كتبه المفتقر عبد الله بن محمد المرغني
... ... مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مستغفرًا مصليًا مسلمًا
وأفتى في عين هذا السؤال حضرة العلامة الشيخ جمال الحنفي مفتي مكة
المكرمة بقوله: سدانة البيت الشريف خدمته , وتولي أمره , وفتح بابه وغلقه،
فسدنتها هم خدمتها، ومن يتولى أمرها الشيبيون العبدريون الثابت نسبهم ما بقي
الزمان، وتوالى الملوان، المتصل نسبهم إلى ابن أبي طلحة , وأبو طلحة اسمه
عبد الله بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الثابتة
لهم هذه المباشرة الشريفة جاهلية وإسلامًا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وقد
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ المفتاح من عثمان يوم فتح مكة حتى
ظن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدفعه إليه , وقال العباس بن عبد
المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعطنا المفتاح مع السقاية فأنزل الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) , قال عمر رضي
الله عنه: فما سمعتها من رسول الله قبل تلك الساعة. فتلاها , ثم دعا عثمان بن
أبي طلحة ودفع إليه المفتاح , وقال: (غيبوه) , ثم قال: (خذوها خالدة تالدة يا
بني أبي طلحة بأمانة الله , واعملوا فيها بالمعروف، فلا ينزعها منكم إلا ظالم)
وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناول
المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح. وإنما
استوردت هذه الأحاديث؛ ليستنبط منها أحكام الشيبيين، وما به جرت عادتهم القديمة
منها هذه الولاية لهم من الله ورسوله جاهلية وإسلامًا فيا لها من مزية، لا تضاهيها
قضية.
ومنها أن لهم تغييب المفتاح , وعلى ولاة الأمر الحلم عليهم , والصفح عن
زلاتهم اقتداءً به عليه الصلاة والسلام، وأخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم:
(كلوا بالمعروف) .
إن ما يهدى إليهم من الصلات والإحسان على وجه التبرع يحل لهم أخذه ,
وهو من الأكل بالمعروف كما وضحه في البحر العميق [1] ، وكذا ما رث من كل ما
أبدل، وعمر فيها كما جرت به العادة القديمة لهم بالأخذ.
ومما يؤيد ذلك، ويدل عليه ما ذكره الفاكهي أنه لما حج الناصر محمد بن
قلاون في سنة سبعمائة وثلاث وثلاثين أمر بقلع باب البيت المعظم، فأخذه الحجبة.
ثم قال الفاكهي: (يؤخذ من هذا أن ما أزيل من البيت الشريف من المؤمن
وعمل بدله يكون لبني شيبة لا يشاركهم فيه غيرهم قد شاهدناهم على مثل هذا،
وإنهم يصرحون بأن هذا حقنا بالقواعد القديمة.
وقد أجاب خاتمة المفتين ببلد الله الأمين حضرة السيد عبد الله المرغني في
عين هذا السؤال، وقد رفع إليه في ضمن كلام طويل بما لفظه: فلا يحل لمن
يؤمن بالله واليوم الآخر المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه،
فمن فعل شيئًا من ذلك استحق الطرد والإبعاد، والخزي، والنكال من رب العباد؛
لدخوله في سلك من ظلم، والله أعلم.
أمر برقمه راجي لطف ربه الخفي جمال بن عبد الله شيخ عمر الحنفي.
مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا.
وأفتى في عين هذه المسألة حضرة الشيخ عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة
المكرمة بقوله: الحمد لله على نعمة الإيجاد والإمداد , والصلاة والسلام على من
حث على حفظ أمانة العباد.
بنو شيبة الصحابي هم سدنة الكعبة المعظمة إلى يومنا، وإلى يوم القيامة
لما صرَّحت به السنة , وليس لأحد مشاركتهم في فتحها , وإغلاقها وخدمتها؛
لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ,
وذكر أكثر المفسرين , والإمام أحمد في تفسيره الكبير عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) أنها نزلت في عثمان بن أبي
طلحة الحجبي سادن الكعبة المعظمة , وروى جبير بن مطعم: قال جبريل عليه
السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما دام هذا البيت , أو لبنة من لبناته قائمة؛
فإن المفتاح , والسدانة في أولاد عثمان بن أبي طلحة إلى يوم القيامة) , وروى بشر
بن السري في المناسك عن نافع الحجبي , وعن أبيه عبد الرحمن أن أباه حدثه
أن الإمام أبا حنيفة لما حج , ودخل البيت الشريف , وصلى فيه , وأعطا له [2]
ألف دينار , وقال: (بنو شيبة هم سدنة البيت إلى يوم القيامة لا يشاركهم أحد
في خدمتها) .
وأعظم الإمام مالك أن لا يشرك [3] مع الحجبة أحد في الخزانة لأنها ولاية من
النبي صلى الله عليه وسلم إذ دفع المفتاح لعثمان.
قال القاضي عياض: (الخزانة أمانة البيت , وما ينذر , وما يأخذونه من
الزوار , فلهم أخذه؛ لأنه من الأكل بالمعروف) , كما أوضحه في البحر العميق ,
وأما ما رث من كسوتها , وجدد فيها , فهو لهم , وقول عائشة رضي الله عنها للنبي
صلى الله عليه وسلم: ما بال بابه مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليمنعوا من
شاءوا) وقولها: يا رسول الله كل زوجاتك دخل الكعبة غيري. فقال: (اذهبي
لقرابتك شيبة؛ يدخلك) , فذهبت له فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا
رسول الله، إنها لم تفتح ليلاً في جاهلية , ولا في إسلام , فإن أمرتني؛ فتحتها ,
فأخذها , وأمرها أن تصلي في الحجر , رواه البخاري في صحيحه , وأما تغييب
مفتاح الكعبة , فلهم تغييبه كما رواه الفاكهي , عن جبير بن مطعم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما ناول المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) .
قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح , ولا يجوز عزل صاحب المفتاح , ولو
كان غير مرضي الحال كما صرح به مفاتي مكة المشرفة؛ لأنها وظيفة من الله ,
ورسوله , فيا لها من مزية لا تقاس بوظيفة , أو قضية! والله أعلم.
قال بفمه , وأمر برقمه خادم الشريعة , والمناهج عبد الله سراج الحنفي.
وأفتى بما يؤيد ذلك ابنه العلامة الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة المكرمة
بقوله: قد اطعلت على ما أجاب به والدي عبد الله سراج الحنفي , وما أجاب به
شيخي الشيخ جمال بن عبد الله مفتي الأحناف بمكة , والعلامة السيد عبد الله
المرغني؛ فوجدته هو الحق والصواب , ولا يعول على سواه , وجوابي كما أجابوا
والله سبحانه وتعالى أعلم.
كتبه خادم الشرعية والمنهاج عبد الرحمن بن عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة
المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا.
***
علاوة لهذه الفتوى من مرسلها فيما يظهر
أخرج الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (الأنصار، ومزينة، وجهينة، وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبد
الدار موالي ليس لهم مولى دون الله، والله ورسوله مولاهم) ، قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن صحيح.
وما أشار إليه العلامة الشيخ عبد الله سراج في فتواه السابقة إلى قول المحقق
مفتي مكة المكرمة في القرن العاشر العلامة ابن ظهيرة في فتواه ما نصه بلفظه: إذا
اختلف حجبة البيت بما جرت به العادة، هل يقضى لهم بتقديم أكبرهم، وربما كان
غير مرضي الحال؟ يقضي للأكبر , وإن كان غير مرضي الحال، وإنما يجعل
معهم مشرفًا منهم، والقضاء بما جرت به العادة تشهد له بمسائل كثيرة لا تقاس
بوظيفة ما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أدفعها لكم، ولكن الله دفعها لكم) ،
صح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مأثرة تحت قدمي هاتين إلا سدانة
البيت) , ولما رواه يونس , عن الزهري , عن سالم , عن أبيه قال: أخبرني بلال
وعثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا فاحترموه
واحترموا السدنة) ، وأيضًا أخرج الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عند دخول
النبي صلى الله عليه وسلم من أعلا مكة: روى ابن عابد من طريق ابن جريح أن
عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية؛ فنزلت: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) , فدعا عثمان , فقال:
(خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، وفي طريق علي بن أبي
طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني شيبة كلوا مما يصل إليكم من
هذا البيت بالمعروف. قال الإمام فخر الرازي في تفسيره (ج3 ص238) قوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) إلى أن قال الإمام
- بعد أن ذكر القصة يوم الفتح -: وطلب صلى الله عليه وسلم المفتاح، وأخذه من
عثمان، وقال: (يا عثمان، خذ المفتاح على أن للعباس نصيبًا معك) ؛ فأنزل الله
هذه الآية , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها
منكم إلا ظالم) . اهـ.
***
تعليق المنار على ما تقدم
إن في بعض عبارات هذه الفتاوى ما يؤخذ على أصحابه كإطلاق بعضهم
فيمن ينازع بني شيبة، أو يعارضهم بما يؤذيهم في عملهم قوله: (فمن فعل شيئًا
من ذلك استحق الطرد , والإبعاد، والخزي , والنكال من رب العباد؛ لدخوله في
سلك من ظلم) , فهذا غلو , وجرأة في أمر لا يمكن أن يعلم إلا بنص عن الله
ورسوله، وما كل من ظلم أحدًا بقول أو فعل يطرده الله من رحمته , ويبعده كما
طرد إبليس , وأبعده، أو يخزيه , وينكل به، كما يفعل بالمشركين به، فإن من
الظلم ما هو من الصغائر , ومنها ما هو من الكبائر كما هو معلوم , وقد شرح في
المنار من قبل. (وفيها) تساهل في إيراد بعض الروايات بعدم بيان مخرجيها من
أهلها، وعدم بيان المسند المرفوع من غيره، والصحيح من غيره، كما هي عادة
المفتين منذ القرون الوسطى ينقلون من كل كتاب يقع في أيديهم من غير تمحيص ,
(وفيها) إبهام لبعض المسائل كتغييب مفتاح البيت , ومسألة تعليل رفع بابه من
عهد الجاهلية، هذه المسائل باختصار , فنقول:
(أما السدانة) فهي حق بني شيبة بلا نزاع , وقد ثبت ذلك بالعمل المتواتر،
وقد شذ في بعض القرون بعض أمراء مكة بأخذ مفتاح البيت الحرام من الشيخ
الشيبي , فكان ذلك في نظر الناس أمرًا إمرًا، وشيئا نُكرًا، ولم يطل الأمد على
ذلك حتى ردت الأمانة إلى أهلها وقد فصلت هذه المسألة في الرحلة الحجازية
الأولى , وذكرت بعض الأحاديث الواردة فيها معزوة إلى مخرجيها , وهي في
(ص 152 و153 و154 من المجلد العشرين من المنار) , وفيها أن لأهل هذا
البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة الثابتة من قبل الإسلام،
التي أقرها لهم الله ورسوله ... إلخ، أي: ليس في الناس أهل بيت لهم مثل المزية ,
ومثل هذه الوظيفة الثابتة حكمًا وفعلاً , وقد حفظ بها نسبهم مع كرامة حسبهم، وقد
فاتني أن أسأل كبيرهم الشيخ محمد صالح رحمه الله في أيام رحلتي الأولى ,
والشيخ عبد القادر صاحب الاستفتاء في الرحلة الثانية عن نسبهم وعددهم، فإنا لا
نعلم شيئًا عن حفظ نسبهم الذي تضطرهم إليه هذه الوظيفة، فإن كانوا قد كثروا كما
كثر العلويون على ممر القرون، فيكف ضبطوا أنسابهم؛ ليعلم أكبرهم سنًّا، فيكون
صاحب المفتاح , ورئيس الحجاب لبيت الله تعالى , وأين يقيمون؟ وإن كانوا
قليلين , فما سبب ذلك؟ إننا نرجع إلى كبيرهم في طلب البيان , ولعله يجيبنا على
ذلك كتابة بالاختصار.
(وأما هدايا الكعبة والنذور لها) , فهي تختلف باختلاف ما تهدى , وتنذر له ,
وبالعرف , وأطلق بعضهم القول بأنها خاصة بها تحفظ؛ لينفق منها على عمارتها
عند الحاجة , وصرحوا بأنه لا يجوز إنفاق شيء منها على الفقراء , ولا في
المصالح.
وروى البخاري - واللفظ له - وأبو داود وابن ماجه عن أبي وائل قال:
جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر رضي
الله عنه , فقال: (لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء , ولا بيضاء إلا قسمته) ,
قلت: إن صاحبيك لم يفعلا. قال: (هما المرآن أقتدى بهما) . وفي بعض
الروايات عن شيبه أنه قال لعمر: ما أنت بفاعل. قال: (ولم ذاك؟) قلت:
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه , وأبو بكر , وهما أحوج إلى
المال , فلم يحركاه.
والمراد بهذا الكنز الذي كان فيها مما يهدى إليها , وكان في صندوق في البيت.
وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في بناء الكعبة: (لولا أن
قومك حديثو عهد بكفر؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله) , فظاهر هذا التعليل أن
الامتناع من إنفاق الكنز كالامتناع من نقض بناء الكعبة , وإقامتها على أساس
إبراهيم صلى الله عليه وسلم , وإلصاق بابها بالأرض , وفتح باب آخر في مقابله ,
فقد علل ذلك صلى الله عليه وسلم في كلامه مع عائشة بحداثة عهد قومها بالكفر ,
وبالجاهلية , وخوف إنكار قلوبهم ذلك، وفي رواية: (خشية انكسار قلوبهم) ,
والروايات عنها في هذا ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهذا التعليل قد زال بتمكن
الإسلام , وهو يدل على عدم امتناع إنفاق كنزها في سبيل الله لذاته , فما بال الفقهاء
حرموا ذلك؟ وقد يقال: إن ذلك الكنز كان من أموال المشركين في الجاهلية ,
وما ذكروه من الهدايا والنذور في عهد الإسلام يخالفه في حكمه , فيجب صرفه فيما
وقف , أو نذر له , وهو مصالح البيت وحدها.
وقد روى الأزرقي في تاريخ مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في
الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى للبيت، فقال
له علي رضي الله عنه: (يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك! فلم
يحركه) .
وفي هذه المسألة فروع ذكروا فيها أن لحجبة البيت (وهم آل شيبة) أن
يتصرفوا ببعض النذور التي جرى بها العرف.
ننقل الفروع الثلاثة الآتية منها عن كتاب (الجامع اللطيف، في فضل مكة
وأهلها وبناء البيت الشريف) للشيخ جمال الدين محمد جاد الله القريشي المخزومي
الحنفي من علماء مكة في القرن العاشر قال: فروع:
(الأول) تختص الكعبة الشريفة بما يهدى إليها , وما ينذر لها من الأموال ,
وامتناع صرف شيء منها إلى الفقراء , والمصالح إلا أن يعرض لها نفسها عمارة ,
فيصرف فيه , وإلا فلا يغير شيء عن وجهه.
نبه عليه الزركشي من الشافعية.
(الثاني) إذا نذر شمعًا يشعله فيها , أو زيتًا , ونحوه؛ وضعه في مصابيحها.
وإن كان لا يستعمل فيها؛ بيع وصرف الثمن في مصالحها , صرَّح به
الماوردي.
(الثالث) نقل الجد في منسكه مسألة تعم بها البلوى , فقال: شخص نذر أن
يوقد شمعًا على باب الكعبة , فأرسل به مع غيره؛ ليوقده , فجاء المرسل به ,
وأوقده على الباب قليلاً , فجاء الحجبة , فأخذوه , ومنعوا استمرار وقوده , وقالوا:
هذه عادتنا مع كل أحد. وربما سرقه نوابهم على غفلة بعد إيقاده قليلاً , فهل تبرأ
ذمة الناذر والمرسل معه , أو ذمة الناذر دون المرسل معه , أم كيف الحال؟
(الجواب) : الناذر خلص عن عهدة المنذور؛ لبلوغه محله , وكون الحجبة
يأخذونه أمر آخر لا يتعلق ببقاء النذر في ذمة الناذر , ولا المرسل معه، وإن كان
على الحجبة إبقاؤه موقودًا إلى نفاده , ولا خفاء أن الناذر نفسه لو حضر بالشمع ,
فكان ما تقدم؛ كان الحكم كذلك، ومحل صحة هذا النذر من أصله أن ينتفع بهذا
الموقود , ولو على ندور مصل هناك , أو غيره , وإلا فإن كان المقصد بالنذر ,
وهو الغالب تعظيم البقعة , ففيه وقفة.
ومقتضى كلام النووي عدم الصحة , وصرَّح به الأذرعي وتبعه الزركشي.
انتهى.
(أقول) : مقتضى مذهبنا أن المرسل بالشمع لا يخلص عن العهدة بمجرد
إيصال الشمع إلى المحل، بل ولا بوقوده قليلاً ما لم يوقد ثلثاه , فأكثر، وأما
الحجبة , فلهم أخذه بغير إذن المرسل إذا جرى العرف بذلك بعد أن وقد معظمه.
نصَّ عليه في القنية من كتب المذهب , انتهى بحروفه.
(تنبيه) إن الشمع الذي يوقد الآن على باب الكعبة لا ينتفع به أحد؛ لأن
الحرم كله يضاء بقناديل الكهرباء , وقناديل أخرى غازية، وبوضعه على عتبة
الباب يستقبله المصلون , واستقبال النار في الصلاة محظور؛ لما فيه من شبه
المجوس كما صرحوا به، ولعلهم تساهلوا فيه؛ لأن المراد به تعظيم الكعبة مع كون
شبه المجوس نسي , فلا يخطر بالبال.
(وأما كسوة الكعبة المعظمة) , فالأصل فيها أن أمرها إلى الإمام الأعظم ,
ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقسمها على الحجاج كما يأتي، ثم ترك الأئمة
والأمراء أمرها إلى بني شيبة حجبة الكعبة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح - في شرح حديث عمر في كنز الكعبة الذي
تقدم آنفًا نقلاً عن ابن المنير -: (والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة؛ إذ في
بقائها تعريض لإتلافها , ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية) , (قال) : (ويؤخذ
من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة , لكن
الكسوة في هذه الأزمنة أهم) (قال) : واستدلال ابن بطال بالترك (أي: ترك
عمر لكنز الكعبة اتباعًا) على إيجاب بقاء الأحباس (أي: الأوقاف) لا يتم إلا إن
كان القصد بمال الكعبة إقامتها , وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك , ويحتمل أن
يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة , وسدنتها، أو إرصاده لمصالح الحرم , أو لأعم
من ذلك، وعلى كل تقدير؛ فهو تحبيس (أي: وقف) لا نظير له , فلا يقاس عليه
انتهى.
(ثم قال الحافظ) عقب نقل هذا: (ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة
(أي: مع عمر) هذا ما يتعلق بالكسوة , إلا أن الفاكهي روى في كتاب مكة من
طريق علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل
علي شيبة الحجبي , فقال: يا أم المؤمنين , إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا؛ فننزعها ,
ونحفر بئرًا , فنعمقها , وندفنها؛ لكي لا تلبسها الحائض والجنب. قالت:
(بئسما صنعت، ولكن بعها , فاجعل ثمنها في سبيل الله , وفي المساكين , فإنها إذا
نزعت عنها؛ لم يضر من لبسها من حائض , أو جنب) , فكان شيبة يبعث بها إلى
اليمن؛ فتباع، فيضعها حيث أمرته.
وأخرجه البيهقي من هذا الوجه , لكن في إسناده راو ضعيف , وإسناد الفاكهي
سالم منه.
وأخرج الفاكهي أيضًا من طريق ابن خثيم: حدثني رجل من بني شيبة قال:
رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين.
وأخرج من طريق ابن نجيح , عن أبيه أن عمر كان ينزع كسوة الكعبة كل
سنة؛ فيقسمها على الحاج اهـ.
وقد نقل القسطلاني في شرحه لهذا الحديث أقوالاً للشافعية في الكسوة ختمها
بنقله عن (المهمات) للإسنوي التفصيل الآتي:
واعلم أن للمسألة أحوالاً (أحدها) : أن توقف على الكعبة , وحكمها ما مر،
وخطأه غيره بأن الذي مر محله إذا كساها الإمام من بيت المال، أما إذا وقفت ,
فلا يتعقل عالم جواز صرفها في مصالح غير الكعبة.
(ثانيها) أن يملكها مالكها للكعبة , فلقيمها أن يفعل فيها ما يراه من تعليقها
عليها , أو بيعها , وصرف ثمنها إلى مصالحها.
(ثالثها) أن يوقف شيء على أن يؤخذ ريعه , وتكسى به الكعبة في عصرنا ,
فإن الإمام قد وقف على ذلك بلادًا.
(قال) : وقد تلخص لي في هذه المسألة أنه إن شرط الواقف شيئًا من بيع ,
وإعطاء لأحد أو غير ذلك؛ فلا كلام، وإن لم يشترط شيئًا إن لم يقف الناظر تلك ,
فله بيعها , وصرف ثمنها في كسوة أخرى , وإن وقفها فيأتي فيه ما مر من الخلاف
في البيع. نعم بقي قسم آخر , وهو الواقع اليوم في هذا الوقف , وهو أن الواقف لم
يشرط شيئًا من ذلك، وشرط تجديدها كل سنة مع علمه بأن بني شيبة كانوا يأخذونها
كل سنة لما كانت تستكسى من بيت المال , فهل يجوز لهم أخذها الآن , أو تباع
ويصرف ثمنها إلى كسوة أخرى؟ فيه نظر , والمتجه الأول. اهـ.
أقول: ذكرت هذا التفصيل؛ لأن المطلعين على كتب الفقه يرون فيها أقوالاً
مختلفة في المسألة سببها اختلاف التاريخ , والأحوال , والحالة الأخيرة التي ذكرها
القسطلاني هنا هي الثابتة إلى الآن، وهي أن الملك الصالح إسماعيل بن الناصر
ابن قلاوون صاحب مصر وقف قرية بيسوس (ويقال الآن: بسوس) من نواحي
القاهرة على كسوة الكعبة سنة 243 , ومن ذلك العهد تصنع الكسوة في مصر في
كل عام، وهل العبارة في القسطلاني له وهو قد توفي في سنة 923 , أم للأسنوي ,
وهو قد توفي سنة 772؟ , الأظهر الأول، والحالة واحدة.
وفي الجامع اللطيف: نقل الفاسي رحمه الله أن أمراء مكة كانوا يأخذون من
السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة مع جانب كبير من كسوتها , أو ستة آلاف
درهم كاملة عوضًا عن ذلك إلى أن رفع ذلك عنهم السيد عنان بن مقاس لما ولي
أمر مكة سنة 788 , وتبعه أمراء مكة في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان
بعد سنين من ولايته صار يأخذ منهم الستارة , وكسوة المقام , ويهديها لمن يريد من
الملوك , وغيرهم. انتهى (أي: كلام الفاسي) , وقد استمر الأمر كذلك من أمراء
مكة إلى يومنا هذا (أي: سنة 950) اهـ.
وأقول: إن أمراء مكة صاروا يأخذون الكسوة العتيقة كل سنة , ويتصرفون
فيها إلى عهد الملك حسين بن علي , ثم ردها الملك عبد العزيز بن السعود إلى
الشيبي.
ثم أورد صاحب الجامع اللطيف فروعًا في المسألة، أولها في مسألتنا وهو:
(يجوز بيع ثياب الكعبة عندنا إذا استغنت عنه) ، وقال به جماعة من فقهاء
الشافعية , وغيرهم , ويجوز الشراء من بني شيبة؛ لأن الأمر مفوض إليهم من قبل
الإمام. نص عليه الطرسوسي من أصحابنا في شرح منظومته، ووافقه السبكي من
الشافعية , ثم قال: وعليه عمل الناس، والمنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها
إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا، وإعطاءً، واستدل بما تقدم
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي قواعد صلاح الدين خليل بن الكندي أنه
لا يتردد في جواز ذلك الآن لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها
في كسوة الكعبة , والوقف بعد استقرار هذه العادة , والعلم بها , فينزل لفظ
(الواقف) عليها، واستحسن النووي الجواز أيضًا , قال الجد رحمه الله: هذا في
الستور الظاهرة، وأما الستور الداخلة فلا تزال، بل تبقى على ما هي عليه؛ لأن
الكلام إنما هو في الستور التي جرت العادة أن تغير في كل عام، فلو قُدِّرَ جريان
العادة بمثل ذلك في الستور الباطنة؛ سلك بها مسلك الظاهرة؛ انتهى.
(وأما مسالة ارتفاع باب الكعبة) : فقد كان من استبداد قريش , وترفعهم ,
وأثرتهم على الناس، وإنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة منكرًا له , لا
مجيزًا , ولم يذكر في السؤال , ولا في الفتاوى المسئول عنها نص الحديث كله في
ذلك , وهو في الصحيحين , ولفظه في البخاري عنها سألت النبي صلى الله عليه
وسلم عن الجَدَر (هو بالفتح الجِدار بالكسر والمراد به: الحجر، وقد ورد الحديث
في غيرهما بهذين اللفظين) أمن البيت هو؟ قال: (نعم) ، قلت: فما لهم لم
يدخلوه في البيت؟ قال: (إن قومك قصرت بهم النفقة [4] ) , قلت: فما شأن بابه
مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليدخلوا من شاءوا , ويمنعوا من شاءوا، ولولا
أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية؛ فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر؛ أفعل
ذلك) ، كما زاد قوله: (ويمنعوا من شاءوا) , فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها
يدعونه يرتقي حتى إذا كاد يدخل دفعوه؛ فسقط.
وفي حديث آخر للبخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة لولا
أن قومك حديث عهد بجاهلية؛ لأمرت بالبيت , فهدم , فأدخلت فيه ما أخرج منه ,
وألزقته بالأرض , وجعلت له بابين بابًا شرقيًّا , وبابًا غربيًّا , فبلغت به أساس
إبراهيم صلى الله عليه وسلم) ، قال: فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه إلخ.
وأقول: إن عبد الله بن الزبير فعل كل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم
يحب أن يفعله , فأعاده إلى أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ورأى ذلك الأساس
المتين , ورآه الناس , وجعل له بابين، ولكن الحجاج هدم ما بناه، وأعاده كما كان،
ونقلوا أن عبد الملك بن مروان ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعنه، وكان
اتهم ابن الزبير بالكذب على عائشة، فأخبره الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أنه
سمع ذلك منها؛ فندم، وأراد بعض خلفاء بني عباس أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير،
فناشده الإمام مالك أن لا يفعل؛ لئلا تصير ملعبة للملوك، فلهذا بقيت على وضعها إلى
الآن.
(وأما تغييب المفتاح) فلا أذكر أن أحدًا بحث في سببه، أو حكمته ,
فأراجع قوله، وكان الذي يسبق إلى فهمي كلما قرأت ذلك أن سببه مطالبة كل من
العباس وعلي رضي الله عنهما له بجعله لبني هاشم، فحسب صلى الله عليه وسلم
أنه ربما يراه أحد من بني هاشم مع طلحة , فينتزعه منه لعدم علمه بتخصيصه به
هو وآله من بعده , فتكون فتنة , وقد زال هذا السبب منذ العصر الأول , ولم يبق
لتغييب المفتاح معنى إلا إبقاء الباب مقفلاً في معظم الأوقات , وفتحه في أقلها ,
وهو خلاف ما كان يريده صلى الله عليه وسلم من فتح بابين لها مساويين للأرض؛
ليدخل الناس من أحدهما , ويخرجون من الآخر، والظاهر أن أئمة الحكم , وأئمة
العلم رأوا أن المصلحة العامة التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم , ثم الخلفاء
الراشدين من تنفيذ ذلك , وبقاء الحال على ما كانت عليه من علو الباب , ووحدته
لا تزال تقتضي ذلك في كل زمان , وإن اختلفت العلة، فلو جعل الباب الآن مفتوحًا
في كل وقت لامتهن البيت , وقل احترامه , وحدثت فيه بدع ومنازعات عند
الازدحام , ففتحه في بعض الأوقات , وتخصيص بعض الناس بدخوله دون بعض
يقي من ذلك كله مع مراعاة الشيبيين للحكمة , ومداراة الناس في ذلك.
وجملة القول أن السدانة ثابتة لبني شيبة بالتواتر , والله أعلم.
_______________________
(1) المنار: (البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى البيت العتيق) لأبي البقاء المكي العمري الحنفي من فقهاء القرن التاسع.
(2) كذا في الأصل ولعل الصواب (أعطاه) .
(3) كذا في الأصل المرسل إلينا.
(4) قال الحافظ في الفتح أي الطيبة التي أخرجوها لذلك وذكر أنهم لم يدخلوا في النفقة على بنائها شيئًا من كسب بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.(28/225)
الكاتب: ابن زمزم
__________
دعوة مفسدي الرافضة
يحيَى إلى قتال ابن السعود وأهلَ الحجاز إلى الثورة
ننشر هذه الأبيات الآتية من قصيدة نشرتها جريدة حضرموت بإمضاء ابن
زمزم؛ ليعلم حزبها أننا نعلم أنه لا قيمة له , ولا تأثير لفتنته عند الإمام يحيى , ولا
عند غيره بالأولى، فلم يبق لهم ملجأ بعد خذلان أبي الأشبال لهم إلا أن يتضرعوا
لإخوانهم في إيران , فيقيموا لهم ملكًا كالملك الذي أقاموه لأئمة آل البيت من قبلهم! !
قال الناظم الأحمق:
يا نفس ذوبي , ويا قلب اتقد ألمًا ... وأمطري الدم يا عيني منسجما
ويا قضاء إلهي لا تذر أبدًا ... في القوم من ناطق بعد الذي دهما
دهى الجزيرة خطب لا حدود له ... أعيا النهى وأثار الشر والنقما
خطب يعيد بلاد العرب أندلسًا ... أخرى ويرمي على طول المدى حمما
فلست مستصرخًا بالمسلمين وهم ... يرون ما فاض في بيت الهدى وطمى
وما أصيب به دين النبي ضحى ... والأمر لله يجزيه بما حكما
لكنني [1] سوف أدعو من إذا كشفت ... عن ساقها الحرب كان الصارم الخذما
ومن تحدر من بيت محانده ... إن أجدب الناس كانوا فيهمو ديما
ومن أتى جده الهادي وعترته ... من بعده ما بقوا بين الورى نعما
نفسي الفداء لأهل البيت لا بقيت ... نفس إذا لم تسر في حبهم قدما
يا ملجئي وأمير المؤمنين ومن ... نلقي عليه من الآمال ما عظما
يا راعي اليمن الخضراء يملؤها ... تقًى وعدلاً وإيمانًا بها اعتصما
يا تاج يعرب والإسلام قاطبة ... يا من يجير الحمى والدين والذمما
ويا شديد العرى في كل نائبة ... أدعوك مولاي للأمر الذي قصما
يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه ... حتام يهدم في الإسلام من هدما
حتام يعبث في قلب الجزيرة؟ لا ... خوف من الله لا صدق ولا شمما
سكت للمعتدي يستن مندفعًا ... كيما يكون هو البادي الذي ظلمًا
ثم قال يحث أهل الحجاز على الثورة تمهيدًا للزحف الموهوم:
فلن يحل لكم در الحجاز وقد ... قنعتموا بالردى لا عزم لا همما
بالله موتوا فقد ماتت شمائلكم ... ولا حياة لجسم يفقد الشيما
أولاً فأحيوا زمانًا كنتمو شهبًا ... فيه وثوروا سراعًا واحملوا العلما
كأنكم بأبي الأشبال سيدنا ... يحيى الإمام يقود البحر ملتطما
كأنكم بحميد الدين يهتف في ... أكناف مكة: زال البؤس منتقما
من خلفه ضيغم الفتيان أحمد قد ... خاض العجاج ففر الخصم وانهزما
وخلص البيت مما قد أحاط به ... ورد للعرب والإسلام ما عدما
__________
(1) مفهوم هذا الاستدارك أن الإمام الذي يدعوه , وجماعته ليسوا من المسلمين! ! .(28/238)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
حجاج الشيعة الإيرانيين ومصر
تعددت الأخبار من سورية بأن كثير من حجاج الشيعة الإيرانيين قد وفدوا
عليها في طريقهم إلى الحجاز عصيانًا لحكومتهم في طاعة الله تعالى.
وذلك أن هؤلاء الحجاج قد رأوا أن الأراجيف التي نشرت في العام الماضي
لمنع الشيعة من الحج كانت كاذبة خاطئة، فالوهابيون لم يسألوا أحدًا من الحجاج
عن مذهبه , ولا عن حجه , ولا كلفوا أحدًا اتباع مذهبهم , والبلاد كلها آمنة مطمئنة ,
فلا عذر لمسلم في ترك الفريضة مع القدرة اتباعًا لهوى حكومته , وقد روى
الشيخان , وأبو داود , والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه مرفوعًا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله , إنما الطاعة في المعروف) ,
ولكن بعض الملاحدة في مصر يدسون الدسائس؛ لإقناع حكومة مصر باتباع
حكومة إيران في منع الحج , وتحبيذ عملها، والمسلمون لا يثقون بأقوالهم في أمر
الدين؛ لأنهم خصومه.
__________(28/239)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
لا بد من قتل صاحب المنار
بلغنا أن الكاتب المغرور، محمد حسين هيكل بك رئيس تحرير جريدة
السياسة الغرور، لسان حال الحزب الحر الدستوري وحزب الملاحدة قد قرر
لمرؤوسيه محرري جريدة السياسة لا بد من قتل صاحب المنار فوافقوه، وهم يعنون
بهذا القتل ما يكون بأسنة أقلامهم الطعانة , فالمتبادر أنهم يعنون القتل المعنوي , أو
ما يسمونه الأدبي , وإن كانوا لا يدخرون وسعًا إذا قدروا على إيذائه بغير ذلك كما
فعلت السياسة حين اتهمته من قبل أنه يعمل مع جمعية سرية دينية سياسية بإغراء
الأمير عباس حلمي (الخديوي السابق) , ولولا أن كذبت الحكومة هذه التهمة تكذيبًا
رسميًّا عقب إذاعة جريدة السياسة لها لانتزع صاحب المنار من بين أهله , ووضع
في غيابة السجن رهن التحقيق , فكان ذلك أطرب لرئيس تحرير السياسة من
الصبوح والغبوق، وبلوغ العيوق.
كان ذنب صاحب المنار لدى جريدة السياسة يومئذ إنكاره على علامتها
المحقق الشيخ علي عبد الرازق كتابه الذي أنكر فيه التشريع الإسلامي من أساسه.
وقد تضاعفت ذنوب صاحب المنار من هذا النوع , فهو بالمرصاد لجميع
أنواع الدعاية الإلحادية التي تبثها جريدة السياسة باسم التجديد والثقافة العصرية التي
تزعم أن مصر بدعايتها وبعناية مدرسة الجامعة المصرية ستنسخ بها ثقافة الإسلام
التي مصدرها الأزهر وغيره، وتحل محلها، ويتبعها في ذلك سائر العرب بزعمها.
يظن محرر السياسة أن الذي يطلق لسانه وقلمه من كل قيد من قيود الحق
والصدق والأدب يستطيع إذا كان ذا خلابة أن يجعل الحق باطلاً والنور ظلامًا
والشرف خسة والفضيلة رذيلة، ويظنون أنهم فعلوا بخلابتهم بسعد ووفده ما لم يفعله
جيش الاحتلال , وفعلوا لحزبهم ما لا يسمح لنا ببيانه المجال.
هذا وإن سعدًا قد بلغ من ارتفاع المكانة في مصر ما لم يبلغه أحد يعرفه
التاريخ , فماذا يكون رشيد رضا الغريب السوري الضعيف؟ يقولون: إنا قتلناه
نصف قتلة بما كتبناه في مسألة مؤتمر الخلافة , وكما قتلنا الأزهر نفسه , فهو الآن
مثخن جراحًا , وسنقضي عليه ببضع مقالات أخرى.
غرور كبير، ما قتلوا ولن يقتلوا إلا حزبهم وأنفسهم، وسنقضي بحول الله
وقوته على أباطيلهم {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ
الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________(28/240)
ر - 1345هـ
مايو - 1927م(28/)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
استفتاء في فتوى وطلب إقرارها وتصحيحها
(س6) من صاحب الإمضاء في (أمرتسر - الهند)
ما قولكم سادة العلماء الكرام (كثر الله سوادكم) في رجل فسر آية الاستواء،
وغيرها من آيات الصفات على طريق المتكلمين , هل هو من أهل السنة , أو أهل
الكفر , أو أهل البدع؟ بينوا الحق والصواب تؤجروا من الله الوهاب يوم
الحساب.
أقول الجواب طالبًا من الله توفيق الصواب:
إن مسألة الصفات الإلهية عقدة عجز عن حلها بنان العقول، وحقيقة تحير في
إدراكها أذهان الفحول، قال الإمام الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال
وكان يقول أعلم خلق الله بالله صلى الله عليه وسلم في دعائه: (لا أحصي
ثناءً عليك , أنت كما أثنيت على نفسك) , فلأجل إشكال الأمر , وصعوبة الخطب؛
سلك علماء السنة , وأئمة الأمة مسلكين: التفويض , والتأويل، لا يكفر صاحب
أحدهما الآخر , ولا يبدعه؛ إذ مطمح نظر كلا الفريقين تنزيه ذات الله تعالى عن
مشابهة المحدثات، وعن أن يكون ذاتًا مجردة عن الصفات، وكلا المسلكين منقول
عن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الأئمة المتبوعين، كما قال القاضي
الشوكاني:
وإذا عرفت معنى الظاهر [1] فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين: (أحدهما)
يقبل التأويل , وهو قسم من النص مرادف للظاهر، والقسم (الثاني) لا يقبله ,
وهو النص الصريح) , ثم أخذ بعد ذلك في تفصيل ما يقبل التأويل , فقال:
(الفصل الثاني) فيما يدخله التأويل , وهو قسمان: (أحدهما) أغلب
الفروع , ولا خلاف في ذلك , (والثاني) الأصول كالعقائد , وأصول الديانات ,
وصفات الباري عز وجل , وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب: (الأول)
أنه لا دخل للتأويل فيها، بل يجرى على ظاهرها , ولا يؤول شيء منها , وهذا
قول المشبهة. (والثاني) أن لها تأويلاً , ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن
التشبيه , والتعطيل؛ لقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران: 7) ,
قال ابن برهان: وهذا قول السلف. ثم قال بعد ذلك: (والمذهب الثالث) أنها
مؤولة , قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل , والآخران منقولان عن
الصحابة , ونقل هذا المذهب الثالث عن علي , وابن مسعود , وابن عباس , وأم
سلمة (إرشاد الفحول صفحة 164) .
ثم قال رحمه الله: وقال ابن دقيق العيد: والذي نقوله في الألفاظ المشكلة:
إنها حق , وصدق على الوجه الذي أراده الله، ومن أوَّل شيئًا منها , فإن كان تأويله
قريبًا على ما يقتضيه لسان العرب تفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه , ولم نبدعه،
وإن كان تأويله بعيدًا؛ توقفنا عليه , واستبعدناه , ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان
بمعناه مع التنزيه , وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي
في البحر (صفحة 165 إرشاد) .
ثم ذكر الشوكاني شروط التأويل؛ ليبين المقبول من التأويل مما هو مردود
فقال: (الفصل الثالث) في شروط التأويل , (الأول) : أن يكون موافقًا لوضع
اللغة , أو عرف الاستعمال , أو عادة صاحب الشرع , وكل تأويل خرج عن هذا ,
فليس بصحيح، ثم قال: والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قد يكون قريبًا؛
فيترجح بأدنى مرجح، وقد يكون بعيدًا؛ فلا يترجح إلا بمرجح قوي , ولا يترجح
بما ليس بقوي , وقد يكون متعذرًا لا يحتمله اللفظ؛ فيكون مردودًا لا مقبولاً
(إرشاد صفحة 165) .
وقال خاتمة الحفاظ في الفتح:
قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغًا في
لسان العرب , وكان له وجه في العلم (جزء 28 [2] باب ما جاء في المتأولين) ,
وقال مولانا حكيم الأمة , وأستاذ الهند في الحجة [3] : وقال الحافظ ابن حجر: لم
ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا عن أحد من الصحابة من طريق صحيح
التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك - يعني المتشابهات - , ولا المنع من
ذكره.. إلخ (جلد أول صفحة 62) .
وذكر حكيم الأمة قبل ذلك كلامًا رصينًا جامعًا يحل معضلات الباب ,
ومشكلات الخطاب في آيات الصفات ما نصه:
واعلم أن الحق تعالى أجل من أن يقاس بمعقول , أو محسوس , أو يحل فيه
صفات كحلول الأعراض في محالها، أو تعالجه العقول العامية، أو تتناوله الألفاظ
العرفية، ولا بد من تعريفه إلى الناس؛ ليكملوا كمالهم الممكن لهم، فوجب أن
تستعمل الصفات بمعنى وجود غاياتها , لا بمعنى وجود مباديها، فمعنى الرحمة
إفاضة النعم , لا انعطاف القلب والرقة , وأن تستعار ألفاظ تدل على تسخير الملك
لمدينة؛ لتسخيره لجميع الموجودات؛ إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من هذه،
وأن تستعمل تشبيهات بشرط أن لا يقصد إلى أنفسها , بل إلى معان مناسبة لها في
العرف , فيراد ببسط اليد: الجود مثلاً , وبشرط أن لا يوهم المخاطبين إيهامًا
صريحًا أنه في ألواث البهيمية (حجة الله باب الإيمان بصفات الله تعالى صفحة
62) .
أيها الناظر! إن كان لك مسكة من علم الكلام , أو ملكة في بلوغ المرام ,
فتدبر عبارة حكيم الأمة كيف سلك مسلك التأويل , وأيد مذهب المتكلمين في فهم
المراد من الألفاظ الدالة على صفات الله عز وجل - فلله دره! حيث أفاد وأجاد.
فظهر بفضل الله مما ذكر ظهورًا بينًا أن علماء السنة لا ينكرون التأويل مطلقًا ,
بل هم (أنار الله براهينهم) يميزون الصحيح من الفاسد، والرائج من الكاسد،
كيف ولم يزل العلماء بعد الصحابة يؤولون بعض آيات الصفات , والأحاديث إلى
يومنا هذا كما تشهد النقول الآتية , والله ولي الهداية، وقد أطنب الإمام الحافظ أبو
محمد بن حزم الظاهري وكفى به قدوة في كتاب الفصل له , والمحدث الحافظ أبو
بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات له , ونحن نلتقط لك نبذًا من كلامهما ,
وشيئًا يسيرًا من كلام غيرهما.
(1) قوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) إنما
معناها: فثم الله بعلمه , وقبوله لمن توجه إليه (كتاب الفصل ص 166 مجلد 2) ,
وقال البيهقي: وأما قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ} (البقرة: 115) , فقد حكى المزني , عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال
في هذه الآية: يعني - والله أعلم - فثم وجه الله الذي وجهكم الله إليه (كتاب
الأسماء والصفات ص 227) , وقال البيهقي , عن مجاهد في قوله عز وجل:
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر: 56) : يعني
ما ضيعت من أمر الله (ص261) .
(2) , وقال ابن حزم رضي الله عنه في حديث النزول: وصح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الله ينزل كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى
السماء الدنيا , (قال أبو محمد) وهذا إنما هو فعل يفعله الله في سماء الدنيا من
الفتح؛ لقبول الدعاء , وإن تلك الساعة من مظان القبول , والإجابة للمجتهدين ,
والمستغفرين , والتائبين.. إلخ (ص172 ج2) , ثم ذكر أدلة صحة هذا التأويل ,
واستشهد بالعقل , والنقل , ثم قال: فهذا كله على ما بينا من أن المجيء , والإتيان
يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم يسمى ذلك الفعل مجيئًا وإتيانًا، وقد
روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر: 22) إنما
معناها: وجاء أمر ربك (ص 173 ج3) , وقال البيهقي: وأما الاقتراب والإتيان
المذكوران في الخبر , فإنما يعني بهما إخبارًا عن سرعة الإجابة , والمغفرة كما
رويناه عن قتادة (ص 212) , وقال الشهيد الدهلوي في العبقات (عبقة 24) : من
التجليات المثالية الشهودية تجلي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا , وهو ظهور
للتجلي.. إلخ (ذكر الإشارة في التجليات ص 88) .
(3) وقال الإمام أبو محمد بن حزم في القول في المكان والاستواء (قال
أبو محمد) : ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان , واحتجوا
بقول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) ,
وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) , وقوله تعالى:
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) - قال أبو محمد -:
وقد تأول المسلمون في هذه الآية آية الاستواء أربعًا , (والقول الرابع) في معني
الاستواء هو أن معنى قوله تعالى: {عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) أنه فعل
فعله في العرش , وهو انتهاء خلقه إليه , فليس بعد العرش شيء , ويبين ذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنات , وقال: (فاسألوا الله الفردوس الأعلى ,
فإنه وسط الجنة , وفوق ذلك عرش الرحمن) , فصح أنه ليس وراء العرش خلق ,
وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء , ولا ملاء , ومن أنكر أن يكون
للعالم نهاية من المساحة , والزمان , والمكان؛ فقد لحق بقول الدهرية , وفارق
الإسلام. والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء , قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) أي: إن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن
رتب الأرض على ما هي عليه , وبالله التوفيق , وهذا هو الحق , وبه نقول؛
لصحة البرهان به , وبطلان ما عداه (125ج2) .
وقد أطنب , وأطال الحافظ المحدث أبو بكر البيهقي في مسألة الاستواء ,
وسرد أقوال السلف , ثم قال: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة , وعلى هذه
الطريقة يعمل مذهب الشافعي رضي الله عنه , وإليها ذهب أحمد بن حنبل ,
والحسين بن الفضل البجلي , ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي , وذهب أبو
الحسن على بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلاً
سماه استواءً كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقًا , أو نعمة , أو غيرها من أفعاله , ثم
لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل؛ لقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) , وثم للتراخي , والتراخي إنما يكون في الأفعال , وأفعال الله
تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها , ولا حركة (ص292 كتاب الأسماء) , ثم قال
الإمام البيهقي بعد ذلك بأسطر ما نصه: وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي
أيوب: إن كثيرًا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر , والغلبة ,
ومعناه أن الرحمن غلب العرش , وقهره , وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته ,
وأنها لم تقهره , وإنما خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المملوكات , فنبه بالأعلى
على الأدنى , قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة كما يقال: استوى
فلان على الناحية إذا غلب أهلها , وقال الشاعر في بشر بن مروان:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
يريد أنه غلب أهله من غير محاربة , قال: وليس ذلك في الآية بمعنى
الاستيلاء؛ لأن الاستيلاء غلبة مع توقع ضعف. قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز
وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) , والاستواء إلى
السماء هو القصد إلى خلق السماء , فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء استواءً؛
جاز أن تكون القدرة على العرش استواء (ص293 كتاب الأسماء والصفات) .
وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الحراني رحمه الله في المنهاج ما نصه:
ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل , ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل
ذلك عن إسحاق بن راهويه , وحماد بن زيد , وغيرهما , ونقلوه عن أحمد بن
حنبل في رسالته [4] إلى أبي مدر , وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء ,
وأنه لا يُعْلَمُ كيف ينزل , ولا تمثل صفاته بصفات خلقه، وقد تنازعوا في النزول:
هل هو فعل منفصل عن الرب في المخلوق أو فعل يقوم به؟ على قولين معروفين
لأهل السنة من أصحاب مالك , والشافعي , وأبي حنيفة , وغيرهم من أهل الحديث ,
والتصوف، وكذلك تنازعهم في الاستواء على العرش هل هو بفعل منفصل عنه
يفعله بالعرش كتقريبه إليه , أو فعل يقوم بذاته على قولين , (والأول) قول ابن
كلاب الأشعري , والقاضي أبي يعلى , وأبي الحسن التميمي , وأهل بيته , وأبي
سليمان الخطابي , وأبي بكر البيهقي , وابن الزاغوني , وابن عقيل , وغيرهم ممن
يقول: إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته , (والثاني) قول أئمة أهل
الحديث , وجمهورهم كابن المبارك , وحماد بن زيد , والأوزاعي , والبخاري ,
وحرب الكرماني , وابن خزيمة , ويحيى , وأبي عمار السجستاني , وعثمان بن سعيد
الدارمي , وابن حامد , وأبي بكر عبد العزيز , وأبي عبد الله بن منده , وأبي إسماعيل
الأنصاري , وغيرهم (ص 262 ج2) .
(تنبيه) لعلك تفطنت مما نقلنا أن منشأ الاختلاف في مسألة الاستواء أن
الاستواء على العرش هل هو من جنس صفة الذات , أو من صفة الفعل.
فالمفوضون حسبوه من صفة الذات , فوكلوا الكيفية إلى علم الله مثل قولهم في
سائر صفات الذات، والذين أولوا , وعينوا المراد به جعلوه من صفة الفعل ,
وحجتهم أن العرش عند الفريقين مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن , فالاستواء
عليه لا يكون من صفات الذات، وهذا لا يحتاج إلى البيان , وأن الله ذكر الاستواء
بحرف (ثم) , وهي للتراخي , والتراخي إنما يكون في الأفعال , فالاستواء من
صفات الفعل.
وهذا الطريق قد جعله شيخ الإسلام طريق بعض أئمة أهل السنة كما ترى
في عبارته , وإن كان مختاره طريق التفويض , فكيف تظن بالذين جعلوه من صفة
الفعل , فأولوه أنهم أهل البدع؟ والحال أن منهم الإمام أبا سليمان الخطابي , والإمام
أبا بكر البيهقي , وهما محدثان كبيران , وإمامان جليلان لا يسأل عن مثلهما , ولا
ينكر سعة علمهما , ولا صحة فهمهما , وسلامة عقيدتهما , ورعايتهما للسنة ,
واجتنابهما عن البدعة.
وكفاك في جواز مسلك التأويل الصحيح أن علماء أهل السنة قد اجتمعوا , أو
كادوا أن يجتمعوا على أن المراد من المعية في آيات المعية إنما هو العلم , والقدرة ,
والعون والنصرة , قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ثم قال تعالى مخبرًا عن
إحاطة علمه بخلقه , واطلاعه عليهم , وسماعه كلامهم , ورؤيته مكانهم حيث كانوا ,
وأين كانوا , فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ
وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: 7) أي: مطلع عليهم يسمع كلامهم
وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك يكتبون ما يتناجون به مع علم الله به ,
وسمعه له، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
عَلاَّمُ الغُيُوبِ} (التوبة: 78) , وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف: 80) , ولهذا حكى غير واحد
الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى , ولا شك في إرادة ذلك، ولكن
سمعه أيضًا مع علمه بهم , وبصره نافذ فيهم , فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه
لا يغيب عنه من أمورهم شيء (مجلد 9 صفحة 412) , وقال الإمام البغوي في
تفسير الآية: {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) بالعلم , وقال في سورة الواقعة:
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) بالعلم , والقدرة , والرؤية. وقال
في سورة ق: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} (ق: 16) أعلم به. والبغوي , وابن كثير
محدثان معظمان من أصحاب العلم والفهم، وأنت خبير بأن التأويل لو كان فاسدًا
مطلقًا ما أول أئمة السنة آيات المعية بالعلم , والقدرة , والإحاطة، والجزئي لا بد أن
يكون مندرجًا تحت كلي يشمله وغيره ذهنًا أو خارجًا مفهومًا , أو عينًا كيفما كان.
وقال حامل لواء التوحيد في الهند الشهيد الدهلوي: نعم له نحوٌ آخر من
القرب , وهو القرب بالتجليات , فيوصف بحسب ذلك بأنه على العرش , وبأنه
يحول بين المرء ونفسه , وبأنه بين المصلي وقبلته (عبقات صفحة 36 عقبة 25) .
فلاح لك واتضح مثل ضحوة النهار مما نقلنا أن التأويل الصحيح مسلك
سلكها أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , والتابعين لهم بإحسان ,
ومن بعهدهم , فهل يجترئ أحد أن يكفر أو يبدع مثل هؤلاء الأعلام؟ فوالله الذي تقوم
السماء بإذنه لا، فلا يكفر أو يبدع أحد بمجرد التأويل، والمتكلمون اختاروا مسلك
التأويل؛ لصيانة الدين من الطعن , لا لفساد العقيدة كما توهم.
قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله: الأصل الثامن: العلم بأنه
تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله بالاستواء , وليس ذلك إلا بالقهر ,
والغلبة كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
(إحياء العلوم جلد أول ص 79 هندي) , وقال الشيخ ابن الهمام: أما كون
المراد به؛ أي: استوائه اسيتلاءه على العرش كما جرى عليه بعض الخلف , وقد
اقتصر حجة الإسلام (الغزالي) في هذا الأصل , فأمر جائز الإرادة (المسامرة
صفحة 32) , قال المفسر البيضاوي: استوى أمره , أو استولى (سورة أعراف) ,
قال الشيخ عمر النسفي صاحب التفسير (المدارك) : استوى استولى (أعراف) ,
قال سليمان الجمل: طريقة الخلف التأويل , فيؤولون الاستواء بالاستيلاء؛ أي:
التمكن. والتصرف بطريق الاختيار. حاشية على الجلالين (سورة أعراف) , وقال
الإمام الرازي: قال القفال: العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك,
ثم جعل ثل العرش كناية عن نقص الملك , يقال: ثل عرشه؛ أي: انتقض ملكه ,
وإذا استقام ملكه , واطرد أمره , ونفذ حكمه؛ قالوا: استوى عرشه , واستوى
على سريره. هذا ما قاله القفال , والذي قال القفال حق , وصواب (تفسير الرازي
منقول في الخازن - الأعراف) , وقال صاب السراج المنير: استواء يليق به
تعالى لم تعهدوا مثله , وهو أنه تعالى أخذ في تدبير ما حوله بنفسه لا شريك له ,
ولا نائب فيه , ولا وزير (الم سجدة) , وقال العارف الشعراني بعد ذكر آيات
الاستواء: المعنى في هذه الآيات كلها: ثم استوى الخلق على العرش؛ أي: استتم
خلقه بالعرش , فما خلق بعد العرش شيئًا (اليواقيت والجواهر جلد أول صفحة
92) .
فالقول الفصل أن الرجل المسئول عنه مؤمن من أهل السنة لا يصير بمجرد
التأويل من أهل الكفر , ولا من أهل البدعة , فمن كفره , أو بدعه , فقد أخطأ، عفا
الله عنا وعنه وعن سائر المسلمين , ووفقنا لنصح المؤمنين , والله ولي الهداية ,
ومنه البداية , وإليه النهاية , وصلى الله على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ,
وآله وأصحابه أجمعين غدوة وعشية.
... ... ... ... ... ... شهر رجب سنة 1345 هـ
... ... ... ... ... ... ... ... المجيب
... ... ... أنا العبد الأثيم محمد إبراهيم مير السيالكوتي الهندي
حضرة الأستاذ السلام عليكم، المرجو من حضرتكم تصحيح هذه الفتوى منكم ,
ومن أصحابكم بالعجلة. وإن الله يحب المحسنين.
عنوان الإرسال: - عطاء الله رضاء الله من بلدة أمرت سر (هند)
... ... ... ... ... ... ... ... كثره بهائي سنت سنكه
***
تعليق المنار على هذه الفتوى
الحق أن من فسر آيات الاستواء , وغيرها من آيات الصفات على طريقة
المتكلمين لا يعد من أهل الكفر، وأما كونه يعد من أهل السنة أو لا , ففيه نظر ,
فمن يقول: إن أهل السنة هم الذين يستمسكون بظواهر نصوص الكتاب والسنة في
مسائل العقائد , ويتبعون السلف الصالح من علماء الصحابة والتابعين وأئمة
الأمصار في الحديث والفقه كالفقهاء الأربعة المتبعين أبي حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد بن حنبل وأقرانهم كالأوزاعي والثوري والبخاري ومسلم.. إلخ في الإمساك
عن الخوض في صفات الله تعالى بالرأي , والتأويل المخرج للنصوص عن
المتبادر من معانيها اللغوية حقيقتها ومجازها - من يقول:
إن هؤلاء هم أهل السنة - لا يعدون من يتأول جميع آيات الصفات على
طريقة المتكلمين من أهل السنة، وأما من يتأول بعضها دون بعض كآيات الاستواء
على العرش وحدها دون ما هو في معناها من الآيات , والأحاديث الصحيحة في علو
الله على خلقه , وغير ذلك - فلا يأبى أن يعده من أهل السنة إذا كان يتبع
جمهور السلف في سائر صفات الله تعالى , أو أكثرها , ولا سيما صفات الذات، وهو
الذي يوافق ما نقله أخونا الأستاذ محمد إبراهيم مير السيالكوتي الهندي , من تأويل
بعض علماء السلف لبعض الصفات دون أكثرها، على أن بعض تلك التأويلات التي
كثر القائلون بها من الخلف الناصرين للسنة المحاربين للبدع ظاهرة البطلان،
كتأويلهم للرحمة الإلهية بما اتخذوا منه قاعدة لتأويل أمثالها , وهو قولهم: إن
الصفات التي تدل على انفعالات في المبدأ , وأفعال في الغاية تفسر بغايتها لا
بمبدئها كتفسير الرحمة بالإحسان، فهذا تحكم في صفات الله تعالى.
وبعض ما ذكره من النقول لا قيمة له , ولا لقائليه.
وسبب هذا التحكم الملجئ لهم إلى التأويل هو أنهم أرادوا التفصي من تشبيه
الله تعالى بخلقه، وظنوا أنه يلزمهم هذا في مثل صفات الرحمة والغضب والمحبة
والبغض؛ ففسروها بحسب غاياتها , فصارت معانيها معطلة أو متداخلة , فالرأفة
والرحمة والمحبة والرضا والفرح , وما في معناها لا مدلول لها عندهم إلا الإحسان ,
والإثابة مثلاً - كما ظنوا أنه لا يلزمهم في صفات العلم والقدرة والإرادة والحق أن
معاني هذه في أصل اللغة محدث تجل عنه صفات الله تعلى , فإن لم تكن انفعالات
فينا , فهي على مقربة منها، بل العلم البشري إنما يحصل بانطباع صور المعلومات
في ذهن الإنسان , فهو نوع من الانفعال.
وإنما الطريقة المثلى في الجمع بين العقل والنقل في الصفات أن يقال: إنه
قد ثبت بهما أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وثبت عقلاً أن خالق العالم لا بد أن
يكون متصفًا بصفات الكمال، وثبت نقلاً عن الوحي الذي جاء به الرسل وصفه
تعالى بالعلم , والقدرة , والرحمة , والمحبة , والعلو فوق الخلق كله , والاستواء
على العرش , وتدبير أمر العالم كله - فنحن نتخذ قوله تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) قاعدة , ومرآة لفهم جميع ما وصف به
تعالى نفسه , وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم , وهو أنه ليس كمثله شيء ,
وأنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، وبصير ببصر ليس كبصرهم، وعليم
بعلم ليس كعلمهم، ورحيم برحمة ليست كرحمتهم، ويحب بمحبة ليست كمحبتهم،
ومستو على عرشه استواءً ليس كاستواء ملوكهم على عروشهم، ويدبر أمورهم
تدبيرًا ليس كتدبير ملوكهم , ورؤسائهم , ودهمائهم لما يدبرونه إلخ.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة الذي كان عليه أهل الصدر الأول , وهو لا
ينافي كون بعض النصوص في الصفات , ولا سيما صفات الأفعال ورد بطريق
المجاز كتأويل الإمام أحمد لآيات المعية، فمن قال بذلك في بعضها مع التزامه هذه
القاعدة في جملتها لأنه رأى أسلوب اللغة يقتضي ذلك؛ لم يكن به خارجًا عن مذهب
السنة , وهدي السلف، وإن أخطأ في ذلك , فهو مغفور له إن شاء الله تعالى.
وكيف يكون من يلتزم طريقة المتكلمين في تأويل جميع الصفات كما هو
ظاهر عبارة السؤال (آية الاستواء وغيرها) من أهل السنة , والكلام في جملته
بدعة , وقد قال أبو حامد الغزالي من أكبر نظار المتكلمين: إنه ليس من الدين ,
وإنما اضطر إليه؛ لرد شبهات الفلاسفة , والمبتدعة؛ لحماية العقيدة , فهو كحرس
الحاج عند وجود قطاع الطريق ليس من أركان الحج , ولا من واجباته , بل تلجئ
إليه الضرورة من الخارج؛ ولكن المتوغلين في علم الكلام كانوا وما زالوا يفتنون
بها؛ ولكن فحولهم رجعوا في أواخر أعمارهم إلى طريقة السلف , وهي السنة
الصحيحة كما ثبت عن أبي الحسن الأشعري , وأبي المعالي إمام الحرمين وأبي
حامد الغزالي والفخر الرازي وغيرهم رحمهم الله تعالى.
وهنالك اصطلاح آخر , وهو أن أهل السنة فريقان: سلف وخلف، فالسلف من
يتبعون في آيات الصفات التفويض، والخلف من يتبعون التأويل، ولكن مع حصر
الخلف الداخل في مذهب أهل السنة في بعض المتكلمين وهم الأشاعرة والماتريدية
دون المعتزلة والخوارج والشيعة.
فعلى هذا الاصطلاح قد يعد المسؤول عنه من أهل السنة إذا كان يستثني من
التأويل صفات المعاني التي لا يتأولها هؤلاء مثلاً - وهو الذي جرى عليه المفتي
السيالكوتي , ولا مشاحة في الاصطلاح.
__________
(1) المنار: يعني معنى كلمة الظاهر في مصطلح أصول الفقه.
(2) يعني 28 من أجزاء الطبعة الهندية لفتح الباري.
(3) يعني كتاب حجة الله البالغة للشيخ ولي الله الدهلوي وهو الذي يلقبه بحكيم الأمة بحق.
(4) قال مصحح النسخة المصرية: قوله: أبي مدر كذا في الأصل وليحرر 12 منه.(28/241)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع لما قبله)
(والطريقة الثانية) أن يقولوا: هذا قول ابن عمر , وابن عباس , ولا
مخالف لهما من الصحابة؛ فصار إجماعًا.
وهذا باطل , فإنه نقل عنهما هذا وغيره , وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة
ما يخالف ذلك، وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد , وهي أن هذا
التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في مختصر
المختصر , عن ابن عباس , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أهل مكة
لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) , وهذا ما يعلم أهل المعرفة
بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن هو من كلام ابن عباس،
أَفَتَرَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنَّما حدَّ مسافةَ القصر لأهل مكة دون أهل
المدينة التي هي دار السنة , والهجرة , والنصرة , ودون سائر المسلمين؟ وكيف
يقول هذا , وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى؟ !
ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر لا بمسافة , لا بريد , ولا غير بريد ,
ولا حدها بزمان.
ومالك قد نقل عنه أربعة بُرُدٍ كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه.
قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها؛ فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة؛
للثقل , قال: (وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي) , وقد ذكر عنه: (لا قصر
إلا في خمسة وأربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروي عنه: (لا قصر إلا في اثنين
وأربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروي عنه: (لا قصر إلا في أربعين ميلاً , فصاعدًا) ,
وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس: (لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً
قصدًا) .
ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط، ورأى
لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى , فما فوقها , وهي
أربعة أميال , وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء
وغيرهم , فتأول؛ فأفطر في رمضان: (لا شيء عليه إلا القضاء فقط) ، وروي
عن الشافعي أنه: (لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي) .
والآثار عن ابن عمر أنواع، فروى محمد بن المثنى , حدثنا عبد الرحمن بن
مهدي , حدثنا سفيان الثوري , سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول:
لو خرجت ميلاً؛ لقصرت الصلاة.
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا مسعر، عن محارب بن زياد،
سمعت ابن عمر يقول: (إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ؛ يعني الصلاة.
محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة , ومسعر أحد الأئمة.
وروى ابن أبي شيبة , حدثنا علي بن مسهر , عن أبي إسحاق الشيباني ,
عن محمد بن زيد بن خليدة , عن ابن عمر قال: (تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة
أميال) .
قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي , وَلاَّهُ محمد بن أبي طالب القضاء
بالكوفة مشهور من كبار التابعين.
وروى مالك , عن نافع , عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب , قال:
وكنت أسافر مع ابن عمر البريد , فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من
المدينة على ثمانية عشر ميلاً , فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ , وأنه
كان يسافر بريدًا - وهو أربعة فراسخ - فلا يقصر , وكذلك روي عنه ما ذكره
غندر , حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن
الخطاب قال: (خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب , وهي
من المدينة على ثمانية عشر ميلاً , فلما أتاها؛ قصر الصلاة) , وروى معمر ,
عن أيوب , عن نافع , عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد.
وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا , وفي ما هو أقل منه ,
وروى وكيع , عن سعيد بن عبيد الطائي , عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال:
سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة , قال: (حاج أو معتمر أو غاز؟) فقلت:
لا , ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد، فقال: (تعرف السويداء؟) فقلت:
سمعت بها , ولم أرها. قال: (فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع، إذا خرجنا إليها؛
قصرنا) قال ابن حزم: من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلاً أربعة
وعشرون فرسخًا.
(قلت) : فهذا مع ما تقدم؛ يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديدًا؛ لكن بين
بهذا جواز القصر في مثل هذا؛ لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في
السواد؛ فأجابه ابن عمر بجواز القصر.
وأما ما روي [1] من طريق ابن جريج، أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما
يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر , وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه،
وكذلك ما وراه حماد بن سلمة , عن أيوب بن حميد كلاهما , عن نافع , عن ابن
عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر , وهي بقدر الأهواز من البصرة
لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم: بين المدينة وخيبر كما بين البصرة
والأهواز , وهي مائة ميل غير أربعة أميال , قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن
عمر , ثم على نافع أيضًا , عن ابن عمر.
(قلت) : هذا النفي , وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعًا ليس هذا
حكاية عن قوله حتى يقال: إنه اختلف اجتهاده , بل نفي لقصره فيما دون ذلك ,
وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع , وغيره أنه قصر فيما دون ذلك ,
فهذا قد يكون غلطًا , فمن روى عن أيوب - إن قدر أن نافعًا روى هذا - فيكون
حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك , فإنه قد ثبت عن نافع
عنه أنه قصر فيما دون ذلك.
وروى حماد بن زيد , حدثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك
إلى أرضه , وهي على رأس خمسة فراسخ , فصلى بنا العصر في سفينة , وهي
تجري بنا في دجلة قاعدًا على بساط ركعتين , ثم سلم , ثم صلى بنا ركعتين , ثم
سلم.
وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة , ولم يكن سفره إلى غيرها حتى
يقال: كانت من طريقه , فقصر في خمسة فراسخ , وهي بريد وربع , وفي صحيح
مسلم: حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؛ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال , أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك -؛ صلى
ركعتين. ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؛ لأن السائل سأله عن
قصر الصلاة , وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها ,
ثم إنه لم يقل أحد: إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال , أو أكثر من
ذلك , فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك , ولم يقل ذلك أحد؛ فدل على أن
أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة؛ قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه
وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر ,
أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر؟ فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره ,
فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر , فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه
يقصر إليه إذا كان هو السفر , يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر , فلولا أن قطع
هذه المسافة سفر؛ لما قصر.
وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا لا يكتفي
مجرد قصده المسافة التي هي سفر , وهذا قول ابن حزم , وداود , وأصحابه،
وابن حزم يحد مسافة القصر بميل. لكن دواد , وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في
حج , أو عمرة , أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم
عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة , وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر
بخلاف القصر؛ لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع , وإنما فيه فعله
أنه قصر في السفر , ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً
عن ابن عمر.
وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة؛ لكن قد علم أن النبي
صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط،
والناس معه، فلم يقصروا، ولم يفطروا، فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، ولم
يحدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً؛ لقصرت
الصلاة، فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلا منها يسمى سفرًا؛
جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر؛
فلا يقصر فيه , ولا يفطر، وإذا بلغ الميل، فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة،
ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع، فكان على أقل من ميل؛
فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.
(قلت) : جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة قالوا: وأقل ما سمعنا أنه
يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف، أما
الشارع فلم يحده، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما
يسمى سفرًا وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة
باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون
من حدود القرية المختصة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من
ميل من محله في الحجاز , ولا يقصر، ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع
الذي يشمله اسم مدينة ميلاً؛ قيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر،
والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم،
وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا
يقصرون كخروجهم إلى قباء , والعوالي , وأحد , ودخولهم للجمعة وغيرها من
هذه الأماكن.
وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل , فإن حرم المدينة بريد
في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا،
وهذا يومًا، وقول ابن عمر: (لو خرجت ميلاً؛ قصرت الصلاة) هو كقوله:
(إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ، وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من
المسافة التي يقصدها، فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة،
وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهاراً؛ لم يقصر إلى الليل.
وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر
بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وقد يحمل حديث أنس على هذا،
لكن فعله يدل على المعنى الأول، أو يكون مراد ابن عمر: من سافر؛ قصر هذه
المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن
هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من
الميل بعشرة أذرع، فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا
لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما
يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا
بأميال، ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به،
فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من
يذهب، ويرجع من يومه؛ فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد
والمزاد، بخلاف الثاني، فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة
البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا، فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله.
والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه، فاحتاج إلى ما يحتاج
إليه المسافر من الزاد والمزاد؛ سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر
العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة،
فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان؛ فيعتبر العمل
الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس
بعاداتهم ليس له حد في الشرع، ولا اللغة، بل ما سموه سفرًا؛ فهو سفر.
***
فصل
وأما الإقامة، فهي خلاف السفر، فالناس رجلان: مقيم، ومسافر، ولهذا
كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم، وإما حكم
مسافر، وقد قال تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (النحل: 80) , فجعل
للناس يوم ظعن ويوم إقامة، والله تعالى أوجب الصوم، وقال: {فَمَن كَانَ مِنكُم
مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) ، فمن ليس مريضًا،
ولا على سفر؛ فهو الصحيح المقيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن
الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، فمن لم يوضع عنه الصوم،
وشطر الصلاة؛ فهو المقيم.
وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته بمكة أربعة أيام، ثم ستة أيام
بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه، فدل على أنهم كانوا مسافرين
وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يومًا
يقصر الصلاة، ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة، وتبوك لم يكن ينقضي في
ثلاثة أيام، ولا أربعة حتى يقال: إنه كان يقول: اليوم أسافر، غدًا أسافر؛ بل
فتح مكة، وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها، وبفتحها
ذلت الأعداء وأسلمت العرب وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم، ومثل
هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها
لا تنقضي في أربعة، وكذلك في تبوك.
وأيضًا فمن جعل للمقام حدًّا من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة وإما عشرة وإما
اثني عشر وإما خمسة عشر؛ فإنه قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع، وهي
تقديرات متقابلة، فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر،
وإلى مقيم مستوطن، وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به
الجمعة، وتجب عليه، وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع، فإنه المقيم المقابل
للمسافر، (والثالث) مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام،
وأوجبوا عليه الجمعة، وقالوا: لا تنعقد به الجمعة، وقالوا: إنما تنعقد الجمعة
بمستوطن.
وهذا التقسيم - وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن، وغير مستوطن - تقسيم لا
دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنها تجب على من لا تنعقد به، بل من
وجبت عليه؛ انعقدت به، وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيمًا يجب عليه الإتمام والصيام،
ووجدوه غير مستوطن، فلم يمكن أن يقولوا: تنعقد به الجمعة، فإن الجمعة إنما تنعقد
بالمستوطن، لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي
يقال: إنه لا دليل عليه، بل هو مخالف للشرع، فإن هذه حال النبي صلى الله عليه
وسلم بمكة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، وحاله بتبوك، بل وهذه حال جميع
الحجيج الذين يقدمون مكة؛ ليقضوا مناسكهم، ثم يرجعوا، وقد يقدم الرجل بمكة رابع
ذي الحجة، وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام، وقد يقدم بعد ذلك، وهم كلهم مسافرون لا
تجب عليهم جمعة، ولا إتمام، والنبي صلى الله عليه وسلم قدم صبح رابعة من ذي
الحجة، وكان يصلي ركعتين، لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم،
ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك، ولو كان هذا حدًّا
فاصلاً بين المقيم، والمسافر؛ لبينه للمسلمين كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ
قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} (التوبة: 115) , والتمييز بين المقيم،
والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع، ولا لغة، ولا
عرف، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه
ثلاثًا، والقصر في هذا جائز عند الجماعة، وقد سماه إقامة، ورخص للمهاجر أن
يقيمها، فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن له ذلك،
وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم، بل المهاجر ممنوع
أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك.
إن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس، قال صلى الله عليه
وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا
على زوج) ، وقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، وجعل ما تحرم
المرأة بعده من الطلاق ثلاثًا، فإذا طلقها ثلاث مرات؛ حرمت عليه حتى تنكح
زوجًا غيره؛ لأن الطلاق في الأصل مكروه، فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه
الحاجة، وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة، ثم المهاجر لو قدم مكة قبل
الموسم بشهر؛ أقام إلى الموسم، فإن كان لم يبح له إلا فيما يكون سفرًا كانت إقامته
إلى الموسم سفرًا، فتقصر فيه الصلاة، وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم،
وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذي الحجة، فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاث؛
كان لهم ذلك، ولو أقاموا أكثر من ثلاث؛ لم يجز لهم ذلك، وجاز لغيرهم أن يقيم
أكثر من ذلك، وقد أقام المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح قريبًا
من عشرين يومًا بمكة، ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر، ولا
كانوا ممنوعين؛ لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام الجهاد، وخرجوا منها إلى غزوة
حنين , وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك، فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث.
فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر، ولا بتحديد السفر، والذين حدوا ذلك
بأربعة؛ منهم من احتج بإقامة المهاجر، وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب،
ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم المصر أن يكون مقيمًا يتم
الصلاة، لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، فإنه أقامها،
وقصر، وقالوا في غزوة الفتح، وتبوك: إنه لم يكن عزم على إقامة مدة؛ لأنه
كان يريد عام الفتح غزو حنين، وهذا الدليل مبني على أنه من قدم المصر، فقد
خرج عن حد السفر، وهو ممنوع، بل هو مخالف للنص، والإجماع، والعرف،
فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة، أو يبيعها، ويذهب هو مسافر عند الناس،
وقد يشتري السلعة، ويبيعها في عدة أيام، ولا يحد الناس في ذلك حدًّا.
والذين قالوا: يقصر إلى خمسة عشر، قالوا: هذا غاية ما قيل، وما زاد
على ذلك، فهو مقيم بالإجماع، وليس الأمر كما قالوه، وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد
على الأربعة احتياطًا، واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم،
أو يقصر؟ لتردد الاجتهاد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرابع، فإن
كان صلى الفجر بمبيته، وهو ذو طوى , فإنما صلى بمكة عشرين صلاة، وإن
كان صلى الصبح بمكة، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة، والصحيح أنه إنما
صلى الصبح يومئذ بذي طوى، ودخل مكة ضحى، كذلك جاء مصرحًا به في
أحاديث، قال أحمد في رواية الأثرم: إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك؛ أتم،
واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة قال: فأقام اليوم الرابع،
والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، وكان يقصر
الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي
صلى الله عليه وسلم؛ قصر، فإذا أجمع على أكثر من ذلك؛ أتم، قال الأثرم:
قلت له: فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك؟ قال: لأنهم اختلفوا؛ فيؤخذ بالأحوط؛
فيتم , قال: قيل لأبي عبد الله: يقول: أخرج اليوم أخرج غداً ليقصر؟ فقال:
هذا شيء آخر، هذا لم يعزم.
فأحمد لم يذكر دليلاً على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط، وهذا لا يقتضي
الوجوب، وأيضًا، فإنه معارض بقول من يوجب القصر، ويجعله عزيمة في
الزيادة، وقد روى الأثرم , حدثنا الفضل بن دكين , حدثنا مسعر , عن حبيب بن
أبي ثابت , عن عبد الرحمن بن المسور قال: أقمنا مع سعد بعمّان - أو بعُمان -
شهرين , فكان يصلي ركعتين , ونصلي أربعًا , فذكرنا ذلك له , فقال: (نحن أعلم) ،
قال الأثرم: حدثنا سليمان أن ابن حرب حدثنا , عن أيوب , عن نافع أن ابن عمر
أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول , قال
بعضهم: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام , فقد أجمع
إقامة أكثر من أربع , قال الأثرم: حدثنا مسلم بن إبراهيم , حدثنا هشام، حدثنا
يحيى , عن حفص بن عبيد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة.
قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين , حدثنا هشام , حدثنا ابن شهاب , عن
سالم قال: كان ابن عمر إذا أقام بمكة؛ قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن
أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة , وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى
إنه كان أحيانًا يحرم بالحج من هلال ذي الحجة , وهو كان من المهاجرين , فما كان
يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث , ولهذا أوصى لما مات أن يدفن
بسرف؛ لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها، وقال الأثرم:
حدثنا سليمان بن حرب , حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن نافع قال: ما كان
ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام، ولهذا أقام مرة ثنتي عشر
يصلي ركعتين، وهو يريد الخروج , وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين
مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم، وكان ابن عمر كثير الحج، وكان كثيرًا ما يأتي
مكة قبل الموسم بمدة طويلة، قال الأثرم: حدثنا ابن الطباع , حدثنا القاسم بن
موسى الفقير , عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان , عن أبيه , عن مكحول , عن
ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري , وأبا صرمة الأنصاري , وعقبة بن عامر
شتوا بأرض الروم؛ فصاموا رمضان , وقاموه , وأتموا الصلاة، قال الأثرم:
حدثنا قبيصة , حدثنا سفيان , عن منصور , عن أبي وائل قال: خرج مسروق إلى
السلسلة؛ فقصر الصلاة , فأقام سنين يقصر حتى رجع , وهو يقصر , قيل: يا أبا
عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: (اتباع السنة) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) ينظر أين جواب أما؟ .(28/272)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى
(4)
نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم
أقل الشيء الذي لم يطيقوه , وعجزوا عن معاناته عجزًا تامًّا , فهو ما في
الإسلام من محاربة الاستبداد , والاحتكار , والغش , والقمار , والربا , والبغاء ,
والخمر أمهات الرذائل , والجرائم الاجتماعية التي أَنَّتْ منها الإنسانيةُ.
فهم يريدون الانحلال من هذه التكاليف؛ للمسارعة خفافًا وثقالاً إلى الانهماك
في الآثام والشرور، وملازمة الحانات , والمواخير، وليعيشوا عيشة البهائم والكلاب
يسكرون , ويتسافدون على قارعة الطريق، ويرابون , ويقامرون جهارًا كما يقامر
الماليون ويرابون في البنوك والبورصة يحتكرون الأرزاق والأقوات , ويستبدون بها
وبأسعارها إلى ما لا يحصى من الموبقات والمحاكم الإباحية تؤيدهم بحرابها
وجنودها.
وثانيهما أن يكونوا جاهلين حقيقة الإسلام , ومزاياه إلا ما يعرفونه مما كتبه
عنه الاستعماريون المعطلون , والرهبان المتنطعون الحاقدون , فإذا كانوا كذلك ,
وهو ما تدل عليه كتاباتهم المشوشة , وخطبهم المعقدة , فينبغي تعليمهم من جديد إن
كانوا حسني النية , وإرشادهم إلى الكتب النافعة , وجدالهم بالتي هي أحسن حتى
يرجعوا إلى طريق الهدى , فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
لذلك استنسبنا أن نختم هذه الملاحظات على كتاب حقيقة الإسلام بلاحقة , أو
نداء عام للأزهريين , وسنتابع ملاحظتنا على الكتاب حتى تمامه متى ساعدتنا
الفرصة.
لاحقة
أو نداء عام لعلماء الأزهر والمعاهد الدينية
ليسمح لنا مشايخ الأزهر وقرهم الله , وأبد حرمتهم أن ننبههم لبعض الواجبات
المتعين عليهم القيام بها؛ عملاً بالحديث الذي أخرجه مسلم , عن تميم الداري أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) , قلنا: لمن؟ قال: (لله ,
ولكتابه , ولرسوله , ولأئمة المسلمين , وعامتهم) , فنقترح على ساداتنا الأزهريين
اقتراحين:
(أحدهما) إحداث جمعيات من علماء الأزهر , والمعاهد الدينية في القطر
المصري كله تكون وظائفها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر امتثالاً لقوله تعالى:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) , وذلك بإنشاء جرائد , ومجلات ,
ومنشورات دورية توزعها بأرخص ثمن , والبعض مجانًا , وبإذاعة ذلك على لسان
التلاميذ في المعاهد والمدارس , وبتبليغ التلاميذ لأوليائهم وأقاربهم وجيرانهم
وجلسائهم , وبإلقاء الخطب والمسامرات في المساجد والمدارس والمنتديات
والاحتفالات.
وأول وظائفها: حض الحكومة على إزالة المنكرات , والمحرمات , وإرشاد
مشايخ الطرق لتبديل تعاليمهم لتابعيهم بأن يعلموهم قواعد الإسلام الخمس , ومحاسن
الأخلاق , وأن يحضوهم على التعلم والتعليم , ومزاولة الصنائع النافعة , فذلك خير
من الشطح , والرقص , وتضييع الوقت بتلاوة أوراد ما أنزل الله بها من سلطان
أكثرها لا يفهم , ولا معنى له.
وقد أحسن المصلح الكبير السلطان عبد العزيز بن السعود أعانه الله في سبقه
العالم الإسلامي إلى هذه المنقبة الجليلة , فأصدر أمره بتأسيس جماعات للقيام بالأمر
بالمعروف , والنهي عن المنكر.
(وثانيهما) إحداث جمعيات تشتغل بالسياسة العامة؛ لتظهر للعالم أجمع أن
الإسلام دين ودولة , وذلك بإحضار المعدات اللازمة لذلك من كل وجه , وأهمها:
إصدار الجرائد والمجلات على نفقة الجمعيات يومية وأسبوعية وشهرية ودخول
معترك الحياة السياسية بسلاح متين , وإذا قلنا: السياسة , فمرادنا بها السياسة
الشرعية المنزهة عن التدجيل والتضليل وقلب الحقائق والكذب والبهتان وقول
الإنسان ما يعتقد بطلانه , أو تكذيب , وإبطال ما يعتقده حقًّا , وصوابًا , فهذه السياسة
سياسة الختل , والمراوغة لا يعرفها الإسلام.
وأول ما يتحتم عليهم دخول الحياة النيابية , فإن أعظم وظائف مجلس النواب
هو التشريع , ومراقبة الحكومة , وذلك معنى (الإسلام دين ودولة) , فإذا لم تكن
قوانين المجلس مرتكزة على آراء علماء الدين , فتكون قوانين مبتورة , ومجحفة
معًا.
وإذا تقاعستم يا شموس الأزهر أو جبنتم فإنكم تضيعون نفوسكم ومكانتكم
ووجودكم زيادة عن ضياع الدين الذي أنتم حراسه وحماته.
فلو أنكم كنتم دخلتم المعترك في أيام سعيد , وإسماعيل؛ لكان مرجع التشريع
اليوم كله , أو جله إليكم , ولكنكم فرطتم تفريطًا أضاع عليكم أكبر وظيف كان من
أول واجباتكم , فيجب أن تتداركوا ذلك ما أمكن ما دام رجل الإسلام , وأبو
المصريين سعد باشا معكم , وما دام هو روح مصر , وشمسها المنيرة مساعدًا ,
ومظاهرًا لما يعتقد أنه الواجب.
بقي أن يقال: أين المال اللازم لتأسيس هذه الأعمال؟ فنقول: إن في علماء
مصر أغنياء كثيرين بحمد الله , فيجب أن يتنازلوا عن بعض أموالهم لذلك اقتداء
بكرام الصحابة رضي لله عنهم , فأبو بكر تنازل عن أمواله كلها لمصلحة الإسلام ,
وكان من أغنياء قريش، وعمر تنازل عن أكثر أمواله، وعثمان تنازل عن أموال
كثيرة جدًّا , وجهز جيش العسرة , وكان كل واحد من الصحابة يتنازل عن المال
اختيارًا رغبة لا رهبة؛ فإذا لم يتنازل أغنياء العلماء فيكونون مقصرين , ويسوغ
للوطني الغيور أن يظنهم أو يعدهم جبناء خائنين.
إذا تنازل بعض أغنياء العلماء في مصر , فإن الأمور تسهل جدًّا , فإنكم
ستجدون من بقية العلماء , ومن جمهور المصريين أناسًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه
يناصرون مشروعكم , ويؤيدونكم إن صبرتم , وأحسنتم النية , فإن الله مع الذين
اتقوا , والذين هم محسنون.
أمامكم وأمام أنصاركم ومريديكم عقبات لا تزال إلا بتضحيات، والمشاريع
النافعة العامة لا تقام إلا على تضحيات في أول الأمر وقد قال تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) , لا يهولنكم الأمر فإنه سهل مع الثبات
والصبر , فإن الشاب الكامل مصطفى كامل رحمه الله أسس الحزب الوطني وجرائده
في القطر المصري من شبان أكثرهم ليسوا بأغنياء , ثم دارت الأيام دورتها حتى
صار الحزب الوطني في أيامه وأيام المرحوم محمد فريد بك هو قلب مصر النابض،
وقبض على زمام الرأي العام يأتمر بأمره , وينتهي بنهيه.
لا فائدة في المال إذا لم يثمر مجدًا خالدًا , أو عزًّا أبديًّا , فهذا جمال الدين
الأفغاني , والشيخ محمد عبده قد أنفقا مالهما , وروحهما لإحياء مجد الإسلام , وماتا ,
ولم يخلفا درهمًا , وإنما خلفا من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم ,
والهدى , والإرشاد , ولو توجها للمال لخلفا الملايين.
وهذا أسد الإسلام السيد رشيد رضا صاحب المنار لا يملك دارًا للسكنى التي
يقول الفقهاء فيها: إنها أول ما يشترى , وآخر ما يباع , وقد أنفق ماله , وراحته ,
وحياته أطالها الله في الدفاع عن الإسلام , ونشره , وتأييده , ولو توجه للمال؛ لكان
من أصحاب الأملاك , والأطيان , والأموال الكثيرة.
فالبدار البدار يا علماء الأزهر قبل الفوت , واستعدوا كما أمركم الله بقوله:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) إلخ , {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (الأنعام: 152) .
وأول ما يلزمكم في الحال أن تطهروا أنفسكم من تعاطي ما يخل بالمروءة
مهما كان فيه من وفور المال، فقد أضحكني، وأبكاني ما نشره فكري أباظه في رده
على الشيخ أبو العيون الذي امتثل ما أمره الله به , ورفع لائحة للحكومة يأمرها
بإلغاء البغاء الرسمي.
جاء في آخر الرد تشنيع على العلماء بأن بعضهم يتعامل بالربا , وبعضهم
يأكل أموال المحاجير , واليتامى إلخ , فهؤلاء إذا ثبت عليهم ذلك يجب التشهير بهم
والتشنيع عليهم بخصوصهم ومحاسبتهم بما أكلوه.
ونقول لفكري أباظه: إن ذلك لا يكون لك حجة في إبقاء البغاء , وإذا كان
بعض العلماء يتعاطى بعض المحرمات؛ فإنهم بشر وليسوا بمعصومين , ولأمثالهم
وغيرهم من الحكام الجائرين شرعت الحسبة والمراقبة , وأسست مجالس
الشورى والنواب , فلا يكون تلطخهم بتلك الهنات مسوغًا لإهمال النزيهين للأمر
بالمعروف , والنهي عن المنكر , بل إنهم إذا أخلوا بذلك يكونون آثمين , وتكون
رواتبهم التي يتقاضونها من الأوقاف , ومن الأمة سحتًا.
وعجيب من فكري أباظه كيف ينعي على الشيخ أبي العيون قيامه بواجب
النهي عن منكر البغاء الذي نهت عنه جميع الشرائع , مع أنه يمتدح تؤدة الشعب
الإنكليزي , وتعقله لدى إصدار القوانين التشريعية , ومراعاة حكومته لأميال
المتدينين منهم , فقد عُلِم أنه لما اكتشف تلقيح الجدري سنَّت حكومة الانكليز قانونًا
للعمل به على وجه الإلزام , فقاومها الذين رأوا تحريمه دينًا ولم يسكن الاضطراب
حتى أضيف للقانون مادة خاصة بإعفاء من يعتقدون حرمته من إلزامهم به , ولا يزال
هذا الإعفاء مستمرًّا إلى الآن.
فما يقوله فكري أباظة لو قام أبو العيون أو غيره , وقاوم تلقيح الجدري
الذي كاد الأطباء يتفقون على فائدته العظمى ونفعه العام، إذًا لطبق السموات
والأرضين بالعويل والصريخ هو وزملاؤه ورموا الدين الإسلامي بأعظم المفتريات ,
والمفتي بالبله , والجنون.
ثم نقول لفكري أباظه أخيرًا: يظهر أن جنابكم من جماعة الاحتلاليين؛ لأن
حكومة الاحتلال هي التي سنَّت هذه السنة السيئة المشئومة , فالمؤيد لأعمالها محبذ
للاحتلال وأذنابه , وبالتالي يكون خائنًا لدينه ووطنه.
وفي الختام أرجو بإلحاح من مشايخ الأزهر الكرام أن يسارعوا إلى إعداد
المعدات , ويتداركوا ما فاتهم , وليتشبهوا بالرسل أولي العزم , ويتدبروا قوله
تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:
159) , وليستعينوا بالله , فهو نعم المولى , ونعم النصير. ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور
(المنار)
إنه ليحزننا أن نضطر إلى إخبار أخينا المصلح المراكشي أن علماء الأزهر
أضعف منةً وإرادة من أن يقوموا بمثل ما دعاهم إليه وأن سعد باشا ليس معهم
وليسوا معه , وأن الحزب الوطني لم يكن كما تصور في نفسه فصور بقلمه، وأن
الخديو هو الذي كان يستخدم المرحوم مصطفى كامل بماله ونفوذه , ونخبره أيضًا
بأن فكري بك أباظه ليس احتلاليًّا كما ظن , ولا يتسع هذا التعليق لبيان الحقيقة فيما أنكره عليه. وسيرى في المنار ما يجب على المسلمين لحفظ الإسلام في هذا العهد.
__________(28/285)
الكاتب: مستر كراين
__________
محاضرة مستر كراين
عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن
في جمعية الرابطة الشرقية
(3)
(يهود اليمن)
إن قسمًا يذكر من أهالي صنعاء يهود، وهم يسكنون في حي خاص بهم ,
ويقولون: إنهم لقرنين مضيا كان يؤذن لهم بالسكون فيها حيث أرادوا , ولكن الحاكم
في ذلك الحين أمر بذلك الفصل. وإنهم مع السماح لهم بالطواف أين شاؤوا لقضاء
الأعمال لم يكن يؤذن لهم بركوب غير الحمير من الدواب.
وقد زرت حيَّ اليهودِ هناك مرارًا عديدة وقابلت ربانيهم ومعابدهم فرأيتهم
كسائر مواطنيهم من أهل الفاقة؛ ولكنهم بفضل ما أوتوا من الحذق والقبض على
أزمة الحرف تراهم أرقى شيئًا من إخوانهم مما ينيلهم شيئًا من عطف الحكام مع
ما بينهم وبين المسلمين من بلوى التفرقة المذهبية.
وقد تعسر عليك التفرقة بين اليهودي والمسلم العربي لولا فارق من الشعر
يتحتم عليه اتخاذه شعارًا له.
ثم إن هناك مسألة تاريخية تتعلق باليهود , ولا سيما أول ظهورهم في اليمن ,
قال لي الإمام والشيوخ: إن اليهود كانوا في اليمن منذ فجر التاريخ , ويروى أن
(يارم) يعرب الملك الذي ملك قبل المسيح بألفي سنة فصل العبرية عن العربية ,
على أن الربانيين يقولون: إن اليهود أتوا إلى اليمن من أورشليم سنة 200 قبل
المسيح تقريبًا.
وكنت حيث أذهب في اليمن نحو الجنوب؛ أجد يهودًا حتى في أحقر القرى ,
وأفقرها , وقد كان من بواعث دهشتي أني لقيت في قرية غاية في الفقر مبنية من
القش يهوديًّا مر عليه فيها ثلاث سنين في حالة لا بأس بها يشتغل فيها صائغًا , فلم
يكن ينجلي لي كيف يمكن وجود سوق للصياغة في مثل تلك القرية من بلاد الدنيا؟
ولكني فطنت للأمر لما علمت أن اليمينين مولعون بزينة واحدة تستهوي أفئدتهم ,
وهي الخناجر المنحنية ذات المقابض والأغماد المزينة أو المموهة بصنع الصياغ.
***
(أعمال الإمام العمرانية)
لقد وضح أن هم الإمام الأعظم هو جيشه العزيز , ومع ذلك فهو يقول: إنه
كثير العناية , والاهتمام بأمر التعليم - والحق أن ذلك على قياس ضئيل محدود -
وبإصلاح الطرق أيضًا. فقال لي: إنه أصدر الأوامر لكل حاكم مدينة أن يقوم
بشغل معين كل سنة يتعلق بإصلاح الطرق التي في نطاق حكمه , ويظهر أن بعض
الحكام أتوا شيئًا من هذا الإصلاح مع بناء الجسور (الكباري) , وكنا في طريقنا
إلى عدن نسلك في الأحايين آثارًا من طرق قديمة لا بد أن تكون قد بنيت بحذق ,
وحسن نظر قبل الإسلام بنحو ألفي سنة على ما قيل.
وفي سفرنا نحو الجنوب , وعلى إحدى طرق القوافل المستغرقة في القدم
الآتية من عدن إلى أورشليم كان من بواعث دهشتنا كثرة ما وجدنا من آثار التجارة ,
فكثيرًا ما كنا نمر وسط قافلة صغيرة من الجمال أو الحمير أو البغال وهي تسير
بغاية المشقة بسبب رداءة الطرق , فكان مشيها شديد الإيلام , والتعسر , وهي تتسلق
المسالك العالية الوعرة.
والظاهر أن من أسباب تلك التعسيرات في الطرق هو أن يجعلوها صعبة
السلوك على الأجانب الذين يقصدن تلك الجهات.
***
(من كلامي في وداع الإمام)
في حديثي الأخير مع الإمام قبل الوداع تكلمنا في كثير من الشؤون المتعلقة
ببلاده عسى أن أجد شيئًا أستطيع فيه خدمة ما له، فذكر أنه يوجد في اليمن قدر
وافر من المعادن الثمنية , وأنه يرغب في الحصول على أهل العلم الواسع في
المعدنيات؛ ليقوموا بدرس الموجود فيها.
إنه يعسر جدًّا على هؤلاء الفقراء أن يزيدوا كثيرًا على ما عندهم من أدوات
الزينة , وكل ما يأتونه من الجهود العقلية في هذا السبيل يؤسف له , ويرثى؛ فإن
الجندي هناك شديد الولوع بأن يشكل في وعاء رأسه عذقًا صغيرًا أخضر اللون،
وأما الرجال والنساء، فلرغبتهم في زيادة التجمل؛ كثيرًا ما يلجؤون إلى النيلة , وما
تجديهم إلا قليلاً.
إن حاكم (صعدة) السابق المؤتلف الآن مع الإمام أنبأنا أن في (صعدة) ,
وحولها اعتاد الناس من قرون أن يرقصوا نوعين من الرقص يشترك فيها الرجال ,
والنساء يشبهان نوعين آخرين من رقص أهل الغرب.
يوجد في اليمن جنسان آخران من الشعوب , أو القبائل غير اليهود (أحدهما)
يزعم أنه من سلالة قحطان , أو (يقطن) , وهو من أخلص الأجناس البشرية،
حسن البنية والشكل، وقوي البأس، عادم اللحية، ربعة القوام , عريض الجهة،
يميل جلده إلى اللون النحاسي على اختلاف في المقدار، وآحاد هذه القبيلة يقلون من
الملابس بحكم البيئة حتى إن شيوخهم ومقدميهم الذين يذهبون إلى عدن يضطرون
اضطرارًا إلى زيادة شيء من الملابس المصنوعة لهذا الغرض , وأما الجنس
الثاني , فإنسانه أطول قامة , وعليه مسحة من الجمال , وتراه على الغالب كامل
اللحية كثير الملابس.
ولما كانت درجة الحرارة الجوية واحدة في كل من البقعتين؛ نرى أن مذهب
الفيلسوف هربوت سنبسر تنجلي حقيقته في حال هذا الشعب , (وهو أن الزينة
تسبق الاكتساء) , وأما أصل هذا الجنس الثاني فيقال: إنه من ذرية إسماعيل صلى
الله عليه وسلم، وإنه أتى من الشمال , وإن دمه ودم اليهود مشتركان.
***
(همة اليمني في العمل)
إن اليمني بما يتيسر له من عدة العمل الحاضرة؛ يمكنه زيادة إنتاجه بكده ,
وكدحه في العمل الذي يمتد من شروق الشمس إلى غروبها حالة كون الأميركي بما
له من تفوق العدة , والأدوات تقدر قوته قوة أربعين حصانًا , أو ما يعادل 250 من
قوة اليمني , وتكون نتاج عمله على هذه النسبة.
وإن من اعتاد حياة الغرب ليحار في هذا السؤال وهو: كيف يتأتى لشعب
كأهل اليمن أن يعيشوا في بيئة كبيئته حيث أحوال الحياة تكاد تكون واحدة للإنسان ,
والحيوان؟ وكيف يستطيعون تحمل مشاقها وشظفها؟ لكنا بالرغم من ذلك كله نراهم
عائشين مع قلة وسائل العيشة والراحة ونصب العمل دون أن تبدو منهم أمارات
الشكوى المؤلمة، ولقد انقضى على سكان اليمن القرون وهم في هذه الحالة من بؤس
العيش وخلوهم من مادة البقاء لا يدرون شيئًا من حالة غيرهم في أمور المعيشة ,
ومع ذلك تراهم على الجملة قانعين راضين يحمون أرضهم وحكومتهم التي منها
وعن يدها تنتج لهم هذه الأحوال.
أما بلاد الغرب , فهي مع وجود أسباب الراحة , والهناء حتى لا أقول:
معدات اللذات , والمسرات؛ ترى الناس لا ينقطعون عن التشكي , والتبرم من
أحوالهم , وهم أبدًا على قدم الانفجار , والقيام بإيقاد نيران الثورات كلما أتاحت لهم
الفرصة , وأتاحت لهم الأقدار ذلك.
إن سكان الجبال في جميع الأرض معروفون بحب الاستقلال , وإيثاره على
كل ما سواه من أمور الحياة , مشهورون بقوة البدن , وشدة البأس على نسبة بيئتهم ,
وشظف حياتها , ومما يحسن ذكره ووقعه على الخواطر أني لقيت رجلين يمنيين:
أحدهما يهودي , والآخر مسلم زارا أميركا , وبعد أن أقاما فيها عدة أعوام غلبهما
الحنين إلى تلك الجبال اليمنية التي ولدا فيها ورضعا لبانها وغذيا بهوائها ومائها؛
وإذ جد بهما الوجد واستحكم الهيام؛ عادا أخيرًا إلى تلك الربوع؛ ليقضيا فيها ما
كتب لهما من بقية العمر.
ثم إن اليمنيين لم يكونوا يطيقون حكم الأتراك بحال , ولا بوجه من الوجوه ,
فلم يحولوا عن الاعتقاد بأن إمامهم هو الخليفة الحقيقي , وأن لا خليفة إلا من تحدر
من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم.
على أن هناك من ذراريه قومًا يدعون بالأسياد (على ما تعلمون) .
***
(الطب والعلاج في اليمن)
ليس في اليمن شيء يسمى دواءً وطبًّا حتى أن أحقر عشبة من أعشاب الأرض
التي يتداوى بها أحيانًا غير معروفة , فإذا أصيب أحدهم بألم؛ لم يجد مفرًّا من
تحمله، وإذا غلبته عادية الداء؛ قضى نحبه بحكم الطبع بلا علاج , ولا دواء.
على أن هناك عشبة يغلب استعمالها عندهم هي (القات) , فقد أتي بها من
بلاد الحبشة أيام أتي بشجرة القهوة أيضًا.
وعلى مقربة من ساحل البحر مدينة أشهر , فيها شجرتان غرستا فيها في بادئ
الأمر , وهما شجرة (القات) , وشجرة (القهوة) , وقد تمكنت في اليمني عادة
كعادة الإنكليز , وهي أنهم في نحو الساعة الرابعة من ظهر كل يوم يجلسون
جماعات؛ لتناول (القات) ؛ إذ يعدونه ممضوغًا منبهًا , ويزيدونه بهجة ولذة
بتعاطي أقداح الحديث كما يتعاطى الندامى كؤوس المدام.
ومع ما في هذا النبات من أذى إضعاف الأعصاب , فإن كل يمني حتى
الجندي العادي على أجره الذي لا يستحق الذكر يجتهد في اقتصاد شيء ما في سبيل
تناول (القات) وكأن ذلك يذكرنا بعادة الكوكايين عند أهل الغرب.
***
(عند ولادة الأولاد)
إن طريقة ولادة الأم في اليمن شديدة القسوة , فالأمر الوحيد المساعد لها حينئذٍ
هو الإتيان بمن ترقص على بطن المتألمة البائسة مدة المخاض , ومع كثرة النسل ,
فإن متوسط الوفيات منهم وافر جدًّا , وقد قال لي أحد حكام المدن الكبيرة: إنه قد
فقد 22 صبيًّا وهو عدد يستحق الذكر ويستلفت الأنظار حتى في أسرة عادية
أمريكية , ومع ذلك فقد أبقت له العناية ثمانية أولاد على حالة حسنة من الصحة.
__________(28/289)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
السعي لمنع الحج ومفاسد البدع
إن استيلاء إمام السنة في هذا العصر عبد العزيز السعود على الحجاز ,
وشروعه في تطهير الحرمين الشريفين من بدع الضلالة , وقيامه بتجديد السنة قد
كشف لأهل البصيرة من المسلمين أن ما كان من تساهل القرون الوسطى في مقاومة
أهل البدع؛ قد جر على الإسلام وأهله من الأرزاء , والفساد ما هو شر من تلك
البدع نفسها حتى إن طوائف من المسلمين الجغرافيين صاروا يفضلون بعض تلك
البدع على أركان الإسلام , ويحاولون تعليق أداء فريضة الحج , وهو ركن الإسلام
الجامع لشعوبه على بعض تلك البدع بحيث تترك الفريضة , ويهدم الركن الإسلامي
إذا لم يسمح ملك الحجاز بإقامة تلك البدع.
بدأ هذا الإمام منذ تم له السلطان على الحجاز بإبطال بدع القبور , والمباني
التي افتتن عامة المسلمين بصبغها بصبغة الإسلام التعبدية الذي كان بعمل
سلاطين الأعاجم وأمرائهم؛ فقامت عليه قيامة الشيعة أو أعاجمهم وبعض زعماء
الأهواء السياسية في الهند والخرافيين عبدة القبور وطلاب الحياة من الموتى ,
فمنعت حكومة إيران رعاياها من أداء فريضة الحج وبثت الدعاية في الهند لذلك ,
وتولى الإنفاق على الدعاية غني من أكبر أغنياء الشيعة هو محمد علي راجا محمود
آباد , ونصره في عمله في هذا العام السياسيان الزعيمان شوكت علي ومحمد
علي، ورئيس جمعية خدام الحرمين وبعض أعضائها الخرافيين المأجورين , وقد
بلغ من طغيان هذه الفئة أن طلبت باسم زعيمها من الحكومة الإنكليزية التدخل في أمر
الحجاز بالقوة لإزالة الحكومة السعودية منه , وهم يعلمون أن هذا لا يتم إلا بمحاربة
هذه الدولة النصرانية له في حرم الله تعالى، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم؛
ولكن اتباع الهوى , ونصر البدعة أركسهم بما كسبوا؛ فاستحلوا أكبر الكبائر من صد
المسلمين عن فريضة الحج إلى دعوة خصوم الإسلام لانتهاك أعظم حرمات الإسلام ,
واستحلال ذلك كفر بالإجماع , ولكن الله تعالى خذلهم , ونصر دينه , وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم على عداوتهم لهما , وأقبل الألوف من أهل الهند , وكذا أهل
إيران على بيت الله تعالى؛ لإقامة ركن الإسلام , واعترفت الدولة البريطانية بملكية
ابن السعود على الحجاز , ونجد , واستقلاله المطلق رسميًّا.
بعد هذا كله حدث في مصر ما لم يكن ينتظره مسلم ولا عاقل من السعي
لمنع أداء فريضة الحج بأراجيف اختلقها حزب الإلحاد والزندقة , وبحجة الانتصار
لبدعة المحمل , والإصرار عليها.
وكان قد ظهر فضل مصر , وسائر البلاد العربية على بلاد الأعاجم كلها بأنه
لم تظهر فيها معارضة لما قام به ملك الحجاز , ونجد من إزالة البدع , ونصر السنة
على كثرة الخرافيين فيها من أهل الطرق وغيرهم بل أيده رؤساء العلماء على
حكومتهم فيما طلب منعه من عزف الموسيقى في مشاعر النسك , وفي شرب الدخان
في مكة , أو الحجاز كله.
بدأت بذلك جريدة السياسة المشهورة بدعايتها الإلحادية , ومحاربتها للأزهر،
وسائر رجال الدين , ونصرها للطاعنين في الإسلام كعلي عبد الرازق وطه
حسين , فزعمت أنه جاءها نبأ من (مقيم في جزيرة العرب) بأن رؤساء الوهابيين
اجتمعوا في عاصمة نجد (في 20 رجب) بحضرة الملك عبد العزيز بن السعود ,
وأنكروا عليه في وجهه إخلاف وعده لهم بإقامة شرع الله في الحجاز , وتطهير
البلاد , ومما قالوه له بزعم الكاتب: (ألم ترخص لصنم مصر المسمى بالمحمل
بدخول الحجاز مع أولئك العسكر الكفار؟ ألم تدافع عن أولئك الكفار حينما أردنا
أن نقوم بالواجب الشرعي من إنكار المنكر؟ إلخ , واستدلت جريدة السياسة بهذا
الحديث على أن الوهابيين أخذوا يفلتون من سلطة الملك ابن السعود , ورتبت عليه
أنه يجب على الحكومة المصرية أن تأخذ (الضمانات اللازمة) ؛ للاطمئنان على
أرواح الحجاج المصريين , وعلى كرامة مصر من غير ابن السعود قبل أن تأذن
بالحج في هذا العام - تعني أنه يجب أخذ الضمانات من رؤساء الوهابيين الذين في
نجد , وهي تعلم أن هذا لا سبيل إليه - فالمراد دعوة الحكومة إلى منع الحج.
وقد كتب إليها رئيس ديوان جلالة ملك الحجاز ونجد (محمد طيب الهزاز)
الحجازي كتابًا كذَّب فيه خبر ذلك الاجتماع تكذيبًا رسميًّا قال فيه: إنه في التاريخ
الذي ذكرت اجتماع رؤساء النجديين فيه كان في خدمة جلالة الملك بنجد , ولو
حصل ذلك الاجتماع لكان من أعلم الناس به , فهو لم يحصل , وأكد فيه أن طاعة
رؤساء النجديين ودهمائهم لإمامهم الملك على أكلمها؛ لأنها عقيدة دينية , فكتبت
جريدة السياسة مقالاً آخر أصرت فيه على دعوتها الأولى مرجحة النبأ الذي زعمت
أنه جاءها من رجل مقيم في جزيرة العرب على هذا البلاغ الرسمي. ونحن على علمنا بأن الذي كتب ذلك النبأ هو رجل مصري مقيم في القاهرة حانق على الحكومة
الحجازية , وله صديق كان في الكويت يوهم أنه هو الذي كتبه.
قد كتبنا مقالاً في الرد على جريدة السياسة نشرناه في جريدة كوكب الشرق
تجاهلنا فيه ذلك , وتكلمنا بلسان الشرع , والعقل , والمصلحة الإسلامية , وذكرنا
في آخره أننا نعلم أن المسلمين لا يبالون بما تنشره جريدة السياسة , فلا نخشى أن
يؤثر في أنفس مريدي الحج من المصريين , فيصرفهم عنه , ولكننا ننتظر؛ لنرى
تأثير كلامها في الحكومة المصرية , وكانت جريدة السياسة ذكرت أن الحكومة
المصرية عهدت إلى قنصلها في جدة أن يبلغ جلالة ملك الحجاز ونجد ما تشترطه
لإرسال المحمل , وما يتعلق به في هذا العام , وتنتظر جوابه.
ثم لم تلبث الحكومة أن نشرت البلاغ الرسمي التالي الذي قرره مجلس
الوزراء مجتمعًا , ووافق عليه جلالة الملك:
بلاغ رسمي
وصل إلى علم الحكومة المصرية أن حكومة الحجاز تشترط في حج هذا العام
شروطًا معينة، فخابرت وزارة الخارجية حضرة قنصل المملكة المصرية في جدة؛
للاستيثاق من مبلغ هذا الخبر من الصحة , وكلفته بمفاوضة جلالة الملك ابن السعود
في ذلك شخصيًّا.
وقد ورد إلى الحكومة نبأ برقي من حضرة القنصل المذكور يفيد أن جلالة
ملك الحجاز يشترط لحج هذا العام:
أولاً: تجريد الحامية المصرية التي تصحب المحمل عادة من سلاحها؛ تفاديًا
من حصول مصادمات بينها , وبين الوهابيين.
ثانياً: منع عرض المحمل بالحرم الشريف , وكذلك تسيير المواكب المعتادة.
واشترط فوق ذلك شروطًا أخرى تغاير التقاليد المتبعة من قديم , وتقيد حرية
الحجاج.
وترى الحكومة مع هذه الاشتراطات أنه لا يمكن الاطمئنان على سلامة ركب المحمل والحجاج.
ولما عرضت هذه المسألة على مجلس الوزراء قرر بجلسة 10 ذي القعدة سنة
1345 (12 مايو سنة 1927) العدول عن إرسال المحمل في هذا العام , وإعلان
الحجاج المصريين بأنهم بسفرهم قد يستهدفون لبعض المخاطر , وأنهم إذا رأوا مع
ذلك السفر في هذه الظروف , فإن ذلك يكون تحت مسؤوليتهم. اهـ.
وقد استغربنا من هذا البلاغ قول الحكومة: إن الحجاج المصريين يستهدفون
لبعض الأخطار في الحجاز؛ إذ فيه تثبيط , وصد عن أداء الفريضة بالإيهام الذي
لا دليل عليه , ثم ازداد استغرابنا بما أجاب به رئيس الوزارة عبد الخالق ثروت
باشا عن سؤال في مجلس النواب: لماذا لم تمنع الحكومة المصريين من الحج ,
وهي تعتقد أنهم يستهدفون فيه للخطر , وحمايتهم واجبة عليها؟ فأجاب بأن سبب
عدم المنع اعتبارات دينية.
يعني أن دعوى الحكومة الاستهداف للخطر لم يمكنها من أخذ فتوى شرعية
بمنع الحج , فلم تستطع حمل تبعة منع المسلمين من أداء فريضتهم!
وبعد ذلك نشرت وكالة المملكة الحجازية النجدية بمصر البلاغ الرسمي
التالي:
بلاغ الحكومة الحجازية
ننشر هذا البلاغ تنويرًا للرأي العالم المصري الكريم، ودحضًا لأقوال مثيري
الضحة بمناسبة عدم سفر المحمل والبعثة الطبية والصدقات المراد إرسالها إلى
الحجاز؛ فنقول:
إن الحكومة المصرية كانت طلبت من حكومة الحجاز ونجد وملحقاتها أن
يرافق أمين الحج أورطه كاملة بملحقاتها من طوبجية , وسواري , وهجانة ,
وغيرها من المعدات , وأن ترافق القوة المذكورة المحمل في كل مكان , وأن تكون
دورة المحمل بالمراسم المعتادة كالمتبع سنويًّا بغير أي تعديل , فقد كان جواب
الحكومة الحجازية النجدية على هذه النقطة ما يأتي:
إن الحكومة الحجازية تحب أن تتأكد للحكومة المصرية رغبتها؛ لأنها
مستعدة لإجراء جميع التسهيلات الممكنة للمحمل وركبه؛ بل لسائر الحجاج على
القواعد التي تحفظ الأمن , وتصون حرمة الدين الإسلامي المقدس الذي جاء به
الكتاب المنزل على لسان النبي المرسل صلى الله عليه وسلم , وأنها - أي: الحكومة
الحجازية النجدية - لا يخامرها الريب في أنها ستجد في الأمة المصرية الكريمة ,
وعلى الأخص في علماء الدين أعظم منشط ومساعد على إقامة شرع الله في أقدس
بلاد الله , وأنها مستعدة للعمل بما يقره الدين , ويقرره علماء المسلمين , وأن ذلك
سيكون مقبولاً لديها , ومرعي الحرمة.
وبما أن جلالة الملك قد منع التجول بالسلاح في البلاد المقدسة لكائن من كان
من أهل نجد وغيرهم , وعلى الأخص أيام الحج , ومنع أيضًا إتيان أي عمل لم
يأذن الله به من الأعمال المخالفة للشرع , والتي ينبغي أن يكون المرد فيها إلى
كتاب الله , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيمكن للمحمل , وركبه شهود الحج
هذا العام بعد مراعاة أمور ثلاثة دعت إليها العبر من حوادث العام الفائت , وهي:
أولا: أن لا يكون مع ركب المحمل سلاح ما أسوة بحجاج سائر بلاد الإسلام.
ثانياً: أن لا يعرض المحمل لأن يكون سببًا في تبرك الناس به تبركًا دينيًّا لم
يأذن الله به , ولا جاء في شرع الإسلام.
ثالثاً: أن يكون سير المحمل في أيام الحج كسير الناس جميعًا حفظًا لراحة
سائر الحجاج.
وفيما عدا ذلك فسيلقى المحمل وركبه كل إكرام ورعاية من الحكومة المحلية ,
وإن الحكومة الحجازية النجدية تحب أن تتأكد الحكومة المصرية أنها لم تشترط
مراعاة هذه الأمور إلا صيانةً لراحة المصريين , وراحة حجاج المسلمين من سائر
بلاد الله.
وقد كان جواب الحكومة النجدية الحجازية على طلب الحكومة المصرية فيما
يتعلق بالبعثات الطبية؛ للاعتناء بحالة الحجاج الصحية , وإسعافهم أثناء تأدية
الفريضة , والزيارة أنها ترحب بهم , وحبًّا وكرامة بقدومهم.
وكذلك أجابت الحكومة الحجازية طلب الحكومة المصرية بالموافقة على أن
تشكل لجنة من مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والحجازية؛ لتوزيع المرتبات
المخصصة للفقراء , والمحتاجين بدون قيد ولا شرط , وعلاوة على ما سردناه أعلاه ,
فإننا حبًّا في تطمين آل الحجاج , وذويهم من المصريين الكرام , وإزالة للمساوئ ,
والمخاوف التي علقت بأذهانهم ننشر خلاصة كتاب ورد إلينا من جلالة ملك الحجاز
ونجد وملحقاتها , وهي: وبما أننا نرغب في إجراء التسهيلات اللازمة لجميع وفود
بيت الله الحرام , وعلى الأخص الحج المصري الذي تربطنا بأهله روابط عديدة ,
فليكن المصريون واثقين بأن حجاجهم سيلقون الحفاوة التامة , والرعاية الكاملة ,
والتسهيلات المطلوبة.
نرجو الله أن يحسن العواقب في جميع الأمور.
... ... ... ... ... ... ... ... (فوزان السابق)
(المنار)
في أثناء هذه المدة أسرفت جريدة السياسة في الطعن في الوهابيين؛ لتقوية
الأوهام في الأنفس , وإثارة المخاوف في القلوب لمنع الحج , ومن أشد مقالاتها
إسرافًا في البهتان ما نشرته في 21 ذي القعدة (23 مايو) من تصوير الوهابيين
بصورة الحيوانات المفترسة التي تستحل افتراس كل من ليس بوهابي , وأنه (لا
يمكن أن يردعها عن ذلك أحد مهما سما مقامه) - أي: وإن كان إمامهم الديني ,
وملكهم السياسي - حتى قال الكاتب في مسألة شرب الدخان: (فكثيرًا ما فقئت
أعين , وكسرت أذرع , وهشمت رؤوس بأيدي الإخوان على هذا المنكر , وإن كان
كثير منهم يرتكب هذا المنكر , وأشد منه في الإثم!) .
وخاضت جرائد أخرى في ذلك حتى إن جريدة الأهرام نشرت مقالاً افتتاحيًّا
زعمت فيه أن الخطر على البشر من البلشفية والوهابية بعد أن أفتت في مقال آخر بأن
المحمل المصري أمر مشروع.
فوجدت من الواجب بيان حقائق جميع هذه المسائل , فكتبت مقالاً نشر في
جريدتي الأخبار , والبلاغ قطع به كل لسان يصد عن حج بيت الله الحرام , وكسر
كل قلم يخوض في ذلك بالباطل , فلم يستطع أحد أن يرد كلمة حتى إن جريدة
السياسة على استباحتها للإفك والبهتان لم تستطع أن تقول فيه إلا أنه ضد على
الحكومة المصرية والمصريين , وذلك أن مذهبها أن دين المصريين مجموع تقاليد
عامتهم وحكومتهم كالمحمل والموالد لا ما يتدارسونه في الأزهر , وغيره من المعاهد
الدينية - وهذا نصه:
الحج ومسائل الخلاف
بين حكومتي مصر والحجاز
اضطربت آراء الكتاب , وأهواؤهم في مسألة الخلاف بين حكومتي مصر ,
والحجاز في أمر المحمل , وحرسه , وموسيقاه , وأمر أداء فريضة الحج وخدمة
الحجاج , وأوقاف الحرمين , والصدقات الثابتة في ميزانية المالية المصرية لأهل
الحرمين , وكسوة الكعبة المعظمة , ومذهب النجديين , وسيرتهم , وسائر مذاهب
أهل السنة , لم أر أحدًا كتب في ذلك عن معرفة صحيحة , وبيان للحقيقة الشرعية ,
ولكنني أعتقد أن صاحب جريدة (الأخبار) كتب ما يعتقد أنه الحق بالإخلاص
الذي لا يمتري فيه أحد يعرفه , وأعتقد أن بعض الكتاب من علماء المسلمين قال
الحق في مسألة المحمل , وكونه بدعة , وأن بعض الكتاب من غير المسلمين خلط
ما يدري بما لا يدري , وغالط فيه بما يحدث الشقاق بين المسلمين , أو يقويه , ولا
أتعرض لبيان حال الدعاة إلى ترك الحج من أدعياء المسلمين , وإنما أكتب ما أظن ,
بل أعتقد أن الحق لا ينجلي في هذه المسألة وفروعها بدونه من الوجهتين
الحقوقية والشرعية , وما يحتف بهما من اختباراتي الشخصية , ووقوفي على
الوقائع المهمة ملخصًا ذلك في المسائل الآتية: -
1- كان الحجاز ومصر تابعين لحكومة عدة من الخلفاء والدول من صدر
الإسلام إلى عهد الخلافة العثمانية , وكانت مصر في بعض القرون الوسطى مستقلة ,
وكان الحجاز تابعًا لها , ولما كانت مصر تحت سيادة الدولة العثمانية كان جيشها
يعد جيشًا عثمانيًّا يحدد عدده السلطان العثماني , وعلمه علم الجيش العثماني ,
ورتبه عين رتبه.
وقد صار الحجاز بعد الحرب العالمية الكبرى دولة ملكية مستقلة استقلالاً دوليًّا
تامًّا مطلقًا من كل قيد , على حين كانت مصر تحت الحماية البريطانية , ثم اعترف
لها باستقلال مقيد بقيود تجعله اسميًّا فقط.
وقد تودد جلالة ملك الحجاز لجلالة ملك مصر وحكومته بما استطاع من
أنواع التودد , ولكن الحكومة المصرية لم تعترف الآن بملكيته وحكومته , ويقال:
إنها بلغت مستشاره الشيخ حافظ وهبه [1] شفويًّا أن يبلغه أنها تشترط لاعترافها به
شروطًا يعد قبولها منافيًا لاستقلاله , ويجعله كالتابع لها.
وسواء أصح هذا أم لم يصح؟ فملك الحجاز يرى أن استقلاله أتم من استقلال
مصر , وأن مملكة مصر دولة أجنبية ليس لها حق في أن تدخل في مملكته جيشًا
مسلحًا , ولا غير مسلح , وأن تقاليد حرس المحمل قد بطلت بتغير شكل الحكومتين ,
وأن لا فرق في هذه التقاليد بين المحمل المصري , والمحمل الشامي , فلو طلبت
حكومة الشام منه الإذن لها بإرسال محملها مع حرس شامي كالعادة السابقة , وقد كان
له المنزلة الأولى في الحجاز؛ لما أذن لها مطلقًا.
ولكن جلالة ملك الحجاز شديد الحرص على موادة مصر وموالاتها وإرضاء
جلالة ملكها وحكومتها وشعبها وشديد التقوى , والحذر من وقوع أقل شقاق بينه
وبينها.
ولذلك أذن لها في الموسم الماضي بإدخال حرس المحمل بسلاحه وأعلامه ,
وباستعمال حريته في جميع أعماله العسكرية , وهتافه به لملكه كما اعترف به أمير
الحج شاكرًا إلا الموسيقى التي استفتت فيها الحكومة المصرية رؤساء الدين - شيخ
الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية - وعملت بفتواهما فيها وفي مسألة المجاهرة
بشرب الدخان؛ فقبلت ما طلبه ملك الحجاز من منعهما.
***
(حكم المحمل سياسة وشرعًا)
2- المحمل , وما أدراكم ما المحمل!! نعني بالمحمل هذا الشي الذي يوضع
على الجمل كالمحفة أو الهودج أو الخيمة المجلل بالنسيج الحريري الموضون
بالنصب الذي يتبرك به العوام , ويعدونه من شعائر الإسلام , ومشاعر الحج إلى
بيت الله الحرام , الذي يحمل إلى مكة المكرمة , فمنى , فعرفات , ثم من عرفات إلى
المزدلفة فمنى فالحرم الشريف بمكة؛ فيطاف به في معاهد النسك كلها وآخرها
الكعبة المشرفة كأنه أحد الحجاج , ثم يوضع قبالتها فيتبرك به العوام الجاهلون
بأحكام الإسلام وشرعه كما كانت الجاهلية تتبرك بالأصنام المنصوبة حولها.
هذا هو المحمل الذي نعنيه , والذي هو محل الخلاف بين الحكومتين في
هاتين السنتين دون غيره , هو بهذه الصفة بدعة دينية؛ لأنه عمل يشبه المشروع ,
وما هو بمشروع , هو محدثة في مناسك الدين، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة
كما كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه على المنبر , وإنما
البدعة التي تكون حسنة أو سيئة , ويختلف فيها اجتهاد الناس باختلاف آرائهم في
النفع والضر والحسن والقبح , فهي البدعة في غير التعبدات التي تتوقف على نص
الكتاب والسنة وإلا لما كان قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة) صحيحًا
(راجع الصفحة 206 من الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر) , وبناءً على هذه
القاعدة؛ قال صاحب منهاج الفقه: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان
مذمومتان) .
فإذا كانت الصلاة لله تعالى على وجه غير مشروع في توقيتها , وما يقرأ
بدعة قبيحة مذمومة , وهي عبادة لله تعالى فكيف يكون حكم البدعة في عبادة غيره
سبحانه؟ وكل عمل يعمل تدينًا , ويقصد به القربة والثواب أو جلب نفع , أو كشف
ضر من غير طريق الأسباب؛ فهو عبادة , وقد حكى الله تعالى عن المشركين أنهم
كانوا يقولون في أصنامهم وأوثانهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية , فكل من يتبرك بالمحمل تدينًا , ويعد ما ذكرنا في شأنه
مشروعًا؛ فهو مثلهم.
هذه مسألة لا يختلف فيها أحد يعرف أحكام الإسلام , فيجب على المسلم أن
يدع أقوال غير العارفين بها , وأقوال غير المسلمين في ذلك بالأولى , وأن يفرق
بين الأمور الدينية والأمور الدولية والحكومية، فلا يتعصب للمحمل لأجل حكومة
مصر , فلهذه الحكومة أمور كثيرة مخالفة للشرع لا يجوز لمسلم أن يوافقها عليها ,
بل يجب عليه دائمًا أن يطالبها بتركها , فقد صار متمكنًا من ذلك في عهد الدستور.
***
(سبب إذن ابن السعود بدخول المحمل)
(3) كان يجب على ملك الحجاز أن يمنع دخول المحمل في بلاد الحجاز
ألبتة كما قال أمين بك الرافعي؛ لأنه يعتقد أنه بدعة وضلالة؛ ولكنه خشي في
العام الماضي أن تمنع الحكومة المصريين من أداء فريضة الحج , وتمنع ما لأهل
الحجاز من الغلال والأموال المفرقة , ويكون ذلك سببًا للتعادي بين الحكومتين
والشعبين؛ فاختار ما رآه بحسب القاعدة الشرعية ارتكاب أخف الضررين عند
تعارضهما , فأذن بدخول المحمل وحاول منع منكراته؛ ولكن ترتب على ذلك ما
ترتب عليه من إنكار بعض النجديين الذين تربوا على إنكار كل منكر في بلادهم
عملاً بحديث: (من رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) , رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن
الأربعة , ومن إطلاق حرس المحمل الرصاص والرشاشات , وقتل كثير من
المعتدين على المحمل وغيرهم.
وهذه فتنة جديدة نشير إلى حكمها الشرعي بصرف النظر عن كونها فتنة بين
حكومتين إسلاميتين يجب اتقاء الوقوع في مثلها.
***
(تحريم القتل والقتال وحمل السلاح بمكة)
(4) من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن حرم مكة المعروف
بحدوده , والذي تدخل فيه (منى) الذي وقعت فيها حادثة المحمل قد حرم الله تعالى
فيه القتل والقتال؛ بل حرم فيه الصيد , وقتل الحيوانات والحشرات إلا ما استثنى من
الفواسق الخمس بنص الحديث , وما ألحق بها من الوحوش المفترسة , وكذا قطع
الأشجار , وقلع النبات إلا إلاذخر الذي يضعونه على الموتى عند الدفن , وفي سقوف
البيوت.
والأحاديث في تحريم القتال في حرم مكة مشهورة في الصحيحين والسنن
منها: قوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في خطبة له: (إن مكة حرمها الله , ولم
يحرمها الناس , فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا , ولا
أن يعضد بها شجرة , فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛
فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم , ولم يأذن لكم , وإنما أذن لي
ساعة من نهار , وقد عادت اليوم كحرمتها بالأمس , وليبلغ الشاهد الغائب) . قال
الماوردي في الأحكام السلطانية: من خصائص الحرم ألا يحارب أهله (أي من فيه؛
لأن الحرمة له) , فإن بغوا على أهل العدل (أي: على حكومة الإمام الأعظم)
قال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم , بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ,
ويدخلوا في أحكام أهل العدل - وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم إذا لم
يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال إلخ , فانظر إلى هذا القيد بل قال القفال من فقهاء
الشافعية: (حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها؛ لم يجز لنا قتالهم فيه) ,
وغلطه النووي ثم قال: وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا (أي: في صحيح
مسلم في إطلاق تحريم القتال) , فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الوافدين -
أن معناها تحريم نصب القتال عليهم، وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن
إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر، فإنه يجوز
قتالهم على كل وجه، وبكل شيء، والله أعلم اهـ.
فانظر إلى هذه القيود في قتال البغاة الخارجين على الخليفة، وقتال الكفار في
أرض الحرم، وكيف منعه بعضهم مطلقًا، ولا يخفى أن إطلاق الرشاشات والمدافع
هي مما يعم كالمنجنيق لا كالسيف، والرمح الذي لا يقتل به إلا من قصد قتله
بشخصه , ومنه تعلم أن إطلاق الرصاص الذي استعمل في حادثة المحمل من المحرم
بالإجماع الذي لا يباح بحال ما، ولا عذر ما.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ".
إذا كان هذا حكم الله في حرم مكة في كل حال، فكيف يكون تأكيده في الشهر
الحرام، وفي حال الإحرام، وأداء المناسك؟ وكيف يكون حكم حمل السلاح إذا
كان يقصد به الاستعداد للقتال دفاعًا عن بدعة المحمل؟
***
(منع النجديين والمصريين من حمل السلاح بمكة وحرمها)
(5) قد رأى جلالة ملك الحجاز الاحتياط؛ لمنع هذه الجريمة العظمى
المحرمة بإجماع المسلمين لذاتها، بصرف النظر عما يتبعها من العداوة بين الممالك
الإسلامية، ومن تعطيل إقامة ركن الدين العام بمنع حمل السلاح مطلقًا , منع
النجديين، ومنع المصريين جميعًا , فهل يرضي مسلمًا، أو منصفًا غير عدو
للمسلمين، والحال على ما علمنا، أن يمنع النجديين من ذلك وحدهم، ويسمح به
للمصريين مع العلم بأن الحكومة المصرية إنما تطلب زيادة حرس المحمل، وزيادة
سلاحه، وسير الموسيقى معه؛ لأجل التنكيل ممن يتعرض له من النجديين.
أليس الواجب المحتم أن نتفادى من هذه الشرور، والجنايات المحرمة
بالإجماع بالاستغناء عن إرسال المحمل، وإرسال الجيش لأجله! بلى، وإن ملك
الحجاز كان يرجو أن تفعل الحكومة ذلك من تلقاء نفسها تكريمًا لها وحرصًا على
مودتها، وقد دفع في العام الماضي دية جميع قتلى النجديين من ماله، ودفع لهم ثمن
ما قتل لهم من الأباعر أيضًا , ولم يطالب الحكومة المصرية بشيء , ولا كتب لها
بذلك فيما نعلم.
فيأيها المسلمون المعتصمون بعروة دينهم المخلصون لربهم , افرضوا أن
هودج المحمل ليس بدعة محرمة بالمعنى الذي تقدم , وأنه من تقاليد الحكومة
المباحة؛ أيجوز لنا أن نتعصب لإرساله للحجاز بالصفة التي ينتظر أن تثير الفتنة
بيننا , وبين النجديين , وتتحول بها العبادة المفروضة إلى جرائم سفك الدماء , وانتهاك
حرمات الله تعالى , وإهانة حرمة الدين الذي فرض علينا تعظيمه؟
هبوا أن النجديبن مخطئون في الإنكار على المحمل؛ لقلة علمهم، ولغلوهم
في دينهم، وأنه يجب على ملكهم أن يصحح لهم معلوماتهم في ذلك.
ألستم تعلمون أن هذا عمل يتعذر في مدة قصيرة لو كان صحيحًا، وفي وسع
الحكومة المصرية السياسية أن تترك هذا المظهر من تقاليدها كما تريد ترك تقليد
الأئمة الأربعة في بعض أحكام الأمور الشخصية؟ والمصلحة في ترك تقليد ابتدعته
امرأة كان حكمها لمصر غير صحيح شرعًا أظهر من المصلحة فيما تريد من مخالفة
الأئمة الأربعة به.
دع ما هي مخالفة فيه للكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس من إباحة البغاء،
وأمثاله.
***
(إبطال إيهام الخطر على الحجاج المصريين)
(6) أوهم كلام بعض الجرائد الداعية إلى منع الحج أن على حجاج
المصريين خطرًا من تعدي النجديين عليهم أخذًا بثأر من قتل منهم في العام الماضي،
ومن الأسف أن جاء بلاغ الحكومة الرسمي يؤيد هذا الوهم، وهو مدفوع من
وجوه:
(أولها) إن أولياء الدم من النجديين طالبوا جلالة الملك بعد انتهاء أعمال
الحج الماضي بالقود من قاتليهم، فأجابهم بأنه قتل خطأ لا قصاص فيه، بل تجب
فيه الدية فقط، فطلبوا منه أن يجمع لهم علماءهم الخمسة الذين كانوا بمكة؛
لاستفتائهم، فجمعهم، فأفتوا بوجوب الدية، فدفعها جلالته من ماله مع التعويض
كما تقدم.
(ثانيها) إن مسلمي نجد قد أبطلوا مسألة أخذ الثأر الجاهلية، وهم خاضعون
في ذلك لأحكام الشريعة، وهي لا تبيح عقاب كل مصري بذنب أمير الحج،
وعسكره.
(ثالثها) إنهم لا يخرجون عن أمر إمامهم؛ لأن علماءهم نشروا في جميع
البلاد أن مذهب أهل السنة لا يجوز الخروج على الإمام، وإن ظلم إلا إذا أعلن
الكفر.
(رابعها) إن المصريين إذا كانوا حجاجًا غير مسلحين يتعذر التمييز بينهم،
وبين سائر الحجاج كما قال حضرة أمين بك الرافعي في أخباره الإسلامية، فكيف
يعرفهم الوهابيون، فينتقموا منهم؟
(خامسها) إن حرس المحمل لم يكن في العام الماضي حارسًا للحجاج , ولا
كانوا هم ملازمين له , وقد ذهب بعد أداء الحج كثير منهم إلى المدينة المنورة , ولم
يذهب المحمل إليها , ولم يتعرض أحد من النجديين , ولا من غيرهم لهم بسوء.
(سادسها) إنه قد ثبت بالتواتر لدى شعوب العالم الإسلامي , وغيره أنه لم
يعرف في تاريخ الحجاز أن أحدًا من حكامه السابقين كان أقدر من الملك عبد العزيز
السعود على حفظ الأمن فيه أو مثله أو على مقربة منه؛ فهو إن عجز في هذا العام
عما كان قادرًا عليه فيما قبله؛ فلن تستطيع الحكومة المصرية أن تغني غناءه بحرس
محملها.
(سابعها) إن الحكومة المصرية لم تقم دليلاً على الخطر الموهوم الذي ادعته ,
وقد طالبها حضرة أمين بك الرافعي ببيان ذلك؛ فلم تجب مع أن المقرر في
أصول الفقه الإسلامي عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
(ثامنها) إن الحكومة المصرية قالت في موسم سنة 1334: إنه قد ثبت
لديها أن طريق الحج غير آمن بسبب الحرب بين الشريف علي , وابن السعود.
وأمكنها بتلك الشبهة أخذ فتوى شرعية رسمية بجواز تأخير الحج , ثم ظهر للعالم
كله أن طريق رابغ التي أعلن ابن السعود أنه كافل للأمن فيها كانت آمنة لم يصب
أحد ممن سلكها إلى مكة المكرمة بسوء في نفسه , ولا في ماله.
(تاسعها) جاء في رسالة من مكة المكرمة إلى جريدة المقطم أن جلالة ابن
السعود عقد مؤتمرًا كبيرًا في نجد حضره زهاء ثلاثة آلاف رجل منهم جميع قواد
قواته الحربية , وجددوا مبايعته على السمع والطاعة , وأنه أمرهم بعدم حمل السلاح
في الحجاز , وأن الإخوان قرروا بعد ذلك عدم الحج في هذا العام؛ توسعة على حجاج
البحار الكثيرين. على أنه قلما يوجد منهم أحد يجب عليه الحج , ولم يحج في هذه
السنين التي استولى فيها إمامهم على الحجاز.
(عاشرها) إن السواد الأعظم من الراغبين في الحج , والمستعدين له لم
يبالوا ببلاغ الحكومة , ولا بإرجاف جريدة السياسة , فهم يتهافتون على البواخر
التي تحملهم إلى الحجاز كما نطقت بذلك جميع الجرائد - بلغهم الله السلامة -.
***
(مكانة المصريين بالحجاز)
(7) أختم هذه المباحث بالشهادة لله تعالى: إنني لم أر جلالة الملك عبد
العزيز بن السعود أحرص على مودة شعب من الشعوب الإسلامية حرصه على
مودة الشعب المصري , ولا على مصافاة حكومة كمصافاته للحكومة المصرية,
إن القنصل المصري في جدة لأشد تعاليًا في الحجاز من المندوب السامي البريطاني
في مصر , وإن ناظر التكية المصرية بمكة حاول الاحتفال بالمولد بتزيين الشارع
العام أمام الحرم الشريف من جهة التكية , وهنالك دار الحكومة الحجازية , وهو يعلم
أن هذه الاحتفالات المبتدعة بما لها من الصبغة الدينية ممنوعة في الحجاز , ولما
بلغت الحكومة جلالة الملك ذلك مستأمرة له بمنع الزينة؛ تولى جلالته بنفسه
مخاطبة حضرة الناظر بالتليفون يرجوه بأن يترك تزيين الشارع , وأبواب الحرم ,
ويفعل في التكية ما شاء؛ فلن يعارضه أحد.
أتعلمون بماذا قابل حضرة الناظر هذا التواضع , واللطف من الملك؟ قابله
بعدم المبالاة به , وعدم الكف عن تزيين الشارع؛ فاضطر جلالته إلى أمر إدارة
الأمن العام بإزالة الزينة من الشارع فقط.
وإنما جرأ ناظر التكية على هذه المخالفة لكل شرع وقانون وأدب أنه رأى
الحكومة الحجازية في موسم الحج الماضي تأمر بمنع سير الأتومبيلات في شوارع
مكة؛ لنفور الأباعر التي تحمل شقادف الحجاج من صوتها , وحركتها - وضرر
ذلك ظاهر -؛ فامتثل جميع الناس الأمر , وفي مقدمتهم رجال الحكومة أعضاء
المؤتمر الإسلامي إلا أمير الحج المصري ورجاله؛ فإنهم ظلوا يغدون
ويروحون بأتوموبيلاتهم!! .
وأنشئت في الحجاز شركة أوتوموبيلات مصرية بين جدة ومكة بشروط كلها
في مصلحة المصريين والغبن على حكومة الحجاز , وكان من تعزز الشركة
بمصريتها أنها لم تقم بالشروط الرسمية المفروضة عليها , وأهمها إصلاح الطريق ,
ومنه مواضع ضرورية؛ فأنذرتها الحكومة المحلية المرة بعد المرة بإلغاء الامتياز
إذا لم تفعل , فلم تحفل بالإنذار؛ فألغته الحكومة بعد الإنذار الثالث في جريدة أم
القرى على ما نتذكر.
مع هذا كله نرى جريدة مصرية [2] تتهم الحجاز , وحكومة الحجاز , وملك
الحجاز بحرمان المصريين من الاشتراك في حكومة الحجاز , وتفضيل السوريين
عليهم , ولم يخطر في بال حكومة الحجاز أمر التفاضل بين قطرين شقيقين في
الجامعات الدينية واللغوية , والجوار إلا أن أحدهما في بحبوحة الثروة والأمان ,
والآخر منكوب تدمر مدائنه وقراه ومزارعه ويشرد خيار رجاله ويموت ضعفاؤه
جوعًا وعطشًا وعريًا.
على أنني قد أرسلت في هذا العام عدة أساتذة من المصريين إلى مكة المكرمة ,
وأوصيت بهم , فمنهم المدرسون في المعهد السعودي الجديد , وهو أعلى معاهد
التعليم العصري في الحجاز , وبعضهم مدرسون في الحرم الشريف.
ومما يجب ذكره والتنويه به أن أحدهم يقرأ عقائد الإسلام لبعض النجديين
الذين يتهمون بتكفير المصريين كافة عامة , ومما يجب أن يذكر أن الإمام الحنبلي
النجدي في الحرم الشريف سافر , فوكل هذا الأستاذ المصري بأن ينوب عنه
بالإمامة.
***
(المصريون والنجديون)
(8) إن النجديين كانوا يعيشون في عزلة عن العالم كله إلا قليلاً من
مهاجري التجار في الهند والشام ومصر، وقد فتح لهم باب آخر للتعارف مع سائر
الشعوب الإسلامية باتحاد حكومتهم بحكومة الحجاز في السياسة العامة دون الإدارة
الخاصة , وصار من الضروري أن يسعى أهل الرأي والبصيرة لإزالة ما كان من
سوء التفاهم بينهم وبين هذه الشعوب , ولا سيما الشعب المصري.
المعلوم عند أهل نجد بالإجمال أن الشعوب الإسلامية التي غلب عليها حكم
الإفرنج على حكم الإسلام قد فشت فيها حرية الكفر , والفسق؛ فكثر فيها التاركون
لأركان الإسلام , والمستحلون لمحرماته المعلومة من الدين بالضرورة , واستحلالها
كفر بإجماع المسلمين , ناهيكم بما تكثر فيها من البدع التي لا دخل للإفرنج فيها
حتى كثر فيها المرتدون , والجاهلون بالدين الصحيح الذي كان عليه السلف الصالح -
فبهذا قلت ثقتهم بدين أهل هذه البلاد , وصاروا يطعنون فيهم على الإطلاق إلا
من ساح منهم في البلاد أو عاشر السائحين.
وكان المشهور عن أهل نجد في مصر , والشام , والعراق , والهند , وغيرها
من الأقطار أنهم مبتدعة أصحاب مذهب خامس اخترعه لهم دجال يسمى محمد
عبد الوهاب، من أصوله: تكفير جميع المسلمين الذين لا يتبعون مذهبهم , واستحلال
دمائهم وأموالهم وتحريم جميع العلوم والفنون العمرانية.
ومن أهل هذه الأمصار من كان يزيد على ذلك بهتانًا أنهم يطعنون في الرسول
الأعظم , وينكرون شفاعته , ويحرمون الصلاة والسلام عليه إلخ , وإنما كان يعلم
بطلان هذه الدعاوى , والمطاعن فيهم المطلعون حق الاطلاع على التاريخ , وأعلمهم
بذلك المطلعون على كتبهم.
قد زال في هاتين السنتين كثير من خطأ الفريقين، والواجب السعي للإصلاح ,
والتأليف التام , والمصريون أجدر الناس بذلك؛ لأنهم أعلم بوجه الحاجة إليه ,
فإن الأساس المحكم الذي وضع لاتحاد الشرقيين كافة , والمسلمين خاصة إنما وضع
بمصر بيد الحكيمين المصلحين الشهيرين السيد جمال الدين الأفغاني , والشيخ محمد
عبده المصري , وهما اللذان أذاعاه في العالم كله بجريدة العروة الوثقى التي نشراها
في باريز وظلت دعوتها مستمرة في المؤيد، فالمنار، وغيرهما من الصحف، وقد
ألفت في هذه السنين جمعية مصرية لإحياء الرابطة الشرقية، فانبذوا أيها
المصريون المصلحون كل دعوى للشقاق، وكل طعن في إخوانكم النجديين، ولا
توسعوا الخرق على الراقعين، فالاتفاق خير لكم ولهم، والتعادي شر للجميع،
ومصلحة لخصوم الجميع.
قد اتفقت كلمة جميع الكتاب والباحثين على حسن نية جلالة ملك الحجاز،
ونجد عبد العزيز آل سعود، وإخلاصه في خدمة الإسلام والمسلمين، وقوة نفوذه
في شعبه كما دلهم على ذلك مسلكه في أعماله كلها، وفي المقاصد التي أعلنها في
المؤتمر الإسلامي العام، فعلينا أن نكل إلى حكمته، وحزمه، وحلمه نشر ما ينقص
النجديين من المعارف العصرية من طريق الدين , وقد بدأ بذلك بما أسسه من المعهد
السعودي للعلوم والفنون واللغات بمكة المكرمة , ولا تهوشوا عليه في سعيه.
أيها المسلمون لا يغرنكم كلمة من يقول: إن الحجاز للمسلمين عامة. فهي كلمة حق
يراد بها باطل قد صرح به قائلوه , وهو جعل حكومة الحجاز مؤلفة من هيئة
إسلامية مؤلفة من جميع الممالك الإسلامية , وأن يكون كل من ينتسب إلى الإسلام
حرًّا في رأيه وعلمه , وقوله فيه بحيث يصح لمثل الدكتور طه حسين أن يصرح
في حرم الله تعالى أمام بيته بإنكار ما في كتابه العزيز من إثبات بناء إبراهيم صلى
الله عليه وسلم , وإسماعيل صلى الله عليه وسلم له إلخ.
إن حرم الله تعالى , وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم مثابة لجميع المسلمين
في أداء مناسك الحج , والصلاة , وزيارة مهد الإسلام , وأفضل مساجده , وقبر
خاتم رسله , ومن المستحب لمن وصل إلى تلك البقاع زيارة قبور من دفن هنالك
من الصحابة , وغيرهم من السلف الصالح.
ولكن ليس لأحد إحداث بدعة دينية فيه ليست في كتاب الله , ولا في سنة
رسوله صلى الله عليه وسلم , وهدي السلف الصالح , وليس لحكومة حق الاشتراك
في حكم البلاد؛ لأن ذلك مثار فتن لا أسوأ من عاقبتها , وحادثة المحمل في العام
الماضي , وفي هذا العام أظهر دليل على ذلك.
لا خلاف بين المصريين , والنجديين في شيء مما ذكر من أعمال الحج ,
ومناسكه إذا كانوا يتبعون ما في كتب مذاهبهم دون البدع التي ينكرها جميع علمائهم
إذا سئلوا عنه.
وقد صرح الملك مرارًا بأنه يخضع لكل ما ثبت عن الأئمة الأربعة , وإذا
كابر دعاة الفتنة في المسألتين , فإننا نوضحهما في مقال آخر , والسلام على من
اتبع الهدى , ورجح الحق على الهوى.
***
كسوة الكعبة المعظمة
بعد أن قررت الحكومة المصرية منع إرسال المحمل إلى الحجاز , فأحسنت
صنعًا , وما أساءت إلا تعليلاً , وتأويلاً , قررت منع إرسال كسوة الكعبة , فسئل
رئيس الوزراء عن ذلك في مجلس النواب؛ فقال: إن الحكومة بعد أن قررت
إرسالها لتصريح ملك الحجاز بقبولها عادت , ففكرت أن الوهابيين ربما يعدونها
بدعة؛ فقررت عدم إرسالها! فأساءت الحكومة بهذا عملاً , وتعليلاً , فنشرت مقالاً
طويلاً في جريدة البلاغ في ذلك أودعته فصلاً للحافظ ابن حجر في تاريخ كسوة
الكعبة قبل الإسلام , وبعده.
__________
(1) ويظن المصريون أن لقب مستشار الذي تحلى به الشيخ حافظ هو بمعنى المستشار الإمبراطوري الذي كان للإمبراطورية الألمانية , وأنه هو رئيس الحكومة الحجازية النجدية , وليس الأمر كذلك , ولا يزيد هذا اللقب في الحكومة السعودية على ما يدل عليه معناه اللغوي , وللأمير فيصل رئيس الحكومة الحجازية عدة مستشارين.
(2) هي جريدة السياسة التي تحاول نشر الثقافة المصرية اللادينية , والإلحاد في الحجاز.(28/293)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قانون الأحوال الشخصية بمصر
والتنازع بين جمود الفقهاء المقلدين
وإلحاد زنادقة المتفرنجين
(2)
قد تضمن مقالنا الأول في هذه المسألة أن الذين يتكلمون في الأمور الإسلامية
العامة باسم الإسلام ثلاث جماعات:
(1) جماعة الفقهاء المقلدين للمذاهب الإسلامية المدونة التي جرى عليها
العمل، ولا يزال السواد الأعظم من عوام المسلمين يتبعونهم، ويثقون بهم، وأما
الخواص من جميع الطبقات؛ فهم يعرضون عنهم، وينبذونهم عامًا بعد عام.
(2) جماعة المتفرنجين، ويكثر فيها الزنادقة، ويقل المجاهرون بالإلحاد
والكفر قلة تتحول بالتدريج إلى كثرة، وأقل منهم المسلمون الصادقون فيها، وهذه
الجماعة بأصنافها الثلاثة: الزنادقة المنافقون، والملحدون المجاهرون، والمسلمون
الصادقون - هي الجماعة التي تتغلب على مصالح الحكومة وأعمالها يومًا بعد يوم،
وينتصر فيها الإلحاد على الإسلام في مسألة بعد مسألة، كما ثبت في مسألة
الدكتور طه حسين، فقد امتنعت النيابة العامة من محاكمته مع تصريحها الرسمي
بطعنه في الإسلام طعنًا صريحًا لا يحتمل التأويل، وامتنعت وزارة المعارف من
عزله من وظيفة التدريس في الجامعة، وإفساد عقائد النشء المصري , ونصره
أحمد لطفي بك السيد مدير الجامعة نصرًا مؤزرًا.
(3) جماعة المستقلين في فهم الإسلام من كتابه وسنته وسيرة سلفه الصالح
العارفين بمصلحة المسلمين في هذا العصر , وهذه الجماعة هي الوسطى المرجوة
للوصل بين عقلاء المسلمين الصادقين من الطرفين الآخرين إلا من كان إلحاده
وزندقته لا عن شبهة عارضة , أو توهم تعارض بين الإسلام , وبين حضارة القوة ,
والعزة , والثروة، فإن الملاحدة ثلاثة أصناف:
(1) أولو شبهات سببها الجهل بحقيقة الإسلام , ورجوع هؤلاء إلى حظيرة
الإسلام , ولو بنصر آدابه وسياسته مرجوة.
(2) مصطنعون لخدمة الأجانب , وهم الذين يطعنون في الإسلام بترجمتهم
لأقوال أعدائه فيه من المبشرين والسياسيين حتى إنهم لينصرون اليهود الصهيونيين
على عرب فلسطين من المسلمين , والنصارى - كما يراه المطلعون على جريدة
السياسة المصرية فيها - وهم إلى إلحادهم , وتعطيلهم مأجورون.
(3) الذين يعلمون أنهم بترك الأمة للإسلام يكون لهم فيها مقام الزعماء،
والرؤساء، والحكام على فسقهم، وفجورهم الذي لا يمكنهم تركه - وأنهم بتجديد
هداية الإسلام يكونون محتقرين لا قيمة لهم.
بعد هذا الإيضاح لحال الجماعات الثلاث نذكر نص مشروع القانون الجديد،
ثم نقفي عليه بوجهة نظر كل جماعة منهم - وهذا نصه: -
مشروع مرسوم بقانون
خاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية
1- (تعدد الزوجات) :
(المادة 1) لا يجوز لمتزوج أن يعقد زواجه بأخرى , ولا لأحد أن يتولى
عقد هذا الزواج , أو يسجله إلا بإذن من القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه
مكان الزوج.
(المادة 2) لا يأذن القاضي بزواج متزوج إلا بعد التحري , وظهور القدرة
على القيام بحسن المعاشرة , والإنفاق على أكثر ممن في عصمته , ومن تجب
نفقتهم عليه من أصوله وفروعه.
(المادة 3) لا تسمع عند الإنكار أمام القضاء دعوى زوجية حدثت بعد
العمل بهذا القانون إلا إذا كانت ثابتة بورقة رسمية.
***
2- (الطلاق) :
(المادة 4) لا يقع طلاق السكران والمكره.
(المادة 5) لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء ,
أو تركه.
(المادة 6) الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلا واحدة.
(المادة 7) كنايات الطلاق , وهي ما تحتمل الطلاق , وغيره لا يقع بها
الطلاق إلا بائنًا.
(المادة 8) كل طلاق يقع رجعيًّا إلا المكمل للثلاث , والطلاق قبل الدخول ,
والطلاق على مال , وما نص على كونه بائنًا في هذا القانون رقم 25 سنة 1920.
***
3- (الفسخ بإخلال الزوج بالشروط) :
(المادة 9) إذا اشترطت الزوجة في عقد الزواج شرطًا على الزوج فيه
منفعة لها , ولا ينافي مقاصد العقد كألا يتزوج عليها , أو أن يطلق ضرتها , أو أن
لا ينقلها إلى بلدة أخرى؛ صح الشرط , ولزم , وكان لها حق فسخ الزواج إذا لم
يف لها بالشروط , ولا يسقط حقها في الفسخ إلا إذا أسقطته , أو رضيت بمخالفة
الشرط.
***
4- (الشقاق بين الزوجين والتطليق للضرر) :
(المادة 10) إذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بما لا يستطاع معه دوام
العشرة عادةً بين أمثالها , وطلبت التفريق طلقها القاضي طلقة بائنة إن ثبت الضرر ,
وعجز عن الإصلاح بينهما , وإن لم يثبت الضرر؛ بعث القاضي حكمين ,
وقضى بما يريانه على ما هو مبين بالمواد (11 و 12 و 13 و 14 و 15
و16) .
(المادة 11) يشترط في الحكمين أن يكونا رجلين عدلين من أهل الزوجين
إن أمكن , وإلا فمن غيرهم ممن لهم خبرة بحالهما , وقدرة على الإصلاح بينهما
عالمين بأحكام النشوز , ولو بتعليم القاضي.
(المادة 12) على الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين , ويبذلا
جهدهما في الإصلاح , فإن أمكن على طريقة معينة قرراها.
(المادة 13) إذا عجز الحكمان عن الإصلاح , وكانت الإساءة من الزوج ,
أو منهما , أو جهلا الحال؛ قررا التفريق بلا عوض بطلقة بائنة.
(المادة 14) إذا كانت الإساءة من الزوجة؛ قررا - الحكمان - ما تعينت فيه
المصلحة من بقاء الزوجة في عصمة زوجها , وائتمانه عليها , أو التفريق بينهما
بعوض عليها بطلقة بائنة , وعند عدم تعيين المصلحة يكون للحكمين الخيار في
تقرير التفريق , أو البقاء إن لم يرد الزوج الطلاق , فإن أراد الطلاق؛ قرراه
بعوض عليها.
(المادة 15) إذا اختلف الحكمان؛ أمرهما القاضي بمعاودة البحث، فإن
استمر الخلاف بينهما؛ حكم غيرهما.
(المادة 16) على الحكمين أن يرفعا إلى القاضي ما يقررانه في جميع
الأحوال , وعلى القاضي أن يمضيه.
(المادة 17) إذا غاب الزوج سنة فأكثر؛ كان لزوجته أن تطلب من
القاضي أن يطلقها بائنًا إذا تضررت من بُعْدِه عنها , ولو ترك مالاً تستطيع الإنفاق
منه.
(المادة 18) إن أمكن وصول الرسائل إلى الغائب؛ ضرب له القاضي
أجلاً , وأعذر إليه بأنه يطلقها عليه إن لم يحضر للإقامة معها , أو ينقلها إليه , أو
يطلقها , فإذا انقضى الأجل , ولم يفعل؛ فرق القاضي بينهما بتطليقة بائنة , وإن لم
يمكن وصول الرسائل إلى الغائب؛ طلق القاضي عليه بلا إعذار وضَرْبِ أجل.
(المادة 19) لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائيًّا بعقوبة مقيدة للحرية مدة
ثلاث سنين فأكثر؛ أن تطلب إلى القاضي بعد مضي سنة من حبسه التطليق عليه
بائنًا للضرر , ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
***
5- (دعوى النسب) :
(المادة 20) لا تسمع دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها ,
وبين زوجها من حين العقد.
(المادة 21) لا تسمع دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة
الزوج عنها إذا ثبت عدم التلاقي بينهما في هذه المدة.
(المادة 22) لا تسمع دعوى النسب لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا
أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة.
***
6- (النفقة) :
(المادة 23) تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا ,
وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة.
(المادة 24) لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد عن سنة من تاريخ
الطلاق.
***
7- (سن الحضانة) :
(المادة 25) للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى
تسع , وللصغيرة بعد تسع سنين إلى إحدى عشرة سنة إذا تبين له أن مصلحتهما في
ذلك.
(المنار)
هذا نص المشروع , ونرجئ التعليق عليه إلى الجزء التالي.
__________(28/310)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك
ومشروع مؤتمر أدبي عربي عام
دعا صديقنا صاحب السعادة أحمد شفيق باشا وكيل جمعيتنا (الرابطة الشرقية)
رهطًا من أهل العلم والأدب للاجتماع في نادي الرابطة للتشاور في تكريم أحمد
شوقي بك لنبوغه في الشعر؛ فلبوا دعوته , واستحسنوا اقتراحه , وأنشؤوا لجنة
للسعي لتنفيذه اختاروه رئيسًا لها، واختاروا أحمد حافظ بك عوض صاحب جريدة
كوكب الشرق سكرتيرًا عامًّا لها , وقرروا نشر ذلك في الجرائد، ولم يلبثوا بعد
نشره أن أقبل عليهم المحبذون يطلبون الدخول في زمرتهم كالعادة، حتى زاد عدد
اللجنة على الخمسين، وألفت منهم لجنة تنفيذية تولت نشر الدعوى، وقررت جعل
هذا الاحتفال ذريعة لمؤتمر عام لترقية الأدب العربي واللغة.
وقد أرسل إلى اللجنة كثير من القصائد والخطب في موضوع الاحتفال ,
وخطب وأبحاث علمية أدبية (محاضرات) لأجل المؤتمر، وكان صاحب المنار
عضوًا في اللجنة التنفيذية , ثم في اللجنة العلمية التي نظرت فيما أرسل؛ فجعلته
أقسامًا ثلاثة، قسمًا يتلى في جلسات الأسبوع الذي سمي أسبوع شوقي , وقسمًا
ينشر في الكتاب الذي يؤلف في هذا الموضوع , وقسمًا يطرح ويهمل.
واشترك في هذا الاحتفال سورية , وفلسطين , ولبنان بإرسال وفود منها،
والناديان العربيان اللذان في جزيرة البحرين , وثغر بمبي (الهند) بإرسال هديتين
نفيستين، خيرهما نخلة من الذهب على أرض من حجر الكهرباء حملها خمسة
عثاكيل بسرها من اللؤلؤ - وهي من نادي جزيرة البحرين , وقد أعجب بها كل من
رآها , وأثنى على الذوق العربي , والجود العربي.
وجاءتنا خطبة نفيسة من أحد علماء المغرب الأقصى باسم أهل العلم والأدب
في ذلك القطر، وقصائد من أقطار أخرى.
وكان بدء الاحتفال يوم الجمعة 27 شوال الموافق 29 إبريل (نيسان) في
دار الأوبرة الملكية برعاية جلالة الملك , ورياسة الشرف لدولة سعد باشا زغلول ,
فألقى صاحب المعالي محمد فتح الله باشا كلمة لدولته في شأن اشتراكه في الاحتفال ,
واعتذاره بضعف البدن عن الحضور - وكان خطباء الحفلة 3: رئيسها أحمد شفيق
باشا، والأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي بدمشق ووفده الرسمي ,
والآنسة إحسان أحمد حفيدة المرحوم الشيح علي الليثي الشهير , وهي أول فتاة عربية
مصرية برزت في محفل أدب للرجال , وخطبت فيهم في هذا العصر.
وكان شعراؤها شبلي بك ملاط شاعر لبنان ووفده , ومحمد حافظ بك إبراهيم
شاعر مصر , وخليل بك مطران شاعر القطرين، وختمت الحفلة بقصيدة شكر
لشوقي نفسه , وتلاها حفلات أخرى في الجمعية الجغرافية الملكية , وجمعية
الاقتصاد السياسي والجامعة المصرية وجمعية الرابطة الشرقية ومسرح التمثيل
العربي , وكازينو الجزيرة , وكرمة ابن هاني (أي: دار أحمد شوقي بك) , وختمت
هذه الحفلات بدعوة محمد شوقي بك الخطيب العضو في مجلس النواب لضيوف
مصر في هذا الاحتفال , وأعضاء لجنته إلى قصر المرحوم المنشاوي في بلدة
القرشية , وأعد لهم في جنينة المنشاوي الكبرى موائد الطعام , والمثلوجات في ظلال
تلك الأشجار التي تجري من تحتها الأنهار، وهنالك ألقيت الخطب والقصائد
في الموضوع، ثم انفض الجمع.
__________(28/313)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة نفقات مؤتمر الخلافة في مجلس النواب
أسرف بعض النواب في تكبير أمر نفقات مؤتمر الخلافة بتأثير النزعة
الإلحادية في مصر، وبما كان من انتماء بعض كبار شيوخ الأزهر إلى حزب
الاتحاد الممقوت عند الأكثرية الساحقة في المجلس وغيره حتى طلب بعض النواب
محاكمة الشيخ الأكبر رئيس الأزهر والمعاهد الدينية بما أنفقه في مؤتمر الخلافة،
وتغريمه إياه.
ولما عاد المجلس إلى المناقشة في (الاستجواب) المقدم من النائب خليل بك
إبراهيم أبو رحاب إلى وزير الأوقاف بها؛ أجاب الوزير بما ننقله عن جريدة
السياسة التي هي أشد خصم في الموضوع؛ لأنه حجة عليها - مع عدم ثقتنا
بتحريها الأمانة في النقل - وهذا نصه: -
وزير الأوقاف: تقدمت في جلسة ماضية ببيان جميع الوقائع المتعلقة بهذا
الموضوع من واقع المخاطبات الرسمية التي دارت بين فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ
الجامع الأزهر , ووزارة الأوقاف , وليس عندي فيما يتعلق بهذه الوقائع ما أزيده
على بياني السابق.
وإذا كان لا بد من بيان في هذا الصدد بعدما سمعته من حضرة العضو
المحترم المستجوب , فإنه يخيل لي أن من واجبي أن أشرح للمجلس وجهة نظر
فضيلة شيخ الجامع الأزهر في صرف المبلغ على النحو الذي صرفه به , وبينه
المجلس.
وما كان يدور بخلدي قبل أن أحضر إلى هذه الجلسة أنني سأكون في حاجة ,
أو أنه سيكون هناك أي داع لأن أشرح للمجلس الموقر موقف شيخ الجامع.
ولكن بعدما سمعت من حضرة العضو المحترم , وهو يتكلم عن هيئة مهما
كان تصرف أحد المنتسبين إليها , ومهما كان مركز ذلك الشخص كبيرًا كان أو
صغيرًا؛ فإنها هيئة ندين لها جميعًا , وأظن أن المجلس الموقر يشاركني في ذلك
في وجوب ... .
فقاطعه الدكتور ماهر: ندين بالأكاذيب.
الوزير - فإنها مهما قيل هيئة دينية.
أصوات - لا لا , ما فيش هيئة دينية. دينية إيه؟
الوزير - هل لا يزال المجلس في حاجة إلى وزير الأوقاف.
أحمد عبد الغفار - أيوه
الوزير - إذن أطلب من المجلس أن يفتح لي صدره , أقول: إنه ما كان
يخطر ببالي قبل أن أتشرف بالوجود بينكم في هذه الجلسة أنني سأكون بحاجة إلى
أن أبين وجهة نظر شيخ الجامع الأزهر , ولكني بعدما سمعته من حضرة العضو
المحترم وهو يتكلم عن شخص ينتسب إلى هيئة أرى من واجبي - إن لم ير غيري
- أننا ندين لها بالاحترام , أو نقف إزاءها موقف الاحترام، أقول: إني مضطر
لأن أسفر عن وجهة نظر شيخ الجامع , وللمجلس الموقر حريته التامة في توجيه
دفاعه.
وليس معنى هذا أني أوافق , أو لا أوافق على وجهة النظر هذه، ولكن من
حق المروءة , ومن حق الإنسانية أنه إذا مس شخص , أو نوقش شخص في غيبته
أن يقوم من يعرض وجهة نظره على الأقل.
فإن قمت بهذا الواجب؛ فإني مدفوع فيه بعامل الإنسانية , والمروءة ,
والشعور بأن من واجبي أن أقدم وجهة نظر شخص قوبل بألفاظ قاسية.
والذي يؤخذ على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أنه طلب صرف المبالغ التي
طلب صرفها على شؤون المعاهد الدينية في حين أنه تبين من الحساب الذي قدمه
للوزارة أنه صرف تلك المبالغ على مؤتمر الخلافة؛ فيؤخذ عليه , وقد يكون ذلك
(كذا في جريدة السياسة) أنه صرف المبالغ في وجه غير الوجه الذي أثبته في
كتابه [1] .
أصوات - يبقى معناه إيه؟
أظن أن لي الحق بصفتي عضوًا نائبًا على الأقل في هذا المجلس أن ألقي
رأيًا؛ لأني لم أقصد لهذا الموضوع قبل أن يستوفوا كلامهم، بل هم الذين طلبوا مني
الكلام قبلهم.
يرى فضيلة شيخ الجامع أنه لا تناقض بين تصرفه , وبين صيغة طلبه ,
يرى ذلك , وقد يكون مخطئًا فيما يراه , وقد أكون أول من يخطئه في ذلك , لكن
هذا لا يمنع من أن تعرفوا عقليته - (أعضاء يضحكون) - قبل أن تحكموا على
هذا التصرف حكمًا قاسيًا.
إنه يقول: إن الخلافة الإسلامية كانت شاغرة , وإنه كان يحسن بل يجب
ملؤها , فكان الواجب أن يتفاهم مع كبار رجال المسلمين في العالم.
فهذا إذا كان أنفق مبالغ طلبها للمعاهد الدينية؛ أنفقها للخلافة الإسلامية ,
فإنما قام بعمل هو في رأيه من أعمال المعاهد الدينية.
فإن أنتم دهشتم فاسمحوا لي أن أؤكد لكم أنه أيضًا - ولا أدري إذا كان مخطئًا ,
أو مصيبًا - قد دهش عندما سمع أنه يتهم بأنه طلب مبالغ لعمل , وأنه صرفها في
عمل آخر.
ولو كنت من شيخ الجامع - (كذا في السياسة) - لطلبت من وزارة
الأوقاف المبلغ بعد أن أخبرها بوضوح , وصراحة عن أبواب الصرف حتى لا يقع
مثل هذا اللبس الذي نحن فيه الآن.
على أن شيخ الجامع لا يكون هو المسئول الأول عن الكتب التي يمضيها ,
وهو شيخ كما تعرفون في سنه , وفي مشاغله العديدة , وبحكم وظيفته ...
الدكتور ماهر - ما تطلعوه (المنار: أي أخرجوه من المشيخة) .
الوزير - إن كانت صيغة الكتاب جاءت موجزة إيجازًا معيبًا , أو أنها لم تعبر
عن أفكار شيخ الجامع , فأرجو أن تكتفوا بما شرحته لحضراتكم , وأن تكون ماثلة
أمام حضراتكم جميع الظروف التي أحاطت بالموضوع.
وقبل أن أختم كلامي أصرح أني عندما كنت عضوًا بالوزارة السعدية؛ لم
يتصل بعلمي أن ذلك المبلغ كان له علاقة بمؤتمر الخلافة.
كما أني أصرح بأني لم أجد في الوزارة ما يدل على شيء من هذه العلاقة،
ولذلك فإن البيانات التي أدليت بها في الجلسة السابقة هي كل البيانات التي أستطيع
تقديمها.
بعد ذلك لي كلمة أعتقد من واجبي أن أدلي بها أيضًا , وهي خاصة بسؤال
حضرة النائب المحترم عما اعتزمته وزارة الأوقاف إزاء شيخ الجامع.
يطلب حضرة العضو المحترم مني , وأنا وزير الأوقاف أن أحاكم شيخ
الجامع على تصرفه، ولكني أنبه حضرته إلى أن المعاهد الدينية ليست تابعة
لوزارة الأوقاف , ولو سلمت جدلاً قبل أي بحث بأن موقف أحد موظفي المعاهد
يستوجب مؤاخذته , فليس من شأني , ولا من اختصاصي , ولا في استطاعتي أن
أحاكمه تأديبيًّا؛ لأنه ليس من موظفي وزارتي , ولأنه تابع لسلطة مستقلة , فهذا
خارج عن سلطاني واختصاصي , وتكليفي به هو تكليفي بالمستحيل.
وأما فيما يختص بالمبلغ , وهو الذي لوزارة الأوقاف شأن فيه , فقد ثبت
لحضراتكم أن وزارة الأوقاف قد تبرعت بهذا المبلغ إلى المعاهد الدينية.
فوزارة الأوقاف ترى أن صرف المبالغ في مؤتمر الخلافة مخالف لما طلب
لأجله , وشيخ الجامع يرى أنه صرف للغرض الذي طلب من أجله , ولم أتبين
وجهًا قانونيًّا يساعدني على مطالبة شيخ الجامع برد المبلغ ما دام له وجهة النظر
التي قدمتها.
أعضاء - يضجون
الوزير - افرضوا أن الوزارة اقتنعت , ورفعنا الدعوى , وجاء شيخ الجامع ,
وقد ثبت أنه لم يصرف المبلغ في شؤونه الخاصة , ولكن في موضوع مادي وجد
فعلاً هو مؤتمر الخلافة , وعلى أي حال فأنا كشخص أعرف شيئًا من القانون لا
أرى أني في موقف يسمح لي بأن أرفع الدعوى في هذا الموضوع على شيخ الجامع ,
وأن أكون مطمئنًّا على القضية. اهـ بيان الوزير في المسألة.
(المنار)
هذا ما صرَّح به وزير الأوقاف في مجلس النواب , وهو من علماء
الحقوق والقوانين , فأثبت أن شيخ الأزهر رئيس مؤتمر الخلافة لا يُؤاخَذ قانونًا
في إنفاقه ما أخذه من الأوقاف الخيرية , وأنفقه برأيه في شأن مؤتمر الخلافة، وأن
كل ما في الأمر من المؤاخذة خاص بصيغة الطلب , وأنه يراها لا تخل بغرضه
منه، وكل من له إلمام بالمسألة؛ يعلم أن إيهام الطلب , وعدم التصريح به , وهو مما
كان من التواطؤ بين وكيل وزارة الأوقاف السابق , وبين السكرتير العام للأزهر
ولمؤتمر الخلافة، ولكن بعض النواب لا يعلمون الحقائق , وبعضهم لا ينطقون
بها.
وممن كان يعرفها (الأستاذ الجنيدي) , فقال في المجلس: إن كتاب شيخ
الجامع الأول صدق عليه في اليوم الذي قدم فيه من وكيل الوزارة - وكان حسن
نشأت باشا - , فسأل عن وجود المبلغ؛ فأحيب بأنه يوجد , فجمع اللجنة
الاستشارية فيه , وعرض عليها الأمر , فوافقت عليه , وتقرر صرفه في الحال ,
وكان هناك نائب حر أشار إليها , فقال كلمة حق ننقلها عن جريدة السياسة , وإن
جاءت بها ملخصة فاقدة لبعض قوتها , وهي:
الأستاذ فكري أباظه: المسألة خطيرة , والمسألة تستدعي أن تعالج بشيء غير
قليل من الصراحة.
كلكم تعلمون أنه في ذلك الوقت ظنت الحواشي - والحاشية دائما تصدر منها
المصائب - ظنت الحاشية أن إرادة سامية كانت تريد الخلافة، ففي وزارة سنة
1924 وسنة 1925 كانت المبالغ تصرف بسرعة , وبغير الإجراءات المتبعة في
وزارة الأوقاف، إذن بأي حق , وعلى أي أساس من العدل , والشريعة نصُبُّ جام
غضبنا على الشيخ , والرؤوس باقية لا يحاسبها أحد؟
يقول الناس: سيعاقبون شيخ الجامع , وهم يعلمون أنه كان محركًا بقوة لا
يمكن لمجلس النواب أن يمنعها، فماذا فعلتم بالنسبة للوزراء السابقين , وقد ارتكبوا
من الجرائم ما ارتكبوا؟
لم تستطيعوا أن تعملوا شيئًا؛ لأنه لم يكن هناك قانون يسمح بعقابهم.
يقول وزير الأوقاف: أنه بحث الموضوع , وهو يرى كشخص يعرف القانون
أنه لا يستطيع مقاضاته , فلا تحصروا المسئولية في دائرة ضيقة , وضعوا يدكم على
المسئول الحقيقي.
أنقذوا كرامة المجلس، فالناس يعلمون كل التفاصيل اهـ.
(المنار)
وكان في الجلسة من عارفي الحقيقة النائب أحمد حافظ عوض بك , فارتأى
الاكتفاء ببيان معالي وزير الأوقاف، وكذلك كان.
وانتهت هذه الضجة التي كانت مما يحزن المسلمين , ويسر الملحدين , وإن
باءوا بالخيبة , وسوء الخاتمة.
__________
(1) قد فات الوزير أن الذي كتبه الشيخ لوزارة الأوقاف هو أن المراد صرف المبلغ في بعض الشؤون (السائرة) في المعاهد، وليس فيه أنه يصرف على المعاهد نفسها , بل فهي تصريح بعدم دخوله في ميزانيتها , وهو ظاهر في أنه لا يصرف عليها.(28/315)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
صاحب المنار وجريدة السياسة
ذكرنا في الجزء الماضي ما بلغنا من قول رئيس تحرير السياسة: إنه لا بد
من قتل صاحب المنار.
ذكرناه تعجبًا من غروره , وتمهيدًا لإثبات سوء نيته فيما سيكتبه ويعده
قاتلاً، وإذا به قد كتب مقالة في جريدة السياسة اليومية بقلمه , ثم استكتب بعض
أجرائه مقالاً آخر في مرآة السياسة الأسبوعية صورت آدابهما أوضح تصوير ,
وأدقه؛ قذع بأفحش الهجو الشعري , وجرأة على البهتان الصريح وقلب الحقائق
استغربهما الناس من السياسة بعد أن انتشرت , وصارت تقرأ , وقد بَعُد عهدهم بما
سبق لها من هذا النحو أيام كانت تحمل أمثال هذه الحملات على الرئيس الجليل
سعد باشا زغلول؛ لامتهان الأمة لها , ولحزبها الحر الدستوري المشاق له , وللوفد
المصري حتى إنه قلما كان يوجد من يقرؤها.
ولكن حنق رئيس تحريرها , وبعض مرءوسيه على صاحب المنار إنما هو
في شيء لا يمس أرزاقهم , ولا رواج جريدتهم , فما باله حملهم على قذع وبهتان
أشد من كل ما عهد منهم ومن غيرهم من أصحاب الجرائد التي يلقبونها بالساقطة؟
حتى أجمع كل من اطلع من العارفين , ولا سيما رجال القانون أننا إذا حاكمنا
الكاتبين عليه؛ يحكم عليها بالعقاب قطعًا؛ لأنه لا يمكن أن يعتذر عنه بأنه خلاف
علمي , أو سياسي , أو غير ذلك من أنواع الخلاف الذي يؤيد فيه كل فريق رأيه.
إن بين المنار , والسياسة خلافًا أهم مما كان بين حزبها , وبين الوفد المصري ,
وهو أن المنار داعية الدين الإسلامي , والمدافع عنه، والسياسة تقوم بدعاية إلحادية
تريد أن تنسخ بها هداية الإسلام , وتقطع الرابطتين الإسلامية والعربية بما تعبر عنه
بالثقافة المصرية , والتجديد، ولكن ليس في شيء من المقالتين تخطئة للمنار في شيء
من رأيه في ذلك , ولا دفاع عن ثقافتها وتجديدها، وإنما كله بهت في مثالب شخصية
مختلقة كزعمها أن صاحب المنار ليس ليه دين ولا عقيدة ولا مذهب , فتارة يكون
مسلمًا سنيًّا أو شيعيًّا أو وهابيًّا , وتارة بوذيًّا أو برهميًّا وتارة ملحدًا! ! وما أشبه هذا.
لعل جريدة السياسة تريد أن تستدرجنا بهذا إلى منازلتها في هذا الميدان الذي
تعلم علم اليقين أننا لسنا من فرسانه , وإن جميع فرسانه المبرزين ينهزمون أمامها
فيه، وقد سبق لنا أن قلنا في تفسير قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) : إن الجرائد البذيئة في هذا العصر
قد بذت الشعراء الهجائين في العصور الخالية , فيجب الإعراض عنها، وإذا نحن
عاتبنا , أو عتبنا على أحد في هذا المقام , فإنما نعتب على الحزب الحر الدستوري
الذي جعل أمثال هؤلاء الكتاب لسان حاله , ومحررين لجريدته، فهو المسؤول عن
قذعهم , وبذاءتهم , وعن إلحادهم أيضًا , فإن كنا لا نعرف رأي زعمائه كلهم , أو
أكثرهم في الأمر الثاني , فإننا نجزم بنزاهتهم كلهم عن الأول، ومن يمتري في
آداب عدلي باشا , وثروت باشا , والدكتور حافظ بك عفيفى إلخ.
نعم إن الأحزاب لا بد لها من جرائد تنشر دعوتها , وتحمي حماها , ولو
بالطعن الشخصي في خصومها كما كانت القبائل تختار لها شاعرًا هجاء يدافع عنها
إذا هجيت يلقب بسفيه القوم، وكان خصوم القبيلة يهجونها في جملتها دون سفيهها
عملاً بقول الشاعر:
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب
ونحن لم نكن من خصوم الحزب الدستوري , ولا هجونا رجلاً من زعمائه ,
ولا من دهمائه , وما كان الهجو والثلب من شأبنا.
ولو كانت السياسة ترد على ما ننشره من تفنيد بعض نشرياتها الإلحادية
عملاً بحرية الرأي والنشر الذي تدافع به عن الكتب الإلحادية ككتب علي عبد
الرازق وطه حسين , وتعترف لنا بمثل هذه الحرية لما شكوناها إلى حزبها , ولا
لامها أحد , فإن هذا التباين بيننا لا يمكن السكوت عليه.
__________(28/319)
ذو الحجة - 1345هـ
يونيه - 1927م(28/)
الكاتب: أحمد بن تيمية
__________
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله تعالى
(تابع ما قبله)
فصل
والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعًا ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم
فعل ذلك , أو فعله بعض أصحابه على عهده؛ فأقره عليه، وظنوا أن صلاة
المسافر ركعتين , أو أربعًا بمنزلة الصوم والفطر في رمضان، وقد استفاضت
الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم , فمنهم
الصائم , ومنهم المفطر , وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته.
وأما ما ذكروه من التربيع , فحسبه بعض أهل العلم صحيحًا , وبذلك استدل
الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدق الله بها عليكم؛
فاقبلوا صدقته) , فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله , والصدقة
رخصة لا حتم من الله أن يقصر.
ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف - إن شاء المسافر - أن عائشة
رضي الله عنها قالت: (كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتم في
السفر , وقصر) .
(قلت) : وهذا الحديث رواه الدارقطني , وغيره من حديث ابن عاصم ,
حدثنا عمرو بن سعيد , عن عطاء بن أبي رباح , عن عائشة (أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يقصر في السفر , ويتم، ويفطر , ويصوم) .
قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. قال البيهقي: وهذا شاهد من حديث دلهم
بن صالح , والمغيرة بن زياد , وطلحة بن عمر , وكلهم ضعيف , وروى حديث
دلهم من حديث عبيد الله بن موسى , حدثنا دلهم بن صالح الكندي , عن عطاء ,
عن عائشة قالت: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى مكة
أربعًا حتى نرجع) , وروى حديث المغيرة وهو أشهرها , عن عطاء , عن عائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر , ويتم. وروى حديثَ طلحة ابنُ
عمر , عن عطاء , عن عائشة قالت: (كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أتم , وقصر، وصام في السفر , وأفطر) .
قال البيهقي: وقد قال عمر بن ذر - كوفي ثقة -: أخبرنا عطاء بن أبي
رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعًا , وروى ذلك بإسناده , ثم قال:
وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح , وإن كان في رواية دلهم زيادة سند.
(قلت) : أما ما رواه الثقة , عن عطاء , عن عائشة من أنها كانت تصلي
أربعًا فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره , عن عائشة دل
ذلك على ضعف المسند , ولم يكن ذلك شاهدًا للمسند.
قال ابن حزم في هذا الحديث: انفرد به المغيرة بن زياد , ولم يروه غيره ,
وقد قال فيه أحمد بن حنبل: (ضعيف، كل حديث أسنده منكر) , (قلت) : فقد
روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضًا , وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن
أباه سئل عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث منكر) .
وهو كما قال الإمام أحمد، وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة
لمن احتج به كالشافعي , ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه
وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه: كان يقصر في السفر , وتتم، ويفطر ,
وتصوم، بمعنى أنها هي التي كانت تتم , وتصوم , وهذا أشبه بما روي عنها من
غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضًا.
قال البيهقى: وله شاهد قوي بإسناد صحيح. وروي من طريق الدارقطني من
طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير , عن عبد الرحمن بن الأسود , عن
أبيه , عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في
رمضان، فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمت، وقصر، وأتممت،
فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أفطرتَ , وصمتُ , وقصرتَ , وأتممتُ؟
قال: (أحسنت يا عائشة) , ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم , ثنا
العلاء بن زهير , عن عبد الرحمن بن الأسود , عن عائشة لم يذكر أباه.
قال الدارقطني: الأول متصل , وهو إسناد حسن , وعبد الرحمن قد أدرك
عائشة , فدخل عليها , وهو مراهق.
ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري , ثنا عباس
الدوري , ثنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير , ثنا عبد الرحمن بن الأسود , عن
عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا
قدمت قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قصرت، وأتممت، وأفطرت،
وصمت، فقال: (أحسنت يا عائشة) ، وما عاب علي.
قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم , عن عبد الرحمن , عن عائشة،
ومن قال: عن أبيه في هذا الحديث؛ فقد أخطأ.
(قلت) : أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث، وكان له عناية
بالأحاديث الفقهية , وما فيها من اختلاف الألفاظ , وهو أقرب إلى طريقة أهل
الحديث , والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث
المشهورين , ولهذا رجح هذا الطريق , وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد
منهم إلا النسائي , ولفظه: عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي،
قصرتَ وأتممتُ وأفطرتَ وصمتُ فقال: (أحسنت يا عائشة) , وما عاب علي.
وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين , فتنطق له من الأدلة ما
لو خلا عن ذلك القصد؛ لم يتكلفه , ولحكم ببطلانها.
والصواب ما قاله أبو بكر , وهو أن الحديث ليس بمتصل , وعبد الرحمن
إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته، وقال فيه أبو محمد بن حزم:
هذا الحديث تفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره , وهو مجهول , وهذا
الحديث خطأ قطعًا , فإنه قال فيه: إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عمرة في رمضان , ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يعتمر في رمضان قط , ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان , بل ولا
خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح , فإنه كان حينئذ مسافرًا في
رمضان , وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم , وفي ذلك السفر
كان أصحابه منهم الصائم , ومنهم المفطر , فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين , ولا
نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعًا , والحديث المتقدم خطأ كما
سنبينه إن شاء الله تعالى، وعام فتح مكة لم يعتمر، بل ثبت بالنقول المستفيضة
التي اتفق عليها أهل العلم به أنه إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عُمَر منها ثلاث في
ذي القعدة، والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون؛ فحل
بالحديبية بالإحصار , ولم يدخل مكة، وكانت في ذي القعدة , ثم اعتمر في العام
القابل عمرة القضية، وكانت في ذي القعدة أيضًا، ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة
اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرته في ذي القعدة أيضًا، والرابعة مع حجته، ولم
يعتمر بعد حجه لا هو , ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت ,
وأمرها أن تهل بالحج، ثم أعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، ولهذا قيل لما
بني هناك من المساجد: مساجد عائشة , فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة، فهذا
كله مما تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه:
عمرة من الحديبية في ذي العقدة , وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة , وعمرة
من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين , وعمرة مع حجته، وهذا لفظ
مسلم. ولفظ البخاري: اعتمر أربعًا؛ عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده
المشركون، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة حنين،
وعمرة مع حجته.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري، وأراد بذلك العمرة
التي أتمها , وهي عمرة القضية , والجعرانة.
وأما الحديبية , فلم يمكن إتمامها؛ بل كان منحصرًا لما صده المشركون ,
وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم , وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما
قيل لها: إن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب.
فقالت: (يغفر الله لأبي عبد الرحمن , ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
وهو معه , وما اعتمر في رجب قط، ما اعتمر إلا وهو معه) , وفي رواية عن
عائشة قالت: (لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة) ,
وكذلك عن ابن عباس. رواهما ابن ماجه , وقد روى أبو داود عنها قالت: (اعتمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة , وعمرة في شوال) .
وهذا إن كان ثابتًا عنها , فلعله ابتداء سفره كان في شوال , ولم تقل قط: إنه
اعتمر في رمضان؛ فعلم أن ذلك خطأ محض.
وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة , وثبت أيضًا
أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة , ودخلها إلا ثلاث مرات: عمرة القضية , ثم
غزوة الفتح، ثم حجة الوداع , وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة
وأحول رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة
الفتح - كان كل من هذين دليلاً قاطعًا على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت
معه في رمضان , وقالت: أتممت وصمت , فقال: (أحسنت) , خطأ محض، فعلم قطعًا أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه
وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من روى عني حديثًا , وهو يرى أنه كذب , فهو
أحد الكاذبين) ؛ ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه
كذب.
فإن قيل: فيكون قوله: (في رمضان) خطأ , وسائر الحديث يمكن صدقه؛
قيل: بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان؛ لأنها قالت: قلت:
أفطرت وصمت وقصرت وأتممت , فقال: (أحسنت يا عائشة) , وهذا إنما يقال
في الصوم الواجب.
وأما السفر في غير رمضان , فلا يذكر فيه مثل هذا؛ لأنه معلوم أن الفطر
فيه جائز , وأيضًا فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي , عن عائشة
أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ ففرضت ثلاثًا , فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى , وإذا أقام؛ زاد مع كل
ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ لأنها وتر , والصبح؛ لأنها تطول فيها القراءة) .
أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر؛ صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين , فلو
كان تارة يصلي أربعًا؛ لأخبرت بذلك , وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على
عائشة، وأيضًا فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ,
فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات , وعمرها أقل من عشرين سنة , فإنه لما بنى
بها بالمدينة كان لها تسع سنين , وإنما أقام بالمدينة عشرًا , فإذا كان قد بنى بها في
أول الهجرة؛ كان عمرها قريبًا من عشرين , ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك؛ لكان
عمرها حينئذ أقل , وأيضًا فلو كانت كبيرة؛ فهي إنما تتعلم الإسلام , وشرائعه من
النبي صلى الله عليه وسلم , فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر
خلاف ما يفعله هو , وسائر المسلمين وسائر أزواجه , ولا تخبره بذلك حتى تصل
إلى مكة؟ هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين؟ وما بالها فعلت هذا في هذه
السفرة دون سائر أسفارها معه؟ وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه ,
وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: (فرض
الله الصلاة حين فرضها ركعتين , ثم أتمها في الحضر , وأقرت صلاة السفر على
الفريضة)
وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة , ورواية أصحابه الثقات ,
ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة , يرويه مثل ربيعة، ومن
رواية الشعبي , عن عائشة.
وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة , فكيف
تقدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه ,
وهي تراه , والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين.
وأيضًا فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يحتج
بأنها فعلت ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها
عروة ابن أختها , بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد , كما رواه النيسابوري ,
والبيهقي , وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب ابن جرير , ثنا شعبة , عن هشام
بن عروة , عن أبيه , عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعًا , فقلت لها: لو
صليت ركعتين؟ فقالت: (يا ابن أخي إنه لا يشق علي) .
وأيضًا , فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه ,
عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر , فأقرت
صلاة السفر على ركعتين , وأتمت في الحضر أربعًا. قال صالح: فأخبر بها عمر
بن عبد العزيز فقال: (إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر)
قال: فوجدت عروة يومًا عنده , فقلت: كيف أخبرتني عن عائشة؟ فحدث بما
حدثني به. فقال عمر: (أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعًا في السفر؟) قال:
بلى.
وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين , فزيد في صلاة الحضر ,
وأقرت صلاة السفر) قال الزهري: قلت: فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة؟ قال:
إنها تأولت كما تأول عثمان.
فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت: لا يشق علي.
وقال: إنها تأولت كما تأول عثمان. فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من
اجتهادها , ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن لها الإتمام , أو كان هو قد
أتم؛ لكانت قد فعلت ذلك اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكذلك
عثمان , ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد.
ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر ,
وقد عرف أنه باطل , فكيف بما هو أبطل منه؟ وهو كون النبي صلى الله عليه
وسلم كان يتم في السفر , ويقصر، وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق
عليها أصحابه نقلاً عنه , وتبليغًا إلى أمته.
لم ينقل عنه قط أحد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعًا , بل تواترت
الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه.
والحديث الذي يرويه زيد العمي , عن أنس بن مالك قال: (إنا معاشر
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر ومنا
المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر) وهو
كذب بلا ريب، وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك , والثابت عن أنس
إنما هو في الصوم.
ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يصلون
فرادى؛ بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم، فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر ,
فهذا الحديث من الكذب، وإن كان البيهقي روى هذا , فهذا مما أنكر عليه , ورآه أهل
العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له، وإنه يحتج بآثار
لو احتج بها مخالفوه؛ لأظهر ضعفها وقدح فيها، وإنما أوقعه في هذا مع علمه
ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لقول
واحد من العلماء دون آخر , فمن سلك هذه السبيل؛ دحضت حججه , وظهر عليه
نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار , ويتأولها في كثير من
المواضع بتأويلات يبين فسادها؛ ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب
شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي؛ لكن
البيهقي ينقي الآثار , ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي.
والحديث الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد
قيل: إنه مصحف , وإنما لفظه: (كان يقصر , وتتم هي) بالتاء , (ويفطر وتصوم
هي) ؛ ليكون معنى الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه , فإنه معروف
عن عبد الرحمن بن الأسود، لكنه لم يحفظ عن عائشة.
وأما نقل هذا الآخر عن عطاء , فغلط على عطاء قطعًا , وإنما الثابت عن
عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا كما رواه غيره , ولو كان عند عائشة
عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ لكانت تحتج بها، ولو كان ذلك
معروفًا من فعله؛ لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون
خلفه دائمًا في السفر , فإن هذا ليس مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال
كقيامه بالليل , واغتساله من الإكسال فضلاً عن أن تكون مختصة بعلمه، بل أمور
السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة؛ لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره ,
فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا
أراد سفرًا أقرع بين نسائه , فأيهن خرج سهمها خرج بها معه) .
فإنما كان يسافر بها أحيانًا , وكانت تكون مخدرة في خدرها , وقد ثبت عنها
في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هانئ عن المسح على الخفين قالت: (سل
عليًّا , فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم) .
هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في منزله في
السفر , فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة , فإن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن يصليها في الحضر , ولا في السفر إلا إمامًا بأصحابه، إلا أن يكون له عذر
من مرض , أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب؛ ليصلح بين أهل قباء , وكما غاب
في السفر للطهارة , فقدموا عبد الرحمن بن عوف , فصلى بهم الصبح , ولما حضر
النبي صلى الله عليه وسلم حسن ذلك , وصوبه.
وإذا كان الإتمام إنما كان , والرجال يصلون خلفه , فهذا مما يعلمه الرجال
قطعًا , وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله , فإن ذلك مخالف لعادته في عامة
أسفاره فلو فعله أحيانًا؛ لتوفرت هممهم , ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح
على الخفين لما فعله، وإن كان الغالب عليه الوضوء , وكما نقلوا عنه الجمع بين
الصلاتين أحيانًا، وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص، مع
أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض , فإن الناس لا يشعرون
بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر , فإن هذا أمر يرى
بالعين لا يحتاج إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر , وخروج وقت
المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل. ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان
في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وقد روي
أنه كان يجمع كذلك , فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعًا لو فعل ذلك في
السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شهة ولا نزاع، بل كان ينقله المسلمون , ومن جوز
عليه أن يصلي في السفر أربعًا - ولا ينقله أحد من الصحابة، ولا يعرف قط إلا
من رواية واحد مضعف , عن آخر , عن عائشة، والروايات الثابتة عن عائشة لا
توافقه , بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى الفجر مرة أربعًا؛ لصدق ذلك , ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار
التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد , مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ,
ويعلم أنه لو كان حقًّا؛ لكان ينقل , ويستفيض.
وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى:
(أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق
ضعيف مع العلم بأن ذلك لو كان حقًّا؛ لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ,
وذلك مثل ما روى أبو داود الطيالسي , حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن
أبي نضرة قال: سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا
قط، إلا صلى ركعتين حتى يرجع , وشهدت مع رسول الله صلى عليه وسلم حنينًا ,
والطائف؛ فكان يصلي ركعتين، ثم قال: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم
سفر) , ثم حججت مع أبي بكر، واعتمرت , فصلى ركعتين ركعتين، ثم قال: (يا
أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) , ثم حججت مع عمر , واعتمرت , فصلى
ركعتين، وقال: أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر , ثم حججت مع عثمان واعتمرت ,
فصلى ركعتين ركعتين , ثم إن عثمان أتم.
فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في
السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة
إنما نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في السفر ركعتين.
وأما ما ذكره من قوله: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم؛ فإنا قوم سفر) , فهذا
مما قاله بمكة عام الفتح , لم يقله في حجته، وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية.
وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده، رواه البيهقي من
طريقه ولفظه: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا إلا صلى ركعتين
حتى يرجع , ويقول: (يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين فإنا قوم سفر) وغزا
الطائف وحنين فصلى ركعتين، وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت مع
أبي بكر واعتمرت فكان يصلي ركعتين وحججت مع عمر بن الخطاب فكان
يصلي ركعتين.
فلم يذكر قوله: إلا عام الفتح، قبل غزوة حنين والطائف، ولم يذكر ذلك عن
أبي بكر، وعمر، وقد رواه أبو داود في سننه صريحًا من حديث ابن علية: حدثنا
علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين قال: عرفت مع النبي
صلى الله عليه وسلم، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي
ركعتين يقول: (يا أهل البلد صلوا أربعًا؛ فإنا قوم سفر) , وهذا إنما كان في
غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى، وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة
في الحج ركعتين، ثم قال عمر بعدما سلم: أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر.
هذا، ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من
الصحابة، لا ممن نقل صلاته، ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي
على نقله، مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون: إن المكيين يقصرون الصلاة
بعرفة، ومزدلفة، ومنى. أفيكون كان معروفًا عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم
خلاف ذلك؟ أم كانوا جهالاً بمثل هذا الأمر الذي يشيع , ولا يجهله أحد ممن حج مع
النبي صلى الله عليه وسلم؟
وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال: (صلينا مع النبي صلى الله
عليه وسلم بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين) . حارثة هذا خزاعي وخزاعة
منزلها حول مكة.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع
ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود , فاسترجع , وقال: صليت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت
مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.
وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل: إنه كان؛ لأنه تأهل بمكة , فصار مقيمًا.
وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذئب، أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات،
فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت , وإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تأهل في بلد , فليصل صلاة مقيم بمكة
ثلاثة أيام , ويقصر الرابعة) ، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو
لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك، فإن عثمان كان من المهاجرين، وكان المقام
بمكة حرامًا عليهم.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجر أن يقيم بمكة
بعد قضاء نسكه ثلاثًا، وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته فتهيأ له فيركب
عليها عقب العمرة لئلا يقيم بمكة؛ فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطنًا
بمكة إلا أن يقال: إنه جعل التأهل إقامة لا استيطانًا , فيقال: معلوم أن من أقام
بمكة ثلاثة أيام، فإنه يقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم , وهو لا يمكنه أن
يقيم بها أكثر من ذلك؛ لكن قد يكون نفس التأهل مانعًا من القصر، وهذا أيضًا بعيد ,
فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم , وخلفائها بمنى،
وأيضًا فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون اقتداءً به، ولو كان عذره
مختصًّا به؛ لم يفعلوا ذلك , وقيل: إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع.
وهذا أيضًا ضعيف، فإن الأعراب كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
أجهل منهم في زمن عثمان، ولم يتمم الصلاة، وأيضًا فهم يرون صلاة المسلمين
في المقام أربع ركعات، وأيضًا فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم،
فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك، وعروة قد قال: إن
عائشة تأولت كما تأول عثمان , وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها [1] .
أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر، ورأوا أن الدنيا لما اتسعت
عليهم لم يحصل لهم من الشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعًا، كما قد
جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ أن ذلك كان لأجل حاجتهم إذ
ذاك إلى هذه المتعة , فتلك الحاجة قد زالت.
تمت
جاء في آخر النسخة التي طبعنا عنها هذه الرسالة ما نصه:
هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة، للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكان
المنقول عنها يقول كاتبها: إنه نقلها من نسخة بخط ابن القيم رحمهم الله , وقد وقع
الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية،
وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سبق مثل هذا الكلام أيضًا في الصفحة 42 من هذا الكتاب فانظره.(28/334)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
مسألة القبور والمشاهد عند الشيعة
مناظرة بين عالم شيعي، وعالم سني
من المعلوم في كتب التاريخ أن رفع بناء قبور آل البيت وغيرهم من
الصالحين، وبناء القباب عليها، وإيقاد السرج والقناديل فيها، وجعلها مساجد
يصلى فيها , وشعائر يحج إليها خلافًا للأحاديث الصحيحة الزاجرة عن ذلك لعمل
الصدر الأول - كل ذلك مما ابتدعه الشيعة الباطنية والظاهرية , وقلدهم فيه
بعض المنتسبين إلى السنة من الملوك , والسلاطين الجاهلين , ولا سيما الأعاجم
منهم كالجراكسة , والترك , ومن مشايخ الطرق الصوفية.
ويعلم قراء المنار أننا منذ أنشأناه في أواخر سنة 1315 إلى الآن , ونحن
ننكر هذه البدع , ونشنع على أهلها في مصر وغيرها من غير تعرض لذكر
الشيعة؛ لأن هؤلاء أشد الفرق الإسلامية تعصبًا وجدلاً , فتوجيه الكلام إليهم قلما
يفيد إلا زيادة الشقاق الذي نسعى لإحالته وفاقًا، ولكن نشرنا في المجلد الثاني ,
والمجلد الثالث عشر من المنار رسالتين لسائحين من أهل العلم (أولاهما) عن حال
العراق تعرض فيها لدعاة الشيعة هنالك , وذكر مسألة المتعة , (والثانية) من
البحرين بحث فيها مرسلها في مسألة القبور والمشاهد في مذهب الشيعة , فما زلنا
نسمع الطعن في المنار من أجل نشرهما قولاً وكتابة، وقد ألف بعض علمائهم في
سورية كتابًا سماه: (الشيعة والمنار) , فعرقل المتعصبون منهم جهادنا في سبيل
التأليف بينهم , وبين أهل السنة.
وجملة القول: إن بعض علمائهم المتعصبين جعلوا المنار خصمًا للشيعة ,
ولو اشتغلنا بالرد والإنكار على الشيعة عشر معشار اشتغالنا بالبدع المنتشرة في
البلاد التي يعد أهلها من متبعي السنة؛ لقضينا كل عمرنا في الجدل الذي يبغضه
الله تعالى , ويبغض أهله.
وكنا نود أن نرى كتابة لبعض علمائهم المعاصرين يبين فيه أدلتهم في هذه
المسألة , ولا نعثر عليها حتى زارنا في هذا الشهر عالم سني كان في العراق، وقعت
بينه وبين أحد علماء الشيعة مناظرة شفاهية فيها تلتها مناظرة قلمية اطلعنا عليها؛
فاستأذناه في نسخها ونشرها؛ فأذن لنا، وهي مبنية على الرسالة الثانية من الرسالتين
اللتين أشرنا إليهما آنفًا.
ونبدأ بنشر ما كتبه العالم الشيعي , وهو الأستاذ الشهير (سيد مهدي الكاظمي
القزويني) , ثم نقفي عليها برد العالم السني , وهو (الأستاذ الشيخ محمد بن عبد
القادر الهلالي) , ولكننا نعلق في الحواشي بعض الفوائد قبل الاطلاع على الرد كله ,
ونشره.
***
رسالة العالم الشيعي [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ,
وعترته الطاهرين، وعلى صحبه المنتخبين [1] , وعلى التابعين لهم بإحسان.
ثم تحية وسلام على جناب العام الفاضل الشيخ محمد بن عبد القادر الهلالي
سلمه الله تعالى , ووفقه معنا , وسائر المؤمنين لما يرضيه.
أما بعد , فقد تناولنا بكمال الاحترام كتابكم الكريم المؤرخ لأربع خلون من
شعبان , وسبرنا ما أوعزتم إليه مما نشره المنار عن أحد مكاتبيه في الجزء الرابع
من المجلد الثالث عشر في صفحة 311 , وتلقينا سؤالكم عن الحقيقة بتمام السرور ,
والانشراح رغبة بكشف الالتباس , ورفعًا لسوء التفاهم بين المسلمين، ولذا تتبعنا
كلام المكاتب فقرة فقرة , وإن استلزم ذلك طولاً في البحث , لكنكم ستسامحوننا عليه
إن شاء الله تعالى.
قال المكاتب: والعجب من علمائهم - يعني الشيعة - أنه لا يوجد كتاب من
فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور , والسرج عليها , وتجديدها , وبناء
المساجد عليها. ثم لا نرى منهم منكرًا لذلك , بل يعدونه من أفضل القربات انتهى.
نقول: كان على المكاتب أن يذكر على الأقل كتابًا واحدًا من كتب الشيعة في
الفقه مصرحًا فيه بعدم جواز هذه الأمور؛ ليكون شاهدًا على صدقه فيما ادعاه،
وأنى له بذلك؟ وهذه كتب الشيعة منتشرة في غاية الكثرة لم نجد في واحد منها ما
نسبه إليهم.
قال المكاتب استدلالاً بما قال الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر
المتوفى في أواسط القرن الثالث عشر على عدم جواز البناء على القبور عند ذكر
صاحب المتن: إنه لا يجوز. انتهى.
نقول: سبحانك اللهم مغفرة وعفوًا، وعجبًا من مدعي العلم كيف يحرف الكلم
عن مواضعه؟ ولم ينقله على وجهه، إن نص عبارة كتاب الجواهر هكذا: ولما
فرغ (يعني المحقق الحلي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة مصنف كتاب شرائع
الإسلام في الفقه , وهو المتن الذي شرحه الشيخ محمد حسن النجفي , وسمى شرحه:
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) من الكلام في المسنونات شرع في الكلام
في المكروهات , فمنها: (إنه يكره فرش القبر بالساج إلا لضرورة) , ثم ذكر
جملة من المكروهات إلى أن قال: (ومنها: تجصيص القبور) .
هذا نفس المتن , فهل يتوهم أحد من هذه العبارة عدم جواز البناء على القبور
بعد تصريح المصنف بأنه يكره تجصيصها؟ حاشا , وكلا.
ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر المتن المزبور أخذ يستدل على كراهة
التجصيص , ومن جملة ما استدل به: الحديث المروي عن علي بن جعفر رضي
الله عنه قال: سألت أبا الحسن موسى - يعني الكاظم رضي الله عنه - عن البناء
على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: (لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا
تجصيصه ولا تطيينه) .
أما وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص , فهو أن الجلوس على القبر
ليس بمحرم عندنا , فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة؛ للزوم تساوي
المتعاطفات في الحكم [2] , فقوله رضي الله عنه: لا يصلح؛ إنما يريد به الكراهة ,
لا التحريم بقرينة ذكر الجلوس الذي ليس بحرام.
ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث إلا قوله: لا يصلح البناء على القبر ,
وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث دال على التحريم , ولا شك أن إسقاط
بعض الحديث خيانة في النقل، على أن لفظ الحديث: (لا يصلح) , وهو بنفسه
لا يدل على التحريم؛ لأن نفي الصلاح في شيء لا يستلزم ثبوت الفساد فيه، فلا
تحريم إذن.
ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة التجصيص قول الصادق
رضي الله عنه: كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر؛ فهو ثقل على الميت.
وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن المفهوم منه: كراهة أن يهال
على الميت من غير تراب القبر , فالصادق رضي الله عنه كأنه قال: لا يهال على
القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره , ولا يؤتى بشيء من غيره ,
فيوضع في القبر [3] إلا أنه يمكن أن يفهم منه كراهة تجصيصيه (أيضًا) ؛ لأن
الجص من غير تراب القبر , ولهذا جعل صاحب الجواهر هذا الحديث مشعرًا
بكراهة التجصيص لا دليل عليه , ومعلوم أن الإشعار نظير الإيماء , والتلميح ليس
من دلالات الألفاظ , ومفهوماتها الظاهرة منها [4] .
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
في هدم القبور , وكسر الصور , وسنذكر فيما يأتي معنى هذا الحديث إن شاء الله ,
والمهم هنا بيان أن صاحب الجواهر ذكر هذه الأحاديث استدلالاً على كراهة
تجصيص القبور حسب ما صرح به الماتن , ونحن وضحنا وجه الاستدلال بها.
ثم قال الماتن: ومنها؛ أي: من المكروهات (تجديد القبور بعد اندراسها) ,
وأخذ صاحب الجواهر يستدل على كراهة ذلك بما لا حاجة إلى ذكره؛ لأن مكاتب
المنار لم يتعرض له [5] , ثم إنه لا الماتن ولا الشارح تعرض لمسألة السرج على
القبور؛ فيفهم من ذلك أنها غير مكروهة عندهما , ولهذا أهملا ذكرها [6] , وسائر
كتب الشيعة على هذا النسق , فليرجع إليها من شاء , فكيف قال مكاتب المنار: إنه
لا يوجد كتاب من فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور , والسرج عليها ,
وتجديدها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم [7] ، ولا عجب منه , فإنه لما تظاهر
بالتمدن الغربي , وأدخل نفسه في عداد المتنورين بزعمه , وتراءى للناس بمظهر
بيان الحقائق؛ سولت له نفسه أن قارئ كتابه لا يتهمه بالافتراء على تحريف كلمات
العلماء , وساق الأحاديث على غير مساقها بعد أن لعب بها [8] كل ذلك؛ ليشوه
وجه الشيعة , وسمعتهم عند من لم يعرف حقيقة الحال، ولم يدر , وليته درى بأنه
سود بذلك صحيفة تاريخه وتاريخ المنار، فأين الكراهة من التحريم؟ وأين تجصيص
القبور أو البناء عليها من البناء الذي قصد التشنيع به كالقباب وغيرها [9] ؟ فإن
من الواضح أن البناء المذكور في حديث الكاظم عليه السلام سؤالاً وجوابًا؛ إنما هو
بناء نفس القبر , وهو الذي لا يصلح كما يشهد به قوله في الحديث: (ولا الجلوس
عليه , ولا تجصيصه , ولا تطيينه) , فهل يفهم من هذه الكلمات غير نفس القبر؟
وكم من فرق بين بناء نفس القبر [10] , وبين القبة المبنية على أساسات لا دخل لها
بالقبر أصلاً.
قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكلينى عن سماعة قال: سألت
الصادق رضي الله عنه عن زيارة القبور , وبناء المساجد عليها , فقال: (أما
زيارة القبور , فلا بأس , ولا يبنى عليها مساجد) , قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد) انتهى.
نقول: يوجد فيما نقله المكاتب من حديث سماعة بعض تغييرات لا يختلف
بها المعنى , ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة بصورة
توهم أن الصادق رضي الله عنه استشهد به على قوله، مع أن الحديث النبوي لا
وجود له في كتاب الكليني أصلاً، نعم توجد روايته مرسلة في بعض كتب الشيعة.
وكيف كان , فليعلم أن جميع ما جاء من بناء المساجد , أو اتخاذها على
القبور، أو فيها، أو عندها حسب اختلاف النقل؛ إنما يراد به النهي عن جعل
نفس القبر مسجدًا؛ أي: موضعًا يسجد عليه , وليس المراد بالمسجد ما هو المعروف
بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه؛ لأنه حينئذ لا يكون معنى معقول لبناء
المسجد على القبر , أو اتخاذ المسجد عليه، وهل يتصور في الإمكان بناء مسجد
على نفس القبر؟ ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي: (لا تتخذوا قبري قبلة ,
ولا مسجدًا) , فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه
المصلي ولا يستقبل القبلة , ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه , فإن الله
لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد , ومن المعلوم أن ليس لليهود مساجد
بالمعنى المعرف عند المسلمين، فالمقصود إذن بيان أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم
مواضع يسجدون عليها [11] .
وفي صحيح البخاري: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور , وذكر
حديث عائشة رضي الله عنها , عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لعن الله
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد , ولولا ذلك لأبرز قبره غير أني
أخشى أن يتخذ مسجدًا) . انتهى
فهل يفهم من هذا الحديث إلا اتخاذ نفس القبر موضعًا يسجد عليه؟ قال في
فتح الباري: قوله: (لأبرز قبره) أي: لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم , ولم
يتخذ عليه الحائل , فهل يوجد أصرح من ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس
القبر لا يجوز، وهذا المعنى هو المنهي عنه في جميع أحاديث الباب، وربما حملها
بعض العلماء على إرادة السجود لنفس القبور؛ تعظيمًا لها , وهذا المعنى وإن
كان غير جائز أيضًا؛ لأنه عبادة للقبور إلا أن الأحاديث ليست مسوقة للنهي عن
ذلك , بل للنهي عن السجود على نفس القبر , وسنذكر أقوال العلماء بالنسبة إلى
هذا المعنى فيما يأتي إن شاء الله.
وتوجد (أيضًا) معان ثلاثة غير المعنى الذي قررناه إلا أنه لا يمكن تفسير
الأحاديث بواحد منها , (أحدها) أن يراد النهي عن وصل المساجد بمواضع القبور ,
وهذا التأويل خطأ فاحش؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل
بموضع قبره الشريف في زمن الصحابة والتابعين , فكيف يدعى أن ذلك منهي
عنه؟ وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين.
(ثانيها) أن يراد النهي عن أن يقوم المصلي حول القبر , ويسجد على
الأرض قريبًا من القبر، وهذا التأول أيضًا خطأ لا يصح حمل الأحاديث عليه؛
لأنه لا ريب في أن البقعة المتضمنة لقبر نبي أو إمام عادل أو ولي لله تعالى أو
غيره ممن له عند الله منزلة جليلة , وجاه عظيم تكون أشرف , وأفضل من
غيرها؛ لنسبة شرف المدفون فيها , وفضله، قال النواوي في شرحه لصحيح مسلم
في باب فضل الصلاة بمسجد في مكة , والمدينة: قال القاضي عياض: (أجمعوا
على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض) , ولا ريب
أيضًا [12] في أن الصلاة ومثلها الدعاء وقراءة القرآن وسائر الأذكار والأعمال الشرعية في الأماكن الشريفة تكون أقرب إلى قبولها عند الله تعالى [13] ؛ ولهذا
صارت الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في غيره , ولأجل الحصول على
هذا الفضل كان السلف الصالح وأئمة المسلمين حتى في زماننا هذا يصلون ويدعون , ويتضرعون إلى الله تعالى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن صفوف
الصلاة تحاذي نفس القبر الشريف [14] .
(ثالثها) أن يراد النهي عن إنشاء المساجد , واتخاذها حول القبور , وهذا
التأول خطأ أيضًا؛ لأنه لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله تعالى ببناء مسجد
تقام فيه الصلوات في تلك البقاع الشريفة مع ما ورد من أن من بنى مسجدًا؛ بنى
الله له بيتًا في الجنة , وهو حديث عام لا يختص ببقعة دون بقعة , ولا بزمان دون
زمان، بل بناؤه وإنشاؤه في البقاع الشريفة أولى؛ لكونه حينئذ يشتمل على جهتين من
الشرف شرف البقعة , وشرف المسجدية [15] , ففي فتح الباري في باب هل تنبش
قبور مشركي الجاهلية قال البيضاوي [16] : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون
لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم , ويجعلونها قبلة يتجهون في الصلاة نحوها واتخذوها
أوثانًا؛ لعنهم - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - , ومنع المسلمين عن مثل
ذلك , فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح , وقصد التبرك بالقرب منه لا التعظيم
له , ولا التوجه نحوه , فلا يدخل في ذلك الوعيد انتهى.
وفي الكتاب المذكور في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي
الأرض مسجدًا وطهورًا) قال: وإيراده - يعني حديث جابر - هنا يحتمل أن
يكون أراد أن الكراهة في الأبواب المتقدمة ليست للتحريم؛ لعموم قوله صلى الله عليه
وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا) أي: كل جزء منها يصلح أن يكون مكانًا
للسجود , أو يصلح أن يبنى فيه مكان للصلاة , ويحتمل أن يكون أراد أن الكراهة
فيها للتحريم , وعموم حديث جابر مخصوص بها , والأول أولى؛ لأن الحديث
سيق في مقام الامتنان , فلا ينبغي تخصيصه انتهى [17] .
وحيث تبين خطأ تأويل الأحاديث بأحد تلك المعاني الثلاثة؛ تعين أن يكون
المراد ما قررناه أولاً , وهو جعل نفس القبر موضعًا يسجد عليه , أو قبلة يصلى
إليها , وهذا المعنى هو المنهي عنه بتلك الأحاديث حسب ما شرحناه، لكن بعض
العلماء تأولها بالسجود لنفس القبور تعظيمًا لها كما تقدم نقله عن البيضاوي.
وقال النواوي في شرح صحيح مسلم في باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد: قال
العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا
خوفًا من المبالغة في تعظيمه , والافتتان به , فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى
لكثير من الأمم الخالية , ثم ذكر علة زيادة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
وإدخال قبره فيه , وقال: بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلا يظهر
في المسجد , فيصلي عليه العوام , ويؤدي إلى المحذور. انتهى.
وفي فتح الباري في باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية , ويتخذ مكانها
مساجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ اليَّهُود اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبَيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ) ، قال: إن الوعيد على ذلك يتناول من اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ,
ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية , وجرهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول من اتخذ أمكنة
قبورهم مساجد بأن تنبش , وترمى عظامهم , انتهى.
نقول: إن ما ذكره هؤلاء في تأويل هذه الأحاديث غير مفهوم منها , ولا
ظاهر من سياقها، وعسى أن يكونوا لم يهتدوا إلى المعنى الذي قررناه، مع أنه في
غاية الظهور، فتأولها بذلك [18] وعلى أي حال، فلا ريب في أن السجود للقبور
تعظيمًا لها لا يجوز , بل هو كفر وشرك؛ لكونه عبادة , وسجودًا لغير الله جل وعلا،
ولا يتصور صدور ذلك من مسلم.
وإذ شرحنا معاني الأحاديث , فليفصح لنا مكاتب المنار عن جهة انتقاده على
الشيعة [19] .
إن زعم أنهم يسجدون للقبور تعظيمًا لها؛ قلنا: سبحانك اللهم هذا بهتان
عظيم {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم:
90) , وإن زعم أنهم في صلواتهم لله يسجدون على قبور أئمتهم؛ كذبه الوجدان ,
مع أن قبور الأئمة رضي الله عنهم محاطة بصناديق , وشبابيك تمنع من وصول
أحد إلى نفس القبر، وإن زعم موافقة عمل الشيعة لأحد المعاني الثلاثة المتقدمة؛
فقد بينا أن ذلك غير منهي عنه , ولا محذور فيه [20] بل هو راجح شرعًا , وأهل
السنة لم يزالوا عاملين به , فهم مشاركون للشيعة في ذلك [21] مضافًا إلى أنا لم نجد
أحدًا بنى مسجدًا حول قبر من القبور المشهورة [22] .
نعم إن الشيعة يصلون , ويدعون ربهم , ويطلبون منه مغفرة ذنوبهم ,
ويتضرعون إليه في مشاهد قبور أئمتهم رضي الله عنهم , لكن مجرد الصلاة ,
والدعاء , ونحوه لا يصيرها مساجد [23] , ولو أن أحدًا واظب على أن يصلي ,
ويدعو , ويقرأ القرآن مدة حياته في مكان خاص من بيته؛ فإن ذلك المكان
بالضرورة لا يصير مسجدًا بكثرة العبادة فيه [24] , وحينئذ ما وجه تعجب مكاتب
المنار من علماء الشيعة , وإنه لا يرى منهم أحدًا منكرًا لذلك , فليصرح برأيه , فإن
أي المعاني المتقدمة يجب في نظره أن ينكره علماء الشيعة؟ هل المعنى الذي لم
يرتكبه حتى الجاهل من الشيعة , بل لا يمكن ارتكابه , وهو السجود على نفس
القبر؟ أو أحد المعاني الثلاث التي بعضها لا وجود له أصلاً , وبعضها مشترك
العمل بين الشيعة وأهل السنة , وهو عمل راجح شرعًا وعقلاً , ولو أنه فهم
معاني أحاديث بناء المساجد , واتخاذها على القبور , وراجع وجدانه في ذلك؛ لما
تورط في هذا الخطأ الفاحش [25] , وأعجب منه أن صاحب المنار نشر هذا الخطأ
مع ادعائه التبحر في المعارف [26] .
أما الحديث الذي وعدنا فيما سبق ببيان معناه , وهو المروي عن أمير
المؤمنين رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور
وكسر الصور.
فليس فيه بيان الموضع المبعوث إليه , ولا بيان تلك القبور التي بعثه في
هدمها , لكن متن الحديث يرشدنا إلى أن الموضع كان في بلاد المشركين يومئذ , أو
من بلادهم , وأن القبور قبورهم , وأن الصور المجعولة على القبور , أو حولها إن
لم تكن هي الأصنام التي يعبدونها؛ فهي التماثيل التي يعملونها مثالاً لعظمائهم ,
ووجدوا فيها , أو حولها صورهم , وتماثيلهم في مصر , في سورية , في نينوى ,
في العراق، ومن المعلوم أن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قبور
المسلمين مشيدة بالبناءات الصخمة حتى يبعث من يهدمها، ولم يكن المسلمون
يعملون الصور , والتماثيل كما يشهد به التاريخ [27] .
ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عنه
رضي الله عنه قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
لا تدع تمثالاً إلا طمسته , ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته.
ولا شك أن التمثال من صنع المشركين , أما تسوية القبر فهو تعديله
وتسطيحه , يعني إذا وجدت قبرًا مشرفًا مسنمًا؛ فسوه؛ أي: عدله وسطحه , ففي
صحيح مسلم حديث أبي علي الهمداني قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم
برودس , فتوفي صاحب لنا , فأمر فضالة بقبره فسوي , وقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. قال النواوي في شرحه: قوله: يأمر بتسويتها
وفي الرواية الأخرى: ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته , فيه أن السنة أن القبر لا يرفع
على الأرض رفعًا كثيرًا , ولا يسنم , بل يرفع نحو شبر , ويسطح , انتهى محل
الحاجة منه , وأشار إليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المجلد الأول من كتابه
(منهاج السنة) في صفحة 546 مستدلاًّ به للشافعي , فإنه بعد أن ذكر أن مذهب أبي
حنيفة , وأحمد أن تسنيم القبور أفضل قال: والشافعي يستحب التسطيح؛ لما روي
من الأمر بتسوية القبور , ورأى أن التسوية هي التسطيح انتهى. والحق مع الشافعي
في ذلك , وليس هو رأيًا رآه كما زعمه الشيخ , بل التسوية في اللغة هي التعديل , في المصباح المنير: سويته عدلته وملوكهم , ويشهد بذلك ما نقرؤه في كثير من
الصحف والمجلات عما يستخرجه علماء الآثار من الأحافير التي عثروا فيها على
كثير من قبور الملوك القدماء. وفي مختار الصحاح: سويت الشيء تسوية فاستوى ,
ثم قال بعد ذلك: واستوى الشيء اعتدل , وحينئذ فتسوية القبور عبارة عن تعديلها ,
ولا معنى لتعديلها إلا تسطيحها , وهو الذي فهمه الشافعي من لفظ الحديث، وتعقبه
النواوي في كلامه المتقدم، ونطقت به اللغة , وليس معنى تسوية الشيء قلعه وهدمه
قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر: 29) , {فَخَلَقَ
فَسَوَّى} (القيامة: 38) , {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} (النازعات: 28) ,
{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} (البقرة: 29) , وبمعناه كثير من كلام الفصحاء [28]
فبأي وجه يزعم من ليس له قدم راسخة في العلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم
القباب والبناءات التي تكون حول قبور الأنبياء والأئمة والشهداء والصالحين ,
ومع أن هذه لم تكن مشيدة في زمانه حتى يأمر بهدمها , هل تقاس بقبور المشركين ,
وبالتماثيل والصور؟ حاشا وكلا , فإن هذا من أقبح القياسات وأشنعها مضافًا إلى أن
ما عرض به مكاتب المنار من القباب , والبناءات المعتمدة على أساسات لا دخل لها
بالقبور أصلاً , كما يشاهده العيان كانت مشيدة منذ عدة قرون بمرأى من المسلمين ,
ومسمع لم ينكره أحد منهم حتى الذين رووا حديث أبي الهياج الأسدي؛ لعلمهم بأن هذا
ونحوه إنما ورد في المعنى الذي ذكرناه [29] , ولكن جاء بعدهم قوم لم يتدبروا معاني
الأحاديث , ولم يتفطنوا لما عليه أسلافهم؛ فشددوا النكير على تشييد القباب والبناءات
حول القبور زعمًا منهم أنهم فهموا من الأحاديث ما لم يفهمه الأولون الراسخون في
العلم , وأنهم وصلوا إلى ما لم يصل إليه أئمة المسلمين , وهيهات ذلك مع أن هؤلاء
ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية ,
ومعرفة الحلال والحرام بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد , والأخذ بقول
أحد المذاهب الأربعة [30] .
ثم وصلت النوبة إلى مكاتب المنار فلفق أقاويل طعن بها على الشيعة بزعمه ,
ونشرها المنار مستحسنًا لها , وقد فات المنار , ومكاتبه أن يَطْعَنا بمثلها على أهل
السنة حيث شيدوا كالشيعة بناءات القبور , وقبابها منذ أكثر من تسعمائة سنة [31] ,
ومن المعلوم بالوجدان أن القبور التي شيدها أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة
المنورة والطائف ومصر والشام والعراق , وغيرها من الأقطار هي أكثر مما شيده
الشيعة سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين علي هو هارون الرشيد العباسي
خليفة المسلمين في عصره , وتابعه على ذلك سائر الخلفاء حتى عبد الحميد خان
التركي , فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته كلما مست الحاجة إلى تجديدها.
فليت شعري! إن المنار , ومكاتبه كيف نظرا بعين السخط إلى ما شيده
الشيعة , وأغمضا عينًا عما شيده أهل السنة , أو نظرا إليه بعين الرضاء [32] , ثم
نقول: يحق للشيعة , بل ولكل مسلم أن يعدوا تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم
القربات.
وايم الله إن مكاتب المنار صدق بهذه النسبة إليهم، وهي بكونها فضيلة أحرى
من كونها رذيلة، وهو أراد أن يذم؛ فمدح، وأن يشنع؛ فبجل، وذلك أن الجهات
القاضية برجحان زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم , وقبور أهل بيته الذين
وجبت مودتهم على كل مسلم بآية القربى تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر
الأقطار في مشاهد قبورهم , والكون فيها للصلاة , وسائر العبادات، وذلك موجب
لإعداد محال واسعة حول القبور تكون مجمعًا للزائرين , وهي تفتقر إلى بناءات
فخمة واقية لنفس القبور , والفرش التي حولها , وللقناديل المسرجة ليلاً لقراءة
القرآن , والأدعية في المصاحف , والصحف، وحافظة لمن يزور تلك القبور من
الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح وتغيرات الجو , ونحو ذلك؛ ليتمكن الزائر
أن يقوم بأنواع العبادات لله تعالى , فإن بيت النبي صلى الله عليه وسلم , وبيوت
أهل بيته صلى الله عليه وسلم من أعاظم البيوت التي أمر الله أن ترفع , ويذكر
فيه اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك
البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال حياتهم فكذا قبورهم , وإن تعظيم
بيوتهم في حال حياتهم؛ إنما هو لوجودهم فيها , فكذا قبورهم، ولأنهم أحياء
عند ربهم يرزقون.
ومن هذا يظهر رجحان احترام قبور الشهداء والصديقين والعلماء والصالحين
خصوصًا بعد أن ورد في الحديث (إن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًّا) .
ثم لنفرض أنه لا دليل على رجحان تلك البناءات شرعًا , لكنها مباحة , فإن
الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المجلد الأول من كتابه (منهاج السنة) في صفحة
125 نقل عن الحنفية , وعن كثير من الشافعية , والحنبلية إباحة ما لم يرد فيه
نص شرعي، فإذا كان ذلك مباحًا عند هؤلاء العلماء من أهل السنة , ولا محذور ,
ولا ضرر في وجوده , فلماذا ينتقده مكاتب المنار؟ وإذا كانت تلك البناءات مباحة
في أنفسها , فلماذا لا تكون راجحة بلحاظ ما يترتب عليها من الغايات الشريفة ,
والأعمال الجليلة التي ذكرناها من سائر العبادات لله جل شأنه.
وكيف لا يعد الشيعة تشييدها من أفضل القربات؟ وهل مسلم ينكر فضل
تلك الغايات المقصودة من تلك البناءات التي يضطر إليها الزائرون والمتعبدون؟
ولأجل أن الشيعة استندوا إلى ما ذكرناه , ونحوه سوى أحاديثهم المستفيضة
جدًّا في رجحان ذلك؛ بذلوا أموالهم , وأنفقوها في هذا السبيل سبيل العبادة لله تعالى ,
فقد أعد الله للمحسنين أجرًا عظيمًا، إذن فلا ينبغي من المنار , ومكاتبه إن كان له
مكاتب [33] أن يوجها لومهما على الشيعة منذ قرون عديدة , وإن زعما أنهم استندوا
إلى ما ذكرناه ونحوه , فالحمد لله على الوفاق، وحينئذ لا وجه لتعجبهما من علماء
الشيعة، وإن زعما أنهم احترموها , ولكن ليسألا أنفسهما عن استناد أهل السنة في
احترام القبور , وتشييدها بغير مستند شرعي - فقد ضللا سلفهما , وحاشا السلف من
ذلك، وإن زعما أنهم لم يحترموها , فما وجه بنائها , وتشييدها , وتجديد عمارتها
طول هذه المدة، وكيف تعجبا من الشيعة , ولم يتعجبا من أهل السنة؟ وما هذا
التحامل الذي لا يرتضيه كرم الأخلاق , ولا أخوة دين الإسلام؟ فما بال الرجل
ينظر إلى الشعرة , ولا شعرة , ولا أقل في عين أخيه المؤمن , ولا يرى الجذع
المعترض في عينه؟ قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:
10) , وفي الحديث: (إن المؤمن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه , وإن المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) , وبالختام نرجو أن تمعنوا النظر بالتأمل في
ذلك , وإليكم الحكم بين الشيعة وبين المنار ومكاتبه؛ فأي الفريقين أهدى سبيلاً؟
وأيُّهما أحق بالنصيحة؟ وأيهما أولى بالمعذرة؟ كما أنا نرجو أن لا تنقطع سلسلة
مذاكرتكم معنا في الوقوف على الحقائق , واستطلاع آراء الطرفين.
واقبلوا احترامنا لكم , والحمد لله أولاً وآخرًا.
حرره سيد مهدي الكاظمي القزويني في 22 شعبان سنة 1345
(المنار)
إنما تعجلنا بتعليق بعض الحواشي الوجيزة على هذه الرسالة قبل نشر الرد
عليها من عالم السنة؛ لئلا يقرأها في المنار أحد من غير المشتركين , فيعلق
بذهنه بعض مغالطاتها , ثم لا يتفق له قراءة الرد عليها.
وقد علم منها أن أئمة آل البيت كسائر فقهاء السلف الصالح لا يبيحون هذه
البدع التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليها , وإنما يتبع خلف الشيعة هذه
الآراء الواهية التي ذكرها عالمهم هذا من كون مكان الرجل الصالح أفضل من غيره ,
فتكون العبادة عنده أفضل! ! وهو رأي يصادم نص الرسول صلى الله عليه وسلم.
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) ننشر الرسالة بنصها على غلط ما فيها.
(1) من عادة علماء الشيعة أنهم لا يذكرون الصحابة في مثل هذا المقام إلا مع وصف يقيدون به الصلاة , أو السلام , أو الرضى به، والمنتخبون هنا هم الذين يعدونهم من شيعة علي رضي الله عنه على أن الذين يزعمون أنهم ارتدوا منهم , والذين يجزمون أن إسلامهم كان رياء كأبي سفيان , ومعاوية لا يدخلون في عموم الصحابة إن صح ذلك عنهم؛ لأن شرط صفة الصحابي عند أهل السنة أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به , ويموت على ذلك , وهم أولى بهذا الاشتراط.
(2) المنار: إنما يصح هذا الاستدلال إذا كان ما ذكر مرويًّا عن الإمام الكاظم نفسه، ومذهبهم الذي هم عليه لا يصح أن يكون قيدًا لكلامه يحمل عليه؛ لأنه لم يكن مدونًا في عصره , ولم يكن هو مقلدًا لهم فيه , وهم مخالفون في هذه المسألة نفسها؛ لأن قوله بأنه مكروه شرعًا على تفسيرهم؛ يقتضي تركه , وما هم بتاركيه.
(3) هذا تحريف لكلمة الإمام مخالف للمتبادر منها , وهو ما كان عليه جميع سلف الأمة قبل المذاهب, والتفرق، أعني تسوية القبور بالأرض , وعدم البناء عليها مخالفة للكفار , ولا معنى لعدم وضع حفنة, أو حفنات من التراب غير ما استخرج منه , فهذا مما يجل الإمام عن النهي عنه؛ إذ لا فائدة فيه.
(4) هذه دعوى باطلة , فإن معنى أشعره بالشيء؛ جعله يشعر به من الشعور , وهو العلم والدراية , قال في الأساس: وما يشعركم , وما يدريكم، ويستعمل في الفصيح فيما كان مسلكه دقيقًا , أو خفيًّا , والإمام الصادق من فصحاء المتقدمين , لا من أصحاب اصطلاحات المتفقهين.
(5) لكنه محجة عليهم , فإن درس القبور من شرائع الإسلام , ولو كان تشييدها إن صح مطلوبًا شرعًا لما صرحوا بكراهة تجديدها.
(6) إهمال ذكرها لا يدل على شيء.
(7) هذا , وما بعده طعن لا يليق بالعلماء , فإن صح أن مراسل المنار لم ير في كتبهم مسألة السرج , فالأقرب أن تكون سبق قلم سببه صحة الأحاديث فيها , وذكرها في كتب السنة مع ما سبقها.
(8) إنه هو الذي لعب بنصوص الأئمة , وحرفها كما علم مما أشرنا , ومما نشير إليه , ومن رد الأستاذ الهلالي الآتي.
(9) الكراهة ليست بعيدة عن التحريم كل هذا البعد , فكل منهما مذموم منهي عنه شرعًا إلا أن التحريم أشد , ومكاتب المنار لم يصرح بلفظ التحريم , فيستحق به كل هذا التقريع , ويشرك المنار معه فيه , ويشوه تاريخه.
(10) النهي عن بناء القباب ثابت في الأحاديث الصحيحة , ومنها قول الصادق الذي ذكره المكاتب , وحرفه الأستاذ كغيره , والغرض منه , ومن النهي عن بنائها نفسها واحد , وهو سد الشرك كما فعل أهل الكتاب.
(11) قوله: فليعلم أن جميع ما جاء في بناء المساجد إلى هنا , وما بعده باطل أصلاً , ودليلاً كما ستعرفه في الرد عليه , وأغربه دعواه أن أهل الكتاب يصلون على قبور أنبيائهم.
(12) قوله: ولا ريب أيضًا , هو من كلامه , لا من كلام النووي , وكان ينبغي له الفصل بينهما بكلمة انتهى , أو علامة أخرى كما فعل في مواضع أخرى.
(13) قوله هذا باطل من وجهين (أحدهما) : أن ما هو الأقرب إلى القبول عند الله تعالى لا يعلم إلا بنص من كتابه , أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعبدي لا مجال للرأي فيه , فالنبي صلى الله عليه وسلم صرح لنا بفضل الصلاة في المساجد الثلاثة على غيرها على نسبة لا مجال للرأي فيها, ونهى عن شد الرحال إلى غيرها , فلا يقاس عليها غيرها , (وثانيهما) أنه صلى الله عليه وسلم قد نهى , وزجر عن تعظيم قبور الأنبياء والصالحين بالصلاة فيها , أو إليها , وتشريف بنائها, ووضع السرج عليها , وهو موضوع المناظرة , فكيف يقيس ما نهي عنه على ما أمر به , وحكمة هذا النهي ظاهرة , وهي أن الناس عبدوا الصالحين وقبورهم كما سيأتي بيانه.
(14) ما عزاه إلى السلف الصالح , وأئمة المسلمين باطل قطعًا لم يستطع , ولا يستطيع أن يأتي بنص فيه , وما عداهم لا قيمة لفعله , ولا سيما بعد انتشار البدع , ولا سيما أهل زماننا هذا.
(15) هذه مغالطة ظاهرة البطلان؛ لأنها عبارة عن منع النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيص ما كان عامًّا من أقواله , وسيأتي تفصيله , ومسجد الضرار حجة من الله تعالى عليه , وما ذكره عن البيضاوي عليه , لا له , على أن البيضاوي ليس شارعًا , وذلك أن المسلمين فعلوا بمساجد الأنبياء , والصالحين كما فعل أهل الكتاب من كل وجه وفاقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) إلخ , وهو في الصحيحين , وغيرها , ولكن المتأولين , والجدليين منهم يسمون عبادتها تبركًا , ودعاء أصحابها من دون الله توسلاً كما سيأتي.
(16) إن حديث الباب المذكور , وما ذكره الحافظ في شرحه من الفتح حجة على هذا العالم الشيعي , وهادم لتأويله الباطل في المسألة , ولكنه لا ينقل من الكتب إلا ما يوافق مذهبه؛ لأن المذاهب عنده , وعند سائر المقلدين المتعصبين هي أصل الدين , والكتاب والسنة فرعان إن أيد المذهب قُبِلا , وإلا حرفا بالتأويل.
(17) قد أسقط الأستاذ الشيعي من نقله هنا عبارة صريحة في أن المراد بالعموم الأرض لذاتها قبل طروء ما يمنع صحة الصلاة عليها كالنجاسة , ومثلها , وسائر المنهيات , وهل هذا إلا خيانة في النقل لأجل العصبة المذهبية؟ .
(18) ما قاله هؤلاء هو معناها الذي فهمه السلف , والخلف , وليس تأولاً , وما قاله هو عصبية لأفعال الشيعة المتأخرين باطل , وبطلانه في غاية الظهور , ولعله لذلك لم يخطر في بال غيره أن يكون مثله في التعصب الذي يخفي الحقائق , وفي ضعف العلم باللغة العربية.
(19) قد جعل شرحه الباطل للأحاديث المجهول لغيره أصلاً فرض أنه مسلم عند خصمه؛ فبنى احتجاجه عليه، وهو تحكم عجيب، ومنطق غريب.
(20) لكن مكاتب المنار فهم من الأحاديث ما فهمه جماهير العلماء , وهو ما نقله هو آنفًا عن الإمامين الحافظين النووي , وابن حجر , ولم يكن هو عالمًا بتأويل حضرته , ولو علمه لما قلده فيه.
(21) إن مكاتب المنار ينكر هذه المخالفة للإسلام لذاتها , لا لصدورها عن الشيعة , فمن شاركهم من المنتسبين إلى السنة فيها؛ فهو مثلهم.
(22) قوله هذا مخالف للواقع.
(23) ، (24) بل يصيرها مساجد خاصة , ولا يشترط في المسجد أن يكون عامًّا , وقد عقد البخاري في صحيحه بابًا خاصًّا بمساجد البيوت.
(25) ملخص هذا أن مكاتب المنار مخطئ؛ لأنه موافق لعلماء الحديث , ومتبع للسلف الصالح رضي الله عنهم , ومنهم أئمة آل البيت رضي الله عنهم , ولكنه مخالف له , وللخلف من الشيعة! ! فكهذا تكون الحجج , وهكذا يكون العلم.
(26) أين ادعى هذه الدعوة صاحب المنار؟ وهل ينافي التبحر في المعارف نشر رسالة لسائح فيها شيء من الخطأ؟ ولم توجد في الدنيا مجلة , ولا جريدة تشترط في كل ما ينشر فيها لغير صاحبها أن يكون صوابًا في نفسه , ولا في رأي صاحبها، دع اشتراط موافقة آراء المخالفين لهما إذا فرضنا أنهم يعلمونها، إن هذا النوع من تحكم التعصب غريب جدًّا! .
(27) الحمد لله هذا حجة عليه , وعلى شيعته.
(28) المتبادر من تسوية القبور هو جعلها مساوية , ومعادلة لسطح الأرض، ومنه قوله تعالى:
[لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ] (النساء: 42) , وقد تجاهل المعترض هذا المعنى , وهو مراد , وجاء بالشواهد على تسوية الخلق، وتشريفها رفع بنائها , فقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) , ولا قبرًا مرتفع البناء إلا هدمته , وسويته بالأرض , وقد رووه عن الصادق بلفظ الهدم , وهو مع ذلك ينكر أن يكون معناه الهدم , فأين اتباعه للإمام الصادق؟ وقد نقل النووي عن (الأم) للإمام الشافعي: إن الأئمة بمكة كانوا يأمرون بهدم ما رفع من القبور , وكان العلماء يقرونهم على ذلك عملاً بهذا الحديث، ولم ينقل المعترض هذا عن النووي مع علمه به؛ لأنه لا ينقل إلا ما وافق هواه , وإن عاب ذلك على مكاتب المنار , وأما تسوية الخلق , فلها معنى آخر ظاهر.
(29) هذا زعم باطل كأمثاله من مزاعمه؛ فقد أنكر علماء السنة ذلك في كل عصر؛ لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بهدم القبور المعظمة عند من قبلنا , وبطمس تماثيلهم إلا سدًّا لذريعة الاقتداء بهم كما صرحت به عائشة في حديث لعن أهل الكتاب الذين فعلوا ذلك قالت: (يحذر ما صنعوا) .
(30) في هذا القول عدة أباطيل سيأتي بيانها في الرد عليه.
(31) هذا كسابقه من مزاعمه كما ذكرنا في المقدمة لهذه المناظرة , والتاريخ الذي ذكره حجة على أنها مبتدعة بعد القرون الثلاثة , ومبطل لزعمه أنها كانت في زمن السلف الصالح , والأئمة.
(32) قد علم مما تقدم بطلان هذه الدعوى , وما كان صاحب المنار متعصبًا لمذهب , ولا لفرقة , ولا طائفة على أخرى , فيفعل ذلك , وإنما يتبع قوة الدليل , وليس منه عمل هارون , ولا عبد الحميد.
(33) هذه الجملة صريحة في التشكيك في عزو المنار تلك المقالة إلى مكاتب، وصاحب المنار أجل بفضل الله عليه من أن يكذب حقيقة , أو تقية إن كان ثم حاجة إلى الكذب , فكيف ولا حاجة إليه ألبتة, وإن كثيرًا مما في تلك الرسالة لم يكن يعلمه صاحب المنار قبلها.(28/349)
الكاتب: محمد رشيد رضا
__________
قرار النيابة العامة
في قضية الدكتور طه حسين
وصلت إلينا نسخة من هذا القرار فإذا هو يؤيد ما كتبه الكاتبون من علماء
الشرع , ومن علماء القوانين , ومن سائر طبقات العرافين من إثبات جهل طه
حسين فيما كتبه , وطعنه في الدين الإسلامي , وتكذبيه للقرآن , وتقليده في ذلك
لبعض دعاة النصرانية، وإننا ننقل منها ما سبقتنا إلى تلخيصه جريدة الأخبار
الغراء للثقة بها قالت:
أصدر حضرة صاحب العزة محمد بك نور رئيس نيابة مصر قرارًا مسببًا عن
البلاغات التي قدمت ضد الدكتور طه حسين؛ لتأليفه كتابًا أسماه الشعر الجاهلي.
ويقع هذا القرار في ست عشرة صفحة من القطع الكبير , وقد تناول في
مقدمته الإشارة إلى أسماء الأشخاص المبلغين , وهم الشيخ خليل حسنين الطالب
بالقسم العالي بالأزهر , وفضيلة شيخ الجامع الأزهر , وحضرة عبد الحميد أفندي
البنان عضو مجلس النواب.
ثم أتى القرار على التهمة التي وجهها المبلغون إلى الدكتور , وهي أنه طعن
في الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه:
(الأول) أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في أخباره عن
إبراهيم وإسماعيل.
(الثاني) ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها.
(الثالث) ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه على النبي صلى الله عليه
وسلم طعنًا فاحشًا من حيث نسبه.
(الرابعة) أنكر المؤلف أن للإسلام أولية في بلاد العرب؛ وأنه دين إبراهيم.
***
عن الأمر الأول
تناول القرار الكلام عن الأمر الأول باستفاضة واسعة , وذكر أقوال الدكتور
طه في الشعر الجاهلي ولغة العرب , وعاب طريقة المؤلف الاستدلال والاستنتاج
ثم انتقل إلى تعرضه لإبراهيم وإسماعيل , فقال:
إن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في
أبحاثه حيث يبدأ بافتراض يتخيله، ثم ينتهي بأن يرتب عليه قواعد كأنها حقائق
ثابتة كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير , وبين لغة عدنان، ثم في مسألة
إبراهيم وإسماعيل , وهجرتهما إلى مكة , وبناء الكعبة؛ إذ بدأ فيها بإظهار الشك ,
ثم انتهى باليقين [1] .
بدأ بقوله: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا
عنهما أيضًا , ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات
وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن
إبراهيم إلى مكة؛ ونشأة العرب المستعربة فيها) , إلى هنا أظهر الشك؛ لعدم قيام
الدليل التاريخي في نظره كما تتطلبه الطرق الحديثة، ثم انتهى بأن قرر في كثير
من الصراحة قوله: (أمر هذه القصة إذن واضح , فهي حديثة العهد ظهرت قبيل
الإسلام , واستغلها الإسلام لسبب ديني) إلخ , فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك
إلى اليقين؟ هل دليله هو قوله: (نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا
من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية
والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وإن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه
الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون في شمال البلاد العربية ,
ويبثون فيه المستعمرات) إلخ , وإن ظهور الإسلام , وما كان من الخصومة العتيقة
بينه , وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة بين الدين
الجديد , وبين ديانتي النصارى , واليهود، وإنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن
تؤيدها صلة مادية إلخ.
إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تثبت الصلة بينه ,
وبين ديانة اليهود , والنصارى، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب , واليهود
لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام , وبين اليهودية؛ فاستغلها لهذا الغرض , فهل له
أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضًا بمثل هذه الحيلة؛ لتوثيق الصلة بين الإسلام ,
وبين النصرانية؟ وهل عدم اهتمامه هذا معناه عجزه أو استهانته بأمر
النصرانية؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن حتى باستغلال
التلفيق هو الذي يقول عنهم في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا
اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة: 82) ؟
إن الأستاذ ليعجز حقًّا عن تقديم هذا البيان؛ إذ إن كل ما ذكره في هذه المسألة
إنما هو خيال في خيال، وكل ما استند عليه من الأدلة هو: (1) فليس يبعد أن
يكون , (2) فما الذي يمنع , (3) ونحن نعتقد , (4) وإذن فليس يمنع قريشًا
من أن تقبل هذه الأسطورة , (5) وإذن فنستطيع أن نقول -
فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار شيء؛ يقول: لا دليل عليه من
الأدلة التي تطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث،
وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له , وكفى بقوله
حجة!
سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة (أي: تلفيق القصة) , وهل
هي من استنتاجه , أو نقلها؟ فقال: هذا فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في
كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئًا مثل هذا الفرض يوجد في
بعض كتب المبشرين , ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي. على أنه سواء
كان هذا الفرض من تخيله كما يقول , أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت
اسم هاشم العربي؛ فإنه كلام لا يستند إلى دليل , ولا قيمة له، على أننا نلاحظ أن
ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام؛ كان في
عبارته أظرف من مؤلف كتاب (الشعر الجاهلي) ؛ لأنه لم يتعرض للشك في وجود
إبراهيم , وإسماعيل بالذات، وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب , وقال:
إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقهاء قدماء اليهود للعرب تزلفًا
إليهم إلخ.
كما نلاحظ أيضًا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل؛ لأن
وظيفة التبشير لدينه غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق
هذا الباب , وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعًا من
الحيلة إلخ.
وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكك الذي أظهره أولاً اعتمادًا
على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول , فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية
بعبارة تفيد الجزم: " أمر هذه القصة إذن واضح , فهي حديثة العهد ظهرت قبيل
الإسلام , واستغلها الإسلام لسبب ديني إلخ " مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة
فرض افترضه.
يقول الأستاذ: إنه إن صح افتراضه؛ فإن القصة كانت شائعة بين العرب
قبل الإسلام , فلما جاء الإسلام استغلها , وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن
وسيلة لإقامة الحجة على خصوم المسلمين , كما اتخذ غيرها من القصص التي
كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج , أو إلى الهداية , وهاشم العربي يقول في مثل
هذا: ولما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم رأى المصلحة في إقرارها؛ فأقرها ,
وقال للعرب: إنه إنما يدعو إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه) ,
فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر (! !) .
إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب , وأخطأ أيضًا في تفسير ما كتب , وهو
في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن , ولتفسير نصوص القرآن ,
وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلاً عن الدين؛ فليفسر لنا إذن
قوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} (النساء: 163)
وقوله في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ} (مريم: 41) , {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً
نَّبِياًّ} (مريم: 54) , وفي سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ
عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:
84) .
وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل
لا على سبيل الأمثال كما يدعي حضرته، وهل عقل الأستاذ يسلم بأن الله سبحانه
وتعالى يذكر في كتابه أن إبراهيم , وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة؟
وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى , وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية
الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل , وقال في حقهم جميعًا: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} (آل عمران: 84) ؟
الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه؛
لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرًا لأن
يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام؛ فقال ص38
من محضر التحقيق: هذا العبارة إذا كانت تفيد الجزم؛ فهي إنما تفيده إن صح
الفرض الذي قامت عليه , وربما كان فيها شيء من الغلو , ولكنني أعتقد أن العلماء
جميعًا عندما يفترضون فروضًا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير ,
فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة.
والذي نراه نحن أن موقف الأستاذ المؤلف هذا لا يختلف عن مواقف الأستاذ
هوار حين يتكلم عن شعر أمية بن أبي الصلت , وقد وصف المؤلف نفسه هذا
المؤلف في ص 82 و 83 من كتابه بقوله: (مع أني أشد الناس إعجابًا بالأستاذ
هوار , وبطائفة من أصحابه المستشرقين , وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان ,
ومن النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ,
فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذه الفصل دون أن أعجب كيف يتورط العلماء
أحيانًا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم) .
حقًّا إن الأستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم
لغير ضرورة يقتضيها بحثه , ولا فائدة يرجوها؛ لأن النتيجة التي وصل إليها من
بحثه , وهي قوله: (إن الصلة بين اللغة العدنانية , وبين اللغة القحطانية كالصلة
بين اللغة العربية , وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة، وإن قصة العاربة ,
والمستعربة , وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر
له , ولا غناء فيه) ما كانت تستدعي التشكك في صحة أخبار القرآن عن إبراهيم ,
وإسماعيل , وبنائهما الكعبة , ثم الحكم بعدم صحة القصة , وباستغلال الإسلام لها
لسبب ديني.
ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين , وبين العلم ,
وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو
بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والإنكار (ص22 عن محضر التحقيق) , وإننا
حين نفصل بين العلم والدين؛ نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها
من إنكار المنكرين وطعن الطاعنين (ص24 من محضر التحقيق) , ولا ندري لم
يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع؟ لقد سئل في التحقيق عن هذا؛ فقال: إن
الداعي أني أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين , وكلهم يقررون أن
العرب المستعربة قد أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة أبيهم إسماعيل بعد
أن هاجر، وهم جميعًا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن , ومن الحديث ,
فليس لي بد من أقول لهم: إن هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية.
أما الثابت في نصوص القرآن , فقصة الهجرة , وقصة بناء الكعبة , وليس
في القرآن نصوص يستدل بها على تقسيم العرب إلى عاربة , ومستعربة , ولا على
أن إسماعيل أبو العرب العدنايين , ولا على تعلم إسماعيل العربية من جرهم.
ونص الآية التي تثبت الهجرة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) لا يفيد غير إسكان ذرية
إبراهيم في وادي مكة - أي: إن إسماعيل هوجر به صغيرًا (كنص الحديث) إلى
هذا الوادي؛ فنشأ فيه بين أهله , وهم من العرب , وتعلم هو وأبناؤه لغة من
نشأوا بينهم , وهي العربية؛ لأن اللغة لا تولد مع الإنسان , وإنما تكتسب اكتسابًا،
وقد اندمجوا في العرب؛ فصاروا منهم، وهذا الاندماج لا يترتب عليه أن يكون
جميع العرب العدنانيين من ذريته؛ إذ الحكم بهذا يقتضي أن لا يكون مع إسماعيل
أحد منهم حتى لا يوجد غير ذريته , وهو ما لم يقل به أحد.
ويا ليت الأستاذ المؤلف حذا حذو ذلك المبشر هاشم العربي في هذه المسألة
حيث قال: (ولا إسماعيل نفسه بأب للعرب المستعربة , ولا تملك أحد من بنيه
على أمة من الأمم , وإنما قصارى أمرهم أنهم دخلوا , وهم عدد قليل في قبائل
العرب العديدة المجاورة لمنازلهم؛ فاختلطوا بها , وما كانوا إلا كحصاة في فلاة)
(تراجع صحيفة 356من كتاب مقالة الإسلام) , ولو أن المؤلف نقل هذا؛ لنجا من
التورط في هذا الموضوع.
وأما مسألة بناء الكعبة , فلم نفهم الحكمة في نفيها , واعتبارها أسطورة من
الأساطير اللهم إلا إذا كان مراده إزالة كل أثر لإبراهيم وإسماعيل , ولكن ما مصلحة
المؤلف في هذا؟ الله أعلم بمراده [2] .
***
عن الأمر الثاني
تناول القرار الأمر الثاني الخاص بالقراءات , وبعد تحليله قال: (ونحن نرى
أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ,
ولا اعتراض لنا عليه) .
***
عن الأمر الثالث
تناول القرار مسألة نسب النبي صلى الله عليه وسلم , وبعد أن حللها قال:
(ونحن لا نرى اعتراضًا على بحثه على هذا النحو من حيث هو , وإنما كل ما
نلاحظه عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في
قريش بعبارة خالية من كل احترام , بل بشكل تهكمي غير لائق , ولا يوجد في
بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو) .
***
الأمر الرابع
تناول القرار الأمر الرابع , وبعد تحليله قال: ونحن لا نرى اعتراضًا على
أن يكون مراده بما كتب في هذه المسألة هو ما ذكره , ولكننا نرى أنه كان سيئ
التعبير جدًّا في بعض عباراته كقوله: ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم , ولا زعم
لنفسه الانفراد بتأويلها، لقد أخذ المسلمون يردون دين الإسلام في خلاصته إلى دين
إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى.
وكقوله: وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام , وبعده فكرة أن الإسلام
يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب
في عصر من العصور …؛ لأن في إيراد عبارته على هذا النحو ما يشعر بأنه
يقصد شيئًا آخر بجانب هذا المراد، خصوصًا إذا قربنا بين هذه العبارات، وبين ما
سبق له أن ذكره بشأن تشككه في وجود إبراهيم , وما يتعلق به.
***
عن القانون
نصت المادة (2) من الأمر الملكي رقم (42) لسنة 1923بوضع نظام
دستوري للدولة المصرية على أن حرية الاعتقاد مطلقة.
نصت المادة (14) منه على أن حرية الرأي مكفولة , ولكل إنسان الإعراب
عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون.
ونصت المادة 49 منه على أن الإسلام دين الدولة , فلكل إنسان إذًا حرية
الاعتقاد بغير قيد , ولا شرط , وحرية الرأي في حدود القانون , فله أن يعرب عن
اعتقاده وفكره بالقول أو الكتابة بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون.
وقد نصت المادة 139 من قانون العقوبات الأهلي على عقاب كل تعد يقع
بإحدى طرق العلانية المنصوص في المادتين 148، 150 على أحد الأديان التي
تؤدى شعائرها علنًا، وجريمة التعدي على الأديان المعاقب عليها بمقتضى المادة
المذكورة تتكون بتوفر أربعة أركان:
1- التعدي.
2- وقوع التعدي بإحدى الطرق العلنية في المادتين 148، 150 عقوبات.
3- وقوع التعدي على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علنًا.
4- القصد الجنائي.
***
عن الركن الأول
لم يذكر القانون بشأن هذا الركن في المادة إلا لفظ (تعد) , وهذا لفظ عام
يمكن فهم المراد منه بالرجوع إلى نص المادة باللغة الفرنسية , وقد عبر القانون فيه
عن التعدي OUTRGE , والقانون قد استعمل لفظ OUTRAGE هذا في المواد
155 و 159 و160 عقوبات أيضًا , ولما ذكر معناها في النص العربي للمواد
المذكورة؛ عبر في المادة (155) بقوله: (كل من انتهك حرمة) , وفي المادتين
159، 160 بإهانة , فيتضح من هذا أن مراده بالتعدي في المادة 139 هو كل
مساس بكرامة الدين أو انتهاك حرمته أو الحط من قدره أو الازدراء به؛ لأن
الإهانة تشمل كل هذه المعاني بلا شك.
وحيث إنه بالرجوع إلى الوقائع التي ذكرها الدكتور طه حسين , والتي تكلمنا
عنها تفصيلاً , وتطبيقها على القانون؛ يتضح أن كلامه الذي بحثناه تحت عنوان
(الأمر الأول) فيه تعد على الدين الإسلامي؛ لأنه انتهك حرمة هذا الدين بأن نسب
إلى الإسلام أنه استغل قصة ملفقة هي قصة هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ,
وبناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة , واعتبار هذه القصة أسطورة , وأنها من تلفيق
اليهود، وأنها حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام إلى آخر ما ذكرناه تفصيلاً عند الكلام
على الوقائع , وهو بكلامه هذا يرمي الدين الإسلامي بأنه مضلل في أمور هي عقائد
ثابتة وواردة في القرآن باعتبار أنها حقائق لا مرية فيها , كما أن كلامه الذي بحثناه
تحت عنوان (الأمر الرابع) قد أورده على صورة تشعر بأنه يريد به إتمام فكرته
بشأن ما ذكر , أما كلامه بشأن نسب النبي صلى الله عليه وسلم , فهو إن لم يكن فيه
طعن ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره , وأما ما ذكره بشأن
القرآن مما تكلمنا عنه في الأمر الثاني فإنه بحث بريء من الوجهة العلمية والدينية
أيضًا , ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبية , ولا من الوجهة
القانونية.
***
عن الركن الثاني
لا كلام في هذا الركن؛ لأن الطعن السابق بيانه قد وقع بطريق العلانية.
إذ إنه أورد في كتاب الشعر الجاهلي الذي طبع ونشر وبيع في المحلات
العمومية , والمؤلف معترف بهذا.
***
عن الركن الثالث
لا نزاع في هذا الركن أيضًا؛ لأن التعدي وقع على الدين الإسلامي الذي
تؤدى شعائره علنًا , وهو الدين الرسمي للدولة.
***
عن الركن الرابع
هذا الركن هو الركن الأدبي الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة , فيجب
لمعاقبة المؤلف أن يقدم الدليل على توفر القصد الجنائي لديه، وبعبارة أوضح يجب
أن يثبت أنه إنما أراد بما كتب أن يتعدى على الدين الإسلامي , فإذا لم يثبت هذا
الركن؛ فلا عقاب.
أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال: إنه
ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي , وخدمة العلم لا غير … غير مقيد بشيء،
وقد أشار في كتابه تفصيلاً إلى الطريق الذي رسمه للبحث، ولا بد لنا هنا أن نشير
إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم
وإسماعيل , وما يتصل بهما مما جاء في القرآن , ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن
لمناهج البحث؛ فلا يسلم بالوجود العلمي التاريخي لإبراهيم وإسماعيل , فهو
يجرد من نفسه شخصيتين , وقد وجدنا المؤلف قد شرح نظريته هذه شرحًا مستفيضًا
في مقال نشره بجريدة السياسة الأسبوعية بالعدد نمرة 19 الصادر في17 يولية سنة
1926 ص 5 تحت عنوان (العلم والدين) , وقد ذكر فيه بالنص: (فكل امرئ
منا يستطيع إن فكر قليلاً أن يجد في نفسه شخصيتين ممتازين , إحداهما عاقلة
تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس ,
والأخرى شاعرة تلذ وتألم، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وترغب وترهب
في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا
نستطيع أن نخلص من إحداهما , فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة
باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟
ولسنا نعترض على هذه النظرية مما اعترض به هو على نفسه في مقاله ,
حيث ذكر بعد ذلك: (ستقول: وكيف يمكن أن تجمع المتناقضين؟ ولست أحاول
جوابًا لهذا السؤال , وإنما أحولك على نفسك) إلخ , ولا شك في أن عدم محاولة
الإجابة على هذا الاعتراض إنما هو عجزه عن الجواب، والمفهوم أنه قد أورد هذا
الاعتراض؛ لأنه يتوقعه حتى لا يوجه إليه.
الحقيقة أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين في شخص واحد , وفي وقت واحد ,
بل لا بد من أن تتخلى إحدى الحالتين للأخرى , وقد أشار المؤلف نفسه إلى هذا في
نفس المقال في سياق كلامه على الخلاف بين العلم والدين , حيث قال بشأنهما:
(ليسا متفقين , ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما لصاحبه عن شخصيته
كلها) .
أما توزيع الاختصاص الذي أجراه الدكتور؛ بجعله العلم من اختصاص القوة
العاقلة , والدين من اختصاص القوة الشاعرة , فلسنا ندركه، والذي نفهمه أن العقل
هو الأساس في العلم وفي الدين معًا، وإذا ما وجدنا العلم والدين يتنازعان فسبب ذلك
أنه ليس لدينا القدر الكافي من كل منهما.
إننا نقرر هذا بناء على ما نعرفه في أنفسنا , أما الدكتور , فقد تكون لديه
القدرة على ما يقول , وليس ذلك على الله بعسير.
نحن في موضع البحث عن حقيقة نية المؤلف , فسواء لدينا صحت نظرية
تجريد الشخصيتين عالمة , ومتدينة , أو لم تصح؛ فإننا على الفرضين نرى أنه
كتب ما كتب من اعتقاد تام , ولما قرأنا ما كتبه بإمعان؛ وجدناه منساقًا في كتابته
بعامل قوي متسلط على نفسه، وقد بينا حين بحثنا الوقائع كيف قاده بحثه إلى ما
كتب , وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب
شيء , وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر.
وحيث إنه مع ملاحظة أن أغلب ما كتبه المؤلف مما يمس موضوع الشكوى ,
وهو ما قصرنا بحثنا عليه؛ إنما هو تخيلات , وافتراضات , واستنتاجات لا تستند
إلى دليل علمي صحيح , فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصًا في جرأته على ما
أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي الذي هو دينه , ودين الدولة التي هو من رجالها
المسؤولين عن نوع من العلم فيها , وأن يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي
يعمل فيه.
صحيح إنه كتب ما كتب عن اعتقاد بأن بحثه العلمي يقتضيه , ولكنه مع هذا
كان مقدرًا لمركزه تمامًا , وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه , منها
قوله: (وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه , وبأن فريقًا آخر
سيًزْوَرُّون عنه ازْوِرَارًا , ولكني على سخط أولئك , وازورار هؤلاء أريد أن أذيع
هذا البحث) .
إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء
من الغربيين , ولكنه لشدة تأثر نفسه مما أخذ عنهم؛ قد تورط في بحثه حتى تخيل
حقًّا ما ليس بحق، أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق؟
إنه قد سلك طريقًا مظلمة , فكان يجب عليه أن يسير على مهل , وأن يحتاط
في سيره حتى لا يضل , ولكنه أقدم بغير احتياط؛ فكانت النتيجة غير محمودة.
وحيث إنه مما تقدم؛ يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن ,
والتعدي على الدين , بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع
من كتابه؛ إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.
وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر.
(فلذلك) تحفظ الأوراق إداريًّا ... ... ... رئيس نيابة مصر
القاهرة في 3 مارس سنة 1927
(المنار)
قد أثبت رئيس النيابة أن الدكتور طه حسين طعن في الدين الإسلامي ,
وكذب القرآن بما سبقه إليه بعض دعاة النصرانية , فكان هذا في طعنه أقرب منه
إلى الأدب، وأثبت أن مطاعنه التي شكا منها المسلمون وطلب بعض رجال الدين
ورجال النيابة البرلمانية محاكمته عليها لم تستند إلى دليل علمي صحيح , وإنما هي
تخيلات , وافتراضات باطلة , وهو قد أثبت بما ذكر ارتداده عن الإسلام، وإنه كان
مقدرًا نتيجة عمله وسوء تأثيره في المسلمين كما صرح به بغير مبالاة , ثم إن الرئيس
مع هذا قد ارتأى أن الدكتور طه يعتقد أن ما كتبه حق , وإنه يقتضيه البحث العلمي ,
ولم يقصد به مجرد الطعن والتعدي , وإنه لهذا لم يجد وجهًا قانونيًّا لمحاكمته؛ فأمر
بحفظ الأوراق الخاصة بقضيته إداريًّا.
وقد رأينا الناس متعجبين من هذه النتيجة ومخالفين لرئيس النيابة في استنتاجه
على إعجابهم بدقة فهمه وحسن تفنيده لتلك المطاعن.
وقد سبق لي أن بينت في المنار ما فهمته من غرض الدكتور طه حسين ,
وهو تشكيك طلبة الجامعة المصرية , وسائر من يقرأ كتابه في الدين الإسلامي؛ بل
إفساد اعتقادهم , وتجرئتهم على الكفر؛ لأنه ليس من الغباوة والبلادة بحيث يعتقد
أن تلك (التخيلات , والافتراضات) أدلة علمية على حقية طعنه , فهو لا يعتقد أن
ما كتبه حق إلا من حيث إنه لا يؤمن بأن كتاب الله هو الحق الذي {لاَ يَأْتِيهِ
البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .
ثم أقول: إذا كان من يطعن في دين الدولة والأمة طعنًا صريحًا لا يستند
إلى دليل , ولكنه هو يعتقده؛ يباح له ذلك قانونًا , ولا يحاكم , ولا يعاقب , فكيف
يعقل أن يكون الطعن في الدين ممنوعًا , ومن الضروري أنه لا يطعن فيه إلا من
يعتقد بطلانه من ملحد , أو متدين بدين آخر؟
ألا إن هذا القرار يجرئ كل كافر بالإسلام على الطعن فيه، وهل يطعن فيه
إلا كافر به؟
هذا وإن الدكتور طه قد استقال من التعليم في الجامعة عقب صدور هذا القرار؛
لما فيه من الإهانة له , وإثبات جهله , فبادر مدير الجامعة أحمد لطفي بك السيد
إلى تلافي الأمر , وحمل وزير المعارف على أن لا يقبل استقالته؛ ففعل، فعلم بهذا
من لم يكن يعلم رأي كل من مدير الجامعة , ووزير المعارف في الدكتور طه حسين ,
وقد طبع كتابه ثانية بعد حذف ما أنكر المسلمون منه , وهو باق في الجامعة ,
فمن شاء؛ فليرض , ومن شاء؛ فليغضب {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) .
__________
(1) أي: بالجزم.
(2) المنار: الذي فهمه الناس من كلامه أن مراده الطعن في الإسلام , وصد الناس عنه.(28/368)